وقالت المعتزلة: "لا يجوز وصف الله بأنه يرى"1.
وقالت الأشعرية: "المؤمنون يرونه ولكن لا يرونه عن مقابلة"2.
ودليلنا قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 3، قال أنس بن مالك: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى هذه الآية فقال: "للذين أحسنوا العمل في الدنيا الحسنى وهي الجنة والزيادة النظر إلى وجه الله تعالى "4.
__________
1 أجمعت المعتزلة على إنكار رؤية الله عزوجل في الآخرة وبه قال أيضاً الجهمية والخوارج والروافض وطوائف من المرجئة وطوائف من الزيدية. انظر: شرح الأصول الخمسة ص238، مقالات الإسلاميين 1/289، حادي الأرواح ص 196، شرح العقيدة الطحاوية ص 204.
2 الأشاعرة: لما كانوا يأخذون الشيء من السنة والشرع وهم ملتزمون بقواعد الجهمية والمعتزلة في كثير من أقوالهم أثبتوا رؤية الله عزوجل في الآخرة للمؤمنين ونفوا أن تكون الرؤية في جهة العلو أو غيرها لأنهم موافقون للمعتزلة في إنكار هذا الأمر، فلهذا لزمهم في إثبات الرؤية إثبات الجهة إذ المرئي لا بد أن يكون في جهة، وفراراً من هذا الإلزام زعموا أن الرؤية ليست رؤية بصر وعين بل هي نوع إدراك وهو كمال ومزيد كشف واستيضاح لذات الله عزوجل يعبر عنه بالرؤية والمشاهدة.
وهذا قول باطل يعلم بطلانه ببديهة العقل حيث لا يمكن للإنسان أن يرى إلا في جهة، والمرئي لا بد أن يكون في جهة. ثم إن الشرع دل على ذلك كما سيأتي في الأدلة التي يذكره المصنف، والله جل وعلا قد ثبت له صفة العلو سبحانه ثبوتاً قاطعاً بدلالة القرآن والسنة والعقل والفطرة فزعم أنه يرى لا في جهة قول معلوم الفساد كقولهم إنه لا فرق ولا تحت ولا بذي جهة. كما أن تفسيرهم للرؤية بنوع إدراك وكشف وليس هو رؤية بصر وعين تخوض بالباطل وقول لا دليل عليه وتحكم بأمر لم يطلعوا عليه ولم يعاينوه، فعليهم أن يثبتوا دليلهم عليه من القرآن أو السنة، لأنهما جاءا بالرؤية بالعين والبصر، وهم زعموا أنها رؤية قلبية ونوع كشف فعليهم أن يأتوا بالدليل على ذلك أو يكون تخرصاً بالباطل وقول بلا علم. انظر: الاقتصاد في الاعتقاد للغزالي ص 44- 46، غاية المرام في علم الكلام للآمدي ص 166، المواقف للإيجي ص 299- 300، مجموع الفتاوى 2/82- 89.
3 يونس آية (26) .
4 أخرجه اللالكائي في شرح السنة 3/456، وسنده ضعيف فإن فيه نوح بن أبي مريم، قال عنه أبو حاتم ومسلم والدولابي والدارقطني: "متروك الحديث"، وقال الخليلي: "أجمعوا على ضعفه"، وكذبه ابن عيينة. التهذيب 10/487، وذكره ابن القيم في حادي الأرواح وعزاه إلى الدارقطني في الرؤية من طريق آخر إلا أنه ضعيف، فإن في إسناده عمر بن سعيد البصري الأبح، قال عنه البخاري وابن عدي: "منكر الحديث". انظر: الأرواح ص 218 الكامل لابن عدي 5/1704، الميزان 3/200.(2/637)
وروي عن صهيب أنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} فقال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريدون أن ينجزكموه. يقولون: ما هو، ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار، فيكشف الحجاب فينظرون إلى الله فما شيء أعطوا أحب إليهم من النظر إليه وهي الزيادة "، أخرجه مسلم في صحيحه1.
وكذلك روى أبي بن كعب2 وكعب بن عجرة3 وأبو موسى الأشعري4 عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية.
__________
1 م. كتاب الإيمان (ب. إثبات الرؤية) 1/163، ت. كتاب صفة الجنة (ب. ما جاء في الرؤية) 4/687، جه. في المقدمة (ب. فيما أنكرت الجهمية) 1/67، حم. 4/332، واللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 3/455.
2 أخرج رواية أبي بن كعب اللالكائي في السنة 3/456، 492 من طريقين: عن أبي العالية الرياحي يحدث عن أبي بن كعب - رضي الله عنه -، نحو حديث أنس المتقدم، وفيها مجهول وهو الراوي عن أبي العالية.
ومن هذا الطريق أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره 11/107 أما الطريق الأخرى فعن أبي خلدة عن أبي العالية وفي إسناده من لم أجده.
3 أخرجه اللالكائي في السنة 3/457، وابن جرير في تفسيره 11/107، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/262. كلهم من طريق إبراهيم بن المختار عن ابن جريج عن عطاء الخرساني عن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - نحو حديث أنس المتقدم.
قال أحمد شاكر في تعليقه على تفسير ابن جرير: "هذا خبر ضعيف الإسناد لضعف إبراهيم بن المختار ولأنه من مرسل عطاء عن كعب بن عجرة".
4 أخرجه اللالكائي في السنة 3/457، وابن جرير في تفسيره 15/65، عن أبان بن أبي عياش فيروز عن أبي تميمة الهجيمي أنه سمع أبا موسى الأشعري يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يبعث الله عزوجل يوم القيامة منادياً ينادي أهل الجنة بصوت يسمع أولهم وآخرهم إن الله وعدكم الحسنى والحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجهه عزوجل ".
وأبان بن أبي عياش قال ابن حجر: "متروك"، التقريب ص 18 فسنده بناء عليه ضعيف.
وتفسير الزيادة في الآية بأنها النظر إلى وجه الله عزوجل ثابت من حديث صهيب المتقدم، ومن قول أبي بكر الصديق وحذيفة بن اليمان وأبي موسى الأشعري وابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهم - وعدد كبير من التابعين وغيرهم. انظر: اعتقاد أهل السنة للالكائي 3/458- 463.(2/638)
ومن الدليل على ما قلناه قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} 1.
فقوله: "ناضرة" أي حسنة مشرقة يعلوها النور كقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} 2، قال محمد بن كعب القرظي: "نضر الله تلك الوجوه للنظر إليه"3.
وروى عطية4 عن ابن عباس في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} قال: "يعني حسنة"، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال: "نظرت إلى الخالق عزوجل"5.
وقال الحسن البصري: "نظرت إلى ربها فَنَضُرَت لنوره"6.
فهذا قول المفسرين في تفسير هذه الآية.
ويدل على ذلك من المعنى أن النظر إذا قرن بالوجه وَصْفُه بالنضارة علم أنه أراد به الجارحة الذي فيه7 العينان وعدى ذلك بحرف جر، فانصرف
__________
1 القيامة آية (22-23) .
2 عبس آية (38- 39) .
3 أخرجه الآجري في الشريعة ص 256، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/260.
4 عطية بن سعد العوفي قال الذهبي: "تابعي شهير ضعيف". توفي سن (111?) . الميزان 3/79.
5 أخرجه الآجري في الشريعة ص256، واللالكائي في السنة 3/464، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/261.
6 الآجري في الشريعة ص 256، واللالكائي في السنة 3/464، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/261.
7 في الأصل (أراد الجارحة الذي فيه العينان) وما أثبت من - ح- وهو الأصوب لأن المقصود الوجه.(2/639)
ذلك إلى رؤية البصر، وصار كقوله تعالى: {فَانْظُرْ1 إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} 2 أي انظر بعينك، وصار كقول الشاعر:
انظر إلي بوجه لا خفاء به ... أريك تاجاً على سادات عدنان3
وكل نظر لم يعده بحرف جر ولا قرنه بالوجه فإنه لا يقتضي نظر العين، وهذا كقوله تعالى: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} 4، كذلك قوله تعالى: {مَا يَنْظُرُونَ إِلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةً} 5، فإنه يريد بذلك الانتظار دون نظر العين، ولا يجوز حمل الآية على الانتظار، لأن أهل الجنة فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فلا يجوز أن يحمل أمرهم على الانتظار، لأنهم كلما خطر ببالهم أتاهم من الله.
وأما النظر في قوله تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} 6. فإنه أراد به الاعتبار، ولا يجوز أن يحمل النظر هاهنا عليه، لأن الآخرة ليست بدار اعتبار.
وأما النظر في قول الله: {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} 7، فإنه أراد به التعطف والرحمة، فلا يحمل النظر في الآية على هذا، لأن المؤمنين في الجنة لا يوصفون بالرحمة لربهم فثبت أنه أراد النظر بالعين8.
__________
1 في النسختين (انظر) وهو خطأ.
2 البقرة آية (259) .
3 لم أقف عليه.
4النمل آية (35) .
5 يس آية (49) .
6 الغاشية آية (17) .
7 آل عمران آية (77) .
8 انظر: الاعتقاد للبيهقي فقد أبان أيضاً عن المراد بمعنى النظر ص 45- 46، وذكر الاستدلال أبو شامة ونقل كثيراً من اعتراضات المعتزلة على هذا الدليل ورد عليها. انظر: ضوء الساري إلى معرفة رؤية الباري ص30- 64، وانظر: شرح العقيدة الطحاوية ص 205.(2/640)
ويدل على ما قلناه: أن الله وصف المشركين ثم قال: {كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} 1، وهذا يبطل قول السالمية2.
ويدل على أن المؤمنين عن ربهم غير محجوبين، إذ لو كانوا عنه محجوبين لما كان لوصف المشركين بذلك معنى. قال الحسن البصري: "إذا كان يوم القيامة برز ربنا تبارك وتعالى فيراه الخلق ويحجب الكفار فلا يرونه، وهو قوله تعالى: {كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} "3.
وقال رجل لمالك: يا أبا عبد الله هل يرى المؤمنون ربهم يوم القيامة؟ قال: "لو لم ير المؤمنون ربهم يوم القيامة لم يعبر الله الكفار بالحجاب فقال: {كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} " 4 وكذلك روي عن الشافعي - رحمه الله -5.
يدل على ما قلناه ما روى علي بن أبي طالب وأنس بن مالك أنهما فسرا قوله تعالى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} 6، قالا: "يظهر الرب لهم يوم القيامة"7.
ويدل على ما قلناه قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} 8، وذلك أن موسى عليه السلام لما سمع كلام الله اشتاق
__________
1 المطففين آية (15) .
2 تقدم ذكر قولهم ص 636.
3 أخرجه اللالكائي في السنة 3/467.
4 أخرجه اللالكائي في السنة 3/468.
5 أخرجه عنه البيهقي فقد روي عن ابن هرم القرشي أنه قال: "سمعت الشافعي يقول في قول الله عزوجل: {كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} ، قال: "لما حجبهم في السخط كان هذا دليلاً على أنهم يرونه في الرضا". الاعتقاد ص 53، وبمعناه روى اللالكائي عن المزني عنه. انظر: شرح اعتقاد أهل السنة 3/468.
6 ق آية (35) .
7 أخرجه اللالكائي عن علي وأنس بن مالك - رضي الله عنهما - تفسير قوله تعالى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} أنه النظر إلى وجه الله عزوجل، واللفظ المذكور أخرجه اللالكائي عن أنس - رضي الله عنه -.
شرح اعتقاد أهل السنة للالكائي 3/469.
8 الأعراف آية (143) .(2/641)
إلى رؤيته فسأل الرؤية، فلو كانت رؤية الله مستحيلة لما سألها موسى عليه الصلاة والسلام. فقال: {لَنْ تَرَانِي} في الدنيا ولا تطيق1 عليها في الدنيا، وإنما منعه الله إياها في الدنيا لمعان:
أحدها: أن النظر الذي في عينه خلقه الله للفناء فلا ينظر به إلى الله الذي هو باق ولا يفنى.
والثاني: أن الدنيا دار تكليف فمعرفة الخلق له إنما هي عن غيب ليكون لهم الثواب لا معرفة ضرورية2.
والثالث: أن رؤية الله تعالى من أجل النعم التي ادخرها الله لأهل الجنة في الآخرة فلم يعطها أحداً في الدنيا.
ولا يجوز أن يكون المراد بقوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} من3 رؤيته في الدنيا والآخرة، لأنه لو أراد ذلك لقال: "لا تراني"، ولأنه لو كان سؤال موسى مستحيلاً لأخبره الله بذلك وقال: لا تسألن عما ليس لك به علم، كما قال لنوح عليه السلام: {فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} 4، ولنهى موسى عن ذلك.
ثم قال الله لموسى: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} أي اجعل الجبل علماً بيني وبينك لأنه أقوى منك، فإن استقر مكانه فسوف تراني، وإن لم يستقر الجبل مكانه لن تطيق رؤيتي في الدنيا.
وفي قوله تعالى: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} دليل على جواز رؤية
__________
1 في الأصل (نطلق) وفي -ح- كما أثبت وهي أقرب إلى وضوح المعنى المراد وهو (أي لا تقدر عليها) .
2 المراد هنا معرفة ضرورية تحصل بالمشاهدة.
3 هكذا في النسختين ولعل صوابها (نفي) .
4 هود آية (46) وهذه الآية ليست في -ح-.(2/642)
الله سبحانه لأن الله قادر على أن يقر الجبل مكانه1.
{فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} فقيل: إن الله رفع الجبل الآفة المانعة له من النظر وأحياه وخلق فيه الإدراك2، وتجلى الله للجبل، أي رفع الله الحجاب3 {جَعَلَهُ دَكّاً} يعني قطعاً ستة أجبل ثلاثة بمكة: ثبير، وغار ثور، وحراء، وثلاثة بالمدينة: رضوى، وورقان، وأحد4.
__________
1 ذكر بعض هذه الأجوبة عثمان بن سعيد الدارمي في الرد على الجهمية ص 65.
وذكرها بأوسع مما هنا ابن القيم في حادي الأرواح ص 197- 198، وانظر أيضاً: ضوء الساري إلى رؤية الباري لابن شامة ص 134-154، وشرح العقيدة الطحاوية ص 206- 207.
2 ذكر هذا القول أبو شامة في ضوء الساري ص 147 - 148 عن ابن سينا وعن القاضي الباقلاني، كما حكاه القرطبي في تفسيره 7/278 عن الباقلاني أيضاً. والصحيح أن الأمر لا يحتاج إلى ما ذكر، لأنه لم يرد أنه خلق للجبل نظر رؤية، ولكن الجبل اندك لتجلي الله عزوجل له، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" تقدم تخريجه ص 629.
3 روى الترمذي بسنده عن حماد بن سلمة عن ثابت - رضي الله عنه -: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَل} ، قال حماد: هكذا وأمسك سليمان بطرف إبهامه على أنملة أصبعه اليمنى قال: فساخ الجبل وخر موسى صعقاً".
قال الترمذي: "حديث حسن غريب صحيح"، وأخرجه من طريق آخر عن حماد وقال: "حديث حسن"، ت. كتاب تفسير القرآن (ب. من سورة الأعراف 5/165، وأخرج الحديث ابن جرير في تفسيره 9/53، والإمام أحمد في المسند 2/125، والحاكم في مستدركه 2/320 وقال: "صحيح على شرط مسلم" ووفقه الذهبي، وذكره ابن كثير في تفسيره، فليراجع في 2/244.
وأخرح ابن جرير عن ابن عباس أنه قال في الآية: "ما تجلى منه إلا قدر الخنصر جعله دكاً" 9/53.
4 ذكر هذا ابن كثير في تفسيره من رواية ابن أبي حاتم بسنده عن معاوية بن قرة عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - مرفوعاً "لما تجلى الله للجبل طار لعظمته ستة أجبل فوقعت ثلاثة بالمدينة، وثلاثة بمكة، بالمدينة أحد، وورقان ورضوى ووقع بمكة حراء وثبير وثور" قال ابن كثير: "هذا حديث غريب بل منكر". تفسير ابن كثير 2/245.(2/643)
وأراد الله بهذا إعلام موسى أن أحداً لا يراه في الدنيا إلا لحقه ما لحق الجبل، فلما رأى موسى تدكك الجبل خر صعقاً أي مغشياً عليه1، وقيل ميتاً2، فلما أفاق قيل من غشيته، وقيل: ردت عليه نفسه، قال: {سُبْحَانَكَ} كلمة تنزيه لله وإجلال له {تُبْتُ إِلَيْك} أي من سؤالي الرؤية في الدنيا3 لهول ما أصابني لا لأنها مستحيلة ولا لأني عاص بسؤالي، كما يقول القائل: تبت إليك من ركوب البحر، ومن تكليم فلان ومعاملته، وإن كان ذلك كله مباحاً، ويحتمل أن يكون سؤاله الرؤية ذكرته ذنوباً قد كان تاب منها فجدد التوبة منها عند ذكرها لهول ما رأى، كما يسارع الناس إلى التوبة عند مشاهدة الأهوال4.
وقوله: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} يعني أول المصدقين من هذه الأمة أنك لا ترى في الدنيا5، وقال الحسن: "أنا أول المؤمنين بك لأنه أول من آمن في زمانه"6.
ومن الدليل على ما قلناه قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} 7، أي ما يحيون به سلام، ومثله {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً} 8
__________
1 بهذا قال ابن عباس وابن أبي زيد، ذكر ذلك ابن جرير في تفسيره 9/53.
2 هو قول قتادة وابن جريج روى ذلك عنهم ابن جرير 9/53.
3 هذا ما رجح ابن جرير من الأقوال وأسنده من قول ابن عباس ومجاهد وأبي العالية. تفسير ابن جرير 9/55.
4 ذكر القرطبي عن القشيري أنه ذكر أن التوبة كانت من قتل القبطي. تفسير القرطبي 7/279.
5 ذكر ابن جرير هذا عن ابن عباس ي رواية وأبي العالية واستحسن هذا ابن كثير. تفسير ابن جرير 9/55، تفسير ابن كثير 2/245.
6 لم أقف على هذه الرواية عن الحسن، وقد روى ابن جرير عن ابن عباس ومجاهد أن معناه أول المؤمنين من بني إسرائيل، وهو الذي رجحه ابن جرير. انظر: 9/55- 56.
7 الأحزاب آية (43- 44) .
8 الفرقان آية (75) .(2/644)
وموضع الحجة من الآية قوله: {يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ} واللقاء في اللغة لا يكون إلا بالمعاينة يراهم الله ويرونه ويسلم عليهم ويكلمهم ويكلمونه1.
ويدل على ما قلناه ما روى جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: "إنكم ستعرضون على ربكم عزوجل فترونه كما ترون هذا القمر لا تضارون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا "2.
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن أناساً قالوا يا رسول الله: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تضامون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب" قالوا: لا، قال: " فإنكم ترونه كذلك"3.
وروي مثل ذلك عن أبي سعيد الخدري4 وغيره من الصحابة - رضي الله عنهم -5.
وعن صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا
__________
1 ذكر هذا الآجري في الشريعة ص 252 فقال: "واعلم - رحمك الله - أن عند أهل العلم باللغة أن اللقى هاهنا لا يكون إلا معاينة يراهم الله عزوجل ويرونه ويسلم عليهم ويكلمهم ويكلمونه".
وقال البيهقي في الاعتقاد ص 47 بعد ذكر الآية المذكورة هنا: "واللقاء إذا أطلق على الحي السليم لم يكن إلا رؤية العين وأهل هذه التحية لا آفة بهم"، وذكر إجماع أهل اللغة على هذا ابن القيم في حادي الأرواح ص 198.
2 أخرجه خ. كتاب مواقيت الصلاة وفضلها (ب. فضل صلاة الفجر) 2/99، وفي كتاب التوحيد (ب. قول الله تعالى وجوه يومئذ ناضرة) 9/103، م. كتاب المساجد (ب. فضل صلاة الصبح والعصر 1/439.
3 أخرجه خ. كتاب التوحيد (ب. قوله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة..) 9/103، م. كتاب الإيمان (ب. معرفة طريق الرؤية) 1/163.
4 رواية أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أخرجها خ. كتاب التوحيد (ب. قوله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة..) 9/104، م. كتاب الإيمان (ب. معرفة طريق الرؤية) 1/167.
5 انظر: ما تقدم أول هذا الفصل والمراجع المثبتة لقول أهل السنة.(2/645)
يا أهل الجنة: إن لكم عند الله موعداً لم تروه قال: فيقولون ما هو؟ ألم يبيض وجوهنا ويزحزحنا1 عن النار ويدخلنا الجنة، قال: فيكشف الحجاب فينظرون إلى الله ما أعطاهم شيئاً هو أحب إليهم مما هم فيه ثم قرأ {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} 2.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم ارزقني لذاذة النظر إلى وجهك" 3. ولا يسأل النبي صلى الله عليه وسلم مستحيلاً.
وروي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: "من تمام النعمة دخول الجنة والنظر إلى وجه الله تعالى في جنته"4.
__________
1 هكذا في الأصل وفي - ح- (وتجرنا عن النار) .
2 تقدم تخريجه ص638.
3 ورد هذا من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عمار - رضي الله عنه - أخرجه حم. 4/264، ن. كتاب السهو (ب. الدعاء بعد الذكر) 3/55، وابن أبي عاصم في السنة 1/158 مختصراً من طريقين عن عمارة - رضي الله عنه -، وقال الألباني في التعليق: "إسنادهما صحيح". وكذلك أخرجه الحاكم في المستدرك كتاب الدعاء 1/524 وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/254، واللالكائي في السنة 3/489.
كما روي من حديث زيد بن ثابت من دعاء طويل علمه إياه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يتعاهده ويتعاهد به أهله، وجاء فيه "اللهم إني أسألك الرضا بع د القضاء وبرد العيش بعد الموت ولذة النظر إلى وجهك وشوقاً إلى لقائك". أخرجه حم. 5/191ن واللالكائي في السنة 3/89 مطولاً، وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة مختصراً 1/185، وفي إسناده أبو كر بن أبي مريم. قال ابن حجر عنه: "ضعيف وكان قد سرق بيته فاختلط"، التقريب ص396.
كما روي من حديث فضالة بن عبيد أخرجه عنه اللالكائي في السنة 3/491، وابن أبي عاصم في السنة 1/186، وقال الألباني في التعليق: "إسناده صحيح رجاله كلهم ثقات". وليس في روايات الحديث لفظ (لذاذة) كما أورده المصنف هنا بل كلها بلفظ (لذة) .
4 ذكره اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 3/496، وعزاه إلى عبد الرحمن بن أبي عاصم بسنده عن علي، وكذلك ذكره ابن القيم في حادي الأرواح ص 232.(2/646)
وفي هذا من الأخبار الثابتة في الصحاح ما لو ذكرتها لطال الكتاب بذكرها.
ويدل على ذلك من جهة العقل أن الله تعالى موجود، وإنما يخالف الموجود الموجودات في استحالة كونه حادثاً أو موصوفاً بما يدل على الحوادث، فلما صح أنه يوصف بأنه معلوم صح بأن يوصف1 بأنه مرئي2.
إن قيل: لو كان مرئياً لرأيناه في الدنيا، قلناك لا يلزم، ألا ترى أن ملك الموت يراه المحتضر ولا يراه من عنده، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرى جبريل عليه السلام ولا يراه أحد ممن يحضره من الصحابة - رضي الله عنهم -.
فإن قالوا: لو كان مرئياً لكان جسماً أو جوهراً أو عرضاً، لأنه لا ترى إلا الجواهر والأجسام. قلنا: فقد اتفقنا أنه معلوم وإن كان في الشاهد لا يعلم إلا الجواهر والأجسام والأعراض.
وأما الدليل على إبطال قول الأشعرية فهو: أن الشرع ورد بثبوت الرؤية لله تعالى بالأبصار فَحُمِل ذلك على الرؤية المعهودة، وهو ما كان عن مقابلة، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "كما ترون القمر ليلة البدر "3 ولا يقتضي ذلك تحديداً ولا تجسيماً لله، كما لا يقتضي العلم به تحديداً له4 ولا تجسيماً.
وإن قالوا: إن الرؤية لا تختص بالأبصار5، رجعوا إلى قول المعتزلة، في نفي الرؤية، وأن المراد بالرؤية العلم به علماً ضرورياً6، وقد حكي عن
__________
1 قوله (بأن يوصف) ليست في الأصل وهي مثبتة في - ح-.
2 ذكر هذا الاستدلال من جهة العقل أبو الحسن الأشعري في الإبانة ص 42.
3 تقدم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ص 645.
4 المراد بذلك التكييف أو الإحاطة وقد تقدم التعليق على نفي الجسمية في أول الكتاب.
5 في الأصل (لا تختص بالرؤية) وما أثبت من - ح- وهو أقوم للعبارة.
6 تقدم ذكر قول الأشعرية والتعليق على ذلك ص637.(2/647)
بعض متأخري الأشعرية أنه قال: لولا الحياء من مخالفة شيوخنا لقلت إن الرؤية العلم لا غير1.
وهكذا قالوا في سماع موسى لكلام الله أنه لا يختص الأذن، وإذا لم يختص الأذن رجع إلى معنى العلم.
وأقوال الأشعرية مثبتة على أصول المعتزلة لأن أبا الحسن كان معتزلياً2.
واستدلت المعتزلة على نفي الرؤية لله سبحانه بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ} 3، فنفى أن تدركه الأبصار وهو عام4.
والجواب: أنه إنما نفى الإدراك، والإدراك الإحاطة بدليل قوله تعالى: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} 5. أي أنا لمحاط بنا، وكذلك قوله تعالى: {لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى} 6، ومعلوم أنه لم يخف الرؤية وإنما خاف الإحاطة، ويحتمل أنه أراد نفي الرؤية في الدنيا لأن الرؤية، إليه7 أفضل اللذات، فلا تكون إلا في أفضل الدارين بدليل ما ذكرنا من الآيات والأخبار لأن الخاص يقدم على العام8.
__________
1 كل من نفى الجهة وأثبت الرؤية لا بد أن يحاول تحريف المراد بالرؤية، وهم أكثر الأشاعرة لأن الرؤية بالبصر تحتاج إلى مقابلة وجهة، لهذا زعموا كما مر ص 637 أن الرؤية نوع إدراك وكشف ورزيادة استيضاح لذات الله عزوجل، ويوضح الآمدي في غاية المرام ص 168 هذا المعنى مؤكداً على نفي المقابلة والجهة بقوله: "ليس الإدراك إلا نوعاً من العلوم يخلقه الله تعالى في البصر وذلك لا يوجب في تعليقه بالمدْرَك مقابلة ولا جهة أصلاً" انتهى.
ما عهد العقلاء أن العلم يضاف إلى البصر إلا في هذا التحريف العجيب.
2 تقدم بيان هذا في الترجمة للأشعرية أول الكتاب ص 94.
3 الأنعام آية (103) .
4 انظر: شرح الأصول الخمسة ص 233.
5 الشعراء آية (61) .
6 طه آية (77) .
7 هكذا في النسختين ولعل الصواب (النظر إليه أو رؤيته) لأن الفعل (رأى) يتعدى بنفسه.
8 للعلماء في الرد على استدلال المغتزلة بالآية ثلاثة مسالك:
المسلك الأول: أن الإدراك معنى زائد على الرؤية فالله عزوجل يرى كما ثبت بالآيات والأحاديث الصريحة في ذلك بالآخرة، ولا يدرك بمعنى لا يحاط به كما أنه يعلم ولا يحاط به علماً جل وعلا، وهو قول مأثور عن ابن عباس - رضي الله عنه - وقتادة وبه قال كثير من العلماء. انظر: تفسير ابن جرير 7/299، أضواء البيان 10/ 121، حادي الأرواح ص202، شرح العقيدة الطحاوية ص208.
المسلك الثاني: أنه عام مخصوص برؤية المؤمنين لله في الآخرة. انظر: دفع إيهام الاضطراب، ملحق باضواء البيان 10/121.
المسلك الثالث: أن المنفي بالآية الرؤية في الدنيا، أما الرؤية المثبتة فهي رؤية الآخرة فعليه لا تعارض بين الآية والآيات الدالة على ثبوت الرؤية في الآخرة.
وهذا مراد أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - في استدلالها بالآية على نفي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه، كما روى ذلك عنه البخاري ومسلم أنها قالت: "من حدث أن محمداً رأى ربه فقد كذب ثم قرأت: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ} " الآية أخرجه خ. كتاب التفسير، تفسير سورة النجم 6/117، وبه قال أيضاً الحسن وإسماعيل بن علية، وبه قال عثمان بن سعيد الدارمي. انظر: الدر المنثور 3/335، ورد الدارمي على بشر المريسي ص 58.(2/648)
ثم استدلوا بقول الله تعالى: {يسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَة} 1، فلولا أن رؤية الله مستحيلة لما أنكر الله عليهم سؤالهم الرؤية2.
والجواب أن يقال: إن الله لم ينكر عليهم سؤالهم الرؤية لأنها مستحيلة، وإنما أنكر عليهم سؤالهم ذلك على وجه التكذيب له لكونه نبياً، وأنهم لا يؤمنون به حتى يروه ويعاينوه جهرة في الدنيا، ألا ترى أن الله أنكر على من سأل النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب3 نزول الكتاب معه، وأنكر على من قال: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ4 جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً}
__________
1 النساء آية (153) .
2 ذكر هذا الاستدلال لهم الدارمي عن بشر المريسي انظر: رد الدارمي على بشر المريسي ص 58.
3 في - ح- (أهل مكة) وهو خطأ فإن المراد سؤال أهل الكتاب كما هو في الآية المذكورة في استدلال المعتزلة.
4 في الأصل (له) .(2/649)
إلى قوله: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَأُهُ} 1.
ومعلون أن نزول الكتاب وتفجير الأنهار وكون الجنة من النخيل والعنب معه وغير ذلك مما سألوه ليس بمستحيل، وإنما سألوا ذلك على وجه التعنت، وأخبر الله سبحانه أنه لو فعل لهم لم يؤمنوا بقوله: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ} 2 وذلك لعلم الله وقضائه السابق فيهم.
__________
1 الإسراء آية (90- 93) .
2 الأنعام آية (7) .(2/650)
105- فصل
وعند أهل الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أسرى به في اليقظة لا في المنام من المسجد الحرام1 أي الحرام، وقيل: أسرى به من بيت خديجة بنت خويلد، وقيل: من بيت أم هانئ بنت أبي طالب، وقيل: من بين زمزم والمقام إلى بيت المقدس وركب البراق، ثم عرج به إلى السماء حتى بلغ سدرة المنتهى ورأى ربه.
واختلفت الرواية عن الصحابة - رضي الله عنهم -، فروي عن ابن عباس –رضي الله عنه- أنه قال: "رأى ربه بعيني رأسه". وروي عن أبي ذر وعائشة - رضي الله عنهما - أنهما قالا رآه بعيني قلبه2، وقد أنكر المعتزلة والقدرية الإسراء، وقالوا إنما كان ذلك رؤية في المنام3، والقرآن والروايات تبطل
__________
1 الذي عليه جمهور المحدثين والفقهاء والمتكلمين أن الإسراء كان في اليقظة أسري بجسده وروحه صلى الله عليه وسلم من المسجد إلى المسجد الأقصى، وقيل: إن الإسراء كان بالروح لا بالجسد وهو مروي عن عائشة - رضي الله عنها - ومعاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - والحسن البصري. ذكر ذلك عنهم ابن إسحاق، وقيل إن الإسراء كان بالمنام، ذكر ذلك ابن حجر عن ابن ميسرة التابعي، وقيل إنه وقع أكثر من مرة منها ما هو منام ومنها ما هو يقظة، وهذا قول من رام الجمع بين روايات الأحاديث المختلفة.
ومن العلماء من توقف في تحديد أي الأمرين كان، وهو قول ابن إسحاق صاحب المغازي، والذي عليه المعول عند العلماء هو قول الجمهور لتظاهر الأدلة على ذلك وصراحتها فيه. انظر: تفسير ابن جرير 15/16، سيرة ابن هشام 2/32- 36، زاد المعاد 3/34- 42، شرح العقيدة الطحاوية ص 246، فتح الباري 7/197.
2 سيورد المصنف الأدلة على هذه الأقوال في الصفحات الآتية.
3 مراده بذلك المعراج لأنه يطلق عليه اسم الإسراء، فقد ترجم البخاري في كتاب الصلاة (ب. كيف فرضت الصلاة في الإسراء) ، وكذلك فعل النووي في شرح مسلم في كتاب الإيمان حيث ترجم (ب. الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السموات وفرض الصلوات) .
والمعتزلة يثبتون الإسراء من مكة إلى بيت المقدس بالجسد والروح، فإن القاضي عبد الجبار المعتزلي قال في كتابه "تثبيت دلائل النبوة" ما نصه في بيان المعجزات الحسية: "إنه صلى الله عليه وسلم أسري به في ليلة واحدة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عاد من ليلته إلى مكة، ومدة السفر في ذلك مقدار شهرين أي ذهاباً وإياباً، وهذا لا يفعله الله إلا للأنبياء في زمن الأنبياء" تثبيت دلائل النبوة 1/46. فقد صرح هنا بأن الذهاب إلى المسجد الأقصى يحتاج لشهرين وهذا بالطبع خاص بالجسد والروح، وقد بين هنا أيضاً أن الله خرق العادة للنبي صلى الله عليه وسلم فذهب وعاد من ليلته، فلو كان يرى أن الإسراء كان مناماً لم يجعله من دلائل النبوة، لأن المنام يقع فيه مثل هذا وأكثر للأنبياء وغيرهم، أما المعراج، فإنهم لا يثبتونه ولا يصرحون بعدم وقوعه، فقد قال القاضي عبد الجبار المعتزلي في كتابه المغني 16/419 في الكلام على المعجزات ما نصه: "ومن ذلك ما خبر به صلى الله عليه وسلم، وشهد القرآن بصحته ووقع التصديق من الكافة، من أنه أسري به إلى بيت المقدس حتى خبرهم بالأمور التي شاهدها، فإن ثبت مع ذلك ما يروى في حديث المعراج أو بعض ذلك فهو أوكد في الدلالة، وإن كان القدر الذي شهد القرآن بصحته فهو ما قدمناه".
وصاحب كتاب إثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم أبي الحسن أحمد بن الحسين الهاروني الزيدي أثبت في كتابه الإسراء إلى بيت المقدس وأغفل الكلام عن المعراج.
والذي يظهر أن إغفالهم للمعراج ليس سببه عدم ثبوت نصوصه، لأنهم أثبتوا من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ما هو أقل شهرة وأضعف إسناداً من قصة المعراج، لأن قصة المعراج ثابتة متواترة كما سيأتي بيان المصنف لذلك، وإنما السبب لإغفالهم المعراج أن فيه إثباتاً لأمور ينكرونها وهي إثبات العلو لله عزوجل والكلام والنسخ قبل التمكن من الامتثال، يدل على هذا كلام أبي الحسين البصري في المعتمد في أصول الفقه 1/412 في إنكاره للنسخ قبل الفعل قال: "ومنها - يقصد من أدلة المثبتين - قولهم إن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرج به إلى السماء فرض الله عزوجل عليه وعلى أمته خمسين صلاة صلاة، فأشار عليه موسى عليه السلام بالرجوع وأن يشفع في النقصان وأنه قبل ما أشار عليه، فردت الصلاة إلى خمس بعد رجعات وذك نسخ قبل الوقت. والجواب: أن ذلك خبر واحد لا يجب قبوله فيما يجب أن نعلم، وأيضاً فإن الخبر يتضمن من أنواع التشبيه ما يدل على أن أكثره موضوع" انتهى.
فهذا يدل على أن إنكارهم له لما تضمن من إثبات الصفات لله عزوجل، وهذا رد منهم بالهوى لأن المعراج ثبت بالأحاديث الصحيحة المتوترة كما سيأتي بيانه. وقد عزا الإسفرائيني في التبصير في الدين ص 66 إلى المعتزلة إنكار المعراج، وأن هذا من الأمور التي أجمعوا عليهان وتابعه على هذا صاحب فرق وطبقات المعتزلة انظره ص 134.
ولم أقف على من عزا إليهم القول بأن المعراج كان مناماً، فلعل المصنف - رحمه الله - وقف على شيء من هذا، لأن القول بأن المعراج كان مناماً لا يورد عليهم ما ينكرونه من الصفات وغيرها، فلعلهم قالوا به، والله أعلم.(2/651)
قولهم، قال الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} 1.
__________
1 الإسراء آية (1) .(2/652)
وروى حديث الإسراء جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم: أبي بن كعب1، وأبو ذر2، وأبو سعيد الخدري3، وأنس4، وصهيب5، وحذيفة6، وعثمان7، ومالك بن صعصعة8، وابن مسعود9، وابن عباس10، وأبو الحمراء11، وعلي12، وعائشة13، وأم هانئ14،
__________
1 أخرجه حم. 5/122 مختصراً من حديث أنس عنه وهو من زوائد عبد الله على المسند، وأخرجه جه. في كتاب الفتن (ب. الصبر على البلاء) 2/337 من حديث ابن عباس عنه مختصراً.
2 أخرجه خ. كتاب الأنبياء (ب. ذكر إدريس عليه السلام) 4/108 من حديث أنس، م. كتاب الإيمان (ب. في الإسراء) 1/148.
3 أخرجه عنه مطولاً ابن جرير الطبري في تفسيره 15/11، والبيهقي في دلائل النبوة 3/236.
4 أكثر الروايات الثابتة في الإسراء مدارها على أنس - رضي الله عنه - وقد اخرجه عنه خ. كتاب التوحيد (ب. قوله تعالى وكلم الله موسى تكليما) 9/120، م. كتاب الإيمان (ب. الإسراء) 1/145، حم 3/148.
5 أخرجه عنه الطبري في الكبير 8/46 رواية في عرض اللبن والخمر على النبي صلى الله عليه وسلم في الإسراء.
6 أخرجه عنه ت. كتاب التفسير (ب. تفسير سورة الإسراء) 5/307، حم. 5/387.
7 في الأصل الأسماء هكذا (وأنس وحذيفة وعثمان بن صهيب) وما أثبت من -ح- لأنه ليس في الصحابة من اسمه عثمان بن صهيب فهو خطأ، وكذلك لم أقف على رواية لعثمان في الإسراء، والله أعلم.
8 أخرجه خ. كتاب بدء الخلق (ب. ذكر الملائكة) 4/87، م. كتاب الإيمان (ب. الإسراء) 1/150.
9 أخرجه عنه حم. 1/422، جه. كتاب الفتن (ب. طلوع الشمس من مغربها 2/1365، والبيهقي في دلائل النبوة 2/122.
10 أخرجه خ. كتاب بدء الخلق (ب. إذا قال أحدكم آمين وقالت الملائكة آمين..) 4/92 م. كتاب الإيمان (ب. الإسراء) 1/151.
11 أبو الحمراء هو هلال الحارث مولى النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجه عنه ابن قانع والطبراني وابن مردويه كما ذكر ذلك السيوطي في الدر المنثور 5/219.
12 أخرجه عنه البزار. انظر: كشف الأستار، كتاب الصلاة (ب. بدء الأذان) 1/178.
13 أخرجه عنها الحاكم وصححه في المستدرك. كتاب معرفة الصحابة 3/62، والبيهقي في الدلائل 2/112.
14 أخرجه عنها ابن جرير الطبري في تفسيره 15/12.(2/653)
وأبوحنة الأنصاري1، وعمرو بن العاص2، وسمرة بن جندب3، وبريدة الأسلمي4، وجابر بن عبد الله5، وأبو هريرة6، وعبد الله بن الحارث7.
ولا ينكر ذلك إلا من ينكر القرآن والأخبار الواردة فيه.
ومن الدليل على ما ذكرناه قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالأفُقِ الأعْلَى وَهُوَ بِالأُفُقِ الأعْلَى} 8 -يعني جبريل عليه السلام9- {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} و {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ} بتشديد الذال في كذب، وقيل: معناه ما كذب الفؤاد ما رآه بعيني
__________
1 هكذا في الأصل وفي -ح- (أبو حبيبة) والذي وقع ذكره في صحيح مسلم أبو حبة الأنصاري (بالباء) فقد روى عنه الزهري رواية الإسراء، أخرجها عنه مسلم في كتاب الإيمان (ب. الإسراء) 1/149، وقد ذكر ابن حجر في الإصابة الاختلاف في كنيته فمنهم من قال: أبو حبة بالباء ومنهم من قال أبو حنة - بالنون - كما اختلف في اسمه أيضاً. انظر: الإصابة 11/78.
2 لم أقف على من أخرج ذلك عنه.
3 له رواية في الإسراء ذكرها السيوطي في الدر المنثور 5/213 أخرجها عنه ابن مردويه.
4 أخرجه عنه الترمذي كتاب التفسير باب سورة الإسراء 5/301، والحاكم في المستدرك 2/360.
5 أخرجه عنه خ. كتاب فضائل الصحابة (ب. حديث الإسراء) 5/44، م. كتاب الإيمان (ب. ذكر المسيح بن مريم والمسيح الدجال) 1/156.
6 أخرجه عنه خ. كتاب الأنبياء (ب. وهل أتاك حديث موسى) 5/44، م. كتاب الإيمان (ب. الإسراء 1/154، وهو في صفة موسى وعيسى عليهما السلام. وروى عنه قصة الإسراء مطولة البزار. انظر: كشف الأستار 1/238، وابن جرير الطبري في تفسيره 15/6.
7 لم أقف على من أخرج ذلك عنه.
تنبيه: الروايات المخرجة عن الصحابة المذكورين هنا بعضها مطولاً في ذكر الإسراء وما وقع فيه وبعضها في ذكر شيء مما حدث في الإسراء وبعضها صحيح وبعضها ضعيف.
8 النجم آية (4- 7) .
9 ذكر هذا القول ابن جرير الطبري عن الربيع وقتادة والحسن، وذكر قولاً آخر ولم يعزه وهو أن المراد به جبريل والنبي محمد صلى الله عليه وسلم. تفسير الطبري 27/43-44.(2/654)
رأسه، ومن قرأ {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ} بالتخفيف قيل معناه ما كذب الفؤاد ما رأى بعيني قلبه1.
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: "رأى محمد ربه مرة بقلبه ومرة ببصره". فسمع ذلك كعب الأحبار، فقال: "أشهد بالله إن هذا لفي التوراة، وأن الله فسم كلامه ورؤيته بين موسى وبين محمد صلى الله عليه وسلم، موسى سمع كلام الله مرتين، ومحمد صلى الله عليه وسلم رأى ربه مرتين "2.
وأما عائشة - رضي الله عنها -، فروي عنها أنها أنكرت ذلك وقالت: "ثلاث من قال واحدة منهم فقد أعظم على الله الفرية، من قال: إنه يدري ما يكون في غد قال الله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً} 3، ومن زعم أن محمداً كتم شيئاً من الوحي فقد أعظم على الله الفرية والله يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} 4، ومن زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ
__________
1 قراءة التخفيف قراءة الجمهور وقرأ عاصم الجحدري، وأبو جعفر القارئ والحسن البصري بالتشديد. انظر: تفسير ابن جرير 27/49، ولم أقف على من فرق في المعنى بين القراءتين.
2 أخرجه ت. كتاب التفسير (ب. سورة النجم) 5/394 نحوه وفي إسناده مجالد بن سعيد الهمداني، قال ابن حجر: ليس بالقوي. التقريب ص328 كما أخرجه مختصراً ابن خزيمة في التوحيد 1/496. واللالكائي في السنة 3/500 وإسناده حسن، وليس في شيء منها الإشارة إلى قول ابن عباس "رأى محمد ربه مرة بقلبه ومرة ببصره" وقد أخرجه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان 1/158 إثبات الرؤية بالقلب.
ولم أقف على روابة مسندة عن ابن عباس فيها إثبات الرؤية مقيدة بالبصر، وإنما أخرج عنه الحاكم وصححه أنه قال: "أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم" المستدرك 1/65، وقد روى عنه ذلك ابن خزيمة من عدة طرق. انظره في كتاب التوحيد 1/479.
3 لقمان آية (34) .
4 المائدة آية (67) .(2/655)
رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} 1، فقيل لها يا أم المؤمنين: ألم يقل الله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} 2، وقال: {رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ} 3، قالت: أنا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك قال: " رأيت جبريل عليه السلام سادا الأفق على خلقته وهيئته التي خلق عليها فيها"4.
فهذا اختلاف الصحابة في جواز الرؤية عليه في الدنيا5.
__________
1 الشورى آية (51) .
2 النجم آية (13) .
3 التكوير آية (23) .
4 أخرجه م. كتاب الإيمان (ب. قوله تعالى ولقد رآه نزلة أخرى) 1/159، وأخرجه حم. 6/236، 341 مختصراً وليس في شيء من الروايات قوله "فيها" وهي مثبتة في النسختين ولا معنى لها.
5 رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا اختلف فيها الصحابة - رضوان الله عليهم - إلى قولين:
القول الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه وهذا قول ابن عباس ومن وافقه من أصحابه وغيرهم كالحسن وعكرمة وكعب الأحبار وأبي ذر في رواية عنه والزهري ومعمر وهو قول الأشعري وعامة أتباعه.
القول الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه عزوجل ليلة أسري به وإنما الرؤية الواردة في آية النجم في قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} إنما كانت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام على صورته التي خلق عليها كما تقدم في حديث عائشة.
وهذا قول عائشة وابن مسعود وأبي هريرة - رضي الله عنهم -، ورواية عن أبي ذر - رضي الله عنه -، وقال النووي في شرح مسلم 3/7: "إن أكثر العلماء على أن المراد بقوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام على خلقته، ثم قال: إن العلماء بعد ذلك منهم من قال بقول ابن عباس، ومنهم من قال بقول عائشة - رضي الله عنها - كما صار هناك قولان آخران وهما:
قول من توقف في المسألة لعدم وضوح الدليل، وبه قال سعيد بن جبير وهو قول القرطبي في المفهم.
وقول من جمع بين الروايات وذلك بإثبات الرؤية بالقلب ونفيها عن البصر وقالوا: إن ابن عباس ثبت عنه إثبات الرؤية مطلقاً غير مقيدة بالبصر، كما ثبت عنه إثبات أنها رؤية قلبية فيحمل المطلق على المقيد، وعائشة - رضي الله عنها - نفت الرؤية بالبصر، فلا يكون بينهما تعارض.
وبهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والحافظ ابن حجر وغيرهم. انظر: مجموع الفتاوى 6/509، زاد المعاد 3/37، البيان في أقسام القرآن ص160- 164، فتح الباري 8/608، وهذا أرجح الأقوال لجمعه بين القولين، فإن الرؤية القلبية لا تعارضها الأدلة الشرعية وممكن وقوعها. وقد ثبت عن ابن عباس القول به، وقد ورد في حديث معاذ إثبات الرؤية وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إني قمت من الليل فتوضأت وصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي حتى استثقلت فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة فقال: يا محمد، قلت: لبيك يا رب، قال: فيم يختصم الملأ الأعلى.." الحديث، أخرجه ت. في التفسير 5/368- 369 وقال: "حسن صحيح"، وقال: "سألت محمد بن إسماعيل عنه" فقال: "حسن صحيح"، وأخرجه حم. 1/368 عن ابن عباس، ورجال إسناده ثقات إلا أن أبا قلابة الراوي عن ابن عباس قيل إنه لم يسمع منه. انظر: التهذيب 5/224.
وقد أخرجه ابن جرير من طريق عطاء عن ابن عباس وزاد في آخره من قوله صلى الله عليه وسلم: "فذلك قوله في كتابه يحدثكموه {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} فجعل نور بصري في فؤادي فنظرت إليه بفؤادي" تفسير ابن جرير 27/48.
وفي إسناده سعيد بن زربي، وهو منكر الحديث. انظر: التقريب ص1210، فهذا الحديث يدل على ثبوت الرؤية المنامية، أما رؤية العين فليس فيها دليل صريح، ويؤيد عدم وقوعها حديث أبي ذر عند مسلم 1/161 قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ قال: "نور أنى أراه" وفي رواية أخرى "رأيت نوراً".
وقيل: إن المراد بهذا النور هو الحجاب الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى "حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه". أخرجه م. 1/162.
ومما يدل على عدم وقوع الرؤية بالعين أنها مقام رفيع وميزة عظيمة، فلو أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم لذكرها واشتهر ذلك عنه كما ذكر غيرها من النعم، والله أعلم.(2/656)
وأما رؤية أهل الجنة له في الآخرة فلم يختلفوا بل الرواة لذلك لا ينحصر عددهم، ولو كان الإسراء به مناماً لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم فيه فضيلة، ولما أخبر الله أنه أسري به بل كان يقول بروحه.(2/657)
المجلد الثالث
تابع: النص المحقق
...
106 ـ فصل
وعندنا أن الجنة والنار مخلوقتان1، وأن الجنة في السماء والنار تحت الأرضين2.
__________
1 ذكر اتفاق أهل السنة على هذا الآجري في الشريعة ص (387) ، وأبو الحسن الأشعري في مقالاته 1/349،168، وابن حزم في الفصل 4/81، والقاضي أبو يعلى في المعتمد في أصول الدين ص (180) ، وابن القيم في حادي الأرواح ص (11) ، والطحاوي وشارح عقيدته ص (476) ، وصديق حسن خان في يقظة أولى الاعتبار ص (35) .
2 قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} النجم آية: (13-15) وثبت في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: " إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة فوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة ". أخرجه البخاري في كتاب التوحيد (باب وكان عرشه على عرش الماء 9/101 من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. فالآية والحديث يدلان على أن الجنة في السماء ويدل الحديث على أن سقفها عرش الرحمن.
أما النار فقد روى أبو نعيم في صفة الجنة (165 - 170) عن ابن عباس أنه قال: "الجنة في السماء السابعة ويجعلها حيث شاء يوم القيامة وجهنم في الأرض السابعة ".
وفي إسناده محمد بن عبد الله الراوي عن سلمة بن كهيل ولم أقف على ترجمته وفي إسناده أبو الزعراء عبد الله بن هاني. قال عنه البخاري: "لا يتابع في حديثه"، ووثقه العجلي وابن سعد وابن حبان انظر: التهذيب 6/61.
كما روي أيضا عن مجاهد، قال: "قلت لابن عباس: أين الجنة؟ قال: فوق سبع سموات، قلت: فأين النار؟ قال: تحت سبع أبحر مطبقة".
وفي إسناده أبو يحيى القتات الكوفي الكناني قال ابن حبان: "فحش خطؤه، وكثر وهمه حتى سلك غير مسلك العدول في الروايات"، وقال ابن حجر في التقريب: "لين الحديث". انظر: التهذيب 12/278، التقريب ص 432.
فهذه الآثار كما هو ظاهر لا يقوم بها الاستدلال على أن النار في الأرض السابعة لضعفها، فلهذا التوقف في هذا أسلم، وقد حكى الوقف فيها الشيخ صديق حسن خان عن السيوطي وعن الشيخ أحمد ولي الدين المحدث الدهلوي ورجحه. انظر: يقظة أولى الاعتبار مما ورد في ذكر النار ص (43 - 46) ، وانظر: حادي الأرواح ص (46) ، لوامع الأنوار البهية 2/237 - 239.(3/658)
وأنكرت المعتزلة أنهما مخلوقتان1، دليلنا قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا} إلى قوله: {فَأَزَلَّهُمَا2 الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} 3.
وقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ أَبَى فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} 4.
وقال الله لإبليس: {فَاخْرُجْ5 مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} 6 فأخبر الله سبحانه أنه أخرج آدم وحواء من الجنة، ثم تاب عليهما ووعدهما أن يردهما إلى الجنة، وأخبر أنه أهبط إبليس وأخرجه من الجنة، وأنه لعنه وآيسه من الرجوع إليها.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} 7 قال: أي رب لألم تخلقني؟ قال: بلى، قال: أي رب ألم تنفخ في من روحك؟ قال: بلى، قال: أي رب ألم تسبق رحمتك إلي قبل غضبك؟ قال: بلى، قال: أي رب ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى، قال: رب أرأيت إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: نعم"8.
فأما آدم فسأل التوبة فتيب عليه، وأم إبليس فسأل النظرة فانظر.
__________
قال سعيد بن جبير ومجاهد والضحاك: " الكلمات التي تلقها آدم من
1 المراد أنهم أنكروا مخلوقتان الآن. وهو قول طائفة من القدرية المعتزلة حكاه عنهم ورد عليهم فيه ابن حزم في الفصل 4/81، والبغدادي في أصول الدين ص (238) ، وابن القيم في حادي الأرواح ص (11) ، والسفاريني في لوامع الأنوار البهية 2/210 - 232، والشيخ صديق حسن خان في يقظة أولى الاعتبار ص (35) .
2 في كلا النسختين (فوسوس) وهو خطأ والصواب ما أثبت.
3 البقرة آية (35 - 36) .
4 طه آية (116 - 117) .
5 في كلا النسختين (أخرج) وهو خطأ.
6 الحجر آية (34) ، وآية (77) .
7 البقرة آية (37) .
8 أخرجه ابن جرير في تفسيره من عدة طرق 1/243، والآجري في الشريعة ص (388) .(3/659)
ربه {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين} 1.
وروي عن عبيد2 بن عمير3 قال " قال آدم وذكر خطيئته فقال: رب أرأيت معصيتي التي عصيت أشيء كتبته عليّ قبل أن تخلقني أم شيء ابتدعته من نفسي؟ قال: بل شيء كتبته عليك قبل أن أخلقك، قال فكما كتبته عليّ فاغفر لي "4.وروي عن حسان بن عطية5 قال: " بكى آدم على خطيئته ستين عاما وعلى ابنه حين قتل أربعين عاما6، فقيل له في بكائه على خطيئته فقال: أبكي على جوار ربي في دار تربتها طيبة أسمع فيها أصوات الملائكة "7 8.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما خلق الله الجنة
__________
1 أخرجه عن مجاهد ابن جرير في تفسيره 1/244، كما أخرجه أيضا عن أبي العالية والحسن، وأخرجه عبدة بن حميد عن الضحاك ذكر ذلك السيوطي في الدرر المنثور 1/144، وحكى هذا القول عن سعيد بن جبير القرطبي في تفسيره 1/324، وابن كثير في تفسيره 1/81.
2 في - ح - (عبد الله) وهو خطأ.
3 هو عبيد بن عمير بن قتادة الليثي من كبار التابعين مجمع على ثقته. التقريب ص (229)
4 أخرجه ابن جرير في تفسيره 1/244.
5 حسان بن عطية بضم العين المحاربي مولاهم أبو بكر الدمشقي ثقة عابد. توفي بعد (120هـ -) . التقريب (68) .
6 إلى هنا أخرجه عنه الآجري
7 روى الآجري في الشريعة عن يزيد الرقاشي مع رواية حسان، فلعل نسخته سقط منها إسناد رواية يزيد لأنه ذكر أول الرسالة أنه ينقل عن الآجري، أو يكون السقط من ناسخ كتاب الانتصار، والله أعلم أي ذلك كان.
8 ظاهر من إيراد المصنف لهذه الأدلة على أن الجنة والنار مخلوقتان أنه يرى أن جنة الخلد هي الجنة التي دخلها آدم عليه السلام، وأخرج منها وأنها في السماء، والمسألة خلافية قد نقلها ابن القيم في كتابه حادي= = الأرواح ونقل الأدلة والأقوال فيها، ولم ينتصر فيها لقول من الأقوال، مع أنه - رحمه الله - قد أثبت في الميمية أن جنة الخلد هي الجنة التي كان يسكن فيها آدم عليه السلام حيث يقول: -
فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم.
ولكنها سبى العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونُسَلَّم.
انظر: حادي الأرواح ص (19 - 34) ، شرح القصيدة الميمية ص (22) .(3/660)
أرسل جبريل إليها فقال: انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها، فرجع إليه فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، قال: فحفت بالمكاره، فقال: اذهب فانظر فنظرها ورجع وقال: وعزتك لقد حبست ألا يدخلها أحد, ولما خلق الله النار وما وأعد الله لأهلها فيها قال لجبريل: اذهب إليها فانظرها فنظر إليها فإذا هي تركب بعضها بعضا فرجع وقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأمر الله فحفت بالشهوات، ثم قال له انظر إليها فنظر إليها فقال: وعزتك لقد خشيت ألا ينجو منها أحد "1.
وقال صلى الله عليه وسلم: " اطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء "2، فقالت امرأة لم يا رسول الله؟ قال: إنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير"3.
والعشير الزوج. وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: " كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمعنا وجبة فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما هذا، قلنا: الله ورسوله أعلم
__________
1 أخرجه د. كتاب السنن (ب في خلق الجنة والنار) 2/279، ت. كتاب صفة الجنة (ب ما جاء حفت الجنة بالمكاره) 1/639وقال: هذا حديث حسن صحيح، حم 2/333 - 354، الحاكم في المستدرك كتاب الإيمان 1/26، وقال: "حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، الآجري في الشريعة ص (389) .
2 إلى هنا أخرجه خ. كتاب بد الخلق (ب ما جاء في صفة الجنة) 4/93، وفي الرقاق (ب فضل الفقر) 8/80 عن عمران بن الحصين - رضي الله عنه - في الموضعين، م. كتاب الرقاق (ب أكثر أهل الجنة الفقراء) 4/2096 من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - ولم أجد في شيء من الروايات ما يوافق الرواية كاملة كما أوردها المصنف هنا.
3 قوله فقالت امرأة: الحديث ورد في حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - ولفظه: "يا معشر النساء تصدقن فأني أريتكن أكثر أهل النار فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: "تكثرن اللعن وتكفرن العشير …" الحديث خ. كتاب الحيض - ب (ترك الحائض الصوم) 1/57، م. كتاب الإيمان (ب نقصان الإيمان بنقص الطاعات) 1/86.(3/661)
قال: هذا حجر أرسل في جهنم منذ سبعين خريفا الآن حين انتهى قعرها"1.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أوقد على النار ألف عام فاحمرت، وأوقد عليها ألف عام فابيضت، وأوقد عليها ألف عام فاسودت فهي سوداء مظلمة "2، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزء من سبعين جزءا من نار جنهم، فقيل: والله يا رسول الله إن كانت لكافية، فقال: إنها فضلت3 بتسعة وستين4 جزءا كلها مثل حرها "5.
ويدل على ما قلنا قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} 6.
والمعد في اللغة لا يكون إلا حاضرا موجودا، ومن زعم أن المعد بمعنى يعد غير صحيح، لأن هذا مجاز فلا تترك له الحقيقة.
وأما قوله: {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ} يعني سعتها وإنما ذكر الله هذا تمثيلا للعباد بما يعقلونه ويفهمونه، والعادة أن العرض دون الطول، فإذا كان
__________
1 أخرجه م. كتاب الجنة (ب في شدة حر نار جهنم..) ، 4/2184، جم. 2/371، الآجري في
الشريعة ص (394) .
2 أخرجه ت. صفة جهنم (ب ناركم جزء من سبعين جزء من جهنم 4/710 من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعا وموقوفا. قال الترمذي: "هذا موقوف أصح ولا أعلم أحدا رفعه غير يحيى بن أبي بكير عن شريك عن عاصم بن بهدلة عن أبي صالح عن أبي هريرة به"، وهو إسناد ضعيف لضعف عاصم، فقد قال عنه في التقريب: "صدوق له أوهام" ص (159) ، وكذلك القاضي شريك قال عنه في التقريب: "صدوق يخطئ كثيرا" ص (145) وقد ضعفه السيوطي في الجامع أنظره مع فيض القدير 3/80.
(فضلت) ليست في الأصل وهي ثابتة في - ح - وفي مصادر الحديث.
4 في - ح - (وتسعين) وهو خطأ.
5 أخرجه خ. بدء الخلق (ب صفة النار وأهلها مخلوقة) 4/96، م. كتاب الجنة (ب شدة حر نار جهنم …) 4/2184، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -
6 آل عمران آية (133) .(3/662)
العرض على هذا فالطول أكثر، قال الشاعر:
كأن بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المذعور كفة1حابل
وروى طارق بن شهاب2 أن اليهود قالوا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: " تقولون جنة عرضها السموات والأرض فأين تكون النار؟ فقال لهم عمر: أرأيتم إذا جاء النهار فأين يكون الليل، وإذا جاء الليل فأين يكون النهار - يريد لذلك حيث يشاء الله - فقالوا: لقد برعت3 بما في التوراة "4.
ويدل على ما قلناه قوله تعالى: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} 5، ومعلوم أنه لم يتمن قومه بذلك إلا لكونهم في الدنيا، ويدل على ما قلناه قوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} 6، والمعد: المستعد المهيأ7.
وعن حسان بن عطية8 قال: " الأرض التي تحت هذه فيها حجارة أهل النار "9.
__________
1 في الأصل (كفت) بالتاء المفتوحة وفي - ح - كما أثبت وهو الصواب وقد ذكر هذا البيت القرطبي 4/205 ولم يعزه إلى معين، وهذا البيت يستدل به على أن معنى عريضة واسعة، فعليه لا حاجة لذكر الطول في المعنى فقد فسر العرض هنا بأنه السعة تفسير القرطبي 4/205.
2 طارق بن شهاب بن عبد الشمس البجلي الأحمص الكوفي. قال أبو داود: "رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه"، توفي سنة (83 هـ) . التقريب ص (156) .
3 في - ح - (نزعت) وهو يوافق ما عند ابن جرير، إلا أن الرواية عنده هكذا "لد نزعت بمثله من التوراة" والمراد ب - نزعت، استخرجت واستنبطت.
4 أخرجه ابن جرير في تفسيره 7/211 بتحقيق أحمد شاكر.
5 يس آية (27) .
6 البقرة آية (24) .
7 هكذا في النسختين والمهيأ كافية في بيان المعنى.
8 في الأصل حسان بن عطا وفي - ح - حسان بن عطية، فأثبت ما في - ح - فإني لم أقف على من يسمى حسان بن عطا فلعلها خطأ من الناسخ.
9 لم أقف على من ذكره.(3/663)
قال ابن مسعود: "حجارة النار حجارة من كبريت يجعلها كيف يشاء"1، وذكر أهل التفسير أن موسى صلى الله عليه وسلم ذكر الله له في الهاوية فيها حجارة توقد منذ استويت على عرش أعدت لكل جبار عنيد ولمن حلف باسمي كاذبا، قال: وما تلك الحجارة؟ قال: كبريت في النار عليها مستقر قدمي فرعون، قال: رب وما الكبريت؟ قال: غضبي وعزتي لو قطرت منها قطرة في بحور الدنيا لأخمدت كل بحر ولهدت كل جبل ولسعت2 الأرضين من حرها"3.
وفي بعض الأخبار: "أن الحجر يتعلق في عنق الكفار فإذا اشتعل بالنار أحرق وجهه وفروة رأسه وهو أشد العذاب"4.
أعوذ بالله وأستجير به منها ونسأله الحنة.
وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من سأل الله الجن ثلاث مرات قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة، ومن استجار بالله من النار ثلاث مرات قالت النار: اللهم أجره من النار"5.
وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله خلق الجنة بيضاء وإن أحب
__________
1 أخرجه ابن جرير في تفسيره 1/169 عنه وعن ابن عباس وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2 في - ح - (لأيست) .
3 لم أقف على من ذكره.
4 لم أقف عليه.
5 أخرجه ت كتاب صفة الجنة (ب ما جاء في صفة أنهار الجنة) 4/699 جه. في الزهد وب صفة الجنة 2/1453، حم 3/117 - 141 - 155، والحاكم في المستدرك كتاب الدعاء 1/535 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.(3/664)
الزي إلى الله البياض فلبسوه أحياءكم وكفنوا به موتاكم"1.
__________
1 أخرجه الآجري في الشريعة ص (393) عن هشام بن زياد عن يحيى بن عبد الرحمن عن عطاء عن ابن عباس، واخرجه البزار من طريق هشام وليس فيه قوله: " فلبسوه أحياءكم.." الحديث" انظر: كشف الأستار 3/360، وهشام قال فيه الهيثمي في مجمع الزوائد 2/128: "متروك"، وكذلك قال ابن حجر في التقريب ص (364) ، وضعف الحديث السيوطي في الجامع الصغير انظر: فيض القدير 2/229 وقد ورد من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكنفوا فيها موتاكم" أخرجه ت. كتاب الجنائز (ب ما يستحب من الأكفان 3/319) وقال: "حديث حسن صحيح". وأخرجه نحوه من حديث سمرة بن جندب، كتاب الأدب (ب. ما جاء في لبس البياض) 5/117 وقال: "حسن صحيح"، وأخرجه عن ابن عباس، جه كتاب الجنائز (باب ما يستحب من الكفن 1/473. د. كتاب الطب (ب الأمر بالكحل) 2/153،حم. 1/247.(3/665)
107 - فصل
ومذهب أهل السنة أن الموحدين لا يكفرون بفعل شيء من المعاصي الصغائر والكبائر، وإذا عملوا الكبائر وتابوا لم تضرهم وإن ماتوا قبل التوبة منها فأمرهم إلى الله إن شاء عذبهم عليها وإن شاء غفرها لهم، وإن عذب العباد على الصغائر لم يكن ظالما لهم بذلك1.
__________
1 انظر قول أهل السنة في: التوحيد لابن خزيمة ص (353 - 355) ، الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام ص (89 - 1) مقالات الإسلاميين 1/347 العقيدة الطحاوية مع شرحها ص (416 - 417) .(3/666)
وقالت المرجئة: "لا يوصف الله بأنه يعذب عباده على ذنب غير الكفر"1.
__________
1 المرجئة: يطلق هذا الوصف على كل من أخر العمل عن الإيمان، وهو مشتق من الإرجاء وهو على معنيين: 1- الإرجاء بمعنى التأخير.
2- الإرجاء بمعنى إعطاء الرجاء.
ويصدق الوصف عليهم بكلا المعنيين، لأنهم يؤخرون العمل عن الإيمان ولأنهم يعطون الرجاء للفاسق، وعلى هذا الأخير يتفقون مع السلف فإن الفاسق تحت المشيئة.
والمرجئة أصناف عدهم أبو الحسن الأشعري على التفصيل اثنتي عشرة فرقة وهم: (1) الجهمية (2) أبو الحسن الصالحي (3) أصحاب يونس السمري (4) قول يونس وأبي شمر (5) أصحاب أبي ثوبان (6) النجارية وهم الحسين بن محمد النجار وأصحابه (7) أصحاب غيلان (8) أصحاب محمد بن شبيب (9) أبو حنيفة وأصحابه (10) أصحاب أبي معاذ التومني (11) أصحاب بشر المريسي (12) الكرامية أصحاب محمد بن كرام وهذه الإثنا عشر فرقة ترجع إلى ثلاثة أصناف كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وهي:
أولا: الذين يقولون الإيمان مجرد ما في القلب، ومنهم من يدخل أعمال القلوب وهم أكثر فرق المرجئة، حيث هو قول أصحاب أبي شمر ويونس السمري والغيلانية أصحاب غيلان بن مروان الدمشقي، وأصحاب محمد بن شبيب، ومنهم من لا يدخل أعمال القلوب كجهم ومن اتبعه والصالحي وهو الذي نصره الأشعري وأكثر أصحابه.
ثانيا: تصديق القلب وقول اللسان، وهذا قول هو المشهور عن أهل الفقه كأبي حنيفة وأصحابه في هذا النجارية وبشر المريسي.
وقد قسمت المرجئة إلى تقسيم غير المذكور هنا وذلك باعتبار مذاهب الفرق قي غير الإيمان، كتقسيم الشهرستاني إياهم إلى مرجئة الخوارج، مرجئة القدرية، مرجئة الجبرية، المرجئة الخالصة، وهي ترجع في الواقع إلى ما تقدم ذكره عن شيخ الإسلام. أما الحكم على الفاسق في الآخرة فأكثرهم على أنه تحت المشيئة إلا قولا ذكره الأشعري ولم يذكر قائليه وهو: إنه ليس في أهل الصلاة وعيد إنما الوعيد في المشركين، ثم قال: وزعم هؤلاء أنه لا ينفع مع الشرك عمل كذلك لا يضر مع الإيمان عمل ولا يدخل النار أحد من أهل القبلة، ونسب هذا القول الشهرستاني لأصحاب يونس السمري، حيث زعموا أن سوى المعرفة من الطاعة فليس من الإيمان، ولا يضر تركها حقيقة الإيمان ولا يعذب على ذلك إذا كان الإيمان خالصا واليقين صادقا ونحوه حكى ذلك أيضا عن العبيدية أصحاب عبيد المكبت أنهم قالوا: ما دون الشرك مغفور لا محالة وأن العبد إذا مات على توحيده لم يضره ما افترق من الآثام واجترح من السيئات، ولعل هؤلاء الذين عناهم المصنف بقوله هنا: "لا يوصف الله بأنه يعذب عباده على ذنب غير الكفر" والله أعلم انظر: مقالات الإسلاميين 1/213 - 223 - 227 الملل والنحل بهامش الفصل 1/186 - 195 الفرق بين الفرق ص (202 - 207) الفتاوى 7/195.(3/667)
وقالت الخوارج: "من أذنب متعمدا كفر بالله سواء فعل صغيرة أو كبيرة"1.
وقالت المعتزلة والقدرية: "لا يجوز أن يعذب الله العباد على الصغائر وإن عذبهم عليها ظلمهم، ومن فعل كبيرة فإنه يخلد في النار، ولا يوصف الله بأنه يغفر الكبائر"2.
فعند القدرية من عبد الله ألف سنة بأنواع العبادات من الصلاة والصوم والجهاد وغير ذلك لم يعص الله فيها ثم ركب معصية من الكبائر مرة واحدة
__________
1 المؤلف - رحمه الله - جعل الخوارج على قول واحد في مرتكب الكبيرة، والناظر فيم ذكر عنهم من أقوال في مرتكب الكبيرة يجدهم على عدة أقوال:
أولا: التكفير على الصغيرة في حالة الإصرار، وبه قال طائفة من الإباضية، وبه قال النجدات وقالوا: إذا لم يصر على الكبيرة فهو مسلم.
ثانيا: التكفير على كل ذنب صغير أو كبير، وهذا يحكى عن اليزيدية منهم، ولعل هؤلاء الذين عناهم المصنف بقوله هنا.
ثالثا: التكفير على ارتكاب الكبيرة، وبه قال الأزارقة والمكرميه من الثعالبة والصفرية والبهيسية وأكثر الخوارج.
رابعا: أن ارتكاب الكبائر كفر نعمة لا كفر شرك وبه قال الإباضية.
خامسا: طائفة من الصفرية قالوا: ما كان من الذنوب عليه حد فيسمى به كالزنا والقذف فيقال زان قاذف، وما كان من الكبائر ليس فيه حد كترك الصلاة فيقال كفر، وفي الحالتين لا يسمى مؤمنا.
سادسا: من واقع ذنبا لا يكفر حتى يرفع إلى الوالي ويحد في ذنبه وقبل ذلك لا يسمى مؤمنا ولا كافرا وبه قال بعض البهيسية وفرقة من الصفرية، والله أعلم.
انظر: مقالات الإسلاميين 1/174 - 198، الفرق بين الفرق ص (82 - 109) ، الملل والنحل بهامش الفصل 1/164 - 181، الفصل لابن حزم 3/229 - 4/190.
2 المعتزلة والزيدية على أن الذنوب منها صغائر وكبائر. أما الصغائر فإن صاحبها مستحق أن تكفر عنه في مقابل ماله من ثواب. وأما الكبائر فإنها لا تكفر عن صاحبها بل يجب أن يعاقب عليها. انظر: شرح الأصول الخمسة ص (66 - 632) ، مصباح العلوم بعرفة الحي القيوم ص (19 - 20) ،تاريخ الفرقة الزيدية ص (328 - 329) ، الملل بهامش الفصل 1/56.(3/668)
غير مستحل لها، إنه يخرج من إيمانه ويخلد في النار، كمن لم يؤمن بالله طرفة عين، وهذا مع تسميتهم لأنفسهم أهل العدل، وجعلوا حكم الشاهد أصلا لهم، وهذا في الشاهد خلاف العدل، وحكم العدل في الشاهد إن لم يعف الله عنه ويصفح عن هذا العبد الذي هذا صفته أن لا يظلمه من حسناته التي عملها لأنه قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} 1،ويعاقب على المعصية التي عملها بقدرها. وحكى عن بعضهم أنه قال: صاحب الكبيرة يوما في الجنة ويوما في النار2.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 3. ومعنى الآية أن الله لا يغفر لمن يشرك به فيموت على الشرك، ويغفر ما دون الشرك لمن يشاء من أهل التوحيد4.
ويدل على ما قلناه قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} 5.
وهذه الآية في وحشي قاتل حمزة6، ولكنها وإن نزلت بسببه إلا أنها عامة في جميع العباد وجميع الذنوب.
__________
1 النساء آية (40) .
2 لم يتبين لي قائل هذا القول.
3 النساء آية (48 - 116) .
4 هذه الآية أظهر الأدلة من القرآن على قول السلف وأقواها في إثبات أن ما دون الشرك من الذنوب تحت المشيئة.
5 الزمر آية (53) .
6 ذكر القرطبي عن ابن عباس وعطاء. تفسير القرطبي 15/268.
والثابت عن ابن عباس كما في البخاري ومسلم أنه قال: " إن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا وزنوا وأكثروا فأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعوا إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا
كفارة، فنزل {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} الآية، ونزل {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} خ. التفسير باب تفسير سورة الزمر 6/104، م. الإيمان (ب أن الإسلام يهدم ما قبله) 1/113.(3/669)
والدليل عليه ما روي عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ما يسرني بهذه الآية الدنيا وما فيها {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} 1 يقول لا تيأسوا من رجمة الله أنه لا توبة لكم {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} يعني الشرك والقتل والزنا الذي ذكر الله في سورة الفرقان2 {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ،وقال قوم: إنها لم تنزل بسبب وحشي لأنها مكية، ووحشي أسلم بعد ذلك بعد قتل حمزة بالمدينة، وبين نزولها وإسلامه قدر عشرين سنة، ولكنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل لي من توبة، فقال له نعم وقرأ عليه هذه الآية3.
ويدل على ما قلناه قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} 4.
ويدل على ما قلناه قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} 5 وهذا عام، ويدل على ما قلناه قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ
__________
1 أخرجه حم 5/275 بلفظ (ما أحب أن لي الدنيا ….) ، وابن جرير الطبري في تفسيره 24/16، والطبراني في الأوسط ذكر ذلك الهيثمي في مجمع الزوائد 7/100 ومدار إسناده على ابن لهيعة.
2 يعني بذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} .
3 أخرجه الطبراني في الأوسط ذكر ذلك الهيثمي وقال: "فيه أبين بن سفيان وضعفه الذهبي". مجمع الزوائد 7/100 وضعف أبين أيضا ابن عدي وقال: "مقدار ما يرويه غير محفوظ وما يرويه عمن رواه منكر كله، ونقل عن البخاري أنه قال: لا يكتب حديثه. الكامل 1/384.وهذه الآية التي ذكرها المصنف هنا لا تصلح دليلا، لأن المراد بها من تاب من الذنب حيث يدخل في الذنوب الشرك، والشرك لا يغفر إلا بالتوبة منه ويدل عليه أيضا حديث ابن عباس المتقدم في التعليق والمعتزلة كغيرهم لا ينكرون أن توبة صاحب الكبيرة مقبولة.
4 النساء آية (110) وهذه الآية أيضا لا تصلح دليلا هنا لوجود النص على الاستغفار.
5 الرعد آية (6) .(3/670)
السَّيِّئَاتِ} 1 وهذه الآية نزلت في أبي نفيل عباد بن قيس الأنصاري2: أتته امرأة تشتري منه تمرا فراودها على نفسها ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني خليت بامرأة فما من شيء يفعل الرجل بالمرأة إلا وقد فعلته بها إلا أني لم أنكحها فنزلت هذه الآية {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَار} يعني صلاة الصبح والظهر والعصر {وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ} يعني المغرب والعشاء {إِنَّ الْحَسَنَاتِ} يعني الصلوات الخمس {يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} فقال معاذ بن جبل - رضي الله عنه ـ: يا رسول الله أهذا خاص له أم عام للناس؟ فقال: بل عام للناس "3.
ويدل على ما قلناه قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} 4 والكبائر ها هنا الشرك5، بدليل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .
__________
1 هود آية (114) .
2 الذي عند الترمذي أن الرجل اسمه أبو اليسر كعب بن عمرو، ولم أجد من ذكر أنها نزلت في أبي نفيل عباد بن قيس سوى القرطبي، الذي قال إنها نزلت في رجل من الأنصار قيل: هو أبو اليسر بن عمرو، وقيل: اسمه عباد. انظر: تفسير القرطبي 9/110.
3 أخرجه م. كتاب التوبة (ب إن الحسنات يذهبن السيئات) 4/2116 من حديث عبد الله بن مسعود وأنس وأبي أمامة نحوه، وأخرجه ت. كتاب التفسير (ب تفسير سورة هود) 5/292 من حديث ابن مسعود، والرجل الذي وقعت منه الحادثة هو أبو اليسر كعب بن عمرو، وأخرجه ابن جرير في تفسيره بروايات متعددة 12/134 - 148.
4 النساء آية (31) .
5 الجمهور على أن المراد بالآية هنا أن الصغائر تكفر إذا اجتنبت الكبائر، فعليه فلا تصلح دليلا للمسألة هنا، لأن المعتزلة لا ينكرون هذا. وقول المصنف هنا والكبائر هاهنا الشرك، هذا يدل على قول من منع أن يكون هناك صغائر وزعم أن الذنوب كبائر فقط وذكر القرطبي هذا القول عن القاضي الباقلاني والإسفرائيني وأبي المعالي وأبي نصر عبد الرحيم القشيري. وزعم هؤلاء أن المراد بالكبائر ها هنا (الشرك) واحتجوا بقراءة {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} وقال عنه: الكبير الشرك، فعليه يرون أن اجتناب الشرك يجعل مرتكب الذنب تحت المشيئة وأنه لا تكفر الصغائر بترك الكبائر، وهو خلاف الحق الذي نصت عليه هذه الآية والأحاديث التي تدل على تكفير الذنوب بكثير من الأعمال كالصوم والصدقة والحج وغير ذلك. انظر: تفسير القرطبي 1/158 - 159، فتح الباري 10/409.(3/671)
من الدليل على ما قلنا ما روى أبو ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني جبريل فبشرني أن من مات من أمتي لا يشرك بالله دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق. قال: وإن زنى وإن سرق " أخرجه البخاري ومسلم1.
وروى جابر قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله ما الموجبتان، قال: "من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، ومن مات وهو يشرك بالله شيئا2 دخل النار" 3.
عن أبي موسى الأشعري قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليجيئن ناس من أمتي بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله لهم ثم يضعها على اليهود والنصارى"4.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن رجلا أذنب
__________
1 أخرجه خ كتاب التوحيد (ب كلام الرب مع جبريل) 9/114، م. كتاب الإيمان (ب من مات لا يشرك بالله…) 1/94.
(شيئا) ليست في الأصل، وهي في - ح - وكذلك عند مسلم وغيره.
3 أخرجه م. كتاب الإيمان (ب من مات لا يشرك بالله …) 1/94. حم 3/391.
4 أخرجه م. كتاب التوبة (ب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله) 4/2120، الحاكم في المستدرك 4/253، واللالكائي في السنة 6/1066.وفي الحديث إشكال وهو قوله صلى الله عليه وسلم " ثم يضعها على اليهود والنصارى" فإن هذا في ظاهره يخالف قوله عزوجل: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} قال النووي في شرح مسلم 17/85: "معناه أن الله تعالى يغفر تلك الذنوب للمسلمين ويضع على اليهود والنصارى مثلها بكفرهم وذنوبهم فيدخلهم النار بأعمالهم لا بذنوب المسلمين"، ثم قال: "ويحتمل أن يكون المراد آثاما كان للكفار سبب فيها بأن سنوها فتسقط عن المسلمين بعفو الله ويوضع على الكفار مثلها لكونهم سنوها، ومن سن سنة سيئة كان عليه مثل وزر كل من يعمل بها" انتهى.
وهذا القول الثاني أقرب وأوضح لقوله عزوجل عن الكفار {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} قال ابن جرير في تفسيره 20/35 "وليحملن هؤلاء المشركون بالله أوزار أنفسهم وأثاما وأوزار من أضلوا وصدوا عن سبيل الله مع أوزارهم".انتهى مختصرا.(3/672)
ذنبا فقال: أي رب أذنبت ذنبا فاغفر لي، فقال الله: عبدي عمل ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي " 1.
وعن علقمة عن عبد الله مسعود قال: "لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْن} اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله وأينا لم يظلم نفسه فقال: ألم تسمعوا إلى قوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 2.
وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي ما لم يشرك بي شيئا"3.
وروي عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال المغفرة تحل على العبد ما لم يقع الحجاب، فقيل: يا نبي الله وما الحجاب؟ قال: الشرك به، قال فما نفس تلقاه لا تشرك به إلا حلت لها المغفرة من الله، فإن شاء غفر لها وإن شاء عذبها، ثم قرأ {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ …} 4 الآية.
وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا
__________
1 أخرجه خ. كتاب التوحيد (باب قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} ) 9/117،م. كتاب التوبة (ب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت) 4/112.
2 أخرجه خ. كتاب الإيمان (ب وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا …) ، م. كتاب الإيمان (ب صدق الإيمان وإخلاصه) 1/114.
3 أخرجه الحاكم في المستدرك 4/262 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ورده الذهبي بأن فيه حفص بن عمر العدني واه من طريق حفص، أخرجه أيضا اللالكائي في السنة 6/1068، وأخرجه الطبراني في الكبير 11/241 من طريق إبراهيم بن الحكم بن أبان عن أبيه وقال ابن حجر عن إبراهيم: ضعيف. انظر: التقريب ص (19) .
4 أخرجه اللالكائي في السنة 6/1068،وعزاه ابن كثير في تفسيره 1/509 إلى أبي يعلى الموصلي في مسنده، ومدار الحديث على موسى بن عبيدة الربذي. وقال فيه أحمد: "لا يكتب حديثه"، وقال النسائي: "ضعيف"، وقال ابن حجر: "ضعيف". انظر: ميزان الاعتدال 4/213، التقريب ص (315) .(3/673)
الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} 1، قال: "كلهم في الجنة"2.
وروي عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} 3 قال لهم: "ما تقولون فيها؟ قالوا: استقاموا فلم يذنبوا، قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -: حملتم الأمر على أشده استقاموا لم يرجعوا إلى عباده الأوثان"4.
وروي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: "أربع آيات في سورة النساء خير للمسلمين من الدنيا وما فيها قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} 5، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 6،وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} 7، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ
__________
1 فاطر آية (32) .
2 أخرجه ت. تفسير القرآن، سورة الملائكة 5/363 وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وأخرجه حم 3/78، وابن جرير في تفسيره 22/137، واللالكائي في السنة 6/1071، وفي إسناده رجلان لم يسمياه، حيث روى عن الوليد بن العيزار عن رجل من ثقيف عن رجل من كنانة عن أبي سعيد - رضي الله عنه -، وقد أورد ابن كثير روايات عديدة في هذا المعنى منها المرفوع ومنها الموقوف. انظر: تفسير ابن كثير 3/555.
3 فصلت آية (30) .
