ولله الأسماء الحسنى
المؤلف
فضيلة الشيخ عبد العزيز بن ناصر الجليل
موقع فضيلة الشيخ / عبد العزيز بن ناصر الجليل
http://islamlight.net/aljiliyl/
شبكة نور الإسلام
www.islamlight.net
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله و حده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.. أما بعد:
فإن أجل المقاصد وأنفع العلوم وأشرفها وأعلاها العلم بأسماء الله - عز وجل- الحسنى، وصفاته العلا؛ ذلك لأنها تُعرِّف الناس بربهم سبحانه، الذي هو أشرف معلوم، وأعظم مقصود وتعرِّفهم بخالقهم وخالق السماوات والأرض، ومن فيهن وهذا يستلزم عبادته سبحانه ومحبته وخشيته، وتعظيمه وإجلاله.
ومن رحمته سبحانه أن جعل توحيده، ومعرفته مركوزًا في الفطر والعقول إجمالاً؛ إلا أن يطرأ على الفطرة والعقل ما يفسدهما من فعل شياطين الجن والإنس.
قال الله تعالى: { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) }
[الروم: 30].
وقال ×: ( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه...) الحديث(1)1).
__________
(1) جزء من حديث رواه البخاري في صحيحه (1359).(1/1)
ولكن لما كانت هذه المعرفة إجمالية، بحيث إنها لا تكفي في معرفة الله -عز وجل- المعرفة الحقة التي تقود إلى عبادته وحده، ومعرفة تفاصيل أسمائه وصفاته التي لا يقوم ساق العبودية وفسطاط التوحيد إلا عليها، ولما يطرأ على الفطرة والعقل من ركام وانحراف واعوجاج كان من تمام رحمته سبحانه وفضله، وإحسانه إلى خلقه أن أرسل إليهم الرسل، وأنزل الكتب ليعرفوا الناس بربهم سبحانه المعرفة التفصيلية التي تنير لهم الطريق إليه، ويدعونهم إلى توحيده وعبادته سبحانه، كما تعرفهم بغايتهم في هذه الدنيا وهي عبادته، ومصيرهم بعد ذلك إلى ربهم وخالقهم يوم القيامة : { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) } [النجم: 31]، وذلك بعد قيام الحجة الرسالية عليهم، وما تضمنت من بيان الحق من الباطل، والتوحيد من الشرك، والهدى من الضلال، وبعد أن عرفتهم على ربهم سبحانه وتفاصيل أسمائه وصفاته التي يتعبدون لله تعالى بها.
والعلم بأسماء الله تعالى وصفاته أشرف العلوم، والمعارف، لأنه العلم الذي يقوم عليه توحيد الرب سبحانه وعبادته. وتوحيد الله - عز وجل- وعبادته أول واجب على المكلف.
إذن فلا جرم كان هذا العلم أشرف العلوم وأرفعها؛ لأن شرف العلم من شرف المعلوم؛ ولما كان المعلوم هو الله سبحانه وأسماءه وصفاته، كان هذا العلم هو أشرف العلوم.(1/2)
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "... إن شرف العلم تابع لشرف معلومه، ولا ريب أن أجل معلوم وأعظمه وأكبره فهو الله الذي لا إله إلا هو رب العالمين، وقيوم السماوات والأرضين، الملك الحق المبين، الموصوف بالكمال كله، المنزه عن كل عيب ونقص، وعن كل تمثيل وتشبيه في كماله، ولا ريب أن العلم به وبأسمائه وصفاته وأفعاله أجل العلوم، وأفضلها. ونسبته إلى سائر العلوم كنسبة معلومه إلى سائر المعلومات. وكما أن العلم به أجل العلوم وأشرفها فهو أصلها كلها... والمقصود أن العلم بالله أصل كل علم، وهو أصل علم العبد بسعادته وكماله، ومصالح دنياه وآخرته. والجهل به مستلزم للجهل بنفسه، ومصالحها وكمالها، وما تزكو به وتفلح به، فالعلم به سعادة العبد، والجهل به أصل شقاوته"(1)1).
ويقول أيضًا: "لا سعادة للعباد، ولا صلاح لهم، ولا نعيم إلا بأن يعرفوا ربهم ويكون هو وحده غاية مطلوبهم، والتعرف إليه قرة عيونهم.. ومتى فقدوا ذلك كانوا أسوأ حالاً من الأنعام. وكانت الأنعام أطيب عيش منهم في العاجل، وأسلم عاقبة في الآجل.." (2)2).
ويفصل الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى العلم بالله - عز وجل- فيقول: "وأما العلم فيراد به في الأصل نوعان:
أحدهما: العلم به نفسه؛ وبما هو متصف به من نعوت الجلال والإكرام، وما دلت عليه أسماؤه الحسنى. وهذا العلم إذا رسخ في القلب أوجب خشية الله لا محالة، فإنه لا بد أن يعلم أن الله يثيب على طاعته، ويعاقب على معصيته، كما شهد به القرآن والعيان، وهذا معنى قول أبي حبان التيمي - أحد أتباع التابعين:- (العلماء ثلاثة: عالم بالله ليس عالمًا بأمر الله، وعالم بأمر الله ليس عالمًا بالله، وعالم بالله وبأمر الله. فالعالم بالله الذي يخشى الله، والعالم بأمر الله الذي يعرف الحلال والحرام).
__________
(1) مفتاح دار السعادة 1/312 ط. دار ابن عفان.
(2) …مختصر الصواعق المرسلة 1/47.(1/3)
وقال رجل للشعبي: أيها العالم! فقال: إنما العالم من يخشى الله.
وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: كفى بخشية الله علمًا، وكفى بالاغترار بالله جهلاً.
والنوع الثاني: يراد بالعلم بالله العلم بالأحكام الشرعية، كما في الصحيح عن النبي × : أنه ترخص في شيء فبلغه أن أقوامًا تنزهوا عنه. فقال: (إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية) (1)1)) (2)2).أ.هـ
ومقصدونا في هذه الدراسة هو النوع الأول: ألا وهو العلم بالله -عز وجل- وبما هو متصف به من نعوت الجلال والإكرام، وماله من الأسماء الحسنى والصفات العلا وما دلت عليه، لأن هذا العلم هو أصل العلوم، ولأن العلم الآخر- وهو العلم بأحكامه الشرعية- قد خدم كثيرًا، وقد فصل أهل العلم الكتابة فيه بالمختصرات، والمطولات.
والعلم بالأسماء والصفات على قسمين يفصلهما الدكتور عبد الرحمن المحمود - حفظه الله - فيقول: "والدراسات المتعلقة بأسماء الله وصفاته على قسمين:
الأول: ما يتعلق بالإيمان بها وإثباتها، وقواعد أئمة السلف في ذلك والرد على المخالفين من أهل التأويل والتحريف والتعطيل، والتشبيه والتكييف والتفويض.
وهذه - والحمد لله - قد كثرت فيها المؤلفات قديمًا وحديثًا، وتنوعت فيها الدراسات المطولة والمختصرة، وكثير منها منشور ومطبوع ونسأل الله تعالى أن يثيب كل من كان له جهد في ذلك علمي أو عملي أو مادي في نشرها في كل مكان.
الثاني: ما يتعلق بأثر الإيمان بأسماء الله وصفاته على منهاج السلف الصالح في حياة المؤمن خاصة، وأمة الإسلام عامة. وهذا أمر مهم جدًا له أثره العميق في حياة المؤمن، إذ هو الثمرة الحقيقية للإيمان بأسماء الله وصفاته ومعرفته، وتدبر معانيها.
وكثيرًا ما كنت أسأل عن هذا الموضوع، وعن كيفية تأثر المؤمن بالإيمان بها، وأهم المراجع المفيدة في ذلك"(3)1).
__________
(1) البخاري (6101).
(2) …مجموع الفتاوى 3/333.
(3) انظر مقدمة كتاب "المنهج الأسنى للدكتور زين شحاته" ص9.(1/4)
والقسم الثاني الذي يتعلق بآثار الإيمان بأسماء الله وصفاته في حياة المؤمن هو المقصود بهذه الدراسة؛ أسأل الله - عز وجل- العون والتوفيق في بيانه.
ولكي يتبين لنا أهمية البحث في هذا العلم، وضرورة العناية به في دراسة العقيدة، وتدريسها أسوق فيما يلي بعض الأمور التي تطلعنا على أهميته وشرفه، وعلو شأنه.
أولاً: إن أشرف غايات المسلم، ومنتهى طلبه أن يفوز برضوان الله تعالى وجنته وأن يتنعم بالنظر إلى وجه الله ذي الجلال والإكرام في الدار الآخرة، ولكن هذه الغاية لن تتحقق إلا بتوفيق الله - عز وجل- لعبده للإيمان به وحده، وطاعته، واجتناب معاصيه.
وهذا الإيمان والعمل الصالح لن يتحقق للعبد القيام بهما إلا بالعلم؛ لأن العلم قبل القول والعمل، وهو أساس العمل والخشية والبعد عن سخط الله تعالى.
قال تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [فاطر:28]، وقد شبه الله - عز وجل- العالم الذي لا يعمل بعلمه بالحمار؛ فقال: { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا }
[الجمعة: 5] .
ولما كانت أشرف الغايات لا يوصل إليها إلا بالعلم، فإن أشرف العلوم وأجلها في هذه الدنيا هو العلم المؤدي إلى النجاة في الآخرة، والفوز برضوان الله تعالى وجنته، فالعلم هو السبيل إلى العمل المقبول، والعمل المقبول هو السبيل إلى النجاة برحمة الله تعالى.
ولما كان شرف كل علم بحسب ما يتعلق به هذا العلم، كان أشرف العلوم وأجلها هو العلم الذي يتعلق بالله - عزل وجل- وبمعرفة أسمائه الحسنى، وصفاته العلا. وبقدر معرفة العبد بأسماء الله - عز وجل- وصفاته يكون حظه من العبودية لربه والأنس به ومحبته، وإجلاله وتعظيمه.
ثانيًا: العلم بأسماء الله - عز وجل- وصفاته هو أصل العلوم وأساس الإيمان، وأول الواجبات، فإذا علم الناس ربهم عبدوه.(1/5)
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "إن العلم بأسماء الله الحسنى أصل للعلم بكل معلوم؛ فإن المعلومات سواه إما أن تكون خلقًا له تعالى أو أمرًا. إما علم بملكوته، أو علم بما شرعه، ومصدر الخلق والأمر عن أسمائه الحسنى، وهما مرتبطان بها ارتباط المقتضي بمقتضيه، وإحصاء الأسماء الحسنى أصل لإحصاء كل معلوم، لأن المعلومات هي من مقتضاها، ومرتبطة بها"(1)1).
ويقول قوام السنة الأصفهاني رحمه الله تعالى: "قال بعض العلماء: أول فرض فرضه الله على خلقه: معرفته. فإذا عرفه الناس عبدوه. قال الله تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } [محمد:19] فينبغي للمسلمين أن يعرفوا أسماء الله وتفسيرها، فيعظموا الله حق عظمته. ولو أراد رجل أن يعامل رجلاً طلب أن يعرف اسمه وكنيته، واسم أبيه وجده، وسأل عن صغير أمره وكبيره. فالله الذي خلقنا ورزقنا، ونحن نرجو رحمته ونخاف من سخطه أولى أن نعرف أسماءه ونعرف تفسيرها"(2)2).
ثالثًا: في معرفة الله - عز وجل- بأسمائه وصفاته زيادة في الإيمان واليقين وتحقيق للتوحيد، وتذوق لطعم العبودية.
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "إن الإيمان بأسماء الله الحسنى ومعرفتها يتضمن أنواع التوحيد الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. وهذه الأنواع هي رُوح الإيمان ورَوْحه، وأصله وغايته، فكلما ازداد العبد معرفة بأسماء الله وصفاته، ازداد إيمانه وقوي يقينه"(3)1).
ويقول أيضًا: "وبحسب معرفته بربه يكون إيمانه، فكلما ازداد معرفة بربه ازداد إيمانه، وكلما نقص نقص. وأقرب طريق إلى ذلك: تدبر صفاته وأسمائه من القرآن"(4)2).
__________
(1) بدائع الفوائد 1/163.
(2) …الحجة في بيان المحجة 1/122.
(3) التوضيح والبيان لشجرة الإيمان ص41 "باختصار".
(4) …تفسير السعدي 1/24.(1/6)
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "فإن الله جل ثناؤه، وتقدست أسماؤه إذا أراد أن يكرم عبده بمعرفته وجمع قلبه على محبته، شرح صدره لقبول صفاته العلا، وتلقيها من مشكاة الوحي، فإذا ورد عليه شيء منها قابله بالقبول، وتلقَّاه بالرضا والتسليم، وأذعن له بالانقياد، فاستنار به قلبه، واتسع له صدره، وامتلأ به سرورًا ومحبة، فعلم أنه تعريف من تعريفات الله تعالى تَعرَّف به إليه على لسان رسوله، فأنزل تلك الصفة من قلبه منزلة الغذاء أعظم ما كان إليه فاقة، ومنزلة الشفاء أشد ما كان إليه حاجة، فاشتد بها فرحه، وعظم بها غناؤه، وقويت بها معرفته، واطمأنت إليها نفسه، وسكن إليها قلبه، فجال من المعرفة في ميادينها، وأسام عين بصيرته في رياضها وبساتينها، لتيقنه بأن شرف العلم تابع لشرف معلومه، ولا معلوم أعظم وأجل ممن هذه صفته، وهو ذو الأسماء الحسنى، والصفات العلى، وأن شرفه أيضًا بحسب الحاجة إليه، وليست حاجة الأرواح قط إلى شيء أعظم منها إلى معرفة بارئها وفاطرها، ومحبته وذكره، والابتهاج به، وطلب الوسيلة إليه، والزلفى عنده، ولا سبيل إلى هذا إلا بمعرفة أوصافه وأسمائه، فكلما كان العبد بها أعلم كان بالله أعرف، وله أطلب، وإليه أقرب، وكلما كان لها أنكر كان بالله أجهل، وإليه أكره، ومنه أبعد. والله يُنْزِلُ العبد من نفسه حيث يُنْزِلُه العبدُ من نفسه"(1)1).
ويقول في موطن آخر: "والفرح والسرور، وطيب العيش والنعيم؛ إنما هو في معرفة الله وتوحيده، والأُنس به، والشوق إلى لقائه، واجتماع القلب والهمَّة عليه، فإنَّ أنكد العيش: عيشُ من قلبُه مُشتَّتٌ؛ وهمُّه مُفرَّقٌ عن ذلك بقوله:
وما ذاق طعم العيش من لم يكن لهڑڑحبيبٌ إليه يطمئنُّ ويسكن
__________
(1) شرح قصيدة ابن القيم "الشافية الكافية" 1/24.(1/7)
فالعيش الطيِّب؛ والحياة النافعة؛ وقرَّة العين: في السكون والطمأنينة إلى الحبيب الأوَّل، ولو تنقَّل القلب في المحبوبات كلِّها لم يسكن، ولم يطمئن، ولم تقرَّ عينه حتى يطمئن إلى إلهه وربِّه ووليِّه؛ الذي ليس له من دونه وليٌ ولا شفيعٌ، ولا غنى له عنه طرفة عين" (1)2).
رابعًا: العالم بالله تعالى حقيقة يستدل بما علم من صفاته وأفعاله على ما يفعله وعلى ما يشرعه من الأحكام، لأنه لا يفعل إلا ما هو مقتضى أسمائه وصفاته، وأفعاله دائرة بين العدل والفضل والحكمة. كذلك لا يشرع ما يشرعه من الأحكام إلا على حسب ما اقتضاه حمده وحكمته، وفضله وعدله، فأخباره كلها حق وصدق، وأوامره ونواهيه عدل وحكمة ورحمة، وهذا العلم أعظم وأشهر من أن ينبه عليه لوضوحه:
وكيف يصح في الأذهان شيءڑڑإذا احتاج النهار إلى دليل(2)1)
__________
(1) …إغاثة اللهفان 1/118-2/283.
(2) إغاثة اللهفان 1/10؛ بتصرف.(1/8)
خامسًا: التلازم الوثيق بين صفات الله تعالى وما تقتضيه من العبادات الظاهرة والباطنة وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "لكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها أعني: من موجبات العلم بها والتحقق بمعرفتها، وهذا مطرد في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح. فعلم العبد بتفرد الرب تعالى بالضر والنفع، والعطاء، والمنع، والخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة يثمر له: عبودية التوكل عليه باطنًا، ولوازم التوكل وثمراته ظاهرًا. وعلمه بسمعه تعالى وبصره، وعلمه أنه لا يخفى عليه مثقال ذرة وأنه يعلم السر، ويعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور يثمر له: حفظ لسانه وجوارحه، وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضي الله، وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه فيثمر له ذلك: الحياء باطنًا، ويثمر له الحياء اجتناب المحرمات والقبائح. ومعرفته بغناه وجوده، وكرمه وبره وإحسانه، ورحمته توجب له سعة الرجاء. وكذلك معرفته بجلال الله وعظمته وعزته تثمر له: الخضوع والاستكانة، والمحبة، وتثمر له تلك الأحوال الباطنة أنواعًا من العبودية الظاهرة هي موجباتها.. فرجعت العبودية كلها إلى مقتضى الأسماء والصفات"(1)2).
سادسًا: للتعبد بأسماء الله تعالى وصفاته آثار طيبة في سلامة القلوب، وسلامة الأخلاق والسلوك، كما أن في تعطيلها بابًا إلى أمراض القلوب ومساوئ الأخلاق وسيتضح هذا الأمر - إن شاء الله تعالى- في فصول الكتاب القادمة.
سابعًا: في معرفة أسماء الله وصفاته، والتعبد له سبحانه بها ثمرات طيبة في الموقف من المصائب والمكروهات والشدائد. فإذا علم العبد أن ربه عليم حكيم عدل لا يظلم أحدًا رضي وصبر، وعلم أن المكروهات التي تصيبه والمحن التي تنزل به فيها ضروب من المصالح والمنافع التي لا يبلغها علمه؛ لكنها هي مقتضى علم الله تعالى وحكمته فيطمئن ويسكن إلى ربه، ويفوض أمره إليه.
__________
(1) …مفتاح دار السعادة 2/90 "باختصار".(1/9)
ثامنًا: فهم معاني أسماء الله - عز وجل- وصفاته طريق إلى محبة الله، وتعظيمه ورجائه والخوف منه، وفي ذلك يقول العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى: "فهم معاني أسماء الله تعالى وسيلة إلى معاملته بثمراتها من الخوف والرجاء، والمهابة، والمحبة والتوكل وغير ذلك من ثمرات معرفة الصفات"(1)1).
تاسعًا: إن في تدبر معاني أسماء الله - عز وجل- وصفاته أكبر عون على تدبر كتاب الله تعالى حيث أمرنا الله - عز وجل- بتدبر القرآن في قوله سبحانه : { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) } [ص: 29].
ونظرًا لأن القرآن الكريم يكثر فيه ذكر الأسماء والصفات حسب متعلقاتها فإن في تدبرها بابًا كبيرًا من أبواب تدبر القرآن.
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "وأنت إذا تدبَّرتَ القرآنَ- وأجرتَه من التحريف؛ وأن تقضي عليه بآراء المُتكلِّمين، وأفكار المُتكلِّفين-: أشهدكَ ملكًا قيومًا فوق سماواته على عرشه، يُدبِّر أمر عباده، يأمر وينهي، ويُرسل الرسلَ ويُنزل الكتبَ، ويرضى ويغضب، ويُثيب ويُعاقب، ويُعطي ويمنع، ويُعِزُّ ويُذِلُّ، ويخفض ويرفع، يرى من فوق سبع ويسمع، ويعلم السرَّ والعلانية، فعَّال لما يُريد، موصوفٌ بكلِّ كمال، مُنزَّهٌ عن كلِّ عيبٍ، لا تتحرك ذرةٌ فما فوقها إلا بإذنه، ولا تسقط ورقةًٌ إلا بعلمه، ولا يشفع أحدٌ عنده إلا بإذنه، ليس لعباده من دونه وليٌّ ولا شفيعٌ"(2)1).
عاشرًا: العلم بأسماء الله - عزل وجل- وصفاته يزرع في القلب الأدب مع الله تعالى والحياء منه.
__________
(1) شجرة المعارف ص1.
(2) الفوائد ص82.(1/10)
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "إن الأدب مع الله تبارك وتعالى هو القيام بدينه والتأدب بآدابه ظاهرًا وباطنًا. ولا يستقيم لأحد قط الأدب مع الله إلا بثلاثة أشياء: معرفته بأسمائه وصفاته، ومعرفته بدينه وشرعه وما يحب وما يكره، ونفس مستعدة قابلة لينة متهيئة لقبول الحق- علمًا وعملاً وحالاً- والله المستعان"(1)2).
حادي عشر: المعرفة بالله تعالى وأسمائه وصفاته تبصر العبد بنقائص نفسه وعيوبها وآفاتها فتجهد في إصلاحها.
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "أركان الكفر أربعة: الكبر، والحسد، والغضب، والشهوة... ومنشأ هذه الأربعة من جهله بربه وجهله بنفسه، فإنه لو عرف ربه بصفات الكمال، ونعوت الجلال، وعرف نفسه بالنقائص والآفات لم يتكبر، ولم يغضب لها، ولم يحسد أحدًا على ما آتاه الله.
فإن الحسد في الحقيقة نوع من معاداة الله، فإنه يكره نعمة الله على عبده وقد أحبها الله، وأحب زوالها عنه والله يكره ذلك، فهو مضاد لله في قضائه وقدره ومحبته وكراهته"(2)1).
ثاني عشر: الآثار السيئة والنتائج الوخيمة التي تنتج من فقد العبد لمعرفة أسماء الله تعالى وصفاته، وعدم فهمه لها وتدبرها والتعبد لله تعالى بها.
ويجلي الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى- آثار هذا الفقد أو ضعفه فيقول: "أي شيء عرف من لم يعرف الله ورسله، وأي حقيقة أدرك من فاتته هذه الحقيقة، وأي علم أو عمل حصل لمن فاته العلم بالله والعمل بمرضاته ومعرفة الطريق الموصلة إليه، وماله بعد الوصول إليه"(3)2)، وقال أيضًا: "إن حياة الإنسان بحياة قلبه وروحه، ولا حياة لقلب إلا بمعرفة فاطره ومحبته وعبادته وحده، والإنابة إليه، والطمأنينة بذكره، والأنس بقربه، ومن فقد هذه الحياة فقد الخير كله ولو تعوض عنها بما تعوض في الدنيا"(4)1).
__________
(1) مدارج السالكين 2/403.
(2) الفوائد 177.
(3) هداية الحيارى ص591.
(4) الجواب الكافي ص132.(1/11)
ثالث عشر: ومما يؤكد أهمية دراسة الأسماء والصفات، وأثرها في القلوب والأعمال هو أنه مع ما ذكر من الآثار السابقة، فإن الكتابة فيها لا زالت قليلة لا تكافئ أهميتها ولا تكفي للعناية بها؛ بل إن العناية بهذا لازالت ضعيفة، وهذا ظاهر من طريق تدريس هذا العلم في كثير من المناهج وحلق العلم، حيث التركيز في دراسة هذا العلم على الجوانب الذهنية المجردة، وتصحيح التصور، والرد على المبتدعة فيه وهذا حق ومطلوب، ولكنه ليس هو المقصود فحسب؛ وإنما المقصود أيضًا من فهم الأسماء والصفات وصحة المعتقد فيها ما يظهر من ثمارها وآثارها في أعمال القلوب والجوارح والتعبد لله تعالى بها. والقليل منا اليوم من يعتني بأعمال القلوب، ويركز عليها، مع أنه باب عظيم لإصلاح القلوب وتخليصها من وساوسها وآفاتها. وعن أهمية عمل القلب يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "ومن تأمل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال الجوارح بأعمال القلوب وأنها لا تنفع بدونها، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وهل يميز المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب كل واحد منهما من الأعمال التي ميزت بينهما، وهل يمكن أحد الدخول في الإسلام إلا بعمل قلبه قبل جوارحه. وعبودية القلب أعظم من عبودية الجوارح وأكثر وأدوم فهي واجبة في كل وقت"(1)2)
وبعد هذه المقدمة التي تبيَّن لنا فيها أهمية العناية بهذا العلم العظيم والحاجة الماسة إلى طرحه للكتابة والتداول ندخل في تفصيل ذلك حسب الفصول التالية:
الفصل الأول
وفيه مبحثان.
المبحث الأول: شرح آية الأعراف { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } وما في معناها من الآيات.
المبحث الثاني: شرح حديث "إن لله تسعة وتسعين اسمًا".
الفصل الثاني
بيان مختصر لمنهج أهل السنة والجماعة في دراسة الأسماء والصفات.
الفصل الثالث
__________
(1) بدائع الفوائد 3/193.(1/12)
الشرح التفصيلي لأسماء الله الحسنى وما تثمره في القلوب والجوارح من الثمار اليانعة والاحوال الطيبة.
الفصل الرابع
إجمال بعد تفصيل.
الخاتمة.
* * *
الفصل الأول
المبحث الأول
تفسير قوله تعالى: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } وما ورد في معناها من الآيات
جاء ذكر الأسماء الحسنى في أربع آيات من كتاب الله - عز وجل - وهي:
y قول الله - عز وجل - في سورة الأعراف: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) } [الأعراف: 180] .
y وقوله تعالى في سورة الإسراء: { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [الإسراء: 110].
y وقوله - تبارك وتعالى - في سورة طه: { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8) } [طه: 8].
y وقوله تعالى في سورة الحشر: { هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) } [الحشر: 24].
والكلام هنا عن آية الأعراف حيث يدل معناها على بقية الآيات التي وصف الله - عز وجل - أسماءه فيها بأنها حسنى.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "... وكذلك أسماء الرب تعالى كلها أسماء مدح؛ فلو كانت ألفاظًا مجردةً لا معانيَ لها لم تدل على المدح. وقد وصفها الله سبحانه بأنها حسنى كلها. فقال: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا } يَعْمَلُونَ فهي لم تكن حسنى لمجرد اللفظ بل لدلالتها على أوصاف الكمال... "(1)1).
__________
(1) بدائع التفسير 2/317.(1/13)
ويقول في موطن آخر: "أسماؤه كلها أسماء مدح وحمد وثناء وتمجيد؛ ولذلك كانت حسنى وصفاته كلها صفات كمال، ونعوته كلها نعوت جلال، وأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وعدل"(1)2).
وقال عند قوله تعالى: { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [الإسراء: 110].
"أي: إنكم إنما تدعون إلهاً واحدًا له الأسماء الحسنى، فأيُّ اسم دعوتموه: فإنما دعوتم المسمى بذلك الاسم، فأخبر - سبحانه - أنه إله واحدٌ؛ وإن تعدَّدت أسماؤه الحسنى المشتقة من صفاته، ولهذا كانت حسنى.
وإلا فلو كانت كما يقول الجاحدون لكماله: أسماء محضة فارغة من المعاني ليس لها حقائق؛ لم تكن حسنى، ولكانت أسماء الموصوفين بالصفات والأفعال أحسن منها، فنزلت الآية على توحيد الذات؛ وكثرة النعوت والصفات"(2)3).
ويقول أيضًا: "والمقصود أن الرب أسماؤه كلها حسنى ليس فيها اسم سوء، وأوصافه كلها كمال ليس فيها صفة نقص، وأفعاله كلها حكمة ليس فيها فعل خال عن الحكمة والمصلحة، وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم موصوف بصفة الكمال، مذكور بنعوت الجلال، منزه عن الشبيه والمثال، ومنزه عما يضاد صفات كماله؛ فمنزه عن الموت المضاد للحياة، وعن السِّنَةِ والنوم، والسهو، والغفلة المضاد للقيومية، وموصوف بالعلم منزه عن أضداده كلها، من النسيان والذهول وعزوب شيء عن علمه. موصوف بالقدرة التامة منزه عن ضدها من العجز، واللغوب، والإعياء. موصوف بالعدل منزه عن الظلم. موصوف بالحكمة منزه عن العبث. موصوف بالسمع والبصر منزه عن أضدادهما من الصمم والبكم. موصوف بالعلو والفوقية منزه عن أضداد ذلك. موصوف بالغنى التام منزه عما يضاده بوجه من الوجوه مستحق للحمد كله.
__________
(1) مدارج السالكين 1/125.
(2) الصواعق المرسلة 3/938.(1/14)
فيستحيل أن يكون غير محمود كما يستحيل أن يكون غير قادر ولا خالق، ولا حي وله الحمد كله واجب لذاته ، فلا يكون إلا محمودًا كما لايكون إلا إلهًا وربًا قادرًا" (1)1).
ويبين - رحمه الله تعالى - معنى الإلحاد في أسمائه - عز وجل - فيقول: "والإلحاد في أسمائه هو العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها وهو مأخوذ من الميل كما يدل عليه مادته (ل ح د) فمنه اللحد، وهو الشق في جانب القبر الذي قد مال عن الوسط. ومنه الملحد في الدين، المائل عن الحق إلى الباطل. قال ابن سكيت: الملحد المائل عن الحق، المدخل فيه ما ليس منه، ومنه الملتحد وهو مفتعل من ذلك.
وقوله تعالى: { وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) } [الكهف: 27]، أي: من أحد تعدل وتهرب إليه وتلتجئ إليه، وتبتهل إليه فتميل إليه عن غيره. تقول العرب: التحد فلان إلى فلان إذا عدل إليه. إذا عرف هذا فالإلحاد في أسمائه تعالى أنواع:
أحدها: أن يسمي الأصنام بها، كتسميتهم اللات من الإلهية، والعزى من العزيز، وتسميتهم الصنم إلهًا وهذا إلحاد حقيقة فإنهم عدلوا بأسمائه إلى أوثانهم، وآلهتهم الباطلة.
وثانيها: تسميته بما لا يليق بجلاله: كتسمية النصارى له أبًا، وتسمية الفلاسفة له موجبًا بذاته، أو علة فاعله بالطبع ونحو ذلك.
وثالثها: وصفها بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائص كقول أخبث اليهود: أنه فقير، وقولهم: إنه استراح بعد أن خلق خلقه، وقولهم: يد الله مغلولة وأمثال ذلك مما هو إلحاد في أسمائه وصفاته.
__________
(1) طريق الهجرتين ص 203.(1/15)
ورابعها: تعطيل الأسماء عن معانيها، وجحد حقائقها، كقول من يقول من الجهمية وأتباعهم: أنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات، ولامعاني فيطلقون عليه اسم السميع والبصير، والحي والرحيم، والمتكلم والمريد ويقولون: لا حياة ولا سمع، ولا بصر، ولا كلام، ولا إرادة تقوم به. وهذا من أعظم الإلحاد فيها عقلاً وشرعًا، ولغة وفطرة، وهو يقابل إلحاد المشركين فإن أولئك أعطوا أسماءه وصفاته لآلهتهم، وهؤلاء سلبوه صفات كماله وجحدوها وعطلوها فكلاهما ملحد في أسمائه، ثم الجهمية وفروخهم متفاوتون في هذا الإلحاد، فمنهم الغالي، والمتوسط، والمنكوب.وكل من جحد شيئًا عما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله فقد ألحد في ذلك فليستقل أو يستكثر.
وخامسها: تشبيه صفاته بصفات خلقه تعالى الله عما يقول المشبهون علوًا كبيرًا فهذا الإلحاد في مقابلة إلحاد المعطلة فإن أولئك نفوا صفة كماله وجحدوها. وهؤلاء شبهوها بصفات خلقه، فجمعهم الإلحاد، وتفرقت بهم طرقه، وبرأ الله أتباع رسوله وورثته القائمين بسنته عن ذلك كله فلم يصفوه إلا بما وصف به نفسه، ولم يجحدوا صفاته، ولم يشبهوها بصفات خلقه، ولم يعدلوا بها عما أنزلت عليه لفظًا ولا معنى؛ بل أثبتوا له الأسماء والصفات، ونفوا عنه مشابهة المخلوقات فكان إثباتهم بريًا من التشبيه وتنزيههم خليًا من التعطيل. لا كمن شبه حتى كأنه يعبد صنمًا أو عطل حتى كأنه لا يعبد إلا عدمًا. وأهل السنة وسط في النحل. كما أن أهل الإسلام وسط في الملل توقد مصابيح معارفهم من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، نور على نور، يهدي الله لنوره من يشاء.
فنسأل الله تعالى أن يهدينا لنوره ويسهل لنا السبيل للوصول إلى مرضاته ومتابعة رسوله إنه قريب مجيب"(1)1).
وقال - رحمه الله تعالى - في نونيته المشهورة:
(أسماؤه أوصاف مدح كلها مشتقة قد حملت لمعان
__________
(1) بدائع التفسير 2/317/ 318.(1/16)
إياك والإلحاد فيها إنه كفر معاذ الله من كفران
وحقيقة الإلحاد فيها الميل بالإشراك والتعطيل والكفران) (1)2)
ويقول في موطن آخر: "قال الله تعالى: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف: 180].
والدعاء بها يتناول دعاء المسألة، ودعاء الثناء، ودعاء التعبد وهو سبحانه يدعو عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته، ويثنوا عليه بها ويأخذوا بحظهم من عبوديتها. وهو سبحانه يحب موجب أسمائه وصفاته فهو عليم يحب كل عليم، جواد يحب كل جواد، وتر يحب الوتر، جميل يحب الجمال، عفو يحب العفو وأهله ، حيي يحب الحياء وأهله، بر يحب الأبرار، شكور يحب الشاكرين، صبور يحب الصابرين، حليم يحب أهل الحلم؛ فلمحبته سبحانه للتوبة والمغفرة والعفو والصفح خلق من يغفر له، ويتوب عليه ويعفو عنه وقدر عليه ما يقتضي وقوع المكروه والمبغوض له ليترتب عليه المحبوب له المرضي له فتوسطه كتوسط الأسباب المكروهة المفضية إلى المحبوب"(2)1).
ويقول الشيخ السعدي - رحمه الله تعالى - عند تفسير آية الأعراف: "هذا بيان، لعظيم جلاله، وسعة أوصافه، بأن له الأسماء الحسنى، أي: له كل اسم حسن.
وضابطه: أنه كل اسم دال على صفة كمال عظيمة، وبذلك كانت حسنى؛ فإنها لو دلت على غير صفة، بل كانت علمًا محضًا، لم تكن حسنى، وكذلك لو دلت على صفة، ليست بصفة كمال، بل إما صفة نقص أو صفة منقسمة إلى المدح والقدح، لم تكن حسنى. فكل اسم من أسمائه، دال على جميع الصفة، التي اشتق منها، مستغرق لجميع معناها. وذلك نحو: "العليم" الدال على أن له علمًا محيطًا عامًا لجميع الأشياء فلا يخرج عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. و"الرحيم" الدال على أن له رحمة عظيمة، واسعة لكل شيء. و"القدير" الدال على أن له قدرة عامة، لا يعجزها شيء، ونحو ذلك.
__________
(1) شرح قصيدة ابن القيم 2/251.
(2) بدائع التفسير 2/ 316.(1/17)
ومن تمام كونها: "حسنى" أنه لا يدعى إلا بها، ولذلك قال: { فَادْعُوهُ بِهَا } ، وهذا شامل لدعاء العبادة، ودعاء المسألة. فيدعى في كل مطلوب، بما يناسب ذلك المطلوب. فيقول الداعي مثلاً: اللَّهم اغفر لي وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم، وتب عَلَىَّ يا تواب، وارزقني يا رزاق، والطف بي يا لطيف، ونحو ذلك.
وقوله: وَذَرُوا { الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي: عقوبة وعذابًا على إلحادهم في أسمائه. وحقيقة الإلحاد: الميل بها عما جعلت له. إما بأن يسمي بها من لا يستحقها؛ كتسمية المشركين بها لآلهتهم. وإما بنفي معانيها وتحريفها، وأن يجعل لها معنى، ما أراده الله ولا رسوله. وإما أن يشبه بها غيرها. فالواجب أن يحذر الإلحاد فيها، ويحذر الملحدون فيها"(1)1).
ويقول ابن الوزير اليماني: "اعلم أن الحسنى في اللغة: هو جمع الأحسن؛ لا جمع الحسن، فإن جمعه: حسان وحسنة، فأسماء الله التي لاتُحصى؛ كلُّها حسنة، أي: أحسن الأسماء، وهو مثل قوله تعالى: { وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [الروم: 27].
أي: الكمال الأعظم في ذاته وأسمائه ونعوته، فلذلك وجب أن تكون أسماؤه أحسن الأسماء؛ لا أن تكون حسنة وحسانًا لا سوى، وكم بين الحسن والأحسن من التفاوت العظيم عقلاً وشرعًا؛ ولغة وعرفًا" (2)1).
تنبيهات مهمة على أسماء الله الحسنى
التنبيه الأول: أسماء الله الحسنى كلها توقيفية:
__________
(1) تفسير السعدي 2/175، 176.
(2) العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم 7/228.(1/18)
ومعنى أنها توقيفية: أي أنه يجب الوقوف فيها على ما جاء في الكتاب والسنة، فلا يزاد على ذلك ولا ينقص، بل يكتفى بما وردت به نصوص الشرع لفظًا ومعنى. فعقل الإنسان لايمكنه إدراك ما يستحقه سبحانه من الأسماء، فوجب الوقوف في ذلك على النص، حتى لا نتقول على الله تعالى بغير علم. فكل من سمى الله - عز وجل - بما لم يُسم به نفسه أو سماه به رسوله ×، أو أنكر شيئًا مما سمى به تعالى نفسه فقد ارتكب جناية في حق الله وعرض نفسه لشديد العقاب.
وقد ورد في القرآن الكريم أفعال أطلقها الله تعالى على نفسه المقدسة مقيدة ولم يتسم منها باسم كقوله تعالى: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } (30) [الأنفال: 30].
وقوله: { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [التوبة: 67]، وقوله تعالى: { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ } بِهِمْ [البقرة: 15 ] ، وقوله - عز وجل - { إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) } [الطارق: 15، 16]، وقوله سبحانه: { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [النساء: 142]، فلا يجوز لأحد أن يسمي الله - جل وعلا-: الماكر أو الناسي أو المستهزئ أو الكياد أو المخادع، أو نحو ذلك مما يتعالى عنه سبحانه؛ وذلك لأنه تعالى لم يسم نفسه بذلك، ولا سماه بها رسوله ×، ولما في ذلك من الدلالة على معنى مذموم، ولأن في إطلاقها على الله غير مقيدة، نوع من مَثَلِ السوء فيكون مطلقها قد أقام بالله تعالى مثل سوء، والله سبحانه منزه عن ذلك. ويمتنع الوصف والإخبار بمطلق هذه الأفعال، ولكن يجوز ذلك مقيدًا كما جاء في الشرع، كأن تقول: "الله يستهزي بالكافرين" ونحو ذلك.(1/19)
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "ومن هنا يُعلم غلط بعض المتأخرين وزلَلُهُ الفاحش في اشتقاقه له سبحانه من كل فعل أخبر به عن نفسه اسمًا مطلقًا فأدخله في أسمائه الحسنى! فاشتق له اسم الماكر، والخادع، والفاتن، والمضل، والكاتب ونحوها من قوله: { وَيَمْكُرُ اللَّهُ } ، ومن قوله: { وَهُوَ خَادِعُهُمْ } ، ومن قوله: { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } ، ومن قوله: { يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ } ، وهذا خطأ من وجوه:
أحدها: أنه سبحانه لم يطلق على نفسه هذه الأسماء، فإطلاقها عليه لا يجوز.
الثاني: أنه سبحانه أخبر عن نفسه بأفعال مختصة مقيدة، فلا يجوز أن ينسب إليه مسمَّى الاسم عند الإطلاق.
الثالث: أن مسمى هذه الأسماء منقسم إلى ما يمدح عليه المسمى به، وإلى ما يذم، فيحسن في موضع، ويقبح في موضع، فيمتنع إطلاقه عليه سبحانه من غير تفصيل.
الرابع: أن هذه ليست من الأسماء الحسنى التي يسمى بها سبحانه، كما قال تعالى: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } وهي التي يحب سبحانه أن يثنى عليه ويحمد به دون غيرها.
الخامس: أن هذا القائل لو سُمِّي بهذه الأسماء، وقيل له هذه مدحتك وثناء عليك، فأنت الماكر الفاتن المخادع المضل اللاعن الفاعل الصانع، ونحوها لما كان يرضى بإطلاق هذه الأسماء عليه ويعدها مدحة، ولله المثل الأعلى سبحانه"(1)1).
التنبيه الثاني: الأسماء الجامدة ليست من أسماء الله تعالى:
__________
(1) طريق الهجرتين (404)، وانظر: "المفاهيم المثلى"، وليد بن محمود حسن بتصرف واختصار ص 219.(1/20)
فليس من أسمائه - عز وجل - مثلاً: الدهر، والشيء ونحو ذلك، لأن هذه الأسماء لا تتضمن معنى يلحقها بالأسماء الحسنى فالأسماء الحسنى أعلام وأوصاف، ولأن الله تعالى لم يتسم بها ولم يسمه بها رسوله ×. وقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي × قال: (قال اللهُ - عز وجل -: يُؤذيني ابن آدمَ، يَسُبُّ الدَّهَر، وأنا الدهْرُ، بيدي الأمرُ، أُقَلِّبُ الليلَ والنهارَ) (1)2).
فهذا الحديث قد يفهم منه أن "الدهر" اسم من أسماء الله الحسنى، وهو ليس كذلك.
فهو أولاً: اسم جامد لا يتضمن معنى يلحقه بالأسماء الحسنى.
وثانيًا: إن اسم الدهر اسم للوقت والزمان.
أما معنى قوله تعالى: "وأنا الدهر"، فهو كما قال الإمام الخطابي رحمه الله: "أي: أنا صاحب الدهر، ومدبر الأمور التي ينسبونها إلى الدهر، فمن سب الدهر من أجل أنه فاعل هذه الأمور، عاد سبه إلى ربه الذي هو فاعلها، وإنما الدهر زمان جعل ظرفًا لمواقع الأمور... "(2)1) أهـ.
ومما يدل على قول الإمام الخطابي- رحمه الله - أنه تعالى قال في الحديث القدسي: "أقلب الليل والنهار" والليل والنهار هما الدهر، فلا يمكن أن يكون المقلِّب "بكسر اللام" هو المقلَّب بفتحها.
التنبيه الثالث: المَثَل الأعلى:
ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء، ولم يمنع عدم النظير في الدنيا السلف من فهم ما أخبروا به من ذلك.
فهكذا الأسماء والصفات، لم يمنعهم انتفاء نظيرها ومثالها من فهم حقائقها، ومعانيها، بل قام بقلوبهم معرفة حقائقها، وانتفاء التمثيل والتشبيه، والتعطيل عنها. وهذا هو المثل الأعلى الذي أثبته الله تعالى لنفسه فقال: { وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) } [الروم: 27]، وقال سبحانه: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى: 11].
__________
(1) البخاري (4826)، مسلم (2246).
(2) فتح الباري 8/438.(1/21)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "والله - سبحانه وتعالى - لا تضرب له الأمثال التي فيها مماثلة لخلقه، فإن الله لا مثل له، بل له المثل الأعلى، فلا يجوز أن يشترك هو والمخلوق في قياس تمثيل، ولا في قياس شمول تستوي أفراده، ولكن يستعمل في حقه المثل الأعلى، وهو أن كل ما اتصف به المخلوق من كمال، فالخالق أولى به، وكل ما تنزه عنه المخلوق من نقص، فالخالق أولى بالتنزيه عنه، فإذا كان المخلوق منزّهًا عن مماثلة المخلوق مع الموافقة في الاسم، فالخالق أولى أن يُنزه عن مماثلة المخلوق وإن حصلت موافقة في الاسم"(1)1).
التنبيه الرابع: في بيان أن هذه الأسماء ليس لها عدد محدد:
أسماء الله تعالى ليست محصورة بعدد معين، وذلك لما ثبت عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله × قال: (ما أصاب أحدًا قط هم ولا حزن فقال: اللَّهُمَّ إني عَبْدُك وابن عبدك وابن أمَتِكَ، ناصيتي بيدكَ، ماضٍ في حُكْمُكَ، عدلٌ في قضاؤُكَ، أسألك بكل ِاسم هو لك سَميتَ به نَفسكَ، أو عَلَّمْتَهُ أحدًا من خَلقكَ، أو أنزلتهُ في كتابكَ، أو استأثرتَ به في علم الغَيْبِ عنْدكَ أنْ تَجْعَلَ القُرآنَ العظيْمَ رَبْيع قلبِي ونُور صَدْرِي، وَجَلاء حُزْنِي، وذهاب همِّي، إلا أذْهَبَ اللهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ، وأبدلهُ مَكَانَهُ فَرَجًا). قال: فقيل: يارسول الله ألا نتعلمها؟ فقال: (بلى، ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها)(2)1).
فما استأثر الله تعالى به في علم الغيب عنده، لا يمكن لأحد حصره ولا الإحاطة به.
__________
(1) شرح الرسالة التدمرية للشيخ عبد الرحمن البراك ص 165.
(2) رواه أحمد 1/391، والحاكم والطبراني في الكبير وصححه الألباني في الصحيحة رقم الحديث (199).(1/22)
وأما ما جاء في الحديث: "إن لله تعالى تسعة وتسعين اسمًا" فهذا لا يقطع بالحصر للأسماء في هذا العدد، ولو كان المراد ذلك لكانت العبارة: "إن أسماء الله تعالى تسعة وتسعون اسمًا" أو نحو ذلك، فمعنى الحديث إذًا: إن تسعة وتسعين اسمًا من أسماء الله - عز وجل - من شأنها أن من أحصاها دخل الجنة. وسيأتي مزيد تفصيل في مبحث قادم إن شاء الله تعالى.
التنبيه الخامس: المضاف إلى الله تعالى قسمان:
1- أعيان: وهي الذوات المنفصلة المستقلة بنفسها عما سواها، والمراد بها هنا: ما نسب إلى الله نسبة خلق وإيجاد، وهي إذا أضيفت إلى الله تعالى فإما أن تضاف إلى أنها مخلوق من مخلوقاته كقوله تعالى: { هَذَا خَلْقُ اللَّهِ } [لقمان: 11]. وإما أن تضاف لمعنى يختص به المضاف عن غيره، كأن تقتضي التشريف أو العناية أو أنها تمتاز عن غيرها من الأعيان، وذلك بما يناسب السياق، كما جاء في القرآن: { "èps%$tR !$# } [الأعراف: 73]، { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ } [الحج: 26] .
والإضافة الأولى تقتضي بيان ذلك المضاف ونوعه وكمال من أوجده وأتقن صنعته فكان في أحسن تقويم وأفضل نظام. والثانية تقتضي تشريف المضاف وتعظيمه في نفسه.
2- صفات: وهي المعاني والأعيان القائمة بالذوات، والمراد بها هنا: ما نسب إلى الله تعالى على أنه وصف قائم بذاته، كالعلم، والقدرة، والحياة، والوجه، واليدين.
وهذه الإضافة تقتضي نسبة الصفة إليه تعالى وأن تترتب عليها آثارها، وأن تنسب هذه الآثار للموصوف بها.
التنبيه السادس: دلالة أسماء الله تعالى على ذاته وصفاته تكون بالمطابقة وبالتضمن وبالالتزام:
دلالة الأسماء الحسنى قسمان:
1- دلالة عامة: وهي الدلالة على العَلَمية والوصفية. وهذا القسم من دلالتها لا علاقة له بدلالة الأفراد المعنية من أسماء الله، بل هي دلالة مطلقة من حيث هي أسماء الله الحسنى. وقد تقدم الكلام عليها.(1/23)
2- دلالة خاصة: وهي تستفاد من كل اسم من أسماء الله الحسنى بعينه، وهي ما دل لفظها على الذات وخصوص صفة، كدلالة: "الرحمن" على ذات الله تعالى وعلى صفة الرحمة. وهي باعتبار الدلالة اللفظية ثلاثة أنواع:
أ- دلالة مطابقة: وذلك بدلالة الاسم على جميع أجزائه: "الذات والصفات" دلالة اللفظ على كل معناه.
ب- دلالة تضمن: وذلك بدلالة الاسم على بعض أجزائه.
جـ- دلالة التزام: وذلك بدلالة الاسم على غيره من الأسماء أو الصفات التي تتعلق تعلقًا وثيقًا بهذا الاسم وإن كانت خارجة عنه.
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "ودلالة الأسماء على الذات والصفات تكون بالمطابقة، والتضمين، والالتزام فإن الدلالة نوعان: لفظية، ومعنوية عقلية، فإن أعطيت اللفظ جميع ما دخل فيه من المعاني فهي دلالة مطابقة، لأن اللفظ طابق المعنى من غير زيادة ولا نقصان، وإن أعطيته بعض المعنى فتسمى دلالة تضمن، لأن المعنى المذكور بعض اللفظ وداخل في ضمنه، وأما الدلالة المعنوية العقلية فهي خاصة بالعقل والفكر الصحيح؛ لأن اللفظ بمجرده لا يدل عليها وإنما ينظر العبد ويتأمل في المعاني اللازمة لذلك اللفظ الذي لا يتم معناها بدونه وما يشترط له من الشروط، وهذا يجري في جميع الأسماء الحسنى كل واحد منها يدل على الذات وتلك الصفة دلالة مطابقة، ويدل على الذات وحدها أو على الصفة وحدها دلالة تضمن. ويدل على الصفة الأخرى اللازمة لتلك المعاني دلالة التزام، مثال ذلك: { الرَّحْمَنِ } يدل على الذات وحدها وعلى الرحمة وحدها دلالة تضمن، وعلى الأمرين دلالة مطابقة، ويدل على الحياة الكاملة، والعلم المحيط، والقدرة التامة ونحوها دلالة التزام لأنه لا توجد الرحمة من دون حياة الراحم وقدرته الموصلة لرحمته، للمرحوم وعلمه به وبحاجته"(1)1).
التنبيه السابع: ما ثبت الدعاء به فهو اسم من أسماء الله الحسنى:
__________
(1) انظر الحق الواضح المبين ص 106، 107.(1/24)
لقوله تعالى: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ } بِهَا ، فما ورد في القرآن الكريم أو في السنة النبوية الصحيحة، ودعي به فهو اسم من أسماء الله عز وجل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن أسمائه التي ليست في التسعة والتسعين: اسمه السبوح... وكذلك أسماؤه المضافه مثل: أرحم الراحمين، وخير الغافرين، ورب العالمين، ومالك يوم الدين، وأحسن الخالقين، وجامع الناس ليوم لاريب فيه، ومقلب القلوب، وغير ذلك مما ثبت في الكتاب والسنة، وثبت الدعاء بها بإجماع المسلمين" (1)1).
التنبيه الثامن: ما ورد مقيدًا من الأسماء الحسنى في القرآن الكريم، فلا يكون اسمًا بهذا الورود:
مثل اسم "المنتقم"، فلم يرد إلا مقيدًا في قوله تعالى: { إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) } [السجدة: 22]، وفي قوله: { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) } [إبراهيم: 74] .
وكذلك إذا ورد في الكتاب والسنة اسم فاعل يدل على نوع من الأفعال ليس بعام شامل، فلا يعد من الأسماء الحسنى؛ مثل: الزارع، الذارئ، المسعِّر.
التنبيه التاسع: الأسماء المتضمنة صفة واحدة لا تعد اسمًا واحدًا:
بل كل صيغة من صيغ الاسم تعد اسمًا مستقلاً، مثال ذلك: "القادر"، "القدير"، "المقتدر" متضمنة لصفة القدرة، وتعد ثلاثة أسماء. وأسماء مثل: "العلي"، "الأعلى"، "المتعالي"، تعد ثلاثة أسماء مع تضمنها لصفة واحدة هي صفة العلو.
فالقادر اسم، والقدير اسم، والمقتدر اسم، مع أنها كلها متضمنة صفة واحدة، لأن بعضها يزيد بخصوصية عن الآخر، وقد وقع الاتفاق على أن اسمي "الرحمن"، "الرحيم" اسمان، مع كونهما متضمنين صفة واحدة، فتغير مباني وألفاظ الأسماء يدل على فرق في المعنى، وإذا تغير المعنى صار اسمًا مستقلاً بذاته.
التنبيه العاشر: الأسماء المقترنة التي لا يصح فيها إطلاق اسم منها دون الآخر تكون كالاسم الواحد:
__________
(1) مجموع الفتاوى 2/491 - 493.(1/25)
مثل: اسمي "القابض، الباسط"، واسمي "المقدم، المؤخر"؛ فكل مجموعة من هذه الأسماء وإن كانت تحوي اسمين مختلفين؛ لأن كل اسم منها يحمل معنى غير الآخر، لكنها تكون كالاسم الواحد في المعنى؛ فلا يصح إفراد اسم عن الآخر في الذكر؛ لأن الاسمين إذا ذكرا معًا دل ذلك على عموم قدرته وتدبيره، وأنه لا رب غيره، وإذا ذكر أحدهما لم يكن فيه هذا المدح، والله له الأسماء الحسنى (1)1).
التنبيه الحادي عشر: هل نصوص أسماء الله الحسنى محكمة أم متشابهة؟
يجيب على ذلك د. شحادة فيقول: "المحكم هو البينّ الواضح الذي لا يحتاج في معناه إلى غيره، وذلك لوضوحه. أما المتشابه فهو ما لا سبيل إلى إدراك حقيقته وكنهه.
ونصوص الأسماء الحسنى من النصوص المحكمة أيّما إحكام، بل هي من أحكم المحكمات، فمعانيها واضحة، ومن له علم بالعربية يستطيع التفريق بين اسم واسم، فنفهم من اسم "الرحمن" غير ما نفهمه من اسم "العزيز"، ونفهم من اسم "الغفور" غير ما نفهمه من اسم "الجبار".. وهكذا، وكذلك فإنَّ من إحكام الأسماء الحسنى تضمنها صفات الكمال، وأنها ليست أعلامًا مجردةً، فنعلم أن اسم الله "الحكيم" متضمن للحكمة الكاملة، وأن اسم الله "العزيز" متضمن للعزة الكاملة، وبهذا يتبين أن أسماء الله محكمة.
وأما ما تضمنته الأسماء من الصفات ففيه تفصيل: فإذا أريد معنى الصفة، فإنه أيضًا - محكم - وليس بمتشابه، لأننا نفهم القدر المشترك بين الصفتين أي: صفة الخالق، وصفة المخلوق من حيث اللفظ، والمعنى العام الذي يجعلنا نفهم معنى الخطاب.
وأما إذا أريد حقائق الصفات وكيفياتها فهذا من المتشابه الحقيقي الذي لا يعلم معناه إلا الله - عز وجل - فلا يعلمه من البشر أحدٌ"(2)1).
__________
(1) انظر المنهاج الأسنى وشحاته 1/64، 65.
(2) المنهاج الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى 1/26، 27.(1/26)
التنبيه الثاني عشر: أفعال الله تعالى صادرة عن أسمائه الحسنى وصفاته، وأما أفعال المخلوق فعنها صدرت أسماؤه وصفاته:
وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "فالرب تبارك وتعالى فعاله عن كماله، والمخلوق كماله عن فعاله، فاشتقت له الأسماء بعد أن كمل بالفعل، فالرب لم يزل كاملاً، فحصلت أفعاله عن كماله، لأنه كامل بذاته وصفاته، فأفعاله صادرة عن كماله، كمل ففعل، والمخلوق فعل فكمل من الكمال اللائق به"(1)1) .
التنبيه الثالث عشر: لا يدخل في أسماء الله تعالى ما جاءت النصوص مخبرة به أو ذكره بعض أهل العلم على وجه الإخبار لا على وجه تسمية الله تعالى ودعائه به:
فباب الإخبار يتوسع فيه مما لا يتوسع في باب التسمية والصفة؛ فقد أجاز بعض أهل العلم الإخبار عن الله تعالى بأنه موجود، وأنه شيء، وأنه ثابت، لكنهم لم يدخلوا مثل هذا في أسمائه وصفاته. وكل ما اشترطوه أن يخبر عنه باسم حسن أو ليس بسيِّئ، أما أسماؤه سبحانه فيشترط أن تكون حسنى.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ويفرق بين دعائه والإخبار عنه، فلا يدعى إلا بالأسماء الحسنى؛ وأما الإخبار عنه: فلا يكون باسم سيئ؛ لكن قد يكون باسم حسن، أو باسم ليس بسيئ، وإن لم يحكم بحسنه. مثل: اسم شيء، وذات، وموجود ... وكذلك المريد، والمتكلم؛ فإن الإرادة والكلام تنقسم إلى: محمود ومذموم، فليس ذلك من الأسماء الحسنى بخلاف الحكيم، والرحيم والصادق، ونحو ذلك، فإن ذلك لا يكون إلا محمودًا"(2)1).
__________
(1) بدائع الفوائد 1/147.
(2) مجموع الفتاوى 6/142 (باختصار).(1/27)
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "فباب الأفعال أوسع من باب الأسماء. وقد أخطأ أقبح الخطأ من اشتق له من كل فعل اسمًا، وبلغ بأسمائه زيادة على الألف فسماه: "الماكر، والمخادع، والفاتن، والكائد" ونحو ذلك، وكذلك باب الإخبار عنه بالاسم أوسع من تسميته به، فإنه يخبر عنه بأنه: "شيء، وموجود، ومذكور، ومعلوم، ومراد" ولا يسمى بذلك.
* * *
المبحث الثاني
شرح حديث: (إن لله تسعة وتسعين اسمًا...) الحديث.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله × قال: (إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة)(1)1).
وفي شرح هذا الحديث عدة وقفات:
الوقفة الأولى:
جاء في بعض روايات هذا الحديث تفصيل في ذكر هذه الأسماء التسعة والتسعين كما عند الترمذي وغيره ولكن أغلب العلماء ضعفوا هذه الرواية وردوها. وإنما الرواية الصحيحة هي التي عند البخاري ومسلم، وغيرهما مما لم يذكر فيها تفصيل لهذه الأسماء.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "إن التسعة والتسعين اسمًا لم يرد في تعيينها حديث صحيح عن النبي ×. وأشهر ما عند الناس فيها حديث الترمذي الذي رواه الوليد بن مسلم عن شعيب بن أبي حمزة. وحفاظ أهل الحديث يقولون: هذه الزيادة مما جمعه الوليد بن مسلم عن شيوخه من أهل الحديث..."(2)2).
الوقفة الثانية:
__________
(1) رواه البخاري 7392 ، ومسلم 2677.
(2) مجموع الفتاوى 22/482.(1/28)
ليس في الرواية الصحيحة لهذا الحديث ما يدل على حصر أسماء الله - عز وجل - بالعدد المذكور. وفي ذلك يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: "اتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه - سبحانه وتعالى - فليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين؛ وإنما مقصود الحديث أن هذه التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة، فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصر الأسماء"(1)1).
وقال الخطابي: "فجملة "من أحصاها" مكملة للجملة الأولى وليست استثنائية منفصلة، ونظير هذا قول العرب: إن لزيد ألف درهم أعدها للصدقة، وكقولك إن لعمرو مائة ثوب من زاره خلعها عليه. وهذا لا يدل على أنه ليس عنده من الدراهم أكثر من ألف درهم، ولا من الثياب أكثر من مائة ثوب، وإنما دلالته أن الذي أعده زيد من الدراهم للصدقة ألف درهم، وأن الذي أرصده عمرو من الثياب للخلع مائة ثوب"(2)2).
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - بعد نقله لكلام الخطابي: "وأيضًا فقوله: "إن لله تسعة وتسعين" تقيده بهذا العدد بمنزلة قوله تعالى: تِسْعَةَ { عَشَرَ (30) } [المدثر: 30]، فلما استقلوهم قال: { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ } [المدثر: 31]، فأن لا يعلم أسماءه إلا هو أولى"(3)3).
وقال أيضًا في درء تعارض العقل والنقل: "والصواب الذي عليه الجمهور أن قول النبي ×: (إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة) معناه: أن من أحصى التسعة والتسعين من أسمائه دخل الجنة، ليس مراده أنه ليس له إلا تسعة وتسعون اسمًا.
__________
(1) النووي 17/5؛ ويراجع الكلام النفيس لابن حجر - رحمه الله تعالى - في فتح الباري 11/218 على هذا الحديث.
(2) الخطابي الدعاء ص 24، عن كتاب المنهج الأسنى ص 28.
(3) مجموع الفتاوى 16/381.(1/29)
وقال: "وثبت في الصحيح أن النبي × كان يقول في سجوده: (اللَّهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك)(1)1).
فأخبر: أنه × لايحصي ثناءً عليه، ولو أحصى جميع أسمائه لأحصى صفاته، فكان يحصي الثناء عليه، لأن صفاته إنما يعبر عنها بأسمائه"(2)2).
ومن أقوى الأدلة على أن أسماء الله - عز وجل - ليست محصورة في "تسعة وتسعين اسمًا" ما رواه عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي × قال: (ما أصاب أحدًا قط هم ولا حزن فقال: اللَّهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله حزنه وهمه، وأبدل مكانه فرحًا)(3)3)".
ففي هذا الحديث دلالة على أن لله - عز وجل - أسماء لم ينزلها في كتاب ولم يعلمها لأحد من خلقه بل استأثر بها في علمه سبحانه وحجبها عن خلقه ولم يظهرها لهم.
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "إن الأسماء الحسنى لا تدخل تحت حصرٍ؛ ولا تُحدُّ بعددٍ، فإن لله تعالى أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده لا يعلمها ملكٌ مقربٌ ولا نبيٌ مرسلٌ، كما في الحديث الصحيح: (أسألك بكلِّ اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك).
فجعل أسماءه ثلاثة أقسام:
قسم: سمَّى به نفسه؛ فأظهره لمن شاء من ملائكته أو غيرهم، ولم ينزل به كتابه.
وقسم: أنزل به كتابه؛ فتعرف به إلى عباده.
__________
(1) مسلم (486).
(2) درء تعارض العقل والنقل 3/332، 333
(3) رواه أحمد 1/391، والحاكم، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (199).(1/30)
وقسم: استأثر به في علم غيبه؛ فلم يُطلع عليه أحدًا من خلقه، ولهذا قال: "استأثرت به" أي: انفردت بعلمه.
وليس المراد انفراده بالتسمي به، لأن هذا الانفراد ثابتٌ في الأسماء التي أنزل الله بها كتابه.
ومن هذا قول النبي × في حديث الشفاعة: "فيفتح عليَّ من محامده بما لا أحسنه الآن" (1)1). وتلك المحامد هي بأسمائه وصفاته.
ومنه قوله ×: (لا أحصي ثناءً عليك؛ أنت كما أثنيت على نفسك)(2)2).
وأما قوله ×: (إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة): فالكلام جملةٌ واحدةٌ. وقوله: (من أحصاها دخل الجنة): صفة لا خبر مستقل، والمعنى: له أسماء متعددة من شأنها أن: (من أحصاها دخل الجنة).
وهذا لا ينفي أن يكون له أسماء غيرها. وهذا كما تقول: (لفلان مائة مملوك؛ وقد أعدهم للجهاد. فلا ينفي هذا أن يكون له مماليك سواهم مُعدَّوْنَ لغير الجهاد، وهذا لا خلاف بين العلماء فيه)(3)1).
الوقفة الثالثة:
ما معنى الإحصاء في قول الرسول ×: (من أحصاها دخل الجنة)؟
جاء عند البخاري رواية أخرى للحديث فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ×: (لله تسعة وتسعين اسمًا - مئة إلا واحدًا - لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة. وهو وتر يحب الوتر)(4)2).
ففي الرواية الأولي قوله: (من أحصاها)، وفي الرواية الثانية: (لايحفظها) ويؤخذ من هذه الرواية تفسير الإحصاء بالحفظ.
ولقد ذكر أهل العلم في ذلك معاني عظيمة لا يصدق على أحد بأنه أحصاها على وجه التمام والكمال، أو حفظها حتى يأتي بها وهي كما يلي:
1- عدها وحفظها واستحضارها وأخذها من أدلتها، سواء ما ورد منها في الكتاب أو السنة.
__________
(1) البخاري (4712).
(2) مسلم (486).
(3) بدائع الفوائد 1/150 - 151.
(4) البخاري كتاب الدعوات باب لله مئة اسم غير واحد (الفتح 11/318).(1/31)
2- فهم معانيها ومعرفة مدلولاتها. وهذا من معاني الإحصاء الذي منه العقل والمعرفة. تقول العرب: فلان ذو حصاة، أي: ذو عقل ومعرفة بالأمور.
3- معرفة آثارها في الكون والحياة، والقلب قدر الطاقة؛ لأن هذا ميدان يتفاوت الناس في تحقيقه.
4- دعاء الله - عز وجل - بها والتعبد له سبحانه بها، وشهود آثارها في القلب، واللسان، والجوارح، والعمل بها.
فإذا قال: (السميع البصير) علم أن الله يسمعه ويراه، وأنه لا يخفى عليه خافية، فيخافه في سره وعلنه، ويراقبه في كافة أحواله، وإذا قال: يا رحمن يا رحيم تذكر صفة الرحمة واعتقد أنها من صفات الله سبحانه فيرجو رحمته، ولا ييأس من مغفرته. وإذا قال: "الرزاق" اعتقد أنه المتكفل برزقه يسوقه إليه في وقته فيثق في وعده وأنه لا رازق له سواه ... إلخ.
وهذه المعاني السابقة لإحصاء أسماء الله تعالى التسعة والتسعين وحفظها هي قول أهل العلم في شرحهم لهذا الحديث.
يبين الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى- مراتب إحصاء أسمائه سبحانه التي من أحصاها دخل الجنة، فيقول:
"المرتبة الأولى: إحصاء ألفاظها وعددها.
المرتبة الثانية: فهم معانيها ومدلولها.
المرتبة الثالثة: دعاؤه بها. كما قال تعالى: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } وهو مرتبتان: إحداهما: دعاء ثناء وعبادة، والثانية: دعاء طلب ومسألة فلا يثنى عليه إلا بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، وكذلك لايسأل إلا بها فلا يقال: يا موجود، ياذات، يا شيء اغفر لي وارحمني، بل يُسأل في كل مطلوب باسم يكون مقتضيًا لذلك المطلوب فيكون السائل متوسلاً إليه بذلك الاسم فيقول: يا غفار اغفر لي فإنك أنت الغفور الرحيم، يارزاق ارزقني إنك أنت الرزاق الكريم وهكذا(1)1)...
__________
(1) بدائع الفوائد: 1/148.(1/32)
وقال ابن بطال رحمه الله: "الإحصاء يقع بالقول، ويقع بالعمل، فالإحصاء القولي: يحصل بجمعها وحفظها، والسؤال بها، ولو شارك المؤمن غيره في العد والحفظ، فإن المؤمن يمتاز عنه بالإيمان والعمل بها. والإحصاء بالعمل: أن لله أسماء يختص بها كالأحد، والقدير، فيجب الإقرار بها والخضوع عندها، وله أسماء يستحب الاقتداء بها في معانيها، كالكريم، والعفو، فيستحب للعبد أن يتحلى بمعانيها ليؤدي حق العمل بها فبهذا يحصل الإحصاء العملي" (1)2).
ويوضح الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - دعاء العبادة والثناء على الله - عز وجل - بأسمائه وصفاته فيقول: "أما دعاء العبادة فيقتضي أن يتعبد العبد لله - سبحانه وتعالى - بمقتضى الأسماء. فتؤثر معرفة هذه الأسماء في عبوديته الظاهرة والباطنة. فإذا علم العبد بسمع الله، وعلمه، وبصره، وأنه لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور، يثمر له حفظ لسانه وجوارحه، وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضي الله" (2)1).
وينقل ابن حجر- رحمه الله تعالى - عن ابن بطال قوله: "طريق العمل بها - أي بالأسماء - أن الذي يسوغ الاقتداء به فيها كالرحيم، والكريم، فإن الله يحب أن يرى خلالها على عبده؛ فليمرن العبد نفسه على أن يصح له الاتصاف بها، وما كان يختص بالله تعالى كالجبار، والعظيم فيجب على العبد الإقرار بها والخضوع لها، وعدم التحلي بصفة منها، وما كان فيه معنى الوعد نقف منه عند الطمع والرغبة، وما كان فيه معنى الوعيد نقف منه عند الخشية والرهبة، فهذا معنى أحصاها وحفظها" (3)2).
* * *
الفصل الثاني
بيان منهج أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات
__________
(1) فتح الباري 13/390.
(2) مفتاح دار السعادة 2/90.
(3) فتح الباري 11/226.(1/33)
إن منهج أهل السنة والجماعة في دراسة أسماء الله - عز وجل- الحسنى وصفاته العلا هو المنهج العدل والخيار. وهو وسط بين المعطلة الجهمية ومن شايعهم في نفي الصفات وتعطيلها، وبين المشبهة الذين أفرطوا في الإثبات حتى شبهوا صفات الخالق - عز وجل - بصفات المخلوق العاجز، القاصر المحدود.
وقد بني هذا المنهج على أسس ثابتة من أخذ بها نجا - بإذن الله تعالى - من ضلالات هذا الطرف أو ذاك. وقد لخصها الشيخ الشنقيطي - رحمه الله تعالى - في رسالته القيمة (منهج دراسة الأسماء والصفات) وذلك بقوله: "اعلموا أن كثرة الخوض والتعمق في البحث في آيات الصفات، وكثرة الأسئلة في ذلك الموضوع من البدع التي يكرهها السلف.
واعلموا أن مبحث آيات الصفات دل القرآن العظيم أنه يتركز على ثلاثة أسس من جاء بها كلها فقد وافق الصواب وكان على الاعتقاد الذي كان عليه النبي ×، وأصحابه، والسلف الصالح، ومن أخل بواحد من تلك الأسس الثلاثة فقد ضل.
وكل هذه الأسس الثلاثة يدل عليها قرآن عظيم.
أحد هذه الأسس الثلاثة: هو تنزيه الله - جل وعلا - عن أن يشبه شيء من صفاته شيئًا من صفات المخلوقين. وهذا الأصل يدل عليه قوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ، { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد } ، { فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ . }
الثاني: من هذه الأسس: هو الإيمان بما وصف الله به نفسه، لأنه لايصف الله أعلم بالله من الله { ô أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ . }(1/34)
والإيمان بما وصفه به رسوله × لأنه لا يصف الله بعد الله أعلم بالله من رسول الله ×، الذي قال في حقه: { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } (4) [النجم: 3، 4]، فيلزم كل مكلف أن يؤمن بما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله × وينزه الله - جل وعلا - عن أن تشبه صفته صفة الخلق. وحيث أخل بأحد هذين الأصلين وقع في هوة ضلال، لأن من تنطع بين يدي رب السماوات والأرض، وتجرأ على الله بهذه الجرأة العظيمة ونفى عن ربه وصفًا أثبته لنفسه فهذا مجنون فالله - جل وعلا - يثبت لنفسه صفات كمال وجلال فكيف يليق لمسكين جاهل أن يتقدم بين يدي رب السماوات والأرض ويقول: هذا الذي وصفت به نفسك لا يليق بك ويلزمه من النقص كذا وكذا، فأنا أؤوله وألغيه وآتى ببدله من تلقاء نفسي من غير استناد إلى كتاب أو سنة. سبحانك هذا بهتان عظيم! ومن ظن أن صفة خالق السماوات والأرض تشبه شيئًا من صفات الخلق فهذا مجنون جاهل، ملحد ضال، ومن آمن بصفات ربه - جل وعلا - منزهًا ربه عن تشبيه صفاته بصفات الخلق فهو مؤمن منزه سالم من ورطة التشبيه والتعطيل. وهذا التحقيق هو مضمون: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) } [الشورى: 10، 11 ]، فهذه الآية فيها تعليم عظيم يحل جميع الإشكالات، ويجيب عن جميع الأسئلة حول الموضوع. ذلك لأن الله قال: { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } بعد قوله: لَيْسَ { كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } .
ومعلوم أن السمع والبصر من حيث هما سمع وبصر يتصف بهما جميع الحيوانات، فكأن الله يشير للخلق ألا ينفوا عنه صفة سمعه وبصره بادعاء أن الحوادث تسمع وتبصر وأن ذلك تشبيه بل عليهم أن يثبتوا له صفة سمعه وبصره على أساس لَيْسَ { كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } فالله - جل وعلا- له صفات لائقة بكماله وجلاله، والمخلوقات لهم صفات مناسبة لحالهم وكل هذا حق ثابت لا شك فيه...(1/35)
الثالث: أن تقطعوا أطماعكم عن إدراك حقيقة الكيفية؛ لأن إدراك حقيقة الكيفية مستحيل وهذا نص الله عليه في سورة (طه) حيث قال: { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } (110) (1)1)
[طه: 110 ].
ويفصل الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - هذه القواعد الثلاث فيقول في تفصيل القاعدة الأولى وهي "التنزيه": "من أسباب عبادة الأصنام: الغلوُّ في المخلوق؛ وإعطاؤه فوق منزلته؛ حتى جُعل فيه حظُّ من الإلهية، وشبَّهوه بالله سبحانه.
وهذا هو التشبيه الواقع في الأمم الذي أبطله الله سبحانه، وبعث رسله؛ وأنزل كتبه بإنكاره؛ والردِّ على أهله.
فهو سبحانه ينفي وينهى أن يجعل غيرُه مثلاً له، وندًا له، وشبهًا له؛ لا أن يُشبَّه هو بغيره، إذ ليس في الأمم المعروفة أمةٌ جعلته سبحانه مثلاً لشيء من مخلوقاته، فجعلت المخلوق أصلاً؛ وشبَّهت به الخالق، فهذا لايُعرف في طائفة من طوائف بني آدم، وإنما الأوَّل: هو المعروف في طوائف أهل الشرك؛ غلوًا فيمن يُعظِّمونه ويُحبِّونه؛ حتى شبَّهوه بالخالق؛ وأعطوه خصائص الإلهية؛ بل صرَّحوا أنه إلهٌ، وأنكروا جعل الآلهة إلهًا واحدًا، وقالوا: { وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ } [ص: 6]، وصرَّحوا بأنه إله معبودٌ ؛ يُرجى ويُخاف؛ ويُعظَّم ويُسجد له؛ ويُحلف باسمه؛ وتقرَّب له القرابين، إلى غير ذلك من خصائص العبادة التي لا تنبغي إلا لله تعالى.
فكلُّ مشركٍ: فهو مُشبِّهٌ لإلهه ومعبوده بالله سبحانه؛ وإن لم يُشبِّهه به من كلِّ وجهٍ، حتى إن الذين كفروا وصفوه سبحانه بالنقائص، والعيوب، كقولهم: { إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ } [آل عمران: 181]، وإن: { يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ } [المائدة: 64]. وإنه استراح لما فرغ من خلق العالم...(2)1).
__________
(1) منهج دراسة الأسماء والصفات "باختصار".
(2) إغاثة اللهفان2/322، 323.(1/36)
والقرآن مملوءٌ من إبطال أن يكون في المخلوقات ما يُشبه الربَّ تعالى أو يماثله، فهذا هو الذي قُصِدَ بالقرآن؛ إبطالاً لما عليه المشركون والمُشبِّهون العادلون بالله تعالى غيره. قال تعالى: { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 22]، وقال: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } [البقرة: 165] ، فهؤلاء جعلوا المخلوق مثلاً للخالق، فالندُّ: الشبه. يقال: فلانٌ ندُّ فلانٍ؛ ونديده: أي مثله وشبهه. ومنه قول حسَّان بن ثابتٍ - رضي الله عنه -:
أتهجوه ولست له بندٍّ فشرُّكما لخيركما الفداء
ومنه قول النبي × لمن قال له ما شاء الله وشئت: (أجعلتني لله ندّاً)(1)1) .
وقال جرير:
أتيمًا تجعلون إليَّ ندّاً وما تَيْمٌ لذي حَسَبٍ نديدُ
... ومثله قوله تعالى عن هؤلاء المُشبِّهين أنهم يقولون في النار لآلهتهم: { تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) }
[الشعراء: 97، 98].
فاعترفوا أنهم كانوا في أعظم الضلال وأبينه؛ إذ جعلوا لله شبهًا وعدلاً من خلقه؛ سوَّوهم به في العبادة والتعظيم.
وقال تعالى: { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) } [مريم: 56].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "شبهًا ومثلاً".
وهو من يُساميه، وذلك نفي عن المخلوق أن يكون مشابهًا للخالق ومماثلاً له؛ بحيث يستحقُّ العبادة والتعظيم، ولم يقل سبحانه هل تعلمه سميّاً أو مشبهًا لغيره، فإن هذا لم يقله أحدٌ، بل المشركون المُشبِّهون جعلوا بعض المخلوقات مشابهًا به مساميًا، وندّاً، وعدلاً، فأنكر عليهم هذا التشبيه، والتمثيل.
__________
(1) البخاري في الأدب المفرد (804) وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد ص 292.(1/37)
وكذلك قوله: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ }
[النحل: 73].
فنهاهم أن يضربوا له مثلاً من خلقه، ولم ينههم أن يضربوه هو مثلاً لخلقه، فإن هذا لم يقله أحدٌ، ولم يكونوا يفعلونه، فإن الله سبحانه أجلُّ وأعظم وأكبر من كلِّ شيءٍ في فطر الناس كلِّهم، ولكن المشبهون المشركون يغلون فيمن يُعظِّمونه فيشبِّهونهم بالخالق، والله تعالى أجلُّ في صدور جميع الخلق من أن يجعلوا غيره أصلاً؛ ثم يُشبِّهونه سبحانه بغيره.
فالذي يُشبِّهه بغيره إن قصد تعظيمه: لم يكن في هذا تعظيمٌ، لأنه مَثَّل أعظم العظماء بما هو دونه؛ بل بما ليس بينه وبينه نسبةٌ وشَبَهٌ في العظمة والجلالة، وعاقلٌ لا يفعل هذا، وإن قصد التنقيص: شَبَّهَه بالناقصين المذمومين؛ لا بالكاملين الممدوحين.
ومن هنا يُعلم أن إثبات صفات الكمال له لا يتضمَّن التشبه والتمثيل؛ لا بالكاملين ولا بالناقصين، وأن نفي تلك الصفات يستلزم تشبيهه بأنقص الناقصين.
فانظر إلى الجهمية وأتباعهم: جاءوا إلى التشبيه المذموم فأعرضوا عنه صفحًا، وجاءوا إلى الكمال والمدح؛ فجعلوه تشبيهًا وتمثيلاً، عكس ما يُثبته القرآن وجاء به من كلِّ وجه.
ومن هذا قوله تعالى: { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4) } [الإخلاص:4]، هو سلب عن المخلوق مكافأته ومماثلته للخلق سبحانه، ولم يقل: ولم يكن هو كفوًا لأحدٍ، فينفي عن نفسه مشابهته للمخلوق ومكافأته له، إذ كان ذلك أبين وأظهر من أن يُحتاج إلى نفيه.(1/38)
وسرُّ ذلك: أن المقصود أن المخلوق لا يُماثله سبحانه في شيءٍ من صفاته وخصائصه، وأما كونه سبحانه هو لا يُماثل المخلوق ولا يُشابهه؛ ولا هو ندٌّ له ولا كفؤٌ: فليس فيه مدح له، فإنه لو مُدِحَ بعضُ الملوك أو غيرُهم بأنه لا يُشبه الحيوانات، ولا الحجارة، ولا الخشب ونحو ذلك: لم يُعدَّ هذا مدحًا ولا ثناء عليه ولا كمالاً له، بخلاف ما إذا قيل: لا تجعل للمَلِك ندّاً ولا كفؤًا ولا شبيهًا من رعيَّته؛ تُعظِّمه كتعظيمه، وتُطيعه كطاعته، فإنه ليس في رعيَّته من يُساميه، ولا يُماثله، ولا يُكافئه: كان هذا غاية المدح.
وكذلك قوله سبحانه: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) } [الشورى: 11] إنما قُصِدَ به نفي أن يكون معه شريكٌ أو معبودٌ يستحق العبادة والتعظيم؛ كما يفعله المُشبِّهون والمشركون، ولم يُقصد به نفي صفات كماله؛ وعُلُوِّه على خلقه وتكلَّمه بكتبه وتكليمه لرسله؛ ورؤية المؤمنين له جهرة بأبصارهم كما تُرى الشمسُ والقمرُ في الصحو، فإنه سبحانه إنما ذكر هذا في سياق ردِّه على المشركين الذين اتخذوا من دونه أولياء يوالونهم من دونه (1).
__________
(1) إغاثة اللهفان 2/322 - 338 "باختصار".(1/39)
ويقول في موطن آخر: "الفرق بين تنزيه الرسل وتنزيه المعطلة: أن الرسل نزَّهوه سبحانه عن النقائص والعيوب التي نزَّه نفسه عنها وهي المنافية لكماله وكمال ربوبيته وعظمته كالسِّنة، والنوم، والغفلة، والموت، واللغوب والظلم وإرادته، والتسمِّي به، والشريك، والصاحبة والظهير، والولد والشفيع بدون إذنه وأن يترك عباده سدى هملاً وأن يكون خَلَقَهم عبثًا، وأن يكون خَلَقَ السماوات والأرض وما بينهما باطلاً لا لثواب ولا عقابٍ؛ ولا أمرٍ ولانهيٍ، وأن يُسوِّي بين أوليائه وأعدائه؛ وبين الأبرار والفجار؛ وبين الكفار والمؤمنين، وأن يكون في مُلكه ما لا يشاء أن يحتاج إلى غيره بوجهٍ من الوجوه، وأن يكون لغيره معه من الأمر شيءٌ؛ وأن يعرض له غفلةٌ أو سهوٌ أو نسيانٌ؛ وأن يُخلف وَعْدَه أو تُبدَّل كلماتُه، أو يُضاف إليه الشرُّ اسمًا أو وصفًا أو فعلاً، بل أسماؤه كلُّها حسنى؛ وصفاته كلُّها كمالٌ؛ وأفعاله كلُّها خيرٌ وحكمةٌ ومصلحةٌ، فهذا تنزيه الرسل لربِّهم.
وأما المعطلون فنزَّهوه عما وصف به نفسه من الكمال، فنزَّهوه عن أن يتكلَّم أو يُكلِّم أحدًا، ونزَّهوه عن استوائه على عرشه؛ وأن تُرفع إليه الأيدي؛ وأن يصعد إليه الكلم الطيِّب؛ وأن ينزل من عنده شيءٌ؛ أو تعرج إليه الملائكة والروح؛ وأن يكون فوق عباده وفوق جميع مخلوقاته عاليًا عليها، ونزَّهوه أن يقبض السماوات بيده والأرض باليد الأخرى؛ وأن يُمسك السماوات على أصبع والأرض على أصبع والجبال على أصبع والشجر على أصبع، ونزَّهوه أن يكون له وجهٌ؛ وأن يراه المؤمنون بأبصارهم في الجنة؛ وأن يُكلِّمهم ويُسلِّم عليهم ويتجلَّى لهم ضاحكًا؛ وأن ينزل كلَّ ليلةٍ إلى السماء الدنيا فيقول: (من يستغفرني فأغفر له؛ من يسألني فأعطيه)(1). فلا نزول عندهم ولا قولٌ.
__________
(1) البخاري (1145) و(6321) مع تقديم السؤال على الاستغفار.(1/40)
ونزَّهوه أن يفعل شيئًا لشيءٍ؛ بل أفعاله لا لحكمةٍ ولا لغرضٍ مقصودٍ، ونزَّهوه أن يكون تامَّ المشيئة نافذَ الإرادةِ؛ بل يشاء الشيء ويشاء عبادُه خلافه؛ فيكون ما شاء العبد دون ما شاء الربُّ؛ ولا يشاء الشيء فيكون ما لا يشاء ويشاء ما لا يكون؛ وسموا هذا: عدلاً؛ كما سموا ذلك التنزيه : توحيدًا.
ونزَّهوه عن أن يُحِبَّ أو يُحَبَّ، ونزَّهوه عن الرأفة والرحمة والغضب والرضا، ونزَّهه آخرون عن السمع والبصر؛ وآخرون عن العلم، ونزهه آخرون عن الوجود؛ فقالوا: الذي فرَّ إليه هؤلاء المُنزِّهون من التشبيه والتمثيل: يلزمنا في الوجود؛ فيجب علينا أن نُنزِّهه عنه.
فهذا تنزيه الملحدين؛ والأول تنزيه المرسلين"(1).
كما يفصل ابن القيم - رحمه الله تعالى - في القاعدة الثانية وهي "الإثبات" فيقول: "رؤوس المثبتة: آدم، ونوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وإبراهيم الخليل، وسائر الأنبياء من ذريته، وموسى الكليم، وعيسى.
وجاء خاتمهم وآخرهم وأعلمهم بالله سيِّد ولد آدم: محمد بن عبدالله، عبدالله ورسولُه، فجاء بالإثبات المفصَّل الذي لم يأت رسولٌ بمثله، فصرَّح من إثبات الصفات والأفعال بما لم يُصرِّح به نبيٌّ قبله؛ وذلك لكمال عقول أمته؛ وكمال تصديقهم؛ وصحة أذهانهم.
فرسول الله × حامل لواء الإثبات، وتحت ذلك اللواء: آدم وجميع الأنبياء وأتباعهم، ثم المهاجرون، والأنصار، وأهل بدر، وأهل بيعة الرضوان وسائر الصحابة، ثم التابعون لهم بإحسان ممن لا يحصيهم إلا الله، ثم أتباع التابعين، ثم أئمة الفقه في الأعصار والأمصار - منهم الأئمة الأربعة - ثم أهل الحديث قاطبة، وأئمة التفسير، والتصوُّف، والزهد، والعبادة المقبولون عند الأمة ممن لا يحصي عددهم إلا الله.
فهل سُمعَ في الأولين والآخرين بمثل أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلى، والعشرة المشهود لهم بالجنة، وسائر المهاجرين والأنصار؟
__________
(1) الروح ص 577 - 579، دار ابن كثير ت: يوسف بديوي.(1/41)
وهل سُمِعَ بقومٍ أتمَّ عقولاً، وأصحَّ أذهانًا، وأكملَ علمًا، ومعرفة، وأزكى قلوبًا من هؤلاء؛ الذين قال الله فيهم: { قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى } [النمل: 59].
قال غير واحد من السلف: "هم أصحاب محمد ×".
قال فيهم عبد الله بن مسعود: "من كان منكم مستنًا فليستنَّ بمن قد مات، فإن الحيَّ لا تُؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمدٍ، أبرُّ هذه الأمة قلوبًا؛ وأعمقها علمًا؛ وأقلّها تكلُّفا، قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقَّهم، وتمسَّكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم". فهؤلاء أمراء هذا الشأن.
ومنهم التابعون كلُّهم، ثم الذين يلونهم، مثل: مالك ابن أنس، وسفيان بن عيينة، وسفيان الثوري، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وعبد الله بن المبارك، وأبي زرعة الرازيين وأمثالهم.
وأما عامَّتهم: فأهل الدين، والصدق، والورع، والزهد، والعبادة والإخلاص؛ واجتناب المحارم، وتوقي المآثم.
وأما رؤوس النفاة والمعطلين: ففرعون، إذ يقول: { يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } [غافر: 36. 37] وجنوده كلُّهم، ونمرود بن كنعان، هذا خصم إبراهيم الخليل؛ وذاك خصم موسى الكليم.
وأرسطاطاليس وبقراطيس، وأضرابهما.
فليعتبر العاقل خواصَّ هؤلاء وهؤلاء؛ وعوامَّ هؤلاء وهؤلاء، وليقابل بين الطائفتين، وحينئذ يتبين له: أنه ما كان ولا يكون ولي لله: إلا من أهل الإثبات، وما كان ولا يكون ولي للشيطان: إلا من أهل النفي والتعطيل"(1).
__________
(1) الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة 3/1117، 1121 "باختصار".(1/42)
ويقول في موطن آخر: "الفرق بين توحيد المرسلين وتوحيد المعطلين: أن توحيد الرسل: إثبات صفات الكمال لله على وجه التفصيل؛ وعبادته وحده لا شريك له، فلا يُجعل له ندًا في قصد ولا حبٍّ ولا خوفٍ ولارجاءٍ ولا لفظٍ ولا حلفٍ ولا نذرٍ، بل يرفع العبدُ الأندادَ له من قلبه وقصده ولسانه وعبادته؛ كما أنها معدومةٌ في نفس الأمر لا وجود لها البتة، فلا يجعل لها وجودًا في لبه ولسانه.
وأما توحيد المعطلين: فنفي حقائق أسمائه وصفاته وتعطيلها، ومن أمكنه منهم تعطيلها من لسانه: عطَّلها؛ فلا يذكرها ولا يذكر آية تتضمنها ولا حديثًا يُصرِّح بشيءٍ منها، ومن لم يُمكنه تعطيل ذكرها سطا عليها بالتحريف ونفى حقيقتها، وجعلها اسمًا فارغًا لا معنى له أو معناه من جنس الألغاز والأحاجي"(1). أهـ.
ويقول أيضًا: "ندين بإثبات الصفات وحقائق الأسماء؛ وإن سُمِّي تجسيمًا، وندين بإثبات عُلُوِّ الله على عرشه فوق سماواته؛ وإن سُمِّي تحيزًا أو جهة، وندين بإثبات وجهه الأعلى ويديه المبسوطتين؛ وإن سُمِّي تركيبًا، وندين بحبِّ أصحاب رسول الله ×؛ وإن سُمِّي نصبًا، وندين بأنه مُكلِمٌ مُتكلِّمٌ حقيقة كلامًا يسمعه من خاطبه وأنه يُرى بالأبصار عيانًا حقيقة يوم لقائه؛ وإن سُمِّي ذلك تشبيهًا"(2).
- وعن الأساس الثالث من أسس منهج دراسة الأسماء والصفات وهو "قطع الطمع من إدراك الكيفية".
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "إن من أثبت له سبحانه السمع والبصر أثبتهما حقيقة وفهم معناهما، فهكذا سائر صفاته المقدسة يجب أن تُجرى هذا المجرى، وإن كان لا سبيل لنا إلى معرفة كنهها وكيفيتها، فإن الله سبحانه لم يكلف عباده بذلك، ولا أراده منهم، ولم يجعل لهم إليه سبيلاً"(3).
ويقول في موطن آخر وهو يشرح كلام الهروي في منازل السائرين وذلك في قوله: "ولا يأس من إدراك كنهها وابتغاء تأويلها".
__________
(1) الروح ص 576 - 577.
(2) مدارج السالكين 3/420.
(3) المصدر السابق 3/420.(1/43)
قال رحمه الله تعالى: "يعني أن العقل قد يئس من تعرف كنه الصفة وكيفيتها فإنه لا يعلم كيف الله إلا الله، وهذا معنى قول السلف "بلا كيف" أي بلا كيف يعقله البشر.
فإن من لا تعلم حقيقة ذاته وماهيته، كيف تعرف كيفية نعوته وصفاته؟ ولا يقدح ذلك في الإيمان بها، ومعرفة معانيها. فالكيفية وراء ذلك، كما أنا نعرف معاني ما أخبر الله به من حقائق ما في اليوم الآخر. ولا نعرف حقيقة كيفيته، مع قرب ما بين المخلوق والمخلوق . فَعَجْزُنَا عن معرفة كيفية الخالق وصفاته أعظم وأعظم.
فكيف يطمع العقل المخلوق المحصور المحدود في معرفة كيفية من له الكمال كله، والجمال كله، والعلم كله، والقدرة كلها، والعظمة كلها، والكبرياء كله؟ من لو كُشِف الحجاب عن وجهه لأحرقت سبحاته السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما. وما وراء ذلك؟ الذي يقبض سماواته بيده فتغيب كما تغيب الخردلة في كف أحدنا. الذي نسبة علوم الخلائق كلها إلى علمه أقل من نسبة نَقْرَة عصفور من بحار العلم الذي لو أن البحر يُمِدُّهُ من بعده سبعة أبحر مدادٌ، وأشجار الأرض من حين خلقت إلى قيام الساعة أقلام لفني المداد، وفنيت الأقلام، ولم تَنْفدْ كلماته. الذي لو أن الخلق من أول الدنيا إلى آخرها - إنسهم وجنهم، وناطقهم وأعجمهم - جُعلوا صفًا واحدًا: ما أحاطوا به سبحانه. الذي يضع السماوات على إصبع من أصابعه، والأرض على إصبع، والجبال على إصبع، والأشجار على إصبع. ثم يَهُزُّهُنَّ. ثم يقول: أنا الملك.
فقاتل الله الجهمية والمعطلة! أين التشبيه ههنا؟ وأين التمثيل؟ لقد اضمحل ههنا كل موجود سواه. فضلاً عن أن يكون له ما يماثله في ذلك الكمال، ويشابهه فيه. فسبحان من حجب عقول هؤلاء عن معرفته، وولاَّها ما تولَّت من وقوفها مع الألفاظ التي لا حرمة لها، والمعاني التي لا حقائق لها" (1).
__________
(1) مدارج السالكين 3/359 - 360.(1/44)
وقول السلف "بلا كيف" نفي للتأويل الفاسد في أسماء الله تعالى وصفاته وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "ومراد السلف بقولهم "بلا كيف" هو نفي التأويل فإنه التكييف الذي يزعمه أهل التأويل، فإنهم هم الذين يثبتون كيفية تخالف الحقيقة فيتبعونه في ثلاثة محاذير: نفي الحقيقة، وإثبات التكييف، وتعطيل الرب تعالى عن صفته التي أثبتها لنفسه"(1) 2).
وأهل السنة عندما ينفون الكيفية لا ينفونها مطلقًا - فإن كل شيء لا بد أن يكون على كيفية ما - وإنما أرادوا نفي علمهم بالكيفية، إذ لا يعلم كيفية ذاته وصفاته إلا هو سبحانه وتعالى(2).
* * *
الفصل الثالث
شرح بعض أسماء اللَّه الحسنى وذكر بعض آثارها وثمرات الإيمان بها
وهذا الفصل هو الهدف الأساس من تأليف هذه الرسالة. ولقد سبق القول بأن أجل المقاصد وأنفع العلوم هو العلم بمعاني أسماء الله - عز وجل - وصفاته العلا لا للعلم بها فحسب، ولكن للتعبد لله تعالى بها وظهور آثارها في قلب العبد وجوارحه. ذلك أن العلم بأسماء الله تعالى يحقق العلم الصحيح بفاطر السماوات والأرض، وخالق كل شيء وربه ومليكه. وهذا يستلزم عبادته وحده وخشيته وتعظيمه وإجلاله ومحبته، والتوكل عليه وحده وتفويض الأمور إليه.
ومع أهمية هذا الجانب في دراسة الأسماء والصفات وجلالة قدره إلا أن هناك غفلة عنه عند كثير من المسلمين، بل وعند كثير من طلبة العلم أثناء دراستهم لهذا العلم الشريف أو تدريسه للناس، وما أبرئ نفسي.
__________
(1) اجتماع الجيوش الإسلامية ص 199.
(2) انظر شرح العقيدة الواسطية "للدكتور محمد خليل هراس رحمه الله" ص 69.(1/45)
يقول العز بن عبد السلام: "فهم معاني أسماء الله تعالى وسيلة إلى معاملته بثمراتها من: الخوف، والرجاء، والمهابة، والمحبة، والتوكل، وغير ذلك من ثمرات معرفة الصفات"(1)1)، وكلما حقق العبد أسماء الله، تعالى، وصفاته علمًا وعملاً وحالاً كلما كان أعظم وأكمل توحيدًا. وفي المقابل فإن هناك تلازمًا بين إنكار الأسماء والصفات وبين الشرك وضعف أعمال القلوب أو ذهابها.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "ولا يتم التوكل إلا بمعرفة الرب وصفاته من قدرته، وكفايته، وقيوميته، وانتهاء الأمور إلى علمه، وصدورها عن مشيئتة وقدرته.
قال شيخنا ابن تيمية رحمه الله تعالى: ولذلك لا يصح التوكل ولا يتصور من فيلسوف ، ولا من القدرية النفاة القائلين بأن يكون في ملكه ما لايشاؤه، ولا يستقيم من الجهمية النفاة لصفات الرب جل جلاله. ولا يستقيم التوكل إلا من أهل الإثبات... فكل من كان بالله وصفاته أعلم وأعرف كان توكله أصح وأقوى والله - سبحانه وتعالى - أعلم"(2)1).
كما أن التعبد بأسماء الله تعالى وصفاته سبب رئيس لسلامة القلب من آفات الحسد والكبر كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "لو عرف ربه بصفات الكمال ونعوت الجلال، وعرف نفسه بالنقائص والآفات لم يتكبر ولم يحسد أحدًا على ما آتاه الله"(3)2).
والمقصود ذكر موجبات، وآثار، ولوازم أسماء الله - عز وجل - الحسنى والتي تعني التعبد لله تعالى بأسمائه الحسنى "إذ كل اسم له تعبد مختص به علمًا ومعرفة وحالاً. وله صفة خاصة، وكل صفة لها مقتضى وفعل إما لازم وإما متعد، ولذلك الفعل تعلق بمفعول هو من لوازمه. وذلك في خلقه وأمره، وثوابه، وعقابه وكل ذلك آثار الأسماء الحسنى وموجباتها" (4)3).
__________
(1) شجرة المعارف والأحوال ص1.
(2) زاد المعاد 3/229 - 235 بتصرف يسير واختصار.
(3) الفوائد ص 150.
(4) مدارج السالكين 1/417.(1/46)
"وأكمل الناس عبودية: المتعبد بجميع الأسماء والصفات التي يطلع عليها البشر. فلا تحجبه عبودية اسم عن عبودية اسم آخر، كمن يحجبه التعبد باسمه "القدير" عن التعبد باسمه "الحليم الرحيم"، أو يحجبه عبودية اسمه "المعطي" عن عبودية اسمه "المانع"، أو عبودية اسمه "الرحيم، والعفوّ، والغفور" عن اسمه "المنتقم"، أو التعبد بأسماء "التودد، والبر، واللطف، والإحسان" عن أسماء "العدل، والجبروت، والعظمة، والكبرياء" ونحو ذلك.
وهذه طريقة الْكُمَّل من السائرين إلى الله. وهي طريقة مشتقة من قلب القرآن. قال الله تعالى: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } والدعاء بها يتناول دعاء المسألة، ودعاء الثناء، ودعاء التعبد. وهو سبحانه يدعو عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته، ويثنوا عليه بها، ويأخذوا بحظهم من عبوديتها.
وهو سبحانه يحب موجب أسمائه وصفاته.
فهو "عليم" يحب كل عليم، "جَوَادٌ" يُحب كل جواد، "وتر" يحب الوتر، "جميل" يحب الجمال، "عفو" يحب العفو وأهله، "حَيِ" يحب الحياء وأهله، "بَرٌّ" يحب الأبرار، "شكور" يحب الشاكرين، "صبور" يحب الصابرين، "حليم" يحب أهل الحلم" (1)1).
وفي هذا الفصل نحاول قدر المستطاع - وبجهد المقل - أن نقف مع أسماء الله الحسنى التي ورد ذكرها في الكتاب والسنة الصحيحة؛ وذلك من الجوانب التالية:
1- ذكر الدليل على كل اسم من الأسماء الحسنى.
2- شرح معنى الاسم ومتعلقاته حسب ما تدركه عقول البشر.
3- ذكر آثار وموجبات كل اسم وما يقتضيه من العبوديات لله - عز وجل -.
4- ذكر اقتران بعض الأسماء ببعضها في بعض الآيات، ومحاولة التعرف على بعض دلالاته.