4 أخرجه ابن جرير من عدة طرق عنه في تفسيره 24/114، واللالكائي في السنة
6/1071، وقد روى ابن جرير عن عمر بن الخطاب وغيره أن معنى استقاموا أي على الطاعة بفعل المأمور وترك المحظور.
5 النساء آية (31) .
6 النساء آية (48) .
7 النساء آية (64) .(3/674)
اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} 1،2
قال الحسن البصري: "وأنا أقول آية خامسة فيها3 للمسلمين خير من الدنيا وما فيها قوله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} 4،5.
وعن ابن عباس وابن عمر وابن مسعود - رضي الله عنهم - أنهم كانوا يرجون لأهل الكبائر.
وروي عقبة بن علقمة اليشكري6 قال: "شهدت مع علي - رضي الله عنه - صفين فأتي بخمسة عشر رجلا أسرى من أصحاب معاوية وكان من مات منهم غسله وكفنه وصلى عليه"7.
__________
1 النساء آية (110) .
2 أخرجه اللالكائي في السنة 6/1072، وابن جرير في تفسيره 5/45 إلا أنه قال خمس آيات وذكر الخامسة {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} .
3 في - ح - (فيها خير للمسلمين) .
4 النساء آية (147) .
5 أخرجه ابن جرير بسنده عن ابن عمر أنه قال: "كنا معشر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نشك في قاتل النفس وآكل مال اليتيم وشاهد الزور وقاطع الرحم حتى نزلت هذه الآية {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فأمسكنا عن الشهادة، وقد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله إن شاء عفا عاقبه عليه ما لم تكن كبيرة شركا بالله. تفسير ابن جرير 5/126، وروي ابن أبي عاصم في السنة 2/471 بسنده عن ابن عمر أنه قال: "كنا نوجب لأهل الكبائر النار حتى نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نوجب لأحد من أهل الدين النار"، قال الألباني: "إسناده جيد ورجاله كلهم ثقات"، وروى اللالكائي بسنده عن ابن عمر وابن عباس وابن مسعود من الصحابة وغيرهم الرجاء لأهل الكبائر. انظر: شرح اعتقاد أهل السنة 6/1-73 - 1074.
6 عقبة بن علقمة اليشكري أبو الجنوب الكوفي روى عن علي وشهد معه الجمل. ضعفه ابن حبان وابن حجر. انظر: التهذيب 7/247، التقريب ص (241) .
7 أخرجه اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 6/1076.(3/675)
وعن ثابت بن أبي الهذيل1 قال: "سألت علي بن الحسين2 عن أصحاب الجمل، فقال: مؤمنون وليسوا بكفار"3.
ويدل على ما قلناه أن من وعد الله ثوابا على عمل عمله بفضل من الله ونعمة ولا يوصف الله بأنه يخلف وعده لقوله تعالى: {إِِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} 4، ومن أوعده عذابا على ذنب أذنبه فإن الوعيد حق له وترك الوفاء بالوعيد كرم وجود، وربنا موصوف بالجود والكرم، وكيف لا يحسن من الله العفو عن الذنب وقد أمرنا به وحظنا عليه ومدح فاعله. قال الله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا} 5، وقال تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} 6، قال {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} 7، وأخبر عن نفسه بالعفو فقال {وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} 8.
وروي أن عمرو بن عبيد9 كان يقول بالوعيد، فناظر أبا عمرو بن العلاء10، فاحتج عمرو بن عبيد بأن إخلاف الوعيد قبيح وذم عند أهل اللسان وأنشد لأعرابي يمدح رجلا:
أن أبا ثابت لمجتمع الرأي ... شريف الآباء والنسب
لا يخلف الوعد والوعيد ... ولا يبيت من داره11 على قرب
__________
1 لم أجد له ترجمة.
2 هكذا في النسختين وعند اللالكائي (أبا جعفر محمد بن علي بن الحسين) .
3 أخرجه اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 6/1078.
4 آل عمران آية (9) والرعد (31) .
5 البقرة آية (109) .
6 البقرة آية (237) .
7 آل عمران آية (134) .
8 الشورى آية (25) .
9 عمرو بن عبيد بن باب التميمي مولاهم المعتزلي المشهور كان داعية إلى بدعته مع أنه كان عابداً، توفي سنة (143هـ) . التقريب (261) .
10 أبو عمرو بن العلاء بن عمار المازني النحوي القاري، ثقة من علماء العربية. توفي سنة (154هـ) . التقريب ص (419) .
11 هكذا في النسختين وعند اللالكائي (من ثارة) .(3/676)
.
...
فقال أبو عمرو: وإن كان هذا الشاعر قد مدح بالأمرين، فإن كعب بن زهير مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قد توعده فأنشده قصيدته:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول..........................
إلى قوله:
أنبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول
فلم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله بل وقع موقعا منه فعفى عنه1، وأعطاه بردة كانت له فابتاعها منه معاوية - رضي الله عنه - بعشرة آلاف ردهم كانت مع الخلفاء خلفية بعد خليفة.
وروي أن أبا عمرو قال له يا أبا عثمان: أليس لك علم بمعاني كلام العرب. العرب لا تعد العافي مخلفا ثم أنشده:
وما يرهب المولى ولا الجار صولتي ... ولا أختفي من سورة2 المتهدد
وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لأخلف ايعادي وأنجز موعدي3
وروي عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من وعد الله على عمل4ثوابا فهو منجزه ومن أوعده على عمل عقابا فهو الخيار"5.
__________
1 إلى هنا ما ذكر اللالكائي من هذه الحكاية 6/1082.
2 هكذا في النسختين وذكره السفاريني فقال (ولا يخشى) ، وعند اللالكائي كما ذكرها المصنف هنا إلا أنها مصوبة إلى (اخشى) .
3 ذكرها اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة بسنده 6/1082، كما حكاها السفاريني قي لوامع الأنوار البهية 1/370.
(علي عمل) ساقطة من الأصل، وهي في - ح - وكذلك في مصادر الحديث.
5 أخرجه اللالكائي في السنة 6/1083، وابن أبي عاصم في السنة 2/466، والبزار. انظر: كشف الأستار 4/775، ونسبه الهيثمي إلى أبي يعلى الموصلي والطبراني في الأوسط، مجمع الزوائد 10/370.
ومدار الرواية على سهيل بن حزم وهو ضعيف، قاله ابن حجر في التقريب ص
(139) وزاد في - ح - بعده (إن شاء عذبه وإن شاء غفر له) وليست في شيء من مصادر الرواية.(3/677)
والعرب تذم من يفي بوعيده قال الشاعر:
كان فؤداي بين أظفار طائر ... من الخوف في جو السماء معلق
حذار امرئ قد كنت اعلم أنه ... متى ما يعد من نفسه الشر يصدق1
فان احتجوا بقوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} 2.
فالجواب عنه أن روي عن ابن عباس أنه قال في تفسيرها قال: "من يشرك بالله"3.
وروي عن الحسن البصري أنه قال: لمن أراد الله هوانه فأما من أراد كرامته فلا، قد ذكر الله قوما فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} 4.وروي أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: "يا رسول الله أخبرني بأمر من يعمل سوءاً يجز به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبكر ألست تنصب، ألست تجزع، ألست تمرض، أليس يصيبك اللأواء قال: بلى قال: ذلك5 تجزون به"6. وروي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: " ما سألني أحد عنها منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فقال: هذه الآية ما يصيبه الله من العبد في
__________
1 ذكره الباقلاني في التمهيد ص (401) .
2 النساء آية (123) ، وقد ذكر الاستدلال بها القاضي عبد الجبار في شرح الأصول الخمسة ص (662) .
3 أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره 5/293.
4 الأحقاف آية (16) ، والرواية أخرجها ابن جرير في تفسيره 5/293،ولم يذكر الآية.
5 في - ح - (قد) بدل (ذلك) .
6 أخرجه حم 1/182 بتحقيق أحمد شاكر، وابن جرير في تفسيره 9/293، والحاكم في المستدرك 3/74 ومدارها على أبي بكر بن زهير الثقفي عن أبي بكر وقد ضعفها الشيخ أحمد شاكر في التعليق على المسند للانقطاع بين أبي بكر بن زهير وأبي بكر الصديق.(3/678)
نفسه من الهم والنكبة والشركة حتى البضاعة يضعها في كم قميصه فيفقدها فيجزع لذلك فيجدها في جيبه، حتى إن العبد ليخرج من ذنوبه كما يخرج البتر الأحمر من الكير"1.
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: "لما نزلت هذه الآية بكينا وحزنا وقلنا يا رسول الله: ما أبقت هذه الآية من شيء، فقال صلى الله عليه وسلم: " أما والذي نفسي بيده إنها لكما أنزلت ولكن ابشروا وقاربوا وسددوا فإنه لا يصيب أحدا منكم مصيبة إلا كفر الله عنه بها خطيئة حتى الشوكة يشاكها أحدكم في قدمه "2.
استدلت القدرية بآي الوعيد كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} 3الآية، وقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} 4 الآية، وقوله تعالى: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} 5، وما أشبه ذلك من الآيات6.
والجواب: أن لهم القرآن يعاضد بعضه ولا يتناقض بدليل قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} 7،فنحمل هذه
__________
1 أخرجه ت. كتاب التفسير (ب تفسير سورة البقرة) 4/221 وقال: حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد، وأخرجه، حم 6/218، وابن حرير في تفسيره 5/295.
2 أخرجه م. كتاب البر والصلة (ب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض) 4/1993كتاب التفسير (ب. تفسير سورة المائدة) 5/247،ابن جرير في تفسيره 5/294وقد ذكر المصنف - رحمه الله - في الآية الأقوال الثلاثة التي ذكرها ابن جرير وهي أن المراد بالسوء الشرك، أو أن المقصود بها الكفار، أو أن المراد بها عموم المعاصي من صغير وكبير، وأن الجزاء يكون بكل ما يصيب الإنسان في الدنيا من المصائب الصغيرة والكبيرة. وهو الذي رجحه ابن جرير ودل الدليل الصحيح عليه وهي الآثار المذكورة عن النبي صلى الله عليه وسلم هنا.
3 يونس آية (27) .
4 السجدة آية (20) .
5 الانفطار آية (14) .
6 ذكر بعض هذه الآيات وما أشبهها القاضي عبد الجبار المعتزلي في شرح الأصول الخمسة ص 657 - 663.
7 النساء آية (82) .(3/679)
الآية التي أوردها القدرية وما أشبهها من آي الوعيد على من لا إيمان معه، فأما من مات مؤمنا فلا يحكم بتخليده في النار بفعل كبيرة غير مستحل لها، بل إذا لم يغفرها لم يظلمه من حسناته لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} 1.وقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاّ مِثْلَهَا} 2 وجاء في التفسير أن الحسنة هو قول لا إله إلا الله، والسيئة هو الشرك3 ومثلها قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ4 وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 5 وقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} 6.وقوله تعالى: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} 7وقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات} 8.
فإن قالوا: من فعل الكبيرة لا يسمى مؤمنا9.
قلنا: بل يسمى مؤمنا لأنه مصدق بالله وبرسوله وباليوم الآخر، وكيف يخلد في النار من عبد الله مائة سنة في معصية واحدة غير مستحل لها، مع أن ظواهر الأي ألا يدخل النار إلا الكفار، قال الله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} 10 وقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} إلى قوله
__________
1 النساء آية (40) .
2 سورة الأنعام آية (160) .
3 ذكر هذا ابن جرير عن جماعة من السلف منهم عبد الله بن مسعود وابن عباس وشقيق بن عبد الله والحسن وعطاء وإبراهيم النخعي وأبو صالح، وغيرهم. انظر: تفسير ابن جرير 8/108 - 109.
4 في الأصل (ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون) .وفي - ح صوبت كما أثبت.
5 النمل آية (89 - 90) .
6 الزلزلة آية (7 - 8) .
7 آل عمران آية (195) .
8 هو آية (114) .
9 المعتزلة على أن الفاسق من أهل الملة في منزلة بين المنزلتين فلا يسمى مؤمنا ولا كافرا في الدنيا، وسيعقد المصنف فصلا للتسمية يذكر فيه قولهم.
10 التوبة آية (49) .(3/680)
تعالى: {ذُوقُوا1عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} 2، وقوله تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى، لا يَصْلاهَا إِلاّ الأشْقَى، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} 3،وقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} إ لى قوله: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيم} 4قوله: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ، فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} إلى قوله تعالى: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ، وَكَانُوا يَقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} 5 وأوجب النار لمن يكذب بالبعث6.
وقد احتجت المرجئة بهذه الآيات وأن الله لا يعذب إلا على الكفر به، وقالت المرجئة: لما كان توحيد ساعة7 يهدم ما قبله من الكفر وجب أن يهدم التوحيد ما معه من المعاصي.
وقالت المعتزلة: لما كان الكفر ساعة في آخر عمره يهدم ما قبله من التوحيد، فكذلك سائر المعاصي تهدم ما معها.
__________
1 في كلا النسختين (فذوقوا) وهو خطأ.
2 السجدة آية (20) .
3 الليل آية (14 - 16) .
4 سورة الحاقة آية (33) .
5 الواقعة آية (41 - 47) .
6 قول المصنف - رحمه الله - هنا " مع أن ظواهر الآي ألا يدخل النار إلا الكفار ثم ذكر الآيات على ذلك، وقد ذكر هذا الباقلاني في التمهيد ص 409 وهو قول غير صحيح إلا أن يقصد به دخول التخليد لأنه قد وردت آيات دلت على دخول النار في بعض الأعمال كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} . وقوله عزوجل: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} , وقوله عزوجل: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} .
7 في - ح - (ساعة في آخر عمره) .(3/681)
والجواب: أن يقابل أحد هذين المذهبين بالآخر ويسقطان ويبقى لنا المذهب بينهما وهو مذهب أهل الحديث.
ثم يقال للقدرية: تسويتكم بين الشرك وبين المعاصي بهذا مخالف لنص القرآن وهو قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1، فنفى أنه يغفر2الشرك ويغفر ما دونه لمن يشاء وتعليق مغفرته لما دون الشرك لمن يشاء يبطل قول المرجئة أيضا. فإذا وقف المذهبان موقفا واحدا في البطلان ثبت ما قلناه.
فإن قالت القدرية: فيجب حمل آي الوعيد في المغفرة لأهل الصغائر دون أهل الكبائر بدليل آي الوعيد.
قلنا: آي الوعيد بالمغفرة عامة للسيئات كلها والشرك يخرج بدليل الآي التي ذكرنها والإجماع، وبقي العموم متناولا لما دون الشرك من السيئات وعلى أن عند القدرية لا يجوز أن يعذب الله العباد على الصغائر وإن عذبهم عليها ظلمهم3، فإن كانت غير متوعد عليها4لم يخص بها العموم في الذنوب وعلى أنه يلزم القدرية إذ قالوا: بتخليد أصحاب الكبائر القول بمذهب الخوارج وهو تكفير أصحاب الذنوب وتخليدهم في النار، وهذا رد لما به القرآن والسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان من النار5.
__________
1 النساء آية (48 - 116) .
2 في النسختين (لا يغفر) ولا يستقيم المعنى إلا بحذف أداة النفي.
3 تقدم حكاية هذا القول عنهم انظر: ص 668، وانظر: شرح الأصول الخمسة ص 663 - 664.
4 في - ح - (أصحاب الذنوب والصغائر والكبائر) .
5 ثبت هذا من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن مثقال شعيرة من إيمان ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من إيمان ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من إيمان". أخرج خ كتاب الإيمان (ب زيادة الإيمان ونقصانه 1/14، م. كتاب الإيمان (ب أدنى أهل الجنة) 1/182 والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وثابتة.(3/682)
استدلوا بأنا لو لم نقل بالتخليد لأدى ذلك إلى الفساد، لأن المذنب متى علم أنه لا يخلد في النار لم يبال بالمعصية لأنه يعلم أنه يصير إلى الجنة فلهذا بُولِغَ بإدامة العذاب عليه1.
والجواب عليه أن يقال: فعلى مقتضى استدلالكم هذا أن تقولوا لا تصح توبته ولا تقبل منه، لأنه متى علم أن توبته تصح وتقبل منه ولم ييأس من البقاء بعد ارتكاب المعصية حمله ذلك على ركوب الكبائر اتكالا منه على التوبة في آخر عمره، فإذا كانت توبته صحيحة الإجماع، ولم يكن بها فساد، فكذلك القول بعدم تخليده.
استدلوا بأن الفاسق عدو لله وأمرنا بلعنه والبراءة منه، وبأن لا تأخذنا به رأفة فقال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} 2. مع أن الله وصف نفسه بالرحمة للمؤمنين بقوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} 3 ولا يكون صاحب الكبيرة مؤمنا مرحوما.
والجواب: أنا لا نحكم للفاسق بأنه عدو لله وأن الله لعنه إلا بشرط أن يكون في معلوم الله أنه يعذبه ولا يغفر له، لأن العداوة والبغض هو إرادة الله عذابه4 وهذا كما تعبدنا بلعن من ظهرت منه كلمة الكفر والحكم عليه بأنه عدو الله بشرط أن يكون في معلوم الله أنه يموت كافرا، وكما تعبدنا
__________
1 ذكر نحو هذا القاضي عبد الجبار في شرح الأصول الخمسة ص 961.
2 النور آية (2) .
3 الأحزاب آية (43) .
4 قوله هنا: "والبغض هو إرادة الله عذابه" هذا من تأويل المعتزلة والأشعرية الذين ينكرون أن الله يوصف بالصفات الفعلية كالغضب والرضا والحب والبغض ويفسرون ذلك بلوازم هذا الصفات من إرادة الثواب وإرادة العقاب، والمصنف - رحمه الله - نقل هذه العبارة على علتها من التمهيد للباقلاني. انظر: ص 410 ويأتي التعليق على هذا في نهاية جواب المصنف عن هذا الاعتراض.(3/683)
ببغض شهود الزنا والبراءة منهم إذا قصر عددهم أو اردت شهادتهم والحكم بفسقهم إن كانوا كذبة عند الله1، مع أنا نقول إن الفاسق من المؤمنين لا يكون معاديا لله بمعصيته مع إقراره بتوحيده وإيمانه بربه، لأن العداوة متضمنة للكفر به ويمكن أن يكون الله تعبدنا2بذم الفاسق ولعنه محبة له3، فيكون ردعا له عن فسقه لا لكونه مستحقا للتخليد في النار4.
__________
1 في النسختين الجملة هكذا (أوردت شهادتهم إن كانوا والحكم بفسقهم كذبة عند الله) والخلل فيها ظاهر لأنه أدخله جملة (والحكم بفسقهم - بين أن كانوا كذبة عند الله) والجملة الصحيحة ذكرها الباقلاني في التمهيد ص 411. والمقصود هنا هو أن البراءة من شهود الزنا وبغضهم مشروط بكونهم كذبة عند الله.
(تعبدنا) ليست في الأصل وهي في - ح -.
3 في الأصل (لهم) وما أثبت من - ح -.
4 المصنف - رحمه الله - عن قول المعتزلة بجواب صحيح والسؤال والجواب هنا منقول من التمهيد للباقلاني مع تغيير لبعض العبارات، وهذا جعل المصنف يقع في أقوال باطلة لا تتفق مع ما دل عليه الشرع في هذه المسائل فلهذا نبين هنا الحق في هذا.
فالجواب عن استدلال المعتزلة هو أن يقال: إن هذا الكلام هو عمدة من أوجب على مرتكب الكبيرة الخلود في النار، وذلك أنهم ظنوا أنه لا يصح أن يجتمع في الإنسان إيمان وكفر ولا طاعة ومعصية حيث زعموا أن الإيمان شيء واحد متى زال بعضه زال كله، وبناءا عليه أنكروا أن يجتمع في الإنسان طاعة ومعصية لأن أحدهما تقابل الأخرى، وهذا باطل لأن الإيمان مركب من أجزاء وزوال بعضها لا يلزم منه زوال الكل، ويضرب لذلك مثال الشجرة فإنه إذا زال منها بعض الأغصان لا يزول عنها الاسم بل يبقى الاسم وإنما يزول عنها اسم الكمال لأنها أنقص من غيرها، بل ذكر شيخ الإسلام أن سائر المركبات من هذا النوع لا يلزم من زوال بعض أجزئها زوال الاسم عنها. وقد دلت الأدلة الشرعية على أن الإنسان قد يجتمع فيه إيمان ونفاق وطاعة ومعصية، ومن ذلك حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا اخلف وإذا خاصم فجر". أخرجه خ. الإيمان وقوله صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " (ب علامة المنافق 1/12 م. الإيمان (ب. خصال المنافق 1/78 وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: " إنك امرؤ فيك جاهلية" أخرجه خ. الإيمان (المعاصي من أمر الجاهلية 1/12. أخرجه م. الإيمان (ب قول النبي صلى الله عليه وسلم سباب المسلم) 1/81 في حديث أبي هريرة: " ثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت ". أخرجه م. الإيمان (ب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة) 1/82. وغير ذلك من الأحاديث التي تدل على أن المعصية لا تنافي الإيمان، وإنما تنافي كماله، وتبعا لهذا فإن الإنسان قد يكون محبوبا من وجه ومبغضا من وجه فيحب لما عنده من الطاعة ويبغض لما عنده من المعصية. ومن الدليل الواضح على هذا ما رواه البخاري عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رجلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حمارا، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوما فأمر به فجلد فقال رجل من القوم: اللهم إلعنه ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" لا تلعنوه، فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله". هكذا ورد في رواية البخاري المطبوع وقد ورد كما ذكر الحافظ في روايات أخرى للصحيح "فول الله ما علمت إلا أنه يحب …" وله لفظ آخر ورد عند غير البخاري وهو " فإنه يحب الله ورسوله ". فتح الباري 12/78. خ. الحدود (ب ما يكره من لعن شارب الخمر) 8/133، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لعنه لاتصافه بصفات صالحة وهي حب الله ورسوله، فهو يحب لهذا الوجه ويبغض من وجه آخر لمعصيته.
وقد دلت الأدلة الشرعية على أن صاحب الكبيرة في الآخرة تحت المشيئة، فقد يكون مرحوما من أول وهلة ولا يعذب، وقد يعذب ويغضب عليه في أول الأمر ثم يخرج وصاحب الكبيرة لا يكون الأمر بالنسبة إليه على وتيرة واحدة كالمؤمن الصادق أو كالكافر، بل هو محتمل الأمرين لأنه خلط الصالح بالسيئ، فقد ترجح له حسناته فينجو وقد ترجح سيئاته فيعذب حتى يطهر من هذه السيئات ثم يخرج وهذا من عدل الله ورحمته. ولا يجوز إطلاق أن الفاسق عدو لله متبرأ منه لأن هذه الأمور بالنسبة لمن معه أصل الإيمان على حسب ما يرتكب من الأعمال السيئة، فعداوته لله نسبية وليست مطلقة كعدواة الكفار، وكذلك الأمر بالنسبة له في الآخرة فما دام أتى بأصل الإيمان فإنه ستصله الرحمة إما مباشرة وإما بعد أن يتطهر من ذنوبه بالعذاب الذي يحكم الله به عليه.
وهذا التعميم من المعتزلة بأن الفاسق عدو لله هو موطن الخلاف بيننا وبينهم، فالأدلة الشرعية على خلاف قولهم ف حكمه في الدنيا وحكمه في الآخرة، وسبب ضلالهم في هذا أنهم أخذوا بنصوص الوعيد وتركوا نصوص الوعد، فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، أما أهل السنة فإنهم أخذوا بالنصوص كلها واستظهروا الحق من مجموعها فهداهم الله إلى أن مرتكب الكبيرة في الدنيا ليس خارجاً من الإسلام وفي الآخرة أمره إلى الله عز وحل.
أما قول المصنف في جوابه "إنا لا نحكم للفاسق بأنه عدو لله وأن الله لعنه إلا بشرط أن يكون في معلوم الله أنه يعذبه ولا يغفر له …" الخ. هذا كلام غير صحيح، فإنه تضمن نفي صفات الباري جل وعلا بالغضب والرضا والحب والكره لجنس الأعمال الواقعة من العباد، وإنما الغضب اتصاف والرضا والحب والكره يتعلق بذوات الأشخاص فمن علم الله موته على الكفر فهو المبغض، ومن علم الله موته على الإيمان فهو المحبوب، وقد دلت الأدلة الشرعية على خلاف هذا وهو أن الله يرضى ويحب ويفرح عند وقوع الفعل من بني آدم، ويغضب ويكره عند وقوع الأفعال الموجبة لذلك من بني آدم. ومن الأدلة الواضحة في هذا قوله عزوجل: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} فحدد الرضا جل وعلا هنا بوقوع المبايعة من المؤمنين، وقوله عزوجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فجعل شرط محبته جل وعلا اتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله عزوجل: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} .
وكذلك ما روى البراء بن عازب - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله" أخرجه خ. منافق الأنصار 5/27، م. الإيمان 1/85. وحديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رضى الرب في رضا الوالد وسخط الرب في سخط الوالد" أخرجه ت. في البر والصلة 4/310. فهذا يدل على أن السخط والرضا تبع لسخط الوالد ورضاه. وكذلك حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع " أخرجه حم 2/70، د. في الأقضية 2/117، جه. في الحكام 2/778.
وكذلك الآيات القرآنية كقوله عزوجل: {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} فمن اتصف بهذه الصفات لا يحبه الله عز وجل ما دام متصفا بها، فإذا قلع عنها إلى ما يحب الله ويرضى من الأقوال والأفعال أحبه الله عز وجل.
فهذه كلها تدل على عدم ارتباط الحب والبغض بالخاتمة كما هو كلام المصنف - رحمه الله - هنا، ثم إن هذه الصفات وهي الحب والبغض والغضب والرضا من صفات الأفعال التي تتعلق بالمشيئة والاختيار، والمصنف - رحمه الله - هنا زعم أن هذه الصفات هي إرادة الثواب أو إرادة العقاب، وهذا تأويل الجهمية والأشعرية، كما أن الأشاعرة ومن تابعهم يزعمون أن الإرادة قديمة وهذا باطل، فقد دلت الأدلة على أن الإرادة ليست قديمة من ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، وقوله عزوجل: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} وقوله عزوجل {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} فهذه الأدلة صريحة في أن الإرادة هي التي تسبق وقوع الفعل، ولو كانت الإرادة كما زعموا قديمة لوجب وجود الأشياء في القدم وهذا باطل، بل الإرادة قديمة النوع حادثة الأفراد.
كما دلت الأدلة على أن صفة الحب والبغض والغضب والرضا ليست قديمة بل هي تتعلق بالمشيئة والاختيار. يدل على هذا حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون لبيك وسعديك والخير في يديك فيقول هل رضيتم فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا ". أخرجه خ. في الرقاق 8/97، م. صفة الجنة 4/2176، وكذلك ورد في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في حديث الشفاعة أن آدم عليه السلام وغيره من الأنبياء يقولون: " إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله " أخرجه خ. في الأنبياء 4/107، م. في الإيمان 1/184.
فهذا يدل على أن هذه الأمور تقع بمشيئة الله في الوقت الذي يشاء ربنا جل وعلا، وتدل على أن كلام المصنف - رحمه الله - في هذا كلام باطل لا دليل عليه، وهو في هذا أتى من أخذه لكلام الباقلاني على علاته بدون تمحيص، مع أنه - رحمه الله - أثبت لله عز وجل الصفات الفعلية كالكلام والنزول والاستواء مما لا يثبته الأشعرية، والله أعلم.
وقول المصنف: "مع أنا نقول إن الفاسق من المؤمنين لا يكون معاديا لله لمعصيته مع إقراره بتوحيده وإيمانه بربه لأن العداوة متضمنة للكفر له".
هذا القول ليس على إطلاقه، لأن مرتكبي الكبائر فيهم عداوة لله بحسب جرمهم، ولكنها لا تكون كعداوة الكافر، وقد نص الله عز وجل على هذا في قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فالمحاربون أعداء لله، مع أنهم لا يكفرون لهذا، وعدواتهم لله ليست كعداوة الكفار بل عداوتهم بحسب جريمتهم.
وقول المصنف: " ويمكن أن يكون الله تعبدنا بذم الفاسق ولعنه محبة له …. " الخ. الصحيح أننا لم نتعبد بلعن الفاسق المعين قال النووي - رحمه الله -: " اتفق العلماء على تحريم اللعن لأنه يعني الإبعاد والطرد من رحمة الله، فلا يجوز أن يبعد من رحمة الله من لا يعرف حاله وخاتمة أمره معرفة قطعية، فلهذا قالوا: لا يجوز لعن أحد بعينه مسلما كان أو كافرا أو دابة إلا من علمنا بنص شرعي أنه مات على الكفر أو يموت عليه كأبي جهل وإبليس، وأما اللعن بالوصف فليس بحرام كلعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة وآكل الربا وموكله إلى غير ذلك مما جاءت به النصوص الشرعية بإطلاقه على الأوصاف لا على الأعيان ". شرح مسلم 2/67.(3/684)
.............................................................................................
__________
وغير ذلك من الأحاديث التي تدل على أن المعصية لا تنافي الإيمان، وإنما تنافي كماله، وتبعا لهذا فإن الإنسان قد يكون محبوبا من وجه ومبغضا من وجه فيحب لما عنده من الطاعة ويبغض لما عنده من المعصية. ومن الدليل الواضح على هذا ما رواه البخاري عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رجلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حمارا، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوما فأمر به فجلد فقال رجل من القوم: اللهم إلعنه ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" لا تلعنوه، فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله". هكذا ورد في رواية البخاري المطبوع وقد ورد كما ذكر الحافظ في روايات أخرى للصحيح "فول الله ما علمت إلا أنه يحب …" وله لفظ آخر ورد عند غير البخاري وهو " فإنه يحب الله ورسوله ". فتح الباري 12/78. خ. الحدود (ب ما يكره من لعن شارب الخمر) 8/133، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لعنه لاتصافه بصفات صالحة وهي حب الله ورسوله، فهو يحب لهذا الوجه ويبغض من وجه آخر لمعصيته.
وقد دلت الأدلة الشرعية على أن صاحب الكبيرة في الآخرة تحت المشيئة، فقد يكون مرحوما من أول وهلة ولا يعذب، وقد يعذب ويغضب عليه في أول الأمر ثم يخرج وصاحب الكبيرة لا يكون الأمر بالنسبة إليه على وتيرة واحدة كالمؤمن الصادق أو كالكافر، بل هو محتمل الأمرين لأنه خلط الصالح بالسيئ، فقد ترجح له حسناته فينجو وقد ترجح سيئاته فيعذب حتى يطهر من هذه السيئات ثم يخرج وهذا من عدل الله ورحمته. ولا يجوز إطلاق أن الفاسق عدو لله متبرأ منه لأن هذه الأمور بالنسبة لمن معه أصل الإيمان على حسب ما يرتكب من الأعمال السيئة، فعداوته لله نسبية وليست مطلقة كعدواة الكفار، وكذلك الأمر بالنسبة له في الآخرة فما دام أتى بأصل الإيمان فإنه ستصله الرحمة إما مباشرة وإما بعد أن يتطهر من ذنوبه بالعذاب الذي يحكم الله به عليه.
وهذا التعميم من المعتزلة بأن الفاسق عدو لله هو موطن الخلاف بيننا وبينهم، فالأدلة الشرعية على خلاف قولهم ف حكمه في الدنيا وحكمه في الآخرة، وسبب ضلالهم في هذا أنهم أخذوا بنصوص الوعيد وتركوا نصوص الوعد، فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، أما أهل السنة فإنهم أخذوا بالنصوص كلها واستظهروا الحق من مجموعها فهداهم الله إلى أن مرتكب الكبيرة في الدنيا ليس خارجاً من الإسلام وفي الآخرة أمره إلى الله عز وحل.
أما قول المصنف في جوابه "إنا لا نحكم للفاسق بأنه عدو لله وأن الله لعنه إلا بشرط أن يكون في معلوم الله أنه يعذبه ولا يغفر له …" الخ. هذا كلام غير صحيح، فإنه تضمن نفي صفات الباري جل وعلا بالغضب والرضا والحب والكره لجنس الأعمال الواقعة من العباد، وإنما الغضب اتصاف والرضا والحب والكره يتعلق بذوات الأشخاص فمن علم الله موته على الكفر فهو المبغض، ومن علم الله موته على الإيمان فهو المحبوب، وقد دلت الأدلة الشرعية على خلاف هذا وهو أن الله يرضى ويحب ويفرح عند وقوع الفعل من بني آدم، ويغضب ويكره عند وقوع الأفعال الموجبة لذلك من بني آدم. ومن الأدلة الواضحة في هذا قوله عزوجل: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ(3/685)
.............................................................................................
__________
الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} فحدد الرضا جل وعلا هنا بوقوع المبايعة من المؤمنين، وقوله عزوجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} فجعل شرط محبته جل وعلا اتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله عزوجل: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} .
وكذلك ما روى البراء بن عازب - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله" أخرجه خ. منافق الأنصار 5/27، م. الإيمان 1/85. وحديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رضى الرب في رضا الوالد وسخط الرب في سخط الوالد" أخرجه ت. في البر والصلة 4/310. فهذا يدل على أن السخط والرضا تبع لسخط الوالد ورضاه. وكذلك حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع " أخرجه حم 2/70، د. في الأقضية 2/117، جه. في الحكام 2/778.
وكذلك الآيات القرآنية كقوله عزوجل: {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} فمن اتصف بهذه الصفات لا يحبه الله عز وجل ما دام متصفا بها، فإذا قلع عنها إلى ما يحب الله ويرضى من الأقوال والأفعال أحبه الله عز وجل.
فهذه كلها تدل على عدم ارتباط الحب والبغض بالخاتمة كما هو كلام المصنف - رحمه الله - هنا، ثم إن هذه الصفات وهي الحب والبغض والغضب والرضا من صفات الأفعال التي تتعلق بالمشيئة والاختيار، والمصنف - رحمه الله - هنا زعم أن هذه الصفات هي إرادة الثواب أو إرادة العقاب، وهذا تأويل الجهمية والأشعرية، كما أن الأشاعرة ومن تابعهم يزعمون أن الإرادة قديمة وهذا باطل، فقد دلت الأدلة على أن الإرادة ليست قديمة من ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، وقوله عزوجل: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} وقوله عزوجل {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} فهذه الأدلة صريحة في أن الإرادة هي التي تسبق وقوع الفعل، ولو كانت الإرادة كما زعموا قديمة لوجب وجود الأشياء في القدم وهذا باطل، بل الإرادة قديمة النوع حادثة الأفراد.
كما دلت الأدلة على أن صفة الحب والبغض والغضب والرضا ليست قديمة بل هي تتعلق بالمشيئة والاختيار. يدل على هذا حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة فيقولون لبيك وسعديك والخير في يديك فيقول هل رضيتم فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا ". أخرجه خ. في الرقاق 8/97، م. صفة الجنة 4/2176، وكذلك ورد في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في حديث الشفاعة أن آدم عليه السلام وغيره من الأنبياء يقولون: " إن ربي قد(3/686)
..............................................................................................
__________
غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله " أخرجه خ. في الأنبياء 4/107، م. في الإيمان 1/184.
فهذا يدل على أن هذه الأمور تقع بمشيئة الله في الوقت الذي يشاء ربنا جل وعلا، وتدل على أن كلام المصنف - رحمه الله - في هذا كلام باطل لا دليل عليه، وهو في هذا أتى من أخذه لكلام الباقلاني على علاته بدون تمحيص، مع أنه - رحمه الله - أثبت لله عز وجل الصفات الفعلية كالكلام والنزول والاستواء مما لا يثبته الأشعرية، والله أعلم.
وقول المصنف: "مع أنا نقول إن الفاسق من المؤمنين لا يكون معاديا لله لمعصيته مع إقراره بتوحيده وإيمانه بربه لأن العداوة متضمنة للكفر له".
هذا القول ليس على إطلاقه، لأن مرتكبي الكبائر فيهم عداوة لله بحسب جرمهم، ولكنها لا تكون كعداوة الكافر، وقد نص الله عز وجل على هذا في قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فالمحاربون أعداء لله، مع أنهم لا يكفرون لهذا، وعدواتهم لله ليست كعداوة الكفار بل عداوتهم بحسب جريمتهم.
وقول المصنف: " ويمكن أن يكون الله تعبدنا بذم الفاسق ولعنه محبة له …. " الخ. الصحيح أننا لم نتعبد بلعن الفاسق المعين قال النووي - رحمه الله -: " اتفق العلماء على تحريم اللعن لأنه يعني الإبعاد والطرد من رحمة الله، فلا يجوز أن يبعد من رحمة الله من لا يعرف حاله وخاتمة أمره معرفة قطعية، فلهذا قالوا: لا يجوز لعن أحد بعينه مسلما كان أو كافرا أو دابة إلا من علمنا بنص شرعي أنه مات على الكفر أو يموت عليه كأبي جهل وإبليس، وأما اللعن بالوصف فليس بحرام كلعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة وآكل الربا وموكله إلى غير ذلك مما جاءت به النصوص الشرعية بإطلاقه على الأوصاف لا على الأعيان ". شرح مسلم 2/67.(3/687)
108 - فصل
قد ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة في أهل الكبائر من أمته يخرجون بشفاعته من النار، وله شفاعة في جميع الخلق في فصل الحساب، وكذلك الشفاعة للملائكة والأنبياء ولسائر العلماء.
ولكن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم أعم وأكبر.
وأنكرت المعتزلة والقدرية وأهل الزيغ الشفاعة1، وهذا لاعتمادهم على
__________
1 المعتزلة والزيدية والخوارج ينكرون الشفاعة في أهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لما زعموا وتوهموه من أن الفاسق الملي لا يستحق العفو بل يجب عقابه، وزعموا أن ترك عقابه قبيح، وأن هذا العقاب يجب أن يكون الخلود في النار فيناء عليه زعموا أن الشفاعة فيه لا تجوز بل عدوها من القبيح.
وتَعجبُ من المعتزلة ومن تابعهم كيف تحكموا في فضل الله عز وجل فحدوده بحسب ما عقلوه هم من حال الإنسان وقاسوا فضل الله ورحمته بفضل الإنسان ورحمته، فأوجبوا على الله عقوبة الفاسق وحجروا فضله بتقبيحهم العفو عن الفاسق، ثم زعموا أن هذا العقاب يحب أن يكون دائما وأبدا قياسا فاسدا وقولا بالباطل، وحرموا بناء عليه أن يشفع في أهل الكبائر شافع، فحجروا واسع رحمة الله، وردوا ما ثبت من الأحاديث الصحيحة في الشفاعة تحكما وتخرصا، وإلا ماذا عليهم لو قالوا إن الفاسق ظالم وعاص ومستحق للعقوبة، والجنة والنار ملك الله وتحت تصرفه فيدخله أيهما شاء إما تفضلا أو عدلا، وإذا أدخله النار بعدله ونال جزاءه أخرجه وأدخله الجنة تفضلا منه ورحمة وهم الحكم العدل ولا معقب لحكمه الفعال لما يريد.
انظر: قول المعتزلة والزيدية في الشفاعة وتحجيرهم لواسع رحمة الله بإنكار الشفاعة في أهل الكبائر وإيجاب خلودهم في النار: شرح الأصول الخمسة ص 687 - 689، تاريخ الفرقة الزيدية ص 327، مصباح العلوم بمعرفة الحي القيوم ص 20.(3/688)
عقولهم الفاسدة وأخذهم بالمتشابه من القرآن وتركهم الأخبار المروية الثابتة في الصحاح.
ودليلنا قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ} 1.
وذلك أن المشركين قالوا لآلتهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فأنزل الله {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ} 2 ومثلها قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} 3 ومثلها قوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى} 4.
وذكر أهل التفسير أن الكفار إذا دخلوا النار نظروا إلى قوم من الموحدين من أهل الكبائر معهم في النار فيعيرونهم بذلك ويقولون: ما أغنى عنكم إسلامكم في الدنيا فيشتد غم الموحدين لذلك وحزنهم، فيطلع الله على ما
__________
1 البقرة آية (255) .
2 انظر: تفسير ابن جرير الطبري 3/8.
3 طه آية (109) .
4 الأنبياء آية 28وهذه الآيات الثلاث يستدل بها العلماء على أن للشفاعة شرطين:
أولهما: إذن الله للشافع أن يشفع.
ثانيهما: رضاه عن المشفوع له. انظر: فتح المجيد ص 211.(3/689)
نالهم من ذلك، فيأذن في الشفاعة للملائكة والأنبياء والشهداء والعلماء، فيخرجون بشفاعتهم، فإذا نظر الكفار إليهم قد خرجوا قالوا: فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل ويودون لو كانوا مسلمين، قال الله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} 1، فيكبكبون هم وآلتهم فيها قال الله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ، وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ، قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ} إلى قوله: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ، وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} 2. وقال الله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} 3 وهذه الآيات كلها تدل على ثبوت الشفاعة.
وروى يزيد الفقير4 قال: "كنا بمكة من قطانها وكان معي أخ لي يقال له طلق بن حبيب5، وكان يرى رأي الحرورية في إبطال القول بالشفاعة، فبلغنا أن جابر بن عبد الله قدم مكة فأتيناه، فقلنا له: بلغنا عنك قول في الشفاعة، وقول الله تعالى يخالفك، فنظر في وجوهنا وقال: من أهل العراق أنتم؟ فقلنا: نعم، فتبسم وقال: أين تجدون ذلك في كتاب الله؟
__________
1 الحجر آية (2) ، وقد ذكر ابن جرير - رحمه الله - في معنى الآية أن هذا القول يقوله المشركون إذا أخرج عصاة الموحدين من النار، فذكر نحو ما ذكر هنا ونقل هذا عن أبي موسى وأنس بن مالك وابن عباس - رضي الله عنهم - وعن غيرهم من التابعين. تفسير ابن جرير 14/2 - 4، وانظر: الشريعة للآجري ص 335 - 337.
2 الشعراء آية (94 - 101) .
3 المدثر آية (48) .
4 هو: يزيد بن صهيب الكوفي أبو عثمان، المعروف بالفقير لأنه كان يشكو فقار ظهره، ثقة. التقريب ص 383.
5 طلق بن حبيب العنزي البصري، صدوق عابد رمي بالإرجاء، هكذا ذكر ابن حجر وذكره عن أبي حاتم وحماد وأبي زرعة وابن سعد وغيرهم، وهذا غريب فإنه ذكر هنا بأنه على رأي الخوارج، وروايات أخرى ذكرها اللالكائي أيضا فقد يكون برأي الخوارج أولا، ثم أخذ برأي المرجئة وكلا القولين على طرفي نقيض ذكر ابن حجر أن وفاته بعد التسعين. انظر: التهذيب 5/31.(3/690)
قال، قلنا: قال الله تعالى في كتابه: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} 1، وقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا} 2 وقوله تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} 3 وأشباه هذا من القرآن، فقال جابر: أنتم أعلم بكتاب الله أم أنا؟ قلنا: بل أنت أعلم به منا، قال: فوالله لقد شهدت تنزيل هذا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد شهدت تأويله من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الشفاعة في كتاب الله لمن عقل، قال: قلنا وأين؟ قال: في سورة المدثر، فقرأ علينا: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ، وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ، حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ، فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} 4، ثم قال: لا ترونها5 حلت لمن لم يشرك بالله شيئا"6.
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وأخرت دعوتي شفاعة لأمتي، فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا". 7
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله: "من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد ظننت يا أبا هريرة ألا يسألني عن هذا أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث، إن
__________
1 آل عمران آية (192) .
2 المائدة آية (37) .
3 السجدة آية (20) .
4 المدثر آية (43 - 48) .
5 في - ح - (أما ترونها) .
6 أخرجه الآجري بإسناده مثله هنا في الشريعة ص 33، وأخرج مسلم نحوه في الإيمان (ب أدنى أهل الجنة منزلا) 1/179، وأخرج اللالكائي في شرح إعتقاد أهل السنة 6/1094، نحوه عن يزيد الفقير وعن طلق بن حبيب مفرقا مختصرا.
أخرجه الآجري بإسناده مثله هنا في الشريعة ص 33، وأخرج مسلم نحوه في الإيمان (ب أدنى أهل الجنة منزلا) 1/179، وأخرج اللالكائي في شرح إعتقاد أهل السنة 6/1094 نحوه عن يزيد الفقير وعن طلق بن حبيب مفرقا مختصرا.
7 أخرجه م. كتاب الإيمان (ب اختباء النبي صلى الله عليه وسلم دعوته الشفاعة لأمته) 1/188، جه؟ كتاب الزهد باب ذكر الشفاعة 2/1440. حم 2/426، والآجري في الشريعة ص 340.(3/691)
أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله الله مخلصا من قبله "1.
وروى أنس بن مالك وجابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي"2.
وروي أن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - سمع رجلا يقول: "اللهم اجعلني ممن تصيبه شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: إن الله يغني المؤمنين عن شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ولكن الشفاعة للمذنبين من المؤمنين والمسلمين"3.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خيرني ربي بين أن يدخل نصف أمتي الجنة أو الشفاعة فاخترت الشفاعة"4.
__________
1 أخرجه خ. كتاب العلم (ب الحرص على الحديث) 1/29، حم 2/373، وابن أبي عاصم في السنة 2/394، والآجري في الشريعة ص 340.
2 حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - أخرجه عنه، ت. في صفة الجنة (ب من الشفاعة) 4/625 وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وأخرجه د. في السنة (ب الشفاعة) 2/9279، حم 3/213، والحاكم في المستدرك كتاب الإيمان 1/399 وقال الألباني في التعليق: حديث صحيح، أما حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - فقد أخرجه ت. كتاب صفة القيامة (ب من الشفاعة) 4/625 وقال: حسن غريب من هذا الوجه يستغرب من حديث جعفر بن محمد، وأخرجه جه. كتاب الزهد (ب الشفاعة) 2/1441، والحاكم في المستدرك في الإيمان 1/69 وقال: "صحيح على شرط مسلم" وسكت عنه الذهبي، وأخرجه الآجري في الشريعة ص 338.
3 أخرجه عنه الآجري في الشريعة ص 399 مثله، وأخرج اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 6/1110 وفيه سقط، ورجال إسناده ثقات ما عدا الفضيل بن سليمان النميري. قال في التقريب ص 276:
صدوق له خطأ كثير"، ومراده هنا بقوله: "يغني المؤمنين" أي الذين سلموا من كبائر الذنوب.
4 هذا الحديث رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة من الصحابة، فقد روى من حديث عوف بن مالك، أخرجه عنه ت. صفة القيامة 4/626 وفيه زيادة "وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئا"، قال الترمذي: "وفي الحديث قصة طويلة"، وأخرجه، حم 6/28 من حديث طويل، والحاكم في المستدرك كتاب الإيمان 1/66 وقال: "صحيح على شرط مسلم"، والآجري في الشريعة ص 342، واللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 6/1105 كما روي عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أخرجه عنه. حم 4/404، جه. كتاب الزهد (ب ذكر الشفاعة) 2/1441، وفيه زيادة وهي "لأنه أعم وأكفى أترونها للمتقين لا ولكنها للمذنبين الخطائين المتلوثين". قال البوصيري: "هذا إسناد صحيح". مصباح الزجاجه 3/320.(3/692)
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال في قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} 1 قال: "هو مقام الشفاعة الذي أشفع فيه لأمتي"2.
وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجتمع المؤمنون يوم القيامة ويقولون لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقولون من أحق بذلك من أبيكم آدم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته، فيأتون آدم صلى الله عليه وسلم فيقولون: أنت أبونا خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء3، وأسكنك جنته، اشفع لنا إلى ربك يريحنا من مكاننا، واشفع لذريتك حتى لا تحرق اليوم بالنار، فيقول: ليس ذلك إلي - وروي لست هناكم - ويذكر لهم خطيئته، ولكن ائتوا نوحاً
__________
1 الإسراء آية (79) .
2 أخرجه ت. كتاب التفسير (ب سورة الإسراء) 5/303 حم. 2/528، 444، 441وابن جرير في تفسيره 5/146، 145، وابن أبي عاصم في السنة 2/364، واللالكائي في شرح اعقتاد أهل السنة 6/1114 وإسناده ضعيف فإن مداره على داود بن يزيد الأودي وهو ضعيف كما في التقريب ص 97، وله شاهد من حديث كعب بن مالك مرفوعاً: "إذا كان يوم القيامة كنت أنا وأمتي على تل فيكسوني حلة خضراء، ثم يأذن لي تبارك وتعالى أن أقول ما شاء الله أن أقول وذلك المقام المحمود". أخرجه: حم 3/456، والحاكم 4/570 وقال: "صحيح الإسناد على شرط الشيخين"، وأخرجه ابن أبي عاصم في السنة 2/364 وقال الألباني: "إسناده جيد ورجاله كلهم ثقات"، واللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 6/1112.
3 في النسختين (أسماءه) وهو خطأ والصواب ما أثبت وكما هو عند اللالكائي.(3/693)
فإنه أول نبي بعث الله إلى الأرض، فيأتون نوحاً فيسألونه فيقول لهم: لست هناكم ويذكر لهم خطيئته ولكن ائتوا عبداً اتخذه الله خليلاً، فيأتون إبراهيم صلى الله عليه وسلم فيقولون: يا إبراهيم أنت عبده اتخذه اله خليلا فاشفع لذرية آدم لا تحرق بالنار، فيقول: لست هناكم ويذكر خطيئته ولكن ائتوا عبداً اصطفاه الله بكلامه، وألقى عليه محبة منه وكلمه تكليماً، ائتوا موسى، فيأتون موسى صلى الله عليه وسلم فيقول: ليس ذلك إلي - وروي - لست هناكم - ويذكر لهم خطيئته، ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وكلمته وروحه، فيأتون عيسى صلى الله عليه وسلم فيقول: لست هناكم وروي - ليس ذلك إلي - ولكن ائتوا محمداً عبداً غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال فيأتوني فيقولون: يا أحمد خلقك الله رحمة للعالمين، اشفع لنا إلى ربك فيقول: نعم أنا صاحبها، فأنطلق فأستأذن على ربي فيؤذن لي، فإذا رأيت ربي خررت له ساجداً، ثم يفتح لي من التحميد والثناء على الرب ما لا يفتح لأحد من الخلق، ثم يقول: سل تعط واشفع تشفع فقال: يا رب ذرية آدم لا تحرق بالنار وروي أنه قال أمتي أمتي، فيقول الله: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من الإيمان أخرجوه ثم أسجد ثانياً فيفتح علي من التحميد ما لا يفتح على أحد، فيقال لي كما قيل لي في الأولة، وأقول كما قلت، فيقول الله تعالى: أخرجوا من في قلبه قيراط من الإيمان فيخرجون ما شاء الله، ثم أقع الثالثة، فأقول مثل ما قلت في الأولة والثانية، فيقال لي ما قيل لي فيهما، ثم يقول الله: اذهبوا فأخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، فيخرج منها ما لا يعلم عدده إلى الله، ثم يؤذن لآدم في الشفاعة فيشفع لعشرة آلاف ألف، ثم يؤذن للملائكة والنبيين فيشفعون حتى إن المؤمن ليشفع لأكثر من ربيعة ومضر، ولا يبقى في النار إلا من لا خير فيه"1.
__________
1 أصل الحديث متفق عليه فقد أخرجه خ. كتاب التوحيد (ب قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} 9/98، م. كتاب الأيمان (ب أدنى أهل الجنة منزلة) 1/180، والرواية هنا مأخوذة من رواية سعيد بن أبي هلال عن أنس عند الآجري في الشريعة ص 3470، ورواية قتادة عن أنس عند اللالكائي في شرح اعقتاد أهل السنة 6/1099.(3/694)
وروي عن المقدام1 أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "للشهيد عند الله تسع خصال، يغفر له بأول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى بحلية الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج باثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه"2.
وعن عثمان - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يشفع يوم القيامة ثلاثة، الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء"3.
وروى علي - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ القرآن واستظهره وحفظه أدخله الله الجنة وشفعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت لهم النار"4.
__________
1 في النسختين (المقداد) وهو خطأ والصواب ما أثبت كما هو عند الترمذي والآجري وغيرهم.
2 أخرجه بهذا اللفظ الآجري في الشريعة ص 349 - 350 ورجال إسناده ثقات، وقد أخرجه من طريقين، الطريق الأول عن خالد بن معدان عن المقدام وخالد ثقة عابد، إلا أن روايته عن المقدام مرسلة، ذكر ابن حجر. انظر: التهذيب 3/118، أما الطريق الأخرى فهي عن خالد بن معدان عن كثير بن مرة عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - وهذا إسناد جيد موسول، وأخرجه ت. كتاب فضائل الجهاد (ب ثواب الشهيد) 4/181 عن خالد عن المقدام به، إلا أنه قال: "للشهيد ست خصال"، وقال الترمذي: "حديث صحيح غريب"، ومثله أخرجه جه. كتاب الجهاد (ب فضائل الشهادة) 2/935.
3 أخرجه جه. كتاب الزهد (ب ذكر الشفاعة) 2/1443، والآجري في الشريعة ص350 وسنده ضعيف فإن فيه عنسبة بن عبد الرحمن بن عنسبة الأموي، قال في التقريب ص 266: "متروك رماه أبو حاتم بالوضع".
4 أخرجه ت. كتاب فضائل القرآن (ب ما جاء في فضل قارئ القرآن) 5/171، قال الترمذي: "هذا جديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وليس له إسناد صحيح"، وأخرجه جه. في المقدمة (ب فضل من تعلم القرآن وعلمه) 1/78، واخرجه حم. 2/312 - 319 بتحقيق الشيخ أحمد شاكر وقال في تعليقه: "إسناده ضعيف جدا وعلته ضعيف أبي عمر حفص القارئ"، وأخرجه الآجري في الشريعة ص 350.(3/695)
ومن الدليل على ما ذكرناه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على المذنب وعلى غير المذنب من أمته، وكذلك أصحابه وإلى يومنا هذا، فلو كان الميت المذنب لا يشفع فيه ولا ينفعه الدعاء لما كان للصلاة عليه معنى.
فإن قيل: فقد رويتم أن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع من الصلاة على من عليه درهمان ديناً1، فلو قبلت شفاعته في الكبائر لكان في الدرهمين أولى.
والجواب: أن هذا كان في أول الإسلام، ثم بعد ذلك لم يمتنع من الصلاة على أحد، فما داوم عليه من الفعل أولى.
ويحتمل أن يكون امتناعه من الصلاة عليه ليعلمهم أن حقوق بني آدم لا بد من قضائها، وأن السيئات التي بين العبد وبين الله إذا غفرها الله فإنه يبدل السيئات حسنات، ومن مات وعليه دين فإنه يؤخذ من حسناته وتجعل لمن له الدين، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يصلوا على ذلك الميت.
وقال: "صلوا على صاحبكم" 2، فلو لم تنفعه صلاتهم عليه لكان أمره لهم بالصلاة عبثا.3
__________
1 روى الحاكم وغيره عن جابر - رضي الله عنه - قال: "مات رجل فغسلناه وكفناه وحنطناه ووضعناه لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث توضع الجنائز عند مقام جبريل، ثم آذنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه فجاء معنا خُطَىَ ثم قال: لعل علي صاحبكم ديناً، قالوا: نعم ديناران، فتخلف، فقال له رجل منا يقال له أبو قتادة: يا رسول الله هما عليّ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هما عليك وفي مالك والميت منهما بريء فقال: نعم فصلى عليه. . . " الحديث. المستدرك 2/58. وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، وأخرجه حم. 3/330 قال الألباني في أحكام الجنائز ص 16: "إسناده حسن".
2 ورد هذا في رواية سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال: "إن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بجنازة ليصلى عليها فقال: هل عليه من دين فقالوا: لا فصلى عليه ثم أتي بجنازة أخرى فقال: هل عليه دين قالوا: نعم، قال: صلوا على صاحبكم. قال أبو قتادة: عليّ دينه يا رسول الله، فصلى عليه". أخرجه خ. في الكفالة (ب من تكفل عن ميت ديناً" 3/84.
3 قال ابن القيم - رحمه الله -: "وكان إذا قدم عليه ميت يصلي عليه سأل هل عليه دين أم لا؟، فإن لم يكن عليه دين صلى الله عليه وسلم عليه، وإن كان عليه دين لم يصل عليه، وأذَن لأصحابه أن يصلوا عليه، فإن صلاته شفاعة وشفاعته صلى الله عليه وسلم موجبة، والعبد مرتهن بدينه ولا يدخل الجنة حتى يقضى عنه، فلما فتح الله عليه كان يصلي على المدين ويتحمل دينه، ويدع ماله لورثته". انظر: زاد المعاد 1/504.(3/696)
ومن الدليل على ما ذكرناه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قل: "يخرج الله قوماً من النار بعد ما محشتهم النار بشفاعة الشافعين فيدخلهم الجنة فيسمون الجهنميين"1، وفي رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم "يخرجون منها ضبائر ضبائر2فيلقون على نهر الحياة فينبتون كما تنبت الطراثيث3 والحبة في حميل السيل فيدخلون الجنة مكتوباً على جباههم4 الجهنميون - وروي مكتوباً عليهم - عتقاء الله من النار"5.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "آخر من يخرج من النار رجل يقول فيها يا حنان يا منان" 6.
__________
1 أخرجه حم. 5/402، وابن خزيمة في التوحيد ص 275، والآجري في الشريعة ص 346، وابن أبي عاصم في السنة 2/402 كلهم من حديث حذيفة - رضي الله عنه -، قال الألباني في التعليق على كتاب السنة لابن أبي عاصم: "إسناده حسن رجاله ثقات رجال مسلم على كلام في حماد بن أبي سليمان، ولكنه توبع من أبي عوانة عن أبي مالك الأشجعي عن ربعي عن حذيفة به، كما في مسند الطيالسي".
2 قال ابن الأثير: "ضبائر ضبائر: هم الجماعات في تفرقة واحدتها صبارة مثل عمارة وعمائر، وكل مجتمع ضبارة". النهاية 3/71.
3 الطراثيث جميع طرثوث وهو نبت رملي طويل مستدق كالفطر. انظر: اللسان 4/2650.
4 في - ح - (وجوههم) .
5 أخرجه م. كتاب الإيمان (ب إثبات الشفاعة. . .) 1/172، جه كتاب الزهد (ب الشفاعة) 2/1441، حم 3/78 من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - نحوه، وليس في شيء من روايات الحديث قوله: "مكتوباً على جباههم الجهنميون، أو عتقاء الله من النار"، وإنما ورد ذلك في حديث الرؤسة الطويل عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، وجاء فيه قوله: "فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم يعرفهم أهل الجنة هؤلاء عقتاء الله. . . " خ. كتاب التوحيد (ب وجوه يومئذ ناضرة) 9/105. وروى من حديث جابر عند الإمام أحمد في الشفاعة (فيكتب في رقابهم عتقاء الله عز وجل) ، حم 3/325، ونحوه عند اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 6/1094.
6 هذا معنى ما روى الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنه لم يذكر أنه آخر أهل النار خروجاً. انظر: حم 3/230، واخرجه ابن خزيمة في التوحيد ص 316. وإسناده ضعيف فإن فيه أبو ظلال هلال بن أبي هلال القسملي الراوي عن أنس - رضي الله عنه -، قال عنه ابن حجر: "ضعيف". انظر: التقريب ص 366.(3/697)
والأخبار في الشفاعة كثيرة وإن اختلفت ألفاظها، إلا أنها متفقة المعنى وأطبق سلف هذه الأمة على تصحيح هذه الروايات، لم ينكرها أحد من الصحابة والتابعين، ولو كانت غير صحيحة لكان الصحابة والتابعون1 أشد إنكاراً لها من المعتزلة، ولو كان ذلك لنقل عنهم كما نقل عنهم الاختلاف في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه2 بعيني رأسه، وكما نقل عنهم الخلاف في المسائل الفقهية.
وقد احتجت المعتزلة بخبر يروونه عن الحسن البصري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تنال الشفاعة أهل الكبائر من أمتي".
قلنا: هذا خبر لم يذكره أحد من أئمة الحديث، ولا ذكر في شيء من الأصول المشهورة في الأمصار كمسلم، والبخاري، وسنن أبي داود والترمذي والآجري، وإنما ذكرته المعتزلة ليرو أتباعهم أن معهم رواية يعارضون بها الأخبار المشهورة عند أهل السنة3، مع أنا نحمل هذه الرواية على المرتدين من أمتي لأنهم كانوا من أمته فاستصحب الاسم فيهم4.
فإن قالوا: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من تحسى سماً فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً". وروي مثله فيمن قتل نفسه بحديدة أو تردى من جبل5.
__________
1 في الأصل، (والتابعين) وما أثبت من - ح - وهو الصواب.
2 في الأصل هكذا (الاختلاف في رواية النبي صلى الله عليه وسلم بعيني رأسه) وما أثبت من - ح -.
3 قال أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب ص 122 عن هذا الحديث: إنه من أكاذيب المعتزلة.
4 لا يحتاج هذا التأويل مع سقوط الحديث.
5 هذا ورد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أخرجه خ. كتاب الطب (ب من شرب السم والدواء به) 7/121، م. كتاب الأيمان (ب تحريم قتل الإنسان نفسه. . .) 1/104.(3/698)
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يدخل الجنة مدمن خمر ولا عاق الوالدين"1.
قلنا: هذه الأخبار محمولة على من فعل هذه المعاصي وهو مستحل لها، لأنه يكون كافراً بدليل الأخبار الثابتة في الشفاعة2.
__________
1 ورد هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم بروايات عدة منها حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً: "لا يدخل الجنة منان ولا عاق ولديه ولا مدمن خمر".
أخرجه حم. 2/203، 201، دي، كتاب الأشربة (ب في مدمن الخمر) 2/112، كما روي عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - نحوه. أخرجه عنه، حم. 2/28، ن. كتاب الزكاة (ب المنان بما أعطى) 5/80. والحاكم في المستدرك كتاب الأشربة 4/147 وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
2 الذي اتفق عليه السلف أن العاصي من أهل الملة لا يخلد في النار خلود الكافرين لما تقدم من الآيات والأحاديث الدالة على خروجهم من النار وهي آيات محكمة وأحاديث صحيحة، وجاءت أحاديث أخرى تبين الخلود في النار وتحريم الجنة على بعض مرتكبي الكبائر. والذي عند العلماء في هذا الحمع بين جميع الأدلة وعدم رد شيء منها كما يفعل المعتزلة والخوارج الذين يردون أحاديث الشفاعة والخروج من النار، أو المرجئة الذين يردون أحاديث الوعيد. وقد اختلف العلماء في بيان المعنى المراد من مثل هذه الأحاديث إلى أقوال:
القول الأول: ما حكاه المصنف هنا وهو أنها تحمل على المستحل لها وهو كفر مخرج من الملة فيكون مستحقاً للخلود في النار.
القول الثاني: إنها محمولة على أنها وردت مورد التغليظ وحقيقتها غير مرادة وقد استنكر كثير من العلماء هذا القول لأنه جععل الخبر الوارد عن الله ورسوله في هذه المعاصي وعيداً لا حقيقة له، وهذا يؤدي إلى إبطال العقاب لأنه إن أمكن في واحد أمكن في العقوبات كلها.
القول الثالث: إن المراد بالخلود طول المدة لا حقيقة الدوام كانه يقول يخلد مدة معينة، وقد استعبده ابن حجر.
القول الرابع: إن المراد أن هذا جزاؤه لكن قد تكرم الله على الموحدين فأخرجهم من النار بتوحيدهم.
القول الخامس: إن الحديث فيه تقدير وهو أنه مخلد فيها إلا أن يشاء الله عز وجل.
أما ما ورد فيه بلفظ لا يدخل النار فللعلماء فيه أقوال:
القول الأول: إنه يحمل على المستحل لذلك.
القول الثاني: إنه لا يدخلها دخول الفائزين.
القول الثالث: إنه لا يدخل بعض الجنان التي لأهل الصلاح والتقى.
القول الرابع: إنه لا يدخل الجنة في الوقت الذي يدخلها من لم ترتكب تلك الموبقات.
القول الخامس: إن هذا عقابه عدم دخول الجنة إلا أن يشاء الله أن يعفو ويصفح.
وأرجح هذه الأقوال هو قول من قال إنها تحمل على المستحل، أو أنها تحمل على أن هذا عقابه، إلا أن يعفو ويتكرم فيغفر ذلك، أما ما عداها فإن الضعف فيه ظاهر، والله أعلم انظر في هذا: التوحيد لابن خزيمة ص 367 - 373، فتح الباري 3/227، صحيح مسلم بشرح النووي 1/113، 125.(3/699)
فإن قالوا فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يسرق السارق وهو مؤمن ولا يزني الزاني وهو مؤمن "1. وكيف يشفع النبي صلى الله عليه وسلم لغير المؤمن.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ليس منا من بات بطيناً وجاره خميصاً".2
"ومن غشنا فليس منا"3.
__________
1 أخرجه خ. كتاب المظالم (ب النهب بغير إذن صاحبه) 3/118، م. كتاب الإيمان (ب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي) 1/76 من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
2 لم أقف عليه بهذا اللفظ، وإنما ورد بلفظ: "ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع"، وهو حديث ابن عباس أخرجه عنه الطبري في المعجم الكبير 12/154، والحاكم في المستدرك 4/167 وقال: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، وأخرجه ابن أبي شيبة في الإيمان ص 33، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/167: "رواه الطبراني وأبو يعلى ورواته ثقات"، وكذلك قال المنذري في الترغيب والترهيب 3/358
وورد بلفظ: "ما آمن بي من بات شبعاناً وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به"، وهو حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -، أخرجه الطبراني في الكبير 1/259والبزار. انظر: كشف الأستار 1/76، وحسن الحديث المنذري في الترغيب والترهيب 3/358. وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 1/69.
3 أخرجه م. كتاب الإيمان (ب قول النبي صلى الله عليه وسلم من غشنا. . .) 1/99، د. في البيوع، (ب النهي عن الغش) 2/99. جه. في التجارات (ب النهي عن الغش) 2/749. حم. 2/417 كلهم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.(3/700)
والجواب: أن نقول: إن السارق والزاني يفارقهما إيمناهما حين السرقة وحين الزنا، ثم يرجع إليهما لأنه روي أنه قال:"لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن".
ويحمل أنه عبر ذلك عن نقصان إيانه، ويحتمل أنه أخرجه مخرج التغليظ والمبالغة في الزجر عن هذه المعاصي كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"1، و"ولا إيمان لمن لا أمانة له"2، 3.
__________
1 أخرجه الحاكم في المستدرك كتاب الصلاة 1/246، والدارقطني في سننه 1/420 من حديث جابر - رضي الله عنه -، وقال في التعليق المغني: "فيه محمد بن مسكين"، قال الذهبي: "لا يعرف وخبره منكر" وضعف الحديث العقيلي.
كما روي عندهما من حديث أبي هريرة وفيه سليمان بن داود اليمامي. قال بن معين: "ليس بشيء"، وقال البخاري: "منكر الحديث". انظر: التعليق المغني على الدارقطني 1/420، وضعف الحديث الألباني. انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة 1/217.
2 أخرجه حم. 3/135، 154، والبغوي في شرح السنة 1/75، وابن أبي شيبة في الإيمان ص 5 من حديث أنس - رضي الله عنه -. وحسن الحديث البوصيري، وكذلك الألباني في التعليق على كتاب الإيمان لابن أبي شيبة ص 5.
3 الذي تقرر عند السلف أن الإيمان قول واعتقاد وعمل، وأنه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية وسيأتي تقريره من كلام المصنف وأن المسلم لا يكفر بارتكاب كبيرة، ولا يخرج من الإسلام بفسق.
واختلفوا في بيان معنى الأحاديث الواردة في مرتكبي الكبائر بنفي الإيمان عنهم. فالذي عليه كثير من العلماء أن المنفي هو كماله، وبعضهم يمر الروايات كما جاءت من غير تعرض لتأويلها ليكون أبلغ في الزجر، وهو مروي عن الزهري. وكذلك الإمام أحمد، ونسبه ابن حجر إلى كثير من السلف.
أما الحديث المذكور هنا "لا يزني الزاني وهو مؤمن". فمنهم من قال: إن المنفي عنه هنا الكمال الواجب، وهو قول أبي عبيدة في كتابه الإيمان، ومنهم من قال: يرتفع عنه حال الفعل لورود الحديث بلفظ: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن". ويؤيد ما ورد من حديث أبي هريرة مرفوعاً: "إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان كان عليه كالظلة فإذا انقطع رجع إليه الإيمان". أخرجه د. كتاب السنة (ب زيادة الإيمان ونقصانه) 2/270. والحاكم في المستدرك 1/22، وقال: "صحيح على شرط الشيخين" ووافقه الذهبي. وهو قول مأثور عن ابن عباس وعطاء وطاووس والحسن والإمام أحمد - رحمهم الله تعالى -.
ومنهم من قال: إنه يخرج من الإيمان إلى الإسلام، وهو مروي عن أبي جعفر الباقر، ورواية عن الإمام أحمد.
أما قول المصنف هنا يحمل على التغليظ والمبالغة في الزجر، فقد نسبه ابن حجر إلى الطبي، واستنكر هذا القول أبو عبيد في كتابه الإيمان، لأنه يؤدي إلى أن يجعل الخبر عن الله وعيداً لا حقيقة له.
وأرجح الأقوال في هذا القول الأول بدلالة اللغة عليه، وإجماع العلماء على عدم كفر مرتكب الكبيرة، قال النووي - رحمه الله -: "فالقول الصحيح الذي قاله المحققون أن معناه لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء ويراد نفي كماله، ومختاره كما يقال لا علم إلا ما نفع ولا مال إلا الأبل ولا عيش إلا عيش الآخرة، وإنما تأولناه على ما ذكرنا لحديث أبي ذر وغيره:"من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق"، وحديث عبادة بن الصامت الصحيح والمشهور: "أنهم بايعوه صلى الله عليه وسلم على أن لا يسرقوا ولا يعصوا. . . " إلى آخره، ثم قال لهم صلى الله عليه وسلم: "فمن وفي منكم فأجره على الله، ومن فعل شيئاً من ذلك فعوقب في الدنيا فهو كفارته، ومن فعل ولم يعاقب فهو إلى الله تعالى عفا عنه وإن شاء عذبه"، فهذان الحديثان ونظائرهما في الصحيح مع قول الله عزوجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} النساء آية48 مع إجماع أهل الحق أن الزاني والسارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر غير الشرك لا يكفرون بذلك بل هم مؤمنون ناقصوا الإيمان إن تابوا أقسطت عقوبتهم، وإن ماتوا مصرين على الكبائر كانوا في المشيئة، فإن شاء الله تعالى عفا عنهم وأدخلهم الجنة أولا، وإن شاء عذبهم ثم أدخلهم الجنة. وكل هذه الأدلة تضطرنا إلى تأويل هذا الحديث وشبهه، ثم إن هذا التأويل ظاهر سائغ في اللغة مستعمل فيها كثير، وإذا ورد حديثان مختلفان ظاهراً وجب الجمع بينهما وقد وردا هنا فيجب الجمع وقد جمعنا. ثم ذكر - رحمه الله - الأقوال السابق ذكرها عن العلماء في وجه معنى الأحاديث شرح مسلم للنووي 2/41 - 42 وهو موجود على هامش نسخة - ح - بنصه من شرح مسلم، ونظر في هذا: الإيمان لأبي عبيد 84 - 98، فتح الباري 12/60 - 62، مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى ص 306 - 322.(3/701)
وقوله: "ليس منا من بات بطيناً وجاره خميصاً" و"ومن غشنا فليس منا " أي ليس من أخلاقنا1.
__________
1 قال أبو عبيد في الإيمان له ص 92 في معنى هذا الحديث: "لا نرى شيئا منها يكون معناه التبرؤ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا من ملته، إنما مذهبه عندنا أنه ليس من المطيعين لنا ولا من المقتدين بنا ولا من الحافظين على شرائعنا وهذه النعوت وما أشبهها"، وروي عن السلف حمله على ظاهره. فقد روى الإمام أحمد عن الزهري أنه سئل عن معنى قول النبي صلىالله عليه وسلم: "ليس منا من لطم الخدود" وما أشبهه فأطرق ساعة ثم رفع رأسه فقال: "من الله عز وجل العلم وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم". وروي عن الإمام أحمد أنه قال في هذا الحديث: "على التأكيد والتشديد ولا أكفر أحداً إلا بترك الصلاة".(3/702)
مع أنا نعارضه بما روي أبو الدراداء أن البي صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة" قال، قلت يا رسول الله: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، فرددت عليه ذلك حتى قال في الثالثة: نعم، وإن رغم أنف أبي الدرداء".1
فإن قالوا: ما معنى قوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى} قلنا: معناه لا يشفعون إلا لمن رضي عمله من الموحدين.
فإن قالوا: فما معنى قوله: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ} 2.
قلنا: أراد بالظلم هناهنا الكفر لقوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 3.
فإن قالوا: فما أنكرتم أن4 تكون الأخبار الواردة في الشفاعة من النبيين والملائكة مستحقة للمؤمنين الذين تابوا من الذنوب على وجه الجزاء على أعمالهم وطاعتهم، لأن الله تعالى قال: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} 5.
__________
1 أخرجه حم. 6/442 وعزاه الهيثمي إلى البزار والطبراني في الكبير والأوسط، وقال: "إسناد أحمد أصح وفيه ابن لهيعة وقد احتج به غير واحد". مجمع الزوائد 1/16، ورواية البزار في كشف الأستار 1/11، والحديث متفق عليه من رواية أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - أخرجه خ. في الجنائز (ب من كان آخر كلامه لا إله إلا الله) 2/63، م. في الإيمان (ب من مات لا يشرك بالله شيئا) 1/94.
2 غافر آية (18) .
3 لقمان آية (13) .
4 في الأصل (عن أن) وما أثبت كما في - ح - وهو الأصوب.
5 غافر آية (7) .(3/703)
فأما أن يشفعوا لأهل الكبائر الذين ماتوا مصرين عليها فلا يجوز أن يكون المراد بذلك الشفاعة لمؤمنين الذين ماتوا ولا ذنوب لهم، فتكون الشفاعة زيادة لهم1 في النعم على ما يستحقونه بأعمالهم، ويجوز أن يكون المراد بالشفاعة لأه الصغائر الذين واقعوها مع اجتنابهم الكبائر.
والجواب: أن هذا تبديل لا تأويل، لأن الأخبار المروية أنه يخرج من النار بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان2، وفي بعض الروايات "من قال لا إله إلا الله"3، وهذا يدل على أنه لم يعمل شيئا من الطاعات المأمور بها مثل الصلاة4 والزكاة وغيرهما5.
وأما الآية التي ذكروها فإن المراد بها التوبة من الكفر بدليل قوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} ، وكذلك قوله تعالى: {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} .
وسبيل الله هو الإسلام بدليل قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} .
وأما قولهم إنهم يستغفرون لأهل الصغائر أو لمن لا ذنب له، فعندهم أن الله إن6
__________
1 في الأصل (في زيادة) وفي - ح - كما أثبت.
2 تقدم هذا من حديث أنس في الشفاعة. انظر: ص 549.
3 تقدم ذكر هذه الرواية في التعليق ص 682 رقم 6.
4 هذا على قول من يرى أن ترك الصلاة ليس كفرا مخرجا من الملة وستأتيت الأقوال ص 754.
5 وقد يأتي الإنسان المسلم بهذه الأشياء ويأخذ أجرها الدائنون يوم القيامة، كما ورد في حديث المفلس الذي رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون من المفلس قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال: إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليهم ثم طرح في النار". أخرجه م. في البر والصلة. (ب تحريم الظلم) 4/1997، ت في صفة القيامة 4/613.
(أن) - غير موجوده في الأصل، وهي في - ح -.(3/704)
عذبهم على الصغائر ظلمهم1، ومن لا تستحق عليه العقوبة على الصغير أو من لا ذنب له لا معنى للشفاعة له، لأن الشافع يقول يا رب لا تظلمه ولا تعذبه على ما لا يستحق العذاب عليه، وهذا لا يليق بالنبيين والملائكة، فثبت أنهم إنما يشفعون لمن استحق العقاب من الموحدين فإن قالوا: فقولوا: إنهم يشفعون للكفار2 وإن لله يوصف بأن3 يدخل الكفار الجنة.
والجواب: أنا نقول: أما في العقل فلا يستحل أن الله يدخل الكفار الجنة، لأن ذلك إنعام من الله وتفضل على خلقه، وقد أنعم عليهم في الدنيا والداران مكله، فما لم يستحل منه في الدنيا لم يستحل منه في الآخرة، إلا أن القرآن والسنة قد وردا بخلاف ذلك، فأخبر أنه لا يغفر لمن أشرك به، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يدخلهم الجنة ولا تنفعهم شفاعة الشافعين، واجمعت الأمة على قبول هذه الأخبار وموجبها.
فإن قالوا: فإذا كانت الشفاعة تقبل في أهل الكبائر، فمات تقولون فيمن حلف بطلاق امرأته ثلاثاً ليعمل ما تنال به الشفاعة، فما تأمرونه بعمل لئلا تطلق عليه امرأته، أتأمرونه أن يعمل بالمعاصي، فهذا لا يجوز، أم لا تأمرونه بذلك؟ فما المخرج له حتى لا تطلق عليه امرأته؟.
فالجواب: أنا لا نأمره بعمل المعصية وإنما نأمره بالإرزاء4 بهذا السائل، لأنه أورد سؤاله هذا على سبيل الشناعة لجهله بالأخبار الواردة في الشفاعة، ونأمره بأن يتعلم الرد على القدرية والإستقامة على الإيمان، لأن ذلك طاعة لله والشفاعة إنما هي للمؤمنين على ما ابتلوا به من المعاصي،
__________
1 انظر: حكاية هذا عنهم فيما تقدم ص 668.
2 في الأصل (بالكفار) وما اثبت من - ح -.
3 هكذا في كلا النسختين.
4 الإزراء: الإنتقاض. انظر: اللسان 3/1634.(3/705)
ولا يخلوا أحد من المعاصي. قال النبي صلى اله عليه وسلم: "ما منا إلا من عصى أو هم بمعصية إلا يحيى ابن زكريا"1.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مؤمن إلا وله ذنب قد اعتاده الفينة بعد لفينه ثم يتوب "2. أي الحين بعد الحين.
__________
1 أخرجه حم. من حديث ابن عباس مرفوعاً ولفظه: "ما من أحد من ولد آدم إلا قد أخطأ أو هم بخطيئة ليس يحيى بن زكريا". أخرجه في مواضع من مسنده 4/260، 240، 228، 80 بتحقيق أحمد شاكر، والحاكم في المستدرك كتاب التاريخ 2/591 وسكت عنه، وأخرجه الطبراني في الكبير 2/216، والبزار من حديث طويل. كشف الأستار 3/108، وابن عدي في الكامل 5/1843 ومدار هذه الرواية على علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران عن ابن عباس، وعلي ضعيف كما في التقريب ص 246 وللحديث طريق آخر عن ابن عباس من راوية محمد بن عون الخراساني عن عكرمة عنه، أخرجها البزار. انظر: كشف الأستار 1/109، وابن عدي في الكامل 6/2248 وعلة هذه ما يرويه لا يتابع عليه. وقال ابن حجر عنه: "متروك". انظر: التقريب ص 314، وللحديث شاهد جيد من حديث سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمر وأخرجه البزار. انظر: كشف الأستار 3/109 قال الهيثمي: "إسناده ثقات". انظر: مجمع الزوائد 8/209. وأخرجه الحاكم عن الحسن مرسلاً بإسناد جيد المستدرك 2/591 ولعله الذي عناه الذهبي في تلخيص المستدرك بعد أن ذكر رواية الحسن ورواية علي بن زيد عن ابن عباس قال: "إسناده جيد"، والله أعلم.
2 أخرجه الطبراني الكبير 11/304 من حديث عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ورجاله ثقات ما عدا شيخ الطبراني في الكبير، الحسين بن العباس الرازي لم أجده، وذكر الحديث الهيثمي وقال: "رواه الطبراني في الكبير والأوسط وأحد أسانيد الكبير رجاله ثقات"، وله السياق. مجمع الزوائد 10/201.
وأخرجه الديلمي في مسند الفردوس. انظر: فردوس الأخبار 4/311، وأخرجه القضاعي في مسنده 2/24 من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس وفي إسناده عبد الله بن محمد بن جعفر القزويني، قال الدارقطني: "كذاب". انظر: الميزان 3/495، وقد رمز السيوطي للحديث بالحسن. انظر: الجامع الصغير ومعه فيض القدير 5/491 وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير 5/172.(3/706)
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن المؤمن خلق مفتناً" 1أي ممتحناً يمتحنه بذنب ثم يتوب ثم يعود في الأحاديين ثم يتوب.
وأيضاً فإنا قد روينا أن للنبي2 صلى الله عليه وسلم شفاعة في جميع الخلق من النبيين وغيرهم في فصل القضاء يوم القيامة، وهذا المخالف من جملتهم.
فإن قالوا: إذا قلتم إن النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة في أهل الكبائر من أمته فقولوا إنه يشفع لمن نفى شفاعته وأبطلها.
فالجواب: أنا نقول إنه لا يشفع فيمن نفى شفاعته لمعنيين:
أحدهمما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كذب بالشفاعة لم ينلها "3.
والثاني: أن من كذب بالشفاعة فقد رد الأخبار الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فصار كمن رد على النبي صلى الله عليه وسلم قوله، فصار بذلك كافراً لأنه أبطل شرف النبي صلى الله عليه وسلم الذي خصه الله به في القيامة.
__________
1 هذا بعض الحديث المتقدم عن ابن عباس عند الطبراني في الكبير، كما أخرجه الطبراني في الكبير 10/342، وابن عدي في الكامل 3/958 - 959، وأبو نعيم في الحلية 3/211 والديلمي في مسند الفردوس. انظر: فردوس. الأخبار 1/236 وهو من رواية داود بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده مرفوعاً: "إن المؤمن خلق مفتناً" الحديث، قال أبو نعيم: "هذا حديث غريب من حديث داود بن علي عن أبيه عن جده. لا أعلم أحداً رواه غير ابن نمير عن عتبة به"، وقال ابن عدي في داود بن علي: "عندي أنه لا بأس برواياته عن أبيه عن جده، فإن عامة ما يرويه عن أبيه عن جده".
2 في الأصل (عن النبي) وما أثبت من - ح - وهو أقوم للعبارة.
3 أخرجه الآجري في الشريعة ص 337 عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - موقوفاً بلفظ: "من كذب بالشفاعة فليس له فيها نصيب" ونسبه ابن حجر في الفتح إلى سعيد بن منصور في سننه وقال: "سنده صحيح". فتح الباري 11/426.(3/707)
109 - فصل
وعند أهل الحديث أن العذاب في القبرحق، وأن مسألة منكر ونكير في القبرحق على ما جاء في الأخبار. وأنكر المعتزلة وأهل الزيغ ذلك كله1. ودليلنا قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} 2، قال أهل التفسير: تثبيتهم بالقول الثابت في الحياة الدنيا هو قول لا إله إلا الله وفي الآخره عند المسألة في القبر3.
وروى البراء بن عازب قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولمَّا يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأنما على رؤوسنا الطير، وبيده عود ينكت به الرض، ثم رفع رأسه وقال: "استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثاً ثم قال: إن المؤمن إذا
__________
1 عذاب القبر حق ثابت وبهذا قال أهل السنة وأكثر الفرق الإسلامية، ولم يخالف في ذلك إلا ما يحكى عن ضرار بن عمرو كان من المعتزلة ثم ترك قولهم، أما المعتزلة فإنهم على إثباته كما حكى ذلك عن نفسه وأسلافه القاضي عبد الجبار في شرح الأصول الخمسة ص 730، وقال ابن حزم: "ذهب ضرار بن عمرو الغطفاني أحد شيوخ المعتزلة إلى إنكار عذاب القبر وهو قول من لقينا من الخوارج، وذهب أهل السنة وبشر بن المعتزلة والجبائي وسائر المعتزلة إلى القول به، وبه نقول لصحة الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك". الفصل في الملل والنحل والأهواء 4/66، ونسب أبو الحسن الأشعري في المقالات 2/116 نفي عذاب القبر إلى المعتزلة والخوارج، كما نسبه البغدادي في أصول الدين ص 245 إلى الجهمية والضرارية، ونسب الملطي في التنبيه والرد على أهل الأهواء ص 124 إلى جهم بن صفوان إنكار عذاب القبر ومنكر ونكير. والأرجح بالنسبة للمعتزلة حكاية القاضي عبد الجبار عن نفسه وأسلافه إذ هو أخبر بذلك وأعرف، كما أنه قد بين أن ابن الراوندي هو الذي كان يشنع عليهم إنكار عذاب القبر وعدم الإقرار به، كما أنه أورد الأدلة على إثباته من القرآن والسنة، والله أعلم.
2 إبراهيم آية (27) .
3 أسند هذا القول ابن جرير إلى طاووس وقتادة وهو الذي رجحه، وذكر قولا آخر وهو أن المراد بالحياة الدنيا المسألة في القبر وفي الآخرة المراد بها عند التثبت الحساب، وعزا هذا القول إلى البراء ابن عازب - رضي الله عنه -. تفسير ابن جرير 23/213. وانظر: تفسير القرطبي 9/363.(3/708)
كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة، حتى يقعدوا منه مد النظر1، ثم يجيء ملك الموت فيقعد عند رأسه فيقول: "أيتها النفس المطمئنة أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفه عين حتى يأخذوها ويجعلونها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، فتخرج منه كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: هذا فلان بن فلان بأحسن أسمائه الذي كان يسمى بها في الدنيا، حتى يصعد إلى سماء الدنيا فيستفتح له فيفتح له فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى تنتهي إلى السماء السابعة، فيقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في عليين في السماء السابعة، واعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان ويقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، ويقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله فيقولان له: ما علمك2؟ فيقول: قرأت كتاب الله، وآمنت به وصدقت. فينادي مناد في السماء صدق عبدي فافرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من طيبها وروحها ويفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول: ابشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد فيقول: من أنت فوجهك وجه يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: يا رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي. وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه
__________
1 هكذا في الأصل، وفي - ح - (البصر) .
2 في - ح - ما عملك.(3/709)
ملائكة من السماء سود الوجوه معهم المسوح، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة أخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتتفرق في جسده فيخرجها تتقطع معها العروق والعصب كما ينزع السّفود من الصوف المبلول فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يدها طرفة عين حتى يأخذوها يجعلوها في تلك المسوح فتخرج كأنتن جيفة وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها فلا يمرون على ملآ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟، فيقولون: هذا فلان بن فلان بأقبح أسمائه الذي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى سماء الدنيا، فيستفتحون له فلا يفتح له، ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} 1، قال: فيقول الله اكتبوا كتاب عبدي في سجين في الأرض السفلى وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدوهم ومنها نخرجهم تارة أخرى، قال: فتطرح روحه ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} 2 فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ها3 لا أدري، فيقولان له ما دينك؟ فيقول هاها4 لا أدري، فينادي مناد من السماء، افرشوا له من النار وألبسوه من النار وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه في قبره حتى تختلف عليه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب نتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسؤوك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت فوجهك وجه يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث فيقول: رب لا تقم الساعة"5.
__________
1 الأعراف آية (40) .
2 الحج آية (31) .
3 في - ح - (هاه هاه) .
4 في - ح - (هاه هاه) .
5 أخرجه د. في السنة (ب في المسئلة في القبر) 2/281 مختصراً، وأخرجه بطوله حم. 4/287، والحاكم في المستدرك كتاب الإيمان 1/37 وقال: "حديث صحيح على شرط الشيخين" ووافقه الذهبي، وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه 3/580، والآجري في الشريعة ص 367 وصحيح الحديث ابن القيم ورد على من ضعفه، ونقل عن أبي نعيم تصحيحه، وعن أبي موسى الأصبهاني أنه حسنه. انظر: تهذيب سنن أبي داود بهامش مختصر السنن 7/139 - 141، وصححه الألباني في تعليقه على شرح الطحاوية ص 449.(3/710)
ومن الدليل على ما قلناه قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} .1
وروى أبو هريرة وأبو سعيد الخدري - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير هذه الآية قال: "هو الكافر يضيق عليه قبره حتى تختلف فيه اضلاعه وذلك المعيشة الضنكا التي قال الله"2.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: "استغفروا لأخيكم، واسألوا الله له التثبيت فإنه الآن يسأل"3.
وروى ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أحدكم يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة أو من أهل النار يقال له هذا مقعدك إلى يوم القيامة "4.
__________
1 طه آية (124) .
2 رواية أبي هريرة أخرجها مطولة الحاكم في المستدرك كتاب الجنائز 1/379 وقال: "حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، كما ذكر الرواية الهيثمي في مجمع الزوائد 3/51 وقال: "رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن". أما رواية أبي سعيد الخدري فذكرها ابن كثير في تفسيره 3/169 عن ابن أبي حاتم بسنده مرفوعاً: "فإنه له معيشو ضنكا" قال: "ضمة القبر له"، وفي إسناده ابن لهيعة.
وقد روي هذا عنهما موقوفاً. أخرج ابن جرير رواية أبي هريرة والحاكم في المستدرك. انظر: تفسير ابن جرير 16/227 المستدرك 1/381. أما رواية أبي سعيد الخدري فقد أخرجها ابن جرير في تفسيره 16/227، وعبد الرزاق في مصنفه 3/584 وإسنادها جيد ورواتها ثقات.
3 أخرجه د. كتاب الجنائز (ب الاستغفار عند القبر للميت) 2/71 مثله، الحاكم كتاب الجنائز 1/370 كلهم من حديث عثمان - رضي الله عنه - ولفظه عند الحاكم "مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة عند قبر وصاحبه يدفن، فذكره". قال الحاكم: "صحيح ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في أحكام الجنائز ص 156.
4 أخرجه خ. كتاب الجنائز (ب الميت يعرض عليه مقعده) 2/86، م. كتاب صفة الجنة (ب عرض مقعد الميت عليه) 4/2199.(3/711)
وروى زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائط لبني النجار على بغلة له فحادت به فكادت تقلبه، وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة فقال: "إن هذه الأمة لتبتلى في قبورها فلولا ألا تدافنوا دعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع منه، ثم قال: تعوذوا بالله من عذاب القبر قلنا: نعوذ بالله من عذاب القبر، قال: تعوذوا بالله من الفتن، قلنا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قال: تعوذوا بالله من الدجال قلنا: نعوذ بالله من الدجال"1.
وروى أنس - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه حتى أنه يسمع خفق نعالهم، أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمداً صلى الله عليه وسلم، فأما المؤمن فيقول أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقولان: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة فيراهما كلاهما2، وذكر أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعاً، وأما الكافر والمنافق فيقولان له3: ما كنت تقول في هذا الرجل، فيقول: لا أدري كنت أقول كما يقول الناس، قال فيقال له: لا دريت ثم يضرب بطراق من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح صيحة فيسمعه من يليه غير الثقلين، فيضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه"4.
وروى ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: "إنهما ليعذبان وما يعذبان بكبيرة أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول، وأما الآخر
__________
1 أخرجه م. كتاب صفة الجنة (ب عرض مقعد الميت عليه) 4/2200، حم 5/190واللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 6/1131.
2 هكذا في النسختين وكذلك عند اللالكائي وعند الآجري في الشريعة (فيراهما كليهما) .
3 في الأصل (فيقول له) وفي - ح - (فيقولان ما كنت) .
4 أخرجه خ. كتاب الجنائز (ب ما جاء في عذاب القبر) 2/86، م. كتاب صفة الجنة (ب عرض مقعد الميت عليه ... ) 4/2200 مختصراً إلى قوله: (سبعون ذراعاً) ، وأخرجه الآجري في الشريعة ص 366، واللالكائي في شرح اعقتاد أهل السنة 6/1131 بطوله.(3/712)
فكان يمشي بالنميمة، ثم أخرج جريدة فشقها نصفين فغرز في كل قبر واحدة، فقيل: يا رسول الله لم فعلت هذا؟ قال: لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا"1.
وروي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "دخلت علي عجوز من عجائز يهود المدينة، فقالت: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم قالت: فكذبتها فخرجت، ودخل عليّ رسول الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله إن عجوزاً من عجائز يهود المدينة دخلت علي فزعمت أن أهل القبور يعذبون في قبورهم، فقال: صدقت إنهم يعذبون في قبورهم عذاباً تسمعه البهائم كلها، قالت: فما رأيته بعد في صلاة إلا يتعوذ من عذاب القبر"2.
وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ في دعائه ويقول: "اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار وفتنة القبر ومن عذاب القبر ومن فتنة الغنى والفقر ومن شر فتنة المسيح الدجال، اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم والمغرم والمأثم". أخرجه البخاري ومسلم وأبو عيسى3.
وفي الباب عن أنس4 وزيد ابن أرقم5.عن ميمون بن أبي ميسرة6،
__________
1 أخرجه خ. كتاب الجنائز (ب عذاب القبر من الغيبة ... ) 2/86، م. كتاب الطهارة (ب نجاسة البول) 1/240.
2 أخرجه خ. كتاب الجنائز (ب ما جاء في عذاب القبر) 2/85 نحوه، م. كتاب المساجد (ب استحباب التعوذ من عذاب القبر) 1/411.
3 أخرجه خ. كتاب الآذان (ب الدعاء قبل السلام) 1/137، م. كتاب المساجد (ب ما يستعاذ منه في الصلاة) 1/412، ت. كتاب الدعوات (ب منه) 5/525.
4 حديث أنس أخرجه خ. كتاب الدعوات (ب التعوذ من فتنة المحيا والممات) 8/66، م. كتاب الذكر والدعاء (ب التعوذ من شر الفتن) 4/2079.
5 أخرجه عنه م. كتاب الذكر (ب التعوذ من شر ما عمل. . .) 4/2088.
6 هكذا في النسختين وعند اللالكائي، وذكره ابن أبي حاتم فقال ميمون بن ميسرة: "روى عن أبي هريرة روى عنه يعلى بن عطاء سمعت أبي يقول ذلك". الجرح والتعديل 8/235.(3/713)
قال: كان لأبي هريرة صيحتان في كل يوم، أول النهار يقول: ذهب الليل وجاء النهار وعرض آل فرعون على النار، وإذا كان العشي قال: ذهب النهار وعرض آل فرعون على النار فلا يسمع أحد صوته إلا استعاذ بالله من النار"1.
وعن عطاء بن يسار قال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -:"يا عمر كيف أنت إذا أعد2 لك أهلك ثلاثة أذرع وشبراً في عرض ذراع وشبر، ثم قام إليك أهلك فغسلوك وكفنوك وحنطوك ثم حملوك حتى يغيبوك فيه، ثم يهيلوا عليك التراب ثم انصرفوا عنك، وأتاك مسائلا القبر منكر ونكير أصواتها كالرعد القاصف وأبصارها كالبرق الخاطف وقالا: من ربك، وما دينك قال: يا نبي الله ويكون معي قلبي3 الذي هو معي اليوم؟ قال: نعم، قال: إذا أكفيكهما بإذن الله"4.
وروي أن رجلا قال لأنس بن مالك - رضي الله عنه -: "إن قوماً يكذبون بالشفاعة، فقال: لا تجالسوهم، فسأله آخر وقال: إن قوماً يكذبون بعذاب القبر فقال: لا تجالسوهم"5.
وروى أو القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الحافظ اللالكائي في كتابه عن محمد بن نصر الصائغ6: "كان أبي مولعاً بالصلاة على الجنائز من عرف ومن لم يعرف، فقال: يا بني خرجت يوماً إلى السوق أشتري حاجة فصادفت جنازة رجل معها خلق كثيراً ما أعرف منهم أحداً،
__________
1 أخرجه اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 6/1137.
2 في الأصل (إذا عد) وما أثبت من - ح -.
3 هكذا في الأصل، وفي - ح - (عقلي) وكذلك عند الآجري.
4 أخرجه الآجري في الشريعة ص 366 وهو مرسل ورجال إسناده ثقات.
5 أخرجه اللالكائي في شرح اعقتاد أهل السنة 6/1138.
6 لم أقف له على ترجمة.(3/714)
فقلت أمضي مع هذه أصلي عليها وأقف حتى أروايها فتبعها وصلوا عليها وصليت معهم وأدخلوها المقبرة وجاؤا بها إلى قبره محفور، فنزل إلى القبر نفسان وجذبوا الميت1 فأخذوه وسرحوا عليه التراب وخرج واحد وبقي واحد وحثى الناس التراب عليه، فقلت: يا قوم يدفن حي مع ميت - لا يكون شبه لي2 - ثم رجعت فقلت: ما رأيت إلا اثنين خرج واحد وبقي الآخر، لا أبرح من هاهنا حتى يكشف الله لي ما رأيت، فجئت إلى القبر فقرأت عشرات مرات يس وتبارك وبكيت ورفعت يدي، وقلت: يا رب اكشف لي عما رأيت فإني خائف على عقلي وديني، فانشق القبر وخرج منه شخص فولى مبادرا3، فقمت وراءه وقلت: يا هذا بمعبودك إلا وقفت حتى أسألك فما التفت إلي وولى ومضيت خلفه، فقلت: يا هذا بمعبودك إلا ما وقفت حتى أسألك فما التفت إلي وولى فقلت: أنا رجل شيخ ليس بمكنتي النهوض، فبمعبودك إلا وقفت حتى أسألك فالتفت إلي وقال: نصر الصائغ؟ فقلت: نعم قال: لا تعرفني؟ قلت: لا، قال: فنحن ملكان من ملائكة الرحمة قد وكلنا بأهل السنة إذا وضعوا في قبورهم حتى نقلنهم الحجة، وغاب عني"4.
وروى اللالكائي أيضا عن إبراهيم بن أدهم5 قال: "تبعت جنازة بالساحل فقلت: بارك الله لي في الموت، فقال قائل من السرير: وما بعد
__________
(الميت) ساقطة من كلا النسختين وهي ثابتة عند اللالكائي.
2 كذا ومراده (أن يكون اشتبه الأمر عليه فظنها اثنان وهما واحد) وعند اللالكائي
(ليت لا يكون شبه لي) .
3 هكذا وعند اللالكائي أيضاً ولعلها (مدبراً) .
4 انظر: شرح اعتقاد أهل السنة 6/1138 وقد رواه عن عبيد الله بن أحمد بن علي عن أبي عبد الله الصفار عن محمد الصائغ ومحمد الصائغ مجهول وأبوه لم أقف على كلام عنه إلا عند أبي حاتم حيث قال: نصر بن عمر أبو سلمة الصائغ روى عن روى عنه وكيع ويحيى الحماني سألت أبي عنه فقال شيخ. الجرح والتعديل 8/470، فإن يكن هو فهو مجهول الحال.
5 إبراهيم بن أدهم بن منصور العجلي وقيل التميمي أبو إسحاق البلخي الزاهد صدوق. توفي سنة 162 هـ - التقريب ص 18.(3/715)
الموت، قال إبراهيم: فدخل على منه رعب حتى ما قدرت أحمل قائمة السرير، فدفن الميت وانصرفوا، وقعدت عند القبر مفكرا في القائل من السرير وما بعد الموت، فغلبتني عيناي على ركبتي، فإذا أنا بشخص من القبر أحسن الناس وجها وأطيبه ريحا وأنقاه ثيابا وهو يقول: يا إبراهيم، قلت: لبيك فمن أنت يرحمك الله؟ قال: أنا لقائل من السرير وما بعد الموت، قلت: فبالذي خلق الحبة وبرأ النسمة وتردى بالعظمة1 إلا قلت لي من أنت، فقال: أنا السنة أكون لصاحبي في الدنيا حافظا وعليه رقيبا وفي القبر نورا ومؤنسا وفي القيامة سائقا وقائدا إلى الجنة"2.
قلت: وهذا الخبر موافق للخبر الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن عمل ابن آدم يأتيه على صورة شخص في القبر على ما مضى3.
وذكر اللالكائي فيما روي عن نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: "بينما أنا أسير بجنبات بدر إذ خرج رجل من الأرض في عنقه سلسلة يمسك4 بطرفها أسود في يده مرزبة فقال: يا عبد الله أسقني، قال ابن عمر: فلا أدري أعرفني أم كما يقول الرجل للرجل يا عبد الله، فقال لي الأسود: يا عبد الله لا تسقه، ثم اجتذبة جذبة ودخلا في الأرض جميعا".
وفي رواية فضربه بمرزبة حتى غيبه في الأرض، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بذاك فقال: وقد رأيته ذاك أبو جهل وذاك عذابه إلى يوم القيامة"5.
__________
1 أي توشح رداء العظمة. انظر: لسان العرب 3/1630.
2 شرح اعتقاد أهل السنة 6/ 1139.
3 انظر: حديث البراء بن عازب ص 708.
4 في - ح - (ممسكاً) .
5 شرح اعتقاد أهل السنة 6/1141 وسنده ضعيف فإن فيه عبد الله بن محمد بن المغيرة الكوفي الراوي عن مالك بن مغول عن نافع به. ذكره الذهبي في الميزان، ونقل عن أبي حاتم أنه قال: "ليس بالقوي"، وقال ابن يونس: "منكر الحديث"، وقال ابن عدي: "عامة ما يرويه لا يتابع عليه"، وقال النسائي: "روى عن الثوري ومالك بن مغول أحاديث كانا أتقى لله من أن يحدثا بها". ميزان الاعتدال 2/487.(3/716)
وروى أبو هريرة وأبو سعيد الخدري - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أتدرون ما الضنك الذي قال الله؟ قلنا: الله ورسوله أعلم فقال: عذاب الكافر في قبره، والذي نفسي بيده أنه ليسلط عليه تسعة وتسعون تنيناً. أتدرون ما التنين، قال: حيات كل حية لها تسعة وتسعون رأسا تنهشه وتلدغه حتى تقوم الساعة، ولو أن تنينا نفخ في الأرض ما أنبتت خضرا"1.
وروي عن عبد الحميد بن محمود2 قال: "كنت عند ابن عباس فأتاه رجل فقال أقبلنا حجاجاً فلما صرنا في الصفاح3 توفي صاحب لنا، فحفرنا فإذا أسود قد أخذ اللحد فحضرنا آخر، فإذا الأسود قد أخذ اللحد، قال: فحفرنا قبرا آخر فإذا الأسود قد أخذ اللحد فتركناه وأتيناك فما تأمرنا؟ قال: ذلك عمله الذي كان يعمل اذهبوا فادفنوه في بعضها، فوالله لو حفرتم الأرض كلها لوجدتم ذلك، قال: فألقيناه في قبر منها فلما قضينا سفرنا أتينا امرأته فسألناها عنه فقالت: كان رجل4 يبيع الطعام فيأخذ قوت أهله كل يوم، ثم ينظر مثله من قصب الشعير فيقطعه فيخلطه في طعامه مكان ما كان يأخذ"5.
__________
1 حديث أبي هريرة أخرجه الآجري في الشريعة ص 358، وابن جرير الطبري في تفسيره 16/228، كلهم من طريق دراج بن سمعان أبو السمح، قال أحمد عنه: "منكر"، وكذلك قال النسائي، وضعفه أبو حاتم والدارقطني، ووثقه ابن معين وأورده ابن حبان في الثقات. انظر: التهذيب 3/208، وقال ابن كثير في تفسيره 3/169: "رفعه منكر جداً"، وأخرجه البزار بنحوه. كشف الأستار 3/58، وفي إسناده محمد بن عمر فإن يكن الواقدي فهو متروك. انظر: دراج بن أبي الهيثم عن أبي الهيثم عن أبي سعيد، وهذا سند ضعيف للكلام في ابي السمح، وأيضاً روايته عن أبي الهيثم عن أبي سعيد ضعفها الإمام أحمد وأبو داود. انظر: التهذيب 3/208.
2 عبد الحميد بن محمود المعولي البصري أو الكوفي. قال النسائي: ثقة. انظر: التهذيب 6/122.
3 الصفاح: بكسر الصاد، موضع بين حنين وأنصاب الحرم على يسرة الداخل إلى مكة. انظر: معجم البلدان 3/412.
4 هكذا في النسختين.
5 أخرجه اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 6/1143.(3/717)
وروى صدقة بن خالد1 عن بعض مشايخ دمشق قال: "حججنا مع محمد بن سريد الفهري2 فهلك صاحب لنا في بعض الطريق على ماء من تلك المياء قال: فأتينا أهل الماء نطلب شيئا نحفر له، فأخرجوا إلينا فأساً ومجرفة، وقالوا: نحن في هذا الموضع الذي ترون انقطاعه، وإنما وضع هذان لمثل ما طلبتم، فأعطونا عهداً لتردونهما إلينا ففعلنا، فلما وارينا صاحبنا في القبر نسينا الفأس في القبر، فأعظمنا أن ننبشه فقلنا: نرضي القوم من ثمن فأسهم، فأخبرناهم الخبر وعرضنا عليهم ثمن الفاس فأبوا أن يقبلوه، وقالوا: ليس نجد في موضعنا هذا منه عوضاً وقد أعطيتمونا ما علمتم، فرجعنا إلى القبر فنبشناه فوجدنا الرجل قد جمع عنقه ويداه ورجلاه في حلقة الفأس، فسوينا عليه التراب، وعدنا إلى القوم فأخبرناهم أنه ليس إلى الفأس سبيل وأرضيناهم من الثمن، فلما انصرفنا جئنا امرأته فسألناها عنه بما كان يخلو فيما بينه وبين الله عز وجل قالت: قد كان على ما رأيتم من حاله يحج ويغزو فلما أخبرناها الخبر، قالت: صحبه رجل معه مال فقتل الرجل وأخذ المال"3.
وروى ابن عمر قال: "خرجت في سفر فرفع في الطريق إلي مقبرة، فأويت إلى امرأة فلما جن الليل سمعت صوتاً من القبر وهو يقول: شن وما شن بول وما بول، فجزعت من ذلك فقلت للمرأة: ما هذا؟ فقالت: ولدي، قدم علينا رجل في يوم شديد الحر فاستقانا فقال ولدي: قم إلى الشن فأشرب منه ولم يكن في الشن شيء، فقام ليشرب فلم يجد فيه شيئاً فمات، وكان لا يستبري من البول وكنت أنهاه عن ذلك فلا ينتهي، فلما مات دفنته في هذه فكلما جنّ الليل يصيح شن وما شن بول وما بول4،
__________
1 صدقة بن خالد الأموي مولاهم أبو العباس الدمشقي ثقة. توفي سنة 171هـ -. التقريب ص 152.
2 محمد بن سويد الفهري صدوق توفي سنة بعد المائة. التقريب ص 300.
3 أخرجه اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 6/1143.
4 لم أقف على ذكر لهذه القصة.(3/718)
فحدثت به النبي صلى الله عليه وسلم، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسافر الرجل وحده1.
فقيل: إنّما نهى عن ذلك عند ذكر هذه الصفة، لن ابن عمر جزع مما2 أصابه، وقيل: لأجل الرجل الذي مات من العطش، لأنه لو كان معه رفيق لأعانه على طلب الماء.
وهذه الأخبار كلها وإن اختلفت ألفاظها فهي متفقه في المعنى.
__________
1 ورد هذا من حديث ابن عمر أخرجه عنه الإمام أحمد 8/49 بتحقيق الشيخ أحمد شاكر، وقال: في تعليقه إسناده صحيح، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/104 رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.
2 في الأصل (خرجا عما) وما أثبت من - ح -.(3/719)
110ـ فصل
وعند أهل الحديث أن الحسنات والسيئات للموحدين توزن بميزان يوم القيامة، وأن الصراط حق، وأن حوض النبي صلى الله عليه وسلم حق.
وأنكرت المعتزلة والقدرية وأهل الزيغ ذلك كله1.
__________
1 اتفق أهل السنة على إثبات الوزن للحسنات والسيئات وإثبات الصراط وحوض النبي صلى الله عليه وسلم، وخالف في ذلك أو بعضه بعض أهل البدع. أما الميزان فقد نسب الملطي إلى جهم بن صفوان إنكاره، ونسب الإيجي في الموافق والقاضي أبو يعلى في المعتمد في أصول الدين إلى المعتزلة إنكاره، كما نسب إنكاره ابن حزم في الفصل إلى قوم، ونسبه أبو الحسن الأشعري في المقالات إلى أعل البدع وقال: "وحقيقة قول المعتزلة في الموازنة أن الحسنات تكون محبطة للسيئات وتكون أعظم منها، وأن السيئات تكون محبطة للحسنات أعظم منها".
وقد أثبت القاضي عبد الجبار المعتزلي الإيمان بالميزان في الآخرة فقال: "أما وضع الموازين فقد صرح به الله تعالى في محكم كتابه، ثم ذكر الآيات الدالة على ذلك وقال: ولم يرد الله تعالى وقال: ولم يرد الله تعالى بالميزان إلا المعقول منه المتعارف فيما بيننا دون العدل وغيره على ما يقوله بعض الناس" شرح الأصول الخمسة - ص 735.
فهذا يدل على إثباته للميزان، إلا أن مفهوم الموازنة بين الحسنات والسيئات عند المعتزلة يختلف هو عليه عند أهل السنة، بل الميزان في الواقع لا فائدة منه سوى أنه يخفف العذاب على رأي أبي هاشم وعبد الجبار المعتزلي، وعلى رأي الجبائي لا فائدة منه البتة، لأن في أصل مذهبهم أن الحسنات تحبطها السيئات الكبيرة، فمن فعل كبيرة ولم يتب فإن حسناته كلها تحبط في مقابلها ولا أمل له بالنجاة يوم القيامة. انظر: شرح الأصول الخمسة ص 643 - 644، والذي اختلفوا فيه هو هل يسقط ثواب الطاعة أجزاءه من عقاب المعصية بقدرة أم لا وهو مفهوم الموازنة عندهم، فنفى ذلك أبو علي الجبائي، وزعم أن الحسنات مهدرة أمام السيئات، وزعم أبو هاشم أنه يسقط من العقوبة أجزاء على قدر الطاعة، وهو الذي نصره عبد الجبار المعتزلي وضرب له مثلاً فقال: صورته أن يأتي المكلف بطاعة استحق عليها عشرة أجزاء من الثواب، وبمعصية استحق عليها عشرين جزءاً من العقاب، فمن مذهب أبي علي أنه يحسن من الله تعالى أن يفعل به في كل وقت عشرين جزءاً من العقاب، ولا يثبت لما كان قد استحقه على الطاعة التي أتى بها تأثير بعد ما ازداد عقابه عليه.
وقال أبو هاشم: لا بل يقبح من الله تعالى ذلك ولا يحسن منه أن يفعل به من العقاب إلا عشرة أجزاء، فأما العشرة الأخرى فإنها تسقط بالثواب الذي قد استحقه على ما أتى به من الطاعة. شرح الأصول الخمسة ص 628، وهذا كله باطل وأقرب للظلم منه للعدل، فأين ثواب الإيمان وثواب الصلاة والطاعات، وهم يزعمون أن هذا كله يحبط بشربه خمر أو ما أشبهها لم يتب منها الإنسان، وما ذكروه في الواقع لا معنى له في الموازنة، لأن كفة السيئات راجحة وكذلك في حالة الطاعات كفتها راجحة، لأنه لا توجد سيئات توضع في الكفة الأخرى. وما تقدم نقله عن أبي الحسن الأشعري هو حقيقة مذهبهم.
أما الصراط، فلم يذكر الأشعري خلافاً إنما اختلف في وصفه، وعزا الأيجي إنكاره إلى أكثر المعتزلة وأن الجبائي تردد فيه نفياً وإثباتاً. وذكره القاضي عبد الجبار المعتزلي وقال: هو طريق بين الجنة والنار يتسع على أهل الجنة ويضيق على أهل النار إذا راموا المرور عليه، وأنكر أن يكون الصراط أدق من الشعر وأحد من السيف، كما أنكر أن يجوزه المكلفون فيكون من مرّ عليه من أهل الجنة ومن لم يتمكن فهو من أهل النار. شرح الأصول الخمسة ص 737. وهذا المعتزلي وإن كان أثبت الصراط في الجملة، إلا أنه أنكر الصفات الواردة في الأحاديث عن صفته.
أما الحوض فقد ذكر أبو الحسن الأشعري أن قوماً أنكروه ودفعوه ولم يبين من هؤلاء، ولا متعلق لمن أنكره إذ هو كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم ثبتت بالأخبار الصحيحة. انظر في هذا كله: التنبيه للملطي ص 110، مقالات الإسلاميين 2/164ـ 165، الفصل لابن حزم 4/65 - 66 الموافق للأيجي ص 383 - 383، أصول الدين للبغدادي ص 175، المعتمد في أصول الدين للقاضي أبي يعلى ص 175 - 176.(3/720)
والدليل على الميزان قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} 1.
وقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ، وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} 2، وقوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُم} 3، وقوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 4.
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وبحمده" 5.
__________
1 الأنبياء آية (47) .
2 القارعة آية (6 - 9) .
3المؤمنون آية (102 - 103) .
4 الأعراف آية (8) .
5 أخرجه خ. كتاب التوحيد (ب قول الله تعالى ونضع الموازين القسط) 9/130، م. كتاب الذكر (ب فضل التهليل والتسبيح) 4/2072 وقوله "وبحمده" في آخر الحديث ليست في البخاري ومسلم وهي مثبتة عند اللالكائي 6/1171.(3/721)
وروي عن سلمان أنه قال: "يوضع الصراط يوما لقيامة وله حد كحد الموسا، ويوضع الميزان له كفتان لو وضع في أحدهما السموات والأرض وما فيهن لوسعهن، فتقول الملائكة: ربنا لمن تزن بهذا؟ فيقول: لمن شئت من خلقي، فتقول الملائكة: ما عبدناك حق عبادتك"1.
وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن ملكا موكل بالميزان فيؤتى بابن آدم فيوقف بين كفتي الميزان، فإن رجح نادى الملك بصوت يسمع الخلائق سعد فلان بن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وإن خفت نادى الملك شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً"2.
وروى أبو الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أثقل شيء يوضع في الميزان الخلق الحسن"3.
وروي عن حذيفة أنه قال: "صاحب الميزان يوم القيامة جبريل يرد بعضهم على بعض، قال فيؤخذ من حسنات الظالم فترد على المظلوم، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فردت على الظالم"4.
وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يصاح يوم القيامة برجل من أمتي على رؤوس الخلائق، فيؤتى به إلى الميزان فينشر له تسعة وتسعين سجلا كل سجل منها مد البصر فيها خطاياه، فيقال له: أتنكر من هذا شيئا فيقول: لا
__________
1 أخرجه الحاكم في المستدرك 4/586 وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي، والآجري في الشريعة ص 382، واللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 6/1173.
2 أخرجه اللالكائي 6/1172، والبزار، وقال: "لا نعلم رواه عن ثابت إلا صالح المري ولا عن جعفر إلا صالح المري" انظر: كشف الأستار 4/160 فالحديث ضعيف جدااً لأن صالح المري هو ابن بشير أبو بشر الواعظ. قال البخاري: "منكر الحديث"، وضعفه ابن معين والدارقطني وقال أحمد: "صاحب قصص ليس هو صاحب حديث ولا يعرف الحديث". ميزان الاعتدال 2/289.
3 أخرجه د. كتاب الأدب (ب في حسن الخلق) 2/289، حم 6/442 - 446، ت. كتاب البر والصلة (ب. ما جاء في حسن الخلق) 4/362 وقال حديث حسن صحيح.
4 أخرجه اللالكائي 6/1173.(3/722)
يا رب، فيقول: للك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا يا رب، فيقول الله: بلى إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم اليوم عليك، فتخلاج له بطاقة بقدر أنملة فيها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول الرجل: ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت الطباقة"1. والبطاقة هي الرقعة الصغيرة.
وروى أبو أمامة قال: "لما نزلت هذه الآية: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ} 2 جمع النبي صلى الله عليه وسلم بني هاشم فأجلسهم على الباب، وجمع نساءه وأهله وأجلسهم في البيت ثم اطلع وقال: يا بني هاشم اشتروا أنفسكم من الله لا يغرنكم قرابتكم مني، فإني لا أملك لكم من الله شيئاً، ثم أقبل على أهله فقال: يا عائشة ابنة أبي بكر، يا حفصة بنت عمر، يا أم سلمة، يا فاطمة ابنة محمد، يا أم الزبير عمة النبي صلى الله عليه وسلم، يا فلانة يا فلان اشتروا أنفسكم من الله، واسعوا في فكاك رقابكم فإني لا أملك لكم من الله شيئاً فبكت عائشة - رضي الله عنها - ثم قالت: "وهل يكون ذلك يوم لا يغني عني شيئاً؟ قال: نعم، في ثلاثة مواطن يقول الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} 3، وقال عز وجل: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} 4 فعند ذلك لا أغني عنكم من الله شيئاً، وعند النور من شاء الله أتم نوره ومن شاء تركه في الظلمة يَعْمَه فيها، ولا أملك لكم من الله شيئاً، وعند الصراط من شاء الله عز وجل سلمه وأجاره ومن شاء كبكبه في النار، قالت عائشة: أي حبيب قد علمنا
__________
1 أخرجه ت. كتاب الإيمان (ب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله) 4/24 وقال: "حديث حسن غريب"، جه كتاب الزهد (ب ما يرجى من رحمة الله)
2/1437، حم 11/175 بحتقيق أحمد شاكر وقال: "إسناده صحيح"، والحاكم في المستدرك كتاب الدعاء 1/529 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
2 الشعراء آية (214) .
3 الأنبياء آية (47) .
4 المؤمنون آيتي (102 - 103) .(3/723)
أن الميزان هي الكفتان يوضع في هذا الشيء وفي هذا الشيء فيرجح أحدهما وتخف الأخرى وقد علمنا النور والظلمة، فما الصراط؟، قال: طريق بين الجنة والنار يجوز الناس عليها وهي مثل حد الموسا والملائكة صافين يميناً وشمالاً يتخطفونهم بكلاليب مثل شوك السعدان، يقولون: رب سلم رب سلم1 وأفئدتهم هواء، فمن شاء سلمه ومن شاء كبكبه"2.
وأما الدليل على الحوض، فما روى ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر حوضه، فقلت: يا رسول الله من أول الناس وروداًله؟ قال: المهاجرين3 الشعثة رؤوسهم، الدنسة ثيابهم، الذين لا تفتح لهم السدد، اولا ينكحون المنعمات"4.
__________
1 هكذا العبارة في النسختين ومصادر الرواية.
2 أخرجه الطبراني في الكبير 8/268، والآجري في الشريعة ص 385 وهو ضعيف فإنه من طريق عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة به، قال ابن عدي عن عثمان: "يروي بهذا الإسناد ثلاثين حديثاً عامتها غير مستقيمة". الكامل 5/1813. وقال ابن حجر: "عثمان بن أبي العاتكة ضعفوه في روايته عن علي بن يزيد الألهاني". التقريب 2345. كما أن الذي تدل عليه هذه الرواية أن الآية نزلت بعد زواج النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة وحفصة - رضي الله عنها-، مع أن الثابت كما في البخاري في كتاب التفسير (ب سورة تبت يدا أبي لهب) 6/148 من حديث ابن عباس أن الآية نزلت في مكة، فقد قال: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ} الشعراء آية (214) ورهطك منهم المخلصين، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا فهتف: يا صباحاه، فقالوا: من هذا فاجتمعوا إليه، فقال: أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي، قالوا: ما جربنا عليك كذباً، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، قال أبو لهب: تباً لك ما جمعتنا إلا لهذا ثم قام فنزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} المسد آية (1) .
3هكذا في الأصل - وفي - ح - المهاجرون - وما في الأصل صحيح إلا أنه سقط منه كلمة (فقراء) كما هي الرواية في مصادر الحديث.
4 أخرجه ابن أبي عاصم في السنة عن أبي سلام عن ثوبان 2/348 قال الألباني في التعليق: "حديث صحيح رجاله ثقات رجال البخاري على ضعف في حفظ هشام بن عمار"، وأخرجه الآجري في الشريعة بإسناد آخر عن أبي سلام عن ثوبان - ص 353 وقال الألباني في التعليق على السنة لابن أبي عاصم: إسناده صحيح ص 348، وأخرج نحوه، ت. كتاب القيامة (ب ما جاء في صفة أواني الحوض 4/629 وقال: حديث غريب، جه. في الزهد (ب ذكر الحوض) 2/1438،حم 5/275 وعند هؤلاء زيادة من كلام عمر بن عبد العزيز، وانظر: للاستزادة سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/70.(3/724)
وروى حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن حوضي لأبعد ما بين1 أيله2 وعدن. والذي نفسي بيده لآنيته أكثر من عدد النجوم، ولهو أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، والذي نفسي بيده إني لأذود عنه الرجال كما يذود الرجل عن حوضه، قيل: يا رسول الله هل تعرفنا يومئذ؟ قال: نعم تردون عليّ غراً محجلين من أثر الوضوء ليست لأحد غيركم"3.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا فرطكم على الحوض "4.
وروي أنه ذكر الحوض عند عبيد الله بن زياد5 فأنكره فبلغ أنساً، فقال: "لا جرم والله لأفعلن به، قال فاتاه فقال ما ذكرتم من الحوض ما أنكرتم من الحوض6، قال عبيد الله: هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكره؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من كذا وكذا مرة يقول: " حوضي ما بين أيلة
__________
1 هكذا في النسختين وعند اللالكائي ولعل صوابها (مما) .
2 أيله قال ياقوت: مدينة على ساحل بحر القلزم (البحر الأحمر) مما يلي الشام. معجم البلدان 1/292.
3 أخرجه م. كتاب الطهارة (ب استحباب إطالة الغرة ... ) 1/218 من رواية ربعي عن حذيفة وليس فيه قوله: "لآنيته أكثر ... " وإنما فيه قوله: "لأذودن عنه الرجال ... "، وأخرجه جه. كتاب الزهد (ب ذكر الحوض) 2/1438 بلفظه هنا، وأخرجه حم. 5/390 - 394 نحوه. وابن أبي عاصم في السنة 2/336 قال الألباني في التعليق: "إسناده حسن رجاله ثقات رجال مسلم"، وأخرجه اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 6/1121.
4 أخرجه خ. كتاب الرقائق (ب في الحوض) 8/101 - 102 من حديث عبد الله بن مسعود وسهل ابن سعد - رضي الله عنهما -، م. كتاب الفضائل (ب إثبات الحوض) 4/1792 من حديث ابن مسعود وسهل وعائشة وعقبة بن عامر وجابر بن سمرة - رضي الله عنهم -، وقال ابن الأثير في معنى قوله: "أنا فرطكم" أي متقدمكم إليه، يقال: فرط يفرط فهو فارط إذا تقدم وسبق القوم ليرتاد لهم الماء ويهيء لهم الدلاء والأرشية. النهاية 3/434.
5 عبيد الله بن زياد بن عبيد أمير العراق بعد أبيه. قال ابن كثير: وكانت فيه جرأة وإقدام ومبادرة إلى ما لا يجوز وما لا حاجة له به، قتله إبراهيم بن الأشتر سنة 67هـ. البداية والنهاية 8/305.
6 هكذا في النسختين وعند الإمام أحمد "ذكرتم الحوض" وهو من قول أنس لعبد الله.(3/725)
ومكة وما بين صنعاء ومكة وأن آنيته أكثر من نجوم السماء"1.
وفي بعض الروايات أنه قال: "إن حوضي من مقامي إلى عمّان"2، قاله أبو منصور3 بنصب العين وتشديد الميم وهي بالشام.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لي حوضا ما بين الكعبة إلى بيت المقدس، له ميزابان من الجنة ذهب وميزاب من ورق، أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وأبرد من الثلج، فيه أباريق عدد نجوم السماء، من يشرب منه لم يظمأ حتى يدخل الجنة، ولكل نبي حوض، فمنهم من يأتيه الفئام من الناس - والفئام الجماعة - ومنهم من يأتيه العصب4، ومنهم من يأتيه النفر، ومنهم من يأتيه الرجلان والرجل، ومنهم من لا يأتيه أحد، وإني أكثر الناس تبعا يوم القيامة "5.
__________
1 أخرجه خ. كتاب الرقاق (ب ما جاء في الحوض) 8/102، م. كتاب الفضائل (ب إثبات الحوض) 4/1800) كلهم من حديث ابن شهاب عن أنس - رضي الله عنه -.
أما القصة مع عبيد الله بن زياد فقد رواها الإمام أحمد في المسند 3/230 وهي من رواية علي بن زيد بن جدعان عن أنس وعلي ضعيف كما في التقريب ص 246 ورواها مختصرا ابن أبي عاصم في السنة عن ثابت عن أنس، قال الألباني: إسناده صحيح على شرط مسلم. السنة 2/31، وأخرج نحوه أيضاً الآجري في الشريعة مختصراً ص 354.
2 هذه الرواية أخرجها م. من حديث معدان بن أبي طلحة عن ثوبان - رضي الله عنه - 4/1799.
3 هكذا في الأصل وفي - ح -. (ابن منصور) . ولم يتبين لي من هو.
4 العصب: جع عُصَابَة وهم الجماعة من الناس من العشرة إلى الأربعين. النهاية لابن الأثير 3/243.
5لم أقف عليه بهذا اللفظ المذكور ولأكثر شواهد صحيحة.(3/726)
111 – فصل: في ذكر فضائح القدرية
وذلك أنهم ردوا السنة كلها وأبطلوا وتأولوها على آرائهم الفاسدة فهم كمن رد على النبي صلى الله عليه وسلم قوله في حياته، ولما م يمكنهم رد القرآن قالوا إنه مخلوق لهم إذا قرؤوه ويقدرون على مثله لو جمعوا هممهم، ومن كان هذا قوله فهو كافر1 لا تقبل فيه شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم.
وروي أن بعض أئمة الحديث قدم ليصلي على بعض دعاة القدرية، فقام عنده ولم يكبر، وقال بأعلى صوته: اللهم إن هذا ما كان يؤمن بعذاب القبر فلا تنجه منه، اللهم إن هذا ما كان يوؤمن بمنكر ونكير فلا تلقنه حجته عند مسألتهما إياه، اللهم إن هذا ما كان يؤمن بأن الجنة والنار قد خلقا فلا تفتح له باباً من الجنة إلى قبره وافتح له باباً إلى النار وقد سمعك تقول: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} 2 اللهم والباب لذي يفتح له إلى النار فلا تغلقه عنه إلى المحشر، اللهم إن هذا ما كان يؤمن بالنظر إلى وجهك الكريم فلا تره وجهك، اللهم إن هذا ما كان يؤمن بالحوض الذي وعدته نبيك فلا تسقه منه يوم العطش الأكبر، اللهم إن هذا ما كان يؤمن بأن الحسنات والسيئات توزن بميزان له كفتان وقد سمعك تقول: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقّ} 3 اللهم فلا تثقل ميزانه ولا تترك في صحيفة عهمله حسنة يرجح بها الميزان، اللهم إن هذا ما كان يؤمن بالعقاب الذي مع المساءلة فلا تنجه منها، اللهم إن هذا ما كان يؤمن بالصراط الذي يعبر عليه الخلق إلى الجنة من المحشر فلا يجاوزه عليه، اللهم إن هذا ما كان يزعم أنه كان مستغيثاً عنك في دار الدنيا فيما كان من مقدرواته على زعمه غير مفتقر إليك في شيء من
__________
1 تقدم كلام المصنف على قول المعتزلة في القرآن، ونقله عن كثير من السلف تكقير القائلين بخلق القرآن. انظر: الفصل 95.
2 الأعراف آية (19) .
3 الأعراف آية (8) .(3/727)
ذلك، فكن له في الآخرة كما كان يعتقد في دار الدنيا فيك فكله إلى حوله وقوته، اللهم إن هذا يزعم أنك ساويت بين حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم وبين أبي جهل وسائر الكفار فيما أنعمت عليه من العون على الإيمان، وزعم أنك ساويت بين حبيبك محمد صلى الله عليه وسلم وبين أبي جهل عدوك، فساو يا رب بينه وبين الشيطان في النار كما كان مساويا له في دار الدنيا على زعمه فإنه قد أعظم الفرية عليك، اللهم إن هذا كان يزعم أنه خالق لعمله وما كان يفعله في دار الدنيا فلا تخلق فيه ما يميز به بين الخير والشر، واختم على سمعه وبصره وقلبه فإنه زعم أنما يدرك بسمعه وبصره الذي ركبت فيه كان خلقاله فأحجبه أن يدرك شيئا من المدركات أو المسموعات والمبصرات، فإنه زعم أن كل ذلك كان من مقدوره ولا يقدر معبوده على شيء من أفعاله لا الخير ولا الشر، وقد سمعك أمرت عبادك أن يسألوك استعانتك1 على طاعتك وهو قولك: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 2 فكان يزعم أنه مستغن عنك غير محتاج إليك في حال ما كان يفعل أفعاله من الإيمان والطاعات وغير ذلك، وكله يا رب إلى حوله وقوته كما كان يزعم ولا تعنه في عرصات القيامة، اللهم إن هذا كان يزعم أنه لا علم لك بعد أن3 سمعك تقول: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ} 4 قوله: {أََنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} 5 فلا تحطه بشيء من علمك في الآخرة، واجعله اضل سبيلا من الأنعام في الآخرة، اللهم إن هذا كان ينفي يديك وقد سمعك تقول: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} 6 اللهم فاجعل يديه مغولولتين إلى عنقه، اللهم إن هذا كان يزعم أن معبوده لا وجه له وقد سمعك تقول: {إِلاّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ} 7 و {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} 8، فحول وجهه إلى قفاه مسوداً منكلاً به، اللهم إن هذا كان يزعم أن له مشيئة دون مشيئتك فيما كان يشاء من أفعاله أو بعضها وقد سمعك تقول: {وَمَا تَشَاءُونَ
__________
v
1 هكذا في النسختين وصوابها (إعانتك) لأن الاستعانة هي السؤال.
2 الفاتحة آية (5) .
(أن) ليست في الأصل وهي في - ح -.
4 فاطر آية (11) .
5 النساء آية (116) .
6 ص آية (75) .
7 القصص آية (88) .
8 الانسان آية (9) .(3/728)
إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 1. فكله إلى مشيئته، اللهم إن هذا كان يزعم أنك أردت ما لم تعلم وخروج الأشياء عن علمك وعلمت ما لم ترده، وأنك لم ترد شهادة حمزة وغيره وقد سمعك تقول: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} 2 وأنك لم تأمر إبراهيم خليلك بذبح ولده حيث لم ترد ذبحه، وقد سمعك تقول مخبراً عنهما: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} 3 اللهم فلا تحشره في زمرتهما، اللهم إن هذا كان يزعم أن من عبدك ألف سنة وأتى كبيرة غير مستحل لها ولا جاحد لحقك أنك تخلده في النار مع فرعون وقارون والشياطين، فلا تقبل فيه شفاعة4 نبيك وخلده مع فرعون وهامان وقارون، فقد أتاك بهذه المعضلات والكفر الصريح فاحشره مع زمرة من زعم أنه يكون معهم فلقد أعزم الفرية عليك تعاليت يا رب عما يقول الظالمون علوا كبيراً، ثم التفت إلى من خلفه بعد كلامه هذا وقال: إنما فعلت هذا لتعلموا أنها سنة فإن الله تعالى يقول لنبيه: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} 5، وكما فعل ابن عباس لما صلى على جنازة فجهر بفاتحة الكتاب وقال: أما أني لم أجهر فيها لأن الجهر مسنون، ولكن جهرت لتعلموا أن فيها قراءة"6.
__________
1 الانسان آية (30) .
2 آل عمران آية (140) .
3 الصافات آية (102) .
(شفاعة) ليست في الأصل وهي مثبتة في - ح -.
5 التوبة آية (84) .
6 لم أقف عليه على هذه الرواية.(3/729)
112 - فصل:
الدين يتصرف إلى وجوه:
أحدهما الجزاء والحساب لقوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} 1، أي يوم2 الحساب والجزاء ومثله قوله تعالى: {الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} 3، أي بيوم الحساب ومثله قوله تعالى: {فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} 4، أي غير محاسبين ومثله قوله تعالى: {فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} 5، أي لمحاسبون، وقوله تعالى: {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ} 6.
ومن هذا يقال: دنت فلانا بما صنع، أي جزيته، ومنه قولهم كما تدين تدان، قال الشاعر:
واعلم وايقن أن ملك زائل ... واعلم بأن كما تدين تدان7
وقد يكون الدين بمعنى الحكم ومنه قوله تعالى: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} 8، أي في حكم الملك، وقوله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} 9، أي في حكم الله.
وقد يكون الدين بمعنى: القهر والإذلال، ومن هذا يقال: دنت القوم أي قهرتهم وأذللتهم، فدانوا قال القطامي10: ... ... ... ... ... كانت11 نوار تدينك الأديان12.
__________
1 الفاتحة آية (4) .
2 في - ح - (ملك) .
3 المطففين آية (11) .
4 الواقعة آية (86) .
5 الصافات آية (53) .
6 الانفطار آية (15) .
7 ذكره في اللسان 2/1469، من شعر خالد بن نوفل الكلابي يقصد به الحارث بن أبي شمر الغساني.
8 يوسف آية (76) .
9 النور آية (2) .
10القطامي هو عمير بن شييم التغلبي، شاعر غزل كان نصرانياً فأسلم، وفاته نحو 130هـ -.
انظر: سمط اللآلئ شرح أمالي القالي 1/13.
11 في - ح - (كأن) .
12 انظر: ديوان القطامي ص 15 وفيه البيت، هكذا:
رميت المقاتل من فؤادي بعدما كانت جنوب تدينك الأديان.(3/730)
أي تذلك.
والدين لله إنما هو هذا، ومنه قولهم: فلان يدين بدين الإسلام، أو بدين اليهود، أي يعتقده وينطوي عليه.
وقد يكون الدين بمعنى الإنقياد والاستسلام، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلام} 1، وقد يكون الدين بمعنى الملة، ومنه قوله تعالى: {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} 2، أي الملة المستقيمة3.
وأما الكفر فأصله: التغطية:، يقال: كفرت الشيء أي غطيته، ومنه يقال: تكفر فلان بالسلام، أي تغطي به.
وسمي الليل كافراً لأنه يستر كل شيء ويغطيه. قال لبيد4 في الشمس:
حتى إذا ألقت يداً في كافر ... وأجن عورات الثغور ظلامها5
وأراد بذلك ألقت الشمس يدها في الليل.
وقال آخر يصف ظليما6ً ونعامة:
فتذكرا ثَقَلاً7رثيداً8 بعدما ... ألقت ذُكَاءُ يمينها في كافر9
__________
1 آل عمران آية (19) .
2 الروم آية (30) .
3 انظر: في هذه المعاني لسان العرب 2/1468، المفردات للراغب ص 175.
4 لبيد بن ربيعة بن عامر الكلابي أبو عقيل الشاعر المشهور أسلم زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: إنه وفد عليه في وفد بني كلاب توفي سنة 41هـ -. الإصابة 9/96.
5 انظر: البيت ضمن معلقة لبيد في شرح القصائد العشر ص 246.
6 الظليم: الذكر من النعام. اللسان 4/2760.
7 الثقل بفتح الثاء والقاف بيض النعامة المصون. انظر: اللسان 1/494.
8 رثيداً: مرتباً مرصوصاً. انظر: اللسان 3/1581.
9 عزاه في اللسان 5/1510، إلى ثعلبة بن صغير المازني يصف ظليماً ونعامة.(3/731)
وأراد بالثقل النبات، ورثيداً من صفات ارتوائه1، وذكاء هي الشمس ومنه يقال للصبح: ابن ذكاء لأن وضوءه من الشمس2.ومما يدل على أن الكفر التغطية قول الله تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} 3، والكفار هاهنا الزراع الواحد كافر، لأنه إذا زرع غطى بذره بالتراب، وسمي الكافر بالله كافراً لتغطية نعم الله بالجحود، وقيل: لأنه يستر بكفره الإيمان4.والشرك في اللغة مصدر أشركته في الأمر أشركه شركاً, ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} 5، أي نصيباً، وأراد باسم الولد أنهما سمياه عبد الحارث، فكان الشرك بالله هو أن يجعل له شركاً6.
واليهود سموا يهداً لأنهم انتسبوا ببعض الملوك إلى يهوذا بن يعقوب لأمر خافوه7، وسموا8 النصارى باسم القرية التي نزل فيه المسيح وهي ناصرة من أرض الجليل9.
__________
1 هكذا قال المصنف. وقد ورد في معنى ثقل بفتح الثاء وضم القاف قولهم: ثقل النبات تروت عيدانه، وكذلك ورد في رثد بفتح الراء وكسر الثاء والماء أي كدر. انظر: المعجم الوسيط 98 - 328، وهذا المعنى لم يذكره ابن منظور في معنى البيت، وإنما ذكر أن المراد به البيض المرتب المرصوص، والله أعلم.
2 ذكاء بضم الدال. انظر: اللسان 3/1510.
3 الحديد آية (20) .
4 انظر: هذه المعاني في لسان العرب 5/3867، والمفردات للراغب 433.
5 الأعراف آية (190) .
6 انظر: اللسان 4/2248، المفردات 259.
7 هكذا قال في المعجم الوسيط 998، ولم يذكر (لأمر خافوه) وعليه فيكون اسم اليهود أعجمي وليس عربي، وقال في اللسان: "سموا اليهود اشتقاقاً من هادوا أي تابوا". اللسان 6/4718.
8 هكذا في النسختين ولعلها (سما) .
9 انظر: اللسان 6/444، المعجم الوسيط 925.(3/732)
والفسق في اللغة: الخروج ماخوذ من قولهم فسقت الرطبة إذا خرجت عن قشرها، وسمي الفاسق في الدين فاسقاً لخروجه عن طاعة الله تعالى، قال الله تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} 1 أي عن طاعته2.
والمنافق هو من يدخل في الإسلام باللفظ ويخرج منه بالاعتقاد، وفي اشتقاقه ثلاثة أقوال:
أحدها: إنما سمي بذلك لأنه مأخوذ من النفق وهو السرب في الأرض قال الله تعالى: {نَفَقاً فِي الآرْضِ} 3، أي مدخلا تحت الأرض، والمنافق ستر كفره وغيبه فشبه بالذي يدخل وهو السرب.
والقول الثاني: إنما سمي به لأنه مأخوذ من نافقا اليربوع وهو جحره، لأن له جحراً يقال له النافقا وجحراً يقال له القاصعا، فإذا طلب من النافقا فضبح خرج من القعصاء فشبه باليربوع لأنه يخرج من الإيمان عن الوجه الذي يدخل فيه.
والثالث: إنما سمي بذلك لإظهاره غير ما يضمر تشبيهاً باليربوع، وذلك أنه يخرق الأرض حتى إذا كاد يبلغ ظاهر الأرض أرق التراب، فإذا رابه ريب رفع ذلك التراب برأسه فخرج فظاهر جحره تراب كالأرض وباطنه حفر، كذلك المنافق ظاهره إيمان وباطنه كفر4.
__________
1 الكهف آية (50) .
2 انظر: لسان العرب 5/3413.
3 الأنعام آية (35) .
4 انظر: في هذا اللسان 6/4508، المفردات 502.(3/733)
113- فصل
والإسلام في اللغة: هو الانقياد والاستسلام ومنه قوله تعالى: {وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} 1 أي المقادة2، وقوله تعالى: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 3 أي ينقادون لحكمك4 ويقال سلم واستسلم وأسلم إذا انقاد5.
والإيمان في اللغة هو التصديق لقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} 6 أي بمصدق لنا7،وقوله تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} 8,9 أي تصدقوا ويقال: فلان يؤمن بعذاب القبر والشفاعة، أي يصدق به10.واختلف الناس في الإسلام والإيمان هل هما شيئان أو شيء واحد:
فقال بعضهم: هما شيء واحد11.
__________
1 النساء آية (91) .
2 هكذا في النسختين والمراد (قيادهم) انظر: تفسير ابن جرير 15/199.
3 النساء آية (65) .
4 في الأصل بحكمك وما أثبت من - ح -.
5 انظر: اللسان 3/2080.
6 يوسف آية (17) .
7 انظر: لسان العرب1/141، تاج العروس 9/135.
8 في النسختين (ذلك إذا ذكر الله) وهو خطأ.
9 غافر آية (12) .
10 ذكر شيخ الإسلام وغيره أن الإيمان في اللغة ليس مرادفاً للتصديق وإن كان يأتي بمعناه. انظر: مجموع الفتاوى 7/290 - 293 شرح الطحاوية ص 380.
11هذا القول قال به محمد بن إسماعيل البخاري صاحب الصحيح، ومحمد بن نصر النرودي، وابن منده، وبه قال ابن عبد البر وقال: "وعلى هذا جمهور أصحابنا وغيرهم من الشافعية، وهو قول داود وأصحابه وأكثر أهل السنة". انظر: التمهيد لابن عبد البر 3/226، الإيمان لابن منده 1/321، لوامع الأنوار البهية 1/427، الفصل 3/226، وممن لا يفرق بينهما أيضاً المعتزلة وبعض الأشعرية إلا أن هؤلاء يختلف تفسيرهم للإيمان عن تفسير السلف، وسيأتي بين قولهم. انظر: شرح الأصول الخمسة ص 705، تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد ص 47.(3/734)
وقال آخرون: هما شيئان لا تواصل بينهما1.
وقال آخرون: هما شيئان بينهما ارتباط وتواصل2.
__________
1 لم يتبين لي القائلين بهذا القول لأن القائلين بالفرق بينهما يقولون بوجود ترابط بينهما.
2 القول بالفرق بين الإسلام والإيمان جاء عن ابن عباس والحسن البصري ومحمد بن سيرين والزهري وعبد الرحمن بن مهدي وابن أبي ذئب ومالك وشريك وحماد بن زيد والإمام أحمد، وبه قال ابن جرير وابن كثير وشيخ الإسلام ابن تيمية، وقال: "ولا علمت أحداً من المتقدمين خالف هؤلاء ولهذا كان عامة أهل السنة على هذا الرأي". انظر: الإيمان للإمام أحمد ورقة 101/أ، السنة لعبد الله 1/311، تفسير ابن جرير 9/26 - 28اعتقاد أهل السنة للالكائي 4/812 تفسير ابن كثير 4/419، الفتاوى 7/359.
وقد ورد عن القائلين بهذا القول عادة أقوال في بيان وجه الفرق بين مسمى الإسلام والإيمان:
القول الأول: قول الزهري وابن أبي ذئب وقول عن الإمام أحمد: "أن الإسلام الكلمة والإيمان العمل" انظر: للإمام أحمد ورقة 103/أ، السنة لعبد الله 1/351، ومعنى قول الزهري - والله أعلم - أن الإسلام يطلق على من أتى بالكلمة وهي الشهادتان فإنه يصح أن يقال عنه مسلم، أما الإيمان لا يكون إلا بالعمل. انظر: الفتاوى لشيخ الإسلام 3/358، فتح الباري1/76.
القول الثاني: قول حماد بن زيد، واللالكائي: "الإسلام عام والإيمان خاص". انظر: اعتقاد أهل السنة للالكائي 4/812، الإيمان منده 1/311، ولعل معنى قوله هنا - والله أعلم - أن الإسلام عام من ناحية أهله إذ كل من أتى بالشهادتين فهو مسلم، أما الإيمان فإنه خاص من ناحية أهله، لأن فيه شروطاً وهي العمل، وذكر ابن منده أن معنى قول حماد أن الإيمان خاص، أي أن معرفة الإيمان عند الله دون خلقه فهو خاص له إذ هو متعلق بالباطن وأن الإسلام عام، لأن الخلق يطلعون عليه إذ هو متعلق بالظاهر.
قلت: هذا التفسير لا يتفق مع النصوص الواردة في الإيمان والإسلام الشرعي، فإن الأعمال الظاهرة من الإيمان كما هو دون ثابت عن السلف، إلا إذا كان يقصد الإيمان القلبي والأعمال القلبية من الخوف والرجاء والتوكل التي هي أعظم شعب الإيمان.
القول الثالث: أن الإسلام والإيمان بينهما فرق وتلازم، فإنهما حيث اجتعما في كلام الشارع افترقا بالمعنى فصار الإسلام اسماً للأعمال الظاهرة والإيمان اسماً للأعمال الباطنة، كما في حديث جبريل. وإذا افترقا دخل أحدهما في الآخر كما في حديث وفد عبد القيس حيث فسر الإيمان بالأعمال الظاهرة، وكقوله تعالى: {إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ} فإنه يدخل فيه الإيمان.
وهذا أرجح الأقوال لأن فيه جمعاً بين النصوص التي جمع فيها بين ذكر الإسلام والإيمان والنصوص التي أفرد فيها أحدهما عن الآخر، وقد ذكر هذا القول جماعة من العلماء ورجحوه. انظر: قول الخطابي في معالم السنن بهامش مختصر أبي داود 7/49، وانظر: شرح مسلم للنووي وقول المصنف هنا "بينهما ارتباط وتواصل" يعني بذلك انه لا يصح إيمان إلا بإسلام ولا إسلام إلا بإيمان.
وقدشبه شيخ الإسلام التلازم والتباين بين افسلام والإيمان بالروح والبدن، فالروح شيء والبدن شيء، إلا أنه لا حياة للبدن بلا روح، والروح لا بد لها من بدن، فالإيمان كالروح، والإسلام كالبدن فهما متلازمان، إلا أن مسمى أحدهما غير الآخر الفتاوى 7/367.وقال الشارح الطحاوية موضحاً ارتباط الإسلام بالإيمان: "لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له إذ لا يخلو المؤمن من إسلام به يتحقق إيمانه ولا يخلو المسلم من إيمان يصح به إسلامه". شرح الطحاوية ص 392.(3/735)
واختلف الناس في الإيمان الشرعي أيضاً على ثلاثة مذاهب:
فذهب الأشعرية: إلى أن الإيمان الشرعي هو التصديق بالقلب لا غير1.
وذهب المرجئة: إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان بالشهادتين، وإن لم يعرف بقلبه من غير عمل2.
وقيل إن المرجئة يقولون: الإيمان هو القول باللسان والتصديق بالقلب من غير عمل3.
__________
1 هذا هو القول المشهور عنهم ونسبه البيجوري في تحفة المريد إلى محققي الأشعرية، وذكر قولا آخر وافق فيه بعض الأشعرية أبا حنيفة في إدخال القول بالإيمان.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن بعض متقدمي الأشاعرة يذهب إلى قول السلف في الإيمان كأبي علي الثقفي وأبي العباس القلانسي وأبي عبد الله بن مجاهد. انظر: تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد ص 42، أصول الدين للبغدادي ص 248، التمهيد للباقلاني ص 389، غاية المرام في علم الكلام للآمدي ص 309، الفتاوى 7/144.
2" القائلون بهذا من المرجئة الكرامية، ولا يعرف هذا القول لأحد قبلهم. انظر: مقالات الإسلاميين 1/223، الملل والنحل بهامش الفصل 1/144، الفرق بين الفرق ص 215.
3" هذا القول هو المشهور عن مرجئة الفقهاء وهم أبو حنيفة وأصحابه، ويوافقهم في هذا النجارية وبشر المريسي. انظر: مقالات الإسلاميين 1/219،الفرق بين الفرق ص 203 - 208 شرح الفقه الأكبر ص 68.(3/736)
وقالت الجهمية: الإيمان التصديق بالقلب لا غير1.
وذهب أهل الحديث وجماهير العلماء إلى أن الإيمان: هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان بالشهادتين والأعمال بالجوارح2،وأقل ما يقبل من الإيمان هو المعرفة التي لا تخالطها الشكوك3.
والإسلام عام والإيمان خاص4، والإيمان بعض الإسلام وهو أشرف
__________
1" المشهور عن جهم ومن اتبعه كأبي الحسين الصالحي أن الإيمان هو المعرفة فقط، والمعرفة المراد بها العلم والتصديق مرتبة زائدة على المعرفة. انظر: مقالات الإسلاميين 1/214، الفرق بين الفرق ص 211.
2" هذا قول السلف في تعريف الإيمان، وقد نقل عنهم الإجماع على ذلك ابن عبد البر فقال: "أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل ولا عمل إلا بنية، والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والطاعات كلها إيمان إلا ما ذكر عند أبي حنيفة وأصحابه، فإنهم ذهبوا إلى أن الطاعات لا تسمى إيماناً".انظر: التمهيد لابن عبد البر 9/238،وانظر: مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلىص 152، مقالات الإسلاميين 1/347،شرح العقيدة الطحاوية ص 372.
3" قول المصنف هنا "المعرفة" لعله يقصد به التصديق، لأن التصديق مرتبة زائدة على المعرفة إذ لا يجهل الله أكثر الكفرة وعلى رأسهم إبليس وفرعون وغيرهم، ومع ذلك لا يعدون مصدقين ولا مؤمنين، وقد ذكر الإمام أحمد أن المعرفة ليست هي التصديق، بل مرتبة أخرى في رسالته إلى أبي عبد الرحيم الجوزجازني فمما قال: "من زعم أن الإيمان الإقرار فما يقول في المعرفة؟ هل يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار. وهل يحتاج أن يكون مصدقاً بما عرف: فإن زعم أنه يحتاج إلى المعرفة مع الإقرار فقد زعم أنه من شيئين، وإن زعم أنه يحتاج أن يكون مقراً ومصدقاً بما عرف فهو من ثلاثة أشياء، فإن جحد وقال: لا يحتاج إلى المعرفة والتصديق فقد قال قولاً عظيماً، ولا أحسب أحداً يدفع المعرفة والتصديق كذلك العمل مع هذه الأشياء". انظر: الإيمان للإمام أحمد ورقة 104/أ، ونقلها شيخ الإسلام في الفتاوى 7/390.
فعلى هذا معنى كلام المصنف هنا أن أقل ما يقبل من الإيمان هو التصديق الذي لا يخالطه ريب ولا شك، إذ التصديق يقع فيه التفاوت بين الناس أيضاً، فإذا انحدر إلى الشك فقد كفر ولا يقبل منه عمل، لأن التصديق هو أصل الإيمان واعظم أجزائه، فإن صح صح به العمل، وإن فسد بالشك والريب لم يصح معه عمل، والله أعلم.
4" تقدم بيان معنى هذا القول في التعليق ص 735 وهو قول حماد بن زيد، وبه قال اللالكائي الذي ينقل عنه كثيراً المصنف - رحمه الله -.(3/737)
أجزائه1، فكل تصديق تسليم2 وليس كل تسليم تصديقا3،وكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً، والإسلام ظاهر الأمر، والإيمان باطنه4 وحقيقة الإسلام الطاعة قال الله تعالى: {وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} 5،أي مطيعين.
وقد ورد ذكر الإسلام الطاعة في الشرع على وجهين:
أحدهما: المراد به الإخلاص وهو قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ} وأراد به"أخلص" {قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 6 يعني فقل: أخلصت، ومثله قوله تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} يعني فقل: أخلصت يعني أخلصت ديني لله - إلى قوله تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا} ،7 والمراد أأخلصتم فإن أخلصوا8، ومثلها قوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ} 9.
__________
1" هذا القول لا يستقيم إلا على قول من يزعم أن الإيمان هو التصديق وهم الجهمية والأشاعرة ومن تابعهم، والمصنف - رحمه الله - قد أثبت أن الإيمان قول اعتقاد وعمل، وانتصر لهذا القول واستدل له فلا يستقيم هذا القول المذكور هنا مع ذلك، كما أن المصنف ذكر في أول الرسالة ما يناقض هذا حيث قال ص 19 "وأن الأيمان أعلى رتبة من الإسلام والإسلام بعض الإيمان" وهو قول صحيح متفق مع قول السلف.
2" معنى هذا القول أن كل من انقاد وأذعن في الظاهر مصدق بالباطن وهو ينطبق على المنافقين مصدقون إلا أنهم فرطوا بالإذعان والانقياد.
3" يعني بهذا أن ليس كل من انقاد وأذعن في الظاهر مصدق بالباطن وهو ينطبق على المنافقين الذين أظهروا الانقياد، وأضمروا الجحود والكفر.
4" قوله: "والإسلام ظاهر الأمر والإيمان باطنه" يصح في حالة اجتماع الإسلام والإيمان في كلام الشارع كما في حديث جبريل، أما إذا فترقا فإن الإيمان يدخل فيه الإسلام ويدخل الإسلام في الإيمان وقد تقدم بيان هذا في التعليق ص 735.
5 البقرة آية (128) وانظر كلام ابن جرير على معنى الآية 1/553.
6" البقرة آية (131) وقد ذكر ابن جرير المعنى المذكور هنا في تفسيره 5601.
7" آل عمران آية (20) .
8" انظر: هذا المعاني في تفسير ابن جرير 3/214.
9" لقمان آية (22) .(3/738)
الوجه الثاني: المراد به الإقرار، وهو قوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْض} 1 يعني أقر بالعبودية، وقوله تعالى: {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} يعني من الملائكة وقوله تعالى: {وَالأرْضِ} يعني المؤمنين {طَوْعاً} ثم قال {وَكَرْهاً} يعني أهل الأديان2يعلمون أن الله خلقهم لأن الله قال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 3، ومما ورد بذكر الإسلام والمراد به الإقرار باللسان قوله تعالى: {قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} 4، لأنهم أقروا باللسان ولم يصدقوا بقلوبهم5.
وقد ورد الشرع بذكر الإيمان مفرداً على أوجه:
__________
(1) آل عمران آية (83) .
2" ذكر هذا القول ابن جرير عن مجاهد وأبي العالية كما ذكر أقوالاً أخرى. انظر: تفسير ابن جرير 3/336، وذكر القرطبي أن معنى الآية استسلم وانقاد وخضع وذل وكل مخلوق فهو منقاد مستسلم لأنه مجبول على ما لا يقدر أن يخرج عنه فالقرطبي هنا أرجع معنى أسلم إلى الانقياد والخضوع. انظر: تفسير القرطبي4/127.
3" الزخرف آية (87) .
4" الحجرات آية (14) .
(5) القول المذكور هنا هو أحد القولين في الآية وقال به الإمام البخاري وابن عبد البر والقرطبي وغيرهم، ومعنى هذا أن هؤلاء غير مسلمين وإنما هم منافقون. انظر: فتح الباري 1/79، التمهيد 9/248، تفسير القرطبي 16/348 القول الثاني: أن هؤلاء الأعراب مسلمون وليسوا منافقين، وإنما ادعو الإيمان وهي مرتبة أعلى من الإسلام فعنفوا على هذا الادعاء، لأنهم لم يصلوا إلى هذه المرتبة، وقال بهذا الزهري وابن جرير. قال ابن كثير: "وهذا معنى قول ابن عباس وإبراهيم النخعي وقتادة". انظر: تفسير ابن جرير 26/89، تفسير ابن كثير 4/219.
والراجح من هذين القولين الثاني وذلك لعدة أدلة.(3/739)
أحدها: المراد به الإقرار باللسان لا غير، وذلك لما أخبر الله عن إيمان المنافقين مثل قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه} - إلى قوله: - {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّة} 1، والمراد به إقرارهم بألسنتهم دون تصديقهم بقلوبهم2.
والوجه الثاني: ما ورد والمراد به التصديق والأعمال كقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات} 3، وبقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ} 4 وما أشبهها مما وعد الله عليه الثواب والجزاء، فالمراد به التصديق باللسان والجوارح.
والوجه الثالث: ما ورد والمراد به التوحيد وذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} 5، والمراد بكفره بالتوحيد6، كقوله تعالى: {إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} 7 والمراد يدعون إلى التوحيد.
والوجه الرابع: ما ورد والمراد به به التصديق ببعض دون بعض كقوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 8 يعني مشركي العرب، لأنك إن سألتهم من خلقهم قالوا الله وهم يجعلون لله شركاء9، وأهل الكتاب
__________
1 المنافقون آية (2) .
2 هذه الآية ليس فيها ذكر للإيمان إنما ذكر الإيمان في الآية التي تليها وهي قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} ، فقد روى ابن جرير بسنده عن قتادة أنه قال في معناها "أقرو بلا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وقلوبهم منكرة تأبى ذلك"، وذكر القرطبي نحوه أيضاً. انظر: تفسير ابن جرير 28/107، تفسير القرطبي 18/125.
3 البقرة آية (25) .
4 التوبة آية (72) .
5 المائدة آية (5) .
6 انظر: هذا المعنى في تفسير ابن جرير 6/109.
7 غافر آية (10) .
8 يوسف آية (106) .
9 انظر: هذا المعنى في تفسير ابن جرير 13/77.(3/740)
يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون ببعض قال الله: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا ... } 1 يعني إيمانهم ببعض الكتب2 والرسل دون بعض3.
وورد ذكر الإيمان والإسلام في الشرع على سبيل الترادف والتوارد وعلى سبيل الاختلاف، فأما على سبيل الترادف فقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 4، ولم يكن فيها بالاتفاق إلا بيت واحد وهم أهل بيت لوط5، لقوله6 تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} 7 ومثلها قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} 8.
ومن السنة ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان "9.
__________
1 غافر آية (85) .
2 في - ح - الجملة هكذا (فلم يك ينفعهم إيمانهم يعمي لما رأو إيمانهم ببعض الكتاب) .
3 ليس في الآية ما يدل على هذا المعنى، وما ذكره المفسرون هو أن الإيمان لا ينفع وقت معاينة العذاب. انظر: تفسير ابن جرير 24/89، تفسير القرطبي 15/336.
4 الذاريات آية (35) .
5 هذا من أدلة من قال من العلماء إن الإسلام والإيمان مترادفان ولا فرق بينهما، وقد رد من قال بالفرق بينهما بأن الآية لا دليل فيها، لأن البيت المخرج كانوا متصفين بالإسلام والإيمان، ولا يلزم من الاتصاف بهما ترادفهما. انظر: شرح الطحاوية ص 395.
6 في الأصل (وقوله) وما أثبت من - ح - وهو الأصوب.
7 هود آية (81) .
8 يونس آية (84) ، وهذه الآية أيضا لا دليل فيها على الترادف فقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} أي صدقتم به وأقررتم له بالربوبية والألوهية ومعنى قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} أي مذعنين منقادين لأمره. انظر: تفسير ابن جرير 11/151.
9 أخرجه خ. كتاب الإيمان (ب. الإيمان وقول النبي صلى الله عليه وسلم بني الإسلام....) 1/8، م. كتاب الإيمان (ب. بيان أركان الإيلام (1/45 من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -.(3/741)
وروى ابن عباس "أن وفد عبد القيس لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإيمان فقال: أتدرون ما الإيمان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تطوا الخمس من المغنم"1.
وروي أنه فسر الإيمان بالخمس التي قال بني الإسلام عليها2.
وأما وروده على الاختلاف والتداخل3 فقوله تعالى: {قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} 4 فأراد بالإيمان هاهنا التصديق بالقلوب، لأنهم ادعوا ذلك فأخبر الله أنهم ليسو كذلك، وأمرهم بأن يقولوا أسلمنا ومعناه استسلامهم في الظاهر باللسان والجوارح5 بدليل قوله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} ، لأن هذه الآية نزلت
__________
1)) أخرجه ح. كتاب الإيمان (ب أداء الخمس من الإيمان) 1/16م. كتاب الإيمان (ب الأمر بالإيمان بالله ... ) 1/46.
2)) ورد هذا في رواية البيهقي في السنن الكبرى لحديث وفد عبد القيس حيث جاء فيه (أتدرون ماالإيمان: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن تقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتصوموا رمضان وتحجوا البيت الحرام قال: وأحسبه قال: وتعطوا الخمس من الغنائم ... " الحديث, السنن الكبرى 4/199، وهذه الرواية من طريق أبي قلابة الرقاش عن أبي زيد الهروي عن قرة بن خالد عن أبي حمزة عن ابن عباس، قال ابن حجر عن هذه الرواية: "إنها رواية شاذة"، ثم قال: "أبو قلابة تغير حفظة في آخر أمره فلعل هذا مما حدث به في التغير". فتح الباري 1/134.
3)) كلمة التداخل هنا لا معنى لها إذا التداخل دخول أحدهما في الآخر وهذا يصح في المذكور قبله وهو الترادف أما هنا فإن الاختلاف بينهما لا يجعل هناك تداخلاً إلا أن يكون الاختلاف خاصاً بالآية وحديث أبي برزة بعده - وخاصة أنه يفسر الإسلام هنا مع عدم التصديق والاختلاف والتداخل يكون في حديث جبريل والذي بعده إذ الإسلام لا بد له من تصديق يصححه والإيمان لا بد له من إسلام يصدقه.
(4) الحجرات آية (14) .
5)) تقدم بيان أن الصحيح أن هؤلاء ليسوا منافقين ص 739.(3/742)
بقوم من أعراب بني أسد بن خزيمة نزلوا المدينة وادعوا الإسلام وعلم الله منهم غير ذلك فقال: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} ، مخافة القتل والسبي1.
وروى أبو برزة2 السلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم تتبع الله عورته، ومن يتبع الله عروته يفضحه في بيته "3.
وروى عبد الله بن عمر عن أبيه - رضي الله عنهما - قال: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فألزق ركبته بركبته ووضع كفيه على فخذيه، ثم قال: أخبرني يا محمد عن الإسلام، وما الإسلام4؟ فقال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا
__________
1" انظر: تفسير ابن جرير 26/89، تفسير القرطبي 16/348.
2)) في - ح - (بريدة الأسلمي) .
3 أخرجه د. كتاب الأدب (ب في الغيبتة) 2/298، حم 4/421 - 424 واللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 4/813، ورجال اسناده ثقات ما عدا عبد الله بن سعيد بن جريج مولى أبي برزة ذكره ابن حبان في الثقات، وصحح له الترمذي حديثاً وقال فيه أبو حاتم: "مجهول"، وقال ابن حجر: "صدوق ربما وهم". انظر: التهذيب 4/52، التقريب ص 123. وللحديث شواهد: منها: حديث ابن عمر أخرجه ت. كتاب البر والصلة (ب تعظيم المؤمن) 4/378.وقال: "حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسين بن واقد"، ومنها أيضاً حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عند الطبراني في الكبير 11/186، وفي إسناده إسماعيل بن شية الطائفي قال الذهبي: "واه". انظر: الميزان 1/233، ومنها أيضاً حديث بريدة بن الحصيب - رضي الله عنه - عند الطبراني في الطبير 2/21 قال الهيثمي: وفيه رميح بن هلال الطائي. قال أبو حاتم: "مجهول ولم يرو عنه غير أبي ثميلة يحيى بن واضح"، مجمع الزائد 8/94 ومنها حديث البراء - رضي الله عنه - عزاه الهيثمي إلى أبي يعلى الموصلي في مسنده وقال: "رجاله ثقات". مجمع الزوائد 8/93.
4 قوله: "وما الإسلام" هكذا في النسختين وليست في شيء من روايات الحديث.(3/743)
فقال: صدقت قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: "فأخبرني عن الإيمان قال: تؤمن بالله وملائكته وكته ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال فأخبرني عن الساعة قال: "ما المسئول عنها بأعلم من السائل. قال عمر: فلبثنا ملياً، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمر أتدري من السائل فقلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم"1.
وروى سعد - رضي الله عنه - "أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم قسْما فأعطى ناساً ومنع آخرين، فقلت: يا رسول الله أعطيت فلاناً وفلاناً ومنعت فلاناً وهو مؤمن فقال: لا تقل مؤمن بل مسلم. وروي في هذا أنه قال صلى الله عليه وسلم: أو مسلم فأعدته عليه ثلاثاً وهو يقول: أو مسلم"2.
وروي " أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الأعمال أفضل، فقال صلى الله عليه وسلم الإسلام فقيل: أي الإسلام أفضل فقال: الإيمان"3.
وروي عن الحسن البصري وابن سيرين أنهما كانا يهابان أن يقولا مؤمن ويقولان مسلم4.
__________
1 أخرجه م. كتاب الإيمان (ب بيان الإسلام والإيمان) 1/36، وأخرجه خ. كتاب الإيمان (ب سؤال جبريل عن الإيمان) 1/15من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
2 أخرجه خ. كتاب الإيمان (ب. الدين عند الله الإسلام) 1/11، م. كتاب الإيمان (ب تأليف قلب من يخاف على إيمانه) ا/132،واللفظ الأول قوله: "لا تقل مؤمن بل مسلم" هو عند النسائي كتاب الإيمان (ب تأويل قوله تعالى (قالت الأعراب آمنا) 8/104.
3 هذا قطعة من حديث عمرو بن عبسة - رضي الله عنه - أخرجه حم 4/114، وعزاه الهيثمي إلى الطبراني في الكبير مجمع الزوائد 1/59، وليس هو في المطبوع من المعجم، ورجال الحديث ثقات، إلا أن أبا قلابة لم يسمع من عمرو. انظر: تهذيب الكمال 2/1041، وأخرجه اللالكائي 5/931، من رواية أبي قلابة عن رجل من أسلم عن أبيه وفيه رجل مجهول.
4 أخرجه اللالكائي 4/815.(3/744)
وفي جميع ما ذكرته دليل على أن الإسلام اسمه عام والإيمان أخص منه1.قال الله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} 2 فثبت الإيمان بالتوبة وهو الإقرار باللسان والتصديق بالقلب وبعمل الشرائع في الجواح3 على موافقة سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان التسليم بالقلب ثمرة التسليم باللسان والجوارح4، فإذا عبر بالإيمان عن تسليم القلب فكأنه عبر عن ثمرة الإيمان5 وإذا عبر بالإسلام عن تسليم اللسان والجوارح والقلب كان جائزاً كما يطلق اسم الشجرة على الشجرة وثمرها.
ومما يدل على أن الصلاة من الإيمان6 أن القبلة لما حولت من بيت المقدس إلى الكعبة قالت الصحابة - رضي الله عنهم - كيف بإخواننا الذين ماتوا وهو يصلون إلى بيت المقدس، فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} 7، 8 واللام في ليضيع لام الجحود نصب به الفعل المستقبل، وأراد بالإيمان هاهنا صلاتهم إلى بيت المقدس.
ومن الدليل على ما ذكرناه ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: "إن الله بعث نبيه محمداً عليه السلام بشهادة أن لا إله إلا الله فلما صدق به المؤمنون زادهم الصلاة، فلما صدقوا زادهم
__________
1 تقدم بيان هذا ص 735.
2 طه آية (82) .
3 في - ح - (وبعمل الجوارح) .
4 الصحيح أن عمل الجوارح ثمرة التسليم بالقلب إذ هو الملك متى صلح صلح الجسد كله ومتى فسد فسد الجسد كله.
5 الأولى أن يقول (عبر عن أصل الإيمان وأساسه) لما تقدم من أن الاعتقاد هو الأساس وعمل الجوارح تبع للقلب في ذلك.