__________
(1) مدارج السالكين 1/420.(1/47)
وقد جاء في تعداد الأسماء الحسنى آثار لم تصح، لذا لم يكن اعتمادنا في تعداد أسماء الله الحسنى على هذه الآثار. وإنما كان المعول على ما ثبت في القرآن الكريم والسُّنَّة الصحيحة من هذه الأسماء. وقد أفدت كثيرًا من بعض الكتب التي كتبت في هذا الموضوع؛ وذلك في تعدادها وذكر أدلتها، ومعانيها، وموجباتها، فجزى الله مؤلفيها خيرًا.
وأسوق فيما يلي تعدادًا مجردًا لأسماء الله الحسنى التي دل الدليل على إثباتها، ثم أدخل بعد ذلك في الشرح المفصل لكل اسم؛ وذلك بذكر دليله، ومعناه، ومقتضاه وكيف يكون التعبد به لله عز وجل.
(1) [الله]. (2) [الرب].
(3، 4) [الواحد]، [الأحد]. (5، 6) [الرحمن]، [الرحيم].
(7) [الحي]. (8) [القيوم].
(9) [الأول]. (10) [الآخر].
(11) [الظاهر]. (12) [الباطن].
(13) [الوارث]. …(14) [القدوس].
(15) [السبوح]. …(16) [السلام].
(17) [المؤمن]. (18) [الحق].
(19) [المتكبر]. (20) [العظيم].
(21) [الكبير].
(22)، (23)، (24) [العلي، الأعلى، المتعال]. (25) [اللطيف].
(26) [الحكيم]. (27) [الواسع].
(28، 29، 30) [العليم، العالم، علام الغيوب].
(31، 32، 33) [الملك، المليك، مالك الملك]. (34) [الحميد].
(35) [الخبير]. (36) [المجيد].
(37) [القوي]. (38) [المتين].
(39) [العزيز].
(40، 41) [القاهر، القهار].
(42، 43، 44) [القادر، القدير، المقتدر]. (45) [الجبار].
(46، 47) [الخالق، الخلاق]. (48) [البارئ].
(49) [المصور]. (50) [المهيمن].
(51)، 52) [الحافظ، الحفيظ].
(53، 54) [الولي، المولى].
(55، 56) [النصير، خير الناصرين].
(57، 58) [الوكيل، الكفيل]. (59) [الكافي].
(60) [الصمد]. (61، 62) [الرازق، الرزَّاق].
(63) [الفتاح]. (64) [المبين].
(65) [الهادي].
(66، 67) [الحكم، خير الحاكمين]. (68) [الرؤوف].
(69) [الودود]. (70) [البر].
(71) [الحليم].
(72، 73، 74) [غافر الذنب، الغفور، الغفار].
(75) [العفو]. (76) [التواب].(1/48)
(77، 78) [الكريم، الأكرم]. (79، 80) [الشاكر، الشكور].
(81) [السميع]. (82) [البصير].
(83) [الشهيد]. (84) [الرقيب].
(85) [القريب]. (86) [المجيب].
(87) [المحيط]. (88) [الحسيب].
(89) [الغني]. (90) [الوهاب].
(91) [المقيت]. (93،92) [القابض، الباسط].
(95،94) [المقدم، المؤخر].
(96) [الرفيق]. … (97) [المنان].
(98) [الجواد]. (99) [المحسن].
(100) [الستير]. (101) [الديان].
(102، 103) [الشافي، الطبيب]. (104) [السيد].
(105) [الوتر]. (106) [الحيي].
(107) [الطيب]. (108) [المعطي].
(109) [الجميل].
- - -
(1) [الله جل جلاله]
وهو الجامع لجميع معاني أسماء الله الحسنى، والمتضمن لسائر صفات الله تعالى وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "ولهذا يضيف الله تعالى سائر الأسماء الحسنى إلى هذا الاسم العظيم كقوله تعالى: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } ، ويقال: "الرحمن، والرحيم، والقدوس، والسلام، والعزيز، والحكيم" من أسماء الله، ولا يقال: "الله" من أسماء "الرحمن"، ولا من أسماء "العزيز" ونحو ذلك فعلم أن اسمه "الله" مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى دالٌ عليها بالإجمال، والأسماء الحسنى تفصيل وتبيين لصفات الإلهية التي اشتق منها اسم "الله"، واسم "الله" دالٌ على كونه مألوهًا معبودًا، تألهه الخلائق محبة، وتعظيمًا، وخضوعًا، وفزعًا إليه في الحوائج والنوائب، وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته، المتضمن لكمال الملك والحمد. وإلهيته، وربوبيته، ورحمانيته، وملكه مستلزم لجميع صفات كماله إذ يستحيل ثبوت ذلك لمن ليس بحي، ولا سميع، ولا بصير، ولا قادر، ولا متكلم، ولا فعال لما يريد، ولا حكيم في أفعاله.
وصفات الجلال والجمال أخص باسم "الله". وصفات الفعل والقدرة، والتفرد بالضر والنفع، والعطاء والمنع، ونفوذ المشيئة وكمال القوة وتدبير أمر الخليقة: أخص باسم "الرب".(1/49)
وصفات الإحسان، والجود، والبر، والحنان والمنة، والرأفة واللطف أخص باسم "الرحمن" وكرر إيذانًا بثبوت الوصف وحصَول أثره، وتعلقه بمتعلقاته"(1)1).
وقد ذكر اسم "الله" في القرآن في (2724) مرة، واسم "الله" - تبارك وتعالى - خاص به سبحانه وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى أنه اسم مشتق واختلفوا في أصل اشتقاقه فقيل: إنه من "إله" مثل: "فعال" فأدخلت الألف واللام بدلاً من الهمزة مثل: "الناس" أصله "أناس" فقيل: "الله" فإله "فعال" بمعنى: مفعول كأنه مألوه أي: معبود مستحق للعبادة، يعبده الخلق ويؤلهونه، والتأله: التعبد. وهذا معروف في كلام العرب فهو دال على صفات الألوهية.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه اسم جامد غير مشتق علم على الذات المقدسة وقالوا: أن الألف واللام من بنية هذا الاسم ولم يدخلا للتعريف. والدليل على ذلك: دخول حرف النداء عليه. وحروف النداء لا تجتمع مع الألف واللام اللتين للتعريف فأنت تقول: "يا ألله" ولا تقول: "يالرحمن"، ولا "يالبصير" فدل على أن الألف واللام من بنية الاسم. والصواب أنه مشتق، لأن أصله (إله) بمعنى مألوه، أي معبود، فهو دال على صفات الإلهية.
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "الله: هو المألوه المعبود، ذو الألوهية، والعبودية على خلقه أجمعين، لما اتصف به من صفات الألوهية التي هي صفات الكمال، وأخبر أنه الله الذي له جميع معاني الألوهية وأنه هو المألوه المستحق لمعاني الألوهية كلها، التي توجب أن يكون المعبود وحده، المحمود وحده، المشكور وحده، المعظم المقدس ذو الجلال والإكرام، واسم الله هو الجامع لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلى، والله أعلم"(2)1).
__________
(1) مدارج السالكين 1/32, 33.
(2) تفسير السعدي 5/620، الحق الواضح المبين ص 104.(1/50)
فهو الله الذي لا يسكن العبد إلا إليه، فلا تسكن القلوب إلا بذكره، ولا تفرح العقول إلا بمعرفته، لأنه سبحانه الكامل على الإطلاق دون غيره. وهو الذي لا يفزع العبد ولا يلجأ إلا إليه، لأنه لا مجير حقيقة إلا هو، ولا ناصر حقيقة إلا هو. وهو الذي يلجأ إليه العبد بكل ذرة في كيانه، التجاء شوق ومحبة، فهو سبحانه الكامل في ذاته وصفاته، فلا يأنس إلا به، ولا يفتر عن خدمته، ولا يسأم من ذكره أبدًا. تكاد القلوب المؤمنة أن تتفتت من فرط محبتها له، وتعلقها به. وهو الذي يخضع له العبد ويذل وينقاد تمام الخضوع والذل والانقياد، فيقدم رضاه على رضا نفسه، في كل حال، ويبعد وينأى عن سخطه بكل طريق، هذا مع تمام الرضا والمحبة له سبحانه، فهو يذل وينقاد له سبحانه مع تمام الرضا بذلك، والمحبة له - جل وعلا - حيث إنه الإله الحق، الكامل في ذاته وصفاته، المستحق لذلك كله. ومعنى أن الإله هو المألوه وحده، أي: هو المستحق أن يُفرد بالعبادة وحده، وهذا هو أهم معاني هذا الاسم للعبد، وذلك حيث إن الله - عز وجل - ما خلق الجن والإنس إلا لتحقيق هذه الغاية، كما قال سبحانه: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) } [الذاريات: 56](1)2).
__________
(1) انظر: المفاهيم المثلى في ظلال أسماء الله الحسنى ص 14بتصرف يسير.(1/51)
ويوضح شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - معنى (الإله) فيقول: "والإله: هو المألوه أي: المستحق لأن يؤله؛ أي يعبد. ولا يستحق أن يؤله ويعبد إلا الله وحده. وكل معبود سواه من لدن عرشه إلى قرار أرضه باطل، وفعال بمعنى مفعول مثل: لفظ الركاب والحمال؛ بمعنى: المركوب والمحمول... فهو الإله الحق لا إله غيره، فإذا عبده الإنسان فقد وحّده ولم يجعل معه إلهًا آخر ولا اتخذ إلهًا غيره: { فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) } [الشعراء: 213]، وقال تعالى: { لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) } [الإسراء: 22]، وقال إبراهيم لأبيه آزر: { أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) } [الأنعام: 47]، فالمخلوق ليس بإله في نفسه، لكن عابده اتخذه إلهًا وجعله إلهًا وسماه إلهًا، وذلك كله باطل لا ينفع صاحبه بل يضره.. فغير الله لا يصلح أن يتخذ إلهًا يعبد ويدعى، فإنه لا يخلق ولا يرزق، وهو سبحانه لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجد منه الجد... فغير الله لا مالك لشيء، ولا شريك في شيء، ولا معاون للرب في شيء؛ بل قد يكون له شفاعة إن كان من الملائكة، والأنبياء، والصالحين؛ ولكن لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له، فلا بد أن يأذن للشافع أن يشفع، وأن يأذن للمشفوع له أن يشفع له، ومن دونه لا يملكون الشفاعة البتة، فلا يصلح من سواه لأن يكون إلهًا معبودًا كما لا يصلح أن يكون خالقًا رازقًا، لا إله إلا هو وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"(1)1).
__________
(1) مجموع الفتاوى 13/ 202، 205.(1/52)
(ولا إله إلا الله) هي كلمة التوحيد وقد تضمنت الدين الذي جاء به الرسل كلهم من عند الله ، وهي أعظم كلمة أنزلت من عند الله، وقد تضمنت الحقيقة الكبرى، وبها أصبح الناس مؤمنين وكفارًا، وأخيارًا وأشرارًا، وهي الدالة على تفرد الله بالوحدانية، قال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) } [الأنعام: 19](1)1).
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: " (الإله): هو الذي يؤله فيعبد محبة، وإنابة، وإجلالاً، وإكرامًا"(2)2).
ويقول أيضًا: "أما (الإله) فهو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال فيدخل في هذا الاسم جميع الأسماء الحسنى" (3)3).
ويقول أيضًا: "إن (الإله) هو المستحق لصفات الكمال، المنعوت بنعوت الجلال، وهو الذي تألههه القلوب وتعمد إليه بالحب والخوف والرجاء" (4)4).
ويقول أيضًا: "إن (الإله) الحق: هو الذي يحب لذاته، ويحمد لذاته فكيف إذا انضاف إلى ذلك إحسانه، وإنعامه، وحلمه، وعفوه، وبره، ورحمته فعلى العبد أن يعلم أنه لا إله إلا الله فيحبه ويحمده لذاته وكماله" (5)5).
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله: "وأوصاف الألوهية هي جميع أوصاف الكمال، وأوصاف الجلال والعظمة والجمال، وأوصاف الرحمة والبرِّ والكرم والامتنان.
__________
(1) أسماء الله الحسنى د/ عمر الأشقر ص31.
(2) طريق الهجرتين ص 108.
(3) بدائع الفوائد 2/212.
(4) شفاء العليل 1/411.
(5) الفوائد ص 203.(1/53)
فإنَّ هذه الصفات هي التي يستحق أن يُؤلهَ ويُعبد لأجلها، فيؤله لأنَّ له أوصافَ العظمة والكبرياء، ويؤله لأنَّه المتفرِّد بالقيُّومية، والربوبية، والمُلك والسلطان، ويؤله لأنَّه المتفردِّ بالرحمة، وإيصال النِعم الظاهرة والباطنة إلى جميع خلقه، ويؤله لأنَّه المحيط بكلِّ شيء علمًا وحُكْمًا وحكمةً وإحسانًا ورحمة وقدرة وعزة وقهرًا، ويؤله لأنَّه المتفردِّ بالغنى المطلق التام من جميع الوجوه، كما أنَّ ما سواه مفتقر إليه على الدوام من جميع الوجوه، مفتقر إليه في إيجاده وتدبيره، مفتقر إليه في إمداده ورزقه، مفتقر إليه في حاجاته كلِّها، مفتقر إليه في أعظم الحاجات وأشد الضرورات، وهي افتقاره إلى عبادته وحده والتأله له وحده" (1)1).
- (الله) هو الاسم الأعظم على الأرجح:
يقول القرطبي رحمه الله: "وهذا الاسم هو أكبر أسمائه وأجمعها حتى قال بعض العلماء: إنه اسم الله الأعظم، ولم يتسم به غيره، ولذلك لم يثن، ولم يجمع وهو أحد تأويلي قوله تعالى: { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا } [مريم: 65]، أي: هل تعلم من تسمى باسمه الذي هو (الله)، (فالله) اسم للموجود الحق الجامع لصفات الألوهية المنعوت بنعوت الربوبية المنفرد الحقيقي لا إله إلا هو سبحانه"(2)2).
ومما يرجح قول من قال: إن (الله) هو الاسم الأعظم ما يلي:
1- أن الرسول × عندما سمع أحد الصحابة يدعو بهذا الدعاء: "اللَّهم إني أسألك أني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد"؛ قال: (والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى)(3)1).
2- كثرة وروده في كتاب الله تعالى، فقد ورد في كتاب الله (2724) مرة.
__________
(1) فتح الرحيم الملك العلام: ت عبد الرزاق البدر ص 20.
(2) القرطبي 1/102.
(3) سنن أبي داود (1493).(1/54)
3- أن بقية أسمائه تبارك وتعالى تجري مع هذا الاسم مجرى الصفات مع الأسماء، فتقول: من صفات الله العليم الحكيم الكريم، ولا تقول: من صفات العليم الله.
4- اسم الله مستلزم لجميع معاني أسمائه الحسنى، دال عليها بالإجمال، وكل أسمائه وصفاته تفصيل وتبيين لصفات الألوهية التي اشتق منها اسم الله، واسم الله يدل على كونه سبحانه معبودًا، تألهه الخلائق محبة، وتعظيمًا، وخضوعًا، وفزعًا إليه في النوائب والحاجات.
وقال ابن القيم: "الإله هو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال، فيدخل في هذا الاسم جميع الأسماء الحسنى، ولهذا كان القول الصحيح أن الله أصله الإله كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذ منهم، وأن اسم الله تعالى هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العلى"(1)1).
5- تعرف الرب تبارك وتعالى إلى موسى باسمه الله:
تعرف الله تبارك وتعالى إلى عباده باسمه (الله) كثيرًا، ومن هؤلاء نبي الله موسى عليه السلام عندما أرسله إلى قومه، فعندما كان موسى عليه السلام، عائدًا بأهله من مدين في طريقه إلى مصر في ليلة ظلماء باردة، رأى على البعد بجانب الطور نارًا، فقال لأهله: { امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [القصص: 30]، وقال له: { وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي } [طه: 13، 14].
فتعرف الله عز وجل إلى نبيه موسى عليه السلام بأنه اللهُ ربُّ العالمين، وأنه اللهُ الحق الذي لا يستحق العبادة إلا هو.
__________
(1) بدائع الفوائد 2/212.(1/55)
وقد تعرف الله إلى عباده في كتابه المنزل على عبده ورسوله محمد × بمثل ذلك ومن هذا ما جاء في فاتحة أعظم آيات هذا الكتاب، وهي آية الكرسي، فقد جاء في أولها { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } [البقرة: 255].
6- دعاؤه - تبارك وتعالى - بهذا الاسم:
أكثر ما يدعى الله - تبارك وتعالى - بلفظ: (اللَّهم)، ومعنى: اللَّهم، ياالله، ولهذا لا تستعمل إلا في الطلب، فلا يقال: اللَّهم غفور رحيم، بل يقال: اللَّهم اغفر لي وارحمني وقد كان الرسول × يدعو ربه كثيرًا بقوله (اللَّهم)(1)1).
وللشيخ السعدي - رحمه الله تعالى - رأي في حقيقة الاسم الأعظم المشار إليه في الحديث حيث يقول: "بعض الناس يظن أن الاسم الأعظم من أسماء الله الحسنى لا يعرفه إلا من خصه الله بكرامة خارقة للعادة، وهذا ظن خطأ فإن الله - تبارك وتعالى - حثنا على معرفة أسمائه وصفاته، وأثنى على من عرفها، وتفقه فيها، ودعا الله بها دعاء عبادة وتعبد، ودعاء مسألة، ولا ريب أنّ الاسم الأعظم منها أولاها بهذا الأمر، فإنه تعالى هو الجواد المطلق الذي لا منتهى لجوده وكرمه، وهو يحب الجود على عباده، ومن أعظم ما جاد به عليهم تعرفه لهم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، فالصواب أنّ الأسماء الحسنى كلها حسنى، وكل واحد منها عظيم، ولكن الاسم الأعظم منها كل اسم مفرد أو مقرون مع غيره إذا دل على جميع صفاته الذاتية والفعلية، أو دل على معاني جميع الصفات مثل:
(الله) فإنه الاسم الجامع لمعاني الألوهية كلها، وهي جميع أوصاف الكمال، ومثل: (الحميد المجيد) فإن (الحميد) الاسم الذي دل على جميع المحامد والكمالات لله تعالى، و(المجيد) الذي دل على أوصاف العظمة والجلال ويقرب من ذلك (الجليل الجميل الغني الكريم).
__________
(1) انظر: أسماء الله الحسنى د/ الأشقر 33، 34.(1/56)
ومثل: (الحي القيوم)، فإن (الحي) من له الحياة الكاملة العظيمة الجامعة لجميع معاني الذات، و(القيوم) الذي قام بنفسه، واستغنى عن جميع خلقه، وقام بجميع الموجودات، فهو الاسم الذي تدخل فيه صفات الأفعال كلها.
ومثل: اسمه (العظيم الكبير) الذي له جميع معاني العظمة والكبرياء في ذاته وأسمائه وصفاته، وله جميع معاني التعظيم من خواص خلقه.
ومثل قولك: (يا ذا الجلال والإكرام) فإن الجلال صفات العظمة والكبرياء، والكمالات المتنوعة، والإكرام استحقاقه على عباده غاية الحب، وغاية الذل وما أشبه ذلك.
فعلم بذلك أن الاسم الأعظم اسم جنس، وهذا هو الذي تدل عليه الأدلة الشرعية والاشتقاق، كما في السنة أنه سمع رجلاً يقول: "اللَّهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد"، فقال: (والذي نفسي بيده، لقد سألت الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى)(1)1).
وكذلك الحديث الآخر حين دعا الرجل، فقال: "اللَّهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنان، بديع السماوات والأرض ذو الجلال والإكرام، يا حي! يا قيوم! فقال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده، لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى)(2)1)، وكذلك قوله ×: (اسم الله الأعظم في هاتين السورتين: { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } ، { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } (3)2) فمتى دعا الله العبد باسم من هذه الأسماء العظيمة بحضور قلب ورقة وانكسار لم تكد ترد له دعوة والله الموفق"(4)3).
__________
(1) سبق تخريجه ص 76.
(2) سنن النسائي (1300) وأبو داود (1495)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1326).
(3) الترمذي (3400)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (2764).
(4) مجموع الفوائد واقتناص الأوابد ص 251.(1/57)
من آثار هذا الاسم العظيم وموجباته:
إذا عرف المؤمن معنى هذا الاسم العظيم وما يستلزم من الأسماء الحسنى والصفات العلا لله تعالى فإنه يطبع في القلب معاني عظيمة وآثارًا جليلة من أهمها:
1- محبة الله - عز وجل - محبة عظيمة تتقدم على محبة النفس، والأهل، والولد، والدنيا جميعًا؛ لأنه المألوه المعبود وحده وهو المنعم المتفضل وحده وهو الذي له الأسماء الحسنى، وهو الذي له الخلق والأمر والحمد كله وهذا يستلزم محبة من يحبه الله تعالى وما يحبه، وبغض ما يبغضه سبحانه، ومن يبغضه، والموالاة والمعاداة فيه. ولا يذوق طعم الإيمان إلا من أحب الله - عز وجل - الحب كله وأحب فيه وأبغض فيه وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)(1)1).
ولله المثل الأعلى. لو أن مخلوقًا تحلى بصفات الكمال الإنسانية التي يحبها الناس ومع ذلك كان له نعمة ويد على أحد من الناس فماذا سيكون شأن هذا المخلوق في قلوب هؤلاء الناس؟ لا شك أن المحبة العظيمة، والأنس به، والتلذذ بمصاحبته ستكون هي المتمكنة من القلوب نحوه. وهذا بالنسبة لمخلوق ضعيف محدود الزمان والمكان قاصر الأخلاق والصفات. وما صدر منه من نعمة فهي من الله - عز وجل - وهي محدودة قاصرة. فكيف بمن له الأسماء الحسنى والصفات العلا وكيف بمن نعمه مدرارة على خلقه في كل نفس وزمان ومكان. أليس هو المستحق للحمد كله، والحب كله، والخوف كله، والرجاء كله، وكل أنواع العبوديات المختلفة؟ بلى والله.
ولذا يجد العبد راحة وطمأنينة عندما يدعو ربه - عز وجل - ويقول: (ياألله أو : اللَّهم) حيث يسكب في نفسه الأمان والرجاء.
__________
(1) البخاري (16).(1/58)
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "وعباد الرحمن يألهونه ويعبدونه، ويبذلون له مقدورهم بالتأله القلبي، والروحي، والقولي والفعلي، بحسب مقاماتهم ومراتبهم، فيعرفون من نعوته وأوصافه ما تتسع قواهم لمعرفته، ويحبونه من كل قلوبهم محبةً تتضاءل جميعُ المحابِّ لها، فلا يعارض هذه المحبة في قلوبهم محبة الأولاد والوالدين وجميع محبوبات النفوس، بل خواصهم جعلوا كل محبوبات النفوس الدينية والدنيوية تبعًا لهذه المحبة، فلما تمَّت محبة الله في قلوبهم أحبوا ما أحبه من أشخاص وأعمال، وأزمنة، وأمكنة، فصارت محبتهم وكراهتهم تبعًا لإلههم وسيدهم ومحبوبه.
ولما تمَّت محبة الله في قلوبهم التي هي أصل التأله والتعبد أنابوا إليه فطلبوا قُربه ورضوانه، وتوسَّلوا إلى ذلك وإلى ثوابه بالجد والاجتهاد في فعل ما أمر الله به ورسوله، وفي ترك جميع ما نهى الله عنه ورسوله، وبهذا صاروا محبِّين محبوبين له، وبذلك تحققت عبوديتهم وألوهيتهم لربهم، وبذلك استحقوا أن يكونوا عباده حقًا، وأن يضيفهم إليه بوصف الرحمة حيث قال: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ } [الفرقان: 63]، ثم ذكر أوصافهم الجميلة التي إنما نالوها برحمته وتبوؤوا منازلها برحمته، وجازاهم بمحبته وقُربه ورضوانه، وثوابه، وكرامته برحمته"(1)1).
2- تعظيمه سبحانه وإجلاله وإخلاص العبودية له وحده من توكل، وخوف، ورجاء ورغبة، ورهبة، وصلاة، وصيام، وذبح، ونذر، وغير ذلك من أنواع العبوديات التي لا يجوز صرفها إلا له سبحانه.
__________
(1) فتح الرحيم الملك العلام ص 21، 22.(1/59)
3- الشعور بالعزة به سبحانه والتعلق به وحده، وسقوط الخوف والهيبة من الخلق والتعلق بهم؛ فهو الله سبحانه خالق كل شيء ورازق كل حي، وهو المدبر لكل شيء، والقاهر لكل شيء فلا يعتز إلا به ولا يتوكل إلا عليه. وكم من بشر اعتزوا بأموالهم فما لبثت أن ضاعت تلك الأموال فضاعوا، وكم من بشر اعتزوا بسلطانهم فجاءت النهاية بزوال سلطانهم فما كان منهم إلا أن قالوا: { مَا أَغْنَى عَنِّي ÷muد9$tB 2 (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) } [الحاقة: 29].
فالمؤمن لا يحتمي ولا يعتز إلا بالله العظيم القوي المتين، الكبير المتعال ولا يتوكل إلا عليه وحده: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ } [الفرقان: 58].
4- من أعظم آثار هذا الاسم العظيم ومعرفته حق المعرفة طمأنينة القلب وسعادته وأنسه بالله - عز وجل - وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "فإن اللذة والفرحة وطيب الوقت والنعيم الذي لا يمكن التعبير عنه إنما هو في معرفة الله - سبحانه وتعالى - وتوحيده والإيمان به، وانفتاح الحقائق الإيمانية والمعارف القرآنية، كما قال بعض الشيوخ: لقد كنت في حال أقول فيها إن كان أهل الجنة في هذه الحال إنهم لفي عيش طيب.. .وليس للقلوب سرور ولا لذة تامة إلا في محبة الله والتقرب إليه بما يحبه ولا تمكن محبته إلا بالإعراض عن كل محبوب سواه. وهذه حقيقة لا إله إلا الله"(1)1).
5- بما أن لفظ الجلالة مستلزم لجميع الأسماء والصفات فإن من آثار هذا الاسم العظيم آثار بقية أسمائه سبحانه وصفاته وكل أثر من آثار أسماء الله - عز وجل - وصفاته إن هو إلا أثر لهذا الاسم العظيم ومن موجباته. وهذا ما سيتم بيانه - إن شاء الله تعالى - في تفصيل معاني الأسماء والصفات وآثارها في المباحث القادمة.
6- إفراد الله - عز وجل - بالمحبة والولاء وإفراده تعالى بالحكم والتحاكم.
__________
(1) مجموع الفتاوى 28/31.(1/60)
قال الله تعالى: { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ ا } عِ'F{$#ur [الأنعام: 14]، وقال سبحانه: { أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا } [الأنعام: 114].
- - -
(2) [الرب]
و(الرب) من أسماء الله - عز وجل - الحسنى التي يدعى بها، ويمجد بها، ويقدس بها وعامة ما جاء في ذكر هذا الاسم الكريم إنما جاء مضافًا إلى الخلق عمومًا وخصوصًا مثل: (رب العالمين)، (رب السماوات والأرض)، (رب الملائكة)، (رب العرش) ونحو ذلك.
وورد ذكره في القرآن في أكثر من 900 موضع؛ كقوله تعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ sْüدJn="yèّ9$# } [الفاتحة: 2]، وقوله سبحانه: { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ } [الأنعام: 164]، وقوله - عز وجل -: { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ } [هود: 66]، وقوله سبحانه: { وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) } [المؤمنون: 97، 98]، وقوله تعالى: { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } [سبأ:15]، وقوله تعالى: { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [الواقعة: 74]. وقد ورد كثيرًا في أدعية الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - والصالحين قولهم: (ربنا).
معنى (الرب):
قال ابن الأثير: "يطلق (الربّ) في اللغة على المالك، والسيد، والمدبر، والمربي، والقيم، والمنعم، ولا يطلق غير مضاف إلا على الله تعالى، وإذا أطلق على غيره أضيف، فيقال: ربّ كذا، وقد جاء في الشعر مطلقًا على غير الله ، وليس بالكثير"(1)1).
__________
(1) النهاية لابن الأثير 2/179.(1/61)
وقال الراغب: "و(الربّ) في الأصل التربية، وهو إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حدّ التمام، يقال: ربّه ورباه، وربَّبه، وقيل: لأن يربني رجل من قريش أحب إليَّ من أن يربني رجل من هوازن. ولا يقال (الرب) مطلقًا إلا لله تعالى المتكفل بمصلحة الموجودات، نحو قوله: { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) } [سبأ: 15]، وبالإضافة يقال له ولغيره، نحو قولهم: { رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الفاتحة: 2]، { رَبَّكُمْ وَرَبَّ مNن3ح!$t/#uن الْأَوَّلِينَ (126) }
[الصافات: 16].
ويقال: ربّ الفَرَس، وربّ الدار، وعلى ذلك قال الله تعالى: اذْكُرْنِي { عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ } [يوسف: 42]، وقوله: { ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ } [يوسف: 50](1)1).
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: "(والرب) هو المالك المتصرف ويطلق في اللغة على السيد، وعلى المتصرف للإصلاح. وكل ذلك صحيح في حق الله تعالى"(2)2).
ويبين الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - معنى قوله تعالى: { رَبِّ الْعَالَمِينَ } فيقول: "قوله: { رَبِّ الْعَالَمِينَ } : ربوبيته للعالم تتضمَّن تصرفه فيه، وتدبيره له، ونفاذ أمره كلَّ وقتٍ فيه، وكونه معه كلَّ ساعةٍ في شأنٍ، يخلق ويرزق؛ ويُميت ويُحيي؛ ويخفض ويرفع؛ ويُعطي ويمنع؛ ويُعِزُّ ويُذٍلُّ، ويُصرِّف الأمور بمشيئته وإرادته، وإنكار ذلك إنكارٌ لربوبيته وإلهيته وملكه"(3)1).
__________
(1) المفردات للراغب ص 184.
(2) تفسير ابن كثير 1/23.
(3) الصواعق المرسلة 4/1223.(1/62)
ويتحدث - رحمه الله تعالى - عما يشاهده العبد من اسمه سبحانه (رب العالمين) فيقول: "وشاهد من ذكر اسمه: { رَبِّ الْعَالَمِينَ } قيُّومًا قام بنفسه؛ وقام به كلُّ شيءٍ، فهو قائمٌ على كلِّ نفس بخيرها وشرِّها، قد استوى على عرشه، وتفرَّد بتدبير ملكه، فالتدبير كلُّه بيديه، ومصير الأمور كلُّها إليه، فمراسيم التدبيرات نازلة من عنده على أيدي ملائكته بالعطاء والمنع، والخفض والرفع، والإحياء والإماتة، والتوبة والعزل، والقبض والبسط، وكشف الكروب وإغاثة الملهوفين وإجابة المضطرِّين: { يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) } [الرحمن: 29] . لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا مُعقِّب لحكمه، ولارادَّ لأمره، ولا مُبدِّل لكلماته، تعرج الملائكة والروح إليه، وتعرض الأعمال - أول النهار وآخره - عليه، فيُقدِّر المقادير ويُوقِّت المواقيت، ثم يسوق المقادير إلى مواقيتها، قائمًا بتدبير ذلك كلِّه وحفظه ومصالحه"(1)2)
اسم (الرب) من أعظم الممادح التي مجد الله - عز وجل - نفسه بها:
ومن ذلك:
" امتداح الله - عز وجل - نفسه بأنه: { رَبِّ الْعَالَمِينَ } والعالمون جمع عالم. وكل ما سوى الله فهو عالم: قال تعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } والنصوص المعرفة بأنه رب العالمين كثيرة جدًا، كما مدح نفسه بأنه رب كل شيء كما في قوله تعالى: { أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ & } نَسx" [الأنعام: 164].
" تمجيده سبحانه نفسه بأنه رب العرش العظيم كما في قوله تعالى: { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) (26) } [النمل: 26]، وقوله - عز وجل -: { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) } [المؤمنون: 116].
__________
(1) الصلاة وحكم تاركها ص 169، 170.(1/63)
" كما مدح سبحانه نفسه بأنه رب السماوات والأرض وما بينهما.
قال الله - عز وجل -: { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) } [مريم: 65].
" وامتدح الله نفسه - تبارك وتعالى - بأنه ربنا ورب آبائنا الأولين، قال سبحانه: { قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ مNن3ح!$t/#uن الْأَوَّلِينَ (26) } [الشعراء: 26].
" وقال عن نفسه - عز وجل - أيضًا رب المشرق والمغرب، ورب المشارق والمغارب، قال عز وجل: { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) } [المزمل: 9]، وقال تبارك وتعالى: { فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) } [المعارج: 40].
اسم (الرب) - سبحانه وتعالى- من أكثر الأسماء التي يدعى بها الله عز وجل:
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "و (الرب) هو المربي جميع عباده بالتدبير وأصناف النعم. وأَخَصُّ من هذا: تربيته لأصفيائه بإصلاح قلوبهم وأرواحهم، وأخلاقهم. ولهذا أكثر دعائهم له بهذا الاسم الجليل؛ لأنهم يطلبون منه التربية الخاصة"(1)1).
وهذا واضح وجلي فيما ذكره الله - عز وجل - في كتابه الكريم عن أنبيائه- عليهم الصلاة والسلام - وأوليائه الصالحين حيث صدروا دعاءهم بهذا الاسم الكريم ومن ذلك.
- دعاء الأبوين - عليهما السلام - بقولهما: { ں$uZ/u' ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) } [الأعراف: 23].
- دعاء نوح - عليه الصلاة والسلام - بقوله: { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ } ... الآية [نوح: 28]، وقوله: { رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي } [هود: 54].
__________
(1) تفسير السعدي 5/486.(1/64)
- ودعاء موسى - عليه الصلاة والسلام - بقوله: { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ } [الأعراف: 151]، وقوله: { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ } [الأعراف: 155].
- ودعاء يوسف عليه الصلاة والسلام: { رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } [يوسف: 33]، وقوله: { * رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } ... الآية [يوسف: 101].
- ودعاء زكريا عليه الصلاة والسلام: { رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً } [آل عمران: 38].
- ودعاء أيوب عليه الصلاة والسلام: { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ } "د‰÷èt/[ص: 35].
ـ ودعاء امرأة عمران في قولها: { رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا } ... الآية [آل عمران: 35].
- ودعاء عباد الله الصالحين في قولهم: { رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) } [ آل عمران: 193، 194]، وقولهم: { رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِن عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) } [الفرقان: 65].
- وكان الرسول × يدعو الله كثيرًا باسم (الرب)، ويمجده ويعظمه به، فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (ألا أدلك على سيد الاستغفار، اللَّهم أنت ربي لا إله إلا أنت... )(1)1).
__________
(1) البخاري (6306).(1/65)
وكان الرسول × إذا أخذ مضجعه يقول: (اللَّهم ربّ السماوات، وربّ الأرض ورب العرش العظيم، ربّنا وربّ كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن... ) (1)2).
وكان إذا افتتح صلاته من الليل قال: (اللَّهم ربّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض...)(2)3).
وكان × يدعو عند الكرب بقوله: (لا إله إلا الله العظيم الحليم ، لاإله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات والأرض ورب العرش الكريم)(3)1).
والنصوص الواردة في ذلك كثيرة.
وهذا يدل على اختصاص هذا الاسم بمعان عظيمة كريمة يتضمنها هذا الاسم الكريم أو يستلزمها.
فمما يتضمنه هذا الاسم الكريم:
أن الله - عز وجل - رب كل شيء وخالقه ومليكه، والقادر عليه، والمتصرف في جميع أموره؛ وبهذا فإنه لا يخرج شيء عن ربوبيته. وكل من في السماوات والأرض عبد له في قبضته وتحت قهره لأن أحدًا لا يدعي أنه أو غيره من المخلوقين هو الخالق البارئ المحيي المميت القادر على كل شيء، والمتصرف في كل شيء. إلا شذرًا من ملاحدة الصوفية، والباطنية والنصرانية التي تزعم أنه مع الله - عز وجل - شريك في ربوبيته وتصريفه لهذا الكون تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
أما أكثر طوائف المشركين فقد أقروا بربوبية الله - عز وجل - ولم ينكروها. وهم عبيد لله - عز وجل - بهذا المعنى قال تعالى: { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) } [يونس: 31].
__________
(1) مسلم (2713).
(2) مسلم (770).
(3) البخاري (6345).(1/66)
وهم الذين قال الله - عز وجل - عنهم: { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) } [مريم: 93]، وقال فيهم: { وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) } [آل عمران: 83].
فالذين آمنوا بربوبية الله - عز وجل - وحدها دون أن يوحدوه ويعبدوه هم الذين أسلموا لله - عز وجل - كرهًا. وأما الذين وحدوه وعبدوه وأطاعوه فهم أهل العبودية الخاصة الذين عبدوا الله - عز وجل - طوعًا واختيارًا وانقيادًا.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "العبودية نوعان: عامة، وخاصة. فالعبودية العامة: عبودية أهل السماوات والأرض كلهم لله، بَرِّهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم. فهذه عبودية القهر والملك. قال تعالى: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) } [مريم:88- 93] فهذا يدخل فيه مؤمنهم وكافرهم.
وقال تعالى: { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ } [الفرقان: 17] فسماهم عباده مع ضلالهم. لكن تسميةً مقيدة بالإشارة. وأما المطلقة: فلم تجيء إلا لأهل النوع الثاني، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.(1/67)
وقال تعالى: { قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } (46) [الزمر: 46] ، وقال: { وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ } [غافر: 31] ، وقال: { إِن اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) } [الزمر: 48] فهذا يتناول العبودية الخاصة والعامة.
وأما النوع الثاني: فعبودية الطاعة والمحبة، واتباع الأوامر.
قال تعالى: { يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) } [الزخرف: 68]، { فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ ےçmuZ|،ômr& } [الزمر: 17، 18]، وقال: { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) } [الفرقان: 63]، وقال تعالى عن إبليس: { وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) } [الحجر: 40]، وقال تعالى عنهم: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [الإسراء: 65](1)1).
وقال في موطن آخر: "فهو رب كل شيء وخالقه، والقادر عليه، لا يخرج شيء عن ربوبيته. وكل من في السماوات والأرض عبد له في قبضته، وتحت قهره، فاجتمعوا بصفة الربوبية، وافترقوا بصفة الإلهية، فألَّهه وحده السعداء، وأقروا له طوعًا بأنه الله الذي لا إله إلا هو، الذي لا تنبغي العبادة والتوكل، والرجاء والخوف، والحب والإنابة والإخبات والخشية، والتذلل والخضوع إلا له.
وهنا افترق الناس، وصاروا فريقين: فريقًا مشركين في السعير، وفريقًا موحدين في الجنة" (2)1).
__________
(1) مدارج السالكين 1/ 105.
(2) مدارج السالكين 1/34، 35.(1/68)
وفي هذا المعنى يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ولما كان علم النفوس بحاجتهم وفقرهم إلى الرب قبل علمهم بحاجتهم وفقرهم إلى الإله المعبود، وقصدهم لدفع حاجاتهم العاجلة قبل الآجلة، كان إقرارهم بالله من جهة ربوبيته أسبق من إقرارهم به من جهة ألوهيته، وكان الدعاء له، والاستعانة به، والتوكل عليه فيهم أكثر من العبادة له، والإنابة إليه.
ولهذا إنما بعث الرسل يدعونهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له الذي هو المقصود المستلزم للإقرار بالربوبية، وقد أخبر عنهم أنهم: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [الزخرف: : 87]، وأنهم إذا مسهم الضر ضل من يدعون إلا إياه وقال: { وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [لقمان: 32]، فأخبر أنهم مُقِرِّون بربوبيته، وأنهم مخلصون له الدين إذا مسهم الضر في دعائهم واستعانتهم، ثم يعرضون عن عبادته في حال حصول أغراضهم.
وكثير من المتكلمين إنما يقررون الوحدانية من جهة الربوبية، وأما الرسل فهم دعوا إليها من جهة الألوهية. وكذلك كثير من المتصوفة المتعبدة، وأرباب الأحوال إنما توجههم إلى الله من جهة ربوبيته؛ لما يمدهم به في الباطن من الأحوال التي بها يتصرفون، وهؤلاء من جنس الملوك. وقد ذم الله - عز وجل - في القرآن هذا الصنف كثيرًا، فتدبر هذا فإنه تنكشف به أحوال قوم يتكلمون في الحقائق، ويعملون عليها، وهم لعمري في نوع من الحقائق الكونية القدرية الربوبية لا في الحقائق الدينية الشرعية الإلهية، وقد تكلمت على هذا المعنى في مواضع متعددة، وهو أصل عظيم يجب الاعتناء به، والله سبحانه أعلم" (1)1).
الرب والإله بينهما اجتماع وافتراق:
__________
(1) مجموع الفتاوى 14/14، 15.(1/69)
أي: أنهما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، وبيان ذلك أن يقال: إذا اجتمع (الرب) و (الإله) في موضع ونص واحد فإنهما يفترقان في المعنى؛ حيث يتوجه معنى (الرب) إلى المالك المتصرف القادر الخالق المحيي المميت المتفرد بخصائص الربوبية. و(الإله) يتوجه إلى المعبود المألوه الذي يجب أن يوحده العباد بأفعالهم. أما إذا افترقا حيث ذكر كل منهما في موضع فإنهما يجتمعان بحيث يدل أحدهما على معناه كما يتضمن معنى الآخر.
مثال لحالة الاجتماع، قوله تعالى: { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) } فذكر سبحانه هنا { رب الناس } ، { إله الناس } وهنا يتوجه معنى (الرب) إلى المالك المتصرف المحيي المميت الخالق البارئ المتفرد بصفات الربوبية. كما يتوجه معنى (الإله) إلى المعبود المألوه المطاع.
مثال لحالة الافتراق:
قوله تعالى: { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) } [البقرة: 163].
وقوله تعالى في كثير من الأدعية القرآنية: (ربنا)، (ربِّ).
فهنا يتوجه معنى (الإله) في الآية الأولى إلى معنى الألوهية والعبودية لله - عز وجل - مع تضمنه لمعنى الربوبية، ويتوجه معنى (الرب) في الآية الثانية إلى معنى الربوبية والملك والتدبير والخلق مع تضمنه لمعنى العبودية.
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (الرب):
أولاً: إن اسم (الرب) سبحانه وما يستلزم من الأسماء والصفات يتضمن تعريف الناس غايتهم التي خلقوا من أجلها، وتعريفهم ما ينفعهم وما يضرهم؛ فكونه رب العالمين لا يليق به أن يترك عباده سدى هملاً لا يعرفهم بنفسه ولا بما ينفعهم في معاشهم ومعادهم، وما يضرهم فيها.. فهذا هضم للربوبية ونسبة للرب إلى ما لا يليق: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) } [المؤمنون: 115].(1/70)
ثانيًا: الإقرار بربوبية الله - عز وجل - يقتضي ويستلزم توحيد الله - عز وجل - وعبادته لا شريك له إذ أن الخالق لهذا الكون وما فيه والمتصرف فيه بالإحياء، والإماتة، والخلق، والرزق، والتدبير هو المستحق للعبادة وحده إذ كيف يعبد مخلوق ضعيف، ويجعل ندًا لله تعالى في المحبة والتعظيم والعبادة وهو لم يخلق ولا يملك لنفسه تدبيرًا فضلاً عن أن يملكه لغيره، وهذا ما احتج الله - عز وجل - به على المشركين الذين أقروا بربوبيته سبحانه ولكنهم لم يعبدوه وحده، بل أشركوا معه غيره وقد جاءت هذه الاحتجاجات الكثيرة في القرآن الكريم بأساليب متنوعة منها:
- قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) } [ البقرة: 21، 22].
- وقوله تعالى: { أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) } [الأعراف: 191]، وقوله سبحانه: { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ }
[النحل: 17].
- وقوله تعالى: { قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) }
[المؤمنون: 89، 90].(1/71)
- وقوله تعالى: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) } [الزمر: 38]. والآيات في هذا كثيرة جدًا.
ثالثًا: الإيمان بصفة الربوبية لله - عز وجل - يعني: الإيمان بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، إذ إن من صفات الرب سبحانه كونه قادرًا خالقًا بارئًا مصورًا، حيًا، قيومًا عليمًا، سميعًا، بصيرًا، محسنًا، جوادًا، كريمًا، معطيًا، مانعًا. وقل ذلك في بقية الأسماء والصفات. إذاً فكل أثر من آثار الإيمان بالأسماء الحسنى - والتي سيأتي تفصيلها - إن شاء الله تعالى - هو في الحقيقة راجع إلى ما يتضمنه اسم (الرب) سبحانه وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "إن ربوبيته سبحانه إنما تتحقَّق بكونه: فعَّالاً مُدبِّرًا؛ متصرِّفًا في خلقه؛ يعلم، ويقدر، ويريد، ويسمع، ويبصر.
فإذا انتفت أفعاله وصفاته: انتفت ربوبيته، وإذا انتفت عنه صفة الكلام: انتفى الأمر والنهي ولوازمها، وذلك ينفي حقيقة الإلهية" (1)1).
ويقول أيضًا: "إن (الرب): هو القادر الخالق البارئ المصور؛ الحي القيوم؛ العليم السميع البصير؛ المحسن المنعم الجواد؛ المعطي المانع؛ الضار النافع؛ المقدم المؤخر؛ الذي يُضلُّ من يشاء ويهدي من يشاء؛ ويُسعد من يشاء، ويُشقي ويُعِزُّ من يشاء ويُذِلُّ من يشاء؛ إلى غير ذلك من معاني ربوبيته التي له منها ما يستحقه من الأسماء الحسنى" (2)2).
__________
(1) مختصر الصواعق المرسلة 2/474.
(2) بدائع الفوائد 2/212.(1/72)
رابعًا: الإيمان باسم (الرب) - عز وجل - وما يتعلق به من صفات يقتضي الرضا به سبحانه ربًا وإلهًا وحاكمًا ومشرعًا، لأن الرضا بربوبيته - عز وجل - هو رضا العبد بما يأمره به ربه وينهاه عنه، ويقسمه له ويقدره عليه، ويعطيه إياه ويمنعه منه. فمن لم يحصل الرضى بذلك كله لم يكن العبد قد رضي به ربًا من جميع الوجوه، ولا يذوق عبد طعم الإيمان حتى يأتي بكل موجبات الربوبية ولوازمها. وهذا معنى قوله ×: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ × رسولاً)(1)1). ومتى ذاق العبد طعم الإيمان فلا تسأل عن سعادته، وأنسه، وطمأنينيته وثباته، ولو احتوشته البلايا والرزايا. كما أن من هذا شأنه فإن طاعات الله - عز وجل - تسهل عليه وتلذ له ، كما يكون في قلبه كره معاصي الله - عز وجل - والنفور منها.
خامسًا: لما كان من معاني (الرب) أنه الذي يربي عباده وينقلهم من طور إلى طور وينعم عليهم بما يقيم حياتهم ومعاشهم. وهو الذي أحسن خلقهم وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى. فإن هذه المعاني من شأنها أن تورث في قلب العبد المحبة العظيمة لربه سبحانه وحب ما يحبه ومن يحبه، وبغض ما يبغضه ومن يبغضه، والمسارعة في مرضاته، وتعظيمه وإجلاله وشكره وحمده الحمد اللائق بجلاله وعظمته وسلطانه وإنعامه.
سادسًا: لما كان من معاني (الرب) أنه المتكفل بأرزاق خلقه، وعنده خزائن السماوات والأرض له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. فإن هذه الصفات تورث في قلب العبد العارف لربه سبحانه قوة عظيمة في التوكل عليه سبحانه في جلب المنافع، ودفع المضار، وفي تصريف جميع أموره فلا يتعلق إلا بالله تعالى ولا يرجو إلا هو، ولا يخاف إلا منه سبحانه إذ كيف يتعلق بمخلوق ضعيف مثله لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا. فضلاً عن أن يملكه لغيره.
__________
(1) مسلم (34)، وأحمد 1/208.(1/73)
سابعًا: لما كان من معاني الربوبية اختصاصه سبحانه بجلب المنافع ودفع المضار، وتفريج الكروب، وقضاء الحاجات فإن العباد - بما أودع الله في فطرهم من معرفة ربهم بهذه الصفات - يلجأون إلى ربهم ويتضرعون إليه في الشدائد والملمات وينفضون أيديهم من كلٍ سوى الله - عز وجل - وكلما عرف العبد ربه بأسمائه وصفاته أثر هذا في دعائه وقوة رجائه، ولجوئه، وتضرعه لربه سبحانه والوثوق بكفايته سبحانه وقدرته على قضاء حوائج عباده.
ولذلك نرى في أدعية أنبيائه - سبحانه وتعالى - وأوليائه تكرار الدعاء بقولهم: (ربنا، ربنا).
ثامنًا: نهى النبي × العبد أن يقول لسيده (ربي) فقال: (لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وَضِّئ ربك، وليقل: سيدي مولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي، أَمَتي، وليقُل: فتاي، وفتاتي، وغلامي)(1)1).
قال الحافظ ابن حجر: "وفيه نهي العبد أن يقول لسيده (ربي) وكذلك نهي غيره فلا يقول له أحد ربك، ويدخل في ذلك أن يقول السيد ذلك عن نفسه، فإنه قد يقول لعبده اسق ربك، فيضع الظاهر موضع الضمير على سبيل التعظيم لنفسه.
والسبب في النهي أن حقيقة الربوبية لله تعالى، لأن (الرب) هو المالك القائم بالشيء، فلا توجد حقيقة ذلك إلا لله تعالى. قال الخطابي: سبب المنع أن الإنسان مربوب متعبد بإخلاص التوحيد لله، وترك الإشراك معه، فكره له المضاهاة في الاسم لئلا يدخل في معنى الشرك، ولا فرق في ذلك بين الحر والعبد، فأما ما لا تعبد عليه من سائر الحيوانات والجمادات فلا يكره إطلاق ذلك عليه عند الإضافة كقوله: رب الدار، ورب الثوب.
قال ابن بطال: لا يجوز أن يقال لأحد غير الله رب، كما لا يجوز أن يقال له إله.
__________
(1) البخاري (2552).(1/74)
[وتعقبه الحافظ بقوله]: والذي يختص بالله تعالى إطلاق (الرب) بلا إضافة، أما مع الإضافة فيجوز إطلاقه كما في قوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: { اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ } [يوسف: 42]، وقوله: { ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ } [يوسف: 50]، وقوله عليه الصلاة والسلام في أشراط الساعة: (أن تلد الأمة ربها) فدلَّ على أن النهي في ذلك محمول على الإطلاق، ويحتمل أن يكون النهي للتنزيه، وما ورد من ذلك فلبيان الجواز...
وقيل: المراد: النهي عن الإكثار من ذلك واتخاذ استعمال هذه اللفظة عادة، وليس المراد النهي عن ذكرها في الجملة" أهـ(1)1).
وترك استعمال هذه الكلمة لورود النهي عنها أسلم وأحوط والله أعلم.
ذكر الأسماء الحسنى التي اقترنت باسم (الرب) تبارك وتعالى.
ورد اقتران اسم (الرب) - سبحانه وتعالى - في القرآن الكريم بأسماء كريمة هي: (الرحمن، الرحيم، الغفور، الغفار، العزيز).
" قال سبحانه وتعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) } [الفاتحة: 2، 3].
" وقال - عز وجل -: { رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ }
[النبأ:37].
" وقال تبارك وتعالى: { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) } [ص: 66].
" وقال تبارك وتعالى: { سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) } [يس: 58].
" وقال سبحانه: { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) } [سبأ:15].
__________
(1) فتح الباري 5/179.(1/75)
وبتأمل هذه الأسماء المقترنة باسم (الرب) تعالى نجد أن فيها صفة الرحمة والمغفرة، وفي هذا التأكيد على أن من أخص صفات (الرب) - عز وجل - الرحمة والرأفة بعباده وأنها من موجبات ربوبيته. ومن ذلك تربيته لعباده، وإنعامه عليهم، وإرساله الرسل إليهم وإنذارهم وتبشيرهم. وهذه هي من لوازم التربية العامة، وأما التربية الخاصة من الله - عز وجل - لأوليائه بتوفيقهم، وحفظهم، ورعايتهم، وتربيتهم. فالرحمة، والرأفة، والمغفرة واضحة جلية في ذلك والله أعلم، وفي الآية الثانية ورد اسم: (العزيز الغفار). وصفة: (العزة والغلبة) من موجبات الربوبية والسؤدد.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "واقتران ربوبيته برحمته كاقتران استوائه على عرشة برحمته: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه:5] مطابق لقوله: { رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) } فإن شمول الربوبية وسعتها بحيث لا يخرج شيء عنها أقصى شمول الرحمة وسعتها. فوسع كل شيء برحمته وربوبيته، مع أن في كونه ربّاً للعالمين ما يدل على علوه على خلقه وكونه فوق كل شيء، كما يأتي بيانه إن شاء الله"(1)1).
- - -
(3، 4) [الواحد، الأحد]
من أسماء الله الحسنى: (الواحد، الأحد). وقد ورد ذكرهما في الكتاب والسنة.
فأما اسمه: (الواحد) فقد ورد في أكثر من عشرين موضعًا في القرآن ومن ذلك قوله تعالى: { قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) } [الرعد: 16]. وقوله سبحانه: { * وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ } [النحل: 51]، وقوله تعالى: { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) } [غافر: 16].
__________
(1) مدارج السالكين 1/35.(1/76)
وأما اسمه: (الأحد) فقد ورد مرة واحدة في القرآن الكريم وذلك في قوله تعالى: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) } [الإخلاص: 1]. وكذلك جاء في السنة في قوله × لذلك الرجل الذي دعا بهذا الدعاء: "اللَّهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد"، فقال الرسول ×: (والذي نفسي بيده لقد سأل باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى)(1)1).
المعنى اللغوي:
(الواحد والأحد) وإن كان اشتقاقهما واحدًا وبينهما معان مشتركة إلا أن بعض العلماء قد فرق بينهما؛ وذلك من الوجوه التالية:
الأول: أن الواحد اسم لمفتتح العدد، فيقال: واحد واثنان وثلاثة.
أما (أحد) فينقطع معه العدد فلا يقال: أحد اثنان ثلاثة.
الثاني: أن (أحدًا) في النفي أعم من (الواحد). يقال: ما في الدار واحد، ويجوز أن يكون هناك اثنان أو ثلاثة أو أكثر. أما لو قال: ما في الدار أحد فهو نفى وجود الجنس بالمرة، فليس فيها أحد ولا اثنان ولا ثلاثة ولا أكثر ولا أقل.
الثالث: لفظ (الواحد) يمكن جعله وصفًا لأي شيء أريد، فيصح القول: رجل واحد، وثوب واحد، ولا يصح وصف شيء في جانب الإثبات بأحد إلا الله الأحد: [قل هو الله أحد] فلا يقال: رجل أحد ولا ثوب أحد(2)1).
معنى الواحد الأحد في حق الله تعالى:
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "(الأحد): المتضمن لانفراده بالربوبية والإلهية" (3)2).
ويقول أيضًا: "في (الأحد) نفي لكل شريك لذي الجلال" (4)3).
و(الواحد والأحد) هو الفرد الذي لم يزل وحده ولم يكن معه آخر المتفرد في ذاته، وصفاته، وأفعاله، وربوبيته، وإلهيته، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد".
__________
(1) سبق تخريجه ص76.
(2) انظر المنهج الأسنى 1/99.
(3) بدائع الفوائد 1/146.
(4) زاد المعاد 4/181.(1/77)
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: " (الواحد الأحد) هو الذي توحد بجميع الكمالات، وتفرد بكل كمال، وجلال وجمال، وحمد وحكمة، ورحمة وغيرها من صفات الكمال؛ فليس له فيها مثيل ولانظير، ولا مناسب بوجه من الوجوه، فهو الأحد في حياته وقيوميته وعلمه وقدرته وعظمته وجلاله وجماله وحمده وحكمته وغيرها من صفاته، موصوف بغاية الكمال ونهايته من كل صفة من هذه الصفات، فيجب على العبيد توحيده عقلاً، وقولاً، وعملاً بأن يعترفوا بكماله المطلق وتفرده بالوحدانية، ويفردوه بأنواع العبادة" (1)1).
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "ومما يمنع تسمية الإنسان به أسماء: (الرب) - تبارك وتعالى - فلا يجوز التسمية بالأحد والصمد، ولا بالخالق، ولا بالرازق، وكذلك سائر الأسماء المختصة (بالرب) تبارك وتعالى"(2)2).
ما معنى وحدانية الله عز وجل؟
إنها تعني التوحيد بأنواعه الثلاثة:
1- توحيده سبحانه في ذاته وصفاته.
2- توحيده سبحانه في ربوبيته.
3- توحيده سبحانه في ألوهيته.
وفي ذلك يقول الدكتور الأشقر حفظه الله تعالى: وتتجلى وحدانية الله تعالى فيما يأتي:
أولاً: في ذاته وصفاته:
فالله لا مثيل له ولا نظير له، لا في ذاته ولا في صفاته؛ ولذلك فإنه - تعالى وتقدس - لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، كما قال عزَّ من قائل: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4) } [الإخلاص: 1 - 4].
وهذه السورة الكريمة العظيمة عرفت العباد بربهم، وقد أنزلها رب العباد، جوابًا لأهل الشرك والعناد، الذين سألوا الرسول × طالبين منه أن ينسب لهم ربّه.
__________
(1) انظر تفسير السعدي 5/486، وانظر بهجة قلوب الأبرار ص 165.
(2) انظر المنهج الأسنى 1/99.(1/78)
وقال ابن جرير الطبري في تفسير هذه السورة: "قل يا محمد لهؤلاء السائلين عن نسب ربك، وصفته، ومَنْ خلقه: (الرب) الذي سألتموني عنه، هو الذي له عبادة كل شيء، لا تنبغي العبادة إلا له، ولا تصلح لشيء سواه"(1)1).
وقال القرطبي: "نزلت هذه الآية جوابًا لأهل الشرك لما قالوا لرسول الله × صف لنا ربك، أمِن ذهب هو؟ أم من نحاس أم من صُفْر؟ فقال الله ردّا عليهم: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } (2)2) .
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: "قال المشركون للنبي ×: يا محمد انسب لنا ربك فأنزل الله: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (3)3) } ... والذين ينسبون إلى الله الولد جاؤوا بجريمة نكراء، كادت السماوات لعظمها أن تتفطر، والأرض أن تتشقق، والجبال أن تخرَّ هدّا، إن الله سبحانه واحد أحد لا يليق به أن يتخذ ولدًا، فالكل تحت ملكه وقهره، وجميعهم يأتون الرحمن يوم القيامة خاضعين، لا يتخلف منهم أحد، فقد أحصاهم وعدهم عدًا، وكلهم آتيه يوم القيامة فردًا: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) } [مريم: 88 - 95]. وكيف يكون له سبحانه ولد وقد خلق كل شيء: { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ }
[الأنعام: 101].
__________
(1) الطبري 30/343.
(2) القرطبي 20/246.
(3) ابن كثير، تفسير سورة الإخلاص.(1/79)
ووحدانيته تعالى في صفاته، تدل على أنه لا مثيل له في رحمته ولا في عزته، وجبروته، وملكه، وقدرته، ورزقه، وعلمه، وغيرها من صفاته.
فالله متفرد في صفاته، والذين شبهوا صفات الخالق بصفات المخلوق، أو صفات المخلوق بصفات الخالق لم يوحدّوا ربهم - تبارك وتعالى -وأشركوا مع الله غيره.
وقد ضل الذين نفوا عن الله صفاته بدعوى أن إثباتها يشبه الله بخلقه، فالله واحد متفرد في صفاته، وصفاته مخالفة لصفات المخلوقين، مثله في ذلك مثال ذاته، فهي مخالفة لذوات المخلوقين.
والذين نفوا عن الله صفاته بدعوى أن إثباتها يؤدي إلى التشبيه شبهوا الخالق بالعدم، فالذي تُنفى عنه الصفات معدوم، ولذلك قال أهل العلم من سلفنا: المشبه يعبد صنمًا، والمعطل يعبد عدمًا، ومرادهم بالمعطل نفاة الصفات.
ثانيًا: وحدانيته تعالى في ربوبيته:
فهو سبحانه وحده الذي خلق السماوات والأرض، وأنزل الماء من السماء، وأنبت به جنات الأرض التي تبهج النفوس وتسرها: { قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ t,ح!#y‰tn ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) } [النمل: 59 - 60].
وقد أنكر الله على الذين اتخذوا أربابًا من دونه في قوله: { ؤڑcqè%جhچxےtGoB خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) } [يوسف: 39]. وقال مقررًا وحدانيته: { قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) } [الرعد: 16].
ثالثًا: توحيده في ملكه:
ومن توحيد الربوبية: توحيد الله في ملكه، يقول الشيخ حافظ حكمي:(1/80)
"(الأحد الفرد) وهو أحد في ربوبيته فلا شريك له في ملكه، ولا مضاد، ولا منازع ولا مغالب، فكما أنه (الأحد الفرد) في ذاته وألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته فهو المتفرد في ملكوته بأنواع التصرفات، من الإيجاد والإعدام، والإحياء والإماته، والخلق والرزق، والإعزاز والإذلال، والهداية والإضال، والإسعاد والإشقاء، والخفض والرفع، والعطاء والمنع، والوصل والقطع، والضر والنفع، فلو اجتمع أهل السماوات السبع والأرضين السبع ومن فيهن وما بينهما على إماتة من الله محييه، أو إعزاز من هو مذله، أو هداية من هو مضله، أو إسعاد من هو مشقيه، أو خفض من هو رافعه، أو وصل من هو قاطعه، أو إعطاء من هو مانعه، أو ضر من هو نافعه، أو عكس ذلك لم يكن ذلك بممكن في استطاعتهم، وأنى لهم ذلك والكل خلقه وملكه وعبيده وفي قبضته وتحت تصرفه وقهره، ماض فيهم حكمه، عدل فيهم قضاؤه، نافذة فيهم مشيئته، لا امتناع لهم عما قضاه، ولا خروج لهم من قبضته، ولا تتحرك ذرة في السماوات والأرض ولا تسكن إلا بإذنه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن"(1)1).
رابعًا: وحدانيته في ألوهيته:
فالله هو المعبود الحق الذي يستحق العبادة دون سواه، وكل من عبد معه إلهًا آخر يدعوه، ويستعين به، ويستغيث به، فقد أشرك غيره معه في ألوهيته: { قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) } [الأنعام: 19]. { * وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) } [النحل: 51]، وقال: { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ } [الكهف: 110]، وقال: { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } [التوبة: 31].
__________
(1) معارج القبول 1/136.(1/81)
ووحدانية الله أخص خصائص ألوهيته، والإقرار بالألوهية أعظم أنواع العبادة التي يتقرب بها إلى الله تعالى، ونقيض الوحدانية الشرك، وهو أعظم جريمة يرتكبها البشر، ولعظمها فإن الله لا يغفر لأحد مات على شركه: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) } [النساء: 48]، { إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) } [النساء: 116].
ولما كان المشرك ذنبه غير مغفور، فإن الله حرّم عليه الجنة، وهو خالد في النار لا يخرج منها أبدًا: { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ } [المائدة: 72]. { وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) } [الأعراف: 40 - 41 ](1)1).
وقد جاء في السنة الصحيحة في كثير من أذكار اليوم والليلة والمناسبات الشرعية الحث على الأذكار التي فيها توحيده سبحانه لا شريك له. ومن أفضلها، وأعظمها، وأشرفها ما قال فيه النبي ×: (خير الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)(2)2).
وقد جاء الحث على هذا الدعاء دبر الصلوات، وفي أذكار الصباح والمساء، وعند الانتباه من النوم، وعند الدخول للسوق، وفي السعي للحج عند الصفا والمروة، وغيرها من المناسبات.
__________
(1) انظر: شرح الأسماء الحسنى د. عمر الأشقر (228 - 232).
(2) الترمذي في الدعوات باب الدعاء يوم عرفة، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2837).(1/82)
ذكر الأسماء الحسنى التي ورد ذكرها مقترنًا باسم (الواحد أو الأحد):
ورد اقتران اسم الله (الواحد) باسمه سبحانه (القهار) في أكثر من آية من ذلك:
- قوله تعالى: { قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) }
[الرعد: 16].
- وقوله تبارك وتعالى: { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } (16)
[غافر: 16].
- وقوله تعالى: { لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) } [الزمر: 4].
ولم أعثر على اسم آخر في كتاب الله - عز وجل - قد اقترن باسمه سبحانه (الواحد) غير اسمه (القهار).
(والقهار): اسم مبالغة (للقاهر) وهو الذي خضع له كل شيء، وذل لعظمته وجبروته وقوته كل شيء، لايخرج شيء ولا حي عن قدرته وتدبيره وملكه وقهر كل الخلق بالموت وهذا يفسر - والله أعلم - شيئًا من سر اقتران اسمه (الواحد) باسمه (القهار). حيث إن من موجبات اسمه (الواحد) في ربوبيته وملكه وألوهيته وأسمائه وصفاته أن يكون قاهرًا قهارًا غالبًا لكل شيء لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وما من دابة إلا هو سبحانه آخذ بناصيتها ماض فيها حكمه عدل فيها قضاؤه: { إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) } [هود: 56]، وكونه تعالى (الواحد) يقتضي كونه (القهار).
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "ووحدته تعالى وقهره متلازمان. فالواحد لا يكون إلا قهارًا، والقهار لا يكون إلا واحدًا وذلك ينفي الشركة من كل وجه"(1)1).
ويقول أيضًا: "فإن القهر ملازم للوحدة فلا يكون اثنان قهاران متساويين في قهرهما أبدًا. فالذي يقهر جميع الأشياء هو الواحد الذي لا نظير له، وهو الذي يستحق أن يعبد وحده كما كان قاهرًا وحده"(2)1).
__________
(1) تفسير السعدي 4/308.
(2) تفسير السعدي 4/299.(1/83)
"كما يشير هذا الاقتران إلى معنى بديع: وهو أن الغلبة والإذلال من ملوك الدنيا إنما يكون بأعوانهم وجندهم وعُددهم، والله تعالى يقهر كل الخلق وهو واحد أحد فرد صمد مستغن عن الظهير والمعين. فاقتران الاسمين يشير إلى كماله سبحانه في تفرده وكماله في قهره"(1)2).
أما اسمه سبحانه (الأحد) فقد جاء في سورة الإخلاص مع اسمه سبحانه (الصمد) فقال سبحانه: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) } [الإخلاص: 1، 2] كما جاء أيضًا مقترنًا (بالصمد) في السنة الصحيحة: (اللَّهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد... " الحديث (2)3).
(والصمد): هو الذي تقصده وحده الخلائق كلها وتصمد إليه في حاجاتها، وأحوالها، وضروراتها لما له سبحانه من الكمال المطلق في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله(3)4). وهذا يفسر اقتران اسمه سبحانه (الصمد) باسمه سبحانه (الأحد) لأن من معاني (الأحد) الكامل المطلق المتفرد في ذاته وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وربوبيته، وإلهيته، ولا يصدق اسم (الصمد) إلا على من هذه صفاته (الواحد الأحد) سبحانه وتعالى.
من آثار الإيمان بهذين الاسمين الكريمين:
__________
(1) انظر مطابقة أسماء الله الحسنى مقتضى المقام د.نجلاء كردي ص 492.
(2) سبق تخريجه ص76.
(3) انظر تفسير السعدي 5/416.(1/84)
أولاً: إن أعظم أثر وموجب لهذين الاسمين الجليلين الكريمين هو إفراده - سبحانه وتعالى - بالربوبية والإلهية وتوحيده سبحانه بأفعاله وصفاته وتوحيده بأفعال عباده. فكما أنه واحد في ربوبيته - حيث هو الخالق الرازق المحيي المميت المالك المتصرف في خلقه كيف يشاء - فهو واحد في ألوهيته فلا إله إلا هو وحده لا شريك له. وحينئذ يتحقق توحيد العبد لربه سبحانه ويتحقق إفراده - عز وجل - بجميع أنواع العبادة، حيث لا يستحق العبادة إلا هو وحده سبحانه. وعندما يستقر هذا المعتقد في القلب فلابد أن يظهر ذلك في أقوال العبد، وأفعاله، وجوارحه كلها فلا يسجد، ولا يركع، ولا يصلي إلا لله وحده لا شريك له. ولا يرجو، ولا يدعو، ولا يسأل إلا الله - عز وجل - ولا يستغيث، ولا يستعين، ولا يستعيذ إلا بالله وحده، ولا يخاف، ولا يرهب، ولا يشفق إلا من الله وحده، ولا يتوكل إلا عليه وحده.
والمقصود أن من موجبات الإيمان باسمه (الواحد، الأحد) إفراده سبحانه وحده بالتأله، والدعاء، والمحبة، والتعظيم، والإجلال، والخوف، والرجاء، والتوكل وجميع أنواع العبادة.
وهذا يقتضي إفراده - عز وجل - بالحب والولاء؛ قال سبحانه: { ِuژِچxîr& اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [الأنعام: 14].(1/85)
ثانيًا: تعلق القلوب بخالقها ومعبودها وتوجهها له وحده لا شريك له، لأنه (الواحد الأحد) الذي تصمد إليه الخلائق في حاجاتها وضروراتها وهو القادر على كل شيء، والمالك لكل شيء، والمتصرف في كل شيء. وهذا الشعور يريح القلوب من شتاتها واضطرابها ويجعلها تسكن إلى ربها ومعبودها وتقطع التعلق بمن لا يملكون شيئًا ولا يقدرون على شيء إلا بما أقدرهم الله عليه، ولا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا فضلاً عن أن يملكوه لغيرهم؟ وهذا الشعور يجعل العبد يقطع قلبه من التعلق بالمخلوق ويوحد وجهته، وطلبه، وقصده لخالقه، وبارئه، ومعبوده (الواحد الأحد الصمد)، فيستريح ويطمئن، لأنه أسلم وجهه وقلبه لله وحده، ولم يتوجه لوجهات متعددة وشركاء متشاكسين يعيش بينهم في حيرة وقلق وصراع مرير، وقد ضرب الله تعالى مثلاً لمن يعبد إلهًا واحدًا هو الله - عز وجل - ومن تنازعه آلهة شتى يستعبدونه ويمزقونه.
قال الله تعالى: { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) }
[الزمر: 29].
يعلق سيد قطب - رحمه الله تعالى - على هذه الآية فيقول: "يضرب الله المثل للعبد الموحد، والعبد المشرك بعبد يملكه شركاء يخاصم بعضهم بعضًا فيه، وهو بينهم موزع؛ ولكل منهم فيه توجيه، ولكل منهم عليه تكليف؛ وهو بينهم حائر لا يستقر على نهج ولا يستقيم على طريق؛ ولا يملك أن يرضي أهواءهم المتنازعة المتشاكسة المتعارضة التي تمزق اتجاهاته وقواه! وعبد يملكه سيد واحد، وهو يعلم ما يطلبه منه، ويكلفه به، فهو مستريح مستقر على منهج واحد صريح"..
"هل يستويان مثلاً؟"..(1/86)
إنهما لا يستويان. فالذي يخضع لسيد واحد ينعم براحة الاستقامة والمعرفة واليقين. وتجمع الطاقة ووحدة الاتجاه، ووضوح الطريق. والذي يخضع لسادة متشاكسين معذب مقلقل لا يستقر على حال ولا يرضي واحدًا منهم فضلاً على أن يرضي الجميع!
وهذا المثل يصور حقيقة التوحيد، وحقيقة الشرك في جميع الأحوال. فالقلب المؤمن بحقيقة التوحيد هو القلب الذي يقطع الرحلة على هذه الأرض على هدى؛ لأنه يعرف مصدرًا واحدًا للحياة، والقوة، والرزق، ومصدرًا واحدًا للنفع والضر، ومصدرًا واحدًا للمنح والمنع، فتستقيم خطاه إلى هذا المصدر الواحد، يستمد منه وحده، ويعلق يديه بحبل واحد يشد عروته. ويطمئن اتجاهه إلى هدف واحد لا يزوغ عنه بصره. ويخدم سيدًا واحدًا يعرف ماذا يرضيه فيفعله وماذا يغضبه فيتقيه.. وبذلك تتجمع طاقته وتتوحد ، فينتج بكل طاقته وجهده وهو ثابت القدمين على الأرض متطلع إلى إله واحد في السماء.. ويعقب على هذا المثل الناطق الموحي، بالحمد لله الذي اختار لعباده الراحة والأمن والطمأنينة والاستقامة" أهـ(1)1).
وإذا وجه العبد حياته كلها لتحقيق هذا الهدف العظيم، ألا وهو عبادة الله وحده، فإنه يخضع كل شيء في حياته لهذا الهدف، وإنه بذلك يحفظ وقته وعمره من أن يضيع في غير هذه الغاية فيشح بوقته النفيس وأنفاسه المعدودة من أن تضيع سدى، بل يشغل جميع أوقاته ودقائق عمره فيما يعود عليه بالنفع في آخرته من عمل صالح ، أو دعوة إلى الله أو جهاد في سبيله، ويتحسر على فوات الدقائق من عمره أعظم من تحسره على فوات الدنيا بأسرها؛ لذلك فهو يغتنم ويهتبل نعمة الفراغ والصحة، والمال، والشباب باستعمالها في طاعة الله - عز وجل - قبل فواتها، وحتى أوقات راحته واستجمامه ومتعته ينويها عبادة لله - عز وجل - ليتقوى بها على طاعة أخرى بعد إجمام النفس ونشاطها.
__________
(1) في ظلال القرآن: 5/3049.(1/87)
ثالثًا: إفراد الله - عز وجل - بالتشريع والتلقي: فإن الإيمان بوحدانية الله - عز وجل - وأحديته توجب توحيده في الحكم والتحاكم والتلقي.
قال - عز وجل -: { أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا } [الأنعام: 114]، وقال الله تعالى: { اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) } [الأنعام: 106].
فمصدر التشريع والتلقي هو الله وحده. وكل تكليف يوجه إلى الإنسان يجب أن يكون في إطار ما شرعه الله - عز وجل - في كتابه الكريم أو على لسان نبيه × القائل: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)(1)1) فلا يملك أحد من العباد أن يزيد أو ينقص أو يبدل في شرع الله - عز وجل - ما لم يأذن به الله تعالى.
(6،5) [ الرحمن، الرحيم]
قال الله تعالى: { الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) } [الرحمن: 1، 2].
وقال - عز وجل -: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5].
وقال سبحانه: { د 'خoTخ) أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ }
[مريم: 45].
والآيات في ذكر اسم (الرحمن) كثيرة جاءت في (57) موضعًا من القرآن.
أما اسمه (الرحيم) فقد جاء في (123) موضعًا من القرآن الكريم أكثرها كان مقترنًا باسمه سبحانه (الغفور) ومن ذلك قوله تعالى: { وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20) } [المزمل: 20].
وقوله تعالى: { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) } [الأحزاب: 34].
وقوله تبارك وتعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) } [ الفاتحة: 2].
وقوله - عز وجل -: { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) } [الشعراء: 191].
المعاني الكريمة لهذين الاسمين الجليلين:
__________
(1) مسلم (1718).(1/88)
هذان الاسمان الكريمان مشتقان من (الرحمة) على وجه المبالغة وهي الرقة والتعطف وإن كان اسم (الرحمن) أشد مبالغة من اسم (الرحيم)، لأن بناء فعلان أشد مبالغة من فعيل وبناء فعلان: للسعة والشمول، واتفق أهل العلم على أن اسم (الرحمن) عربي لفظه، وفي الحديث القدسي: (أنا الرحمن ، خلقت الرحم، وشققت لها اسمًا من اسمي...) الحديث (1)1).
فقد دل هذا الحديث على الاشتقاق. وكانت العرب تعرف هذا الاسم في لغتها.
قال الله - عز وجل -: { وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ } [الزخرف: 20]. وجاء في أشعارهم قول الشاعر :
وعجلتم علينا إذ عجلنا عليكم وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق(2)2)
الفرق بين الاسمين: فرق بعض أهل العلم بين هذين الاسمين الكريمين بالفروق التالية:
أولاً: أن اسم (الرحمن): هو ذو الرحمة الشاملة لجميع الخلائق في الدنيا، وللمؤمنين في الآخرة.
وأما اسم (الرحيم): فهو ذو الرحمة للمؤمنين كما في قوله تعالى: { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) } [الأحزاب: 43]. ولكن يشكل على ذلك قوله تعالى: { إِن اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) } [البقرة: 341]، وقوله تعالى: { رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) } [الإسراء: 66].
ثانيًا: أن اسم (الرحمن) دال على الرحمة الذاتية، و(الرحيم) دال على الرحمة الفعلية؛ يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "إن (الرحمن) دال على الصفة القائمة به سبحانه و(الرحيم) دال على تعلقها بالمرحوم. فكان الأول للوصف، والثاني للفعل، فالأول دال على أن الرحمة صفته، والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته.
__________
(1) أحمد في المسند (1686)، وأبو داود في سننه (1694) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (520).
(2) انظر النهج الأسمى محمد حمود النجدي 1/75، 76.(1/89)
وإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله: { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) } [الأحزاب: 43]، وقوله: { إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) } [التوبة: 117].
ولم يجيء قط (رحمن بهم) فعلم أن (الرحمن) هو الموصوف بالرحمة، (والرحيم) هو الرحيم برحمته" (1)1).
ويقول في موطن آخر: "ولم يجيء رحمن بعباده ولا رحمن بالمؤمنين؛ مع ما في اسم (الرحمن) - الذي هو على وزن فعلان - من سعة هذا الوصف؛ وثبوت جميع معناه للموصوف به. ألا ترى أنهم يقولون: غضبان للممتلئ غضبًا؛ وندمان، وحيران، وسكران، ولهفان، لمن مُلِئ بذلك، فبناء فعلان للسعة والشمول.
ولهذا يقرن استواءه على العرش بهذا الاسم كثيرًا، كقوله تعالى: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه:5]: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ } [الفرقان: 59].
فاستوى على عرشه باسم الرحمن، لأن العرش محيطٌ بالمخلوقات؛ قد وسعها، والرحمة محيطة بالخلق؛ واسعة لهم، كما قال تعالى: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [الأعراف: 156]، فاستوى على أوسع المخلوقات بأوسع الصفات، فلذلك وسعت رحمته كلَّ شيء.
وفي الصحيح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ×: (لما قضى الله الخلق: كتب في كتاب - فهو عنده موضوعٌ على العرش -: إن رحمتي تغلب غضبي)(2)1). وفي لفظٍ: (فهو عنده على العرش)(3)2).
فتأمَّل اختصاص هذا الكتاب بذكر الرحمة؛ ووضعه عنده على العرش، وطَابقْ بين ذلك وبين قوله: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5].
وقوله: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) } [الفرقان: 59] يفتح لك بابًا عظيمًا من معرفة الرب - تبارك وتعالى - إن لم يغلقه عنك التعطيل والتجهم"(4)3).
__________
(1) بدائع الفوائد 1/24.
(2) البخاري (7404)، ومسلم: (2751).
(3) البخاري: (3194).
(4) مدارج السالكين 1/34.(1/90)
ثالثًا: اسم (الرحمن) من الأسماء التي لا يجوز للمخلوق أن يتسمى بها؛ قال الله تعالى: { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [الإسراء: 110] فعادل به الاسم الذي لا يشركه فيه غيره وهو (الله) - جل جلاله - وأما (الرحيم) فإنه تعالى وصف به نبيه × حيث قال: { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) }
[التوبة: 128].
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "والحاصل أن من أسمائه تعالى ما يسمى به غيره، ومنها ما لا يسمى به غيره كاسم (الله)، (الرحمن)، (الخالق)، (الرازق) ونحو ذلك؛ ولهذا بدأ باسم الله الموصوف (بالرحمن) لأنه أخص وأعرف من (الرحيم)؛ لأن التسمية أولاً إنما تكون بأشرف الأسماء؛ فلهذا ابتدأ بالأخص فالأخص"(1)1).
إثبات صفة الرحمة لله رب العالمين:
صفة (الرحمة) من الصفات الثابتة لله تعالى بالكتاب والسنة. وهي صفة كمال لائقة بذاته سبحانه كسائر الصفات، لا يجوز أن تنفيها أو تؤولها أو تحرفها أو تقوض معناها أو تكيفها كما هو مقرر في مذهب أهل السنة والجماعة في جميع الصفات. ويرد الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - على القائلين من أهل البدع بأن رحمة الله مجاز، وأنها عبارة عن إنعامه على عباده، وإحسانه إليهم من عدة وجوه منها:
__________
(1) تفسير ابن كثير 1/21.(1/91)
"الأول: إن الإلحاد إما أن يكون بإنكار لفظ الاسم أو إنكار معناه، فإن كان إنكار لفظه إلحادًا فمن ادعى أن (الرحمن) مجاز لاحقيقة؛ فإنه يجوز إطلاق القول بنفيها فلا يستنكف أن يقول: ليس (بالرحمن) ولا (الرحيم) كما يصح أن يقال: للرجل الشجاع ليس بأسد على الحقيقة، وإن قالوا: نتأدب في إطلاق هذا النفي، فالأدب لا يمنع صحة الإطلاق. وإن كان الإلحاد هو إنكار معاني أسمائه وحقائقها فقد أنكرتم معانيها التي تدل عليها بإطلاقها، وما صرفتموها إليه من المجاز فنقيض معناها، أو لازم من لوازم معناها، وليس هو الحقيقة، ولهذا يصرح غلاتهم بإنكار معانيها بالكلية ويقولون: هي ألفاظ لا معاني لها.
الرد الثاني: إن هذا الحامل لكم على دعوى المجاز في اسم (الرحمن) هو بعينه موجود في اسم (العليم والقدير والسميع والبصير) وسائر الأسماء.
فإن المعقول من العلم صفة عرضية تقوم بالقلب إما ضرورية، وإما نظرية، والمعقول من الإرادة حركة النفس الناطقة لجلب ما ينفعها ودفع ما يضرها، أو ينفع غيرها أو يضره.
والمعقول من القدرة القوة القائمة بجسم تتأتى به الأفعال الاختيارية فهل تجعلون إطلاق هذه الأسماء والصفات على الله حقيقة أم مجازًا؟
فإن قلتم: حقيقة تناقضتم أقبح التناقض، إذ عمدتم إلى صفاته سبحانه فجعلتم بعضها حقيقة وبعضها مجازًا، مع وجود المحذور فيما جعلتموه حقيقة.
وإن قلتم: لا يستلزم ذلك محذورًا، فمن أين استلزم اسم (الرحمن) المحذور؟ وإن قلتم: الكل مجاز، لم تمكنوا بعد ذلك من إثبات حقيقة لله البتة، لا في أسمائه، ولا في الإخبار عنه بأفعاله وصفاته وهذا انسلاخ من العقل والإنسانية.(1/92)
الرد الثالث: إن نفاة الصفات يلزمهم نفي الأسماء من جهة أخرى، فإن (العليم والقدير والسميع والبصير) أسماء تتضمن ثبوت الصفات في اللغة فيمن وصف بها، فاستعمالها لغير من وصف بها، استعمال للاسم في غير ما وضع له، فكما انتفت عنه حقائقها؛ فإنه تنتفي عنه أسماؤها، فإن الاسم المشتق تابع للمشتق منه في النفي والإثبات، فإذا انتفت حقيقة الرحمة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر انتفت الأسماء المشتقة منها عقلاً ولغة، فيلزم من نفي الحقيقة أن تنفي الصفة والاسم جميعًا.
الرد الرابع: إنه كيف يكون أظهر الأسماء التي افتتح الله بها كتابه في أم القرآن وهي من أظهر شعار التوحيد، والكلمة الجارية على ألسنة أهل الإسلام وهي: بسم الله الرحمن الرحيم التي هي مفتاح الطهور والصلاة وجميع الأفعال، فكيف يكون مجازًا؟
الرد الخامس: قولهم: الرحمة رقة القلب، تريدون رحمة المخلوق أم رحمة الخالق؟ أم كل ما سمي رحمة شاهدًا أو غائبًا؟
فإن قلتم: بالأول صدقتم ولم ينفعكم ذلك شيئًا، وإن قلتم: بالثاني والثالث كنتم قائلين غير الحق، فإن الرحمة صفة الرحيم وهي في كل موصوف بحسبه، فإن كان الموصوف حيوانًا له قلب فرحمته من جنسه رقة قائمة بقلبه، وإن كان مَلَكًا فرحمته تناسب ذاته.
فإذا اتصف أرحم الراحمين بالرحمة حقيقة لم يلزم أن تكون رحمته من جنس رحمة المخلوق لمخلوق.
وهذا يطرد في سائر الصفات كالعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والإرادة إلزامًا ووجوبًا، فكيف يكون رحمة أرحم الراحمين مجازًا دون السميع العليم؟
الرد السادس: إنه من أعظم المحال أن تكون رحمة أرحم الراحمين التي وسعت كل شيء مجازًا ورحمة العبد الضعيف القاصرة المخلوقة المستعارة من ربه التي هي من آثار رحمته حقيقة. وهل في قلب الحقائق أكثر من هذا؟(1/93)
الرد السابع: ما رواه أهل السنن عن النبي × أنه قال: يقول الله تعالى: (أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسمًا من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته)(1)1).
فهذا صريح في أن اسم الرحم مشتق من اسمه (الرحمن) تعالى، فدل على أن رحمته لما كانت هي الأصل في المعنى كانت هي الأصل في اللفظ ومثل هذا: قول حسان - رضي الله عنه - في النبي ×:
فَشَقَّ له من اسمه لِيُجله فذُو العَرْشِ مَحمودٌ وهذا مُحمد
فإذا كانت أسماء الخلق الممدوحة مشتقة من أسماء الله الحسنى كانت أسماؤه يقينًا سابقة فيجب أن تكون حقيقة، لأنها لو كانت مجازًا، لكانت الحقيقة سابقة لها، فإن المجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له فيكون اللفظ قد سمي به المخلوق ثم نقل إلى الخالق وهذا باطل قطعًا.
الرد الثامن: ما في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي × أنه قال: ( لما قَضَى الله الخَلْقَ كتبَ كتابًا فهو مَوضوعٌ عنده فوقَ العَرشِ: إنَّ رحمتي سَبَقَت غَضَبي)(2)2) ، وفي لفظ: (غلبت).
وقال تعالى: { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } [الأنعام: 54]، فوصف نفسه سبحانه بالرحمة وتسمّى بالرحمن قبل أن يكون بنو آدم.
فادعاء المدعي أن وصفه بالرحمن مجاز من أبطل الباطل.
الرد التاسع: إنه من المعلوم أن المعنى المستعار يكون في المستعار منه أكمل في المستعار له، وأن المعنى الذي دل عليه اللفظ بالحقيقة أكمل من المعنى الذي دل عليه بالمجاز، وإنما يستعار لتكميل المعنى المجازي تشبيهه بالحقيقي، كما يستعار الشمس، والقمر، والبحر للرجل الشجاع، والجميل، والجواد.
فإذا جعل (الرحمن والرحيم والودود) وغيرهما من أسمائه سبحانه حقيقة في العبد، مجازًا في (الرب)، لزم أن تكون هذه الصفات في العبد أكمل منها في (الرب) تعالى.
__________
(1) الترمذي (1907)، وأحمد (1662)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (1557).
(2) البخاري (3194)، ومسلم (2751).(1/94)
الرد العاشر: إن الله سبحانه وتعالى فرق بين رحمته، ورضوانه، وثوابه المنفصل فقال تعالى: { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) } [التوبة: 21].
فالرحمة والرضوان صفته، والجنة ثوابه، وهذا يبطل قول من جعل الرحمة والرضوان ثوابًا منفصلاً مخلوقًا، وقول من قال هي إرادته الإحسان، فإن إرادته الإحسان هي من لوازم الرحمة، فإنه يلزم من الرحمة أن يريد الإحسان إلى المرحوم فإذا انتفت حقيقة الرحمة انتفى لازمها وهو إرادة الإحسان" (1)1).
ويقول في موطن آخر: "إن (الربَّ) يستحيل أن يكون إلا (رحيمًا)، فرحمته من لوازم ذاته، ولهذا كتب على نفسه الرحمة؛ ولم يكتب على نفسه الغضب، فهو لم يزل ولا يزال (رحيمًا) ولا يجوز أن يقال: إنه لم يزل ولا يزال غضبانًا، ولا أن غضبه من لوازم ذاته، ولا أنه كتب على نفسه العقوبة والغضب، ولا أن غضبه يغلب رحمته ويسبقها"(2)1).
والرحمة المضافة إلى الله تعالى نوعان:
الأول: رحمة ذاتية موصوف بها سبحانه على الوجه اللائق به سبحانه كسائر صفاته، يجب إثباتها لله - عز وجل - من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل. كما قال سبحانه: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [الأعراف: 156]، وقوله تعالى: { وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ } [الأنعام: 133].
الثاني: رحمة مخلوقة أنزل الله - عز وجل - منها رحمة واحدة يتراحم بها الخلائق وأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمة يرحم الله بها عباده يوم القيامة كما جاء في قوله ×: (إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها؛ وأخر الله تسعًا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة)(3)
__________
(1) مختصر الصواعق المرسلة "باختصار" ص 112 - 126.
(2) مختصر الصواعق المرسلة: 1/259.
(3) مسلم (2752).
(3) مسلم (2846).(1/95)
2). ومن ذلك أيضًا ما جاء في قوله ×: (أن الله - عز وجل - قال عن الجنة: "أنت رحمتي أرحم بك من أشاء.... " الحديث (1)3)؛ وهذه الرحمة من باب إضافة المفعول إلى فاعله، وهذه الرحمة ليست صفة لله تعالى، بل هي من أثر رحمته التي هي صفته الذاتية الفعلية.
ورحمة الله عز وجل لعباده نوعان:
الأولى - رحمة عامة:
وهي لجميع الخلائق بإيجادهم، وتربيتهم، ورزقهم، وإمدادهم بالنعم والعطايا، وتصحيح أبدانهم، وتسخير المخلوقات من نبات وحيوان وجماد في طعامهم وشرابهم، ومساكنهم، ولباسهم، ونومهم، وحركاتهم، وسكناتهم، وغير ذلك من النعم التي لا تعد ولا تحصى.
قال الله - عز وجل -: { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } [غافر: 7]، يقول الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: "وهذه هي الرحمة العامة التي تشمل جميع المخلوقات، حتى الكفار؛ لأن الله قرن الرحمة هذه مع العلم؛ فكل ما بلغه علم الله، وعلم الله بالغ لكل شيء؛ فقد بلغته رحمته؛ فكما يعلم الكافر؛ يرحم الكافر أيضًا.
لكن رحمته للكافر رحمة جسدية بدنية دنيوية مختصة بالدنيا؛ فالذي يرزق الكافر هو الله الذي؛ يرزقه بالطعام والشراب واللباس والمسكن والمنكح وغير ذلك"(2).
الثانية - رحمة خاصة:
وهذه الرحمة لا تكون إلا للمؤمنين فيرحمهم الله - عز وجل - في الدنيا بتوفيقهم إلى الهداية والصراط المستقيم، ويثيبهم عليه، ويدافع عنهم وينصرهم على الكافرين ويرزقهم الحياة الطيبة ويبارك لهم فيما أعطاهم، ويمدهم بالصبر واليقين عند المصائب ويغفر لهم ذنوبهم ويكفرها بالمصائب ويرحمهم في الآخرة بالعفو عن سيئاتهم والرضا عنهم والإنعام عليهم بدخولهم الجنة ونجاتهم من عذابه - عز وجل - ونقمته. وهذه الرحمة هي التي جاء ذكرها في قوله تعالى: { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) } [الأحزاب: 43].
__________
(2) شرح العقيدة الواسطية (بتصرف يسير) 1/249.(1/96)
يقول الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله تعالى - عن هذه الرحمة الخاصة بعد حديثه عن الرحمة العامة: "أما المؤمنون؛ فرحمتهم رحمة أخص من هذه وأعظم؛ لأنها رحمة إيمانية دينية دنيوية.
ولهذا تجد المؤمن أحسنَ حالاً من الكافر، حتى في أمور الدنيا؛ لأن الله يقول: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } [النحل: 97] الحياة الطيبة هذه مفقودة بالنسبة للكفار، حياتهم كحياة البهائم.. لكن المؤمن إن أصابته ضراء صبر واحتسب الأجر على الله - عز وجل - وإن أصابته سراء شكر فهو في خير في هذا، وفي هذا وقلبه منشرح مطمئن"(1).
وقال عند قوله تبارك وتعالى: { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } .
(قوله: { ttûüدZدB÷sكJّ9$$خ/ } : متعلق بـ(رحيم)، وتقديم المعمول يدل على الحصر، فيكون معنى الآية: وكان بالمؤمنين لا غيرهم رحيمًا.
ولكن كيف نجمع بين هذه الآية والتي قبلها: { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } نقول: الرحمة التي هنا غير الرحمة التي هناك. هذه رحمة خاصة متصلة برحمة الآخرة لا ينالها الكفار؛ بخلاف الأولى. هذا هو الجمع بينهما، وإلا فكلٌ مرحوم، لكن فرق بين الرحمة الخاصة والرحمة العامة) (2).
ذكر بعض آثار رحمة الله - عز وجل - في خلقه وأمره:
__________
(1) شرح العقيدة الواسطية 1/249.
(2) شرح العقيدة الواسطية 1/251.(1/97)
آثار رحمة الله - عز وجل - لا تعد ولا تحصى إذ إن رحمة الله - عز وجل - قد وسعت كل شيء فكما أن علم الله - عز وجل - قد وسع كل شيء ولم يخف عليه أي شيء فكذلك رحمته سبحانه قد بلغت كل شيء بلغه علمه سبحانه قال الله - عز وجل -: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [الأعراف: 156]، وقال عن دعاء الملائكة للمؤمنين: { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) } [غافر: 7].
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "فوسعت رحمته كل شيء، ووسعت نعمته كل حي، فبلغت رحمته حيث بلغ علمه"(1)2).
وقال سبحانه عن نعمه التي هي من آثار رحمته: { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِن الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) } [إبراهيم: 34].
وأسوق فيما يلي بعضًا من آثار رحمة الله تعالى في خلقه وشرعه، وإلا فإن رحمة الله - عز وجل - قد وسعت كل شيء ولا يحيطها عقل ولا حصر ولا عد. إذ كل ما يقع عليه السمع والبصر فرحمة الله - عز وجل - فيه بادية، وما يخفى على السمع والبصر من آثار رحمة الله تعالى أعظم وأكثر.
__________
(1) الصلاة وحكم تاركها ص 173.(1/98)
أولاً: تظهر آثار رحمة الله - عز وجل - في كل ما خلق الله - عز وجل - سواء في هذا الكون العريض وما فيه من المخلوقات العظيمة المسخرة بأمره سبحانه وما فيها من المنافع والرحمة لعباده، أو ما في خلق الإنسان من الآيات الدالة على عظمته سبحانه ورحمته - عز وجل - بهذا الإنسان، حيث خلقه في أحسن تقويم وأقام جسمه وروحه، وأعطاه العقل وقواه، وأمده وأعده ورزقه وأنعم عليه بنعمه الظاهرة والباطنة. ولو ذهبنا نستعرض آثار رحمة الله تعالى في الآفاق وفي الأنفس لفنيت الأعمار ولم تنته من حصرها وعدها مع أنها جزء من مائة جزء من رحمته.
يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في وصفه لشمول رحمة الله تعالى: "وأنت لو تأملت العالم بعين البصيرة لرأيته ممتلئًا بهذه الرحمة الواحدة كامتلاء البحر بمائه والجو بهوائه.. فسبحان من أعمى بصيرة من زعم أن رحمة الله مجاز"(1).
قال الله تعالى: { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) } [الجاثية: 13].
وقال سبحانه: { فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } [الروم: 50].
وقال تعالى: { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) } [التين: 4].
وقال - عز وجل -: { يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) }
[الانفطار: 6 - 8].
وقال تبارك وتعالى: { الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) } [الرحمن: 1 - 4].
__________
(1) مختصر الصواعق المرسلة 2/350 "باختصار".(1/99)
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "وتأمل قوله تعالى: { الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) } [الرحمن: 1 - 4] كيف جعل الخلق والتعليم ناشئًا عن صفة الرحمة متعلقًا باسم (الرحمن)، وجعل معاني السورة مرتبطة بهذا الاسم وختمها بقوله: { تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78) } [ الرحمن: 78]، فالاسم الذي تبارك هو الاسم الذي افتتح به السورة، إذ مجيء البركة كلها منه، وبه وضعت البركة في كل مبارك فكل ما ذكر عليه بورك فيه، وكل ما أخلي منه نزعت منه البركة.
... وبرحمته أطلع الشمس والقمر، وجعل الليل والنهار، وبسط الأرض وجعلها مهادًا وفراشًا وقرارًا وكفاتًا للأحياء والأموات، وبرحمته أنشأ السحاب وأمطر المطر، وأطلع الفواكه والأقوات والمرعى، ومن رحمته سخر لنا الخيل والإبل والأنعام وذللها منقادة للركوب والحمل والأكل... ومن رحمته أن خلق للذكر من الحيوان أنثى من جنسه وألقى بينهما المحبة والرحمة، ليقع بينهما التواصل الذي به دوام التناسل وانتفاع الزوجين، ويمتع كل واحد منهما بصاحبه.
ومن رحمته أحوج الخلق بعضهم إلى بعض لتتم مصالحهم، ولو أغنى بعضهم عن بعض لتعطلت مصالحهم، وانحل نظامهم، وكان من تمام رحمته بهم أن جعل فيهم الغني والفقير، والعزيز والذليل، والعاجز والقادر، والمراعي والمرعي، ثم أفقر الجميع إليه ثم عم الجميع برحمته"(1).
ثانيًا: وأعظم آثار رحمته سبحانه إرساله الرسل وإنزاله الكتب هداية للناس وإخراجًا لهم من الظلمات إلى النور. فالرسل رحمة من عند الله - عز وجل - لعباده قال الله - عز وجل -: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) }
[الأنبياء: 107].
__________
(1) مختصر الصواعق المرسلة 2/ 122 - 124 "بتصرف يسير".(1/100)
وقال سبحانه: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) } [النحل: 89].
فبرحمته أرسل الرسل وأنزل الكتب لهداية البشر، ولتعريفهم بربهم سبحانه وأسمائه وصفاته، وكيفية عبادته لينقلهم برحمته من الجهالة إلى العلم ومن الغي إلى الرشد، ومن الضلالة إلى الهدى، ومن الظلمات إلى النور، ومن الشقاء إلى السعادة، ومن النار إلى الجنة فسبحان أرحم الراحمين وخير الرازقين.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "فبرحمته أرسل إلينا رسوله ×، وأنزل علينا كتابه وعلّمنا من الجهالة، وهدانا من الضلالة ، وبصّرنا من العمى، وأرشدنا من الغي.
وبرحمته عرفنا من أسمائه وصفاته وأفعاله ما عرفنا به أنه ربنا ومولانا، وبرحمته علمنا ما لم نكن نعلم، وأرشدنا لمصالح ديننا ودنيانا...
... وكان عن صفة الرحمة الجنة وسكانها وأعمالهم، فبرحمته خُلقت، وبرحمته عُمرت بأهلها، وبرحمته وصلوا إليها، وبرحمته طاب عيشهم فيها.
وبرحمته احتجب عن خلقه بالنور ولو كشف ذلك الحجاب لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه... "(1).
ويقول أيضًا: "من أعطى اسم (الرحمن) حقَّه: عرف أنه متضمنٌ لإرسال الرسل وإنزال الكتب أعظم من تضمُّنه إنزال الغيث وإنبات الكلأ وإخراج الحَبِّ.
فاقتضاء الرحمة لما تحصل به حياة القلوب والأرواح: أعظم من اقتضائها لما تحصل به حياة الأبدان والأشباح، لكن المحجوبون إنما أدركوا من هذا الاسم حظَّ البهائم والدوابِّ، وأدرك منه أولو الألباب أمرًا وراء ذلك"(2).
ثالثًا: ومن رحمته سبحانه مغفرته لذنوب عباده والصفح عنهم، وتكفير سيئاتهم، وفتح باب التوبة لهم.
__________
(1) مختصر الصواعق المرسلة 2/123.
(2) مدارج السالكين 1/8.(1/101)
قال الله تعالى: { * قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) } [الزمر: 53].
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "ومن رحمته أنه يعيذ من سخطه برضاه، ومن عقوبته بعفوه، ومن نفسه بنفسه... وأوسع المخلوقات عرشه، وأوسع الصفات رحمته، فاستوى على عرشه الذي هو أوسع المخلوقات بصفة رحمته التي وسعت كل شيء.
ولما استوى على عرشه بهذا الاسم الذي اشتقه من صفته وتسمى به دون خلقه، كتب مقتضاه على نفسه يوم استوائه على عرشه حين قضى الخلق كتابًا فهو عنده وضعه على عرشه "إن رحمته سبقت غضبه" وكان هذا الكتاب العظيم الشأن كالعهد منه سبحانه للخليقة كلها بالرحمة لهم، والعفو عنهم، والصفح عنهم، والمغفرة، والتجاوز، والستر، والإمهال، والحلم، والأناة. فكان قيام العالم العلوي والسفلي بمضمون هذا الكتاب، الذي لولاه لكان للخلق شأن آخر"(1).
وتتجلى رحمة الله - عز وجل - بعباده التائبين في أجلى صورها فيما أخبر به الرسول × بفرح الله - عز وجل - بتوبة عبده وقبوله لتوبة التائبين.
قال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ }
[الشورى: 25].
وقال سبحانه: { وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) } [الأنعام: 54].
__________
(1) …مختصر الصواعق المرسلة 2/121 - 122.وانظر إلى مزيد من تفاصيل آثار - رحمة الله تعالى- وحكمته في خلقه في الكتاب النفيس (مفتاح دار السعادة) لابن القيم رحمه الله تعالى.(1/102)
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ×: (لله أفْرَحُ بتوبة عبده - حين يتوب إليه - من أحدكم، كان على راحلة بأرض فلاة؛ فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه. فأيس منها. فأتى شجرةً فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده. فأخذ بخطامها. ثم قال - من شدة الفرح - اللَّهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح)(1) هذا لفظ مسلم. ولا يهلك على الله إلا هالك ولا يخرج عن رحمة الله تعالى إلا من يعلم الله تعالى أنه لا يستحق الرحمة البتة، وهم القوم الكافرون؛ قال الله تعالى: { إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) } [يوسف: 87] ويمكن أن نجد هذا المعنى في قول إبراهيم × وهو يدعو أباه الكافر: { يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) } [مريم: 45]، فاختيار إبراهيم ×: اسم (الرحمن) في تحذير أبيه من العذاب فيه سر لطيف لأن المتبادر للعقل أن يربط العذاب باسم من أسمائه سبحانه يناسب العقاب أما أن يربط العذاب باسمه (الرحمن) فلا شك أن في ذلك سر لطيف ألا وهو - والله أعلم - أن إبراهيم أراد أن يفتح لأبيه باب الرجاء والتوبة فإن الله - عز وجل - رحيم يقبل توبة التائبين مهما عملوا. وكذلك ربما أراد إبراهيم × أن يعلم أباه أنه إن أصابك العذاب ممن اسمه (الرحمن) الذي وسعت رحمته كل شيء، فإن هذا يدل على أنه ليس فيمن عذبه الرحمن ذرة تستحق الرحمة؛ إذ لو كان فيه موجب الرحمة لرحمه.
رابعًا: ومن آثار رحمته سبحانه ما يضعه في قلوب الأمهات من رحمة نحو أولادهن سواء كان ذلك عند الإنسان أو الحيوان من وحش وطير وهوام. وأن رحمة الله - سبحانه وتعالى - أعظم وأوسع من رحمة الأمهات بأولادهن.
__________
(1) البخاري (6309)، ومسلم (2747).(1/103)
فعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: "قُدِم على رسول الله × بسبي فإذا امرأة من السبي تسعى إذ وجدت صبيًا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته. فقال لنا رسول الله ×: (أتَرونَ هذه المرأة طارحةً ولَدها في النار؟) قلنا: لا والله! وهي تقدر على أن لا تَطْرَحَه. فقال رسول الله ×: (الله أرحَمُ بعبادِهِ من هذه بولدها) "(1).
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "وبرحمته وضع الرحمة بين عباده ليتراحموا بها، وكذلك بين سائر أنواع الحيوان، فهذا التراحم الذي بينهم بعض آثار الرحمة التي هي صفته ونعمته، واشتق لنفسه منها اسم (الرحمن الرحيم) "(2).
خامسًا: وتتجلى رحمة الله - عز وجل - في شرعه المطهر وأحكامه التي كلها خير ورحمة للخلق سواء ما يتعلق بهدايتهم وحفظ أديانهم، أو ما يتعلق بحفظ نفوسهم وأبدانهم، أو ما يتعلق بحفظ عقولهم وأفكارهم، أو ما يتعلق بحفظ أعراضهم وأنسابهم وأولادهم، أو ما يتعلق بحفظ أموالهم وممتلكاتهم.
فكل ما يتعلق بهذه الضروريات الخمس من أحكام إنما جاءت رحمة بالناس بالمحافظة عليها وحمايتها من الفساد والعدوان حتى يعيش الناس في أمن وسعادة قد رفع عنهم الحرج والعنت وحفظ لكل ذي حق حقه. كما تظهر رحمة الله - عز وجل - في يسر الشريعة، ورفع الحرج عن العباد فيها، وشرع الرخص التي ترفع المشقة عنهم.
سادسًا: كما تتجلى رحمة الله - عز وجل - في المصائب والمكروهات التي يقدرها على عباده المؤمنين فهي وإن كانت مؤذية ومكروهة إلا أن في أعطافها الرحمة والخير بالمصاب، لأن الله - عز وجل - كتب على نفسه الرحمة ورحمته سبقت غضبه.
وقد تظهر هذه الرحمة للمصاب عيانًا ويتبين ما في المكروه من الرحمة واللطف وقد لا يتبين ذلك في الدنيا ولكن يظهر آثار رحمة الله فيها في الآخرة بتكفير السيئات، وغفران الذنوب بفعل هذه المصائب.
__________
(1) البخاري (5969)، ومسلم (2754).
(2) مختصر الصواعق المرسلة 3/122.(1/104)
قال الله تعالى: { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) } [البقرة:216 ].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي × قال: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم - حتى الشوكة يشاكها - إلا كفر الله بها من خطاياه)(1).
أما ما يصاب به الكفار من المصائب والعقوبات فهي رحمة بالمؤمنين من شر الكفار وتسلطهم، وإفسادهم في الأرض، وهي عدل مع الكفار.
وأذكر بهذه المناسبة آية من كتاب الله - عز وجل - ظهر لي فيها معنى خفي يدل على أن ما يصيب المؤمن من ضر ومكروه إنما هو من آثار رحمة الله تعالى وموجب اسمه سبحانه (الرحمن الرحيم).
قال الله تعالى عن مؤمن آل ياسين أنه قال لقومه المشركين: { إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) } [يس:23]، فلماذا اختار هذا الرجل الصالح اسم (الرحمن) من بين أسماء الله تعالى؟ وهل (الرحمن) يريد الضر بعباده المؤمنين؟
إن المعنى اللطيف في هذه الآية - والله أعلم - أن الضر إذا أتى من (الرحمن) فإن هذا موجب رحمته ولطفه ويصير الأمر الذي ظاهره الضر في حقيقته رحمة، وخيرًا للمؤمن لأن الرحمن لا يصدر عنه إلا الرحمة واللطف والبر: { فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) } [النساء: 91].
سابعًا: وتتجلى رحمة الله - عز وجل - في رحمته الخاصة بأوليائه، وتوفيقهم، وتسديدهم، وحفظهم، وتيسير أمورهم، وإجابة دعائهم، ونصرهم على أعدائهم الكافرين، وتمكينه لهم في الأرض، وإعانتهم وإغاثتهم في قضاء حوائجهم كما في جلب الرزق والمطر وكشف الكروب، وخرق السنن الكونية لهم، وإظهار الكرامات على أيديهم.
__________
(1) البخاري (5641)، ومسلم (2573).(1/105)
من آثار الإيمان باسميه سبحانه: (الرحمن الرحيم):
أولاً: محبة الله - عز وجل - المحبة العظيمة وذلك حينما يفكر العبد وينظر في آثار رحمة الله - عز وجل - في الآفاق، وفي النفس والتي لا تعد ولا تحصى. وهذا يثمر تجريد المحبة لله تعالى والعبودية الصادقة له سبحانه وتقديم محبته - عز وجل - على النفس، والأهل، والمال، والناس جميعًا، والمسارعة إلى مرضاته، والدعوة إلى توحيده، والجهاد في سبيله، وفعل كل ما يحبه ويرضاه.
قال تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) } [آل عمران: 31].
ثانيًا: عبودية الرجاء والتعلق برحمة الله تعالى وعدم اليأس من رحمة الله تعالى فإن الله - عز وجل - قد وسعت رحمته كل شيء. وهو الذي يغفر الذنوب جميعًا كما أن الرجاء والنظر إلى رحمة الله الواسعة وآثارها يثمر الأمل في النفوس المكروبة، ويمسح عليها الرَّوح وحسن الظن بالله تعالى وانتظار الفرج بعد الشدة ومغفرة الذنوب.
قال الله تعالى: { * قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) }
[الزمر: 53].
وقال - عز وجل -: { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) } [الشرح: 5، 6]، وقال - عز وجل -: { أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } ... الآية [النمل: 26].(1/106)
يتحدث الشيخ السعدي - رحمه الله تعالى - عن الأمل العظيم في رحمة الله تعالى فيقول: "والأمل بالرب الكريم، الرحمن الرحيم، أن يرى الخلائق منه، من الفضل والإحسان، والعفو والصفح والغفران، ما لا تعبر عنه الألسنة، ولا تتصوره الأفكار. ويتطلع لرحمته إذ ذاك، جميع الخلق لما يشاهدونه فيختص المؤمنون به وبرسله، بالرحمة.
فإن قيل: من أين لكم هذا الأمل؟ وإن شئت قلت: من أين لكم هذا العلم بما ذكر؟
قلنا: لما نعلمه من غلبة رحمته لغضبه، ومن سعة جوده، الذي عم جميع البرايا، ومما نشاهده في أنفسنا وفي غيرنا ومن النعم المتواترة في هذه الدار، وخصوصًا في يوم القيامة، فإن قوله: { وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ } ، { إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ } ، مع قوله: { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ } ، مع قوله ×: (إن لله مائة رحمة أنزل لعباده رحمة، بها يتراحمون ويتعاطفون، حتى إن البهيمة ترفع حافرها عن ولدها، خشية أن تطأه، من الرحمة المودعة في قلبها، فإن كان يوم القيامة ضم هذه الرحمة إلى تسع وتسعين رحمة، فرحم بها العباد)(1) ؛ مع قوله ×: (لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها)(2).
فقل ما شئت عن رحمته، فإنها فوق ما تقول، وتصور فوق ما شئت، فإنها فوق ذلك.
فسبحان من رحم في عدله وعقوبته، كما رحم في فضله وإحسانه ومثوبته. وتعالى من وسعت رحمته كل شيء، وعم كرمه كل حي، وجَلَّ من غَنِيِّ عن عباده، رحيم بهم، وهم مفتقرون إليه على الدوام، في جميع أحوالهم، فلا غنى لهم عنه، طرفة عين"(3).
ثالثًا: اتصاف العبد بالرحمة وبذلها لعباد الله تبارك وتعالى:
__________
(1) سبق تخريجه ص127.
(2) سبق تخريجه ص137.
(3) تفسير السعدي 3/252، 253.(1/107)
وقد حض الله - عز وجل - عباده على التخلق بها، ومدح بها أشرف رسله فقال: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) } [التوبة: 128].
ومن أسمائه × أنه (نبي الرحمة)(1). ومدح الصحابة - رضي الله عنهم - بقوله: { رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } [الفتح: 29]. وخُص أبو بكر - رضي الله عنه - من بينهم بالكمال البشري في الرحمة بعد الرسل، حيث قال فيه ×: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر)(2).
وبيَّن × أن الرحمة تنال عباده الرحماء فقال: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء)(3)، وأعظم الرحمة بالناس هدايتهم إلى التوحيد، وإخراجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم - عز وجل - ثم الرحمة بهم في أنفسهم، وأعراضهم، وعقولهم، وأموالهم، ودفع الظلم عنهم، وتفريج كروبهم، والإحسان إليهم، وتعزية مصابهم، وقضاء حوائجهم. وأولى الناس بهذه الرحمة الوالدان والأقربون.
قال تعالى: { * وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) } [الإسراء: 23، 24].
وكذلك رحمة الأولاد والزوجات. فهذا رسول الله × قال له الأقرع ابن حابس: "إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت منهم أحدًا قط" قال الرسول ×: (أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك)(4).
__________
(1) مسلم (2355).
(2) أحمد 3/281، والترمذي في المناقب وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2981).
(3) البخاري (7377)، ومسلم (923).
(4) البخاري (5998)، ومسلم (2317).(1/108)
وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: "جاءتني مسكينة تحمل ابنتين لها فأطعمتها ثلاث تمرات فأعطت كل واحدة منهما تمرة، ورفعت إلى فيها تمرة لتأكلها فاستطعمتها ابنتاها فشقت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبني شأنها فذكرت الذي صنعت لرسول الله × فقال: (إن الله قد أوجب لها بها الجنة أو أعتقها بها من النار) "(1).
ومن الرحمة التي تغيب عن كثير من الأذهان رحمة عموم الخلق مسلمهم وكافرهم، قال ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في أهل البدع: "ومن وجه آخر إذا نظرت إليهم بعين القدر - والحيرة مستولية عليهم، والشيطان مستحوذ عليهم - رحمتهم ورفقت عليهم، أوتوا ذكاء وما أوتوا زكاء، وأعطوا فهومًا وما أعطوا علومًا، وأعطوا سمعًا وأبصارًا وأفئدة: { فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) } [الأحقاف: 26](2).
ويقول ابن القيم - رحمه الله تعالى - في نونيته:
وانظر بعين الحكم وارحمهم بها إذ لا ترد مشيئة الديان
وانظر بعين الأمر واحملهم على أحكامه فهمًا إذا نظران
واجعل لقلبك مقلتين كلاهما من خشية الرحمن باكيتان
لو شاء ربك كنت أيضًا مثلهم فالقلب بين أصابع الرحمن(3)
رابعًا: التعرض لرحمة الله تعالى بفعل أسبابها:
__________
(1) البخاري (1418)، ومسلم (2630) واللفظ له.
(2) الفتوى الحموية ص 553.
(3) شرح قصيدة ابن القيم 1/131.(1/109)
ومن أعظم ما تستجلب به رحمة الله تعالى فعل ما يرضيه ويأمر به، واجتناب ما يسخطه وينهى عنه باتباع ما جاء به النبي × قال الله تعالى: { إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) } [الأعراف: 56]، وقال سبحانه: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ } [الأعراف: 156، 157]، وقال تعالى: { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) } [النور: 56]، وقال تبارك وتعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) }
[البقرة: 218].
" ومما تستجلب به رحمة الله تعالى ما ذكر سابقًا من الرحمة بالخلق والإحسان إليهم.
" ومن الطرق التي تنال بها رحمة الله - عز وجل - تدبر القرآن والإنصات إليه، قال الله تعالى: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) } [الأعراف: 204].
" وكذلك الاستغفار من أعظم ما تستجلب به رحمة الله تعالى. قال الله - عز وجل -: { لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) } [النمل: 46].(1/110)
" وقد أرشدنا الله - عز وجل - إلى سؤاله سبحانه الرحمة لأنفسنا وأقاربنا، وقد أثنى سبحانه على أنبيائه بذلك، وذكرهم للتأسي بهم ، قال الله تعالى: { * وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) } [الأنبياء: 83]، وقال - عز وجل - عن موسى - عليه السلام - ودعائه لنفسه وأخيه: { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) } [الأعراف: 151]، وقال سبحانه: { وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) } [المؤمنون: 118].
" ومما تستجلب به رحمة الله تعالى الرحمة باليتامى، والخدم، والإحسان إليهم فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ×: (كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة)(1) وأشار مالك بالسبابة والوسطى "ومالك أحد رجال السند".
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ×: (إخوانكم جعلهم الله فتية تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه من طعامه وليلبسه من لباسه ولا يكلفه ما يغلبه فإن كلفه ما يغلبه فليعنه)(2).
خامسًا: الحياء من الله عز وجل: "إن التأمل في إحسان الله ورحمته يورث العبد حياء منه - سبحانه وتعالى - فيستحي العبد المؤمن من خالقه أن يعصيه، ثم إن وقع في الذنب جهلاً منه استحيا من الله بعد وقوعه في الذنب، ولذا كان الأنبياء يعتذرون عن الشفاعة للناس بذنوبهم خوفًا وخجلاً، وإن هذا لأمر قل من ينتبه له، بل قد يظن كثير من الناس أن التوبة والعفو قد غمر ذنوبه فلا يلتفت إلى الحياء بعد ذلك.
__________
(1) مسلم (2983)، معنى (وله أو لغيره) أي: قريبًا لليتيم كالجد والأخ والعم أو قريبًا لغيره كبقية الأقارب.
(2) الترمذي (2027)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1587).(1/111)
كان الأسود بن يزيد يجتهد في العبادة والصوم حتى يصفر جسده فلما احتضر بكى، فقيل له: ما هذا الجزع؟ ، فقال: مالي لا أجزع، والله لو أتيت بالمغفرة من الله لأهمني الحياء منه مما قد صنعت، إن الرجل ليكون بينه وبين آخر الذنب الصغير فيعفو عنه فلا يزال مستحييًا منه" (1).
ذكر أسماء الله الحسنى التي جاءت في القرآن الكريم مقترنة باسمه سبحانه (الرحيم):
جاء ذكر اسم الله (الرحيم) في القرآن الكريم مقترنًا ببعض الأسماء الحسنى وهي كما يلي:
أولاً: اقترانه باسم (الرحمن): كما في قوله تعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) } ، وقوله تعالى: { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) } ، وجاء هذا الاقتران في ستة مواضع من القرآن وقد مر بنا معنى هذين الاسمين الكريمين وأصل اشتقاقهما والفرق بينهما، وعن الجمع بين هذين الاسمين الكريمين:
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "أما الجمع بين (الرحمن الرحيم): ففيه معنى ... وهو: أن (الرحمن) دالٌّ على الصفة القائمة به - سبحانه - و(الرحيم) دالٌّ على تعلُّقها بالمرحوم، فكان الأول للوصف، والثاني للفعل، فالأول دالٌّ على أن الرحمة صفته، والثاني دالٌّ على أنه يرحم خلقه برحمته.
وإذا أردت فهم هذا: فتأمل قوله: { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) } [الأحزاب: 43]، { إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) } [التوبة: 117]، ولم يجيء قط: رحمن بهم.
فعُلِمَ أنَّ الرحمن: هو الموصوف بالرحمة، ورحيم: هو الراحم برحمته، وهذه نكتةٌ لا تكاد تجدها في كتابِ، وإن تَنَفَّسَتْ عندها مرآةُ قلبك: لم تَنْجَل لك صورُتها"(2).
__________
(1) انظر (التعبد بالأسماء والصفات) وليد الودعان ص98.
(2) بدائع الفوائد 1/23 - 24 "باختصار".(1/112)
وبذلك يفهم أن الجمع بين (الرحمن) و (الرحيم) يدل على كمال رحمته - سبحانه وتعالى - وشمولها من جهة، وخصوصها من جهة أخرى كما قال تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (56) } [الأعراف: 156].
ثانيًا: اقترانه باسم: (الغفور): وهذا كثير في القرآن الكريم بلغ (75) موضعًا تارة بقوله: { وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) } [يونس: 107] وتارة بقوله: { إِن اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } وتارة بقوله: { وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) } [سبأ:2]، وتارة بقوله: { ô¨bخ) اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وتارة بقوله: { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } ، وتارة بقوله: { وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } ، وتارة بقوله: { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } ، وتارة بقوله: { فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ، وتارة بقوله: { إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } ، وتارة بقوله: { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
ولا يخفى على المتأمل المناسبة بين هذين الاسمين وبين الآية التي ختمت بهما، واقتران هذين الاسمين الجليلين في مواطن كثيرة من القرآن يدل على أن مغفرة الله - عز وجل - لعبده مع استحقاقه للعقوبة بمقتضى عدله إن هو إلا أثر من آثار رحمة الله تعالى. وهذا من مقتضى رحمته التي كتبها على نفسه، وإلا لكان مقتضى العدل أن يؤاخذ العبد على ذنبه كما يجزيه على عمله الصالح.(1/113)
فجمع الله سبحانه بين هذين الاسمين الكريمين؛ لأن بالمغفرة تسقط عقوبة الذنوب، ويستر الله - عز وجل - ذنوب عباده ويقيهم آثامها كما يقي المغفر الرأس من السهام وهذا مقتضى رحمته سبحانه ويدل على ذلك ما ثبت في الصحيح عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: "سمعت النبي × يقول: (إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره فيقول: أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا، فيقول: نعم أي رب حتى إذا أقره بذنوبه ورأى أنه هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم) "(1).
كما أن في الجمع بين هذين الاسمين الكريمين إشارة إلى الكرم الغامر، والفضل العميم ، فإنه كونه سبحانه (الغفور) يقتضي تجاوزه عن الزلات والعثرات فإذا قرن (الغفور) بـ(الرحيم) الذي ظهرت آثار رحمته فهو الفضل الذي ليس وراءه فضل، فالمغفرة تخلية عن الذنوب والرحمة تحلية بالفضل والثواب.
ثالثًا: اقتران اسم (الرحيم) باسمه سبحانه (الرؤوف):
وجاء هذا الاقتران في ثماني آيات من القرآن الكريم منها قوله تعالى: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِن اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) } [البقرة: 143]، وقوله تعالى: { وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) } [الحديد: 9]. وهناك مناسبة لا تخفى على المتأمل بين هذين الاسمين وبين الآية التي ختمت بهما، وهذا الاقتران يدل على أعلى درجات الرحمة، والرأفة هي من موجبات الرحمة وآثارها.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "وأقرب الخلق إلى الله تعالى أعظمهم رأفة ورحمة كما أن أبعدهم منه: من اتصف بضد صفاته"(2).
__________
(1) البخاري (2441)، مسلم (2768).
(2) الروح ص 557.(1/114)
ولذلك وصف الرسول × بأنه: { بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) } [التوبة: 128]، وهذه من الأسماء التي تطلق على الله تعالى وعلى غيره إلا أنه لا يجوز أن يتسمى المخلوق بـ(الرؤوف الرحيم) على الإطلاق وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "إنه لا يجوز أن يتسمى بأسماء الله المختصة به، وأما الأسماء التي تطلق عليه وعلى غيره كـ(السميع والبصير) و (الرؤوف والرحيم) فيجوز أن يخبر بمعانيها عن المخلوق، ولا يجوز أن يتسمى بها على الإطلاق بحيث تطلق عليه كما تطلق على الرب تعالى"(1).
رابعًا: اقتران اسمه (الرحيم) باسمه سبحانه (التواب):
وجاء هذا الاقتران في (تسعة) مواضع من القرآن منها قوله تعالى: { فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) } [البقرة: 37]، وقوله تعالى: { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَن اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) } [التوبة: 104]، وقوله تعالى: { فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) } [النساء: 16]، وسر الاقتران بين هذين الاسمين الكريمين واضح، ذلك أن من آثار وثمار رحمة الله تعالى توفيقه لعباده إلى التوبة ثم قبولها منهم، قال الله - عز وجل -: { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) } [النساء: 27].
__________
(1) تحفة المولود بأحكام المولود ص 108.(1/115)
وتوفيق العبد للتوبة ثم قبولها منه يترتب عليه حسن العاقبة، والنجاة من عذاب الله تعالى وتلك رحمة خاصة، بل إنه سبحانه من عظيم رحمته بعبده أنه يفرح بتوبته فرحًا عظيمًا كما جاء في الحديث الصحيح السابق ذكره: (لله أفرح بتوبة عبده - حين يتوب إليه - من أحدكم كان على راحلة بأرض فلاة... الحديث)(1).
خامسًا: اقتران اسمه (الرحيم) باسمه سبحانه (العزيز):
وجاء هذا الاقتران في (13) موضعًا من القرآن الكريم منها (9) مواضع في سورة الشعراء وذلك بالتعقيب على قصة كل نبي مع قومه، بقوله تعالى: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) } [الشعراء: 8، 9]، وقوله تعالى: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) } [الشعراء: 217]، وقوله تعالى: { تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) } [يس: 5]، وقوله - عز وجل -: { إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) } [الدخان: 42]، وقوله سبحانه: { ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) } [السجدة: 6].
واقتران هذين الاسمين الكريمين واضح لمن تأمله حسب السياق القرآني في الآية التي يختم فيها بهذين الاسمين الجليلين.
ففي سورة الشعراء لما كانت الآية هي بمثابة التعقيب على قصة كل نبي مع قومه ناسب ختمها بهذين الاسمين الكريمين، وذلك أن ما حصل للمكذبين من عذاب وهلاك إنما هو مقتضى عزته سبحانه وقوته، وغلبته وهو موجب اسمه سبحانه (العزيز) وما حصل من إنجاء للرسل وأتباعهم إنما مقتضى رحمته ولطفه وهو موجب اسمه سبحانه (الرحيم).
__________
(1) سبق تخريجه ص136.(1/116)
وبالجملة فإن اقتران هذين الاسمين الكريمين يدل على الكمال والعدل والحمد والعزة والرحمة، وذلك ببيان أنه سبحانه مع كونه عزيزًا قويًا غالبًا قاهرًا لكل شيء فلا ينفي أن يكون رحيمًا برًا محسنًا. ولا يعني كونه سبحانه رحيمًا بعباده أن لا يكون قويًا غالبًا.
فرحمته سبحانه ناشئة عن قدرة، وقوة، وعزة لا عن ضعف، وعجز، واجتماع الوصفين يدل على صفة كمال ثالثة وهي: جريان عزته - سبحانه وتعالى - على سنن الرحمة التي تستلزم إفاضة الخير والإحسان.
سادسًا: اقتران اسمه (الرحيم) باسمه سبحانه (البر):
وجاء هذا الاقتران مرة واحدة في القرآن وذلك في قوله تعالى عن أهل الجنة: { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) } [الطور: 25 - 28]، والبر: هو المحسن الرفيق المتفضل، وهذه الصفات هي من موجبات رحمته الخاصة بعباده المؤمنين.
فبرُّ الله - عز وجل - بعباده الذي هو عبارة عن توالي مننه، وتتابع إحسانه وإنعامه أثر من آثار رحمته الواسعة التي غمرت الوجود، وتقلب فيها كل موجود، وعن طريق تلك المنن الجزيلة، وذلك الإحسان العميم عرف العباد أن ربهم رحيم، فاقتران (البر) بـ (الرحيم) لعله من اقتران المسبَّب بالسبب.
وتقديم (البَرِّ) على (الرحيم) أبلغ في المدح، والثناء بالترقي من الأخص إلى الأعم، ومن المسبب إلى السبب (1).
وسيأتي التفصيل في معاني وآثار اسمه سبحانه (البر) في بابه إن شاء الله تعالى.
سابعًا: اقتران اسمه (الرحمن) باسمه سبحانه (الرب):
__________
(1) انظر مطابقة أسماء الله الحسنى مقتضى المقام في القرآن الكريم؛ د. نجلاء كردي ص 624.(1/117)
وقد سبق ذكر هذا الاقتران عند الحديث عن اسم (الرب) سبحانه وذلك عند قوله تعالى: { سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) } [يس: 58].
من آثار اسم (الرب) سبحانه أنه: (رحيم) كما في قوله تعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) } [الفاتحة: 3،2] فصفة الرحمة من آثار ربوبيته سبحانه (فالرب) على الحقيقة لا يمكن إلا أن يكون رحيمًا، وأن المؤمنين لم يدخلوا الجنة ويتلقوا السلام من ربهم سبحانه إلا برحمته - عز وجل - والتي هي من موجبات ربوبيته تبارك وتعالى.
ثامنًا: اقتران اسمه سبحانه (الرحيم) باسمه - عز وجل - (الودود):
وجاء هذا الاقتران مرة واحدة في القرآن الكريم وذلك في قوله سبحانه: { وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) }
[هود: 90].
ولا يخفى وجه الارتباط بين هذين الاسمين الجليلين، لأن معنى (الودود) الذي يُحَب ويحب عباده التوابين المنيبين؛ وهذا من موجبات رحمته.
وقد اختار شعيب × هذين الاسمين الكريمين وهو يدعو قومه إلى الاستغفار والتوبة، وذلك ليطمعهم في توبة الله - عز وجل - عليهم وأنها مقتضى رحمته سبحانه ومحبته - عز وجل - للمنيبين إليه.
يقول الشيخ السعدي - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: " { (¨bخ) رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) } أي: لمن تاب وأناب؛ يرحمه فيغفر له، ويتقبل توبته ويحبه. ومعنى الودود من أسمائه تعالى أنه يحب عباده المؤمنين، ويحبونه، فهو فعول بمعنى فاعل ومعنى مفعول"(1).
وهنا توجيه آخر في تفسير اقتران هذين الاسمين الكريمين، ألا وهو: أن الرحمة قد تتوجه إلى من لا يُحب، أما (الرب) تعالى فإنه يغفر لعبده إذا تاب ويرحمه ويحبه مع ذلك، فإذا تاب العبد إلى ربه أحبه ربه سبحانه ولو كان منه ما كان.
__________
(1) تفسير السعدي 2/385.(1/118)
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "وما ألطف اقتران اسمه (الودود) بـ(الرحيم) وبـ(الغفور) فإن الرجل قد يغفر لمن أساء إليه ولا يحبه، وكذلك قد يرحم من لا يحب، و(الرب) تعالى يغفر لعبده إذا تاب إليه ويرحمه ويحبه مع ذلك، فإنه يحب التوابين. وإذا تاب إليه عبده أحبه ولو كان منه ما كان"(1).
- - -
(7) [الحيُّ]
ورد اسمه سبحانه (الحي) خمس مرات في كتاب الله - عز وجل - وذلك في قوله تبارك وتعالى: { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [البقرة: 255]، وقوله سبحانه: { الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) } [آل عمران:1، 2]، وقوله عز وجل : { * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ } [طه: 111]، وقوله - عز وجل -: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ } [الفرقان: 58]، وقوله سبحانه: { هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [غافر:65].
وفي السنة قوله × في دعائه: (يا حي ياقيوم برحمتك أستغيث)(2)1) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (اللَّهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون)(3)2).
المعنى اللغوي لهذا الاسم العظيم:
قال في اللسان: "الحياة نقيض الموت.. والحي من كل شيء نقيض الميت، والحيوان اسم يقع على كل شيء حي" (4)3).
وقال الزجاجي: " (الحي) في كلام العرب خلاف الميت، والحيوان خلاف الموات(5)4).
المعنى في حق الله تعالى:
__________
(1) التبيان في أقسام القرآن ص 59.
(2) الترمذي (3773)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (2796).
(3) مسلم (2717).
(4) لسان العرب 2/1075.
(5) اشتقاق الأسماء ص102.(1/119)
"الله عز وجل هو الحي الباقي الذي لا يجوز عليه الموت ولا الفناء، عز وجل وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا. ولا تعرف العرب عن الحيّ والحياة غير هذا"(1)1).
وقال الطبري في تفسيره: "و(الحي): الذي لا يموت ولا يبيد كما يموت كل من اتخذ من دونه ربًا، ويبيد كل من ادَّعى من دونه إلهًا، واحتج على خلقه بأن: من كان يبيد فيزول، ويموت فيفنى، فلا يكون إلهًا يستوجب أن يعبد دون الإله الذي لا يبيد ولا يموت، ولأن الإله هو الدائم الذي لا يموت، ولا يبيد، ولا يفنى، وذلك الله الذي لا إله إلا هو"(2)2).
كما أن حياته سبحانه تستلزم أن لا تأخذه سنة ولا نوم فالنوم أخو الموت. والنوم نقص في كمال الحياة قال ×: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام) (3)3).
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "وحياته - سبحانه - أكمل الحياة وأتمها، وهي حياة تستلزم جميع صفات الكمال، وتنفي أضدادها من جميع الوجوه، ومن لوازم الحياة العقل الاختياري فإن كل حي فعال، وصدور العقل عن الحي بحسب كمال حياته ونقصها. وكل من كانت حياته أكمل من غيره كان فعله أقوى وأكمل، وكذلك قدرته. ولذلك كان (الرب) سبحانه على كل شيء قدير وهو فعال لما يريد. وقد ذكر البخاري في كتاب (خلق الأفعال) عن نعيم بن حماد أنه قال: الحي هو الفعال. وكل حي فعال؛ فلا فرق بين الحي والميت إلا بالفعل والشعور" (4)3).
من آثار الإيمان بهذا الاسم العظيم:
أولاً: محبة الله - عز وجل - وإجلاله وتوحيده:
__________
(1) اشتقاق الأسماء ص 102.
(2) جامع البيان للطبري 3/109.
(3) مسلم (179).
(4) شفاء العليل 1/187.(1/120)
إن علم العبد بربه سبحانه وبأن له الحياة الكاملة المطلقة والتي تتضمن جميع صفات الكمال توجب على العبد محبة ربه سبحانه وإجلاله وتوحيده، وهذا يثمر في القلب الابتهاج، واللذة، والسرور مما تندفع به الكروب، والهموم، والغموم. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "فعِلم القلب ومعرفته بذلك توجب محبته وإجلاله وتوحيدَه، فيحصل له من الابتهاج، واللذة، والسرور ما يدفع عنه ألم الكرب، والهم، والغم، وأنت تجدُ المريض إذا ورد عليه ما يسرُّهُ ويُفرحه، ويقوي نفسه، كيف تقوى الطبيعة على دفع المرض الحسِّي، فحصولُ هذا الشفاء للقلب أولى وأحرى.
ثم إذا قابلت بين ضيق الكرب وسعة هذه الأوصاف التي تضمَّنها دعاءُ الكرب، وجدته في غاية المناسبة لتفريج هذا الضيق، وخروج القلب منه إلى سعَةِ البهجة والسرور، وهذه الأمورُ إنما يصدق بها من أشرقت فيه أنوارها، وباشر قلبُه حقائقَها.
وفي تأثير قوله: (يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث) في دفع هذا الداء مناسبة بديعة، فإن صفة الحياة متضمِّنة لجميع صفات الكمال، مستلزمة لها، وصفة القيُّومية متضمنة لجميع صفات الأفعال، ولهذا كان اسمُ الله الأعظم الذي إذا دُعيَ به أجاب، وإذا سُئل به أعطى: هو اسمُ (الحيّ القيوم)(1) والحياة التامة تُضاد جميعَ الأسقام والآلام، ولهذا لما كَمُلَت حياة أهل الجنة لم يلحقهم همٌّ، ولا غمٌّ، ولا حَزَنٌ، ولا شيء من الآفات. ونقصانُ الحياة تضر بالأفعال، وتنافي القيومية، فكمال القيومية لكمال الحياة، فـ (الحي) المطلق التام الحياة لا تفوتُه صِفة الكمال البتة، و(القيوم) لا يتعذَّرُ عليه فعل ممكن البتة، فالتوسل بصفة الحياة والقيومية له تأثير في إزالة ما يُضادُّ الحياة، ويضُرُّ بالأفعال.
__________
(1) سبق الحديث عن اسم الله الأعظم؛ ص 75-80، وفيه تفصيل جيد للشيخ السعدي رحمه الله.(1/121)
ونظير هذا: توسلُ النبي × إلى ربه بربوبيته لجبريل، وميكائيل، وإسرافيل أن يَهدِيَه لما اختُلفَ فيه من الحق بإذنه، فإن حياة القلب بالهداية، وقد وكل الله سبحانه هؤلاء الأملاكَ الثلاثة بالحياةِ، فجِبريلُ: موكَّل بالوحي الذي هو حياةُ القلوب، وميكائيل: بالقطر الذي هو حياةُ الأبدان والحيوان، وإسرافيل: بالنفخ في الصُّور الذي هو سبب حياة العالم وعودة الأرواح إلى أجسادها، فالتوسل إليه سبحانه بربوبية هذه الأرواح العظيمة الموكلة بالحياة، له تأثير في حصول المطلوب.
والمقصود: أن لاسم (الحي القيوم) تأثيرًا خاصًا في إجابة الدعوات، وكشفِ الكُربات"(1)1).
ثانيًا: التوكل الصادق على الله عز وجل:
يقول الله عز وجل: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) } [الفرقان: 58]، فمن آمن بأن ربه سبحانه هو الحي الذي له الحياة الكاملة والحي الذي لا يموت أبدًا والذي لا تأخذه سنة ولا نوم ولا غفلة، يكون توكله في جميع أموره عليه وحده سبحانه ويكون ربه هو ذخره وملجأه في كل حين، ويقطع تعلقه ورجاءه في المخاليق الضعاف الذين يموتون وينامون ويغفلون وينسون، ولا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا فضلاً عن أن يملكوه لغيرهم. ومن العجب أن يتعلق مخلوق بمخلوق مثله يموت، ويفنى، وينام، وينسى فمن ذا يعينه إذا نام أو نسي أو مات وتركه.
__________
(1) زاد المعاد 4/205.(1/122)
ومن أعظم ما يتوكل على الله - عز وجل - فيه طلب الهداية والثبات على الإيمان، وعدم الزيغ عنه، ولذلك كان النبي × يتوسل بحاله وفقره واستسلامه لربه - عز وجل - ويتوسل بعزته سبحانه وباسمه (الحي) الذي لا يموت في حفظ إيمانه، والاستعاذة بهذا الاسم العظيم من الضلال والغواية. وذلك كما ورد في دعائه × أنه كان يقول: (اللَّهم لكَ أسلمتُ وبك آمنتُ، وعليك توكلتُ، وإليك أنبت، وبك خَاصمت، اللَّهم إني أعوذُ بعزتك لا إله إلا أنت أن تُضِلِّني أنتَ الحيُّ الذي لا يموتُ، والجن والإنس يموتون)(1)1).
ثالثًا: الزهد في هذه الحياة الدنيا الفانية وعدم الاغترار بها:
لأنه مهما أعطي العبد من العمر فلا بد من الموت، أما الحياة الدائمة التي يهبها (الحي القيوم) لعباده المؤمنين فهي في الدار الآخرة في جنات النعيم، وهذا الشعور يدفع المسلم إلى الاستعداد للآخرة والسعي لنيل مرضات الله - عز وجل - في الحياة السرمدية في جنات النعيم والله - جل شأنه - هو الذي يهب أهل الجنة الحياة الدائمة الباقية التي لا تفنى ولا تبيد، قال سبحانه: { وَإِن الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) } [العنكبوت: 64]، فحياة أهل الجنة دائمة بإدامة الله (الحي القيوم) لها.
رابعًا: اسمه سبحانه (الحي) يقتضي صفات كماله - عز وجل - كلها:
فمن أنكر صفة كمال لله تعالى وعطلها، لم يؤمن بأنه (الحي)؛ يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "... وكذلك إذا اعتبرت اسمه (الحي) وجدته مقتضيًا لصفات كماله من علمه، وسمعه، وبصره، وقدرته، وإرادته، ورحمته، وفعله ما يشاء"(2)1).
والإيمان بصفات كماله سبحانه يقتضي آثار صفات كماله كلها، فتحصل من ذلك أن التعبد لله - عز وجل - باسمه (الحي) يوجب التعبد لله سبحانه بجميع صفاته وأسمائه الحسنى كلها وأن آثارها إنما هي آثار لاسمه سبحانه (الحي).
- - -
(8) [القيوم]
__________
(1) مسلم (2717).
(2) التبيان: ص 102.(1/123)
ورد هذا الاسم الجليل في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم مقترنًا باسمه سبحانه (الحي) وذلك في قوله - عز وجل -: { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [البقرة: 255].
وقوله سبحانه: { الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) } [آل عمران:1، 2]، وقوله - عز وجل -: { * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ } [طه: 111].
ولم يرد هذا الاسم الكريم منفردًا في القرآن الكريم. ولكن ورد ذكر (القائم) في قوله تعالى: { أَفَمَنْ هُوَ يOح!$s% عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [الرعد: 33]، والقيام على كل نفس من لوازم اسمه سبحانه (القيوم).
أما في السنة فقد ورد مقترنًا باسمه (الحي) كما في قوله ×: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث)(1)1)، وجاء مفردًا مضافًا في قوله × في استفتاح صلاة الليل: (اللَّهم لك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن...الحديث)(2)2).
المعنى اللغوي:
قال في اللسان: "معنى القيام: العزم... ويجيء القيام بمعنى المحافظة والإصلاح ومنه قوله تعالى: { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ } [النساء: 34].
وقوله تعالى: { إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ } $VJح!$s% [آل عمران:75 ] أي: ملازمًا محافظًا، ويجيء القيام بمعنى الوقوف والثبات... وقال قتادة: "القيوم: القائم على خلقه بآجالهم، وأعمالهم، وأرزاقهم"(3)3).
المعنى في حق الله تعالى:
ذكر الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - معنى هذا الاسم العظيم في أكثر من موطن من كتبه. ومن ذلك قوله: "معنى اسمه (القيوم): هو الذي قام بنفسه فلم يحتج إلى أحد، وقام كل شيء به فكل ما سواه محتاج إليه بالذات"(4)1).
__________
(1) سبق تخريجه ص 154 .
(2) البخاري (1120)، ومسلم (769).
(3) لسان العرب 5/3781، 3786.
(4) مدارج السالكين 2/111.(1/124)
ويقول في موطن آخر: "فالقائم بنفسه أكمل ممن لا يقوم بنفسه، ومن كان غناه من لوازم ذاته فقيامه بنفسه من لوازم ذاته. وهذه حقيقة قيوميته سبحانه. وهو (الحي القيوم) فالقيوم: القائم بنفسه المقيم لغيره"(1)2).
وقال في موطن ثالث: "وأما (القيوم) فهو متضمن كمال غناه وكمال قدرته، فإنه القائم بنفسه لا يحتاج إلى من يقيمه بوجه من الوجوه. وهذا من كمال غناه بنفسه عما سواه، وهو المقيم لغيره فلا قيام لغيره إلا بإقامته، وهذا من كمال قدرته وعزته"(2)3).
ويقول الشيخ السعدي - رحمه الله تعالى - عن هذين الاسمين الكريمين: (الحي) الجامع لصفات الذات. و(القيوم) الجامع لصفات الأفعال"(3)4).
فتضمن هذان الاسمان الكريمان معاني أسمائه وصفاته وأفعاله، ولهذا قيل: إن (الحي القيوم) هو الاسم الأعظم.
ومن معاني (القيوم) الباقي الذي لا يزول، وهذا المعنى قد أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - بقوله: "لهذا كان اسم "القيوم" يتضمن أنه لا يزول، فلا ينقص بعد كمالِه، ويتضمن أنه لم يزل ولا يزال دائمًا باقيًا أزليًّا أبديّاً موصوفًا بصفاتِ الكمال، من غير حدوثِ نقصِ أو تغيُّرٍ بفسادٍ واستحالةِ ونحو ذلك مما يعتري ما يزول من الموجودات، فإنه - سبحانه وتعالى - "القيوم". ولهذا كان من تمام كونِه قيومًا لا يزولُ أنه لا تأخذه سِنَةٌ ولا نومٌ، فإن السِّنة والنوم فيهما زوال ينافي القيومية، لما فيهما من النقص بزوال كمالِ الحياة والعلم والقدرة، فإن النائم يحصل له من نقص العلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام وغير ذلك ما يظهر نقصه بالنسبة إلى الشيطان. ولهذا كان النوم أخا الموت"(4)1).
من آثار الإيمان بهذين الاسمين الكريمين:
__________
(1) الصواعق المرسلة 4/1328، 1329.
(2) بدائع الفوائد 2/410.
(3) تفسير السعدي 5/490.
(4) جامع المسائل ت: محمد عزيز شمس، إشراف: بكر بن عبدالله أبو زيد ص 55.(1/125)
أولاً: محبته سبحانه وحمده وإجلاله وتعظيمه.
ثانيًا: التبرؤ من الحول والقوة والافتقار التام لله - عز وجل - وإنزال جميع الحوائج بالله - عز وجل - وإخلاص الاستعانة والاستغاثة والاعتصام لله - عز وجل - وقطع التعلق بالمخلوق الضعيف المربوب لله تعالى المفتقر إلى ربه - عز وجل - الفقر الذاتي التام. ولذا وردت الاستغاثة باسمه (الحي القيوم)، كما جاء في الحديث السابق: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث)(1)2).
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: " انتظم هذان الاسمان صفات الكمال والغنى التام، والقدرة التامة، فكأن المستغيث بهما مستغيث بكل اسم من أسماء (الرب) تعالى وبكل صفة من صفاته فما أولى الاستغاثة بهذين الاسمين أن يكونا في مظنة تفريج الكربات وإغاثة اللهفات وإنالة الطلبات"(2)1).
ثانيًا: ومع ظهور آثار قيوميته سبحانه لكل شيء من المخلوقات جامدها، ومتحركها، فاجرها، وتقيها إلا أن لآثار قيوميته سبحانه بأوليائه وبمن أحبه شأنًا آخر وطعمًا خاصًا يظهر في حفظه ولطفه ورعايته بعباده المتقين، وهذا يقتضي محبة الله - عز وجل - المحبة التامة، والركون إليه، والتعلق به وحده، والسكون إليه، والرضا بتدبيره.. وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "هو سبحانه (القيوم) المقيمُ لكلِّ شيءٍ من المخلوقات - طائعِها وعاصيها - فكيف تكون قيوميته بمن أحبَّه وتولاه؛ وآثره على ما سواه، ورضي به من دون الناس حبيبًا، وربّاً، ووكيلا،ً وناصرًا، ومعينًا، وهاديًا؟"(3)2).
__________
(1) سبق تخريجه ص154.
(2) بدائع الفوائد 2/410.
(3) طريق الهجرتين 1/281.(1/126)
ثالثًا: لاسم (الحي القيوم) تأثير خاص في إجابة الدعوات، وكشف الكربات كما جاء في الحديث السابق، وكما جاء في السنن، وصحيح ابن حبان من حديث أنس - رضي الله عنه -: "أن رجلاً دعا فقال: اللَّهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم. فقال النبي ×: (لقد دعا باسمه الأعظم الذي إذا دعى به أجاب وإذا سئل به أعطى)(1)3)، وفي ذلك يقول ابن القيم - رحمه الله - في نونيته المشهورة:
هذا ومن أوصافه القيوم والـ ـقيوم في أوصافهِ أمرانِ
إحداهما القيوم قام بنفسه والكون قام به هما الأمرانِ
فالأول استغناؤه عن غيره والفقر من كل ٍّ إليه الثاني
والوصف بالقيوم ذو شأن عظيم هكذا موصوفه أيضًا عظيم الشانِ
والحي يتلوه فأوصاف الكما ل هما لأفق سمائها قطبان
فالحيُّ والقيوم لن تتخلَّف الـ أوصاف أصلاً عنهما ببيانِ (2)1)
رابعًا: تضمن هذان الاسمان العظيمان جميع الأسماء وصفات الكمال لله تعالى. كما سبق في قول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "فكأن المستغيث بهما مستغيث بكل اسم من أسماء (الرب) تعالى وبكل صفة من صفاته".
وكما قال - رحمه الله تعالى - في نونيته الشهيرة:
وله الحياة كمالها فلأجلِ ذا ما للممات عليه من سلطانِ
وكذلك القيوم من أوصافهِ ما للمنام لديه من غشيانِ
وكذاك أوصاف الكمال جميعها ثبتت له ومدارها الوصفانِ
فمصحِّحُ الأوصاف والأفعال والـ أسماء حقّا ذانك الوصفانِ
ولأجل ذا جاء الحديث بأنه في آية الكرسي وذي عمرانِ
اسم الإله الأعظم اشتملا على اسـ م الحيِّ والقيوم مقترنانِ
فالكلُّ مرجعها إلى الاسمين يد ري ذاك ذو بصرٍ بهذا الشانِ (3)2)
__________
(1) سنن النسائي (1300)، وأبو داود (1495)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1326).
(2) الكافية الشافية ص 248.
(3) المصدر السابق ص 65، 66.(1/127)
خامسًا: الخوف منه سبحانه ومراقبته لأنه القائم على كل نفس، المتولي أمرها، الحافظ لأعمالها الذي لا يخفى عليه شيء من أمرها.
يقول الشوكاني رحمه الله تعالى: عند قوله تعالى: { أَفَمَنْ هُوَ يOح!$s% عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [الرعد: 33].
"القائم الحفيظ والمتولي للأمور. وأراد سبحانه نفسه فإنه المتولي لأمور خلقه، المدبر لأحوالهم بالآجال والأرزاق، وإحصاء الأعمال على كل نفس"(1)1).
- - -
(9، 10): [الأول، الآخر]
ودليل هذين الاسمين الكريمين:
- قول الله - عز وجل -: { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) } [الحديد: 3].
- ومن السنة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله × يأمُرُنا إذا أخذنا مضجعنا أن نقول : (اللَّهم ربَّ السماوات وربَّ الأرض وربَّ العرش العظيم، ربَّنا وربَّ كلِّ شيء، فالقَ الحبِّ والنَّوى ومُنزِّلَ التوراةِ والإنجيل والفرقان، أعوذُ بك من شرِّ كلِّ شيء أنت آخذٌ بناصيته، اللهم أنت الأولُ فليس قبلك شيءٌ، وأنتَ الآخرُ فليس بعدَكَ شيء، وأنتَ الظَّاهرُ فليس فوقك شيء، وأنت الباطنُ فَليس دونك شيء، اقْضِ عنا الدَّين وأغْنِنا من الفقر)"(2)1).
ولم يرد ذكر هذه الأسماء الحسنى إلا مرة واحدة في القرآن، وكذلك في السنة.
المعنى اللغوي لاسمه سبحانه (الأول):
قال الراغب في المفردات: " الأول: الذي يترتب عليه غيره ومستعمل على أوجه:
أحدها: المتقدم بالزمان كقولك: عبد الملك أولاً ثم منصور.
الثاني: المتقدم بالرياسة في الشيء، وكونه غيره محتذيًا به نحو: الأمير أولاً ثم الوزير.
الثالث: المتقدم بالوضع والنسبة، كقولك للخارج من العراق: القادسية أولاً ثم فيد، وتقول للخارج من مكة: فيد أولاً ثم القادسية.
__________
(1) فتح القدير 3/120.
(2) مسلم (2713).(1/128)
الرابع: المتقدم بالنظام الصناعي. نحو أن يقال: الأساس أولاً ثم البناء(1)1).
وقال الزجاج: "(الأول) هو موضع التقدم والسبق (2)2)".
أما معنى هذا الاسم الكريم في حق الله تعالى:
فيكفينا تفسير أعلم البشر بالله تعالى؛ وهو قول الرسول ×: (أنت الأول فليس قبلك شيء).
ولذلك قال ابن جرير - رحمه الله تعالى - في تفسيره: " هو (الأول): قبل كل شيء بغير حد"(3)3).
وقال الخطابي رحمه الله تعالى: " (الأول) هو السابق للأشياء كلها، الكائن الذي لم يزل قبل وجود الخلق، فاستحق الأولية، إذ كان موجودًا، ولا شيء قبله ولا معه"(4)4).
وقال البيهقي: " (الأول) هو الذي لا ابتداء لوجوده"(5)5).
وقد جرى على ألسنة كثير من المتكلمين وبعض أهل السنة - أحيانًا - تسمية (الرب) تعالى (بالقديم)، والقديم ليس من أسماء الله تعالى الحسنى.
والتزام تسميته بـ (الأول) هو الموافق للكتاب والسنة، واللغة، ويؤدي ما يؤديه (القديم) وزيادة؛ فإن (القديم) يعم كل متقدم على غيره في الزمان، وأما (الأول) فإنه يدل على التقدم المطلق على كل شيء.
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: " (الأول): يدل على أن كل ما سواه حادث كائن بعد أن لم يكن، ويجب على العبد أن يلحظ فضل ربه في كل نعمة دينية أو دنيوية إذ السبب والمسبب منه تعالى"(6)1).
المعنى اللغوي لاسمه سبحانه (الآخر):
قال الراغب رحمه الله تعالى: "(الآخِر) يقابل به (الأول)، (وآخَرُ) يقابل به (الواحد)"(7)2).
و(الآخر) ما يقابل الأول وهو ما ليس بعده شيء إما مطلقًا، وإما باعتبار عدد مخصوص كآخر الشهر، وآخر السنة، وآخر سطر في الورقة.
__________
(1) المفردات ص 31 - 32.
(2) تفسير الأسماء ص 59.
(3) تفسير الطبري 27/124
(4) شأن الدعاء ص 87.
(5) الاعتقاد ص 63.
(6) شرح الأسماء الحسنى ص 169، دراسة وتحقيق عبيد بن علي العبيد.
(7) المفردات ص 13.(1/129)
وقال الزجاج: " (الآخر) هو المتأخر عن الأشياء كلها ويبقى بعدها" (1)3).
المعنى في حق الله تعالى:
قال الخطابي: " (الآخر) هو الباقي بعد فناء الخلق. وليس معنى (الآخر) ما له انتهاء، كما ليس معنى (الأول) ما له ابتداء"(2)4).
وقال البيهقي: " (الآخر) هو الذي لا انتهاء لوجوده"(3)5).
وقال الطبري: " (الآخر) بعد كل شيء بغير نهاية"(4)1).
وأحسن التعريفات وأكملها ما فسره أعرف البشر بالله - عز وجل - وذلك في قوله ×: (وأنت الآخر فليس بعدك شيء)(5)2).
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "سبق كل شيء بأوليته، وبقي بعد كل شيء بآخريته"(6)3).
ودليل هذا الاسم الكريم من الكتاب والسنة قد سبق ذكره في الحديث عن اسمه سبحانه (الأول) فليرجع إليه. ولم يرد اسم (الآخر) إلا مرة واحدة في القرآن، ومرة واحدة في السنة وهما في الدليلين المذكورين سابقًا. والله أعلم.
من آثار الإيمان بهذين الاسمين الكريمين:
يذكر الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - هذه الآثار فيقول: "فعبوديتة باسمه (الأول) تقتضي التجرد من مطالعة الأسباب، والوقوف أو الالتفات إليها، وتجريد النظر إلى مجرد سبق فضله ورحمته، وأنه هو المبتدئ بالإحسان من غير وسيلة من العبد، إذ لا وسيلة له في العدم قبل وجوده، وأي وسيلة كانت هناك، وإنما هو عدم محض، وقد أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا، فمنه سبحانه الإعداد، ومنه الإمداد وفضله سابق على الوسائل. والوسائل من مجرد فضله وجوده؛ لم تكن بوسائل أخرى. فمن نزل اسمه (الأول) على هذا المعنى أوجب له فقرًا خاصًا وعبودية خاصة.
__________
(1) تفسير الأسماء ص 60.
(2) شأن الدعاء ص 87.
(3) الاعتقاد ص 63.
(4) تفسير الطبري 27/215.
(5) سبق تخريجه ص166.
(6) مدارج السالكين 3/113.(1/130)
وعبوديته باسمه (الآخر) تقتضي أيضًا عدم ركونه ووثوقه بالأسباب والوقوف معها، فإنها تنعدم لا محالة، وتنقضي بالآخرية، ويبقى الدائم الباقي بعدها، فالتعلق بها تعلق بما يعدم وينقضي، والتعلق بـ(الآخر) سبحانه تعلق بالحي الذي لا يموت ولا يزول، فالمتعلق به حقيق أن لا يزول ولا ينقطع، بخلاف التعلق بغيره مما له آخر يفنى به. فتأمل عبودية هذين الاسمين وما يوجبانه من صحة الاضطرار إلى الله وحده، ودوام الفقر إليه دون كل شيء سواه، وأن الأمر ابتدأ منه وإليه يرجع، فهو المبتدئ بالفضل حيث لا سبب ولا وسيلة، وإليه تنتهي الأسباب والوسائل، فهو أول كل شيء وآخره، وكما أنه رب كل شيء وفاعله وخالقه وبارئه، فهو إلهه وغايته التي لا صلاح له، ولا فلاح، ولا كمال إلا بأن يكون وحده غايته ونهايته ومقصوده، فهو الأول الذي ابتدأت منه المخلوقات، والآخر الذي انتهت إليه عبودياتها وإراداتها ومحبتها، فليس وراء الله شيء يقصد ويعبد ويتأله، كما أنه ليس قبله شيء يخلق ويبرأ. فكما كان واحدًا في إيجادك فاجعله واحدًا في تألهك إليه لتصح عبوديتك، وكما ابتدأ وجودك وخلقك منه فاجعله نهاية حبك وإرادتك وتألهك إليه لتصح لك عبوديته باسمه (الأول والآخر) وأكثر الخلق تعبدوا له باسمه (الأول) وإنما الشأن في التعبد له باسمه (الآخر) فهذه عبودية الرسل وأتباعهم، فهو رب العالمين وإله المرسلين سبحانه وبحمده"(1)1).
ثم يذكر - رحمه الله تعالى - بعض أسرار اقتران اسمي الجلالة (الأول، الآخر) فيقول: " قال الله تعالى: { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى } [محمد: 17]، فهداهم أولاً فاهتدوا فزادهم هدى ثانيًا... وهذا من سر اسميه (الأول والآخر): فهو المعد وهو الممد، ومنه السبب والمُسبَّب وهو الذي يعيذ من نفسه بنفسه كما قال أعرف الخلق به: (وأعوذ بك منك) (2)2)"(3)3).
__________
(1) طريق الهجرتين ص 20، 21.
(2) مسلم 486.
(3) مدارج السالكين 1/313 (باختصار).(1/131)
ويقول أيضًا: "منه المبدأ وإليه المعاد وهو الأول والآخر: { وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) } [النجم: 42]"(1)4).
وقال رحمه الله تعالى: "الغايات والنهايات كلُّها إليه تنتهي: { وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) } [النجم: 42]؛ فانتهت إليه الغايات والنهايات؛ وليس له سبحانه غايةٌ ولانهاية ٌ؛ لا في وجوده، ولا في مزيد جوده، إذ هو (الأوَّل) الذي ليس قبله شيءٌ، و(الآخر) الذي ليس بعده شيءٌ، ولا نهاية لحمده وعطائه؛ بل كلَّما ازداد له العبد شكرًا: زاده فضلاً، وكلَّما ازداد له طاعة: زاده لمجده مثوبة، وكلَّما ازداد منه قربًا: لاح له من جلاله وعظمته ما لم يشاهده قبل ذلك، وهكذا أبدًا لا يقف على غاية ولا نهايةٍ، ولهذا جاء: إنَّ أهل الجنة في مزيدٍ دائمٍ بلا انتهاء.
فإن نعيمهم متصلٌ ممن لا نهاية لفضله ولا لعطائه؛ ولا لمزيده، ولا لأوصافه، فتبارك الله ذو الجلال والإكرام: { إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) } [سورة ص: 54].
(يا عبادي لو أن أوَّلكم وآخركم؛ وإنسكم وجنكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني؛ فأعطيتُ كلَّ إنسان مسألته: ما نقص ذلك مما عندي إلا كما يُنقص المخيطُ إذا أُدخل البحر)(2)1)"(3)2).
- - -
(11، 12) [الظاهر، الباطن]
ودليل هذين الاسمين الكريمين سبق ذكره في قوله تعالى: { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) } [الحديد: 3]، وكذلك الحديث الذي سبق تخريجه وفيه: (وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء... الحديث).
المعنى اللغوي(للظاهر):
قال في اللسان: "الظهر من كل شيء خلاف البطن... وظهارة الثوب ما علا الظهر ولم يل الجسد وظهرتُ البيت: علوتُه"(4)1).
المعنى في حق الله تعالى:
__________
(1) أعلام الموقعين 1/143.
(2) مسلم (2577).
(3) مدارج السالكين 2/268.
(4) لسان العرب: 4/2765.(1/132)
قال ابن جرير الطبري: "وقوله: (والظاهر) يقول: وهو الظاهر على كل شيء دونه، وهو العالي فوق كل شيء فلا شيء أعلى منه"(1)2).
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "اسمه (الظاهر) من لوازمه أن لا يكون فوقه شيء كما في الصحيح: (وأنت الظاهر فليس فوقك شيء)، بل هو سبحانه فوق كل شيء فمن جحد فوقيته سبحانه فقد جحد لوازم اسمه (الظاهر).
ولا يصحُّ أن يكون (الظاهر): هو من له فوقية القَدْرِ فقط، كما يقال: الذهب فوق الفضةِ؛ والجوهر فوق الزجاج، لأن هذه الفوقيَّة تتعلَّق بالظهور، بل قد يكون المُفوَّق أظهر من الفائق فيها، ولا يصحُّ أن يكون ظهور القهر والغلبة فقط، وإن كان سبحانه ظاهرًا بالقهر والغلبة لمقابلة الاسم (الباطن)؛ وهو: الذي ليس دونه شيءٌ، كما قابل (الأوَّل) الذي ليس قبله شيءٌ؛ بـ(الآخر): الذي ليس بعده شيءٌ"(2)1).
وقد ذكر الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - اسم الجلالة (الظاهر) في نونيته فقال:
والظاهرُ العالي الذي ما فوقه ڑڑشيٌء كما قد قال ذو البرهانِٹڑ
ڑحقًا رسول الله ذا تفسيره
فاقبله لا تقبل سواه من التفا
والشيُ حين يتم منه عُلُوُّه
أو ما ترى هذي السما وعُلُوَّها
والعكس أيضًا ثابتٌ فسفولُه
فانظر إلى عُلُوِّ المحيطِ وأخذه
وانظر خفاء المركز الأدنى ووصـ
وظهوره سبحانه بالذات مِثْـ
لا تجحدنهما جحود الجهم أو
وظهورُه هو مُقْتَضٍ لعُلُوِّه
وكذاك قد دخلت هناك الفاء للتـ
فتأمَّلن تفسير أعلم خلقه
إذ قال أنت كذا فليس لضدهڑڑولقد رواه مسلم بضمانِ
سير التي قِيلت بلا برهانِ
فظهورُه في غاية التبيان
وظهورَها وكذلك القمرانِ ِ
وخفاؤُه إذ ذاك مصطحبانِ صفةَ الظهورِ وذاك ذو تبيانِ
ـف السُّفْلِ فيه وكونه تحتاني
لَ عُلُوِّه فهما له صفتان
صَاف الكمال تكون ذا بهتانِ ِ
وعُلُوُّه لظهوره ببيانِ
ـسبيب مؤذنة بهذا الشانِ
بصفاته من جاء بالقرآنِ
__________
(1) تفسير الطبري 27/124.
(2) مدارج السالكين 1/31.(1/133)
أبدًا إليك تطرق الاتيان(1)2)
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "و(الظاهر): يدل على عظمة صفاته واضمحلال كل شيء عند عظمته من ذوات وصفات، ويدل على علوه"(2)1).
المعنى اللغوي (للباطن): قال في اللسان: "البطانة خلاف الطهارة، والبطن خلاف الظهر، وبطنت الأمر: إذا عرفت باطنه"(3)2)
المعنى في حق الله تعالى: يقول الطبري رحمه الله تعالى: "و(الباطن): وهو الباطن لجميع الأشياء فلا شيء أقرب إلى شيء منه، كما قال تبارك وتعالى: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) } [ق: 16] (4)3).
وقال الزجاج: "(والباطن): هو العالم ببطانة الشيء، يقال: بطنت فلانًا وخبرته إذا عرفت باطنه وظاهره. والله عارف ببواطن الأمور وظواهرها. فهو ذو الظاهر، وذو الباطن"(5)4).
ويكفي في تعريف اسمه سبحانه (الباطن) قوله × في الحديث السابق: (وأنت الباطن فليس دونك شيء).
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "والباطن: يدل على اطلاعه على السرائر والضمائر والخبايا والخفايا، ودقائق الأشياء، كما يدل على كمال قربه ودنوه، ولا يتنافى الظاهر والباطن؛ لأن الله ليس كمثله شيء في كل النعوت؛ فهو العلي في دنوه، القريب في علوه"(6).
من آثار الإيمان باسميه سبحانه (الظاهر)، (الباطن):
__________
(1) نونية ابن القيم "الأبيات رقم 1249 - 1261".
(2) تفسير أسماء الله الحسنى ص 170.
(3) لسان العرب 1/305.
(4) تفسير الطبري 27/124.
(5) تفسير الأسماء ص 61.
(6) تفسير أسماء الله الحسنى ص 170 للشيخ السعدي. دراسة وتحقيق عبيد بن علي العبيد، نشر: الجامعة الإسلامية العدد (112).(1/134)
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "... والمقصود أن التعبد باسمه (الظاهر) يجمع القلب على المعبود، ويجعل له ربًا يقصده، وصمدًا يصمد إليه في حوائجه، وملجأً يلجأ إليه. فإذا استقر ذلك في قلبه وعرف ربه باسمه (الظاهر) استقامت له عبوديته، وصار له معقل وموئل يلجأ إليه، ويهرب إليه، ويفر في كل وقت إليه.
وأما تعبده باسمه (الباطن) فأمر يضيق نطاق التعبير عن حقيقته، ويكلّ اللسان عن وصفه، وتصطلم الإشارة إليه، وتجفو العبارة عنه، فإنه يستلزم معرفة بريئة من شوائب التعطيل، مخلصة من فرث التشبيه، منزهة عن رجس الحلول والاتحاد، وعبارة مؤدية للمعنى كاشفة عنه، وذوقًا صحيحًا سليمًا من أذواق أهل الانحراف. فمن رزق هذا فهم معنى اسمه (الباطن) وصح له التعبد له. وسبحان الله كم زلت في هذا المقام أقدام، وضلت فيه أفهام، وتكلم فيه الزنديق بلسان الصدّيق، واشتبه فيه إخوان النصارى بالحنفاء المخلصين، لنبوّ الأفهام عنه، وعزة تخلص الحق من الباطل فيه، والتباس ما في الذهن بما في الخارج إلا على من رزقه الله بصيرة في الحق، ونورًا يميز به بين الهدى والضلال، وفرقانًا يفرق به بين الحق والباطل، ورزق مع ذلك اطلاعًا على أسباب الخطأ وتفرق الطرق ومثار الغلط، وكان له بصيرة في الحق والباطل، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.(1/135)
وباب هذه المعرفة والتعبد هو معرفة إحاطة (الرب) سبحانه بالعالم وعظمته، وأن العوالم كلها في قبضته، وأن السماوات السبع والأرضين السبع في يده كخردلة في يد العبد، قال الله تعالى: { وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ } [الإسراء: 60]، وقال تعالى: { وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) } [البروج: 20]، ولهذا يقرن سبحانه بين هذين الاسمين الدالين على هذين المعنين: اسم العلو الدال على أنه (الظاهر) وأنه لا شيء فوقه، واسم العظمة الدال على الإحاطة وأنه لا شيء دونه، كما قال تعالى: { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) } [الشورى: 4]، وقال - عز وجل -: { ںuqèdur الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) } [سبأ:23]، وقال تعالى: { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِن اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) } [البقرة: 115](1)1).
ويقول في موطن آخر: " وأما التعبد باسمه (الباطن) فإذا شهدت إحاطته بالعوالم وقرب البعيد منه، وظهور البواطن له، وبدو السرائر وأنه لا شيء بينه وبينها فعامله بمقتضى هذا الشهود، وطهر له سريرتك فإنها عنده علانية، وأصلح له غيبك فإنه عنده شهادة، وزك له باطنك فإنه عنده ظاهر"(2)2).
من أسرار اقتران أسماء الله الحسنى (الأول، الآخر، الظاهر، الباطن):
قد ذكر الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - جانبًا من دلالات هذا الاقتران، فقال رحمه الله تعالى: " فمعرفة هذه الأسماء الأربعة: (الأول، والآخر، والظاهر، والباطن) هي(3) أركان العلم والمعرفة، فحقيق بالعبد أن يبلغ في معرفتها إلى حيث ينتهي به قواه وفهمه.
__________
(1) طريق الهجرتين ص 32.
(2) نفس المصدر ص 26.
(3) هكذا في المطبوع، ولعلها: "هي من أركان العلم والمعرفة".(1/136)
واعلم أن لك أنت أولاً، وآخرًا، وظاهرًا، وباطنًا، بل كل شيء فله أول، وآخر، وظاهر، وباطن، حتى الخطرة واللحظة والنفس وأدنى من ذلك وأكثر، فأولية الله - عز وجل - سابقة على أولية كل ما سواه، وآخريته ثابتة بعد آخرية كل ما سواه. فأوليته سبقه لكل شيء، وآخريته بقاؤه بعد كل شيء، وظاهريته سبحانه فوقيته وعلوه على كل شيء، ومعنى الظهور يقتضي العلو، وظاهر الشيء هو ما علا منه وأحاط بباطنه. وبطونه سبحانه إحاطته بكل شيء بحيث يكون أقرب إليه من نفسه، وهذا قرب غير قرب المحب من حبيبه، هذا لون وهذا لون. فمدار هذه الأسماء الأربعة على الإحاطة، وهي إحاطتان: زمانية ومكانية، فإحاطة أوليته وآخريته بالقبل والبعد، فكل سابق انتهى إلى أوليته، وكل آخر انتهى إلى آخريته، فأحاطت أوليته وآخريته بالأوائل والأواخر، وأحاطت ظاهريته وباطنيته بكل ظاهر وباطن، فما من ظاهر إلا والله فوقه، وما من باطن إلا والله دونه، وما من أول إلا والله قبله، وما من آخر إلا والله بعده: فالأول قِدمه، والآخِر دوامه وبقاؤه، والظاهر علوه وعظمته، والباطن قربه ودنوه. فسبق كل شيء بأوليته، وبقي بعد كل شيء بآخريته، وعلا على كل شيء بظهوره، ودنا من كل شيء ببطونه، فلا تواري منه سماء سماء ولا أرض أرضًا، ولا يحجب عنه ظاهر باطنًا، بل الباطن له ظاهر، والغيب عنده شهادة، والبعيد منه قريب، والسر عنده علانية. فهذه الأسماء الأربعة تشتمل على أركان التوحيد، فهو (الأول) في آخريته و(الآخر) في أوليته، و(الظاهر) في بطونه و(الباطن) في ظهوره، لم يزل أولاً، وآخرًا، وظاهرًا، وباطنًا"(1)1).
وقد أورد ابن القيم - رحمه الله تعالى - هذه الأسماء مجتمعة في نونيته الشهيرة حيث يقول:
هو أول هو آخر هو ظاهر هو باطن هي أربع بوزان
ما قبله شيء كذا ما بعده شيء تعالى الله ذو السلطان
ما فوقه شيء كذا ما دونه شيء وذا تفسير ذي البرهان
__________
(1) طريق الهجرتين ص 25.(1/137)
فانظر إلى تفسيره بتدبر وتبصر وتعقل لمعان(1)2)
ويعلل -رحمه الله تعالى- ورود هذه الأسماء معطوفة بعضها على بعض فيقول: "وأما في أسماء (الرّب) - تبارك وتعالى - فأكثر ما يجيء في القرآن بغير عطف نحو: (السميع العليم، العزيز الحكيم، الغفور الرحيم، الملك القدوس السلام) إلى آخرها. وجاءت معطوفة في أربعة أسماء وهي: (الأول والآخر، والظاهر والباطن) فأما ترك العطف في الغالب فلتناسب معاني تلك الأسماء، وقرب بعضها من بعض وشعور الذهن بالثاني من شعوره بالأول. ألا ترى أنك إذا شعرت بصفة المغفرة انتقل ذهنك منها إلى الرحمة، وكذلك إذا شعرت بصفة السمع انتقل الذهن إلى البصر، وكذلك (الخالق البارئ المصور)... وأما تلك الأسماء فلما كانت دالة على معانٍ متباينة، وأن الكمال في الاتصاف بها على تباينها ... فهي ثابتة للموصوف بها... وأيضًا لأن الواو تقتضي تحقيق الوصف المتقدم وتقريره، ففي العطف مزيد تقرير وتوكيد يدفع به توهم الإنكار... فإذا قيل: هو الأول ربما سرى الوهم إلى أن كونه أولاً يقتضي أن يكون الآخر غيره...
وكذلك (الظاهر والباطن) إذا قيل: هو (ظاهر) ربما سرى الوهم إلى أن (الباطن) مقابله فقطع هذا الوهم بحرف العطف الدال على أن الموصوف بالأولية هو الموصوف بالآخرية، فكأنه قيل: هو الأول، وهو الآخر، وهو الظاهر، وهو الباطن، لا سواه... والذي يوضح ذلك أنه إذا كان للبلد مثلاً قاض وخطيب وأمير فاجتمعت في رجل حسن أن تقول: زيد هو الخطيب والقاضي والأمير وكان للعطف هنا مزية ليست للنعت المجرد فعطف الصفات هنا أحسن قطعًا لوهم متوهم أن الخطيب غيره. وأن الأمير غيره"(2)1).
__________
(1) نونية ابن القيم 2/213.
(2) بدائع الفوائد 1/198، 199 "باختصار وتصرف يسير".(1/138)
- ومن آثار هذه الأسماء الجليلة: أنها علاج للوسوسة الشيطانية في كنه الذات الإلهية فعن أبي زميل قال: "سألت ابن عباس - رضي الله عنهما - فقلت: ما شيء أجده في صدري؟ قال: ما هو؟ قال: قلت: والله لا أتكلم به. قال: فقال لي: أشيء من شك؟ قلت: بلى. فقال لي: ما نجا من ذلك أحد، حتى أنزلَ الله - عز وجل -: { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ } [يونس: 94]، قال: فقال لي: فإذا وجدتَ في نفسك شيئًا، فَقُلْ: { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) } [الحديد: 3] " (1)2).
ويعلق الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - على هذا الأثر فيقول: "فأرشدهم بهذه الآية إلى بطلانِ التسلسل الباطل ببديهة العقل، وأن سلسلةَ المخلوقات في ابتدائها تنتهي إلى أول ليس قَبلَه شيء، كما تنتهي في آخرها إلى آخر ليس بعَده شيء، كما أن ظهورَه هو العلُّو الذي ليس فوقَه شيء، وبُطونَه هو الإحاطة التي لا يكون دونه فيها شيء، ولو كان قبله شيء يكون مؤثرًا فيه، لكان ذلك هو (الربَّ) الخلاق، ولابدَّ أن ينتهيَ الأمر إلى خالقٍ غير مخلوقٍ، وغني عن غيره، وكلُّ شيء فقير إليه. قائم بنفسه، وكل شيء قائم به. موجود بذاته، وكل شيء موجود به. قديمٌ لا أول له، وكُلُّ ما سواه فوجودهُ بعد عدمه. باقٍ بذاته، وبقاءُ كل شيء به، فهو (الأوَّلُ) الذي ليس قبله شيء، و(الآخر) الذي ليس بعده شيء، (الظاهر) الذي ليس فوقَه شيء، (الباطِن) الذي ليس دونه شيء"(2)1).
- - -
(13) [الوارث]
ورد ذكر (الوارث) في القرآن ثلاث مرات كلها بصيغة الجمع وهي:
في قوله تعالى: { وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) } [الحجر: 23].
__________
(1) أبو داود (5110)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (4262).
(2) زاد المعاد 2/461، 462.(1/139)
وقوله تعالى: { رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) } [الأنبياء: 89].
وقوله تعالى: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) } [القصص: 58].
وورد مرة واحدة بصيغة الفعل في قوله سبحانه: { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) } [مريم: 40]، وهو الذي يدل عليه قوله تعالى: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) } [الرحمن: 26، 27].
معنى (الوارث) في اللغة:
قال الزجاج: " (الوارث): كل باق بعد ذاهب فهو وارث"(1)1).
وقال الزجاجي: "(الوارث): اسم الفاعل من ورث يرث فهو وارث"(2)2).
وأما معناه في حق الله عز وجل:
فيقول الطبري - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: { نَحْنُ ڑ } ْüدOح'؛uqّ9$# يقول: "ونحن نرث الأرض ومن عليها. بأن نميت جميعهم فلا يبقى حي سوانا إذا جاء ذلك الأجل" (3)3).
وقال الزجاجي: "الله - عز وجل - وارث الخلق أجمعين، لأنه الباقي بعدهم وهم الفانون؛ كما قال - عز وجل -: { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) } [مريم: 40] "(4)1).
ويقول الخطابي: "(الوارث) هو: الباقي بعد فناء الخلق والمسترد أملاكهم وموارثهم بعد موتهم، ولم يزل الله باقيًا مالكًا لأصول الأشياء كلها يورثها من يشاء، ويستخلف فيها من أحب"(5)2).
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (الوارث):
__________
(1) تفسير الأسماء ص 65.
(2) اشتقاق الأسماء ص 173.
(3) تفسير الطبري 14/16.
(4) اشتقاق الأسماء ص 173.
(5) شأن الدعاء ص 96 - 97.(1/140)
1- السعي في هذه الدنيا للتقرب إلى الله عز وجل وجنته بالعلم النافع والعمل الصالح؛ وذلك للفوز بالجنة التي لا يورثها الله عز وجل إلا للمتقين: { تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا } [مريم:63]. واللهج بالدعاء الذي دعا به إبراهيم عليه السلام: { وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ } [الشعراء:85].
2- عدم الاغترار بقوة الباطل وانتفاشه فإن الله - عز وجل - له بالمرصاد وسيأتي الوقت الذي يزهقه الله فيه، ويورث عباده المؤمنين ديار الكافرين ويمكنهم فيها.
قال الله - عز وجل -: { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي ں@ƒدنآuژَ خ) بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) } [الأعراف: 137].
وقال تبارك وتعالى: { قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِن الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) }
[الأعراف: 128].
وقوله سبحانه: { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَن الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) } [الأنبياء: 105].
3- عدم الاغترار بالدنيا والحذر من الركون إليها، لأن مآلها إلى الفناء ولا يبقى إلا ما قدمه العبد لنفسه يوم القيامة، قال ×: (يقول ابن آدم: مالي مالي. قال: وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت) (1)1).
4- التعلق بالله وحده، والتوكل عليه في حفظ من يبقى للعبد بعد موته من مال، وولد وهو خير الوارثين.
__________
(1) مسلم في الزهد (2958).(1/141)
5- التبرؤ من الحول والقوة في كسب المال، والنظر إلى أن المالك الحقيقي هو الله - عز وجل - وإنما وضعه الله في أيدي الناس للاختبار، وهذا يحفز العبد إلى الإنفاق في سبيل الله - عز وجل - والجود به في سبيل مسديه.
قال تعالى: { وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } [الحديد: 7].
وقال سبحانه: { وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [الحديد: 10].
وقال - عز وجل -: { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) } [آل عمران: 180].
- - -
(14) [القدوس]
جاء ذكر اسمه سبحانه (القدوس) مرتين في القرآن الكريم من ذلك قوله تعالى: { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ مN"n=،،9$#... الآية } [الحشر: 23].
وقوله تعالى: { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) } [الجمعة: 1].
وجاء في السنة دعاؤه × به في ركوعه وسجوده في الصلاة؛ فعن عائشة- رضي الله عنهما - أن رسول الله × كان يقول في ركوعه وسجوده: (سبوح قدوس رب الملائكة والروح) (1)1).
المعنى اللغوي لهذا الاسم الكريم:
القدوس له معنيان في اللغة:
الأول: أن (القدوس) فعول من القدس وهو الطهارة. والقدس بالتحريك: السطل بلغة أهل الحجاز، لأنه يتقدس منه أي: يتطهر منه. وجاء في لسان العرب: ولهذا قيل: بيت المقدس أي: البيت المطهر.
__________
(1) مسلم (487).(1/142)
والمعنى الثاني: أن القدس: البركة، والأرض المقدسة أي: المباركة والقدوس: على وزن (فعُول) بالضم من أبنية المبالغة(1)2).
أما معناه في حق الله عز وجل :
فقد قال ابن جرير الطبري - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: " { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } [البقرة: 30]، أي: "ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهل الشرك بك، ونصلي لك، ونقدس لك، ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطهارة من الأدناس، وما أضاف إليك أهل الكفر بك" (2)1).
وقال البيهقي: "هو (الطاهر) من العيوب المنزه عن الأولاد والأنداد. وهذه صفة يستحقها بذاته"(3)2).
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى: " (القدوس): المنزه من كل شر ونقص وعيب كما قال أهل التفسير: هو (الطاهر) من كل عيب المنزه عما لا يليق به وهذا قول أهل اللغة. وأصل الكلمة من الطهارة والنزاهة"(4)3).
وقد ذكر - رحمه الله تعالى - هذا الاسم الكريم في نونيته حيث قال:
هذا ومن أوصافه القدوس ذو التنزيه بالتعظيم للرحمن (5)4).
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "ومن أسمائه (القدوس) (السلام) أي: المعظم المنزه عن صفات النقص كلها، وعن أن يماثله أحد من الخلق، فهو المتنزه عن جميع العيوب، والمتنزه عن أن يقاربه، أو يماثله أحد في شيء من الكمال: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11]، { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4) } [الإخلاص: 4]، { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) } [مريم: 65]، { فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } [البقرة: 22]، فـ (القدوس) كـ(السلام) ينفيان كل نقص من جميع الوجوه، ويتضمنان الكمال المطلق من جميع الوجوه، لأن النقص إذا انتفى ثبت الكمال كله"(6)1).
__________
(1) انظر النهاية لابن الأثير 5/23، اللسان 5/3549.
(2) تفسير الطبري 1/167.
(3) الاعتقاد للبيهقي ص 54.
(4) شفاء العليل 2/510.
(5) نونية ابن القيم البيت (3322).
(6) تفسر السعدي 5/487.(1/143)
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (القدوس):
1- محبته سبحانه وتعظيمه وإجلاله، لأنه سبحانه المتصف بصفات الكمال والجلال، والمنزه عن النقائص والعيوب؛ ومن كان هذا وصفه فإن النفوس مجبولة على حبه وتعظيمه، وهذه المحبة تورث حلاوة في القلب، ونورًا في الصدر، وهذا هو النعيم الدنيوي الحقيقي الذي يصغر بجانبه كل نعيم.
2- تنزيهه سبحانه في أقواله وأفعاله وأسمائه وصفاته عن كل نقص وعيب، والتعبد له سبحانه بذلك. ولهذا التنزيه صور كثيرة منها:
أ- إثبات ما أثبته الله سبحانه لنفسه أو أثبته له رسوله × من الأسماء الحسنى والصفات العلا، وتنزيهه - سبحانه وتعالى - عن مشابهة أحد من خلقه في ذلك.
قال الله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) } [الشورى: 11]، وليس من التنزيه والتعظيم والتقديس لله تعالى أن تنفي عن الله تعالى ما أثبته لنفسه من الصفات والأفعال.
ففي الآية الكريمة ينفي سبحانه عن نفسه الشبيه والمثيل، ويثبت لنفسه السمع والبصر من غير تمثيل ولا تشبيه.
ب- تنزيه الله - عز وجل - عن الشريك، والأنداد، والصاحبة، والولد فهو الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، وحده لا شريك له تعالى الله عما يقول الظالمون المشركون علوًا كبيرًا.
قال الله - عز وجل -: { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) } [الأنبياء: 26]، وقال سبحانه: { سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } [النساء: 171]، وقال تبارك وتعالى: { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111) } [الإسراء: 11].(1/144)
وقال - عز وجل -: { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) } [النحل: 57]، وقال تبارك وتعالى: { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) } [التوبة: 31].
جـ- التحاكم إلى شرعه سبحانه والحكم به، والرضى به، والتسليم له إذ أن من رفض التحاكم إلى شرع الله - عز وجل - أو رأى أن المصلحة في غيره فإنه لم يقدس الله - عز وجل - ولم ينزهه عن النقص. ولذا نزه سبحانه نفسه عن شرك من أطاع المخلوقين في تحليل ما حرم الله - عز وجل - أو تحريم ما أحله.
قال تعالى: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) } [التوبة: 31].
جـ- البعد عن ظن السوء برب العالمين لأن ظن السوء بالله تعالى يقدح في تنزيهه سبحانه والذي هو موجب اسمه سبحانه (القدوس)، وقد فضح الله سبحانه أقوامًا من الكفار والمنافقين، بقوله - عز وجل -: { يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ } [آل عمران: 154]، وقال عنهم أيضًا: { وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ نotچح!#yٹ السَّوْءِ ... } الآية [الفتح: 6].(1/145)
فكل ظن لا يليق بحمده وحكمته ورحمته وعلمه فهو سوء ظن بالله تعالى، وبالتالي فهو قدح في موجب اسمه سبحانه (القدوس). ويعلق الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - على آية الفتح الآنفة الذكر مستعرضًا بعض صور سوء الظن بالله تعالى المنافية لتنزيهه سبحانه فيقول: "وإنما كان هذا ظنَّ السَّوْءِ، وظنَّ الجاهلية المنسوب إلى أهل الجهل، وظنَّ غير الحق، لأنه ظنّ غير ما يليق بأسمائه الحسنى، وصفاتِه العُليا، وذاتِه المبَّرأة من كُلِّ عيبٍ وسوء، وخلاف ما يليقُ بحكمته وحمده، وتفرُّده بالربوبية والإلهيَّة، وما يَليق بوعده الصادِق الذي لا يُخلفُهُ، وبكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصُرُهم ولا يخذُلُهم، ولجنده بأنهم هم الغالبون.
فمن ظنَّ بأنه لا ينصرُ رسولَه، ولا يُتِمُّ أمرَه، ولا يؤيِّده، ويؤيدُ حزبه، ويُعليهم، ويُظفرهم بأعدائه، ويُظهرهم عليهم، وأنه لا ينصرُ دينه وكتابه، وأنه يُديل الشركَ على التوحيدِ، والباطلَ على الحقِّ إدالة مستقرة يضمحِلُّ معها التوحيد والحق اضمحلالاً لا يقوم بعده أبدًا، فقد ظنَّ بالله ظن السَّوْءٍ، ونسبه إلى خلاف ما يليقُ بكماله وجلاله، وصفاته ونعوته، فإنَّ حمدَه وعزَّته، وحِكمته وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يَذِلَّ حزبُه وجندُه، وأن تكون النصرة المستقرة، والظفرُ الدائم لأعدائه المشركين به، العادلين به، فمن ظنَّ به ذلك، فما عرفه، ولا عرف أسماءَه، ولا عرف صفاتِه وكماله.
" وكذلك من أنكر أن يكونَ ذلك بقضائه وقدره، فما عرفه، ولا عرف ربوبيَته، وملكه وعظمته.(1/146)
" وكذلك من أنكر أن يكون قدَّر ما قدَّره من ذلك وغيره لِحكمة بالغة، وغاية محمودة - يستحقُّ الحمدَ عليها - وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردةٍ عن حكمة وغايةٍ مطلوبة هي أحبُّ إليه من فوتها، وأن تلك الأسبابَ المكروهةَ المفضية إليها لا يخرج تقديُرها عن الحكمةِ لإفضائِهَا إلى ما يُحِبُّ، وإن كانت مكروهة له، فما قدَّرها سُدى، ولا أنشأها عبثًا، ولا خلقها باطلاً: { ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) } [ص: 27].
" وأكثر النَّاسِ يظنون بالله غير الحق ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعلُه بغيرهم، ولا سَلِمَ من ذلك إلا من عرف الله، وعرف أسماءه وصفاتِهِ، وعرفَ موجب حمده وحكمته، فمن قَنِطَ من رحمته، وأيس من روحه، فقد ظن به ظنَّ السوءِ.
" ومن جوَّز عليه أن يعذّبَ أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم، ويسوي بينهم وبين أعدائه، فقد ظَنَ به ظنَّ السوءِ.
" ومن ظنَّ به أن يترُكَ خلقه سُدى، معطَّلينَ عن الأمر والنهي، ولا يُرسل إليهم رسله، ولا ينزِّل عليهم كتبه، بل يتركهم هَمَلاً كالأنعام، فقد ظَنَّ به ظن السوء.
" ومن ظن أنه لن يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازي المحسنَ فيها بإحسانه، والمسيءَ بإساءته، ويبيِّنُ لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه، ويظهرُ للعالمين كلِّهم صدقَه وصدقَ رسله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين، فقد ظنَّ به ظن السوءِ.
" ومن ظنَّ أنه يُضَيِّعُ عليه عملَه الصالحَ الذي عملَه خالصًا لوجهه الكريم على امتثال أمره، ويُبطِلَه عليه بلا سبب من العبد، أو أنه يُعاقِبُه بما لا صُنعَ له فيه، ولا اختيار له، ولا قدرةَ، ولا إرادة في حصوله، بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به.
" أو ظنَّ به أنه يجوزُ عليه أن يؤيِّدَ أعداءَه الكاذبين عليه بالمعجزاتِ التي يُؤيِّدُ بها أنبياءه ورسله، ويُجرِيها على أيديهم يضلُّونَ بها عباده.(1/147)
" وأنه يحسُن منه كُلُّ شيء حتى تعذيبُ من أفنى عمره في طاعته، فيخلدُه في الجحيم أسفلَ السافلينَ، ويُنعِمُ من استنفد عُمُرَه في عداوته، وعداوة رسله ودينه، فيرفعه إلى أعلى عليين، وكلا الأمرين عنده في الحسن سواء، ولا يعرف امتناعُ أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق، وإلا فالعقل لا يقضي بقُبح أحدهما وحُسنِ الآخر، فقد ظَنَّ به ظن السوء.
" ومن ظن به أنه أخبرَ عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل، وتشبيه، وتمثيل، وترك الحقَّ، لم يُخبر به، وإنما رَمزَ إليه رموزًا بعيدة، وأشار إليه إشارات مُلْغِزةً لم يُصرح به، وصرَّح دائمًا بالتشبيه والتمثيل والباطل، وأراد من خلقه أن يُتعِبُوا أذهانَهم، وقُواهم، وأفكارَهم في تحريفِ كلامه عن مواضعه، وتأويلهِ على غير تأويله، ويتطلَّبوا له وجوهَ الاحتمالات المستكرهة، والتأويلات التي هي بالألغاز والأحاجي أشبه منها بالكشف والبيان، وأحالهم في معرفة أسمائِه وصفاتِه على عقولهم وآرائهم، لا على كتابِه، بل أراد منهم ألا يحمِلوا كلامَه على ما يعرِفُون من خطابهم ولغتهم، مع قدرته على أن يُصَرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به، ويُريحَهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل، فلم يفعل، بل سلك بهم خلاف طريق الهدى والبيان، فقد ظنّ به ظنَّ السَّوْءِ، فإنه إن قال: إنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبر به هو وسلفه، فقد ظن بقُدرته العجز، وقال: إنه قادِرٌ ولم يُبَيِّنْ، وعدَلَ عن البيان، وعن التصريح بالحقِّ إلى ما يُوهم، بل يُوقِعُ في الباطل المحال، والاعتقاد الفاسد، فقد ظنَّ بحكمته ورحمته ظَنَّ السَّوءِ، وظنَّ أنه هو وسلفُه عبَّروا عن الحقِّ بصريحه دُونَ الله ورسوله، وأن الهُدى والحقَّ في كلامهم وعباراتهم. وأما كلام الله، فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه، والتمثيل، والضلال، وظاهِر كلام المتهوِّكين الحيارى، هو الهُدى والحق، وهذا من أسوأ الظن بالله، فكل هؤلاء(1/148)
من الظانين بالله ظن السوء، ومن الظانين به غير الحق ظن الجاهلية.
" ومن ظن به أن يكون في ملكه ما لا يشاء ولا يَقْدِرُ على إيجاده وتكوينه، فقد ظنَّ به ظن السوء.
" ومن ظن به أنه كان مُعَطَّلاً من الأزل إلى الأبد عن أن يفعل، ولا يوصف حينئذ بالقدرة على الفعل، ثم صار قادرًا عليه بعد أن لم يكن قادرًا، فقد ظن به ظن السوء.
" ومن ظنَّ به أنه لا يَسمع ولا يُبصِرُ، ولا يعلم الموجودات، ولا عَدد السماواتِ والأرضِ، ولا النجوم، ولا بني آدمَ وحركاتهم وأفعالهم، ولا يعلم شيئًا من الموجودات في الأعيان، فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوء.
" ومن ظنَّ أنه لا سمعَ له، ولا بصرَ، ولا عِلم له، ولا إرادة، ولا كلامَ يقولُ به، وأنه لم يُكلِّم أحدًا من الخلق، ولا يتكلم أبدًا، ولا قال ولا يقول، ولا له أمرٌ ولا نهي يقوم به، فقد ظن به ظن السوء.
" ومن ظنَّ أنه ليس فوق سماواته على عرشه بائنًا من خلقه، وأن نسبة ذاته تعالى إلى عرشه كنِسبتها إلى أسفل السافلين، وإلى الأمكنة التي يُرغب عن ذكرها، وأنه أسفلُ، كما أنه أعلى ، فقد ظنَّ به أقبح الظنِّ وأسوأه.
" ومن ظنَّ به أنه يحب الكفر، والفسوق، والعصيانَ، ويحبُّ الفساد كما يحب الإيمان،والبر، والطاعة، والإصلاح، فقد ظنَّ به ظن السَّوء.
" ومن ظنَّ به أنه لا يحب ولا يرضى، ولا يغضب ولا يسخط، ولا يوالي ولا يُعادي، ولا يقرب من أحد من خلقه، ولا يقرُب منه أحد، وأن ذوات الشياطين في القُرب من ذاته كذوات الملائكة المقربين وأوليائه المفلحين، فقد ظنَّ به ظنَّ السوء.(1/149)
" ومن ظنَّ أنه يُسوي بين المتضادَّيْن، أو يفرق بين المتساويين من كل وجه، أو يُحبط طاعاتِ العمر المديد الخالصة الصواب بكبيرة واحدة تكون بعدها، فيخلد فاعل تلك الطاعات في النار أبدَ الآبدين بتلك الكبيرة، ويُحبطُ بها جميع طاعاته ويُخَلِّدُه في العذاب، كما يخلد من لا يؤمن به طرفة عين، وقد استنفد ساعاتِ عمره في مساخِطة ومعاداة رسله ودينه، فقد ظنَّ به ظن السوء.
" وبالجملة، فمن ظنَّ به خلاف ما وصف به نفسه ووصفه به رسله، أو عطل حقائق ما وصف به نفسه، ووصفته به رُسله، فقد ظنَّ به ظنَّ السَّوء.
" ومن ظن أن له ولدًا، أو شريكًا أو أن أحدًا يشفعُ عنده بدون إذنه، أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه، أو أنه نَصَبَ لعباده أولياء من دونه يتقرّبون بهم إليه، ويتوسلون بهم إليه، ويجعلونهم وسائط بينهم وبينه، فيدعونهم، ويحبونهم كحبه، ويخافونهم ويرجونهم، فقد ظنَّ به أقبح َ الظن وأسوأه.
" ومن ظن به أنه ينالُ ما عنده بمعصيته ومخالفته، كما يناله بطاعته والتقرب إليه، فقد ظنَّ به خلافَ حِكمته وخلاف موجب أسمائه وصفاته، وهو من ظن السوء.
" ومن ظنَّ به أنه إذا ترك لأجله شيئًا لم يُعوِّضه خيرًا منه، أو من فعل لأجله شيئًا لم يُعطه أفضلَ منه، فقد ظنَّ به ظن السَّوءِ.
" ومن ظنَّ به أنه يغضبُ على عبده، ويُعاقبه ويحرمه بغير جُرم، ولا سبب من العبد إلا بمجرد المشيئة، ومحض الإرادة، فقد ظنَّ به ظن السوء.
" ومن ظنَّ به أنه إذا صدقه في الرغبة والرهبة، وتضرَّع إليه، وسأله، واستعان به، وتوكَّل عليه أنه يُخيِّبُه ولا يُعطيه ما سأله، فقد ظن به ظن السَّوء، وظنَّ به خلافَ ما هو أهلُه.
" ومن ظنَّ به أنه يثيبه إذا عصاه بما يُثيبه به إذا أطاعه، وسأله ذلك في دعائه، فقد ظنَّ به خلافَ ما تقتضيه حِكمتُه وحمده، وخلافَ ما هو أهلُه وما لا يفعله.(1/150)
" ومن ظن به أنه إذا أغضبه، وأسخطه، وأوضع في معاصيه، ثم اتخذ من دونه وليًا، ودعا من دونه مَلَكًا أو بشرًا حَيًا أو ميتًا، يرجُو بذلك أن ينفَعَه عند ربِّه، ويُخَلِّصَه من عذابه، فقد ظنَّ به ظَنَّ السوء، وذلك زيادة في بعده من الله، وفي عذابه.
" ومن ظنَّ به أنه يُسلِّطُ على رسولهِ محمّد × أعداءَهُ تسليطًا مستَقِرَّاً دائمًا في حياته وفي مماته، وابتلاه بهم لا يُفارقونه، فلما مات استبدُّوا بالأمر دون وصية، وظلمُوا أهلَ بيتِهِ، وسلبوهم حقهم، وأذلُّوهم، وكانت العزةُ، والغلبةُ، والقهرُ لأعدائِه وأعدائِهم دائمًا من غير جرم ولا ذنب لأوليائه، وأهل الحق، وهو يرى قهرَهم لهم، وغصبهم إياهم حقَّهم، وتبديلَهم ديْنَ نبيهم، وهو يقدر على نصرة أوليائه وحزبه وجنده، ولا ينصُرُهم ولا يُديلهم، بل يُديل أعداءهم عليهم أبدًا، أو أنَّه لا يقدِرُ على ذلِكَ، بل حصل هذا بغير قٍُدرته ولا مشيئته، ثم جعل المبدلين لدينه مضاجعيه في حفرته، تُسَلِّمُ أمتُه عليه وعليهم كل وقت كما تظنه الرافضةُ، فقد ظنَّ به أقبحَ الظن وأسوأه، سواءً قالوا: إنه قادرٌ على أن ينصرهم، ويجعل لهم الدولة والظفر، أو أنه غيرُ قادر على ذلك، فهم قادحون في قدرته، أو في حكمته وحمده، وذلك من ظنِّ السَّوء به، ولا ريب أن (الربَّ) الذي فعل هذا بغيضٌ إلى من ظنَّ به ذلك غير محمود عندهم، وكان الواجبُ أن يفعل خلافَ ذلك، لكن رَفَوْا هذا الظنَّ الفاسِدَ بخرق أعظمَ منه، واستجاروا من الرَّمضاءِ بالنار، فقالوا: لم يكن هذا بمشيئة الله، ولا له قدرةٌ على دفعه ونصر أوليائه، فإنه لا يَقْدِرُ على أفعال عباده، ولا هي داخلةٌ تحت قدرته، فظنُّوا به ظَنَّ إخوانهم المجوس والثَّنَوِيةِ بربهم، وكل مبطل، وكافر، ومبتدِع مقهور مستذل، فهو يظن بربه هذا الظن، وأنه أولى بالنصر والظفر، والعلو من خصومه.(1/151)
فأكثر الخلق، بل كلهم - إلا من شاء الله - يظنون بالله غير الحق ظنَّ السوء، فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوسُ الحق، ناقصُ الحظ وأنه يستحق فوقَ ما أعطاهُ الله، ولِسان حاله يقول: ظلمني ربِّي، ومنعني ما أستحقُه، ونفسُه تشهدُ عليه بذلك، وهو بلسانه يُنكره، ولا يتجاسرُ على التصريح به، ومن فتَّش نفسَه، وتغلغل في معرفة دفائِنها وطواياها، رأى ذلك فيها كامنَاً كُمونَ النار في الزِّناد، فاقدح زنادَ مَن شئت يُنبئك شَرَارُه عما في زِناده، ولو فتَّشت من فتشته، لرأيت عنده تعتُّبًا على القدر وملامة له، واقتراحًا عليه خلاف ما جرى به، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقِلٌّ ومستكثر، وفَتِّشْ نفسَك هل أنت سالم من ذلك:
فَإنْ تَنجُ مِنْهَا تنج مِنْ ذِي عظيمةٍ وإلا فإني لا إخَالُكَ نَاجِيَاً
فليعتنِ اللبيبُ الناصحُ لنفسه بهذا الموضعِ، وليتُبْ إلى الله تعالى وليستغفِرْه كلَّ وقت من ظنه بربه ظن السوء، وليظنَّ السوءَ بنفسه التي هي مأوى كل سوء، ومنبعُ كل شر، المركبة على الجهل والظلم، فهي أولى بظن السَّوءِ من أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، وأرحم الراحمين"(1)1).