6 ابتدأ المصنف بالرد على طوائف المرجئة.
7 البقرة آية (143) .
8 أخرجه خ. كتاب الإيمان (ب الصلاة من الإيمان) 1/13 من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه -(3/745)
الصيام، فلما صدقوا زادهم الزكاة فلما صدقوا بها زادهم الحج، فلما صدقوا به زادهم الجهاد، ثم أكمل لهم دينهم فقال عزوجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً} 1،2.
وقيل: إن أول ما فرض الله عليهم من الصلوات ركعتان بالغداة وركعتان بالعشي، ثم فرضت الصلوات الخمس بمكة ليلة المعراج3.
قالت عائشة - رضي الله عنها -: كان المعراج قبل الهجرة بثمانية عشر شهراً4، وفرضت الزكاة بالمدينة، وصوم رمضان بعد الهجرة في السنة الثانية في شعبان، وفرض الحج في سنة تسع، فلما حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع سنة عشر نزلت هذه الآية يوم عرفة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً} 5، وهي أخر آية نزلت في التحليل والتحريم، وعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها إحدي وثمانين ليلة6، ثم توفي يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول.
وروي أن رجلاً سأل سفيان الثوري7 عن الإيمان فقال: "الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، فقال الرجل: كيف نصنع بقوم عندنا يزعمون أن
__________
1 المائدة آية (3) .
2 أخرجه الآجري في الشريعة ص 102، واللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة مطولاً 5/896 ولفظه فيه نكارة حيث جعل الجهاد آخر الفرائض، مع أن فرضيته متقدمة على الحج، والرواية من طريق علي بن أبي طلحة، وهو لم يلق ابن عباس. وقال ابن حجر عنه: "صدوق قد يخطئ". انظر: التقرييب ص 247.
3 ذكر هذا ابن حجر وعزاه إلى الحربي. انظر: فتح الباري 1/464 وقد ثبت عن عائشة - رضي الله عنها - قولها "فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر". أخرجه خ. في الصلاة 1/66،م. صلاة المسافرين 1/478.
4 لم أقف على من عزا إليها هذا، وإنما الذي ذكره ابن الجوزي عنها أنها قالت: "إن الإسرار وقع ليلة سبع عشرة من ربع الأول قبل الهجرة بسنة". الوفاء في أحوال المصطفى 1/349.
5 المائدة آية (3) .
6 ذكر هذا ابن جريج رواه عنه ابن جرير في تفسيره 6/81.
7 هكذا في النسختين والرواية عند الآجري وابن بطة عن سفيان بن عيينة.(3/746)
الإيمان قول بلا عمل، فقال سفيان: كان هذا قبل أن تنزل أحكام الإيمان وحدوده، إن الله عز وجل بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة أن يقولوا لا إله إلا الله وأنه رسول الله، فإذا قالوها عصموا دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله، فلما علم صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالصلاة فأمرهم ففعلوا، والله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول، فلما علم الله صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمره بالهجرة إلى المدينة، فأمرهم ففعلوا، والله لو لم يفعلوا ما نفعهم إقرارهم الأول ولا صلاتهم، فلما علم الله صدق ذلك من قلوبهم أمرهم بالرجوع إلى مكة فيقاتلوا آباءهم وأبناءهم حتى يقولوا كقولهم ويصلوا صلاتهم ويهاجروا كهجرتهم، فأمرهم ففعلوا حتى أتى أحدهم برأس أبيه، فقال: يا رسول الله هذا رأس الشيخ الكافر، والله لو لم يفعلوا ما نفعهم إقرارهم الأول ولا صلاتهم ولا مهاجرتهم، فلما علم الله صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالطواف بالبيت تعبداً وأن يحلقوا رؤوسهم تذللاً ففعلوا، والله لو لم يفعلوا ما نفعهم إقرارهم الأول ولا صلاتهم ولا مهاجرتهم ولا قتلهم آباءهم، فلما علم الله صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم بها ولا مهاجرتهم ولا قلتهم آباءهم ولا طوافهم، فلما علم الله الصدق من قلوبهم فيما تتابع عليهم من شرائع الإيمان وحدوده قال عزوجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً} . قال سفيان: "فمن ترك خلة من خلال الإيمان جاحداً كان بها عندنا كافراً، ومن تركها كسلاً وتهاوناً أدبناه وكان بها عندنا ناقصاً، هكذا السنة أبلغها عني من أسلك من الناس"1.
__________
1 أخرجه الآجري في الشريعة عن محمد بن عبد الملك المصيصي عن سفيان بن عيينة ص 103، وابن بطة في الإبانة الكبير 2/630.(3/747)
وروي "أن رجلاً من اليهود قال لعمر - رضي الله عنه -: يا أمير المؤمنين لو علينا أنزلت هذه الآية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} الآية لا تخذنا ذلك اليوم عيداً. فقال عمر - رضي الله عنه -: "إني لأعلم أي يوم أنزلت هذه الآية، أنزلت يوم عرفة في يوم جمعة ونحن بعرفات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم"1.
ومن الدليل على ما ذكرنا ما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إلا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان "2، فجعل إماطة الأذى والحياء من الإيمان.
وروى ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا إيمان إلا بعمل ولا عمل إلا بإيمان"3.
وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من ولده والده والناس أجمعين"4.
وروى أنس - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن
__________
1 أخرجه خ. كتاب الإيمان (ب زيادة الإيمان ونقصانه) 1/14 عن طارق بن شهاب.
2 أخرجه خ. كتاب الإيمان (أمور الإيمان) 1/9، مختصراً وليس فيه شك في قوله: "أو بضع وسبعون"، م. كتاب الإيمان (ب بيان عدد شعب الإيمان) 1/63 مثله.
3 أخرجه اللالكائي 4/840 وفي إسناده عبد الله بن أيوب، وذكر في الميزان عبد الله بن أيوب بن أبي علاج. قال: "متهم بالوضع كذاب"، وذكر آخر هو عبد الله بن أيوب بن زادان الغربي، قال الدارقطني: "متروك" 20/394 وعزاه الهيثمي إلى الطبراني في الكبير ولفظه "لا يقبل إيمان ... " وقال: "في إسناده سعيد بن زكريا اختلف في ثقته وجرحه". مجمع الزوائد 1/35. قلت: وليس هو في المطبوع.
4 أخرجه خ. كتاب الإيمان (ب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان) 1/9م. كتاب الإيمان (ب وجوب محبة النبي صلى الله عليه وسلم) 1/67.(3/748)
يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يرجع في الكفر كما يكره أن توقد نار فيقذف فيها"1.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"2.
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت"3.
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم افشوا السلام بينكم"4.
عن أبي أمامة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الإيمان فقال: "فمن سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن"5.
__________
1 أخرجه خ. كتاب الإيمان (ب حلاوة الإيمان) 1/9، م. كتاب الإيمان (ب خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان) 1/66، واللفظ المذكور هنا رواية اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 5/914.
2 أخرجه خ. كتاب الإيمان (ب من الإيمان أن يحب لأخيه..) 1/9، م. كتاب الإيمان (ب من خصال الإيمان أن يحب..) 1/67 من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه -.
3 أخرجه خ. كتاب الأدب (ب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ... ) 8/10، م. كتاب الإيمان (ب الحث على إكرام الجار ... ) 1/66.
4 أخرجه م. كتاب الإيمان (ب لا يدخلالجنة إلا امؤمنون) 1/74، ت. كتاب الاستئذان (ب ما جاء في إفشاء السلام) 5/52 وقال: "حسن صحيح"، د. كتاب الأدب (ب إفشاء السلام) 2/342، جه. في المقدمة (ب في الإيمان) 1/26، حم 2/491 - 512.
5 أخرجه حم 5/251 - 252 - 256، والحاكم كتاب الإيمان 1/14 عن أبي أمامة - رضي الله عنه - وقال: "صحيح متصل على شرط الشيخين" وافقه الذهبي، ولفظ الحديث عندهما "أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: ما الإيمان قال: إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت مؤمن"، وقد ورد لهذا الحديث عدة شواهد عن عبد الله بن عمر عن أبيه - رضي الله عنهما - أخرجه ت. كتاب الفتن (ب. ما جاء في لزوم الجماعة) 4/466 وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه، وقد روي من غير وجه عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وله شاهد آخر من حديث عامر بن ربيعة أخرجه حم. 3/446 وفي إسناده عاصم بن عبد الله بن عاصم بن عمر، قال عنه في التقريب: "ضعيف" انظر: ص 159 من التقريب، وله شاهد أيضا من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أخرجه حم.
4/398، والحاكم في كتاب الإيمان 1/13، وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي(3/749)
وروى أنس - رضي الله عنه - قال: "ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال: لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له"1.
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والله لا يؤمن والله لا يؤمن، قال: وما ذاك؟ قال: جار لا يأمن جاره بوائقه" أخرجه البخاري2.
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تمام إيمان العبد أن يستثني في كل حديثه"3.
وروى أبو قلابة عن رجل من أسلم عن أبيه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيكم يسلم4، قال، قلت يا رسول الله وما الإسلام؟ قال: أن تسلم لله عز وجل ويسلم المسلمون من لسانك ويدك، قال: فأي الإسلام أفضل؟ قال: الهجرة قال: وما الهجرة؟ قال: أن تهجر السوء، قال: فأي الهجرة أفضل؟ قال: الجهاد، قال: قلت وما الجهاد؟ قال: أن تجاهد الكفار إذا
__________
1 تقدم تخريجه في (701) .
2 أخرجه في كتاب الأدب (ب اثم من لا يأمن جاره بوائقه) 8/10.
3 أخرجه اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 5/930 وعزاه الهيثمي إلى الطبراني في الأوسط، مجمع الزوائد 4/182، وذكره في مسند الفردوس. انظر: فردوس الأخبار ص 303 والحديث من طريق معارك بن عباد القيسي عن عبد الله بن سعيد المقبري عن أبي هريرة به، وقد أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات وقال: "لا يصح"، قال البخاري: "معارك بن عباد منكر الحديث"، وقال يحيى ابن معين عن عبد الله بن سعيد المقبري: "ليس بشيء ولا يكتب حديثه". الموضوعات 1/135، وذكره الذهبي في الميزان في ترجمة معارك وقال: "هذا الحديث باطل". انظر: الميزان 4/134.
4 هكذا في النسختين وعند اللالكائي "قال النبي صلى الله عليه وسلم".(3/750)
لقيتهم ولا تغل ولا تجبن، قال: ثم عملان وهما من أفضل الأعمال وأكملها ثلاث مرات: حجة مبرروة أو عمرة" 1.
وروى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه حيث كان"2.
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر بالقلب وصدقه والعمل، والذي نفسي بيده لا يدخلن الجنة أحد إلا بعمل يتقنه قالوا: يا رسول الله وما يتقنه؟ قال: يحكمه"3. وفيما ذكرته من الأخبار دليل على أن الإيمان أخص من الإسلام وهو
__________
1 أخرجه اللالكائي شرح اعتقاد أهل السنة 5/931 وسنده ضعيف لجهالة الذي روى عنه أبو قلابة، وقد روى الإمام أحمد في المسند 4/114 من حديث أبي قلابة عن عمرو بن عبسة - رضي الله عنه - قال: "قال رجل يا رسول الله: ما الإسلام؟ قال: أن تسلم قلبك لله عز وجل وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك" ... فذكره نحوه، وعزاه الهيثمي إلى الطبراني في الكبير مجمع الزوائد 1/59 وليس هو في المطبوع من المعجم، ورجال الحديث ثقات إلا أن فيه انقطاعاً لأن أبا قلابة لم يسمع من عمرو بن عبسة وهو مدلس أيضاً. انظر: تهذيب الكمال 2/1041.
2 أخرجه اللالكائي في السنة 5/933 من رواية عروة بن رويم اللخمي عن عبد الرحمن بن غنم عن عبادة بن الصامت به. وكذلك أخرجه أبو نعيم في الحلية 6/124 وقال غريب من حديث عروة لم نكتبه إلا من حديث محمد بن مهاجر، واخرجه الطبراني في الأوسط وقال: لم يروه عن عروة إلا محمد بن مهاجر تفرد به عثمان بن سعيد بن كثير. معجم الطبراني الأوسط ورقة 429/أج2 مصور في مكتبة الشيخ حماد الأنصاري والحديث رواته ثقات وإسناده جيد إلا أن عروة بن رويم يرسل عن عبد الرحمن بن غنم. انظر: التهذيب 7/179.
3 أخرجه اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 4/839، وابن عدي في الكامل 6/2290 وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن بحير (مجبر) بن عبد الرحمن قال ابن عدي: "روى عن الثقات بالمناكير وعن أبيه عن مالك بالبواطيل".
قلت: وهذه الرواية من طريق أبيه عن مالك. قال الذهبي: "قال ابن يونس ليس بثقة"، وقال الخطيب: "كذاب". انظر: ميزان الاعتدال 3/621.(3/751)
بعض منه1. والإسلام المأمور به بقوله تعالى: {فَلَهُ أَسْلِمُوا} 2 وما يستحق به الثواب بالآخرة هو أعم من الإيمان3.
وقد يقع الإسلام على من أتى بلفظ الشهادتين وإن لم يصدق بقلبه، ويستفيد بذلك عصمة دمه وماله في الدنيا لقوله صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" 4.
ولهذا قال الله تعالى: {قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} ومن فرق من العلماء بين الإسلام والإيمان فمرادهم هو هذا5.
__________
1 ليس في الأدلة المذكورة ما يدل على قول المصنف هذا، بل هي دليل على أن الإيمان عام دخل فيه جميع الطاعات التي تكون بالقلب والجوارح، وانظر: ما تقدم ص 737.
2 الحج آية (34) .
3 هذا ليس أعم من الإيمان، وإنما هو والإيمان هنا شيء واحد لا فرق بينهما، وهذا على ضوء التحقيق المتقدم عن بعض العلماء ص 735 أن لفظ الإسلام والإيمان إذا افترقا دخل أحدهما في الآخر.
4 أخرجه خ. كتاب الزكاة (ب وجوب الزكاة) 2/91، م كتاب الإيمان (ب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) 1/51 من حديث أبي هريرة وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - والحديث ليس فيه دليل على أن الإسلام يطلق على من أتى بالشهادتين بدون تصديق القلب، فإن هذا نفاق ولا يسمى إسلاماً، وإنما النطق بالشهادتين هو مفتاح الدخول في الإسلام، ولم نؤمر بالتنقيب عن قلوب الناس إنما من قالها قبلت منه إلا أن يظهر منه ما يخالف مدلولها، لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد لما قتل رجلاً "أقال لا إله إلا الله وقتلته قال: إنما قالها خوفاً من السلاح قال: أفلا شققت عن قلبه لتعلم أقالها أم لا"، أخرجه م. كتاب الإيمان 1/96، وهو عند البخاري بغير هذا اللفظ فهذا دليل على أن الشهادة تقبل منه إذ لا يعلم ما في القلوب إلا الله، أما من اختلف باطنه عن ظاهره بحيث أخفى الكفر وأظهر الإسلام فإنه منافق ولا يسمى مسلماً، وقد رد الله عز وجل على المنافقين شهادتهم في قوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} المنافقون آية (1) ، فلم يقبل منهم ولم يصفهم بالإسلام، إذ من شرط الإسلام تصديق القلب ونطق الشهادتين، أما الآية المذكورة {قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا} الحجرات: من الآية (14) فقد تقدم بيان أن الراجح أنهم ليسوا منا فقين ص 739.
5 تقدم بيان أن قول العلماء في التفريق بين الإسلام والإيمان ووجه الفرق بينهما في أقوالهم ص 734.(3/752)
روي عن حماد بن زيد أنه كان يفرق بين الإسلام والإيمان، ويجعل الإسلام عاماً والإيمان خاصاً1.
وروي عن أحمد بن حنبل أنه كان يفرق بين الإسلام والإيمان2. وروي عن الحسن وابن سيرين أنهما كانا يهابان أن يقولا مؤمن ويقولان مسلم3.
فالكفر4 الذي هو الجحود هو ضد الإسلام، وهو مبيح للدم والما، ويستحق به التخليد في النار، ويسمى من ترك الصلاة كافراً.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة فمن تركها فهو كافر "5.
وروي أن عمر - رضي الله عنه - لما طعن أخذته غشية، فقال بعض الصحابة: إنكم لن تفزعوه إلا بالصلاة فقالوا: الصلاة يا أمير المؤمنين، قال: ففتح عينيه وقال: أصلي الناس؟ قلنا: نعم قال: أما إنه لاحظ في الإسلام لأحد أضاع الصلاة، ثم صلى وجرحه يثعب دماً"6.
وكذلك روي عن علي وابن مسعود وابن عباس وأبي الدرداء - رضي الله عنهم - أنهم قالوا: "من ترك الصلاة فقد كفر"7، وهذا حجة لمن قال العمل من الإيمان.
__________
1 أخرجه عنه اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 4/814.
2 أخرجه عنه اللالكائي 4/815، وانظر: مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى الحنبلي ص 426 - 428 في قول الإمام أحمد في الفرق بين الإسلام والإيمان.
3أخرجه اللالكائي 4/815 ومعنى هذا أنهما كانا يخافان أن يصفا أنفسهما بالإيمان لما فيه من التزكية، وخشية أن لا يكونا قد أتيا بالعمل على الوجه المطلوب. أما الإسلام فهو متحقق بالشهاديتين فلهذا لا يهابان من الوصف به.
4 هكذا في النسختين والأولى أن يكون (بالواو) .
5 أخرجه م. كتاب الإيمان (ب إطلاق اثم الكفر على ترك الصلاة) 1/88، ت. كتاب الإيمان (ب. ما جاء في ترك الصلاة) 1/342 كلهم من حديث جابري - رضي الله عنه - وليس في شيء من الروايات قوله "فمن تركها فهو كافر".
6 أخرجه اللالكائي 4/825 وبنحوه أخرجه الآجري في الشريعة ص 143.
7 انظر: هذه الروايات عند اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة 4/826 - 829، وابن بطة في الإبانة 2/678 - 680.(3/753)
وقد اختلف العلماء فيمن ترك الصلاة عامداً مع اعتقاده وجوبها:
فمنهم من قال: إنه يحكم بكفره ويجب عليه القتل في الدنيا واحتجوا بهذه الأخبار.
ومنهم من قال: يجب قتله ولا يحكم بكفره، وتأولوا هذه الأخبار على أن أحكامه أحكام الكفار في القتل.
ومنهم من قال: لا يقتل ولا يحكم بكفره، وتأولوا هذه الأخبار على من تركها جاحداً لوجوبها1. والفسق اسم ذم وهو ضد الإيمان يقع على من فسق بالاعتقاد والجحود فيكون كافراً، هو المراد بقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} 2، وقال في آية أخرى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ، يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ، وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدكُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} 3 وقال
__________
1 عزا ابن القيم - رحمه الله - القول الأول إلى أبي هريرة وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وعمر ابن الخطاب، وبه قال سعيد بن جبير وعامر الشعبي وإبراهيم النخعي وأبو عمرو الأوزاعي وأيوب السختياني وعبد الله بن المبارك وإسحاق بن راهويه وعبد الملك بن حبيب من المالكية وأحد الوجهين في مذهب الشافعي ورواية عن الإمام أحمد.
أما القول الثاني وهو أنه يقتل حداً لا كفراً فهو قول مالك والشافعي.
أما القول الثالث وهو أنه لا يقتل ولا يحكم بكفره فقال به ابن شهاب الزهري وسعيد بن المسيب وعمر بن العزيز وأبو حنيفة وداود بن علي والمزني، وقال هؤلاء: يحبس حتى يموت أو يتوب ولا يقتل. كتاب الصلاة لابن القيم ضمن مجموعة الحديث النجدية ص 482 - 496، وانظر: الفصل لابن حزم 3/229.
2 السجدة آية (20) .
3 الحج آية (19 - 22) ولم يرد في الآية ذكر للفاسق، ولعل مراد المصنف أن الوصف الذي حصل في آية السجدة كالوصف الموجود هنا في آية الحج.(3/754)
فيهم {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 1 وقال في آية أخرى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ} 2، وفي جميع هذا المراد بالفسق الكفر
وقد يقع الفسق على من ارتمب المعاصي من الموحدين مع علمه بتحريمها، فهذا عندنا لا يخرجه من الإيمان بل هو مؤمن بإيمانه فاسق بفسقه3 لا يخلد في النار بذلك، خلافاً للمعتزلة والقدرية وبهذه المسألة سموا معتزلة: وذلك أن واصل بن عطاء رئيس المعتزلة كان من أصحاب الحسن ابن أبي الحسن البصري، وكان ممن لا يلازم مجلسه فوجد الناس قائلين فيها: فأهل الحديث قالوا هو مؤمن بإيمانه فاسق بفسقه لا يضاد فسقه الذي ليس بكفر إيمانه الذي في قلبه، وإن كان ينقص من دينه إلى ما هو دونها ولا ينزلون جنة ولا نار، بل إن عذبه الله بفسقه وإن عفى عنه فبفضله وإحسانه4.
وقالت الخوارج: بل كل من ارتكب ذنباً صغيراً كان أو كبيراً خرج به من الإيمان إلى ضده وهو الكفر ويخلد في النار5.
فأحدث واصل بين عطاء قولا ثالثا وقال: أقول إنه فاسق ولا أسميه مؤمنا ولا كافرا ويخلد في النار، فأخرجه الحسن من مجلسه، واعتزله فسمي معتزليا لاعتزاله عما عليه كافة الأمة6.
__________
1 النور آية (55) .
2 النساء آية (145) ، والمراد هنا أن المنافقين في الظاهر مسلمون وهم في الحقيقة فساق وفسقهم فسق كفر وعقوبتهم أنهم في الدرك الأسفل من النار.
3 في - ح - (لا يخلد بالنار بذلك لا يضاد) وليست في الأصل.
4 تقدم قول أهل السنة في مرتكبي الكبيرة ص 666.
5 تقدم قول الخوارج في مرتكبي الكبيرة ص 668.
6 هذا ما يسميه المعتزلة ب - (المنزلة بين المنزلتين) وهو الأصل الرابع من أصولهم. انظر: شرح الأصول الخمسة - ص 697، وقد تقدم بيان هذا ص 68 وواصل بن عطاء، هو الغزال المتكلم توفي سنة 131هـ -. ميزان الاعتدال 4/329.(3/755)
والدليل على بطلان قولهم قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} 1، فسماهم مؤمنين بعد اقتتالهم، وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} 2 وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} 3 الآية، فسماهم مؤمنين مع إنكاره عليهم لما فعلوه، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} 4 الآية.
واحتجت الأشعرية ومن قال إن الإيمان هو التصديق بالقلب لا غير5 بقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} أي بمصدق لنا، وبقول الناس: فلا يؤمن بعذاب القبر وبالشفاعة وما أشبهها، وأراد به التصديق.
والجواب: أنا لا ننكر أن هذا حد الإيمان، في اللغة6. وأما في الشرع فهو أشرف خصال الإيمان ولا يمتنع أن يكون للشيء اسم في اللغة واسم في الشرع، وإذا ورد في الشرع به فإنه يجب حمله على ما تقرر اسمه في الشرع كالصلاة فإنها في اللغة المراد بها الدعاء، وهي في الشرع عبارة عن هذه الأفعال المشروعة في الصلاة، وكذلك الصيام فهو في اللغة اسم للإمساك عن جميع الأشياء، وهو في الشرع اسم للإمساك عن أشياء مخصوصة، والزكاة في اللغة اسم للزيادة، وهي في الشرع اسم لأخذ شيء من المال، والحج في اللغة القصد، وهو في الشرع اسم لهذه الأفعال المشروعة، والغائط في اللغة اسم للموضع المطئمن، وفي الشرع اسم لما يخرج من
__________
1 الحجرات آية (9) .
2 الصف آية (3) .
3 الحجرات آية (2) .
4 الممتحنة آية (1) .
5 انظر: التعليق (1) ص 736.
6 تقدم التعليق على هذا ص 734.(3/756)
الإنسان1، وإذا أورد الشرع بشيء من هذه الأشياء فإنما يحمل على ما تقرر في الشرع لا على مقتضاه في اللغة.
واحتجت المرجئة ومن قال إن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالقلب دون الأعمال2 بالأخبار المشهورة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله محمد رسول الله دخل الجنة" 3.
وبما روى عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله حرم على النار"4.
والجواب عن هذه الأخبار من وجهين:
أحدهما: أن نقول كما قال الزهري: "الأخبار كانت قبل نزول الفرائض والأمر والنهي"5.
__________
1 الصحيح أنه في العرف إذ ليس تحديده في هذا المعنى وارد عن الشرع، بل هو في عرف اللغة، والشرع ذكره على ما هو معروف به عند أهل اللغة.
2 تقدم بيان القائلين بهذا ص 736.
3 أحرجه د. (كتاب الجنائز ب في التلقين) 2/57، حم 5/233 - 247، والحاكم في المستدرك كتاب الجنائز 1/351 وفي كتاب الدعاء 1/500 وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد لم يخرجاه" ووافقه الذهبي - كلهم من حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه - ورمز له السيوطي بالصحة بالجامع الصغير انظر: مع فيض القدير 6/206، والألباني في صحيح الجامع 5/342 وليس في شيء من هذه الروايات قوله: "محمد رسول الله".
4 أخرجه م. كتاب الإيمان (ب من مات على التوحيد دخل الجنة) 1/58،ت. كتاب الإيمان (ب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله) 1/17 وقال: "حسن صحيح غريب من هذا الوجه"، حم 5/318.
5 أخرج هذا الأثر عنه الآجري في الشريعة ص 146 بسنده عن عطاء بن السائب عنه قال: قال لي عبد الملك بن مروان الحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة وإن زنا وإن سرق" قال، فقلت له: أين يذهب بك يا أمير المؤمنين؟ هذا قبل الأمر والنهي، وقبل الفرائض".
كما روى أيضا الآجري في الشريعة ص 144 هذا القول عن الضحاك بن مزاحم وعزاه النووي في شرح مسلم 1/219 إلى ابن المسيب وقد رد هذا التأويل النووي، وكذلك الحافظ في الفتح 1/226لأن بعض هذه الأحاديث الواردة في دخول الجنة لمن مات على التوحيد وردت من طريق أبي هريرة كحديث مسلم "من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها قلبه فبشره بالجنة" الحديث كتاب الإيمان 1/60 وأبو هريرة - رضي الله عنه - متأخر الإسلام بعد نزول الفرائض.(3/757)
والثاني: أن نقول هذا خبر عما يؤول إليه أمر الموحدين بأن الله سيدخل الموحدين الجنة، وإن عذبهم فبذنوبهم ولا يخلدون في النار1 كما قالت الخوارج والمعتزلة والقدرية. وقد أخبر الله سبحانه في القرآن أنه إنما يدخل العباد الجنة بالإيمان والعمل في آيات كثيرة منها في البقرة قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ} 2، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} 3 وقوله تعالى في آل عمران: {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} 4، وفي النساء قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} 5 وقوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} 6، وفي المائدة قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
__________
1 هذا القول الثاني من أقوال العلماء في هذه الأحاديث وما كان في معناها، وقد ذكر العلماء أقوالاً أخرى في هذا، منها ما ذكره النووي في شرح مسلم عن القاضي عياض أن الحسن البصري قال: "معناه: من قال الكلمة وأدى حقها وفريضتها. وهذا ما ذكره صاحب كتاب تيسير العزيز الحميد واستحسنه، وعزاه إلى شيخ الإسلام وابن القيم وابن رجب والقاضي عياض، ومنها أنه قيل: إن ذلك لمن نطق بالشهادتين حال الندم والتوبة ومات على ذلك، ومنها أنه قيل: إن ذلك خاص فيمن نطق بها عند الموت وكانت آخر كلامه، ومنها أن المراد بالتحريم على النار نار الكافرين لا الطبقة التي أفردت لعصاة المؤمنين. انظر: شرح مسلم للنووي 1/219 - 220، فتح الباري 1/226، تيسير العزيز الحميد 66 - 69.
2 البقرة آية (25) .
3 البقرة آية (277) .
4 آل عمران آية (57) .
5 النساء آية (57) .
6 النساء آية (174) .(3/758)
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} ،1 وفي الأنعام قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 2 وفي الأعراف قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ....} إلى قوله تعالى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 3، وهذا كثير في القرآن وآخره قوله تعالى: {إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} 4، ولم يذكر الله في القرآن دخول الجنة بغير عمل بل أخبر أنه يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، وأخبر أنه لا يغفر الشرك، فالقرآن لا يتناقض وإنما يؤيده بعضه بعضاً.
وروي أن رجلاً سأل أبا ذر عن الإيمان فقرأ عليه: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِر ... } 5 الآية حتى ختمها وقال: "إن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقرأ عليه هذه"6.
وروى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان ويقين بالقلب"7.
__________
1 المائدة آية (9) .
2 الأنعام آية (48) .
3 الأعراف آية (42 - 43) .
4 العصر آية (2 - 4) .
5 البقرة آية (177) .
6 أخرجه الإمام أحمد في كتاب الإيمان له ورقة (114/ب) ، والآجري في الشريعة ص 121 عن مجاهد عن أبي ذر وهو منقطع، لأن مجاهداً لم يسمع من أبي ذر. انظر: التهذيب 10/42، وقال ابن كثير: "أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد عن أبي ذر، واخرجه ابن مردويه عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي ذر وهو منقطع أيضاً". تفسير ابن كثير 1/207.
7 أخرجه. جه كتاب المقدمة (ب الأيمان) 1/26، الآجري في الشريعة ص 131، وابن عدي في الكامل 5/1968، وابن بطة في الإبانة الكبير 2/796، وابن الجوزي في الموضوعات وقال: "هذا حديث موضوع لم يقله الرسول صلى الله عليه وسلم". قال الدارقطني: "المتهم بوضع هذا الحديث أبو الصلت الهروي" 1/128.وقال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن ذكر الحديث: "هو من الموضوعات على النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق أهل العلم. مجموع الفتاوى 7/505، وكذلك قال ابن القيم. انظر: تهذيب السنن 7/59.(3/759)
وروي عنه بلفظ آخر أنه قال: "الإيمان قول مقول وعمل معمول وعرفان بالعقول يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية"1.
وروي عن علي وابن مسعود - رضي الله عنهما - أنهما قالا: "لا ينفع قول إلا بعمل ولا عمل إلا بقول ولا قول وعمل إلا بنية ولا نية إلا بموافقة السنة"2.
وكذلك روي مثل هذا عن الحسن البصري وسفيان الثوري وابن جريج ومحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان3 ومالك بن أنس وفضيل بن عياض4وكيع والشافعي وأحمد بن حنبل والوليد5 وأبي بكر بن عياش6 وعبد الله بن المبارك7. وهؤلاء هم العلماء الذين لا يُسْتوحَشُ مِنْ ذِكْرِهِم.
قال وكيع8: "وأهل السنة والجماعة يقولون: "الإيمان قول وعمل"9،
__________
1 لم أقف على من ذكره.
2 أخرجه الآجري في الشريعة ص 131، وابن بطة في الإبانة 2/803.
3 محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان المدني يلقب الديباج صدوق. قتل سنة 145 هـ -. التقريب ص 305.
4 فضيل بن عياض محمد بن عبد الله بن مسعود التيمي أبو علي أصله من خراسان، وسكن مكة. ثقة عابد إمام. توفي سنة 187هـ - التقريب 277.
5 هكذا في النسختين ولعل المقصود بقية بن الوليد لأنه هو الذي ذكر في الرواية مع أبي بن عياش عند الآجري في الشريعة فسقط من الناسخ الاسم الأول وهو (بقية) .
6 أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي المقرئ ثقة عابد، إلا أنه لما كبر ساء حفظه وكتابه صحيح. توفي سنة 194هـ -. التقريب ص 398.
7 انظر: هذه الروايات عند الآجري في الشريعة - ص 131 - 132.
8 في - ح - (هم) .
9 ما بين القوسين ساقط من النسختين وأثبته من الشريعة للآجري.(3/760)
والمرجئة يقولون الإيمان قول، والجهمية يقولون الإيمان المعرفة1، ولو لم يكن عليهم من الدليل إلا قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} 2 فأخبر الله أنه لا يتم الإيمان إلا بالإخلاص والعمل لكان كافياً في الاستدلال.
__________
1 الشريعة للآجري ص 131.
2 البينة آية (5) .(3/761)
114 - فصل
وعند أهل السنة والحديث أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأهل الإيمان على مراتب ولم يكلف الله الخلق أن يعرفوه كمعرفته لنفسه، لأن معرفته لنفسه بغير دليل1 ومعرفة الخلق له من جهة الدليل، وأقل درجة في الإيمان هي المعرفة التي لا يجامعها الشك بالله2، وأكبر معارف الحلق معرفة الأنبياء لله سبحانه، والأنبياء متفاضلون بذلك قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} 3، وأراد في درجات المعرفة4، ومعارف سائر الخلق دون معرفة الأنبياء، والمؤمنون متفاتون في المعرفة5 وذلك لتفاوتهم في طرق الاستدلال عليه. هذا قول السلف.
قال الغزالي: "والسلف هم الشهود العدول وما لأحد عن قولهم عدول6، والإيمان7 يقع على التصديق بالقلب وعلى العمل، فأما زيادة العمل ونقصانه فلا إشكال فيه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون8
__________
1 هذا التعليل لا يحتاج إليه.
2 تقدم التعليق على هذا. انظر: ص 737.
3 الإسراء آية (55) .
4 لا يختص التفضيل بالمعرفة، فقد نص الله عز وجل على أنواع من التفصيل في قوله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُس} البقرة: من الآية (253) ، فنص هنا على التكليم ورفع الدرجات والتأييد بروح القدس، وكذلك في الآخرة يكون التفضيل أيضاً. يدل على هذا حديث الشفاعة وأن الوسيلة مرتبة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وقال صلى الله عليه وسلم: "وأرجو أن أكون أنا هو".
5 تقدم بيان الفرق بين المعرفة والتصديق ص (737) وقد نص الإمام أحمد على أن المعرفة نفسها تزيد وتنقص، فقد روى الخلال بسنده عن أبي بكر المروزي قال: "قلت لأبي عبد الله في معرفة الله عز وجل في القلب يتفاضل فيه قال: تعم، قلت: ويزيد، قال: "نعم". كتاب الإيمان للإمام أحمد ورقة 95/ب.
6 قواعد العقائد ص 260.
7 هكذا في النسختين ولعل الأولى أن يقول (والزيادة) .
8 في - ح - (وستون) .(3/762)
خصلة"1 وروي "تسع وتسعون2 باباً أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"3. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الطهور نصف الإيمان"4.
وأما التصديق والاعتقاد بالقلب فإن هذا الاعتقاد تارة يشتد ويقوى بالعمل الصالح وتارة يضعف5 ويسترخي بالمعاصي، فالعمل للاعتقاد كالسقي للشجرة لأنه ينمي6 بالسقي ويضعف7.
وقالت المرجئة والكرامية وأهل الزيغ من القدرية وغيرهم: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وإن إيمان الأنبياء كإيمان سائر العصاة من الخلق8.
__________
1 تقدم تخريجه ص 748.
2 في - ح - (بضع وسبعون) .
3 بهذا اللفظ والعدد المذكور ورد في الإيمان للإمام أحمد ورقة 114/ب، وأخرجه ابن منده في كتاب الإيمان بسنده عن الإمام أحمد 1/297 ولم أقف على اللفظ عند غيرهما، وقد ذكر محقق كتاب الإيمان لابن منده. د. علي بن ناصر الفقيهي أنه كتب فوق (تسعون) في الأصل حرف (ض) وأشار المحقق أنها علامة التمريض، وهذه الرواية هي رواية بن عبد الله بن دينار عن أبيه عن أبي صالح عن أبي هريرة، وقال ابن حجر عن عبد الرحمن: "صدوق يخطئ". التقريب ص 204، وقد انفرد هنا برواية هذا الحديث بهذا اللفظ مخالفاً في ذلك من هو أوثق منه فإن هذا الحديث رواه عن عبد الله بن دينار أربعة سهيل بن أبي صالح وابن عجلان ويزيد بن الهاد وعبد الرحمن ابنه وبين ذلك ابن حجر في التهذيب 5/202، وهؤلاء أوثق منه فروايته بهذا اللفظ منكرة.
4 أخرجه ت. كتاب الدعوات (ب منه) 5/536 وقال: حديث حسن، وأخرجه حم 5/363 من حديث رجل من بني سليم واصل الحديث عند مسلم وغيره من حديث أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - بلفظ: "الطهور شطر الإيمان" انظر: م. كتاب الطهارة (ب فضل الوضوء) 1/203.
5 في الأصل، (يضع) وما أثبت من - ح -.
6 هكذا في النسختين وهي لغة فصيحة في (نمى) . انظر: اللسان 4551.
7 في الأصل (يضعه) وما أثبت من - ح -.
8 قد أحسن المصنف - رحمه الله - بدمجه أقوال أهل البدعة في الإيمان بنفي الزيادة والنقصان عن الإيمان، مع أنهم على طرفي نقيض في تعريف الإيمان إذ المرجئة بطوائفهم الأربع تخرج العمل عن الإيمان، وتجعل من ارتكب المعاصي مؤمناً كامل الإيمان، أما المعتزلة والخوارج فإنهم يجعلون الأعمال شرطاً في صحة الإيمان لهذا من ارتكب منهياً فقد بطل إيمانه وخرج من الإيمان إلى الكفر عند الخوارج، وصار في منزلة بين الإيمان والكفر عند المعتزلة.
وسبب اتفاقهم على القول بعدم الزيادة والنقصان في الإيمان هو ما ذكره شيخ الإسلام - رحمه الله - من أن طوائف المبتدعة في الإيمان ترى أن الإيمان كل لا يتجزأ، وهو متلازم الثبوت، فعلى هذا إذا ذهب بعضه ذهب كله انظر الفتاوى 7/510 - 233، فقالت المرجئة إن الإيمان التصديق أو القول والتصديق، وهذا لو نقص صار شكاً وأهله فيه متساوون الأنبياء وغيرهم.
وقالت الخوارج والمعتزلة: هو قول واعتقاد وعمل ومن أخل من ذلك بشيء زال عنه الاسم.
وقد رُد على المبتدعة في تأصليهم الفاسد ومن ذلك كلام شيخ الإسلام فنذكره لأهميته، حيث قال ما مختصره:" إن الحقيقة الجامعة لأمور سواء كانت في الأعيان أو الأعراض إذا زال بعض تلك الأمور فقد يزول سائرها وقد لا يزول، ثم قال: أما زوال الاسم فإن المركبات في ذلك على وجهين:
أولاً: ما يكون التركيب شرطاً في إطلاق الاسم وذلك مثل اسم العشرة، فإن التركيب شرط في هذا الاسم فلو نقص واحداً زال الاسم وأصبحت تسعة.
ثانيا: ما يكون التركيب ليس شرطاً في إطلاق الاسم بل يبقى الاسم بعد زوال بعض الأجزاء وأكثر المركبات من هذا النوع وذلك مثل الميكلات والموزونات، فالحنطة تسمى حنطة وهي بعد النقص حنطة، وكذلك التراب والماء لا يتغير اسمه بالنقص، كذلك الطاعة وكذلك القرآن فإنه يقال لجميعه قرآن، كما يقال لبعضه قرآن، واسم الإيمان من هذا النوع، فلا يلزم من زوال بعض شعبه زوال الاسم بالكلية، مثل الصلاة فيها أجزاء تنقص بزوالها عن الكمال المستحب وأجزاء واجبة تنقص بزوالها عن الكمال الواجب مع الصحة في مذهب أبي حنيفة وأحمد ومالك، وفيها ما له أجزاء إذا زالت جبر نقصها بسجود السهو، ثم قال: يبقى أن يقال أن بعض الزائل قد يكون شرطاً في بقاء الاسم، فإذا زال زال الاسم مثال ذلك من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض وقد لا يكون شرطاً في زواله كارتكاب بعض المنهيات وترك بعض الواجبات فعندئذ يجتمع في الإنسان إيمان ونفاق وطاعة ومعصية. انظر: الفتاوى 7/52،514 مختصراً، وانظر: مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى ص 382 - 384 بهذا يتبين فساد قول المبتدعة في الإيمان وهذا الفساد نتج عن فساد القول في أصل الإيمان.
بقي أن نبين هنا قول المعتزلة والأشعرية في الزيادة والنقصان، إذ لعله يتوهم المطلع على أقوالهم أنهم يقولون به كما يقول به أهل السنة لتصريحهم بذلك في كتبهم، أما المعتزلة فقد قال عبد الجبار المعتزلي في كتابه متشابه لاقرآن في قوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانا ... } الأنفال: من الآية (2) الآيات، إن هذه الآية تدل على أن الإيمان يزيد زينقص على ما نقول به، لأنه إذا كان عبارة عن هذه الأمور التي يختلف التعبد فيها على المكلفين فيكون اللازم لبعضهم أكثر مما يلزم الغير فتجب صحة الزيادة والنقصان" ص 312 - 313 طبع دار النصر.
وقال في المختصر في أصول الدين أيضاً "فإن قال أفتقولون في الإيمان إنه يزيد وينقص قيل له: نعم، لأن الإيمان كل واجب يلزم المكلف القيام به، والواجب على بعض المكلفين أكثر من الواجب على غيره، فهو يزيد وينقص من هذا الوجه"، ضمن مجموعة رسائل العدل والتوحيد تحقيق محمد عماره 1/247 مؤسسة الهلال فمرادهم بهذا القول أن الزيادة والنقصان تكون من ناحية تكليف البعض بأكثر من البعض الآخر، كمن يملك نصاب الزكاة فإيمانه أكثر ممن لا يملك النصاب فيكون المالك إيمانه أزيد وغير المالك إيمانه أنقص.
وهذا القول لا يتفق مع قول أهل السنة أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، لأن أهل السنة يجعلونه من ناحية الطاعات وأؤلئك يجعلونه من ناحية التكليف.
وما ذكره المعتزلة وجه من أوجه الزيادة والنقصان يذكره أهل السنة ويمثلون له بقول النبي صلى الله عليه وسلم في النساء "إنكن ناقصات عقل ودين" وفسر نقصان الدين بترك الصلاة حال الحيض والنفاس، إلا أنه على حسب قول المعتزلة أن النساء لا يمكن أن يكون فيهن من تكون أعلى إيماناً من أي رجل مسلم وهذا باطل، فإن عند أهل السنة أن هذا عام في جنس النساء أنقص إيماناً من جنس الرجال. أما الأفراد فإن في النساء من هن أكمل إيماناً وأرفع من كثير من الرجال، حيث يرتفع إيمانها بالطاعات حتى يغطي هذا النقص، وينقص إيمان كثير من الرجال بسبب المعاصي حتى يصبح أقل إيماناً من كثير من النساء، ومن المثال الواضح على ذلك في النساء أمهات المؤمنين ومريم بنت عمران والنساء المشهورات بالديانة والصلاح من الصحابيات وغيرهن، وعلى قول المعتزلة إن أي رجل مسلم يكون أرفع إيماناً من أمهات المؤمنين ومريم بنت عمران وغيرهن وهذا باطل.
أما الأشعرية فإنهم يعرفون الإيمان بأنه التصديق ولا يدخلون العمل في الإيمان، فلهذا الفاسق عندهم مؤمن كامل الإيمان.
ولهم في الزيادة والنقصان بالنسبة للتصديق قولان:
القول الأول: إن التصديق القلبي لا يزيد ولا ينقص، لأنه متى قبل ذلك كان شكاً ومن القائلين بهذا الباقلاني وذكر الرازي أنه قول أكثر الأشعرية. انظر: العقيدة النظامية ص 90ن الموافق في علم الكلام ص 388، مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى ص 399.
والقول الثاني: إنه يقبل الزيادة والنقصان من حيث الغفلة والذكر ووضوح الأدلة والبراهين، وبه قال الرازي والغزالي والإيجي ونصره في تحفة المريد. انظر: أصول الدين للبغدادي ص 252، الموافق في علم الكلام ص 388، والاقتصاد في الاعنتقاد للغزالي ص 143 تحفة المريد ص 51.
وهذا القول يقول به السلف كما هو ظاهر من كلام المصنف - رحمه الله - هنا، وهو أن الزيادة والنقصان تكون في تصديق القلب، وقد ذكر شيخ الإسلام عدة أوجه من التفاضل في تصديق القلب ومعرفته. انظر: الفتاوى 7/564 - 566.(3/763)
مفقود(3/764)
والدليل على ما قلناه قوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ(3/765)
أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} 1.
ويدل على ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون، أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ} 2، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} 3 وقوله تعالى: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} 4، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} 5، وقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 6 وأثنى الله تعالى على أهل الكهف بقوله: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدى} 7.
ويدل عليه قوله تعالى فيما أخبر الله عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} 8. أي ليزداد إيمان قلبي9، ويقال إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم مر بحيفة هلى ساحل البحر فجعلت الدابة تخرج من البحر فتأكل منها ثم تسترجع10إلى البحر، وتجيء الدابة من دواب البر فتأكل منها ثم تذهب ويجيء الطير فيأكل منها ثم يذهب، فهيجه ذلك على ما سأل فقال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} لتعجبه من تفرق
__________
1 التوبة آية (124 - 125) .
2 الأنفال آية (2 - 3) .
3 الفتح آية (5) .
4 المدثر آية (31) .
5 محمد صلى الله عليه وسلم آية (17) .
6 آل عمران آية (173) .
7 الكهف آية (13) .
8 البقرة آية (260) .
9 ذكر هذا ابن جرير عن سعيد بن جبير والضحاك وقتادة وغيرهم. انظر: تفسير ابن جرير 3/50.
10 هكذا في النسختين وأصوب منها (ترجع) .(3/766)
ذلك الميت في البر والبحروأنواع الدواب، فقال الله {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} ، يعني ألم تصدق بإحياء الموتى1، وقيل: أراد أو لم تؤمن بالخلة وأنك خليل2 وقيل معنى {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} أي أنك قد آمنت، وذلك على3 معنى إيجاب الإيمان له قال: {بَلَى} ولكن كان إيمانه من طريق الاستدلال لا من طريق المشاهدة، والمستدل لا تزول عنه الخواطر والوسواس، وهو في ذلك يقمع الشيطان ويقهره بالحجة، فأراد إبراهيم أن يستريح إلى المشاهدة والمعاينة، وهذا قول ابن عباس - رضي الله عنه - وأجلة العلماء4، فأجاب الله إلى ذلك لما علم فيه من المصلحة له ولأمته قال ابن المبارك {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ليرى من أدعوه إليك منزلتي ومكانتي منك فيجيبوني إلى طاعتك وما أجابه من إجابتهم إليه"5. وقال سعيد بن جير: "ليطمئن قلبي بأني إذا سألتك أجبتني"6. وللأنبياء زيادة في المعارف من الوقت الذي بعثوا فيه إلى أن قبضوا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا بورك لي في يوم لا أزداد فيه علما"7.
وأمر الله نبيه أن يسأله زيادة علم8 فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} 9.
__________
1ذكر هذا ابن جرير في تفسيره عن قتادة والضحاك وابن جرير تفسير ابن جرير 3/47.
2 ذكر هذا ابن جرير في تفسيره 3/48 عن السدي وعن سعيد بن جبير.
(على) ليست في الأصل ظاهرة وهي في - ح -.
4 يعني بذلك أن الراجح أن المسألة كانت رغبة في الاستزاد من اليقين والإيمان، وذلك بالمعاينة البصرية، وهو ما رجحه ابن جرير وذكره عن العديد من السلف. انظر: تفسيره 3/50.
5 هكذا في النسختين ولم يتبين لي معنى هذه الجملة ولم أقف على هذا الأثر.
6 لم أقف على هذا الأثر عن سعيد بن جبير، وإنما روى ابن جرير هذا عن ابن عباس بأنه قال في قوله تعالى: {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} قال: "أعلم أنك تجيبني إذا دعوتك وتعطيني إذا سألتك" وقد روي عن سعيد بن جبير أن معناه "ليزداد يقيني". انظر: تفسير ابن جرير 3/50 - 51.
7 تقدم تخريجه ص 371.
8 في - ح - (زيادة في العلم) .
9 طه آية (114) .(3/767)
وأجل المعارف المعرفة بالله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المعرفة بالله رأس المعرفة" 1.
وروي "أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله علمني من غرائب العلم فقال صلى الله عليه وسلم: ما صنعت في رأس العلم؟ فقال: وما رأس العلم؟ قال صلى الله عليه وسلم: هل عرفت الرب سبحانه؟ قال: نعم، قال: وما صنعت في حقه؟ قال: ما شاء الله، فقال صلى الله عليه وسلم: هل عرفت الموت؟ قال: نعم، قال: فما أعددت له؟ قال: ما شاء الله، فقال صلى الله عليه وسلم: اذهب فاحكم ما هنالك ثم تعال تعلم من غرائب العلم"2.
وما أثنى أحد من الصحابة على نفسه بمثل ما أثنى حارثة حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: كيف أصبحت يا حارثة؟ قال: أصبحت مؤمنا حقاً فقال صلى الله عليه وسلم: "إن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك، فقال: استوى عندي من الدنيا حجرها وذهبها، وكأني بعرش ربي بارزاً، وأهل الجنة يتنعمون فيها، وأهل النار في النار يتضاغون3، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: عرفت فالزم "4.
ومما يدل على أن العلم الحاصل بالمشاهدة أزيد من العلم الحاصل عن الاستدلال قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس الخبر كالمشاهدة أخي موسى أخبره الله بما كان من قومه من بعده من عبادة العجل، ومع ذلك أخذ الألواح فحين شاهد ما صاروا إليه ألقى الألواح"5.
__________
1 لم أقف على من خرجه.
2 أخرجه ابن عبد البر بسنده في جامع بيان العلم وفضله 2/5 عن عبد الله بن المسور مرفوعاً، والحديث مرسل وهو موضوع أيضاً، فإن عبد الله بن المسور بن عون بن جعفر بن أبي طالب قال عنه الإمام أحمد وغيره: أحاديثه موضوعة، وقال الدارقطني والنسائي: "متروك". انظر: ميزان الاعتدال 2/504.
3 في النسختين (يتضرعون) وما أثبت هو الأصوب كما عند الطبراني، ويتضاغون أي يتصايحون ويضجون من ضغا يضغو ضغواً وضغاء إذا صاح وضجّ. انظر: النهاية لابن الأثير 3/92.
4 تقدم تخريجه في ص (615) .
5 أخرجه حم. 4/147 بتحقيق أحمد شاكر وقال في التعليق: "إسناده صحيح"، والحاكم في المستدرك 2/321، وقال: "حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، وأخرجه البزار 1/111، بنحوه، والطبراني في الكبير 12/54 وقال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح". مجمع الزوائد 1/153 كلهم من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -.(3/768)
وأخذ برأس أخيه وتغير حاله، ولم يكن ذلك منه لأنه كان شاكاً في خبر الله بل كان عالماً بخبره وكذلك إبراهيم صلى الله عليه وسلم أراد العلم بالمشاهدة1.
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم أكان عيسى صلى الله عليه وسلم يمشي على الماء؟ فقال: "نعم، ولو ازداد يقيناً لمشى على الهواء"2 وقد مشى النبي صلى الله عليه وسلم على الهواء ليلة أسري به، ولا شك أنه أشار بذلك إلى نفسه، وأن حاله فوق حال عيسى صلى الله عليهما3، قال الله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} 4، وقال تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} 5، ومعارف الخلق على قدر عقولهم لأن العقل نور يجعله الله في القلب يفرق به بين حقائق المعلومات.
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أول ما خلق الله العقل فقال له أقبل فأقبل، ثم قال ادبر فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أكرم منك بك آخذ وبك أعطي، ولك أثيب ولك أعاقب "6.
__________
1 يعني في طلبه الذي ذكره الله تعالى في قوله: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} البقرة: من الآية (260)
2 أخرجه محمد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة 2/808 من حديث طويل عن أبي صالح كاتب الليث عن ابن لهيعة ورشدين بن سعد عن ابن أنعم عن عبادة بن نسى عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ - رضي الله عنه -، وإسناده ضعيف فإن فيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي ضعيف كما في التقريب ص 203، بالإضافة إلى ضعف ابن لهيعة ورشدين بن سعد، وقد روى الديلمي في المسند بسنده عن وهيب المكي عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه – مرفوعاً: "لو أن أخي عيسى كان أحسن يقيناً مما كان لمشى في الهواء وصلى على الماء". انظر: فردوس الأخبار 3/408 وإسناده منقطع بين وهيب ومعاذ لأن وهيباً كما في التقريب ص 372 من كبار أتباع التابعين.
3 النبي صلى الله عليه وسلم لم يمش على الهواء وإنما كان راكباً على البراق ليلة الإسراء، وكونه صلى الله عليه وسلم فوق عيسى في المرتبة معلوم قطعاً، ومما يدل عليه حديث الشفاعة وقصة المعراج وغيره من الأحاديث.
4 البقرة آية (253) .
5 الإسراء آية (55) .
6 أخرجه ابن عدي في الكامل 2/798، و 6/2040 من حديث أبي هريرة، وفي إسناده الفضل ابن عيسى الرقاشي وحفص بن عمر قاضي حلب أما الفضل فقال الذهبي: "ضعفوه". الميزان 3/356، وأما حفص فقال عنه أبو حاتم: ضعيف، وقال أبو زرعة: "منكر الحديث"، وقال ابن حبان: "يروي عن الثقات الموضوعات لا يحل الاحتجاج به". الميزان 1/563 وأخرج الحديث ابن الجوزي عن العقيلي بسنده من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه -. قال ابن الجوزي: "هذا حديث لا يصح فيه سعيد بن الفضل الرقاشي وعمر العتكي وأبو غالب مجهولون منكروا الحديث لا يتابع أحد منهم على حديثه"، ثم نقل عن الإمام أحمد قوله: "هذا حديث موضوع ليس له أصل"، وقال العقيلي: "ولا يثبت في هذا المتن شيء" الموضوعات 1/175 وانظر: الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ص 478.(3/769)
وروى أنس - رضي الله عنه - أن قوماً اثنوا على رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالغوا، فقال صلى الله عليه وسلم: "كيف عقله؟ فقالوا: يا رسول الله نخبرك عن اجتهاده في العبادة وأصناف الخير وتسألنا عن عقله، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الأحمق يصيب بجهله أعظم من فجور الفاجر، وإنما يرفع العباد غداً في الدرجات الزلفى عند ربهم على قدر عقولهم"
وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لكل شيء دعامة ودعامة المؤمن عقله فبقدر عقله تكون عبادته أما سمعتم قول الفجار1 {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} .
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا أيها الناس اعقلوا عن ربكم وتواصوا بالعقل تعرفوا ما أمرتم به وما نهيتم عنه، واعملوا أن العاقل من أطاع الله وإن كان دميم المنظر رث الهيئة، وأن الجاهل من عصى الله وإن كان جميل المنظر شريف المنزلة".
وروي أن عمر وأبي بن كعب وأبا هريرة - رضي الله عنهم - دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: "يا رسول الله من أعلم الناس؟ قال: العاقل، قالوا: فمن أعبد الناس؟ قال: العاقل، قالوا: فمن أفضل الناس؟ قال: العاقل، فقالوا: أليس العاقل من تمت مروءته وظهرت فصاحته وجادت كفه وعظمت منزلته فقال صلىالله عليه وسلم: "إن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين، إن العاقل هو التقي وإن كان في الدنيا خسيساً دنياً". وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما العاقل من آمن بالله وصدق برسوله وعمل بطاعته".
__________
1 في - ح - (قول أهل النار) .(3/770)
وروى أبو هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع من غزوة أحد فسمع الناس يقولون كان فلان أشجع من فلان وفلان أبلى ما لم يبل غيره فقال صلى الله عليه وسلم: أما هذا فلا علم لكم به، فقالوا: كيف يا رسول الله؟ فقال: إنهم قاتلوا على قدر ما قسم الله لهم من العقل، وكان نصرتهم ونيتهم على قدر عقولهم فأصيب منهم من أصيب على منازل شتى فإذا كان يوم القيامة اقتسموا المنازل على قدر نياتهم وقدر عقولهم".
وقالت عائشة - رضي الله عنها -: " يا رسول الله بم يتفاضل الناس؟ قال: العاقل، قلت: ففي الآخرة؟ قال: بالعقل، قالت، قلت: أليس إنما يجزون بأعمالهم؟ قال: يا عائشة وهل عملوا إلا بقدر ما أعطاهم الله من العقل وبقدر ما عملوا يجزون"1.
وقال الشافعي - رحمه الله -: مقادير علوم الناس على قدر سعة عقولهم، فمن وقع له صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأول والإيمان بالله علم أن عقله أوفر ممن بقي على الجاهلية2، ولهذا مدح الله السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ثم قال: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} 3، ووعد الكل بالحسنى، وكذلك فضل من أنفق من قبل الفتح على من أنفق بعده ومن سبق بالإيمان على من تأخر، ثم قال: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} 4 فللخائفين المطيعين5 في المعرفة درجة
__________
1 الروايات الواردة في العقل من حديث أن "أنس قوماً أثنوا على رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ... " إلخ - إلى حديث عائشة "بم يتفاضل الناس" ذكرها الغزالي في الإحياء في الباب السابع والثامن في العقل وشرفه وأقسامه 1/88 - 62 وعزاها العراقي في التخريج في حاشية الإحياء إلى ابن المحبر في كتاب العقل، وابن المحبر هو داود بن المحبر بن مُخدم وقد وصف بالضعف، وقال الدارقطني والحاكم والنقاش عن كتابه العقل: "بأنه موضوع". انظر: ميزان الاعتدال 2/20، تهذيب التهذيب 3/199.
2 لم أقف على هذا الكلام عن الشافعي.
3 التوبة آية (100) .
4 الإسراء آية (21) .
5 في الأصل (فالخائفون الميطعون) وما أثبت من - ح - وهو الأصوب.(3/771)
لم يبلغها العاصون، ولا ننكر أن العارفين بالله تلحقهم معارضات الشيطان، إلا أنهم يدفعون معارضته بالدلائل الواضحة.
وقد رروي أن الصحابة - رضوان عليهم - قالوا: "يا رسول الله إنا نجد في أنفسنا شيئاً لا نقدر على ذكره ولو قطعت آذاننا1 فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وأصابكم ذلك؟ قالوا: نعم، قال: ذلك محض الإيمان" 2.
وروي أنه قال: "ذلك صريح الإيمان"3،ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن معارضة الشيطان هي محض الإيمان، وإنما أراد أن دفع ذلك بالحجج والدلائل من محض الإيمان4.
وروى أبو وائل عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - "أن النبي صلى الله عليه وسلم خط خطا ثم قال هذا سبيل الله، ثم خط خطوطاً عن يمين الخط وعن يساره وقال هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه "، وتلا قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} 5 يعني الخط الأول، {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 6،7 ونهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن التفكير في ذات الله فقال:
__________
1 هكذا في الأصل وفي - ح - (وإن قطعت أراباً) ولم أجد هذا اللفظ فيما نظرت من مراجع.
2 الحديث أصله في م. كتاب الإيمان (ب الوسوسة في الإيمان) 1/119 من حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -.
3 أخرجه م. في الموضع المتقدم، د. كتاب الأدب (ب رد الوسوسة) 2/331، حم 2/397 - 441 من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
4 ويمكن أن يقال أن مدافعة هذه الوسوسة وكراهتها والخوف منها من الإيمان، وقد عدّها ابن شاهين من شعب الإيمان، فقال وأن يكون إذا وجد الوسوسة من العدو لأن يخر من السماء، فتخطفه الطير أحب إليه من أن يتكلم به. انظر: مسائل الإيمان للقاضي أبي يعلى ص 213.
5 الأنعام آية (153) .
6 الأنعام آية (153) .
7 أخرجه حم 6/89 بتحقيق أحمد شاكر وقال في التعليق: "إسناده صحيح"، وأخرجه دي في المقدمة (ب كراهية أخذ الرأي) 1/67، والحاكم في المستدرك كتاب التفسير 2/318 وقال: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وعنده أيضاً في 2/239 من حديث زر عن عبد الله وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.(3/772)
"تفكروا في عظمة الله ولا تتكفروا في الله"1.
قال: "الناظر في الله كالناظر في عين الشمس كلما ازداد نظراً ازداد عمى"2.
ومن الدليل على أن الإيمان يزيد وينقص بالطاعة وينقص بالمعصية ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، والتوبة معروفة"3.
والمراد به كمال الإيمان4 كقوله: "لا إيمان لمن لا أمانة له"5.
وفي وراية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان فوق رأسه كالظلة، فإذا خرج من ذلك العمل عاد إليه الإيمان"6.
__________
1 أخرجه اللالكائي في السنة 3/525 من حديث ابن عمر مرفوعاً ولفظه: "تفكروا في آلاء الله ... "، وأخرجه ابن عدي في الكامل 7/2556 وعزاه الهيثمي إلى الطبراني في الأوسط مجمع الزوائد 1/18.
وإسناده ضعيف فإن فيه الوزاع بن نافع العقيلي قال البخاري: "منكر الحديث"، وقال النسائي: "متروك" انظر: الكامل 7/2556 وللحديث عدة شواهد منها: حديث ابن عباس أخرجه محمد بن عثمان ابن أبي شيبة في كتابه العرش ولفظه "فكروا في كل شيء ولا تفكروا في الله ... " وفيه زيادة. انظر: محمد بن عثمان بن أبي شيبة وكتابه العرش ص 307 تحقيق محمد خليفة التيميمي.
كما أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات ص 360 وفي إسناده عطاء بن السائب قال في التقريب ص 239 صدوق اختلط، وضعف الإسناد السخاوي في المقاصد الحسنة ص 159،وقال بعد ذكر هذه الأحاديث: "وأسانيدها ضعيفة لكن اجتماعها يكتسب قوة والمعنى صحيح"، كما حسن الحديث الألباني بمجموع الطرق. انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/297.
2لم أقف على من عزاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكر ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله عن جعفر بن محمد أنه قال: "الناظر في القدر كالناظر في عين الشمس كلما ازداد نظراً ازداد حيرة".جامع بيان العلم وفضله 2/97.
3 تقدم تخريجه ص (700) .
4 تقدم بين الأقوال في ذلك ص 701.
5 تقدم تخريجه ص 701.
6 أخرجه د. كتاب السنة (ب الإرجاء 2/270) ، والحاكم في المستدرك كتاب الإيمان 1/22 وقال: "صحيح على شرط الشيخين" ووافقه الذهبي. وأخرجه ابن منده في الإيمان 2/579 وقال محققه د. علي ناصر "إسناده صحيح"، وذكر الحديث الترمذي معلقاً بدون إسناد 5/15. وصحح الحديث السيوطي وكذلك الألباني انظر: الجامع الصغير مع فيض القدير 1/367، سلسلة الأحاديث الصحيحة 2/22
6 المطففين آية (14) .
6 المطففين آية (14) .(3/773)
ومن الدليل على ما قلناه قوله تعالى: {كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} 1.
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أذنب العبد كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل منها قلبه، فإن زاد زادت حتى تعلو2 قلبه"، وروي "حتى يسود" وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم {كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .3
وقال مجاهد: "هذا مثل قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} "4.
وقال الحسن: "هو الذنب على الذنب يرين على القلب حتى يسود"5. والرين هو الإحاطة والغلبة يقال: ران عليه النعاس إذا غلبه، وران به النعاس.
قال علقمة:
__________
1 سورة المطففين آية (14) .
2 في - ح - (تغلق) .
3 أخرجه ت كتاب التفسير (ب سورة المطففين 5/434 وقال: "حديث حسن صحيح"، وأخرجه جه. كتاب الزهد (ب ذكر الذنوب) 2/1418، حم 2/297، وابن جرير في تفسيره 30/98 والحاكم في المستدرك، كتاب التفسير 2/517. وقال: "صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي.
4 البقرة آية (81) وأخرجه ذلك عنه ابن جرير في تفسيره 30/100.
5 أخرجه أبو عبيدة في غريب الحديث 3/270،وأخرج ابن جرير عنه نحوه، كما أخرج مثله عن قتادة 30/98 - 99.(3/774)
"أوردته القوم قد ران النعاس بهم فقلت إذ نهلوا من مائه قيلوا"1.
ومنه قول عمر - رضي الله عنه - في أسيفع جهينة لما ركبه الدين: "قد رين به"2.
وروي عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - أنه قال: "الإيمان يبدو لمظة في القلب فكلما ازداد الإيمان ازدادت اللمظة"3، واللمظة مثل النكتة أو نحوها من البياض، ومنه قيل: فرس ألمظ إذا كان تحجيله بياض4.
ومن الدليل على ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن من أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وألطفهم بأهله"5.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فوعظهم ثم قال: "يا معشر6 النساء تصدقن فإنكن أكثر أهل النار، فقالت امرأة منهن: ولم ذاك يا رسول الله؟ قال: لكثرة لعنكن وكفركن العشير، ثم قال: وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذوي الألباب، (وروى لذوي الرأي منكن) ، فقالت امرأة منهن وما نقصان عقلها ودينها؟ قال:7 أما نقصان عقلها فشهادة امرأتين بشهادة
__________
1 لم يتبين لي من هو علقمة ولم أقف على من ذكر هذا البيت ,
2 أخرجه أبو عبيد في غريب الحديث 3/268، وانظر: فيه أيضاً المعنى اللغوي ب - (رين) ، وكذلك في لسان العرب 3/1796.
3لم أره معزواً إلى حذيفة - رضي الله عنه - وإنما أثر هذا عن علي - رضي الله عنه -، أخرجه عنه ابن أبي شيبة في الإيمان ص 5، وأبو عبيد في الإيمان ص 64 - 65، كما أخرجه أيضاً الهروي في غريب الحديث 3/460.
4 انظر: عريب الحديث للهروي 3/460.
5 أخرجه ت كتاب الرضاع (ب حق المرأة على زوجها) 3/466، د. كتاب السنة (ب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه) 2/268، دي، في الرقاق (ب في حسن الخلق) 2/323، حم 2/250 - 472 كلهم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
6 في - ح - (معاشر) .
7 ما بين القوسين سقط من - ح -.(3/775)
رجل واحد، ونقصان دينها الحيض فتمكث إحداكن الثلاث والأربع لا تصلي"1.
فموضع الحجة من الخبر أنه وصفهن بنقصان الدين، فدل على أنه ينقص ويزيد، وأما العشير فإنه الزوج لأن المرأة إذا رأت منه أمراً تكرهه قالت: ما رأيت منك خيراً قط.
ومما يدل على ما قلناه ما روي في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يخرج من النار في الشفاعة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من الإيمان"2.
وروي عن ابن عباس وأبي هريرة - رضي الله عنهما - أنهما قالا: "الإيمان يزيد وينقص"3.
وكذلك روي عن عمر بن الخطاب - وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء وابن عمرو، وعمار، وحذيفة، وسلمان الفارسي وأبي أمامة، وعبد الله بن رواحة، وجندب بن عبد الله، وعمير بن حبيب وعائشة - رضي الله عنهم - أنهم قالوا: "الإيمان يزيد وينقص"4. قال ابن أبي مليكة "أردكت كذا وكذا من الصحابة - رضي الله عنهم - ما مات
__________
1 أخرجه خ. كتاب الحيض (ب ترك الحائض الصوم) 1/57 من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. وأخرجه م. كتاب الإيمان (ب نقصان الإيمان ينقص بالطاعات) 1/78 من حديث أبي سعيد وابن عمر وأبي هريرة - رضي الله عنهم -.
2 تقدم ذكر هذا في حديث الشفاعة الطويل عن أنس - رضي الله عنه - ص 693
3 أخرجه ابن ماحه في المقدمة 1/28، والآجري في الشريعة ص 111 عن مجاهد عنهما، كما أخرج الآجري ص 111، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/314 من طريق عبد الله بن ربيعة الحضرمي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
4 عزا إليهم هذا القول اللالكائي في السنة 5/892، ثم ذكره على التفصيل مسنداً إليهم انظره: في 5/941 - 948، كما أخرج الآجري ذلك مسنداً إلى عمر بن الخطاب وابن مسعود وعمير بن حبيب - رضي الله عنهم -. الشريعة 111 - 112.(3/776)
رجل منهم إلا ويخشى على نفسه النفاق"1، وكذلك روي عن التابعين كعب الأحبار وعروة بن الزبير، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، وابن أبي مليكة2، وميمون بن مهران3، وعمر بن عبد العزيز، وسعيد بن جبير، والحسن والزهري، وقتادة، وابن جريج، وفضيل بن عياض وغيرهم من العلماء الذين لا يستوحش من ذكرهم أنهم قالوا الإيمان يزيد وينقص4.
وروي عن جندب أنه قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة5 فكان يعلمنا الإيمان قبل أن يعلمنا القرآن ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيماناً"6.
وعن أبي سعيد الفريابي7 أنه قال: "سألت المزني8 في مرضه الذي مات فيه وهو يومئذ ثقيل من المرض يغمى عليه مرة ويفيق أخرى، وقد كانوا صرخوا عليه تلك الليلة وظنوا أنه قد مات، فقلت: أنت أمامي بعد كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وإن الناس قد اختلفوا في الإيمان فمنهم
__________
1 أخرجه عنه اللالكائي في السنة 5/955 وذكره البخاري إلا أنه قال: "أدركت ثلاثين ... "، خ. (ب. خوف المؤمن من أن يحبط عمله) . 1/15.
2 عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة بن عبد الله بن جدعان. أدرك ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثقة فقيه. توفي سنة 117هـ -. التقريب 181.
3 ميمون بن مهران الجزري الكوفي ثقة فقيه، ولي الجزيرة لعمر بن عبد العزيز، توفي سنة 117هـ -. التقريب ص 354.
4 انظر: الروايات عنهم وعن غيرهم مسندة عند اللالكائي في السنة 5/951 - 964
5 حزاورة: جمع حزور وهو الغلام إذا اشتد وقوي وخدم، وقيل: هو الذي قارب البلوغ. انظر: اللسان 3/855.
6 أخرجه ابن ماجه في المقدمة (ب في الإيمان) 1/23، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/369، وابن منده في الإيمان 2/370، واللالكائي في السنة 5/946.
7 هو محمد بن عُقَيل أبو سعيد الفريابي من أصحاب المزني وفقهاء الشافعية بمصر، توفي بها سنة 285هـ -.طبقات الشافعية للسبكي 2/243.
8 هو أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني المصري تلميذ الشافعي. قال الذهبي: "هو قليل الرواية ولكنه كان رأساً في الفقه". توفي سنة 264هـ -. سير أعلام النبلاء 12/494، طبقات الشافعية للسبكي 2/93.(3/777)
من قال الإيمان قول وعمل يزيد زينقص، ومنهم من قال: هو قول وعمل يزيد ولا ينقص، ومنهم من قال هو قول والعمل شرائعه، فقال مجيباً بلسان ثقيل: من الذي قال إنه قول وعمل يزيد زينقص؟ قلت: مالك، والليث بن سعد وابن جريج فذكرت له جماعة، ثم قال: لا يعجبني ولا أحب أن أكفر أحداً لما قال: تسألني عن الاسم أو معنى الاسم؟ فتعجبت من سؤاله إياي مع ما هو فيه ثم قال: كم أخطأ في الاسم ليس من أخطأ في المعنى، الخطأ في المعنى أصعب، ثم قال: ما يقول هذا فيمن عمل بعض الأعمال هو مثل من جهل1 - يريد التوحيد كله - ثم قال: هذا باب لم أعمل فيه فكري ولكن انظر لك فيه، ثم أغمي عليه فرجع إليه بعد العصر، فقال ابن أخيه عتيق: إنه سأل عنك وقال: قل له: الإيمان قول وعمل، فقعدت عنده حذاء وجهه ففتح عينيه فتحاً ثقيلاً، ثم قال: الفريابي؟ قلت: نعم قال: لا خلاف بين الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت فقال: إيماناً2 وتصديقاً بكتابك".
وهذا دليل على أن جميع الأعمال من الإيمان قال: "وهذه آخر مسألة سألت عنها المزني ومات بعدها بثلاثة أيام"3.
وروي أن عبد الله بن مسعود كان يقول في دعائه "اللهم زدني إيماناً ويقيناً وفقهاً"4. وعن عمير بن حبيب أنه قال: "الإيمان يزيد وينقص. قيل له: ما زيادته ونقصانه قال: إذا ذكرنا الله وحمدناه وسبحانه5 فذلك زيادته، وإذا أغفلنا وضيعنا ونسينا فذلك نقصانه"6.
__________
1 عند اللالكائي (من جهل المعرفة) .
2 هكذا في النسختين وعند اللالكائي (إيماناً بك) لم أقف على هذا الحديث.
3 أخرجه اللالكائي في السنة 5/887.
4 أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/369.والإيمان للإمام أحمد ورقة 108/أ.
5 هكذا في النسختين والمروي في الأصول (وخشيناه) .
6 أخرجه ابن أبي شيبة في الإيمان ص 7، والآجري في الشريعة ص 111، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/314.(3/778)
وعن محمد بن علي1 - رضي الله عنهما - أنه قال: "هذا الإسلام ودور دارة في وسطها أخرى، وقال: هذا الإيمان مقصور في الإسلام، وقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن" قال: يخرج من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرج من الإسلام، فإذا تاب2 تاب الله عليه ورجع إلى الإيمان"3.
وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال لغلمانه: "من أراد4 منكم الباءة زوجناه، لا يزني منكم زان إلا نزع منه نور الإيمان، فإن شاء أن يرده عليه رده وإن شاء أن يمنعه منعه".5
__________
1 في النسختين (علي بن محمد) وهو خطأ فإن هذه الرواية عن محمد بن علي أبو جعفر الباقر.
(تاب) ليست في - ح -.
3 أخرجه الآجري في الشريعة ص 113، والإمام أحمد في الإيمان ورقة 102/أ، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/342 وابن باطه في الإبانة الكبير 2/713.
4 في - ح - (أردك) .
5 أخرجه الآجري في الشريعة - ص 114 وابن أبي شيبة في الإيمان ص 32 وابن بطة في الإبانة الكبير 2/715.(3/779)
115 - فصل
لا خلاف بين العلماء أنه لا يجوز للإنسان أن يقول: "أنا مؤمن عند الله أو أنا مؤمن عند الله حقاً" لأنه لا يدري ما حكمه عند الله. وعلى هذا المعنى يحمل ما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: "من قال أنا مؤمن حقاً فهو كافر حقاً"1.
وأما ما روي عن حارثة حين قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "كيف أصبحت يا حارثة فقال: أصبحت مؤمناً حقاً" فإنه يحمل على أنه أراد مؤمناً حقا عن نفسي، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لكل حق حقيقة فما حقيقة إيمانك " قال: استوى عندي من الدنيا حجرها وذهبها" 2. الخبر الذي مضى ذكره، ففسر إيمانه بما عنده من اليقين فأقره النبي صلى الله عليه وسلم.
ولا خلاف بين السلف أن الاستثناء في الإيمان على جهة الشك في التوحيد لا يجوز، لأن أقل ما يقبل من الإيمان ما لا يخالطه الشك3.
__________
1 أخرجه اللالكائي في السنة 4/974 عن نعيم بن أبي هند عنه وهو منقطع، فإن نعيماً لم يدرك عمر - رضي الله عنه. انظر: التهذيب 10/468، كما أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبير 2/869 من طريق قتادة عن عمر، إلا أنه منقطع أيضاً لأن قتادة لم يسمع من صحابي غير انس بن مالك - رضي الله عنه -، كما ذكر ذلك ابن حجر في التهذيب 8/355.
2 تقدم تخريجه - ص 768.
3 الاستثناء في الإيمان فيه ثلاثة أقوال:
القول الأول: جواز الاستثناء في الإيمان، وهو قول كثير من السلف وسيفصل المصنف قولهم.
القول الثاني: وجوب الاستثناء في الإيمان، وتعليل من قال بهذا هو أن الإيمان المعتبر عندهم ما يموت عليه صاحبه، والإنسان لا يعلم هل يموت مؤمناً أم كافراً، فعلى هذا قالوا بوجوب الاستثناء بلنسبة للمستقبل، فاستثناؤهم على الشك في الثبات على الإيمان إلى الموت، وطمعاً في أن يوفقوا للثبات عليه إلى الممات. وسيأتي بيان القائلين به عند كلام المصنف على المعنى الرابع من معاني الاستثناء.
القول الثالث: قول من يحرمه وينكره، ويقول: " من استثنى فقد شك والشك كفر" وهؤلاء يزعمون أن الإيمان شيء واحد يعلم الإنسان من نفسه الإتيان به وهو التصديق عندهم، كما يعلم أنه متكلم بالشهادتين أو أنه قرأ الفاتحة.
وقال بهذا الجمهية وطوائف من المرجئة، ونسب البغدادي في أصول الدين إنكار الاستثناء إلى أبي عبد الله بن مجاهد وأبي بكر الباقلاني وأبي إسحاق الإسفرائيني، ونسب ملا القاري في شرح الفقه الأكبر تحريمه بل تكفير قائله إلى صاحب التمهيد والكفاية من الحنفية.
وهؤلاء هم الذين عناهم السلف في بيان مأخذ الاستثناء، وأنه ليس على الشك. انظر: شعب الإيمان للحيلمي 1/127، أصول الدين للبغدادي ص 253، الفضل في الملل والنحل لابن حزم 4/228، المعتمد في أصول الدين ص 190، شرح الفقه الأكبر ص 117، الفتاوى لشيخ الإسلام 7/253 - 256 - 429 - 453.(3/780)
واختلف العلماء في جواز إطلاق الاستثناء في الإيمان:
فمنهم من قال: لا يجوز1، واحتج القائلون بهذا بما روي أن ابن عمر أمر رجلاً أن يذبح له شاة، فقال: له أنت مؤمن؟ فقال: نعم إن شاء الله، فاسترد منه الشاة2.
وذهب أكثر العلماء إلى جواز الاستثناء بأن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله لا على جهة الشك، بل على معنى أنه لا يدري ما حكمه عند الله وما عاقبته عند الله. وروي ذلك عن علي بن أبي طالب، وابن مسعود3، وعائشة4.
وقال ابن أبي مليكة: "أدركت كذا وكذا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فما مات منهم رجل5 إلا وهو يخشى النفاق على نفسه"6.
__________
1 لعل مراد المصنف بهؤلاء من كره من السلف المسألة واعتبرها بدعة، فقد نقل كراهية السؤال عن الإيمان الآجري عن سفيان بن عيينة وإبراهيم النخعي والأوزاعي. انظر: الشريعة ص 140 - 142.
2 لم أقف على هذه الرواية.
3 يأتي ذكر الروايات عنهما ص 785.
4 روى عبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/349 بسنده عن عبد الرحمن بن عصمة قال: كنت عند عائشة - رضي الله عنها - فأتاها رسول معاوية - رضي الله عنه - بهدية فقال: أرسل بها إليك أمير المؤمنين فقالت: "أنتم المؤمنون إن شاء الله تعالى وهو أميركم وقد قبلت هديته"، وأخرجه ابن أبي شيبة ص 9 مختصراً.
5 في - ح - (أحد) .
6 تقدم تخريجه - ص 776.(3/781)
وروي أن رجلاً قال عند عبد الله مسعود - رضي الله عنه -: "أنا مؤمن، فقال له ابن مسعود: أفأنت من أهل الجنة؟ قال: أرجو، فقال ابن مسعود أفلا وكلت الأولى كما وكلت الأخرى"1.
وقال رجل لعلقمة2: "أمؤمن أنت؟. قال: أرجوا إن شاء الله"3.
وروي أن أحمد بن حنبل سئل عن الاستثناء في الإيمان ما تقول فيه؟ قال: أما أنا لا4 أعيبه، وقال: إنما يستثني في العمل قال الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} . واحتج بمساءلة الملكين في القبر للمؤمن ومجاوبتهما5 فيقولان له: على اليقين كنت وعليه مت وعليه تبعث يوم القيامة إن شاء الله، ويقولان للكافر: على الشك كنت وعليه مت وعليه تبعث يوم القيامة إن شاء الله"6.
وروي "أن رجلاً قال: أنكر الاستثناء في الإيمان فقال: "إنما الناس رجلان مؤمن وكافر، فقال له أحمد: فأين قول الله: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} وقال سمعت يحيىبن سعيد7 يقول: "ما أدركت أحداً إلا على الاستثناء"8.
__________
1 أخرجه الآجري في الشريعة ص 137، وأبو عبيد في الإيمان ص 67.
2 علقمة بن قيس النخعي الكوفي ثقة ثبت فقيه عابد توفي بعد التسين. التقريب ص 243.
3 أخرجه الآجري في الشريعة ص 137، وأبو عبيد في الإيمان ص 68، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/341.
4 هكذا في النسختين وفي مصادر الرواية (فلا أعبيه) .
5 في الأصل (ومحاورتهما) وما أثبت من - ح - وهو يوافق ما في المصادر.
6 أخرجه الآجري في الشريعة ص 137.
7 يحيى بن سعيد القطان البصري ثقة متقن حافظ إمام قدوة. توفي سنة 298هـ -. التقريب ص 375.
8 أخرجه الآجري في الشريعة ص 137، وهو في كتاب الإيمان للإمام أحمد ورقة 99/أ، وأخرج اللالكائي عنه قوله عن يحيى بن سعيد. انظر: السنة 50/981.(3/782)
وروي عن سفيان الثوري أنه قال: "من قال أنا مؤمن عند الله فهو من الكاذبين، ومن قال أنا مؤمن حقاً فهو بدعة، وقيل له: فماذا نقول؟ قال: قولوا آمنا بالله وما أنزل علينا"1.
وقال سفيان: "الناس عندنا مؤمنون في الأحكام والمواريث ولا ندري كيف هم عند الله، وأرجو أن نكون كذلك ولا ندري ما حالنا عند الله"2.
وكان سفيان3 إذا سئل أمؤمن أنت لم يجبه، أو يقول: سؤالك إياي بدعة ولا أشك في إيماني وقال إن شاء الله ليس يكره، وليس بداخل في الشك4.
وقيل للحسن البصري: "أمؤمن أنت؟ فقال: إن شاء الله، فقيل: تستثني يا أبا سعيد في الإيمان؟ فقال: أخاف أن أقول نعم فيقول الله كذبت يا حسن فتحق علي الكلمة. فكان يقول: ما يؤمنني أن يكون الله قد اطلع علي في بعض ما يكره فمقتني وقال اذهب لا أقبل لك عملا"5.
وروى كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: " ما تقولون في رجل قتل في سبيل الله. قالوا: الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شاء الله، قال: ما تقولون في رجل مات في سبيل الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال
__________
1لم أقف عليه بهذه الألفاظ عن سفيان الثوري، وقد ورد استنكار البت في وصف النفس بالإيمان عن ابن مسعود كما تقدم، وعن الحسن وسفيان بن عيينة كما سيأتي وغيرهم، أما قوله: "قولوا آمنا بالله ... " فهذا وارد عن طاووس وعن محمد بن سيرين. انظر: في هذا الشريعة للآجري ص 141.
2 السنة لعبد الله 1/311، الشريعة للآجري ص 141.
3 هو سفيان بن عيينة.
4 الإيمان للإمام أحمد ورقة 101/أ، والسنة لعبد الله 1/310، الشريعة للآجري ص 138 السنة اللالكائي 5/981.
5 لم أقف على من أخرجه عنه بهذا اللفظ وإنما روى أبو نعيم في الحلية 2/134 عن علقمة بن مرثد عن الحسن أنه قال: "نضحك ولا ندري لعل الله قد اطلع على بعض أعمالنا فقال، لا أقبل منكم شيئاً" وذكره الذهبي أيضاً في سير أعلام النبلاء 4/585.(3/783)
الجنة إن شاء الله، قال: فما تقولون في رجل مات فقام رجلان عدلان1 ذوا عدل فقالا: لا نعلم إلا خيراً، فقالوا: الله ورسوله أعلم؟ فقال: الجنة إن شاء الله، قال: فما تقولون في رجل مات فقام رجلان فقالا لا نعلم إلا شراً؟ فقالوا: في النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد مذنب ورب غفور رحيم"2.
وكان الأعمش3 والليث4، وعطاء بن السائب5، وإسماعيل بن أبي خالد6، وعمارة بن القعقاع7، العلاء بن المسيب8، وابن شبرمة9، وحمزة الزيات10، يقولون: "نحن مؤمنون إن شاء الله ويعيبون على من لا يستثني"11.
__________
1 هكذا في النسختين وليست في مصادر الحديث.
2 أخرجه الطبراني في الكبير 19/147، واللالكائي في السنة 5/971 وسنده ضعيف فإن فيه إسحاق بن إبراهيم بن نسطاس، قال النسائي عنه: "ضعيف"، وقال ابن حبان: "كان يخطيء لا يجوز الاحتجاج بخبره إذا انفرد". انظر: المجروحين 1/134، والميزان 1/178، والراوي عن كعب ابنه إسحاق قال ابن حجر في التقريب ص 29: "مجهول الحال".
3 الأعمش هو سليمان بن مهران الأسدي الكاهلي أبو محمد ثقة حافظ عارف بالقراءة لكنه يدلس توفي سنة 147هـ -. التقريب ص 136.
4 الليث بن سعد بن عبد الرحمن أبو الحارث المصري ثقة ثبت فقيه إمام مشهور توفي سنة 175هـ -. التقريب ص 287.
5 عطاء بن السائب أبو محمد الثقفي الكوفي صدوق اختلط توفي سنة 136هـ -. التقريب ص 239.
6 إسماعيل بن أبي خالد الأحمسي مولاهم البجلي ثقة ثبت توفي سنة 146هـ -. التقريب ص 33.
7 عمارة بن القعقاع بن شبرمة الضبي الكوفي ثقة من السادسة. التقريب ص 251.
8 العلاء بن المسيب بن رافع الكاهلي ويقال الثعلبي الكوفي ثقة ربما وهم من السادسة. التقريب ص 269
9 هو عبد الله بن شبرمة بن الطفيل بن حسان الضبي أبو شبرمة الكوفي القاضي ثقة فقيه. توفي سنة 144هـ -. التقريب ص 176.
10 حمزة بن حبيب الزيات القاري أبو عمارة الكوفي التيمي مولاهم صدوق زاهد، ربما وهم، توفي سنة156 هـ -. التقريب ص 83.
11 أخرجه الآجري في الشريعة عن جرير بن عبد الحميد ص 139، وكذلك اللالكائي في السنة 5/979(3/784)
وقال إبراهيم النخعي1: "إذا قيل لك أنت مؤمن فقل: آمنت بالله وبملائكته وكتبه ورسله"2.
وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: "من قال أنا مؤمن فهو كافر، ومن قال أنا عالم فهو جاهل، ومن قال هو في الجنة فهو في النار"3.
وقال علي - رضي الله عنه -: "الإرجاء بدعة والشهادة بدعة والبراءة بدعة"4.
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "من شهد على نفسه أنه مؤمن فليشهد أنه في الجنة"5.
إذا تقرر هذا فإن الاستثناء المحكي عن السلف يحتمل أربعة معان:
أحدها: أنهم كرهوا الإطلاق لما فيه من التزكية، قال الله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} 6 الآية، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} 7.
__________
1 إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي أبو عمران الكوفي الفقيه ثقة إلا أنه يرسل كثيراً، توفي سنة 196هـ -. التقريب ص 24.
2 أخرجه الآجري في الشريعة ص 141، وأبو عبيد في الإيمان ص 68، واللالكائي في السنة 5/979.
3 تقدم تخريجه - ص 780.
4 أخرجه اللالكائي في السنة 5/976، وأخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/319.
ووجه الاستدلال: هنا قوله"والشهادة والسنة" وهو الشهادة بالجنة أو النار، ووصف الإيمان وصف مدح وعد الله عليه بالجنة، فعلى هذا من شهد لنفسه بهذا الوصف فقد شهد لها بأنه في الجنة، وقد أرود هذا الأثر عنه اللالكائي في فصل إثبات الاستثناء. والمراد بالبراءة - والله أعلم - أنها براءة الخوارج ممن خالفهم حيث يجمعون على البراءة ممن خالفهم، وبعضهم يتبرأ من بعض في حال المخالفة كما يتبرؤون ممن قعد ولم يحلق بعسكرهم، كما أنهم يتبرؤون من عثمان وعلي - رضي الله عنهما - ويجعلون البراءة منهما مقدماً على كل طاعة. انظر: مقالات الإسلاميين 1/169. الملل والنحل 1/115.
5 أخرجه ابن أبي شيبة في الإيمان ص 46، واللالكائي في السنة 5/976 ,
6 النجم آية (32) .
7 النساء آية (49) .(3/785)
وقيل لبعض الحكماء: ما الصدق القبيح قال: "ثناء الإنسان على نفسه"1.
والإيمان من أعلى صفات الحمد، وإطلاق القول به تزكية مطلقة، والاستثناء فيه خروج من التزكية كما يقال للإنسان: أنت فقير أو مفسر؟ فيقول: نعم إن شاء الله لا في معرض الشك ولكن الإخراج نفسه عن التزكية.
والمعنى الثاني في الاستثناء: التأدب بذكر الله في كل حال وإحالة الأمور كلها إلى مشيئة الله تعالى، وقد أدب الله نبيه فقال: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً، إِلاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 2، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من تمام إيمان المرء استثناؤه في كل كلام "3.
وقال الله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} 4 والله سبحانه عالم بأنهم يدخلون لا محالة، وأنه شاء دخولهم، وقوله إن شاء الله ليس على سبيل الشك، ولكن أدب الله نبيه والمؤمن في أن لا يتركوا الاستثناء ورد المشيئة إليه، فتأدب رسول الله صلى الله عليه وسلم (بما أدبه الله من ذكر الاستثناء في كلامه، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) 5 دخل المقبرة في البقيع قال6: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله7 بكم لاحقون" 8.فالاستثناء منه صلى الله عليه وسلم عائد إلى الإيمان أي على الإيمان بكم إذ9 الموت لا يشك فيه.
__________
1 لم يتبين لي قائله.
2 الكهف آية (23) .
3 تقدم تخريجه ص 750 وبين أنه حديث موضع.
4 الفتح آية (27) .
5 ما بين القوسين ساقط من الأصل وهو في - ح -.
6 في الأصل (فقال) .
7 في - ح - (عن قريب بكم....) .
8 أخرجه م. كتاب الجنائز (ب ما يقال عند دخول القبور) 2/670 من حديث عائشة - رضي الله عنها -، وأخرجه حم 2/300، جه كتاب الجنائز (ب ذكر الحوض) 2/1439 كلاهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
9 في الأصل جملة (بما أدبه الله من ذكر الاستثناء في كلامه) وليست في - ح - وإنما هي الموضع المتقدم، ومعنى كلامه هنا أن الاستثناء في الحديث هو في اللحوق بهم على الإيمان، وروي عن الإمام أحمد أنه قال: "الاستثناء هنا على البقاع لا يدري أيدفن في الموضع الذي سلم عليهم فيه أو غيره"، وقيل: إنها على سبيل التبرك والامتثال لأمر الله. انظر: كتاب الإيمان للإمام أحمد ورقة 100/أ، شرح السنة للبغوي 5/470.(3/786)
ومثل هذا ما روى أبو هريرة - رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لكل نبي دعوة دعا بها في أمته فاستجيب1 له، وأنا أريد إن شاء الله أن أدخر دعوتي شفاعة2 لأمتي يوم القيامة" 3.
وروي أن رجلاً قال يا رسول الله إني أصبح جنبا وإني أريد الصيام، فقال رسول الله صلىالله عليه وسلم: "وإني أصبح جنبا وأريد الصيام وأغتسل وأصبح من ذلك اليوم صائما، فقال الرجل: إنك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي"4.
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخشاهم لله وأعلمهم بما يتقي من جهة القطع فلم يخبر بذلك عن نفسه قطعا، وإنما ربط بالرجاء والمشيئة من الله5.
__________
1 في الأصل (استجيب) .
(شفاعة) ساقطة من - ح -.
3 أخرجه م. كتاب الإيمان (ب اختباء النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الشفاعة لأمته) 1/189 نحوه وتقدم نحوه.
4 أخرجه م. كتاب الصيام (ب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب) 2/781، د. كتاب الصيام (ب فيمن أصبح جنبا في رمضان) 1/374، حم 6/67 كلهم من حديث عائشة - رضي الله عنها -.
5 هذا الوجه من معنى الاستثناء في الإيمان غير صحيح، والسلف لم يرد في أقوالهم ما يدل عليه بل أقوالهم تدل على الاستثناء لأمرين: -
الأول: خشية التزكية وجهلهم بحالهم عند الله تعالى يدل على هذا ما روى الآجري عن أنس ومحمد بن سيرين أنهما كانا يهابان أن يقولان مؤمن ويقولان مسلم. الشريعة ص 139 وما تقدم من كلام عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يدل عليه أيضاً.
ثانياً: احتياطا للعمل لا يدري هل قام بالعمل على الوجه الكامل أم لا، يدل على هذا ما ورد عن الإمام أحمد أنه قال: أذهب إلى حديث ابن مسعود في الاستثناء في الإيمان قول والعمل الفعل فقال جئنا بالقول ونخشى أن نكون قد فرطنا في العمل. الإيمان للإمام أحمد ورقة 100/أويدل على أن السلف لم يكونوا يقصدون المعنى الذي ذكر المصنف ان كثيرا منهم عاب من لم يستثن، بل وصف تاركه بالإرجاء فقد روي الآجري بسنده عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال: "إذا ترك الاستثناء فهو أصل الإرجاء". الشريعة ص 139. أما الأدلة التي ذكر المصنف فقد ذكرها السلف أيضا في استدلالاتهم على الاستثناء، ومرادهم بإيرادها هو إثبات أن الاستثناء ليس على الشك في هذه المواضع المستدل بها، والله أعلم، وانظر: كلام أبي عبيد في الإيمان ص 68 - 68، والآجري في الشريعة ص 136.(3/787)
والمعنى الثالث: أن الاستثناء في هذه يرجع إلى كمال الإيمان بالأعمال، لأن الناس لا يخلون من تقصير بالعمل أو من نفاق أو قلة إخلاص، ولا يرجع إلى أصل الاعتراف، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وستون بابا أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق "1، 2.
وقال صلى الله عليه وسلم: "أربع من كن فيه فهو منافق خالص وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان وإذا خاصم فجر "3.
وقال صلى الله عليه وسلم: "أكثر منافقي أمتي قراؤها"4.
__________
1 في - ح - (من طريق المسلمين) .
2 تقدم تخريجه - ص 748.
3 أخرجه خ. كتاب الإيمان (ب علامة المنافق) 1/12، م. كتاب الإيمان (ب خصال المنافق) 1/78 من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -.
وليس في شيء من روايات الحديث قوله: "وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن"، وإنما وردت في حديث أبي هريرة مرفوعا: "آية المنافق ثلاث.... ". أخرجه م. في الموضع المتقدم.
4 أخرجه حم 2/175 من حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، كما أخرجه أيضا عن عقبة ابن عامر - رضي الله عنه - في 4/151 - 155، وعزاه الهيثمي إلى الطبراني في الكبير من حديث عبد الله وعقبه. انظر: مجمع الزوائد 6/229، وأخرجه الفريابي في صفة النفاق وذم المنافقين ص 39 - 41 من حديث عقبة، وأخرجه ابن عدي في الكامل 4/1466 من حديث عقبة وفي 5/2041 من حديث عصمة بن مالك، قال الهيثمي عن حديث عبد الله بن عمرو: "رجال ثقات"، وحسن الحديث السيوطي. انظر: الجامع الصغير مع فيض القدير 2/80، وصحح حديث عبد الله بن عمرو الشيخ أحمد شاكر في التعليق على المسند 10/122، وصححه بمجموع الطرق الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 2/386.(3/788)
وقال صلى الله عليه وسلم: "الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل على الصفا"1.
وروي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه قال: "من القلوب قلب أجرد2، فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن، وقلب مسطح3 فيه إيمان ونفاق فمثل الإيمان فيه كالبقلة يمدها الماء العذب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والصديد فأي المدتين غلب عليه حكم بها"4.
__________
1 أخرجه البزار. انظر: كشف الأستار 4/217 عن عائشة - رضي الله عنها - وسنده ضعيف فإن في إسناده عبد الأعلى بن أعين الكوفي، قال الدارقطني: "ليس بثقة"، وقال العقيلي: "جاء بأحاديث منكرة وليس فيها شيء محفوظ". انظر: الميزان 2/259، وللحديث شاهد عن ابن عباس أخرجه عنه أبو نعيم في الحلية 3/36، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير 3/232، وله شاهد آخر بإسناده حسن وهو حديثأبي علي الكاهلي عن أبي موسى الأشعري. أخرجه أحمد في المسند 4/403، وعزاه الهيثمي والمنذري للطبراني في الأوسط والكبير، وقال المنذري: "ورواته إلى أبي علي محتج بهم على في الصحيح وأبو علي وثقه ابن حبان ولم أر أحدا جرحه". مجمع الزوائد 10/223، الترغيب والترهيب 1/76، وانظر: النهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد ص 222.
2 أجرد أي ليس فيه غل ولا غش فهو على أصل الفطرة فنور الإيمان فيه يزهر. النهاية لابن الأثير 1/56.
3 مسطح أي منبسط. انظر: اللسان 3/2006.
4 لم أقف عليه من قول أبي سعيد، وإنما أخرجه الإمام أحمد والطبراني عن أبي سعيد مرفوعاً وأوله: "القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط على غلافه، وقلب منكوس، وقلب مصفح، فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن وسراجه فيه نوره، وأما القلب الأغلف فقلب الكافر، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق عرف ثم أنكر، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق ... " الحديث.
حم 3/17، الطبراني في الصغير 2/110، وفي إسناده ليث بن أبي سليم قال في التقريب: "صدوق اختلط أخيراً ولم يتميز حديثه فترك". التقريب ص 287 كما أنه من رواية أبي البختري سعيد بن فيروز عن أبي سعيد، ولم يسمع أبو البختري من أبي سعيد فهو مرسل، وأخرجه ابن بطة في الإبانة الكبير 2/696 وابن أبي شيبة في الإيمان ص 17 من قول حذيفة - رضي الله عنه - نحوه، قال الألباني في التعليق على كتاب الإيمان: "حديث موقوف صحيح".(3/789)
وقال حذيفة - رضي الله عنه -: "كان الرجل يتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصير بها منافقاً إلى أن يموت، وإني لأسمعها من أحدكم في اليوم عشرات مرات"1.
وقال بعض العلماء: "أقرب الناس من النفاق من يرى أنه بريء من النفاق"2.
وقيل للحسن البصري يقولون: "إن لا نفاق اليوم، فقال الحسن: يا أخي لو هلك المنافقون لاستوحشتم في الطرق"3.
وروي عنه أو عن غيره من العلماء أنه قاله: "لو نبت للمنافقين أذناب لما قدرنا أن نطأ على الأرض"4، ولا ينجو من هذه الأمور إلا الأنبياء والصديقون فلذلك حسن الاستثناء".
والمعنى الرابع في الاستثناء: أنه راجع إلى الشك في الخاتمة، فإنه لا يدري ما يختم له. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحمدوا عمل الرجل حتى تنظروا بم يختم له" 5، قال الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} 6.
__________
1 أخرجه حم 5/386، ووكيع في الزهد 3/790، وابن بطة في الإبانة الكبير 2/692 وليس في شيء منها "إلى أن يموت".
2 روي الفريابي في صفة النفاق ص 60 بسنده عن الحسن أنه قال: "ما مضى مؤمن قط ولا بقي إلا وهو من النفاق مشفق ولا مضى منافق ولا بقي إلا وهو من النفاق آمن" وأخرجه الإمام أحمد في الإيمان ورقة 43 /أ، وأورده البخاري في صحيحه مختصرا "معلقا". انظر: خ - الإيمان (ب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر) 1/15.
3 أخرج الفريابي في صفة النفاق ص 71 أنه قيل للحسن" يا سعيد اليوم نفاق؟ قال لو خرجوا من أزقة البصرة لاستوحشت فيها"، ونحوه أخرج ابن بطة في الإبانة الكبير 2/698.
4 روي هذا من قول مالك بن دينار أنه أقسم لو نبت للمنافقين أذناب ما وجد المؤمنون أرضا يمشون عليها. أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبير 2/699.
5 أخرجه حم 3/120 - 123 - 130 - 257) ، وابن أبي عاصم في السنة 1/174، والآجري في الشريعة ص 185، والبزار. انظر: كشف الأستار 3/26 كلهم من حديث أنس - رضي الله عنه -, ولفظه عندهم "لا تعجبوا بعمل أحد" - فذكره وعزاه الهيثمي إلى أبي يعلى والطبراني في الأوسط وقال: "رجاله رجال الصحيح". مجمع الزوائد 7/211 وصححه الألباني. انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة 3/323.
6 الأعراف آية (99) .(3/790)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم كلما رفع رأسه إلى السماء قال: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على طاعتك" 1.
وقيل: ما من نبي إلا ودعى بدعاء يوسف عليه السلام "أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين"2.
وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبين الجنة إلا شبر3 فيسبق عليه كتاب الشقاوة فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار "4.
وروي أن إبليس عَبَدَ الله خمساً5 وعسرين ألف سنة فكانت عاقبته في النار6.
وقيل: في قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} 7 صدقاً لمن مات
__________
1 أخرجه ت. كتاب القدر (ب إن القلوب بين أصبعي الرحمن) 4/448 من حديث أنس - رضي الله عنه - وقال: "حديث حسن" وأخرجه أيضا في كتاب الدعوات (ب منه 5/538) من حديث أم سلمة - رضي الله عنها - وقال: "حديث حسن"، وأخرجه جه. في المقدمة (ب ما أنكرت الجهمية) 1/72 من حديث النواس بن سمعان، حم 4/182 من حديث النواس وفي 6/91 من حديث عائشة - رضي الله عنها - وفي 6/294 من حديث أم سلمة - رضي الله عنها -، وابن أبي عاصم في السنة عن عبد الله وأم سلمة وعائشة 1/104 قال الألباني في التعليق عليه: "أحاديث صحيحة, وليس في شيء من هذه الروايات قوله "كلما رفع رأسه إلى السماء".
2 يوسف آية (101) ولم أقف على من ذكر ما قال المصنف هنا.
3 في - ح - (ذراع) .
4 في - ح - أورد بعد هذا تكملة الحديث: "وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها".
وهذا الحديث قطعه من حديث عبد الله بن مسعود "حدثني الصادق المصدوق ... " وقد تقدم تخريجه ص 264.
5 في النسختين كتب (خمسة) وهو خطأ.
6 لم أر من ذكر هذا وإنما ورد عن ابن عباس وغيره أنه كان يعبد الله عز وجل حتى أبى السجود لآدم. انظر: تفسير ابن جرير 1/224.
7 الأنعام آية (115) .(3/791)
على الإيمان وعدلا لمن مات على الشرك1.
وكان أبو الدرداء يحلف بالله ما أحد أمن أن يسلب إيمانه إلا سلبه2، ويقال من الذنوب عقوبتها سوء الخاتمة ... أعوذ بالله منها، وقيل: هي عقوبة دعوى الولاية والكرامة بالإفتراء3.
__________
1 ذكر المفسرون هنا قول قتادة: "صدقاً فيما وعد وعدلاً فيما حكم" والمعنى المذكور داخل ضمن هذا. انظر: تفسير ابن جرير 8/9، تفسير ابن كثير 2/168.
2 أخرجه اللالكائي في السنة 6/1020، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/344، والحافظ أبو عمر العدني في كتاب الإيمان - ص 108.
3 التعليل هنا للاستثناء بالجهل بالخاتمة تعليل صحيح إلا أنه لم يرد عن السلف ملاحظة هذا المعنى في الاستثناء في الإيمان، وإنما هو تعليل من قال بوجوب الاستثناء وهم الكلابية وأبو الحسن الأشعري وأكثر أصحابه وبه قال القاضي عبد الجبار المعتزلي ونسب شيخ الإسلام هذا القول إلى المتأخرين من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم. انظر: أصول الدين للبغدادي ص 253، لوامع الأنوار البهية 1/432 - 438، شرح الفقه الأكبر ص 116 - 117، المعتمد في أصول الدين ص 190، شرح الأصول الخمسة ص 728 الفتاوى لشيخ الإسلام 7/253 - 256.(3/792)
116 – فصل: في ذكر فضائح المرجئة
روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما بعث الله نبياً قبلي فاستجمعت له أمته إلا كان فيهم مرجئة وقدرية يشوشون أمر أمته من بعده ألا وإن الله لعن المرجئة والقدرية على لسان سبعين نبياً أن آخرهم"1.
وروى أبو هريرة أن ال صلىالله عليه وسلم قال: " صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب المرجئة والقدرية "2.
وروى حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " صنفان من أمتي في النار قوم يقولون الإيمان كلام وإن زنى وإن سرق وقتل وآخرون يقولون إن أو لينا لضلال يقولون خمس صلوات في يوم وليلة وإنهما صلاتان"3.
__________
1 الحديث ضعيف أخرجه الآجري في الشريعة ص 148 - 193 وابن بطة في الإبانة الكبير 2/884 من حديث سويد بن سعيد الحدثاني وقد قال عنه في التقريب: "صدوق في نفسه إلا أنه عمي فصار يتلقن ما ليس من حديثه". التقريب ص 140 وقد ذكر الحديث الذهبي في الميزان 2/250 في ترجمة سويد ونقل عن البخاري قوله في سويد: "منكر الحديث" وقول النسائي: "ضعيف".
2 أخرجه الآجري في الشريعة ص 193 وهو من طريق علي بن نزار بن حيان عن أبيه عن عكرمة عن أبي هريرة به، وأخرجه ت كتاب القدر (ب ما جاء في القدرية) 4/454، جه في المقدمة (ب الإيمان) 1/24 - 48، وابن أبي عاصم في السنة 1/147، 2/461، واللالكائي في السنة 4/641 من طريق علي بن نزار عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس وهذا سند ضعيف فإن علي قال فيه يحيى: "ليس بشيء"، وقال الأزدي: "ضعيف جداً واشتهر بهذا". الحديث الميزان 3/159 وقال ابن حبان: عن أبيه "شيخ يروي عن عكرمة قليل الرواية منكر الحديث يأتي عن عكرمة بما ليس من حديثه حتى يسبق إلى القلب أنه كان المتعمد لها". المجروحين 3/56.
وللحديث طريق أخرى عن سلام بن أبي عمرة عن عكرمة عن ابن عباس عند الترمذي واللالكائي وسندها ضعيف فإن سلاماً ضعيف كما ذكر ابن حجر في التقريب ص 141 وقد ضعف الحديث الألباني في تعليقه على السنة لابن أبي عاصم 1/147.
3 أخرجه اللالكائي في السنة 5/987 وسنده ضعيف فإنه من رواية عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن حذيفة وعبد الوهاب قال فيه يحيى: "لا يكتب حديثه" وقال أحمد: "ليس بشيء ضعيف"، وقال البخاري: "قال وكيع يقولون لم يسمع من أبيه". انظر: الميزان 4/682، وورد هذا الحديث عن حذيفة موقوفاً أخرجه عنه الآجري في الشريعة ص 143 وأبو عبيد القاسم بن سلام في الإيمان ص 81 من طرق يحيى بن عمرو الشيباني عن حذيفة وهو مرسل. انظر: التقريب ص 378.(3/793)
وقال ابن عباس: "اتقوا الإرجاء فإنه شعبة من النصرانية"1.
وقال مجاهد: "يبدؤون فيكونون مرجئة ثم يكونون قدرية ثم يكونون مجوساً"2.
وقال محمد بن علي بن الحسين: "ما ليل بليل ولا نهار بنهار أشبه من المرجئة باليهود"3.
وقال محمد بن يوسف4: "دخلت على سفيان الثوري وفي حجره المصحف وهو يقلب الورق فقال: ما أجد أبعد منه من المرجئة"5.
روي أن عبد الملك بن مروان6 ذكر الحديث عن النبي صلىالله عليه وسلم، " من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة وإن زنى وإن سرق"، فقال له الزهري: "أين ذهب بك يا أمير المؤمنين؟ هذا قبل الأمر والنهي وقبل الفرائض7، وذكروا عند الضحاك بن مزاحم من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال: هذا قبل
__________
1 أخرجه اللالكائي في السنة 5/987.
2 أخرجه اللالكائي في السنة 5/998.
3 أخرجه اللالكائي في السنة 5/991.
ولعل وجه الشبه والله أعلم بينهما من ناحية أن اليهود يعتقدون أنهم ناجون يوم القيامة وإن لم يعلموا، حيث زعموا أن الجنة لهم والنار لغيرهم ولو دخلوا النار سيدخلونها أياماً معدودة وكذلك المرجئة يزعمون أنهم قد نالوا الإيمان بدون عمل وأنهم سينجون يوم القيامة ويكونون من أصحاب الجنة، والله أعلم.
4 محمد بن يوسف بن واقد الفريابي ثقة فاضل توفي 112هـ -. التقريب ص 325.
5 أخرجه اللالكائي في السنة 5/995.
6 عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي، توفي سنة 186هـ - التقريب ص 220.
7 أخرجه الآجري في الشريعة ص 146.(3/794)
أن تحد الحدود وتنز ل الفرائض1، قال الأوزاعي: "ثلاث هي بدعة من قال أنا مؤمن مستكمل الإيمان، ومن قال أنا مؤمن حقاً، ومن قال أنا مؤمن عند الله"2.
ويلزم المرجئة الذين يقولون الإيمان قول بلا عمل أن إبليس مؤمن لأن الله أخبر أنه قال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} 3 وقال: {رَبِّ فَأَنْظِرْنِي} 4 فأخبر الله أنه قال بلسانه أن له رباً، ويلزم الجهمية الذين يقولون: إن الإيمان معرفة بلا قول ولا عمل أن اليهود مؤمنون لأن الله تعالى أخبر عنهم بقوله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُم} ْ5 وقد علمنا أن الكفار عرفوا بعقولهم أن الله خلقهم وأنه خلق السموات والأرض6، قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَق7 السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 8 ويعرفون أيضاً أنه لا ينجيهم من ظلمات البر والبحر إلا الله ويدعون إلى الله أن ينجيهم وبذلك أخبر الله عنهم.
وروي عن زبيد9 أنه قال: لما ظهرت المرجئة أتيت أبا وائل10 فحدثني
__________
1 أخرجه الآجري في الشريعة - ص 144، ووجه الاستدلال من هذا الدليل والذي قبله أن المرجئة يزعمون أن من نطق بالشهادة فهو مؤمن كامل الإيمان وأن الزنى والسرقة لا تضره - وقد تقدم ص 757 النقل عن العلماء في هذه المسألة وردهم قول الزهري والضحاك بن مزاحم.
2 فلينظر الشريعة للآجري - ص 146.
3 الحجر آية (39) .
4 الحجر آية (36) .
5 البقرة آية (146) .
6 لم يعرفوا هذا فقط بعقولهم بل بفطرتهم وببقية دين إبراهيم الخليل عليه السلام الذي كانوا عليه.
7 ما بين القوسين ساقط من الأصل، وهو مثبت في - ح -.
8 الزمر آية (38) .
9 في - ح - (زيد) والصواب وزبيد وهو ابن الحارث بن عبد الكريم اليامي قال في التقريب ثقة عابد مات سنة 122هـ -. التقريب 106.
10 هو شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي ثقة مخضرم مات في خلافة عمر بن عبد العزيز وله مائة سنة التقريب ص 147.(3/795)
عن النبي صلىالله عليه وسلم أنه قال: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"1.
وسئل ميمون بن مهران عن كلام المرجئة فقال: "أنا أكبر من ذلك"2، يريد أن هذا الكلام حدث بعد ولادتي، وكذلك قال أيوب: أنا أكبر من المرجئة أول من تكلم في الإرجاء رجل يقال له الحسن بن محمد3 وذكروا المرجئة عند سفيان فقال: رأي محدث أدركت الناس على غيره4، وقيل لابن أبي مليكة: إن قوماً يزعمون أن إيمانهم كإيمان جبريل وميكائيل فغضب عبد الله بن أبي مليكة فقال: ما رضي الله لجبريل عليه السلام حتى
__________
1 قول زبيد أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/319 والإمام أحمد في الإيمان، ورقة 102/أواللالكائي في السنة 5/1001 أما الحديث فقد أخرجه خ. كتاب الإيمان (ب خوف المؤمن من أن يحبط عمله) 1/15م. كتاب الإيمان (ب: قول النبي صلى الله عليه وسلم سباب المسلم ... ) 1/81.
2 أخرجه اللالكائي في السنة 5/1001.
3 أخرجه اللالكائي في السنة 5/1003 والحسن هو ابن محمد بن علي بن أبي طالب ثقة فقيه قال عمرو بن دينار: "ما كان الزهري إلا من غلمان الحسن بن محمد". انظر: التقريب ص 72 والتهذيب 2/320 وورى ابن سعد في الطبقات بسنده أن زاذان وميسرة دخلا على الحسن بن محمد بن علي فلاماه على الكتاب الذي وضع في الإرجاء فقال لزاذان يا أبا عمر لوددت أني كنت مت ولم أكتبه الطبقات 5/328.
فهذا يبين رجوعه عن هذا القول. وقد ذكر ابن حجر في ترجمته في التهذيب أن الإرجاء الذي نسب إلى الحسن هو إرجاء أمر المتقاتلين في الفتنة بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما - وهذا بناء على رواية أبي عمر العدني في كتاب الإيمان له ص 145 عن عبد الواحد بن أيمن أنه قال: كان الحسن بن محمد بن الحنفية
يأمر أن أقرأ هذا الكتاب على الناس، فذكر كتاباً مطولاً فيه الأمر بتقوى الله وموالاة الشيخين أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - وإرجاء أمر المتقاتلين وذم فيه الروافض وتشيعهم لآل البيت وكذبهم وافتراءاتهم، قال ابن حجر: "وأما الإرجاء الذي يتعلق بالإيمان فلم يعرج عليه فلا يلحقه عاب".
وهذا كلام جيد من ابن حجر - رحمه الله - إلا أن اللالكائي ذكر عنه ذلك في معرض الكلام على الإرجاء في الإيمان فلو كان هو المقصود لأفصح عنه العلماء فالإرجاء إذا أطلق لا يتجه إلا إلى الإرجاء في الإيمان، والله أعلم.
4 الشريعة للآجري ص 144، السنة للالكائي 5/1004.(3/796)
فضله بالثناء على محمد صلى الله عليه وسلم فقال: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ، وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} 1.
يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، قال ابن أبي مليكة: أو أجعل إيمان جبريل وميكائيل كإيمان فهدان؟ لا؟ ولا كرامة ولا حباً، قالوا: وفهدان هذا كان رجلا في وقته لا يصحوا من الشراب2، ومن زعم أن من قال لا إله إلا الله لم تضره الكبائر إن عملها وأنه كالبر التقي الذي لم يباشر من ذلك شيئاً مخالف لقول الله سبحانه: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} 3 الآية. وقوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} 4.
وروى أبو القاسم هبة الله بن الحسن اللالكائي عن سفيان5 عن عباد بن كثير6 أنه قال: "استتيب أبو حنيفة7 مرتين قال مرة: "لو أن رجلاً قال أشهد أن لله بيتاً إلا أني لا أدري أهو هذا أو بيت8 بخراسان كان عندي مؤمناً، ولو أن رجلاً قال: أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أني لا أدري أهو هذا الذي بالمدينة أو رجل بخراسان كان عندي مؤمناً"9، قال الحميدي10
__________
1 التكوير آية (19 - 22) .
2 أخرج هذا الآجري في الشريعة ص 147.
3 الجاثية آية (21) .
4 ص آية (28) .
5 في النسختين (عن سفيان بن عباد ... ) وهو خطأ والصواب ما أثبت كما في مصادر الرواية.
6 عباد بن كثير الثقفي البصري متروك مات بعد 140هـ -. التقريب ص 163.
7 في الأصل (أبي) والصواب من - ح -.
8 في الأصل (بيتي) والتصويب في - ح - وكما في مصادر الرواية.
9 أخرجه اللالكائي في السنة 5/996 وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/194 وهو أثر باطل كما هو ظاهر من ترجمة عباد.
10 هو عبد الله بن الزبير بن عيسى القرشي الحميدي أبو بكر ثقة حافظ فقيه توفي سنة 219هـ -. التقريب ص 173.(3/797)
حمد بن حنبل: "من قال هذا فقد كفر"1.
روي أيضاً أن أبا إسحاق الفزاري2 قال، قال أبو حنيفة: "إيمان أبي بكر وإيمان إبليس واحد؛ قال إبليس: يا رب, وقال أبو بكر: يا رب"3.
وروي عن وكيع ابن الجراح4 قال: اجتمع ابن أبي ليلى5والحسن بن صالح6وسفيان بن سعيد الثوري وشريك بن عبد الله النخعي7 وأرسلوا إلى أبي حنيفة
__________
1 روى هذا عنهما اللالكائي في السنة 5/998 وذكر قول الحميدي فقط عبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/195 وفي إسناده الحارث بن عمير من آل عمر بن الخطاب وثقه ابن معين وأبو حاتم والدارقطني وغيرهما، وقال الأزدي: "ضعيف منكر الحديث"، وقال ابن خزيمة: "الحارث بن عمير كذاب" وقال ابن حبان: "كان يروي عن الأثبات الموضوعات"، وقال ابن حجر: "لعله تغير حفظه بالآخر".
انظر: التهذيب 2/153 التقريب ص 60.
2 هو إبراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة الفزاري ثقة حافظ إمام له تصانيف توفي سنة 185هـ -. التقريب ص 22.
3 أخرجه اللالكائي في السنة 5/998 وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة 1/219 وإسناده عند عبد الله إسناد صحيح فقد رواه عن إبراهيم بن سعيد الجوهري الطبري عن أبي ثوبة الربيع بن نافع عن أبي إسحاق وهؤلاء كلهم أئمة ثقات. انظر: ترجمتهم في التقريب.
ولعل مراد الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - التساوي بالإقرار إلا أن هذا لا يسلم له إن صح عنه ذلك وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا الرسول صلى الله عليه وسلم. وسيأتي موقف المصنف - رحمه الله - من هذه الروايات مع أنه كان في غناء عن إيرادها في كتابه وأبو حنيفة - رحمه الله - إمام من أئمة المسلمين أثنى عليه الأئمة وقد ثبت عنه القول بأن الإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالقلب إلا أنه يرى أن الأعمال واجبة وأن تارك الأعمال ومرتكب المنهيات مذموم وقد تقدم بيان أن المرجئة أكثرهم على ان الفاسق مغفورة ذنوبه بالإيمان. انظر: ص 527.
4 وكيع بن الجراح بن مليح الرؤاسي أبو سفيان الكوفي ثقة حافظ عابد توفي سنة 196هـ -. التقريب ص 369.
5 محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي القاضي أبو عبد الرحمن صدوق سيء الحفظ جداً توفي سنة 148هـ -. التقريب ص 308.
6 الحسن بن صالح بن صالح بن حي الهمداني ثقة فقيه عابد رمي بالتشيع توفي سنة 199هـ -. التقريب 70.
7 شريك بن عبد الله النخعي الكوفي القاضي بواسط ثم الكوفة صدوق يخطيء كثيراً تغير حفظه منذ ولي القضاء بالكوفة وكان عادلاً فاضلاً عابداً شديداً على أهل البدع توفي سنة 178هـ -. التقريب ص 145.(3/798)
فجاءهم فقالوا له: "ما تقول فيمن نكح أمه وقتل أباه ورب الخمر؟ فقال: مؤمن, فقال ابن أبي ليلى: لا أقبل لك شهادة أبداً، وقال الحسن بن صالح: وجهي من وجهك حرام، وقال شريك: لو كان لي من الأمر شيء لضربت عنقك، وقال له الثوري: كلامك علي حرام أبداً"1.
وقال سليمان بن حرب2: "مر أبو حنيفة بسكران فقال له السكران: يا أبا حنيفة يا مرجيء، فقال له أبو حنيفة: صدقت الذنب منى حين سميتك مؤمناً مستكمل الإيمان"3.
قلت: وهذه مقالة شنيعة والخطأ فيها ظاهر من قائلها، وأنا أشرف أبا حنيفة من هذه المقالة، لأن الله سبحانه جعله إماماً لخلق كثير من أهل الأرض والله أكرم أن يجعل الناس تابعين في الدين لرجل من أهل النار، ولعله كان يقول بهذا ثم تاب عنه، أو حكي ذلك عن المرجئة مطلقاً فنسب إليه، كما نسب قوم4 لا بصيرة لهم محمد بن إدريس الشافعي - رحمه الله - إلى الاعتزال لقوله وإشهاده من يرى أن كذبه شرك بالله ومعصية تجب بها النار أولى أن تطيب النفوس بقبولها من شهادة من يخفف المأثم فيها، وهذا جهل ممن نسب الشافعي إلى الاعتزال بهذا الكلام لأن الشافعي أراد بذلك أن من يرى كذبه شرك بالله ومعصية هم الخوارج5 ولم يرد أن شهادتهم
__________
1 أخرجه اللالكائي في السنة 5/998، وفي إسناده طاهر بن محمد بن الحسن التميمي عن علي بن الحسن النسائي لم أقف لهما على ترجمة.
2 في الأصل (حرم) وفي - ح - (الحارث) والتصويب من السنة للالكائي وهو سليمان بن حرب الأزدي الواشجي القاضي بمكة ثقة أمام حافظ مات سنة 224هـ -. التقريب ص 133.
3 أخرجه اللالكائي في السنة 5/1000 وفي إسناده عمران بن محمد الهروي ولم أقف له على ترجمة.
4 في الأصل (قوماً) وما أثبت من - ح - وهو الصواب.
5 تقدم ذكر قولهم ص 668.(3/799)
تقبل وإنما أراد أن شهادتهم لا ترد لأجل قولهم هذا لأنه أدعى1 إلى قبول قولهم، والذي يخفف المأثم فيها هم المرجئة لأن الكبائر عندهم لا تضر إذا أتى التوحيد2، والمعتزلة يقولون إن صاحب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر3، وكلهم في باب الذم واحد إلا أن منهم من يستحق اسم الكفر بقوله ومنهم من يستحق اسم الفسق ومنهم من يستحق اسم التبديع، وليس إذا قدم بعضهم على بعض في الذم يكون مدحاً لبعضهم كما قال الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} 4 فلا يدل5 الترجيح هاهنا6 في أنهم أقرب مودة للذين آمنوا على انهم على حق بغير هذا بل الجميع منهم على كفر، كما أخبر عنهم في آي كثيرة منها قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 7.
أما الدليل على بطلان قول من نسب الشافعي - رحمه الله - إلى الاعتزال فما روي عن الشافعي في كتب كثيرة صح إسنادها عنه أنه كفر القدرية، وكفر من قال بخلق القرآن وكفر الفرد8 بقوله. وحكى عنه المزني: هما جماعان أحدهما يوجب العقوبة في الدنيا وهو الحد والعذاب في الآخرة
__________
1 في الأصل (دعا) وما أثبت من - ح - وهو أقوم للعبارة.
2 تقدم التعليق على هذا ص 667.
3 تقدم ذكر قولهم ص 68.
4 المائدة آية (82) .
5 في الأصل (فلا يدخل) وما في - ح - أصوب.
6 في - ح - زيادة (للنصارى) .
7 التوبة آية (30) .
8 تقدم قوله في تكفير القائل بخلق القرآن وتكفير حفص الفرد لأنه قال بخلق القرآن ص 552.(3/800)
إلا أن يغفر الله، وأراد به الزنا، وقال في الرجل إذا فر من الأسر1 غير متحرف لقتال ولا متحيز إلى فئة فإن كان هربه على غير هذا المعنى حقت عليه إلا أن يعفو الله تعالى أن يكون قد باء بغضب من الله2، وهذا تصريح منه أن مذهبه كمذهب أهل الحديث أن من ارتكب كبيرة أثم، ولكن إن شاء الله عاقبه وإن شاء عفا عنه، والمعتزلة يقولون إنه يستوجب النار ويكون خالدا مخلداً فيها3 وقد رمي حماد4 بالإرجاء "كان المغيرة5 يقول: حدثنا حماد قبل أن يصير مرجئاً وقال: حدثنا حماد قبل أن يفسد6.
قال سفيان الثوري: "اتقوا هذه الأهواء قيل له: فبين لنا رحمك الله، فقال سفيان: المرجئة يقولون الإيمان كلام بلا عمل من قال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله فهو مؤمن مستكمل الإيمان على إيمان جبريل والملائكة وإن قتل كذا وكذا مؤمنا وإن ترك الغسل من الجنابة وإن ترك الصلاة وهم يرون السيف على أهل القبلة"7.
وقال الأوزاعي من آمن وعصى إيمانه بإيمان إبليس أشبه منه بإيمان جبريل، لأن جبريل آمن وأطاع وإبليس آمن وعصى8. وقيل إن عون بن عبد الله بن
__________
1 هكذا في النسختين ولعله يقصد (القتال) أو (الزحف) .
2 في - ح - (إلا أن لا يعفو الله تعالى وأن يكون قد باء ... ) وهو غير مستقيم وما أثبت كما في الأصل ويظهر أن في الكلام سقطا مع أن المعنى المراد واضح وهو أن الذي يفر من الزحف تحت المشيئة.
3 تقدم ذكر هذا ص 668.
4 هو: حماد بن أبي سليمان مسلم الأشعري مولاهم أبو إسماعيل الكوفي الفقيه صدوق له أوهام رمي بالإرجاء مات سنة 120هـ -. التقريب ص 82.
5 المغيرة بن مقسم - بكسر الميم - الضبي مولاهم أبو هاشم الكوفي الأعمى ثقة متقن إلا أنه كان يدلس توفي سنة 136هـ -. التقريب ص 345.
6 أخرجه اللالكائي في السنة 5/1002.
7 أخرجه اللالكائي في السنة 5/999 ومراده بقوله (يرون السيف على أهل القبلة) أنهم يروون الخروج على أئمة الجور.
8 أخرجه اللالكائي في السنة 5/999.(3/801)
عتبة بن مسعود1 كان مرجئاً فرجع عن الإرجاء وأنشأ يقول:
لأول ما تفارق من غيرك شك ... تفارق ما يقول المرجئونا
وقالوا مؤمن من آل جور ... وليس المؤمنون بجائرينا
وقالوا مؤمن دمه حلال2 ... وقد حرمت دماء المؤمنينا3
وأنشد سليمان بن منصور بن عمار4:
أيها القائل إني مؤمن ... إنما الإيمان قول وعمل
إنما الإرجاء دين محدث ... سنة جهم بن صفوان تحل
إن دين الله دين قيم ... فيه صوم وصلاة تعتمل
وزكاة وجهاد لا مرئ ... حارب الدين اعتدى وقتل
ليس بالمستكمل الإيمان من ... إن رأى صلى وإلا لم يصل
اسم هذا مؤمن الإقرار لا ... مؤمن حقا وحقا لم يقل
إن رأي سفيان وما ... كان سفيان على رأي فضل5
__________
1 عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الكوفي أبو عبد الله. ثقة عابد. توفي قبل 120هـ - التقريب ص 267.
2 أخرجها عنه اللالكائي في السنة 5/1006.
3 في الأصل (حرام) وفي - ح - وعند اللالكائي كما أثبت وهو الصواب إذ المراد بيان شناعة قول من كان يرى السيف في الأمة من المرجئة والخوارج حيث أباحوا دم المؤمن.
4لم أقف له على ترجمة.
5 فضل بفتح الفاء والضاد من الفضلة بفتح الفاء وسكون الضاد أي الزائد الذي لا قيمة له. وأخرج هذه الأبيات اللالكائي في السنة 5/1007.(3/802)
117 - فصل
وعند أهل1الحديث أن الجن وإبليس خلق من خلق الله يراهم من أراه الله إياهم وقالت المبتدعة: لا حقيقة للجن، وإبليس2 كل رجل سوء3 والدليل على ما ذكرناه أن الله سبحانه أخبر بكتابه عن إبليس وَأَمْرِه له بالسجود لآدم وتكبره عن السجود وإخراجه له من الجنة وسؤاله النظرة إلى يوم القيامة، وأخبر بكتابه عن الجن بقوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِن} 4 الآيات كلها في هذه السورة.
ومن السنة ما روى أبو ثعلبة الخشنى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الجن على ثلاث فثلث لهم أجنحة يطيرون في الهواء، وثلث حيات5 وكلاب، وثلث يحلون ويظعنون"6.
__________
1 في - ح - (أصحاب) .
2 في الأصل (وإبليس عند) وفي - ح - كما أثبت ولا معنى لقوله هنا (عند) .
3 الجن مخلوقات من مخلوقات الله عز وجل وهم مكلفون ومعاقبون إن فرطوا، وفيهم الصالحون والفاسقون، وهم يتناسلون ولهم قدرة على التشكل بهيئات غير هيئاتهم الحقيقية هذا مجمل اعتقاد السلف فيهم وأدلة هذا في الشرع ظاهرة، وأقر بوجودهم أكثر طوائف بني آدم وعزا شيخ الإسلام إنكار وجودهم إلى شرذمة قليلة من جهال الفلاسفة والأطباء، وقد زعم الجويني في الإرشاد أن معظم المعتزلة ينكرون وجودهم ولم أقف على من عزا إليهم ذلك غيره. وقال الأشعري في مقالاته: "وذهب إلى إنكار وجودهم ذاهبون". وقد أنكر وجودهم بعض المتأخرين من الذين يحكمون عقولهم الذين تابعوا ملاحدة أهل الكتاب كما نقل عنهم ذلك صاحب كتاب (منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير) . أما رؤيتهم ففي حال تشكلهم بصورة غير صورة خلقتهم الأصلية فإنهم يرون فيها كما في قصة أبي هريرة مع الشيطان والتي سيوردها المصنف، أما صورتهم الأصلية فقد ورد عن الشافعي - رحمه الله - إنكار أن يروا بها. فروى عنه البيهقي في المناقب أنه قال: "من زعم أنه يرى الجن أبطلنا شهادته إلا أن يكون نبياً" والله أعلم. انظر: مق - الات الإسلاميين 2/127 - 128، الفصل لابن حزم 5/12، مجموع الفتاوى 19/32، الإرشاد للجويني ص 270، منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير - ص 631 - 647 عالم الجن والشياطين ص 8.
4 سورة الجن آية (1) .
5 في - ح - زيادة (وعقاب) وليست في الأصل ولا في شيء من مصادر الرواية.
6 أخرجه الحاكم في المستدرك 2/456 وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي وأخرجه البيهقي في الأسماء والصفات ص 492 واللالكائي في السنة 7/1218 وأبو نعيم في الحلية 5/137 والديلمي في مسند الفردوس، انظر: فردوس الأخبار 2/200 وعزاه الهيثمي والسيوطي إلى الطبراني في الكبير، ولم أجده في المطبوع. انظر: مجمع الزوائد 8/136 والجامع الصغير مع فيض القدير 3/364 وصحح الحديث العراقي والسيوطي. انظر: فيض القدير 3/364 وصححه الألباني. انظر: التعليق على مشكاة المصابيح 2/1206 وصحيح الجامع الصغير 3/85.(3/803)
وروى أبو هريرة قال: "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحفظ زكاة رمضان فأتى آت من الليل فجعل يحثوا من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دعني إني محتاج وحالي شديد وعلي عيال فرحمه وخلى سبيله، فلما أصبح قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا هريرة ما فعل أسيرك الليلة، قال: يا نبي الله زعم أنه محتاج وحاله شديد فرحمته، فقال: أما إنه قد كذبك وسيعود، فلما كان الليلة الثانية رصده فجاء يأخذه وقال: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعمت أنك لا تعود وقد عدت فقال كما قال في الليلة الأولى، فرحمه وخلى سبيله، فلما أصبح قال له النبي صلى الله عليه وسلم كما قال له في الليلة الأولى، فلما كان في الليلة الثالثة رصدهه فجاء يأخذه فقال له كما في الليلة الثانية، فقال له: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بهن، وكانوا حريصين - على الخبر - فقال: ما هن قال: إذا أخذت مضعجك فاقرأ آية الكرسي من أولها إلى آخرها فإنه لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ما فعل أسيرك الليلة فقال: يا بني الله علمني كلمات وأخبره الخبر فقال: أما أنه قد صدقك وهو كذوب. أتدري يا أبا هريرة من تخاطب قال: لا، قال: ذلك شيطان" أخرجه البخاري1.
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل2: "لما حضر أبي الوفاة كنت عنده وكان
__________
1 خ. كتاب الوكالة (ب إذا وكل رجلا فترك الوكيل شيئاً فأجازه الموكل) 3/88.
2 هو الحافظ عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل أبو عبد الرحمن كان إماما خبيرا بالحديث وعلله مقدما أروى الناس عن أبيه وهو الذي رتب مسند والده، توفي سنة 290هـ -. العبر في خبر من غبر 1/418.(3/804)
يعرق مما هو فيه وبيدي خرقة أمسح بها عينيه ساعة فساعة ففتح أبي عينيه وحدق بها وأومأ بيده وقال لا بعد دفعات، فقال: يا أبت من تخاطب فقال: هذا إبليس قائماً يحضرني عاضا1 على أنامله يقول: يا أحمد فتني فقال: لا حتى أموت"2.
__________
1 في الأصل (عاض) وما أثبت من - ح -.
2 أخرجه اللالكائي في السنة 7/1219.(3/805)
118 - فصل
وعند أهل الحديث أن خروج الدجال حق وقالت المبتدعة الدجال كل رجل خبيث1.
والدليل على ما ذكرناه ما روى أبو عبيدة بن الجراح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لم يكن نبي بعد نوح إلا قد أنذر قومه الدجال وإني أنذركموه"، فوصفه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "لعله سيدركه بعض من رآني وسمع كلامي"، قالوا: يا رسول الله فكيف قلوبنا يومئذ، قال: "مثلها اليوم أو خير"2.
وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما بعث نبي إلا أنذر قومه الأعور الكذاب إلا أنه أعور وإن ربكم ليس بأعور مكتوب بين عينيه كافر يقرأه كل من كره عمله"3، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الدجال يخرج من أرض المشرق يقال لها خراسان يتبعه أقوام كأن وجوههم4 المجان المطرقة"5.
__________
1 ذكر النووي في شرح مسلم 18/58 عن القاضي عياض أنه قال: "هذه الأحاديث التي ذكرها مسلم وغيره في قصة الدجال حجة لمذهب أهل الحق في صحة وجوده وأنه شخص بعينه ابتلى الله به عباده، وأقدره على أشياء تقع بقدرة الله ومشيئته، ثم يعجزه الله عز وجل ويبطل أمره ويقتله عيسى صلى الله عليه وسلم ويثبت الله الذين آمنوا، وهذا مذهب أهل السنة وجميع المحدثين والفقهاء والنظار خلافا لمن أنكره من الخوارج والجهمية وبعض المعتزلة". اتنهى ملخصا. كما أنكر الدجال المدرسة العقلية الحديثة محمد عبده ومن تابعه في هذا النهج وزعموا أن الدجال رمز للخرافات والدجل والقبائح التي تزول بتقرير الشريعة على وجهها والأخذ بأسرارها وحكمها. انظر: منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير ص 521 والأحاديث الصحيحة الصريحة التي سيذكرها المصنف - رحمه الله - هنا ترد على هذا التأويل الباطني المنحرف.
2 أخرجه ت. كتاب الفتن (باب ما جاء في الدجال) 4/507 د. كتاب السنة (ب في الدجال) 2/282، والحديث منقطع فإن عبد الله ببن سراقة الأزدي لم يسمع من أبي عبيدة كما ذكر ذلك البخاري. انظر: التقريب - ص 175.
3 أخرجه خ. كتاب الفتن (ب ذكر الدجال) 9/50 م. كتاب الفتن (ب ذكر الدجال) 4/2248 وليس في روايتهما قوله (يقرأه كل من كره عمله) وإنما ذكرها مسلم من حديث ابن شهاب عن عمر ابن ثابت الأنصاري عن بعض أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يوم حذر الناس من الدجال "إنه مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل من يكره عمله".
4 في الأصل (عيونهم) والصواب ما أثبت كما في - ح - ومصادر الحديث.
5 أخرجه ت. كتاب الفتن (ب علامة الدجال) 4/509 من حديث أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وقال الترمذي حديث حسن غريب وقد وقد رواه عبد الله بن شوذب وغير واحد عن أبي التياح ولا نعرفه إلا من حديث أبي التياح، انتهى. وأبو التياح عو يزيد بن حميد الضبعي ثقة ثبت. انظر: التقريب ص 381، كما أخرجه عنه جه. كتاب الفتن (ب فتنة الدجال) 2/1353 حم. 1/13 بتحقيق أحمد شاكر، الحاكم في المستدرك (كتاب الفتن والملاحم) 4/527 وقال: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، وصحح الحديث الشيخ أحمد شاكر في التعليق على المسند.(3/806)
وقال صلى الله عليه وسلم: " يأتي الدجال المدينة فيجد الملائكة يحرسونها فلا يدخلها الطاعون ولا الدجال إن شاء الله".1
والدجال قد خلق وهو في الدنيا موثق بالحديد إلى الوقت الذي يأذن الله بخروجه.2
وعن معقل بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقد أكل الطعام ومشى في الأسواق يعني الدجال"3.
وروى أبو بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يمكث أبو الدجال وأمه ثلاثين عاما لا يولد لهما ولد ثم يولد لهما ولد أعور أضر شيء وأقله منفعة تنام عيناه ولا ينام قلبه، ثم نعت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه فقال: "أبوه طوال ضرب اللحم كان أنفه منقار وأمه امرأة طويلة اليدين" قال أبو بكرة فسمعنا بمولود في اليهود بالمدينة فذهبت أنا والزبير بن العوام فدخلنا على أبويه فإذا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما فقلنا هل لكما ولد فقالا: مكثنا ثلاثين عاما لا يولد
__________
1 أخرجه خ. كتاب الفتن (ب الدجال لا يدخل الجنة) 9/51 نحوه. وأخرجه ت. كتاب الفتن (ب ما جاء في الدجال لا يدخل المدينة (4/514 من حديث أنس مثله.
2 لعل مراد المصنف هنا الإشارة إلى حديث فاطمة بنت قيس - رضي الله عنها - في قصة تميم الداري ورؤية ابن عمه للدجال موثقا في جزيرة من جزر البحر وتصديق النبي صلى الله عليه وسلم لذلك، وقد أخرج هذه القصة مسلم في صحيحه في كتاب الفتن (ب قصة الجساسة) 4/2261.
3 أخرجه الآجري في الشريعة ص 374، وعزاه الهيثمي إلى الطبراني في الأوسط. مجمع الزوائد 8/2، وإسناده ضعيف لأنه من طريق علي بن زيد بن جدعان قال عنه في التقريب ص 246: "ضعيف"، وقد روى الحديث من طريق علي بن زيد بن جدعان عن الحسن عن عمران بن الحصين أخرجه، حم 4/444 والطبراني في الكبير 18/155 والحميدي في مسنده 2/368 والآجري في الشريعة 374 وهو ضعيف لضعف علي بن زيد - كما تقدم.(3/807)
لنا ولد ثم ولد لنا غلام أعور أضر شيء وأقله منفعة تنام عيناه ولا ينام قلبه قال فخرجنا من عندهما فإذا هو منجدل في الشمس في قطيفة وإذا له همهمة فكشف عن رأسه فقال: ما قلتما قلنا: هل سمعت ما قلنا، قال: نعم تنام عيني ولا ينام قلبي"1.
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأنبياء أمهاتهم شتى ويدنهم واحد، وأنا أولى الناس بعيسى بن مريم لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، وأنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بللل وأنه يدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال ويقاتل الناس على الإسلام حتى يهلك الله في إمارته الملل كلها2 غير الإسلام، ويهلك الله في إمارته3 المسيح الأعور الكذاب، وتقع الأمنة في الأرض حتى يرعى الأسد مع الإبل والنمر مع البقر والذئاب
__________
1 أخرجه ت. كتاب الفتن (باب ما جاء في ذكر ابن صائد) 4/517 حم 5/ 40 - 49 - 50) ، وسنده ضعيف لأنه من رواية علي بن زيد بن جدعان وقد تقدم في الحديث قبله بيان حاله، وقد ضعفه ابن حجر ونقل عن البيهقي تضعيفه أيضا. انظر: فتح الباري 13/326.
وابن صياد وقع في أمره اشتباه وقد شك فيه النبي صلى الله عليه وسلم هل هو الدجال أم هو غيره لهذا قال لعمر حين استأذنه في قتله: "إن يكنه فلن تسلط عليه وإن لم يكنه فلا خير لك في قلته". أخرجه م.، 4/2244 وكان النبي صلى الله عليه وسلم يترصده كما روى ذلك عبد الله بن عمر أن النبي صلوات الله وسلامه عليه كان يختل أن يسمع من ابن صياد شيئا وكان ابن الصياد في قطيفة مضطجع وله همهمة، فرأت أم ابن الصياد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يتقي بجذوع النخل فقالت لابن صياد (يا صاف) هذا محمد فثار ابن صياد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو تركته بين". أخرجه م. 4/2244، وقوله: " لو تركته بين" أي لو لم تناده أمه تركته على حاله لبان أمره وعرف.
وقد جزم بعض الصحابة ومنهم عمر وجابر وابن عمر - رضي الله عنهم - أنه دجال. والصحيح أن ابن صياد ليس هو المسيح الدجال وإنما هو دجال من الدجاجلة والنبي صلى الله عليه وسلم لم يوح إليه من أمره بشيء فلهذا لم يكن ظهر له من أمره شيء ثم ظهر له صلى الله عليه وسلم بعد ذلك أن الدجال غيره وذلك في قصة تميم الداري ورؤية الدجال في جزيرة من جزر البحر، والله أعلم. انظر: شرح مسلم للنووي 18/46، فتح الباري 13/325 - 327.
2 في الأصل (اأمارتها كلها) وما أثبت من - ح - ويتفق مع المصادر.
3 في الأصل (إمارتهم) وما أثبت من - ح - ويتفق مع مصادر الرواية.(3/808)
مع الغنم ويلعب الصبيان بالحيات لا يضر بعضهم بعضا، يلبث أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون"1.
وقيل: إنه يدفن مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر2 وعمر، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقتل ابن مريم الدجال بباب لد" 3.
__________
1 في الأصل (المسلمين) وهو خطأ، والحديث أخرجه د. كتاب الملاحم (ب خروج الدجال) 2/214 حم 2/437 والآجري في الشريعة ص 380 ومداره على عبد الرحمن بن آدم الراوي عن أبي هريرة قال عنه في التقريب ص 198 صدوق وقال ابن كثير هذا إسناد جيد قوي النهاية 1/188.
2 ذكر هذا الآجري وروى أيضا بإسناده عن عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - أن القبور أربعة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر أبي بكر وقبر عمر وقبر رابع يدفن فيه عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم الشريعة ص 381.
3 أخرجه ت. كتاب الفتن (ب قتل عيسى بن مريم الدجال) 4/515 من حديث مجمع ابن جارية الأنصاري - رضي الله عنه - وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح". حم 3/420.(3/809)
119 - فصل
صارت المعارف مختلفة على حسب ما وجدنا السبيل إليها1، فعندنا أن معرفة الله سبحانه حصلت للمخلوقين مكتسبة2، والعلم المتكسب هو: كل علم وقع بعد نظر واستدلال.
__________
1 هذا الفصل لم يتبين لي وجه اقحامه في هذا المكان مع أنه من كلام أهل الكلام الذي يختلف التعبير فيه وقد يكون المراد صواباً إلا أن العبارة لا تفيده.
وقول المصنف "صارت المعارف مختلفة على حسب ما وجدنا السبيل إليها" يقصد به أن من المعارف ما يكون ضرورياً وهو ما يعرفه الباقلاني في التمهيد ص 26 بأنه ما يلزم النفس لزوماً لا يمكن الخروج عنه ولا الانفكاك عنه ولا الشك فيه، كمعرفة الانسان لوجوده وفنائه وبوجود الأرض والسماء وما إلى ذلك.
ومعرفة مكتسبة وهي: ما يتم تحصيله إما بخبر أو دليل أو تجربة ونحو ذلك من طرق تحصيل المعارف، وذكر ابن حزم في الفصل 5/108 أن ما كان من المعارف ثبت ببرهان فمعرفة النفس به اضطرارية وأن الاكتساب هو طلب الدليل" - انتهى.
وقول ابن حزم هنا اظهر وأوضح من ناحية وصفه لما ثبت من المعارف بالبرهان بأنه ضروري، إلا أن هذا النوع من المعارف يصح وصفه بأنه مكتسب على التعريف السابق، والصحيح أن جميع العلوم مكتسبة إلا معرفة الخالق جل وعلا المعرفة الفطرية كما سيأتي بيانه.
أما سائر المعارف الأخرى فإنها مكتسبة بدليل قوله عزوجل: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا} البقرة: من آية (31) وكذلك قوله: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً} النحل من آية (78) إلا أن من العلوم ما يكون بدهي ظاهر لا يحتاج إلى كدّ ذهن واستدلال كفوقية السماء ووجود الإنسان وفنائه وحاجته وما إلى ذلك، ومنها ما يحتاج إلى دليل وبرهان حتى إذا استقر في النفوس صار علما ضروريا لا ينفك عن النفس ولا يقع فيه الشك إلا من باب الوسوسة الشيطانية.
2 قول المصنف هنا بأن معرفة الله مكتسبة هو قول المتكلمين ومن أخذ بقولهم فقد ذكر شيخ الإسلام أن كثيراً من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ومن وافقهم من الطوائف من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم ذهبوا إلى أن معرفة الله لا تحصل إلا بالنظر. انظر: درء تعارض العقل والنقل 7/353، والدليل الشرعي على خلاف قولهم حيث دل على أن معرفة الله فطر عليها الخلق وكذلك الإقرار بربوبيته. قال عزوجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} الأعراف آية (172) ، وكذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" قال أبو هريرة: "اقرؤوا إن شئتم قوله عزوجل: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الروم آية (30) . أخرجه خ. الجنائز 2/87، م. كتاب القدر 4/2047 وحديث عياض بن حمار - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل: "إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي". أخرجه م. صفة الجنة 4/2197 فهذا ظاهر منه أن القلوب مفطورة على الإقرار بالخالق ومعرفته، وأن الانحراف عن هذه المعرفة والإيمان تكون من قبل الأبوين والمجتمع أو بسبب الغفلة والشياطين، إلا أن هذه المعرفة ليست معرفة كافية وافية فتحتاج إلى معرفة مكتسبة وهي ما يحصله الإنسان بتعلم دين الله عز وجل والنظر في آياته الشرعية والكونية فيحصل له بذلك معرفة جديدة تنمو وتزداد كلما ازداد نظراً وعلما قال عزوجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} فاطر آية (28) . فالعلم بالله ومعرفته يزيد من خشيته ومراقبته جل وعلا. فهذا يدل على أن معرفة الله منها ما هو فطري ومنها ما هو مكتسب.(3/810)
أما علمنا بادعاء النبي صلى الله عليه وسلم النبوة فهو علم ضروري، لأنا علمنا ذلك بالنقل المتواتر الذي لا يمكن دفعه بشك وشبهة، وأما صدقه فيما ادعاه فهو علم مكتسب، لأنه فكر وتأمل ونظر1 كعلمنا بأن العالم محدث وأن له محدثاً. وأن الموجب لذلك علينا هو السمع وهو المرشد إليها والمنبه عليها، ولا نستغني بالعقل عن السمع المنبه، كما لا يستغني في الصنائع الدقيقة واالأفعال المحكمة عن المرشد إليها والمنبه عليها، فالرسل هم المرشدون إلى ذلك والمنبهون عليه، وهم المؤيدون بالآيات والمعجزات ولا يجب علينا شيء إلا بدعائهم، ولا نستغني بالعقول عن إرشادهم، وما من عصر إلا وفيهم2 نبي أو شريعة نبي. قال الله تعالى: {لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} 3، وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} 4.
__________
1 تفريق المصنف بين دعوى النبي صلى الله عليه وسلم النبوة وبين صدقه فيما أخبر بأن الأول ضروري والثاني مكتسب لا يظهر منه فرق واضح، إذ الجميع متكسب لأن العلم بالنقل المتواتر علم مكتسب، إلا أن هذا العلم بعد اكتسابه يصير ضرورياً لا ينفك عن النفس بشهبة سأو شك، وكذلك العلم بصدقه إذا اكتسب عن طريق النظر والاستدلال صار علماً ضرورياً لا ينفك عن النفس ولا يزول منها، والله أعلم.
2 في - ح - (إلا فيه) .
3 النساء آية (165) .
4 فاطر آية (24) .(3/811)
وقد اختلف أهل الزيغ في ذلك فمنهم من قال: إن معرفة الخلق لله حصلت ضرورة1 ومنهم من قال: إن معرفة الخلق لله طباع2، ومنهم من قال: إن معرفة الله تقع بعد البلوغ من غير تطويل بفعل الله فيه3، ومنهم من قال: إن المعرفة في ذلك ليس باضطرار ولا اختيار ولا كسب وإنما هي فعل لا فاعل لها4، وجميع هؤلاء يقولون: إن معرفة الله لا يصح الأمر بها، وأحالوا الأمر بها جملة، وهذه الفرق كلها فرق المعتزلة وهم موافقون للبراهمة في قولهم إنهم يستغنون بما في عقولهم عن الرسل وإرشادهم5، ولهذا6 أبطلت المعتزلة والقدرية كثيراً من ظاهر7 القرآن والسنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم لما خالفت عقولهم الفاسدة، وأولوا ذلك على خلاف مقتضاها.
والدليل على صحة ما قلنا قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} 8، ولم يخل العقلاء من رسل يدعونهم إليه ويدلونهم بآيات
__________
1عزا هذا القول الإسفرائيني إلى أبي الهذيل العلاف، وقال شيخ الإسلام عن هذه المعرفة: "إن جمهور طوائف المسلمين قالوا إنها يمكن أن تقع ضرورة ويمكن أن تقع بالنظر، بل قال كثير من هؤلاء إنها تقع بهذا تارة وبهذا تارة". انظر: الفرق بين الفرق ص 129، درء تعارض العقل والنقل 7/354.
2 قال بهذا من المعتزلة أيضاً الجاحظ وأبو علي الأسواري. انظر: المغني لعبد الجبار 12/316، شرح الأصول الخمسة ص 52.
3 لعل المراد بهذا أن معرفة الله وقعت بالإلهام وهو قول ذكره عبد الجبار المعتزلي في المغني 12/230، وعزاه شيخ الإسلام إلى كثير من أهل الكلام والصوفية والشيعة وصالح قبة وفضل الرقاشي وهما من المعتزلة. انظر: درء تعارض العقل والنقل 7/353.
4لم يتبين لي قائل هذا مع أن من المعتزلة كالقاضي عبد الجبار من صرح بأن معرفة الله مكتسبة والقائلون منهم بأنها ضرورية يوجبون العقاب ولو لم يبعث الله الرسل. انظر: شرح الأصول الخمسة ص 52، الملل والنحل للشهرستاني 1/52 - 70.
5 تقدم الكلام على هذا - ص 117 أول الكتاب.
6 في - ح - (ولهذا المعنى) .
7 في - ح - (ظوهر) .
8 الإسراء آية (15) .(3/812)
يظهرها لهم أو يخاطبهم بل واسطة1 كمخاطبته لملائكته الذين هم السفرة بينه وبين رسله، ومعرفتهم له إما بمشاهدة منهم له أو بما يجري مجرى المشاهدة مما هو أعلم بما تقع لهم المعرفة به معرفة قطعية2، وعلى هذا الأمر جرى الأمر لآدم صلى الله عليه وسلم لما خلقه بيده واسكنه جنته وقال له: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّة} 3 فأرشده إلى ما أباحه له، وزجره عما نهاه عنه، وعلمه الأسماء وما يتضمنه4 كل اسم من المعنى، ثم قضى عليه ما وقع منه وأخرجه من الجنة إلى الدنيا واخبر سبحانه عما كان منه إليه بقوله: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} 5 والنسيان إنما يكون من المكلفين فيما سبق عليهم فيه الأمر فأهبطه الله إلى الأرض بعد أن غفر له زلته، وجعله رسولاً إلى أولاده يرشدهم إليه ويدلهم على طرق الاستدلال عليه، فانقادوا لطاعته، وحصلت لهم المعرفة بالله بما نبههم عليه، فقبض بعد أن أوضح لهم السبيل، وأبان لهم الدليل، وجعلهم الحجة على ما يأتي بعده من أولادهم، واستحفظهم حجج الله، ووكلّهم بنقل ذلك إلى من بعدهم، فأقاموا على ذلك لا تلحقهم سآمة في نقله، فلما طال العهد وضعفت البصائر وثب الشيطان ودعاته يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً، فبعث إليهم رسولاً يذكرونهم ما نسوا من العهد، ويدعونهم إلى ما أغفلوا من طاعة ربهم، ولم6 يُخْلِ الله عصراً من قائم بحجة، وأمرهم باتباعه قال الله
__________
1 يعني أو يخاطب الله رسله بلا واسطة وهو التكليم كما وقع لموسى عليه السلام والنبي صلى الله عليه وسلم في المعراج وهو التكليم من رواء حجاب الوارد في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} الشورى آية (51) .
ويقصد هنا بيان أن المعرفة التي تقع للأنبياء عليهم السلام معرفة مكتسبة إما عن طريق الآيات التي يظهرها الله، أو عن طريق التكليم، لكن هذا لا يدل على عدم وجود معرفة فطرية سابقة.
2 المراد بهذا معرفة الملائكة عليهم السلام لربهم عز وجل.
3 البقرة آية (35) ، الأعراق آية (19) .
4 في - ح - (مما يتضمنه) .
5 طه آية (115) .
6 في الأصل (ولن) وما أثبت من - ح -.(3/813)
تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} 1 فمن قال: إن الخلق يستغنون عن الرسل، وأن معرفة اله لا يصح الأمر بها فقد خالف الكتاب وأبطله، ومن قال إن معرفة الله بالإلهام أو بالطباع أو بغير كسب المأمور يلزمه أن يقول إن الكفار الذين عاندوا الرسول صلى الله عليه وسلم في زمانه وقتلهم أنهم مخلدون في الجنة إذا لم يكن لهم طباع أو إلهام أو لم يفطروا على المعرفة، وإلى هذا ذهب ثمامة بن أشرس النميري2 شيخ المعتزلة بعد إذ زعم أنه يجوز أن يكون كثير3 من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين في الجنة4، ومن كان هذا مقتضى قوله فلا شك في كفره لمخالفته نص الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
__________
1 في كلا النسختين هكذا (وَأَطِيعُوا اللَّهَ َ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ الرَّسُولَ وما أنزل إليكم) وهو خطا والآية في المائدة (92) والتغابن آية (12) كما أثبت.
2 قال عنه الذهبي: "من كبار المعتزلة ومن رؤوس الضلالة كان له اتصال بالرشيد ثم بالمأمون وكان ذا نوادر وملح". ميزان الاعتدال 1/371.
3 في الأصل (كثيرا) وما أثبت من - ح - وهو الصواب.
4هكذا في النسختين والذي نقل عن ثمامة أن هؤلاء الناس يصيرون تراباً، وذلك لعدم معرفتهم لله فيكونون كالحيوانات الذين خلقوا للسخرة. نقل هذا عنه الاسفرائيني في الفرق بين الفرق ص 172 وهو الذي يتناسب مع المسألة إذ الإعراض عن الأمر الفطري لا يستحقون عليه المثوبة فأقل ما فيه أن تسقط عنهم العقوبة ومنه يتبين أن قول المصنف في الكفار الذين قلتهم النبي صلى الله عليه وسلم يلزم أنهم مخلدون في الجنة خطأ لا يتأتى على هذا القول.
وقد نفي صاحب كتاب الانتصار في الرد على ابن الراوندي أن يكون ثمامة قال هذا القول، وزعم أن ثمامة يرى أن الكافر هو من يعرف الله ويقصد معصيته، أما من لم يعرف الله ولا يقصد معصيته فليس بكافر انظر: الاتنصار والرد على ابن الراوندي الملحد للخياط ص 139.(3/814)
120 - فصل
معرفة الإمام من الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ليس بشرط في اعتقاد الإيمان1، ولو أن رجلا آمن بالله وبصفاته وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به وبالبعث والنشور كان مؤمنا وإن لم يعرف اسم أحد من الصحابة أبا بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم -، ولا من كان يستحق الخلافة منهم والإمامة، بل قد منع بعض العلماء من الكلام في ذلك، واحتج بأن ذلك انقضى وحكم قد مضى فلا معنى للاشتغال به، ولعل الكلام فيه مثار الشر والتباغض في التعصب، فالإعراض من الخوض فيه أسلم من الكلام فيه2.
وذهب أكثر أهل العلم إلى تجويز الكلام فيه وإباحته، لأنه يفيد أحكاماً في الدين ومعرفة ما كان عليه أمر الصحابة - رضي الله عنهم -، والكلام في الإمامة من فروع الدين الومسائل الفقهية التي تكلم بها أهل العلم، ومذهب أصحاب الحديث وأكثر أهل العلم إلى أن نصب الإمام واجب3.
وقال بعض المتكلمين لو تكاف الناس عن الظلم لم يجب نصب الإمام، وهذا خطأ لأن الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعوا على نصب
__________
1 هذا الفصل عقده المصنف للكلام على الإمامة والخلاف فيه مع الروافض وقوله هنا: "ليس بشرط في اعتقاد الإيمان" هو في مقابل دعوى الروافض أن معرفة الإمام أحد أركان الدين بل أهمها عندهم. انظر: مقالات الإسلاميين 1/121، وانظر: قول ابن المطهر الحلي في منهاج الكرامة ورد شيخ الإسلام عليه في منهاج السنة النبوية 1/73/123.
2 قال بهذا الغزالي في: الاقتصاد ص 147 والآمدي في غاية المرام ص 363.
3 هذا مذهب جمهور المسلمين، وحكى خلاف في ذلك عن النجدات من الخوارج وعبد الرحمن بن كيسان الأصم. انظر: الأحكام السلطانية للماوردي ص 5، مقالات الإسلاميين 2/149، الفصل في المل والنحل 4/87، الإمامة العظمى عند أهل السنة ص 45.(3/815)
الإمام1، ولأن تكاف الناس عن المظالم مستحيل، لأن الظلم من شيم النفوس وإنما يظهره القدرة2 ويخفيه العجز.
إذا ثبت هذا فليس من شرط الإمام الاختصاص بشيء من العلوم لا يشاركه فيها غيره، بل هو وسائر الخلق في علم الشريعة وأحكامها شيء واحد، لأن الأئمة في عصر الصحابة - رضي الله عنهم -3 لا يدعون لأنفسهم ولا يدعي لهم مدع منهم اختصاصاً بشيء من العلوم لا يشاركهم غيرهم فيه4.
فإن قيل: إذا لم يكن الإمام يختص بشيء من ذلك فما المقصود، وما المعنى الذي نصب لأجله؟ قيل: المعنى الذي نصب الإمام أجله هو انتظام أمر الدنيا والدين، لأن نظام الدين لا يحصل إلا بانتظام الدنيا من تدبير الجيوش، وسد الثغور، وردع الظالم، وأخذ الحق للمظلوم، ونصب القضاة وجمع شتات الآراء وإقامة الحدود، فجملة الدنيا في حق الإمام كبلدة في حق قاض من القضاة. ولا تنعقد الإمامة إلا لمن وجدت فيه شروط منها:
أن يكون ذكراً، بالغا، عاقلاً، حراً، مسلماً عدلاً، عالماً من الفقه ما يخرجه عن أن يكون مقلداً، لأن هذه الشرائط تعتبر في حق القاضي، فلأن تعتبر في حق الإمام أولى.
ومن شرطه أن يكون: سميعاً بصيراً، ناطقاً، لأن الأصم والأعمى والأخرس لا يكمل لتدبير الأمور التي نصب الإمام لأجلها، ومن شرطه أن يكون: قرشياً من أي قبائل قريش كان، ولا يختص ببني هاشم وبني
__________
1 نسب هذا القول أبو الحسن الأشعري في المقالات إلى الأصم وإلى النجدات من الخوارج، وذكر الإسفرائيني أن الفوطي هشام بن عمرو من المعتزلة زعم أن الأمة إذا اجتمعت كلمتها وتركت الظلم والفساد احتاجت إلى إمام يسوسها، وإذا عصت وفجرت وقتلت إمامها لم تعقد الإمامة لأحد في تلك الحال. انظر: مقالات الإسلاميين 1/205 2/149، الفرق بين الفرق ص 163 الفصل لابن حزم 4/87
2 في الأصل (القدرية) وفي - ح - كما أثبت وهو الأصوب.
3 في الأصل زيادة (منهم من) ولا معنى لها وفي - ح - كما أثبت.
4 في هذا رد على الروافض الذين يزعمون أن أئمتهم لهم علم خاص لدني بل يزعمون أن جميع الصفات النبوية جارية في الإمام ما عدا النبوة فقط. انظر: حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شُبَر 1/205.(3/816)
عبد المطلب1.
وقال أبو المعالي الجويني2: "يجوز أن يكون من غير قريش"3، وهذا خطأ والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش "4 وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان "5، 6.
ولما خطب النبي صلى الله عليه وسلم آخر خطبة خطبها7 يوصي بالأنصار، فقال له
__________
1 اشتراط القرشية في الإمامة مجمع عليه من الصحابة والتابعين. قال النووي في شرح مسلم 12/200 في كلامه على حديث: "الناس تبع لقريش" هذه الأحاديث وأشباهها دليل ظاهر أن الخلافة مختصة بقريش لا يجوز عقدها لأحد غيرهم، وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن الصحابة فكذلك من بعدهم. ونقل عن القاضي عياض حكاية الإجماع، وحكاه الماوردي في الأحكام السلطانية ص 6.
2 إمام الحرمين عبد الله بن أبي محمد الجويني الشافعي أحد الأئمة الأعلام وأذكياء العالم واحد أوعية العلم. توفي سنة 478هـ -. العبر 2/339.
3 ادعى الجويني في كتابه (غياث الأمم) ص 63 أن الأدلة في أن الأئمة من قريش ليست متواترة، وأنها لا تفيد القطع وإنما هي أخبار آحاد، ثم زعم أن هذه الأحاديث لا تفيد العلم باشتراط النسب في الإمامة وفي كتابه الإرشاد ص 359 ذكر أن شرط القريشية في الإمامة فيه احتمال عنده، كما خالف في هذا الشرط الخوارج وضرار بن عمرو من المعتزلة، فحكي عنهم جوازها في غير قريش، بل حكي عن ضرار قوله إذا اجتمع حبشي وقرشي قدمنا الحبشي لأنه أسهل لخلعه إذا حاد عن الطريقة. انظر: الفصل لابن حزم 4/89، مقالات الإسلاميين 2/151، شرح النووي على مسلم 12/200. وانظر: كتاب الإمامة العظمى ص 274.
4 أخرجه حم 3/129 - 183، من حديث أنس - رضي الله عنه -، والحاكم في المستدرك كتاب معرفة الصحابة 4/76 من حديث علي - رضي الله عنه -، وابن أبي عاصم في السنة 2/531 - 532 من حديث أنس وأبي برزة - رضي الله عنهما، وصحح الحديث الألباني في تعليقه على كتاب السنة كما أطال في بيان طرقه في كتابه أرواء الغليل 2/298.
5 في الأصل (قريشا) وفي - ح - (اثنان قرشيان) وما أثبت كما هو في مصادر الرواية.
6 أخرجه خ. كتاب المناقب (ب مناقب قريش) 4/143، م. كتاب الإمارة (ب الناس تبع لقريش) 3/1452، حم. 2/29، وابن أبي عاصم في السنة 2/532 من حديث ابن عمر - رضي الله عنه -.
(خطبها) من - ح - وليست في الأصل.(3/817)
العباس: "يا رسول الله توصي بقريش فقال: إنما أتوصى قريشاً بالناس وبهذا الأمر وإنما الناس تبع لقريش بر الناس تبع لبرهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم "1 ويدل على ذلك ان الأنصار لما اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة وطمع من طمع منهم بذلك وطال الكلام بينهم حتى روى لهم أبو بكر2 وعمر - رضي الله عنهم - قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الأئمة من قريش "، فرجعوا عن قولهم واذعنوا وانقادوا، ولولا أنهم3 علموا صحة هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم لردوا ذلك وظعنوا به لا سيما في مثل هذا الموقف. وقد وقع التنازع والحجاج وإشهار السيوف4 وإختلاط القول، بل رجعوا5 وقال سعد بن عبادة وهو من رؤساء الأنصار لأبي بكر وعمر: "أنتم الأمراء ونحن الوزراء"، 6 فثبت أن ذلك إجماع.
ومن شرطه: أن يكون عالماً بأمر الحرب وتدبير الجيوش وسد الثغور وحماية بيضة الإسلام وما يتصل بذلك من الأمور، لأنه إذا لم يكن بهذه الصفة لحق الخلل، وتتعدى الضرر إلى الأمة، وطمع بهم عدوهم، وأدى إلى إبطال ما نصب لأجله.
ومن شرطه: أن لا يكون فيه رقة ولا هوادة في إقامة الحدود وضرب الرقاب المستحقة، لأنه إذا لم يكن7 بهذه
__________
1 لم أقف عليه عن العباس بهذا السياق وقوله: "الناس تبع لقريش بر الناس تبع لبرهم وفاجرهم تبع لفاجرهم" نحوه في الصحيحين من حديث أبي هريرة أخرجه في كتاب المناقب (ب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} الحجرات آية (13) 4/143، م. كتاب الإمارة (ب الناس تبع لقريش) 3/1451، ولفظه عندهما "الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم لمسلمهم وكافرهم لكافرهم".
2 في الأصل (أبي بكر) والصواب ما أثبت كما في - ح -.
(أنهم) ليست في الأصل وهي في - ح -.
4 لم يقع بين الصحابة إشهار السيوف في السقيفة، وإنما الذي ذكر كثرة اللغط واختلاف القول. انظر: البداية والنهاية 5/275 - 281.
5 يعني رجعوا إلى مدلول الحديث فأقروا لقريش بالأمر.
6 أخرج هذا الخبر وقول سعد بن عبادة حم 1/5 من رواية حميد بن عبد الرحمن، إلا أن أبا بكر قال فيه: "قريش ولاة هذا الأمر".