اقتران اسمه سبحانه (القدوس) باسمه - عز وجل - (الملك):
جاء هذا الاقتران في قوله تعالى: { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ } [الجمعة: 1]، وقوله تعالى: { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ مN"n=،،9$#... الآية } [الحشر: 23]، وفي قوله × بعد صلاة الوتر: (سبحان الملك القدوس "ثلاثًا")(2)1).
__________
(1) زاد المعاد 3/90.
(2) أبو داود في الصلاة باب الدعاء بعد الوتر (1430)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1267).(1/152)
ولعل السر في هذا الاقتران - والله أعلم - أن وصف الله - عز وجل - لنفسه بأنه (الملك) وأن من صفات هذا الملك أنه قدوس إشارة إلى أنه سبحانه مع كونه ملكًا مدبرًا متصرفًا في كل شيء، فهو قدوس منزه عما يعتري الملوك من النقائص التي أشهرها الاستبداد، والظلم، والاسترسال مع الهوى، والشهوات، والمحاباة(1)2).
- - -
(15) [السبوح]
جاء ذكر اسمه سبحانه (السبوح) في أذكار الركوع والسجود، فعن عائشة -رضي الله عنها - أن رسول الله × كان يقول في ركوعه وسجوده: (سبوح قدوس رب الملائكة والروح) (2)1).
معنى السبوح:
قال في اللسان: "قال أبو إسحاق الزجاج: (السبوح): الذي ينزه عن كل سوء"(3)2) "وقال النووي: " قال ابن فارس والزبيدي وغيرهما: (سبوح) هو الله - عز وجل - فالمراد بالسبوح القدوس: المسبَّح المقدَّس، فكأنه قال: مُسبَّح مقدس رب الملائكة والروح، ومعنى سبوح: المبرأ من النقائص والشريك، وكل ما لا يليق بالإلهية"(4)3).
والسبوح: هو الذي يسبحه، ويقدسه، وينزهه كل من في السماوات والأرض، كما قال تبارك تعالى: { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } [الجمعة: 1]، ويقول سبحانه: { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) } [الإسراء: 44] (5)4).
قال في تهذيب اللغة: "( سبحان) في اللغة: تنزيه الله - عز وجل - عن السوء.
__________
(1) انظر التحرير والتنوير 28/120.
(2) مسلم (487).
(3) لسان العرب 3/1915.
(4) مسلم شرح النووي 4/204.
(5) بدائع الفوائد 2/366.(1/153)
قلت: وهذا قول سيبويه فقال: سبحت الله تسبيحًا وسبحانًا بمعنى واحد فالمصدر تسبيح، والاسم سبحانه يقوم مقام المصدر. قال سيبويه: وقال أبو الخطاب الكبير: سبحان الله كقولك: براءة الله من السوء، كأنه قال: أبرئ الله من السوء، قلت: ومعنى تنزيه الله من السوء: تبعيده منه وكذلك تسبيحه: تبعيده من قولك: سَبَحتُ في الأرض. إذا أبعدت فيها... وجماع معناه بُعده - تبارك وتعالى - عن أن يكون له مثل أو شريك أو ضد أو ند"(1)1).
من آثار الإيمان بهذا الاسم الكريم:
يرجع إلى ما ذكر من آثار الإيمان باسمه سبحانه (القدوس).
ويضاف إلى ذلك: الأثر الذي ينشأ من الإيمان باسمه سبحانه (السبوح) من كثرة ذكره سبحانه وتسبيحه وتحميده آناء الليل، وأطراف النهار، والشعور بالأنس والرَّوح بالانضمام إلى بقية العوالم في هذا الكون العظيم التي تسبح الله - عز وجل - وتسجد له.
قال سبحانه: { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء: 44].
- - -
(16) [السلام]
ورد اسمه سبحانه (السلام) في القرآن مرة واحدة وذلك في قوله تعالى: { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ } ... الآية [الحشر: 23].
وورد كذلك في السنة النبوية، وذلك في الدعاء المأثور بعد كل صلاة: (اللَّهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ياذا الجلال والإكرام) (2)1).
وكذلك في قوله ×: (إن الله هو السلام) (3)2).
معنى اسمه سبحانه (السلام):
السلام والسلامة: البراءة، وتسلم منه: تبرأ، قال ابن العربي: السلامة العافية.
وقوله تعالى: { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) } [الفرقان: 63]، معناه: تسلمًا وبراءة.
__________
(1) تهذيب اللغة: 4/338، 339.
(2) مسلم (591).
(3) البخاري (831)، مسلم (402).(1/154)
(والسلام) في الأصل: السلامة فقال: سلم يسلم سلامًا وسلامة. ومنه قيل للجنة: دار السلام لأنها دار السلامة من الآفات؛ وقوله - عز وجل -: { وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) } [طه: 47]، معناه: أن من اتبع هدى الله سلم من عذابه وسخطه(1)3).
أما معناه في حق الله تعالى:
فيقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: (السلام): أي من جميع العيوب والنقائص لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله"(2)4).
وقال البيهقي: (السلام): هو الذي سلم من كل عيب، وبرئ من كل آفة، وهذه صفة يستحقها بذاته.
وقيل: "هو الذي سلم المؤمنون من عقوبته"(3)1).
ويقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عن معنى اسمه سبحانه (السلام): "وأما السلام الذي هو اسم من أسماء الله ففيه قولان:
أحدهما: أنه كذلك اسم مصدر، وإطلاقه عليه كإطلاق العدل عليه. والمعنى: أنه ذو السلام، وذو العدل على حذف المضاف.
والثاني: أن المصدر بمعنى الفاعل هنا أي: السالم. كما سميت ليلة القدر سلامًا أي: سالمة من كل شر، بل هي خير لا شر فيها"(4)2).
ويقول ابن القيم - رحمه الله تعالى - في نونيته:
وهو السلام على الحقيقة سالم من كل تمثيل ومن نقصان(5)3)
ويفصل القول في هذا الاسم الكريم فيقول: "واستحقاق الله هذا الاسم أكملُ من استحقاق كل ما يطلق عليه، وهذا هو حقيقة التنزيه الذي نزه الله به نفسه، ونزهه به رسوله ×.
__________
(1) انظر لسان العرب 3/2078، النهاية لابن الأثير 2/392.
(2) تفسير ابن كثير 4/343.
(3) الاعتقاد للبيهقي ص 55.
(4) بدائع الفوائد 2/366.
(5) النونية 2/233.(1/155)
فهو السلام من الصاحبة والولد، والسلام من الكفء والنظير، والسَّمِيِّ والمماثل، والسلام من الشريك، وإذا أنت نظرت إلى أفراد صفات كماله وجدت كل صفة سلامًا مما يضاد كمالَها، فحياته سلام من الموت، ومن السِّنَةِ والنوم، وكذلك قيوميته وقدرته سلام من التعب واللغوب،وعلمه سلام من عزوب شيء عنه، أو عروض نسيان أو حاجة إلى تذكر وتفكر، وإرادته سلام من خروجها عن الحكمة والمصلحة.
وكلماته سلام من الكذب والظلم، فكلماته تمت صدقًا وعدلاً، وغناه سلام من الحاجة إلى غيره بوجه، وكل ما سواه محتاج إليه، وهو غني عن كل ما سواه، وملكه سلام من منازع فيه، أو مشارك، أو معاون، أو شافع عنده بدون إذنه.
وإلهيته سلام من مشارك له فيها، بل هو الذي لا إله إلا هو، وحلمه وعفوه وصفحه ومغفرته وتجاوزه سلام من أن تكون عن حاجة منه أو ذل، كما يكون من غيره، بل هو محض جوده، وإحسانه، وكرمه.
وكذلك عذاب الله وانتقامه وشدة بطشه، وسرعة عقابه سلام من أن يكون ظلمًا أو تشفيًا أو غلظة أو قسوة، بل هو محض حكمته وعدله ووضعه الأشياء في مواضعها، وهو مما يستحق عليه الحمد والثناء، كما يستحقه على إحسانه وثوابه ونعمه، بل لو وضع الثواب موضع العقوبة لكان مناقضًا لحكمته وعزته، فوضعه العقوبة موضعها هو من عدله، وحكمته، وعزته، فهو سلام مما يتوهم أعداؤه والجاهلون به... وقضاؤه وقدره سلام من العبث والجور والظلم، وشرعه ودينه سلام من التناقض والاختلاف والاضطراب..، وعطاؤه سلام من كونه معاوضة أو لحاجة إلى المعطي، ومنعه سلام من البخل وخوف الإملاق، بل عطاؤه إحسان محض لا لمعاوضة ولا لحاجة، ومنعه عدل محض وحكمة؛ لا يشوبه بخل ولا عجز.(1/156)
واستواؤه وعلوه على عرشه سلام من أن يكون محتاجًا إلى ما يحمله أو يستوي عليه، بل العرش محتاج إليه، وحملته محتاجون إليه، فهو الغني عن العرش، وعن حملته، وعن كل ما سواه، فهو استواء وعلو لا يشوبه حصر، ولا حاجة به إلى عرش، ولا غيره، ولا إحاطة شيء به سبحانه وتعالى، بل كان سبحانه، ولا عرش، ولم يكن من حاجة إليه وهو الغني الحميد ...وكماله سبحانه سلام من كل ما يتوهم من معطل أو مشبه، وسلام من أن يصير تحت شيء أو محصورًا في شيء، تعالى الله ربنا عن كل ما يضاد كماله، وغناه، وسمعه وبصره سلام من كل ما يتخيله مشبّه أو يتقوله معطل.
وموالاته - سبحانه - لأوليائه سلام من أن تكون عن ذل كما يوالي المخلوق المخلوق، بل هي موالاة رحمة، وخير، وإحسان، وبر، كما قال: { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ } [الإسراء: 111]، فلم ينف أن يكون له ولي مطلقًا، بل نفى أن يكون له ولي من الذل.
وكذلك محبته لمحبيه وأوليائه، سلام من عوارض محبة المخلوق للمخلوق من كونها محبة حاجة إليه، أو تملق أو انتفاع بقربه، وسلام مما يتقوله المعطلون فيها.
وكذلك ما أضافه إلى نفسه من اليد والوجه، فإنه سلام عما يتخيله مشبه أو يتقوله معطل، فتأمل كيف تضمن اسمه (السلام) كل ما نزه عنه تبارك وتعالى. وكم ممن حفظ هذا الاسم لا يدري ما تضمنه من هذه الأسرار والمعانى"(1)1).
ويقول أيضًا عن بعض تفاصيل هذا الاسم الكريم: "ومن بعض تفاصيل ذلك: أنه الحي الذي سلمت حياته من الموت والسنة والنوم والتغير. القادر الذي سلمت قدرته من اللغوب والتعب والإعياء والعجز عما يريد. العليم الذي سلم علمه أن يعزب عنه مثقال ذرة أو يغيب عنه معلوم من المعلومات، وكذلك سائر صفاته على هذا.
__________
(1) بدائع الفوائد 2/363 - 365 باختصار.(1/157)
فرضاه سبحانه سلام أن ينازعه الغضب، وحلمه سلام أن ينازعه الانتقام، وإرادته سلام أن ينازعها الإكراه، وقدرته سلام أن ينازعها العجز، ومشيئته سلام أن ينازعها خلاف مقتضاها، وكلامه سلام أن يعرض له كذب أو ظلم، بل تمت كلماته صدقًا وعدلاً، ووعده سلام أن يلحقه خلف، وهو سلام أن يكون قبله شيء، أو بعده شيء، أو فوقه شيء، أو دونه شيء، بل هو العالي على كل شيء، وفوق كل شيء، وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، والمحيط بكل شيء، وعطاؤه، ومنعه سلام أن يقع في غير موقعه ، ومغفرته سلام أن يبالي بها أو يضيق بذنوب عباده أو تصدر عن عجز عن أخذ حقه كما تكون مغفرة الناس ورحمته، وإحسانه، ورأفته، وبره، وجوده، وموالاته لأوليائه، وتحببه إليهم، وحنانه عليهم، وذكره لهم، وصلاته عليهم سلام أن يكون لحاجة منه إليهم أو تعزر بهم أو تكثر بهم. وبالجملة، فهو السلام من كل ما ينافي كلامه المقدس بوجه من الوجوه"(1)2).
خلاصة في معنى اسمه سبحانه (السلام):
مما سبق من النقولات في معنى اسمه سبحانه (السلام) نخلص إلى معنيين عظيمين لهذا الاسم الكريم:
الأول: السلامة والبراءة من كل عيب ونقص في ذاته سبحانه أو أفعاله أو أسمائه وصفاته.
__________
(1) أحكام أهل الذمة 1/414، 415.(1/158)
الثاني: أنه سبحانه مصدر السلام والأمن، وكل من ابتغى السلامة عند غيره سبحانه فلن يجدها، وهذا معنى قوله ×: (اللَّهم أنت السلام ومنك السلام) (1)1). ولذلك سميت الجنة دار السلام؛ لأن من دخلها سلم من الآفات والشرور والمنغصات والأكدار، قال تعالى: { ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ (46) } [الحجر: 46]، ومن ذلك تحية الإسلام التي حث الإسلام على إفشائها وذلك في قوله ×: (لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) (2)2)، وفي إفشائه إشاعة للأمن والود والسلام بين الناس، ومن ذلك سلامه - عز وجل - على أنبيائه المرسلين وذلك في قوله تعالى: { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182) } [الصافات: 180 - 182]، وقوله - عز وجل -: { سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) } [الصافات: 79]، { سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) } [الصافات: 109]، وسلامه سبحانه على عباده الصالحين كما في قوله تعالى: { قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى } ...الآية [النمل: 59].
__________
(1) سبق تخريجه ص201.
(2) مسلم (54).(1/159)
ومن ذلك سلامه على نبيه يحيى - عليه السلام - في قوله تعالى: { وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) } [مريم: 15]، ومثل ذلك قيل عن عيسى عليه السلام. عن صدقة بن الفضل قال سمعت سفيان بن عيينة يقول: أوحش ما تكون الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يولد فيرى نفسه خارجًا مما كان، ويوم يموت فيرى قومًا لم يكن عاينهم، ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم. فأكرم الله فيها يحيى فخصه بالسلام فقال: { وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا } كأنه أشار إلى أن الله - عز وجل - سلم يحيى من شر هذه المواطن الثلاثة وأمنه من خوفها(1)1).
ولأن الله سبحانه مصدر الأمن والسلام جاء النهي عن قول: (السلام على الله).
فعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: كنا نصلي خلف النبي × فنقول: السلام على الله. فقال النبي ×: (إن الله هو السلام ولكن قولوا: التحيات لله. والصلوات والطيبات)... الحديث"(2)2).
قال البيضاوي ما حاصله: "أنه × أنكر التسليم على الله ومن أن ذلك عكس ما يجب أن يقال، فإن كل سلام ورحمة له ومنه وهو مالكها ومعطيها"(3)3).
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (السلام):
1- ما قيل في آثار الإيمان باسمه سبحانه (القدوس) في المبحث السابق فإنه يصلح أن يقال هنا في آثار الإيمان باسمه سبحانه (السلام) فإن اسمه سبحانه السلام متضمن لاسمه سبحانه (القدوس).
__________
(1) شأن الدعاء للخطابي ص 42.
(2) البخاري (831)، مسلم (402).
(3) فتح الباري 2/312.(1/160)
2- ومن آثار الإيمان باسمه سبحانه (السلام): الاعتقاد واليقين بأن من أراد الأمن والسلام سواء في نفسه، أو في بيته، أو في مجتمعه فإنه لا يكون إلا في الإيمان بالله - عز وجل - والأنس به، والالتزام بأحكامه وشريعته التي كلها أمن وسلام على الفرد والأسرة والمجتمع، وكلما كان المسلمون أكثر التزامًا بشريعة الله - عز وجل - كانوا أكثر تحصيلاً للسلام والعكس بالعكس. وهذا من موجبات اسمه سبحانه (السلام).
3- سعي المؤمن في إشاعة السلام بين المسلمين بإفشاء السلام، وكف الشر، والسب، والقذف، والعدوان عليهم، قال ×: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) (1)1)، مع السعي لنشر الإسلام الذي هو دين السلام في الأرض بالدعوة والجهاد في سبيل الله تعالى.
- - -
(17) [المؤمن]
ورد اسمه سبحانه (المؤمن) في القرآن الكريم مرة واحدة وذلك في قوله تعالى: { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ } ... الآية [الحشر: 23]، أما في السُّنة فلم أقف - حسب علمي - على ذكر لهذا الاسم الكريم في حديث صحيح.
المعنى اللغوي (للمؤمن):
له معنيان:
الأول: المصدِّق. قال الزجاج: "أصل الإيمان: التصديق والثقة. وقال الله - عز وجل -: { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ } لَنَا [يوسف: 17]، أي: لفرط محبتك ليوسف لا تصدقنا"(2)1).
الثاني: "من الأمان كما يقول: آمن فلانٌ فلانًا أي: أعطاه أمانًا ليسكن إليه ويأمن، فكذلك أيضًا: (الله المؤمن) أي: يؤمِّن عباده المؤمنين فلا يأمن إلا من آمنه"(3)2).
معنى هذا الاسم الكريم في حق الله تعالى:
أولاً: تعلقه بالمعنى الأول "المصدق": ومن معانيه في حق الله - عز وجل - ما يلي:
__________
(1) البخاري (10)، مسلم (40)..
(2) تفسير الأسماء ص 31.
(3) اشتقاق أسماء الله تعالى ص 385.(1/161)
1- أنه يصدق نفسه بتوحيده وصفاته، كما قال عزّ من قائل: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ $JJح!$s% بِالْقِسْطِ } [آل عمران: 18].
فقد شهد سبحانه لنفسه بالوحدانية، وهذه الشهادة أعظم شهادة: { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً } [الأنعام: 19]، فليس فوق شهادة الله شهادة، فهي أعظم من شهادة ملائكته، ورسله، وأنبيائه، ومخلوقاته له بالشهادة.
2- تصديق الله رسله وأنبياءَه وأتباعهم، فمن ذلك ما أنزله الله من الآيات البينات التي دلت على صدقهم، ومن ذلك ما يظهره على أيدي المؤمنين، ومنها: ما يريه أعداءَه من نصرة المؤمنين، فقد يرى الكفرة الملائكة تقاتل مع المؤمنين، ومنها: أن الكفرة قد يدعون الله أن ينصر المحق، فينصر الله المؤمنين، وغير ذلك مما يصدق به رسله وأتباعهم. ومن ذلك: إيقاع العذاب بالمجرمين والطغاة،أعداء الرسل فإن وقوع العذاب بهم تصديق من الله - عز وجل - لرسله.
3- تصديق الله عباده المؤمنين في يوم الدين، فالله يسأل الناس في يوم القيامة، ويصدق المؤمنين بإيمانهم، ويكذب الكفرة والمجرمين، فيُشْهِد عليهم أعضاءَهم، فتشهد. ويصدق المؤمنين ما وعدهم به من الثواب، ومصدق ما أوعدهم من العقاب(1)1).
__________
(1) انظر أسماء الله الحسنى للأشقر ص 64، 65.(1/162)
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "المصدق الذي يصدق الصادقين بما يقيم له من شواهد صدقهم، فهو الذي صدَّق رسله وأنبياءه فيما بلَّغوا عنه؛ وشهد لهم بأنهم صادقون بالدلائل التي دلَّ بها على صدقهم - قضاءً وخلقًا- فإنه سبحانه أخبر وخبره الصدق؛ وقوله الحقُّ: أنه لا بُدَّ أن يُري العبادَ من الآيات الأفقيَّة والنفسيَّة ما يُبيِّن لهم أن الوحي الذي بلَّغته رسله، فقال تعالى: { سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } [فصلت: 53]، أي: القرآن، فإنه هو المتقدم في قوله: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ } [فصلت: 52].
ثم قال: { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) } [فصلت: 53]، فشهد سبحانه لرسوله بقوله أن ما جاء به حقٌّ، ووعده أن يُري العبادَ من آياته الخلقيَّة ما يشهد بذلك أيضًا، ثم ذكر ما هو أعظم من ذلك وأجلُّ؛ شهادته - سبحانه - على كلِّ شيءٍ"(1)1).
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "المؤمن: الذي أثنى على نفسه بصفات الكمال، وبكمال الجلال، والجمال الذي أرسل رسله وأنزل كتبه بالآيات والبراهين، وصدق رسله بكل آية وبرهان، ويدل على صدقهم وصحة ما جاءوا به"(2)2).
ثانيًا: تعلقه بالمعنى الثاني المشتق من (الأمان): وفيه من المعاني ما يلي:
1- أنه الذي يُؤَمِّنُ خلقه من ظلمه وقد ذكر هذا المعنى ابن جرير في تفسيره وقال: "قال الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - (المؤمن) أي: أمن خلقه من أن يظلمهم"(3)3).
2- أنه الذي يهب عباده المؤمنين الأمن في الدنيا بالطمأنينة والأنس الذي يجدونه في قلوبهم بفعل الإيمان به سبحانه وتوحيده.
__________
(1) مدارج السالكين 3/466.
(2) تفسير السعدي 5/301.
(3) تفسير الطبري 28/36.(1/163)
3- أنه الذي يؤمن خوف عبده الذي لجأ إليه بصدق في كشف كربته وتأمين خوفه. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "والمضطر إذا صدق في الاضطرار إليه: وجده رحيمًا مغيثًا، والخائف إذا صدق في اللجوء إليه: وجده مُؤمِّنا من الخوف"(1)4).
4- أنه الذي يؤمن عباده المنقادين لشرعه بما يشرع لهم من الأحكام والحدود التي يأمنون فيها على دينهم، وأنفسهم، وعقولهم، وأعراضهم، وأموالهم سواء على مستوى الفرد، أو الأسرة، أو المجتمع بحيث يعيش الجميع في أمن وسلام في ظل أحكام الله - عز وجل - والتي هي أثر من آثار اسمه (السلام المؤمن).
5- أنه الذي يؤمن عباده يوم الفزع الأكبر من مخاوف يوم القيامة ومن عذاب النار، قال الله تعالى عن عباده المؤمنين: { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } [الأنبياء: 101، 103]، وقال سبحانه عن أثر الإيمان في تحقيق الأمن في الدنيا والآخرة: { الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) } [الأنعام: 82] (2)1).
__________
(1) مدارج السالكين 3/324.
(2) انظر في تفسير هذه الآية وأقسام الأمن وشموله رسالة "فأي الفريقين أحق بالأمن" للمؤلف.(1/164)
6- أنه الذي يؤمن عباده المؤمنين عند نزول الموت حال الاحتضار بأن يسمعوا تطمين ملائكة الرحمة لهم وتبشيرهم بالجنة، وتأمين خوفهم وحزنهم، قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ } [فصلت: 30-32].
7- أنه الذي يؤمن لجميع عباده، بل جميع خلقه، مؤمنهم وكافرهم، إنسهم وجنهم، كل ما يأمن بقاء حياتهم إلى الأجل الذي أجل لهم بتوفير رزقهم ودفع الغوائل عنهم.
من آثار الإيمان بهذا الاسم الكريم:
1- محبة الله - عز وجل - الذي يأمن الخائفون في كنفه، ويطمئن المؤمن بالإيمان به وعبادته وحده، فلا يخاف أحدٌ ظُلْمَه سبحانه، بل إن رحمته سبقت غضبه، ورحمته وسعت كل شيء فيحصل من جراء ذلك الأمن النفسي، والسعادة القلبية، والتعلق بالله وحده، ومحبته وإجلاله، وكثرة ذكره وشكره، واللجوء إليه وحده سبحانه في طلب الأمان وذهاب الخوف والفزع في الدنيا والآخرة؛ لأنه لا يملك تثبيت القلوب وفتح الرحمة والأمان عليها إلا الله تعالى، قال - عز وجل -: { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) } [فاطر: 2].(1/165)
2- زيادة الإيمان والتصديق في القلب، وذلك برؤية آثار اسمه سبحانه (المؤمن) الذي منها: تصديق نفسه سبحانه وإقامة البراهين الواضحة الدالة على توحيده وتفرده سبحانه بالربوبية والألوهية وكمال الأسماء والصفات. ومنها: تصديق الله - عز وجل - لأنبيائه ورسله بما يظهر على أيديهم من المعجزات والدلائل الباهرة على صدقهم وصدق ما يدعون إليه. ومن ذلك اليقين بصدق وعد الله تعالى لعباده المؤمنين بالنصر في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة.
3- الاغتباط بأحكامه سبحانه وشريعته الكاملة الشاملة التي تكفل الخير والسعادة والأمن الشامل لكل الضروريات الخمس التي يعيش الناس بالمحافظة عليها في أمن شامل في أنفسهم وبيوتهم ومجتمعاتهم، بل هو أمان للبشرية بأسرها لو أخذت به، وخضعت لأحكامه، بل هو أمان في الآخرة من عذاب الله تعالى وهذا الاغتباط يثمر في قلب المؤمن سرورًا وفرحًا بهداية الله - عز وجل - له إلى ذلك، كما يثمر همة وعزيمة ونشاطًا إلى الدعوة إلى هذا الدين القويم، وتبليغه للناس لعلهم يدخلون فيه فينعمون بخيره وأمنه في الدنيا، وبجنة النعيم في الآخرة والتي لا خوف على أهلها ولا هم يحزنون، ويلزم على هذا جهاد الكفار المفسدين الذين يريدون أن يحولوا بين الناس وبين هذا الدين الذي كله أمن وسلام.
4- الصبر على المصائب والمكاره؛ لأن المؤمن يعلم أنها من عند الله الرحيم الحكيم الذي يُؤَمِّنُ عباده من ظلمه، والذي يجعل فيما يصيب المؤمن خيرًا له وأمنًا في عاقبة أمره وأجله. والله سبحانه لم يبتل العبد ليعذبه، بل ليرحمه ويهذبه.
5- سلامة القلب نحو عباد الله تعالى وتأمينهم من العدوان والغوائل. فالمتعبد حقًا باسمه سبحانه (المؤمن) يتصف بصفة السلامة ويكف شره وأذاه عن الناس بحيث يأمن الناس شره.(1/166)
قال رسول الله ×: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن! قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه)(1)1)، وقال أيضًا:(المسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم) (2)2).
(18) [الحق]
ورد هذا الاسم الكريم في عشر آيات من القرآن الكريم منها:
قول الله تعالى: { ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) } [الأنعام: 62].
وقوله تبارك وتعالى: { فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) } [يونس: 32].
وقوله تبارك وتعالى: { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ } [طه: 114].
وقوله - عز وجل -: { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) } [النور: 25].
وقوله سبحانه: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دmدRrكS الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) } [لقمان: 31].
كما ورد ذكر هذا الاسم الكريم في أدعية الرسول × الصحيحة ومن ذلك: ما كان يستفتح به صلاة الليل حيث يقول: (اللَّهم لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد لك ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق وقولك الحق ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد × حق، والساعة حق... الحديث) (3)1).
المعنى اللغوي (للحق):
__________
(1) البخاري (6016).
(2) الترمذي (2772) ، والنسائي وحسنه الألباني في صحيح النسائي (4622).
(3) البخاري (1120).(1/167)
الحق: نقيض الباطل، وجمعه حقوق وحقاق؛ وحق الأمر يحق حقوقًا: صار حقًا وثبت، قال الأزهري: معناه: وجب يجب وجوبًا، وحق الأمر يحقه وأحقه: كان منه على يقين(1)1).
معناه في حق الله تعالى:
قال ابن جرير - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: { وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ } [يونس: 30].
"أي: رجع هؤلاء المشركون يومئذ إلى الله، الذي هو ربهم ومالكهم الحق لا شك فيه، دون ما كانوا يزعمون أنهم لهم أرباب من الآلهة والأنداد: { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) } [الأنعام: 24] : أي: بطل عنهم ما كانوا يتخرصون من الفرية والكذب على الله بدعواهم أوثانهم أنها لله شركاء، وأنها تقربهم منه زلفى"(2)2).
وقال الخطابي: "الحق: هو المتحقق كونه ووجوده، وكل شيء صح وجوده وكونه، فهو حق.
ومنه قوله تعالى: { الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) } [الحاقة: 1، 2]. معناه: -والله أعلم - الكائنة حقًا لا شك في كونها ولا مدفع لوقوعها. ويقال: الجنة حق، والنار حق، والساعة حق. يراد أن هذه الأشياء كائنة لا محالة"(3)3).
وقال ابن الأثير:" (الحق): هو الموجود حقيقة المتحقق وجوده وإلهيته، والحق ضد الباطل"(4)1).
__________
(1) انظر لسان العرب 2/939 - 940، وانظر تفسير الأسماء للزجاج ص 53، واشتقاق الأسماء للزجاجي ص 178.
(2) تفسير الطبري 11/79.
(3) شأن الدعاء ص 76 (باختصار).
(4) النهاية لابن الأثير 1/413.(1/168)
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "(الحق) في ذاته وصفاته، فهو واجب الوجود، كامل الصفات والنعوت، وجوده من لوازم ذاته، ولا وجود لشيء من الأشياء إلا به، فهو الذي لم يزل ولا يزال بالجلال والجمال والكمال موصوفًا. ولم يزل ولا يزال بالإحسان معروفًا. فقوله حق، وفعله حق، ولقاؤه حق، ورسله حق، وكتبه حق، ودينه هو الحق، وعبادته وحده لا شريك له هي الحق، وكل شيء ينسب إليه فهو حق: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَن مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَن اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) } [الحج: 62]، وقال: { وَقُلِ بالْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ `دB÷sمù=sù وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } [الكهف: 29]، { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ } [يونس: 32]، { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) } [الإسراء: 81] " (1)2).
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "فكما أن ذاته (الحق): فقوله الحق، ووعده الحق، وأمره الحق، وأفعاله كلها حق وجزاؤه المستلزم لشرعه ودينه ولليوم الآخر حق. فمن أنكر شيئًا من ذلك فما وصف الله بأنه (الحق) المطلق من كل وجه، وبكل اعتبار فكونه حقًا يستلزم شرعه ودينه وثوابه وعقابه"(2)3).
مما سبق من النقولات يتبين لنا بعض المعاني التي يتضمنها هذا الاسم الكريم من أسمائه سبحانه الحسنى ومنها:
أنه سبحانه له الوجود الحق: فالخلق كلهم يزولون ويفنون وهو سبحانه الحي الذي لا يموت، وهو الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا تعب، ولا لغوب.
- وأن أسماءه سبحانه وصفاته كلها حق فليس فيها شيء باطل لا في علمه، ولا قدرته، ولا عزته، ولا حكمته فهو الإله الحق الكامل في ذاته، وأسمائه وصفاته.
__________
(1) تفسير السعدي 5/492.
(2) بدائع الفوائد 4/139.(1/169)
- وأنه هو الحق في ربوبيته وألوهيته فهو (الرب) الحق لكل مربوب وهو المعبود الحق لكل مألوه وعابد مربوب.
- وأن أفعاله سبحانه كلها حق ومقتضى الحكمة فخبره حق، وشرعه حق، وقضاؤه حق وجزاؤه حق، والله أنزل الكتب بالحق، وأرسل رسله بالحق، وخلق السماوات والأرض بالحق، وقص الله تبارك وتعالى القصص بالحق. ووعد الله حق لا يتخلف، فنصره لأوليائه حق، والبعث بعد الموت حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، وكل ما وعد الله به فهو حق؛ لأنه صدر عن الحق سبحانه وتعالى وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "خلق مخلوقاته بسبب الحق ولأجل الحق، وخلقها متلبس بالحق، وهو في نفسه (حق) فمصدره حق وغايته حق وهو متضمن للحق"(1)1).
من آثار الإيمان بهذا الاسم الكريم:
1- تجريد المحبة لله - عز وجل - وتعظيمه وإجلاله حيث إنه الموجود الحق، والرب الحق والإله الحق. وكل ما سواه فهو مربوب، ووجوده مستمد من وجوده سبحانه. لأنه الأول الذي ليس قبله شيء، فمنه سبحانه الإيجاد، والإعداد، والإمداد، وما سواه فهي أسباب مخلوقة صادرة من مسبب الأسباب الإله الحق.
فحري بمن هذه صفاته أن يحب ويعظم ويؤله وتوجه العبادة له وحده دون ما سواه؛ لأنه الرب الحق، والإله الحق الذي يستحق غاية الحب وغاية الذل والتعظيم والإجلال.
2- الشعور بالغبطة والسعادة والسرور بالهداية إلى دين الإسلام الحق الذي هو دين الله، والذي من هُدي إليه واستقام عليه اطمأنت نفسه، وانشرح صدره، وسلم من التشتت والاضطراب والحيرة التي تكون من نصيب المبطل المعرض عن الله - عز وجل - وعن أحكامه والذي هو في أمر مريج وفي حيرة وعماية.
__________
(1) شفاء العليل 2/57.(1/170)
وقد بين الله - عز وجل - حال الموحد المتمسك بالحق الثابت عليه وحال المشرك المبطل المتذبذب المحتار في قوله تعالى: { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) } [الزمر:29].
وفي قوله سبحانه: { * أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) } [الرعد: 19]، وقوله - عز وجل -: { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) } [الأنعام: 125].
فالحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ونسأله سبحانه الثبات على الحق حتى نلقاه.
3- الرضى والطمأنينة بما يصيب المؤمن من المصائب المؤلمة والإيمان بأنها كائنة بعلم الله - عز وجل - وإرادته وحكمته، وهي حق لا باطل فيها ولا عبث ولا ظلم ولا هوى. فعلم العبد ويقينه بأن كل ما يأتي من الله - عز وجل - حق وعدل ورحمة، يجعله يطمئن ويسلم الأمر لإلهه الحق، ويسلم قلبه من أمراض الريبة، والتسخط، والاعتراض.
4- التسليم التام لأحكامه سبحانه الشرعية فيما يأمر به وينهى عنه، واليقين بأن أحكام الله تعالى كلها حق وخير؛ لأنها من الله الحق الحكيم العليم فينشأ من ذلك القبول التام، والإذعان، والتسليم، والاغتباط، والسعي لإقرارها بين الناس حتى ينعموا بما فيها من الحق والخير والأمن والسلام.(1/171)
قال تعالى: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) } [النساء: 65]، وسواء علمت الحكمة في هذه الأحكام أم لم تعلم فالأمر بالنسبة للمؤمن سواء ليقينه بأنها كلها حق؛ لأنها من عند الحق سبحانه.
5- القبول التام والتصديق الذي لا يخالطه أدنى ريبة أو شك في كل ما أخبر الله - عز وجل - به من المغيبات؛ لأنها حق وصدق: { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) } [النساء: 87].
6- التواضع للحق، والانقياد له بعد تبينه؛ لأن الخير كله في الحق وما بعد الحق إلا الضلال والشر والشقاء. ومن رد الحق بعد بيانه فهو المتكبر الظالم لنفسه. قال ×: (الكبر بطر الحق وغمط الناس) (1)1).
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "كما أن من تواضع لله رفعه فكذلك من تكبر عن الانقياد للحق أذله الله ووضعه وصغره وحقره. ومن تكبر عن الانقياد للحق - ولو جاء على يد صغير، أو من يبغضه أو يعاديه - فإنما تكبره على الله فإن الله هو (الحق) وكلامه حق؛ ودينه حق، والحق صفته ومنه وله، فإذا رده العبد وتكبر عن قبوله فإنما رد على الله وتكبر عليه والله أعلم"(2)2).
7- صدق التوكل على (الحق) - سبحانه وتعالى - لأن من كان على الحق الذي هو دين الله - عز وجل - فإنه يثق في الله - عز وجل - ويعتمد عليه في نصره لدينه، وتأييده لأوليائه.
قال الله - عز وجل -: { فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) }
[النمل: 79].
__________
(1) مسلم (91).
(2) مدارج السالكين 2/333.(1/172)
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "إن كون العبد على الحق يقتضي تحقيق مقام التوكل على الله، والاكتفاء به، والإيواء إلى ركنه الشديد، فإن الله هو (الحق) وهو ولي الحق، وناصره، ومؤيده، وكافي من قام به. فما لصاحب الحق ألا يتوكل عليه؟ وكيف يخاف وهو على الحق؟ كما قالت الرسل لقومهم: { وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) } [إبراهيم: 12] (1)1).
8- الثقة في نصر الله - عز وجل - لدينه الحق وأوليائه الثابتين عليه، وعدم الاغترار بانتفاش الباطل وزبده في وقت من الأوقات فإنه ذاهب. ولكن الله - عز وجل - يبتلي به العباد ليعلم المؤمن الصادق الثابت على الحق من المنافق أو ضعيف الإيمان الذين يبهرهم زبد الباطل فيشكون في وعد الله - عز وجل - ونصرته لأوليائه.
قال الله - عز وجل -: { أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) } [الرعد: 17].
__________
(1) طريق الهجرتين ص 463.(1/173)
9- الإيمان باسمه سبحانه (الحق) وما يستلزم ذلك من كون وعده الحق، ولقاؤه الحق، والجنة حق، والنار حق؛ فكل ذلك يثمر في القلب الاستعداد للقاء الله - عز وجل - والخوف من المقام بين يديه سبحانه والشوق إلى جنته، والخوف من عذابه؛ لأن كل ذلك حق وصدق وآت لا محالة، وهذا الخوف يثمر التقوى في القلب، والتي علامتها امتثال أوامر الله - عز وجل - وترك مناهيه بإخلاص ومتابعة، والاستقامة على ذلك.
اقتران اسمه سبحانه (الحق) باسمه - عز وجل - (الملك):
ورد اقتران هذين الاسمين الجليلين في كتاب الله - عز وجل - في موضعين هما:
" في قوله تعالى: { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) } [المؤمنون: 116].
" وفي قوله تعالى: { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) } [طه: 114].
أما الآية الأولى: فواضح فيها سبب الاقتران؛ لأنه سبق هذه الآية قوله تعالى: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ } [المؤمنون: 115] والمعنى: أن الملك الحق منزه عن أن يخلق خلقه عبثًا أو أن يتركهم سدى، وفيه إشارة إلى أن تصرفاته - سبحانه وتعالى - واضحة الدلالة على أن ملكه حق لا يتصرف فيه إلا بما هو مقتضى الحكمة... ومفهوم الصفة أن ملك غيره سبحانه باطل أي: فيه شائبة الباطل؛ لا من جهة الجور والظلم؛ لأنه قد يوجد ملك لا جور فيه ولا ظلم كملك الأنبياء، والخلفاء الراشدين، بل من جهة أنه ملك غير مستكمل حقيقة المالكية فإن كل من ينسب إليه الملك، عدا الله تعالى هو مالك من جهة ومملوك من جهة لما فيه من نقص واحتياج (1)1).
__________
(1) التحرير والتنوير 16/416، 18/135.(1/174)
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "إن خلقه الإنسان في هذه الأطوار؛ وتنقُّله فيها طورًا بعد طورٍ حتى بلغ نهايته: يأبى أن يتركه سُدى، فإنه يُنزَّه عن ذلك؛ كما يُنزَّه عن العبث والعيب والنقص، وهذه طريقة القرآن في غير موضع، كما قال تعالى: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) } [المؤمنون: 115، 116].
فجعل كمال ملكه؛ وكونه سبحانه (الحقَّ) وكونه (لا إله إلا هو)؛ وكونه (ربَّ العرش) المستلزم لربوبيته لكلِّ ما دونه: مُبطلاً لذلك الظنِّ الباطل والحكم الكاذب، وإنكار هذا الحسبان عليهم مثل إنكاره عليهم حسبانهم أنه لا يسمع سِرَّهم ونجواهم، وحسبان أنه لا يراهم ولا يقدر عليهم، وحسبان أنه يُسوِّي بين أوليائه وبين أعدائه في محياهم ومماتهم، وغير ذلك مما هو مُنزَّهٌ عنه تنزيهه عن سائر العيوب والنقائص، وأن نسبة ذلك كنسبة ما يتعالى عنه مما لا يليق من اتخاذ الولد والشريك؛ ونحو ذلك مما ينكره - سبحانه - على من حَسَبه أشد الإنكار.(1/175)
فدلَّ على أن ذلك قبيحٌ ممتنعٌ نسبته إليه؛ كما يمتنع أن يُنسب إليه سائرُ ما يُنافي كماله المقدس، ولو كان نفي تركه سدى إنما يُعلم بالسمع المجرَّد، لم يقل بعد ذلك: { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً } [القيامة: 37]، إلى آخره؛ ومما يدلُّ أن تعطيل أسمائه وصفاته ممتنعٌ، وكذلك تعطيل موجبها ومقتضاها، فإن ملكَه الحقَّ يستلزم أمره ونهيه؛ وثوابه وعقابه، وكذلك يستلزم إرسال رسله؛ وإنزال كتبه، وبعث المعاد ليومٍ يجزي فيه المحسن بإحسانه؛ والمسيء بإساءته، فمن أنكر ذلك فقد أنكر حقيقة ملكه؛ ولم يُثبت له المُلكَ الحقَّ، ولذلك كان منكر ذلك كافرًا بربِّه؛ وإن زعم أنه يُقرُّ بصانع العالم، فلم يُؤمن بالملك الحقِّ؛ الموصوف بصفات الجلال والمستحقِّ لنعوت الكمال"(1)1).
وقال أيضًا: "من المحال الممتنع عند كل ذي فطرةٍ سليمةٍ: أن يكون (الملك الحقُّ) عاجزًا؛ أو جاهلاً لا يعلم شيئًا، ولا يسمع ولا يبصر، ولا يتكلَّم ولا يأمر ولا ينهى، ولا يُثيب ولا يُعاقب، ولا يُعِزُّ من يشاء ولا يُذِلُّ من يشاء، ولا يُرسل رسله إلى أطراف مملكته ونواحيها، ولا يعتني بأحوال رعيته بل يتركهم سدى؛ ويُخلِّيهم هملاً، وهذا يقدح في ملك آحاد البشر، لا يليق به، فكيف يجوز نسبة الملك الحق المبين إليه؟"(2)2).
اقتران اسمه سبحانه (الحق) باسمه - عز وجل - (المبين):
جاء ذلك مرة واحدة في القرآن الكريم وذلك في قوله تعالى: { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) } [النور: 25].
وقد جاء في تفسير قوله تعالى: { وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ } أن (المبين) وصف للحق لوضوحه وبيانه.
__________
(1) التبيان في أقسام القرآن ص 204، 205.
(2) الداء والدواء ص 55، 56.(1/176)
وقال بعض المفسرين: إن (المبين) وصف لله تعالى، أي: أن الله تعالى مبين وهادٍ. وممن مال إلى ذلك: الإمام الطبري، والقرطبي وغيرهما.
يقول الطبري رحمه الله تعالى: "وقوله: { وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ } ، يقول: ويعلمون أن الله هو الحق الذي بين لهم حقائق ما كان يعدهم في الدنيا من العذاب، ويزول حينئذ الشك فيه عند أهل النفاق الذين كانوا فيما كان يعدهم في الدنيا يمترون"(1)1).
وعلى هذا القول يكون (المبين) من أسمائه سبحانه وسيأتي تفصيل هذا الاسم الكريم في بابه إن شاء الله تعالى. وذكره هنا لاقترانه باسمه سبحانه (الحق) والتماس سر اقتران هذين الاسمين الكريمين. وعن ذلك يقول صاحب التحرير والتنوير: "ومعنى كونهم يعلمون أن الله هو الحق المبين: أنهم يتحققون ذلك يومئذ بعلم قطعي، لا يقبل الخفاء ولا التردد وإن كانوا عالمين ذلك من قبل، لأن الكلام جار في موعظة المؤمنين؛ ولكن نزل علمهم المحتاج للنظر، والمعرض للخفاء والغفلة منزلة عدم العلم، ويجوز أن يكون المراد بـ: { ¨tûïد%©!$# يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ } [النور: 23]. خصوص عبد الله بن أبي بن سلول ومن يتصل به من المنافقين المبطنين الكفر بل الإصرار على ذنب الإفك إذ لا توبة لهم فهم مستمرون على الإفك فيما بينهم، لأنه زين عند أنفسهم، فلم يروموا الإقلاع عنه في بواطنهم مع علمهم بأنه اختلاق منهم؛ لكنهم لخبث طواياهم يجعلون الشك الذي خالج أنفسهم بمنزلة اليقين فهم ملعونون عند الله في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم في الآخرة، ويعلمون أن الله هو الحق المبين فيما كذبهم فيه من حديث الإفك وقد كانوا من قبل مبطنين الشرك مع الله جاعلين الحق ثابتًا لأصنامهم"(2)2).
- - -
(19) [المتكبر]
__________
(1) تفسير الطبري 18/106.
(2) التحرير والتنوير 9/163.(1/177)
ورد اسمه سبحانه (المتكبر) في القرآن مرة واحدة وذلك في قوله تعالى: { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) }
[الحشر: 23].
المعنى اللغوي:
قال الراغب: "عن ابن السكيت أنه قال: كبْر الشيء: معظمه. قال: والكبْر من التكبير أيضًا، فأما الكُبْر بالضم: فهو أكبر ولد الرجل. وهذه الصفة لا تكون إلا لله خاصة؛ لأن الله عز وجل هو الذي له القدرة والفضل الذي ليس لأحد مثله، وهو الذي يستحق أن يقال له: المتكبر. وقوله سبحانه : { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } أي أعظمنه. والكِبَر مصدر الكبير في السن"(1)1).
المعنى في حق الله تعالى:
"(المتكبر) العظيم ذو الكبرياء، المتعالي عن صفات خلقه، المتكبر على عتاتهم. والكبرياء: العظمة والملك. وقيل: هي عبارة عن كمال الذات، وكمال الوجود، ولا يوصف بها على وجه المدح إلا الله"(2)2).
وقال الخطابي: "المتكبر: المتعالي عن صفات الخلق. ويقال: هو الذي يتكبر على عتاة خلقه إذا نازعوه العظمة فيقصمهم. والتاء في المتكبر : تاء التفرد، والتخصص بالكبر، لا تاء التعاطي والتكلف"(3)1).
وقال قتادة: (المتكبر) أي: تكبر عن كل شر(4)2).
وقيل: (المتكبر) هو الذي تكبر عن ظلم عباده وهو يرجع إلى الأول(5)3).
مما سبق من النقولات يمكن فهم معنى اسمه سبحانه (المتكبر) في المعاني التالية:
1- المتكبر والمتنزه عن كل سوء وشر.
2- المتكبر على عتاة خلقه وجبابرتهم إذا نازعوه العظمة فيقصمهم.
3- المتكبر عن ظلم عباده فلا يظلم أحدًا.
4- المتكبر والمتعالي عن صفات خلقه فلا شيء مثله.
5- الذي كبر وعظم فكل شيء دون جلاله صغير وحقير.
__________
(1) المفردات للراغب.
(2) لسان العرب 3/210.
(3) شأن الدعاء ص 48.
(4) تفسير الطبري 28/37.
(5) نفس المصدر السابق 28/37.(1/178)
وثبت عنه × أنه قال: (يقول الله - عز وجل -: العز إزاري، والكبرياء ردائي فمن نازعني عذبته) (1)4).
وقد كان النبي × يسبح ربه سبحانه ويثني عليه في ركوعه وسجوده بهذا الدعاء: (سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة) (2)5).
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (المتكبر):
1- امتلاء القلب بخلق التواضع لله تعالى بتوحيده وعبادته، والانقياد للحق الذي جاء في كتابه سبحانه وعلى لسان رسوله ×. والتواضع لعباد الله وعدم التكبر عليهم، والبعد عن ظلمهم وهضم حقوقهم. قال ×: (الكبر بطر الحق وغمط الناس) (3)1). وبقدر ما في القلب من تعظيم الله تعالى والإيمان بكبريائه وجلاله يكون التواضع للحق وترك احتقار الخلق.
قال ×: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لايفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد) (4)2).
وللإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - كلام نفيس عن التواضع للحق وصوره وأصناف الناس في تكبرهم على الحق فيقول: "التواضع للدين هو: الانقياد لما جاء به الرسول ×، والاستسلام له، والإذعان. وذلك بثلاثة أشياء:
الأول: أن لا يعارض شيئًا مما جاء به بشيء من المعارضات الأربعة السارية في العالم، المسماة بالمعقول والقياس، والذوق، والسياسة.
فالأول: للمنحرفين - أهل الكبر من المتكلمين - الذين عارضوا نصوص الوحي بمعقولاتهم الفاسدة، وقالوا: إذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل وعزلنا النقل، إما عَزْل تفويض، وإما عَزْل تأويل.
والثاني: للمتكبرين - من المنتسبين إلى الفقه - قالوا: إذا عارض القياس والرأي النصوص، قدمنا القياس على النص ولم نلتفت إليه.
__________
(1) مسلم (2620) في البر والصلة باب تحريم الكبر، وأحمد في المسند 2/376.
(2) رواه النسائي في الصلاة باب أذكار الركوع، وصححه الألباني في صحيح النسائي (1004).
(3) مسلم (91).
(4) مسلم (2865).(1/179)
والثالث: للمتكبرين المنحرفين - من المنتسبين إلى التصوف والزهد - فإذا تعارض عندهم الذوق والأمر، قدَّموا الذوق والحال ولم يعبؤوا بالأمر.
والرابع: للمتكبرين المنحرفين - من الولاة والأمراء الجائرين - إذا تعارضت عندهم الشريعة والسياسة، قدموا السياسة ولم يلتفتوا إلى حكم الشريعة.
فهؤلاء الأربعة: هُم أهل الكبر. والتواضع: التخلص من ذلك كله.
الثاني: أن لا يتهم دليلاً من أدلة الدين، بحيث يظنه فاسد الدلالة، أو ناقص الدلالة أو قاصرها، أو أن غيره كان أولى منه، ومتى عرض له شيء من ذلك فليتهم فهمه، وليعلم أن الآفة منه، والبلية فيه، كما قيل:
وَكَمْ مِنْ عَائِب قَوْلاً صَحِيحًا وَآفَتُهُ مِنَ الفَهْم السَّقِيمِ
وَلكِنْ تَأخُذُ الأذهَانُ مِنْهُ عَلَى قَدْرِ القَرَائِحِ وَالفُهُومِ
وهكذا الواقع في حقيقة أنه ما اتهم أحد دليلاً للدين إلا وكان هو المتهم الفاسد الذهن، المأفون في عقله وذهنه، فالآفة من الذهن العليل لا في نفس الدليل.
وإذا رأيت من أدلة الدين ما يشكل عليك، وينبو فهمك عنه فاعلم أنه لعظمته وشرفه استعصى عليك، وأن تحته كنزًا من كنوز العلم، ولم تؤت مفتاحه بعد هذا في حق نفسك.
وأما بالنسبة إلى غيرك فاتهم آراء الرجال على نصوص الوحي، وليكن ردها أيسر شيء عليك للنصوص، فما لم تفعل ذلك فلست على شيء: ولو .. ولو .. وهذا لا خلاف فيه بين العلماء.
قال الشافعي قدَّس الله روحه: "أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله ×: لم يحل له أن يَدَعَهَا لقول أحَد".
الثالث: أن لا يجد إلى خلاف النص سبيلاً البتة، لا بباطنه ولا بلسانه ولا بفعله ولا بحاله، بل إذا أحس بشيء من الخلاف فهو كخلاف المُقْدِمِ على الزنا، وَشُرْب الخمر، وقتل النفس، بل هذا الخلاف أعظم عند الله من ذلك، وهو داع إلى النفاق، وهو الذي خافه الكبار والأئمة على نفوسهم (1)1).
__________
(1) مدارج السالكين 2/334، 335.(1/180)
2- الخوف من الله - عز وجل - والحياء منه مما يكن له الأثر في المبادرة إلى طاعته فيما أمر به، واجتناب ما عنه نهى وزجر، والإخلاص له سبحانه في ذلك، وتعظيم أمره، والانقياد لحكمه.
3- اليقين بأنه ما من متكبر وطاغية إلا وسيقصمه الله - عز وجل - في الدنيا والآخرة؛ قال الله - عز وجل -: { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَن اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) } [فصلت: 15، 16]، وفي الآخرة يقول الله - عز وجل -: { فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) } [الأحقاف: 20]، وقال الرسول ×: (يحشر الجبارون والمتكبرون يوم القيامة أمثال الذر يطأهم الناس) (1)1). وهذا يثمر في قلب المؤمن عدم الاغترار بقوة الكافر وجبروته؛ فإن الله عز وجل فوقهم وقاصمهم إذا أخذ المؤمنون بأسباب النصر وشروطه.
اقتران اسمه سبحانه (المتكبر) باسمه سبحانه (الجبار)، (العزيز):
يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى - عن هذا الاقتران: "جعل سبحانه اسمه (الجبار) مقرونًا بـ: (العزيز والمتكبر)، وكلُّ واحدٍ من هذه الأسماء الثلاثة تضمَّن الاسمين الآخرين.
وهذه الأسماء الثلاثة نظير الأسماء الثلاثة وهي: { الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ } [الحشر: 24].
__________
(1) مسند أحمد (6677)، والبخاري في الأدب المفرد (568)، وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد (434).(1/181)
فـ (الجبَّار)، (المُتكبِّر) يجريان مجرى التفصيل لمعنى اسم (العزيز)، كما أن (البارئ المصور): تفصيل لمعنى اسم (الخالق).
فـ(الجبار) من أوصافه يرجع إلى كمال القدرة، والعزة، والملك.
ولهذا كان من أسمائه الحسنى، وأما المخلوق فاتصافه بالجبار: ذمٌّ له ونقصٌ، كما قال تعالى: { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) } [غافر: 35] " (1)2).
- - -
(20) [العظيم]
ورد هذا الاسم الكريم في القرآن الكريم في تسع آيات منها:
قوله - عز وجل -: { وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) }
[البقرة: 255].
وقوله تبارك وتعالى: { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) } [الشورى: 4].
وقوله سبحانه: { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) } [الواقعة: 96].
وقوله - عز وجل -: { إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) } [الحاقة: 33].
وقد أمر النبي × أن يسبح بهذا الاسم في الركوع؛ وذلك في قوله ×: (... فأما الركوع فعظموا فيه الرب - عز وجل - وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم)(2).
فإن الذكر الواجب في الركوع هو قول: "سبحان ربي العظيم"، كما نقل ذلك في كيفية صلاة النبي ×. وثبت عنه × أنه كان يدعو عند الكرب فيقول: (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم)(3).
المعنى اللغوي (للعظيم):
العظيم: خلاف الصغير، عَظُم يَعظُم عِظمًا وعظامَة: كَبُر. وهو عظيم وعُظام، وعَظَّم الأمر: كبره، وأعظمه، واستعظمه: رآه عظيمًا فهو مُعْظم.
والتعظيم: التبجيل، والعظمة: الكبرياء.
__________
(1) شفاء العليل 1/121.
(2) رواه مسلم (479).
(3) البخاري (6345)، ومسلم (2730).(1/182)
والتعظيم في النفس: هو الكبر والزهو والنخوة، والعظمة والعظموت: الكبر(1).
أما معناه في حق الله تعالى:
قال الزجاجي: "(العظيم): ذو العظمة والجلال في ملكه وسلطانه - عز وجل -، كذلك تعرفه العرب في خطبها ومحاوراتها، يقول قائلهم: من عظيم بني فلان اليوم؟ أي: من له العظمة والرئاسة فيقال له: فلان عظيمهم، ويقولون: هؤلاء عظماء القوم أي: رؤساءهم وذو الجلالة والرئاسة منهم..."(2).
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى:
وهو العظيم بكل معنى يوجبڑڑالتعظيم لا يحصيه من إنسان(3)
فهو عظيم في كل شيء، عظيم في ذاته وفي أسمائه وصفاته، عظيم في رحمته، عظيم في قدرته، عظيم في حكمته، عظيم في جبروته وكبريائه، عظيم في هبته وعطائه، عظيم في لطفه وخبرته، عظيم في بره وإحسانه، عظيم في عزته وعدله وحمده، فهو العظيم المطلق، فلا أحد يساويه، ولا عظيم يدانيه"(4).
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "العظيم الجامع لجميع صفات العظمة والكبرياء، والمجد والبهاء الذي تحبه القلوب، وتعظمه الأرواح، ويعرف العارفون أن عظمة كل شيء، وإن جلت في الصفة، فإنها مضمحلة في جانب عظمة العلي العظيم.
والله تعالى عظيم له كل وصف، ومعنى يوجب التعظيم فلا يقدر مخلوق أن يثني عليه، كما ينبغي له ولا يحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه عباده.
واعلم أن معاني التعظيم الثابتة لله وحده نوعان:
__________
(1) انظر الصحاح 5/1987، واللسان 4/3004، 3005.
(2) اشتقاق أسماء الله (ص 111، 112).
(3) الكافية الشافية البيت رقم (3222).
(4) انظر أسماء الله الحسنى للأشقر ص 146.(1/183)
أحدهما: أنه موصوف بكل صفة كمال، وله من ذلك الكمال أكمله، وأعظمه وأوسعه، فله العلم المحيط، والقدرة النافذة، والكبرياء، والعظمة، ومن عظمته أن السماوات والأرض في كف الرحمن أصغر من الخردلة كما قال ذلك ابن عباس وغيره، وقال تعالى: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [الزمر: 67]، وقال: { * إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ } [فاطر: 41]، وقال تعالى وهو العلي العظيم: { تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ } الآية [الشورى: 5].
وفي الصحيح عنه ×: (إن الله يقول الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما عذبته) (1)، فلله تعالى الكبرياء والعظمة، والوصفان اللذان لا يقدر قدرهما ولا يبلغ كنههما.
النوع الثاني من معاني عظمته تعالى: أنه لا يستحق أحد من الخلق أن يعظم كما يعظم الله؛ فيستحق - جل جلاله - من عباده أن يعظموه بقلوبهم، وألسنتهم، وجوارحهم؛ وذلك ببذل الجهد في معرفته، ومحبته، والذل له، والانكسار له، والخضوع لكبريائه، والخوف منه، وإعمال اللسان بالثناء عليه، وقيام الجوارح بشكره وعبوديته. ومن تعظيمه: أن يُتَّقى حق تقاته؛ فيطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر. ومن تعظيمه: تعظيم ما حرَّمه وشرعه من زمان ومكان وأعمال: { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) } [الحج: 32]، { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ } [الحج: 30]، ومن تعظيمه: أن لا يعترض على شيء مما خلقه أو شرعه"(2).
__________
(1) سبق تخريجه ص 228.
(2) الحق الواضح المبين ص 27، 28.(1/184)
ومن دواعي تعظيمه سبحانه: التفكير في عظمة خلقه سبحانه ودقة صنعه في الآفاق والأنفس، والتفكر في قهره وقصمه للجبابرة، والمستكبرين الغابرين.
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (العظيم):
1- الخشوع والخضوع لله تعالى والاستكانة والتذلل لعظمته وجبروته ومحبته، وإفراده وحده بالعبادة، ولذا شرعت الصلاة التي كلها - أركانها وواجباتها وأذكارها - فيها التعظيم لله تعالى والخضوع لعظمته، وإفراده وحده بالعبادة.
ويصف الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - الركوع في الصلاة فيقول: "ثم يرجع جاثيًا له ظهره خضوعًا لعظمته؛ وتذللاً لعِزَّته؛ واستكانة لجبروته، مسبحًا له بذكر اسمه (العظيم)" .
فنزَّه عظمته عن حال العبد وذلِّه وخضوعه، وقابل تلك العظمة بهذا الذُلِّ والانحناء والخضوع، قد تطامن وطأطأ رأسه وطوى ظهره، وربُّه فوقه يرى خضوعه وذُلَّه؛ ويسمع كلامه، فهو ركنُ تعظيمٍ وإجلالٍ، كما قال ×: (أما الركوع: فعظِّموا فيه الربَّ) (1)"(2).
2- ومن تعظيمه سبحانه نفي الشركاء والأنداد عنه قال تعالى: { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4) } [الإخلاص: 4] ، وقال تعالى : { مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) } [نوح: 13].
3- ومن تعظيمه سبحانه إثبات ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله × من الأسماء والصفات الجليلة وتنزيهه وتعظيمه سبحانه من مشابهة أحد من خلقه كما في قوله سبحانه: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) } [الشورى: 11]، ومن نفى عنه سبحانه صفاته أو أولها أو فوض معانيها بدعوى أن إثباتها يوهم تشبيهه بالمخلوقين فقد ضل ضلالاً مبينًا، ولم يعظم ربه سبحانه.
4- تعظيم أمره سبحانه ونهيه، وتعظيم نصوص الكتاب والسنة والاستسلام لها وعدم التقدم بين يدي الله تعالى ورسوله × برأي أو اجتهاد.
__________
(1) سبق تخريجه ص 233.
(2) شفاء العليل 2/630.(1/185)
قال الله تعالى: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) }
[النساء: 65].
5- تعظيم شعائر الله وحرماته؛ قال الله تعالى: { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ } [الحج: 30]، وقال سبحانه: { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) } [الحج: 32].
ومن تعظيم شعائر الله تعالى تعظيم الحج وشعائره كالصفا والمروة، والذبح لله تعالى، وتعظيم شعيرة الصلاة، والزكاة، والصيام، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغيرها من شعائر الله تعالى وفرائضه.(1/186)
ومن تعظيم حرمات الله تعالى تعظيم مناهيه واجتنابها، كالربا والزنا وشرب الخمر وسائر الكبائر والمحرمات، فاجتناب محارم الله تعالى دليل على تعظيم الله تعالى وتوقيره ولتعظيم أوامر الله تعالى ومناهيه علامات: يشرح بعضها الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - فيقول: "تعظيم الأمر والنهي ناشئ عن تعظيم الآمر والناهي فإن الله تعالى ذم من لا يعظم أمره ونهيه وقال سبحانه وتعالى: { مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) } [نوح: 13]، قالوا في تفسيرها: ما لكم لا تخافون لله تعالى عظمة... وأول مراتب تعظيم الحق - عز وجل - تعظيم أمره ونهيه... وإنما يكون ذلك بتعظيم أمر الله - عز وجل - واتباعه، وتعظيم نهيه واجتنابه، فيكون تعظيم المؤمن لأمر الله تعالى ونهيه دالاً على تعظيمه لصاحب الأمر والنهي، ويكون بحسب هذا التعظيم من الأبرار المشهود لهم بالإيمان، والتصديق وصحة العقيدة، والبراءة من النفاق؛ فإن الرجل قد يتعاطى فعل الأمر لنظر الخلق وطلب المنزلة والجاه عندهم، ويتقي المناهي خشية سقوطه من أعينهم، وخشية العقوبات الدنيوية من الحدود التي رتبها الشارع على المناهي فهذا ليس فعله وتركه صادرًا عن تعظيم الأمر والنهي، ولاتعظيم الآمر والناهي.(1/187)
ومن علامات التعظيم للأوامر: رعاية أوقاتها وحدودها، والتفتيش على أركانها وواجباتها وكمالها، والحرص على تحينها في أوقاتها، والمسارعة إليها عند وجوبها، والحزن والكآبة والأسف عند فوت حق من حقوقها كمن يحزن على فوت الجماعة، ويعلم أنه لو تقبلت منه صلاته منفردًا فإنه قد فاته سبعة وعشرون ضعفًا، ولو أن رجلاً يعاني البيع والشراء تفوته صفقة واحدة في بلده من غير سفر ولا مشقة قيمتها سبعة وعشرون دينارًا لأكل يديه ندمًا وأسفًا، فكيف وكل ضعف مما تضاعف به صلاة الجماعة خير من ألف، وألف ألف، وما شاء الله تعالى، فإذا فوّت العبد عليه هذا الربح قطعًا، وهو بارد القلب فارغ من هذه المصيبة غير مرتاع لها ، فهذا من عدم تعظيم أمر الله تعالى في قلبه، وكذلك إذا فاته أول الوقت الذي هو رضوان الله تعالى، أو فاته الصف الأول... وكذلك فوت الخشوع في الصلاة، وحضور القلب فيها. وينبغي أن يعلم أن سائر الأعمال تجري هذا المجرى، فتفاضل الأعمال عند الله تعالى بتفاضل ما في القلوب من الإيمان، والإخلاص، والمحبة، وتوابعها...
وأما علامات تعظيم المناهي: فالحرص على التباعد من مظانها وأسبابها، وما يدعو إليها، ومجانبة كل وسيلة تقرب منها، كمن يهرب من الأماكن التي فيها الصور التي تقع بها الفتنة خشية الافتتان بها، وأن يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس... ومجانبة من يجاهر بارتكابها، ويحسنها، ويدعو إليها، ويتهاون بها، ولا يبالي بما ارتكب منها؛ فإن مخالطة مثل هذا داعية إلى سخط الله تعالى وغضبه، ولا يخالطه إلا من سقط من قلبه تعظيم الله تعالى وحرماته.
ومن علامات تعظيم النهي: أن يغضب لله - عز وجل - إذا انتهكت محارمه، وأن يجد في قلبه حزنًا وحسرة إذا عُصِيَ الله تعالى في أرضه، ولم يُضطلع بإقامة حدوده وأوامره، ولم يستطع هو أن يغير ذلك.(1/188)
ومن علامات تعظيم الأمر والنهي: أن لا يسترسل مع الرخصة إلى حد يكون صاحبه جافيًا غير مستقيم على المنهج الوسط؛ مثال: ذلك أن السنة وردت بالإبراد بالظهر في شدة الحر، فالترخص الجافي أن يبرد إلى فوات الوقت أو مقاربة خروجه فيكون مترخصًا جافيًا...
... فحقيقة التعظيم للأمر والنهي أن لا يعارضا بترخص جاف، ولا يعرضا لتشديد غالٍ؛ فإن المقصود هو الصراط المستقيم الموصل إلى الله - عز وجل - بسالكه. وما أمر الله - عز وجل - بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان إما تقصير وتفريط، وإما إفراط وغلو، فلا يبالي بما ظفر من العبد من الخطيئتين...
... ومن علامات تعظيم الأمر والنهي: أن لا يحمل الأمر على علة تضعف الانقياد والتسليم لأمر الله - عز وجل - بل يسلم لأمر الله تعالى وحكمه، ممتثلاً ما أمر به، سواء ظهرت له حكمته أو لم تظهر، فإن ظهرت له حكمة الشرع في أمره ونهيه حمله ذلك على مزيد الانقياد والبذل والتسليم..." (1).
6- تعظيم كتابه سبحانه وعدم التقدم بين يديه، بحيث ينقاد له ويسلم، ويحكِّمه في الصغير والكبير، ويتحاكم إليه، ويرضى بحكمه ويسلم. فلم يعظم الله - عز وجل - من هجر كتابه ولم يحكم به أو يتحاكم إليه.
7- الاستعانة بالله وحده وصدق التوكل عليه، وتفويض الأمور إليه مع الأخذ بالأسباب المشروعة، وعدم الركون إليها، وإنما الركون إلى الكبير المتعال الذي قهر كل شيء بكبريائه وعظمته، وخضع لسلطانه كل مخلوق مهما علا شأنه، وهذا يورث الطمأنينة والثقة الكاملة بالله - عز وجل - الذي نواصي الخلق بيده سبحانه مما يكون له أثر عظيم في الثبات، ورباطة الجأش عند الشدائد والمخاوف.
__________
(1) الوابل الصيب، ت: بشير عيون ص 12 - 26" باختصار وتصرف يسير".(1/189)
8- الخوف منه سبحانه وحده، وعدم الخوف من المخلوق الضعيف(1) الذي لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعًا، فضلاً عن أن يملكه لغيره، وحينما يذكر العبد ربه باسمه العظيم وتقوم في القلب معانيه وآثاره؛ فإن هذا ينعكس على أعماله وأحواله ومواقفه، بحيث لا تطير نفسه شعاعًا عندما يصدر من مخلوق متمكن تهديد في رزق أو حياة، وإنما تعظيم الله - عز وجل - بلسانه وقلبه يجعله ينظر إلى المخلوق الضعيف بما يناسب قدره، وتستولي على القلب عظمة الله سبحانه وكبرياءه فتتبدد المخاوف ويحل محلها الشجاعة، والطمأنينة، والإقدام، وعدم الانصياع للتهديد والمخاوف.
اقتران اسمه سبحانه (العظيم) باسمه سبحانه (العلي).
قال الله - عز وجل -: { وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) }
[البقرة: 255].
وقال سبحانه: { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) } [الشورى: 4].
وعن بعض أسرار اقتران هذين الاسمين الكريمين يتحدث الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "قد شرع الله سبحانه لعباده ذكر هذين الاسمين: (العلي؛ العظيم) في الركوع والسجود، كما ثبت في الصحيح أنه: (لما نزلت : { فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) } [الواقعة: 74]، قال النبي ×: اجعلوها في ركوعكم. فلما نزلت: { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) } [الأعلى: 1]، قال: اجعلوها في سجودكم)(2).
وهو سبحانه كثيرًا ما يقرن في وصفه بين هذين الاسمين، كقوله: { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) } [الشورى: 4].
وقوله: { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) } [الحج: 62، سبأ: 23].
__________
(1) * والمقصود بالخوف هنا: الخوف الذي يقعد بصاحبه عن فعل واجب أو يدفعه إلى محرم، أما الخوف الجبلي فلا يلام عليه.
(2) لم أقف عليه في الصحيح، ولكن رواه أحمد 4/155، وأبو داود (869)، وضعَّفه الألباني في ضعيف أبي داود (184).(1/190)
وقوله: { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) } [الرعد: 9].
يثبت بذلك علوه على المخلوقات وعظمته، فالعلو: رفعته، والعظمة: عظمة قدره - ذاتًا ووصفًا"(1).
ومن هذه الأسرار الجميلة، والحكم الجليلة المتعلقة بهذا الاقتران: قوله رحمه الله تعالى: "إنه سبحانه قرن بين هذين الاسمين الدالَّيْن على عُلُوِّه وعظمته في آخر آية الكرسي، وفي سورة الشورى، وفي سورة الرعد، وفي سورة سبأ في قوله: { قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) } [سبأ: 23].
ففي آية الكرسي: ذَكَر الحياة - التي هي: أصل جميع الصفات - وذكر معها قيوميته - المقتضية لذاته وبقائه، وانتفاء الآفات جميعها عنه؛ من النوم والسِّنة والعجز وغيرها - ثم ذكر كمال ملكه، ثم عقَّبه بذكر وحدانيته في ملكه؛ وأنه لا يشفع عنده أحدٌ إلا بإذنه، ثم ذكر سعة علمه وإحاطته، ثم عقَّبه بأنه لا سبيل للخلق إلى علم شيءٍ من الأشياء إلا بعد مشيئته لهم أن يعلموه، ثم ذكر سعة كرسيه؛ منبهًا به على سعته - سبحانه - وعظمته وعُلُوّه؛ وذلك توطئة بين يدي ذكر عُلُوِّه وعظمته، ثم أخبر عن كمال اقتداره، وحفظه للعالم العلويِّ والسفليِّ من غير اكتراث ولا مشقةٍ ولا تعبٍ، ثم ختم الآية بهذين الاسمين الجليلين الدالَّيْن على عُلُوِّ ذاته وعظمته في نفسه"(2).
"ولله - عز وجل - صفة كمال من اسمه (العلي)، وصفة كمال من اسمه (العظيم)، وصفة كمال ثالثة من اجتماعهما، فقد حاز العلو بكل أنواعه، وجمع العظمة بكل صورها، فهو عظيم في علوه، عالٍ في عظمته سبحانه ولعل تقديم اسم (العلي) على (العظيم) من تقديم السبب على المسبب لأنه - عز وجل - عظم لعلوه على كل شيء"(3).
__________
(1) الصواعق المرسلة 4/1364.
(2) الصواعق المرسلة 4/1371.
(3) انظر "مطابقة أسماء الله الحسنى مقتضى المقام في القرآن الكريم" د. نجلاء كردي ص 474.(1/191)
اقتران اسمه سبحانه (العظيم) باسمه سبحانه (الحليم):
وقد ورد ذلك في دعاء الكرب حيث ثبت عنه × أنه كان يدعو عند الكرب فيقول: (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم)(1).
ووجه الاقتران بين هذين الاسمين الكريمين واضح وذلك بأن الله - عز وجل - مع أنه العظيم الجبار المتكبر القاهر فوق عباده فإنه سبحانه الجليل الرحيم الرؤوف بعباده، والجمع بين هذين الاسمين الجليلين يدل على صفة كمال وجمال فلم تمنعه عظمته سبحانه وقدرته على خلقه من أن يحلم عنهم، ويصفح ولم يكن حلمه سبحانه عن ضعف وعجز، بل عن عظمة وقدرة وقهر.
- - -
(21) [الكبير]
جاء ذكر اسمه سبحانه (الكبير) في القرآن في ستة مواضع منها:
قوله تعالى: { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) } [الرعد: 9].
وقوله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) } [لقمان: 30]، [ومثل هذه الآية في سورة الحج: 62].
وقوله تعالى: { قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) }
[سبأ: 23].
وقوله سبحانه: { فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) } [غافر: 12].
وقوله تعالى: { فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) } [النساء: 34].
ويلاحظ في هذه الآيات اقتران اسمه سبحانه (الكبير) باسمه - عز وجل - (المتعال)، (العلي) وسيأتي - إن شاء الله تعالى - بيان وجه هذا الاقتران.
المعنى اللغوي (للكبير):
__________
(1) البخاري (6345)، مسلم (2730).(1/192)
"الكاف والباء والراء أصل صحيح يدل على خلاف الصغر. يقال: هو كبير وكبَار، وكبَّار .. ومن الباب الكِبَر: وهو الهرم، والكبر: العظمة. وكذلك الكبرياء، ويقال: ورثوا المجد كابرًا عن كابر أي: كبيرًا عن كبير في الشرف والعز"(1).
معناه في حق الله تعالى:
قال الخطابي: "الكبير: هو الموصوف بالجلال وكبر الشأن. فصغر دون جلاله كل كبير، ويقال: هو الذي كبر عن شبه المخلوقين"(2).
وقال الزجاجي: "والكبير: العظيم الجليل؛ يقال: فلان كبير بني فلان، أي: رئيسهم وعظيمهم، ومنه قوله: { إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا } [الأحزاب: 67]، أي: عظماءنا ورؤساءنا. وكبرياء الله: عظمته وجلاله) (3).
وقال ابن جرير: " (الكبير) يعني العظيم الذي كل شيء دونه ولا شيء أعظم منه"(4).
ويقول الشيخ السعدي - رحمه الله تعالى - عن أسمائه: (المجيد الكبير، العظيم): "وهوالموصوف بصفات المجد، والكبرياء، والعظمة، والجلال الذي هو أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء وأجل وأعلى، وله التعظيم والإجلال في قلوب أوليائه وأصفيائه، قد ملئت قلوبهم من تعظيمه وإجلاله والخضوع له والتذلل لكبريائه"(5).
وما سبق أن قيل في أسمائه سبحانه: (المتكبر، العظيم) يصلح أن يقال هنا للتشابه بين هذه الأسماء الحسنى.
وإن من أعظم الأذكار التي يحبها الله - عز وجل - والتي شرعها في كتابه وسُّنة نبيه ×: ذكره سبحانه بالتكبير؛ وذلك بقول: "الله أكبر". ولو تتبعنا المواطن التي شرع فيها هذا الذكر العظيم المحبوب لله تعالى وندب الناس إليه وحثهم عليه لوجدناها كثيرة جدّاً.
فمن ذلك:
__________
(1) انظر: مقاييس اللغة (كبُرَ).
(2) شأن الدعاء ص 66.
(3) اشتقاق الأسماء ص155.
(4) تفسير الطبري 13/75.
(5) تفسير السعدي 6/487.(1/193)
1- قول الله تعالى بعد آيات الصيام: { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) } [البقرة: 185]؛ والمقصود به التكبير ليلة عيد الفطر إلى أن تنقضي الصلاة.
2- وقوله - عز وجل - عن ذبح الأنساك في الحج: { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) [الحج: 37].
3- قول: " الله أكبر" للدخول في الصلاة، فتحريم الصلاة التكبير، وتحليلها السلام.
4- وكذلك تكرار التكبير للانتقال من ركن إلى ركن في الصلاة.
5- الإتيان به في الأذان والإقامة في أولها وآخرها وبصورة مكررة.
6- عند الشروع في الطواف حول الكعبة، وعند محاذاة الحجر الأسود في كل شوط.
7- عند الصفا والمروة في السعي بينهما.
8- عند ركوب الدابة في السفر، وعند الارتفاع على كل شرف من الأرض.
9- عند رمي الجمرات في الحج.
10- مشروعيته في عشر ذي الحجة وأيام التشريق.
11- مشروعيته مع التسبيح والتحميد عقب صلاة الفريضة.
12- مشروعيته مع التسبيح والتحميد عند النوم.
13- مشروعيته مع التسبيح والتحميد عند ما يتعارّ الإنسان من نومه.
14- عند رؤية الهلال في أول الشهر.
15- الذكر المطلق بالتكبير والتحميد والتسبيح والتهليل، وأنهن الباقيات الصالحات وأنهن من أحب الكلمات إلى الله تعالى.
16- قول: "بسم الله والله أكبر" عند ذبح الأضحية والهدي، والذبح عمومًا.
17- قولها في الجهاد في سبيل الله تعالى وأثر ذلك في هزيمة الأعداء وسقوط المدن، كما قالها الرسول × في فتح خيبر، وكما أخبر الرسول × عن الجيش الذي يغزو القسطنطينية في آخر الزمان وأنه بالتكبير تسقط جوانب المدينة جانبًا جانبًا.(1/194)
18- عند رؤية آيات الله - عز وجل - وعند التعجب وتعظيم الله - عز وجل - وقد أوردت الأمثلة السابقة دون أدلتها طلبًا للاختصار ولاستفاضة صحتها ومعرفتها عند العام والخاص، كالتكبير في الصلاة والأذان، والأذكار دبر الصلوات، ومن أراد الوقوف على أدلة كل حالة فليرجع إلى ذلك في مظانها ككتب الأذكار والدعوات.
وأود في هذه العجالة الوقوف عند هذا الذكر الجليل وما يحمله من معاني العظمة، والجلال، والكبرياء، وما ينبغي أن يثمره في قلب المؤمن وأعماله من الآثار التي تدل على تكبير الله - عز وجل - وتعظيمه، وتعظيم أوامره؛ قال الله - عز وجل -: { وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111) } [الإسراء: 111].
وبالتأمل في هذه المواطن والأحوال التي شرع فيها هذا الذكر العظيم نجده إما قبل الشروع في عبادة أو بعدها، أو في المواضع الكبار التي يجتمع فيها الناس، أو في حضور عدو من شياطين الجن أو الإنس، أو عند رؤية آية من آيات الله - عز وجل -.
وعن سر التكبير في هذه المواطن يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - بعد أن ساق بعض هذه المواضع: "... وهذا كله يبين أن التكبير مشروع في المواضع الكبار لكثرة الجمع، أو لعظمة الفعل، أو لقوة الحال أو نحو ذلك من الأمور الكبيرة ليبين أن الله أكبر وتستولي كبرياؤه في القلوب على كبرياء تلك الأمور الكبار؛ فيكون الدين كله لله، ويكون العباد له مكبرين، فيحصل لهم مقصودان: مقصود العبادة بتكبير قلوبهم لله، ومقصود الاستعانة بانقياد الطالب لكبريائه" (1).
وعن معنى "الله أكبر": يقول رحمه الله تعالى: "وفي قول "الله أكبر" إثبات عظمته، فإن الكبرياء يتضمن العظمة، ولكن الكبرياء أكمل ولهذا جاءت الألفاظ المشروعة في الصلاة والأذان بقول "الله أكبر" فإن ذلك أكمل من قول الله أعظم"(2).
__________
(1) مجموع الفتاوى 4/229.
(2) مجموع الفتاوى 10/253.(1/195)
ويقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عن معنى التكبير: "... فالله سبحانه أكبر من كل شيء، ذاتًا وقدرًا وعزة وجلالة، فهو أكبر من كل شيء في ذاته وصفاته وأفعاله"(1).
ويفصل ابن القيم - رحمه الله تعالى - سر التكبير في بعض المواضع فيقول عن التكبير للدخول في الصلاة: "... لما كان المصلي قد تخلى عن الشواغل وقطع جميع العلائق وتطهر وأخذ زينته وتهيأ للدخول على الله تعالى ومناجاته، شرع له أن يدخل دخول العبيد على الملوك، فيدخل بالتعظيم والإجلال، فشرع له أبلغ لفظ يدل على هذا المعنى وهو قول: "الله أكبر" فإن في اللفظ من التعظيم والتخصيص والإطلاق في جانب المحذوف المجرور بمن ما لا يوجد في غيره"(2).
ويقول أيضًا عن سر التكبير في الصلاة ".. فإن العبد إذا وقف بين يدي الله - عز وجل - وقد علم أن لا شيء أكبر منه، وتحقق قلبه ذلك وأشربه سره استحيا من الله ومنعه وقاره وكبرياؤه أن ينشغل قلبه بغيره وما لم يستحضر هذا المعنى فهو واقف بين يديه بجسمه، وقلبه يهيم في أودية الوساوس والخطرات، وبالله المستعان، فلو كان الله أكبر من كل شيء في قلب هذا لما اشتغل عنه بصرف كلية قلبه إلى غيره، كما أن الواقف بين يدي الملك المخلوق لما لم يكن في قلبه أعظم منه لم يشغل قلبه بغيره، ولم يصرفه عنه صارف"(3).
__________
(1) الصواعق المرسلة 4/1379.
(2) بدائع الفوائد 2/22.
(3) حاشية ابن القيم على سنن أبي داود 1/64.(1/196)
وعن سر التكبير عند رؤية الحريق وأثر ذلك في إخماده يقول رحمه الله تعالى: "... لما كان الحريق سببه النار وهي مادة الشيطان التي خلق منها، وكان فيه من الفساد العام ما يناسب الشياطين بمادته وفعله، كان للشيطان إعانة عليه، وكانت النار تطلب بطبعها العلو والفساد، وهذان الأمران وهما العلو في الأرض والفساد، هما هدي الشيطان وإليهما يدعو وبهما يهلك بني آدم. فالنار، والشيطان كل منهما يريد العلو في الأرض والفساد. وكبرياء الرب - عز وجل - تقمع الشيطان وفعله، ولهذا كان تكبير الله - عز وجل - له أثر في إطفاء الحريق، فإن كبرياء الله - عز وجل - لا يقوم لها شيء، فإذا كبر المسلم ربه، أثر تكبيره في خمود النار وخمود الشيطان التي هي مادته فيطفئ الحريق وقد جربنا نحن وغيرنا فوجدناه كذلك والله أعلم"(1).
ويقول الشيخ السعدي - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: { وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } [البقرة: 185]: "أي: تعظموه وتجلوه على ما هداكم، أي: مقابلة لهدايته إياكم، فإنه يستحق أكمل الثناء وأجل الحمد، وأعلى التعظيم"أهـ(2).
وقد ورد ذكر التكبير على الهداية في موضعين من القرآن:
الأول: بعد ذكر الصيام وما شرعه الله - عز وجل - فيه من الرخصة والتيسير، قال: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) } [البقرة: 185]، وقد أخذ كثير من المفسرين من هذه الآية مشروعية التكبير بعد رؤية هلال شهر شوال إلى انقضاء صلاة العيد.
__________
(1) زاد المعاد 4/212، 213.
(2) تفسير السعدي 3/293.(1/197)
والثاني: بعد قضاء مناسك الحج، وعند ذبح الهدي والأضاحي، قال تعالى: { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) } [الحج: 37] وعن مشروعية التكبير على الهداية يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: "ولهذا شرع التكبير على الهداية والرزق والنصر، لأن هذه الثلاثة أكبر ما يطلب العبد وهي جماع مصالحه. والهدى أعظم من الرزق والنصر، لأن الرزق والنصر قد لا ينتفع بهما إلا في الدنيا، وأما الهدى فمنفعته في الآخرة قطعًا" أهـ(1).
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (الكبير):
يراجع ما كتب عن آثار الإيمان باسميه سبحانه (المتكبر، العظيم).
اقتران اسمه سبحانه (الكبير) باسمه سبحانه (العلي)، وباسمه سبحانه (المتعال):
ورد اقتران اسمه سبحانه (الكبير) باسمه سبحانه (العلي) في سورة الحج، وسورة لقمان ، وسورة غافر، وسورة سبأ، وسورة النساء وقد سبق ذكر هذه الآيات فليرجع إليها.
أما اقتران اسمه سبحانه (الكبير) باسمه سبحانه (المتعال) فلم يرد إلا مرة واحدة في سورة الرعد، وقد سبق ذكر هذه الآية، ويمكن أن يقال عن المعنى الزائد المستفاد من الجمع بين (العلي) (والكبير) ما قيل سابقًا في اقتران اسمه سبحانه (العلي) باسمه سبحانه (العظيم) فليرجع إليه، كما يمكن أن يضاف ما ذكره الشيخ السعدي - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } في سورة سبأ حيث يقول: "وهو (العلي) بذاته فوق جميع المخلوقات وقهره لهم وعلو قدره، لما له من الصفات العظيمة، الجليلة المقدار. (الكبير) في ذاته وصفاته ومن علوه أن حكمه تعالى، يعلو وتذعن له النفوس، حتى نفوس المتكبرين والمشركين"(2).
- - -
(22، 23، 24): [العلي، الأعلى، المتعال]
__________
(1) مجموع الفتاوى 24/229.
(2) تفسير السعدي 4/188.(1/198)
جاء ذكر هذه الأسماء الحسنى في أكثر من آية في كتاب الله - عز وجل - حيث جاء ذلك في ثمان آيات، وقد مر أكثرها عند الكلام عن اسميه سبحانه (الكبير)، (العظيم).
ودليل اسمه سبحانه (العلي)، قوله تعالى: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) } [البقرة: 255]، وأما دليل اسمه سبحانه: (الأعلى)، قوله - عز وجل -: { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) } [الأعلى: 1]، وأما دليل اسمه سبحانه (المتعالي) قوله سبحانه: { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) } [الرعد:9].
واشتقاق هذه الأسماء واحد، ومعناها متقارب. قال في لسان العرب: "والله - عز وجل - هو العلي المتعالي العالي الأعلى ذو العلا والعلاء والمعالي، تعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا، وهو الأعلى سبحانه بمعنى: العالي؛ وتفسير (تعالى): جل ونبا عن كل ثناء، فهو أعظم وأجل وأعلى مما يُثنى عليه، لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ قال الأزهري: وتفسير هذه الصفات لله سبحانه يقرب بعضها من بعض (فالعلي) الشريف، فعيل من علا يعلو، وهو بمعنى العالي، وهو الذي ليس فوقه شيء، ويقال: هو الذي علا الخلق فقهرهم بقدرته. وأما (المتعالي): فهو الذي جل عن إفك المفترين، وتنزه عن وساوس المتحيرين، وقد يكون (المتعال) بمعنى: العالي. (والأعلى): هو الله الذي هو أعلى من كل عالٍ، واسمه (الأعلى) أي: صفته أعلى الصفات. والعلاء: الشرف؛ وذو العلا: صاحب الصفات العلا، والعُلا: جمع العليا أي: جمع الصفة العُلْيا والكلمة العليا، ويكون (العُلى) جمع الاسم الأعلى؛ وصفة الله العليا - أي ما يصف به العبد ربه- شهادة أن لا إله إلا الله، فهذه أعلى الصفات، ولا يوصف بها غير الله وحده لا شريك له، ولم يزل الله عليًا عاليًا متعاليًا، تعالى الله عن إلحاد الملحدين، وهو العلي العظيم"(1).
__________
(1) لسان العرب 4/3089.(1/199)
المعنى في حق الله تعالى:
يقول ابن جرير رحمه الله تعالى: "وأما تأويل قوله: (وهو العلي) فإنه يعني: والله العلي، والعلي الفعيل من قولك: علا يعلو علوًا إذا ارتفع فهو عالٍ وعلي، والعلي: ذو العلو والارتفاع على خلقه بقدرته"(1).
وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: " (العلي، الأعلى) هو الذي له العلو المطلق من جميع الوجوه: علو الذات، وعلو القدر والصفات، وعلو القهر.
فهو الذي على العرش استوى، وعلى الملك احتوى، وبجميع صفات العظمة والكبرباء والجلال والجمال وغاية الكمال اتصف، وإليه فيها المنتهى"(2).
والله - تبارك وتعالى - له جميع أنواع العلو، ومن أنكر شيئًا منها، فقد ضل ضلالاً بعيدًا، وقد جاءَت النصوص بإثبات أنواع العلو لله، وهي:
1- علو الذات، فالله - تبارك وتعالى - مستو على عرشه، وعرشه فوق مخلوقاته، كما قال تعالى: { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [يونس: 3].
وقال: { اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } ، { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5].
والله مستو على عرشه فوق عباده، كما قال تبارك وتعالى: { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } [الأنعام: 18].
وقال: { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) (50) } [النحل: 50].
وفي إثبات علو الذات الإلهية يقول ابن القيم في نونيته:
فهو العلي بذاته سبحانه
إذ يستحيل خلاف ذا ببيان
وهو الذي حَقّاً على العرش استوى
قد قام بالتدبير للأكوان(3)
__________
(1) تفسير الطبري 3/13.
(2) تفسير السعدي 5/487، طبعة دار المدني.
(3) النونية 2/213.(1/200)
2- علو القهر والغلب، كما قال تعالى: { هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) } [الزمر:4]. فلا ينازعه منازع، ولا يغلبه غالب، وكل مخلوقاته تحت قهره وسلطانه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن ، وقد وصف الحق - تبارك وتعالى - نفسه بصفات كثيرة تدل على علو القهر والغلب كالعزيز، والقوي، والقدير، والقاهر والغالب ونحو ذلك. قال سبحانه: { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } [الأنعام: 18].
3- علو المكانة والقدر، وهو الذي أطلق عليه القرآن: "المثل الأعلى" كما في قوله تعالى: { وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى } [النحل: 60]، وقوله: { وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) }
[الروم: 27].
فالمثل الأعلى: الصفات العليا التي لا يستحقها غيره، فالله هو الإله الواحد الأحد، وهو متعال عن الشريك والمثيل والند والنظير: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4) } [الإخلاص: 1- 4].
وفي إثبات كل أنواع العلو للعلي العظيم يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:
وهو العلي فكل أنواع العلو له فثباته بلا نكران (1)
ويقول أيضًا: في نونيته مبينًا اسمي الجلالة (الأعلى، والعلي) ودلالتهما على علو الله تعالى على خلقه:
هذا وثانيها صريح علوه وله بحكم صريحه لفظان
لفظ العلي ولفظة الأعلى معرَّفة أتتك هنا لقصد بيان
إن العلو له بمطلقه على التعميم والإطلاق بالبرهان
وله العلو من الوجوه جميعها ذاتًا وقهرًا من علو الشان(2)
من آثار الإيمان بهذه الأسماء الحسنى:
1- الخضوع لله تعالى والإخبات، والتذلل له مع محبته وتعظيمه وإجلاله، وهذان هما ركنا العبودية لله تعالى إذ إن حقيقة العبودية لله تعالى إنما تنشأ من غاية الحب لله تعالى مع غاية التذلل له.
__________
(1) …نونية ابن القيم 2/214.
(2) النونية رقم الأبيات (1123 - 1126).(1/201)
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "العبادة تجمع أصلين: غاية الحب بغاية الذل والخضوع ، والعرب تقول: طريق معبد أي: مذللٌ، والتعبد التذلل والخضوع، فمن أحببته ولم تكن خاضعًا له لم تكن عابدًا له، ومن خضعت له بلا محبة لم تكن عابدًا له حتى تكون محبًا خاضعًا"(1).
والمقصود أن الإيمان بعلو الله - عز وجل - ذاتًا وقدرًا وقهرًا يورث في النفس خضوعًا وإخباتًا لمن هذه صفاته، ولذا لمَّا نزل قوله تعالى: { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) } [الأعلى: 1]، قال ×: (ضعوها في سجودكم)(2).
وعن سر ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "وكان وصف الرب بالعلو في هذه الحال في غاية المناسبة لحال الساجد الذي قد انحط إلى السفل على وجهه فذكر علو ربه في حال سقوطه، كما ذكر عظمته في حال خضوعه في ركوعه ونزه ربه عما لا يليق به مما يضاد عظمته وعلوه"(3).
2- التواضع لله تعالى ولما أنزل من الحق، لأن الإيمان بعلوه سبحانه وقهره لعباده يورث في القلب تواضعًا وحياءً، وتعظيمًا لله تعالى وأوامره ونواهيه، ورضًا بأحكامه القدرية والشرعية، وإذعانه للحق إذا بان له وعلم أنه من عند الله تعالى وتقدس ولا يرد أحد الحق ويؤثر الباطل عليه إلا حين يغفل عن آثار أسماء الله - عز وجل - الحسنى، ومنها الأسماء التي فيها إثبات العلو، والعظمة، والملك، والحكمة لله تعالى.
3- الحذر من العلو في الأرض بغير الحق، وتجنب ظلم العباد والتكبر عليهم وقهرهم والعدوان عليهم. ولا ينجو من ذلك إلا من تذكر علو الله تعالى وقهره وأن العبد مهما علا وظلم وقهر فإن الله (العلي المتعال) فوقه، يراه يقتص للمظلومين ممن ظلمهم. وما من جبَّار علا في الأرض وتجبر إلا وقصمه الله تعالى وأهلكه.
__________
(1) مدارج السالكين 1/74.
(2) سبق تخريجه ص 243.
(3) الصلاة وحكم تاركها ص 212.(1/202)
ولذلك لما ذكر سبحانه علاج من يخاف نشوزها من الزوجات في سورة النساء ختم ذلك باسميه سبحانه (العلي) (الكبير)؛ قال تعالى: { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) } [النساء: 34].
يقول القاسمي في محاسن التأويل عند هذه الآية: إِنَّ { اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا } كَبِيرًا فاحذروه بتهديد الأزواج على ظلم النسوة من غير سبب.
فإنهن وإن ضعفن عن دفع ظلمكم، وعجزن عن الإنصاف منكم فالله سبحانه عليّ قاهر كبير قادر ينتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن، فلا تغتروا بكونكم أعلى يدًا منهن وأكبر درجة منهن، فإن الله أعلى منكم وأقدر منكم عليهن فختم الآية بهذين الاسمين فيه تمام المناسبة(1).
4- الخوف من الله وحده وتخلص القلب من الخوف من المخلوق الضعيف. فمهما أوتي المخلوق من قوة وعلو في الأرض فإن الله - عز وجل - فوقه مكانًا وقدرًا وقهرًا، وكلما تذكر العبد علو الله تعالى على خلقه وعظمته وكبريائه تمحض الخوف له سبحانه وحده، وتخلص من الخوف من المخلوق الضعيف. والذي عادة ما يكون عائقًا بين الداعية وقول الحق والصدع به، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله تعالى.
5- تنزيهه - سبحانه وتعالى - عن كل نقص في ذاته وصفاته وأفعاله، وإثبات صفات الكمال له سبحانه وحمده على ذلك، ولذا نجد في القرآن الكريم أن قوله: (تعالى) يقرن كثيرًا بقوله: (سبحانه) كما في قوله عز وجل: { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ OM"oYt/ur بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا scqàےإءtƒ (100) } [الأنعام: 100].
__________
(1) محاسن التأويل 5/1222، 1223.(1/203)
وقوله تبارك وتعالى: { قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) } [الإسراء: 42، 43].
وقوله تعالى: { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) } [النحل: 1]، وقوله تعالى: { مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) } [القصص: 68]، وقوله تعالى: { وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) } [الزمر: 67].
اقتران اسمه سبحانه (العلي) ببعض الأسماء الحسنى:
(1) اقترانه باسمه سبحانه (الكبير): قال تعالى: { فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } [غافر: 12].
وقد سبق ذكر بعض الأسرار في اقتران هذين الاسمين الكريمين عند الكلام عن اسمه سبحانه (الكبير).
(2) اقترانه باسمه سبحانه (العظيم): كما في قوله تعالى: { وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) } [البقرة: 255].
وهذا أيضًا قد سبق الكلام عليه عند الكلام عن اسمه سبحانه (العظيم).
(3) اقترانه باسمه سبحانه (الحكيم). وذلك عند قوله سبحانه: { * وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) } [الشورى: 51].(1/204)
يقول الطاهر ابن عاشور عن هذين الاسمين الكريمين في هذه الآية: "والقول في موقع جملة: { إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } كالقول في جملة: { إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) } [الشورى: 50] السابقة، وإنما أوثر هنا صفة "العلي الحكيم" لمناسبتهما للغرض؛ لأن العلوّ في صفة (العليّ) علوّ عظمة فائقة لا تناسبها النفوس البشرية التي لم تَحْظَ من جانب القُدس بالتصفية فما كان لها أن تتلقى من الله مراده مباشرة فاقتضى علوّه أن يكون توجيه خطابه إلى البشر بوسائط يفضي بعضها إلى بعض... وأمّا وصف (الحكيم) فلأن معناه: المُتقِن للصنع، العالم بدقائقه وما خطابه البشر إلا لحكمة إصلاحهم ونظام عالمهم، وما وقوعه على تلك الكيفيات الثلاث إلا من أثر الحكمة لتيسير تلقّي خطابه، ووعيه دون اختلال فيه ولا خروج عن طاقة المتلقِّين"(1).
(25) [اللطيف]
ورد هذا الاسم الكريم في القرآن سبع مرات اقترن في بعضها باسمه سبحانه (الخبير) وهو الغالب، وبعضها جاء مفردًا.
قال الله - عز وجل -: { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) } [الأنعام: 103].
وقال سبحانه: { يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) }
[لقمان: 16].
وقال سبحانه: { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) } [الملك: 14].
وقال - عز وجل -: { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) } [الأحزاب: 34].
وقال تبارك وتعالى: { اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) } [الشورى: 19].
__________
(1) التحرير والتنوير 12/150.(1/205)
وقال سبحانه: { إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) }
[يوسف: 100].
المعنى اللغوي لاسمه سبحانه (اللطيف):
قال في تهذيب اللغة: "(اللطيف): اسم من أسماء الله العظيم، ومعناه والله أعلم: الرفيق بعباده. وعن عمر عن أبيه أنه قال: اللطيف: الذي يوصل إليك أربك في رفق.
وعن ابن الإعرابي يقال: لطف فلان لفلان يلطُف: إذا رفق لطفًا. ويقال: لطف الله لك. أي: أوصل إليك ما تحب برفق.
قال: "ولَطُف الشيء يلطف: إذا صغر... واللطيف من الكلام: ما غمض معناه وخفي"(1).
ومن هذا التعريف يمكن القول بأن جذر (لطف) يدور حول معنين:
الأول: بفتح الطاء (لطَف) ومعناه: البر، والحفاوة، والإكرام، والترفق في تحقيق المراد، وهو هنا متعدي أي: لطف بغيره؛ كقوله تعالى: { اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ } [الشورى:19].
الثاني: بضم الطاء (لطُف) في نفسه، ومعناه: الغموض، والخفاء، وهو هنا غير متعدي. وهذا المعنى لا يضاف إلى الله تعالى إلا باعتبار متعلقه؛ فهو اللطيف الذي لطُف في علمه لشمول علمه للأشياء الدقيقة؛ كما قال سبحانه : { إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } [لقمان:16]. وكذلك يقال في إيصال رحمته بالطرق الخفية.
المعنى في حق الله تعالى:
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "واسمه اللطيف يتضمن: علمه بالأشياء الدقيقة، وإيصاله الرحمة بالطرق الخفية"(2).
ويقول عن هذين المعنيين في نونيته:
وهو اللطيف بعبده ولعبده واللطف في أوصافه نوعان
إدراك أسرار الأمور بخبرة واللطف عند مواقع الإحسان
فيريك عزته ويبدي لطفه والعبد في الغفلات عن ذا الشان(3)
__________
(1) تهذيب اللغة 13/347.
(2) شفاء العليل 1/147.
(3) الأبيات رقم 3286 - 3288.(1/206)
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "اللطيف: الذي أحاط علمه بالسرائر والخفايا، وأدرك الخبايا والبواطن والأمور الدقيقة. اللطيف بعباده المؤمنين، الموصل إليهم مصالحهم بلطفه وإحسانه من طرق لا يشعرون بها. فهو بمعنى الخبير، وبمعنى الرؤوف"(1).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) } [الملك: 14]: "وهو بيان ما في المخلوقات من لطف الحكمة التي تتضمن إيصال الأمور إلى غاياتها بألطف الوجوه كما قال يوسف عليه السلام: { إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ } [يوسف: 100]، وهذا يستلزم العلم بالغاية المقصودة، والعلم بالطريق الموصل وكذلك الخبرة"(2).
اقتران اسمه سبحانه (اللطيف) باسمه - عز وجل - (الخبير):
ورد اسمه سبحانه (اللطيف) مقترنًا باسمه (الخبير) في خمس آيات منها قوله تعالى: { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) } [الأنعام: 103]. أي: الذي أحاط علمه بالخفايا والسرائر، وإدراك الخبايا والبواطن، ودقائق الأمور.
ولله - عز وجل - صفة كمال من كل من الاسمين الجليلين. وصفة كمال ثالثة من اجتماعهما؛ فكونه - عز وجل - (اللطيف الخبير) يعني: أن أفعاله التي لطفت عن أن تدركها العقول والأفهام قد أحاطت بما تعبت في إدراكه العقول والأفهام، وأن لطفه وصنائعه وبره وإحسانه، إنما دقت على العقول والأفهام؛ لأنها جارية على مقتضى خبرته التي هي فوق إدراك العقول والأفهام، فلطفه - عز وجل - وهو رفقه وإحسانه إنما هو لطف الخبير(3).
__________
(1) تفسير السعدي 5/489.
(2) مجموع الفتاوى 16/354.
(3) انظر (مطابقة أسماء الله الحسنى مقتضى المقام) د. نجلاء كردي ص 614 (بتصرف يسير).(1/207)
وأنى يكون اللطف لعادم الخبرة أو ضعيفها، الفاقد الحكمة، فالله (اللطيف) ينفذ إلى ما تحقق به لطفه في عباده وخلقه، ورزقه، وهدايته وغير ذلك بعلمه وخبرته وحكمته وقوته وعزته(1).
ذكر بعض ألطافه - سبحانه وتعالى- والتي هي من آثار اسمه سبحانه (اللطيف):
أكتفي بما ذكره الشيخ السعدي - رحمه الله تعالى - في بعض كتبه، حيث يقول رحمه الله تعالى: "ومن أسمائه الحسنى "اللطيف": الذي لطف علمه حتى أدرك الخفايا، والخبايا، وما احتوت عليه الصدور، وما في الأراضي من خفايا البذور. ولطف بأوليائه، وأصفيائه، فيسرهم لليسرى وجنبهم العسرى، وسهل لهم كل طريق يوصل إلى مرضاته وكرامته، وحفظهم من كل سبب ووسيلة توصل إلى سخطه، من طرق يشعرون بها، ومن طرق لا يشعرون بها، وقدر عليهم أمورًا يكرهونها لينيلهم ما يحبون، فلطف بهم في أنفسهم فأجراهم على عوائده الجميلة، وصنائعه الكريمة، ولطف لهم في أمور خارجة عنهم لهم فيها كل خير وصلاح ونجاح، فاللطيف متقارب لمعاني الخبير والرؤوف والكريم"(2).
__________
(1) انظر أسماء الله الحسنى، عمر الأشقر ص 136.
(2) توضيح الكافية الشافية ص 123.(1/208)
وقال أيضًا: "ومن لطفه بعبده ووليه الذي يريد أن يتم عليه إحسانه، ويشمله بكرمه، ويرقيه إلى المنازل العالية، فييسره لليسرى، ويجنبه العسرى، ويجري عليه من أصناف المحن التي يكرهها وتشق عليه وهي عين صلاحه، والطريق إلى سعادته، كما امتحن الأنبياء بأذى قومهم، وبالجهاد في سبيله وكما ذكر الله عن يوسف - عليه السلام - وكيف ترقت به الأحوال ولطف الله به وله بما قدره عليه من تلك الأحوال التي حصلت له في عاقبتها حسن العقبى في الدنيا والآخرة، وكما يمتحن أولياءه بما يكرهونه لينيلهم ما يحبون، وكم لله من لطف وكرم لا تدركه الأفهام ولا تتصوره الأوهام، وكم استشرف العبد على مطلوب من مطالب الدنيا من ولاية ورياسة أو سبب من الأسباب المحبوبة فيصرفه الله عنها، ويصرفها عنه رحمة به لئلا تضره في دينه، فيظل العبد حزينًا من جهله، وعدم معرفته بربه، ولو علم ما دخر له في الغيب، وأريد إصلاحه، لحمد الله وشكره على ذلك، فإن الله بعباده رؤوف رحيم، لطيف بأوليائه"(1).
__________
(1) الحق الواضح المبين ص 61، 62.(1/209)
وقال أيضًا: "واعلم أن اللطف الذي يطلبه العباد من الله بلسان المقال، ولسان الحال هو من الرحمة، بل هو رحمة خاصة، فالرحمة التي تصل العبد من حيث لا يشعر بها أو لا يشعر بأسبابها هي اللطف فإذا قال العبد: يالطيف الطف بي، أو لي وأسألك لطفك فمعناه: تولني ولاية خاصة بها تصلح أحوالي الظاهرة، والباطنة، وبها تندفع عني جميع المكروهات من الأمور الداخلية والأمور الخارجية، ... فإذا يسر الله عبده وسهل طريق الخير وأعانه عليه، فقد لطف به، وإذا قيض الله له أسبابًا خارجية غير داخلة تحت قدرة العبد فيها صلاحه، فقد لطف له، ولهذا لما تنقلت بيوسف - عليه السلام - تلك الأحوال، وتطورت به الأطوار من رؤياه وحسد إخوته له، وسعيهم في إبعاده جدًا، واختصامهم بأبيهم ثم محنته بالنسوة ثم بالسجن ثم بالخروج منه بسبب رؤيا الملك العظيمة، وانفراده بتعبيرها، وتبوؤه من الأرض حيث يشاء، وحصول ما حصل على أبيه من الابتلاء، والامتحان ثم حصل بعد ذلك الاجتماع السار، وإزالة الأكدار وصلاح حالة الجميع والاجتباء العظيم ليوسف عرف - عليه السلام - أن هذه الأشياء وغيرها لطف الله لهم به فاعترف بهذه النعمة فقال: { إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) } [يوسف: 100]، أي: لطفه تعالى خاص لمن يشاء من عباده ممن يعلمه تعالى محلاً لذلك وأهلاً له، فلا يضعه إلا في محله. الله أعلم حيث يضع فضله فإذا رأيت الله تعالى قد يسر العبد لليسرى، وسهل له طريق الخير، وذلل له صعابه، وفتح له أبوابه، ونهج له طرقه، ومهد له أسبابه، وجنبه العسرى فقد لطف به.
" ومن لطفه بعباده المؤمنين، أنه يتولاهم بلطفه، فيخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن ظلمات الجهل، والكفر، والبدع، والمعاصي إلى نور العلم والإيمان والطاعة.(1/210)
" ومن لطفه: أنه يرحمهم من طاعة أنفسهم الأمارة بالسوء التي هذا طبعها وديدنها، فيوفقهم لنهي النفس عن الهوى ويصرف عنهم السوء والفحشاء فتوجد أسباب الفتنة، وجوانب المعاصي وشهوات الغي، فيرسل الله عليها برهان لطفه ونور إيمانهم الذي منَّ به عليهم فيدعونها مطمئنين لذلك منشرحة لتركها صدورهم.
" ومن لطفه بعباده: أنه يقدر أرزاقهم بحسب علمه بمصلحتهم لا بحسب مراداتهم، فقد يريدون شيئًا وغيره أصلح فيقدر لهم الأصلح وإن كرهوه لطفًا بهم وبرًا وإحسانًا: { اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) } [الشورى: 19]، { * وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) } [الشورى: 27].
" ومن لطفه بهم: أنه يقدر عليهم أنواع المصائب، وضروب المحن، والابتلاء بالأمر والنهي الشاق رحمة بهم، ولطفًا، وسوقًا إلى كمالهم، وكمال نعيمهم: { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) } [البقرة: 216].(1/211)
" ومن لطيف لطفه بعبده إذ أهله للمراتب العالية، والمنازل السامية التي لا تدرك بالأسباب العظام التي لا يدركها إلا أرباب الهمم العالية، والعزائم السامية: أن يقدر له في ابتداء أمره بعض الأسباب المحتملة المناسبة للأسباب التي أهل لها ليتدرج من الأدنى إلى الأعلى، ولتتمرن نفسه ويصير له ملكة من جنس ذلك الأمر، وهذا كما قدر لموسى، ومحمد وغيرهما من الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - في ابتداء أمرهم رعاية الغنم، ليتدرجوا من رعاية الحيوان البهيم وإصلاحه، إلى رعاية بني آدم ودعوتهم وإصلاحهم. وكذلك يذيق عبده حلاوة بعض الطاعات فينجذب ويرغب ويصير له ملكة قوية بعد ذلك على طاعات أجل منها وأعلى، ولم تكن تحصل بتلك الإرادة السابقة حتى وصل إلى هذه الإرادة والرغبة التامة.(1/212)
" ومن لطفه بعبده: أن يقدر له أن يتربى في ولاية أهل الصلاح، والعلم، والإيمان، وبين أهل الخير ليكتسب من أدبهم، وتأديبهم ولينشأ على صلاحهم وإصلاحهم كما امتن الله على مريم في قوله تعالى: { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا } [آل عمران: 37] إلى آخر قصتها، ومن ذلك إذا نشأ بين أبوين صالحين وأقارب أتقياء، أو في بلد صلاح، أو وفقه الله لمقارنة أهل الخير وصحبتهم، أو لتربية العلماء الربانيين، فإن هذا من أعظم لطفه بعبده، فإن صلاح العبد موقوف على أسباب كثيرة منها، بل من أكثرها وأعظمها نفعًا هذه الحالة . ومن ذلك: إذا نشأ العبد في بلد أهله على مذهب أهل السُّنة والجماعة، فإن هذا لطف له، وكذلك إذا قدر الله أن يكون مشايخه الذين يستفيد منهم الأحياء منهم والأموات أهل سُّنة وتقى، فإن هذا من اللطف الرباني ولا يخفى لطف الباري في وجود شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في أثناء قرون هذه الأمة وتبيين الله به وبتلامذته من الخير الكثير والعلم الغزيز، وجهاد أهل البدع والتعطيل والكفر ثم انتشار كتبه في هذه الأوقات، فلا شك أن هذا من لطف الله لمن انتفع بها، وأنه يتوقف خير كثير على وجودها فلله الحمد والمنة والفضل.
" ومن لطف الله بعبده: أن يجعل رزقه حلالاً في راحة وقناعة يحصل به المقصود، ولا يشغله عما خلق له من العبادة والعلم والعمل، بل يعينه على ذلك ويفرغه ويريح خاطره وأعضاءه، ولهذا من لطف الله تعالى لعبده أنه ربما طمحت نفسه لسبب من الأسباب الدنيوية التي يظن فيها إدراك بغيته، فيعلم الله تعالى أنها تضره وتصده عما ينفعه فيحول بينه وبينها فيظل العبد كارهًا، ولم يدر أن ربه قد لطف به حيث أبقى له الأمر النافع، وصرف عنه الأمر الضار، ولهذا كان الرضى بالقضاء في مثل هذه الأشياء من أعلى المنازل.(1/213)
" ومن لطف الله بعبده: إذا قدر له طاعة جليلة لا تنال إلا بأعوان أن يقدر له أعوانًا عليها ومساعدين على حملها؛ قال موسى عليه السلام: { وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) } [طه: 29 - 34 ].
وكذلك امتن على عيسى - عليه السلام - بقوله: { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) } [المائدة: 111]، وامتن على سيد الخلق في قوله: { هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) } [الأنفال: 62]، وهذا لطف لعبده خارج عن قدرته ومن هذا لطف الله بالهادين إذا قيض الله من يهتدي بهداهم ويقبل إرشادهم فتتضاعف بذلك الخيرات والأجور التي لا يدركها العبد بمجرد فعله، بل هي مشروطة بأمر خارجي.
" ومن لطف الله بعبده: أن يعطي عبده من الأولاد، والأموال، والأزواج ما به تقر عينه في الدنيا، ويحصل له السرور، ثم يبتليه ببعض ذلك ويأخذه، ويعوضه عليه الأجر العظيم إذا صبر واحتسب، فنعمة الله عليه بأخذه على هذا الوجه أعظم من نعمته عليه في وجوده وقضاء مجرد وطره الدنيوي منه، وهذا أيضًا خير وأجر خارج عن أحوال العبد بنفسه، بل هو لطف من الله له أن قيض له أسبابًا أعاضه عليها الثواب الجزيل، والأجر الجميل.
" ومن لطف الله بعبده: أن يبتليه ببعض المصائب فيوفقه للقيام بوظيفة الصبر فيها فينيله درجات عالية لا يدركها بعمله، وقد يشدد عليه الابتلاء بذلك كما فعل بأيوب - عليه السلام - ويوجد في قلبه حلاوة روح الرجاء وتأميل الرحمة، وكشف الضر فيخف ألمه وتنشط نفسه، ولهذا من لطف الله بالمؤمنين أن جعل في قلوبهم احتساب الأجر فخفت مصائبهم، وهان ما يلقون من المشاق في حصول مرضاته.(1/214)
" ومن لطف الله بعبده المؤمن الضعيف: أن يعافيه من أسباب الابتلاء التي تضعف إيمانه وتنقص إيقانه، كما أن من لطفه بالمؤمن القوي: تهيئة أسباب الابتلاء والامتحان، ويعينه عليها ويحملها عنه، ويزداد بذلك إيمانه ويعظم أجره فسبحان اللطيف في ابتلائه، وعافيته، وعطائه، ومنعه.
" ومن لطف الله بعبده: أن يسعى لكمال نفسه مع أقرب طريق يوصله إلى ذلك مع وجود غيرها من الطرق التي تبعد عليه فييسر عليه التعلم من كتاب أو معلم، يكون حصول المقصود به أقرب وأسهل، وكذلك ييسره لعبادة يفعلها بحالة اليسر والسهولة، وعدم التعويق عن غيرها مما ينفعه فهذا من اللطف.
" ومن لطف الله بعبده: قدر الواردات الكثيرة، والأشغال المتنوعة، والتدبيرات، والمتعلقات الداخلة والخارجة التي لو قسمت على أمة من الناس لعجزت قواهم عنها أن يمن عليه بخلق واسع، وصدر متسع، وقلب منشرح؛ بحيث يعطي كل فرد من أفرادها نظرًا ثاقبًا وتدبيرًا تامًا وهو غير مكترث ولا منزعج لكثرتها وتفاوتها، بل قد أعانه الله تعالى عليها ولطف به فيها، ولطف له في تسهيل أسبابها وطرقها، وإذا أردت أن تعرف هذا الأمر فانظر إلى حالة المصطفى × الذي بعثه الله بصلاح الدارين وحصول السعادتين، وبعثه مكملاً لنفسه ومكملاً لأمة عظيمة هي خير الأمم ومع هذا مكنه الله ببعض عمره الشريف في نحو ثلث عمره أن يقوم بأمر الله كله على كثرته وتنوعه، وأن يقيم لأمته جميع دينهم، ويعلمهم جميع أصوله وفروعه، ويخرج الله به أمة كبيرة من الظلمات إلى النور، ويحصل به من المصالح والمنافع والخير والسعادة للخاص والعام ما لا تقوم به أمة من الخلق.
" ومن لطف الله تعالى بعبده: أن يجعل ما يبتليه به من المعاصي سببًا لرحمته، فيفتح له عند وقوع ذلك باب التوبة والتضرع، والابتهال إلى ربه وازدراء نفسه واحتقارها، وزوال العجب والكبر من قلبه ما هو خير له من كثير من الطاعات.(1/215)
" ومن لطفه بعبده الحبيب عنده: إذا مالت نفسه مع شهوات النفس الضارة، واسترسلت في ذلك أن ينغصها عليه ويكدرها، فلا يكاد يتناول منها شيئًا إلا مقرونًا بالمكدرات، محشوًا بالغصص لئلا يميل معها كل الميل، كما أن من لطفه به أن يلذذ له التقربات، ويحلي له الطاعات ليميل إليها كل الميل.
" ومن لطيف لطف الله بعبده: أن يأجره على أعمال لم يعملها، بل عزم عليها فيعزم على قربة من القرب ثم تنحل عزيمته لسبب من الأسباب فلا يفعلها فيحصل له أجرها. فانظر كيف لطف الله به فأوقعها في قلبه وأدارها في ضميره وقد علم تعالى أنه لا يفعلها سوقًا لبره لعبده وإحسانه بكل طريق.
" وألطف من ذلك أن يقيض لعبده طاعة أخرى غير التي عزم عليها هي أنفع له منها، فيدع العبد الطاعة التي ترضي ربه لطاعة أخرى هي أرضى لله منها فتحصل له المفعولة بالفعل، والمعزوم عليها بالنية وإذا كان من يهاجر إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت قبل حصول مقصوده قد وقع أجره على الله مع أن قطع الموت بغير اختياره، فكيف بمن قطعت عليه نيته الفاضلة طاعة قد عزم على فعلها وربما أدار الله في ضمير عبده عدة طاعات كل طاعة لو انفردت لفعلها العبد لكمال رغبته، ولا يمكن فعل شيء منها إلا بتفويت الأخرى، فيوفقه للموازنة بينها وإيثار أفضلها فعلاً مع رجاء حصولها جميعها عزمًا ونية.
" وألطف من هذا أن يقدر تعالى لعبده ويبتليه بوجود أسباب المعصية ويوفر له دواعيها وهو تعالى علم أنه لا يفعلها، ليكون تركه لتلك المعصية التي توفرت أسباب فعلها من أكبر الطاعات.
كما لطف بيوسف - عليه السلام - في مراودة المرأة. وأحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله، رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين.(1/216)
" ومن لطف الله بعبده: أن يقدر خيرًا وإحسانًا من عبده، ويجزيه على يد عبده الآخر، ويجعله طريقًا إلى وصوله إلى المستحق، فيثيب الله الأول والآخر. ومن لطف الله بعبده أن يجري بشيء من ماله شيئًا من النفع وخيرًا لغيره فيثيبه من حيث لا يحتسب، فمن غرس غرسًا أو زرع زرعًا فأصابت منه روح من الأرواح المحترمة شيئًا آجر الله صاحبه وهو لا يدري خصوصًا إذا كانت عنده نية حسنة وعقد مع ربه عقدًا في أنه مهما ترتب على ما له شيء من النفع فأسألك يارب أن تأجرني، وتجعله قربة لي عندك، وكذلك لو كان له بهائم انتفع بدرها، وركوبها، والحمل عليها، أو مساكن انتفع بسكناها ولو شيئًا قليلاً، أو ماعون ونحوه انتفع به، أو عين شرب منها، وغير ذلك ككتاب انتفع به في تعلم شيء منه، أو مصحف قرئ فيه، والله ذو الفضل العظيم.
" ومن لطف الله بعبده: أن يفتح له بابًا من أبواب الخير لم يكن له على بال، وليس ذلك لقلة رغبته فيه، وإنما هو غفلة منه وذهول عن ذلك الطريق فلم يشعر إلا وقد وجد في قلبه الداعي إليه والملفت إليه، ففرح بذلك وعرف أنها من ألطاف سيده، وطرقه التي قيض وصولها إليه فصرف لها ضميره ووجه إليها فكره وأدرك منها ما شاء الله"(1).
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (اللطيف):
__________
(1) المذاهب الربانية من الآيات القرآنية ص 71 - 76؛ وما ذكره الشيخ - رحمه الله تعالى - هنا من الألطاف غيض من فيض من ألطافه سبحانه الخفية، أما ألطافه الظاهرة فهي في كل نعمة =(1/217)
1- محبة الله - عز وجل - والأنس به حيث إنه يلطف بعباده المؤمنين، ويحسن إليهم ويرفق بهم ولا يعجل عليهم بالعقوبة ويسوق لهم الخير من حيث يحتسبون، ومن حيث لا يحتسبون، بل يسوق لهم الخير من حيث يكرهون. وهذه المحبة تثمر التقرب إليه سبحانه بأنواع العبوديات، كما تثمر الحياء والإجلال له سبحانه، وهذا الحياء يدفع العبد إلى تعظيم حرماته سبحانه فلا يغشاها، وحدوده فلا يقربها، كما تثمر هذه المحبة الدعوة إليه سبحانه والجهاد في سبيله، والتضيحة بالنفس والمال في سبيل مرضاته(1).
2- الطمأنينة والسكينة التي يسكبها هذا الاسم الكريم في قلب المؤمن. فكما سبق في معنى (اللطيف) وفي ذكر بعض آثار هذا الاسم الجليل، والتي منها أن الله - عز وجل - بلطفه يسوق الخير والرحمة إلى عبده من حيث لا يشعر، بل من حيث يكره ويتألم. فإذا استقرت في قلب العبد هذه المعاني رضي وسلم واطمأن وفوض الأمر إلى الله تعالى. وهذه الثمرة تقودنا إلى الثمرة التالية ألا وهي:
__________
(1) = …من نعمه سبحانه التي لا تعد ولا تحصى مما يشاهد في الآفاق الأنفس: { وَإِنْ تَعُدُّوا |MyJ÷èR اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا } [إبراهيم :34]، [النحل: 18]، ولو ذهبنا نستعرض لطفه سبحانه في نعمه الظاهرة لفنيت الأعمار ولم ندرك لها عدًا ويكفي أن نذكر لطفه سبحانه في تيسير لقمة واحدة يتناولها العبد من غير كلفة يتجشمها وقد تعاون على إصلاحها خلق كثير من مصلح الأرض، وزارعها، وساقيها، وحاصدها، ومنقيها، وطاحنها، وعاجنها، وخابزها، وتيسير مضغها مما وضع الله في الفم من أسنان طاحنة وقاطعة، ولسان يدير اللقمة ويسهلها للبلع، ولعاب يسهل مرورها في المريء إلى آخر هذه الألطاف الربانية.(1/218)
3- صدق التوكل على الله - عز وجل - والرضا بما يختاره سبحانه والإكثار من دعاء الاستخارة التي به يفوض العبد ربه سبحانه في أن يختار له مما كان له فيه الخير في الدنيا والآخرة، ولا يقترح على ربه طريقًا معينًا فإن الله - عز وجل - يعلم أين تكون مصلحة العبد والعبد لا يعلم، والله سبحانه يقدر على تحقيقها، والعبد لا يقدر والله سبحانه هو العليم القدير.
4- إن الله سبحانه وتعالى لا يفوته من العلم شيء وإن دق وصغر، وخفي وكان في مكان سحيق، قال سبحانه: { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ }
[الأنعام: 59].
وجاء في قوله تعالى عن لقمان: { يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) } [لقمان: 16].
فالله لا يخفى عليه شيء، ولا الخردلة وهي: الحبة الصغيرة التي لا وزن لها، فإنها لو كانت في صخرة في باطن الأرض، أو في السماوات فإن الله يستخرجها ويأتي بها، لأنه اللطيف الخبير.
فإذا علم العبد أن ربه متصفٌ بدقة العلم، وإحاطته بكل صغيرة وكبيرة، حاسب نفسه على أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته، فإنه في كل وقت وحين، بين يدي اللطيف الخبير: { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) } [الملك: 14].
والله سبحانه يجازي الناس على أفعالهم يوم الدين، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، لا يفوته من أعمالهم شيء، لا المحسن يضيع من إحسانه مثقال ذرة، ولا المسيء يضيع من سيئاته مثقال ذرة.(1/219)
قال تعالى: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) }
[الأنبياء: 47].
وقال: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) } [الزلزلة: 7 - 8].
ثم هو بعد ذلك يزيد أجور الصالحين من فضله وكرمه ما يشاء، ويعفو ويتجاوز عن ذنوب من يشاء من عباده بلطفه وعفوه، ويعذِّب بالذنوب من يشاء من عباده بعدله، إنه كان بعباده خبيرًا بصيرًا(1).
5- لما كان من معاني (اللطيف) البر والرفق والإحسان، فإن مما يثمره في قلب المؤمن وأخلاقه أن يتخلق بهذا الخلق العظيم فيكون رفيقًا بعباد الله - عز وجل - محسنًا إليهم، بارًا بهم يحب الخير ويفعله لهم ويكره الشر لهم. مبتدئًا في ذلك بالوالدين والأولاد والأقارب وعموم المسلمين، قال ×: (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله)(2).
(26) [الحكيم]
ورد اسمه سبحانه: (الحكيم) في القرآن في واحد وتسعين موضعًا. وفي جميع المواضع يرد هذا الاسم الكريم مقترنًا باسم آخر من أسمائه - سبحانه - الحسنى ومن ذلك:
اقترانه باسمه سبحانه (العزيز):
__________
(1) انظر النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى؛ محمد حمود النجدي 1/262، 263.
(2) البخاري (6927).(1/220)
وهو أكثر الأسماء اقترانًا باسمه سبحانه (الحكيم) في القرآن حيث ورد في نحو ستة وأربعين موضعًا من ذلك قوله تعالى: { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) } [الحديد: 1]، وقوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) } [المائدة: 38]، وقوله سبحانه: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِن اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) } [النساء: 56].
اقتران اسمه سبحانه (الحكيم) باسمه - عز وجل - (العليم):
وهذا أيضًا في القرآن كثير حيث ورد في نحو سبعة وثلاثين موضعًا أكثرها بتقديم (العليم) على (الحكيم)، كما في قوله تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) } [النساء: 26]، وقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِن اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) } [الأحزاب: 1].
وفي مواضع أخرى وهي قليلة ورد تقديم (الحكيم) على (العليم) كقوله تعالى: { قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) } [الذاريات: 30]، وقوله تعالى: { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) } [الأنعام: 83].
اقتران اسمه سبحانه (الحكيم) باسمه سبحانه (الخبير):(1/221)
وقد ورد كذلك في أربعة مواضع منها قوله تعالى: { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) } [الأنعام: 18]، وقوله تعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) } [النبأ: 1].
اقتران اسمه سبحانه (الحكيم) باسمه سبحانه (التواب):
وقد ورد ذلك مرة واحدة في القرآن بتقديم (التواب) على (الحكيم) كما في قوله تعالى: { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) } [النور: 10].
اقتران اسمه سبحانه (الحكيم) باسمه سبحانه (العلي):
وقد ورد ذلك في القرآن مرة واحدة وذلك في قوله تعالى: { * وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) } [الشورى: 51].
اقتران اسمه سبحانه (الحكيم) باسمه سبحانه (الواسع):
ولم يأت هذا الاقتران في القرآن إلا مرة واحدة وذلك في قوله تعالى: { وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) } [النساء: 130].
اقتران اسمه سبحانه (الحكيم) باسمه سبحانه (الحميد):
وهذا الاقتران أيضًا لم يرد إلا مرة واحدة كما في قوله تعالى: { تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) } [فصلت: 42].
وسيأتي ذكر بعض أسرار اقتران هذه الأسماء السابقة باسمه سبحانه (الحكيم) في آخر المبحث إن شاء الله تعالى.
المعنى اللغوي (للحكيم):(1/222)
قال في لسان العرب: "قال ابن الأثير: في أسماء الله تعالى الحكم والحكيم. وهما بمعنى الحاكم. وهو: القاضي فهو فعيل بمعنى فاعل. أو هو الذي يحكم الأشياء ويتقنها فهو فعيل بمعنى مفعل. وقيل: الحكيم ذو الحكمة. والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم. ويقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويتقنها: حكيم... ".
وقال الجوهري: والحكيم العالم، وصاحب الحكمة. وقد حَكُم أي: صار حكيمًا.
وحكم الشيء وأحكمه كلاهما: منعه من الفساد.. قال الأزهري: وكل من منعته من شيء فقد حكمته وأحكمته. قال: ونرى أن حكمة الدابة سميت بهذا المعنى لأنها تمنع الدابة من كثيرمن الجهل.. وقال ابن الأعرابي: حكم فلان عن الأمر والشيء أي: رجع. وأحكمته أنا أي: رجعته، وأحكمه هو عنه: رجعه. قال جرير:
أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم إني أخاف عليكم أن أغضبا
أي: ردوهم وكفوهم وامنعوهم من التعرض لي" (1).
معناه في حق الله تعالى:
يقول الحليمي -رحمه الله تعالى-: "الحكيم: الذي لا يقول ولا يفعل إلا الصواب. وإنما ينبغي أن يوصف بذلك لأن أفعاله سديدة، وصنعه متقن، ولا يظهر الفعل المتقن السديد إلا من حكيم، كما لا يظهر الفعل على وجه الاختيار إلا من حي عالم قدير"(2).
__________
(1) لسان العرب 2/951، 953.
(2) انظر الأسماء والصفات للبيهقي ص 22.(1/223)
وقال الخطابي: "معنى الإحكام لخلق الأشياء، إنما ينصرف إلى إتقان التدبير فيها، وحسن التقدير لها، إذ ليس كل الخليقة موصوفًا بوثاقة البنية، وشدة الأسر كالبقة، والنملة، وما أشبهها من ضعاف الخلق، إلا أن التدبير فيهما، والدلالة بهما على كون الصانع وإثباته ليس بدون الدلالة عليه بخلق السماوات والأرض، والجبال، وسائر معاظم الخليقة. وكذلك هذا في قوله تعالى: { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } [السجدة: 7]، لم تقع الإشارة به إلى الحسن الرائق في المنظر، فإن هذا المعنى معدوم في القرد والخنزير والدّب وأشكالها من الحيوان، وإنما ينصرف المعنى فيه إلى حسن التدبير في إنشاء كل شيء من خلقه على ما أحب أن ينشئه عليه، وإبرازه على الهيئة التي أراد أن يهيئه عليها كقوله: { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) } [الفرقان: 2]"(1).
وقال الطبري رحمه الله تعالى: " (الحكيم): الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل"(2).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: "قد دلت العقول الصحيحة والفطر السليمة على ما دل عليه القرآن والسنُّة: أنه سبحانه (حكيم) لا يفعل، شيئًا عبثًا ولا لغير معنى ومصلحة وحكمة هي الغاية المقصودة بالفعل. بل أفعاله سبحانه صادرة عن حكمة بالغة لأجلها فعل كما فعل كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل.. وقد دل كلامه وكلام رسوله على هذا. وهذا في مواضع لا تكاد تحصى، ولا سبيل إلى استيعاب أفرادها"(3).
وقال أيضًا: "اسم (الحكيم) من لوازمه: ثبوت الغايات المحمودة المقصودة له بأفعاله ووضعه للأشياء في مواضعها وإيقاعها على أحسن الوجوه، فإنكار ذلك إنكار لهذا الاسم ولوازمه"(4).
__________
(1) شأن الدعاء للخطابي ص 73، 74.
(2) تفسير الطبري 1/436.
(3) شفاء العليل 1/190.
(4) مدارج السالكين 1/31.(1/224)
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: " (الحكيم): هو الذي له الحكمة العليا في خلقه وأمره، الذي أحسن كل شيء خلقه: { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) } [المائدة: 50]. فلا يخلق شيئًا عبثًا، ولا يشرع سدى، الذي له الحكم في الأولى والآخرة، وله الأحكام الثلاثة لا يشاركه فيها مشارك فيحكم بين عباده في شرعه، وفي قدره، وجزائه.
والحكمة: وضع الأشياء مواضعها، وتنزيلها منازلها"(1).
ويقول أيضًا: "و(الحكيم): الموصوف بكمال الحكمة، وبكمال الحكم بين المخلوقات. فالحكيم هو واسع العلم، والاطلاع على مبادئ الأمور وعواقبها، واسع الحمد، تام القدرة، غزير الرحمة. فهذا الذي يضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها اللائقة بها في خلقه وأمره، فلا يتوجه إليه سؤال ولا يقدح في حكمته مقال..."(2).
من آثار اسمه سبحانه (الحكيم):
آثار حكمه وحكمته سبحانه وتعالى بادية في خلقه - عز وجل - وفي أمره وشرعه: { أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) } [الأعراف: 54].
وهذا ما فصله الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في نونيته المشهورة بقوله:
"وهو الحكيم وذاك من أوصافه نوعان أيضًا ما هما عدمانِ
حكم وإحكام فكل منهما نوعان أيضًا ثابتا البرهانِ
والحكم شرعي وكوني ولا يتلازمان وما هما سيان
بل ذاك يوجد دون هذا مُفردًا والعكس أيضًا ثم يجتمعانِ
لَنُ يخلو المربوبُ من أحدهما أو منهما بل ليس ينتفيان
إلى قوله:
والحكمة العليا على نوعين أيضًا حصلا بقواطع البرهان
إحداهما في خلقه سبحانه نوعان أيضًا ليس يفترقان
إحكام هذا الخلق إذ إيجاده في غاية الإحكام والإتقان
وصدوره من أجل غايات له وله عليها حمد كل لسان
والحكمة الأخرى فحكمة شرعه أيضًا وفيها ذانك الوصفان
__________
(1) تفسير السعدي 5/621.
(2) الحق الواضح المبين ص 50.(1/225)
غاياتها اللائي حمدن وكونها في غاية الإتقان والإحسان"(1)
نخلص مما ورد في الأبيات السابقة إلى أن اسمه سبحانه (الحكيم) يتناول معنيين كبيرين:
المعنى الأول: (الحُكم) أي: أن له سبحانه الحكم كله في الدنيا والآخرة. والحكم هنا يتناول الأحكام الثلاثة: الأحكام الكونية القدرية، والأحكام الدينية الشرعية، والأحكام الجزائية، فله الحكم فيها كله لا شريك له في حكمه، كما لا شريك له في عبادته قال سبحانه وتعالى: { وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) } [الكهف: 26].
المعنى الثاني: (الإحكام). أي: الذي له الحكمة البالغة في خلقه وأمره وشرعه فلا يخلق ولا يأمر إلا بما فيه المصلحة والحكمة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها.
وعن المعنى الأول يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "والحكم نوعان: حكم كوني قدري، وحكم أمري ديني:
الأول: حكم شرعي ديني: فهذا حقه أن يتلقى بالمسالمة والتسليم، وترك المنازعة، بل الانقياد المحض، وهذا تسليم العبودية المحضة فلا يعارض بذوق ولا وجد، ولا سياسة، ولا قياس ولا تقليد. ولا يرى إلى خلافه سبيلاً البتة، وإنما هو الانقياد المحض والتسليم والإذعان والقبول، فإذا تلقى بهذا التسليم والمسالمة إقرارًا وتصديقًا بقي هناك انقياد آخر وتسليم آخر له إرادة وتنفيذًا وعملاً، فلا تكون له شهوة تنازع مراد الله من تنفيذ حكمه، كما لم تكن له شبهة تعارض إيمانه وإقراره، وهذا حقيقة القلب السليم الذي سلم من شبهة تعارض الحق وشهوة تعارض الأمر، فلا استمتع بخلاقه كما استمتع به الذين يتبعون الشهوات، ولا خاض في الباطل خوض الذين يتبعون الشبهات، بل اندرج خلاقه تحت الأمر، واضمحل خوضه في معرفته بالحق، فاطمأن إلى الله معرفة به، ومحبة له وعلمًا بأمره وإرادة لمرضاته. فهذا حق الحكم الديني.
الحكم الثاني الحكم الكوني القدري:
__________
(1) نونية ابن القيم 2/218 - 219، الأبيات (3252) وما بعدها.(1/226)
الذي للعبد فيه كسب واختيار وإرادة، والذي إذا حكم به يسخطه ويبغضه ويذم عليه، فهذا حقه أن ينازع ويدافع بكل ممكن، ولا يسالم البتة، بل ينازع بالحكم الكوني أيضًا، فينازع حكم الحق بالحق للحق فيدافع به وله، كما قال شيخ العارفين في وقته عبدالقادر الجيلي: "الناس إذا دخلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، وأنا انفتحت لي روزنة فنازعت أقدار الحق بالحق للحق، والعارف من يكون منازعًا للقدر لا واقفًا مع القدر" أهـ.
فإن ضاق ذرعك عن هذا الكلام وفهمه، فتأمل قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقد عوتب على فراره من الطاعون فقيل له: أتفر من قدر الله؟ فقال: نفر من قدر الله إلى قدر الله.(1/227)
ثم كيف ينكر هذا الكلام من لا بقاء له في هذا العالم إلا به، ولا تتم له مصلحة إلا بموجبه، فإنه إذا جاءه قدر من الجوع والعطش أو البرد نازعه وترك الانقياد له ومسالمته، ودفعه بقدر آخر من الأكل والشرب واللباس، فقد دفع قدر الله بقدره، وهكذا إذا وقع الحريق في داره فهو بقدر الله، فما باله لا يستسلم له ويسالمه ويتلقاه بالإذعان؟ بل ينازعه ويدافعه بالماء والتراب وغيره حتى يطفئ قدر الله بقدر الله، وما خرج في ذلك عن قدر الله، هكذا إذا أصابه مرض بقدر الله دافع هذا القدر ونازعه بقدر آخر يستعمل فيه الأدوية الدافعة للمرض، فحق هذا الحكم الكوني أن يحرص العبد على مدافعته ومنازعته بكل ما يمكنه، فإذا غلبه وقهره حرص على دفع آثاره وموجباته بالأسباب التي نصبها الله لذلك، فيكون قد دفع القدر بالقدر، ونازع الحكم بالحكم، وبهذا أمر، بل هذا حقيقة الشرع والقدر، ومن لم يستبصر في هذه المسألة ويعطيها حقها لزمه التعطيل للقدر أو الشرع شاء أو أبى، فما للعبد ينازع أقدار الرب بأقداره في حظوظه، وأسباب معاشه ومصالحه الدنيوية ولا ينازع أقداره في حق مولاه وأوامره ودينه؟ وهل هذا إلا خروج عن العبودية ونقص في العلم بالله وصفاته وأحكامه؟ ولو أن عدوًا للإسلام قصده لكان هذا بقدر الله، ويجب على كل مسلم دفع هذا القدر بقدر يحبه الله، وهو الجهاد باليد أو المال أو القلب دفعًا لقدر الله بقدره، فما للاستسلام والمسالمة هنا مدخل في العبودية، اللَّهم إلا إذا بذل العبد جهده في المدافعة، والمنازعة، وخرج الأمر عن يده، فحينئذ يبقى من أهل الحكم الثالث.
الحكم الثالث: وهو الحكم القدري الكوني الذي يجري على العبد بغير اختياره ولا طاقة له بدفعه ولا حيلة له في منازعته:(1/228)
فهذا حقه أن يتلقى بالاستسلام والمسالمة، وترك المخاصمة، وأن يكون فيه كالميت بين يدي الغاسل، وكمن انكسر به المركب في لجة البحر، وعجز عن السباحة وعن سبب يدنيه من النجاة فههنا يحسن الاستسلام والمسالمة، مع أن عليه في هذا الحكم عبوديات أخر سوى التسليم والمسالمة، وهي أن يشهد عزة الحاكم في حكمه، وعدله في قضائه، وحكمته في جريانه عليه، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الكتاب الأول سبق بذلك قبل بدء الخليقة، فقد جف القلم بما يلقاه كل عبد، فمن رضي، فله الرضى ومن سخط فله السخط، ويشهد أن القدر ما أصابه إلا لحكمة اقتضاها اسم (الحكيم) - جل جلاله - وصفته الحكمة، وأن القدر قد أصاب مواقعه وحل في المحل الذي ينبغي له أن ينزل به، وأن ذلك أوجبه عدل الله وحكمته وعزته وعلمه وملكه العادل، فهو موجب أسمائه الحسنى وصفاته العلى، فله عليه أكمل حمد وأتمه، كما له الحمد على جميع أفعاله وأوامره"(1).
وأما المعنى الثاني: (للحكيم) وهو الموصوف بكمال الحكمة والإحكام والإتقان فينقسم إلى قسمين:
الأول: حكمته سبحانه في خلقه وصنعه.
الثاني: حكمته سبحانه في أمره وشرعه.
وعن هذين النوعين من الحكمة يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "وحكمته نوعان:
__________
(1) طريق الهجرتين 1/37، 38، ولم يشر الإمام ابن القيم هنا إلى الحكم الجزائي والذي هو من أنواع الحكم الذي هو لله وحده.(1/229)
أحدهما: الحكمة في خلقه فإنه خلق الخلق بالحق، ومشتملاً على الحق، وكان غايته والمقصود به الحق، خلق المخلوقات كلها بأحسن نظام، ورتبها أكمل ترتيب، وأعطى كل مخلوق خلقه اللائق به، بل أعطى كل جزء من أجزاء المخلوقات، وكل عضو من أعضاء الحيوانات خلقته، وهيئته، فلا يرى أحد في خلقه خللاً، ولا نقصًا، ولا فطورًا، فلو اجتمعت عقول الخلق من أولهم إلى آخرهم ليقترحوا مثل خلق الرحمن أو ما يقارب ما أودعه في الكائنات من الحسن، والانتظام، والإتقان لم يقدروا، وأنى لهم القدرة على شيء من ذلك.
وحسب العقلاء الحكماء منهم أن يعرفوا كثيرًا من حِكَمه، ويطلعوا على بعض ما فيها من الحسن والإتقان. وهذا أمر معلوم قطعًا بما يعلم من عظمته، وكمال صفاته، وتتبع حِكَمِه في الخلق، والأمر.
وقد تحدى عباده، وأمرهم أن ينظروا، ويكرروا النظر، والتأمل هل يجدون في خلقه خللاً أو نقصًا، وأنه لا بد أن ترجع الأبصار كليلة عاجزة عن الانتقاد على شيء من مخلوقاته.
النوع الثاني: الحكمة في شرعه وأمره،فإنه تعالى شرع الشرائع، وأنزل الكتب وأرسل الرسل ليعرفه العباد، ويعبدوه، فأي حكمة أجل من هذا، وأي فضل، وكرم أعظم من هذا، فإن معرفته تعالى، وعبادته وحده لا شريك له، وإخلاص العمل له وحده، وشكره، والثناء عليه أفضل العطايا منه لعباده على الإطلاق.
وأجل الفضائل لمن منَّ الله عليه بها، وأكمل سعادة، وسرورًا للقلوب، والأرواح، كما أنها هي السبب الوحيد للوصول إلى السعادة الأبدية، والنعيم الدائم.
فلو لم يكن في أمره، وشرعه إلا هذه الحكمة العظيمة التي هي أصل الخيرات، وأكمل اللذات، ولأجلها خلقت الخليقة، وحق الجزاء، وخلقت الجنة، والنار، لكانت كافية شافية.(1/230)
هذا وقد اشتمل شرعه، ودينه على كل خير، فأخباره تملأ القلوب علمًا، ويقينًا، وإيمانًا، وعقائد صحيحة، وتستقيم بها القلوب، ويزول انحرافها، وتثمر كل خلق جميل، وعمل صالح، وهدى، ورشد، وأوامره، ونواهيه محتوية على عناية الحكمة، والصلاح، والإصلاح للدين والدنيا فإنه لا يأمر إلا بما مصلحته خالصة أو راجحة، ولاينهى إلا عما مضرته خالصة أو راجحة.
ومن حكمة الشرع الإسلامي أنه كما هو الغاية لصلاح القلوب، والأخلاق، والأعمال، والاستقامة على الصراط المستقيم، فهو الغاية لصلاح الدنيا، فلا تصلح أمور الدنيا صلاحًا حقيقيًا إلا بالدين الحق الذي جاء به محمد ×.
وهذا مشاهد محسوس لكل عاقل، فإن أمة محمد × لما كانوا قائمين بهذا الدين أصوله، وفروعه، وجميع ما يهدي، ويرشد إليه كانت أحوالهم في غاية الاستقامة، والصلاح، ولما انحرفوا عنه، وتركوا كثيرًا من هداه، ولم يسترشدوا بتعاليمه العالية، انحرفت دنياهم كما انحرف دينهم.(1/231)
وكذلك انظر إلى الأمم الأخرى التي بلغت في القوة، والحضارة، والمدنية مبلغًا هائلاً، ولكن لما كانت خالية من روح الدين، ورحمته، وعدله كان ضررها أعظم من نفعها، وشرها أكثر من خيرها، وعجز علماؤها، وحكماؤها، وساساتها عن تلافي الشرور الناشئة عنها، ولن يقدروا على ذلك ماداموا على حالهم، ولهذا كانت من حكمته تعالى أن ما جاء به محمد × من الدين، والقرآن أكبر البراهين على صدقه، وصدق ما جاء به لكونه محكمًا كاملاً لا يحصل إلا به، وبالجملة، فالحكيم متعلقاته المخلوقات، والشرائع، وكلها في غاية الإحكام فهو الحكيم في أحكامه القدرية، وأحكامه الشرعية، وأحكامه الجزائية" (1).
__________
(1) الحق الواضح المبين ص 51، 52. [وإن مما يدخل أيضًا في أمره: الأمر الكوني القدري وهو ما يقدره سبحانه على خلقه من الحوادث والغير، فإن لله تعالى حكمته البالغة في كل ما يقتضيه ويقدره، سواء ظهرت هذه الحكمة أم خفيت، وأنبياء الله أعلم بهذا من غيرهم ولذلك قال يعقوب عليه السلام: عَسَى { اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) } [يوسف:83].(1/232)
وعن حكمة الله تعالى في خلقه وأمره يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "إن الأمر والقدر تفصيل للحكمة ومظهرها، فإنها خفية فلابد لظهورها من شرع يأمر به، وقدر يقضيه ويكونه، فتظهر حكمته سبحانه في هذا وهذا، فكيف يكون تفصيل الشيء، وما يظهره مناقضًا له منافيًا، بل يمتنع أن يكون إلا مصدقًا موافقًا، فإن التفصيل متى ناقض الأصل وضاده، كان دليلاً على بطلانه يوضحه. أن الرب - سبحانه وتعالى - له الأسماء الحسنى، وأسماؤه متضمنة لصفات كماله وأفعاله، ناشئة عن صفاته فإنه سبحانه لم يستفد كمالاً بأفعاله، بل له الكمال التام المطلق، وفعاله عن كماله، والمخلوق كماله عن فعاله، فإنه فعل فكمل بفعله، وأسماؤه الحسنى تقتضي آثارها، وتستلزمها استلزام المقتضي الموجب لموجبه ومقتضاه، فلابد من ظهور آثارها في الوجود فإن من أسمائه الخلاق المقتضي لوجود الخلق، ومن أسمائه الرزاق المقتضي لوجود الرزق والمرزوق، وكذلك الغفار والتواب والحكيم والعفو، وكذلك الرحمن الرحيم، وكذلك الحكم العدل إلى سائر الأسماء، ومنها الحكيم المستلزم لظهور حكمته في الوجود، والوجود متضمن لخلقه وأمره: { أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) } [الأعراف: 54].(1/233)
فخلقه وأمره صدرا عن حكمته وعلمه، وحكمته وعلمه اقتضيا ظهور خلقه وأمره، فمصدر الخلق والأمر عن هذين المتضمنين لهاتين الصفتين؛ ولهذا يقرن سبحانه بينهما عند ذكر إنزال كتابه، وعند ذكر ملكه وربوبيته إذ هما مصدر الخلق والأمر، ولما كان سبحانه كاملاً في جميع أوصافه، ومن أجلها حكمته كانت عامة التعلق بكل مقدور، كما أن علمه عام التعلق بكل معلوم، ومشيئته عامة التعلق بكل موجود، وسمعه وبصره عام التعلق بكل مسموع ومرئي، فهذا من لوازم صفاته، فلابد أن تكون حكمته عامة التعلق بكل ما خلقه، وقدره، وأمر به، ونهى عنه، وهذا أمر ذاتي للصفة يمتنع تخلفه وانفكاكه عنها، كما يمتنع تخلف الصفة نفسها وانفكاكها عنه...(1/234)
... إن الله - سبحانه وتعالى - فطر عباده حتى الحيوان البهيم على استحسان وضع الشيء في موضعه، والإتيان به في وقته، وحصوله على الوجه المطلوب منه، وعلى استقباح ضد ذلك وخلافه، وأن الأول دال على كمال فاعله وعلمه وقدرته وخبرته، وضده دال على نقصه وعلى نقص علمه وقدرته وخبرته، وهذه فطرة لا يمكنهم الخروج عن موجبها، ومعلوم أن الذي فطرهم على ذلك، وجعله فيهم أولى به منهم، فهو سبحانه يضع الأشياء في مواضعها التي لا يليق بها سواها، ويخصها من الصفات والأشكال والهيئات والمقادير بما هو أعلم بها من غيره، ويبرزها في أوقاتها وأزمنتها المناسبة لها التي لا يليق بها سواها، ومن له نظر صحيح، وفكر مستقيم، وأعطى التأمل حقه، شهد بذلك فيما رآه وعلمه واستدل بما شاهده على ما خفي عنه، فإن الكل صنع الحكيم العليم، ويكفي في هذا ما يعلمه من حكمة خلق الحيوان وأعضائه وصفاته وهيئاته ومنافعه، واشتماله على الحكمة المطلوبة منه أتم اشتمال، وقد ندب سبحانه عباده إلى ذلك فقال: { وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) } [الذاريات: 21]، وقال: { أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) } [الغاشية: 17] إلى آخرها، كذلك جميع ما يشاهد من مخلوقاته عاليها وسافلها، وما بين ذلك إذا تأملها صحيح التأمل والنظر وجدها مؤسسة على غاية الحكمة مغشاة بالحكمة، فقرأ سطور الحكمة على صفحاتها وينادي عليها: هذا صنع العليم الحكيم، وتقدير العزيز العليم، فإن وجدت العقول أوفق من هذا فلتقترحه، أو رأت أحسن منه فلتبده ولتوضحه. ذلك صنع: { الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) } [الملك: 3، 4].(1/235)
ومن نظر في هذا العالم وتأمل أمره حق التأمل علم قطعًا أن خالقه أتقنه وأحكمه غاية الإتقان والإحكام، فإنه إذا تأمله وجده كالبيت المبني المعد فيه جميع عتاده، فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض ممدودة كالبساط، والنجوم منضودة كالمصابيح، والمنافع مخزونة كالذخائر كل شيء منها لأمر يصلح له، والإنسان كالمالك المخول فيه وضروب النبات مهيأة لمآربه، وصنوف الحيوان مصرفة في مصالحه، فمنها ما هو للدر والنسل والغذاء فقط، ومنها ما هو للركوب والحمولة فقط، ومنها ما هو للجمال والزينة، ومنها ما يجمع ذلك كله كالإبل، وجعل أجوافها خزائن لما هو شراب، وغذاء، ودواء، وشفاء ففيها عبرة للناظرين، وآيات للمتوسمين، وفي الطير واختلاف أنواعها وأشكالها، وألوانها، ومقاديرها، ومنافعها، وأصواتها صافات، وقابضات، وغاديات، ورائحات، ومقيمات، وظاعنات أعظم عبرة وأبين دلالة على حكمة الخلاق العليم" (1).
__________
(1) الصواعق المرسلة 4/1365، "باختصار"، ومن أراد التوسع في معرفة بعض حِكَم الله - عز وجل - في خلقه وصنعه فليرجع إلى كتاب "مفتاح دار السعادة" لابن القيم - رحمه الله تعالى - حيث ذكر أمثلة كثيرة لعجائب خلق الله تعالى وحكمته في الآفاق والأنفس.(1/236)
وإن من العجائب أن يظهر في أهل القبلة بعض الطوائف التي تنفي صفة الحكمة لله تعالى حيث لا حكمة عندهم ولا تعليل لأفعال الله تعالى وأحكامه وأقضيته، وإنما هي المشيئة المجردة وهم الذين يعرفون بنفاة الحكمة والتعليل من الجبرية والجهمية ومن تبعهم، ويرون أن كل "لام" في القرآن توهم التعليل إنما هي لام العاقبة، وكل "باء" تشعر بالتسبب إنما هي باء المصاحبة. وقد أطال النفس في الرد عليهم الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في كتابه النفيس (مفتاح دار السعادة ومنشور دار الولاية) حيث فند مذهبهم هذا في أكثر من ستين وجهًا. وساق في الكتاب أمثلة كثيرة جدًا توضح حكمة الله تعالى وآياته في الآفاق وفي الأنفس، وحكمته سبحانه في دينه وشرعه - أنصح بالرجوع إليها - وأذكر هنا ما أورده من أقسام الناس في موقفهم من قدرة الله وحكمته.
قال رحمه الله تعالى: "إن العلم والقدرة المجردين عن الحكمة لا يحصل بهما الكمال والصلاح، وإنما يحصل ذلك بالحكمة معهما. واسمه سبحانه (الحكيم) يتضمن حكمته في خلقه، وأمره في إرادته الدينية والكونية، وهو حكيم في كل خلقه وأمر به.
والناس في هذا المقام أربع طوائف:(1/237)
"الطائفة الأولى" الجاحدة لقدرته وحكمته فلا يثبتون له سبحانه قدرة ولا حكمة، كما يقوله من ينفي كونه تعالى فاعلاً مختارًا، وأن صدور العالم عنه بالإيجاب الذاتي لا بالقدرة والاختيار، وهؤلاء يثبتون حكمة يسمونها عناية إلهية، وهم من أشد الناس تناقضًا، إذا لا يعقل حكيم لا قدرة له ولا اختيار، وإنما يسمون ما في العالم من المصالح والمنافع عناية إلهية من غير أن يرجع منها إلى الرب سبحانه إرادة ولا حكمة، وهؤلاء كما أنهم مكذبون لجميع الرسل والكتب فهم مخالفون لصريح العقل والفطرة، قد نسبوا الرب سبحانه إلى أعظم النقص، وجعلوا كل قادر مريد مختار أكمل منه وإن كان من كان، بل سَلْبُهم القدرة والاختيار والفعل عن رب العالمين شر من شرك عباد الأصنام به بكثير، وشر من قول النصارى إنه - تعالى عن قولهم - ثالث ثلاثة وإن له صاحبة وولدًا، فإن هؤلاء أثبتوا له قدرة وإرادة، واختيارًا وحكمة، ووصفوه مع ذلك بما لا يليق به. وأما أولئك فنفوا ربوبيته وقدرته بالكلية، وأثبتوا له أسماء لا حقائق لها ولا معنى.
و"الطائفة الثانية" أقرت بقدرته وعموم مشيئته للكائنات، وجحدت حكمته، وما له في خلقه من الغايات المحمودة المطلوبة له سبحانه التي يفعل لأجلها ويأمر لأجلها، فحافظت على القدرة وجحدت الحكمة، وهؤلاء هم النفاة للتعليل، والأسباب، والقوى، والطبائع في المخلوقات، فعندهم لا يفعل لشيء ولا لأجل شيء، وليس في القرآن عندهم "لام" تعليل ولا "باء" تسبب، وكل لام توهم التعليل فهي عندهم لام العاقبة، وكل باء تشعر بالتسبب فهي عندهم باء المصحابة. وهؤلاء سلطوا نفاة القدر عليهم بما نفوه من الحكمة والتعليل والأسباب ، فاستطالوا عليهم بذلك، ووجدوا مقالاً واسعًا بالشناعة فقالوا وشنعوا، ولعمر الله إنهم لمحقون في أكثر ما شنعوا عليهم به، إذ نفي الحكمة والتعليل والأسباب، له لوازم في غاية الشناعة، والتزامها مكابرة ظاهرة عند عامة العقلاء.(1/238)
و"الطائفة الثالثة" أقرت بحكمته وأثبتت الأسباب والعلل والغايات في أفعاله وأحكامه، وجحدت كمال قدرته، فنفت قدرته على شطر العالم وهو أشرف ما فيه من أفعال الملائكة، والجن، والإنس وطاعاتهم، بل عندهم هذه كلها لا تدخل تحت مقدوره سبحانه، ولا يوصف بالقدرة عليها ولا هي داخلة تحت مشيئته ولا ملكه، وليس في مقدوره عندهم أن يجعل المؤمن مؤمنًا، والمصلي مصليًا، والموفق موفقًا، بل هو الذي جعل نفسه كذلك. وعندهم أن أفعال العباد من الملائكة، والجن، والإنس كانت بغير مشيئته واختياره فتعالى الله عن قولهم. وهؤلاء سلطوا عليهم نفاة الحكمة والتعليل والأسباب فمزقوهم كل ممزق، ووجدوا طريقًا واسعًا إلى الشناعة عليهم، وأبدوا تناقضهم فقالوا وشنعوا ورموهم بكل داهية. ونفي قدرة الرب سبحانه على شطر المملكة له لوازم في غاية الشناعة والقبح والفساد، والتزامها مكابرة ظاهرة عند عامة العقلاء، ونفي التزامها تناقض بين، فصاروا بذلك بين التناقض - وهو أحسن حالهم - وبين التزام تلك العظائم التي تخرج عن الإيمان، كما كان نفاة الحكمة والأسباب والغايات كذلك.(1/239)
فهدى الله "الطائفة الرابعة" لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، فآمنوا بالكتاب كله، وأقروا بالحق جميعه، ووافقوا كل واحدة من الطائفتين على ما معها من الحق، وخالفوهم فيما قالوه من الباطل، فآمنوا بخلق الله وأمره بقدره وشرعه، وأنه سبحانه المحمود على خلقه وأمره، وأنه له الحكمة البالغة والنعمة السابغة، وأنه على كل شيء قدير: فلا يخرج عن مقدوره شيء من الموجودات أعيانها وأفعالها وصفاتها، كما لايخرج عن علمه، فكل ما تعلق به علمه من العالم تعلقت به قدرته ومشيئته. وآمنوا مع ذلك بأن له الحجة على خلقه، وأنه لا حجة لأحد عليه، بل لله الحجة البالغة، وأنه لو عذب أهل سماواته، وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، بل كان تعذيبهم منه عدلاً وحكمة لا بمحض المشيئة المجردة عن السبب والحكمة كما يقوله الجبرية، ولا يجعلون القدر حجة لأنفسهم ولا لغيرهم، بل يؤمنون به ولا يحتجون به، ويعلمون أن الله سبحانه أنعم عليهم بالطاعات، وأنها من نعمته عليهم وفضله وإحسانه، وأن المعاصي من نفوسهم الظالمة الجاهلة، وأنهم هم جناتها وهم الذين اجترحوها، ولا يحملونها على القضاء والقدر مع علمهم بشمول قضائه وقدره لما في العالم من خير، وشر، وطاعة، وعصيان، وكفر، وإيمان وأن مشيئة الله سبحانه محيطة بذلك كإحاطة علمه به، وأنه لو شاء ألا يعصى لما عصي، وأنه تعالى أعز وأجل من أن يعصى قسرًا، والعباد أقل من ذلك وأهون، وأنه ما شاء الله كان وكل كائن فهو بمشيئته، وما لم يشأ لم يكن، وما لم يكن فلعدم مشيئته، فله الخلق والأمر وله الملك والحمد، وله القدرة التامة والحكمة الشاملة البالغة. فهذه الطائفة هم أهل البصر التام. والأولى لهم العمى المطلق. والثانية والثالثة كل طائفة منهما له عين عمياء، ومع هذا فسرى العمى من العين العمياء إلى العين الصحيحة فأعماها، ولا يستكثر بتكرار هذه الكلمات من يعلم شدة الحاجة إليها، وضرورة(1/240)
النفوس إليها، فلو تكررت ما تكررت، فالحاجة إليها في محل الضرورة. والله المستعان" (1).
اقتران اسمه سبحانه (الحكيم) ببعض الأسماء الحسنى في القرآن الكريم:
أولاً: اقتران اسمه سبحانه (الحكيم) باسمه - عز وجل - (العزيز):
وقد تكرر هذا الاقتران في القرآن الكريم في آيات كثيرة وذلك في نحو ستة وأربعين موضعًا كما في قوله تعالى: { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) } [الصف: 1]، وقوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) } [المائدة: 38]، وقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِن اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) } [النساء: 56]. وغير ذلك من الآيات.
وعن سر اقتران هذين الاسمين الكريمين، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "فإن العزة: كمال القدرة، والحكمة: كمال العلم، وبهاتين الصفتين يقضي - سبحانه وتعالى - ما يشاء، ويأمر وينهى، ويثني، ويعاقب، فهاتان الصفتان: مصدر الخلق والأمر"(2).
وقال عند قوله تعالى: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ $JJح!$s% بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) } [آل عمران: 18] ختم بقوله: { الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ، فتضمنت الآية: توحيده وعدله، وعزته وحكمته.
فالتوحيد يتضمن: ثبوت صفات كماله ونعوت جلاله، وعدم التماثل له فيها؛ وعبادته وحده لا شريك له.
__________
(1) طريق الهجرتين 1/106، 107، 108.
(2) الجواب الكافي ص81.(1/241)
والعدل يتضمن: وضعه الأشياء موضعها، وتنزيلها منازلها، وأنه لم يخص شيئًا إلا بمخصص اقتضى ذلك، وأنه لا يعاقب من لا يستحق العقوبة، ولا يمنع من يستحق العطاء، وإن كان هو الذي جعله مستحقًا.
والعزة تتضمن: كمال قدرته، وقوته، وقهره.
والحكمة تتضمن: كمال علمه وخبرته، وأنه أمر ونهى وخلق، وقدر لما له في ذلك من الحكم والغايات الحميدة التي يستحق عليها كمال الحمد.
فاسمه (العزيز) يتضمن: الملك، واسمه (الحكيم) يتضمن: الحمد. وأول الآية يتضمن: التوحيد. وذلك حقيقة (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) وذلك أفضل ما قاله رسول الله × والنبيون من قبله (1).
وعن وجه تقديم اسمه سبحانه (العزيز) على (الحكيم) في جميع الآيات يقول رحمه الله تعالى: "وجه التقديم: أن العِزَّة: كمال القدرة، والحكمة: كمال العلم، وهو - سبحانه - الموصوف من كلِ صفة كمالٍ بأكملها وأعظمها وغايتها، فتقدم وصف القدرة، لأن متعلَّقه أقرب إلى مشاهدة الخلق؛ وهو مفعولاته تعالى وآياته، وأما الحكمة فمتعلَّقها بالنظر والفكر والاعتبار غالبًا؛ وكانت متأخرة عن متعلَّق القدرة.
وجهٌ ثانٍ: أن النظر في الحكمة بعد النظر في المفعول والعلم به، سينتقل منه إلى النظر فيما أودعه من الحكم والمعاني.
وجهٌ ثالثٌ: أن الحكمة غاية الفعل، فهي متأخرةٌ عنه تأخُر الغايات عن وسائلها، فالقدرة تتعلَّق بإيجاده، والحكمة تتعلَّق بغايته، فقدَّم الوسيلة على الغاية لأنها أسبق في الترتيب الخارجي" (2).
__________
(1) انظر: الترمذي في الدعوات باب (122) وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1503)، وانظر مدارج السالكين 3/460 - 461.
(2) بدائع الفوائد 1/63 - 64.(1/242)
ومن أسرار هذا الاقتران أيضًا ما ذكره الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله تعالى - وهو: "أن الجمع بين الاسمين دال على كمالٍ آخر، وهو أن عزته - تعالى - مقرونة بالحكمة، فعزته لا تقتضي ظلمًا وجورًا وسوء فعل، كما قد يكون من أعزاء المخلوقين، فإن العزيز قد تأخذه العزة بالإثم فيظلم ويجور ويسيء التصرف، وكذلك حكمه - تعالى - وحكمته مقرونان بالعز الكامل بخلاف حكم المخلوق وحكمته فإنها يعتريها الذل"(1).
ومن لطائف اقتران هذين الاسمين الكريمين:
ما ذكر الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) } [المائدة 38]، قال: "أما قوله: { وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } ، فالمعنى: عزيز في انتقامه، حكيم في شرائعه وتكاليفه".
قال الأصمعي: "كنت أقرأ سورة المائدة ومعي أعرابي. فقرأت هذه الآية فقلت: { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } سهوًا، فقال الأعرابي: كلام من هذا؟ فقلت كلام الله، قال أعد! فأعدت: { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ثم تنبهت فقلت: { وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } ، فقال الأعرابي: الآن أصبت. فقلت كيف عرفت؟! قال: يا هذا عزيز حكيم فأمر بالقطع "(2).
__________
(1) القواعد المثلى ص 10.
(2) التفسير الكبير للرازي 11/181.(1/243)
ومن لطائف ذلك أيضًا ما ذكره الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عند قوله سبحانه: { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) } [المائدة: 118]، حيث يقول: "ولم يقل "فإنك أنت الغفور الرحيم" وهذا من أبلغ الأدب مع الله تعالى، فإنه قاله في وقت غضب الرب عليهم، والأمر بهم إلى النار. فليس هو مقام استعطاف ولا شفاعة. بل مقام براءة منهم. فلو قال: "فإنك أنت الغفور الرحيم" لأشعر باستعطافه رَبَّه على أعدائه الذين قد اشتد غضبه عليهم. فالمقام مقام موافقة للرب في غضبه على مَنْ غضب الرب عليهم. فعدل عن ذكر الصفتين اللتين يسأل بهما عطفه ورحمته ومغفرته إلى ذكر العزة والحكمة، المتضمنتين لكمال القدرة وكمال العلم.
والمعنى: إن غفرت لهم فمغفرتك تكون عن كمال القدرة والعلم، ليست عن عجز عن الانتقام منهم، ولا عن خفاء عليك بمقدار جرائمهم، وهذا لأن العبد قد يغفر لغيره لعجزه عن الانتقام منه، ولجهله بمقدار إساءته إليه. والكمال: هو مغفرة القادر العالم، وهو العزيز الحكيم، وكان ذكر هاتين الصفتين في هذا المقام عين الأدب في الخطاب"(1).
ثانيًا: اقتران اسمه سبحانه [الحكيم] باسمه سبحانه (العليم]:
وورد ذلك في القرآن كثيرًا وذلك في نحو سبعة وثلاثين موضعًا، بعضها بتقديم اسم (الحكيم) على (العليم) كما في قوله تعالى: { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) } [الأنعام: 83].
وأكثر مواضع الاقتران يتقدم فيها اسمه (العليم) على (الحكيم) كما في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِن اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) } [الأحزاب: 1].
__________
(1) مدارج السالكين 2/379.(1/244)
ويلاحظ أن المقامات التي يتقدم فيها اسم (العليم) على اسم (الحكيم) منوطة بالعلم أولاً ثم بالحكمة.
" ففي مقام الاعتراف بالعجز وقصور العلم يقابله - ولابد - الإقرار والتسليم للعليم، فإذا كان { العليم } هو { الحكيم } فذلك هو العلم البالغ حد الكمال فيكون الاعتراف مصحوبًا بغاية الرضا والتسليم. كما في قوله تعالى عن الملائكة: { قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) } [البقرة: 32].
" وفي مقام ارتباط الصبر وانتظار الفرج باسم { العليم } ارتباط قوي، وذلك أن العبد إذا كان عظيم الإيمان، عميق الصلة بربه، واستلبث عليه الفرج لم يتزعزع يقينه، لأنه معتمد على علم الله - عز وجل - في اختيار الزمان الأنسب لما يرجوه من الفرج، معِّول على حكمته في تهيئة الأسباب له ليقع على أحسن ما يكون كما في قوله تعالى: { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) } [يوسف: 83].
" ومثل ذلك يقال في مقام التواضع والتحدث بنعمة الله وفضله، لأن قوامه أحداث ترجع إلى علم { العليم } وحكمة { الحكيم } كما في قوله تعالى عند يوسف عليه السلام: { وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) } [يوسف: 100].
" أما مقام التشريع وإقرار الحكم فالأمر فيه راجع إلى العلم الشامل أولاً لأنَّ العلم هو أساس بناء الأحكام، ثم تأتي الحكمة لتنزل الحكم على الواقع، كما في قوله تعالى: { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) } [التحريم: 2].(1/245)
وتقديم اسم { العليم } على { الحكيم } لأن مبنى الأحكام على إحاطة العلم أولاً ثم الحكمة في تنزيل العلم على الواقع بما يحقق الانسجام والتوافق بين الأحكام الشرعية والطبائع البشرية، وذلك ما يميز الشريعة الإسلامية عن الدساتير، والشرائع الوضعية.
أما تقدم اسمه سبحانه { الحكيم } على اسمه - عز وجل - { العليم } فيلاحظ أنه في مقامين هما:
1- مقام التوحيد كما في قوله تعالى: { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } [الأنعام: 83].
2- مقام إجراء المعجزات كما في قوله تعالى: { كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) } [الذاريات: 30]. وذلك أن مضمون الألوهية في مقام التوحيد قهر وقوة وغلبة، يقابلها من العباد طاعة وعبادة وخضوع، فتقديم الحكمة في هذا المقام - والله أعلم - ليعلم أن ألوهيته - عز وجل - السارية على من في السماوات والأرض مسارها الحكمة.
ولعله لما كان العلم الشامل هو رافد الحكمة، وعلى أساسه تنزل الأشياء منازلها، وتوضع الأمور في مواضعها التي بها تستقيم تبع اسم { الحكيم } باسم { العليم } .
أما مقام إجراء المعجزات فهو كذلك راجع إلى القوة الغالبة، والمشيئة الطليقة التي تعلو على سنن الكون ونواميسه، واقتران القوة بالحكمة هو ضمان انتظام الأمور، وألا تتحول إلى عبث يفضي إلي اختلال السنن وفساد الكون، فالحكمة هنا لها الصدارة، يليها العلم الذي على أساسه يكون إجراء السنن على ما قدر لها، أو تعطيلها لحكمة ترجع لعلم { العليم } (1).
__________
(1) انظر مطابقة أسماء الله الحسنى مقتضى المقام، د. نجلاء كردي ص556.(1/246)
ويقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عن اقتران اسمه سبحانه { الحكيم } باسمه - عز وجل - { العليم } : "العلم والحكمة متضمنان لجميع صفات الكمال، فالعلم يتضمن الحياة ولوازم كمالها من: القيومية والقدرة، والبقاء، والسمع، والبصر، وسائر الصفات التي يستلزمها العلم التام.
والحكمة تتضمن كمال الإرادة والعدل، والرحمة، والإحسان، والجود، والبر، ووضع الأشياء مواضعها على أحسن وجوهها، ويتضمن إرسال الرسل، وإثبات الثواب والعقاب"(1)، والحكمة أخص من العلم، إذ هي إجراء العلم على نحو خاص يحقق أسمى الغايات.
ثالثًا: اقتران اسمه سبحانه { الحكيم } باسمه - عز وجل - { الخبير } :
سبق القول في أول الكلام عن هذا الاسم الكريم أنه جاء مقترنًا باسمه سبحانه { الخبير } في أربع آيات من القرآن وهي قوله تعالى: { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) } [الأنعام: 18]، وقوله سبحانه: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ قOٹإ3pّ:$# الْخَبِيرُ (1) } [سبأ: 1]، وقوله - عز وجل -: { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) } [هود: 1].
وقوله سبحانه: { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) }
[الأنعام: 73].
__________
(1) أسماء الله الحسنى لابن القيم 127.(1/247)
يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عن وجه اقتران هذين الاسمين الجليلين أنهما دالان: "على كمال الإرادة وأنها لا تتعلق بمراد إلا لحكمة بالغة وعلى كمال العلم، وأنه كما يتعلق بظواهر المعلومات فهو متعلق ببواطنها التي لا تدرك إلا بالخبرة، فنسبة الحكمة إلى الإرادة كنسبة الخبرة إلى العلم. فالمراد ظاهر، والحكمة باطنة، والعلم ظاهر والخبرة باطنة، فكمال الإرادة أن تكون واقعة على وجه الحكمة، وكمال العلم أن يكون كاشفًا عن الخبرة، فالخبرة باطن العلم وكماله، والحكمة باطن الإرادة وكمالها"(1).
وفي آية الأنعام ورد اسمه سبحانه { القاهر } مع اسميه سبحانه { الحكيم الخبير } المقترنين، ووجه الجمع بين هذه الأسماء الحسنى - والله أعلم- أن { القاهر } وصف دال على كمال القدرة والقوة والغلبة التي لا يملك المقهور حيالها أي مدافعة، بل الإذعان والخضوع، أما { الحكيم } فهو كما سبق ذو الحكمة المتقن لخلق الأشياء، وهو وصف يقتضي أنه - سبحانه - يضع الأشياء في محالها بحكمته، وأنه لا يفعل إلا ما كان صوابًا .
فلما ورد اسم { القاهر } الذي يحصل منه الخوف والوجل والشعور بمعنى القهر والفوقية، جاء بعده اسم { الحكيم } الذي يدل على أن جريان تصرفه وسلطانه إنما هو على مقتضى الإصلاح ومنع الفساد، فإذا وقع للعبد من أقداره سبحانه ما يكره فليوقن أن وراء ذلك الحكمة التي لا يدركها إلا { الخبير } الذي يصل علمه إلى الخفايا وبواطن الأمور. وبذلك تطمئن النفوس من الخوف، وتسكن من القلق والاضطراب. بخلاف قهر الجبابرة من المخلوقين الذين غالبًا ما يكون عن ظلم، وشهوة، وعدوان(2).
__________
(1) بدائع الفوائد 1/87.
(2) انظر "مطابقة أسماء الله الحسنى مقتضى المقام" د. نجلاء الكردي ص 507، 508.(1/248)
أما في آية سبأ فجمع الله - عز وجل - فيها بين حمده سبحانه وبين هذين الاسمين الكريمين، وعن هذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "ابتدأ سبحانه السورة بحمده الذي هو أعم المعارف وأوسع العلوم، وهو متضمن لجميع صفات كماله ونعوت جلاله، مستلزم لها كما هو متضمن لحكمته في جميع أفعاله وأوامره، فهو المحمود على كل حال، وعلى كل ما خلقه وشرعه، ثم عقب هذا الحمد بملكه الواسع المديد فقال: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } [سبأ: 1] ثم عقبه بأن هذا الحمد ثابت له في الآخرة غير منقطع أبدًا، فإنه حمد يستحقه لذاته وكمال أوصافه، وما يستحقه لذاته دائم بدوامه لا يزول أبدًا، وقرن بين الملك والحمد على عادته تعالى في كلامه؛ فإن اقتران أحدهما بالآخر له كمال زائد على الكمال بكل واحد منهما، فله كمال من ملكه، وكمال من حمده، وكمال من اقتران أحدهما بالآخر، فإن الملك بلا حمد يستلزم نقصًا، والحمد بلا ملك يستلزم عجزًا، والحمد مع الملك غاية الكمال... ثم عقب هذا الحمد والملك باسم (الحكيم الخبير) الدالين على كمال الإرادة، وأنها لا تتعلق بمراد إلا لحكمة بالغة وعلى كمال علم، وأنه كما يتعلق بظواهر المعلومات فهو متعلق ببواطنها التي لا تدرك إلا بخبرة، فنسبة الحكمة إلى الإرادة كنسبة الخبرة إلى العلم"(1).
رابعًا: اقتران اسمه سبحانه (الحكيم) باسمه سبحانه (العلي):
جاء هذا الاقتران في آية واحدة من كتاب الله - عز وجل - وهي قوله تعالى: { * وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) } [الشورى: 51].
وقد سبق ذكر وجه الاقتران عند الكلام عن اسمه سبحانه (العلي) فليرجع إليه.
خامسًا: اقتران اسمه سبحانه (الحكيم) باسمه سبحانه (التواب):
__________
(1) بدائع الفوائد 1/87.(1/249)
وذلك في قوله سبحانه: { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) } [النور: 10].
وهذه الآية جاءت بعد ذكر حد الزنا، وحد قذف المحصنات وأحكام الملاعنة ومناسبة ختمها بهذه الآية الكريمة. يقول ابن عاشور في التحرير والتنوير: "هذا تذييل لما مر من الأحكام العظيمة المشتملة على التفضل من الله والرحمة منه، والمؤذنة بأنه تواب على من تاب من عباده، والمثبتة بكمال حكمته تعالى إذ وضع الشدة موضعها، والرفق موضعه، وكف بعض الناس عن بعض، فلما دخلت تلك الأحكام تحت كل هذه الصفات كان ذكر الصفات تذييلاً ... وفي ذكر وصف (الحكيم) هنا مع وصف (تواب) إشارة إلى أن في هذه التوبة حكمة، وهي استصلاح الناس"(1).
سادسًا: اقترن اسمه سبحانه (الحكيم) باسمه سبحانه (الحميد):
وقد جاء هذا الاقترن في آية واحدة من القرآن وذلك في قوله تعالى: { تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) } [فصلت: 42].
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: { تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ } في خلقه وأمره يضع كل شيء موضعه وينزله منازله، { حَمِيدٍ } على ماله من صفات الكمال ونعوت الجلال، وعلى ماله من العدل والإفضال، فلهذا كان كتابه مشتملاً على تمام الحكمة وعلى تحصيل المصالح والمنافع، ودفع المفاسد والمضار التي يحمد عليها"(2).
وقد سبق كلام الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عند افتتاح سورة سبأ بقوله تعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) } [سبأ: 1] ، حيث الجمع بين (الحمد) لله واسميه سبحانه (الحكيم الخبير) وهذا مشابه لقوله تعالى: { حَكِيمٍ حَمِيدٍ } فليرجع إلى كلامه - رحمه الله تعالى - تجنبًا للتكرار.
__________
(1) تفسير التحرير والتنوير 9/168، 169.
(2) تفسير السعدي 4/402.(1/250)
سابعًا: اقتران اسمه سبحانه (الحكيم) باسمه سبحانه (الواسع):
وقد ورد ذلك في القرآن الكريم مرة واحدة، وذلك في قوله تعالى: { وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) } [النساء: 130]، يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: { وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا } أي: "كثير الفضل واسع الرحمة، وصلت رحمته وإحسانه حيث وصل إليه علمه. وكان مع ذلك (حكيمًا) أي: يعطي بحكمته ويمنع لحكمته. فإذا اقتضت حكمته منع بعض عبده من إحسانه بسبب في العبد لا يستحق معه الإحسان، حرمه عدلاً وحكمة"(1)، أي: "أن هذه الحكمة من المنع لا تقدح في كونه واسعًا فالله سبحانه واسع العطاء، واسع الحكمة، واسع الفضل والإحسان والرحمة"(1).
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (الحكيم):
مر بنا سابقًا أن اسمه سبحانه (الحكيم) تظهر آثاره الجلية في:
1- خلقه وصنعه في الآفاق والأنفس.
2- وفي أمره الديني الشرعي.
3- وفي أمره الكوني القدري.
وهذه الآثار العظيمة التي لا تعد ولا تحصى ينبغي أن تنعكس على إيمان العبد في قلبه وسلوكه وحياته وأن يتعبد لربه بها، ومن أهم هذه الثمار العظيمة ما يلي:
أولاً: أن شهود آثار حكمته سبحانه في خلقه وإتقانه لصنعه تثمر في القلب:
أ- محبة عظيمة لله - عز وجل - وذلك لما يشاهده العبد من الحكمة البالغة والخلق البديع والصنعة المتقنة التي تكفل للإنسان، الحياة الطيبة السعيدة، والتي تنشأ من هذه النعم العظيمة في خلق الإنسان وفي هذا النظام البديع الدقيق في خلق هذا الكون الفسيح الذي سخره الله - عز وجل - للإنسان ليعمره بطاعة الله تعالى وعبادته.
ب- كما أن هذا الشهود يثمر في القلب تعظيم الله تعالى والخوف منه سبحانه والحياء منه، والتأدب معه، وذلك بإخلاص العبادة له سبحانه والتماس مرضاته، وتجنب مساخطه.
__________
(1) تفسير السعدي 1/421.(1/251)
ثانيًا: وفي شهود آثار حكمته سبحانه في أمره الديني الشرعي وأحكامه الشرعية التي شرعها لمصالح عباده في الدارين ثمار عظيمة تظهر آثارها في قلب المؤمن وحياته كلها ومن ذلك:
أ- محبة الله - عز وجل - المحبة العظيمة، حيث أنزل هذه الأحكام العظيمة التي تظهر فيها حكمته سبحانه المتمثلة في هذه المصالح الكبرى والخير العظيم الذي احتوته هذه الشريعة التي تحفظ للإنسان دينه، ونفسه، وعقله، وماله، وعرضه، وتكفل له الحياة السعيدة في الدنيا والآخرة.
ب- شعور الغبطة والسرور بالهداية لهذه الشريعة العظيمة التي هي من لدن الحكيم الخبير، تنزيل من حكيم حميد، والسعي الحثيث لشكر الله تعالى عليها، والمحافظة عليها، وتجنب أسباب زوالها، والسعي لنشرها بين الناس.
جـ- الإذعان لأحكامه سبحانه الدينية وأوامره الشرعية، والاستسلام التام لها وألا يكون في القلب منها أدنى ريبة ولا حرج، قال الله - عز وجل -: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) } [الأحزاب: 36]، وقال سبحانه: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) } [النساء: 65].(1/252)
وهذا الإذعان لأحكام الله تعالى الشرعية واجب وفرض متعين على الفرد، والمجتمع، والدولة، وذلك بأن يكون الحكم والتحاكم إلى شرع الله وحده، ورفض ما سواه. فمن لم يرى الكفاية في شرع الله تعالى فأعرض عنه أو بدله بغيره ولو في بعضه فإن هذا العمل مناقض للإيمان باسمه سبحانه (الحكيم) فضلاً عن أنه شرك في الطاعة والاتباع، بل شرك في توحيد الربوبية والذي من خصائصها السيادة، والحكم، والتشريع، وكلها حق لله تعالى لا يجوز صرفها لغيره سبحانه.
وإن خطورة هذا الشرك لتظهر جليًا في عصرنا اليوم الذي أُقْصي فيه شرع الله - عز وجل - جانبًا، وحكم في الأنفس، والعقول، والأموال، والأعراض بأنظمة البشر وأهواء البشر، التي تخلو من العلم والحكمة، ومعرفة عواقب الأمور، وإنما الذي يسيطر عليها الجهل، والهوى، والتخبط. وإنه لم يظهر مثل هذا الشرك الخطير في تاريخ الأمة الإسلامية كما ظهر في زماننا اليوم(1).
__________
(1) يرجع إلى رسالة (تحكيم القوانين)، للشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله تعالى.(1/253)
وعن الاستسلام لشرع الله تعالى وأوامره ونواهيه يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "إن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم، وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، ولهذا لم يحك الله سبحانه عن أمة نبي صدقت نبيها، وآمنت بما جاء به، أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به، ونهاها عنه، وبلغها عن ربها، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها. بل انقادت، وسلمت، وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها، وإيمانها، واستسلامها على معرفته، ولا جعلت طلبه من شأنها. وكان رسولها أعظم في صدورها من سؤالها عن ذلك كما في الإنجيل: "يابني إسرائيل لا تقولوا: لم أمر ربنا، ولكن قولوا: بم أمر ربنا"؛ ولهذا كانت هذه الأمة التي هي أكمل الأمم عقولاً، ومعارف وعلومًا لا تسأل نبيها لم أمر الله بذلك؟ ولم نهى عن كذا؟ ولم قدر كذا؟ ولم فعل كذا؟ لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والاستسلام، وأن قدم الإسلام لا تثبت إلا على درجة التسليم، وذلك يوجب تعظيم الرب تعالى وأمره ونهيه، فلا يتم الإيمان إلا بتعظيمه، ولا يتم تعظيمه إلا بتعظيم أمره ونهيه، فعلى قدر تعظيم العبد لله سبحانه يكون تعظيمه لأمره ونهيه، وتعظيم الأمر دليل على تعظيم الآمر، وأول مراتب تعظيم الأمر التصديق به، ثم العزم الجازم على امتثاله، ثم المسارعة إليه والمبادرة به رغم القواطع والموانع، ثم بذل الجهد والنصح في الإتيان به على أكمل الوجوه، ثم فعله لكونه مأمورًا به، بحيث يتوقف الإنسان على معرفة حكمته، فإن ظهرت له فعله وإلا عطله، فهذا من عدم عظمته في صدره، بل يسلم لأمر الله وحكمته، ممتثلاً ما أمر به، سواء ظهرت له حكمته أو لم تظهر، فإن ورد الشرع بذكر حكمة الأمر، أوفقهها العقل، كانت زيادة في البصيرة والداعية في الامتثال، وإن لم تظهر له حكمته لم يوهن ذلك انقياده، ولم يقدح في امتثاله، فالمعظم لأمر الله(1/254)
يجري الأوامر والنواهي على ما جاءت لا يعللها بعلل توهنها وتخدش في وجه حسنها فضلاً عن أن يعارضها بعلل تقتضي خلافها، فهذا حال ورثة إبليس. والتسليم والانقياد والقبول حال ورثة الأنبياء"(1).
ثالثًا: وفي شهود آثار حكمته سبحانه في أقداره ثمار عظيمة في القلب والسلوك منها الرضا بقضاء الله تعالى وقدره، والإيمان بأن ما يقضيه الله - عز وجل - من أحكامه الكونية القدرية فيها الحكمة البالغة، وفيها الصلاح والخير، إما في الحال أو المآل مما نعلمه وما لا نعلمه مما يعود إلى كمال علمه وحكمته، ولو ظهر فيها شيء مما تكرهه النفوس وتتألم منه مما يقدره الله سبحانه، ففيه الخير والصلاح للناس، ولو لم يظهر للبشر هذه الخيرية؛ فلابد من الإيمان بأن الله - عز وجل - له الحكمة البالغة فيما يقدر، وهذا مما يقتضيه اسم الله (الحكيم).
يقول صاحب الظلال رحمه الله تعالى: "إنه من يدري فلعل وراء المكروه خيرًا، ووراء المحبوب شرًا، إن العليم بالغايات البعيدة المطلع على العواقب المستورة هو الذي يعلم وحده، حيث لا يعلم الناس شيئًا"(2) أهـ.
والمقصود: أن الإيمان بأن الله سبحانه حكيم في قضائه وقدره؛ يثمر في قلب المسلم الاستسلام والرضا بما يقدره الله - عز وجل - من الأحكام الكونية القدرية، من مصائب وأمراض وغيرها، مما لا يستطيع دفعه بالأسباب الشرعية، أما ما يمكن دفعه ومنازعته بقدر آخر من أقدار الله - عز وجل - فإن هذا لا يعارض الإيمان بالقدر، كما سبق نقله عن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى(3).
__________
(1) الصواعق المرسلة 4/1560 - 1562.
(2) في ظلال القرآن 1/223.
(3) انظر ص287،286(1/255)
فالإيمان بعلم الله - عز وجل - وكتابته لجميع المقادير قبل وقوعها، ثم الإيمان بأنه سبحانه حكيم فيما يفعل ويقضي ويقدر، كل هذا يبث الرَّوح والطمأنينة ويسكبها في قلب المسلم المخبت لربه، المطمئن لقضائه وقدره، الموقن بأن كل ما يكتبه الله - عز وجل - عليه من مصائب وغيرها فهي خير له إما عاجلاً أو آجلاً، كما قال تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [البقرة: 185]، وكما قال ×: (عجبًا لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير؛ وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له)(1).
ولقد كان أنبياء الله - عز وجل - يدركون ما في أسماء الله - عز وجل - من العبوديات وما يلزم عليها من الرضا والتسليم والطمأنينة لقضاء الله وقدره.
فهذا نبي الله يعقوب - عليه الصلاة والسلام - عندما جاءه الخبر بحجز ابنه الثاني عند عزيز مصر - وقد سبق ذلك فقده ليوسف - عليه السلام - توجه برجائه ودعائه لله عز وجل.
قال تعالى يحكي حاله: { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) }
[يوسف: 83].
وكذلك الحال ليوسف - عليه السلام - عندما جمعه الله بأبويه، حيث قال: { وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) } [يوسف: 100].
ومن خلال التأمل للآيتين السابقتين نلاحظ أن يعقوب وابنه - عليهما الصلاة والسلام - قد ختما تضرعهما لله - عز وجل - بعد المصائب التي حلت بهما بهذين الاسمين العظيمين (العليم الحكيم).
__________
(1) صحيح مسلم (2999).(1/256)
واختيار هذين الاسمين الجليلين في هذا المقام له دلالته ومغزاه؛ فأعرف الناس بالله - عز وجل - هم أنبياؤه ورسله، ولقد ختما تضرعهما إلى الله - عز وجل - باسم (العليم الحكيم)، وذلك - والله أعلم - لما يبثه هذان الاسمان الكريمان في قلب المسلم من الرضا والطمأنينة والتسليم لقدر الله - عز وجل -، وأن شيئًا في هذا الكون لا يحدث إلا بعلم الله - عز وجل - وحكمته البالغة.
والمقصود أن ظهور آثار حكمته سبحانه في قضائه وقدره، والإيمان الجازم بأن له سبحانه الحكمة البالغة بما ظهر أو لم يظهر لنا من الحكمة كل ذلك يثمر الطمأنينة، والسعادة، والرَّوح فيما يصيب المسلم من مصائب ومكروهات، كما يثمر راحة القلب من الهموم والحسد، والحقد التي هي في حقيقتها معارضة لأحكام الله القدرية، وارتياب في حكمة الله تعالى البالغة.
رابعًا: سؤال الله - عز وجل - الحكمة لأنه سبحانه هو مالكها ومسديها مع بذل الأسباب في تحصيلها بالعلم النافع، والعمل الصالح، قال الله سبحانه: { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) } [البقرة: 269].(1/257)
يقول الشيخ السعدي - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: "والحكمة هي: العلوم النافعة، والمعارف الصائبة، والعقول المسددة، والألباب الرزينة، وإصابة الصواب في الأقوال والأفعال، وهذا أفضل العطايا، وأجل الهبات، ولهذا قال: { وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } لأنه خرج من ظلمة الجهالات إلى نور الهدى، ومن حمق الانحراف في الأقوال والأفعال، إلى إصابة الصواب فيها، وحصول السداد، ولأنه كمل نفسه بهذا الخير العظيم، واستعد لنفع الخلق أعظم نفع، في دينهم ودنياهم. وجميع الأمور لا تصلح إلا بالحكمة، التي هي: وضع الأشياء في مواضعها، وتنزيل الأمور منازلها، والإقدام في محل الإقدام، والإحجام في موضع الإحجام، ولكن ما يتذكر هذا الأمر العظيم، وما يعرف قدر هذا العطاء الجسيم إلا { أُولُو الْأَلْبَابِ } وهم: أهل العقول الوافية، والأحلام الكاملة، فهم الذين يعرفون النافع فيعملونه، والضار فيتركونه، وهذان الأمران، وهما: بذل النفقات المالية، وبذل الحكمة العلمية، أفضل ما تقرب به المتقربون إلى الله، وأعلى ما وصلوا به إلى أجل الكرامات، وهما اللذان ذكرهما النبي × بقوله: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يعلمها الناس)" (1)(2).
__________
(1) البخاري (73)، مسلم (816).
(2) تفسير السعدي 1/214.(1/258)
وأختم الحديث عن هذا الاسم الجليل الكريم بكلام نفيس للإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - يبين فيه موقف المسلم الحق أمام ما خفي من الحكم في خلق بعض المخلوقات، وما خفي من الحكم في أوامره الشرعية وأوامره القدرية، يقول رحمه الله تعالى: "قد شهدت الفِطَر والعقول بأن للعالم ربّاً قادرًا حليمًا عليمًا رحيمًا كاملاً في ذاته وصفاته لا يكون إلا مريدًا للخير لعباده مُجرِيًا لهم على الشريعة والسِّنّة الفاضلة العائدة باستصلاحهم، الموافقة لما ركّب في عقولهم من استحسان الحسن واستقباح القبيح وما جبل طِباعهم عليه من إيثار النافع لهم، المُصلِح لشأنهم، وترك الضارَ المُفسِد لهم، وشهدت هذه الشريعة له بأنه أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأنه المحيط بكل شيء علمًا، وإذا عرف ذلك فليس من الحكمة الإلهية، بل ولا الحكمة في ملوك العالم أنهم يسوّون بين مَن هو تحت تدبيرهم في تعريفهم كلما يعرفه الملوك وإعلامهم جميع ما يعلمونه، وإطلاعهم على كل ما يجرون عليه سياساتهم في أنفسهم، وفي منازلهم حتى لا يقيموا في بلد فيها إلا أخبروا من تحت أيديهم بالسبب في ذلك المعنى الذي قصدوه منه، ولا يأمرون رعيتهم بأمر ولا يضربون عليهم بعثًا، ولا يسوسونهم سياسة إلا أخبروهم بوجه ذلك وسببه وغايته ومدّته، بل لا تتصرّف بهم الأحوال في مطامعهم وملابسهم ومراكبهم إلا أوقفوهم على أغراضهم فيه. ولا شكّ أن هذا مُنافٍ للحكمة والمصلحة بين المخلوقين فكيف بشأن ربّ العالمين، وأحكم الحاكمين الذي لا يشاركه في علمه ولا حكمته أحد أبدًا. فحسب العقول الكاملة أن تستدلّ بما عرفت من حكمته على ما غاب عنها، وتعلم أن له حكمة في كل ما خلقه وأمر به وشرعه، وهل تقتضي الحكمة أن يخبر الله تعالى كل عبد من عباده بكل ما يفعله ويوقفهم على وجه تدبيره في كل ما يريده وعلى حكمته في صغير ما ذرأ وبرأ من خليقته وهل في قوى المخلوقات ذلك، بل طوى سبحانه كثيرًا من صنعه وأمره عن(1/259)
جميع خلقه، فلم يُطلِع على ذلك ملكًا مقرّبًا، ولا نبيّاً مرسلاً. والمدبّر الحكيم من البشر إذا ثبتت حكمته وابتغاؤه الصلاح لمن تحت تدبيره وسياسته كفى في ذلك عن تتبّع مقاصده فيمن يولي ويعزل، وفي جنس ما يأمر به وينهى عنه، وفي تدبيره لرعيّته وسياسته لهم دون تفاصيل كل فعل من أفعاله، اللَّهم إلا أن يبلغ الأمر في ذلك مبلغًا لا يوجد لفعله منفذ ومساغ في المصلحة أصلاً، فحينئذ يخرج بذلك عن استحقاق اسم الحكيم. ولن يجد أحد في خلق الله ولا في أمره ولا واحدًا من هذا الضرب، بل غاية ما تخرجه نفس المتعنت أمور يعجز العقل عن معرفة وجوهها وحكمتها. وأما أن ينفي ذلك عنها - فمعاذ الله - إلا أن يكون ما أخرجه كذب على الخلق والأمر فلم يخلق الله ذلك ولا شرعه. وإذا عرف هذا فقد علم أن ربّ العالمين أحكم الحاكمين، والعالم بكل شيء، والغني عن كل شيء، والقادر على كل شيء، ومن هذا شأنه لم تخرج أفعاله وأوامره قطّ عن الحكمة، والرحمة، والمصلحة، وما يخفى على العباد من معاني حكمته في صنعه وإبداعه وأمره وشرعه فيكفيهم فيه معرفته بالوجه العام أن تضمنته حكمة بالغة، وإن لم يعرفوا تفصيلها وأن ذلك من علم الغيب الذي استأثر الله به فيكفيهم في ذلك الإسناد إلى الحكمة البالغة العامّة الشاملة التي علموا ما خفي منها بما ظهر لهم. هذا وإن الله تعالى بنى أمور عباده على أن عرّفهم معاني جلائل خلقه وأمره دون دقائقهما وتفاصيلهما، وهذا مطرد في الأشياء أصولها وفروعها"(1).
- - -
(27) [الواسع]
ورد ذكر هذا الاسم الكريم في القرآن الكريم في تسع آيات منها:
__________
(1) مفتاح دار السعادة 1/318.(1/260)
قوله تعالى: { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِن اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) } [البقرة: 115]، وقوله تعالى: { وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) } [البقرة: 247]، وقوله تعالى: { وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) } [البقرة: 268]، وقوله سبحانه: { وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) } [النساء: 130]، وقوله تبارك وتعالى: { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) } [المائدة: 54].
المعنى اللغوي (للواسع):
"السعة: نقيض الضيق... وشيء وسيع وأُسيع: واسع"(1).
وقال الجوهري: "والوُسْع والسعة: الجدة والطاقة.. وأوسع الرجل إذا صار ذا سعة وغنى"(2).
وقال الزجاج: "أصل السعة في الكلام: كثرة أجزاء الشيء، يقال: إناء واسع، وبيت واسع، ثم قد يستعمل في الغنى. يقال: فلان يعطي من سعة، يراد من غنى وجده"(3).
وقال الراغب: "السعة تقال في الأمكنة، وفي الحال، وفي الفعل كالقدرة والجود ونحو ذلك"(4).
معناه في حق الله تعالى:
قال في اللسان: "الواسع هو الذي وسع رزقه جميع خلقه، ووسعت رحمته كل شيء، وغناه كل فقر"(5).
ويقول الخطابي رحمه الله: "الواسع: هو الغني الذي وسع غناه مفاقر عباده، ووسع رزقه جميع خلقه، والسعة في كلام العرب: الغنى. ويقال: الله يعطي عن سعة أي عن غنى" (6).
ويقول الطبري - رحمه الله - عند قوله تعالى: { إِن اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) } [البقرة: 115]: "يعني جل ثناؤه بقوله: { واسع } أي: يسع خلقه كلهم بالكفاية والاتصال والجود والتدبير"(7).
__________
(1) انظر اللسان 6/ 4835.
(2) الصحاح 3/1298.