قال الشيخ أحمد شاكر في التعليق على المسند 1/164 إسناده ضعيف لانقطاعه، فإن حميد بن عبد الرحمن التابعي لم يسمع من أبي بكر، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 5/191 وقال: رجاله ثقات إلا أن حميد بن عبد الرحمن لم يدرك أبا بكر.
7 في الأصل (يكون) وما أثبت كما في - ح - وهو الصواب.(3/818)
الصفة قصر عما لأجله أقيم وانبسطت أيدي الظلمة إلى الدماء واخذ الأموال وارتكاب المحارم، ولم يصل المظلوم إلى حقه.
ومن شرطه: أن يكون ورعاً، وهذه أعز الصفات وأجلها وأولاها بالمراقبة وأجدرها، لأنه إذا لم يكن كذلك أخذ ما لم يحل له أخذه وارتكب المحارم.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ملاك دينكم الورع" 1 وليس من شرطه أن يكون معصوماً من الخطأ والزلل، عالماً بالغيب، ولا بجميع الدين حتى لا يشذ عنه شيء2، وإنما كان كذلك لأن طريق العلم بالعصمة عن الخطأ والعلم بالغيب إنما يحصل من خبر الصادق وهو الشارع، ولم يرد ذلك في القرآن ولا في السنة المتواترة بالأخبار من3 أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يصح اشتراط ذلك في المنصوب للإمامة، ولأنه لو احتيج إلى
كونه معصوماً عن الخطأ لاحتيج أن يكون قاضيه وجابي خراجه وصدقته وأصحاب مصالحه
__________
1 أخرجه الطبراني في الكبير 11/38 عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. قال الهيثمي: "فيه سوار بن مصعب ضعيف جداً". مجمع الزوائد 1/120 وقد ورد الحديث من طريق حذيفة وسعد - رضي الله عنهما - بلفظ: "وخير دينكم الورع" أخرج حديث حذيفة الحاكم في المستدرك 1/92 وسكت عنه وأخرحه البزار، وقال: "لا نعلمه مرفوعاً إلا عن حذيفة من هذا الوجه" كشف الأستار 1/85.
وفي إسناده عبد الله بن عبد القدوس التميمي. قال ابن حجر: "صدوق رمي بالرفض وكان أيضاً يخطيء". التقريب ص 180.
أما حديث سعد بن أبي وقاص فقد أخرجه الحاكم في المستدرك 1/92 وقال: "صحيح على شرطهما" ووافقه الذهبي، كما صحح الحديث السيوطي والألباني. انظر: الجامع الصغير مع فيض القدير 4/434، صحيح الجامع 3/86.
2 هذه الشروط يشترطها الروافض ويزعمون أنها موجودة في أئمتهم وقد تقدم ص 816 حكاية قولهم إن الإمام له جميع صفات النبي ما عدا النبوة.
3 في الأصل (ممن) وما أثبت من - ح - وهو أوضح في المراد ولعل صوابها (عن) لأن الكلام يستقيم بها.(3/819)
وأمراء جيوشه أن يكونوا كذلك، لئلا يفسدوا ما يتولونه من الأعمال. وفي اشتراط ذلك إبطال لنصبهم بذلك، ويدل على بطلان ذلك اعتراف الخلفاء الراشدين بأنهم غير معصومين، وترك إنكار الأمة أو واحد منهم ولا يتهم للأمر مع اعترافهم بذلك.
إذا تقرر هذا ووجدت شروط الإمامة في واحد من العصر تعين العقد له وتعين له القيام والطلب، وإن وجدت هذه الشروط في أكثر من واحد فينبغي أن تعقد الإمامة للفاضل إن لم يكن هناك عذر يمنع من إمامة الأفضل لقوله صلى الله عليه وسلم: "يؤم القوم أفضلهم "1، وقوله صلى الله عليه وسلم: "أئمتكم شفعاؤكم فانظروا بمن تستشفعوا "2، وروي في خبر آخر "أئمتكم شفعاؤكم إلى الله فقدموا خيركم"3، وقال صلى الله عليه وسلم: "من تقدم على قوم من المسلمين وهو يرى أن فيهم من هو خير منه فقد خان الله ورسوله والمسلمين".4
وأعظم الإمامة هي الإمامة الكبرى، لأن الإمام الأعظم أولى بإمامة الصلاة من غيره، فيجب أن يكون أفضلهم. ويدل عليه إجماع الصدر الأول على طلب الأفضل. وقال عبد الرحمن بن عوف: "لا يعدلوا بعثمان أحداً"5 وقول أبي عبيدة لعمر: "مد يدك لأبايعك، فقال له عمر: تقول
__________
1لم أقف عليه بهذا اللفظ، وإنما أخرج الطبراني في المعجم الكبير 22/56 عن واثلة بن الأشقع - رضي الله عنه - مرفوعاً: "اصطفوا وليتقدمكم في الصلاة أفضلكم فإن الله عز وجل يصطفي من الملائكة ومن الناس". وفي إسناده أيوب بن مدرك ذكره الذهبي في الميزان 1/293، وقال: قال ابن معين: "ليس بشيء ومرة كذاب"، وقال أبو حاتم والنسائي: "متروك".
2 لم أقف على من أخرجه بهذا اللفظ، وذكره الباقلاني في التمهيد ص 486.
3 روى الطبراني في المعجم الكبير 20/328 بسنده عن مرثد بن أبي مرثد مرفوعاً: "إن سركم أن تقبل صلاتكم فليؤمكم خياركم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم". وأخرجه الحاكم في المستدرك 3/222، وفي إسناده يحيى ين يعلى الأسلمي قال في التقريب ص 381: "شيعي ضعيف".
4 لم أقف عليه مسنداً، وقد ذكر نحوه شيخ الإسلام في منهاج السنة النبوية 6/196 وعزاه إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - موقوفاً عليه.
5 يعني بذلك أهل المدينة، وسيأتي في قصة مبايعة عثمان - رضي الله عنه - ص 882.(3/820)
هذا وأبو بكر حاضر والله ما كان في الإسلام فَهّه1 غيرها" 2.
فإن خيف من عقد الإمامة للفاضل فتنة جاز عقدها للمفضول، والدليل عليه أن عمر - رضي الله عنه - جعل الإمامة إلى أهل الشورى وهم ستة، ولا شك أن فيهم فاضلاً ومفضولاً، وأجاز العقد لكل واحد منهم إذا3 أدى إلى صلاحهم وجمع كلمتهم من غير إنكار أحد، ولأن الإمام إنما نصب لدفع العدو وحماية البيضة وسد الخلل، فإذا خيف بإمامة أفضلهم الهرج والفساد والتغالب كان ذلك عذراً في العدول عن الفاضل إلى المفضول، ولأنه لا خلاف أنه يجوز تقديم المفضول على الفاضل في إمامة الصلاة فكذلك في الإمامة العظمى.
فإن قيل: قد ذكرت صفة الإمام فبماذا تنعقد له الإمامة؟.
قلنا تنعقد له الإمامة بأمور، منها: أن يستخلفه إمام قبله. والدليل على ذلك أن أبا بكر - رضي الله عنه - وصى بالخلافة لعمر - رضي الله عنه -، ووصى عمر - رضي الله عنه - إلى أهل الشورى ورضيت الصحابة بذلك لوم ينكروه، وأيضاً فإن الأب لما ملك النظر في أمر أولاده الصغار بحياته ملك الوصية بأمرهم إلى من بعده4 إذا لم يكن لهم ولي في الشرع بعده وهو الجد، فكذلك الإمام مثله.
__________
1 فهة: قال أبو عبيد هي مثل السقطة والجهلة ونحوها. غريب الحديث 4/24.
2 هذا من قول أبي عبيدة لعمر - رضي الله عنه - فلعل الأسماء انقلبت على المصنف. وقد أخرج هذه المقالة أبو عبيدة في غريب الحديث 4/24، وابن سعد في الطبقات عن إبراهيم التيمي قال: "لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى عمر أبا عبيدة بن الجراح فقال ابسط يدك فلأبايعك فإنك أمين هذه الأمة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو عبيدة لعمر: "ما رأيت لك فهة قبلها منذ أسلمت أتبايعني وفيكم الصديق وثاني اثنين". طبقات ابن سعد 3/181. وهي منقطعة بين إبراهيم التيمي وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -. انظر: التهذيب 1/176.
3 في الأصل (إلى أدى) وما أثبت كم في - ح - وهو الأصوب.
4 في الأصل (بعدهم) وما أثبت من - ح - وهو الأصوب.(3/821)
وتنعقد الإمامة بعقد أهل الحل والعقد لمن وجدت فيه شروط الإمامة1، واختلف في عدد العاقدين فمنهم من قال: أقلهم ثلاثة، لأن ذلك أقل الجمع2، وقال اكثر أهل العلم: تنعقد بواحد لأنه إذا ثبت أن فضلاء الأمة هو ولاة عقد الإمامة، وثبت أنه لا يجب اعتبار حضور جميع أهل الحل والعقد وجميع الأمصار، لأن الصحابة لم يعتبروا ذلك فيمن عقدوا له الإمامة منهم لم يتعذروا تعدد3 انعقاد ذلك بواحد4.
__________
1 هذا الطريق الثاني من طرق انعقاد الإمامة وهي الطريقة التي تم بها تنصيب الخليفة الراشد أبو بكر - رضي الله عنه - وكذلك علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وسيأتي بيان المصنف لبيعتهم في الفصول القادمة، وانظر: في هذين الطريقين كتاب الأحكام السلطانية للماوردي، ص 6، المعتمد في أصول الدين ص 223 - 251، الإمامة العظمى ص 158 - 184.
2 نسب الماوردي هذا القول إلى علماء الكوفة الأحكام السلطانية ص 7.
3 هكذا في النسختين والجملة فيها خلل ظاهر.
4 لم أقف على من عزا هذا القول إلى أكثر العلماء، وفي عزوه القول إليهم نظر، فإن هذا القول نسب إلى أبي الحسن الأشعري وقال به الباقلاني والغزالي، وهو قول مرجوح في المسألة، لأن اعتبار الواحد في التنصيب في الإمامة لا يقوم مقام الجماعة والجمهور، وأيضاً هو خلاف مبدأ التشاور الذي أمر الله به، وهو خلاف ما وقع من حال الصحابة في استخلافهم للخلفاء، فإنهم لم تتم إلا ببيعة عدد كبير وتشاور مع كثير من الناس، لأن أبا بكر - رضي الله عنه - بويع له في السقيفة ثم بويع له بيعة عامة في المسجد وبهاتان البيعتان ثبتت خلافته وإمامته، أما عمر - رضي الله عنه - فقد استشار فيه أبو بكر - رضي الله عنه - كبار الصحابة.
وكذلك فعل عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - في تنصيب عثمان - رضي الله عنه -، أما علي فقد تمت مبايعته بعد طلب من عدد من الناس ليس بقليل، وقد قال عمر - رضي الله عنه -: "من بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا". أخرجه خ. كتاب الحدود (ب رجم الحبلى من الزنا) 8/142.
وأولى ما يكون في عدد أهل الحل والعقد هو الجمهور لأنهم يترجمون مشاعر الأمة كلها وأبعد للفتنة والاختلاف وتحقيقاً لمبدأ التشاور واتباعاً لسنة الخلفاء الراشدين، ومخالفة الأقل أو الواحد لا تضر وإنما الذي يعود على الأمة بالضرر مخالفة الأكثر، وقال بهذا القول أعني اعتبار الأكثر القاضي أبو يعلى الحنبلي وشيخ الإسلام ابن تيمية والجويني. انظر: التمهيد للباقلاني ص 467، غِيّاث الأمم للجويني ص 54 - 57، المعتمد في أصول الدين للقاضي أبي يعلى ص 248، الأحكام السلطانية للماوري ص 7، منهاج السنة النبوية 1/530، الإمامة العظمى ص 173 - 183.(3/822)
ومن شرط العاقد أن يكون ذكراً حراً بالغاً عاقلا مسلماً مجتهداً عدلاً ظاهراً وباطناً، لأنه من الأمور المهمة في الدين، فاعتبر أن يكون على أكمل الأحوال.
وهل من شرط العقد أن يكون بحضوره شهود؟.
اختلف العلماء فيه، فمنهم من قال: لا يعتبر حضور شهود، ومنهم من اعتبر حضور شاهدين، لأن أمر الإمامة أعظم من أمر النكاح، فإذا اعتبر الشهود في النكاح ففي الإمامة أولى، ومنهم من اعتبر حضور أربعة بعد العاقد والمعقود له1، لأن عمر - رضي الله عنه - اعتبر ذلك في أهل الشورى، وهذا ليس بشيء لأن عمر لم يعتبر حضور الستة لذلك، وإنما أخبر أنهم أفاضل وأن الأمر لا يعدوهم ولا يتجاوزهم.
وقال أصحابنا: وقد ثبتت الإمامة من وجه غير ما تقدم ذكره، فإن لم يكن هناك إمام فقام رجل له شوكة وفيه شروط الإمامة فقهر الناس بالغلبة فأقام فيهم الحق، فإن إمامته تثبت وتجب طاعته والدخول تحت حكمه، لأن المقصود قد حصل بقيامه، إلا إن قهره من هو بمثل صفته وصارت له الشوكة والغلبة فإن الأول يخلع ويصير الثاني أولى بالطاعة لما ذكرنا في الأول2.
__________
1 انظر: الأقوال في ذلك في غياث الأمم للجويني ص 57 - 58.
2 هذا مذهب أهل السنة وقد حكاه القاضي أبو يعلى عن الإمام أحمد في رسالة عبدوس بن مالك "ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين لا يحل لأحد يؤمن بالله أن يبيت ولا يراه عليه إماماً عادلاً كان أو فاجراً فهو أمير المؤمنين". المعتمدا في أصول الدين ص 238، وقال ابن حجر: "قد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه وأن طاعته خير من الخروج عليه، لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء وحجتهم هذا الخبر". يعني حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عند البخاري - "من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية" فتح الباري 13/7. كما حكى الإجماع على ذلك الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - حيث يقول: "الأئمة مجمعون من كل مذهب على أن من تغلب على بلد أو بلدان له حكم الإمام في جميع الأشياء". الدر السنية 7/239، وكتاب الإمامة العظمى ص 222.(3/823)
121- فصل
اختلف الناس في الإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب أهل الحديث وعلماء السلف أن الإمام الحق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أبو بكر الصديق - رضي الله عنه1 - وأن إمامته ثبتت بعقد الصحابة - رضي الله عنهم - الإمامة له بظواهر أدلة استنبطوها من قول النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينص النبي صلى الله عليه وسلم على إمامته ولا عهد بها إليه ولا إلى أحد من الصحابة، وأنه هو أحق الناس بالإمامة في وقته2 وأن الإمام الحق بعده هو عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان ثم علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم -، ودرجاتهم في الفضل على درجاتهم في الإمامة. وقالت الخوارج بإمامة أبي بكر وعمر وبإمامة عثمان إلى الوقت الذي ادعوا أنه أحدث، وبإمامة علي بن أبي طالب إلى أن حكّم وتبرؤوا منهما بعد ذلك3. وادعت فرقة منهم يقال لهم البكرية منسوبة إلى شيخ لهم يسمّى بكراً4
__________
1 هذا مذهب أهل السنة والجماعة وعليه أيضاً الأشاعرة والخوارج والمرجئة والمعتزلة، ولم يخالف في هذا إلا الروافض وبعض الزيدية. انظر: شرح العقيدة الطحاوية ص 533، المعتمد في أصول الدين ص 225، مقالات الإسلاميين 1/204/2/144 التمهيد للباقلاني ص 480، شرح الأصول الخمسة ص 758.
2 هذا قول أكثر أهل الحديث والمعتزلة والأشعرية، وهو أن خلافة الصديق - رضي الله عنه - ثبتت بالاختيار وليس بالنص، وروي عن الحسن البصري أنه ثبتت إمامته بالنص الخفي والإشارة، وقول ثالث في المسألة وهو أن خلافته ثبتت بالنص الجلي وهو رواية عن الإمام أحمد وجماعة منهم معاوية بن قرة وأبو عبد الله بن حامد وابن حزم وشارح الطحاوية، وأوردوا على ذلك أدلة ونصوصاً. انظر: شرج الطحاوية ص 533 - 539، المعتمد في أصول الدين ص 226 - 228، منهاج السنة النبوية 1/486 - 526، الفصل في الملل والنحل لابن حزم 4/107.
3 وهم أيضاً يكفرون عثمان وعلياً - رضي الله عنهما - انظر: مقالات الإسلاميين 1/204، الفرق بين الفرق ص 73.
4 البكرية هم أتباع بكر بن. ياد الباهلي قال عنه ابن حبان في المجروحين 1/196 "شيخ دجال يصنع الحديث وهو ابن أخت عبد الواحد بن. يد شيخ الصوفية وواعظهم". قال عنه البخاري: "تركوه". انظر: في ترجمة ميزان الاعتدال 2/673 وقد عدّ البكرية أصحاب المقالات كالأشعري. والإسفرائيني فرقة مستقلة، لأن لهم أقوالاً لا ينتسبون بها إلى فرقة معينة، وفيهم شبه من الخوارج لزعمهم أن مرتكب الكبيرة في الدنيا منافق، وفي الآخرة في الدرك الأسفل من النار مخلداً فيها. انظر: مقالات الإسلاميين 1/342، الفرق بين الفرق ص 213.(3/824)
أن النبي صلى الله عليه وسلم وصى بالإمامة إلى أبي بكر - رضي الله عنه - ونص عليه1.
وقالت المعتزلة بإمامة أبي بكر وعمر2 وفسقوا عثمان وعلياً وقاتلي عثمان وخاذليه وطلحة والزبير وعائشة ومعاوية وأبا 3موسى الأشعري4. وقال
__________
1 لم أقف على هذا القول عنهم - وقد تقدم ذكر القائلين بالنص في إمامة أبي بكر - رضي الله عنه - التعليق رقم 2 ص 824، وهو يختلف عن القول بالوصية إذ الوصية عهد واستخلاف كاستخلاف أبي بكر لعمر - رضي الله عنهما -.
2 في الأصل (عثمان) وفي - ح - كما أثبت وهو الصواب.
3
4 المعتزلة ليسوا على قول واحد في الخلفاء الراشدين والإمامة، فإن المنسوب إلى واصل بن عطاء ومعمر والجاحظ التوقف في علي وأصحابه والزبير وطلحة وعائشة وسائر أصحاب الجمل، وأن أحدهما فسق وانه لا يعرف الفاسق بعينه كالمتلاعنين. وعزا هذا عبد الجبار المعتزلي إلى قوم من المتقدمين والمتأخرين، أما أبو الهذيل فإنه توقف في عثمان وقاتيله وخاذليه، وكذلك في علي - رضي الله عنه - ومقاتليه توقف الشاك في حالهم، وحكى عنه الملطي أنه يجعل أبا بكر وعلي - رضي الله عنهما - في الفضل سواء، أما عمرو بن عبيد فإنه حكي عنه فسق تفسيق كلا الفريقين علي - رضي الله عنه - ومقاتليه.
أما النظام فإن المحكي عنه تفسيق أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -، والطعن في كبار الصحابة كعمر وعثمان وعلي وأبي هريرة وابن مسعود - رضي الله عنهم - ونسب الملطي إلى الجعفرين والإسكافي من معتزلة بغداد بأن علياً أفضل الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، أما الجبائي أبو هاشم والقاضي عبد الجبار ومن تابعهم فالمحكي عنهم موافقة أهل السنة في الخلفاء الراشدين وأن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الإمامة.
أما معاوية - رضي اله عنه - فَعُزِيَ الطعن فيه إلى المعتزلة ووصفهم له بالبغي والفسق. انظر: الفرق بين الفرق ص 120 - 121/146، الملل والنحل للشهرستاني بهامش الفصل 1/61 - 72ـ107، المغني لعبد الجبار المعتزلي 20/58 - 78 - 93، المعتمد في أصول الدين ص 234 التنبيه والرد على أهل الأهواء ص 41.(3/825)
استاذهم عمرو بن عبيد: لو شهد عندي علي بن أبي طالب على شراك نعل ما قبلت شهادته1.
وذهب فرقة الرواندية2 إلى أن3 الإمامة للعباس بن عبد المطلب، وقد نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم4.
وقالت الروافض والشيعة5 بإمامة علي بن أبي طالب، فادعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على إمامته نصاً لا يحتمل التأويل، ورفضوا إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وكفروا الصحابة كلهم إلا أربعة: علي بن أبي طالب وأبا ذر والمقداد وسلمان الفارسي.
ثم افترقت الرافضة والشيعة في الإمامة بعد علي - رضي الله عنه - على ثلاث فرق فقالت الغالية منهم: علي هو الإله وحكى أن قوماً أتوه وقالوا: أنت إلهنا وخالقنا ورازقنا وإليك معادنا فقتلهم وحرقهم وهذه الفرقة يقولون هو حي وهو في السحاب6.
__________
1 عُزِيَ هذا القول إلى عمرو بن عبيد، والعلة عنده في رد الشهادة التفسيق. وحُكِيَ عن واصل مثل هذا القول وعلته عنده أنه فسق واحد من المتقاتلين علي بن أبي طالب أو عائشة - رضي الله عنها - ومن معها من غير تعيين كالمتلاعنين. انظر: الفرق بين الفرق ص 121.
2 نسب هذه الفرقة النوبختي إلى أبي هريرة الرواندي وهم الشيعة. انظر: فرق الشيعة ص 47.
(أن) ليست في الأصل وهي في - ح -.
4 ذكر هذا عنهم أبو الحسن الأشعري في المقالات 1/96، وابن حزم في الفصل 4/90ـ91 والقاضي أبو يعلى في المعتمد في أصول الدين ص 225، والقاضي عبد الجبار المعتزلي في المغني 20/113.
5 الروافض هم الذين شايعوا علياً - رضي الله عنه - وقالوا بإمامته وخلافته نصاً ووصية وقدموه على جميع الصحابة، ويطعنون في خلافة الخلفاء الثلاثة ويكفرونهم وأكثر الصحابة، ويعتقدون أن الإمامة هي في أولاد الحسين بن علي بعد الحسن بن علي، ويعتقدون بعصمة أئمتهم ولهم أقوال كثيرة منحرفة. انظر: مقالات الإسلاميين 1/65، الملل والنحل 1/146.
6 الغالية من الروافض هم الذين يزعمون أن الإله هو علي - رضي الله عنه -، وبعضهم. عم أن الألوهية حلت في الأئمة من أبنائه. وقد عدهم أبو الحسن الأشعري خمسة عشر صنفاً، وليسوا من الإسلام في شيء، بل هم أعداؤه. وأول من قال بألوهية علي رجل يهودي يقال له عبد الله بن سبأ دخل الإسلام ليفسد على المسلمين دينهم كما أفسد بولس اليهودي على النصارى دينهم، فادعى هذا الرجل التشيع لعلي - رضي الله عنه -، ثم. عم أن علياً الإله وتابعه على ذلك جماعة من الزنادقة وصارحوا علياً - رضي الله عنه - بذلك فأحرقهم علي - رضي الله عنه - بالنار وقال قولته المشهورة:
لما رأيت الأمر أمراً منكرا أججت ناري ودعوت قنبرا.
وقنرا عبد من عبده.
فأحرق - رضي الله عنه - من واجهة بهذا الكلام، إلا أنه لم يقتل ابن سبأ ونفاه إلى ساباط المدائن.
وبعد مقتل علي - رضي الله عنه -. عم هذا اليهودي أن علياً لم يقتل ولم يمت وأنه صعد إلى السماءكما صعد عيسى بن مريم صلوات الله وسلامه عليه وسيعود، وزعم هؤلاء أيضاً أن الرعد صوته وأن البرق سوطه، فإذا رأو السحاب ردوا عليه السلام يزعمون أن علياً فيه. انظر: مقالات الإسلاميين 1/65 - 88، التنبيه والرد على أهل الأهواء ص 18، الملل والنحل للشهرستاني 2/11، الفرق بين الفرق ص 233.(3/826)
وقالت فرقة منهم وهم الزيدية1: الإمامة لعلي، ثم بعده ابنه الحسن، ثم ابنه الحسين، ثم علي بن الحسن، ثم زيد بن علي، ثم يحيى بن زيد2، ثم محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن الذي يسمى النفس الزكية3، ثم أخوه إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن4، ثم المثلث وهو الحسن بن
__________
1 سبق التعريف بهم في قسم الدراسة - ص 68. وعلي بن الحسين من أئمة الرافضة وليس من أئمة الزيدية، لأن شرط الإمامة عندهم أن يكون من أولاد الحسن والحسين ويدعون إلى نفسه وينابذ الظلمة. انظر: نصرة مذاهب الزيدية ص 143، مصباح العلوم في معرفة الحي القيوم ص 22.
2 يحيى بن. يد بن علي بن الحسين كان مع أبيه حين خرج في خلافة هشام، ثم بعد مقتل أبيه سار إلى خراسان واختفى بها، إلى أن قبض عليه نصر بن سيار، ثم سيره بأمر الوليد إلى دمشق، إلا أنه انقض عليه نصر بن سيار في الطريق بعد أن أوجس منه غدراً وتقاتلوا هناك فقتل يحيى وذلك عام 125هـ. البداية والنهاية 12/7.
3 محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي المدني الملقب النفس الزكية. ثقة قتل سنة 145هـ، وله ثلاث وخمسون سنة، وكان خرج على المنصور وغلب على المدينة، وتسمى بالخلافة فقتل. التقريب ص 304.
4 إبراهيم بن عبد الله بن حسن أخو النفس الزكية خرج بعد ظهور أخيه في البصرة على الخليفة أبي جعفر المنصور، وغلب على مناطق عديدة، إلا أنه قتل في نفس السنة 145هـ - في ذي الحجة بعد قتال شديد بينه وبين جيش المنصور بين البصرة والكوفة. البداية والنهاية 10/111.(3/827)
علي، وإنما قيل له مثلث لأنه حسن بن حسن بن حسن1، ثم يحيى بن عبد الله بن حسن بن حسن2، ثم محمد بن إبراهيم3، ثم بعده الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم4. فهؤلاء ورثة الكتاب المخصوصون بالإمامة، ثم بعد ذلك يتبعون كل قائم يقوم من ولد علي، وهم أكثر الفرق نفوراً مع كل قائم حتى إنهم ينتقلون من إمام إلى إمام.
وقالت فرقة منهم: تسمى الباطنية5 كانت الإمامة لعلي - رضي الله عنه
__________
1 الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي، قال الخطيب: "مات في حبس المنصور بالهاشمية ببغداد سنة 145هـ"، قال ابن حجر في التقريب: "مقبول". تاريخ بغداد 7/293، التقريب ص 69، ولم يكن من أئمة الزيدية لأنه لم يخرج ولم يدع لنفسه، بل كان المنصور قبض عليه وعلى أخيه عبد الله بن حسن ومجموعة من آل البيت، وذلك لما اختفى محمد بن عبد الله واخوه إبراهيم السابق ذكرهما تأهباً للخروج، فأودعهم المنصور السجن، وماتوا فيه واحداً تلو الآخر. انظر: البداية والنهاية 10/95.
2 يحيى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب خرج على الرشيد في الديلم ثم قتل، ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً. انظر: الجرح والتعديل 9/161، مقالات الإسلاميين 1/155.
3 محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن علي، الملقب ابن طباطا، الذي خرج في الكوفة في ولاية المأمون سنة 199هـ - ومات في أثناء خروجه. انظر: مقالات الإسلاميين 1/157، البداية والنهاية 10/236.
4 يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي الملقب بالهادي خرج في اليمن وأسس فيها دولة الزيدية، وذلك عام 284هـ. توفي سنة 298. انظر: اللطائف السنية في أخبار الممالك اليمنية ص 12 - 15.
5 الباطنية: لقب من ألقاب الشيعة الغالية الذين أظهروا الإسلام والتشيع، وأضمروا الكفر وهم دعاة ضلالة أرادوا هدم الإسلام فتستروا بالتشيع لآل البيت، وقد أضروا بالمسلمين من وقت ظهورهم إلى وقتنا الحاضر أضراراً بالغة في السر والعلن، وكانت لهم في بعض الأحيان والأقطار دول تغلبوا بها على الناس فأظهروا الكفر والإباحية والفجور وسفك دماء المسملمين، وهذا ديدنهم كلما تمكنوا وغلبوا على مكان في قلوبهم غل وحقد على الإسلام وأهله. وقد عني علماء المسلمين ببيان أساليبهم وفضح مؤامراتهم وخداعهم للمسلمين. ومراد المصنف - رحمه الله - هنا بالباطنية الإسماعيلية، لأنه ذكر أئمتهم إلى إسماعيل بن جعفر الصادق وبعضهم يقف عليه ويسمون الإسماعيلية الواقفة، وفرقة نقلت الإمامة بعده إلى ابنه محمد بن إسماعيل ويقال لهم المباركية، ومن هؤلاء من وقف على محمد بن إسماعيل، ومنهم من. عم أن الإمامة لا. الت موجودة في المستورين ثم في الظاهرين ومن فرقهم القرامطة والنصيرية والدرزية والحشاشون وإخوان الصفا ومن يسمون أنفسهم الإسماعيلية. انظر: في بيان هذه النحلة الخبيثة الفرق بين الفرق: 281/312، الملل والنحل 1/167 - 191، فرق الشيعة للنوبختي ص 67 - 76، لوامع الأنوار البهية 1/83، الحركات الباطنية في العالم الإسلامي د. محمد أحمد الخطيب، عقيدة الدروز د. محمد أحمد الخطيب ص 13 - 17.(3/828)
- ابتداءاً، ثم الحسين بن علي دون الحسن، لأنه أسلم الأمر إلى معاوية، ثم علي بن حسين، ثم محمد بن علي بن الحسين، ثم جعفر بن محمد1، ثم موسى بن جعفر2، ثم علي بن موسى3، ثم محمد بن علي4، ثم علي5 بن محمد6، ثم الحسن7
__________
1 الكلام هنا غير منتظم ويظهر فيه سقطاً وتداخلاً أيضاً، لأن الإسماعيلية يسوقون الإمامة إلى جعفر ابن محمد الصادق، ثم يجعلونها في ابنه إسماعيل دون موسى، ثم محمد بن إسماعيل وبه تنتهي سلسلة الأئمة لديهم، وإسماعيل وابنه محمد ذكرهما المصنف في آخر السلسلة، فقد يكون فيه تداخل حيث ذكرت بقية سلسلة أئمة الإمامية الإثنا عشرية.
2 موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي أبو الحسن الهاشمي المعروف بالكاظم صدوق عابد توفي سنة 183هـ. التقريب ص 350 وهو الذي خالفت الشيعة الإثنا عشرية بالقول بإمامته الإسماعيلية وهو الإمام السابع لديهم.
3 علي بن موسى بن جعفر الملقب بالرضا توفي سنة 203هـ. التقريب ص 249، وهو الإمام الثامن لدى الإمامية الإثني عشرية، وهو الذي قلده المأمون ولاية العهد إلا أنه مات قبله. انظر: البداية والنهاية 10/282.
4 محمد بن علي بن موسى بن جعفر وهو الإمام التاسع للشيعة الاثنا عشرية، وهو الملقب بالجواد. وجه الخليفة المأمون ابنته، ثم استدعاه الخليفة المعتصم إلى بغداد وتوفي فيها سنة 220هـ، وعمره خمسا وعشرين سنة. انظر: البداية والنهاية 10/305، فرق الشيعة ص 91، التحفة الاثنا عشرية ص 21.
5 في النسختين هكذا (ثم محمد بن علي بن علي بن محمد) وهو خطأ بين، لأن المراد ب - علي الأول هو ابن موسى، أما الثاني فهو علي بن محمد بن علي بن موسى لهذا حذفت (بن) وأثبت أداة العطف ثم.
6 علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر الملقب بالهادي وهو الإمام العاشر عند الشيعة الإثنا عشرية. قال ابن كثير: "كان عابداً. اهداً نقله المتوكل إلى سرمن رأى، وتوفي بها في سنة 254هـ، وله من العمر أربعون سنة". انظر: البداية والنهاية 11/17، فرق الشيعة ص 93.
7 في كلا النسختين (الحسين) وهو خطأ وصوابه الحسن.(3/829)
ابن علي1 وبعدهم إسماعيل بن جعفر2 ثم ابنه محمد بن إسماعيل3.
وللروافض في الإمامة كلام كثير، لكنا نتكلم على إبطال ما ادعوه من النص عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا بطل النص ثبت الاختيار.
فنقول: لو كان هناك نص من النبي صلى الله عليه وسلم على إمام بعينه بأن يقول هذا خليفتي والإمام من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا لم يخل: إما أن يكون هذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم بمحضر من الصحابة ممن يقع العلم بخبرهم أو كان ذلك منه بمحضر الواحد والاثنين والعدد الذين لا يقع العلم بخبرهم، فلو كان قد قال ذلك بمحضر جماعة يقع العلم بخرهم، لنقل ذلك نقل مثله ولشاع وذاع كما نقل أعداد الركعات وفرض الحج والصيام والزكاة التي لا خلاف بين الأمة في وجوبها، لأن الإمامة من الفروض العامة اللازمة
__________
1 هو الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر، وهو الإمام الحادي عشر لدى الروافض الإثنا عشرية. توفي وعمره ثمان وعشرون سنة وذلك عام 260هـ، ولم يخلف عقبا ولا ذرية، فاختلفت الرافضة بعده إلى ثلاثة عشر قولا، ومن هذه الأقوال قول الإمامية الإثني عشرية التي ترى أن للحسن ولدا وهو محمد بن الحسن، ويزعمون أنه الإمام الثاني عشر، وانه المهدي الذي سيظهر آخر الزمان. وهم أكثر روافض اليوم. انظر: فرق الشيعة للنوبختي ص 96 - 112، التحفة الإثنا عشرية ص 21.
2 هو: إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. توفي في حياة أبيه جعفر بن محمد الصادق وإليه تنتسب الإسماعيلية. انظر: فرق الشيعة ص 67.(3/830)
للجميع ولتوفرت الدواعي في كل عصر على نقل ذلك إلى يومنا هذا، وعدم ذلك يضطر إلى عدم النص منه، وإن كان قال ذلك بمحضر ممن لا يقع العلم بخبرهم فعند الروافض أن أخبار الآحاد لا توجب العمل في العبادات، فكيف توجب العمل في الإمامة، ولأنه لو كان كذلك لما وسع علياً - رضي الله عنه - عنه السكوت عن الاحتجاج به، ولما وسع بني هاشم وبني عبد المطلب الإغضاء على ذلك وترك نصرة علي، وفي عدم ذلك منهم ومنه ما يدل على عدم النص، ولأنه لو كان للنص أصل لكان يؤدي إلى أن الحق بذلك خفي على عصر الصحابة - رضي الله عنهم - وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجمتع أمتي على الخطأ"1، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما كان الله ليجمع هذه الأمة على الخطأ"2 وفي انقياد الصحابة - رضي الله عنهم - لأبي بكر وكونهم تحت طاعته وفيهم علي والعباس وعمار والمقداد وأبو ذر والزبير بن العوام دليل على عدم النص على غيره، ولأن كثيراً من القائلين بإمامة علي من الزيدية3 والمعتزلة البغدادين4 وغيرهم ينكر5 النص ويجحده مع تفضيلهم لعلي على غيره وهذا في بابه أوضح دليل على عدمه. ثم نعارض روايتهم هذه برواية البكرية أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على إمامة أبي
__________
1 لم أقف عليه بهذا اللفظ وإنما هو وارد بلفظ "لا تجتمع أمتي على ضلالة أبداً" وقد تقدم تخريجه ص 113.
2 تقدم تخريجه ص 113.
3 أكثر الزيدية يرون أن الإمام بعد الرسول صلى الله عليه وسلم هو علي بن أبي طالب بالنص، وبعضهم كما هو قول يحيى بن حمزة المؤيد بالله يرى أن النص لعلي - رضي الله عنه - نصاً خفياً. انظر: كتاب نصرة مذاهب الزيدية ص 25، مصباح العلوم في معرفة الحي القيوم ص 21، وانظر قول يحيى بن حمزة في نقل صاحب كتاب الزيدية ص 319 عنه من كتابه الرسالة الوازعة للمعتدين ص 22.
4 معتزلة بغداد منهم الجعفران: جعفر بن حرب، وجعفر بن مبشر الشقفي والإسكافي وقد حكى عنهم الملطي تفضيل علي على أبي بكر - رضي الله عنهما -. التنبيه والرد على أهل الأهواء ص 41.
5 في الأصل (ينكرون) وفي - ح - كما أثبت.(3/831)
بكر - رضي الله عنه1 - أو برواية الراوندية، حيث قالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم نص على إمامة العباس - رضي الله عنه - 2.
وكل جواب للشيعة عن هاتين الروايتين فهو جواب لنا عن روايتهم في النص على إمامة علي - رضي الله عنه -، وعلى أن فرقة من الرافضة يقال لهم الكاملية3 كفروا خلقاً من الصحابة - رضي الله عنهم -، وكفروا علياً معهم، وذلك أنهم قالوا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم إلى علي - رضي الله عنه - فردت الصحابة أمر النبي صلى الله عليه وسلم، فكفروا بذلك، ولم ينازعهم علي ولم يقاومهم فكفر، وهذا يدل على أنهم أرادوا الطعن على الجميع وإبطال ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر به ويدل على عدم النص ما روى ابن عباس - رضي الله عنه -: "أن علي بن أبي طالب خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي مات فيه، فقال له الناس: يا أبا الحسن كيف أصبح النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أصبح بحمد الله بارئاً فأخذ بيده العباس ابن عبد المطلب فقال: ألا ترى أنك بعد ثلاث عبد العصا4 والله إني لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم سيتوفى في وجعه هذا، وإني لأعرف في وجوه بني عبد المطلب الموت، فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسأله فيمن يكون هذا الأمر، فإن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا أمر به فأوصى بنا، فقال علي - رضي الله عنه -: والله لئن سألناها رسول الله فمنعناها لا يعطيناها
__________
1 تقدم ذكر البكرية ص 824 وكذلك ذكر القائلين بالنص على أبي بكر - رضي الله عنه -، وانظر: بعض هذه الروايات التي تنص على خلافة أبي بكر في المعتمد في أصول الدين للقاضي أبي يعلى ص 227.
2 تقدم ذكر هذا ص 826.
3 الكاملية أتباع أبي كامل وهم معدودون من فرق الإمامية إلا أنهم تميزوا بتكفير علي - رضي الله عنه -، إضافة إلى تكفير الصحابة بسبب تركه القيام على ابي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم -، وقد عد من أتباع هذه الفرقة بشار بن برد الشاعر. انظر: الفرق بين الفرق ص 56 التبصير في الدين ص 35.
4 هذا القول كناية عمن يصير تابعاً لغيره والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم يموت بعد ثلاث وتصير أنت مأموراً عليك، وهذا من قوة فراسة العباس - رضي الله عنه -. انظر: فتح الباري 8/143.(3/832)
الناس أبداً، وإني والله لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم أبداً1. وهذا يدل على عدم النص إذ لو له أصل لكان عندهما منه علم.
وأما بيان عقد الإمامة لأبي بكر - رضي الله عنه - فما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات اختل الناس لموته فاعتزلت الأنصار مع سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، واعتزل علي - رضي الله عنه - في رجال من قريش في بيت فاطمة - رضي الله عنها -، فقال خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين: يا معشر الأنصار إن تقدموا قريشاً اليوم يتقدموكم إلى يوم القيامة، وأنتم الأنصار وفيكم كتاب الله وإليكم الهجرة، وفيكم أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطلبوا رجلاً تهابه قريش وتأمنه الأنصار، فقال القوم: وما ذاك إلا سعد بن عبادة، قال: فسعد نريد وقام أسيد بن حضير الأوسي وهو من أهل الطاعة فيهم والرأي فقال: يا معشر الأنصار إنه قد عظمت نعمة الله عليكم بأن سماكم الأنصار، وجعل فيكم الهجرة، وقبض فيكم الرسول صلى الله عليه وسلم فاجعلوا ذلك2 لله شكراً، وإن هذا الأمر في قريش فمن قدموه فقدموه ومن أخروه فأخروه، فلم يقبلوا منه فلحق بالمهاجرين ثم قام عويم3 بن ساعدة الأنصاري فقال: "يا معشر الأنصار إن يكن هذا الأمر فيكم دون قريش فانفروا حتى نبايعكم عليه، وإن كان لهم دونكم فسلموا لهم ذلك، فوالله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرفنا أن أبا بكر خليفته حين أمره أن يصلي بالناس فلم يقبلوا منه، فلحق بالمهاجرين فاجتمع المهاجرون إلى أبي بكر - رضي الله عنه - وفيهم عمر وقال عمر: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار، قال عمر:
__________
1 أخرجه خ. كتاب المغازي (ب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته) ، حم 1/263، واللالكائي في السنة 7/1289، وابن سعد في الطبقات 2/245، والطبراني في تاريخ الأمم والملوك 3/193.
2 ذلك ليست في - ح -.
3 في الأصل (عمير) وفي - ح - (عوير) وكلاهما خطأ والصواب ما أثبت، فقد ذكره ابن حجر في الإصابة باسم عويم بن ساعدة 7/181.(3/833)
فانطلقنا فلقينا رجلان صالحان1 من الأنصار قد شهدا بدراً فقال: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ فقلنا: نريد إخواننا من الأنصار، قال: فارجعوا فاقضوا أمركم بينكم، فقلت: والله لنأتينهم فإذا هم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة بين أظهرهم رجل مزمل فقلت؟ من هذا؟ قالوا: سعد ابن عبادة، فقلت: ما شأنه فقالوا: إنه وجع، فقام خطيب الأنصار فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعد فنحن الأنصار وكتيبة الإسلام وأنتم يا معشر قريش رهط منا وقد دفت إلينا منكم دافة2، فإذا هم يريدون أن يخزلونا3 من أصلنا ويحضنونا4 من الأمر، قال: وقد زورت في نفسي مقالة وكنت أردت أن أقوم بها بين يدي أبي بكر، وكان أوقر مني واحلم، فلما أردت الكلام، قال: على رسلك وكرهت أن أعصيه، فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه ثم والله ما ترك كلمة كنت زورتها إلا جاء بها أو أحسن منها في بديهته ثم قال: "أما بعد فما ذكرتم فيكم من خير يا معشر الأنصار فأنتم له أهل، ولكن لم5 تعرف العرب هذا الأمر إلا بهذا الحي من قريش وهم أوسط العرب داراً ونسباً، فقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم، وأخذ بيدي ويد أبي عبيدة بن الجراح، فوالله ما كرهت مما قال شيئاً6 غير هذه
__________
1 في الأصل (رجلين صالحين) وما أثبت كما في - ح - والرجلان هما عويم بن ساعدة ومعن بن عدي - رضي الله عنهما -. انظر: فتح الباري 12/151.
2 الدافة: القوم يسيرون جماعة سيراً ليس بالتشديد، ومراده هنا أن عدداً قليلاً منكم ساروا إلينا. انظر: غريب الحديث للهروي 3/390.
3 يخزلونا أي يقتطعونا عن الأمر وينفردوا به دوننا. فتح الباري 12/151.
4 يحضنونا: بالحاء والضاد بعدها نون معناها يخرجونا عن الأمر ويستبدون به ويحبسونا عنه. المرجع المتقدم.
5 هكذا في النسختين وعند البخاري (لن) .
6 في الأصل (شيء) وما أثبت من - ح -.(3/834)
الكلمة، وكنت1 لأن أقدم فتضرب عنقي أحب إلي من أن أؤمر على قوم فيهم أبو بكر، فلما قضى أبو بكر خطبته قام رجل من الأنصار يقال له حباب ابن المنذر فقال: أنا جذيلها المحكك2 وعذيقها المرجب3 منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش، فقال عمر: إنه لا يصلح سيفان في غمد، ولكن منا الأمراء ومنكم الوزراء، قال: فارتفعت الأصوات وكثر اللغط حتى أشفقت الاختلاف، فقلت: يا أبا بكر أبسط يدك أبايعك، قال: فبسط يده فبايعته بايعه المهاجرون وبايعه الأنصار.
وزعم الأوس أن أول من بايعه بشير أبو4 النعمان، وزعمت الخزرج أن أول من بايعه أسيد بن حضر، فلما بلغ أهل السقيفة ازدحم الناس على أبي بكر ليبايعوه، فقال قائل منهم: قتلتهم سعداً، فقال عمر: قتل الله سعداً، 5 ثم زفوه إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا قبل دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن أهله حجبوه فلما رقى أبو بكر المنبر نظر في وجوه اقوم فلم ير علياً - رضي الله عنه -، فسأل عنه فقام زيد بن ثابت وجماعة من الأنصار فأتوا به فقال أبو بكر: أنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه وأردت أن تشق عصا المسلمين فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعه6، ثم نظر في وجوه القوم فلم ير الزبير فقال: أين الزبير، فقام زيد وجماعة فجاؤوا به فقال له: أنت ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه وأردات أن تشق عصا المسلمين، فال: لا تثريب يا خليفة رسول الله ثم
__________
1 في الأصل (بدون الواو) وما أثبت من - ح -.
2 الجذيل بضم الجيم وفتح الذال تصغير جذل بكسر الجيم أو فتحها، وهو عود ينصب للإبل لتحتك به من الجري، فأراد هنا أنه يستشفي برأيه كما تشتفي الإبل بالاحتكاك بذلك العود.
3 العذيق بضم العين وفتح الذال تصغير عذق بفتح العين وهو النخلة والموجب من الترجيب، وهو البناء الذي يبنى لدعم النخلة الكريمة إذا مالت حنى لا تسقط والمراد أنه كريم يرجع إلى قوله. انظر في الموضعين غريب الحديث للهوري 4/153.
4 في النسختين (بشير بن النعمان) والصواب ما أثبت لأنه بشير بن سعد والد النعمان بن بشير وهو من الخزرج، وقد ذكره ابن حجر في الإصابة 1/262 بأنه أول من بايع أبا بكر - رضي الله عنه - بالخلافة.
5 أكثر هذا الخبر من قوله: "وقال عمر يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار" إلى هنا أخرجه خ. كتاب الحدود (ب رجم الحبلى من الزنا) 8/141، حم 1/55 من حديث ابن عباس.
6 مبايعة علي والزبير - رضي الله عنهما - بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقبل دفنه رواها الحاكم في المستدرك 3/76 وقال: "حديث صحيح على شرط الشيخين" وسكت عنه الذهبي، وذكره ابن كثير - رحمه الله - في البداية والنهاية 5/280 من رواية الحافظ البيهقي بسنده عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، وقال: "هذا إسناد صحيح محفوظ من حديث أبي نضرة بن مالك بن قطعة عن أبي سعيد، وفيه فائدة جليلة وهي مبايعة علي بن أبي طالب، إما في أول يوم أو في اليوم الثاني من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا حق، فإن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - لم يفارق الصديق في وقت من الأوقات، ولم ينقطع عن صلاة من الصلوات خلفه". ثم قال: "ولكن لما حصل من فاطمة - رضي الله عنها - عتب على الصديق بسبب ما كانت متوهمة من أنها تستحق الميراث، ولم تعلم بقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا نورث ما تركناه صدقة". وهي امرأة من البشر ليست براجية العصمة، فحصل لها عتب وتغضب ولم تكلم الصديق حتى توفيت - رضي الله عنها -، واحتاج علي أن يراعي خاطرها بعض الشيء، فلما ماتت بعد ستة أشهر من وفاة أبيها النبي صلى الله عليه وسلم رأى علي أن يجدد البيعة مع أبي بكر - رضي الله عنه - كما في الصحيحين - مع ما تفدم له من البيعة قبل دفن النبي صلى الله عليه وسلم". انتهى مختصرا.(3/835)
بايعه، ثم رجع علي - رضي الله عنه - إلى بيته وأقام حيناً من الدهر يسكن فاطمة - رضي الله عنها - من حزنها على أبيها إلى أن مرضت وماتت، فلما فرغ من دفنها - رحمة الله عليها - جاء إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فبايعه ثانياً البيعة المشهورة"1.
فنحن نقول لما بايع عمر - رضي الله عنه - أبا بكر انعقدت له الإمامة لا بمجرد مبايعته ولكن لتتابع الأيدي إلى المبايعة لسبب مبادرته، ولو لم يبايعه عمر وبقي الناس مخالفين وانقسموا انقساماً لا يتميز فيه الغالب من المغلوب لما انعقدت إمامته، لأن شرط ابتداء الانعقاد قيام الشوكة وانصراف القلوب إلى المبايعة ومطابقة البواطن والظواهر على ذلك المقصود الذي يراد له الإمام، وهو جمع شتات الآراء ولا تتفق الإرادات المتناقضة على مبايعة ذي رأي واحد إلا إذا ظهرت شوكته ورسخت في النفوس رهبته ومهابته ولم يخالفه إلا من لا يكترث بمخالفته2.
__________
1 البيعة المشهورة رواها خ. كتاب المغازي (ب غزوة خيبر) 5/9115م. (كتاب الجهاد) (ب قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نورث.." 3/1380.
2 انظر في تأييد هذا المعنى والأدلة عليه بأوسع مما هنا كلام شيخ افسلام ابن تيمية في رده على الرافضي في منهاج السن النبوية 1/526 - 532.(3/836)
ومما يدل على تقديم أبي بكر - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مرض مرضه الذي توفي فيه أغمي عليه ذات يوم في مرضه فأفاق فقال: " حضرت الصلاة قالوا: نعم قال: مروا بلالا فليؤذن وأمروا أبا بكر فليصل بالناس، ثم أغمي عليه فأفاق وقال مثل ذلك، فقالت عائشة يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف ومتى يقم مقامك يبك فلا يستطيع فأمر عمر فليصل الناس، فقال مثل قوله الأول فقالت يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف1 ومتى يقم مقامك يبك فلا يستطيع فأمر عمر قليصل بالناس، فقال مثل قوله الأول فقالت يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف ومتى يقم مقامك يبك فلا يستطيع فأمر عليا2 فليصل بالناس، فقال: إنكن صواحبات يوسف مروا بلالاً فليؤذن وامروا أبا بكر فليصل بالناس"3.
وروى عبد الله بن زمعة قال: لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعة الذي مات فيه كنت عنده ونفر من المسلمين فبينا نحن كذلك إذ دعى بلال إلى الصلاة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مروا أبا بكر فليصل بالناس"، فخرجت فإذا بعمر بن الخطاب في الناس وكان أبو بكر غائباً عنهم، ولم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهده يقدم على أبي بكر وعمر، فقلت في نفسي إن كان أبو بكر غائباً فهاهنا عمرفقلت: يا عمر صل بالناس، قال فقام وكبر وكان جهوري الصوت فسمع النبي صلى الله عليه وسلم صوته فقال: أين أبو بكر يأبى الله ذلك والمسلمون إلا أبا بكر، يأبى الله ذلك والمسلمون إلا أبا بكر، فبعث إلى أبي بكر فجاء من حيث كان وصلى بالناس بعد ذلك سبعة أيام"4. وفي بعض الروايات أنه أقام يصلي
__________
1 جاء تفسيرها في بعض روايات مسلم بدل أسيف (رقيق) .
2 هكذا في النسختين ولم أقف عليه فيما اطلعت عليه من المصادر فلعله وهم أو أخطأ من الناسخ.
3 أخرج الحديث خ. كتاب الآذان والجماعة (ب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة) 1/113م. كتاب الصلاة (ب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر) 1/311 من حديث عائشة - رضي الله عنهما -.
4 لم أقف على من ذكر أنه صلى الله عليه وسلم سبعة أيام في شيء من الروايات، وإنما الذي ورد "أن أبا بكر - رضي الله عنه - جاء بعد أن صلى عمر تلك الصلاة فصلى بالناس".(3/837)
بالناس سبعة عشر يوماً1. قال عبد الله بن زمعة: فقال لي عمر ويحك ماذا صنعت بي يا عبد الله ما ظننت إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك أن تامرني، قلت: والله ما أمرني بذلك وإنما أمرني إلى أبي بكر فحين لم أره رأيتك أولى من حضر بالصلاة بالناس"2.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد في نفسه عند صلاة الصبح يوم العاشر خفة فخرج يهادي بين الفضل بن العباس وأسامة بن زيد3 عاصباً رأسه، وأبو بكر يصلي بالناس، ففرح الناس بدخوله صلى الله عليه وسلم، فلما أحسن به أبو بكر ذهب ليستأخر فنكص عن مصلاه، فدفع النبي صلى الله عليه وسلم في ظهره وقال: صل بالناس وجلس إلى جنبه قاعداً عن يمينه4.
__________
1 لم أقف على من ذكر هذا وقد روى البخاري 1/113 عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: "لم يخرج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً فأقيمت الصلاة فذهب أبو بكر يتقدم نبي الله صلى الله عليه وسلم بالحجاب فرفعه ... " الحديث، وفي رواية أخرى عن أنس أيضاً ذكر أنه توفي في يومه ذلك، فهذا يدل على أنه صلى بهم ثلاثة أيام.
وقال ابن كثير: "قال الزهري عن أبي بكر بن أبي سبرة أنه قال: "إن أبا بكر صلى بهم سبع عشرة صلاة. وقال غيره: عشرين صلاة". البداية والنهاية 5/265 فلعل المصنف كان منه سبق قلم، فبدل أن تكتب "صلاة" كتب "يوماً" أو أخطأ من ناسخ.
2 إلى هنا تنتهي رواية عبد الله بن. معة - رضي الله عنه -، واخرجها عنه د. كتاب السنة (ب استخلاف أبي بكر - رضي الله عنه -) 2/266، حم 4/322، والحاكم في المستدرك 3/641، وابن أبي عاصم في السنة 2/553 وقال الألباني في التعليق: "إسناده صحيح".
3 هذه رواية الدارقطني في سننه 1/402 عن الحسن البصري وهي مرسلة. وقد تقدم قول الزهري أن أبا بكر صلى الله عليه وسلم بهم سبع عشرة صلاة، وكذلك قوله هنا: إن الرجلين هنا الفضل بن العباس وأسامة بن. يد - رضي الله عنهما -، والذي جاء في البخاري ومسلم أنهما العباس بن عبد المطلب وعلي ابن أبي طالب - رضي الله عنهما -. وفي رواية أخرى عند مسلم أنهما الفضل بن العباس وعلي، قال الحافظ ذاك في حال مجيئه إلى بيت عائشة، والله أعلم. فتح الباري 2/154.
4 الذي روى البخاري 1/112، ومسلم 1/314 في هذا من حديث عائشة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس عن يسار أبي بكر" وقد ذكر الحافظ ابن حجر خلافاً في هذا فلينظر. فتح الباري 2/154.(3/838)
وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بأبي بكر، وأبو بكر يصلي بالناس1، وكان ذلك بحضور علي - رضي الله عنه -.
وروي أن عبد الله بن الكوا2 وقيس بن عباد3 دخلا على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بعدما فرغ من قتال الجمل فقالا له: أخبرنا عن مسيرك هذا الذي سرت، فإن كان رأياً رأيته أجبناك في رأيك، وإن كان عهداً عهد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنت الموثوق المأمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عنه. قال: فتشهد علي وكان القوم إذا تكلموا تشهدوا، فقال: أما أن يكون عندي عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا والله، ولو كان عندي عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تركت أخاتيم بن مرة ولا ابن الخطاب على منبره ولو لم أجد إلا يدي هذه، ولكن نبيكم صلى الله عليه وسلم نبي رحمة لم يمت فجأة ولم يقتل قتلاً مرض ليالي وأياماً يأتيه بلال فيؤذنه بالصلاة فيقول: مروا أبا بكر فليصل بالناس وهو يرى مكاني، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرنا في أمرنا فإذا الصلاة عضد الإسلام وقوام الدين فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فولينا الأمر أبا بكر فأقام أبو بكر - رضي الله عنه - بين أظهرنا الكلمة جامعة والأمر واحد لا يختلف عليه منا اثنان ولا يشهد أحد منا على أحد بالشرك، وكنت والله آخذ إذا أعطاني وأغزوا
__________
1 هذه رواية عائشة وهي في الصحيح في الموضع السابق.
2 قال عنه الذهبي: "من رؤوس الخوارج". ميزان الاعتدال 2/474.
3 قيس بن عباد القيسي الضبعي أبو عبد الله البصري قدم المدينة في خلافة عمر - رضي الله عنه -، وروى عنه وعن علي وعمار وغيرهم من الصحابة قال النسائي وابن فراش: "ثقة وكانت له مناقب وحلم وعبادة"، وذكر ابن حجر أنه فيمن قتله الحجاج ممن خرج مع ابن الأشعث بعد الثمانين من الهجرة. انظر: التهذيب8/400.(3/839)
إذا أغزاني وأضرب بيدي هذه الحدود بين يديه، فلما حضرت أبا بكر الوفاة ولاها عمر - رضي الله عنه -، فأقام عمر بين أظهرنا الكلمة جامعة والأمر واحد لا يختلف عليه منا اثنان ولا يشهد أحد منا على أحد بالشرك، فكنت والله آخذ إذا أعطاني، وأغزوا إذا أغزاني وأضرب بيدي هذه الحدود بين يديه، فلما حضرت عمر الوفاة ظن أنه إن يسختلف خليفة فيعمل ذلك بخطيئة إلا لحقت عمر في قبره، فأخرج منها ولده وأهل بيته وجعلها في ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فكان فينا عبد الرحمن بن عوف فقال: هل لكم أن أدع نصيبي على أن أختار لله ولرسوله وآخذ ميثاقاً على أن نسمع ونطيع لمن ولاه أمرنا، فضرب بيده يد عثمان - رضي الله عنهما - فبايعه، فنظرت في أمري فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي، وإذا الميثاق في عنقي لعثمان، فابتعت عثمان - رضي الله عنه - بطاعته حتى أديت له حقه1.
وروي الحسن البصري عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: " قدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فصلى بالناس وقد رأى مكاني وما كنت غائباً ولا مريضاً، ولو أراد أن يقدمني لقدمني فرضينا لدنيانا من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا"2.
وروي شقيق3 بن سلمة أنه قال: قيل لعلي - رضي الله عنه - "استخلف علينا فقال: ما أستخلفت ولكن إن يرد الله بهذه الأمة خيراً يجمعهم على خيرعم كما جعهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيرهم"4.
__________
1 ذكره أبو يعلى في المعتمد في اصول الدين ص 224، وعزاه إلى ابن بطة عن الحسن، ولم أجده في المطبوع ولا المخطوط من الإبانة لابن بطة، وذكره السيوطي في تاريخ الخلفاء ص 177 وعزاه إلى ابن عساكر عن الحسن، وأخرجه الخلال في السنة مختصراً ص 282 عن أبي بكر الهذلي عن الحسن وهو لا يصح من ناحية السند، لأن أبا بكر سُلمي بن عبد الله الهذلي قال عنه ابن حجر: "إخباري متروك الحديث". التقريب ص 397.
2 أخرجه الخلال في السنة مختصراً ص 274.
3 في - ح - (سفيان) وهو خطأ وشقيق بن سلمة هو أبو وائل.
4 أخرجه الحاكم في المستدرك 3/79 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وأخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة 1/404، وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة 7/223 قال ابن كثير: "إسناده جيد ولم يخرجوه". البداية والنهاية 5/282.(3/840)
وروي أنه قيل: لعبد الله بن أبي أوفى: "هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، قيل: فكيف أمر المسلمين بالوصية؟ قال: أوصى بكتاب الله، وقال1: أبو بكر يتوثب على وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ودّ أبو بكر أنه وجد عهداً من رسول الله صلى الله عليه وسلم فخزم2 أنفه منها بخزامة". 3
ويدل على صحة ما ذهبنا إليه قول الله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُول} ؟ الآية، وهذا خطاب للصحابة - رضي الله عنهم -". 4 لأنهم هم المستخلفون الله عنهم -، ثم قال بعدها: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} 5 الآية، قال الضحاك: "هذا العهد لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم - لأنهم هم المستخلفون بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أنجز له ما وعدهم وجعلهم خلفاء بعد نبيه صلى الله عليه وسلم، ومكن لهم في الأرض ففتحوا الفتوح وغنموا الغنائم وسبوا الذراري، وكان سيف أبي بكر - رضي الله عنه - في أهل الردة سيف حق، وسيف علي - رضي الله عنه - في الخوارج سيف حق، وظهر بهم في دين الله بعد نبيه صلى الله عليه وسلم.
__________
1 القائل هذا كما في مصادر الرواية (الهزيل بن شرحبيل من رواية طلحة بن مصرف عنه) .
2 قال ابن منظور: "خزم الشيء شكه والخزامة حلقة تجعل في أحد جانبي منخري البعير". لسان العرب 2/1152، والمراد هنا خضوعه - رضي الله عنه - للموصى له والمعهود إليه.
3 أخرج الحديث خ. كتاب الوصايا (ب الوصايا ... ) 4/1، م. كتاب الوصية (ب ترك الوصية لمن ليس له شيء ... ) 3/1256 بدون قوله: "وقال أبو بكر يتوثب ... "، وأخرج مثله حم 4/381، جه (كتاب الوصايا) (ب هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم) 2/900، دي كتاب الوصايا (ب من لم يوصي) 2/403، واللالكائي في السنة 7/1290، وإسناده صحيح.
4 عزا الرواية القرطبي في تفسيره 12/297 إلى النقاش في تفسيره وذكر عن ابن العربي ترجيحه لهذا القول وانه قول علماء المالكية.
5 النور آية (54 - 55) .(3/841)
يؤيد ذلك ويوضحه ما روى أبو بكرة وسفينة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم يكون ملكا" قال سفينة: أمسك1، "خلافة أبي بكر سنتين وعمر عشراً وعثمان اثنتي عشرة وعلي ستاً". 2
وروى عبد الله عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليكونن منكم اثنا عشر خليفة أبو بكر الصديق لا يلبث إلا قليلاً، وصاحب رحادارة العرب يعيش حميداً ويموت شهيداً فقال رجل: من هو يا رسول الله، فقال: عمر بن الخطاب، ثم التفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى عثمان، فقال: يا عثمان وأنت يسألك الناس أن تخلع قميصاً كساكه الله فلا تخلعه، فوالذي نفسي بيده لإن خلعته لا ترى الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط "3.
ويدل على ما قلناه قول النبي صلى الله عليه وسلم: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ" 4. فسمى الخلفاء بعده الراشدين، وأمر باتباع سنتهم، ولم يكن بعده من الخلفاء إلا هؤلاء الأربعة، فدل على أن خلافتهم خلافة حق.
__________
1 هكذا في النسختين ولم أقف على رواية لأبي بكرة لهذا الحديث.
2 أخرجه ت. كتاب الفتن (ب ما جاء في الخلافة) 4/503 وقال الترمذي: "حديث حسن"، وأخرجه د. كتاب السنة (ب الخلفاء) 2/564، حم 5/220-221. مداره على سعيد بن جمهان وذكره ابن حجر في التقريب ص 120 وقال: "صدوق له أفراد".
3 أخرجه ابن أبي عاصم في السنة في 2/548 مختصراً ورواه في 2/557 مطولاً، وليس فيه قوله يا عثمان ... ) الخ. وأخرجه ابن عدي في الكامل 4/1524.
وعزاه الهيثمي إلى الطبراني في الكبير والأوسط مجمع الزوائد 5/178 وفي إسناده من تكلم فيه فإن فيه ربيعة بن سيف المعافري قال في التقريب ص 101 صدوق له مناكير.
وفيه سعيد بن أبي هلال قال عنه في التقريب ص 126 صدوق، وحكى الساجي عن الإمام أحمد أنه اختلط.
وفيه عبد الله بن صالح كاتب الليث. قال ابن حجر: صدوق كثير الغلط ثبت في كتابه، وكانت فيه غفلة. التقريب ص 177.
4 تقدم تخريجه ص 106.(3/842)
ومما يدل على خلافه أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - من القرآن قوله سبحانه: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} 1، وهذه الآية نزلت في المخلفين من الأعراب عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية، فقيل إن القوم الذين وصفهم الله بأولى بأس شديد هم أهل اليمامة2، 3 جهينة ومزينة وأشجع وأسلم وغفار والذي دعى إلى قتالهم وقاتلهم هو أبو بكر - رضي الله عنه -، وقيل: إنهم فارس وقد قاتلهم عمر - رضي الله عنه - فوعد الله المطيع على قتالهم أجراً حسناً، وأوعد من أعرض عن قتالهم عذاباً أليماً. فدل على أن الداعي لهم إلى قتالهم محق فيما دعاهم إليه4.
ومما يدل على خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - ما روي عن جبير بن معطم: "أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فكلمته في شيء، فأمرها أن ترجع إليه فقالت: يا رسول الله أرأيت إن لم أجدك كأنها تعرض بالموت فقال لها: "إن لم
__________
1 الفتح آية (16) .
2 اختلف في المقصود بالموصوفين بالبأس الشديد، فعن الزهري أنه قال هم بنو حنيفة مع مسيلمة الكذاب وهم أهل اليمامة. وقال ابن عباس وابن أبي يعلى ومجاهد وغيرهم هم فارس والروم.
وعلى هذين القولين تكون الآية دليلاً على خلافة أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -، لأن أبا بكر هو الذي دعا إلى قتال أهل اليمامة والروم. ودعا عمر - رضي الله عنه - إلى قتال فارس وأكمل قتال الروم، وقيل: إن المراد بالقوم هم هوازن وثقيف، وروي هذا عن سعيد بن جبير وعكرمة وقتادة، فيكون الداعي النبي صلى الله عليه وسلم. انظر: الروايات في تفسير ابن جرير 26/82 - 83.
3 هكذا في النسختين والكلام فيه سقط هنا ولعله (والمدعون هم ... ) لأن الذي ذكره المفسرون أن المخلفين عن غزوة الحديبية هم من أعراب المدينة جهينة ومزينة وأسلم ... ) ، انظر: تفسير ابن جرير 26/77، تفسير القرطبي 16/272.
4 ذكر السيوطي في تاريخ الخلفاء ص 65 أبن ابن أبي حاتم وابن قتيبة وأبو العباس بن شريح وابن كثير استدلوا بهذه الآية على خلافه الصديق - رضي الله عنه -.(3/843)
تجديني فأت أبا بكر "1. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر"2
ومما يدل على صحة إمامة أبي بكر - رضي الله عنه - أن الله أثنى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} 3 وقوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم} 4، الآية، وقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} 5.
ومعنى قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} أي: أنتم خير أمة6، ويقال: أراد كنتم في اللوح المحفوظ7، ويقال: في علم الله8.
__________
1 أخرجه خ. كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (ب لو كنت متخذاً خليلاً..) 5/5. م. كتاب فضائل الصحابة (ب فضائل أبي بكر - رضي الله عنه -) 4/1856.
2 تقدم تخريجه ص 105.
3 الفتح آية (18) .
4 الفتح آية (29) .
5 آل عمران آية (110) .
6 بهذا قال الحسن البصري رجحه ابن جرير الطبر للحديث الآتي، وقد ورد عن عمر - رضي الله عنه - أنه جعلها خاصة فيمن أدى شرطها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي الآية أقوال أخرى أرجحها ما ذكره الحسن، وهو أن المراد به هذه الأمة، وهو الذي رجهه ابن كثير للحديث الآتي وللحديث الذي رواه أحمد في مسنده 1/98 - 158 عن علي - رضي الله عنه - قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء قبلي" فقلنا يا رسول الله وما هو؟ قال: نصرت بالرعب وأعطيت مفاتيح الأرض وسميت أحمد وجعل التراب لي طهوراً وجعلت أمتي خير الأمم". قال ابن كثير تفرد به الإمام أحمد من هذا الوجه وإسناده حسن. تفسير ابن كثير 1/391.
7 ذكر هذا القول القرطبي ولم يعزه إلى قائل معين: تفسير القرطبي 4/170.
8 لم أقف على قائل هذا وهو يتفق مع القول قبله لأن ما في اللوح المحفوظ هو من علم الله.(3/844)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله" 1
وهؤلاء الذين أثنى الله عليهم بايعوا أبا بكر - رضي الله عنه - وأطاعوه وانقادوا له وسموه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن قال: إن خلافة أبي بكر كانت باطلاً فقد ضلل من أثنى الله عليه وشهد لهم أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فدل على أن ما أمروا به معروف.
فإن قيل: فما الدليل على أن أبا بكر بصفة من تعقد له الإمامة، وما المعاني التي اقتضت تقديمه على غيره في عصره؟.
قيل: أما سببه ونسبه فلا ينكره منكر2، وظهر من النبي صلى الله عليه وسلم معان تدل على تقديمه على غيره، وظهرت من أبي بكر - رضي الله عنه - في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند موته أمور تدل على علمه وشجاعته وقوة عزيمته. فأما ما ظهر للصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم فما ذكرناه من تقديم النبي صلى الله عليه وسلم له في الإمامة بالصلاة وتعظيمه لأمره بذلك، وقوله لعائشة وحفصة: "إنكن لصواحب يوسف" حين راجعنه في إمامة غيره3، وقوله مع ذلك "يأبى الله ورسوله والمسلمون إلا أبا بكر"4
__________
1 أخرجه ت. كتاب التفسير (ب تفسير آل عمران) 5/226 وقال: "حديث حسن". وأخرجه جه. كتاب الزهد (ب صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم) 2/1433. دي رقاق (ب قول النبي صلى الله عليه وسلم أنتم خير الأمم) 2/313، حم 5/3ـ5، وابن جرير في تفسيره 4/45، والحاكم في المستدرك (ب معرفة الصحابة) 4/84 وقال: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي كلهم من حديث معاوية بن حيدة - رضي الله عنه -، وحسن الحديث السيوطي. انظر: الجامع الصغير مع فيض القدير 2/553، والألباني في صحيح الجامع 1/272.
(منكر) ليست في - ح -.
3 تقدم تخريجه ص 837.
4خرجه خ. كتاب الأحكام (ب الاستخلاف) 9/66، م. فضائل الصحابة (ب فضائل أبي بكر - رضي الله عنه -) 4/1857 من حديث عائشة - رضي الله عنها - وذلك حين أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب كتاباً في استخلاف أبي بكر - رضي الله عنه -، ثم ترك ذلك وقال: يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر. وورد ذلك أيضاً من حديث عبد الله بن. معة وقد تقدم.(3/845)
مع قوله الله صلى الله عليه وسلم: " يوؤ القوم خيرهم"1. وقوله: " أئمتكم شفعاؤكم"2 وقوله: "من تقدم على قوم من المسلمين وهو يرى أن فيهم من هو أفضل منه فقد خان الله ورسوله"3 وقوله صلى الله عليه وسلم:" ما من نبي يموت حتى يؤمه رجل من قومه" 4، وقد أمَّ أبو بكر بالنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة5.
وروى عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو كنت متخذاَ أحداً من أهل الأرض خليلاً لأتخذت أبا بكر بن أبي قحافة خليلاً - رضي الله عنه - ولكن خلة الإسلام أفضل سدوا عني كل خوجة غير خوجة أبي بكر"6 وروي ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عاصباً رأسه بخرقة في مرضه الذي توفي فيه فجلس على المنبر فحمد الله وأثنى عليه
__________
1 تقدم تخريجه ص 820.
2 تقدم تخريجه ص 820.
3 تقدم الكلام عنه ص 820.
4 أخرج الحاكم في المستدرك كتاب الصلاة 1/244 وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، وأخرج الدارقطني في سننه كتاب الصلاة (ب الصلاة في الثوب الواحد) 1/282 كلهم من حديث المغيرة بن شعبة، وأعله الدارقطني ب - عبد الله بن أبي أمية قال: ليس بالقوي، وذكر الحديث الذهبي في الميزان 2/393 ونقل كلام الدارقطني في عبد الله.
5 أخرج هذا الترمذي في سننه من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر في مرضه الذي مات فيه قاعداً"، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب"
وروي أيضاً ذلك عن أنس - رضي الله عنه - قال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه خلف أبي بكر قاعداً في ثوب متوشحاً به". قال الترمذي: "حديث حسن صحيح". انظر: سنن الترمذي (كتاب الصلاة) (ب إذا صلى الله عليه وسلم الإمام قاعداً) 2/196 - 198، كما أخرج هذه الروايات أيضاً البيهقي في دلائل النبوة 7/191 - 192.
6 أخرجه خ. كتاب الصلاة (ب الخوجة والممر في المسجد) 1/84، فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/97 - 152. وورد هذا الحديث من حديث ابن مسعود وأبي سعيد الخدري - رضي الله عنهما -، ايضاً أخرجه عنهما خ - كتاب فضائل الصحابة (ب قول النبي صلى الله عليه وسلم لو كنت متخذاً خليلاً) 5/4. م. كتاب فضائل الصحابة (ب فضائل أبي بكر) 4/1854.(3/846)
فقال: ليس أحد أمنّ عليّ بنفسه وماله من أبي بكر"1، وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما نفعني مال أحد ما نفعني مال أبي بكر" قال: فبكى أبي بكر وقال: "يا رسول الله أنا ومالي لك" 2، قالت عائشة3: كان مال أبي بكر4 قد بلغ الغاية5 ألف أوقية فضة لم يزد عليها مال قرشي فأنفق ذلك كله في الله6 وقالت: "كان بلغ ماله في الجاهلية ألف ألف أوقية ففخرت بذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اسكني يا عائشة إني كنت لك كأبي زرع لأم زرع"7.
وروي أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن للجنة ثمانية أبواب فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب
__________
1 هذا مقدمة حديث ابن عباس المتقدم.
2 أخرجه جه في المقدمة 1/36 وقال في الزوائد: "إسناد رجاله ثقات". مصباح الزجاجة 1/16، وأخرجه الإمام أحمد في المسند 2/253، وفي فضائل الصحابة 1/65، وابن أبي عاصم في السنة 2/577.
3 هكذا في النسختين والأثر عن عبد الله بن عروة بن الزبير عن أبيه عروة بن الزبير.
4 في الأصل (مال أبي) وما أثبت من - ح - وهو يوافق ما في مصدر الرواية.
5 لمراد بالغاية غاية الغنى كما ورد ذلك مفسراً عند اللالكائي عن فليح بن سليمان قال: "أخبرت أن الغاية في الجاهلية غاية الغنى ألف أوقية فضة وفي الأنصار جذاذ ألف وسق بالصاع الأول والوسق ستون صاعاً". السنة 7/1275.
6 أخرجه اللالكائي في السنة 7/1275 عن عروة بن الزبير.
7 أخرجه ابن أبي عاصم في السنة 2/578، واللالكائي في السنة 7/1274. وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير 23/174 إلا أنه. زاد فيه قصة أبي زرع وإسناده ضعيف في إسناده محمد بن محمد بن نافع الطائفي. قال الذهبي في الميزان 4/25 "شيخ أيام عبد الرزاق لا يكاد يعرف". وقال ابن حجر: "مقبول". التقريب ص 317.
ملاحظة: وقع خطأ في اسمه في السنة لابن أبي عاصم حيث كتب (محمد بن عمر الطائفي) ، قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كنت لك كأبي زرع لأم زرع" في الصحيحين مع قصة أبي زرع، أخرجه خ. في كتاب النكاح (ب حسن المعاشرة) 7/24، م. كتاب فضائل الصحابة (ب ذكر حديث أم زرع) 4/1896.(3/847)
الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام وهو باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، فقال أبو بكر: ما على من دعي من تلك الأبواب كلها من ضرورة، وهل يدعى أحد منها كلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم وأرجو أن تكون منهم "1.
وروي عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أنه قال: قلت يا رسول الله: من أحب الناس إليك قال:" عائشة فقال: إني لست أعني النساء إنما أعني الرجال، قال: أبوها قال ثم من؟ قال: ثم عمر"2.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رحم الله أبا بكر زوجني ابنته ونقلني إلى دار الهجرة وأعتق بلالاً من ماله" 3. وروي أنه لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم هارباً من أهل مكة خرج ليلاً فتبعه أبو بكر - رضي الله عنه - فجعل يمشي مرة أمامه ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن يساره، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا أبا بكر ما أعرف هذا من فعلك، قال: يا رسول الله اذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون خلفك، ومرة عن يمينك ومرة عن يسارك، لا
__________
1 أخرجه اللالكائي في السنة 7/1275 وفي الصحيحين ليس فيه قوله: "إن للجنة ثمانية أبواب"، وإنما قال: "من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة ... " فذكره. أخرجه خ. في فضائل الصحابة (ب فضل أبي بكر) 5/6، م. كتاب الزكاة (ب من جمع الصدقة وأعمال البر) 2/712.
2 أخرجه خ. في الموضع المتقدم 5/5، م. كتاب فضائل الصحابة (ب فضل أبي بكر) 4/1856.
3 أخرجه ت. كتاب المناقب (ب مناقب علي - رضي الله عنه -) 5/633، السنة لابن أبي عاصم 4/577، واللالكائي في السنة 7/1277 من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
وإسناده ضعيف قال الترمذي حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، والمختار بن نافع شيخ بصري ثير الغرائب. وضعفه به ابن الجوزي في العلل المتناهية 1/354. وضعفه أيضاً به المناوي ورد على السيوطي تصحيحه. فيض القدير 4/18.(3/848)
آمن عليك، قال فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلته على أطراف أصابعه حتى حفيت رجلاه، فلما رآه قد حفيت رجلاه حمله على كاهله وجعل يشتد به، حتى أتى به الغار فأنزله، وقال: والذي بعثك بالحق لا تدخله حتى أدخله فإن كان فيه شيء نزل بي قبلك، فدخل فلم ير شيئاً فحمله فأدخله، وكان في الغار خروق فيهن حيات وأفاعي، فشق أبو بكر - رضي الله عنه - ثوبه فحشى في كل خرق منها قطعه من ثوبه، فبقي خرق فوضع أبو بكر عقبه عليه فجعلت الحيات والأفاعي تضربه وتلسعه، وجعلت دموعه تنحدر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا"1. فلما أصبح قال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر ما صنع ثوبك فأخبره بما صنع به فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: "اللهم اجعل أبا بكر معي في درجتي في الجنة فأوحى الله إليه أني قد استجبت لك"2.
__________
1 إلى هنا أخرجه اللالكائي في السنة 7/1278 وذكره المحب الطبري بتمامه في الرياض النضرة 1/105 وعزاه إلى الحافظ أبو الحسن بن بشران في سيرته عن ضبة بن محصن عن عمر أنه قال له: والله لليلة من أبي بكر ويوم خير من عمر، قال: قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: أما ليلته، فذكره، وسنده ضعيف جداً فإن فيه فرات بن السائب قال البخاري: "منكر الحديث"، وقال الدارقطني: "متروك". انظر: ميزان الاعتدال 3/341 وفيه عبد الرحمن بن إبراهيم الراسبي قال الذهبي: "يروي عن مالك أتى بخبر باطل طويل وهو المتهم يه، وأتي عن فرات بن السائب عن ميمون بن مهران عن ضبة بن محصن عن أبي موسى بقصة الغار وهو يشبه وضع الطرقية". ميزان الاعتدال 2/545، ومراد الذهبي هنا هذا الحديث إلا أنه عزاه إلى أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - لأنه ورد ذكر له في القصة كما ذكرها المحب الطبري في الرياض النضرة 1/105.
2 من قوله: "فلما أصبح ... إلخ" هذه من رواية أخرى أخرجها اللالكائي 7/1279 بسنده عن علي ابن. يد بن جدعان عن ابن المسيب عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - وإسنادها ضعيف لضعف علي بن. يد بن جدعان. انظر: التقريب ص 246، كما أخرج هذه الرواية أبو نعيم في الحلية 1/33 بسنده عن هلال بن عبد الرحمن عن عطاء بن أبي ميمونة عن أنس به وإسنادهما ضعيف جداً، فإن هلال بن عبد الرحمن قال عنه العقيلي: "منكر الحديث"، وقال الذهبي: "الضعف لائح على أحاديثه فليترك". ميزان الاعتدال 4/315. وقد أدمج المصنف - رحمه الله، هنا الرواية عن عمر مع ارواية عن أنس وكتاب السنة للالكائي سقط منه بقية الرواية عن عمر لأنه انتهى عند قوله: "لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته وهي طمأنينة لأبي بكر فهذه ليلة وأما يومه" وانتهى الخبر هنا وقد أوردها بتمامها المحب الطبري في الرياض النضرة 1/105 وذكر أن يومه موقفه من أهل الردة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.(3/849)
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحسان بن ثابت: "هل قلت في أبي بكر؟ "، قال نعم قال: "قل وأنا أسمع"، فقال:
وثاني اثنين في الغار المنيف ... وقد طاف العدو بهم إذ أصعدوا الجبلا
وكان حب رسول الله قد علموا ... من البرية لم يعدل به رجلا
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال: "صدقت يا حسان" 1.
ومما يدل على تقديم أبي بكر - رضي الله عنه - في الفتيا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ما روى أبو قتادة أنه قال: لما التقى المسلمون بالمشركين يوم حنين كانت للمسلمين جولة يعني اضطراباً فرأيت رجلاً من المشركين وقد علا رجلا من المسلمين فاستدبرت له من روائه فضربت على حبل عنقه بالسيف، فأرسله ورجع إلي فضمني ضمة شممت منها ريح الموت، ثم أدركه الموت فأرسلني ثم رجعنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلاً له به بينة فله سلبه" فقمت وقعدت2، فقال النبي صلىالله عليه وسلم: "أبا قتادة؟ " فقلت: قتلت رجلاً فقال رجل من القوم: صدق يا رسول الله وسلب ذلك الرجل عندي فارضه منه، فقال أبو بكر: لاها الله إذا3 لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن
__________
1 أخرجه ابن سعد في الطبقات 3/174، واللالكائي في السنة 7/1279 عن الزهري مرفوعاً وهو منقطع. وقد أخرجه الحاكم في المستدرك 3/64 وفي إسناده عمرو بن. ياد بن عبد الرحمن الثوباني. قال الذهبي عن الدارقطني بأنه يضع الحديث. ميزان الاعتدال 3/260.
2 رواية الصحيحين "فقمت فقلت من يشهد لي ثم جلست".
3 معناها (لا والله حينئذ) أو (لا والله إذا) وقد أطال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في بيان معناها وذكر الخلاف فيها. انظر فتح الباري: 8/37 - 40.(3/850)
رسوله فيعطيك سلبه أردده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق فأعطه إياه" فأعطاني، فبعت الدرع فابتعت به مخرفاً1 في بني سلمة، فإنه أول مال تأثلته2 في الإسلام"3 ولا يتقدم في الفتيا بمحضر النبي صلى الله عليه وسلم إلا من له منزلة في العلم.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوماً فقال: " إن رجلاً خيره ربه بين أن يعيش، في الدنيا ما شاء الله4 أن يعيش ويأكل في الدنيا ما شاء أن يأكل، وبين لقاء ربه فاختار لقاء ربه "، فبكى أبو بكر - رضي الله عنه - وقال: فديناك يا رسول الله بأبائنا وأمهاتنا، فقال أصحاب النبي صلىالله عليه وسلم: ألا تعجبون من هذا الشيخ ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً صالحاً خيره الله بين لقاء ربه فاختار لقاء ربه، فكان أبو بكر هو أعلمهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه أراد صلى الله عليه وسلم أنه هو الذي خيره الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد أمنّ إلينا في صحبته وماله من أبي بكر بن أبي قحافة ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذته خليلاً"5.