(3) تفسير الأسماء ص51.
(4) المفردات 523.
(5) انظر اللسان 6/ 4835.
(6) شأن الدعاء ص 72.
(7) تفسير الطبري 1/403.(1/261)
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "الواسع الصفات والنعوت ومتعلقاتها بحيث لا يحصي أحد ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، واسع العظمة والسلطان والملك، واسع الفضل والإحسان، عظيم الجود والكرم" (1).
ويلاحظ في هذا المعنى أن كل واحد منها أخذ ببعض معان ومقتضيات هذا الاسم الجليل، وإلا فاسم (الواسع) يشمل - كما قال الشيخ السعدي - جميع الصفات والنعوت، فهو الواسع في علمه، وهو الواسع في غناه، وهو الواسع في فضله وإنعامه وجوده، وهو الواسع في قوته وعظمته وجبروته، وهو الواسع في قدرته، الواسع في حكمته، وهو الواسع في مغفرته ورحمته.
من آثار هذا الاسم الكريم:
يذكر الشيخ الأشقر - حفظه الله تعالى - بعض هذه الآثار ومنها:
1- سعة جود الله وكرمه: أما سعة جود الله وكرمه، وإحسانه وبسط نعمه فباب كبير، يلحظه العباد فيما ينزله الله من السماء من ماء، وما تجري به الأنهار، في جنبات الأرض مشرقه ومغربه، وما يخرجه الله من نبات الأرض وأشجارها وثمارها، وما تموج به البحار من خيرات مما لا يعلمه ولا يحصيه إلا رب العباد، ومنها ما يوسع الله به على بعض خلقه دون بعض، كما قال سبحانه: { وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) } [البقرة: 247]، وقال: { وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) } [البقرة: 261]، وقال: { إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) } [النور: 32].
2- سعة علم الله: وعلم الله أيضًا واسع، كما قال سبحانه: { إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) } [طه: 98]، وقال: { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا } [الأعراف: 89].
__________
(1) تفسير السعدي 5/631.(1/262)
ولسعة علم الله فإن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، لا من الجماد، ولا من الحيوان، ولا النبات، سواءً كان صغيرًا أو كبيرًا، ظاهرًا أو خفيًا.
وقد ضرب الله لنا الأمثال لنتعرف على سعة علمه تبارك وتعالى فقال: { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) } [لقمان: 27]، وقال: { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) } [الكهف: 109].
وقد أخبرنا ربنا عن سعة علمه في الآيتين السابقتين بمثل ضربه، كي يفقهه أولو الألباب، ضرب الله مثلاً لكلماته التي خلق بها الخلق، وأوجد بها الكون، بأن أشجار الأرض كلها لو تحولت إلى أقلام يكتب بها، وتحولت البحار إلى مداد، وفنيت بحار الأرض كلها، وجيء بقدر هذه البحار سبع مرات، لفني هذا كله، وبقيت كلمات الله لم تنفد.
3- سعة رحمة الله ومغفرته: والله واسع في رحمته، كما قال سبحانه: { عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [الأعراف: 156]، وقال حملة العرش في دعائهم ربهم: { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } [غافر: 7].
وسعة رحمة الله تظهر فيما أنزله الله على عباده من الكتب، وفيمن أرسله من الرسل لهدايتنا إلى الصراط المستقيم، كما تظهر في خلقنا وإيجادنا ورزقنا وإطعامنا، وهذا باب كبير، حيثما نظر العبد في كون الله الواسع شاهده ظاهرًا مشهودًا.
والله واسع في مغفرته وعفوه فمهما عظمت ذنوب العباد، فإن عفو الله ومغفرته أوسع وأعظم، كما قال سبحانه: { إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ }
[النجم: 32].(1/263)
وقد دلنا ربنا على سعة مغفرته بقوله: { * قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) } [الزمر: 53].
وحدثنا عن حملة العرش أنهم يقولون في دعائهم: { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) } [غافر: 7].
وقال الحق تبارك وتعالى: { قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [الأعراف: 156].
4- سعة خلق الله تعالى وصنعه: والله واسع في خلقه وإيجاده، فهذه الأرض، سهولها وجبالها وبحارها وأنهارها واسعة: { وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا } [الرعد: 3].
وتلك السماء واسعة في بنائها: { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) } [الذاريات: 47].
ومع سعة الأرض والسماء وما فيهما وما بينهما، فإن الله خلق خلقًا أوسع من ذلك: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } [البقرة: 255].
5- سعة شريعة الله: والله واسع في تشريعه وحكمته، ومن هنا فإن الشريعة التي أنزلها الله تفي بكل حاجات العباد، وهو يوسع عليهم في دينهم، ولا يكلفهم ما ليس في وسعهم، قال تعالى في توجه العباد في صلاتهم عندما لا يستطيعون استقبال البيت الحرام: { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِن اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) } [البقرة: 115].(1/264)
6- لا حدود لهذه الصفة: والله واسع في غير ذلك من الصفات، فهو واسع في قدرته، واسع في حلمه، والواسع هو الذي لا نهاية لسلطانه، وإحسانه، وغناه، وعطاياه، وحلمه، ورحمته، ولا يتصف بهذه الصفة على هذا النحو إلا الله - تبارك وتعالى - فرحمة العباد وإحسانهم وغناهم وحلمهم مهما عظمت، فإن لها حدودًا تتناهى إليها.
وتتجلى هذه الصفة في الدار الآخرة في حق المؤمنين في جنات النعيم، حيث يعطيهم عطاء بغير حساب، ويقول لهم: { إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) } [ص: 54] (1).
اقتران اسمه سبحانه (الواسع) ببعض أسمائه سبحانه الأخرى:
أولاً: اقتران اسمه سبحانه (الواسع) باسمه سبحانه (العليم):
ورد هذا الاقتران في سبع آيات من القرآن الكريم سبق ذكر بعضها ولكي يتبين لنا وجه هذا الاقتران أنقل ما ذكره الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِن اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) } [البقرة: 115]، يقول رحمه الله تعالى: "... ثم ذكر عظمته سبحانه وأنه أكبر وأعظم من كل شيء، فأينما ولى العبد وجهه فثم وجه الله، ثم ختم باسمين دالين على السعة والإحاطة فقال: { إِن اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } ، فذكر اسمه (الواسع) عقيب قوله: { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } كالتفسير والبيان والتقرير فتأمله"(2).
__________
(1) أسماء الله الحسنى د. عمر الأشقر 181 - 183.
(2) شرح قصيدة ابن القيم 2/304.(1/265)
كما يوضح وجهًا آخر للاقتران عند قوله تعالى: { مھ!$#ur يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) } [البقرة: 261]، حيث يقول: "... ثم ختم الآية باسمين من أسمائه الحسنى مطابقين لسياقهما وهما: (الواسع)، (العليم) فلا يستبعد العبد هذه المضاعفة، ولا يضيق عنها عطاؤه، فإن المضاعف واسع العطاء، واسع الغنى، واسع الفضل ومع ذلك فلا يظن أن سعة عطائه تقتضي حصولها لكل منفق فإنه عليم بمن تصلح له المضاعفة، وهو أهل لها، ومن لا يستحقها ولا هو أهل لها. فإن كرمه وفضله تعالى لا يناقض حكمته، بل يضع فضله مواضعه لسعته ورحمته، ويمنعه من ليس من أهله بحكمته وعلمه"(1).
ثانيًا: اقتران اسمه سبحانه (الواسع) باسمه سبحانه (الحكيم):
وقد ورد هذا الاقتران في قوله تعالى: { وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) } [النساء: 130].
وقد سبق الكلام عن اسمه سبحانه (الحكيم) ذكر وجه هذا الاقتران فليرجع إليه؛ مع أن ما ذكره ابن القيم - رحمه الله تعالى - في الفقرة السابقة عند قوله تعالى: { وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) } [البقرة: 261] يصلح أن يكون أيضًا وجهًا من وجوه هذا الاقتران، والله أعلم.
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (الواسع):
أولاً: محبة الله - عز وجل - الذي وسعت رحمته كل شيء، وهو واسع المغفرة، وواسع الفضل والجود والعطاء، وواسع الحكمة والعدل. إن من هذه بعض صفاته يجب أن يوجه له الحب كله، وأن يستحيى منه حق الحياء وأن يوقر ويعظم ويجل.
__________
(1) طريق الهجرتين 1/540.(1/266)
ثانيًا: إن التعبد لله تعالى باسمه (الواسع) يفتح بابًا واسعًا من الأمل والرجاء عندما تغلق أبواب الرزق، وعندما تشتد الكروب، ويوسوس الشيطان في الصدر، ويعد بالشر ويبث اليأس، لأن المؤمن حينما يتذكر سعة رحمة الله تعالى وفضله وقدرته وحكمته، فإن سحب اليأس والضيق تنقشع حيث أن ضد الضيق السعة، والسعة من المعاني الأساسية لاسمه سبحانه (الواسع).
قال الله - عز وجل -: { إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) } [النور: 32].
ثالثًا: إن التعبد لله تعالى باسمه (الواسع) يرد وساوس الشيطان وإيعاده بالشر والفقر والبخل وعدم إنفاق المال في محاب الله تعالى، فإذا علم العبد سعة رزق الله وخزائنه التي لا تنفد، كان هذا العلم واليقين دافعًا لهذه الوساوس، ودافعًا إلى الجود في سبيل الله - عز وجل - رجاء رحمته وثوابه، قال الله - عز وجل -: { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) } [البقرة: 268].
رابعًا: عدم القنوط من رحمة الله تعالى ومغفرته، وذلك حينما تزل القدم ويقع العبد في المعصية، فيتذكر العبد اسمه سبحانه (الواسع) وأنه (واسع المغفرة) فحينئذ يسري الرجاء في القلب ولا يكون للشيطان مجال في التقنيط من رحمة الله تعالى الذي يوقع العبد في معصية الله تعالى ثم يُقَنِّطه؛ قال سبحانه: { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة: 268].(1/267)
خامسًا: الاغتباط بشريعة الله - عز وجل - التي وسعت كل خير ووسع الله - عز وجل - فيها على عباده ولم يجعل فيها ضيقًا ولا حرجًا، والفرح بالهداية إليها، والأخذ بأسباب الثبات عليها، والدعوة إليها، والجهاد في سبيل نشرها وإيصالها للمحرومين منها. قال الله - عز وجل -: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [الإسراء: 9]، وقال سبحانه: { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } [الأنعام: 38]، وقال - عز وجل -: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [النحل: 89]، وقال تعالى: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج: 78]، وقال سبحانه: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [البقرة: 185].
سادسًا: التخلق بهذه الصفة الكريمة بما يناسب قدرة الإنسان وحدوده، وذلك بأن يسعى المؤمن بأن يكون واسع الخلق، واسع الصدر موسعًا - بإذن الله تعالى - على عباد الله - عز وجل - بما يقدر عليه من مال، أو جاه، أو علم فيسعهم بخلقه وأدبه، ويبذل جهده في التوسعة على المصابين منهم في ماله أو نفسه، فيعين محتاجًا ويواسي مكروبًا، وييسر على معسر واضعًا نصب عينيه قوله ×: (من فرج عن مؤمن كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة)(1) ، وقوله ×: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق)(2).
(28، 29، 30) [العليم، العالم، علام الغيوب]
ورد اسم (العالم) ثلاث عشرة مرة في القرآن الكريم أضيف في عشر منها إلى الغيب والشهادة، وأضيف في ثلاث منها إلى الغيب وحده.
__________
(1) رواه البخاري (2442).
(2) رواه البزار، وحسنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري 10/474.(1/268)
قال تعالى: { ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) } [التوبة: 94].
وقال تعالى: { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) } [الجن: 26].
كما ورد هذا الاسم مرتين في صورة الجمع:
قال تعالى: { * وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) }
[الأنبياء: 51].
وقال تعالى: { z$¨Zà2ur بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) } [الأنبياء: 81].
أما اسم الله (العليم) فقد ورد في القرآن الكريم مائة وسبعًا وخمسين مرة من ذلك قوله تعالى: { وَأَن اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) } [المائدة: 97]، وقوله تعالى: { قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) } [البقرة: 32].
وقوله تعالى: { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) }
[لقمان: 34].
وقوله سبحانه: { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) }
[النمل: 78].
وقوله تبارك وتعالى: { وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) } [النساء: 12].
وأما اسمه سبحانه (علام الغيوب) فقد ورد أربع مرات ثنتان منها في سورة المائدة.
قال تعالى: { قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) } [المائدة: 109]، وقال تعالى: { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) } [المائدة: 116].
وفي سورة التوبة: قال تعالى: { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَن اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَن اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) } [التوبة: 78].
وفي سورة سبأ: قال تعالى: { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) }
[سبأ: 48].(1/269)
ويلاحظ إضافة "علامّ" إلى الغيوب في هذه المواضع، والغيوب جمع غيب.
فالزيادة والتكثير في هذا الاسم "علامّ" تشاكل الجمع في غيوب.
المعنى اللغوي لهذه الأسماء:
(العليم والعالم) اسمان متضمنان صفة العلم، (فالعالم): اسم الفاعل من علم يعلم فهو عالم، والعليمُ من أبنية المبالغة في الوصف بالعلمِ، وهو بمنزلة قدير من القادر.
والعلامّ بمنزلة عليم في المبالغة في الوصف بالعلم إلا أن علامًا يتعدى إلى مفعول، وبناء فعال بناء تكثير وزيادة(1).
وقال في اللسان: "والعلم: نقيض الجهل.. وعلمت الشيء: عرفته وخبرته. وعلم بالشيء: شعر به"(2).
وقال الراغب: "العلم: إدراك الشيء بحقيقته"(3).
معناه في حق الله تعالى:
قال ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: { سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } [البقرة:32]: "إنك أنت يا ربنا العليم من غير تعليم بجميع ما قد كان وما هو كائن، والعالم للغيوب دون جميع خلقك"(4).
وقال: "إن الله ذو علم بكل ما أخفته صدور خلقه من إيمان وكفر، وحق وباطل، وخير وشر، وما تستجنه مما لم تجنه بعد"(5).
وقال صاحب اللسان: "فهو الله العالم بما كان وما يكون قبل كونه، وبما يكون ولما يكن بعد قبل أن يكون، لم يزل عالمًا ولا يزال عالمًا بما كان وما يكون ولا يخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، أحاط علمه بجميع الأشياء باطنها وظاهرها، دقيقها وجليلها على أتم الإمكان"(6).
__________
(1) انظر الزجاجي ص 50.
(2) انظر لسان العرب 4/3082.
(3) مفردات الراغب "علم".
(4) ، (3) تفسير الطبري 1/175، 11/127.
(5) لسان العرب 4/3082، 3083.(1/270)
وقال السعدي رحمه الله تعالى: "وهو الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن، والإسرار، والإعلان، وبالواجبات والمستحيلات، والممكنات وبالعالم العلوي والسفلي، وبالماضي، والحاضر، والمستقبل، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء" (1).
وقال أيضًا: "وهو العليم المحيط علمه بكل شيء: بالواجبات، والممتنعات، والممكنات، فيعلم تعالى نفسه الكريمة، ونعوته المقدسة، وأوصافه العظيمة، وهي الواجبات التي لا يمكن إلا وجودها، ويعلم الممتنعات حال امتناعها، ويعلم ما يترتب على وجودها لو وجدت كما قال تعالى: { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } [الأنبياء: 22]، وقال تعالى: { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } [المؤمنين: 91] .
فهذا وشبهه من ذكر علمه بالممتنعات التي يعلمها، وإخباره بما ينشأ منها لو وجدت على وجه الفرض والتقدير. ويعلم تعالى الممكنات - وهي التي يجوز وجودها وعدمها- ما وجد منها، وما لم يوجد مما لم تقتض الحكمة إيجاده؛ فهو العليم الذي أحاط علمه بالعالم العلوي، والسفلي لا يخلو عن علمه مكان، ولا زمان ويعلم الغيب، والشهادة، والظواهر، والبواطن، والجلي، والخفي، قال الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) } [الأنفال: 75].
__________
(1) تفسير السعدي 5/299.(1/271)
والنصوص في ذكر إحاطة علم الله، وتفصيل دقائق معلوماته كثيرة جدًا لا يمكن حصرها، وإحصاؤها، وأنه لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض، ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك، ولا أكبر، وإنه لا يغفل، ولا ينسى: { وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) } [الأنعام: 59]، { يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) } [طه: 7] "(1).
"وإن علوم الخلائق على سعتها، وتنوعها إذا نسبت إلى علم الله اضمحلت، وتلاشت، كما أن قدرتهم إذا نسبت إلى قدرة الله لم يكن لها نسبة إليها بوجه من الوجوه، فهو الذي علمهم ما لم يكونوا يعلمون، وأقدرهم على مالم يكونوا عليه قادرين.
وكما أن علمه محيط بجميع العالم العلوي، والسفلي، وما فيه من المخلوقات ذواتها، وأوصافها، وأفعالها، وجميع أمورها.
فهو يعلم ما كان، وما يكون في المستقبلات التي لا نهاية لها، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، ويعلم أحوال المكلفين منذ أنشأهم، وبعد ما يميتهم، وبعد ما يحييهم، قد أحاط علمه بأعمالهم كلها خيرها، وشرها، وجزاء تلك الأعمال، وتفاصيل ذلك في دار القرار" (2).
"فينبغي للمؤمن الناصح لنفسه أن يبذل ما استطاع من مقدوره في معرفة أسماء الله، وصفاته، وتقديسه، ويجعل هذه المسألة أهم المسائل عنده، وأولاها بالإيثار، وأحقها بالتحقيق ليفوز من الخير بأوفر نصيب.
__________
(1) توضيح الكافية الشافية ص118، وانظر الحق الواضح المبين ص36.
(2) الحق الواضح المبين ص38،37.(1/272)
فيتدبر مثلاً اسم (العليم): فيعلم أن العلم كله بجميع وجوهه واعتباراته لله تعالى؛ فيعلم تعالى الأمور المتأخرة أزلاً وأبدًا، ويعلم جليل الأمور وحقيرها، وصغيرها وكبيرها، ويعلم تعالى ظواهر الأشياء وبواطنها، غيبها وشهادتها، ما يعلم الخلق منه وما لا يعلمون، ويعلم تعالى الواجبات -أو المستحيلات- والجائزات، ويعلم تعالى ما تحت الأرض السفلى ويعلم ما فوق السماوات العلى، ويعلم تعالى جزئيات الأمور وخبايا الصدور، وخفايا ما وقع ويقع في أرجاء العالم وأنحاء المملكة؛ فهو الذي أحاط علمه جميع الأشياء في كل الأوقات، ولا يعرض تعالى لعلمه خفاء، ولا نسيان؛ كقوله في غير موضع: { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) } [البقرة: 282]، وقوله سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } [آل عمران: 199] "(1).
وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في نونيته:
وهو العليم أحاط علمًا بالذي في الكون من سر ومن إعلان
وبكل شيء علمه سبحانه فهو المحيط وليس ذا نسيان
وكذاك يعلم ما يكون غدًا وما قد كان والموجود في ذا الآن
وكذاك أمر لم يكن لو كان كيف يكون ذاك الأمر ذا إمكان(2)
"وبراهين علمه - تعالى - مشاهدة في خلقة وشرعه، ومعلوم عند كل عاقل أن الخلق يستلزم الإرادة، ولا بد للإرادة من علم بالمراد"(3).
ذكر بعض متعلقات علم الله - عز وجل- في خلقه سبحانه وأمره:
__________
(1) المواهب الربانية من الآيات القرآنية ص 63، 64.
(2) نونية ابن القيم 2/215، الأبيات (3234 - 3237).
(3) صفات الله - عز وجل - الواردة في الكتاب والسنة علوي السقاف 185.(1/273)
أولاً: شمول علم الله - عز وجل - لكل شيء في السماوات وفي الأرض قال الله تعالى: { وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12) } [الطلاق: 12]، وقال الله - عز وجل -: { عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) } [سبأ: 3].
ثانيًا: علمه الشامل لكل ما يلج في الأرض، وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، قال الله - عز وجل -: { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) } [الحديد: 4].
ثالثًا: علمه المحيط واختصاصه بمفاتيح الغيب، وبما يحدث من صغير أو كبير في البر والبحر، قال الله - عز وجل -: { * وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) } [الأنعام: 59].(1/274)
رابعًا: علمه المحيط بمكنونات القلوب، وما تخفيه الصدور، وما توسوس به النفوس، قال الله - عز وجل -: { قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) } [آل عمران: 29]، وقال سبحانه: { سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) } [الرعد: 10]، وقال - عز وجل -: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) } [ق: 16].
ومن ذلك علمه سبحانه بكل ما يقوله العباد ويعلمونه سرًا وعلانية في ليل أو نهار، فرادى أو جماعات، قال الله - عز وجل -: { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) }
[يونس: 61].
خامسًا: علمه الشامل بما في الأرحام لكل أنثى، قال سبحانه: { اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) } [الرعد: 8]، وقال سبحانه: { عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ } [لقمان: 34].(1/275)
سادسًا: علمه سبحانه لكل الأشياء قبل وقوعها وأن ذلك في كتاب، وله الحكمة البالغة في تقديرها، قال سبحانه: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) } [الحديد: 22].
سابعًا: علمه سبحانه لأحوال عباده تقيهم من فاجرهم، وغنيهم من فقيرهم، وغير ذلك من الفوارق، وذلك قبل أن يخلقهم ويكلفهم، وأن توفيقه لمن يشاء وخذلانه لمن يشاء إنما يكون عن علم بأحوال عباده وعن حكمة بالغة، قال الله تعالى: { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [الأنعام: 124]، وقال سبحانه: { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ } [الحج: 75]، وقال عن أصحاب محمد ×: { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } [الفتح: 26].
ثامنًا: علمه المحيط الدقيق لكل مناجاة بين اثنين فأكثر مهما أسروا النجوى، قال الله تعالى: { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) } [المجادلة: 1]، وقال عز وجل: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) } [المجادلة: 7].(1/276)
تاسعًا: علمه الشامل لما ينزل من الشرائع على رسله وأنه سبحانه أعلم بما ينزل، وأعلم بما يصلح لعباده، وينتهي بهم إلى السعادة والخير في الدارين، قال الله - عز وجل -: { وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) } [النحل: 101]، وقال سبحانه: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [الإسراء: 9]، وقال سبحانه: { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } [الأنعام: 38]، وكثير من آيات الأحكام يختمها الله - عز وجل - بقوله: { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } ، { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } ، { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } ليخبرنا الله - عز وجل - أنه إنما يشرع بعلم وحكمة. يقول الله - عز وجل -: { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) } [النساء: 166].(1/277)
عاشرًا: هذا العلم الذي يعلمه الإنسان المحدود من علوم الدين والدنيا إنما هو من تعليم الله تعالى له واختصاصه له بالعقل، وقابليته التعلم، وإلا فالإنسان كما قال عنه خالقه - عز وجل -: { وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) } [النحل: 78]، وهذا العلم الذي عند الإنسان مهما كثر وتفرع، فإنه لا يساوي شيئًا البتة عند علم الله تعالى. وما أحسن ما وصف به الخضر -عليه السلام- علم الإنسان بالنسبة إلى علم خالقه عز وجل، حينما قال لموسى - عليه السلام - وهو يرى طائرًا ينقر في البحر ليأخذ من مائه فقال عليه السلام: (يا موسى إن معك علم لم يعلمنيه الله تعالى ومعي علم لم يعلمكه الله - عز وجل - يا موسى ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر)(1).
يقول الخطابي رحمه الله: "والآدميون - وإن كانوا يوصفون بالعلم - فإن ذلك ينصرف منهم إلى نوع من المعلومات دون نوع، وقد يوجد ذلك منهم في حال دون حال، وقد تعترضهم الآفات فَيَخلُفُ علمهم الجهل، ويعقُبُ ذكرهم النسيان، وقد نجد الواحد منهم عالمًا بالفقه غير عالم بالنحو، وعالمًا بهما غيرَ عالم بالحساب والطب ونحوهما من الأمور، وعلم الله سبحانه علم حقيقة وكمال: { قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12) } [الطلاق: 12]، { وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28) } [الجن: 28] "(2).
حادي عشر: اختص الله عز وجل نفسه سبحانه بعلوم الغيب، قال سبحانه: { * وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ } [الأنعام: 59]، وقال: { قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ } [النمل: 65].
__________
(1) رواه البخاري (3401)، ومسلم (2380).
(2) شأن الدعاء ص (57).(1/278)
وذكر منها خمسة في قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) } [لقمان: 34].
قال الألوسي رحمه الله: "وما في الإخبار يحمل على بيان البعض المهم لا على دعوى الحصر، إذ لاشبهة في أن ما عدا الخمس من المغيبات لا يعلمه إلا الله تعالى"(1).
فعلم الغيب لا شك أنه أعظم وأوسع من أن يحصر في هذه الخمس فقط.
ومن زعم أن أحدًا يعلم الغيب غير الله سبحانه فقد كفر بالآيات السابقة.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ومن زعم أنه - تعني النبي × - يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله يقول: { قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } [النمل: 65](2).
ثاني عشر: إن الله سبحانه لكمال علمه، يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن، لو كان كيف يكون، أي: أنه سبحانه يعلم الأمور الماضية التي وقعت، والأمور المستقبلية التي لم تقع بعد، ويعلم الأمور التي لن تقع لو فرض أنها تقع كيف تقع، وهذا من كمال علمه بالغيب وعواقب الأمور قال تعالى: { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) } [القمر: 49]، وقال تعالى: { لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) } الآية [التوبة: 47]، وقال سبحانه: { فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) } [الفتح: 27].
__________
(1) روح المعاني 7/171.
(2) جزء من حديث رواه مسلم (177).(1/279)
ولذلك قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى وهو يوصي من يخاصم القدرية بقوله: حجوهم بالعلم؛ أي: اسألوهم: هل الله - عز وجل - علم بالأشياء قبل وقوعها؟ فإن أقروا خصموا، وإن نفوا العلم كفروا.
وأشنع من القدرية أولئك الفلاسفة الذين نفوا علم الله تعالى بالجزئيات وقالوا: أنه يعلم الأشياء على وجه كلي لا جزئي. وقد رد عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - في كتابه "درء تعارض العقل والنقل" فليرجع إليه وممن رد عليهم بالقرآن تلميذه ابن القيم - رحمه الله تعالى - حيث قال: "إن (الحمد لله) - يعني الفاتحة - تتضمن الرد على منكري علمه تعالى بالجزئيات وذلك من وجوه:
أحدها: كمال حمده وكيف يستحق الحمد من لا يعلم شيئًا من العالم وأحواله وتفاصيله...
الثاني: أن هذا مستحيل أن يكون إلهًا وأن يكون ربًا، فلابد للإله المعبود المدبر من أن يعلم عابده ويعلم حاله.
الثالث: من إثبات رحمته، فإنه يستحيل أن يرحم من لا يعلم.
الرابع: إثبات ملكه، فإن ملكًا لا يعرف أحدًا من رعيته البتة ولا شيئًا من أحوال مملكته البتة ليس بملك بوجه من الوجوه.
الخامس: كونه مستعانًا.
السادس: كونه مسؤولاً أن يهدي سائله ويجيبه.
السابع: كونه هاديًا.
الثامن: كونه منعمًا.
التاسع: كونه غضبانًا على من خالفه.
العاشر: كونه مجازيًا يدين الناس بأعمالهم يوم الدين ففي نفي علمه بالجزئيات مبطل لذلك كله(1).
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (العليم):
أولاً: الخوف من الله - عز وجل - وخشيته، ومراقبته في السر والعلن، لأن العبد إذا أيقن أن الله تعالى عالم بحاله مطلع على باطنه وظاهره، فإن ذلك يدفعه إلى الاستقامة على أمر الله - عز وجل - ظاهرًا وباطنًا، فتزكوا أعمال قلبه وجوارحه ويصل إلى مرتبة الإحسان الذي قال عنه النبي ×: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)(2).
__________
(1) مدارج السالكين 1/67.
(2) طريق الهجرتين 1/275.(1/280)
ثانيًا: اليقين بشمول علم الله تعالى لكل شيء في السماوات والأرض، وللبواطن والظواهر، يثمر في قلب العبد تعظيم الله تعالى وإجلاله والحياء منه، كما يعين على التخلص من الآفات القلبية التي تخفى على الناس ولكنها لا تخفى على الله - عز وجل - كآفة الرياء، والحسد، والغل، والعجب، والكبر، وآفات الخواطر الرديئة والوساوس الشيطانية حتى يصبح القلب سليمًا من كل شبهة تعارض خبر الله تعالى وخبر رسول الله ×، ومن كل شهوة تعارض أمر الله تعالى وأمر رسوله ×، وسليمًا من كل غش أو إرادة سوء بأحد من المسلمين.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "فإن قلت: فما السبيل إلى حفظ الخواطر قلت: أسباب عدة، أحدها: العلم الجازم باطلاع الرب سبحانه ونظره إلى قلبك، وعلمه بتفصيل خواطرك. الثاني: حياؤك منه.
الثالث: إجلالك له أن يرى مثل تلك الخواطر في بيته الذي خلق لمعرفته ومحبته.
الرابع: خوفك أن تسقط من عينه بتلك الخواطر.
الخامس: إيثارك له أن تساكن قلبك غير محبته..."(1).
ويعرف القلب السليم بقوله: "وهذا هو القلب السليم الذي لا يفلح إلا من أتى الله به، فيسلم من الشبه المعارضة لخبره، والإرادات المعارضة لأمره، بل ينقاد للخبر تصديقًا واستيقانًا وللطلب إذعانًا وامتثالاً"(2).
ثالثًا: إن اليقين بعلم الله تعالى للأمور قبل وقوعها وكتابتها عنده سبحانه في اللوح المحفوظ قبل خلقها، يثمر في قلب العبد طمأنينة إزاء ما يقضيه الله تعالى من الأحكام القدرية كالمصائب، والمكروهات التي لم تحدث إلا بعلم الله تعالى وحكمته وأنها ليست عبثًا ولعبًا.
__________
(1) طريق الهجرتين 1/275.
(2) مدارج السالكين 3/487.(1/281)
قال الله تعالى: { قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) } [التوبة: 51]، وقال تعالى: { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) } [الحديد: 22 - 23]، ولذا نجد أنبياء الله - عز وجل - يذكرون هذا الاسم مع اسمه الحكيم كعزاء لهم في ما يواجههم من مصائب وآلام، فهذا يعقوب - عليه السلام - يقول عند فقد أبنائه الثلاثة: { t
م اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) } [يوسف: 83] ، وعندما عاتب الله - عز وجل - نبيه نوحًا - عليه السلام - بسؤاله لابنه قال نوح عليه السلام: { قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } [هود: 47].
وفي الآيات التي يذكر الله تعالى فيها تفاوت أرزاق الناس بين فقر وغنى، نجد أن بعضها يختم بعلم الله تعالى قال الله - عز وجل -: { اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) }
[العنكبوت: 62].(1/282)
كما يلاحظ أيضًا ذكر هذا الاسم الكريم فيما يقضيه سبحانه من الهدى، والضلال، والتوفيق، والخذلان، وأن ذلك كله كان ويكون بعلم الله تعالى الذي لا تحيط بعلمه العقول فيحصل حينئذ التسليم، والانقياد، والراحة، والاطمئنان، قال الله تعالى: { وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَن اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) } [الأنعام: 53]، وقال سبحانه عن خليله ونبيه إبراهيم ×: { * وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) } [الأنبياء: 51].
رابعًا: التسليم لأحكام الله الشرعية، والرضى بها، والفرح والاغتباط بها حيث إنها من لدن عليم حكيم، عليم بما يصلح لعباده ويجلب لهم الخير والسعادة في الدارين فيأمرهم به، وعليم بما يجلب لعباده الشر والشقاء في الدارين فينهاهم عنه، ويحذرهم منه، فهو سبحانه أعلم بخلقه وما يصلح لهم من أنفسهم: { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) } [الملك: 14]، وقال تعالى: { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) } [النساء: 166].(1/283)
ولذا نجد كثيرًا من آيات الأحكام تختم باسميه سبحانه (العليم، الحكيم). كقوله تعالى بعد أن ذكر أحكام المهاجرات من مكة إلى المدينة: { ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) } [الممتحنة: 10]، وقوله تعالى بعد أن ذكر المحرمات من النساء في سورة النساء: { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) } [النساء: 24]، وقوله - عز وجل -: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) } [النساء: 92]، وقال تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) } [البقرة: 216].
وهذا التسليم لأحكام الله الشرعية يقتضي الحكم بها، والتحاكم إليها، وسلامة القلوب من الحرج منها، ورفض ما سواها من السياسات الجائرة، والأقيسة الفاسدة، والأذواق والمواجيد السامجة، والسعي بالدعوة والجهاد في سبيل الله تعالى لإقامتها حتى يكون الدين كله لله، وينعم الناس بشريعة الله - عز وجل - المبرأة من الجهل، والظلم، والهوى، والنقص لأنها من لدن حكيم عليم.(1/284)
خامسًا: إن يقين العبد بعلم الله تعالى الشامل لكل شيء، ومن ذلك علمه سبحانه بحال عبده المصاب وما يقاسيه من الآلام، إن ذلك يثمر في القلب الرجاء والأنس بالله تعالى ويدفع اليأس والقنوط من القلب، لأن العبد إذا أيقن أن ربه سبحانه يعلم حاله ولا تخفى منه خافية في ليل أو نهار في بر أو بحر أو سماء، فإن ذلك يثمر في قلب المؤمن تعلقه بربه تعالى العالم بأحوال عباده، فيتضرع بين يديه، ويوجه شكواه إليه، ويلقي بحاجته عند بابه. فإذا وافق هذا الانطراح والانكسار حسن ظن بالله تعالى وقوة اضطرار، لم تتخلف الإجابة، وجاءه الفرج من ربه العليم الحكيم، البر الرحيم.
سادسًا: تثبيت المؤمنين في ميدان الصراع والنزال مع الباطل وأهله. فإذا قصر علم البشر عن العلم والإحاطة بكيد الكافرين ومكرهم فإن الله - عز وجل - لا تخفى عليه من أمورهم خافية، وهو من ورائهم محيط وعليهم قدير. وهذا الإيمان يجعل المؤمن في مواجهة الخصوم وكيدهم يطمئن قلبه، ويقوى ضعفه، ويقبل على مقارعة عدوه غير هياب ولا وجل.
قال الله - عز وجل -: { وَاللَّهُ أَعْلَمُ ِNن3ح !#y‰ôمr'خ/ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) } [النساء: 45]، وقال سبحانه: { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) } [الإسراء: 47]، وقوله سبحانه: { فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) } [يس: 76]، وقوله - عز وجل - عن المنافقين: { وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ } [الأنفال: 60]، وقوله تبارك وتعالى: { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) } [الزخرف: 80].(1/285)
سابعًا: الحرص على التزود من العلم النافع، والتواضع لله تعالى وللخلق بهذا العلم، وعدم التكبر والفخر به، وهذا إنما يتأتى باليقين بأنه لا علم من علوم الدين والدنيا إلا من الله - عز وجل -: { قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا } [البقرة: 32]، وقال سبحانه: { وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا } [النحل: 78]، وقال تبارك وتعالى: { وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ } [البقرة: 255]، وقوله سبحانه: { عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) } [العلق: 5]، واسمه سبحانه (العليم) يقتضي محبة الله تعالى للعلم والعلماء، كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "إن الله سبحانه (عليم) يحب كل عليم، وإنما يضع علمه عند من يحبه فمن أحب العلم وأهله فقد أحب الله وذلك مما يدان به"(1)، وقال أيضًا: "أحب الخلق إليه: من اتصف بمقتضيات صفاته، فإنه كريم يحب الكريم من عباده، عالم يحب العلماء"(2) والعلماء المقصودون هنا هم العلماء العاملون بعلمهم، الداعون إليه، الخائفون من الله، المتواضعون للحق وللخلق، أما من أدى به علمه إلى التكبر والفخر والمباهاة دون العمل والخشية، فليس بعالم ولا محبوب لله عز وجل.
ومما يعين العالم على التواضع يقينه أن ما أوتي من العلم إن هو إلا قطرة من بحر علم الله تعالى قال الله - عز وجل -: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا } [الإسراء85]، ومر بنا قول الخضر لموسى - عليهما السلام - عندما رأى عصفورًا ينقر بمنقاره في البحر(3).
اقتران اسمه سبحانه (العليم) ببعض الأسماء الحسنى:
أولاً: اقتران اسمه سبحانه (العليم) باسمه سبحانه (الحكيم):
__________
(1) مفتاح دار السعادة 1/435.
(2) الوابل الصيب ص 53.
(3) سبق تخريجه ص339.(1/286)
وقد سبق في مبحث (الحكيم) ذكر بعض أوجه هذا الاقتران، فليرجع إليه، ومر بنا أن هذا الاقتران ورد في القرآن الكريم (37) مرة.
ثانيًا: اقتران اسمه سبحانه (العليم) باسمه سبحانه (العزيز):
وجاء هذا الاقتران (5 مرات)، من ذلك قوله تعالى: { ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) } [يس: 38]، [ فصلت: 12]، وقوله تعالى: { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) } [النحل: 78].
و(العزيز) هو القوي الغالب، والقاهر لكل شيء وحي. ولكن هذه العزة، والغلبة، والقهر إنما تكون بعلمه سبحانه الشامل لكل شيء أي: أن إنفاذ هذه العزة إنما يكون بعلم ومعرفة بمواطنها وعواقبها، وليس كعزة وقوة المخلوق التي تنطلق في الغالب من الهوى والظلم لا من العلم والحكمة.
"وله سبحانه صفة كمال من اسمه (العزيز)، وصفة كمال من اسمه (العليم) واجتماع الاسمين الجليلين دال على عزة قوامها شمول العلم وإحاطته فهي عزة (العليم) "(1).
ثالثًا: اقتران اسمه سبحانه (العليم) باسمه سبحانه (السميع):
وجاء هذا الاقتران في القرآن الكريم (32) مرة.
(والسميع): المدرك لكل مسموع خلقه فهو اسم ينبئ عن كمال السمع فلا تكييف ولا تشبيه.
وسيأتي تفصيل هذا الاسم في مبحث (السميع) إن شاء الله تعالى.
ومن الآيات التي ورد اقتران هذين الاسمين الكريمين فيها قوله تعالى: { فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) } [يوسف: 34]، وقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) } [الحجرات: 1].
__________
(1) انظر: مطابقة أسماء الله الحسنى مقتضى المقام في القرآن الكريم ص 142.(1/287)
"وهذا الاقتران يمنحهما مزيد كمال. فإذا كانت صفة (السميع) تنبئ بإحاطة السمع بكل المسموعات فلا يندر عنه - عز وجل - شيء، ولا تعزب عنه كبيرة ولا صغيرة، فإن صفة (العليم) تنبئ بتجاوز (السمع) حدود البعد المادي للمسموعات - وإن بلغ في إدراكها الغاية كما تقدم - فحصل من اقتران الاسمين (السميع العليم) صفة كمال أخرى، ودُلَّ بهما على إحاطة أتم لما تقدم من أن متعلق صفة (العلم) أوسع من متعلق صفة (السمع).
والملاحظ أن اسم (السميع) حيثما ورد مع اسم (العليم) قدم عليه فالنسق دائمًا: السميع العليم، ولا عكس، فلا بد أن يكون من وراء ذلك حكمة، ذكر منها: أن السمع يتعلق بالأصوات، ومن سمع صوتك فهذا أقرب إليك في العادة ممن يقال لك أنه يعلم - مهما بلغت درجة علمه - فذكر السميع أوقع في التخويف من ذكر (العليم) فهو أولى بالتقديم، ولا يقتصر الأمر على مقام التخويف فإن لتقديم صفة (السميع) في مقام الدعاء أثره في إنطلاق اللسان بالدعاء، والطلب، والشكوى حين يستشعر الداعي أنه يخاطب من يسمعه ويصغي إلى نجواه"(1).
رابعًا: اقتران اسمه سبحانه (العليم) باسمه سبحانه (الشاكر):
__________
(1) انظر: مطابقة أسماء الله الحسنى مقتضى المقام في القرآن الكريم 247، 248.(1/288)
ورد ذلك (مرتين) في القرآن الكريم كما في قوله تعالى: { * إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ جچح !$yèx© اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) } [البقرة: 158]، و (الشاكر) من أسماء الله تعالى الحسنى، وصفة الشكر من الله - عز وجل - لعباده المؤمنين الذين يزيدون على الفرائض بالتطوعات والنوافل تعني التفضل والإحسان إليهم، وإثابتهم على هذه القربات، لأنها تدل منهم على حبهم لطاعة الله - عز وجل - فأثابهم الله تعالى على ذلك بقبولها وإثابتهم عليها كما قال تعالى : { إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22) } [الإنسان: 22]، وهو شكر يليق بعظمة الله تعالى وجلاله، وأما عن المعنى الزائد في اجتماع هذين الاسمين الكريمين (الشاكر)، (والعليم) فهو - والله أعلم - أن الله سبحانه عليم بمن يستحق الشكر على عمله وقبوله وإثابته عليه، فليس كل عامل ومتطوع بالخير يقبل الله سعيه ويشكره عليه. فهو سبحانه أعلم بالشاكرين حقيقة، وبالمتقربين المخلصين في تقربهم له سبحانه، قال الله - عز وجل -: { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) } [الأنعام: 35]، وقال سبحانه: { فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) } [النجم: 32].
خامسًا: اقتران اسمه سبحانه (العليم) باسمه سبحانه (الحليم):(1/289)
وقد ورد هذا الاقتران في القرآن الكريم (ثلاث) مرات من ذلك قوله تعالى: { وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) } [النساء: 12]، وقوله تعالى: { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) } [الأحزاب: 51]. وقوله سبحانه: { لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ } [الحج:59 ].
وفي الجمع بين هذين الاسمين الكريمين صفة كمال أخرى؛ إذ أن الله - عز وجل - لو يعامل عباده ويجازيهم بما يعلمه سبحانه من ذنوبهم الظاهرة وما تخفيه قلوبهم من المعاصي الباطنة لهلكوا ولكنه سبحانه حليم عمن عصاه يغفر له ويمهله ولا يعاجله بالعقوبة لعله يتوب وينيب، قال الله - عز وجل -: { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِن اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45) } [فاطر: 45].
فما أجمل العلم الذي يزينه الحلم. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "...ولهذا جاء اسمه (الحليم) في القرآن في أكثر من موضع ولسعته يقرنه سبحانه باسم العليم كقوله: { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا } ، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) } [النساء: 12] وفي أثر "أن حملة العرش أربعة، اثنان منهم يقولان: سبحانك اللَّهم وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك، واثنان يقولان: سبحانك اللَّهم وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك" فإن المخلوق يحلم عن جهل، ويعفو عن عجز، والرب تعالى يحلم مع كمال علمه، ويعفو مع تمام قدرته، وما أضيف شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم ومن عفو إلى اقتدار.. "(1).
سادسًا: اقتران اسمه سبحانه (العليم) باسمه سبحانه (الخبير):
__________
(1) عدة الصابرين ص 236.(1/290)
قال الله - عز وجل -: { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35) } [النساء: 35]، وجاء هذا الاقترن في آيات أخر، وقد جاء اقتران هذين الاسمين الكريمين في القرآن (أربع) مرات.
(والخبير): "هو الذي لا تعزب عنه الأخبار الباطنة" وهو العالم بكنه الشيء، المطلع على حقيقته. "و(الخبير) أخص من (العليم) لأنه مشتق من خبر الشيء إذا أحاط بمعانيه ودخائله"(1).
أما عن المعنى الزائد من الجمع بين هذين الاسمين الجليلين (العليم الخبير):
فإن (العليم) كما سبق دال على شمول العلم، (والخبير) هو العالم بكنه الشيء المطلع على حقيقته، والذي لا تعزب عنه الأمور الباطنة. فإذا اقترن باسمه سبحانه (العليم) كان مقام الاقتران في سياق الآية يناسبه ذكر هذين الاسمين الكريمين فإما أن يكون المقام مقام اختصاص الله - عز وجل - بعلم وحكمة ينفردان عن علم الخلق في أمره وشرعه أو يكون المقام مقام اختصاص الله - عز وجل - بالغيب المحجوب عن الخلق في قضائه وقدره، أو في مقام اطلاع الله - عز وجل - على مكنونات الصدور ووساوس القلوب. وعند تدبر الآيات التي ختمت بهذين الاسمين الكريمين يتضح ذلك جليًا.
وقد يقال: إن (العليم الخبير) إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا؛ بمعنى أنه إذا ذكر اسمه سبحانه (العليم) مفردًا فإنه يشمل إحاطة علم الله عز وجل بالظواهر والبواطن، وكذلك لو ذكر اسمه سبحانه (الخبير) مفردًا. أما إذا اجتمعا في آية واحدة فإن (العليم) يفيد الإحاطة العلمية بالعالم المشهود، و(الخبير) بعالم الغيب والبواطن، والله أعلم.
سابعًا: اقتران اسمه سبحانه (العليم) باسمه سبحانه (الواسع):
قد سبق الكلام عن توجيه هذا الاقتران عند الحديث عن اسمه سبحانه (الواسع) فليرجع إليه.
__________
(1) المصدر السابق 421.(1/291)
ثامنًا: اقتران اسمه سبحانه (العليم) باسمه سبحانه (القدير):
وقد جاء هذا الاقتران في كتاب الله - عز وجل - (أربع) مرات من ذلك قوله تعالى: { وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) } [النحل: 70]، وقوله تعالى: { * اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) } [الروم: 54].
(والقدير) مبالغة من (القدرة) أي: عظيم القدرة "الفاعل لما يشاء على قدر ما تقتضي حكمته لا زائدًا عليه ولا ناقصًا عنه، ولذلك لا يصح أن يوصف به إلا الله تعالى"(1).
والمعنى الزائد المستفاد من الجمع بين هذين الاسمين الكريمين (العليم القدير) هو أن اقتران العلم بالقدرة يدل على كماله - عز وجل - في الوصفية لأن العلم بدون قدرة عجز، والقدرة بدون علم مظنة الإفساد والظلم والطغيان. والله أعلم(2).
تاسعًا: اقتران اسمه سبحانه (العليم) باسمه سبحانه (الفتاح):
ورد اقتران هذين الاسمين الكريمين في كتاب الله - عز وجل - (مرة واحدة) وذلك في قوله تعالى: { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) } [سبأ: 26].
__________
(1) مفردات الراغب (قدر).
(2) انظر مطابقة الأسماء الحسنى مقتضى المقام، د. نجلاء كردي ص 433 بتصرف.(1/292)
(والفتاح) له معنى عام يشمل فتح كل مغلق من الأسباب كالرزق والعلم، وله معنى خاص كما هو المراد من آية سبأ، وهو الفصل والحكم الحق، ولذا فيقال في وجه اقتران هذين الاسمين الجليلين: "أنه إذا حمل الفتح على عموم معناه، فشمل فتح كل مغلق من الأسباب كالرزق والعلم كان اقتران اسم (العليم) به دالاً على كمال الفتح، وأنه يجري على مقتضى العلم، وفي ذلك صلاح العباد واستقامة أحوالهم، بخلاف ما لو كان فتحًا بغير علم، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
وإذا أريد بالفتح القضاء والحكم كان اقتران (الفتاح) بـ (العليم) دالاً على كمال الفتح أي: الحكم مشيرًا إلى استقامته على العدل والقسط، فلا تميل به الأهواء، ولا ينحرف به الجهل، ومثل هذا الحكم جدير بأن يرهب ويخاف"(1).
ويقول صاحب التحرير والتنوير: "وإنما أتبع (الفتاح) بـ (العليم) للدلالة على أن حكمه عدل محض لا تحف بحكمه أسباب الخطأ والجور الناشئة عن الجهل والعجز واتباع الضعف النفساني الناشئ عن الجهل بالأحوال والعواقب"(2).
عاشرًا: اقتران اسمه سبحانه (العليم) باسمه سبحانه (الخلاق):
وجاء هذا الاقتران في القرآن الكريم (مرتين)، وذلك في قوله تعالى: { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) } [الحجر: 86]، وقوله تعالى: { بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) } [يس: 81].
(والخلاق) مبالغة من الخلق، وهو اسم خاص بالله عز جل: كثير الخلق حيث إن مخلوقاته لا يحصيها إلا هو، وهو مازال يخلق ما يشاء كيف شاء متى شاء سبحانه وبحمده.
__________
(1) انظر مطابقة أسماء الله الحسنى المقام في القرآن الكريم ص 638.
(2) التحرير والتنوير 11/195.(1/293)
وعن المعنى الزائد المستفاد من اقتران هذين الاسمين الجليلين (الخلاق العليم) هو - والله أعلم - أن خلقه سبحانه للأشياء والأحياء إنما هو عن علم منه سبحانه بما يخلق، كيف يخلقه، ومتى يخلقه، ويعلم الحكمة من خلقه. أي أنه سبحانه وتعالى لم يخلق شيئًا عبثًا وسدى، بل خلقه عن علم وحكمة وإرادة، واجتماع صفة العلم والخلق فيهما صفة كمال أخرى.
ولصاحب التحرير والتنوير توجيه للمناسبة بين هذين الاسمين الكريمين يربطه بسياق الآية السابقة للآية المذكورة في سورة الحجر.
يقول رحمه الله تعالى: "وجملة { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ } في موقع التعليل للأمر بالصفح عنهم، أي: لأن في الصفح عنهم مصلحة لك ولهم يعلمها ربّك، فمصلحة النّبي × في الصفح هي كمال أخلاقه، ومصلحتهم في الصفح رجاء إيمانهم، فالله الخلاق لكم ولهم ولنفسك وأنفسهم العليم بمصلحة كل منكم"(1).
(31، 32، 33) [الملك، المليك، المالك]
ورد ذكر هذه الأسماء الحسنى في القرآن الكريم بعضها مفردًا وبعضها مضافًا.
فاسمه سبحانه (الملك) ورد في القرآن الكريم (5 مرات) منها قوله تعالى: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) } [الفاتحة: 4] وهي قراءة سبعية متواترة.. وقوله سبحانه: { مَلِكِ النَّاسِ (2) } [الناس: 2].
وقوله تعالى: { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ } [طه: 114]، وقوله تعالى: { الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) } [الجمعة: 1].
وجاء في دعائه × في استفتاح الصلاة: (... اللَّهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي.. الحديث)(2).
__________
(1) التحرير والتنوير 7/78.
(2) رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الترمذي (3611).(1/294)
وأما اسمه سبحانه (المليك) فجاء في القرآن الكريم مرة واحدة وذلك في قوله تعالى: { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) } [القمر: 54، 55].
وأما اسمه سبحانه (المالك) فجاء في القرآن الكريم مرتين مضافًا؛ وذلك في قوله تعالى: { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ âن!$t±n } .. الآية [آل عمران: 26]. وقوله سبحانه: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } [الفاتحة:4]
وجاء عنه × أنه قال: (إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك؛ لا مالك إلا الله)(1).
وعن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "جاء حبر إلى النبي × فقال: يا محمد أو يا أبا القاسم إن الله تعالى يمسك السماوات يوم القيامة على أصبع، والأراضين على أصبع، والجبال والشجر على أصبع، والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع؛ ثم يهزهن فيقول: أنا الملك أنا الملك فضحك رسول الله × تعجبًا مما قال الحبر، تصديقًا له ثم قرأ: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) } [الزمر: 67] "(2).
المعنى اللغوي (للملك):
"المَلْك، والمَلِك، والمَليك، والمالك: ذو الملك.
__________
(1) رواه مسلم (2143).
(2) البخاري (4811)، ومسلم (2786).(1/295)
قال ابن سيده: المَلْك، المُلك، والمِلْك: احتواء الشيء والقدرة على الاستبدادية وتملكه: أي ملكه قهرًا، وأملكه الشي ومَّلكه إياه تمليكًا: جعله مِلكًا له. وأملكوه زوجوه، شبه الزوج بملك عليها في سياستها. والملكوت مختص بملك الله تعالى وهو مصدر ملَكَ، أدخلت فيه التاء نحو: جبروت ورهبوت ورحموت. قال تعالى: { أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [الأعراف: 185] "(1).
معناه في حق الله تعالى:
قال ابن جرير رحمه الله تعالى: "المَلِك: الذي لا ملك فوقه ولا شيء إلا دونه"(2).
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: "وهو الله الذي لا إله إلا هو الملك أي: المالك لجميع الأشياء المتصرف فيها بلا مبالغة ولا مدافعة"(3).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "إن من أسمائه: (الملك)، ومعناه الملك الحقيقي ثابت له - سبحانه - بكل وجه، وهذه الصفات تستلزم سائر صفات الكمال. إذ من المحال ثبوت الملك الحقيقي التام لمن ليس له حياة ولا قدرة، ولا إرادة ولا سمع ولا بصر ولا كلام ولا فعل اختياري يقوم به، وكيف يُوصف بالمُلك مَنْ لا يأمر ولا ينهي؛ ولا يُثيب ولا يُعاقب؛ ولا يُعطي ولا يمنع؛ ولا يُعِزُّ ولا يذل؛ ولا يُهين ولا يُكرم؛ ولا يُنعم ولا ينتقم؛ ولا يخفض ولا يرفع، ولا يُرسل الرسل إلى أقطار مملكته، ولا يتقدَّم إلى عبيده بأوامره ونواهيه؟ فأيُّ مُلكٍ في الحقيقة لمن عدم ذلك؟
وبهذا يتبين أن المعطلِّين لأسمائه وصفاته: جعلوا مماليكه أكمل منه، ويأنف أحدُهم أن يُقال في أمره وملكه ما يقوله هو في ربِّه.
__________
(1) انظر النهاية 4/358، واللسان 6/4266، والمفردات للراغب 472.
(2) تفسير الطبري 28/36.
(3) تفسير ابن كثير 4/343.(1/296)
فصفة ملكه الحقِّ مستلزمةٌ لوجود ما لايتمُّ التصرف إلا به، والكلُّ منه - سبحانه - فلم يتوقَّف كمالُ ملكه على غيره، فإن كلَّ ما سواه مُسندٌ إليه؛ متوقِّفٌ في وجوده على مشيئته وخلقه"(1).
وهذه المعاني التي تضمَّنها اسم الجلالة (الملك): هي ما يتمُّ به حقيقة المُلك، كما ذكر ذلك ابن القيم - رحمه الله تعالى - في موطن آخر حيث يقول: "إن حقيقة الملك: إنما تتم بالعطاء والمنع؛ والإكرام والإهانة؛ والإثابة والعقوبة؛ والغضب والرضا؛ والتولية والعزل؛ وإعزاز من يليق به العِزُّ، وإذلال من يليق به الذلُّ. قال تعالى: { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) } [آل عمرن: 26، 27]، وقال تعالى: { يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) } [الرحمن: 29].
__________
(1) شفاء العليل 2/609 - 610.(1/297)
يغفر ذنبًا؛ ويُفرّج كربًا؛ ويكشف غمًا، وينصر مظلومًا؛ ويأخذ ظالمًا، ويفكُّ عانيًا؛ ويُغني فقيرًا، ويجبر كسيرًا؛ ويشفي مريضًا، ويُقيل عثرةً؛ ويستر عورةً، ويُعِزُّ ذليلاً؛ ويُذِلُّ عزيزًا؛ ويُعطي سائلاً، ويُذهب بدولةٍ ويأتي بأخرى؛ ويداول الأيام بين الناس؛ ويرفع أقوامًا ويضع آخرين، ويسوق المقادير التي قدَّرها قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف عامٍ إلى مواقيتها؛ فلا يتقدَّم شيءٌ منها عن وقته ولا يتأخَّر، بل كلُّ منها قد أحصاه كما أحصاه كتابه؛ وجرى به قلمه؛ ونفذ فيه حكمه؛ وسبق به علمه، فهو المتصرِّف في الممالك كلِّها وحده؛ تصرُّف ملك قادرٍ قاهرٍ، عادلٍ رحيم، تامُّ الملك؛ لا يُنازعه في ملكه منازعٌ؛ ولا يُعارضه فيه معارضٌ، فتصرُّفه في المملكة دائرٌ بين العدل والإحسان؛ والحكمة والمصلحة والرحمة؛ فلا يخرج تصرُّفه عن ذلك"(1).
اختصاص الله - عز وجل - بالملك يوم القيامة:
الله - عز وجل - مالك يوم الدين والدنيا، ولكن ذكر عن نفسه سبحانه أنه { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } لأن هناك من يدعي في الدنيا أنه ملك يأمر وينهى ويمتلك الضياع والقصور والذهب والفضة، ولكن ملكهم هذا عارية زائلة فإما أن يزول ملكهم عنهم أو يزولوا عنه، أما يوم الدين والحساب فإن أحدًا لا يدعي أنه يملك شيئًا لأن الناس يحشرون حفاة عراة غرلاً بُهمًا كما وصفهم الله سبحانه بقوله: { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } ...الآية [الأنعام: 94]، وقال سبحانه عن ملكه يوم القيامة: { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) }
[الفرقان: 26].
__________
(1) طريق الهجرتين وباب السعادتين ص228، 229.(1/298)
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- قال : قال رسول الله ×: (يطوي الله - عز وجل - السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟)(1).
وفي يوم القيامة ينادي الرب سبحانه: { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } فلا يجيبه أحد فيجيب نفسه بنفسه، سبحانه، { لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) } [غافر: 16].
وملوك الدنيا وإن ادعوا أنهم ملوك، فإن ملكهم غير حقيقي وإنما الملك الحقيقي لله وحده لا شريك له، وكل من ملك شيئًا فإنما بتمليك الله له، والله سبحانه يؤتي ملكه من يشاء، وينزعه عمن يشاء، وملوك الدنيا يحتاجون إلى حجبة وحراس يحمون لهم ملكهم.
من آثار اسمه سبحانه (الملك، المليك، المالك):
1- الله هو الملك الحق للسماوات والأرض وما فيهما وما بينهما، لأنه خالقهما فلا يخرج شيء من خلقه عن ملكه، وهذا يقتضي أنه سبحانه المدبر لهما المتصرف فيهما كما يشاء بقدرة مطلقة لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض، وهذا الملك العظيم لله تعالى يتصرف فيه سبحانه بعلمه وحكمته ورحمته وعدله، فله الحمد في ملكه وخلقه وفي أفعاله وصفاته كلها، ولذا كان قول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"؛ أفضل ما قاله النبي × والنبيون من قبله، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "اسمه (الملك) يقتضي مملكة وتصرفًا، وتدبيرًا، وإعطاءً، ومنعًا، وإحسانًا، وعدلاً، وثوابًا، وعقابًا"(2).
__________
(1) رواه مسلم (2788).
(2) مدارج السالكين 1/418.(1/299)
2- ومن لوازم الملك بمعناه الشامل المطلق الذي هو لله وحده ولا يشركه فيه أحد أن يكون قادرًا على كل شيء لا يمتنع عليه شيء ولا يعجزه شيء، قاهرًا لكل شيء قد خضع له كل شيء، ولذا فإن من صفات الله - عز وجل - التي هي أخص باسم (الملك): صفات العدل، والقبض، والبسط، والخفض والرفع، والعطاء والمنع، والإعزاز والإذلال، والقهر والحكم، ونحوها.
3- عدم خروج أمر من الأمور، أو فعل من الأفعال البتة عن تصرف الملك الحق - سبحانه وتعالى - وتدبيره، وإلا لم يعقل له ثبوت ملك على الحقيقة، وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "قوله: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } والملك: هو المتصرف فيما هو ملك عليه ومالك له ، ومن لا تصرف له ولا يقوم به فعل البتة: لا يعقل له ثبوت ملك ولا مالك"(1).
4- صفة الملك الحقيقي تقتضي الحكمة في خلق الخلق، وعدم تركهم سدى، كما تقتضي إرسال الرسل وإنزال الكتب، وأمر العباد ونهيهم، وثوابهم، وعقابهم، كما تستلزم حياة الملك، وعلمه، وإرادته، وقدرته، وسمعه، وبصره، وكلامه، ورحمته، وغضبه، واستواءه على سرير ملكه يدبر أمر عباده.
5- من مقتضى صفة الملك الحقيقي أنه سبحانه المالك الحقيقي لخزائن السماوات والأرض. فإن ملوك الدنيا إن أنفقوا من أموالهم نقصت خزائنهم وقلَّتْ، والله سبحانه هو الذي ملكهم إياها، أما الله سبحانه فله خزائن السماوات والأرض وملكه لا ينقص بالعطاء والإحسان، بل يزداد، كما جاء في الحديث القدسي: (... يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، اجتمعوا في صعيد واحد، ثم سألوني فأعطيت كل سائل مسألته، ما نقص ذلك عندي إلا كما ينقص البحر... الحديث)؟ وكونه سبحانه ملكًا يقتضي كونه رازقًا لخلقه من خزائنه التي لا ينقصها العطاء.
__________
(1) الصواعق المرسلة 4/1223.(1/300)
6- من مقتضى اسمه سبحانه (الملك) أن يكون رحيمًا منزهًا عن الظلم والجور، ولذا - والله أعلم - اقترن اسمه سبحانه (الملك) باسمه (القدوس)، (السلام) لبيان أنه سبحانه مع كونه ملكًا قاهرًا يتصرف في خلقه كيف شاء، إلا أنه سبحانه منزه ومبرأ في أفعاله من الظلم والجور، فهو السلام الذي سلم عباده من ظلمه، وهو المؤمن الذي يؤمن عبيده من جوره وظلمه. فثبت أن كونه ملكًا لا يتم إلا مع كونه رحيمًا قدوسًا سلامًا.
7- ومن آثار ملكه سبحانه التام على خلقه قهره للملوك والطغاة الجبابرة المتكبرين، وقصمه وإهلاكه لهم لما طغوا وبغوا وظنوا أنهم معاجزين لله تعالى وغرهم ملكهم وسلطانهم كما فعل ذلك بالفراعنة والقياصرة والأكاسرة، وانطوى ملكهم وأصبحوا نسيًا منسيًا.
من آثار الإيمان بأسمائه سبحانه (الملك، والملك، والمالك):
أولاً: توحيد الله - عز وجل - وعبادته وحده لا شريك له بالحب والخوف والرجاء، لأن هذه العبادة لا يستحقها إلا الملك الحق فاطر السماوات والأرض، المالك لهما، المتصرف فيهما فكيف تصرف العبادة لغيره ممن لا يملك شيئًا في السماوات ولا في الأرض؛ قال تعالى: { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) } [فاطر: 13]، وقال سبحانه: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) } [النحل: 73]، وقال - عز وجل -: { إِن الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) } [العنكبوت: 17].(1/301)
ثانيًا: الخوف منه سبحانه والرجاء فيه وحده، لأنه سبحانه المالك لكل شيء، والمتصرف في كل شيء، وهو القاهر فوق عباده: { مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا } [هود: 56] فعندما يستشعر المؤمن هذه المعاني فإنه لا يخاف إلا من الله وحده، ولا يتوكل إلا على الله وحده، ولا يرجو إلا الله وحده ولذا لما هدد قوم عاد نبيهم هود - عليه السلام - قال متحديًا لهم ذاكرًا صفة الملك والقهر لله تعالى: { قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) } [هود: 56].
وحقيقة التوكل هذه من شأنها أن تبدد الهموم والأحزان والمخاوف، وتقضي على اليأس والقنوط.
ثالثًا: ولما كان من لوازم الملك لله تعالى الحكم والتشريع كان لزامًا على العباد قبول حكم الله تعالى وشرعه، ورفض ما سواه والإعراض عن التحاكم لغيره، فالحكم لله وحده.
قال تعالى: { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) } [يوسف: 40]، وقال سبحانه: { وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) } [الكهف: 26]، حيث لا أحسن، ولا أكمل من حكم الله تعالى: { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) } [المائدة: 50].
رابعًا: الاعتصام بالله الملك الحق، والاستعانة والاستغاثة به وحده وأن لا يلوذ العباد المملوكون المربوبون في نوائبهم إلا إلى مليكهم ومعبودهم سبحانه.(1/302)
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "إن من صفات الكمال وأفعال الحمد والثناء: أنه يجود ويُعطي ويمنح، فمنها أن يُعيذ وينصر ويُغيث، فكما يُحِبُّ أن يلوذ به اللائذون: يُحِبُّ أن يعوذ به العائذون، وكمال الملوك: أن يلوذ بهم أولياؤهم؛ ويعيذوا بهم، كما قال أحمد بن حسين الكندي في ممدوحه:
يا من ألوذ به فيما أؤمِّله ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظمًا أنت كاسره ولا يهيضون عظمًا أنت جابره
ولو قال ذلك في ربِّه وفاطره: لكان أسعد به من مخلوقٍ مثله.
والمقصود: أن ملك الملوك يُحِبُّ أن يلوذ به مماليكه؛ وأن يعوذوا به، كما أمر رسوله × أن يستعيذ به من الشيطان الرجيم في غير موضع من كتابه، وبذلك يظهر تمام نعمته على عبده إذا أعاذه وأجاره من عدوه فلم يكن إعاذته وإجارته منه بأدنى النعمتين، والله تعالى يُحِبُّ أن يُكمل نعمته على عباده المؤمنين؛ ويُريهم نصره لهم على عدوِّهم، وحمايتهم منه، وظفرهم بهم، فيا لها من نعمةٍ كمل بها سرورهم ونعيمهم؛ وعدل أظهره في أعدائه وخصمائه"(1).
خامسًا: لما كان من مقتضى اسمه سبحانه (الملك) ملكه لخزائن السماوات والأرض، وتفرده سبحانه برزق العباد، وأن خزائنه ملأى لا تنضب، فإن اليقين بهذا يثمر في قلب العبد تعلقه بربه سبحانه في طلب رزقه واطمئنانه إلى ما كتب الله تعالى له مع أخذه بالأسباب التي أمر الله تعالى بها في طلب الرزق مع عدم تعلقه بها.
__________
(1) شفاء العليل 2/658، 659.(1/303)
قال الله تعالى: { وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) } [المنافقون: 7]. وقال الله تعالى: { * وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) } [هود: 6]، وقال - عز وجل -: { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) } [يونس: 31].
سادسًا: لما كان الملك الحقيقي هو لله تعالى وأن ملك العباد في الدنيا إنما هو ملك ناقص، وعارية مستردة، ولا يملكون إلا أن يملكهم الله تعالى، فإن الشعور بهذا يُلقي في القلب تواضعًا لله تعالى لكل متملك شيئًا من هذه الدنيا، سواء كان ملكًا كبيرًا كملك الملوك والسلاطين، أو كان تملكًا جزئيًا لمال أو أرض أو غير ذلك، ولذا جاء النهي عن التسمي بملك الأملاك أو شاهنشاه ونحوها من الأسماء التي تدل على التكبر والعلو في الأرض.
قال ×: (إن أخنى الأسماء يوم القيامة عند الله، رجل تسمى ملك الأملاك)(1).
سابعًا: تمجيد الله - عز وجل - باسمه الكريم (الملك) وقد جاءت أدعية وأذكار صحيحة تتضمن هذا الاسم الكريم والتوسل إلى الله - عز وجل - به كما في دعاء الاستفتاح لصلاة التهجد منه: (ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن)(2).
وكذلك ما ورد في دعاء الاستفتاح الآخر وفيه: (اللَّهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعًا؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)(3).
__________
(1) البخاري (6205)، (6206).
(2) البخاري (1120).
(3) سبق تخريجه ص357.(1/304)
وكان يقول في دبر كل صلاة إذا سلم: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)(1).
اقتران اسمه سبحانه (الملك) باسمه سبحانه (القدوس) وباسمه سبحانه (الحق):
سبق ذكر وجه هذا الاقتران في مبحث اسمه سبحانه (القدوس)، (الحق) فليرجع إليهما.
- - -
(34) [الحميد]
ورد اسمه سبحانه (الحميد) في القرآن الكريم في سبع عشرة آية، جاء في بعضها مفردًا، كقوله تعالى: { وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) } [لحج: 24]، وجاء في أكثرها مقترنًا بأسماء أخرى من أسمائه سبحانه الحسنى كما في قوله تعالى: { رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) } [هود: 73].
وقوله تعالى: { وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِن اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) } [إبراهيم: 8]، وقوله تعالى: { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) } [فصلت:42]، وقوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) } [الشورى: 28]، وقوله تعالى: { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) } [البروج: 8].
المعنى اللغوي لـ (الحميد):
"الحمد نقيض الذم، تقول: حمدت الرجل أحمده حمدًا ومحمدة، فهو حميد ومحمود، والتحميد أبلغ من الحمد، والحمد أعم من الشكر، والمحمدَّ الذي كثرت خصاله المحمودة(2).
__________
(1) البخاري في الدعوات باب الدعاء بعد الصلاة (6330).
(2) انظر الصحاح 2/466، واللسان 2/987 مادة "حمد".(1/305)
والحمد أعم وأصدق في الثناء على المحمود من المدح (لأن الحمد إخبار عن محاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه، ولهذا كان خبرًا يتضمن الإنشاء بخلاف المدح(1) فقد يمدح من لا يُحَبَّ".
وقال الأزهري: "التحميد كثرة حمد الله سبحانه بالمحامد الحسنة"(2).
معناه في حق الله سبحانه وتعالى:
قال ابن جرير الطبري - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) } [البقرة: 267] "ويعني بقوله: (حميد) أنه محمود عند خلقه بما أولاهم من نعمه، وبسط لهم من فضله"(3).
وقال الزجاج: "(الحميد) هو فعيل بمعنى مفعول. والله تعالى هو المحمود بكل لسان، وعلى كل حال كما يقال في الدعاء: الحمد لله الذي لا يحمد على الأحوال كلها سواه"(4).
وقال الخطابي: "(والحميد) هو المحمود الذي استحق الحمد بأفعاله، وهو فعيل بمعنى مفعول، وهو الذي يحمد في السراء والضراء، وفي الشدة والرخاء، لأنه حكيم لا يجري في أفعاله الغلط، ولا يعترضه الخطأ فهو محمود على كل حال"(5).
ويقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: "وهو (الحميد) أي: المحمود في جميع أفعاله وأقواله، وشرعه وقدره لا إله إلا هو ولا رب سواه"(6).
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:
"وهو الحميد فكل حمد واقع أو كان مفروضًا مدى الأزمان
ملأ الوجود جميعه ونظيره من غير ما عدٍّ ولا حسبان
هو أهله سبحانه وبحمده كل المحامد وصف ذي الإحسان"(7)
ويبين ابن القيم- رحمه الله تعالى - أنه وإن كان (الحميد) فعيل من الحمد، وهو بمعنى المحمود إلا أن (الحميد) أبلغ من (المحمود).
__________
(1) بدائع الفوائد 2/93.
(2) اللسان 2/988.
(3) الطبري 3/58.
(4) تفسير الأسماء ص 55.
(5) شأن الدعاء ص 78.
(6) تفسير ابن كثير 1/321.
(7) نونية ابن القيم الأبيات (3238 - 3240)، 2/215.(1/306)
يقول رحمه الله تعالى: "وأما (الحميد) فلم يأت إلا بمعنى المحمود، وهو أبلغ من المحمود، فإن فعيلاً إذا عُدِلَ به عن مفعول: دلَّ على أن تلك الصفة قد صارت مثل السجيَّة والغريزة والخُلُق اللازم، كما إذا قلت: فلانٌ ظريفٌ وشريفٌ وكريمٌ، ولهذا يكون هذا البناء غالبًا من فَعُلَ بوزن شَرُفَ، وهذا البناء من أبنية الغرائز والسجايا اللازمة، ككَبُرَ وصغر، وحسن ولطُفَ ونحو ذلك.
ولهذا كان حبيبٌ أبلغ من محبوب، لأن الحبيب الذي حصلت فيه الصفات والأفعال التي يحب لأجلها، فهو حبيب في نفسه؛ وإن قدر أن غيره لا يحبه؛ لعدم شعوره به، أو لمانع منعه من حبه، وأما المحبوب فهو الذي تعلق به حبُّ المُحبِّ؛ فصار محبوبًا بحبِّ الغير له، وأما الحبيب فهو حبيبٌ بذاته وصفاته، تعلَّق به حبُّ الغير أو لم يتعلَّق.
وهكذا الحميد والمحمود، فالحميد: هو الذي له من الصفات، وأسباب الحمد ما يقتضي أن يكون محمودًا؛ وإن لم يحمده غيره، فهو حميدٌ في نفسه، والمحمود من تعلَّق به حمد الحامدين"(1).
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: " (الحميد) في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، فله من الأسماء أحسنها، ومن الصفات أكملها، ومن الأفعال أتمها وأحسنها، فإن أفعاله تعالى دائرة بين الفضل والعدل"(2).
ويقول في موطن آخر: "وهو سبحانه حميد من وجهين:
__________
(1) جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام ص 447.
(2) تفسير السعدي 5/624.(1/307)
أحدهما: أن جميع المخلوقات ناطقة بحمده، فكل حمد وقع من أهل السماوات والأرض الأولين منهم والآخرين، وكل حمد يقع منهم في الدنيا والآخرة، وكل حمد لم يقع منهم، بل كان مفروضًا ومقدرًا حينما تسلسلت الأزمان، واتصلت الأوقات حمدًا يملأ الوجود كله، العالم العلوي والسفلي، ويملأ نظير الوجود من غير عد ولا إحصاء، فإن الله مستحقه من وجوه كثيرة منها: أن الله هو الذي خلقهم، ورزقهم، وأسدى عليهم النعم الظاهرة، والباطنة الدينية، والدنيوية، وصرف عنهم النقم، والمكاره، فما بالعباد من نعمة فمن الله، ولا يدفع الشرور إلا هو، فيستحق منهم أن يحمدوه في جميع الأوقات، وأن يثنوا عليه، ويشكروه بعدد اللحظات.
الوجه الثاني: أنه يحمد على ما له من الأسماء الحسنى، والصفات الكاملة العليا، والمدائح والمحامد والنعوت الجليلة الجميلة، فله كل صفة كمال، وله من تلك الصفة أكملها وأعظمها، فكل صفة من صفاته يستحق عليها أكمل الحمد والثناء، فكيف بجميع الأوصاف المقدسة، فله الحمد لذاته، وله الحمد لصفاته، وله الحمد لأفعاله، لأنها دائرة بين أفعال الفضل، والإحسان، وبين أفعال العدل، والحكمة التي يستحق عليها كمال الحمد، وله الحمد على خلقه، وعلى شرعه، وعلى أحكامه القدرية وأحكامه الشرعية، وأحكام الجزاء في الأولى، والآخرة، وتفاصيل حمده، وما يحمد عليه لا تحيط بها الأفكار، ولا تحصيها الأقلام"(1). وشاهد ما قاله الشيخ السعدي قوله × في أذكار الرفع من الركوع: (اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينها وملء ما شئت من شيء بعد)(2).
__________
(1) الحق الواضح المبين ص 39، 40.
(2) مسلم (771).(1/308)
ويفيض ابن القيم - رحمه الله تعالى - في آثار حمده في ملكه، وأن الملك والحمد في حقه متلازمان كما جاء في كثير من الآيات والأحاديث: (له الملك وله الحمد). فيقول...: (والملك والحمد في حقه متلازمان فكل ما شمله ملكه وقدرته شمل حمده، فهو محمود في ملكه، وله الملك والقدرة مع حمده، فكما يستحيل خروجُ شيء من الموجودات عن ملكه وقدرته، يستحيل خروجها عن حمده وحكمته، ولهذا يحمد سبحانه نفسه عند خلقه وأمره، لينبّه عباده على أن مصدر خلقه وأمره عن حمده، فهو محمودٌ على كلّ ما خلقه وأمر به حمد شكر وعبودية، وحمد ثناءٍ ومدح، ويجمعهما التبارك، فتبارك الله يشمل ذلك كله، ولهذا ذكر هذه الكلمة عقيب قوله: { أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) } [الأعراف: 54].(1/309)
فالحمدُ أوسع الصفات وأعمّ المدائح، والطرق إلى العلم به في غاية الكثرة، والسبيل إلى اعتباره في ذرّات العالم وجزئياته، وتفاصيل الأمر والنهي واسعة جدًا؛ لأنَّ جميع أسمائه- تبارك وتعالى - حمد، وصفاته حمد، وأفعاله حمد، وأحكامه حمد، وعدله حمد، وانتقامه من أعدائه حمد، وفضله في إحسانه إلى أوليائه حمد، والخلق والأمر إنما قام بحمده، ووجد بحمده وظهر بحمده، وكأن الغاية هي حمده روح كلّ شيء، وقيام كل شيء بحمده، وسريان حمده في الموجودات، وظهور آثاره فيه أمر مشهود بالأبصار والبصائر، ومن الطرق الدالة على شمول معنى الحمد وانبساطه على جميع المعلومات معرفة أسمائه وصفاته، وإقرار العبد بأن للعالم إلهًا حيًا جامعًا لكل صفة كمال، واسم حسن، وثناءٍ جميل، وفعل كريم، وأنه سبحانه له القدرة التامة والمشيئة النافذة، والعلم المحيط، والسمع الذي وسع الأصوات، والبصر الذي أحاط بجميع المبصرات، والرحمة التي وسعت جميع المخلوقات، والملك الأعلى الذي لا يخرج عنه ذرة من الذرات، والغنى التام المطلق من جميع الجهات، والحكمة البالغة المشهودة آثارها في الكائنات، والعزّة الغالبة بجميع الوجوه، والاعتبارات والكلمات التامات النافذات؛ التي لا يجاوُزُهنَّ برٌّ ولا فاجر من جميع البريات... وقد نبَّه سبحانه على شمول حمده لخلقه وأمره بأن حمد نفسه في أول الخلق وآخره، وعند الأمر والشرع، حمد نفسه على ربوبيته للعالمين، وحمد نفسه على تفرُّده بالإلهية وعلى حياته، وحمد نفسه على امتناع اتصافه بما لا يليقُ بكماله؛ من اتّخاذ الولد والشّريك، وموالاة أحدٍ من خَلْقه لحاجته إليه، وحمد نفسه على علوّه وكبريائه، وحمد نفسه في الأولى والآخرة، وأخبر عن سريان حمده في العالم العلويّ والسّفلي، ونبَّه على هذا كله في كتابه، وحمد نفسه عليه .(1/310)
فنوّع حمده وأسباب حمده، وجمعها تارة وفرّقها أُخرى؛ ليتعرَّف إلى عباده ويُعرّفهم كيف يحمدونه، وكيف يثنون عليه، وليتحبَّب إليهم بذلك، ويحبّهم إذا عرفوه وأحبوه وحمدوه. قال تعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) } [الفاتحة: 2 - 4].
وقال تعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) } [الأنعام: 1]، وقال تعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ %y`uqدم 2 (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) } [الكهف: 1 - 2]، وقال: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) } [سبأ: 1]، وقال تعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) } [فاطر: 1]، وقال: { وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) } [القصص: 70]، وقال: { هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) } [غافر: 65]، وقال: { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) } [الروم: 17 - 18].(1/311)
وأخبر عن حمد خلقه له بعد فصله بينهم، والحكم لأهل طاعته بثوابه وكرامته، والحكم لأهل معصيته بعقابه وإهانته: { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75) } [الزمر: 75]، وأخبر عن حمد أهل الجنة له، وأنهم لم يدخلوها إلا بحمده، كما أن أهل النار لم يدخلوها إلا بحمده، فقال عن أهل الجنة: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ } [الأعراف: 43]، و: { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) } [يونس: 10]، وقال عن أهل النار: { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75) } [القصص: 74 - 75]، وقال تعالى: { فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) } [الملك: 11].
وشهدوا على أنفسهم بالكفر والظُّلم، وعلموا أنهم كانوا كاذبين في الدُّنيا، مكذّبين بآيات ربهم، مشركين به، جاحدين لإلهيته، مُفترين عليه، وهذا اعترافٌ منهم بعدله فيهم، وأخذهم ببعض حقّه عليهم، وأنه غيرُ ظالم لهم، وأنهم إنما دخلوا النار بعدله وحمده، وإنما عُوقبوا بأفعالهم؛ وبما كانوا قادرين على فعله وتركه، لا كما تقول الجبرية (1).
الفرق بين الحمد والشكر:
فرق أهل العلم بينهما فقالوا: إن الشكر أعم من جهة أنواعه، فهو يكون باللسان والقلب والجوارح، وأخص من جهة متعلقاته فيكون على نعم قريبة تجد أو نقمة تندفع.
__________
(1) أسماء الله الحسنى لابن القيم جمع وتحقيق يوسف بديوي (209 - 213).(1/312)
أما الحمد فهو أعم من جهة متعلقاته، فهو تناول النعم السابقة وغيرها، ويتضمن حمد الله تعالى على أسمائه وصفاته وأفعاله، كما أنه أخص من جهة أنواعه، فهو يقع بالقلب واللسان، فكل ما يتعلق به الشكر يتعلق به الحمد من غير عكس، وكل ما يقع به الحمد يقع به الشكر من غير عكس"(1).
والعبد يحمد الله - عز وجل - في السراء والضراء، لأن فعله سبحانه كله حكمة، وخير للعبد.
عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن رسول الله × قال: (إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة وسموه بيت الحمد)(2).
فضل ذكر الله - عز وجل - (بالحمد) له سبحانه:
قول (الحمد لله) من أفضل الذكر لله تعالى وقد جاء في كثير من الأذكار والأدعية الصحيحة هذا الذكر العظيم الذي يحبه الله - عز وجل - ويثيب عليه الأجر الجزيل، بل جاء في القرآن الكريم الحث على اللهج بهذا الذكر الكريم كما في قوله تعالى: { قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى } [النمل: 59]، وقوله سبحانه: { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111) } [الإسراء: 111].
وقال تبارك وتعالى: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } [طه: 130]، وقال - عز وجل -: { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) } [غافر: 55].
أما الأحاديث التي وردت في فضل هذا الذكر والإتيان به في أعمال اليوم والليلة فكثيرة منها:
__________
(1) انظر مدارج السالكين 2/246.
(2) الترمذي في الجنائز باب فضل المصيبة إذا احتسبت وقال: حديث حسن.(1/313)
قوله ×: (الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض)(1).
عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: كان نبي الله × إذا أمسى قال: (أمسينا وأمسى الملك لله، والحمد لله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له)... وإذا أصبح قال ذلك أيضًا: (أصبحنا وأصبح الملك لله)(2).
وعن أنس - رضي الله عنه - أن النبي × كان إذا أوى إلى فراشه قال: (الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي)(3).
وعن أبي ذر - رضي الله عنه -: قال لي رسول الله ×: (ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله، قلت: يارسول الله أخبرني بأحب الكلام إلى الله تعالى، فقال: إنّ أحب الكلام إلى الله: سبحان الله وبحمده)، وفي رواية: إن رسول الله × سئل أي الكلام أفضل، قال: (ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده سبحان الله وبحمده)(4).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن رسول الله × قال: (ومن قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر)(5).
والمواطن التي جاء فضل هذا الذكر فيها كثيرة، من أشهرها دبر الصلوات وعند النوم مع التسبيح والتهليل والتكبير، وفي استفتاح دعاء التهجد، وأذكار الرفع من الركوع وغيرها.
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (الحميد):
__________
(1) مسلم 223.
(2) رواه مسلم 2723.
(3) رواه مسلم 2715.
(4) مسلم في الذكر والدعاء باب فضل سبحان الله وبحمده.
(5) جزء من حديث رواه مسلم في الذكر والدعاء باب فضل التهليل والتسبيح.(1/314)
سبق القول بأن (الحميد) يأتي بمعنى (المحمود)، أي: أن الله - عز وجل - هو المحمود في ذاته وفي أسمائه وصفاته وأفعاله، وله الحمد كله وله الثناء الحسن كله، وله الحمد في الأولى والآخرة، وفي السماوات والأرض، وذلك لما يتصف به سبحانه من صفات الكمال والجلال والجمال، ولأن أسماءه كلها حسنى، وأفعاله كلها حسنى تتراوح بين الفضل والرحمة والإحسان، وبين الحكمة والعدل.
وهذه الآثار والمعاني العظيمة لابد أن تثمر في قلب المؤمن آثارًا وعبوديات لله تعالى من أهمها:
أولاً: محبة الله - عز وجل - محبة عظيمة صادقة لا يشاركه فيها أحد من الخلق، وهذه المحبة بدورها تثمر عبوديات أخرى في القلب، كالإخلاص لله تعالى والحياء والأدب مع الله - عز وجل - وعبوديات اللسان والجوارح بالقيام بأوامره، واجتناب نواهيه، والتقرب إليه بطاعته.
ثانيًا: كثرة ذكره سبحانه وشكره، وبخاصة بالأذكار التي تتضمن حمده سبحانه والثناء عليه بالثناء الحسن الذي هو أهل له آناء الليل وأطراف النهار، وعمل اليوم والليلة.
ثالثًا: اليقين بأن الله - عز وجل - هو المستحق للحمد كله على الإطلاق كما قال سبحانه عن نفسه: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } واللام في (الحمد) للاستغراق، أي: هو الذي له جميع المحامد بأسرها، وليس ذلك لأحد إلا لله تعالى ولا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فهو الحميد في ذاته وصفاته وفي أسمائه وفي أفعاله، فله الحمد على كل حال، في كل زمان ومكان، في الشدة والرخاء، والعسر واليسر، وفيما نحب ونكره، كيف لا! وهو العليم الحكيم، الفعَّال لما يريد، المختار لما يشاء، فمهما يقضي ويقدِّر فهو الموافق للحكمة البالغة، والعلم التام، وأما ما ينسب إلى المخلوق من الحمد فهو جزئي، وحقيقته أنه داخل في حمد الله - عز وجل - فما من محمود يحمد على شيء مما دق أو جل إلا والله المحمود عليه بالذات والأولوية.(1/315)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ومعلوم أن كل ما يحمد فإنما يحمد على ما له من صفات الكمال، فكل ما يحمد به الخلق فهو من الخالق، والذي منه ما يحمد عليه هو أحق بالحمد، فثبت أنه المستحق للمحامد الكاملة، وهو أحق من كل محمود بالحمد، والكمال من كل كامل وهو المطلوب"(1).
وهذا اليقين يثمر في قلب المسلم القبول التام، والاستسلام المطلق لأحكام الله الشرعية.
واليقين أنها كلها خير ومصلحة وحكمة، ولو لم ندرك حكمة بعضها، لكن الله تعالى يحمد عليها لما يعلمه سبحانه من الحكمة والخير فيها لعباده، وكذلك أحكامه سبحانه القدرية فما كنا فيها مأمورين بمدافعتها بالأسباب الشرعية دافعنا، وما كان منها أمر مقضي فإن الواجب حينها الاستسلام والرضا واليقين بأن له سبحانه الحكمة البالغة التي يحمد عليها ولو غابت عن عقولنا، وكذلك له الحمد في كل ما خلق في هذا الكون من ناطقه وجامده، وله الحمد على ذلك كله ولو لم ندرك حكمته سبحانه في خلق كثير منها.
كما أن له الحمد في أحكامه الجزائية في الدنيا ويوم القيامة؛ لأنها كلها فضل ورحمة أو عدل وحكمة، وهذه مما يحمد الله -عز وجل- عليها.
اقتران اسمه سبحانه (الحميد) ببعض الأسماء الحسنى:
أولاً: اقتران اسمه سبحانه (الحميد) باسمه سبحانه (الحكيم):
وقد ورد ذلك في قوله تعالى: { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) } [فصلت: 42].
وقد سبق ذكر المعنى المستفاد من اقتران هذين الاسمين الكريمين في الكلام عن اسمه سبحانه (الحكيم) فليرجع إليه.
ثانيًا: اقتران اسمه سبحانه (الحميد) باسمه سبحانه (المجيد):
__________
(1) مجموع الفتاوى 6/83، 84.(1/316)
جاء اقتران اسمه (الحميد) باسمه سبحانه (المجيد) مرة واحدة في القرآن الكريم، وذلك في قوله تعالى: { رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) } [هود: 73]، وجاء ذلك أيضًا في أذكار التشهد الأخير في قول المصلي: "اللََّّهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبرهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد"(1) وعن المعنى الزائد في اقتران هذين الاسمين الكريمين يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "والحمد والمجد إليهما يرجع الكمال كله، فإن الحمد يستلزم الثناء والمحبة للمحمود، فمن أحببته ولم تُثْن عليه لم تكن حامدًا له، وكذا من أثنيت عليه لغرضٍ ما ولم تُحبه لم تكن حامدًا له حتى تكونَ مثنيًا عليه محبًا، وهذا الثناء والحب تَبَعٌ للأسباب المقتضية له، وهو ما عليه المحمود من صفات الكمال، ونعوت الجلال والإحسان إلى الغير، فإن هذه هي أسباب المحبة، وكلما كانت هذه الصفات أجمع وأكمل، كان الحمد والحب أتَمَّ وأعظم.
والله سبحانه له الكمالُ المطلق الذي لا نقصَ فيه بوجهٍ ما، والإحسان كلُّه له ومنه، فهو أحقُّ بكلِّ حمد،ٍ وبكل حب من كل جهة، فهو أهلٌ أنْ يُحب لذاته ولصفاته ولأفعاله ولأسمائه ولإحسانه، ولكل ما صدر منه سبحانه.
__________
(1) البخاري 3370، مسلم 406/405.(1/317)
وأما المجد فهو مستلزم للعظمة، والسعة، والجلال، كما يدل عليه موضوعه في اللغة، فهو دَالٌّ على صفات العظمة والجلال، والحمد يدل على صفات الإكرام والله سبحانه ذو الجلال والإكرام"(1)، ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: عند قوله تعالى: { رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ } : "أي حميد الصفات لأن صفاته صفات كمال، حميد الأفعال، لأن أفعاله إحسان وجود، وبر، وحكمة، وعدل، وقسط، (مجيد) والمجد: هو عظمة الصفات وسعتها، فله صفات الكمال، وله من كل صفة كمال أكملها وأتمها وأعمها"(2).
ثالثًا: اقتران اسمه سبحانه (الحميد) باسمه سبحانه (العزيز):
ورد هذا الاقتران ثلاث مرات في القرآن الكريم كما في قوله تعالى: { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) } [البروج: 8]، وقوله تعالى: { لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) } [إبراهيم: 1]، وقوله تعالى: { وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) } [سبأ: 6]، وعن سر هذا الاقتران بين هذين الاسمين الكريمين يمكن القول بأن: "العزة صفة كمال لله - عز جل - والحمد صفة كمال أخرى، واقتران العزة بالحمد صفة كمال ثالثة لله تعالى.
فله الحمد "على عزته وغلبته، وعلى إعزازه لأوليائه، ونصره لحزبه وجنده"(3).
__________
(1) جلاء الأفهام ص 186 - 187.
(2) تفسير السعدي 2/379.
(3) انظر: مطابقة أسماء الله الحسنى مقتضى المقام في القرآن الكريم، د. نجلاء الكردي ص 208.(1/318)
والله تعالى محمود في عزته، لأنها جارية على سنن الرحمة، وسنن الحكمة، وسنن المغفرة والتجاوز عن الذنوب، وسعة المواهب والعطايا، فالله تعالى كما وصف نفسه هو: { ¨â"ƒح"yèّ9$# الرَّحِيمُ } ، وهو: { الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ، وهو: { الْعَزِيزُ الْغَفُورُ } ، وهو: { الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ } ، وهو: { الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ } ، ولا كذلك العزيز من العباد الذي يتجبر، ويطغى، ويبطش فيخاف إفساده وبغيه وبطشه وتعد السلامة من أذاه غاية المطلوب.
رابعًا: اقتران اسمه سبحانه (الحميد) باسمه سبحانه (الغني):
جاء هذا الاقتران في القرآن الكريم عشر مرات؛ من ذلك قوله تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) } [الممتحنة: 6]، وقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) } [البقرة: 267]، وبقية المواضع في سورة الحج، الحديد، التغابن وفاطر، وإبراهيم، ولقمان، والنساء. وعن وجه هذا الاقتران يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عند آية البقرة: "فإنه سبحانه طيب لا يقبل إلا طيبًا، ثم ختم الآيتين بصفتين تقتضيهما سياقهما، فقال: { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } فغناه وحمده يأبى قبول الرديء، فإنَّ قابِلَ الرديء الخبيث: إما أن يقبله لحاجته إليه، وإما أن نفسه لا تأباه لعدم كمالها وشرفها، وأما الغنيُّ عنه، الشريف القدر الكامل الأوصاف: فإنه لا يقبله"(1).
خامسًا: اقتران اسمه سبحانه (الحميد) باسمه سبحانه (الولي):
__________
(1) طريق الهجرتين ص 666 - 667.(1/319)
ورد هذا الاقتران مرة واحدة في القرآن الكريم، وذلك في قوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) } [الشورى: 28].
"(والولي) معناه المتولي للأمر والقائم به، ومالك التدبير، وهذا الاسم صريح في الموالاة، ويختص بمصالح العباد وحسن النظر لهم عمومًا في جميع الخلق وخصوصًا في المؤمنين وخصوص الخصوص في المرسلين، والنبيين والصديقين، ولا يصح أن يقال: إن الله ولي الكافرين لقوله تعالى: { وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) } [محمد: 11]، وعن المعنى الزائد في اقتران اسمه (الحميد) باسمه (الولي) فيمكن القول بأن: "الله - عز وجل - هو { الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ } الذي يتولى شؤون عباده، ويدبر أمورهم على نحو يستوجب الحمد والثناء، لاتصافه - عز وجل - بصفات الكمال من العلم والحكمة والخبرة والعزة.. فولايته موصوفة بالكمال، وما كمل كان جديرًا في ذاته بالحمد والثناء.
فكيف إذا كان في ذلك صلاح من تحت ولايته، واستقامة أمورهم؟ ولذلك كان الله - وحده - الحقيق بالحمد على المنع، وعلى العطاء، وعلى المحبوب وعلى المكروه، ولا يحمد على كل حال سواه"(1).
- - -
(35) [المجيد]
ورد اسمه سبحانه (المجيد) في القرآن الكريم مرتين وذلك في قوله تعالى: { رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) } [هود: 73].
__________
(1) انظر: مطابقة أسماء الله الحسنى مقتضى المقام في القرآن الكريم د. نجلاء كردي ص 660.(1/320)
وكذلك في قوله تعالى: { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) } [البروج: 14، 15]، كما جاء اسم (المجيد) وصفًا للقرآن الكريم الذي هو كلام الله - عز وجل - فقال تبارك وتعالى: { ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ (1) } [ق: 1]، وقال - عز وجل -: { بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) } [البروج: 21، 22].
المعنى اللغوي لـ (المجيد):
قال الزجاج: أصل المجد في الكلام: الكثرة والسعة، وهو مأخوذ من قولهم: أمجدتُ الدابة إذا أكثرت علفها. فالماجد في اللغة: الكثير الشرف(1).
وقال الراغب: المجد: السعة في الكرم والجلال(2).
معناه في حق الله تعالى:
قال الأزهري: "الله تعالى هو المجيد، تمجد بفعاله، ومجده خلقه لعظمته"(3).
قال الخطابي رحمه الله تعالى: " (المجيد) هو الواسع الكرم"(4).
وقال ابن جرير رحمه تعالى: " (مجيد)، ذو مجد ومدح وثناء كريم"(5).
وقال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
"وهو المجيد صفاته أوصاف تعظيم فشأن الوصف أعظم شان"(6)
وقال أيضًا: "وصف نفسه بـ(المجيد) وهو: المتضمن لكثرة صفات كماله وسعتها، وعدم إحصاء الخلق لها، وسعة أفعاله وكثرة خيره ودوامه، وأما من ليس له صفات كمال ولا أفعال حميدة فليس له من المجد شيء، والمخلوق إنما يصير مجيدًا بأوصافه وأفعاله فكيف يكون الرب - تبارك وتعالى - مجيدًا وهو معطل عن الأوصاف والأفعال تعالى الله عما يقول المعطلون علوًا كبيرًا، بل هو المجيد الفعال لما يريد، والمجد في لغة العرب: كثرة أوصاف الكمال وكثرة أفعال الخير"(7).
__________
(1) تفسير الأسماء ص 53.
(2) المفردات ص 463.
(3) لسان العرب 5/4138.
(4) شأن الدعاء ص 74.
(5) تفسير الطبري 12/47.
(6) النونية 2/215.
(7) التبيان في أقسام القرآن ص 125.(1/321)
وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "المجيد: الكبير العظيم الجليل، وهو الموصوف بصفات المجد والكبرياء والعظمة والجلال الذي هو أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وأجل وأعلى، وله التعظيم والإجلال في قلوب أوليائه وأصفيائه، قد ملئت قلوبهم من تعظيمه وإجلاله والخضوع له والتذلل لكبريائه"(1).
ويقول أيضًا: "والمجد هو عظمة الصفات وسعتها فكل وصف من أوصافه عظيم شأنه: فهو العليم الكامل في علمه، الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، القدير الذي لا يعجزه شيء، الحليم الكامل في حلمه، الحكيم الكامل في حكمته، إلى بقية أسمائه وصفاته"(2).
وقد جاء في الحديث القدسي: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي، فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجدني عبدي...)(3).
ومن هذا الحديث يظهر لنا معنى من معاني المجيد حيث إن من تمجيد الله تعالى وصفه والاعتراف له بالملك والقهر، والحكم يوم الدين والحساب لا معقب لحكمه، ولا مهرب من جزائه.
وقد وصف الله - عز وجل - كتابه بـ (المجيد)، وذلك كما مر بنا في الآيتين في سورة البروج وسورة ق.
__________
(1) تفسير السعدي 5/300.
(2) الحق الواضح المبين ص 33 للشيخ السعدي.
(3) رواه مسلم (395).(1/322)
فالقرآن مجيد أي: شريف كريم عظيم واسع الخير والفضل والكرم، وذلك لما تضمنه من العلوم والمكارم والمقاصد العليا والمصالح الدنيوية والأخروية ولا غرابة في ذلك فإنه كلام الله - عز وجل - المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، ومن عظمة هذا القرآن ومجده: (أن الله يرفع به أقوامًا، ويخفض به آخرين. يرفع به من عمل به واتخذه دينًا ومنهجًا، ويخفض به ويذل من تركه وراءه ظهريًا؛ ففي صحيح مسلم عن عامر بن واثلة أن نافع ابن عبدالحارث لقي عمر بعسفان، وكان عمر يستعمله على مكة، فقال: من استعملت على أهل الوادي؟ فقال: ابن أبزى، قال: ومن ابن أبزى؟ قال: مولى من موالينا، قال: فاستخلفت عليهم مولى؟! قال: إنه قارئٌ لكتاب الله - عز وجل - وإنه عالمٌ بالفرائض، قال عمر: أما إن نبيكم × قد قال: "إن الله يرفعُ بهذا الكتاب أقوامًا ويضعُ به آخرين"(1).
فقد رفع الله تعالى هذا المولى لحفظه لكتابه، وعلمه به مع انحطاط نسبه وشرفه على غيره من أهل مكة أهل الشرف والنسب.
وهذا المجد والرفعة في الدرجات في الآخرة، فإنما هي لمن أخذ بهذا الكتاب، وعمل به، والذّل والمهانة والدركات لمن تركه وأعرض عنه(2).
من آثار الإيمان باسمه (المجيد):
أولاً: محبة الله - عز وجل - الذي وسع خلقه بكرمه وفضله ورحمته!!
وهذا يلزم عليه عبادته وحده لا شريك له، والتعلق به وحده، وسؤاله قضاء الحوائج، وتفريج الكربات وحده، وترك التعلق بالمخلوق الضعيف الفقير بذاته إلى الله تعالى وإن كان فيه مجد أو كرم محدود فهو من جود الله تعالى وكرمه.
__________
(1) رواه مسلم (817).
(2) انظر النهج الأسمى محمد حمود النجدي 1/437.(1/323)
ثانيًا: تمجيده سبحانه واللهج بذكره، والثناء عليه بالتهليل والتحميد والتسبيح والتكبير وسؤاله بأسمائه الحسنى، لأن كل أسمائه وصفاته هي من باب التمجيد لله رب العالمين، فقولنا: هو الله الواحد الأحد، الصمد، العزيز، الوهاب، الملك الأول، الآخر، الظاهر والباطن، الحميد، السميع، البصير؛ كل هذا من باب التمجيد لله الواحد الأحد.
ثالثًا: التقرب إلى الله - عز وجل - بطاعته والتماس مرضاته، والبعد عن معاصية ومساخطه، وهذه هي حقيقة التقوى التي فيها الشرف والمجد والرفعة للعبد في الدنيا والآخرة قال الله - عز وجل -: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات: 13]، وقال الرسول ×: (... ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)(1)، فالله سبحانه (المجيد) لا يهب المجد والرفعة والذكر الحسن إلا لمن عبده ووحده، ومجده، واتقاه.
اقتران اسمه سبحانه (المجيد) باسمه سبحانه (الحميد):
وهو الاقتران الوحيد في القرآن، وقد سبق ذكر وجه هذا الاقتران في الكلام عن اسمه سبحانه (الحميد) .
- - -
(36) [الخبير]
ورد اسمه سبحانه (الخبير) في القرآن الكريم خمسًا وأربعين مرة تارة مفردًا وتارة مقرونًا باسمه (العليم)، وتارة مقرونًا باسمه (الحكيم)، وتارة مقرونًا باسمه (البصير)، وكثيرًا ما يأتي بقوله: { بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } ، أو { خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } . ومن ذلك:
قوله تعالى: { إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) } [العاديات: 11].
وقوله سبحانه: { ّtA$s% نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) } [التحريم: 3].
وقوله عز وجل: { إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) } [فاطر: 31].
وقوله تبارك وتعالى: { uمNخ="tم الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) }
[الأنعام:73].
__________
(1) مسلم (2699).(1/324)
وقوله سبحانه: { ں !ur مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) } [آل عمران: 180].
المعنى اللغوي لـ (الخبير):
"الخِبْرُ، والخُبْرُ، والخِبرة، والخُبْرةَ كله: العلم بالشيء. يقال: من أين خَبَرت هذا الأمر، أي من أين علمت؟
ورجل خابر، وخبير: عالم بالخبر. وخبرت الأمر أخبره: إذا عرفته على حقيقته" (1).
معناه في حق الله تعالى:
ما قيل في معاني اسمه سبحانه (العليم) يصلح أن يقال هنا عند الافتراق.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (الخبير): الذي انتهى علمه إلى الإحاطة ببواطن الأشياء وخفاياها كما أحاط بظواهرها(2).
وقال الغزالي رحمه الله تعالى: " (الخبير) هو الذي لا تعزب عنه الأخبار الباطنة ولا يجري في الملك والملكوت شيء ولا يتحرك ذرة ولا يسكن ولا يضطرب نفس ولا يطمئن إلا ويكون عنده خبره. وهو بمعنى العليم، لكن العليم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة سمي خبرة وسمي صاحبها خبيرًا"(3).
وقال السعدي رحمه الله تعالى: " (العليم الخبير) وهو الذي أحاط علمِه بالظواهر والبواطن، والإسرار والإعلان، وبالواجبات والمستحيلات والممكنات وبالعالم العلوي والسفلي، وبالماضي والحاضر والمستقبل، فلا يخفى عليه شيء من الأشياء"(4).
ويقول ابن عاشور رحمه الله تعالى: " (والخبير): العالم بدقائق الأمور المعقولة والمحسوسة والظاهرة والخفية"(5).
من آثار الإيمان باسمه (الخبير):
ما ذكر من الآثار في اسمه سبحانه (العليم) يصلح أن يذكر هنا عند الافتراق، ومن ذلك:
__________
(1) انظر: اشتقاق الأسماء للزجاجي ص 127، الصحاح للجوهري 2/641، اللسان 2/1090.
(2) الصواعق المرسلة 2/492.
(3) المقصد الأسنى ص 63.
(4) تفسير السعدي 5/299.
(5) التحرير والتنوير 11/310.(1/325)
1- إن الإيمان بأن الله - تبارك وتعالى - خبير بعباده جميعهم من الملائكة والجن والإنس وغيرهم لا يخفى عليه خافية منهم: { إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) } [فاطر: 31].
والإيمان بأنه خبير بأعمال عباده كما قال سبحانه: { وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) } [الحشر: 18].
وأنه خبير بهم في حال استقامتهم وإحسانهم، وفي حال انحرافهم والتوائهم، قال سبحانه: { وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِن اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) } [النساء: 128]، وقال: { وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) } [النساء: 135].
مَنْ عَلِمَ أن الله سبحانه خبير بذلك كله، وآمن به إيمانًا لا ريب فيه، راقب ربه، وارتدْع عن ذنبه: { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) } [النور: 30]، فعِلْمُنا بأنه مطلع على ما نصنع يدفعنا إلى غض أبصارنا، وحفظ فروجنا، وحفظ جوارحنا كلها عن كل ما يسخطه سبحانه.
2- كما يدفعنا إيماننا بذلك إلى الالتزام بطاعة الله ورسوله: { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) } [المجادلة: 13].
ويمنعنا من مقارفة الذنوب: { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا } [الإسراء: 17،16].(1/326)
3- إن حكمه سبحانه بإهلاك المجرمين والعصاة مبني على خبرته بهم، وبما ارتكبوه من الذنوب والآثام والمعاصي: { وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا } , وهذا جار في كل أحكامه وأقضيته وهذا يثمر في القلب الاطمئنان لأحكامه سبحانه الكونية وأنها كلها ناشئة عن حكمة بالغة وخبرة تامة، وعلم شامل بحقائق الأمور ولو غاب ذلك عن العقول.
4- ولأنه سبحانه يستوي عنده إسرارنا القول أو جهرنا به، فهو عليم بذات الصدور، لأنه الخالق، والخالق لا يجهل خلقه، كما هو بهم لطيف خبير: { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) } [الملك: 13 - 14].
وقد أمرنا بالعدل، معللاً أن العدل أقرب للتقوى، ثم أمر باتقائه معقبًا على ذلك بأنه خبير بأعمالنا: { اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) } [المائدة: 8]، فإن العالم بأن الله خبير بعمله يدفعه علمه إلى تحقيق العدل، ومراقبة الله - عز وجل - في سره، فلا ينطوي إلا على ما يرضي الله - عز وجل - وهذا الشعور يدفع المؤمن إلى التخلص من الآفات الباطنة التي لا يعلمها إلا الله - عز وجل - الخبير ببواطن القلوب وخفايا النفوس، مثل: آفات الرياء والكبر والحسد وغيرها.
5- الإذعان والاستسلام لأحكام الله - عز وجل - الشرعية الدينية فيما أوجبه وحرمه، وفيما رغب فيه ونهى عنه؛ لأنه تشريع كامل شامل كله خير ومصلحة للعباد لكونه من لدن عليم خبير حكيم، رحيم لطيف، وأثر اسمه سبحانه (الخبير) جلي فيما شرعه وحكم به، ذلك أن من معاني الخبير التي مرت بنا العالم بخفايا الأمور وعواقبها وأسرارها، العارف بما يصلح لعباده من الشرائع التي تتضمن ما ينفعهم ويصلح شؤونهم.(1/327)
قال الله تعالى: { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) } [الملك: 14]، وقال - عز وجل -: { قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ } [البقرة: 140]، وقال سبحانه: { وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) } [فاطر: 31]، وسواء ظهرت حكمة التشريع أم خفيت فإن اسمه سبحانه (الخبير) يثمر في القلب الاستسلام لأحكامه عز وجل، والقطع، فإن فيه الحكمة والمصلحة ولو قصرت العقول عن إداركها لأنها ناشئة عن خبرة وعلم وحكمة.
اقتران اسمه سبحانه (الخبير) ببعض أسمائه الحسنى:
اقترن اسمه سبحانه (الخبير) في القرآن الكريم بأسمائه سبحانه (العليم)، (الحكيم)، (اللطيف)، (البصير).
أولاً: اقتران اسمه سبحانه (الخبير) باسمه (العليم):
وقد ورد هذا الاقتران في القرآن الكريم "خمس مرات" كما في قوله تعالى: { إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا } [النساء: 35].
وقوله سبحانه: { قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) } [التحريم: 3].
وقوله عز وجل: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) }
[الحجرات: 13].
وأما عن وجه هذا الاقتران فقد سبق ذكره عند الكلام عن اسمه سبحانه (العليم) فليرجع إليه.
ثانيًا: اقتران اسمه سبحانه (الخبير) باسمه (الحكيم):
وقد ورد هذا الاقتران أربع مرات في القرآن الكريم كما في قوله تعالى: { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) } [الأنعام: 18]، وقوله تعالى: { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) } [هود: 1].
وقد سبق الكلام عن وجه هذا الاقتران عند اسمه سبحانه (الحكيم) فليرجع إليه.(1/328)
ثالثًا: اقتران اسمه سبحانه (الخبير) باسمه سبحانه (اللطيف):
ورد هذا الاقتران خمس مرات في القرآن الكريم كما في قوله تعالى: { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) } [الملك: 14]، وقوله تعالى: { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا } [الأحزاب: 34]، ولمعرفة وجه هذا الاقتران يرجع إلى مبحث اسمه سبحانه (اللطيف) فهو مذكور هناك.
رابعًا: اقتران اسمه سبحانه (الخبير) باسمه سبحانه (البصير):
ورد هذا الاقتران خمس مرات في كتاب الله - عز وجل - من ذلك قوله تعالى: { وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) } [الإسراء: 17]، وقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) } [فاطر: 31].
وعن المعنى الزائد في اقتران هذين الاسمين الكريمين يقول الطاهر بن عاشور: "والخبير: العالم بدقائق الأمور المعقولة والمحسوسة والظاهرة والخفية، والبصير: العالم بالأمور المبصرة. وتقديم الخبير على البصير لأنه أشمل، وذكر البصير عقبه للعناية بالأعمال التي هي من المبصرات وهي غالب شرائع الإسلام"(1).
واقتران (الخبير) مع (البصير) يفيد شمول علم الله تعالى للبواطن والحقائق، وكذلك للذوات والمشاهدات والمبصرات.
(37) [القوي]
ورد اسمه سبحانه (القوي) في القرآن الكريم (تسع مرات) جاء في أكثرها مقترنًا باسمه (العزيز) كما في قوله - عز وجل -: { اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) } [الشورى: 19]، وقوله تعالى: { وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) }
[الحديد: 25].
__________
(1) التحرير والتنوير 11/310.(1/329)
وورد مرتين مقترنًا بشديد العقاب، كما في قوله تعالى: { فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) } [غافر: 22].
المعنى اللغوي (للقوي):
قال الجوهري: "القوة خلاف الضعف، ورجل شديد القوى أي: شديد أسر الخلق"(1).
وقال الزجاجي: "والقوي: ذو القوة والأيد. ويقال لمن أطاق شيئًا وقدر عليه: قد قوي عليه، ولمن لم يقدر عليه: قد ضعف عنه، فالله عز وجل قوي قادر على الأشياء كلها لا يعجزه شيء منها" (2).
وقال الزجاج: "هو الكامل القدرة على الشيء يقول: هو قادر على حمله، فإذا زدته وصفًا قلت: هو قويٌ على حمله"(3).
معناه في حق الله عز وجل:
قال الطبري - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: { إِنْ اللَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ } "القوي: الذي لا يغلبه غالب ولا يرد قضاءه راد ينفذ أمره، ويمضي قضاؤه في خلقه، شديد عقابه لمن كفر بآياته وجحد حججه"(4)، وقال ابن كثير - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: "أي: لا يغلبه غالب ولا يفوته هارب"(5).
ويقول ابن القيم - رحمه الله تعالى - في نونيته:
وهو القوي له القوى جمعًا تعالى رب ذي الأكوان والأزمان(6)
وقال أيضًا:
وهو القوي بقوة هي وصفه وعليك يقدر يا أخا السلطان(7)
وقال رحمه الله تعالى: "قوله تعالى: " { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) } [الذاريات: 58]. فعلم أن (القوي) من أسمائه ومعناه: الموصوف بالقوة"(8).
وقال الخطابي رحمه الله تعالى: "هو الذي لا يستولي عليه العجز في حال من الأحوال، والمخلوق وإن وصف بالقوة فإن قوته متناهية وعن بعض الأمور قاصرة"(9).
__________
(1) الصحاح 6/2469.
(2) اشتقاق الأسماء ص 149.
(3) تفسير أسماء الله الحسنى ص 58.
(4) تفسير الطبري 10/17 - 18.
(5) تفسير ابن كثير 2/320.
(6) النونية 2/218.
(7) نفس المصدر .
(8) مدارج السالكين 1/28.
(9) شأن الدعاء ص 77.(1/330)
وذكر الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله تعالى - الفرق بين القدرة والقوة فقال: "القدرة يقابلها العجز، والقوة يقابلها الضعف، والفرق بينهما أن القدرة يوصف بها ذو الشعور، والقوة يوصف بها ذو الشعور وغيره.
ثانيًا: أن القوة أخص فكل قوي من ذي الشعور قادر وليس كل قادر قويًا"(1).
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (القوي):
أولاً: التواضع لله تعالى ولخلقه، والشعور بالضعف الشديد أمام قوة الله - عز وجل - الذي لا يعجزه شيء، والتي خضع لها كل شيء فمهما أوتي المخلوق من ملك وقوة وسلطان ومال وأولاد فهو ذليل ضعيف أمام قوة الله تعالى، وهذا الشعور يثمر التواضع ومعرفة قدر النفس، والبعد عن إيذاء الخلق وظلمهم والاعتداء عليهم، وينفي العجب بالنفس وقوتها وغرورها.
ثانيًا: التوكل على الله وحده الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وإذا أراد أمرًا فلا راد لأمره، فهو سبحانه الذي يجب التوكل عليه وحده؛ لأنه وحده القوي العزيز الذي لا يغالب، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
قال الله تعالى: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ } (217) [الشعراء: 317].
__________
(1) شرح العقيدة الواسطية ص 167.(1/331)
ثالثًا: الاستهانة بقوة المخلوق، والثقة في نصر الله - عز وجل - وكفايته للمؤمنين فمهما بلغت قوة الكافرين وعددهم وعتادهم فالله فوقهم، ونواصيهم بيده وقوتهم لا شيء في جنب قوة الله تعالى، لكن بشرط الأخذ بأسباب النصر والعزة، قال الله - عز وجل -: { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَن اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) } [فصلت: 15 - 16].
رابعًا: الشعور بالعزة وعدم الخوف من المخلوق؛ لأنه ضعيف لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا فضلاً عن أن يملكه لغيره. كما قال ذلك العالم المجاهد الذي دخل على أحد السلاطين الظلمة فأمره ونهاه، فلما قيل له: ألم تخف سطوته؟ قال: تذكرت عظمة الله تعالى وقوته فكان أمامي كالهر.
خامسًا: التبرؤ من الحول والقوة، حيث لا قوة للعبد على طاعة الله - عز وجل - وترك معاصيه، والصبر على أحكامه القدرية إلا بقوة الله - عز وجل - وتوفيقه ولو وكل العبد إلى نفسه وحوله وقوته لضاع وهلك وخسر، ولذا قال الرسول × لعبد الله بن قيس: (يا عبد الله بن قيس، ألا أعلمك كلمة هي من كنوز الجنة: لا حول ولا قوة إلا بالله)(1)، وثبت عنه × في دعائه أنه قال: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدًا)(2).
اقتران اسمه سبحانه (القوي) باسمه (العزيز):
__________
(1) البخاري (6409).
(2) صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 1/345 (654).(1/332)
ورد هذا الاقتران في القرآن الكريم في سبع آيات منها قوله تعالى: { مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) } [الحج: 74]، وقوله تعالى: { وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) } [الأحزاب: 25]، وهناك معنى زائد يستفاد من الجمع بين هذين الاسمين الكريمين وهو أن العزة التي يتضمنها اسم الله - عز وجل - (العزيز) هي عزة القوة، وعزة الغلبة، وعزة الامتناع، ووصف الله - عز وجل - بالقوة راجع إلى كمال عزته.
- - -
(38) [المتين]
ورد اسمه سبحانه (المتين) مرة واحدة في القرآن الكريم وذلك في قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) } [الذاريات: 58].
المعنى اللغوي (المتين):
قال ابن قتيبه: (المتين): "الشديد القوي"(1).
وقال الزجاج: "أصله فعيل من المتن الذي هو العضو. ويقال: ماتنته على ذلك الأمر: إذا قاويته مقاواة".
معناه في حق الله تعالى:
يفيد اسم (المتين) في حق الله تعالى: "المتناهي في القوة والقدرة"(2).
وقال الخطابي: " (والمتين) الشديد القوي الذي لا تنقطع قوته ولا تلحقه في أفعاله مشقة، ولا يمسه لغوب"(3).
"والمتانة تدل على شدة القوة لله تعالى فمن حيث إنه بالغ القدرة: (القوي)، ومن حيث إنه شديد القوة: (متين)" (4).
وقال الطبري رحمه الله تعالى: "(ذي القوة المتين): أي ذي القوة الشديد" (5).
من آثار الإيمان بهذا الاسم الجليل:
ما ذكر من الآثار في اسمه سبحانه (القوي) يصلح أن يذكر هنا لتقارب المعنى في هذين الاسمين الكريمين فليرجع إليها.
وجه اقتران أسمائه الثلاثة: [(الرزاق)، (القوي)، (المتين)]
وذلك في قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) }
__________
(1) غريب الحديث ص 42.
(2) تفسير الأسماء ص55.
(3) شأن الدعاء ص77.
(4) المقصد الأسني ص81.
(5) تفسير الطبري 27/12.(1/333)
[الذاريات: 58].
فأما اقتران اسمه سبحانه (القوي) باسمه سبحانه (المتين) فوجهه واضح لأن في اقترانهما كمال آخر في القوة من حيث التناهي في القدرة، والتناهي في شدة القوة.
أما اقترانها باسمه سبحانه (الرزاق)، فلأن من آثار قوة الله تعالى وقدرته التي لا حد لها تكفله برزق جميع الخلق، وهذا ما لا يقدر عليه إلا الله - عز وجل -. يقول الشيخ السعدي - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: "...ومن قوته أن أوصل رزقه إلى جميع العالم"(1).
- - -
(39) [العزيز]
ورد ذكر اسمه سبحانه (العزيز) في القرآن في اثنتين وتسعين مرة جاء في أكثرها مقترنًا بأسماء أخرى من أسمائه سبحانه الحسنى، ومن ذلك:
قوله تعالى: { وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) } [البقرة: 260]، وقوله سبحانه: { أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) } [ص: 9].
وقوله سبحانه: { وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) } [آل عمران: 4].
وقوله تبارك وتعالى: { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) } [الشعراء: 9]، وقد تكرر في السورة كثيرًا.
وقوله - عز وجل -: { ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) } [يس: 38].
وقوله سبحانه: { إِن اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) } [فاطر: 28].
وقوله - عز وجل -: { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) }
[ص: 66].
وقوله سبحانه: { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) }
[البروج: 8].
المعنى اللغوي (العزيز):
(العزُّ) في الأصل: القوة والشدة والغلبة، والعز والعزة: الرفعة والامتناع { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ } [المنافقون: 1] أي: وله العزة والغلبة، ورجل عزيز: منيع لا يغلب ولا يقهر.
__________
(1) تفسير السعدي 5/110.(1/334)
ويقال: عزني فلان على الأمر: إذا غلبني عليه لقوله تعالى: { ¨'خT¨"tمur فِي الْخِطَابِ (23) } [ص:23].
وقوله تعالى: { فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } [يس: 14]، أي: شددنا وقوينا.
وعز الشيء يعز فهو عزيز، قل حتى ما كاد يوجد يعني أصبح نادرًا(1).
معناه في حق الله تعالى:
الله - عز وجل - هو العزيز بكل معاني العزة كما قال سبحانه: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا } [فاطر: 10].
يقول ابن كثير رحمه الله تعالى: "(العزيز) أي: الذي قد عز كل شيء فقهره وغلب الأشياء فلا ينال جنابه لعزته وعظمته وجبروته وكبريائه"(2).
ويقول القرطبي: "(العزيز) معناه المنيع الذي لا ينال ولا يغالب"(3).
ويقول ابن القيم - رحمه الله تعالى - في نونيته:
وهو العزيز فلن يرام جنابه أنى يرام جناب ذي السلطان
وهو العزيز القاهر الغلاب لم يغلبه شيء هذه صفتان
وهو العزيز بقوة هي وصفه فالعز حينئذ ثلاث معان
وهي التي كملت له سبحانه من كل وجه عادم النقصان(4)
ويوضح الشيخ السعدي - رحمه الله تعالى - هذه المعاني الثلاثة (للعزيز) فيقول: " (العزيز) الذي له العزة كلها: عزة القوة، وعزة الغلبة، وعزة الامتناع، فامتنع أن يناله أحد من المخلوقات، وقهر جميع الموجودات، ودانت له الخليقة وخضعت لعظمته"(5).
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (العزيز):
بما أن اسمه سبحانه (العزيز) يتضمن صفة القوة فإن ماذكر من الآثار الإيمانية في اسمه سبحانه (القوي) هي أيضًا من آثار عزته سبحانه فليرجع إليها.
ويضاف إلى تلك الآثار الآثار التالية:
__________
(1) انظر لسان العرب 4/2925 - 2927، والنهاية لابن الأثير 3/228، وتفسير الأسماء ص 33.
(2) تفسير ابن كثير 4/343.
(3) تفسير القرطبي 2/131.
(4) النونية 2/218.
(5) تفسير السعدي 5/300 - 301.(1/335)
أولاً: إن اسمه سبحانه (العزيز) يستلزم توحيده وعبادته وحده لا شريك له إذ الشركة تنافي كمال العزة، وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "وهذه العِزَّة مستلزمةٌ للوحدانية؛ إذ الشركة تُنقص العِزَّة، ومستلزمةٌ لصفات الكمال؛ لأن الشركة تُنافي كمال العِزَّة، ومستلزمةٌ لنفي أضدادها، ومستلزمةٌ لنفي مماثلة غيره له في شيءٍ منها، فالروح تُعاين بقوة معرفتها وإيمانها: بهاء العِزَّة وجلالها وعظمتها، وهذه المعاينة هي نتيجة العقيدة الصحيحة المطابقة للحقِّ في نفس الأمر؛ المتلقاة من مشكاة الوحي، فلا يطمع فيها واقف مع أقيسة المتفلسفين؛ وجدل المتكلمين؛ وخيالات المتصوفين"(1).
ثانيًا: ومن كمال العزة تبرئته سبحانه من كل سوء وتنزيهه من كل شر ونقص، وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "اسمه (العزيز) الذي له العزة التامة. ومن تمام عزته: براءته عن كل سوء وشر وعيب، فإن ذلك ينافي العزة التامة"(2).
ثالثًا: من كمال عزته سبحانه نفاذ حكمه وأمره في عباده وتصريف قلوبهم على ما يشاء وهذا ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه، وهذا يجعل العبد خائفًا من ربه سبحانه لائذًا بجنابه معتصمًا به متبرئًا من الحول والقوة ذليلاً حقيرًا بين يدي ربه سبحانه يسأل ربه حفظ قلبه وصلاح دينه ودنياه، وفي هذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "... وأنه لكمال عزته حكم على العبد، وقضى عليه بأن قلب قلبه وصرف إرادته على ما يشاء وحال بين العبد وقلبه؛ وجعله مريدًا شائيًا لما شاء منه العزيز الحكيم، وهذا من كمال العزة، إذ لا يقدر على ذلك إلا الله، وغاية المخلوق أن يتصرف في بدنك وظاهرك. وأما جعلك مريدًا شائيًا لما يشاؤه منك ويريده: فلا يقدر عليه إلا ذو العزة الباهرة.
__________
(1) مدارج السالكين 3/257.
(2) شفاء العليل 2/511.(1/336)
فإذا عرف العبد عز سيده ولاحظه بقلبه، وتمكن شهوده منه، كان الاشتغال به عن ذل المعصية أولى به وأنفع له، لأنه يصير مع الله لا مع نفسه.
ومن معرفة عزته في قضائه: أن يعرف أنه مدبَّر مقهور، ناصيته بيد غيره.لا عصمة له إلا بعصمته، ولا توفيق له إلا بمعونته، فهو ذليل حقير، في قبضة عزيز حميد" (1).
رابعًا: ومن شهود عزته أيضًا في قضائه: أن يشهد أن الكمال والحمد، والغناء التام، والعزة، كلَّها لله، وأن العبد نفسَه أولى بالتقصير والذمِّ، والعيب والظلم والحاجة، وكلما ازداد شهوده لذله ونقصه وعيبه وفقره، ازداد شهوده لعزة الله وكماله، وحمده وغناه؛ وكذلك العكس، فنقص الذنب وذلَّتُه يُطلعه على مشهد العِزَّة (2).
خامسًا: يثمر الإيمان بهذا الاسم الكريم العزة في قلب المؤمن ومهما ابتغى العبد العزة عند غير الله تعالى وفي غير دينه فلن يجدها ولن يجد إلا الذل والضعف والهوان قال الله تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا } [فاطر: 10]، وقال سبحانه رادًا على المنافقين الذين رأوا العزة عندهم: { يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) }
[المنافقون: 8].
والشعور بهذه العزة تثمر التعالي على الباطل وأهله وعدم الاستكانة لهم مهما تسلطوا على العبد فغاية ما يقدرون عليه الأذى الظاهري، أما القلب فما دام مملوءًا بالإيمان والاعتزار بالقوي العزيز فلن يصلوا إليه ولن يسيطروا عليه ولن يتطرق إليه الوهن والضعف أبدًا.
__________
(1) مدارج السالكين 1/205.
(2) مدارج السالكين 1/205.(1/337)
سادسًا: كما يثمر هذا الشعور عدم الركون إلى شيء من هذه الدنيا الفانية وجعلها مصدر العزة والقوة فكم رأينا وسمعنا من كثير من الناس الذين اغتر بعضهم بماله أو جاهه أو ولده أو سلطانه ومنصبه فكانت كلها سببًا في إذلاله واستخذائه وشقائه، وصدق من قال: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله"، وإنا لنجد مصداق هذا الكلام في واقعنا البائس اليوم حيث إنه لما ركن كثير من الأفراد والطوائف والدول إلى غير الله - عز وجل - يبتغون عندهم العزة أذلهم الله وجعلهم في ذيل الركب ومؤخرة الأمم، وصدق الله - عز وجل - ومن أصدق من الله قيلاً: { بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) } [النساء: 138 - 139].
سابعًا: من أسباب العزة العفو والتواضع والذلة للمؤمنين قال الله تعالى في وصف عباده الذين يحبهم ويحبونه: { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } [المائدة: 54]، وقال الرسول ×: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه)(1)، فمن عفا عن شيء مع قدرته على الانتقام، عظم في القلوب في الدنيا وفي الآخرة بأن يعظم الله ثوابه.
ثامنًا: سمى الله تبارك وتعالى كتابه: (العزيز) وذلك في قوله سبحانه: { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) } [فصلت: 41، 42].
__________
(1) مسلم (2588).(1/338)
قال قتادة: "أعزه الله لأنه كلامه، وحفظه من الباطل"(1)، ومن عزته أن يعز ويرفع من عمل به ودعا إليه، ومن عزته أنه غالب بحججه وكماله وشموله ومن قال به واحتج به فهو الغالب العزيز.
اقتران اسمه سبحانه (العزيز) ببعض أسمائه الحسنى:
أولاً: اقتران اسمه سبحانه (العزيز) بأسمائه سبحانه: (القوي)، (الحكيم)، (العليم)، (الحميد)، (الرحيم):
سبق الكلام عن وجه هذا الاقتران بهذه الأسماء الحسنى في مبحث هذه الأسماء فليرجع إليها
ثانيًا: اقتران اسمه سبحانه (العزيز) باسميه سبحانه (الغفور)، (الغفار):
ورد هذا الاقتران في عدة آيات من القرآن الكريم. فأما الاقتران باسمه سبحانه (الغفور) فقد ورد في القرآن (مرتين) كما في قوله تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِن اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) } [فاطر: 28]، وقوله تعالى: { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) } [الملك: 2].
وأما الاقتران باسمه سبحانه (الغفار) فقد ورد ثلاث مرات في القرآن الكريم، مرة في سورة ص وذلك في قوله تعالى: { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) } [ص: 66]، ومرة في سورة الزمر وذلك في قوله تعالى: { وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) } [الزمر: 5] ومرة في سورة غافر عند قوله تعالى: { وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) } [غافر: 42] والغفور والغفار من أسماء الله تعالى ومعناهما: الساتر لذنوب عباده المتجاوز عن خطاياهم وذنوبهم، والغفور والغفار للكثرة إذا تكرر، والغفار أدل على الكثرة من الغفور.
__________
(1) تفسير ابن جرير 24/79.(1/339)
وعن وجه اقتران اسمه سبحانه (العزيز) باسمه سبحانه (الغفور والغفار) يمكن القول بأن الله - عز وجل - العزيز الغالب لكل شيء القاهر فوق عباده قادر على أن يأخذ عباده بذنوبهم ويعذب بما يشاء من أنواع العذاب. ولكنه سبحانه مع عزته وقهره إلا أنه غفور رحيم، وعفوه ومغفرته تكون منه سبحانه عن عزة وقدرة لا عن ضعف وعجز؛ فهو كامل في عزته، وكامل في مغفرته، وكامل في الجمع بين عزته ومغفرته والله أعلم.
ثالثًا: اقتران اسمه سبحانه (العزيز) باسمه سبحانه (الوهاب):
ورد هذا الاقتران في آية واحدة في القرآن الكريم، وذلك في قوله تعالى: { أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) } [ص: 9].
(والوهاب): كثير الهبات أي العطايا من غير استحقاق عليه، بل هو تفضل منه على خلقه كل بحسبه.
وعن المعنى الزائد المستفاد من الجمع بين اسمه سبحانه (العزيز)، (الوهاب) يمكن القول بأن لله - عز وجل - صفة كمال من كلا الاسمين منفردين، وصفة كمال ثالثة من اجتماعهما. فكونه سبحانه (العزيز الوهاب) تقتضي تصرفه التام في صنوف العطاء المادي منها والمعنوي لا ينازعه فيها منازع ولا يغالبه فيها مغالب؛ لأنه العزيز الذي لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا ينوب عنه نائب، ولا يصل عطاء من معطٍ إلى مُعْطَى إلا بإذنه سبحانه، فعزته متضمنة الإنعام على خلقه والتفضل عليهم، وتفضله وإنعامه سبحانه صادران عن عزة وقدرة وغنى وتفضل لا لجلب نفع أو دفع ضر.
رابعًا: اقتران اسمه سبحانه (العزيز) باسمه سبحانه (المقتدر):
ورد هذا الاقتران في آية واحدة في القرآن الكريم وهي في قوله سبحانه: { كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) }
[القمر: 42].
والعزيز: الظاهر الذي لا يُغلب أبدًا، والمقتدر الذي لا يعجزه شيء واقتران هذين الاسمين الكريمين فيه معنى زائد وكمال آخر يفيد قوة الأخذ والعقاب. والله أعلم.
- - -(1/340)
(40)، (41) [القاهر]، [القهار]
جاء ذكر اسمه سبحانه (القاهر) مرتين في القرآن الكريم وذلك في قوله تعالى: { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) } [الأنعام: 180]، قوله تعالى: { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً }
[الأنعام: 61].
أما اسمه سبحانه (القهار) فورد ذكره في القرآن الكريم ست مرات كلها مقترن فيها باسمه سبحانه (الواحد) ومن ذلك:
قوله تعالى: { قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) } [الرعد: 16]، وقوله تعالى: { أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) } [يوسف: 39]، وقوله تعالى: { وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) } [إبراهيم: 48]، وغيرها من الآيات في سورة الزمر، ص، غافر.
المعنى اللغوي لاسم (القاهر)، (القهار):
قال في اللسان: "القهر الغلبة والأخذ من فوق، وأقهر الرجل: صار أصحابه مقهورين، وتقول: أخذتهم قهرًا، أي: من غير رضاهم"(1).
وقال الزجاج: "القهر في وضع العربية: الرياضة والتذليل، يقال: قهر فلان الناقة إذا راضها وذللها"(2).
و(القهار) فعال، مبالغة من (القاهر) فيقتضي تكثير القهر.
معناه في حق الله تعالى:
قال ابن جرير رحمه الله تعالى: (القاهر) المذلل المستعبد خلقه العالي عليهم(3).
وقال ابن كثير رحمه الله: "وهو القاهر فوق عباده" أي: هو الذي خضعت له الرقاب وذلت له الجبابرة، وعنت له الوجوه وقهر كل شيء، ودانت له الخلائق وتواضعت لعظمته وجلاله وكبريائه وعلوه وقدرته على الأشياء، واستكانت وتضاءلت بين يديه وتحت قهره وحكمه"(4).
ويقول ابن القيم - رحمه الله تعالى - في نونيته:
وكذلك القهار من أوصافه فالخلق مقهورون بالسلطان
__________
(1) لسان العرب 5/3764.
(2) تفسير الأسماء ص 38.
(3) تفسير الطبري 7/103.
(4) تفسير ابن كثير 2/126.(1/341)
لو لم يكن حيًا عزيزًا قادرًا ما كان من قهر ولا سلطان(1)
ويقول أيضًا: "لا يكون القهار إلا واحدًا، إذ لو كان معه كفؤله فإن لم يقهره لم يكن قهارًا على الإطلاق، وإن قهره لم يكن كفؤًا، فكان القهار واحدًا" (2).
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "القهار لجميع العالم العلوي والسفلي، القهار لكل شيء الذي خضعت له المخلوقات وذلت لعزته وقوته وكمال اقتداره"(3).
وقال الخطابي: " (القهار): هو الذي قهر الجبابرة من عتاة خلقه بالعقوبة، وقهر الخلق كلهم بالموت"(4).
من آثار الإيمان باسمه (القاهر) (القهار):
أولاً: (القاهر والقهار) لا يكون إلا واحدًا لا كفؤ له وإلا لم يكن قهارًا ولذا اقترن اسمه سبحانه (القهار) باسمه سبحانه (الواحد) في كل الآيات. والإيمان بهذا يستلزم إفراده سبحانه بالعبادة والإرادة والقصد، فلا يجوز صرف شيء من ذلك لما سوى الله - عز وجل - من المخلوقين المربوبين المقهورين كما قال - عز وجل -: { يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) } [يوسف: 39].
ثانيًا: التعلق بالله وحده والتوكل عليه سبحانه، وقطع العلائق بالأسباب المقهورة مع فعلها؛ لأن حقيقة التوكل هي تمام الاعتماد على الله تعالى مع تمام الثقة بكفايته وإعانته، وهذا لا يصرف إلا للواحد القهار، أما المقهور فلا يتوكل عليه لعدم قدرته على الإعانة استقلالاً.
ثالثًا: تعظيم الله - عز وجل - والخوف منه وحده وسقوط الخوف من المخاليق الضعاف المقهورين المغلوبين من القلب، سواء كان ذلك خوفًا على الرزق أو خوفًا على الأجل.
__________
(1) النونية 2/232.
(2) الصواعق المرسلة 3/1018.
(3) تفسير السعدي 5/624 - 6/448.
(4) شأن الدعاء ص 53.(1/342)
رابعًا: مستفاد من قوله تعالى: { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } الإيمان بصفة العلو لله تعالى على عباده بكل أنواع العلو: علو الذات، وعلو القهر، وعلو المكانة والقدر.
خامسًا: اسم (القهار) خاص بالله تعالى فلا يصلح أن يسمى به المخلوق أو يوصف به، بل هو صفة ذم للمخلوق لأنها في الغالب لا تكون إلا مصحوبة بالظلم والعدوان وخاصة مع الضعفاء، ولذا نهى الله سبحانه عن قهر اليتيم بقوله: { فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) } [الضحى: 9].
وكما قال سبحانه عن فرعون وملئه: { سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) } [الأعراف: 127].
ولذا قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "ولا تجوز تسمية الملوك بالقاهر والظاهر، كما لا يجوز تسميتهم بالجبار والمتكبر، والأول والآخر، والباطن وعلام الغيوب"(1).
سادسًا: يتضمن اسمه سبحانه (القهار) صفة العزة، و(القوة)، ولذا فما ذكر من الآثار في اسمه سبحانه (القوي، والعزيز) يصلح أن يذكر هنا.
سابعًا: شعور العبد بضعفه وذلته أمام قهر الله - عز وجل - وجبروته مما يكون له الأثر في تواضع العبد واستكانته لربه الذي لا يكون شيء إلا بإرادته وأمره. يتمنى المرء أن يولد له فلا يولد، وأن لا يمرض فيمرض وأن يستغني فيفتقر، كل ذلك بغلبة من الله وقهر يصده عن مراده، وذلك من آيات كمال القاهر، ونقص المقهور.
اقتران اسمه سبحانه (القهار)، باسمه سبحانه (الواحد):
سبق بيان وجه هذا الاقتران عند الكلام عن اسمه سبحانه (الواحد)، كما أن شيئًا من ذلك ذكر أيضًا عند الكلام عن معنى (القهار) فليرجع إليه
اقتران اسمه سبحانه (القاهر) مع اسميه سبحانه (الحكيم الخبير):
وذلك في قوله تعالى: { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) } [الأنعام: 18]، ووجه هذا الاقتران والله أعلم أن يقال:
__________
(1) تحفة المودود ص 108.(1/343)
إن اسمه (القاهر) يلقي في القلب معنى القهر والفوقية لله تعالى، وأنهما مختصان بالله عز وجل، فيمتلئ القلب خوفًا ووجلاً من الله - عز وجل - حتى إذا أخذ الروع من النفس مأخذه أتته الجملة التالية التي فيها وصف الله تعالى لنفسه أنه (حكيم خبير) فتلقي في القلب الراحة والاطمئنان؛ لأنهما تدلان على كمال سلطان الله تعالى ونفاذ أمره وجريان ذلك على مقتضى الحكمة والخبرة، والخير والسداد، فتطمئن النفوس من الخوف وتسكن عن القلق والاضطراب(1).
- - -
(42، 43، 44) [القادر، القدير، المقتدر]
ورد اسمه سبحانه (القادر) في القرآن الكريم (اثنتي عشرة مرة) (سبع) منها بصيغة المفرد كما في قوله تبارك وتعالى: { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } الآية [الأنعام: 65].
(وخمس) منها بصيغة الجمع كما في قوله تعالى: { وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) } [المؤمنون: 95].
وأما اسمه سبحانه (القدير) فقد ورد في القرآن الكريم (خمسًا وأربعين مرة) منها قوله تبارك وتعالى: { أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) } [البقرة: 148].
وقوله سبحانه وتعالى: { إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) } [النساء: 149].
وقوله سبحانه وتعالى: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) } [فاطر: 44].
__________
(1) انظر: مطابقة أسماء الله الحسنى مقتضى المقام في القرآن الكريم ص 507، 508 (بتصرف) واختصار.(1/344)
وأما اسمه سبحانه (المقتدر) فقد ورد في القرآن (أربع مرات) واحدة منها بصيغة الجمع كما في قوله - عز وجل -: { فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) } [الزخرف: 42]، وثلاث بصيغة المفرد كما في قوله تبارك وتعالى: { كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) } [القمر: 42]، وكذلك قوله تعالى: { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) } [القمر: 55]، وقوله تعالى: { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) } [الكهف: 45].
المعنى اللغوي لهذه الأسماء:
قال ابن الأثير: "في أسماء الله تعالى (القادر، والمقتدر، والقدير) فـ(القادر) اسم الفاعل من قدر يقدر، و(القدير) فعيل منه وهو للمبالغة، و(المقتدر) مفتعل من اقتدر وهو أبلغ"(1).
وقال الأزهري: "وقال الليث: القدرة مصدر قدر على الشيء قدرة، أي: ملكه فهو قادر قدير"(2).
"والقَدْرُ: مايقدره الله - عز وجل - من القضاء، وقدرت الشيء أقدُرُه وأقدِره قدرًا من التقدير"(3)، "والتقدير على وجوه من المعاني:
أحدها التروية والتفكير في تسوية أمر وتهيئته، والثاني تقديره بعلامات تقطعه عليها، والثالث أن تنوي أمرًا وقصدك تقول: قدرت أمر كذا وكذا أي: نويته وعقدت عليه"(4).
وقال الزجاج: "المقتدر: مبالغة في الوصف بالقدرة، والأصل في العربية أن زيادة اللفظ زيادة في المعنى فلما قلت: اقتدر أفادت زيادة اللفظ زيادة المعنى"(5).
معنى هذه الأسماء في حق الله تعالى:
__________
(1) النهاية 4/22.
(2) تهذيب اللغة 9/22.
(3) الصحاح 2/786.
(4) تهذيب اللغة 9/24.
(5) تفسير الأسماء ص 59.(1/345)
قال الخطابي رحمه الله تعالى: " (القادر): هو من القدرة على الشيء، يقال: قدر يقدر قدرة فهو قادر وقدير، كقوله تعالى: { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27) } [الأحزاب: 27]، ووصف الله سبحانه نفسه بأنه قادر على كل شيء أراده لا يعترضه عجز ولا فتور"(1).
ويقول ابن القيم - رحمه الله تعالى - في نونيته:
"وهو القدير وليس يعجزه إذا مارام شيئًا قط ذو سلطان"(2)
وقال في موطن آخر من النونية:
"وهو القدير فكل شيء فهو مقدور له طوعًا بلا عصيان"(3)
ويقول في طريق الهجرتين: " (القدير) الذي لكمال قدرته: يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ويجعل المؤمن مؤمنًا والكافر كافرًا؛ والبر برّاً والفاجر فاجرًا، وهو الذي جعل إبراهيم وآله أئمة يدعون إليه ويهدون بأمره؛ وجعل فرعون وقومه { ِZp£Jح r& يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } [القصص:41] ، ولكمال قدرته لا يُحيط أحدٌ بشيءٍ من علمه إلا بما شاء أن يُعلِّمه إياه، ولكمال قدرته خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسَّه من لغوبٍ، ولا يعجزه أحدٌ من خلقه ولا يفوته؛ بل هو في قبضته أين كان، فإن فرَّ منه فإنما يطوي المراحل في يديه، كما قيل:
وكيف يفرُّ المرء عنك بذنبه إذا كان يطوي في يديك المراحلا(4)
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: " (القدير): كامل القدرة، بقدرته أوجد الموجودات، وبقدرته دبرها، وبقدرته سواها وأحكمها، وبقدرته يحيي ويميت، ويبعث العباد للجزاء، ويجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، الذي إذا أراد شيئًا قال له: كن فيكون، وبقدرته يقلب القلوب ويصرفها على ما يشاء ويريد"(5).
__________
(1) شأن الدعاء، ص 86.
(2) النونية 2/218.
(3) النونية: البيت رقم (530).
(4) طريق الهجرتين ص 235.
(5) تفسير السعدي 5/624، 625.(1/346)
ويقول الراغب الأصفهاني: "القدرة إذا وصف بها الإنسان فاسم لهيئة له بها يتمكن من فعل شيء ما، وإذا وصف بها الله تعالى فهي نفي العجز عنه، ومحال أن يوصف غير الله بالقدرة المطلقة... بل حقه أن يقال: قادر على كذا.. لأنه لا أحد غير الله يوصف بالقدرة من وجه إلا ويصح أن يوصف بالعجز من وجه، والله تعالى هو الذي ينتفى عنه العجز من كل وجه.
والقدير هو الفاعل لما يشاء على قدر ما تقتضي الحكمة لا زائدًا عليه ولا ناقصًا عنه، ولذلك لا يصح أن يوصف به إلا الله تعالى { إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) } ".(1)
وآثار قدرة الله - عز وجل - لا تعد ولا تحصى فأينما وقع النظر على شيء من خلق الله - عز وجل - في الآفاق، وفي الأنفس، وفي الخوارق والمعجزات رأي قدرة الله - عز وجل - الباهرة أمامه ومن ذا الذي يحصي ما خلقه الله تعالى.
من آثار الإيمان بأسمائه الحسنى (القدير، القادر، المقتدر)
أولاً: صدق التوكل على الله - عز وجل - والتعلق به وحده والثقة في كفايته في قضاء الحوائج وتفريج الكربات؛ لأنه وحده القادر على كل شيء ولا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض. أما المخلوق الضعيف مهما أوتي من القوة والقدرة والملك فكل ذلك محدود وهو موصوف بالعجز والقصور، والموت والفناء قال الله تعالى: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ } [الفرقان: 58]، وقال سبحانه: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) } [الشعراء: 217].
__________
(1) المفردات للراغب ص394.(1/347)
ثانيًا: الثقة في رحمة الله تعالى وحكمته ولطفه، وذلك إذا رأينا المصائب الفردية أو الكوارث الجماعية وتسلط الأعداء على المسلمين فإيماننا بقدرة الله - عز وجل - وقهره لكل شيء، وأنه سبحانه قادر على أن يرفع المصائب ويكبت ويقصم الكفرة ثم لا نراه سبحانه يفعل ذلك في وقت من الأوقات فإن هذا يجعلنا نوقن بأن لله تعالى الحكمة في ابتلاء المؤمنين والإملاء للكافرين، وأن في أعطاف ذلك اللطف والرحمة والمصلحة، كما أن في إيماننا بقدرة الله - عز وجل - المطلقة التي لا يعجزها شيء باب إلى العزة وقوة القلب أمام كيد الكافرين ومكرهم. وذلك لأنهم في قبضة الله تعالى وتحت قدرته وقهره فحينئذ يذهب الخوف من القلوب ويستهان بالكفار وقوتهم مع الأخذ بالأسباب الشرعية والمادية التي جعلها الله سببًا في تأييده للمؤمنين، وسببًا في محق الكافرين وهذا الشعور كفيل بدفع اليأس والإحباط عن النفوس، كما هو سبب في عدم الاكتراث والهلع من قوة الكافرين.
ثالثًا: الابتعاد عن الظلم بشتى صوره وبخاصة ظلم العباد في دمائهم وأموالهم لهم وأعراضهم؛ لأن الإيمان بقدرة الله تعالى وانتقامه للمظلومين من الظالمين يجعل العبد يرتدع عن الظلم والعدوان، وما أحسن القول المأثور: (إذا دعتك قدرتك إلى ظلم العبد فتذكر قدرة الله عليك).
رابعًا: الإيمان بأن ما أودع الله - عز وجل - من القدرة والقوة في الإنسان إنما هي من الله - عز وجل - وإنعامه وفضله، وهذا الشعور يدفع المسلم إلى أن يسخر ما أودع الله فيه من هذه القدرة في طاعة الله - عز وجل - وفي طريق الخير والإصلاح، ويحذر من توجيه ذلك في معصية الله تعالى وطريق الشر والإفساد.(1/348)
خامسًا: على المؤمن بقدرة الله - عز وجل - أن لا يغتر بقدرته وقوته، وأن يلجأ إلى الله سبحانه وتعالى فيما ينوبه، وأن يتبرأ من الحول والقوة إلا بالله تعالى، ولذا أرشدنا الرسول × إلى أن نقول في أذكارنا: "لا حول ولا قوة إلا بالله"(1)، وعلمنا الاستخارة في الأمور كلها ومما ورد فيها: (اللَّهم إني استخيرك بعلمك، واستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب)(2). وأن نقول حين نصبح وحين نمسي: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، اللهم أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدًا) (3).
اقتران أسمائه سبحانه (القدير) (القادر)، (المقتدر) ببعض أسمائه الحسنى:
أولاً: اقتران اسمه سبحانه (القدير) باسمه سبحانه (العليم):
سبق بيان وجه هذا الاقتران في الكلام عن اسمه سبحانه (العليم) فليرجع إليه.
ثانيًا: اقتران اسمه سبحانه (المقتدر) باسميه سبحانه (المليك)، (العزيز):
وقد سبق بيان معنى هذا الاقتران في الكلام عن اسمه سبحانه (المليك)، واسمه سبحانه (العزيز) فليرجع إليه.
ثالثًا: اقتران اسمه سبحانه (القدير) باسمه سبحانه (العفو):
وورد هذا الاقتران مرة واحدة في القرآن الكريم وذلك في قوله تعالى: { إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) }
[النساء: 149].
يقول الشيخ السعدي - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا } أي: يعفو عن زلات عباده وذنوبهم العظيمة فيسدل عليهم ستره ثم يعاملهم بعفوه التام الصادر عن قدرته.
__________
(1) مسلم (4875).
(2) البخاري في الدعوات باب الدعاء عند الاستخارة (6382).
(3) النسائي في عمل اليوم والليلة (570)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 1/345 (654).(1/349)
وفي هذه الآية إرشاد إلى التدبر في معاني أسماء الله وصفاته، وأن الخلق والأمر صادر عنها، وهي مقتضية له. ولهذا يعلل الأحكام بالأسماء الحسنى، كما في هذه الآية. لما ذكر عمل الخير والعفو عن المسيء رتب على ذلك بأن أحالنا على معرفة أسمائه وأن ذلك يغنينا عن ذكر ثوابها الخاص(1).
والعفو الممدوح هو الذي يصدر عن قادر على الانتقام ثم هو يعفو، وكماله لا يكون إلا من الله تعالى الذي عفوه ومغفرته ناشئان عن قدرته وحكمته لا عن عجز وضعف، ولذا قرن الله - عز وجل - بين عفوه وقدرته، فهو سبحانه كامل في عفوه وكامل في قدرته وكامل في عفوه مع مقدرته.
رابعًا: اقتران اسمه سبحانه (القدير) باسميه سبحانه (الغفور الرحيم):
قال الله تعالى: { * عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) } [الممتحنة: 7].
ووجه الاقتران هنا شبيه بما قبله وذلك أن رحمة الله - عز وجل - ومغفرته إنما هي عن مقدرة لا عن ضعف، كما أن في اقتران هذه الأسماء الحسنى في ختام هذه الآية مناسبة لمقام الآية؛ وذلك كما يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "والله قدير على كل شيء، ومن ذلك هداية القلوب وتقليبها من حال إلى حال، والله غفور رحيم لا يتعاظمه ذنب أن يغفره ولا يكبر عليه عيب أن يستره... وفي هذه الآية إشارة إلى إسلام بعض المشركين الذين كانوا إذ ذاك أعداء للمؤمنين وقد وقع ذلك ولله الحمد والمنة"(2).
(45) [الجبَّار]
__________
(1) تفسير السعدي عند الآية (149) من سورة النساء.
(2) تفسير السعدي عند الآية (7) من سورة الممتحنة.(1/350)
جاء ذكر اسمه سبحانه (الجبار) مرة واحدة في القرآن الكريم وذلك في قوله تعالى: { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) } [الحشر: 23].
المعنى اللغوي:
"جبر الرجل على الأمر يجبره جبرًا وجبورًا وأجبره: أكرهه عليه.
والجبر خلاف الكسر، جبر العظم يجبره جبرًا. أن تغني الرجل من الفقر، أو يجبر عظمه من الكسر. وتجبَّر النبت والشجر: اخضر وأورق.
و(الجبار): العظيم القوي الطويل؛ قال الله تعالى: { إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) } [المائدة: 22]" (1).
قال الأزهري: "قال اللحياني: أراد الطول والقوة والعظم".
قال الأزهري: "كأنه ذهب به إلى الجبار من النخيل؛ هو الطويل الذي فات يد المتناول؛ يقال: رجل جبار إذا كان طويلاً عظيمًا قويًا تشبهًا بالجبار من النخيل"(2).
من هذه الأقوال نخلص إلى أن (الجبار) يتضمن معاني ثلاثة: الأول: الذي يجبر ويكره غيره على ما يريد؛ الثاني: الذي يجبر الكسر ويغني من الفقر؛ الثالث: القوي العظيم المتعالي.
معناه في حق الله تعالى:
قال الطبري رحمه الله تعالى: "(الجبار): يعني المصلح أمور خلقه المصرفهم فيما فيه صلاحهم"(3).
وقال الخطابي: يقال: جبره السلطان وأجبره بالألف، ويقال: هو الذي جبر مفاقر الخلق وكفاهم أسباب المعاش والرزق، ويقال: بل الجبار العالي فوق خلقه من قولهم: تجبر النبات: إذا علا واكتهل، ويقال للنخله التي لا تنالها اليد طولاً: الجبارة"(4).
__________
(1) انظر النهاية لابن الأثير 1/235، لسان العرب 1/535، وتفسيير الأسماء للزجاج ص 34.
(2) تهذيب اللغة 11/57.
(3) تفسير الطبري 28/36.
(4) شأن الدعاء ص 48.(1/351)
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "قال محمد بن كعب القرظي في اسم (الجبار) إنه سبحانه هو الذي جبر العباد على ما أراد"، فالجبر بهذا المعنى: القهر والقدرة وأنه سبحانه قادر على أن يفعل بعبده ما شاء وإذا شاء منه شيئًا وقع ولا بد، وإن لم يشأ لم يكن ليس كالعاجز الذي يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء"(1).
وقال في موطن آخر: "وأما (الجبار) من أسماء الله تعالى فقد فسر بأنه الذي يجبر الكسير ويغني الفقير. والرب سبحانه كذلك، ولكن ليس هذا معنى اسمه (الجبار) (2)، ولهذا قرنه باسمه (المتكبر)، وإنما هو الجبروت. وكان النبي × يقول: (سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة)(3) فالجبار اسم من أسماء التعظيم كالمتكبر والملك والعظيم والقهار... فالجبار في صفة الرب سبحانه ترجع إلى ثلاثة معان: الملك، والقهر، والعلو فإن النخلة إذا طالت وارتفعت وفاتت الأيدي سميت جبارة"(4).
وقد ذكر ابن القيم - رحمه الله تعالى - هذه المعاني في نونيته حيث قال:
ڑٹ
كذلك الجبار من أوصافه
ڑوالجبر في أوصافه قسمان
ٹڑ
ڑجبر الضعيف وكل قلب قد غدا
ڑذا كسرة فالجبر منه دان
ٹڑ
ڑوالثاني جبر القهر بالعز الذي
ڑلا ينبغي لسواه من إنسان
ٹڑ
ڑوله مسمى ثالث وهو العلو
ڑفليس يدنوا منه من إنسان
ٹڑ
ڑمن قولهم جبارة للنخلة العليا
ڑالتي فاتت لكل بنان (5)
ڑ
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "الجبار: هو بمعنى العلي الأعلى، وبمعنى القهار، وبمعنى الرؤوف الجابر للقلوب المنكسرة، وللضعيف العاجز ولمن لاذ به ولجأ إليه"(6).
ومن خلال الأقوال السابقة لمعنى (الجبار) يتحصل لدينا المعاني التالية:
__________
(1) شفاء العليل 1/386، 387.
(2) لعله ينفي هذا المعنى في سياق آية الحشر.
(3) أحمد (23980)، وأبو داود (873)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود 1/247.
(4) شفاء العليل 1/365، 366.
(5) الأبيات 3312 - 3316، 2/232.
(6) تفسير السعدي 5/301.(1/352)
1- (الجبار) هو العالي على خلقه، وفعَّال من أبنية المبالغة.
2- (الجبار): هو المصلح للأمور من جبر الكسر إذا أصلحه وجبر الفقير إذا أعانه.
3- (الجبار) هو القاهر خلقه على ما يريد من أمر أو نهي، كما قال تعالى للنبي ×: { وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } [ق: 45]، أي: لست بالذي تجبر هؤلاء على الهدى ولم يكلف بذلك، وعلى المعنى الأول يكون من صفات الذات، وعلى المعنى الثاني والثالث يكون من صفات الفعل(1).
والمقصود من قهره سبحانه لعباده على ما يريد من أمر هو ما يتعلق بأمره الكوني القدري، أما أمره الشرعي الديني فقد شرع لهم ما رضيه لهم ولم يجبرهم على فعله ولا على تركه، بل أمرهم ونهاهم وأعطاهم القدرة والاختيار فمن أطاع فله الجنة ومن عصى دخل النار، قال تعالى: { وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } الآية [الكهف: 29]. هذا، ولا خروج لهم عن مشيئته؛ قال تعالى: { لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29) } [التكوير: 38 - 39].
يقول الأزهري في تهذيب اللغة: "والجبرية الذين يقولون أجبر الله العباد على الذنوب أي أكرههم. ومعاذ الله أن يكرههم على معصيته، ولكنه قد علم ما العباد عاملون وما هم إليه صائرون. قلت: وهذا المعنى الإيمان بالقضاء والقدر. إنما هو علم الله السابق في خلقه، وقد كتبه عليهم فهم صائرون إلى ما علمه، وكل ميسر لما خلق له"(2).
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (الجبار):
أولاً: يرجع إلى الآثار الإيمانية المستفادة من اسمه سبحانه (القاهر)، (العزيز)، (العلي)، ويضاف إلى ذلك:
__________
(1) انظر النهج الأسمى محمد حمود النجدي 1/145.
(2) تهذيب اللغة 11/59.(1/353)
ثانيًا: تعظيم الله - عز وجل - والخوف منه والتوكل عليه وحده في طلب الهداية والتوفيق والسداد لأنه المتفرد بتصريف أمور عباده ولهذا كان من أذكاره × في الركوع والسجود قوله: (سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة)(1).
ثالثًا: التواضع لله تعالى بقبول حكمه وما نزل من الحق؛ والتواضع للخلق وترك التجبر والتكبر عليهم.
لأن (الجبار) اسم خاص به سبحانه، وهو صفة كمال لله تعالى يمدح بها؛ لأن في جبروته سبحانه رحمة ونعمة؛ فبجبروته قهر الجبابرة وأذل الأكاسرة والفراعنة والطواغيت وأنصف المظلومين من الظلمة، ونصر جنده على المعاندين والكافرين الفجرة.
أما بالنسبة للمخلوق فهي صفة ذم وقدح ينهى عنها.
وقد ذم الله تعالى المتجبرين من خلقه وبين أنه سبب في الطبع على القلوب كما في قوله تعالى: { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) } [غافر: 35]. وتوعد الله سبحانه الجبابرة بالعذاب الشديد قال تعالى: { وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ ¾دmح !#u'ur جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ ¾دmح !#u'ur عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) } [إبراهيم: 15 - 17].
وقال ×: (تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين... الحديث)(2).
رابعًا: بما أن من معاني (الجبار) الذي يجبر كسر عباده ويغنيهم من الافتقار، فإن هذه المعاني تثمر في قلب المؤمن محبة الله تعالى والانكسار بين يديه وطلب الحاجات منه وحده ولذا كان من دعائه × في الجلسة بين السجدتين: (اللَّهم اغفر لي وارحمني واجبرني وارفعني واهدني وعافني وارزقني)(3).
- - -
__________
(1) سبق تخريجه ص 428.
(2) البخاري (4850)، مسلم (2846).
(3) الترمذي (262)، وابن ماجة (898)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (732).(1/354)
(46، 47) [الخالق، الخلاق]
ورد اسمه سبحانه (الخالق) في القرآن الكريم (8 مرات) بصيغة المفرد كما في قوله تعالى: { هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [الحشر: 24]، وقوله - عز وجل -: { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ } [فاطر: 3]، وقوله سبحانه: { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [الزمر: 62]، وغيرها من الآيات.
كما ورد اسمه سبحانه (الخالق) بصيغة التفضيل مرتين، كما في قوله تعالى: { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) } [المؤمنون: 23]، وقوله عز وجل : { أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) } [الصافات: 125]، ومرة بصيغة الجمع كما في قوله تبارك وتعالى: { أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) } [الواقعة: 59].
أما اسمه سبحانه (الخلاق)، فورد ذكره في القرآن الكريم (مرتين) وذلك في قوله سبحانه: { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) } [الحجر: 86]، وقوله جل وعلا: { بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) } [يس: 81]، و(الخلاق) اسم مبالغة من الخالق.
وهذان الاسمان الجليلان لا يجوز إطلاقهما بالألف واللام على غير الله تبارك وتعالى.
المعنى اللغوي لهذين الاسمين الكريمين:(1/355)
قال في تهذيب اللغة: "والخلق في كلام العرب: ابتداع الشيء على مثال لم يسبق إليه، وقال: أبو بكر الأنباري: الخلق في كلام العرب على وجهين: أحدهما الإنشاء على مثال أبدعه، والآخر: التقدير. وقال في قول الله عز وجل: { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } معناه أحسن المقدرين، وكذلك قوله: { إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِن الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) } [العنكبوت: 17]، أي: تقدرون كذبًا.
قلت: والعرب تقول : خلقت الأديم إذا قدَّرته وقسته لتقطع منه مزادةً أو قِربةً أو خُفًا"(1).
معناهما في حق الله عز وجل :
قال الخطابي: " (الخالق) هو المبدع للخلق المخترع له على غير مثال سابق، قال سبحانه: { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ } [فاطر: 3]. فأما في نعوت الآدميين فمعنى الخلق: التقدير كقوله - عز وجل -: { أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ } [آل عمران: 49](2) أ.هـ.
والخلاق : من أفعال المبالغة من الخالق تدل على كثرة خلق الله تعالى وإيجاده، فكم يحصل في اللحظة الواحدة من بلايين المخلوقات التي هي أثر من آثار اسمه سبحانه الخلاق: { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) } [الحجر: 86].
واسمه سبحانه (الخالق والخلاق) مما أقرت به جميع الأمم مؤمنهم وكافرهم، وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في معرض رده على من قال: أن اسم (الخالق) يثبت له سبحانه مجازًا.
__________
(1) تهذيب اللغة للأزهري 7/25.
(2) شأن الدعاء ص 49.(1/356)
"إنه ليس في المعلومات أظهر من كون الله: (خالقًا)، ولهذا أقرَّت به جميع الأمم - مؤمنهم وكافرهم- ولظهور ذلك؛ وكون العلم به بديهيًا فطريًا؛ احتجَّ الله به على من أشرك به في عبادته فقال: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [الزمر: 38]، في غير موضع من كتابه.
فعُلِمَ أن كونه سبحانه (خالقًا): من أظهر شيءٍ عند العقول، فكيف يكون الخبر عنه بذلك مجازًا؛ وهو أصل كلِّ حقيقةٍ، فجميع الحقائق تنتهي إلى خلقه وإيجاده، فهو الذي خلق وهو الذي علَّم، كما قال تعالى: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) } [العلق 1-5].
فجميع الموجودات انتهت إلى خلقه وتعليمه، فكيف يكون كونه خالقًا عالمًا مجازًا؟ وإذا كان كونه خالقًا عالمًا مجازًا: لم يبق له فعلٌ حقيقة ولا اسمٌ حقيقة، فصارت أفعاله كلُّها مجازات، وأسماؤه الحسنى كلُّها مجازات... إلى قوله: فإن جميع أهل الإسلام متفقون على أن الله خالق حقيقة لا مجازاً، بل وعباد الأصنام وجميع الملل"(1).
وقد ذكر - رحمه الله تعالى - اسمه سبحانه (الخلاق) في نونيته حيث قال:
"وكذاك يشهد أنه سبحانه الخلاق باعث هذه الأبدان"(2)
من آثار الإيمان باسمه (الخلاق)، (الخالق):
__________
(1) مختصر الصواعق المرسلة 2/328.
(2) النونية البيت رقم (3085).(1/357)
أولاً: الإيمان باسمه سبحانه (الخالق) يستلزم الإيمان بوحدانيته سبحانه وألوهيته وإفراده وحده بالعبادة. وهذا ما احتج به الله - عز وجل - على المشركين الذين يقرون بأنه الخالق الرازق وحده ثم هم يعبدون غيره ممن لا يخلق ولا يرزق ولا يحيي ولا يميت قال سبحانه: { أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) } [الأعراف: 191]، وقال الله - عز وجل -: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) } [العنكبوت: 61].
ثانيًا: الإيمان باسمه سبحانه (الخالق) يورث المحبة الكاملة له - عز وجل - لأنه سبحانه الذي خلقنا وأنعم علينا بنعمة الإيجاد بعد أن لم يكن شيئًا مذكورًا ثم أمدنا سبحانه بما خلقه في هذا الكون من نعم وبما سخره لنا من مخلوقاته، وبما خلق في قلوب الأمهات والآباء من الرحمة والرعاية، وبما أمدنا به من السمع والبصر والأفئدة وغير ذلك من النعم التي لا تعد ولا تحصى. فحقيق بمن خلقنا وأوجدنا وربانا بنعمه أن يحب غاية الحب وأن يذل له غاية التذلل وهذان هما قطبا التعبد لله عز وجل.
ثالثًا: الإيمان باسمه سبحانه (الخالق) يدل على صفاته سبحانه الأخرى كالحياة والقدرة والعلم والإرادة والحكمة، إذ لا يمكن أن يكون خالقًا غير قادر ولا مريد ولا عالم بما خلق، أو أنه ليس له فيما خلق حكمة ولا علة؛ وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "من طرق إثبات الصفات وهو دلالة الصنعة عليها، فإن المخلوق يدلُّ على وجود خالقه، وعلى حياته وعلى قدرته وعلى علمه ومشيئته.(1/358)
فإن الفعل الاختياري يستلزم ذلك استلزامًا ضروريًا، وما فيه من الإتقان والإحكام ووقوعه على أكمل الوجوه يدلُّ على حكمة فاعله وعنايته، وما فيه من الإحسان والنفع ووصول المنافع العظيمة إلى المخلوق يدلُّ على رحمة خالقه وإحسانه وجوده، وما فيه من آثار الكمال يدلُّ على أن خالقه أكمل منه، فمعطي الكمال أحقُّ بالكمال، وخالق الأسماع والأبصار والنطق أحقُّ بأن يكون سميعًا بصيرًا متكلمًا، وخالق الحياة والعلوم والقدر والإرادات أحقُّ بأن يكون هو كذلك في نفسه، فما في المخلوقات من أنواع التخصيصات هو من أدلِّ شيءٍ على إرادة الربِّ سبحانه ومشيئته وحكمته؛ التي اقتضت التخصيص، وحصول الإجابة عَقِيبَ سؤال الطالب على الوجه المطلوب دليلٌ على علم الربِّ تعالى بالجزئيات؛ وعلى سمعه لسؤال عبيده؛ وعلى قدرته على قضاء حوائجهم؛ وعلى رأفته ورحمته بهم، والإحسان إلى المطيعين والتقرُّب إليهم والإكرام وإعلاء درجاتهم يدلُّ على محبته ورضاه. وعقوبته للعصاة والظلمة وأعداء رسله بأنواع العقوبات المشهودة تدلُّ على صفة الغضب، والسخط، والإبعاد، والطرد. والإقصاء يدلُّ على المقت والبغض، فهذه الدلالات من جنسٍ واحدٍ عند التأمل.(1/359)
ولهذا دعا سبحانه في كتابه عبادَه إلى الاستدلال بذلك على صفاته، فهو يُثبت العلم بربوبيته ووحدانيته؛ وصفات كماله بآثار صفته المشهودة، والقرآن مملوءٌ بذلك، فيظهر شاهد اسم (الخالق) من نفس المخلوق، وشاهد اسم (الرزاق) من وجود الرزق والمرزوق، وشاهد اسم (الرحيم) من شهود الرحمة المبثوثة في العالم، واسم (المعطي) من وجود العطاء - الذي هو مدار لا ينقطع لحظة واحدة - واسم (الحليم) من حلمه عن الجناة والعصاة وعدم معاجلتهم، واسم (الغفور والتوَّاب) من مغفرة الذنوب وقبول التوبة، ويظهر شاهد اسمه (الحكيم) من العلم بما في خلقه وأمره من الحكم والمصالح ووجوه المنافع. وهكذا كل اسم من أسمائه الحسنى له شاهد في خلقه وأمره يعرفه من عرفه ويجهله من جهله، فالخلق والأمر من أعظم شواهد أسمائه وصفاته، وكلُّ سليم العقل والفطرة يعرف قدر الصانع وحذقه وتبريزه على غيره؛ وتفرُّده بكمالٍ لم يشاركه فيه غيره من مشاهدة صنعته، فكيف لا تُعرف صفاتُ مَنْ هذا العالم العلويُّ والسفليُّ؛ وهذه المخلوقات من بعض صنعه.
إذا اعتبرت المخلوقات والمأمورات: وجدتها بأسرها كلَّها دالة على النعوت والصفات وحقائق الأسماء الحسنى، وعلمت أن المعطلة من أعظم الناس عمى بمكابرة، ويكفي ظهور شاهد الصنع فيك خاصة، كما قال تعالى: { وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) } [الذاريات: 21].
فالموجودات بأسرها شواهد صفات الربِّ جلَّ جلاله ونعوته وأسمائه، فهي كلُّها تُشير إلى الأسماء الحسنى وحقائقها، وتُنادي عليها وتدلُّ عليها، وتُخبر بها بلسان النطق والحال، كما قيل:
تأمَّل سطور الكائنات فإنها من الملك الأعلى إليك رسائلُ
وقد خطَّ فيها لو تأمَّلت خطَّها ألا كلُّ شيٍ ما خلا الله باطلُ
تُشير بإثبات الصفات لربِّها فصامتها يهدي ومن هو قائلُ(1/360)
فلست ترى شيئًا أدلَّ على شيءٍ من دلالة المخلوقات على صفات خالقها ونعوت كماله وحقائق أسمائه، وقد تنوَّعت أدلتها بحسب تنوُّعها، فهي تدلُّ عقلاً وحسًا وفطرة ونظرًا واعتبارًا"(1).
رابعًا: الإقرار بألوهية الخالق - عز وجل - وتقدمه على كل شيء وقد قرر الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - ذلك بقوله: "إنه سبحانه متقدم على كل فرد من مخلوقاته تقدمًا لا أول له فلكل مخلوق أول والخالق سبحانه لا أول له فهو وحده الخالق وكل ما سواه مخلوق كائن بعد إن لم يكن"(2) وهذا قول الرسل جميعًا وأتباعهم خلافًا لقول زنادقة الفلاسفة القائلين بقدم العالم وأبديته وأنه لم يكن معدومًا أصلاً.
خامسًا: الإيمان باسمه سبحانه (الخالق) يستلزم الإيمان بحكمته سبحانه من هذا الخلق وأنه قائم على الحق وأنه سبحانه منزه عن العبث واللهو، وأنه لا بد من يوم يبعث فيه الخلق ويحاسبون، قال الله تعالى: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) } [المؤمنون: 115 - 116]، وقال سبحانه: { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) } [الأنبياء: 16 - 18].
__________
(1) مدارج السالكين 3/355 - 356.
(2) شفاء العليل 1/208.(1/361)
سادسًا: الإيمان باسمه (الخالق) يستلزم قبول شرعه، والحكم به، والتحاكم إليه، وعدم الرضا بغيره بديلاً؛ لأنه الشرع الصادر عن الخالق الحكيم العليم بخلقه ونوازعهم ومصالحهم فكان أحسن الشرع وأكمله وأصلحه: { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) } [الملك: 14].
سابعًا: الإيمان بأن الله سبحانه لم يزل خالقًا كيف شاء ومتى شاء ولا يزال، لقوله سبحانه: { كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ } [آل عمران: 47].
وقوله: { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ } [القصص: 68]، وقوله سبحانه: { ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) } [البروج: 15، 16].
وليس بعد خلق الخلق استفاد اسم (الخالق)، ولا بإحداثه البرية استفاد اسم (الباري)، وذلك من كماله، ولا يجوز أن يكون فاقدًا لهذا الكمال، أو معطلاً عنه في وقت من الأوقات، قال تعالى: { أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) } [النحل: 17]؛ [انظر الطحاوية ص 137].
ثامنًا: الإيمان بأنه سبحانه الخالق لكل شيء يقتضي الإقرار بعلم الخالق سبحانه بجزئيات خلقه كلها صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها خلافًا لما كان يقوله زنادقة الفلاسفة الباطنيون أحفاد أرسطو وأفلاطون ومن أحسن الأدلة في الاحتجاج على إثبات علمه سبحانه بالجزئيات كلها، قوله تعالى: { وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) } [الملك: 14].(1/362)
تاسعًا: تعظيم الله - عز وجل - وتكبيره وإجلاله وذلك عند معاينة مخلوقاته العظيمة في الآفاق والأنفس لأن عظمة هذه المخلوقات ودقتها وانتظامها يدل على عظمة خالقها وإتقانه لما خلق، قال الله تعالى: { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) } [النمل: 88]، وقال عز وجل: { الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) } [الملك:3، 4].
وعظمة الله - عز وجل - تستلزم عبادته وحده لا شريك له، وتعظيم أوامره ونواهيه، وتعظيم حرماته وشعائره.
عاشرًا: الإيمان بعلوه سبحانه على خلقه ومباينته لهم، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "إن صفاته لا تحل في شيء من مخلوقاته كما أن مخلوقاته لا تحل فيه، فالخالق سبحانه بائن عن المخلوق بذاته وصفاته فلا اتحاد ولا حلول ولا ممازجة تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا"(1).
اقتران اسمه سبحانه (الخلاق) باسمه سبحانه (العليم):
ورد هذا الاقتران مرتين في كتاب الله - عز وجل - وذلك في قوله تعالى: { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) } [الحجر: 86]، وقوله تعالى: { بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) } [يس: 81]، وقد سبق بيان وجه الاقتران عند الكلام عن اسمه سبحانه (العليم) فليرجع إليه.
- - -
(48) [البارئ]
__________
(1) مدارج السالكين 3/112.(1/363)
ورد اسمه سبحانه (البارئ) (ثلاث مرات) في القرآن الكريم (مرة) معرفًا كما في قوله تعالى: { هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [الحشر: 24]، (ومرتين) مضافًا كما في قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى ِNن3ح ح'$t/ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ ِNن3ح ح'$t/ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) } [البقرة: 54].
المعنى اللغوي:
قال ابن الأعرابي: برئ إذا تخلص، وبرئ إذا تنزه وتباعد، وبرئ إذا أعذر وأنذر ومنه قوله تعالى: { بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } [التوبة: 1] أي إعذار وإنذار.
وأصبح بارئًا من مرضه وبريئًا كقولك: صحيحًا وصحاحًا، وقد أبرأه الله من مرضه إبراءً.
وقال الأخفش: يقال برئت العود وبروته إذا قطعته وبريت القلم بغير همز إذا قطعته وأصلحته.
والبرية: الخلق وأصلها الهمز وقد تركت العرب همزها.
وقال الفراء: وإذا أخذت البرية من البري وهو التراب فأصلها غير الهمز (1).
المعنى في حق الله تعالى:
قال الزجاج: "والبرء خلق على صفة، فكل مبروء مخلوق وليس كل مخلوق مبروء؛ وذلك لأن البرء من تبرئة الشيء من الشيء من قولهم: برأت من المرض، وبرئت من الدين أبرأ منه. فبعض الخلق إذا فصل من بعض سمي فاعله بارئًا"(2).
وقال الخطابي: "البارئ هو الخالق، ثم قال: إلا أن لهذه اللفظة من الاختصاص بالحيوان ما ليس لها بغيره من الخلق، وقلما يستعمل في خلق السماوات والأرض والجبال فيقال:برأ الله السماء كما يقال: برأ الله الإنسان وبرأ النسم"(3).
__________
(1) انظر النهاية 1/122، واللسان 1/239، وتفسير الأسماء للزجاج ص 37، وشأن الدعاء ص 50.
(2) تفسير الأسماء ص 27.
(3) شأن الدعاء ص 51.(1/364)
وقال ابن كثير: "الخلق هو التقدير، والبرء هو الفري، وهو التنفيذ وإبراز ما قدره وقرره إلى الوجود، وليس كل من قدر شيئًا ورتبه يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى الله - عز وجل - قال الشاعر يمدح آخر:
ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري"(1)
وقال ابن جرير: " (البارئ) الذي برأ الخلق فأوجدهم بقدرته"(2).
مما سبق من الأقوال يتبين لنا المعاني التالية لاسمه سبحانه (البارئ):
1- أن (البارئ) هو الموجد والمبدع، من برأ الله الخلق إذا خلقهم. وبهذا يكون الاسم مشابهًا ومقارنًا لـ (الخالق).
2- (البارئ) هو الذي فصل بعض الخلق عن بعض، أي: ميز بعضه عن بعض، وأن أصله من البرء الذي هو القطع والفصل.
3- أن (البارئ) يدل على أنه تعالى خلق الإنسان من التراب كما قال: { * مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } [طه: 55]، وأن أصله من البري وهو التراب.
4- وهناك معنى رابع ذكره الزمخشري فقال: (البارئ) هو الذي خلق الخلق بريئًا من التفاوت: { مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) } [الملك: 3]، أي: خلقهم خلقًا مستويًا ليس فيه اختلاف، ولا تنافر، ولا نقص، ولا عيب، ولا خلل، أبرياء من ذلك كله(3).
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (البارئ):
للتشابه بين اسمه سبحانه (الخالق) واسمه سبحانه (البارئ) في المعنى فإن ما ذكر من آثار الإيمان باسمه سبحانه (الخالق) يصلح أن يذكر في اسمه سبحانه (البارئ) فليرجع إليها.
- - -
(49) [المصور]
ورد اسمه سبحانه (المصور) في القرآن الكريم "مرة واحدة" وذلك في قوله تعالى: { هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى }
[الحشر: 24].
__________
(1) تفسير ابن كثير 4/343.
(2) تفسير الطبري 28/37.
(3) انظر: النهج الأسمى، محمد حمود النجدي 1/166.(1/365)
وجاء بصيغة الفعل مرات؛ من ذلك قوله تعالى: { هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) } [آل عمران: 6]، وقوله تعالى: { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) } [التغابن: 3].
المعنى اللغوي (للمصور):
"الصَّوَر بالتحريك: الميل، ورجل أصور أي: مائل، وصرت إلى الشيء وأصرته إذا أملته إليك، وتصورت الشيء: توهمت صورته فتصور لي، والتصاوير: التماثيل، وصورة الأمر كذا وكذا: أي صنعته"(1).
ويقول الزجاجي: "والمصور اسم الفاعل من صور يصور فهو المصور إذا فعل الصورة، والمصدر التصوير. والصورة شخص الشيء وهيئته من طول وعرض وكبر وصغر وما اتصل بذلك وتعلق به مما يكمله فيرى مصورًا. والله - عز وجل - مصدر الصورة وخالقها"(2).
المعنى في حق الله تعالى:
قال الزجاج: "المصور هو مفعِّل من الصورة وهو تعالى مصور كل صورة لا على مثال احتذاه ولا رسم ارتسمه تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا"(3).
وقال ابن كثير رحمه الله في معنى قوله تعالى: " { الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ } [الحشر: 24] أي: الذي إذا أراد شيئًا قال له كن فيكون على الصفة التي يريد والصورة التي يختار، كقوله تعالى: { فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) } [الانفطار: 8]، ولهذا قال: (المصور) أي: الذي ينفذ ما يريد إيجاده على الصفة التي يريدها"(4).
وقال الخطابي: " (المصور) هو الذي أنشأ خلقه على صور مختلفة ليتعارفوا بها فقال: { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } [غافر: 64] "(5).
الفرق بين أسمائه سبحانه (الخالق والبارئ والمصور) ووجه اقتران هذه الأسماء:
__________
(1) انظر: النهاية 3/58، واللسان 4/2523.
(2) اشتقاق أسماء الله الحسنى ص 424.
(3) تفسير الأسماء ص 37.
(4) تفسير ابن كثير 4/344.
(5) شأن الدعاء ص 51.(1/366)
يقول صاحب أضواء البيان رحمه الله تعالى: "فـ (الخالق) هو المقدر قبل الإيجاد، و(البارئ) الموجد من العدم على مقتضى الخلق والتقدير، وليس كل من قدر شيئًا أوجده إلا الله (والمصور) المُشكِّل لكل موجود على الصورة التي أوجده عليها، ولم يفرد كل فرد من موجوداته على صورة تختص به إلا الله سبحانه وتعالى كما هو موجود في خلق الله للإنسان والحيوان والنبات، كل في صورة تخصه"(1).
وهذه الفروق تعرف عند اجتماع هذه الأسماء، أما عند افتراقها فإن كل اسم من هذه الأسماء الحسنى يشمل معناه ومعاني الاسمين الآخرين والله أعلم.
ويتحدث الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عن بعض الأسرار في اقتران هذه الأسماء الحسنى فيقول: "إن البارئ المصور تفصيل لمعنى اسم الخالق"(2).
ويقول أيضًا: "وأما الخالق والمصور فإن استعملا مطلقين غير مقيدين لم يطلقا إلا على الرب سبحانه كقوله: { الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ } ، وإن استعملا مقيدين أطلقا على العبد كما يقال لمن قدر شيئًا في نفسه: إنه خلقه ... وبهذا الاعتبار صح إطلاق خالق على العبد في قوله تعالى: { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) } [المؤمنين: 14] "(3).
ويقول أيضًا: "إن اسمه (الخالق) يقتضي مخلوقًا و (البارئ) يقتضي مبروءًا و (المصور) يقتضي مصوَّرًا ولا بد"(4).
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (المصور):
ما ذكر من الآثار في اسمه سبحانه (الخالق) يصلح أن يذكر هنا ويضاف إلى ذلك ما يلي:
" قد امتنَّ الله علينا بأنه صورنا فأحسن صورنا: { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } [غافر: 64]، وقال: { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) } [التغابن: 3].
__________
(1) أضواء البيان 8/124.
(2) شفاء العليل 1/366.
(3) شفاء العليل 1/393.
(4) مفتاح دار السعادة 2/261.(1/367)
وتصويرنا الذي امتن الله علينا به يتمُّ على وجهين، الأول: تصوير أبينا آدم - عليه السلام - فقد خلقه الله تبارك وتعالى بيده، وصوره، ثم نفخ فيه الروح، وأسجد له ملائكته: { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ } [الأعراف: 11].
والتصوير الثاني لبني آدم، وهو الذي تم في الأرحام: { هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) } [آل عمران: 11].
" وتصوير الله خلقه إعجاز وأي إعجاز، فلو نظرت إلى نوع واحد من أنواع المخلوقات وهو الإنسان فضلاً عن الجان والملائكة وأنواع الحيوان وغيرها لوجدت كل إنسان يمتاز بصورة لا يشابهه فيها غيره، فعلى الأرض اليوم ما يزيد على خمسة مليارات من البشر، كل واحد منهم تغاير صورته صورة غيره في الملامح والسمات، وفي الألوان والهيئات، وكم من البشر ولدوا فوق هذه الأرض فيما مضى، وكم سيخلق من البشر فيما سيأتي إلى يوم الدين، كل إنسان له صورته التي خلقه الله عليها، وعند التدقيق في الخلق والتكوين تتضح الفوارق أكثر وأكثر، فهي تختلف في بصمة الأصبع، وفي الجينات الوراثية، وما الله به عليم، إنه سبحانه الخالق البارئ المبدع المصور فتبارك الله رب العالمين.
" وصفة التصوير للأحياء لا يجوز للبشر أن يتشبهوا بالله فيها، وقد حذر الرسول × من ذلك في أحاديث كثيرة منها: (إن أشدَّ الناس عذابًا عند الله يوم القيامة المصورون)(1)، وفي الحديث الآخر: (إن الذين يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم)(2) وحديث: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي.... الحديث) (3).
__________
(1) البخاري (595)، مسلم (2109).
(2) البخاري (7558)، مسلم (2108).
(3) البخاري (5952)، مسلم (2111).(1/368)
والممنوع هو تصوير الأحياء من الإنسان والحيوان، أما النبات والجماد فلا بأس بتصويره إن لم يشغل عن طاعة الله (1).
- - -
(50) [المهيمن]
ورد اسمه سبحانه (المهيمن) مرة واحدة في القرآن الكريم وذلك في قوله تعالى: { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ } [الحشر: 23].
المعنى اللغوي:
"قال بعضهم معناه الأمين، وهو من آمَنَ غيره من الخوف، وأصله أَأْمن فهو مؤَأْمِن بهمزتين قُلبت الهمزة الثانية ياءً كراهة اجتماعهما فصار مؤَيمن، ثم صُيرت الأولى هاءً كما قالوا: هَراق وأراق.
وقال بعضهم: مُهيمن معنى مؤَيمن والهاء بدل من الهمزة كما قالوا: هرقت وأرقت، وكما قالوا: إياك وهياك؛ وقال الأزهري: وهذا على قياس العربية صحيح، مع ما جاء في التفسير أنه بمعنى الأمين، قيل: بمعنى مؤتمن"(2).
وقيل: إن (المهيمن) الرقيب الحافظ.
وقيل: إنه الشاهد تقول: "فلانٌ مُهيْمني على فلان إذا كان شاهدُك عليه"(3).
معناه في حق الله تعالى:
قال ابن جرير: "وقوله المهيمن اختلف أهل التأويل في تأويله فقال بعضهم: (المهيمن) الشهيد، قاله مجاهد وقتادة وغيرهم.
وقال أيضًا: وأصل الهيمنة الحفظ والارتقاب، يقال: إذا رقب الرجل الشيء وحفظه وشهده قد هيمن فلان عليه فهو يهيمن هيمنة وهو عليه مهيمن، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل إلا أنهم اختلفت عباراتهم عنه"(4).
__________
(1) انظر أسماء الله الحسنى للأشقر، ص 88، 89.
(2) انظر لسان العرب 6/4705.
(3) انظر تفسير الأسماء للزجاج 32.
(4) تفسير الطبري 6/172.(1/369)
وقال ابن كثير: "قال ابن عباس وغير واحد أي: الشاهد على خلقه بأعمالهم، بمعنى هو رقيب عليهم كقوله: { tھ!$#ur عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) } [المجادلة: 6]، وقوله: { ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) } [يونس: 46]، وقوله: { أَفَمَنْ هُوَ يOح !$s% عَلَى كُلِّ نَفْسٍ } [الرعد: 33] " (1).
وقال السعدي رحمه الله تعالى: " (المهيمن) المطلع على خفايا الأمور وخبايا الصدور الذي أحاط بكل شيء علمًا"(2).
ويقول الغزالي رحمه الله تعالى:
"معناه في حقّ الله - عز وجل -، أنه القائم على خلقه بأعمالهم وأرزاقهم وآجالهم، وإنّما قيامه عليهم باطّلاعه واستيلائه وحفظه، وكل مشرف على كنه الأمر مستولٍ عليه حافظ له، فهو مهيمن عليه، والإشراف يرجع إلى العلم، والاستيلاء إلى كمال القدرة، والحفظ إلى الفعل، فالجامع بين هذه المعاني اسمه المهيمن، ولن يجتمع ذلك على الإطلاق والكمال إلاّ لله عز وجل"(3).
وقد وصف الله - تبارك وتعالى - كتابه وهو القرآن بأنه مهيمن على الكتب السابقة، قال: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } [المائدة: 48].
فالقرآن الكريم حاكم على الكتب من قبله، فقد جاء بأحسن ما فيها، ونسخ منها ما نسخه، وقصّ على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، فأظهر تحريفهم ، وأظهر الحق الذي تضمنته الكتب السابقة(4).
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (المهيمن):
أولاً: لما كان من معاني (المهيمن) أنه الشاهد على خلقه بما يصدر منهم من قول أو عمل لا يغيب عنه من أعمالهم الباطنة والظاهرة شيء، فإن هذا الإيمان يثمر مراقبة الله - عز وجل - في السر والعلانية، ويثمر الخوف منه وإجلاله وتعظيمه.
__________
(1) تفسير ابن كثير 4/343.
(2) تفسير السعدي 5/301.
(3) المقصد الأسنى ص 55.
(4) انظر أسماء الله الحسنى للأشقر ص 68.(1/370)
وهذا الشعور يثمر البعد عن كل ما يسخط الله - عز وجل - من الأعمال الباطنة والظاهرة، ولو ضعف العبد ووقع فيما يسخط الله تعالى وجب عليه المسارعة في التوبة والإنابة إلى ربه عز وجل.
ثانيًا: ولما كان من معاني (المهيمن) القائم على خلقه بأعمالهم وآجالهم فإن الإيمان بهذا يثمر محبة الله - عز وجل - والتقرب إليه بالطاعات والقربات تعبدًا له - عز وجل - وحبًا والتماسًا لمرضاته، وشكرًا له على نعمائه وأفضاله وإحسانه، كما يثمر التوكل عليه وحده وتفويض الأمور إليه.
ثالثًا: ولما كان من صفات القرآن الكريم الذي هو كلام الله - عز وجل - أنه (مهيمن) على ما سبق من الكتب السماوية التي قبله لقوله سبحانه: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } فإن الإيمان بهذا يثمر تعظيم كتاب الله - عز وجل - ومحبته والفرح به أعظم الفرح. وحمد الله عز وجل وشكره على الهداية إليه، قال الله عز وجل : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } [يونس: 58،57]، وهذا يقتضي الحكم به والتحاكم إليه والعمل به ورفض ما سواه.
- - -
(51، 52) [الحافظ، الحفيظ]
ورد اسمه سبحانه (الحافظ) في القرآن الكريم (مرة واحدة) بصيغة المفرد كما في قوله تعالى: { فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) } [يوسف: 64]، وورد (مرتين) بصيغة الجمع كما في قوله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) } [الحجر: 9]، وقوله تعالى: { وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) } [الأنبياء: 82].(1/371)
أما اسمه سبحانه (الحفيظ) فقد ورد في القرآن الكريم (ثلاث مرات) وذلك في قوله تعالى: { إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) } [هود: 57]، وقوله سبحانه: { وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) } [سبأ: 21]، وقوله - عز وجل -: { وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ } [الشورى: 6].
المعنى اللغوي (للحافظ والحفيظ):
قال في اللسان: "قال ابن سيده: الحفظ نقيض النسيان، وهو التعاهد وقلة الغفلة.
وحفظ الشيء حفظًا، ورجل حافظ من قوم حفاظ...
وقال الأزهري: "رجلٌ حافظ وقومٌ حُفَّاظٌ، وهم الذين رزقوا حفظ ما سمعوا، وقلّما ينسون شيئًا يعونه"(1).
وقال الزجاجي: " (الحفيظ): الحافظ، فعيل بمعنى فاعل"(2).
وقال: "أحفظت الرجل: إذا أغضبته، أحفظه إحفاظًا، والحِفظة: الحقد والضغينة".
وقال الجوهري: "حفظتُ الشيء حفظًا، أي: حرسته، وحفظته أيضًا بمعنى استظهرته، والمحافظة : المراقبة"(3).
معناهما في حق الله تعالى:
قال الخطابي رحمه الله تعالى: "الحفيظ هو الحافظ فعيل بمعنى فاعل كالقدير والعليم يحفظ السموات والأرض وما فيها لتبقى مدة بقائها فلا تزول ولا تندثر كقوله - عز وجل -: { وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا } [البقرة: 255]، وقال: { وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) } [الصافات: 7]، أي حفظناها حفظًا والله أعلم.
وهو الذي يحفظ عبده من المهالك والمعاطب، ويقيه مصارع السوء كقوله سبحانه: { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } [الرعد:11]، أي: بأمره.
ويحفظ على الخلق أعمالهم، ويحصي عليهم أقوالهم، ويعلم نياتهم وما تكِنَّ صدورهم، ولا تغيب عنه غائبة ولا تخفى عليه خافية.
__________
(1) اللسان 2/929.
(2) اشتقاق الأسماء ص 146.
(3) الصحاح 3/1172.(1/372)
ويحفظ أولياءه، فيعصمُهم عن مواقعة الذنوب، ويحرسهم عن مُكايَدةِ الشيطان، ليسلموا من شره، وفتنته"(1) أهـ.
ويقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في نونيته:
"وهو الحفيظ عليهم وهو الكفيل بحفظهم من كل أمر عان"(2).
ويشرح الشيخ السعدي - رحمه الله تعالى - اسمه سبحانه (الحفيظ) فيقول: "والحفيظ يتضمن معنيين:
أحدهما: أنه قد حفظ على عباده ما عملوه من خير، وشر، وطاعة، ومعصية، فإن علمه محيط بجميع أعمالهم ظاهرها، وباطنها وقد كتب ذلك في اللوح المحفوظ، ووكل بالعباد ملائكة كرامًا كاتبين يعلمون ما يفعلون. فهذا المعنى من حفظه يقتضي إحاطة علم الله بأحوال العباد، كلها ظاهرها، وباطنها، وكتابتها في اللوح المحفوظ، وفي الصحف التي في أيدي الملائكة، وعلمه بمقاديرها، وكمالها، ونقصها، ومقادير جزائها في الثواب والعقاب ثم مجازاته عليها بفضله، وعدله.
والمعنى الثاني من معنيي الحفيظ: أنه تعالى الحافظ لعباده من جميع ما يكرهون.
وحفظه لخلقه نوعان عام وخاص: فالعام حفظه لجميع المخلوقات بتيسيره لها ما يقيتها ويحفظ بنيتها، وتمشي إلى هدايته، وإلى مصالحها بإرشاده، وهدايته العامة التي قال عنها: { أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) } [طه: 50]، أي: هدى كل مخلوق إلى ما قدر له وقضى له من ضروراته وحاجاته، كالهداية للمأكل، والمشرب، والمنكح، والسعي في أسباب ذلك، وكدفعه عنهم أصناف المكاره، والمضار، وهذا يشترك فيه البر، والفاجر، بل الحيوانات، وغيرها، فهو الذي يحفظ السماوات، والأرض أن تزولا، ويحفظ الخلائق بنعمه، وقد وكل بالآدمي حفظة من الملائكة الكرام يحفظونه من أمر الله، أي: يدفعون عنه كل ما يضره مما هو بصدد أن يضره لولا حفظ الله.
__________
(1) شأن الدعاء ص 67، 68.
(2) النونية لابن القيم 2/228.(1/373)
والنوع الثاني: حفظه الخاص لأوليائه سوى ما تقدم، بحفظهم عما يضر إيمانهم أو يزلزل إيقانهم من الشبه، والفتن، والشهوات فيعافيهم منها ويخرجهم منها بسلامة وحفظ وعافية، ويحفظهم من أعدائهم من الجن والإنس فينصرهم عليهم ويدفع عنهم كيدهم، قال الله تعالى: { * إِن اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا } [الحج: 38]، وهذا عام في دفع جميع ما يضرهم في دينهم ودنياهم فعلى حسب ما عند العبد من الإيمان تكون مدافعة الله عنه بلطفه، وفي الحديث: (احفظ الله يحفظك)(1)، أي: احفظ أوامره بالامتثال ونواهيه بالاجتناب، وحدوده بعدم تعديها، يحفظك في نفسك ودينك ومالك وولدك، وفي جميع ما آتاك الله من فضله"(2)أهـ.
من آثار الإيمان باسميه سبحانه (الحافظ)، و (الحفيظ):
أولاً: مراقبة الله - عز وجل - في الأقوال والأعمال بأن تكون في مرضاته، ذلك لأن الله - عز وجل - لا يغيب عن علمه شيء فهو الحافظ المحصي لأعمال عباده، في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، قال تعالى: { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) } [الانفطار: 10].
ومن ذلك حفظ الأعمال مما يحبطها كالرياء وغيره مما يعلمه الله تعالى ويحصيه على العبد وإن خفي على الناس.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "المراقبة: هي التعبد باسمه (الرقيب)، (الحفيظ)، (العليم)، (السميع)، (البصير) فمن عقل هذه الأسماء وتعبد بمقتضاها حصلت له المراقبة والله أعلم"(3).
ثانيًا: تعظيم الله - عز وجل - وإجلاله وعبادته وحده لأنه هو الخالق لهذا الكون العظيم وهو الحافظ له وللسموات والأرض أن تزولا.
__________
(1) رواه أحمد 1/263، وصححه أحمد شاكر في المسند 3/2671.
(2) انظر توضيح الكافية الشافية ض 122، وانظر الحق الواضح المبين ص 59 - 61.
(3) مدارج السالكين 2/69.(1/374)
قال تعالى: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) } [البقرة: 255] ، وقال سبحانه: { وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) } [الأنبياء: 32]؛ وقال - عز وجل -: { * إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) } [فاطر: 41]، وقال تبارك وتعالى: { وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) } [الحجر: 17].
ثالثًا: صدق التوكل على الله وحده لأن المحفوظ من حفظه الله وعصمه، ومن تخلى الله عن حفظه فإنه هالك ضائع، ولن يستطيع أحد أن يحفظه بعد ذلك، فلا جرم وجب التعلق بالله وحده في الحفظ والكفاية وترك التعلق بالمخلوق الضعيف الذي هو في حاجة إلى الحفظ من ربه.
رابعًا: الأخذ بأسباب حفظ الله - عز وجل - للعبد، وأعظمها: توحيده سبحانه، وفعل ما يحبه الله تعالى، واجتناب ما يسخطه، وحفظ الله تعالى في حرماته ودينه وشرعه؛ قال الرسول × في معرض وصيته لابن عباس رضي الله عنهما: (يا غلام احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك... الحديث)(1).
وقبل ذلك قوله سبحانه: { هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) } [ق: 32].
__________
(1) رواه أحمد 1/293، والترمذي (2440)، وصححه الألباني؛ صحيح الترمذي (2043).(1/375)
خامسًا: محبة الله - عز وجل - وحمده وشكره على حفظه لعباده من الشرور والآفات والمهلكات إذ لو خلي بين العبد وبين هذه المهلكات لما بقي على ظهرها من دابة, ولكنه حفظ الله تعالى فوجبت محبته وحمده وعبادته وحده قال الله - عز وجل -: { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } [الرعد: 11].
وقال سبحانه: { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) } [الأنعام: 61]، هذا حفظه العام للناس مؤمنهم وكافرهم، أما حفظه الخاص لأوليائه فشيء آخر ونعمة أخرى تقتضي من أهلها المحبة العظيمة والحمد والقيام بحقوق عبوديته سبحانه وطاعته، وبقدر تحقيق العبودية والطاعة لله - عز وجل - يكون الحفظ والرعاية من الله - عز وجل - لعبده.
- - -
(53، 54): [الولي، المولى]
جاء ذكر اسمه سبحانه (الولي) في القرآن خمس عشرة مرة من ذلك قوله تعالى: { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } [البقرة: 257]، وقوله سبحانه: { وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) } [النساء: 45]، وقوله - عز وجل -: { وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) } [الشورى: 28]، وقوله سبحانه: { وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) } [آل عمران: 68]، وقوله تبارك وتعالى: { أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ } [يوسف: 101]، وقوله عز وجل: { أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) } [الأعراف: 155].(1/376)
أما اسمه سبحانه (المولى) فقد ورد في القرآن الكريم اثنتي عشرة مرة من ذلك قوله تعالى: { أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) } [البقرة: 286].
وقوله سبحانه: { نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) } [الأنفال: 4]، وقوله - عز وجل -: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) } [محمد: 11].
المعنى اللغوي:
"(الوَلْي): القرب والدنو، يقال: تباعد بعد ولي.
)وكُل مما يَليك( أي: مما يقاربك.
(والوَليُّ): ضد العدو، والموالاة ضد المعاداة، يقال فيه: تولاه.
(والمَوْلى): المُعتِقُ والمُعتَقُ، وابن العم، والناصر، والجار، والصديق، والتابع، والمحب، والحليف، والشريك، وابن الأخت.