وروى أبو الدرداء قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا امشي أمام أبي بكر - رضي الله عنه - فقال: " يا أبا الدرداء أتمشي أمام من هو خير منك في الدنيا والآخرة؟ ما طلعت شمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على أفضل من أبي بكر"6.
__________
1 مخرفاً بفتح الميم والراء ويجوز كسر الراء أي بستاناً صغيراً. لسان العرب 1/1139.
2 تأثلته أي اقتنيته وصار له أصل عندي، من أثل ماله أصله. لسان العرب 1/28.
3 أخرجه خ. كتاب الجهاد (ب من لم يخمس الأسلاب) 4/183، م. كتاب الجهاد (ب استحقاق القاتل السلب) 3/1370.
4 في الأصل (ما شاء فهو يعيش) وما أثبت كما في - ح - ويوافق رواية الترمذي.
5 أخرجه خ. كتاب فضائل الصحابة (ب قول النبي صلى الله عليه وسلم سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر) 5/4، م. كتاب فضائل الصحابة (ب فضل أبي بكر) 4/1854، ت. كتاب المناقب (ب مناقب أبي بكر) 5/607 من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.
6 أبو بكر - رضي الله عنه - خليق بهذا، أما الحديث فقد أخرجه اللالكائي في السنة 7/1281 وأبو نعيم في الحلية 3/325، والإمام أحمد في فضائل الصحابة 1/152 وابن أبي عاصم في السنة 2/576، والإمام أحمد في فضائل الصحابة 1/152، وعزاه الهيثمي إلى الطبراني في الكبير. انظر: مجمع الزوائد 6/44 ولم أجده في المطبوع من المعجم، والحديث روي عن ابن جريج عن عطاء عن أبي الدرداء، ورواه عن ابن جريج ثلاثة بقية بن الوليد وعبد الله بن سفيان الواسطي وهوذه بن خليفة، أما ابن جريج فهو ثقة إلا أنه يدلس، وقال الدارقطني: "تجنب تدليس ابن جريج فإنه قبيح التدليس لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح". انظر: الميزان 2/659، تهذيب التهذيب 6/405، أما الرواة عنه فبقية بن الوليد مدلس عن الضعفاء. انظر: التقريب ص 46 وعبد الله بن سفيان الواسطي قال العقيلي: "لا يتابع عليه". الميزان 2/430، هوذة بن خليفة قال في التقريب: "صدوق" ص 365، وقد جاء ما يوافق هذا المعنى من حديث جابر أخرجه ابن حبان في المجروحين 1/127، وابن الجوزي في العلل المتناهية 1/187، وعزاه الهيثمي إلى الطبراني في الأوسط مجمع الزوائد 9/44 وهو حديث موضوع فإن فيه إسماعيل بن يحيى التيمي قال عنه أبو علي النيسابوري الحافظ والدارقطني والحاكم: "كذاب"، وقال صالح جزرة: "كان يضع الأحاديث". انظر: الميزان 1/253.(3/851)
وروي أن أبا بكر1 - رضي الله عنه - أول من أسلم. وروي أنه سئل ابن عباس من أول من أسلم؟ فقال: أبو بكر - رضي الله عنه - أما سمعت قول حسان بن ثابت:
إذا تذكرت شجواً من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأفضلها ... إلا النبي وأولاها بما حملا
والثاني التالي المحمود شيمته ... وأول الناس منهم صدق الرسلا2
وروي عن ابن مسعود أنه قال: "أول من ظهر الإسلام سبعة النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمار وأمه وصهيب وبلال والمقداد3، وروي أبو سعيد الخدري: "أن أبا بكر قال لعلي - رضي الله عنهما -: قد علمت إني كنت في هذا الأمر قبلك قال: صدقت يا خليفة رسول الله فمد يده فبايعه، فلما جاء الزبير قال له
__________
1 في - ح - (ولأن أبا بكر) .
2 أخرجه الطبراني في الكبير 12/89 عن الشعبي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.
3 أخرجه حم 1/404 جه 1/53 قال البوصيري هذا إسناد رجاله ثقات. مصباح الزجاجة 1/23 وأخرجه أبو نعيم في الحلية 1/149 والحاكم في المستدرك 3/284 وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، وأخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة 1/182.(3/852)
أبو بكر: قد علمت أني كنت في هذا الأمر قبلك قال: صدقت، فمد يده فبايعه1. وأما ما ظهر من أبي بكر - رضي الله عنه - من العلم وشدة الجأش بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ارتجت المدينة واختل الناس وأفحموا ودشهوا وطاشت عقولهم وذهلوا، فروي أن عمر - رضي الله عنه - كذب بموته وقال: ما مت رسول الله صلى الله عليه وسلم وليرجعنه الله2 وليقطعن أيدي رجال وأرجلهم من المنافقين يتمنون موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما وعده ربه كما وعد موسى ربه وهو آتيكم3. وأما علي - رضي الله عنه - فإنه قعد في البيت ولم يبرح، وأما عثمان فجعل لا يكلم أحداً حتى أنه يؤخذ بيده فيذهب به ولا يعقل، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - بالسنح4 وتواتر أهل البيت إليه بالرسل، فلما أخبر بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل وعيناه تهملان وغصصة تترجع في حلقة، وهو مع ذلك ثابت العقل حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكشف عن وجهه وقبله، وقال: يأبى وأمي طبت حيا وميتا انطقع الوحي بموتك ما لم ينقطع بموت أحد من الأنبياء فعظمت عن الصفة5 وجللت عن البكاء بكلام له طويل، ثم خرج والنبي صلى الله عليه وسلم مسجى، فقام في الناس خطيبا فخطب خطبة خللها بالصلاة على
__________
1 تقدم ذكر هذا ص 836 وليس فيه قوله: "قد علمت أني كنت.... " إلخ.
2 لفظ الجلالة - ليست في الأصل وإنما هو في - ح -.
3 روى البيهقي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - حدثه بالسبب الذي لأجله أول الأمر أنكر موت النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "كنت أول هذه الآية {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} البقرة آية (143) فوالله إن كنت لآظن أنه سيبقى في أمته حتى يشهد عليها بآخر أعمالها، وإنه للذي حملني على أن قلت ما قلت"، دلائل النبوة للبيهقي 7/219 وفي إسناده حسين بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي قال في التقريب ص 74: "ضعيف".
4 السُنح بضم السين وسكون النون في عوالي المدينة وبينها وبين مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ميل. معجم البلدان 3/264.
5 مراده بهذا والله أعلم فأنت اعظم من أن تذكر أوصافك مدحاً لك لظهور هذا الأمر.(3/853)
رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال فيها: "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خاتم الأنبياء، وأشهد أن الكتاب كما أنزل، وأن الدين كما شرع وأن الحديث كما حدث"1 في كلام طويل، ثم قال: "أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت قال الله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} 2، وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} 3.
قال عمر: "والله لكأني لم أسمع بها في كتاب الله قبل الآن"4. فرجعوا صابرين محتسبين بقوة نفوس وسكون جاش في الدين، ولو لم يظهر منه غير هذا لكان ذلك كافياً في الدليل على علمه وفضله، ثم لما عقدت له الخلافة نادى مناده في المدينة بخروج جيش أسامة الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم أمر بخروجه فاجتمع إليه قوم من الصحابة - رضي الله عنهم - فقالوا له: إن هذا الجيش فيه الحامية من نقباء المهاجرين والأنصار، وإن أهل الردة قد اطلعوا رؤوسهم وساقبوا5 المدينة فانتظر بانفاذه6 انكشاف الردة فقال: "والله لأن أخر من السماء على أم رأسي فتخطفني الطير وتنهشني السباع أحب إلي من أن أكون أول حال عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم. أنفذوا جيش أسامة
__________
1 أخرج بعض هذه الخطبة والتشهد البيهقي في دلائل النبوة 7/218 وفي إسناده ابن لهيعة.
2 الزمر آية (30) .
3 آل عمران آية (144) .
4 أخرج البخاري في فضائل الصحابة (ب فضل أبي بكر) 5/6 نحو هذا الخبر من حديث عائشة - رضي الله عنها -.
5 ساقبوا أي قاربوا قال في اللسان: السقب القرب، وقد سبقت الدار بكسر القاف سقوباً أي قربت وأبياتهم متساقية أي متدانية ومنه الحديث "الجار أحق بسقبه".
اللسان 3/2036.
6 في الأصل غير ظاهرة وفي - ح - كتبت (بانفاذه) فأثبت هاء الضمير لتستقيم العبارة.(3/854)
وأمرهم بالخروج1، فسأل نقباء المهاجرين والأنصار عمر أن يسأل أبا بكر أن يصرف أسامة ويولي من هو أسن منه وأدري بالحرب فسأله عمر ذلك، فقال أبو بكر: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب وعدمتك، أيوليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أعزله؟ والله لا يكون ذلك أبداً فشيعهم أبو بكر حافياً والعباس معه ومن بقي من الصحابة في المدينة فما زال يدعوا لهم ويؤمن العباس ومن معه على دعائه وأسامة يقول: إما أن تركب يا خليفة رسول الله أو أنزل وهو يقول: لا أركب ولا تنزل وماذا عليّ أن تغبر قدماي في سبيل الله فنفذ الجيش وفتح وغنم ورجع في نيف وستين يوماً ولقي بهم أهل الردة"2.
ومن فضائله أن العرب لما ارتدت ومنعت الزكاة وقالوا لا نؤدي الزكاة إلى أبي بكر لأن الله قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} 3، وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم هي التي كانت طهارة وزكاة دون ابن أبي قحافة، فعزم على قتالهم، فقال له عمر: كيف تقاتلهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها"، 4 فقال أبو بكر: "الصلاة من حقها والزكاة من حقها، والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة والله لو منعوني عناقاً5، وروي عقالاً6مما أعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه7، فرجع عمر وباقي الصحابة إلى قوله وعلموا أن الحق بقوله، وهذا يدل على أنه كان أفقه منهم، وأشجع منهم ولولا قتاله مانعي الزكاة لانحلت قوى الشريعة وعزائمها كالصلاة والصيام
__________
1 روى نحو هذا الطبري في تاريخ الأمم والملوك 3/225.
2 أخرج نحوه الطبري في تاريخ الأمم والملوك 3/225 عن الحسن البصري وهو منقطع، وانظر: البداية والنهاية 6/305.
3 التوبة آية (103) .
4 تقدم تخريج الحديث ص 752.
5 العناق: هي الأنثى من ولد المعز ما لم يتم له سنة وهي السخلة. النهاية لابن الأثير 3/311.
6 العقال: هو الحبل الذي يعقل به البعير. النهاية لابن الأثير 3/280.
7 أخرج هذا خ. كتاب الزكاة (ب وجوب الزكاة) 2/90، م. كتاب الإيمان (ب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) 1/51.(3/855)
والحج1، ولكن الله شد بعزيمته الدين فقاتل أهل الردة فقاتل أهل الردة وأثر فيهم2 بالقتل وأبادهم واستأصل خضراءهم3، حتى ألقى الله في قلوبهم من الهيبة والفشل منه ما كان في قلوب الكفار للنبي صلى الله عليه وسلم حتى قال شاعرهم:
ألا عللاني قبل جيش أبي بكر ... لعل منايا نا قريب ولا ندر
لعل جيوش المسلمين وخليهم ... ستطرقنا قبل الصباح من الفجر4
فكيف لا يصلح للخلافة من هذه صفته، هذا وقد كان مقدماً في الجاهلية تحتكم إليه العرب وترضى بحكمه وقوله5. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخلوا به ويستشيره في كثير من أمور التي أمر الله أن يستشير بها6بقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ} 7، ولا يستشير إلا من يحمد لذلك بالعقل والعلم.
__________
1 ذكر ابن كثير والسيوطي أن ابن عساكر والبيهقي أخرجا عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قوله: "والله الذي لا إله إلا الله هو لولا أن أبا أبكر استخلف ما عبد الله ثم قال الثانية ثم قال الثالثة، فقيل له مه يا أبا هريرة فقال: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه أسامة بن. يد في سبعمائة إلى الشام ... " فذكر قصة الردة وخروج أسامة. البداية والنهاية 6/305، تاريخ الخلفاء ص 73.
2 هكذا في - ح - وفي الأصل غير ظاهرة تماماً.
3 في - ح - (حصادهم) .
4 هذه أبيات قالها حرقوص بن النعمان النمري وكان قد وضع لبنيه وبناته وامرأته جفنة خمر ودعاهم للشرب قبل وصول جيش خالد إليهم وذلك في قتاله في العراق، فقتل هذا الرجل على جفنته وسبي أهل. الكامل لابن الأثير 2/280، البداية والنهاية 6/351.
5 نقل السيوطي عن الزبير بن بكار وابن عساكر عن معروف بن خربوذ قال: "إن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - أحد عشرة من قريش اتصل بهم شرف الجاهلية والإسلام فكان إليه أمر الديات والغرم". تاريخ الخلفاء ص 31. والمراد بأن إليه أمر الديات والغرم أي الذي يحكم فيها ويرضي الأطراف بالآراء الحكيمة التي يبديها في حل منازعاتهم.
6 روى الحاكم بسنده عن سعيد بن المسيب قال: "كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - من النبي صلى الله عليه وسلم مكان الوزير، فكان يشاروه في جميع أموره وكان ثانية في الإسلام، وكان ثانية في الغار، وكان ثانية في العريش، وكان ثانية في القبر، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم عليه أحداً" قال الذهبي في رواته مجهول. المستدرك. كتاب معرفة الصحابة 3/63.
7 آل عمران آية (159) .(3/856)
122 - فصل
وقد تعلقت القدرية والروافض بمعان ضعيفة وأخبار غير صحيحة في الطعن على إمامة أبي بكر وعمر.
فمن ذلك أن علياً والزبير - رضي الله عنهما - تخلفا عن بيعة أبي بكر ثم بايعا مكرهين.
والجواب: أن هذا طعن على علي - رضي الله عنه - ونسبته إلى النفاق، لأنه إذا عام أن النبي صلى الله عليه وسلم نص عليه في الإمامة وأمره بذلك كيف حلّ له ترك إظهار ذلك والقيام به، وكيف ساغ ترك نصرته لبني هاشم وبني عبد المطلب وغيرهم من قبائل قريش، مع أن المروي عنه أنه قال: "والله لو كان عندي عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تركت أخاتيم بن مرة ولا ابن الخطاب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو لم أجد إلا يدي هذه، وذكر استخلاف النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في الصلاة مع كونه حاضراً يرى مكانه"1.
وروي أنه قال لأبي عبيدة بن الجراح يوم وصله: "والله ما قعودي في كسر بيتي قصداً مني لخلاف ولا إنكاراً لمعروف ولا زراية على مسلم، بل لما وقذني2 رسول الله صلى الله عليه وسلم بفراقة وأودعني من الحزن بعده، وأنا غاد إلى جماعتكم غداً إن شاء الله بفراق ومبايع صاحبكم، فلما كان صباح ذلك اليوم وافى عليه السلام يخرق الجماعة إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فبايعه طائعاً غير مكره، وقال خيراً ووصف جميلاً وجلس طويلاً واستأذن للقيام، فقام وشيعه عمر تكرمة له، فقال له علي - رضي الله عنه -: والله ما قعدت كاراهاً ولا أتيته فرقاً منه ولا أقول ما أقول تقية مني في كلام له طويل"3.
__________
1 تقدم هذا من حديث قيس بن عبادة وعبد الله بن الكوا ص 839.
2 الوقذ شدة الضرب وقذه وقذاً ضربه حتى استرخى وأشرف على الموت، والوقيذ والموقوذ الشيديد المرض الذي أشرف على الموت وقد وقذه المرض والغم. لسان العرب 6/4889.
3 لم أقف عليه.(3/857)
وروي أن أبا بكر - رضي الله عنه - بعد ما بويع له وبايعه علي - رضي الله عنه - أقام ثلاثاً يقول: يا أيها الناس قد أقلتكم بيعتكم، هل من كاره، فيقوم عليّ في أوائل الناس فيقول: والله لا نقيلك ولا نستقيلك قدمك رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن ذا الذي يؤخرك1.
واحتجوا بما روي أنا أبا بكر - رضي الله عنه - قال في بعض خطبه: "وليتكم ولست بخيركم فإذا استقمت فاتبعوني، وإن اعوججت2 فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم"3. قالوا فاعترف على نفسه أنه ليس بخيرهم وأنه يعصي الله.
والجواب على ذلك من وجوه:
أحدهما: أنه أراد وليتكم بالإمامة في الصلاة "وليست بخيركم" يومئذ لأن فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أنه أراد لست بخيركم قبيلة ولا عشيرة، لأن بني هاشم وبني عبد المطلب أعلى منه في ذروة النسب، ليدلهم بذلك أن الأمر لا يستحق بعلو النسب.
والثالث: أنه أراد التواضع وكره أن يزكي نفسه4 لأن الله قال: {فَلا
__________
1 أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة 1/131 عن أبي الجحاف من طريقين، وهو منقطع لأن أبا الجحاف لم يلق أبا بكر - رضي الله عنه - ولا علي بن أبي طالب، وأبو الجحاف هو داود بن أبي عوف وثقه الإمام أحمد ويحيى بن معين، وقال النسائي: "ليس به بأس"، وقال ابن عدي: "ليس عندي ممن يحتج به شيعي عامة ما يرويه في فضائل أهل البيت". الميزان 2/18.
(وإن اعوججت) ليست في الأصل وهي من - ح -.
3 أخرجه ابن سعد في الطبقات 3/212 عن الحسن البصري وهو منقطع لأن الحسن البصري لم يسمع من أبي بكر - رضي الله عنه -.
4 هذا الحق، وهو أن أبا بكر - رضي الله عنه - قصد التواضع وعدم تزكية النفس بقوله: "لست بخيركم" وله في هذا التواضع أسوة حسنة بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "لا تخيروني على موسى". أخرجه خ. كتاب الأنبياء (ب وفاة موسى عليه السلام) 4/126 من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: "نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىقَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ، ويرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لثت في السجن طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي". أخرج خ. كتاب الأنبياء (ب قوله عزوجل {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} الحجر آية (51) 4/11ولا شك أنه - رضي الله عنه - خير هذه الأمة بعد نبيها لما تقدم من الأحاديث في فضله والإجماع الذي وقع على مبايعته، فلم يدع أحد أنه أفضل منه، وروى البخاري في فضائل الصحابة 5/4 عن ابن عمر - رضي الله عنهم - قال: "كنا نخير بين الناس في. من النبي صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان - رضي الله عنهم -".
وروي البخاري أيضاُ في فضائل أبي بكر 5/7 عن محمد بن علي بن أبي طالب بن الحنفية قال: "قلت لأي أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر، فخشيت أن يقول عثمان قلت ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين".
فهذا يدل على أنه أفضل هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، وأن قوله هذا إنما قاله من باب التواضع وهضم النفس، وانظر: كتاب الإمامة لأبي نعيم ص 268ـ273.(3/858)
تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} 1، وإذا شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لأبي الدرداء: "ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على أفضل من أبي بكر"2 كان ذلك كافياً في بيان درجته وفضيلته على غيره.
وأما قوله: "فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم"، فإنه نفي عن نفسه أن يكون معصوماً عن الخطأ، وليس من شرط الإمام عندنا أن يكون معصوماً3، وكيف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وما منا معاشر الأنبياء إلا من عصا أو هم بمعصية إلا يحيى بن زكريا" 4، وقال لنبيه: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ
__________
1 النجم آية (22) .
2 تقدم تخريجه ص 851.
3 الروافض يزعمون أن الأئمة كالأنبياء في العصمة ولا يقع منهم سهو ولا خطأ، وهذا من افتراءاتهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم وقع منه السهو في الصلاة، وقال بعد سجوده للسهو "إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني". أخرجه خ. كتاب الصلاة (ب التوجه نحو القبلة حيث كان) 1/74، م. كتاب المساجد (ب السهو في الصلاة) 1/400.
ولا يستطيع الروافض أن يوردوا على إثبات هذه العصمة دليلاً صحيحاً بالنسبة لأئمتهم، مع العلم أن أئمتهم في. عمهم لم يتول منهم الأمر سوى علي - رضي الله عنه - وكذا الحسن فترة وجيزة، فعصمتهم المزعومة لا أثر لها في الأمة على فرض وجودها. انظر: قولهم في العصمة كتاب حق اليقين في معرفة أصول الدين لعبد الله شبر ص 191 - 255، ونقل شيخ الإسلام ذلك عن صاحب منهاج الكرامة ورد شيخ الإسلام عليه في منهاج السنة النبوية 6/457 - 474.
4 تقدم تخريجه ص 706.(3/859)
ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} 1، فإذا كانت هذه حالة الأنبياء فكيف الأئمة2.
احتجوا بما روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه خطب وقال: "إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها"3، وقالوا: وكيف يستحق الخلافة وبيعته بهذه الصفة.
__________
1 الفتح آية (2) .
2 المراد بهذا ما يصدر من الأنبياء مما هو خلاف الأولى، ولا يقرون عليه وليس المراد به الوقوع في الكبائر.
3 أخرج هذا عنه خ. كتاب الحدود (ب رجم الحبلى من الزنا) 8/141، وذلك ضمن قصة مبايعة أبي بكر - رضي الله عنه - وقال فيها "فلا يغترن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت إلا وإنها كانت كذلك ولكن الله وقى شرها، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر. من بايع رجلاً عن غير مشورة من المسملين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تفرة أن يقتلا"، ثم ذكر قصة السقيفة والمبايعة.
وسبب ذكر هذه الخطبة من عمر - رضي الله عنه - أنه بلغه عن أناس قولهم: "لو قد مات عمر لقد بايعت فلاناً فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت"، فبين عمر - رضي الله عنه - أن بيعة أبي بكر كانت فجأة بسبب ظروفها وملابساتها من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أذهل كثيرا من المسلمين ومن قول الأنصار "منا أمير ومنكم أمير"، فاحتاج الأمر إلى عجلة يحسم بها الموقف، فكانت بيعة أبي بكر ثم بين - رضي الله عنه - أن أبا بكر لا يوجد مثله، وأنه لا يختلف فيه اثنان، وأن المسملين لمكانة أبي بكر - رضي الله عنه - لا يختلفون فيه، وهذا تصديق لقول النبي صلى الله عليه وسلم "يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر". وقد تقدم وهذا الذي كان. لهذا قال - رضي الله عنه - بعد ذلك "وإنا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر" يبين في هذا - رضي الله عنه - أن أقوى الأمور وأفضلها وأحسمها للخلاف والنزاع كانت مبايعة أبي بكر - رضي الله عنه - الذي تتفق عليه جميع الأطراف، لهذا علل بعدها فضيلة هذه المبايعة وحسمها للشر بقوله: "خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلاً منهم بعدنا، فإما بايعناهم على ما لا نرضى وإما نخالفهم فيكون فساد".
وللمسلم أن يتصور لو أن هذا الاختلاف وقع كما وقع في. من علي ومعاوية - رضي الله عنهما - كيف يكون حال هذه الأمة، فهذا يدل على ما لأجله كانت بيعة أبي بكر - رضي الله عنه - بهذه الصورة وبركة هذه البيعة وفضيلتها. وإن الناظر في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وتاريخ الأمة المسلمة لا يجد أبرك على هذه الأمة بعد نبيها محمد صلى الله عليه وسلم من الصديق أبي بكر - رضي الله عنه -، فقد كانت حياته وموافقة كلها بركة على هذه الأمة تجني الأمة ثمارها اليانعة إلى يوم الدين ولا يشاركها في هذه الميزات والخصائص بهذا الحد أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنه - وعنهم أجميعن.
ولكن الروافض قوم بهت يُكذبون بالمنقول وينكرون المعقول، ولم يقصدوا بالطعن في سادات هذه الأمة إلا الطعن على الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم، فلما لم يقدروا على طعن المبي صلى الله عليه وسلم علانيته جهارا، لأن فيه إظهارا لكفرهم وكذبهم توصلوا إليه بالطعن في سادات المؤمنين أبر هذه الأمة وأفضلها أصحاب النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وتستروا بحب علي - رضي الله عنه - وأهل بيته، وإلا فكل عاقل نظر في حال الصحابة وأعمالهم وآثارهم يدرك الفرق بين أبي بكر وعمر وبين علي - رضي الله عنهم - أجمعين.
فلو أُخفي اسم كل واحد من هؤلاء وعرضت أعماله وآثاره ثم طلب من أي عاقل عادل أن يبين أفضلها وأبركها على هذه الأمة لما تردد في تفضيل أبي بكر وعمر على غيرهما من الصحابة عثمان وعلي ومن دونهما. إضافة إلى أن عليا - رضي الله عنه - لم يكن بينه وبينهما خلاف، ولا يرى أنه أفضل من أبي بكر ولا عمر وهذا يدل عليه أقواله وأفعاله - رضي الله عنهم - أجمعين.(3/860)
والجواب: أن يقال لهذا المحتج: بهذا سهوت وجهلت مراد عمر - رضي الله عنه - بذلك، أنه لم يرد بذلك الطعن على بيعة أبي بكر، والا زدراء بها وكيف يليق به هذا وإمارة عمرة صدرت من أبي بكر وإنما أراد بها كانت فلتة أي تمت وانتظمت لم يحتج فيها إلى مشاورة الأحلاف ومن يريد شق عصى المسلمين، وقى الله شرها بتمامها ولم يتم من أراد من الأنصار نصب إمام منهم1 حيث قال الحباب بن المنذر: منا أمير ومنكم أمير2.
واحتج من ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على إمامة علي - رضي الله عنه - بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألست أولى المؤمنين من انفسهم، من كنت مولاه فعلي مولاه وإلى الله من والاه وعادى من عاداه"3
__________
1 هكذا في النسختين والكلام فيه عدم انسجام فلعل فيه سقطا.
2 انظر: أيضا في الرد عليهم في هذا الاحتجاج كتاب الأمة لأبي نعيم الأصفهاني ص 258، وكتاب منهاج السنة النبوية 8/277.
3 أخرجه ت. كتاب المناقب. (ب مناقب علي - ضي الله عنه - 5/633 من حديث أبي الطفيل عن أبي شريحة أو. يد بن أرقم - رضي الله عنهما - مختصرا وقال: "حديث حسن صحيح"، جه في المقدمة (ب فضل علي - رضي الله عنه -) 1/43 من حديث البراء بن عازب، حم 1/118 - 119 من حديث علي - رضي الله عنه -. وأخرجه في 4/281 من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - وفي 4/368 - 370 - 372) من حديث. يد بن أرقم - رضي الله عنه - وأورد الألباني الحديث في سلسلة الأحاديث الصحيحة وقال بعد أن أورد طرق الحديث وتكلم على أسانيدها: "وللحديث طرق أخرى كثيرة جمع طائفة منها الهيثمي في مجمع الزوائد، وقد ذكرت وخرجت ما تيسر لي منها مما يقطع الواقف عليها بعد تحقيق الكلام على أسانيدها بصحة الحديث يقينا وإلا فهي كثيرة جدا". سلسلة الأحاديث الصحيحة 4/330 - 344.(3/861)
قالوا: فأوجب1 لعلي من الطاعة على المؤمنين ما أوجبه عليهم لنفسه، ثم قال: "وإلى الله من والاه وعادى من عاده"، ومن أئتم بغيره فقد عاداه.
والجواب عنه من وجوه:
أحدهما: أن نقول للراوفض والقدرية أنتم ل تقولون بأخبار الآحاد فإنها لا توجب العمل2. فكيف يمكنكم الاحجناج علينا بما لاتقولون به.
والثاني: أنا نقول لهم النص هو القول الذي لا يحتمل التأويل3 - حتى إن بعض العلماء قال: النص بعد وجوده4 وهو مثل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 5 {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} 6 فهو نص فى الثلاثة وفي القرء غير منصوص لأن القرء لفظ مشترك7، فقولكم بأن هذا القول نص من النبي صلى الله عليه وسلم على إمامة علي قول صدر ممن لا يميز بين النص والظاهر8.
__________
1 في الأصل (فأجب) ، والتصويب من - ح -.
2 ينكر الروافض التعبد بخبر الواحد. انظر: قولهم والرد عليهم في الوصول إلى الأصول 2/163، نزهة الخاطر العاطر 1/268.
3 انظر: في هذا نزهة الخاطر العاطر 2/27.
4 هكذا ولم يتبين لي المراد منه ولم أقف على من ذكره.
5 الإخلاص آية (1) .
6 البقرة آية (228) .
7 القرء لفظ مشترك بين الطهر والحيض. انظر: تفسير القرطبي 3/113.
8 النص والظاهر والمجمل: هذه تقسيمات للأصوليين يقسمون بها الكلام المفيد وتقدم تعريف النص، أما الظاهر فهو: ما يسبق إلى الفهم منه عند الإطلاق معنى مع تجويز غيره، أو تقول هو: ما احتمل معنيين هو في أحدهما أظهر، أما المجمل فهو ما احتمل معنيين لا مزية لأحدهما على الآخر، أو هم ما لا يفهم منه عند الإطلاق معنى معين وذلك مثل الألفاظ المشتركة كالعين والقرء ونحوها. نزهة الخاطر العاطر 2/26 - 43.(3/862)
والجواب الثاني: أن يقال لهم قولكم بأنه صلى الله عليه وسلم أوجب لعلي على الخلق ما أوجبه لنفسه عليهم غير صحيح، لأنه قال في هذا الخبر: "ألست نبيكم والمخبر لكم بالوحي عن ربكم، وناسخ شرائع من كان قبلكم". فأثبت لنفسه النبوة، والإخبار بالوحي، وأنه ناسخ الشرائع، كما أثبت لنفسه الولاية عليهم، فلما لم يشاركه علي - رضي الله عنه - بالنبوة ولا بالوحي ولا بنسخ الشرائع لم يشاركه بالولاية، وعلى أنه لو كان صحيحاً لكان علي ثابت الولاية عليهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وهذا لا يقوله أحد، فثبت أن قوله "من كنت مولاه فعلي مولاه "ليس المراد به الواي، لأن المولى لفظة مشتركة تقع على معان مختلفة منها: المولى: يقع علي المولى من أعلى وهو المعتق، وهذا لا إشكال فيه ويقع على المولى من اسفل وهو المنعم عليه، قال الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُم} ْ1 والمولى: يقع على ابن العم والعصبة، قال الله تعالى: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي} 2. قال في التفسير: بني العم3.
قال الشاعر:
مهلا بني عمنا مهلا موالينا ... لا تظهروا بيننا ما كنا مدفونا
لا تحسبوا أن تهينونا ونكرمكم ... وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا4
وأراد بالمولى هنا: ابن العم، والمولى يقع على الناصر، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} أي ناصرهم {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} 5أي لا ناصر لهم.
__________
1 الأحزاب آية (5) .
2 مريم آية (5) .
3 ذكر هذا ابن جرير في تفسيره 16/46.
4 ذكره الآمدي في المؤتلف والمختلف ص 35 وعزاه إلى الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب وهو من شعراء بني هاشم في عهد بني أمية.
5 سورة محمد صلى الله عليه وسلم آية (11) .(3/863)
والمولى يقع على المحب والموالي، ومنه قوله صلىالله عليه وسلم:" مزينه وجهينة وأسلم وغفار موال الله ورسوله"1. أي محبون موالون لهما.
والمولى يقع على الجار2، قال مربع بن وعوعة الكلابي وكان جار كليب ابن يربوع فأحسنوا جواره: -
جزا الله خيرا بكفه ... كليب بن يربوع وزادهم حمدا
هم خلطونا بالنفوس وألجموا ... إلى نصر مولاهم مسومة جردا3
وأراد إلى جارهم.
وإذا كانت لفظة المولى مشتركة بين هذه المعاني حمل قوله صلى الله عليه وسلم: "من كنت مولاه فعلي مولاه" أي من كنت ناصره ومحبه أو ابن عمه فعلي مولاه4، ولا يكون ذلك إلى الوالي. وأما قوله: "وإلى الله من والاه وعادي من عاداه" فما أحد من الصحابة ولا من أهل الحديث عاداه، وليس من ائتم بإنسان سمى معاديا لسائر الناس، وإنما المعادي لهم هم الخوارج.
واحتجوا على أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على إمامة علي بقوله صلى الله عليه وسلم لعلي: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى"5.
__________
1 أخرجه خ. كتاب المناقب (ب مناقب قريش) 4/143 وفي (ب ذكر أسلم وغفار ومزينة..) 4/145، م. كتاب فضائل الصحابة (ب من فضائل غفار واسلم) 4/954 من حديث أبي هريرة ولفظه "قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأسلم وغفار واشجع موالي ليس لهم مولى دون الله ورسوله".
2 انظر: هذه المعاني في لسان العرب 6/4921.
3 ذكره في لباب الأداب ص 268.
4 ذكر احتجاج الروافض بالحديث المذكور أبو نعيم في الإمامة ص 218 ورد على استدلالهم بأن المراد به "من كان النبي صلى الله عليه وسلم مولاه فعلي والمؤمنون مواليه يدل على ذلك قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ثم قال: وإنما هذه منقبة من النبي صلى الله عليه وسلم لعلي - رضي الله عنه، وحث على محبته وترغيب في ولايته لما ظهر من ميل المنافقين عليه وبغضهم له"، انتهى. وذكر نحوه شيخ الإسلام في منهاج السنة النبوية5/36
5 أخرجه خ. كتاب فضائل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم (ب مناقب علي - رضي الله عنه -) 5/17، م. كتاب فضائل الصحابة (فضائل علي - رضي الله عنه -) 4/1870. من حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -.(3/864)
والجواب أن يقال: إن هذا ليس بنص على إمامته، لأن النص ما لا يحتمل التأويل، وإنما الخبر ورد على سبب، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج في غزوة تبوك خلفه على المدينة فقال المنافقون: إنه أبغض عليا وقلاه حين لم يخرجه معه، فتبعه علي - رضي الله عنه - وقال: يا رسول الله أتتركني مع الذرية والعيال فقال صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى"1، وأراد بذلك حين خلفه على قومه يوم توجه لكلام ربه، ولم أخلفك بغضا ولا قلا، ولم يرد أنك تَخْلفُنُى بعد موتى، لأن هارون لم يخلف موسى صلى الله عليه وسلم بعد موته بل مات فقبل موسى وإنما خلفه يوسع بن نون2.
فإن قالوا: فقد ولاه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة يومئذ، وما روي أنه عزله عن ولايته عليها فيجب أن تكون ولايته ثابتة عند موته وبعد موته.
قيل لهم: هذا لا يصح لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع عن3 غزوته كان حكم المدينة وأمرها إليه، ولم يقل أحد إن عليا كان يملك الولاية عليها بعد رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوته، ويعارض هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم ولى أبا بكر الإمامة في
__________
1 أخرجه بذكر هذا السبب أبو نعيم في الإمامة ص 222 عن عطية عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، وعطية هو العوفي وهو ضعيف. انظر: الميزان 3/80 والذي عند البخاري ومسلم أن عليا - رضي الله عنه -، اعترض على هذا التخليف بقوله: "تخلفني في النساء والصبيان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا ترضى ... " الحديث، وهذا السبب الثابت في الصحيحين لا يغير المعنى إذ المراد هو تشبيه التخليف، فكما خلف موسى هارون عليهما السلام خلف النبي صلى الله عليه وسلم عليا - رضي الله عنه -، وليس في ذلك دلالة على استحقاقه الخلافة بعده فإن من سنته صلى الله عليه وسلم أنه إذا سافر استخلف على المدينة.
2 ذكر هذا الاحتجاج ورد عليه بنحو ما ذكر هنا أبو نعيم الأصفهاني في كتابه الإمامة ص 221 وذكر هذا الاستدلال أيضا الحافظ ابن حجر في الفتح 7/74 وعزا إلى الخطابي الجواب عنه بنحو ما ذكر هنا. كما ذكره شيخ الإسلام وأطال في الرد عليهم بما يشفي ويكفي في منهاج السنة النبوية 7/325، 340.
3 هكذا في النسختين والأولى (من) .(3/865)
الصلاة بالمدينة1 وأقامه على الحاج في الموسم2 وما روي أنه عزله فكل جواب لهم عن هذا فهو جوابنا لهم3.
احتجوا على النص على إمامة علي بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أتت أخي وخليفتي في أهلي وقاضي ديني ومنجز عداتي"4.
والجواب: أن هذا ليس بنص على الإمامة بعده لا يحتمله التأويل5، لأن هذا الخبر إذا ثبت حملنا قوله: "أنت أخي" أنه أراد التعظيم له، وهو كذلك لأنه ابن عمه. وقوله: "خليفتي على أهلي" أي على فاطمة وولديها وهم أهل له صلى الله عليه وسلم، وأما قوله: " وقاضي ديني" يحتمل أنه أمره بقضاء دين عليه بعد موته أو في حياته6، وكذلك قوله: "منجز عداتي" وليس في هذا كله نص على الإمامة، بدليل أن إمامة لو قال لرجل بهذا القول لم
__________
1 تقدم ذكر الروايات في ذلك ص 837.
2 كانت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر أميراً على الحج سنة تسع من الهجرة قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بسنة وثلاثة أشهر، وروى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - تأمير النبي صلى الله عليه وسلم أبي بكر على الحج سنة تسع في كتاب المغازي (ب حج أبي بكر بالناس) 5/137.
3 ذكر الاحتجاج المتقدم شيخ الإسلام عن الروافض صاحب منهاج الكرامة، ورد عليه وبين جهل الروافض وافتراءاتهم، وبين - رحمه الله - أن هذا القول غير صحيح، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يولي كلما خرج من المدينة ويستخلف عليها، وبعد تبوك خرج إلى حجة الوداع، وكان علي - رضي الله عنه - في اليمن ثم أدركه بمكة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد استخلف على المدينة. انظر: منهاج السنة النبوية 7/341 - 353.
4 أخرجه ابن حبان في المجروحين 3/5 وابن الجوزي في الموضوعات 1/347 عن أنس - رضي الله عنه -، وهو حديث موضوع، والمتهم به مطر بن ميمون الإسكاف. قال عنه ابن حبان: "يروي عن أنس ما ليس من حديثه في فضل علي وغيره لا تحل الرواية عنه". وقال البخاري وأبو حاتم والنسائي: "منكر الحديث". ووصف ابن الجوزي والذهبي الحديث بأنه موضوع. انظر: ميزان الاعتدال 4/127.
5 لا يحتاج إلى بيان معنى الحديث ما دام ثبت أنه موضوع.
6 هذا أحد ما يدل على أن الحديث موضوع، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عليه دين يحتاج إلى قضاء، فقد وردت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت: "توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاٍ من شعير". خ. كتاب الجهاد (ب ما قيل في درع النبي..) 4/33، فهذا لادين عليه صلى الله عليه وسلم يستوفيه اليهودي من الدرع المرهونة لديه ولا حاجة إلى أحد أن يقوم بسداده.(3/866)
يكن ذلك وصية إليه بالإمامة بلا خلاف بين أحد من أهل الفقه، فكذلك من النبي صلى الله عليه وسلم.
ونعارض هذه1 الأخبار بأخبار هي أصرح منها، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" 2. وقوله صلى الله عليه وسلم: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة "3 وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بأم الناس4، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لقوم يكون فيهم أبو بكر أن يتقدمه غيره "5 وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن يطع الناس أبا بكر وعمر يرشدوا "6 ورشدت أمتهم، وإن يعصموهما غووا وغوت أمتهم".
__________
(هذه) ليست في الأصل وهي من - ح -.
2 تقدم تخريجه ص 105.
3 تقدم تخريجه ص 842.
4 تقدم تخريجه الروايات في ذلك ص 837.
5 أخرجه ت. كتاب المناقب (ب مناقب أبي بكر - رضي الله عنه -) 5/614. وأخرجه أبو نعيم في الإمامة ص 253، عن عائشة - رضي الله عنها - ومداره على عيسى بن ميمون. قال ابن حجر في التقريب: ص 272 "ضعيف".
6 إلى هنا أخرجه م. كتاب المساجد (ب قضاء الصلاة الفائتة) 1/472 من حديث أبي قتادة مطولا. ولم أقف على رواية تذكر بقية الحديث المذكور هنا.(3/867)
123- فصل: في خلافة أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه -
وذلك أنه لما حضرت أبا بكر - رضي الله عنه - الوفاة قال: "يا معاشر المسلمين إنه قد حضرني من قضاء الله ما ترون، ولا بد لكم من رجل يلي أمركم ويصلي بكم ويقاتل عدوكم ويجمع فيكم، فإن شئتم فاجتمعتم هنا وأتمرتم، وإن شئتم اجتهدت لكم برأيي فبكوا وقالوا: أنت خيرنا وأعلمنا فاختر لنا، قال عثمان بن عفان: لقد أحضرني أبو بكر فقال لي اكتب: هذا ما عهد به عبد الله بن أبي قحافة آخر عهده بالدنيا وقت يسلم فيه الكافر ويبر فيه الفاجر، وثقل لسانه فلم1 يبين عن نفسه وإغمي عليه، قال: فكتب اسم عمر، فأفاق أبو بكر، فقال لي: أكتبت أحداً؟ فقلت: خشيت الفرقة فكتبت عمر، فقال: يرحمك الله أصبت ما في نفسي ولو كتبت نفسك لكنت أهلا لها"2.
__________
1 في الأصل (فلما) وما أثبت من - ح -.
2 قوله: "يا معاشر المسلمين إنه قد حضرني من قضاء الله ما ترون. . . " إلى قوله: "أنت خيرنا وأعلمنا فاختر لنا" لم أقف عليه بألفاظه زإنما ذكر ابن شبة عن الحسن البصري أنه جمع الناس فخيرهم بين أن يختاروا لهم أو يختار لأنفسهم، فاختاروا أن يختاروا لأنفسهم فلم يتفقوا فجعلوا الأمر إليه. تاريخ المدينة 2/665.
أما بقية الرواية فقد أخرجها الطبري في تاريخ الأمم والملوك 3/429، من طريق محمد بن عمر الواقدي، كما ذكرها ابن شبة من عدة طرق أخرى لم يذكر إسنادها. كما أخرجها اللالكائي في السنة 7/1324 بسنده عن زيد بن أسلم عن أبيه وعن عثمان بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب. كما أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه 12/46 عن عائشة - رضي الله عنها - كتابة عثمان لوصية أبي بكر - رضي الله عنهما - وقول أبي بكر لعثمان مثل ما هنا وجعلها ابن أبي شبة من فضائل عثمان - رضي الله عنه -. وإسناده هذه الرواية حسن فإن فيها عاصم بن بهدلة وهو صدوق له أوهام. انظر: التقريب ص 159.(3/868)
وروي "أنه خرج معصوبا رأسه فخطب خطبته المشهورة وقال: سأخبركم باختياري فوصف فيها عمر ونعته فذكر شدته من غير عنف، ولينه من غير ضعف، وقدرته على الأمر، وكل الصحابة - رضي الله عنهم - صوب رأيه فيه ورضوا بوصيته1 إلا طلحة فإنه قال: أذكرك الله واليوم الآخرأنك استخلفت علينا رحلا فظا غليظا، ماذا تقول لربك إذا لقيته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني فأجلسوه، فقال: أتفرقوني2 بالله أقول له إذا لقيته اسختلفت عليهم خير أهلك3، فقال عثمان وعبد الرحمن4 لأبي بكر: امض لشأنك وأنفذ أمرك وأعهد إلى عمر فإنه أهل لها"5.
وروي أن عليا - رضي الله عنه - قام وقال: "ما6 نرضى إلا عمر بن الخطاب"7
وروي أن طلحة - رضي الله عنه - صوب رأي أبي بكر بعد ذلك في استخلافه لعمر وذكر عمر بأجمل الذكر8.
__________
1 ذكر ابن شيبة في تاريخ المديينة 2/666 عن عاصم بن عدي - رضي الله عنه -.
الخطبة ووصف عمر والتنصيص على استخلافه له.
2 أتفرقوني أي أتخوفوني.
3 أخرج قول طلحة لأبي بكر في عمر ورد أبي بكر ابن سعد في الطبقات 3/274 عن عائشة - رضي الله عنها -، والطبري في تاريخ الأمم والملوك 3/433 عن أسماء بنت عميس - رضي الله عنها.
4 يعني عثمان بن عفان وعبد الرحمن - رضي الله عنهما - لأنه استدعاهما وشاروهما في الاستخلاف.
5 هذا معنى كلام عثمان وعبد الرحمن - رضي الله عنهما -، فإنه قد روى ابن سعد في الطبقات 3/199، وابن شبة في تاريخ المدينة 2/667، والطبري في تاريخ الأمم والملوك 3/428 عن الواقدي عن أشياخه أن أبا بكر - رضي الله عنه - استدعاهما واستشارهما في عمر فأثنيا عليه خيرا وشجعاه على استخلافه.
6 في الأصل (من نرضى) وما أثبت من - ح - وهو الأصوب.
7 أخرجه اللالكائي في السنة 7/1327، وابن أبي شيبة في مصنفه 12/38.
8 هذا الظن بالصحابة - رضي الله عنهم -، ولم أقف على كلامه في عمر - رضي الله عنهما - وطلحة لم ينقم على عمر إلا شدته، وهذه الشدة على المسلمين زالت بعد توليه - رضي الله عنه -، وقد أخرج الطبري 3/428 عن الواقدي بسنده أن عبد الرحمن بن عوف لما استشاره أبو بكر في عمر قال: "هو والله أفضل من رأيك فيه، ولكن فيه غلظة فقال أبو بكر: ذلك لأنه يراني رقيقا، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيرا مما هو عليه، ويا أبا محمد قد رمقته، فرأتيني إذا غضبت على الرجل في الشيء أراني الرضا عنه، وإذا لنت له أراني الشدة عليه".(3/869)
وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم على خلافة عمر بعد أبي بكر - رضي الله عنهماـ بقوله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" 1.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب"2.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم أعز الإسلام بأحب الرجلين إليك إما عمر ابن الخطاب أو أبي جهل بن هشام" 3. فسبقت الدعوة في عمر فدل أن الله يحبه.
وقال ابن عباس: "لما أسلم عمر - رضي الله عنه - نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا محمد لقد استبشر أهل السماء اليوم بإسلام عمر"4.
__________
1 تقدم تخريجه ص 105.
2 أخرجه ت. كتاب المناقب (ب مناقب عمر - رضي الله عنه -) 5/619 وقال: "حديث حسن"، حم 4/154 وفي فضائل الصحابة 1/346 - 356، الحاكم في المستدرك 3/85 كلهم من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه -، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، وأخرجه الطبراني في الكبير 17/180 من حديث عصمة بن مالك - رضي الله عنه -، وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 327 وحسنه.
3 أخرجه ت. كتاب المناقب (ب مناقب عمر - رضي الله عنه -) 5/9617 وقال: "حسن صحيح غريب"، وأخرجه حم 2/95 وفي فضائل الصحابة 1/250، وابن حبان في صحيحه - انظر: موارد الظمآن ص535 كلهم من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - وصحح الحديث الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند 8/76، وأخرجه ت 5/168 من حديث ابن عباس وقال: "غريب من هذا الوجه" وأخرجه الحاكم في المستدرك 3/83 من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - وسكت عنه.
4 أخرجه جه في المقدمة (ب فضل عمر - رضي الله عنه -) 1/39، والإمام أحمد في فضائل الصحابة 1/258، وابن حبان في صحيحه. انظر: موارد الظمآن ص 535، وابن عدي في الكامل 4/1525، والحاكم في المستدرك 3/84 وإسناده ضعيف فمداره على عبد الله بن خراش ابن حوشب الشيباني قال عنه ابن حجر: "ضعيف وأطلق عليه ابن عمار الكذب". التقريب ص 172، وضعف الحديث ابن عدي في الكامل 4/1526، والبوصيري في مصباح الزجاجة 1/170 والذهبي في تلخيص المستدرك.(3/870)
وقال ابن مسعود: "لما أسلم عمر - رضي الله عنه - قال المشركون لقد انتصف المسلمون منا"1.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه"2.
"وقد كان يكون في الأمم محدثون فإن يكن في أمتي فعمر بن الخطاب"3.
وقال علي - رضي الله عنه -: "ما كنا نبعد أن السكينة4 تنطق على لسان عمر"5.
__________
1 أخرجه الحاكم في المستدرك 3/85 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وأخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة 1/248.
2 أخرجه ت. كتاب المناقب (ب فضائل عمر) 5/617 وقال: "حديث حسن غريب"، حم 2/95 وفي فضائل الصحابة 2/250،وابن حبان في صحيحه انظر: موارد الظمآن ص 536 كلهم من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - وورد من رواية أبي هريرة أخرجه عنه ح - م 2/401، وفي فضائل الصحابة 1/251 والبزار انظر: كشف الأستار 3/174، وابن أبي عاصم في السنة 2/581، وأبو نعيم في الحلية 1/42 قال الهيثمي عن رجال البزار: "رجاله رجال الصحيح غير الجهم بن أبي الجهم وهو ثقة". مجمع الزوائد 9/66.
وورد من طريق أبي ذر أخرجه الحاكم في المستدرك 3/87 وقال: "صحيح على شرط الشيخين" وقال الذهبي: "هو على شرط مسلم" وصحح الحديث السيوطي والألباني. انظر: الجامع الصغير مع فيض القدير 2/220، صحيح الجامع الصغير 1/103.
3 أخرجه خ. كتاب فضائل الصحابة (ب مناقب عمر - رضي الله عنه -) 5/11 من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وأخرجه م. كتاب فضائل الصحابة (ب فضائل عمر) 4/1864 من حديث عائشة - رضي الله عنها -. وقد ربط في النسختين بين الحديثين كأنهما حديثا واحدا.
4 اختلف في معنى السكينة فقيل هي مخلوق لها وجه كوجه الإنسان وهي روح هفافة، وهذا مروي عن علي - رضي الله عنه - وقيل: هي الرحمة، وقيل: الوقار، وقيل: روح من الله يتكلم. ذكر هذه الأقوال ابن جرير في تفسيره 2/611 ورجح أنها ما تسكن إليه النفوس وتطمئن إليه وقد ورد عن علي - رضي الله عنه - عند أبي نعيم في الحلية 1/42 قال: "كنا نتحدث أن ملكا ينطق على لسان عمر - رضي الله عنه -".
5 أخرجه حم 1/106، وفي فضائل الصحابة 1/249، وأبو نعيم في الحلية 1/42، وعبد الرزاق في مصنفه 11/222 وابن أبي شيبة في مصنفه 12/23 من عدة طرق عن علي - رضي الله عنه - وإسناده صحيح.(3/871)
وروي عن أنس بن مالك أنه قال: "نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أقرئ عمر السلام وأخبره أن غضبه عز ورضاه عدل"1.
وقال ابن مسعود: "كان إسلام عمر - رضي الله عنه - عزا، وكانت هجرته نصرا، وكانت خلافته رحمة، والله ما استطعنا أن نصلي ظاهرين حتى أسلم عمر2، وإني لأحسب أن بين عينيه ملكا يسدده"3
وروي أن أبا بكر لما استخلف عمر - رضي الله عنهما - قال له: "إني موصيك بوصية إن حفظتها، إن لله عز وجل حقا في الليل لا يقبله بالنهار، وحقا بالنهار لا يقبله في الليل، وإنه لا تقبل نافلة حتى تؤدي الفريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الحق وثقله عليهم، وحق4 لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلا، وإنما خفت موازين من خفت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الباطل وخفته عليهم، وحق لميزان5 لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفا، ثم قال في آخر وصيته: فإن حفظت قولي هذا لم يكن غائب أحب إليك من الموت، ولا بد لك منه، وإن ضيعت قولي لم يكن غائب أبغض إليك من الموت، ولا بد لك منه ولن تعجزه"6.
__________
1 أخرجه أبو نعيم في الإمامة ص 293، وابن عدي في الكامل 1/261، واخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 12/38 عن سعيد بن جبير مرسلا.
2 إلى هنا أخرجه الطبراني في الكبير 9/178 - 182، وابن سعد في الطبقات 3/270 عن القاسم بن عبد الرحمن عن ابن مسعود وهو منقطع.
3 قوله: "وإني لأحسب. . " روي ذلك عن ابن مسعود - رضي الله عنه - من عدة طرق أخرجها الطبراني في الكبير 9/181، والإمام أحمد في فضائل الصحابة 1/247، وأبو نعيم في الإمامة ص 286.
4 في - ح - (وحق على الميزان) .
5 في الأصل (أن لا يو ضع) وما أثبت من - ح - وهو أقوم.
6 أخرجه الخلال في السنة ص 275 عن إسماعي - ل بن أبي خالد عن زبيد وهو ابن الحارث اليامي ثقة ثبت عابد، إلا أن روايته مرسلة حيث لم يسمع من أحد من الصحابة. انظر: التهذيب 3/310، وذكره ابن شبة في تاريخ المدينة 2/670 عن زبيد بدون ذكر السند، وذكر الروايتين ابن الجوزي في تاريخ عمر ص 71.(3/872)
فحفظ عمر - رضي الله عنه - وصية أبي بكر في نفسه ورعيته، فكان في الدنيا زاهدا، وفي الآخرة راغبا.
فروي أنه أتي له بلبن فشربه فقيل له: إنه من إبل الصدقة فتقيأه، وذلك أنه كره بقاءه في جوفه1.
وروي أنه أتى إليه بمسك من بيت المال فقسم بحضرته فسد على أنفه، فقيل له: يا أمير المؤمنين إنما يتجاوز إليك ريحه فقال: وهل يراد من المسك إلا رائحته".2
وهذا غاية في الورع.
وروي أنه قال: "لو شئت أن أدعو بصلاء3 وصناب4 وأفلاذ5 وأسنمة6 وأكباد لو شئت أن يدهمق7 لي لفعلت، ولكن الله عاب قوما ذلك فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} 8.
__________
1لم أقف على من ذكره على هذا النحو، وإنما روي ابن شبة في تاريخ المدينة 2/703 بسنده عن ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن عبد الرحمن بن نجيح قال: "نزلت على عمر - رضي الله عنه -، فكانت له ناقة يحلبها فانطلق غلامه ذات يوم فسقاه لبنا أنكره فقال: ويحك من أين هذا اللبن لك؟ قال: يا أمير المؤمنين إن الناقة انفلت عليها ولدها فشربها فحلبت لك ناقة من مال الله، فقال: ويحك تسقيني نارا، واستحل ذلك اللبن من بعض الناس" وذكر ابن الجوزي في تاريخ عمر ص 184 أن الذي أفتاه بحله علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
2 لم أقف على من ذكره، وقد روى ابن شبة في تاريخ المدينة 2/703 أن مسكا وعنبرا قدم عليه فقالت زوجته عاتكه بنت زيد: "هلم أزن لك فإني جيدة الوزن"، قال: "لا، إني أكره أن تصيب يدك فتقولين هكذا على صدرك بما أصابت يداك فضلاً على المسلمين".
3 الصلاء: الشواء وسمي بذلك لأنه يصلى بالنار.
4 الصناب: هو الخردل بالزبيب وهو طعام يؤتدم به.
5 الأفلاذ: واحدتها فلذ وهي قطعة من الكبد.
6 أسنمة: جمع سنام.
7 يدهمق: من دهمق الطعام أي لينه وطيبه ورققه. انظر: في هذه المعاني غريب الحديث للهروي3/264، والمعجم الوسيط ص 524.
8 الأحقاف آية (20) وأخرج هذا الأثر أبو عبيد الهروي عن الحسن البصري عن عمر - رضي الله عنه -، في غريب الحديث 3/263، وأخرج نحوه أيضا عن الحسن ابن سعد في الطبقات 3/279، وعمر بن شبة في تاريخ المدينة 2/696، وهو مرسل.(3/873)
وروي أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - دخل على عمر بعد قتله وقد سجي بثوبه، فقال: "ما أحد إليّ أن ألقى الله بصحيفته من هذا المسجى بينكم1، ثم قال: "يرحمك الله يا ابن الخطاب إن كنت بذات الله لعليما، وإن كان الله بصدرك لعظيما، وإن كنت لتخشى الله في الناس ولا تخشى الناس في الله، كنت جوادا بالحق بخيلا بالباطل، خميصا من الدنيا، بطينا من الآخرة، لم تكن عيابا ولا مداحا"2.
وروي عن ابن مسعود أنه قال: "كانت خلافة عمر رحمة"3 وروي عنه أنه قال: "أفرس الناس ثلاثة العزيز الذي تفرس بيوسف عليه السلام وابنة شعيب في تفرسها4 بموسى عليه السلام بقولها يا أبت استأجره إن خير من
__________
1 إلى هنا أخرجه عنه البخاري في صحيحه (فضائل الصحابة) (مناقب عمر - رضي الله عنه -) 5/11 ولظفه عنده "ما خلفت أحدا أحب إليّ أن ألقى الله بمثل عمله منك، وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وحسبت أني كنت كثيرا أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ذهبت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر"، ورواها ابن سعد في الطبقات عنه من عدة طرق 3/369 - 371
2 ذكره المحب الطبري وعزاه إلى ابن السمان في الموافقة. انظر: الرياض النضرة في مناقب العشرة 2/419، وروى ابن شبة في تاريخ المدينة 3/940، وابن سعد في الطبقات 3/369 عن عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - بعض هذا الثناء.
3 تقدم تخريجه ص 872.
4 هكذا في النسختين والذي في مصادر الرواية "والمرأة التي تفرست في موسى" وفي بعضها "وصاحبة موسى حين قالت: استأجره" وليس في شيء منها ذكر شعيب عليه السلام، فلعل هذا من تصرف المصنف - رحمه الله - حسب ما تبادر من المقصود بالمرأة، والذي يظهر أن موسى عليه السلام لم يدرك شعيبا عليه السلام، فقد كان في الزمان الذي بينه وبين لوط فقد قال الله عز وجل في سورة هود آية (88) من قول شعيب لقومه: {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} ثم ذكر الله بعده قصة موسى، وفي سورة الأعراف بعد أن ذكر الله قصة شعيب والعذاب الذي حل على قومه قال في آية (100، وما بعدها) {تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ، وَمَا وَجَدْنَا لأكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِين، ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآياتِنَا} الآية.(3/874)
استأجرت القوي الأمين، وأبو بكر - رضي الله عنه - في استخلافه عمر"1.
وأما شدته وصرامته فما لم يخف على أحد، جندّ الأجناد وفتح البلاد ومصر الأمصار، واستأصل الكفار، واستولى على الديار، وصلح بنظره الحاضر والبادي والقاصي والداني حتى قال: لئن عشت ليبلغن الراعي حقه بصفنه2 بسر وحمير3 لم يرق به جبينة4، ولما فتح أرض السواد قسمها بين الناس فاستغلوها ثلاث سنين فخاف أن يشتغل الناس بذلك فقال: لولا أخشى أن يكون الناس بَبّانا واحدا لكنتم على ما قسم لكم، وأرى أن تردوها5 فمنهم من طابت نفسه ورد ما بيده6، ومنهم من لم تطب نفسه
__________
1 لأخرجه اللالكائي في السنة 7/1235، والطبراني في الكبير 9/185، وعمر بن شبة في تاريخ المدينة 2/669، والخلال في السنة ص 277.
2 الصفن: بضم الصاد وقيل بفتحها وسكون الفاء خريطة يكون للراعي فيها طعامه وما يحتاج إليه. غريب الحديث للهروي 3/267.
3 سرو حمير: السرو هو ما انحدر من حزونة الجبل وارتفع عن منحدر الوادي فما بينهما، يقال له سرو، وسرو حمير المراد به منازل حمير من أرض اليمن. انظر: غريب الحديث للهروي 3/268، معجم البلدان 3/217.
4 أخرجه عنه أبو عبيد في غريب الحديث 3/266، وأخرج نحوه ابن سعد في الطبقات 3/300 ومراده - رضي الله عنه - أنه يوصل إلى الراعي حقه من بيت مال المسلمين في مكانه الذي يكون فيه، من غير أن يلجأه إلى عرق الجبين بسبب الطلب، وهو كناية عن حفظه لماء وجه المسلمين عن الطلب، فرحمه الله رحمة واسعة وألحقنا به في الصالحين.
5 في - ح - زيادة (بغير عوض) .
6 في - ح - (من طابت نفسه أن يردها بغير عوض) .
والمصنف هنا دمج بين روايتين فإن الرواية عند الهروي في غريب الحديث عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر - رضي الله عنه - قال: "لئن عشت إلى قابل لألحقن آخر الناس بأولهم حتى يكونوا بَبّانا واحدا".
ورواية قيس بن أبي حازم عند أبي عبيد القاسم بن سلام في الأموال أن عمر قال لجرير بن عبد الله - رضي الله عنهما -: لولا أني قاسم مسؤل لكنتم على ما جعل لكم وأرى الناس قد كثروا، فأرى أن ترده، يعني ما نفله من أرض السواد عليهم"، ففعل جرير ذلك، فأجازه عمر بثمانين دينارا. انظر: غريب الحديث 3/268، الأموال ص 78.(3/875)
بالرد إلا بعوض إعاضة، فردها على أهلها وضرب عليهم خراجا1يؤخذ منهم كل سنة إلى وقتنا هذا، فساوى بين الأولين والآخرين في ارتفاع2 هذه الأرض، وهذا معنا قوله: لولا أخشى أن يكون الناس ببانا أي شيئا واحدا. هكذا الرواية ببائين مجموع3 كل واحدة منقطة من تحتها والثانية مشددة ونون4.
وما شيء يلزم القيام به إلا قام به، حتى إنه ليباشر الأعمال بنفسه في الإنفاق على الأرامل والصغار، ويطوف في سكك المدينة ليلا ونهارا ليستمع، أو يرى ما يتوجه عليه فيه حق، فسمع امرأة ذات ليلة تقول:
ألا طال هذا الليل وازور جانبه وأرقني أن لا حليل ألا عبه
__________
1 المراد هنا أن عمر - رضي الله عنه - كان قد رأى بعد استشارة الصحابة أن الأرض التي فتحها المسلمون عنوة كأرض العراق ونحوها لو قسمها بين الفاتحين لآلت إلى عدد قليل من المسلمين وبقي أكثر الناس لا يصلهم من نفعها شيء وخاصة الذين يأتون فيما بعد، فأعاد - رحمه الله - الأرض إلى أهل البلاد وفرض عليهم الخراج، حتى يكون ما يؤديه هؤلاء إلى بيت المال قوة للمسلمين ويصل نفعها وخيرها عموم المسليمن، وكان هذا رأي علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل - رضي الله عنهما -، والذين استغلوا الأرض سنتين أو ثلاث هم الذين قاتلوا يوم القادسية، وكان أكثرهم قبي - لة بجيلة
الذين منهم جرير بن عبد الله البجلي - رضي الله عنه -، فقد كانوا ربع الناس فجعل لهم عمر ربع أرض السواد ثم استردها منهم عمر وأرضاهم عنها. وممن كان عارض هذا الرأي بلال بن رباح - رضي الله عنه - وجماعة معه. انظر: كتاب الأموال لأبي عبيد ص 72 - 80.
2 هكذا في الأصل وفي - ح - انتفاع - ولعل صوابها أرياع يعني ريعها وما تنتجه وتغله.
3 هكذا في كلام النسختين والكلام يستقيم بدونها.
4 انظر: غريب الحديث للهروي 3/268، وقال: "ولا أحسب هذه الكلمة عربية ولم أسمعها في غير هذا الحديث". انظر: لسان العرب 1/203.(3/876)
فوالله لولا الله لا شيء غيره ... لزعزع من هذا السرير جوانبه
مخافة ربي والحياء يكفني ... وإكرام بعلي أن تنال مراكبه
فسأل عنها، فقيل: إن زوجها في الغزو، فسأل عمر حفصة ونساء معها: كم تصبر المرأة عن الزوج؟ فقلن: شهرين وفي الثالث يقل الصبر وفي الرابع ينفر، فكتب إلى أمراء الجيوش في الآفاق أن لا يحبس الرجل عن امرأته أكثر من أربعة أشهر1. وله من المحافظة والمراعاة للرعبة ما يطول ذكره، وفيما ذكرته دلالة على ما لم يذكر والله أعلم.
__________
1 أخرج ذلك عنه ابن شبة في تاريخ المدينة 2/759، وروي أن حفصة ذكرت له أن المرأة تصبر من أربعة إلى ستة أشهر فجعل مغازي الناس ستة أشهر، وذكر هذه الأبيات ابن كثير في تفسيره عند قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُر} تفسير ابن كثير 1/269.(3/877)
124- فصل: في خلافة أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه -.
وذلك أن عمر - رضي الله عنه - بلغه أن قوما كانوا يخوضون في الخلافة ويقولون: لئن مات عمر لنولين فلانا ويريدون إخرجها عن الستة الذين جعلها عمر إليهم، وكان شديد الاحتياط في أمر المسلمين، فقام خطيبا يوم الجمعة فحمد اله أثنى عليه، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر - رضي الله عنه - وقال: إني رأيت في النوم كأن ديكا نقرني نقرتين وما أراه إلا لحضور أجلي، ألا وإني قد جعلت الأمر في هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وقد بلغني أن قوما يقولون إن مات عمر لونلين فلانا، أولئك أعداء الله الضلال الجهال، والله لقد جالدتهم بيدي هذه على الإسلام، وأرى أقواما يأمرونني أن استخلف ويطعنون في هذا الأمر، فإن أعهد فقد عهد من هو خير مني يعني أبا بكر، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما لبث بعد ذلك إلا قليلا حتى أصيب1 فدخل2 يوماً المسجد لصلاة الصبح، وكان إذا أراد الصلاة قام بين الصفوف، وقال: استووا فإذا استووا تقدم وصلى، فلما فعل ذلك وكبر بالصلاة طعنه العلج، فقال: قتلني الكلب فأخذ بيد عبد الرحمن بن عوف فقدمه ليتم الصلاة بالناس وكان بيد العلج سكين ذات طرفين لا يمر برجل يمينا وشمالا إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنساً ليأخذه، فلما ظنّ أنهُ يأخذه طعن نفسه، فصلوا صلاة الفجر صلاة خفيفة، فأما من في نواحي المسجد
__________
1 أخرجه م. كتاب المساجد (ب النهي عن أكل الثوم…) 1/396، حم 1/15 - 48، وابن سعد في الطبقات 3/335، وابن شبة في تاريخ المدينة 3/888 إلا أنهم لم يذكروا قول المصنف: "إن قوما يخوضون في الخلافة. . . . ".
2 هذه بداية عمرو بن ميمون لمقتل عمر - رضي الله عنه - وبيعة عثمان - رضي الله عنه -.(3/878)
فلا يدرون ما الأمر، غير أنهم فقدوا صوت عمر، وهم يقولون: سبحان الله، فلما انصرفوا. قال عمر لابن عباس: انظر من قاتلي فجال ساعة ثم جاء فقال: غلام المغيرة بن شعبة وكان نجارا، فقال عمر: الحمد لله الذي لم يجعل منيتي على يد رجل من المسلمين، لأنه كان نصرانيا1، ثم قال: قاتله الله لقد كنت أمرت به معروفا، فأسقوه لبناً فخرج من جرحه، فعلم أنه يموت فقال لابنه عبد الله: احسب ما عليَّ من الدين فحسبه، فإذا هو ستة وثمانون ألفا، وقال: إن وفى بها مال عمر فأدها، وإلا فاسأل في بني عدي ابن كعب، فإن لم يف من أموالهم فسل قريشا ولا تَعْدُهم إلى غيرهم، ثم قال لابنه عبد الله: ايت عائشة - رضي الله عنها - فسلم2 وقل: يستأذن عمر، - ولا تقل أمير المؤمنين فلست لهم اليوم بأمير - بأن3 يدفن مع صاحبيه، فأتاها ابن عمر فوجدها قاعدة تبكي، فأخبرها بذلك فقالت: بقي موضع قبر كنت أريده لنفسي، ولأؤثرنه على نفسي، فلما جاء قالوا جاء عبد الله بن عمر قال: ارفعوني فأسنده رجل إليه فقال: ما لديك، قال: قد أذنت، قال: ما شيء أهم إليّ من ذلك المضجع إذا قبضت فجهزوني واحملوني، ثم استأذنوا فإن أذنت فأدخلوني، وإلا ردوني إلى مقابر المسلمين، فلما مات فعل ذلك فاذنت ودفن مع صاحبيه، ولما حضره الموت قال: لآ أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض وسمى: عليا وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، فذكر ابنه عبد الله بن عمر لأجل فضله وعمله فقال: شاوروه وليس له من الأمر شيء".
__________
1 كذا في النسختين وذكر ذلك أيضا الطبري في تاريخ الأمم الملوك 4/190 عن المسور بن مخرمة. وذكر ابن كثير في البداية والنهاية 7/151 أن أبا لؤلؤة اسمه فيروز مجوسي الأصل رومي الدار.
2 في - ح - (فسلم عليها) .
3 في - ح - (تاذني أن) .(3/879)
وروي أنه قال: لم أكن بالذي أتحملها حيا وميتا، وقال: يكفي آل الخطاب أن يسأل منهم رجلا واحدا، وكان طلحة غائبا فقال لهم عمر: إن استقام أمركم قبل أن يقدم طلحة فامضوه على ما استقام عليه، وإن قدم طلحة قبل أن يستقيم أمركم فآذنوه، فإنه رجل من المهاجرين وقال لهم: لا تنتظروا أكثر من ثلاثة أيام، ثم منعهم أن يصلي رجل منهم بالناس قبل أن يستقيم أمرهم خوفا أن يظن هو أو غيره أنه نص عليه، وأمر صهيبا أن يصلي بالناس أيام مشورتهم حتى قال شاعرهم:
صلى صهيب ثلاثا ثم أسلمها ... إلى ابن عفان ملكا غير مردود1
ثم إن الرهط الذين ولاهم عمر - رضي الله عنهم - اجتمعوا وتشاروا وكانوا خمسة - فقال لهم عبد الرحمن بن عوف: إنكم لا تستقيمون على أمر وإنكم خمسة فليعادكل رجل رجلا وأنا عديد الغائب، فتعاد علي والزبير وولى الزبير أمره عليا، وتعاد عثمان وسعد وولى سعد أمره عثمان، وخلا علي وعثمان وعبد الرحمن2 فقال لهم عبد الرحمن: إما أن تتبرآ من الأمر فأوليكما الأمر فتختارا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم رجلا، وإما أن تولياني ذلك وأبرأ من الأمر، فولياه ذلك.
وروي "أن عبد الرحمن قال لهم: لست أنافسكم هذا الأمر، ولكن إن شئتما اخترت لكم، فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن وقد كان قال لهم عمر: إن انقسم الناس شطرين فكونوا في حيز عبد الرحمن بن عوف لعلمه بفضله وأمانته وانه مرضي عند الكافة وأزهدهم في هذا الأمر. قال المسور ابن مخرمة: فلما ولوا ذلك عبد الرحمن مال الناس عليه يشاورونه ويناجونه فطرقني عبد الرحمن بعد هزيع من الليل فضرب الباب فاستيقظ، فقال: ألا أراك نائما فوالله ما اكتحلت بكثير نوم فادع لي
__________
1 ذكر هذا البيت الطبري في تاريخ الأمم والملوك 4/234 وعزاه إلى الفرزق.
2 في - ح - (وخلا عبد الرحمن وعثمان وعلي) .(3/880)
الزبير فدعوته، فناجاه حتى ابهارّ الليل1، ثم قام منه على طمع ثم قال لي: ادع عثمان فناجاه طويلا حتى فرق بينهما المؤذن، فلما كانت الليلة التالية وعبد الرحمن في دار القضاء قال له سعد: يا أبا محمد ما كان أحد أحق بهذا الأمر منك قال: إنك يا سعد تحب أن يقال ابن عمه خليفة، وإنك يا مسور تحب أن يقال خاله خليفة والله لئن توجد مدية فتوضع هاهنا وأشار إلى لبته2 وأمر بيده إلى لبته أحب إلي من أن أليّ من أمر الناس شيئا، فقام سعد فقال له عبد الرحمن: يا أبا إسحاق اشهد الصبح والبس السيف، ثم قال لي عبد الرحمن: اذهب إلى علي وعثمان وأتني بهما، قال المسور: وكان هواي مع علي فأحببت أن أعلم ما في نفسه فقلت: له بأيهما أبدا، فقال: بأيهما شئت، قلت: آتيك بهما جميعا أو فرادى قال: لا بل جميعا قال: فبدأت بعلي فقلت له: أرسلني إليك خالي قال: أرسك إلى غيري معي؟ فقلت نعم. إلى عثمان. قال: بأينا أمرك أن تبدأ؟ قلت: قد سألته فقال بأيهما شئت فبدأت بك، قال: جميعا أو فرادى قال: لا بل جميعا فخرج معي في موضع الجنائز، وقال: اذهب إلى صاحبك فخرجت إلى عثمان فوجدته يوتر في بيت شيبة بن ربيعة، فخرج إلي عاقدا إزاره في عنقه آخر الليل، فقلت إن خالي أرسلني إليك، فقال: أرسلك إلى غير معي؟ قلت: نعم إلى علي، فسألته بأيهما أبدأ؟ قال: بأيهما شئت، فبدأت بعلي وهو ينتظرك في موضع الجنائز، فخرجت أنا وعثمان حتى جئنا عليا، ثم دخلنا على عبد الرحمن فحمد الله وأثنى عليه، ثم أقبل عليهما، وقال: أشيرا علي وأعيناني على أنفسكما هل أنت يا علي متابعي على سنة الله ورسوله وبعهد الله وميثاقه وسنة الماضين قبلي، - وروي سنة الشيخين قبلك - فقال علي: لا، ولكن أبايعك على طاقتي، قال: فصمت ثم تكلم كلاما دون كلامه الأول، ثم قال: هل أنت يا علي مبايعي على إن وليتك
__________
1 ابهار الليل: أي انصف. النهاية لابن الأثير 1/165.
2 اللّبة: بفتح اللام والباء وتشديدهما وسط الصدر والمنحر. اللسان 5/3981.(3/881)
هذا الأمر على سنة الله سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعهد الله وميثاقه وسنة الماضين قبلي، قال: لا، ولكن على طاقتي، ثم قال: هل أنت يا عثمان مبايعي إن وليتك على سنة الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعهد الله وميثاقه وسنة الماضين قبلك؟ فقال عثمان: نعم، قال: فأحب أن تقوما عني إن شئتما، فقاما عنه، فقام عبد الرحمن فاعتم ولبس السيف وخرج المسجد، وقد جاءت المهاجرون والأنصار من دورهم، وصار المسجد كالرمانة، وأرسل إلى من تخلف وإلى الأمراء، وكان قد وافق تلك الحجة مع عمر1، فصلى الصبح وتشهد ولا أشك أنه مبايع لعلي لما رأيت من حرصه على علي، ثم أخذ بيد علي فقال: الله عليك راع إن أنا بايعتك لتعدلن في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولتتقين الله عز وجل، وإن أنا لم أبايعك لتسمعن ولتطيعن لمن بايعت؟ قال علي: نعم، ثم أخذ بيد عثمان فقال: الله عليك راع إن أنا بايعتك لتعدلن في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولتتقين الله عز وجل، وإن أنا بايعت غيرك لتسمعن ولتطيعن؟ قال عثمان: نعم، فقال عبد الرحمن: إني نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان، ثم صفق علي يد عثمان فقال: أبايعك على سنة الله وسنة رسوله والخليفتين من بعده، وبايعه الناس والمهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد وسائر المسلمين وبايعه طلحة لما قدم وانقادوا له وسموه أمير المؤمنين"2.
فروى سعيد بن كعب3 والليث بن سعد عن عبد الرحمن أنه قال:
__________
1 مراد المصنف - رحمه الله - الأمراء الذين كانوا موجودين في المدينة لم ينصرفوا إلى ديارهم بعد الحج مع عمر - رضي الله عنه -، لأن قتلة عمر - رضي الله عنه - كانت لثلاث بقين من ذي الحجة سنة 23هـ -، وقيل: في غرة محرم سنة 24هـ -.
2 أخرج البخاري في كتاب مناقب الصحابة (ب مناقب عثمان - رضي الله عنه -) 5/13 قصة قتل عمر - رضي الله عنه - ومبايعة عثمان عن عمرو بن ميمون وهي بأخصر مما هنا، وأخرجها مطولة ابن شبة في تاريخ المدينة 3/924 - 931، والطبري في تاريخ الأمم والملوك 4/227 - 338.
3 هكذا في النسختين والذي عند اللالكائي (أفلح بن سعيد بن كعب) في المطبوع والمخطوط، ولم أقف له على ترجمة ولعل فيه سقطا لأن أفلح بن سعيد وهو المدني القُبَاني يروي عن محمد بن كعب، فلعل اسم محمد وصيغة التحمل سقطتا من النسخة، فصار كانه اسما واحدا، وأفلح بن سعيد القُبَاني قال عنه ابن حجر: "صدوق" مات سنة 156هـ -. انظر: ترجمته في التقريب ص 38، ميزان الاعتدال ص 274.(3/882)
"والله ما بايعت عثمان حتى شاورت كل أحد حتى صبيان الكتاب فكل يقول عثمان فبايعته"1.
فعبد الرحمن في فضله وعلمه وسابقته مما لا حاجة لنا إلى الإطالة بذكره يصلح لعقد هذا الأمر، وعثمان - رضي الله عنه - ممن يصلح له العقد لكون الشرائط كلها موجودة فيه، ومن فضله أن النبي صلى الله عليه وسلم زوجه ابنتيه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله أمرني أن أزوج كريمتي عثمان"2، ولما ماتت الثانية قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كان لنا ثالثة لزوجناك" 3. وروي أنه قال: "لو أمدنا الله بالبنات لأمددناك يا عثمان بالأزواج"4.
__________
1 أخرجه من هذين الطريقين اللالكائي في السنة 7/1341.
2 أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة 1/512، والطبراني في الصغير 1/148، وابن عدي في الكامل 5/1725، واللالكائي في السنة 7/1345 من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - وإسناده ضعيف لأنه من طريث عمير بن عمران الحنفي عن ابن جريج، قال: قال ابن عدي عن عمير: "حدث بالبواطيل عن الثقات وخاصة عن ابن جريج، وقال بعد أن أورد الحديث: "والضعف بين على حديثه"
3 أخرجه الطبراني الكبير 17/184 عن عصمة بن مالك - رضي الله عنه - ولفظه: "زوجوا عثمان لو كان لي ثالثة لزوجته. . . "، وهو ضعيف جدا فإن في إسناده الفضل بن المختار أبو سهل البصري. قال أبو حاتم: "أحادثيه منكرة يحدث بالأباطيل"، وقال الأزدي: "منكر الحديث جدا". ميزان الاعتدال 3/358، وفي فضائل الصحابة للإمام أحمد 1/481 من حديث عبد الله بن الحسين قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أبو أيم ألا أخوأيم يزوج عثمان لو كانت عندي ثالثة لزوجته. . . "، وهو منقطع. وفيه أيضا 1/508 من حديث عبد الله بن الحر الأموي وهو منقطع أيضا، وفيه أيضا 1/159، وعند ابن أبي عاصم في السنة 2/592 من كلام عثمان - رضي الله عنه - لمحمد بن أبي بكر، وقال فيه: "يا ابن أخي أنشدك بالله هل تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجني ابنتيه. إحداهما بعد الأخرى ثم قال: فذكر نحو حديث عبد الله بن الحسن". وهذا أثر باطل فإنه من طريق عبد الملك بن هارون بن عنترة عن أبيه. قال الذهبي عن الدارقطني: "هما ضعيفان"، وقال أبو حاتم: "متروك"، وقال ابن حبان: "يضع الحديث" الميزان 2/666.
4 لم أقف عليه بهذا اللفظ وإنما أخرج ابن عساكر بسنده عن عقبة بن علقمة عن علي - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعثمان: "لو أن لي أربعين بنتا زوجتك واحدة بعد واحدة حتى لا يبقى منهن واحدة". تاريخ دمشق. قسم (عثمان بن عفان) ص 36، وإسناده ضعيف فإن عقبة قال عنه في التقريب ص 241: "ضعيف".(3/883)
وإنما سمي ذا النوريين لأن أحدا من لدن آدم لم يتزوج ابنتي نبي غير عثمان1، فهذه أشرف مناقبه.
وروى ربعي بن خراش: "أن عثمان - رضي الله عنه - خطب إلى عمر ابنته حفصة، فأبى عليه، فلبغ ذلك بني الله صلى الله عليه وسلم، فلما راح عليه عمر قال: يا عمر ألا أدلك على خير لك من عثمان، وأدل عثمان على خيرله منك؟ قال: نعم. قال زوجني ابنتك وأزوج عثمان ابنتي"2.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لكل نبي رفيق ورفيقي في الجنة عثمان"3،
__________
1 ذكر هذا اللالكائي بسنده عن الحسين بن علي الجعفي. شرح إعتقاد أهل السنة 7/1353.
2 أخرجه اللالكائي في السنة 7/1346، والبيهقي في دلائل النبوة 2/428 طبعة دار الفكر، نقل الحافظ ابن حجر عن الحافظ الضياء أنه قال: "إسناده لا بأس به".
وهذا الحديث يختلف عن رواية البخاري 7/13 التي ورد فيها أن عمر عرض ابنته على عثمان فردها عثمان قال الحافظ في الجمع بينهما: "يحتمل أن يكون عثمان خطب أولا إلى عمر فرده كما في الرواية، وسبب رده يحتمل أن يكون من جهتها مما ليس فيه غضاضة على عثمان - رضي الله عنهما - ثم لما ارتفع السبب عرضها عمر عليه تطييبا لخاطره كما في رواية البخاري، ولعل عثمان بلغه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لها فصنع أبو بكر من ترك إفشاء السر". فتح الباري 9/176.
3 أخرجه ت. كتاب المناقب (ب مناقب عثمان - رضي الله عنه -) 5/624 من حديث طلحة - رضي الله عنه - قال الترمذي: "حديث غريب ليس إسناده بالقوي" وهو منقطع بين الحارث بن عبد الرحمن ابن أبي ذياب وطلحة بن عبيد الله" انظر: التهذيب 2/148، وهو في مسند أحمد 1/74 من زيادات عبد الله من حديث طلحة ومعه قصة في حصار عثمان - رضي الله عنه - وأخرجه الحاكم في المستدرك كتاب معرفة الصحابة 3/97.
والإمام أحمد في فضائل الصحابة 1/482، وابن أبي عاصم في السنة 2/589، وإسناده ضعيف جدا فإن فيه أبو عبادة الزرقي عيسى بن عبد الرحمن بن فورة الزرقي. قال عنه أبو حاتم: "منكر الحديث شبه بالمتروك". الجرح والتعديل 6/281 وضعف الحديث ابن الجوزي في العلل المتناهية 1/200، وورد من طريق أبي هريرة - رضي الله عنه - أخرجه جه في المقدمة (ب فضل عثمان - رضي الله عنه -) 1/40، وابن أبي عاصم في السنة 2/589 وإسناده ضعيف فإنه فيه عثمان بن خالد بن عمر الأموي. قال ابن حجر: "متروك". التقريب ص 233، وضعف الحديث البوصيري في مصباح الزجاجة 1/180، وابن الجوزي في العلل المتناهية 1/201.(3/884)
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الملائكة تستحي من عثمان"1.
وروى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحداً وأبو بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - معه، فرجف بهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أثبت أحد فما عليك إلا نبي وصديق وشهيدان"2.
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فتحركت بهم الصخرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد"3.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقتل شهيدا، وأن الله يقمصه قميصا، فإن أرادوك على خلعه فلا تفعل4، وسبحت الحصى بكفه5، وله من الفضائل ما يكثر ذكره.
__________
1 أخرجه م. كتاب فضائل الصحابة (ب فضائل عثمان) 4/1866 من حديث عائشة - رضي الله عنها - ولفظه "ألا استحى من رجل تستحي منه الملائكة".
2 أخرجه خ. كتاب فضائل الصحابة (ب مناقب عثمان - رضي الله عنه -) 5/13 من حديث أنس ابن مالك.
3 أخرجه م. كتاب فضائل الصحابة (ب فضائل طلحة والزبير - رضي الله عنهما -) 4/1880، حم. 2/419، وفي فضائل الصحابة 1/217.
4 سيأتي إيراد هذا الحديث بلفظه ص 888.
5 تقدم ذكر هذا الحديث ص 205 في الحاشية.(3/885)
125- فصل
ومذهبنا أن القوم الذين اجتمعوا على قتل عثمان - رضي الله عنه - وقتلوه فسقة، وهو مظلوم وكلما تأولوه عليه لا يبيح قتله لهم ولا خلعه، لأن أكثر ذلك باطل لا أصل له، ولا يصح شيء منه فلا يقتضي قتله، وذلك لما ثبت من إيمانه وثبوت بيعته ووجوب طاعته والقوم الذين قصدوه من غير أهل الحل والعقد في الإمامة، وإنما حملهم على ذلك أمور دنيوية فمنهم من طلب امرأة فمنع منها، ومنهم من حمله على ذلك الغيظ على أمرائه وعماله1.
ومما يرويه الشيعة وأهل البدعة من الأخبار أن عليا وطلحة والزبير وغيرهم من الصحابة كاتبوا أهل الآفاق وأمروهم بخلعه أو قتله2 فأخبار آحاد لا يثبتها أهل النقل ولا يبطل بها ما ثبت من نزاهة الصحابة وفضلهم.
وقد روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: "والله ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله"3.
وروي أنه قيل لعائشة - رضي الله عنها ـ: إن الناس قد أكثروا في عثمان وشتموه ولعنوه، قالت: لعن الله من لعنه، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مسندا ظهره إلى صدري وجبريل يوحي إليه وعثمان عن يمينه وهو يقول4:
__________
1 انظر: بعض أخبار هؤلاء الحانقين على عثمان - رضي الله عنه - (تاريخ الأمم والملوك للطبري) 4/317 وهم الأشتر النخعي وابن ذي الحبكة وجندب بن صعصعة وابن الكواء وكميل بن زياد وعمير بن ضابي وما كان منهم مع سعيد بن العاص وآل الكوفة ومع معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - وآل الشام من قبل عثمان - رضي الله عنه -.
2 ذكر ابن جرير في تاريخ الأمم والملوك 4/336 من طريق الواقدي أن الصحابة كتب بعضهم إلي بعض في عثمان، والواقدي قال فيه الذهبي:" استقر الإجماع على وهن الواقدي"، وقال ابن حجر: "متروك". انظر: ميزان الاعتدال 3/666 التقريب ص 313.
3 أخرج ابن شبة في تاريخ المدينة 4/1258 - 1268، وابن سعد في الطبقات 3/82 عدة روايات بهذا المعنى.
(وهو يقول) ساقطة من الأصل وهي مثبتة في - ح -.(3/886)
" اكتب يا عثمان فما1 نزل تلك المنزلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا كريم على الله ورسوله"2.
وروي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت حين قتل عثمان: تركتموه كالثوب النقي من الدنس ثم ذبحتموه كما تذبح الكبش، فقال لها مسروق: هذا عملك كتبت إلى الناس تأمرينهم أن يجروا3 إليه، فقالت: لا والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون ما كتبت إليهم سوداء ولا بيضاء4 حتى جلست مجلسي هذا".قال الأعمش: وكانوا قد كتبوا على لسانها5.
وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: "اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان ابن عفان اللهم لا أرضى قتله ولا آمر به"6.ويدل على ما ذكرناه ما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تكون بعدي أمور فقلنا فأين المنجى منها يا رسول الله؟ قال: إلى الأمير وحزبه فأشار إلى عثمان بن عفان"7.
__________
1 في الأصل (فلما) وما أثبت كما هو في - ح - ومصادر الرواية.
2 أخرجه حم 6/250 - 261، وفي فضائل الصحابة 1/498 - 499 وابن أبي عاصم في السنة 2/592، واللالكائي في السنة 7/1346، وسنده ضعيف فإن مدار الرواية على فاطمة ابنت عبد الرحمن اليشكرية عن أمها، قال ابن حجر عنها وعن أمها: "لا تعرف" تعجيل المنفعة ص 559.
3 في - ح - (يخرجوا) وكذلك في مصادر الرواية.
4هكذا في النسختين وكذلك عند اللالكائي في المطبوع والمخطوط، وفي مصادر الرواية الأخرى "سوداء في بيضاء" وهو التعبير المعروف في نفي الكتابة.
5 أخرجه ابن سعد في الطبقات 4/82، وابن شبة في تاريخ المدينة 4/1225، واللالكائي في السنة 8/1356، وابن أبي شيبة في مصنفه 12/51.
6 أخرجه ابن شبة في تاريخ المدينة 40/1264، ابن سعد في الطبقات 3/68، والإمام أحمد في فضائل الصحابة 1/452، وأبو نعيم في الإمامة ص 328.
7 أخرجه حم 2/345 وفي فضائل الصحابة 1/450، وابن أبي شبة في المصنف 12/50، والحاكم في المستدرك كتاب معرفة الصحابة 3/99، وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، وأخرجه اللالكائي في السنة 7/1349.(3/887)
وروى كعب بن عجرة - رضي الله عنه - قال: "ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فتنة فمر بنا رجل مقنع1، فقال: "هذا يومئذ على الهدى فأخذت بضبعه فقتلته أو قلبته، فاستقبلت به النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: هذا يا رسول الله قال: هذا فإذا هو عثمان ابن عفان"2.
وروت عائشة - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعثمان: "إن الله سيقمصك قميصا إن روادوك على خلعه فلا تخلعه"3.
__________
1 في - ح - (مقنع رأسه) .
2 أخرجه جه في المقدمة (ب فضائل عثمان - رضي الله عنه -) 1/41، حم 4/243، وفي فضائل الصحابة 1/450، واللالكائي في السنة 7/1351، وابن أبي عاصم في السنة 2/591 كلهم من حديث محمد بن سيرين عن كعب. قال البوصيري: "هذا إسناد منقطع"، قال أبو حاتم: "محمد بن سيرين لم يسمع من كعب بن عجرة، ورجال الإسناد ثقات". مصباح الزجاجة 1/18، والحديث له شواهد بعضه صحيح منها ما أخرجه حم 4/236، والترمذي 5/628 من طرق أبي الأشعث الصنعاني أن خطباء قامت بالشام ومنهم رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقام آخرهم رجل يقال له مرة بن كعب فقال: "لولا حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قمت"، وذكر الفتن فقربها ثم ذكر نحو حديث كعب بن عجرة قال الترمذي: "حديث حسن صحيح".
وأخرجه حم 4/235 من حديث أبي قلابة عن مرة، وأخرجه في 4/236 وابن أبي عاصم في السنة 2/591 من حديث سليم بن عامر من جبير بن نفير عن مرة ابن كعب النهري نحوه وإسناده ثقات.
وأخرجه ابن حبان: انظر: موارد الظمآن ص 539، وابن أبي عاصم في السنة 2/591 من حديث عبد الله بن شقيف. قال: "حدثني هرم بن الحارث وأسامة بن خريم وكانا يقاربان فحدثاني حديثا ولا يشعر كل واحد منهم أن صاحبه حدثنيه عن مرة النهري أنه مرة قال. . " فذكره.
وهرم وأسامة ذكرهما أبو حاتم ولم يذكر فيهما درحا ولا تعديلا، الجرح والتعديل 2/283، 9/111، وللحديث شاهد آخر من حديث عبد الله بن حوالة - رضي الله عنه - أخرجه حم 4/109، وفي فضائل الصحابة 1/448 وابن أبي عاصم في السنة 2/590، وذكره الهيثمي وقال: "أخرجه أحمد والطبري، ورجالهما رجال الصحيح" مجمع الزوائد 9/88.
3 أخرجه ت كتاب المناقب (ب عثمان - رضي الله عنه -) 5/628 وقال: حسن غريب، وأخرجه حم 6/86 - 149، وفي فضائل الصحابة 1/500، وابن حبان. انظر: موارد الظمآن ص 539، وابن أبي عاصم في السنة ص 559 من طريق عبد الله بن عامر اليحصبي أو عبد الله بن قيس الحمصي. قال الألباني في التعليق على السنة: "إسناده صحيح على شرط مسلم"، وورد من طريق آخر عنها أخرجه جه في المقدمة (ب فضل عثمان - رضي الله عنه -) 1/41، حم 6/75، وفي فضائل الصحابة 1/500، والحاكم في المستدرك كتاب معرفة الصحابة 3/100 وقال: "حديث صحيح عالي الإسناد ولم يخرجاه"، والحديث مداره على الفرج بن فضالة، قال عنه في التقريب ص 247 "ضعيف" وقد تعقب الذهبي الحاكم بقوله: "أنى له الصحة ومداره على الفرج بن فضالة" وأخرجه حم 6/114 عن عائشة رواية إسحاق بن سعيد بن عمرو بن العاص عن أبيه عن عائشة، وإسناده حسن فإن فيه محمد بن كناسة الأسدي أبو يحيى. قال عنه في التقريب: صدوق عارف بالآداب". التقريب ص 305، وأخرجه اللالكائي 7/1350 من حديث عروة عن عائشة وإسناده جيد. ورجاله ثقات ما عدا المنهال بن بحر، فقد وثقه أبو حاتم ولينه ابن عدي، وقال العقيلي: "في حديثه نظر". انظر: الجرح والتعديل 8/357، الميزان 4/191.
وللحديث شاهد عند الإمام أحمد في فضائل الصحابة 1/453 من حديث جبير بن نفير مرفوعا وإسناده ثقات، إلا أنه مرسل، لأن جبير بن نفير مخضرم وهو ثقة جليل. انظر: التقريب ص 54.(3/888)
وروى ابن عمر أن عثمان - رضي الله عنه - أصبح يحدث الناس فقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: يا عثمان أفطر عندنا فأصبح صائما وقتل من يومه"1.
وروي عن أبي جعفر الأنصاري2 قال: "لما دخل علي عثمان يوم الدار مررت مجتازا في المسجد، فإذا رجل عليه عمامة سوداء وحوله نحو من عشرة فإذا هو علي، قال: ما فعل الرجل؟ قلت: قتل، قال: تبا لهم3 آخر الدهر4، وروي أنه قال: "لو أعلم ان بني أمية يذهب ما في أنفسهم لحلفت لهم خمسين يميناً مرردة بين الركن والمقام أني لم أقتل عثمان ولم آمال على قتله"5.
__________
1 أخرجه اللالكائي في السنة 8/1354، وقد أخرج ابن سعد في الطبقات 3/74، وابن شبة في تاريخ المدينة 4/1226 عدة روايات عن ابن عمر بهذا المعنى.
2 أبو جعفر الأنصاري المدني المؤذن وهو ممن دخل على عثمان مع المصريين قال ابن حجر: مقبول. انظر: التهذيب 12/55، التقريب ص 399.
3 في الأصل (له) وفي - ح - وفي مصادر الرواية كما أثبت.
4 أخرجه ابن شبة في تاريخ المدينة 4/1229، وأبو نعيم في الإمامة 334، واللالكائي في السنة 8/1357.
5 أخرجه ابن شبة في تاريخ المدينة 4/1269، واللالكائي في السنة 8/1357.(3/889)
فإن قيل: فإذا كان الأمر في الصحابة1 فما منعهم عن نصرته ولم خذلوه. قيل لهم: معاذ الله أن يكون فيهم من خذله أو قعد عن نصرته، وإنما نهاهم عن ذلك وناشدهم الله، وعرف أن الجيوش قد سارت إليه من الأمصار، ولم ير أن في الصحابة من يماثل عددهم، وخاف إراقة دماءهم، لما روي أن المغيرة بن شعبة قال له: إنه قد نزل بك ما ترى، وأنا أعرض عليك خصالا ثلاثا: إن شئت خرقنا لك بابا من الدار سوى الباب الذي هم عليه فتقعد على رواحلك فتلحق بمكة، فإنهم لن يستحلوك وأنت بها، أو تلحق بالشام فإنهم أهل الشام وفيهم معاوية، وإن شئت خرجت بمن معك فقاتلهم وإن معك عدة وقوة، وإنك على حق وهم على باطل، فقال عثمان: أما قولك تخرق لي بابا من الدار فاقعد على رواحلي فألحق بمكة فإنهم لن يستحلوني وأنا فيها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يلحق2 رجل من قريش بمكة3عليه نصف عذاب العالم فلن أكون إياه4، وأما قولك الحق بالشام فهم أهل الشام وفيهم معاوية فلن أفارق دار هجرتي ومجاورة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، وأما قولك: إن معي عدة فأخرج فأقاتلهم فإني على الحق وهم على الباطل فلن أكون أول من خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بإهراق ملء5 محجم من دم بغير حق"6.
__________
1 هكذا في النسختين وهي تحتاج لخبر كان ولعل تقديره (ما ذكرتم) ، فيكون المعنى فإذا كان شأن الصحابة وامرهم ما ذكرتم، يعني من عدم تواطؤهم على قتله.
2 هكذا في النسختين وفي مصادر الرواية (يلحد) وهي الأصوب، وقد نص ابن حجر في تعجيل المنفعة ص 370 على أنها (يلحد) ونقل ذلك أيضا عن البخاري.
(بمكة) ليست في الأصل وهي في - ح - وفي مصادر الرواية.
4 روى ابن أبي شبة نحوه عن ابن عمر في كلامه لابن الزبير. المصنف 11/139.
5 في - ح - (مثل) .
6 أخرجه حم 1/67، وابن شبة في تاريخ المدينة 4/1212، وابن عساكر في تاريخ دمشق قسم (عثمان بن عفان - رضي الله عنه -) ص 387 من حديث الأوزاعي عن محمد بن عبد الملك بن مروان عن المغيرة - رضي الله عنه -، ومحمد بن الخليفة عبد الملك بن مروان وثقه علي بن الحسين بن الجنيد وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن عساكر: "كان ناسكا أمه أم ولد قتل سنة 132هـ - فتكون روايته عن المغيرة مرسلة، لأن المغيرة - رضي الله عنه - توفي 50هـ" - تعجيل المنفعة ص 370.(3/890)
وروي أن ابن عمر دخل على عثمان - رضي الله عنه - وعرض عليه نصرته وذكر بيعته1، وكذلك أبو هريرة - رضي الله عنه - دخل وعرض عليه نصرته، وقال: اليوم طاب أمضرب2 فقال: أنتم في حل من بيعتي وإني لأرجوا أن ألقى الله سالما مظلوما3 وقال لعبيدة وكانوا أربعمائة عبد من أغمد سيفه فهو حر، بل4 منعهم من القتال فأغمدوا كلهم سيوفهم إلا العبد الأسود الذي قاتل حتى قتل معه، وقاتل معه الحسن بن علي حتى حمل من الدار مغلوبا من الجراحات5.
وإنما فعل عثمان ذلك لما علم أنه مقتول فبذل دمه دون دماء الصحابة والمسلمين6. والدليل عليه ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ادعوا لي بعض أصحابي قلت: ادعو لك أبا بكر فسكت، قلت: أدعو لك فسكت قلت: أدعو لك ابن عمك عليا فسكت قلت: ادعو لك عثمان فقال: نعم، فجاء عثمان فقال لي: هكذا أي
__________
1 أخرجه أبو نعيم في الإمامة ص 332.
2 أخرجه ابن شبة في تاريخ المدينة 4/1207، وابن سعد في الطبقات 3/70، وأبو نعيم في الإمامة ص 33 وقوله: "طاب أمضرب" هكذا في الأصل وفي - ح - وفي النسخ المطبوعة من مصادر الرواية (طاب أم ضرب) ، والصواب ما أثبت ومعناه (طاب الضرب) وقوله أمضرب: على لغة حمير إبدال لام التعريف ميما
3 من قوله (فقال أنتم في حل. . .) هو من بقية الرواية المتقدمة عن ابن عمر.
4 في - ح - (أراد) .
5 ذكر عددا من الروايات في هذا المعنى ابن شبة في تاريخ المدينة 4/1206 - 1215، ولم أقف على ذكر عدد الموالي الذين ذكروا هنا في كلام المصنف، وإنما ذكر ابن سعد عن ابن سيرين قال: كان مع عثمان يومئذ في الدار سبعمائة لو يدعهم لضربوهم إن شاء الله حتى يخرجوهم من أقطارها منهم ابن عمر والحسن بن علي وعبد الله بن الزبير وغيرهم. اطبقات 3/71، وأخرجه الخلال في السنة 335.
6 ذكر هذا أيضا ابن كثير في البداية والنهاية 7/199.(3/891)
تنحي عني، قال: فرأيته يقول لعثمان ولونه يتغير ووجهه، فلما كان يوم الدار قيل له: ألا تقاتل؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهدا وإني صابر نفسي"1.
قال عبد الرحمن بن مهدي2: "لو لم يكن في عثمان إلا خصلتان لكفتاه جمعه المصحف وبذله دمه دون دماء المسلمين"3.
وروي "أن عليا وطلحة والزبير وكثيرا من الصحابة - رضي الله عنهم - خاطبوا هؤلاء القوم وأغلظوا عليهم القول بسبب ما يريدونه، فلما أحسوا منهم نصرته وأنهم منكرون عليهم فعلهم أظهرت فرقة منهم موالاة علي ولزموا باب علي، وأظهرت فرقة منهم موالاة طلحة ولزموا بابه، وأظهرت فرقة منهم موالاة الزبير ولزموا بابه ومنعوهم من الخروج وقد برأهم الله منهم، وكان قتله بذي الحجة سنة خمسين وثلاثين من الهجرة، وله إحدى وثمانون سنة وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة ولم يستخلف أحدا ... "4.
__________
1 أخرجه جه في المقدمة (ب فصل عثمان - رضي الله عنه -) 1/43، حم 6/52، وفي فضائل الصحابة 1/494، وابن حبان. انظر: موارد الظمآن ص 540 والحاكم في المستدرك كتاب معرفة الصحابة 3/99 قال الحاكم: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. قال البوصيري: "إسناده صحيح ورجاله ثقات". مصباح الزجاجة 1/19، واخرجه حم 1/58 - 69، ت كتاب المناقب (ب مناقب عثمان - رضي الله عنه -) 5/631 مختصرا بذكر قول عثمان - رضي الله عنه - "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهدا. . " من حديث أبي سهلة مولى عثمان - رضي الله عنه - عن عثمان أنه قال يوم الدار. . فذكره. قال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن أبي خالد".
2 عبد الرحمن بن مهدي بن حسان العنبري مولاهم أبو سعيد البصري، ثقة ثبت حافظ عارف بالرجال والحديث. قال ابن المديني: "ما رأيت أعلم منه" توفي سنة 298 هـ -. انظر: التقريب ص 210.
3 أخرجه الآجري في الشريعة 3/149 وقال محققه: "إسناده صحيح".
4 انظر: تاريخ الأمم والملوك للطبري 3/349 - 350/415 - 418.(3/892)
126- فصل: في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
ذلك أنه لم يكن أحد بعد عثمان - رضي الله عنه - أحق بالخلافةمن علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - لما جمع الله به من الفضائل وشرفه به من سني المنازل ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم وزوج فاطمة البتول وأبو الحسن والحسين ريحانتي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من السابقين ممن عظم بلاؤه وجهاده في سبيل الله، فختم الله به الخلافة كما ختم بمحمد صلى الله عليه وسلم النبوة، قال صلى الله عليه وسلم: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة" 1.
وتمام الثلاثين بخلافة علي - رضي الله عنه -.
وأما بيان عقد إمامته فما روي: "أن عمثان - رضي الله عنه - لما قتل مظلوما ودخل علي - رضي الله عنه - داره وأغلق عليه بابه غضبا منه على ما فعل بعثمان فاستولى الغافقي ومن معه من قتلة عثمان وأهل الفتنة على المدينة وهم بالفتك بهم، وحلفوا للصحابة2. لإن لم يعقدوا الإمامة لرجل منهم ليعيدوها جَذّعَة3 فيهم، فأتى المصريون منهم إلى علي فعرضوها عليه فأبى، وأتى البصريون إلى طلحة فعرضوها عليه فأبى، ثم عرضوها على الزبير فأبي، وكل ذلك منهم إنكار وإعظام لما فعلوا بعثمان، فلما كان عشي يوم الثالث من قتل عثمان - رضي الله عنه - خاف أهل المدينة المهاجرون والأنصار من فتك أهل الفتنة4 بالمدينة، فاجتمعوا وأتوا إلى باب علي، فضربوا عليه
__________
1 تقدم تخريجه ص 842.
2 في النسختين (وحلفوا الصحابة) ولا معنى لها إلا بإضافة اللام.
3 أي يعيدوا الفتنة فيهم مرة أخرى.
4 في - ح - (أهل المدينة) .(3/893)
الباب واستأذنوا بالدخول عليه، فدخولوا وقالوا: إن عثمان قد قتل ولا بد للناس من خليفة، ولا نعلم أحدا أحق بها منك فامتنع عليهم وقال: كوني وزيرا خيرا من أمير، قالوا: لا والله ما نعلم أحدا أحق بها منك، قال: فإن أبيتم علي فإن بيعتي لا تكون سرا ولكن أخرج إلى المسجد فمن شاء أن يبايعني بايعني، فخرج إلى المسجد، فبايعه خزيمة بن ثابت وأبو الهيثم النبهان ومحمد بن مسلمة وعمار ورجال يكثر عددهم وبايعه الناس1، فلما بايعوه صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أما بعد: فإن الدنيا قد أدبرت بوداع، وإن الآخرة قد أقبلت باطلاع، وإن المضمار اليوم وغدا السباق، ألا وإنكم في أيام أمل ومن ورائها أجل، فمن قصر في أيام عمله قبل حضور أجله فقد خسر عمله، ثم إن الله في سمائه وعرشه ليعلم أني كنت كارها للولاية على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لأني سمعته يقول: "أيما وال ولي أمر أمتي بعدي أقيم على الصراط ونشرت الملائكة صحيفته، فإن كان عادلا نجاه الله تعالى بعدله، وإن كان جائرا انتقض به الصراط انتقاضا يتزايل ما بين مفاصله حتى يكون بين كل عضو من أعضائه مسيرة مائة عام، ثم ينحرف به الصراط فأول ما يتقي به النار أنفه وحر وجهه"2 ولكن لما اجتمع رأيكم علي لم يسعني ترككم. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم، ونزل"3
والدليل على علو منزلة علي عندي النبي صلى الله عليه وسلم ما روي أنه صلى الله عليه وسلم يوم خيبر
__________
1 انظر: تاريخ الأمم والملوك للطبري 4/427 - 434.
2 عزا في كنز العمال 6/20 هذا الحديث إلى أبي القاسم بن بشران في أماليه، وأخرج نحوه أبو نعيم في الحلية 6/136 من طريق الأوزاعي عن عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري، وفي إسناده أحمد بن عبيد بن ناصح لين الحديث. التقريب ص 14، وفيه الراوي عن عبد الرحمن ابن أبي عمره واسمه جابر ولم أتبين من هو.
3لم أقف على من ذكر هذه الخطبة بألفاظها، وإنما ذكر ابن جرير في تاريخه 4/436 عنه خطبة أخرى ليس هذا مضمونها.(3/894)
قال: "لأدفعن الراية غداً إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله" قال عمر: فما أحببت الإمارة إلا يومئذ فتطاولت لها، ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم عليا فدفع اللواء إليه، وقال: "اذهب فلا تلتفت حتى يفتح الله عليك فمشى هنيئة، ثم قام ولم يلتفت للعزمة فقال: علام أقاتل الناس؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله فإذا قالوها فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله"1.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "علي مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن بعدي"2.
وروي عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كنت مولاه فعلي مولاه"3.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رحم الله أبا بكر زوجني ابنته وحملني إلى دار الهجرة وأعتق بلالا من ماله، رحمه الله عمر يقول الحق وإن كان4 مرا تركه الحق وماله من صديق، رحم الله عثمان تستحي منه الملائكة, رحم الله عليا، اللهم أدر الحق معه حيث دار"5.
__________
1 أخرجه خ. كتاب فضائل الصحابة (ب مناقب علي - رضي الله عنه -) 5/16 من حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه -، م. كتاب الفضائل (ب فضائل علي) 2/1871 من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
2 أخرجه ت. كتاب مناقب الصحابة (ب مناقب علي - رضي الله عنه -) 5/632، حم 4/437، وفي فضائل الصحابة 2/605 - 649 من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - وفي إسناده جعفر بن سليمان الضبعي. قال عنه في التقريب: "صدوق كان يتشيع". التقريب ص 56، واخرجه حم 5/356 من حديث بريدة بن الحصيب، وفي إسناده أجلح الكندي قال عنه في التقريب: "صدوق شيعي". التقريب ص 25.
3 تقدم تخريجه ص 861.
(كان) ليست في الأصل وهي في - ح - ومصادر الرواية.
5 تقدم ذكر الشطر الأول منه في فضائل أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وقد ذكر تخريجه ص 848.(3/895)
قال أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه ـ: "إن كنا لنعرف المنافقين نحن معاشر الأنصار ببغضهم علي بن أبي طالب".1
وقالت أم سلمة - رضي الله عنها ـ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول2: " لا يحب عليا منافق ولا يبغضه مؤمن".3 وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن ربي أمرني بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم قيل يا رسول الله: منهم قال علي منهم، قالها ثلاثا وأبو ذر والمقداد وسلمان" 4.
وروى أنس بن مالك قال: "كان عند النبي صلى الله عليه وسلم طير فقال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي هذا الطير، فجاء علي - رضي الله عنه - فأكل
__________
1 أخرجه ت. كتاب المناقب (ب مناقب علي) 5/635 قال الترمذي: حديث غريب إنما نعرفه من حديث أبي هارون العبدي وقد تكلم شعبة في أبي هارون.
2 في الأصل (قال) وما أثبت من - ح -.
3 أخرجه ت كتاب المناقب (ب فضل علي - رضي الله عنه -) 5/635،حم 6/692، وفي فضائل الصحابة 2/619، وابن أبي عاصم في السنة 2/597 ومدار إسناده على مساور الحميري عن أمه عن أم سلمة - رضي الله عنها - ومساور الحميري مجهول ذكر ذلك الذهبي وابن حجر. انظر: ميزان الاعتدال 4/95، التقريب ص 333. وأمه مجهولة أيضا قال عنها ابن حجر: "لا يعرف حالها" التقريب 476 وقد حسن الحديث الترمذي وقال: "حسن غريب من هذا الوجه". والصحيح أن هذا الإسناد ضعيف للجهالة وقد وصف الذهبي الخبر بأنه منكر. انظر: ميزان الاعتدال 4/95. وللحديث شاهد صحيح من حديث علي - رضي الله عنه - قال: "والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إلي أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق" أخرجه م. كتاب الإيمان (ب الدليل على أن حب الأنصار وعلي من الإيمان) 1/86. ت. كتاب المناقب (ب فضل علي - رضي الله عنه - 5/643) وقال: "حسن صحيح".
4 أخرجه هذا الحديث عن بريدة - رضي الله عنه - ت. كتاب المناقب (ب مناقب علي - رضي الله عنه -) 5/636، جه 1/53، حم 5/356، وفي فضائل الصحابة 2/689، والحاكم في المستدرك كتاب معرفة الصحابة 3/130 وأبو نعيم في الحلية 1/172 وحسن الحديث الترمذي وقال الحاكم: "هو على شرط مسلم وفي إسناده شريك بن عبد الله القاضي". قال ابن حجر: "صدوق يخطئ كثيرا تغير حفظه منذ ولى القضاء" التقريب ص 145.(3/896)
معه"1.
وروي أن عمر - رضي الله عنه - قال: "آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه فجاء علي - رضي الله عنه - تدمع عيناه فقال: يا رسول الله آخيت بين أصحابك ولم توآخي بيني وبين أحد، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت أخي في الدنيا والآخرة"2.
وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا دار الحكمة وعلي بابها"3.
وروي عن سعيد بن أبي وقاص أنه قال: "ثلاث قالهن رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
1 أخرجه ت. كتاب المناقب (ب مناقب علي - رضي الله عنه -) 5/636 وقال: "غريب". وأخرجه الحاكم في المستدرك كتاب معرفة الصحابة 3/130 قال الذهبي في تلخيصه: "لقد كنت زمانا طويلا أظن أن حديث الطير لم يجسر الحاكم أن يودعه في مستدرك، فلما علقت هذا الكتاب رأيت الهول من الموضوعات التي فيه فإذا حديث الطير بالنسبة إليها سماء" انتهى.
وأخرج الحديث ابن الجوزي في العلل المتناهية من طرق عديدة عن أنس، وقال: "وقد ذكره ابن مردويه من نحو عشرين طريقا كلها مظلم وفيها مطعن"، ونقل عن محمد بن طاهر المقدسي قوله في الحديث: "كل طرقة باطلة معلولة" ثم قال: "حديث الطائر موضوع إنما يجئ من سقاط أهل الكوفة عن المشاهير والمجاهيل عن أنس وغيره". العلل المتناهية 1/225 - 234.
وقال ابن كثير في البداية والنهاية 7/383 - 387 بعد أن أورد جميع رواة الحديث: "الجميع بضعة وتسعون نفسا أقربها غرائب ضعيفة وأردؤها مختلفة مفتعلة وغالبها طرق واهية".
2 أخرجه ت كتاب المناقب (ب مناقب علي - رضي الله عنه -) 5/636، وابن عدي في الكامل 2/558 وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، وهذا الحديث يروى عن جميع بن عمير التيمي عن ابن عمر، قال البخاري عن جميع بن عمير التيمي عن ابن عمر: "فيه نظر"، وقال ابن عدي: "وعامة ما يرويه لا يتابعه غيره". انظر: المجروحين 1/218، الكامل 2/558، ميزان الاعدال 1/421، ضعيف الجامع الصغير 2/14
3أخرجه ت. كتاب المناقب (ب فضائل علي - رضي الله عنه -) 5/637، والحاكم في المستدرك كتاب معرفة الصحابة 3/126، وابن عدي في الكامل 1/193 - 195، وابن الجوزي في الموضوعات 1/349 – 354: "والحديث يروي عن علي وابن عباس وجابر بن عبد الله - رضي الله عنهم –". قال الترمذي بعد أن ذكر حديث علي: "هذا حديث غريب منكر"، وقال الحاكم: صحيح"، ورد عليه الذهبي بقوله: "بل موضوع"، وقال ابن الجوزي بعد أن ذكر طرق الحديث: "هذا حديث لا يصح من جميع الوجوه"، ثم نقل عن العلماء بيان ذلك. كما بين أنه منكر سندا ومتنا المعلمي في تعليقه المطول على الفوائد المجموعة ص 349 - 353.(3/897)
في علي لأن يكون لي واحدة منهن إلي من حمر النعم. سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لعلي وخلفه في بعض مغازيه، فقال له علي: يا رسول الله تخلفني مع النساء والصبيان؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي". وسمعته يقول يوم خيبر: "لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فتطاولنا لها فقال: ادعوا عليا فأتي وبه رمد فبصق في عينيه ودفع الراية إليه ففتح الله عليه، وأنزلت هذه الآية {تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ ... } 1. الآية، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة والحسن والحسين رضوان الله عليهم فقال: هؤلاء أهلي"2.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل عليا ليقرأ براءة على المشركين بمكة وقال: "لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي" 3. وهذا كله يدل على أنه يصلح للخلافة. وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم للقضاء بين أهل اليمن فقال رسول الله: "إنك بعثتني للقضاء إلى أقوام ذوي أسنان، وإني شاب لا أحسن القضاء وإني أخاف ألا أصيب، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على صدره وقال: اللهم علمه القضاء، وقال له: إن الله سيثبت قلبك ويهديك، ثم قال له: إذا جلس الخصمان بين يديك فلا تقضين حتى تسمع كلام آخر منهما، قال علي: "فما شككت في قضاء بعده"4.
__________
1 آل عمران آية (61) .
2 أخرجه م. كتاب فضائل الصحابة (ب فضل علي - رضي الله عنه -) 4/1871 ت. كتاب المناقب (ب مناقب علي - رضي الله عنه -) . 5/638.
3 أخرجه ت. كتاب التفسير (ب من سورة براءة) 5/275 حم 3/212، وفي فضائل الصحابة 2/562 من حديث أنس - رضي الله عنه -. قال الترمذي: "حديث حسن غريب من حديث أنس بن مالك"، وله شاهد صحيح من حديث أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -. أخرجه حم 1/3، وابن جرير الطبري في تفسيره 14/106 بتحقيق أحمد شاكر، وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند 1/156: "إسناده صحيح".
4 أخرجه د. كتاب الأقضية (ب كيف القضاء) 2/114، جه كتاب الأحكام (ب ذكر القضاة) 2/774، حم 1/83 - 88 - 11 - 136، وفي فضئل الصحابة 2/580 - 699 والحاكم في المستدرك كتاب معرفة الصحابة 3/135 وأبو نعيم في الحلية 4/381، والحديث عند ابن ماجة والحاكم وأبي نعيم وبعض الطرق عند الإمام أحمد من طريق أبي البختري عن علي - رضي الله عنه -، وهو إسناد منقطع فإن أبا البختري لم يسمع من علي شيئا كما قال ابن معين. انظر: التهذيب 4/73، وورد بإسناد آخر متصل عند أبي داود والإمام أحمد في المسند وفضائل الصحابة وفيه القاضي شريك وهو صدوق يخطئ كثيرا - انظر التقريب - ص 145، ورواه الإمام أحمد بإسناد آخر صحيح حيث تابع شريكا زائدة بن قدامة وهو ثقة ثبت. انظر: التقريب ص 105، ورواه أيضا من طريق آخر عن يحيى بن آدم قال حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي - رضي الله عنه -، وهذا إسناد صحيح قاله الشيخ أحمد شاكر في التعليق على المسند 2/677، وقوله في الحديث: "اللهم علمه القضاء" لم أقف عليه في شيء من الروايات في الكتب المتقدم ذكرها.(3/898)
ولقد ظهر منه من الفقه في قتال أهل البغي وفي مناظرته لهم ما لم يسبقه إليه أحد، حتى قال الشافعي - رضي الله عنه -: لولا حرب علي لمن خالفه ما عرفت السنة في قتال أهل القبلة1.
هذا مع ما2 فيه من الشجاعة وتدبير الحرب والجيوش على ما عرفه3 المخالف والمؤالف، حتى إنه بلغه عن بعض أهل زمانه أنه قال إن ابن أبي طالب رجل شجاع، لكن لا رأي له في الحرب فقال: "من ذا يكون أبصر بها مني وأشد لها مراسا، والله لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، وها أنا اليوم قد زدت على الستين ولكن لا إمرة لمن لا يطاع"4.
احتجت الخوارج ومن يطعن في إمامة علي - رضي الله عنه - من أهل الزيغ بأن بيعته لم تقع عن إجماع من الصحابة، لأنه روي أن طلحة والزبير قعدا في بيوتهما عن بيعته، فأخرج أهل البصرة طلحة فجاؤا به وخلفه حكيم بن جبلة يحذوه بالسيف، وأحدق أهل الكوفة بالزبير واخرجوه من بيته وخلفه
__________
1 لم أقف عليه.
2 في الأصل (معنى فيه) وما أثبت من - ح - وبه يستقيم الكلام.
3 في الأصل (والجيوش ما عرفوا) وما أثبت كما في - ح - وبه تستقيم العبارة.
4 لم أقف عليه.(3/899)
مالك بن الأشتر يحدوه بالسيف، فقيل لهما: بايعا فبايعا مكرهين، ولهذا قال طلحة: بايعت واللّج يعني السيف1 على قفىّ"2
والجواب عن هذا من وجهين:
أحدهما أن نقول: هذه الرواية من الخوارج من قبيل الرواية التي يرويها الشيعة أن عليا وطلحة والزبير أكرهوا علي بيعة أبي بكر، وأن عمر أتى بعلي يقوده بحبل أسود في عنقه مما لا يثبته أهل النقل وأصحاب الحديث، وبمثل هذه الرواية الشاذة لا يحكم بتفسيق اصحابة مع صحة الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بتفضيلهم وشهادته لهم بأنهم من أهل الجنة.
ويحمل قول طلحة واللج على قفىّ - يعني سيفه لنصرة علي - على لالج غيري3.
والجواب الثاني أن نقول: قد ثبتت بيعة علي وإمامته بيعة الجمهور من الصحابة قبل ذلك، وانقادوا له وصارت له الشوكة بطاعتهم له، فلا يقدح بها تخلف الواحد والاثنين وإكرههما على بيعته إكراه على حق كالحربي إذا أكره على كلمة الإسلام.4
احتجوا بأن طلحة والزبير قال: "إنما بايعنا عليا على أن يقتل قتلة عثمان".
وهذه مبايعة على شرط فإذا لم يوجد كانت باطلة ولهذا قال علي - رضي الله عنه -: "بايعاني في المدينة وخلعاني بالعراق".
__________
1 ذكر هذا أبو عبيد في غريب الحديث 4/10.
2 قفّى: هذا على لغة طي والمراد قفاى. انظر: غريب الحديث لابن عبيد 4/11.
3 هكذا في النسختين ولم يتبين لي معناها.
4 ما ذكر المصنف هنا غير وارد مع ما للصحابة - رضوان الله عليهم - من المكانة، واستحقاق علي - رضي الله عنه - للخلافة بعد ثمان أمر متفق عليه، فقد كانت الشورى بينهما بعد أن تنازل عنها بقية الستة، فلما قتل عثمان - رضي الله عنه - لم يكن أحد من الصحابة أولى منه، كما لم يعلم أن أحدا من الصحابة تخلف عن البيعة، وما حدث من عائشة - رضي الله عنها - ومن كان معها إنما هو مطالبة بقتلة عثمان الذين كان بعضهم في جيش علي - رضي الله عنه -، وكذلك ما وقع من معاوية - رضي الله عنه - لم يكن منازعة في الخلافة وإنما كان مطالبة بدم عثمان - رضي الله عنه -، مع أن الأمر كانت فيه فتنة عظيمة دخل فيها أصحاب الأهواء والأغراض فأكثروا الدس والكذب الذي تلبسه به الحق على بعض الناس والجميع كان مجتهدا. انظر: شرح العقيدة الطحاوية ص 545 - 547.(3/900)
والجواب: أنه لا يظن بعلي وطلحة والزبير وغيرهم من الصحابة - رضي الله عنهم - عقد الإمامة على الحكم بمذهب بعينه كما لا يصح عقد القضاء على الحكم بمذهب بعينه، وقتل الجماعة بالواحد مسئلة فقهية مختلف فيها والاعتماد فيها هلى حكم الإمام أو الحاكم وعلى أن قتلة عثمان كانوا قوما متفرقين في العسكر غير معنيين لم تقم عليهم بينه، ولا ثبت إقرارهم ولا حضر أولياء دم عثمان فكيف يجوز عقد الإمامة على حكم مخالف للشريعة1، والله أعلم.
__________
1 هذا الكلام فرع عن ثبوت أصله وهو الأثر السابق، لأن الفتنة في ذلك الوقت خاض فيها أصحاب الأهواء والأغراض الخبيثة وقد مر الكتابة على لسان عائشة - رضي الله عنها - ص 887، وردها - رضي الله عنها - ذلك وبراءتها منه وما قتل عثمان - رضي الله عنه - إلا مكيدة دبرت بليل من أعداء الإسلام، وكذلك كان الذي وقع بين الصحابة في الجمل، إنما الذي حمل الناس فيها على القتال قتلة عثمان ومن شايعهم من الجهال وأصحاب الأغراض. وكما تقدم فإن طلحة والزبير لم ينازعا عليا - رضي الله عنه - في الخلافة، وإنما طالباه بالقصاص من قتلة عثمان - رضي الله عنه -، ولم يعرجا على مسألة الخلافة، ولم يستنكرا عليه توليها فإنه أولى من بقي مع إعراضه - رضي الله عنه - أول الأمر وامتناعه عنها. انظر ما ذكره انب كثير عن موقعة الجمل في: البداية والنهاية 7/260.
وبه ينتهي التعليق على الكتاب والحمد لله أولا وآخرا وصلى الله علي سيدنا محمد وآل وصحبه وسلم تسليما كثيرا. المدينة النبوية 9/جمادى الأولى/1409هـ -.(3/901)
تم الكتاب بحمد الله ومنّه وحسن توفيقه وكان الفراغ منه في يوم الإثنين لثمان عشرة ليلة من شهر ربيع الآخر سنة سبع وسبعمائة غفر الله لكاتبه ولمالكه ولمقابله وللناظر إليه ولجميع المسلمين إنه هو الغفور الرحيم.(3/902)
ورد في آخر النسخة اليمانية - ح - ما نصه:
وكان الفراغ من زبرة نهار الجمعة تاسع عشرة من شعبان الكريم الواقع في سنة ست بعد الألف، وذلك في كنف تربة المؤلف سيدي الشيخ الإمام العالم العامل والنور الكامل والضياء الشامل العارف بالله الولي الرباني من شيد للملة أركان المباني، عماد الدين يحيى بن أبي الخير العمراني مصنف هذا الكتاب المسمى بالانتصار، رحمه الله رحمة الأبرار ودمّث الله مسالكه، وجعل الفردوس فذالكه. غفر الله لكاتبه وأصلح أحواله، وجعل استقباله أحسن من ماضيه وحاله، رحم الله عبدا قال، آمينا.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد من للرسل ختم، وعلى آله وصحبه وسلم عدد كل حرف جرى به القلم، وما نسجت السحب بمعذوذق الديم
ومن يجد عيبا سد الخللا ... فجل من لا عيب فيه وعلا
__________
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فبمن يلوذ ويستجير المجرم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
بخط محصله لنفسه الفقير إلى الله الباري عبد القادر بن أحمد الفناضي. عفى الله عنهما وتولاهما بحسن ولايته إنه على كل شيء قدير وصلى الله على من.... ختم.
بلغ مقابلة على الأصل المنقول عنه بحسب الطاقة والإمكان خامس عشر شهر شوال في سنة ست بعد الألف من الهجرة النبوية وحسبنا هو الله ونعم الوكيل.(3/903)
مصادر ومراجع
...
قائمة المراجع
1 - الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية - تأليف الإمام أبي عبد الله بن بطة العبكري - تحقيق رضاء بن نعسان معطي - دار الراية للنشر والتوزيع - الطبعة الأولى 1409هـ.
2 - الإبانة عن أصول الديانة - تأليف أبي الحسن الأشعري - تحقيق عبد القادر الأرناؤوط - مكتبة دار البيان - الطبعة الأولى 1401هـ.
3 - إبطال التأويلات لأخبار الصفات - تأليف القاضي أبي يعلى - مخطوط مصور في الجامعة الإسلامية المنورة.
4 - أبو الحسن الأشعري وعقيدته - تأليف الشيخ حماد بن محمد الأنصاري - الطبعة الثانية 1395هـ.
5 - إثبات صفة العلو - تأليف الإمام موفق الدين بن قدامة - تحقيق بدر بن عبد الله بن البدر - الدار السلفية - الطبعة الأولى 1406هـ.
6 - اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية - تأليف الإمام ابن قيم الجوزية - الناشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.
7 - الأحكام السلطانية - تأليف أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي - راجعه محمد فهمي الشرجان - الناشر المكتبة التوفيقية.
8 - الإحكام في أصول الأحكام - تأليف سيف الدين علي بن محمد الآمدي - دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع - الطبعة الأولى 1401هـ.
9 - إحياء علوم الدين - تأليف أبي حامد الغزالي - مطبعة مصطفى البابي الحلبي - بمصر 1358هـ.
10 - أخبار البحتري - تأليف أبي بكر محمد الصولي - تحقيق د. صالح الأشتر - دار الفكر بدمشق - الطبعة الثانية 1384هـ.
11 - الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية - تأليف الإمام عبد الله بن مسلم بن قتيبة - ضمن عقائد السلف.
12 - أديان الهند الكبرى - تأليف د. أحمد شلبي - الطبعة الثانية 1984م مكتبة النهضة المصرية.
13 - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل - تأليف محمد ناصر الدين الألباني - بإشراف محمد زهير الشاويش - المكتب الإسلامي - الطبعة الثانية 1405هـ.(3/947)
14 - الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد - تأليف إمام الحرمين أبي المعالي الجويني - تحقيق أسعد تميم - مؤسسة الكتب الثقافية - الطبعة الأولى 1405هـ.
15 - الاستيعاب في معرفة الأصحاب بهامش الإصابة - تأليف الإمام أبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر - تحقيق طه محمد الزينى - الناشر مكتبة الكليات الأزهرية - القاهرة - الطبعة الأولى.
16 - الإصابة في تمييز الصحابة - تأليف الحافظ ابن حجر - تحقيق طه محمد الزيني - الناشر مكتبة الكليات الأزهرية - القاهرة - الطبعة الأولى.
17 - أصول الدين - تأليف أبي منصور عبد القاهر البغدادي - دار الكتب العلمية - بيروت لبنان - مصورة عن الطبعة الأولى في استنبول 1346هـ.
18 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - تأليف الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - طبع وتوزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية الرياض 1403هـ.
19 - الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد - تأليف الحافظ أبي بكر البيهقي - تعليق كمال يوسف الحوت - عالم الكتب.
20 - الإمامة والرد على الرافضة - تأليف الحافظ أبي بكر نعيم الأصبهاني تحقيق د. علي بن محمد ناصر الفقيهي - مكتبة العلوم والحكم - المدينة المنورة - الطبعة الأولى 1407هـ.
21 - الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة - تأليف عبد الله بن عمر بن سليمان الدميحي - دار طيبة للنشر والتوزيع - الرياض - الطبعة الأولى 1407هـ.
22 - الأموال - للحافظ أبي عبيد القاسم بن سلام - تحقيق محمد خليل هراس - مكتبة الكليات الأزهرية 1395هـ.
23 - الأنساب - تأليف أبي سعيد عبد الكريم بن محمد التميمي السمعاني - اعتنى بنشره المستشرق د. س مرجليوت - أعادت طبعة بالوفست مكتبة المثنى ببغداد.
24- الإيمان - تأليف الحافظ أبي بكر بن أبي شيبة - تحقيق محمد ناصر الدين الألباني - نشر وتزيع دار الأرقم - الكويت.
25- الإيمان معالمه وسننه - تأليف الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام - تحقيق محمد ناصر الدين الألباني - نشر وتوزيع دار الأرقم - الكويت.
26- الإيمان - تأليف الحافظ محمد بن إسحاق بن منده - تحقيق د. علي بن محمد ناصر الفقيهي - مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة - الطبعة الأولى 1401هـ.
27 - الإيمان - تأليف الحافظ محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني - تحقيق حمد بن حمدي الجابري الحربي - الدار السلفية - الكويت - الطبعة الأولى 1407هـ.(3/948)
28 - البداية والنهاية - تأليف المؤرخ الحافظ عماد الدين بن كثير - تحقيق محمد عبد العزيز النجار - دار الصمعي للنشر والتوزيع - الرياض - مطبعة السعادة.
29 - البرهان في معرفة عقائد أهل الأديان - تأليف عباس بن منصور السكسكي الحنبلي - تحقيق خليل إبراهيم الحاج - دار التراث العربي للطباعة والنشر - الطبعة الأولى 1400هـ.
30 - بغية المستفيد في تاريخ مدينة زبيد - تأليف عبد الرحمن بن علي ابن الربُيَع - تحقيق عبد الله الحبشي مركز الدراسات اليمانية - صنعاء
31 - بيان تلبيس الجهمية - تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية - تصحيح وتكميل محمد بن عبد الرحمن بن قاسم - الطبعة الأولى 1392هـ مطبعة الحكومة - مكتبة المكرمة.
32 - تاريخ الأمم والملوك - تأليف الإمام أبي جعفر بن جرير الطبري - تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم - دار سويدان - بيروت، لبنان.
33 - تاريخ بغداد - تأليف الحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي - دار الكتب العلمية - بيروت العلمية.
34 - تاريخ الخلفاء - تأليف جلال الدين السيوطي - تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد.
35 - تاريخ الفرقد الزيدية بين القرنين الثاني والثالث الهجري - د. فضيلة بنت عبد الأمير الشامي - مطبعة الآداب - النجف 1394هـ.
36 - تاريخ المدينة المنورة - تأليف أبي زيد عمر بن شبه النميري - تحقيق عبد الله محمد الحبشي.
37 - تاريخ اليمين المسمى بهجة الزمن في تاريخ اليمن - تأليف تاج الدين عبد الباقي بن عبد المجيد اليماني - تحقيق مصطفى حجازي - دار العودة - بيروت - دار الكلمة - صنعاء.
38 - تأويل مختلف الحديث - تأليف الإمام ابن قتيبة الدينوري - دار الكتاب العربي بيروت.
39 - التبصير في الدين - تأليف أبي المظفر الاسفرائيني - تحقيق كمال يوسف الحوت - عالم الكتب - الطبعة الأولى 1403هـ.
40 - التبيان في أقسان لاقرآن - تأليف الإمام ابن القيم - علق عليه محمد حامد الفقي - المكتبة التجارية -، مصر - الطبعة الأولى 1352هـ.
41 - تبيين كذب المفتري - تأليف الحافظ ابن عساكر الدمشقي - دار الفكر بدمشق - الطبعة الثانية 1399هـ.
42 - تحفة المريد على جوهرة التوحيد - تأليف إبراهيم البيجزري - مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح - القاهرة.(3/949)
43 - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي - تأليف جلال الدين عبد الرحمن السيوطي - حققه عبد الوهاب عبد اللطيف - دار الكتب الحديثة - الطبعة الثانية 1385هـ.
44 - تذكرة الحفاظ - تأليف الحافظ الذهبي - دار إحياء التراث العربي.
45 - تعجيل المنفعة بزوائد رجال الأئمة الأربعة - تأليف الحافظ أحمد بن علي بن حجر - الناشر دار الكتاب العربي - بيروت، لبنان.
46 - التعريفات - تأليف علي بن محمد الجرجاني - ضبط جماعة من العلماء - الناشر دار الكتب العلمية - بيروت - الطبعة الأولى 1403هـ.
47 - تعظيم قدر الصلاة - تأليف الإمام محمد بن نصر المروزي - حققه د. عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي - مكتبة الدار بالمدينة المنورة الطبعة الأولى 1406هـ.
48 - تفسير الجلالين - تألأيف جلال الدين السيوطي وجلال الدين المحلى بهامش تفسير البيضاوي - مطبعة مصطفى البابي الحلبي - الطبعة الثانية 1388هـ.
49 - تفسير الطبري - تأليف الإمام أبي جعفربن جرير الطبري - تحقيق أحمد محمد شاكر - دار المعارف - مصر.
50 - تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم) . تأليف الحافظ أبي الفداء إسماعيل ابن كثير - طبع دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي وشركاه.
51 - تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن) تأليف الإمام أبي عبد الله محمد القرطبي - تحقيق أبي إسحاق إبراهيم اصفيش.
52 - تقريب التهذيب - تأليف الحافظ ابن حجر العسقلاني - دار نشر الكتب الإسلامية - كوجرانواله - باكستان - الطبعة الأولى 1393هـ.
53 - تلبيس إبليس - تأليف الإمام أبي عبد الرحمن بن الجوزي - الناشر مكتبة المدني للطباعة والنشر.
54 - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد - تأليف أبي عمر يوسف بن عبد البر النمري - طبع وزارة الأوقاف المغربية.
55 - تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل - تأليف القاضي أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني - تحقيق عماد الدين أحمد حيدر - مؤؤسة الكتب الثقافية - الطبعة الأولى 1407هـ.
56 - التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع - تأليف أبي الحسين محمد بن أحمد الملطي الشافعي - قدم له محمد زاهد الكوثري - مكتبة المثنى ببغداد 1388هـ.
57 - تهافت الفلاسفة - تأليف أبي حامد الغزالي - تحقيق سليمان دنيا - دار المعارف - الطبعة السادسة.(3/950)
58 - تهذيب التهذيب - تأليف الحافظ شهاب الدين بن حجر العسقلاني - مطبعة مجلس دائر المعارف النظامية بحيدر آباد الدكن - الطبعة الأولى 1326هـ.
59 - تهذيب الأسماء واللغات - تأليف الإمام أبي زكريا النووي - دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان.
60 - تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد - تألأيف الشيخ سليمان ابن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب - مكتبة الرياض الحديثة.
61 - توالي التأسيس لمعالي محمد بن إدريس - تأليف الحافظ ابن حجر - تحقيق أبي الفداء عبد الله القاضي - دار الكتب العلمية - الطبعة الأولى 1406هـ.
62 - التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل - تأليف الإمام أبي بكر بن خزيمة - دراسة وتحقيق د. عبد العزيز بن إبراهيم الشهوان - دار الرشد - الرياض - الطبعة الأولى 1408هـ.
63 - تفسير ابن جرير (جامع البيان) تأليف أبي جعفر محمد بن جرير الطبري - مطبعة مصطفى البابي الحلبي - الطبعة الثالثة 1388هـ.
64 - جامع بين العلم وفضله - تأليف ابن عبد البر النمري - دار الكتب العلمية - بيروت لبنان.
65 - جامع العلوم والحكم - تأليف أبي الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي - الناشر مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي الرابعة 1393هـ.
66 - الجرح والتعديل - تأليف شيخ الإسلام أبي محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم - الطبعة الأولى بمطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية - بحدير آباد الدن - الهند.
67 - جلاء العينين في محاكمة الأحمدين - تأليف السيد نعمان خير الدين ابن الألوسي - مطبعة المدني - القاهرة.
68 - حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح - تأليف ابن القيم - دار الكتب العلمية بيروت، لبنان.
69 - الحركات الباطنية في العالم الإسلامي - تأليف د. محمد أحمد الخطيب - الطابعون: - جمعية عمال المطابع التعاونية - الطبعة الأولى 1404هـ.
70 - حق اليقين في معرفة أصول الدين - تأليف عبد الله شبر - دار الأضواء - بيروت - لبنان الطبعة الأولى 1404هـ 1983م.
71 - حلية الأولياء - تأليف الحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني - دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان.(3/951)
72 - الحيدة - تأليف عبد العزيز الكناني - من مطبوعات الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
73 - الخطط للمقريزي (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار) - تأليف تقي الدين أبي العباس المقريزي - دار صادر - بيروت.
74 - خلق أفعال العباد - تأليف الإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري - الناشر أبو خالد عبد الوكيل الهامشي - طبع النهضة الحديثة 1389هـ.
75 - خلق أفعال العباد - تأليف الإمام محمد بن إسماعيل البخاري - ضمن عقائد السلف.
76 - درء تعارض العقل والنقل - تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية - تحقيق د. محمد رشاد سالم - طبع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الطبعة الأولى 1401هـ.
77 - الدر المنثور في التفسير المأثور - تأليف جلال الدين السيوطي دار الفكر - بيروت، لبنان الطبعة الأولى 1403هـ.
78 - دلائل النبة - تأليف الحافظ أبي نعيم الأصبهاني - خرج أحاديثه المعطى قلعجي - دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان - الطبعة الأولى 1405هـ.
79 - دلائل النبوة - تأليف أبي بكر البيهقي - تعليق د. عبد المعطي قلعجي - دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان - الطبعة الأولى 1405هـ 80 - ديوان الخطيئة، برواية وشرح ابن السكيت - تحقيق د. نعمان محمد أمين - مكتبة الخانجي - القاهرة - الطبعة الأولى 1407هـ.
81 - ديوان الخنساء - دار صادر - بيروت.
82 - ديوان العجاج - تحقيق د. عبد الحفيظ السطلي - توزيع مكتبة أطلس - دمشق.
83 - ديوان القطامي - تقديم ميسو برت - ليدن 1902م.
84 - ديوان النابغة الذبياني - شرح وتقديم عباس عبد الساتر - دار الكتب العلمية - بروت، لبنان.
85 - رد الدارمي علي بن بشر المريسي - تأليف الإمام عثمان بن سعيد الدارمي - علق عليه محمد حامد الفقي - دار الكتب العلمية - بيروت - عن الطبعة الأولى 1358هـ.
86 - الرد على الزنادقة والجهمية - تأليف الإمام أحمد بن حنبل - ضمن عقائد السلف - بعناية، علي سامي النشار ورفقه - الناشر منشأة المعارف بالاسكندرية.
87 - الرد على من أنكر الحرف والصوت - تأليف الإمام أبي نصر السجزي - تحقيق محمد كريم ابن عبد الله - رسالة ماجستير في الجماعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
88 - رسالة في الذب عن أبي الحسن الأشعري - تأليف أبي القاسم عبد الملك بن درباس مع(3/952)
كتابه الأربعين في التوحيد - تحقيق د. علي بن محمد بن ناصر الفقيهي - الطبعة الأولى 1404هـ.
89 - الرسالة التدمرية - تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية - الكبعة الثالثة 1400هـ.
90 - الرسالة - تأليف الإمام محمد بن إدريس الشافعي - تحقيق أحمد محمد شاكر.
91 - الروح - تأليف الإمام ابن القيم - دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان.
92 - روضة الناظر مع شرحها - موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي - المطبعة السلفية - الطبعة الرابعة 1391هـ.
93 - الرياض النضرة في مناقب العشرة - تأليف المحب الطبري - دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان - الطبعة الأولى 1405هـ.
94 - زاد المعاد في هدي خير العباد - تأليف الإمام ابن القيم - تحقيق شعيب الأرنوؤط وأخيه - مؤسسة الرسالة - الطبعة الثانية 1405هـ.
95 - الزهد - تأليف الإمام وكيع بن الجراح - تحقيق د. عبد الرحمن الفريوائي مكتبة الدار - الطبعة الأولى 1404هـ.
96 - الزيدية - د. أحمد محمود صبحي - الناشر - الزهراء للأعلام العربي الطبعة الثانية 1404هـ.
97 - سنن ابن ماجة - تأليف الحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني ابن ماجه - تحقيق وترقيم - محمد فؤاد عبد الباقي - دار الفكر للطباعة والنشر.
98 - سنن الدارقطني - تأليف الإمام علي بن عمر الدارقطني مع التعليق المغني - طبع مطبعة فالكن - لاهور بكستان.
99 - سنن الدارمي - تأليف الحافظ عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي - بعناية محمد أحمد دهمان - المطبعة الحديثة - دمشق عام 1349هـ.
100 - سنن الترمذي (الجامع الصحيح) تأليف الحافظ أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة - تحقيق أحمد شاكر وجماعة - دار إحياء التراث العربي - بيروت.
101 - سنن النسائي مع شرح السيوطي وحاشية السندي - تألأيف الحافظ أبي عبد الرحمن أحمد ابن شعيب النسائي - دار الفكر - بيروت 1398هـ.
102 - السنة - تأليف الإمام أبي عبد الرحمن عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل تحقيق د. محمد بن سعيد القحطاني دار ابن القيم الطبعة الأولى 1406هـ.
103 - السنة تأليف الحافظ ابن أبي عاصم النبيل - تحقيق محمد ناصر الدين الألباني - المكتب الإسلامي - الطبعة الأولى 1400هـ.(3/953)
104 - السنة - تأليف أبي بكر أحمد بن محمد الخلال - تحقيق د. عطية الزهراني - دار الراية للنشر الوتزيع - الرياض - الطبعة الأولى 1410هـ.
105 - سير أعلام النبلاء - تأليف سمش الدين محمد بن أحمد الذهبي - أشرف علي التحقيق شعيب الأرناؤوط - مؤسسة الرسالة - بيروت - الطبعة الأولى 1402هـ.
106 - السيرة النبوية تأليف أبي محمد عبد الملك بن هشام - تقديم طه عبد الرؤوف - مطبوعات مطبعة الحاج عبد السلام شقرون.
107 - سلسلة الأحاديث الصحيحة - تأليف محمد ناصر الدين الألباني - المكتب الإسلامي دمشق - بيروت - الطبعة الثانية 1399هـ.
108 - سلسلة الأحاديث الضعيفة - تأليف محمد ناصر الألباني - المكتب الإسلامي دمشق - بيروت - الطبعة الرابعة 1389هـ.
109 - الأسماء والصفات - تأليف الحافظ أبي بكر البيهقي - دار الكتب العلمية بيروت، لبنان الطبعة الأولى 1405هـ.
110 - شرح أبيات مغني اللبيب - عبد القادر بن عمر البغدادي - تحقيق عبد العزيز رباح ورفيقه - دار المأمون للتراث - الطبعة الأولى 1398هـ.
111 - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - تأليف الإمام أبي القاسم هبة الله اللالكائي - تحقيق د. أحمد سعد حمدان - الناشر دار طيبة للنشر والتوزيع - الرياض.
112 - شرح الأصول الخمسة - تأليف القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني تحقيق د. عبد الكريم عثمان - مكتبة وهبه - مصر - الطبعة الأولى 1384هـ.
113 - شرح ديوان جرير - محمد إسماعيل الصاوي - منشورات مكتبة الحياة بيروت، لبنان.
114 - شرح ديوان الفرزدق - جمع وتعليق عبد الله الصاوي - مطبعة الصاوي - الطبعة الأولى 1354هـ.
115 - شرح السنة - تأليف الإمام البغوي - تحقيق زهير الشاويش - توزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية - الرياض - الطبعة الأولى 1400هـ.
116 - شرح العقيدة الأصفهانية - تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية - دم له حسين محمد مخلوف - دار الكتب الإسلامية - القاهرة.
117 - شرح العقيدة الطحاوية - تحقيق جماعة من العلماء - خرج أحاديثها محمد ناصر الدين الألباني - المكتب الإسلامي - الطبعة الرابعة 1391هـ.
118 - شرح القصائد العشر - تأليف أبي زكريا يحيى التبريزي - ضبطه وصحح عبد السلام الجوفي - توزيع دار الباز - مكة المكرمة - الطبعة الأولى 1405هـ.(3/954)
119 - شرح القصيدة الميمية - تأليف الإمام ابن القيم - عرض وتحليل مصطفى عراقي - الناشر مكتبة ابن تيمية - القاهرة.
120 - شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري - تأليف الشيخ عبد الله بن محمد الغنيمان - توزيع مكتبة الدار بالمدينة المنورة - الطبعة الأولى 1405هـ.
121 - شرح الكوكب المنير - تأليف أبي البقاء محمد بن أحمد الفتوحي الحنبلي - تحقيق محمد حامد فقي - مكتبة السنة المحمدية - الطبعة الأولى عام 1372هـ.
122 - شرف أصحاب الحديث - تأليف الحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي - تحقيق د. محمد سعيد أوغلي - نشر دار إحياء السنة النبوية نشر كلية الألهيات - جامعة انفزة.
123 - الشريعة - تأليف الإمام أبي بكر محمد بن الحسن الآجري - تحقيق محمد حامد الفقي - الناشر حديث أكادمي باكستان - الطبعة الأولى 1403هـ.
124 - شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل - تأليف الإمام ابن القيم - دار المعرفة للطباعة والنشر - بيروت، لبنان 1389هـ.
125 - صحيح البخاري - تأليف الإمام محمد بن إسماعيل البخاري - تحقيق وتعليق محمود النواوي ورفاقه - الناشر مكتبة النهضة الحديثة، مطبعة الفجالة الجديدة 1376هـ.
126 - صحيح مسلم - تأليف الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج - تحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي - دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي وشركاه.
127 - صحيح مسلم بشرح النووي - تأليف الإمام محي الدين أبو زكريا النووي دار إحياء التراث العربي - بيروت.
128 - الصفات - تأليف الإمام الحافظ الدارقطني - تحقيق د. علي بن محمد الفقيهي - الطبعة الأولى 1403هـ.
129 - الصفات الإلهية في الكتاب والسنة - د. محمد أمان بن علي الجامي - مطبعة الجامعة الإسلامية - المجلس العلمي - الطبعة الأولى 1408هـ.
130 - صفة النفاق وذم المنافقين - تأليف أبي بكر الفريابي - تحقيق محمد عبد القادر عطا - دار الكتب العلمية - الطبعة الأولى 1405هـ.
131 - الصلة بين الزيدية والمعتزلة - تأليف د. أحمد عبد الله عارف - تقديم د. محمد عمارة - المكتبة اليمنية - صنعاء - الطبعة الأولى ذ407هـ.
132 - الصواعق المرسلة - تأليف الإمام ابن القيم - تحقيق د. علي بن محمد الدخيل الله - دار العاصمة - الرياض - النشرة الأولى 1408هـ.(3/955)
133 - ضوء الساري إلى معرفة رؤية الباري.
134 - طبقات الشافعية الكبرى - تأليف تاج الدين عبد الوهاب بن علي السكبي - تحقيق عبد الفتاح محمد الحلو ورفيقه - الطبعة الأولى 1385هـ - بمطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه.
135 - طبقات الشافعية - تأليف أبي بكر أحمد بن محمد ابن قاضي شهبة علق عليهد. الحافظ عبد العليم خان - مكتبة العلم - مكة المكرمة - الطبعة الأولى - مطبعة مجلس دائرة المعارف - الهند.
136 - طبقات فقهاء اليمن - تأليف عمر بن علي بن سمرة الجعدي - تحقيق فؤاد سيد - دار القلم - بيروت، لبنان.
137 - الطبقات الكبرى - تأليف محمد بن سعد بمن منيع - دار صادر - بيروت.
138 - طريق الهجرتين وباب السعاتين - تأليف الإمام ابن القيم - مراجعة السيد محب الدين الخطيب - المطبعة السلفية - القاهرة - الطبعة الثالثة 1400هـ.
139 - عالم الجن والشياطين - تأليف عمر سليمان الأشقر - دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان - الطبعة الثانية 1405هـ.
140 - العبر في خبر من غبر - تأليف الحافظ الذهبي - تحقيق وضبط أبو هاجر محمد بسيوني - دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان الطبعة الأولى 1405هـ.
141 - عقيدة أهل الإيمان في خلق آدم على صورة الرحمن - تأليف حمود بن عبد الله التويجري - دار اللواء للنشر والتوزيع - الرياض.
142 - عقيدة الدروز - تأليف محمد أحمد الخطيب - الطابعون - جمعية عمال المطابع التعاونية - الطبعة الأولى 1400هـ.
143 - العقيدة النظامية - تأليف أبي المعالي عبد الملك الجويني - تقديم وتحقيق د. أحمد حجازي السقا - الناشر مكتبة الكليات الأزهرية - القاهرة 1399هـ.
144 - العلل المتناهية في الأحاديث الواهية - تأليف الإمام أبي الفرج بن الجوزي - تحقيق إرشاد الحق الأثري - الناشر إدارة العلوم الأثرية فيصل أباد - الباكستان الثانية 1401هـ.
145 - العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشايخ - تأليف صالح بن محمد المقلبي - دار الحديث للطباعة والنشر - بيروت - الطبعة الثانية 1405هـ.
146 - العلو للعلي الغفار - تأليف الحافظ الذهبي - الناشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة.
147 - العنوان في القراءات السبع - تأليف أبي طاهر إسماعيل بن خلف الأنصاري - تحقيق د. زهير زاهد ورفيقه - عالم الكتب - الطبعة الثانية 1406هـ.(3/956)
148 - غاية المرام في علم الكلام - تأليف سيف الدين الآمدي - تحقيق حسن محمود عبد اللطيف - مطبوعات المجلس الأعلى للشئون الإسلامية في مصر.
149- غربال الزمان في وفيات الأعيان - تأليف يحيى بن أبي بكر العامري الحرضي اليماني - تصحيح وتعليق محمد ناجي زعبي العمر - دار الخير للنشر والتوزيع - دمشق 1405هـ.
150- غريب الحديث - تأليف أبي عبيد القاسم بن سلام الهروي - مصور عن طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن 1396هـ.
151- غياث الأمم في التياث الظلم - تأليف إمام الحرمين أبي المعالي الجويني - تحقيق مصطفى حلمي ورفيقه - دار الدعوة للطبع والنشر الاسكندرية - أول مطبعة.
152- الفرق بين الفرق - تأليف عبد القاهر بن طاهر الإسفرائيني - تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد - الناشر دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت - لبنان.
153- فرق الشيعة - تأليف الحسن بن موسى النوبختي - منشورات دار الأضواء بيروت - لبنان - الطبعة الثانية 1404هت.
154- فرق وطبقات المعتزلة - تحقيق د. علي سامي النشار - الأستاذ عصام الدين محمد علي - دار المطبوعات الجامعية 1972 م.
155- فردوس الأخبار- تأليف الحافظ شيرويه بن شهر دار الديلمي - قدم له فواز أحمد الزولي ورفيقه - الناشر دار الكتاب العربي - بيروت - الطبعة الأولى 1407هـ.
156- فتح الباري شرح صحيح البخاري - تأليف الحافظ ابن حجر - تصحيح وتعليق الشيخ عبد العزيز بن باز - نشر وتوزيع رئاسة إدارات البحوث العلمية بالمملكة العربية السعودية.
157- فتح المجيد بشرح كتاب التوحيد - تأليف الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ - الناشر المكتبة السلفية بالمدينة - الطبعة السابعة 1399هـ.
158- فتح القدير الجامع بين فن الرواية والدارسة - تأليف محمد بن علي الشوكاني - مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر - الطبعة الثانية 1383هـ
159- الفتوى الحموية الكبرى - تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية - نشر قصي محيي الدين الخطيب - المطبعة السلفية - القاهرة - الطبعة الرابعة 1401هـ.
160 الفصل في الملل والأهواء والنحل - تأليف أبي محمد علي بن حزم الناشر مكتبة الخانجي بمصر.
161 فضائل الصحابة - تأليف الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل - تحقيق وصي الله بن محمد عباس مؤسسة الرسالة - الطبعة الأولى - 1403هـ.(3/957)
162 الفقه الأكبر - تأليف الإمام أبي حنيفة النعمان مع شرحه لملا علي القاري - دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان 1399هـ.
163 الفهرست لابن النديم - توزيع دار الباز للنشر والتوزيع - مكة المكرمة الناشر - دار المعرفة للطباعة والنشر - بيروت، لبنان.
164 فيض القدير شرح الجامع الصغير - تأليف المحدث عبد الرؤوف المناوي دار المعرفة للطباعة والنشر - بيروت لبنان - الطبعة الثانية 1391هـ.
165- القاموس المحيط - تأليف مجد الدين الفيروز آبادي - مؤسسة الرسالة الطبعة الثانية 1408هـ.
166- قواعد القاعدة - تأليف أبي حامد الغزالي - تحقيق موسى محمد علي - عالم الكتب - الطبعة الثانية 1405هـ.
167- الكامل في التاريخ - تأليف أبي الحسن علي بن الأثير - الناشر دار الكتاب العربي بيروت، لبنان.
168- الكامل في ضعفاء الرجال - تأليف الحافظ أبي أحمد بن عدي - دار الفكر للطباعة والنشر - بيروت، لبنان الطبعة الأولى 1404هـ.
169- الكشاف - تأليف أبي القاسم جار الله محمود الزمخشري - دار المعرفة بيروت، لبنان.
170- كشف الأستار عن زوائد البزار - تأليف الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي - تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي - مؤسسة الرسالة - الطبعة الأولى 1405هـ.
171- الكفاية غب علم الرواية - تأليف الحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي - تقديم محمد الحافظ التيجاني - طبع ونشر - دار الكتب الحديثة بالقاهرة - الطبعة الثانية.
172- كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال - تأليف علي المتقي بن حسام الدين الهندي - ضبطه الشيخ بكري حيان - مؤسسة الرسالة - بيروت لبنان 1399هـ.
173- لباب الآداب - تأليف الأمير أسامة بن منفذ - تحقيق أحمد شاكر - دار الكتب السلفية - القاهرة 1407هـ.
174- لسان العرب - تأليف أبي منظور - دار المعارف.
175- لسان الميزان - تأليف الحافظ ابن حجر - دار الفكر للطباعة والنشر.
176- اللطائف السنية في أخبار الممالك اليمنية - تأليف محمد بن إسماعيل الكبسي الصنعاني - بعناية عبد الله بن محمد الكبسي - مطبعة السعادة.
177- اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع - تأليف أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري - نشر وتشارد يوسف مكارتي - المطبعة الكاثوليكية - بيروت 1952م.(3/958)
178- لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية - تأليف الشيخ محمد بن أحمد السفاريني الحنبلي - مطبعة المدني بمصر - القاهرة.
179- المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين - تأليف الحافظ محمد ابن حبان بن أحمد أبي حاتم البستي - تحقيق محمود إبراهيم زايد الناشر - دار الوعي - حلب، سوريا - الطبعة الثانية 1402هـ.
180- مجمع المثال - تأليف أبي الفضل أحمد بن محمد الميداني - تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم - طبع عيسى البابي الحلبي وشركاه.
181- مجمع الزوائد - تأليف الحافظ نور الدين الهيثمي - الناشر - دار الكتاب العربي - بيروت، لبنان - الطبعة الثالثة 1402هـ.
182- مجموع الفتاوى - تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية - طبعة الرئاسة العامة للأفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية - صورة عن الطبعة الأولى 1398هـ.
183- المحدث الفاصل بين الراوي والواعي - تأليف الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي - تحقيق محمد عجاج الخطيب - دار الفكر للطباعة والنشر الطبعة الثالثة 1404هـ.
184- محمد بن عثمان بن أبي شيبة وكتابه العرش - دراسة وتحقيق د. محمد بن خليفة التميمي - رسالة ماجستير في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
185- مختار الصحاح - تأليف زين الدين محمد الرازي - ترتيب محمود خاطر ورفيقة - دار البصائر - مؤسسة الرسالة 1405هـ.
186 - مختصر سنن أبي داود للحافظ المنذري - تحقيق أحمد شاكر ومحمد حامد الفقي - توزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية - الناشر دار المعرفة - بيروت، لبنان.
187- مختصر الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة- تأليف الإمام ابن القيم - دار الفكر.
188- مختصر العلو للعلي الغفار - اختصار محمد ناصر الدين الألباني - المكتب الإسلامي - الطبعة الأولى 1401هـ.
189- مختصر المعتمد في أصول الدين - تأليف أبي يعلى الحنبلي - دار المشرق - بيروت - تحقيق وديع زيدان حداد.
190- المدارس الإسلامية في اليمن - تأليف إسماعيل بن علي الأكوع - منشورات جامعة صنعاء 1400هـ.(3/959)
191- مذكرة أصول الفقه على روضة الناظر - تأليف الشيخ محمد الأمين بن المختار الشنقيطي - المكتبة السلفية - المدينة المنورة.
192- المؤتلف والمختلف - أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي - تعليق د./ف. كرنكو - دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان - الطبعة الثانية 1402هـ.
193- مسائل الإيمان - تأليف القاضي أبي يعلى الفراء الحنبلي - تحقيق سعود بن عبد العزيز الخلف - دار العاصمة - الرياض - النشرة الأولى 1410هـ.
194- المساعد على تسهيل الفوائد - تأليف الحافظ بهاء الدين بن عقيل - تحقيق د. محمد كامل بركات - مركز البحث العلمي في كلية الشريعة بمكة المكرمة مطبعة دار الفكر بدمشق 1400هـ.
195- المستدرك على الصحيحين - تأليف الحافظ أبي عبد الله الحاكم - بأشراف يوسف عبد الرحمن المرعشلي - دار المعرفة - بيروت، لبنان.
196- مستدرك على نهج البالغة - تأليف الهادي الكاشف الغطا - منشورات مكتبة الأندلس - بيروت، لبنان.
197- المستصفى من علم الأصول - تأليف أبي حامد محمد بن محمد الغزالي - الناشر دار المعرفة للطباعة والنشر - بيروت، لبنان - المطبعة الأميرية ببولاق - مصر 1324هـ الطبعة الأولى.
198- مسند الإمام أحمد بن حنبل - تأليف الإمام أحمد بن حنبل - دار صادر بيروت، لبنان.
199- مسند الشهاب - تأليف القاضي أبي عبد الله محمد بن سلامة القضاعي - تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي - مؤسسة الرسالة - الطبعة الأولى 1405هـ.
200- مصادر الفكر الإسلامي في اليمن - تأليف عبد الله محمد الحبشي المكتبة المصرية - صيداً بيروت 1408هـ.
201- مصباح العلوم في معرفة الحي القيوم - تأليف أحمد بن الحسن الرصاص - أعده للطبع محمد عبد السلام كفافي - طبع دار الأحد - بيروت 1971م.
المصنف - تأليف الحافظ عبد الرزاق بن همام الصنعاني - تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي - توزيع المكتب الإسلامي - الطبعة الثانية 1403هـ.
202- المصنف في الأحاديث والآثار - تأليف الحافظ عبد الله بن محمد بن أبي شيبة - بتحقيق مختار أحمد الندوي - الدار السلفية - محمد علي بلديج - بومباي الهند - الطبعة الأولى 1401هـ.(3/960)
203- معارج القبول - تأليف حافظ بن أحمد الحكمي - أشرف على طبعه أحمد بن حافظ الحكمي - المكتبة السلفية القاهرة - الطبعة الثالثة 1404هـ.
204- معالم السنن بهامش مختصر سنن أبي داود - تأليف أبي سليمان الخطابي تحقيق أحمد محمد شاكر ومحمد حامد الفقي - توزيع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية - الرياض - الناشر دار المعرفة - بيروت، لبنان.
205- معاني القرآن - تأليف أبي زكريا يحيى بن زياد الفراء - عالم الكتب بيروت، لبنان - الطبعة الثالثة 1403هـ.
206- معتزلة اليمن دولة الهادي وفكره - تأليف علي محمد زيد - دار الكلمة صنعاء - الطبعة الثانية 1406هـ.
207- المعتمد في أصول الفقه - تأليف أبي الحسين البصري المعتزلي - تهذيب وتحقيق محمد حميد الله ورفيقه - نشر المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية بدمشق 1384هـ.
208- معجم البلدان - تأليف شهاب الدين أبي عبد الله باقوت الحموي - دار صادر للطباعة والنشر - بيروت 1404هـ.
209- المعجم الصغير - تأليف الحافظ ابن القاسم سليمان الطبراني - صححه عبد الرحمن محمد عثمان - الناشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة
2110- المعجم الكبير - تأليف الحافظ أبي القاسم سليمان الطبراني - تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي - الطبعة الثانية 1405هـ.
211- معجم المدن والقبائل اليمنية - إعداد إبراهيم أحمد المقحفي - منشورات دار الكلمة - صنعاء 1985م.
212- المعجم الوسيط. جمع اللغة العربية - المكتبة الإسلامية - استانبول - تركيا.
213- المغني في أبواب التوحيد والعدل - القاضي أبي الحسن عبد الجبار بن أحمد الهمداني - تحقيق مصطفى السقا ورفاقه - المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر 1385هـ.
214- مفتاح دار السعادة - تأليف الإمام ابن القيم - دار الكتب العلمية - بيروت لبنان.
215- المفردات في غريب القرآن - تأليف أبي القاسم الحسين بن محمد الراغب - دار المعرفة للطباعة والنشر - بيروت، لبنان.
216- المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة - تأليف الحافظ السخاوي دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان تعليق عبد الله محمد الصديق ورفيقه - الطبعة الأولى 1399هـ.
217- مقالات الإسلاميين - تأليف الشيخ أبي الحسن الأشعري - تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد - مكتبة النهضة المصرية - الطبعة الثانية 1389هـ.(3/961)
218- الملل والنحل - تأليف أبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني - تحقيق محمد سيد كيلاني - شركة مكتبة ومطبعة مصطفى الحلبي 1396هـ.
219- الملل والنحل - تأليف أبي الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني بهامش الفصل.
220- مناقب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - تأليف أبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي - تحقيق د. زينب إبراهيم القاروط - دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة الثالثة 1407هـ.
221- المنتظم في تاريخ الأمم والمملوك - تأليف ابن الجوزي - مطبعة دائرة المعارف العثمانية - الهند - الطبعة الأولى 1359هـ.
222- منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية - تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية - تحقيق د. محمد رشاد سالم - منشورات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1406هـ.
223- منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير - تأليف فهد بن عبد الرحمن بن سليمان الرومي - مؤسسة الرسالة - الطبعة الثانية 1403هـ.
224- موارد الظمآن إلى زوائد بن حبان - تأليف الحافظ نور الدين الهيثمي تحقيق ونشر - محمد عبد الرزاق حمزة - دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان.
225- المواقف في علم الكلام - القاضي عبد الرحمن بن أحمد الإيجي - عالم الكتب - بيروت.
226- الموسوعة العربية الميسرة - بإشراف محمد شفيق غرباب - دار الشعب ومؤسسة فرانكلين للطباعة صورة عن طبعة 1965م.
227- الموضوعات - تأليف أبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي - تقديم عبد الرحمن محمد عثمان - الناشر المكتبة السلفية - المدينة المنورة.
228- ميزان الاعتدال في نقد الرجال - تأليف أبي عبد الله محمد بن أحمد الذهبي - تحقيق علي ابن محمد البجاوي - دار المعرفة - بيروت، لبنان.
229- نزهة الخاطر العاطر شرح روضة الناظر وجنة المناظر - تأليف الشيخ عبد القادر بن أحمد ابن بدران - دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان.
230- نصب الراية لأحاديث الهداية - تأليف العلامة جمال الدين أبي محمد الزيلعي - الناشر المكتبة الإسلامية - الطبعة الثانية 1393هـ.
231- نصرة مذاهب الزيدية - تأليف الصاحب بن عباد - تحقيق د. ناجي حسن.
232- النهاية في غريب الحديث والأثر - تأليف مجد الدين أبي السعادات المبارك الجزري ابن الأثير - الناشر المكتبة الإسلامية.(3/962)
233- النهاية في الفتن والملاحم - تأليف الحافظ عماد الدين بن كثير تصحيح وتعليق الشيخ إسماعيل الأنصاري - مطابع مؤسسة النور الرياض - الطبعة الأولى 1388هـ.
234- نهج البلاغة - مختارات الشريف الرضى، مع الشرح للشيخ محمد عبده - دار الكتاب العربي - سورية.
235- الوافي بالوفيات - صلاح الدين الصفدي - الناشر فرانز شتاير - الطبعة الثانية 1394هـ.
236- الوصول إلى الأصول - تأليف أحمد بن علي بن برهان البغدادي تحقيق د. عبد الحميد علي أبو زنيد - مكتبة المعارف - الرياض - الطبعة الأولى 1404هـ.
237- الوفاء في أحوال المصطفى - تأليف الإمام أبي الفرج بن الجوزي علق عليه محمد زهري النجار - المؤسسة السعيدية - الرياض.
238- يقظة أولى الاعتبار - تأليف صديق حسن خان - تحقيق أحمد حجازي السقا - الناشر دار التراث الإسلامي - الأزهر.(3/963)