(والوَلِيُّ): المولى.
(والوَلِيُّ): الصِهر، وكل من وَلِيَ أمر أحد فهو وَليُّه.
وولاه الأمير عمل كذا، وولاه بيع الشيء، وتولى العمل: أي تقلَّد.
وتولَّى عنه: أي أعرض، وولى هاربًا: أي أدبر.
والولاية بالكسر: السلطان، والوَلاية والوِلاية: النُّصرة(1).
معناهما في حق الله تعالى:
أولاً: (الولي):
قال ابن جرير في قول تعالى: { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا } [البقرة: 257] "نصيرهم وظهيرهم، يتولاَّهم بعونه وتوفيقه: { يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } [البقرة: 257]، يعني بذلك: يُخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان"(2).
وقال في قوله تعالى: { وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا } [النساء: 45]، "وكفاكم وحسبكم بالله ربكم وليًا يليكم ويلي أموركم بالحَيَاطة لكم، والحراسة من أن يَستفزَّكم أعداؤكم عن دينكم، أو يصدوكم عن اتباع نبيكم" (3).
__________
(1) انظر الصحاح 6/2528، واللسان 6/4920 - 4926.
(2) تفسير الطبري 3/15.
(3) المصدر السابق 5/75.(1/377)
وقال في قوله تعالى: { إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } [الأعراف: 196]، "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد × قل يا محمد للمشركين من عبدة الأوثان: إنَّ وليي ونصيري ومعيني وظهيري عليكم الله الذي نزل الكتاب عليَّ بالحق، وهو يتولى من صلح عمله بطاعته من خلقه"(1).
وقال الزجاج: " (الولي) هو فعيلٌ، من الموالاة، والولي: الناصر وقال الله تعالى: { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } [البقرة: 257]، وهو تعالى وليُّهم بأن يتولى نصرهم وإرشادهم، كما يَتَولى ذلك من الصبي وليُّه، وهو يتولى يوم الحساب ثوابهم وجزاءهم"(2).
وذكر الخطابي نحو كلام الزجاج، وزاد: "والولي أيضًا المتولِّي للأمر والقائم به، كولي اليتيم، وولي المرأة في عقد النكاح عليها، وأصله من الوَلْي، وهو القُرْبُ"(3).
ثانيًا (المولى):
يقول ابن جرير في قوله تعالى: " { أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) } [البقرة: 386] "، أنت ولينا بنصرك، دون من عاداك وكَفَرَ بك، لأنا مؤمنون بك ومطيعون فيما أمرتنا ونهيتنا، فأنت وليُّ من أطاعك وعَدُوُّ من كفر بك فعصاك، فانصرنا لأنَّا حزبك، على القوم الكافرين الذين جحدوا وحدانيتك وعبدوا الآلهة والأنداد دونك، وأطاعوا في معصيتك الشيطان.
والمولى في هذا الموضع المفعل، من ولي فلان أمر فلان فهو يليه ولاية وهو وليه ومولاه"(4).
__________
(1) تفسير الطبري 9/152.
(2) تفسير الأسماء ص 55.
(3) شأن الدعاء ص 78.
(4) تفسير الطبري 3/106.(1/378)
والله - جل شأنه - مولى الخلق أجمعين بمعنى أنه سيدهم ومالكم وخالقهم ومعبودهم الحق، كما في قوله تعالى: { ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) } [الأنعام: 62]، وقوله تعالى: { هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30) } [يونس: 30]، ولا تتعارض هذه الآيات مع قوله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) } [محمد: 11]، ويجيب الشيخ الشنقيطي - رحمه الله تعالى - عن هذا بقوله: "والجواب عن هذا: أن معنى كونه مولى الكافرين أنه مالكهم المتصرف فيهم بما شاء، ومعنى كونه مولى المؤمنين دون الكافرين، أي: ولاية المحبة والتوفيق والنصر، والعلم عند الله تعالى"(1).
من آثار الإيمان بهذين الاسمين الكريمين:
أولاً: لما كان من معاني (المولى) المعنى الذي يدخل فيه الكافر والمؤمن بمعنى أنه سيد المخلوقات ومالكهم ومعبودهم الحق، فإن الإيمان بهذا الاسم الكريم يثمر محبة الله - عز وجل - وإفراده وحده سبحانه بالعبادة ونفيها عما سواه.
ثانيًا: وأما ولاية المحبة والتوفيق والنصرة فهي بهذا المعنى خاصة بالمؤمنين المتقين، وهي بهذا المعنى تثمر في قلوب أولياء الله الطمأنينة والثقة في نصرته سبحانه وكفايته وصدق التوكل عليه سبحانه قال الله - عز وجل -: { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) } [محمد: 11]، وهذا يثمر اليقين بذهاب الكفار وقطع دابرهم وإن ظهروا في وقت ما لحكمة فنهايتهم إلى ذهاب لأنهم مقطوعو الصلة بالله عز وجل.
__________
(1) دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ص6 11.(1/379)
ثالثًا: السعي إلى نيل ولاية الله - عز وجل - والاتصاف بصفات أوليائه المتقين وذلك بتحقيق عبوديته سبحانه وتقواه والتقرب إليه بالعمل الصالح فبهذا تنال ولاية الله تعالى كما قال سبحانه: { أَلَا إِن أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) } [يونس: 62 - 63]، وقوله - عز وجل -: { وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127) } [الأنعام: 137].
أما من يوصفون بأولياء الله وهم أبعد ما يكون عن التوحيد ولزوم الكتاب والسُّنَّة وتقوى الله - عز وجل - وذلك بما يعرف عنهم من الشرك والشعوذة والوقوع في ما نهى الله عنه وترك ما أمر به، فهؤلاء أبعد ما يكونون عن أولياء الله تعالى، بل هم أولياء الشيطان وحزبه (1).
رابعًا: الإيمان بهذين الاسمين الكريمين يثمر في قلب المؤمن محبة أولياء الله تعالى، وتوليهم ونصرتهم والتبرؤ من أعداء الله تعالى وبغضهم وجهادهم، وهذا من مقتضيات عقيدة التوحيد القائمة على الولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين.
(55، 56): [النصير]،[خير الناصرين]
ورد اسمه سبحانه (النصير) في القرآن (أربع مرات) وذلك في قوله تعالى: { فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) } [الأنفال: 40]، وقوله تبارك وتعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) } [الحج: 78]، وقوله سبحانه: { وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) } [النساء: 45]، وقوله - عز وجل -: { y4's"x.ur بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) } [الفرقان: 31].
__________
(1) انظر للتوسع في هذه المسألة كتاب: "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان"، لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.(1/380)
أما اسمه سبحانه (الناصر) فلم يرد في القرآن إلا مرة واحدة بصيغة التفضيل؛ وذلك في قوله تعالى: { بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ }
[آل عمران: 150].
المعنى اللغوي:
"نَصَرَهُ يَنْصُرَه نَصْرًا إذا أعَانه على عَدُوِّه، والاسم النُّصْرة.
والنَّصِيرُ: النَّاصر، والجمع: الأنصار، مثل شريف وأشراف.
واستَنْصَرَهُ على عدوه، أي: سأله أن يَنْصُرَه عليه.
وتَنَاصروا: نَصَرَ بعضُهم بعضًا، والتَّنَاصر: التعاون على النَّصر.
وانْتَصَر منه: انتقم"(1).
وقال الراغب: "النَّصْرُ والنُّصْرةُ: العَون"(2).
معناه في حق الله تعالى:
قال: ابن كثير رحمه الله تعالى: { فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) } [الحج: 78] "يعني نعم الولي ونعم الناصر من الأعداء"(3).
وقال ابن جرير - رحمه الله تعالى - في قوله سبحانه: { بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ } [آل عمران: 150]، "وليكم وناصركم على أعدائه الذين كفروا: { وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ } لا مَنْ فررتم إليه من اليهود وأهل الكفر بالله!! فبالله الذي هو ناصرُكم ومولاكُم فاعْتصموا، وإياه فاستنصروا دون غيره ممن يبغيكم الغوائل ويرصدكم بالمكاره"(4).
وقال في قوله سبحانه: { وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) } [النساء: 45]، وحسبكم بالله ناصرًا لكم على أعدائكم وأعداء دينكم، وعلى من بَغَاكم الغَوائل، وبَغَى دينكم العِوج(5).
وقال في قوله سبحانه: { وَنِعْمَ النَّصِيرُ } : وهو النَّاصر(6).
__________
(1) انظر الصحاح 2/829، واللسان 6/4439 - 4441.
(2) مفردات القرآن ص 495.
(3) تفسير ابن كثير 3/237.
(4) تفسير الطبري 3/80.
(5) تفسير الطبري 5/75.
(6) تفسير الطبري 9/163.(1/381)
وقال في قوله: { y4's"x.ur بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا } ، يقول تعالى ذكره لنبيه: وكفاك يا محمد بربك هاديًا يهديك إلى الحقّ، ويبصرك الرشد، (ونصيًرا): يقول: ناصرًا لك على أعدائك، يقول: فلا يهولنك أعداؤك من المشركين، فإني ناصرك عليهم، فاصبر لأمري، وامض لتبليغ رسالتي إليهم(1).
ويقول الشيخ السعدي - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: " { وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) } [النساء: 45]: ( { وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا } ، أي: يتولى أحوال عباده، ويلطف بهم، في جميع أمورهم، وييسر لهم ما به سعادتهم وفلاحهم.
4 { وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا } ينصرهم على أعدائهم، ويبين لهم ما يحذرون منهم ويعينهم عليهم، فولايته تعالى، فيها حصول الخير، ونصره، فيه زوال الشر"(2).
من آثار الإيمان باسميه سبحانه (الناصر، النصير):
أولاً: الثقة في نصر الله تعالى لعباده المؤمنين وعدم الرهبة من قوة الكافرين إذا أخذ بالأسباب، والتوكل على الله وحده في ذلك؛ فالمنصور من نصره الله تعالى، والمخذول من خذله. قال سبحانه: { إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ } [آل عمران: 160].
وقال الله تعالى: { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) } [الروم: 47]، وقال سبحانه: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) } [غافر: 51].
وقد ذكر الإمام ابن جرير الطبري - رحمه الله تعالى - إشكالاً عارضًا ثم أجاب عليه؛ أنقله هنا للفائدة: قال - رحمه الله تعالى - عند آية غافر:
__________
(1) تفسير الطبري 19/8.
(2) تفسير السعدي 1/453.(1/382)
يقول القائل: "وما معنى: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } وقد علمنا أن منهم من قتله أعداؤه، ومثَّلوا به، كشعياء ويحيى ابن زكريا وأشباههم، ومنهم من همّ بقتله قومه، فكان أحسن أحواله أن يخلص منهم حتى فارقهم ناجيًا بنفسه، كإبراهيم الذي هاجر إلى الشام من أرضه مفارقًا لقومه، وعيسى الذي رفع إلى السماء إذ أراد قومه قتله، فأين النصرة التي أخبرنا أنه ينصرها رسله، والمؤمنين به في الحياة الدنيا، وهؤلاء أنبياؤه قد نالهم من قومهم ما قد علمت، وما نصروا على من نالهم بما نالهم به؟ قيل: إن لقوله: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } ، وجهين كلاهما صحيح معناه.
أحدهما: أن يكون معناه: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا إما بإعلائنا لهم على من كذّبنا وإظفارنا بهم، حتى يقهروهم غلبة، ويذلوهم بالظفر ذلة، كالذي فعل من ذلك بداود وسليمان، فأعطاهما من المُلك والسلطان ما قهرا به كل كافر، وكالذي فعل بمحمد × بإظهاره على من كذّبه من قومه، وإما بانتقامنا ممن حادّهم وشاقهم بإهلاكهم وإنجاء الرسل ممن كذبّهم وعاداهم، كالذي فعل تعالى ذكره بنوح وقومه، من تغريق قومه وإنجائه منهم، وكالذي فعل بموسى وفرعون وقومه، إذ أهلكهم غرقًا، ونجى موسى ومن آمن به من بني إسرائيل وغيره ونحو ذلك، أو بانتقامنا في الحياة الدنيا من مكذّبيهم بعد وفاة رسولنا من بعد مهلكهم، كالذي فعلنا من نصرتنا شعياء بعد مهلكه، بتسليطنا على قتلته من سلَّطنا حتى انتصرنا بهم من قتلته، وكفعلنا بقتلة يحيى، من تسليطنا بختنصر عليهم حتى انتصرنا به من قتلهم له، وكانتصارنا لعيسى من مريدي قتله بالروم حتى أهلكناهم بهم، فهذا أحد وجهيه وقد كان بعض أهل التأويل يوجه معنى ذلك إلى هذا الوجه.(1/383)
حدثنا محمد بن الحسين، قال: ثنا أحمد بن المفضل، قال: ثنا أسباط، عن السديّ قول الله: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } قد كانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا وهم منصورون، وذلك أن تلك الأمة التي تفعل ذلك بالأنبياء والمؤمنين لا تذهب حتى يبعث الله قومًا فينتصر بهم لأولئك الذين قتلوا منهم.
والوجه الآخر: أن يكون هذا الكلام على وجه الخبر عن الجميع من الرسل والمؤمنين، والمراد واحد، فيكون تأويل الكلام حينئذ: إنا لننصر رسولنا محمدًا × والذين آمنوا به في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد، كما بيَّنا فيما مضى أن العرب تخرج الخبر بلفظ الجميع، والمراد واحد إذا لم تنصب للخبر شخصًا بعينه"(1) أ.هـ. والوجه الأول هو الأظهر والموافق للفظ القرآن.
وللإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - كلام نفيس أسوقه في هذا المقام وذلك عند قوله تعالى: { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) } [النساء: 141].
يقول رحمه الله: "فالآية على عمومها وظاهرها، وإنما المؤمنون يصدر منهم من المعصية والمخالفة التي تضاد الإيمان ما يصير به للكافرين عليهم سبيل بحسب تلك المخالفة، فهم الذين تسببوا إلى جعل السبيل عليهم، كما تسببوا إليه يوم أحد بمعصية الرسول × ومخالفته، والله سبحانه لم يجعل للشيطان على العبد سلطانًا، حتى جعل له العبد سبيلاً إليه بطاعته والشرك به، فجعل الله حينئذ له عليه تسلطًا وقهرًا، فمن وجد خيرًا فليحمد الله تعالى، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه"(2).
__________
(1) تفسير الطبري 24/74/75.
(2) بدائع التفسير 2/85.(1/384)
وقال رحمه الله تعالى: "وبهذا يزول الإشكال الذي يورده كثير من الناس على قوله تعالى: { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) } [النساء: 141]، ويجيب عنه كثير منهم بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلاً في الآخرة، ويجيب آخرون بأنه لن يجعل لهم عليهم سبيلاً في الحجة.
والتحقيق: أنها مثل هذه الآيات، وأن انتفاء السبيل عن أهل الإيمان الكامل، فإذا ضعف الإيمان صار لعدوهم عليهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم، فهم جعلوا لهم عليهم السبيل بما تركوا من طاعة الله تعالى.
فالمؤمن عزيز غالب مؤيد منصور، مكفيٌّ، مدفوع عنه بالذات أين كان، ولو اجتمع عليه من بأقطارها، إذا قام بحقيقة الإيمان وواجباته، ظاهرًا وباطنًا" (1).
ويذكر سيد قطب - رحمه الله تعالى - أسبابًا أخرى قد يبطئ نصر الله - عز وجل - عن عباده المؤمنين بسببها فيقول: "والنصر قد يبطئ على الذين ظُلموا وأُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله، فيكون هذا الإبطاء لحكمة يريدها الله.
" قد يبطئ النصر لأن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج بعد نضجها، ولم يتم بعد تمامها، ولم تحشد بعد طاقاتها، ولم تتحفز كل خلية وتتجمع لتعرف أقصى المذخور فيها من قوى واستعدادات، فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكًا لعدم قدرتها، على حمايته طويلاً!
" وقد يبطئ النصر حتى تبذل الأمة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، وآخر ما تملكه من رصيد، فلا تستبقي عزيزًا ولا غاليًا، لا تبذله هينًا رخيصًا في سبيل الله.
" وقد يبطئ النصر حتى تجرب الأمة المؤمنة آخر قواها، فتدرك أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر، إنما يتنزل النصر من عند الله عندما تبذل آخر ما في طوقها ثم تكل الأمر بعدها إلى الله.
__________
(1) بدائع التفسير 2/85، 86.(1/385)
" وقد يبطئ النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله، وهي تعاني وتتألم وتبذل؛ ولا تجد لها سندًا إلا الله، ولا متوجهًا إلا إليه وحده في الضراء، وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على النهج بعد النصر عندما يتأذن به الله، فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها به الله.
" وقد يبطئ النصر لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته فهي تقاتل لمغنم تحققه، أو تقاتل حمية لذاتها، أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها، والله يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله، بريئًا من المشاعر الأخرى التي تلابسه، وقد سئل رسول الله × الرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل شجاعة والرجل يقاتل ليرى، فأيها في سبيل الله، فقال: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) (1).
كما قد يبطئ النصر لأن في الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير، يريد الله أن يجرد الشر منها ليتمحض خالصًا، ويذهب وحده هالكًا، لا تتلبس به ذرة من خير تذهب في الغمار!
" وقد يبطئ النصر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تمامًا، فلو غلبه المؤمنون حينئذ فقد يجد له أنصارًا من المخدوعين فيه، لم يقتنعوا بعد بفساده وضرورة زواله؛ فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة. فيشاء الله أن يبقى الباطل حتى يتكشف عاريًا للناس، ويذهب غير مأسوف عليه من ذي بقية!
" وقد يبطئ النصر لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة، فلو انتصرت حينئذ للقيت معارضة من البيئة لايستقر لها معها قرار، فيظل الصراع قائمًا حتى تتهيأ النفوس من حوله لا ستقبال الحق الظافر، ولاستبقائه!
__________
(1) البخاري (123)، مسلم (1904).(1/386)
من أجل هذا كله، ومن أجل غيره مما يعلمه الله، قد يبطئ النصر، فتتضاعف التضحيات، وتتضاعف الآلام، مع دفاع الله عن الذين آمنوا وتحقيق النصر لهم في النهاية"(1).
ثانيًا: وهذا الأثر مرتبط بما قبله ألا وهو أن الإيمان باسمه سبحانه: (الناصر والنصير) يدفع المؤمن للأخذ بأسباب نصر الله تعالى له في الدنيا والآخرة، وذلك بالخضوع لأمره وشريعته ونصرة دينه في نفسه ومع الناس لأن التفريط في طاعة الله - عز وجل - باب إلى الخذلان والمصائب وتأخر نصر الله تعالى، قال سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) } [محمد: 7]، وقال سبحانه: { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِن اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) } [الحج: 40 - 41].
يقول القرطبي - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: { إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } : ""فإن قيل كيف قال تعالى: { إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ } ، والنصر هو العون والله سبحانه لا يجوز عونه قولاً ولا يتصور فعلاً؟
فالجواب: من أوجه:
أحدها: إن تنصروا دين الله بالجهاد عنه ينصركم.
الثاني: إن تنصروا أولياء الله بالدعاء.
الثالث: إن تنصروا نبي الله وأضافَ النصر إلى الله تشريفًا للنبي × وأوليائه وللدين، كما قال تعالى: { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } [البقرة: 245]، فأضاف القرض إليه تسليةً للفقير"(2).
__________
(1) في ظلال القرآن 4/2426، 2427.
(2) تفسير القرطبي: سورة محمد، الآية 7.(1/387)
وجاء فعل "النصر" في مواضع كثيرة - صفات الأفعال - مضافًا إلى من خصَّهُ الله بالنُّصرةِ وهم: الملائكة والمؤمنون لا غير. فإنَّ حقيقة النَّصر المعونة بطريق التَّولي والمحبة. والمعونة على الشر لا تُسمى نصرًا، ولذلك لا يقال في الكافر إذا ظَفَر بالمؤمن أنه منصورٌ عليه، بل يقال: هو مُسَلَّطٌ عليه، ومنه قوله تعالى: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ } [النساء: 90] "(1).
ثالثًا: شعور العبد بحاجته لنصرة الله تعالى في جميع أحواله وشؤونه كلها وأنه لا يستغني عن نصرة ربه له طرفة عين فهو محتاج إلى أن ينصره الله - عز وجل - على هواه ونفسه، وهو محتاج إلى نصرة الله تعالى له على شيطانه من الإنس والجن، وهو محتاج إلى نصرة الله له على أعدائه الكافرين، وبالجملة فهو محتاج إلى عون الله - عز وجل - ونصرته على فتن الشبهات والشهوات وكيد الأعداء، ولذا جاءت أدعية كثيرة ثابتة عن النبي × في طلب النصرة من الله تعالى على الشر وأهله، ومن هذه الأدعية قوله ×: (رب أعني ولا تعن علي، وانصرني ولا تنصر علي، وامكر لي ولا تمكر علي، واهدني ويسر الهدى لي، وانصرني على من بغى علي... الحديث)(2).
__________
(1) انظر النهج الأسمى، محمد حمود النجدي 2/327، 328.
(2) الترمذي (3474) في الدعوات في دعاء النبي ×، وقال: حسن صحيح.(1/388)
وكذلك قوله ×: (اللَّهم أنت عضدي ونصيري بك أحول وبك أصول، وبك أقاتل)(1) ، وقد مدح الله - عز وجل - عباده وأولياءه المجاهدين بأنهم يتبرَّؤون من الحول والقوة ويسألونه سبحانه النصر وتثبيت الأقدام كما جاء ذلك في صفات الرِبِّيين في قوله تعالى: { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) } [آل عمران: 146، 147].
اقتران اسميه سبحانه (المولى)، (النصير):
جاء هذا الاقتران في موضعين من القرآن، وذلك في قوله تعالى: { وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) } [الأنفال: 40]، وقوله - عز وجل -: { وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) } [الحج: 78].
ولا يخفى ما في هذا الاقتران من معنى؛ ذلك أن من معاني (المولى) التي مرت بنا المعنى العام الذي مفاده أنه سبحانه مولى جميع العباد كافرهم ومؤمنهم، ومولاهم بمعنى سيدهم وخالقهم ومعبودهم الحق؛ كما قال تعالى: { ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ } [الأنعام: 62]، والمعنى الخاص الذي يراد به الولاية الخاصة بالمؤمنين؛ حيث هو سبحانه ناصرهم ومؤيدهم، والاقتران هنا في هاتين الآيتين يراد به المعنى الخاص؛ أي أن اسمه سبحانه (النصير) هو مقتضى اسمه سبحانه (المولى)، والله أعلم.
اقتران اسمه سبحانه (النصير) باسمه سبحانه (الهادي):
__________
(1) رواه أحمد 3/184، والترمذي (3508)، وأبو داود في الصلاة (1291)، وقال الترمذي: حسن غريب.(1/389)
وقد ورد ذلك في آية واحدة وذلك في قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) } [الفرقان: 31]، وهذان الاسمان الكريمان يتناسبان مع سياق الآية التي يبين فيها الله سبحانه أن من سنُّته أن يقيض لكل نبي عدوًا من المجرمين، ولكن الله سبحانه يتولى أنبياءه بهدايتهم إلى الحق، ونصرتهم على أهل الباطل من المجرمين فهو سبحانه الذي يتولى أنبياءه وأولياءه بالهداية - بكل معانيها - ونصرتهم بجميع أنواع النصرة.
- - -
(57، 58): [الوكيل، الكفيل]
ورد اسمه سبحانه (الوكيل) في القرآن الكريم أربع عشرة مرة من ذلك.
قوله تعالى: { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) } [الأحزاب: 3]، وقوله تعالى: { وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) } [الإسراء: 65]، وقوله سبحانه: { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) } [الزمر: 62]، وقوله عز وجل: { فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) }
[آل عمران: 173].
وأما (الكفيل) فقد ورد مرة واحدة، وذلك في قوله سبحانه: { وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا } [النحل: 91].
كما ورد هذا الاسم الكريم في الحديث الصحيح في قصة الإسرائيلي الذي قال: (كفى بالله كفيلا) وسيأتي تخريجه قريبًا.
المعنى اللغوي:
قال في اللسان: "قال ابن سيدة: وكِلَ بالله وتوكل عليه واتكل: استسلم له، يقال: توكل بالأمر إذا ضمن القيام به، ووكلت أمري إلى فلان أي: الجأته إليه واعتمدت فيه عليه، ووكَّل فلان فلانا: إذ استكفاه أمره ثقة بكفايته أو عجزًا عن القيام بأمر نفسه، ووكل إليه الأمر: سلمه، ووكله إلى رأيه وكلاً ووكولاً: تركه"(1).
__________
(1) اللسان 6/4909.(1/390)
وقال الراغب في المفردات: "التوكيل أن تعتمد على غيرك وتجعله نائبًا عنك، والوكيل: فعيل بمعنى المفعول"(1).
وقال الجوهري: "والتوكل إظهار العجز والاعتماد على غيرك والاسم التكلان"(2).
وقال الزجاجي: "الوكيل فعيل من قولك: وكلت أمري إلى فلان وتوكل به أي: جعلته يليه دوني وينظر فيه، والوكيل: الكفيل أيضًا، كذلك قالوا في قوله - عز وجل - في سورة يوسف: { اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } [يوسف: 66] أي كفيل"(3).
وأما "الكفيل": قال الراغب: "وربما فسر الوكيل بالكفيل، والوكيل أعم لأن كل كفيل وكيل وليس كل وكيل كفيلاً"(4).
فهو من كفله يكفله وكفله إياه، والكافل: العائل، وفي التنزيل العزيز: { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } [آل عمران: 37]، والكافل: القائم بأمر اليتيم المربي له وهو من الكفيل الضمني.
وقال ابن الأعرابي: "كفيل وكافل، وضمين وضامن بمعنى واحد، وفي التهذيب للأزهري: وأما الكافل فهو الذي كفل إنسانًا يعوله وينفق عليه"(5).
معناهما في حق الله تعالى:
اسمه سبحانه (الوكيل) يأتي بمعنى الوكيل العام على جميع خلقه، وذلك لأنه خالقهم ومدبر أمرهم والمتكفل بأرزاقهم وحاجاتهم ومحييهم ومميتهم، وذلك كما في قوله تعالى: { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) } [الأنعام: 102].
يقول الطبري - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: "والله على كل ما خلق من شيء رقيب وحفيظ، يقوم بأرزاق جميعه وأقواته وسياسته وتدبيره وتصريفه بقدرته"(6).
__________
(1) المفردات ص 531، 532.
(2) الصحاح 5/1844، 1845.
(3) اشتقاق الأسماء ص 136 - 137.
(4) المفردات ص 531، 532.
(5) انظر اللسان 5/3906، والصحاح 5/1811، والنهاية 4/192.
(6) تفسير الطبري 7/299.(1/391)
ويقول الشيخ السعدي - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) } [الزمر: 62].
"فإخباره بأنه على كل شيء وكيل، يدل على إحاطة علمه بجميع الأشياء، وكمال قدرته على تدبيرها، وكمال تدبيره، وكمال حكمته التي يضع بها الأشياء مواضعها"(1).
ويقول في موطن آخر: " (والوكيل) المتولي لتدبير خلقه بعلمه وكمال قدرته وشمول حكمته، الذي يتولى أولياءه فيسرهم لليسرى وجنبهم العسرى وكفاهم الأمور"(2).
أما المعنى الخاص (للوكيل) فهو ما ذكره الشيخ السعدي سابقًا بقوله: "الذي يتولى أولياءه فيسرهم لليسرى وجنبهم العسرى وكفاهم الأمور"(3)، وهو المراد في قوله تعالى: { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) } [الأحزاب: 3]، وقوله سبحانه: { فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) } [آل عمران: 173].
وهذه الوكالة خاصة بالمؤمنين حيث إن فيها معنى زائد على المعنى العام الذي سبق ذكره وهو معيته الخاصة بأوليائه وإعانته ونصرته لهم.
فتلخص من (الوكيل) المعاني التالية:
1- الكفيل 2- الكافي 3- المدبر الحفيظ لخلقه القادر على ذلك
أما معنى (الكفيل): فيقول ابن جرير - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: { وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا } أي: "وقد جعلتم الله بالوفاء بما تعاقدتم عليه على أنفسكم راعيًا، يرعى الموفي منكم بعهد الله الذي عاهد على الوفاء به والناقض.. وساق بسنده إلى مجاهد في معنى (كفيلا) قال: وكيلاً"(4).
وقال القرطبي رحمه الله: " (كفيلاً) يعني: شهيدًا، ويقال: حافظًا، ويقال: ضامنًا"(5).
من آثار الإيمان باسميه سبحانه (الوكيل)، (الكفيل):
__________
(1) تفسير السعدي 4/335.
(2) نفس المصدر 5/488.
(3) نفس المصدر 5/488.
(4) تفسير الطبري 14/110، 111.
(5) تفسير القرطبي 10/170.(1/392)
أولاً: لما كان من معاني الوكيل: المتولي لأمر عباده حيث منه سبحانه الإيجاد والخلق، ومنه الإمداد بالرزق وأسباب الحياة ومنه الإعداد وأصناف النعم. فإن هذا يستلزم عبادته وحده لا شريك له ومحبته وإجلاله ورجاءه والخوف منه وحده سبحانه وحمده وشكره.
ثانيًا: ولما كان الله - عز وجل - هو المتفرد برزق عباده وبيده النفع والضر، وبيده الموت والحياة فإن هذا يقتضي أوصافًا عظيمة من أوصافه سبحانه الأخرى كحياته وعلمه وقدرته وقوته ورحمته وجوده وكرمه إلى غير ذلك من الأوصاف الحميدة التي يقتضيها اسمه الوكيل والكفيل.
ثالثًا: صدق التوكل على الله وحده في جلب المنافع، ودفع المضار ونفض القلب واليد عمن سواه؛ لأنه سبحانه الضامن لرزق عباده المدبر لشؤونهم، الراعي لمصالحهم بحكمة وعلم وقدرة مطلقة، وهذا يقتضي عدم التعلق بالأسباب مع فعلها لأن الله - عز وجل - أمر بالأخذ بالأسباب الشرعية والنظر فيها إلى مسببها وخالقها وهو الله سبحانه الذي إن شاء نفع بها، وإن شاء أبطلها فعاد الأمر والتأثير والتدبير إلى الله وحده الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهو الحي الذي لا يموت، قال الله تعالى: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ } [الفرقان: 58]، وقال سبحانه: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) } [الشعراء: 317]، فالوكيل سبحانه حي لا يموت، عزيز لا يغلب، رحيم يرعى مصالح عباده ويسوق الخير إليهم بعلم وحكمة، أما من سواه فإنه يموت ويُغلب، ولا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا فضلاً عن أن يملكه لغيره.. وحقيقة التوكل تكون في غاية الاعتماد على الله تعالى مع غاية الثقة في كفايتة وقدرته.(1/393)
وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: " و(الاستعانة ) تجمع أصلين: الثقة بالله، والاعتماد عليه. فإن العبد قد يثق بالواحد من الناس، ولا يعتمد عليه في أموره - مع ثقته به - لاستغنائه عنه. وقد يعتمد عليه - مع عدم ثقته به - لحاجته إليه، ولعدم من يقوم مقامه. فيحتاج إلى اعتماده عليه. مع أنه غير واثق به.
و(التوكل) معنى يلتئم من أصلين: من الثقة، والاعتماد، وهو حقيقة: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) } [الفاتحة: 5] وهذان الأصلان - وهما التوكل، والعبادة - قد ذكرا في القرآن في عدة مواضع، قرن بينهما. هذا أحدها"(1).
وصدق التوكل على الله تعالى من علامات الإيمان الحق، قال - عز وجل -: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) } [الأنفال: 2].
رابعًا: لما كان من معاني (الوكيل) و (الكفيل) الضامن لرزق عباده، المتكفل بذلك لهم فإن الإيمان بهذا يمحو القلق والهلع على الرزق في الدنيا، وهذا يلقي الطمأنينة والسكينة في قلوب عباده المتوكلين عليه، ويجعلهم يأخذون بالأسباب المشروعة في طلب الرزق وينأون بأنفسهم عن الأسباب المحرمة.
ويرضون بما كتب الله تعالى لهم من الرزق لأنه سبحانه العليم الحكيم الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويضيق على من يشاء، قال سبحانه: { * وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) } [هود:6]، وقال - عز وجل -: { * وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) } [الشورى: 27].
__________
(1) مدارج السالكين 1/75.(1/394)
خامسًا: الثقة بكفاية الله تعالى وتوليه لعباده الصالحين ونصرته لهم وإحسان الظن به سبحانه، وهذا كله يبث الرجاء في النفوس المؤمنة ويذهب عنها اليأس والخوف من المخلوق والإحباط والتشاؤم. ولكن رعاية الله تعالى وتوليه لمصالح أوليائه ونصره لهم إنما يكون بتحقيق التوحيد والتقوى، والتقرب إليه سبحانه بالطاعات وترك المحرمات؛ وهذه قصة رجل صالح من بني إسرائيل قصها الرسول × علينا يتبين فيها ثمرة التوكل الهادف على الله تعالى وكفايته سبحانه لمن توكل عليه ورضي به وكيلاً وكفيلاً ووثق بكفايته وقدرته.(1/395)
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "عن رسول الله × أنه ذكر رجلاً من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار فقال: ائتني بالشهداء أشهدهم، فقال: كفى بالله شهيدًا، قال: فائتني بالكفيل، قال: كفى بالله كفيلا، قال: صدقت، فدفعها إليه على أجل مسمى، فخرج في البحر فقضى حاجته، ثم التمس مركبًا يركبها يقدم عليه للأجل الذي أجله فلم يجد مركبًا، فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زجج موضعها، ثم أتى بها إلى البحر فقال: اللَّهم إنك تعلم أني كنت تسلفت فلانًا بألف دينار فسألني كفيلاً فقلت: كفى بالله كفيلاً، فرضي بك، وسألني شهيدًا فقلت: كفي بالله شهيدًا، فرضي بذلك. وإني جهدت أن أجد مركبًا أبعث إليه الذي له فلم أقدر، وإني أستودعكها، فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركبًا يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبًا قد جاء بماله، فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطبًا، فلما نشرها وجد المال والصحيفة، ثم قدم الذي كان أسلفه فأتى بالألف دينار فقال: والله ما زلت جاهدًا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركبًا قبل الذي أتيت فيه. قال: هل كنت بعثت إليَّ بشيءٍ؟ قال: أخبرك أني لم أجد مركبًا قبل الذي جئت فيه. قال: فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة، فانصرف بالألف دينار راشدًا"(1).
وأعظم من توكل صاحب القصة توكل الرسول × وأصحابه الكرام على الله تعالى كما ذكر ذلك سبحانه حالهم في غزوة الأحزاب وغزوة أحد، قال - عز وجل - عنهم في غزوة الأحزاب: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) } [آل عمران: 173].
__________
(1) البخاري (2291).(1/396)
وقال سبحانه عنهم يوم أحد: { الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) } [آل عمران: 72].
قال ابن عباس رضي الله عنهما: { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } قالها إبراهيم- عليه السلام- حين ألقي في النار، وقالها محمد × حين قالوا : { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } (1).
سادسًا: ليس في إطلاق هذا الاسم على الله تعالى نقص كما يتوهمه بعض الناس، فإن الله سبحانه هو (الوكيل) على الحقيقة وهي مجاز في حق غيره؛ لأنه سبحانه منه الإيجاد والإمداد والإعداد ومن المستحيل أن ينوب عن الله سبحانه في ذلك أحد غيره، فمن عرف الله - عز وجل - حق معرفته بأسمائه وصفاته لم يتوكل إلا عليه، ولم يفوض أمره وجميع شؤونه إلا إليه.
قال الله تعالى: { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) } [آل عمران: 133].
الفرق بين وكالة الخالق ووكالة المخلوق:
وما سبق يقودنا إلى معرفة الفرق بين وكالة الخالق سبحانه ووكالة المخلوق وقد سبق أن الخلق قد يشتركون في بعض دلالات الأسماء الحسنى كالسمع والبصر، والحياة والقدرة وغيرها من الصفات ومنها صفة الوكالة أو إطلاق اسم الوكيل على المخلوق، ولكن هذا لا يعني التشابه في الصفات لمجرد الاشتراك في الاسم؛ فأين سمع الإنسان من سمع الرحمن الذي وسع سمعه جميع الأصوات سرها وعلانيتها، وأين بصره من بصره سبحانه، وأين علمه وحكمته من علمه وحكمته. وقل هذا في جميع الصفات فإثباتنا لصفات الله تعالى مقرون بالتنزيه عن مشابهة الخلق في ذلك وقطع الطمع من إدراك الكيفية مع علمنا بمعناها، ومن ذلك إطلاق اسم (الوكيل) على المخلوق.
__________
(1) البخاري (4563).(1/397)
وقد ذكر الغزالي - رحمه الله تعالى - فروقًا بين وكالة الله - عز وجل - ووكالة المخلوق فقال: "الوكيل: هو الموكول إليه الأمور، لكن الموكول إليه ينقسم إلى:
1- من وكل إليه بعض الأمور وذلك ناقص.
2- وإلى من وكل إليه الكل وليس ذلك إلا الله تعالى.
والموكول إليه ينقسم إلى:
1- من يستحق أن يكون موكولاً إليه لا بذاته ولكن بالتوكيل والتفويض، وهذا ناقص لأنه فقير إلى التفويض والتولية.
2- وإلى من يستحق بذاته أن تكون الأمور موكولة إليه، والقلوب متوكلة عليه، لا بتولية وتفويض من جهة غيره، وذلك هو الوكيل المطلق.
والوكيل أيضًا ينقسم إلى:
1- من يفي بما يوكل إليه وفاءً تامًا من غير قصور.
2- وإلى من لا يفي بالجميع.
والوكيل المطلق هو الذي توكل إليه الأمور، وهو مَليُّ بالقيام بها وفيٌّ بإتمامها، وذلك هو الله تعالى فقط. وقد فهمت من هذا المقدار مدخل العبد في هذا الاسم (1).
ويضاف إلى ذلك أن (الوكيل) من الخلق يكون قادرًا على القيام بأمر موكله في وقت وعاجزًا عنها في وقت آخر، غنيًا في وقت فقيرًا في آخر، عالمًا بشيء جاهلاً بغيره، حيًا في وقت ميتًا في غيره، والله جل شأنه يتعالى عن ذلك كله (2).
والتوكيل الجائز: "هو أن يُوكَّل الإنسان في فعلٍ يقدر عليه فيحصل للموكِّل بذلك بعض مطلوبه ، فأما مطالبه كلها فلا يقدر عليها إلا الله وحده"(3).
وإذن غاية توكيل المخلوق أن يفعل بعض المطلوب فيما يقدر عليه وهو لا يفعله إلا بإعانة الله تعالى له، فرجع الأمر كله لله وحده الأول الذي ليس قبله شيء.
(59) [الكافي]
__________
(1) المقصد الأسنى ص 81.
(2) انظر النهج الأسمى/ محمد النجدي 2/30.
(3) جامع الرسائل والمسائل 1/89.(1/398)
ورد اسمه سبحانه (الكافي) في القرآن مرة واحدة وذلك في قوله سبحانه: { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) } [الزمر: 36]، وورد بصيغة الفعل في قوله تعالى: { وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) } [الأحزاب: 25]، وفي قوله سبحانه: { فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) } [البقرة: 137]، وفي قوله - عز وجل -: { إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) } [الحجر: 95].
المعنى اللغوي:
قال الزجاجي: " (الكافي): اسم الفاعل من كفى يكفي فهو كاف"(1).
وقال في اللسان: "كفى يكفي كفاية: إذا قام بالأمر. ويقال استكفيته أمرًا فكفانيه.
ويقال: كفاك هذا الأمر أي: حسبك، وهذا رجل كافيك من رجل أي: حسبك"(2).
المعنى في حق الله تعالى:
قال الزجاجي رحمه الله تعالى: "فالله - عز وجل - كافي عباده لأنه رازقهم وحافظهم ومصلح شؤونهم فقد كفاهم"، قال الله - عز وجل-: { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } (3).
وقال الخطابي رحمه الله تعالى: "وأما (الكافي) فهو الذي يكفي عباده المهم ويدفع عنهم الملم وهو الذي يكفي بمعونته عن غيره ويستغنى به عمن سواه"(4).
وقال الطبري - رحمه الله تعالى - في قوله سبحانه: { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } : "اختلفت القراء في قراءة: { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } فقرأ ذلك بعض قراء المدينة وعامة قراء الكوفة { أليس الله بكاف عباده } على الجمع، بمعنى: أليس الله بكاف محمدًا وأنبياءه من قبله ما خوفتهم أممهم من أن تنالهم آلههتم بسوء.
__________
(1) اشتقاق أسماء الله ص 82.
(2) انظر اللسان 5/3907، 3908.
(3) اشتقاق أسماء الله ص 82.
(4) شأن الدعاء ص 101.(1/399)
وقرأ ذلك عامة قراء المدينة والبصرة وبعض قراء الكوفة { بكاف عبده } على التوحيد بمعنى: أليس الله بكاف عبده محمدًا ×. والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مشهورتان في قراءة الأمصار فبأيهما قرأ القارئ فمصيب لصحة معنييهما واستفاضة القراءة بهما في قراءة الأمصار"(1).
وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "الكافي عباده جميع ما يحتاجون ويضطرون إليه، الكافي كفاية خاصة من آمن به وتوكل عليه واستمد منه حوائج دينه ودنياه"(2).
ومن خلال الكلام السابق لأهل العلم نستطيع القول بأن: (الكافي) يراد منه معنيان: الأول: كفايته سبحانه لجميع عباده في رزقهم وتدبير أمورهم وإصلاح شؤونهم.
الثاني: كفايته لأوليائه المؤمنين برعايتهم وتوفيقهم ونصرهم واللطف بهم.
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (الكافي):
أولاً: محبة الله - عز وجل - وإفراده وحده بالعبادة؛ لأنه وحده الخالق الرازق المتكفل بعباده، والكافي لهم من الشرور، والقاضي لحاجاتهم والمفرج لكرباتهم؛ وبخاصة أولياؤه وعباده الموحدين حيث خصهم بمزيد من الكفاية والرعاية والحفظ والتوفيق فوجب شكر هذه النعم الخاصة ومحبة مسديها المحبة الحقيقية.
ثانيًا: التوكل على الله وحده والثقة في كفايته، وهذا يلقي في قلب المؤمن الطمأنينة والسكينة أمام المصائب والأهوال وينزع الخوف والهلع من المخلوق الضعيف الذي ناصيته بيد الله - عز وجل - وهو تحت قهر الله تعالى وقوته وعزته، ومن ذلك الثقة في نصر الله تعالى لعباده على أعدائه ولكن بعد الأخذ بالأسباب الشرعية للنصر والتأييد.
ثالثًا: كفاية الله تعالى لعبده وتوفيقه، تقوى بقوة الصلة بين العبد ومولاه، فكلما قوي إيمان العبد وتوحيده وتقواه، حصلت له الكفاية والتوفيق والحفظ العظيم من الله تعالى.
__________
(1) تفسير الطبري 24/5.
(2) تفسير السعدي 5/491.(1/400)
رابعًا: إحسان الظن بالله - عز وجل - وخاصة في الأمور التي ظاهرها الشر والمكروه والألم؛ فمن يدري؟ فلعل في ذلك الخير والكفاية للعبد وهو لا يشعر، أي: أن الكفاية لا تعني بالضرورة المسرات الظاهرة والنعم السابغة وإنما الكفاية قد تكون فيما يكره العبد وهذا من معاني اسمه سبحانه (اللطيف) والتي سبق ذكرها عند هذا الاسم الكريم.
خامسًا: كثرة التضرع لله تعالى والتوسل إليه بأسمائه الحسنى - ومن هذه الأسماء هذا الاسم الكريم - في طلب التوفيق والحفظ والثبات، فإنه لا كافي إلا هو سبحانه ولا حافظ سواه، ومن ذلك دعاؤه عليه الصلاة والسلام عند النوم بقوله: (الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي)(1).
- - -
(60) [الصمد]
ورد اسمه سبحانه (الصمد) مرة واحدة في القرآن الكريم وذلك في قوله جل وعلا: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) } [الإخلاص: 1، 2] وجاء ذكره في السُّنَّة النبوية أيضًا كما في الحديث الذي رواه عبد الله بن بريدة عن أبيه أن رسول الله × سمع رجلاً يقول: "اللَّهم إني أسألك أني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد"، فقال ×: (لقد سألت الله بالاسم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب)(2).
المعنى اللغوي:
قال في اللسان: "صمده يصمده وصمد إليه كلاهما: قصده، وصمد صمد الأمر: قصد قصده واعتمده، وتصمد له بالعصا: قصد.
وبيت مصمَّد بالتشديد أي: مقصود ... وأصمد إليه الأمر: أسنده.
والصَّمَدُ بالتحريك: السيد المطاع الذي لا يقضى الأمر دونه، وقيل: الذي يصمد إليه في الحوائج أي يقصد"(3).
معناه في حق الله عز وجل:
__________
(1) مسلم (2715).
(2) رواه الترمذي (3542)، وقال: حسن غريب، ورواه أبو داود (1493)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1324).
(3) لسان العرب 4/2495.(1/401)
قال ابن جرير - رحمه الله تعالى - بعد أن ساق الأقوال في معنى الصمد: "الصمد عند العرب هو السيد الذي يصمد إليه، الذي لا أحد فوقه وكذلك تسمي أشرافها"(1).
وقال الزجاج رحمه الله تعالى : "وأصحه: أنه السيد المصمود إليه في الحوائج"(2).
وقال الخطابي رحمه الله: " (الصمد): هو السيد الذي يصمد إليه في الأمور ويقصد في الحوائج والنوازل، وأصل الصمد: القصد ويقال للرجل: أصمِد صْمدَ فلان أي: أقصد قصده، وجاء في التفسير: أن الصمد الذي قد انتهى سؤدده. وقيل: (الصمد) الدائم، وقيل: الباقي بعد فناء خلقه، وأصح هذه الوجوه ما شهد له معنى الاشتقاق والله أعلم"(3).
وقال ابن القيم - رحمه الله - في نونيته:
"وهو الإله السيد الصمد الذي صَمَدَتْ إليه الخلق بالإذعان
الكامل الأوصاف من كل الوجو ه كماله ما فيه من نقصان"(4)
وقال في موضع آخر:
"والله أكبر واحد صمد وكل الشأن في صمدية الرحمن
نفت الولادة والأبوة عنه والكفء الذي هو لازم الإنسان
وكذاك أثبتت الصفات جميعها لله سالمة من النقصان
وكذاك وإليه يصمد كل مخلوق فلا صمد سواه عز ذو السلطان"(5)
وقال أيضًا: "فإن الصمد من تصمد نحوه القلوب بالرغبة والرهبة وذلك لكثرة خصال الخير فيه، وكثرة الأوصاف الحميدة له، ولهذا قال جمهور السلف منهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "الصمد: السيد الذي كمل سؤدده، الحكيم الذي كمل حكمه، الرحيم الذي كملت رحمته، الجواد الذي كمل جوده"(6).
__________
(1) تفسير الطبري 30/223.
(2) تفسير الأسماء ص 58.
(3) شأن الدعاء ص58.
(4) النونية 2/231.
(5) الأبيات رقم (4739 - 4742).
(6) الصواعق المرسلة 3/1027.(1/402)
وعزا ابن تيمية - رحمه الله تعالى - إلى بعض السلف أن: "الصمد الدائم، وهو الباقي بعد فناء خلقه، فإن هذا من لوازم الصمدية، إذ لو قبل العدم، لم تكن صمديته لازمة له، بل جاز عدم صمديته فلا يبقى صمدًا، ولا تنتفي عنه الصمدية إلا بجواز العدم عليه وذلك محال، فلا يكون مستوجبًا للصمدية، إلا إذا كانت لازمة له، وذلك ينافي عدمه، وهو مستوجب للصمدية، لم يصر صمدًا بعد أن لم يكن - تعالى وتقدس - فإن ذلك يقتضي أنه كان متفرقًا فجمع، وأنه مفعول محدث مصنوع، وهذه صفة مخلوقاته"(1).
ويقول في موطن آخر: "وأما اسم (الصمد) فقد استعمله أهل اللغة في حق المخلوقين، كما تقدم، فلم يقل الله صمد، بل قال: { اللَّهُ } الصَّمَدُ فبين أنه المستحق، لأن يكون هو الصمد دون ما سواه، فإنه المستوجب لغايته على الكمال، والمخلوق وإن كان صمدًا من بعض الوجوه، فإن حقيقة الصمدية منتفية عنه، فإنه يقبل التفرق والتجزئة، وهو أيضًا محتاج إلى غيره، فإن كان ما سوى الله محتاج إليه من كل وجه، فليس أحد يصمد إليه كل شيء ولا يصمد هو إلى شيء إلا الله تبارك وتعالى، وليس في المخلوقات إلا ما يقبل أن يتجزأ ويتفرق وينقسم، وينفصل بعضه من بعض، والله سبحانه هو الصمد الذي لا يجوز عليه شيء من ذلك، بل حقيقة الصمدية وكمالها له وحده واجبة لازمة لا يمكن عدم صمديته بوجه من الوجوه، كما لا يمكن تثنية أحديته بوجه من الوجوه، فهو أحد لا يماثله شيء من الأشياء بوجه من الوجوه، كما قال في آخر السورة: { وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد (4) } [الإخلاص: 4] استعملها هنا في النفي أي: ليس شيء من الأشياء كفوًا له في شيء من الأشياء لأنه أحد"(2).
__________
(1) مجموع الفتاوى 17/164.
(2) مجموع الفتاوى 17/238.(1/403)
وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: " (الصمد): أي الرب الكامل والسيد، العظيم، الذي لم يبق صفة كمال إلا اتصف بها، ووصف بغايتها، وكمالها بحيث لا تحيط الخلائق ببعض تلك الصفات بقلوبهم، ولا تعبر عنها ألسنتهم، وهو المصمود إليه المقصود في جميع الحوائج والنوائب: { يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) } [الرحمن: 29].
فهو الغني بذاته، وجميع الكائنات فقيرة إليه بذاتهم: في إيجادهم، وإعدادهم، وإمدادهم بكل ما هم محتاجون إليه من جميع الوجوه، ليس لأحد منها غنى مثقال ذرة، في كل حالة من أحوالها"(1).
ويقول أيضًا: "و(الصمد): هو الذي تقصده الخلائق كلها في جميع حاجاتها وأحوالها وضروراتها لما له من الكمال المطلق في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله"(2).
ويقول في موطن آخر: "و (الصمد): المغني الجامع الذي يدخل فيه كل ما فسر به هذا الاسم الكريم، فهو الصمد الذي تصمد إليه أي: تقصده جميع المخلوقات بالذل والحاجة والافتقار، ويفزع إليه العالم بأسره، وهو الذي قد كمل بعلمه وحكمته وحلمه وقدرته وعظمته ورحمته وسائر أوصافه".(3)
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (الصمد):
كل معنى من معاني اسمه سبحانه (الصمد) يثمر آثارًا إيمانية في قلب المؤمن، ومن هذه الآثار:
أولاً: محبة الله - عز وجل - الذي تصمد له الخلائق وتهرع إليه في قضاء الحاجات وتفريج الكربات؛ لأنه سبحانه القادر على ذلك وهو اللطيف بعباده الرحيم بهم: { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) } [فاطر: 2].
__________
(1) بهجة قلوب الأبرار ص 165.
(2) تفسير السعدي 5/621.
(3) الحق الواضح المبين ص 75.(1/404)
ولازم هذه المحبة عبادته وحده سبحانه لا شريك له، والبراءة من الشرك وأهله، وإفراده بالرغبة والرهبة لما له سبحانه من الأسماء الحسنى والصفات الحميدة وكثرة خصال الخير والألطاف والأفضال.
ثانيًا: إفراده سبحانه وحده بالتوكل والتعلق وتفويض الأمور إليه سبحانه والثقة في كفايته وقدرته - عز وجل - لأنه سبحانه الصمد المقصود من جميع عباده في قضاء الحاجات.
ثالثًا: تعظيمه سبحانه وإجلاله وحمده والثناء عليه لأنه سبحانه الكامل في سؤدده وأسمائه وصفاته، وهذا من معاني اسمه سبحانه (الصمد)، وهذا يقتضي الخوف منه سبحانه ورجاءه وحده، والأخذ بأسباب مرضاته، وترك ما يسخطه سبحانه ويغضبه.
رابعًا: دعاؤه سبحانه بهذا الاسم العظيم والتوسل به إليه لما يتضمن من الكمال والجمال والجلال، ولذا أقر النبي × ذلك الرجل الذي دعا الله - عز وجل - بهذا الاسم وأخبر أنه والأسماء المقترنة معه في الحديث يؤلف الاسم الأعظم الذي إذا دعي به سبحانه أجاب: "فاللَّهم إنا نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد أن تغفر لنا ذنوبنا وتكفر عنا سيئاتنا إنك أنت الغفور الرحيم".
اقتران اسمه سبحانه (الصمد) باسمه سبحانه (الأحد):
وقد ورد هذا الاقتران مرة واحدة في القرآن وذلك في قوله تعالى: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) } [الإخلاص: 1، 2] ، وفي الحديث الآنف الذكر: (اللَّهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد).
وقد سبق في شرح اسمه سبحانه (الأحد) ذكر وجه هذا الاقتران، فليرجع إليه.
- - -
(61، 62) [الرازق، الرزَّاق](1/405)
ورد اسمه سبحانه (الرازق) في القرآن الكريم بصيغة التفضيل خمس مرات؛ من ذلك قوله - عز وجل -: { وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) } [المائدة: 114]، وقوله سبحانه: { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) } [المؤمنون: 72]، وقوله جل وعلا: { قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) } [الجمعة: 11].
وجاء أيضًا في قوله ×: (إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق.. الحديث)(1).
أما اسمه سبحانه (الرزاق) فورد في القرآن مرة واحدة، وذلك في قوله تبارك وتعالى: { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) [الذاريات: 58]،
المعنى اللغوي:
قال في تهذيب اللغة: "... ويقال: رزق الخلق رَزْقًا ورِزقًا. فالرِّزق اسم والرَّزْق مصدر وقد يوضع الاسم موضع المصدر. ويقال: رزق الجند رزقة واحدة ورزقوا رزقتين أي: مرتين... وارتزق القوم. إذا أخذوا أرزاقهم"(2).
وقال الراغب في المفردات: "الرِّزق يقال للعطاء الجاري تارة، دنيويًا كان أم أخرويًا، وللنصيب تارة، ولما يصل إلى الجوف ويتغذى به تارة، يقال: أعطى السلطان رزق الجند، ورزقت علمًا. والرازق يقال لخالق الرِّزق ومعطيه والمسبب له وهو الله تعالى، ويقال للإنسان الذي يصير سببًا في وصول الرزق، (والرزاق) لا يقال إلا لله تعالى"(3).
المعنى في حق الله تعالى:
__________
(1) رواه أحمد (3/286)، أبو داود (3451)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2945).
(2) تهذيب اللغة 8/430.
(3) المفردات للراغب الأصفهاني ص 194.(1/406)
قال الخطابي رحمه الله تعالى: "هو المتكفل بالرزق القائم على كل نفس بما يقيمها من قوتها، وسع الخلق كلهم رزقه ورحمته فلم يختص بذلك مؤمنًا دون كافر ولا وليًا دون عدو، يسوقه إلى الضعيف الذي لا حيلة له ولا متكسب فيه، كما يسوقه إلى الجلد القوي ذي المرة السوي.
قال سبحانه: { وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ } [العنكبوت: 60]، وقال تعالى: { * وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا } [هود: 6] "(1).
وقال ابن الأثير رحمه الله تعالى: " (الرزاق): وهو الذي أعطى الأرزاق وأعطى الخلائق أرزاقها وأوصلها إليهم"(2).
وقال السعدي رحمه الله تعالى: " (الرزاق) لجميع عباده فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ورزقه لعباده نوعان:
1- رزق عام شمل البر والفاجر والأولين والآخرين وهو رزق الأبدان.
2- ورزق خاص وهو رزق القلوب وتغذيتها بالعلم والإيمان والرزق الحلال الذي يعين على صلاح الدين. وهذا خاص بالمؤمنين على مراتبهم منه بحسب ما تقتضيه حكمته ورحمته"(3).
ويقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في نونيته:
"وكذلك الرزَّاق من أسمائِهِ والرزْقُ من أفْعَاله نوعانِ
رزقٌ على يدِ عبده ورسوله نوعان أيضًا ذان معروفان
رزقُ القُلوب العلم والإيمان والـ رزق المُعَدُّ لهذه الأبدانِ
هذا هو الرزقٌ الحلالُ وربُّنَا رزَّاقه والفضل للمنانِ
والثاني سوْقُ القُوتِ للأعضاءِ في تلك المجاري سَوْقِهِ بوِزَانِ
هذا يكون من الحلالِ كما يكـ ون من الحرامِ كلاهما رزقان
والله رَازقُهُ بهذا الاعتبا ر وليس بالإطلاق دُونَ بيان"(4)
من آثار الإيمان بهذين الاسمين الكريمين:
__________
(1) شأن الدعاء ص 54.
(2) النهاية 2/219.
(3) تفسير السعدي 5/302.
(4) النونية 2/234.(1/407)
أولاً: محبة الله - عز وجل - وإفراده سبحانه بالعبادة والانخلاع من الشرك بجميع أنواعه وأشكاله، لأن الخالق لعباده والرازق لهم هو وحده المستحق للعبادة وحده لا شريك له، وهذا ما احتج به سبحانه على المشركين حيث قال - عز وجل -: { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) } [يونس: 31]، فنبه الله سبحانه إلى الاستدلال على توحيده وإفراده بالعبادة أنه سبحانه المتفرد بالخلق والرزق والتدبير، ولذا قال سبحانه منكرًا على المشركين شركهم: { وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) } [النحل: 73].
وقال أيضًا: { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ Nن3ح !%x.uژà° مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) } [الروم: 40].
ثانيًا: إن اليقين بأنه سبحانه المتفرد برزق عباده، المتكفل بأقواتهم وأنه لا مانع لما أعطي ولا معطي لما منع، إن اليقين بذلك يثمر التوكل الصادق على الله - عز وجل - والتعلق به وحده مع فعل الأسباب الشرعية في طلب الرزق وعدم التعلق بها، لأنه سبحانه خالق الأسباب ومسبباتها، وهذا بدوره يثمر الطمأنينة في القلب والسكينة وعدم الهلع والخوف على الرزق، لأن الله - عز وجل - هو المتكفل بأرزاق عباده: { * وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا } [هود:6]، ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها.(1/408)
يقول الأستاذ محمد قطب حفظه الله تعالى: "يقول سبحانه وتعالى: { إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) } [الذاريات: 58]، ولو أنك سألت أي إنسان في الطريق: من الذي يرزقك لقال لك على البديهة: الله، ولكن انظر إلى هذا الإنسان إذا ضيق عليه في الرزق، يقول: فلان يريد قطع رزقي! فما دلالة هذه الكلمة؟
دلالتها أن تلك البديهة ذهنية فحسب، وبديهة تستقر في وقت السلم والأمن، ولكنها تهتز إذا تعرضت للشدة؛ لأنها ليست عميقة الجذور... فلا يصلح لتلك الأعباء إلا شخص قد استقر في قلبه إلى درجة اليقين أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وأن الله هو المحيي المميت، وأن الله هو الضار النافع، وأن الله هو المعطي والمانع، وأن الله هو المدبر، وأن الله هو الذي بيده كل شيء... "(1).
ثالثًا: كما يثمر هذا اليقين ترك الأسباب المحرمة في طلب الرزق، وعدم الخوف من المخلوق في قطع الرزق، والاستعلاء على الباطل وأهله عندما يساومون المؤمن على رزقه في ترك الحق أو فعل الباطل. وهذه شنشنة المنافقين في القديم والحديث يقول الله - عز وجل -: { هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) } [المنافقون: 7].
يقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: "وهي قولة يتجلى فيها خبث الطبع، ولؤم النحيزة، وهي خطة التجويع التي يبدو أن خصوم الحق والإيمان يتواصون بها على اختلاف الزمان والمكان، في حرب العقيدة ومناهضة الأديان، ذلك أنهم لخسة مشاعرهم يحسبون لقمة العيش هي كل شيء في الحياة كما هي في حسهم فيحاربون بها المؤمنين.
إنها خطة قريش وهي تقاطع بني هاشم في الشعب لينفضُّوا عن نصرة رسول الله × ويسلموه للمشركين!
__________
(1) واقعنا المعاصرص 486.(1/409)
وهي خطة المنافقين -كما تحكيها هذه الآية- لينفضَّ أصحاب رسول الله × عنه تحت وطأة الضيق والجوع!
وهي خطة الشيوعيين في حرمان المتدينين في بلادهم من بطاقات التموين، ليموتوا جوعًا أو يكفروا بالله، ويتركوا الصلاة!
وهي خطة غيرهم ممن يحاربون الدعوة إلى الله وحركة البعث الإسلامي في بلاد الإسلام، بالحصار والتجويع ومحاولة سد أسباب العمل والارتزاق..
وهكذا يتوافى على هذه الوسيلة الخسيسة كل خصوم الإيمان، من قديم الزمان، إلى هذا الزمان..ناسين الحقيقة البسيطة التي يذكرهم القرآن بها قبل ختام هذه الآية: { وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) } ...
ومن خزائن الله في السموات والأرض يرتزق هؤلاء الذين يحاولون أن يتحكموا في أرزاق المؤمنين، فليسوا هم الذين يخلقون رزق أنفسهم، فما أغباهم وأقل فقههم وهم يحاولون قطع الرزق عن الآخرين!
وهكذا يثبت الله المؤمنين ويقوي قلوبهم على مواجهة هذه الخطة اللئيمة والوسيلة الخسيسة التي يلجأ أعداء الله إليها في حربهم، ويطمئنهم إلى أن خزائن الله في السماوات والأرض هي خزائن الأرزاق للجميع"(1).
رابعًا: معرفة دلالة اسمه سبحانه (الرزاق) على أسمائه سبحانه (اللطيف، الحكيم، الرحيم) وغيرها من الأسماء الحسنى، حيث إن المتكفل بأرزاق جميع خلقه لا يمكن أن يكون إلا قادرًا مقتدرًا على فعل كل ما يشاء، وكونه سبحانه يعم برزقه حتى الكفرة والعصاة فهذا من عظيم لطفه ورحمته، قال تعالى: { اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) } [الشورى: 19].
وقال سبحانه عن دعاء إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - في دعائه: { وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ } ... الآية
[البقرة: 126].
__________
(1) في ظلال القرآن 6/3579.(1/410)
وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال النبي ×: (ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله، يدعون له الولد ثم يعافيهم ويرزقهم)(1).
أما دلالته على اسمه سبحانه (الحكيم) فهذا بين من تفاوت أرزاق العباد، حيث جعل سبحانه بحكمته بعض عباده غنيًا وبعضهم فقيرًا، وبعضهم بين ذلك وله سبحانه الحكمة البالغة.
قال سبحانه: { إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) } [الإسراء: 30].
وقال سبحانه: { * وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) } [الشورى: 27].
خامسًا: المحبة العظيمة التي يثمرها هذا الاسم الكريم في قلوب أولياء الله عز وجل وأصفيائه، حيث مَنَّ عليهم بأعظم الرزق وأنفعه ألا وهو رزق العلم النافع، والعمل الصالح، والهداية إليه، والتقرب إليه، والأنس بطاعته، وسلوك الطريق الموصلة لمرضاته وجناته، وهذا هو الرزق على الحقيقة، أما رزق البهائم والكفار فهو منقطع ومنتهي ولذلك لما ذكر سبحانه فضله على العباد بعامة ذكر امتنانه على عباده الموحدين بالرزق الخاص في الدنيا بالإيمان وبالجنة في الآخرة، قال سبحانه: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [الأعراف: 32].
وقال سبحانه: { كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) } [الإسراء: 21].
__________
(1) البخاري (6099)، مسلم (2804).(1/411)
سادسًا: إن أعظم ما استجلب به رزق الله والبركة فيه تقوى الله - عز وجل - وطاعته قال سبحانه: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } [الطلاق: 203].
وقال عز وجل: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } [الأعراف: 96]، وقال سبحانه: { وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) } [الجن: 16]، وليست العبرة بكثرة الرزق ولكن بالبركة فيه. وقد يحرم الله - عز وجل - عبده المؤمن شيئًا من الدنيا رحمة به ورفقًا ولطفًا.
ومادام أن الطاعة باب إلى الرزق والبركة فإن العكس صحيح أيضًا ذلك أن المعصية باب إلى نقص الرزق أو بركته أو كون الرزق بابًا للعاصي إلى النكد والشقاء.
قال - عز وجل -: { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) } [النحل: 112].
وما دام الرزق بيد الله سبحانه فإنه يطلب منه وحده دون سواه فعندما ينقطع القطر من السماء فإنه يشرع الاستغاثة والاستعانة به وحده.(1/412)
سابعًا: ينبغي للمؤمن الموحد أن يجعل أكبر همه السعي لنيل الرزق الأعظم والفضل الأكبر ألا وهو رضا الله سبحانه وجنته، فالجنة أعظم الرزق وأفضله وأكرمه قال سبحانه: { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِن اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) } [الحج: 58، 59]، وقال - عز وجل -: { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) } [الطلاق: 11]، فاللَّهم ارزقنا رضاك والجنة وأنت خير الرازقين.
ثامنًا: إيمان العبد باسمه سبحانه (الرزاق) يبعد عن القلب الشح والبخل؛ لأن الشعور بأن ما في اليد من رزق فهو من الله وحده وما في القلب من علم وهداية. فالمانُّ به سبحانه فهو رزقه وفضله، إن هذا الشعور يدفع بالمؤمن إلى التواضع والجود بما رزقه الله سبحانه من علم أو مال أو جاه في سبيل الله تعالى وإيصاله للمحتاجين إليه، فسعة الرزق ابتلاء من الله تعالى لعبده لينظر ما يفعل به ويختبر شكره، قال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ } [الأنعام: 165]، وقال سبحانه: { وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) } [الحديد: 7].(1/413)
تاسعًا: وما دام أنه سبحانه الرزاق وكل ما في الأرض من رزق فهو منه سبحانه هو الذي خلقه وأعده وهيأه لعباده، فإنه لا يجوز لمخلوق مهما كان وضعه وعقله وملكه أن يحلل ما حرم الله - عز وجل - من الرزق أو يحرم ما أحله الله تعالى، فإن التحليل والتحريم من خصائص ربوبيته سبحانه، ومن نازعه فيها فقد أشرك بالله تعالى في ربوبيته، ومن أطاع مخلوقًا في تحليل ما حرمه الله تعالى أو تحريم ما أحله فقد اتخذه إلهًا من دون الله إذا كان عالمًا وراضيًا.
قال سبحانه عن النصارى: { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) } [التوبة: 31]، ونهى سبحانه عن طاعة المشركين في أكل الميتة التي حرمها الله تعالى، وأخبر أن هذه الطاعة شرك فقال: { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى َOخgح !$uد9÷rr& لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) } [الأنعام: 121]، وقال سبحانه: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) } [يونس: 59].
- - -
(63) [الفتاح]
ورد هذا الاسم الكريم في القرآن مفردًا مرة واحدة وذلك في قوله تعالى: { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) } [سبأ: 26].
كما ورد أيضًا مرة واحدة بصيغة التفضيل في قوله - عز وجل -: { د$uZ/u' افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) } [الأعراف: 89].
المعنى اللغوي:(1/414)
(الفتح) نقيض الإغلاق، والفتح: النصر، والاستفتاح: طلب النصر.
وقال الأزهري: "الفتح: أن تحكم بين قوم يختصمون إليك كما قال سبحانه مخبرًا عن شعيب: { رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) } [الأعراف: 89]، أي: اقض بيننا، والفُتاحة والفِتاحة: أن تحكم بين خصمين. قال الأسعر الجعفي:
ألا من مبلغ عمرًا رسولاً فإني عن فُتاحتِكم غني
والفتاح من أبنية المبالغة(1).
وقال الراغب: "الفتح إزالة الإغلاق والإشكال وذلك ضربان أحدهما: يدرك بالبصر كفتح الباب ونحوه: { وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ }
[يوسف: 65].
والثاني: يدرك بالبصيرة كفتح الهم وهو إزالة الغم، وذلك على ضروب، أحدها: في الأمور الدنيوية كغم يفرج، وفقر يزال بإعطاء المال ونحوه، كقوله تعالى: { لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } [الأعراف: 96].
والثاني: فتح المستغلق من العلوم، نحو قولك: فلان فتح من العلم بابًا مغلقًا وفتح القضية فتاحًا فصل الأمر فيها، وإزالة الإغلاق عنها"(2).
معناه في حق الله تعالى:
قال قتادة رحمه الله تعالى: "افتح بيننا وبين قومنا بالحق: اقض بيننا وبين قومنا بالحق"(3).
قال الخطابي رحمه الله تعالى: " (الفتاح) هو الحاكم بين عباده.. وقد يكون معنى (الفتاح) أيضًا الذي يفتح أبواب الرزق والرحمة لعباده، ويفتح المنغلق عليهم من أمورهم وأسبابهم، ويفتح قلوبهم وعيون بصائرهم، ليبصروا الحق، ويكون الفاتح أيضًا بمعنى الناصر"(4).
ويقول ابن القيم - رحمه الله تعالى - في نونيته:
وكذلك الفتاح من أسمائه والفتح في أوصافه أمران
فتح بحكم وهو شرع الرضا والفتح بالأقدار فتح ثان
__________
(1) انظر اللسان 5/3337، وتفسير الأسماء للزجاج ص 39، والنهاية لابن الأثير 3/406.
(2) المفردات للراغب الأصفهاني ص 370.
(3) تفسير الطبري 9/3.
(4) شأن الدعاء ص 56.(1/415)
والرب فتاح بذين كليهما عدلاً وإحساناً من الرحمن"(1)
ويؤكد الشيخ السعدي - رحمه الله تعالى - ما قاله ابن القيم - رحمه الله تعالى - في نونيته فيقول: "فالفتاح هو الحكم المحسن الجواد، وفتحه تعالى قسمان: أحدهما فتحه بحكمه الديني وحكمه الجزائي، والثاني: الفتاح بحكمه القدري.
ففتحه بحكمه الديني هو شرعه على ألسنة رسله جميع ما يحتاجه المكلفون، ويستقيمون به على الصراط المستقيم، وأما فتحه بجزائه فهو فتحه بين أنبيائه ومخالفيهم، وبين أوليائه وأعدائه بإكرام الأنبياء وأتباعهم ونجاتهم، وبإهانة أعدائهم وعقوباتهم، وكذلك فتحه يوم القيامة وحكمه بين الخلائق حين يوفي كل عامل ما عمله، أما فتحه القدري فهو ما يقدره على عباده من خير وشر ونفع وضر وعطاء ومنع، قال تعالى: { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) } [فاطر: 2].
فالرب تعالى هو الفتاح العليم الذي يفتح لعباده الطائعين خزائن جوده وكرمه، ويفتح على أعدائه ضد ذلك، وذلك بفضله وعدله"(2).
ونخلص من الأقوال السابقة إلى أن اسم (الفتاح) يشمل المعاني التالية:
1- الحاكم الذي يقضي بين عباده بالحق والعدل بأحكامه الشرعية والقدرية الجزائية.
2- الذي يفتح لعباده أبواب الرحمة والرزق وما انغلق عليهم من الأمور.
3- أنه بمعنى الناصر لعباده المؤمنين وللمظلوم على الظالم.
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (الفتاح):
__________
(1) النونية الأبيات 3329 - 3331.
(2) الحق الواضع المبين ص 84، 85.(1/416)
أولاً: محبته سبحانه والتعلق به وحده الذي بيده مقاليد كل شيء وهو الذي بيده مفاتيح العلم والهدى والخير والرحمة والرزق، ومفاتيح ما انغلق من الأمور، فحري بمن يملك هذه المفاتيح ولا يملكها أحد سواه أو أن يُتعلق به ويُتوكل عليه فلا يرجى إلا هو، ولا يدعى إلا هو، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، قال سبحانه: { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } [فاطر: 2].
وعند قوله تعالى: " { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا } .. الآية"، يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: "وما من نعمة - يمسك الله معها رحمته - حتى تنقلب هي بذاتها نقمة، وما من محنة - تحفها رحمة الله - حتى تكون هي بذاتها نعمة... ينام الإنسان على الشوك مع رحمة الله - فإذا هو مهاد، وينام على حرير - وقد أمسكت عنه - فإذا هو شوك القتاد، ويعالج أعسر الأمور - برحمة الله - فإذا هي هوادة ويسر، ويعالج أيسر الأمور - وقد تخلت رحمة الله - فإذا هي مشقة وعسر.
ويخوض بها المخاوف والأخطار فإذا هي أمن وسلام، ويعبر بدونها المناهج والمسالك فإذا هي مهلكة وبوار ولا ضيق مع رحمة الله، إنما الضيق في إمساكه دون سواه، لا ضيق ولو كان صاحبها في غياهب السجن، أو في شعاب الهلاك، ولا وسعة مع إمساكها ولو تقلب الإنسان في أعطاف النعيم، وفي مراتع الرخاء، فمن داخل النفس برحمة الله تتفجَّر ينابيع السعادة والرضا والطمأنينة، ومن داخل النفس مع إمساكها تدب عقارب القلب والتعب والنصب والكدر والمعاناة... "(1).
__________
(1) في ظلال القرآن 5/2922.(1/417)
ولذا فينبغي التضرع دائمًا لله تعالى الذي بيده مفاتيح كل شيء والتوسل باسمه (الفتاح) في فتح القلوب لهدايته ومعرفة الحق والانقياد له وعلى الفتح منه لأبواب الرحمة والرزق والخير، وعلى الفتح على الأعداء، فإنه سبحانه المالك لذلك كله وحده لا شريك له، وكلما كان العبد تقيًا مخلصًا صادقًا كانت الفتوحات الربانية تترا إليها؛ ولذا نجد فهم السلف الصالح وعلمهم أوسع وأصوب ممن جاء بعدهم، قال الله تعالى: { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ } [البقرة: 282].
ثانيًا: الخوف منه سبحانه ومن الوقوف بين يديه - عز وجل - يوم القيامة للفصل والحساب، حيث يفتح بين عباده ويحكم بينهم بالحق والعدل. وهذا الخوف يثمر الحذر من الظلم بأنواعه وبخاصة ظلم العباد والتعدي على حقوقهم؛ لأن الله الحكم العدل الفتاح العليم لا يظلم عنده أحد وسيقتص للمظلوم من ظالمه في يوم الفصل والحساب وقد سمى الله - عز وجل - يوم القيامة بيوم الفتح، وذلك في قوله سبحانه: { قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) }
[السجدة: 29].
ثالثًا: الثقة في نصر الله تعالى وفتحه لعباده المؤمنين فهو سبحانه الذي يأتي بالفتح بين عباده المؤمنين وأعدائه الكافرين ومنه النصر والتمكين، فلا يجوز بحال أن يتطرق إلى نفس المؤمن اليأس من فتحه سبحانه ونصره إذا أبطأ فله سبحانه الحكمة من تأخير الفتح والنصر. وإذا انعقدت أسباب النصر وانتفت موانعه جاء نصر الله وفتحه، وحينئذ: { يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) } [الروم: 4 - 5].
وقد توجه الرسل - عليهم الصلاة والسلام - إلى ربهم الفتاح سبحانه أن يفتح بينهم وبين أقوامهم المعاندين فيما حصل بينهم من الخصومة والجدال.(1/418)
قال نوح عليه الصلاة والسلام: { قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) } [الشعراء: 117، 118].
وقال شعيب عليه الصلاة والسلام: { رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) } [الأعراف: 89].
وقال: { وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) } [إبراهيم: 15].
وقد استجاب الله سبحانه لرسله ولدعائهم ففتح بينهم وبين أقوامهم بالحق، فنجى الرسل وأتباعهم وأهلك المعاندين المعرضين عن الإيمان بآيات الله وهذا من الحكم بينهم في الحياة الدنيا.
رابعًا: لما كان فتحه سبحانه نوعين: فتحه بحكمه الشرعي، وفتحه بحكمه القدري، فإن هذا الفهم يثمر في قلب المؤمن اغتباطه بفتحه سبحانه الشرعي الديني الذي هو شرعه على ألسنة رسله - عليهم الصلاة والسلام - وتوحيده وسؤال الله - عز وجل - الثبات عليه، كما أنه يثمر تفويض الأمور إلى فتحه بحكمه القدري وسؤال الله - عز وجل - الفتاح العليم مفاتيح الخير وما كان عاقبته خير والاستعاذة به من مفاتيح الشر وما يؤول إليه.
اقتران اسمه سبحانه (الفتاح) باسمه سبحانه (العليم):
ورد هذا الاقتران مرة واحدة في القرآن الكريم وذلك في قوله تعالى: { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) } [سبأ: 26]، وقد سبق ذكر وجه هذا الاقتران عند الحديث عن اسمه سبحانه (العليم) فليرجع إليه.
- - -
(64) [المبين]
ورد اسمه سبحانه (المبين) في القرآن الكريم مرة واحدة وذلك في قوله تعالى: { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) } [النور: 25].
المعنى اللغوي لـ (المبين):(1/419)
قال في اللسان: "بان الشيء بيانًا إذا اتضح فهو بين، وأبان الشيء فهو مبين، وأبنته أنا: أي أوضحته، واستبان الشيء: وضح واستبنته أنا: عرفته، وتبين الشيء: وضح وظهر.
والتبيين: الإيضاح والوضوح، والبيان: الفصاحة واللَّسن"(1).
وقال الزجاجي: "(المبين) اسم الفاعل من أبان فهو مبين إذا أُظهر وبين إما قولاً وإما فعلاً"(2).
معناه في حق الله تعالى:
قال ابن جرير - رحمه الله تعالى - "وقوله: { وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) } [النور: 25]، يقول يعلمون يومئذٍ أنَّ الله هو الحق الذي يُبيِّنُ لهم حقائق ما كان يعدهم في الدنيا من العذاب، ويزول حينئذٍ الشك فيه عن أهل النفاق الذين كانوا فيما يَعدهم في الدنيا يمترون"(3).
وقال الزجاجي بعد أن بين المعنى اللغوي للاسم: ".. فالله تبارك وتعالى المبين لعباده سبيلَ الرشاد، والموضِّح لهم الأعمال الموجبة لثوابه والأعمال الموجبة لعقابه،والمبين لهم ما يأتونه ويَذَرُونه"(4).
وقال الخطابي: " (المبينُ) هو البَيِّنُ أمْرُهُ في الوحدانية، وأنه لا شريك له"(5).
وفي ضوء ما سبق يظهر لنا أن (المبين) له معنيان:
الأول: ظهور الله - عز وجل - بظهور الأدلة على وجوده ووحدانيته في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، واستقرار ذلك في العقول والفطر، يضاف إليها الأدلة السمعية التي أنزلها الله - عز وجل - في كتبه وعلى لسان رسله عليهم الصلاة والسلام.
الثاني: إظهار الله - عز وجل - الحق للخلق وإبانته لهم ومن ذلك تعريفه نفسه سبحانه لعباده وإقامته الأدلة الواضحة البينة على كمال أسمائه وصفاته المقتضية لوحدانيته وإفراده وحده بالعبادة.
__________
(1) اللسان 1/403 - 404، والصحاح 5/2082، شأن الدعاء ص 102.
(2) اشتقاق أسماء الله ص 180.
(3) تفسير الطبري 18/84.
(4) اشتقاق الأسماء ص 181.
(5) شأن الدعاء ص 102.(1/420)
وقد وصف الله - عز وجل - كتابه الكريم بأنه (مبين) كما في قوله - عز وجل -: { الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) } [يوسف: 1]، ووصفه بأنه (تبيانًا) لكل شيء وذلك في قوله سبحانه: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } .. الآية [النحل: 19].
ووصف نبيه × بأنه (مبين) كما في قوله سبحانه: { أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) } [الدخان:13].
وقوله سبحانه: { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) } [الأعراف: 184].
"ففي القرآن البيان الشامل الواضح لكل ما يحتاجه بنو الإنسان في حياتهم بأفصح عبارة وأجمل أسلوب.
في القرآن بيان كل شيء من البداية إلى النهاية، حتى يستقر أهل الجنة في نعيمهم وأهل النار في جحيمهم.
فمعرفة الله ومعرفة أسمائه وصفاته، وما يجب له تعالى وما لا يجب، والعقيدة الإسلامية، وأحكام العبادات والمعاملات، وجميع الشؤون الاجتماعية، والأحوال الشخصية، وكل ما تحتاجه المجموعة البشرية، في كل زمان ومكان، وأحكام المعاد والبعث والنشور، والحساب والجزاء والعقاب وغير ذلك مما هو مبين وموضح، وصدق الله تعالى: { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } [الأنعام 38]، { وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) } [الإسراء: 12]"(1).
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (المبين):
__________
(1) الهدى والبيان في أسماء القرآن، للشيخ صالح البليهي - رحمه الله تعالى - ص 172 (باختصار).(1/421)
أولاً: محبته سبحانه المتجلية في رحمته سبحانه لعباده، حيث أبان لهم الحق والآيات في الآفاق وفي الأنفس الدالة على وجوده سبحانه ووحدانيته، وأقام عليهم الحجة بإنزال الكتب وإرسال الرسل الذين يعرفون الخلق بربهم سبحانه وأسمائه وصفاته وما تقتضيه من إفراده سبحانه بربوبيته وألوهيته، وتجريد المحبة والإخلاص والخوف والرجاء له وحده؛ حيث أبان لهم الخير وحثهم عليه، وعرَّفهم بالشر وحذرهم منه؛ وذلك في كتابه وسُنَّة نبيه ×.
ثانيًا: قيام الحجة على الخلق بهذا البيان مع ما قام في العقول والفطر من الآيات البينات الدالة على وحدانيته سبحانه وتفرده بالخلق والأمر، ولكن من رحمته سبحانه أنه لا يعذب عباده بحجة العقل والفطرة، وإنما بعد إرسال الرسل وبيانهم للناس كما قال تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) } [الإسراء: 15]، وقوله سبحانه: { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) } [النساء: 165].
ثالثًا: الإعجاز البياني للقرآن الكريم الذي هو كلام الله عز وجل (المبين) الذي تحدى عظماء العرب وبلغاءهم بأن يأتوا بآية من مثله فلم يستطيعوا، وهذا من الأدلة الكثيرة على أن القرآن كلام الله - عز وجل - منه بدأ وإليه يعود.
اقتران اسمه سبحانه (المبين) باسمه - عز وجل - (الحق):
قد سبق ذكر وجه هذا الاقتران عند الكلام عن اسمه (الحق) فليرجع إليه.
- - -
(65) [الهادي]
ورد اسمه سبحانه (الهادي) في القرآن الكريم مرتين وذلك في قوله تعالى: { وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) } [الفرقان: 31]، وقوله سبحانه: { وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) } [الحج: 54].
المعنى اللغوي:
"الهُدَى: الرَّشَاد والدلالةُ، يؤنَّث ويذكر.(1/422)
يقال: هَدَاه الله للدين هُدَى، وقوله تعالى: { أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } [السجدة: 26]، قال أبو عمرو بن العلاء: أو لم يُبَيِّن لهم.
وهديته الطريق والبيت هِدَايةً أي: عَرَّفته"(1).
"والهُدى: إخراج شيءٍ إلى شيء.
والهُدَى: الطاعة والورع.
والهدى أيضًا: النهار"(2).
قال الزجاجي رحمه الله: " (والهادي): الدليل، ويقال: هديت الطريق، وهديته للطريق، وهديته إلى الطريق بثلاث لغات"(3).
معناه في حق الله تعالى:
قال ابن جرير: " { وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) } [الحج: 54]: وإن الله لمُرشد الذين آمنوا بالله ورسوله إلى الحقِّ القاصد، والحق الواضح"(4).
وقال في قوله تعالى: { وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا } : "قوله تعالى ذكره لنبيه: وكفاك يا محمد بربك هاديًا يهديك إلى الحق، ويُبَصِّرُكَ الرشد"(5).
وقال الزجاج: " (الهادي) هو الذي هَدَى خلقه إلى معرفته وربُوبيته، وهو الذي هدى عباده إلى صراطه المستقيم، كما قال تعالى: { وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) } [يونس: 25]"(6).
وقال الزجاجي رحمه الله تعالى: "الله - عز وجل - (الهادي) يهدي عباده إليه، ويَدُّلهم عليه، وعلى سبيل الخير والأعمال المقربة منه عز وجل"(7).
وقال الخطابي: " (الهادي) هو الذي مَنَّ بُهَداهُ على من أراد من عباده فخصَّهُ بهدايته، وأكرمه بنورِ توحيده كقوله تعالى: { وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) } [يونس: 25].
__________
(1) انظر (الصحاح) 6/2533.
(2) انظر لسان العرب 6/4639.
(3) اشتقاق الأسماء ص 187.
(4) تفسير الطبري 17/134.
(5) المصدر السابق 19/8.
(6) تفسير الأسماء ص64
(7) اشتقاق الأسماء ص187.(1/423)
وهو الذي هَدَى سائر الخلق من الحيوان إلى مصالحها، وألْهمها كيف تطلب الرزق وكيف تتقي المضار والمهالك كقوله تعالى: { الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) } [طه: 50] " (1).
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: " (الهادي) أي الذي يهدي ويرشد عباده إلى جميع المنافع وإلى دفع المضار، ويعلمهم ما لا يعلمون، ويهديهم لهداية التوفيق والتسديد، ويلهمهم التقوى ويجعل قلوبهم منيبة إليه منقادة لأمره"(2).
ويبين الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - أنواع الهداية فيقول: "اعلم أن أنواعَ الهداية أربعة:
أحدها: الهداية العامة المشتركة بين الخلق، المذكورة في قوله تعالى: { الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) } [طه: 50]، أي: أعطى كل شيء صورتهُ التي لا يشتبه فيه بغيره، وأعطى كل عضو شكلهُ وهيئته، وأعطى كل شيء موجودٍ خلْقهُ المختصَّ به، ثم هداه إلى ما خلَقهُ له من الأعمال.
وهذه هدايةُ الحيوان المتحرِّك بإرادته إلى جلب ما ينفعُه ودفع ما يضرُّه، وهداية الجَمَادِ المسخر لما خُلِق له، فله هدايةٌ تليقُ به، كما أن لكلٌ نوع من الحيوان هداية تليقُ به، وإن اختلفت أنواعُها وصُوَرُها.
وكذلك كلٌ عضو له هداية تليقُ به فهدى الرّجلين للمشي، واليدين للبطش والعمل، واللسان للكلام، والأذن للاستماع، والعين لكشف المرئيات، وكل عضو لما خُلق له، وهدى الزّوجين من كل حيوان إلى الأزدواج والتناسل وتربية الولد، وهدى الولد إلى التقام الثدْي عند وضعه وطلبه. ومراتب ُ هدايته سبحانه لا يُحصيها إلا هو، فتبارك الله ربُّ العالمين.
__________
(1) شأن الدعاء ص 95 - 96.
(2) تفسير السعدي 5/305.(1/424)
وهدى النحل أن تتخذ من الجبال بيوتًا، ومن الشَّجَرِ ومن الأبنية، ثم تسلك سُبل ربها مذللة لها، لا تستعصي عليها، ثم تأوي إلى بيوتها، وهداها إلى طاعة يعسوبها واتباعه والائتمام به أين توجه بها، ثم هداها إلى بناء البيوت العجيبة الصّنعة، المحكمة البناء، ومن تأمَّل بعض هدايته المبثوثة في العالم شهد له بأنه الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم.
وانتقل من معرفة هذه الهداية إلى إثبات النبوة بأيسر نظر وأول وهلة وأحسن طريق وأخصرها وأبعدها من كل شبهة، فإن من لم يهمل هذه الحيوانات سدى ولم يتركها معطلة، بل هداها إلى هذه الهداية التي تعجز عقول العقلاء عنها، كيف يليقُ به أن يترك النوع الإنساني الذي هو خلاصة الوجود، الذي كرمه وفضله على كثير من خلقه مهملاً وسدىً معطلاً، لا يهديه إلى أقصى كمالاته وأفضل غاياته، بل يترُكُه معطلاً لا يأمره ولاينهاه ولا يُثيبُه ولا يعاقبه؟ وهل هذا إلا منافٍ لحكمته ونسبته له مما لا يليقُ بجلاله؟!
ولهذا أنكر ذلك على من زعمه، ونزه نفسه عنه، وبيَّن أنه يستحيلُ نسبةُ ذلك إليه، وأنه يتعالى عنه، فقال تعالى: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ } [المؤمنون: 115 - 116]، فنزه نفسَه عن هذا الحُسبان، فدلَّ على أنه مستقر بطلانه في الفطر السليمة والعقول المستقيمة، وهذا أحدُ ما يدُلُّ على إثبات المعاد بالعقل، وأنه مما تظاهر عليه العقل والشرع كما هو أصح الطريقين في ذلك.(1/425)
ومن فهم هذا فهم سر اقتران قوله تعالى: { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) } [الأنعام: 38]، بقوله: { وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِن اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آَيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) } [الأنعام: 37]، وكيف جاء ذلك في معرض جوابهم عن هذا السؤال والإشارة به إلى إثبات النبوة، وأن من لم يهمل أمر كل دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه، بل جعلها أممًا وهداها إلى غاياتها ومصالحها، كيف لا يهديكم إلى كمالكم ومصالحِكم؟! فهذا أحد أنواع الهداية وأعمُّها.
النوع الثاني: هداية البيان والدَّلالة، والتّعريف لِنجْدي الخير والشّر وطريقي النّجاة والهلاك، وهذه الهداية لا تستلزمُ الهدى التامَّ، فإنها سببٌ وشرط لا موجب، ولهذا لا ينبغي الهدى معها، كقوله تعالى: { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } [فصلت: 17]، أي: بيّنا لهم وأرشدناهم ودللناهم فلم يهتدوا، ومنها قوله: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) } [الشورى: 52].(1/426)
النوع الثالث: هداية التوفيق والإلهام وهي الهداية المستلزمة للاهتداء، فلا يتخلُّفُ عنها، وهي المذكورةُ في قوله: { يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [فاطر: 8]، وفي قوله: { إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ } [النحل: 37]، وفي قول النبي ×: (من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له)، وفي قوله تعالى: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [القصص: 56]، فنفى عنه هذه الهداية ، وأثبت له هداية الدعوة والبيان في قوله: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) } [الشورى: 52].
النّوع الرابع: غاية هذه الهداية وهي الهداية إلى الجنة والنّار إذا سيق أهلُها إليهما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) } [يونس: 9]، وقال أهل الجنة فيها: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا } [الأعراف: 43]، وقال تعالى عن أهل النار: { * احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) } [الصافات: 22 - 23] "(1).
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (الهادي)
أولاً: محبة الله - عز وجل - وتعظيمه والثناء عليه، حيث أعطى كل شيء خلقه وهداه إلى ما لا بد منه في قضاء حاجاته، وأعظم من ذلك هدايته سبحانه لعباده حيث أنزل الكتب وأرسل الرسل لبيان سبل الهدى والحق والتحذير من طريق الغواية والضلال، ومنح لعباده العقول التي تدلهم على الله - عز وجل - وتهديهم إليه بما أودع في هذا الكون من الآيات الباهرات التي تدل على وحدانيته سبحانه.
__________
(1) بدائع الفوائد ص 330 - 333، ت: صالح اللحام وخلدون خالد "دار ابن حزم".(1/427)
ثانيًا: لما كانت هداية التوفيق والإلهام لا يملكها إلا الله - عز وجل - فإن هذا يشعر العبد بافتقاره التام إلى ربه سبحانه في طلب هذه الهداية والإعانة عليها، قال الله تعالى: { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [القصص: 56]، ولذا كان على العبد أن يسأل ربه سبحانه ويتضرع إليه بأن يهديه ويثبته ويوفقه.
وحتى هداية الدلالة والإرشاد هي الأخرى لا يملكها على الحقيقة إلا الله تعالى وإنما يختار سبحانه من يشاء من عباده من الرسل والمصلحين في هداية الناس إلى الحق وبيانه لهم، ولولاه سبحانه لما اهتدى أحد سواء كانت هذه الهداية هداية الإرشاد أو هداية التوفيق.
والهداية أكبر نعمة يُنْعِم بها (الهادي) سبحانه على عبده، إذْ كل نعمة دونها زائلة ومضمحِلَّة، وبقدر هدايته تكون سعادته في الدنيا، وطيب عيشه وراحة باله، وكذا فوزه ودرجته في الآخرة.
والأنبياء - صلوات الله عليهم، وهم أكمل الناس إيمانًا وهداية - كانوا يسألون الله تعالى أن يهديهم، فهذا موسى - عليه السلام - يقول: { إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } [الأعراف: 155].
وكذا يوسف عليه السلام قال: { تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) }
[يوسف: 101].
وسليمان - عليه السلام - قال: { رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) } [النمل: 19].(1/428)
وكان خاتم النبيين × يسأل ربه تعالى الهداية في دعواته وصلاته، فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "كان × إذا قام من الليل افتتح صلاته: (اللَّهمَّ ربَّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيلَ، فاطرَ السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنتَ تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهْدني لما اخْتِلفَ فيه من الحقِّ بإذنك، أنت تهدي من تشاءُ إلى صراطٍ مستقيم) (1).
وكان يقول: (اللَّهمَّ إني أسألك الهُدى والتُّقى والعَفَافَ والغنى) (2).
وقال لعليَّ - رضي الله عنه -: (قُل: اللَّهم اهدني وسدِّدْني، واذْكُر بالهُدى هدايَتَكَ الطريق، والسَّداد سدادَ السهم) (3).
وأمرت هذه الأمة بأن تسأل الله تعالى الهداية في كلِّ ركعة من صلاتها في قوله سبحانه: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) } [الفاتحة: 6، 7].
وعلم الرسول × الحسن بن عليَّ - رضي الله عنهما - أن يقول: (اللَّهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت) (4).
وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام: (اللَّهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت، وإليك أنبت وبك خاصمت، أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون) (5).
هذا هو دعاء الرسول × وهو الهادي المهدي المعصوم من الضلال فكيف بنا نحن الضعفاء المعرَّضون لفتن الشبهات والشهوات؟ إن حاجتنا لطلب الهداية من مالكها سبحانه أشد من حاجتنا إلى الطعام والشراب.
__________
(1) مسلم (770).
(2) مسلم (2721).
(3) مسلم (2725).
(4) أخرجه أحمد 1/199، وأبو داود (1425)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، انظر النهج الأسمى 2/275، 276.
(5) مسلم (2717).(1/429)
ثالثًا: سعي المؤمن إلى أن يكون هاديًا إلى الله - عز وجل - وإلى صراطه المستقيم وذلك بنشر العلم والدعوة إلى الله سبحانه، وإرشاد الناس إلى الحق، وتحذيرهم من الباطل الذي يؤول بهم إلى سخط الله وعذابه.
اقتران اسمه سبحانه (الهادي) باسمه سبحانه (النصير):
جاء ذلك في قوله تعالى: { وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا } [الفرقان:31].
ويرجع لمعرفة وجه هذا الاقتران إلى الكلام عن اسمه سبحانه (النصير).
- - -
ورد اسمه سبحانه (الحكم) في القرآن الكريم مرة واحده وذلك في قوله تعالى: { أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا } [الأنعام: 114].
وورد في السُّنة قوله ×: (إن الله هو الحكم، وإليه الحُكم)(1) ، وهناك من أدخل اسمه (الحاكم)، في عداد أسمائه الحسنى، حيث ورد في القرآن خمس مرات بصيغة التفضيل؛ منها:
قوله تعالى: { فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) }
[الأعراف: 87].
وقوله: { رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) } [هود: 45].
وقوله تعالى: { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8) } [التين: 8].
المعنى اللغوي:
قال الزجاج: "والحكم والحاكم بمعنى واحد، وأصل: (ح ك م ) في الكلام: المنع، وسمي الحاكم حاكمًا، لأنه يمنع الخصمين من التظالم وحكمة الدابة سميت حكمة لأنها تمنعها من الجماح"(2) أهـ.
وقال في اللسان: "قال ابن الأثير: في أسماء الله تعالى الحكم، الحكيم، وهما بمعنى الحاكم وهو القاضي، فهو فعيل بمعنى فاعل، أو هو الذي يُحكم الأشياء ويتقنها فهو فعيل بمعنى: مفعل"(3).
معناهما في حق الله عز وجل:
__________
(1) رواه أبو داود (4955)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، (4145).
(2) تفسير الأسماء ص 43.
(3) لسان العرب 2/951.(1/430)
قال ابن جرير في تفسير قوله تعالى: { أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا } [الأنعام: 114]، قل: فليس لي أن أتعدى حكمه وأتجاوزه؛ لأنه لا حكم أعدل منه ولا قائل أصدق منه(1).
قال القرطبي: "والمعنى أفغير الله أطلب لكم حاكمًا"(2).
وقال الخطابي: "الحكم: الحاكم ومنه المثل: "في بيته يؤتى الحكم" وحقيقته هو الذي سلم له الحكم ورد إليه فيه الأمر، كقوله تعالى: { لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) } [القصص: 88].
وقوله: { أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) } [الزمر: 46] " (3).
قال ابن كثير: وقوله تعالى: { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8) } [التين: 8]، أي: أما هو أحكم الحاكمين الذي لا يجور ولا يظلم أحدًا"(4).
وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "ومن أسمائه الحكم العدل الذي يحكم بين عباده في الدنيا، والآخرة بعدله، وقسطه، فلا يظلم مثقال ذرة، ولا يُحمِّل أحدًا وزر أحد، ولا يجازي العبد بأكثر من ذنبه، ويؤدي الحقوق إلى أهلها، فلا يدع صاحب حق إلا وصل إليه حقه.
وهو العدل في تدبيره، وتقديره: { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) } [هود: 56].
__________
(1) المصدر السابق نفسه.
(2) تفسير القرطبي 7/70.
(3) شأن الدعاء ص 61.
(4) تفسير ابن كثير 4/527.(1/431)
والحكم العدل الذي إليه الحكم في كل شيء فيحكم تعالى بشرعه، ويبين لعباده جميع الطرق التي يحكم بها بين المتخاصمين، ويفصل بين المتنازعين، من الطرق العادلة الحكيمة، ويحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، ويحكم فيها بأحكام القضاء، والقدر، فيجري عليهم منها ما تقتضيه حكمته، ويضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها، ويقضي بينهم يوم الجزاء، والحساب، فيقضي بينهم بالحق، ويحمده الخلائق على حكمه حتى من قضى عليهم بالعذاب يعترفون له بالعدل، وأنه لم يظلمهم مثقال ذرة"(1).
أيهما أبلغ الحَكَم أم الحاكم؟
قال القرطبي: "قيل: إن الحَكَم أبلغ من الحاكِم؛ إذ لا يستحق التسمية بحَكَم إلا من يحكم بالحق، لأنها صفة تعظيم في مدح، والحاكم جارية على الفعل فقد يسمى بها من يحكم بغير الحق"(2). أهـ.
قال الراغب الأصفهاني رحمه الله: "ويقال: حاكم وحكام لمن يحكم بين الناس، قال الله تعالى: { وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ } [البقرة: 188]، والحكم: المتخصص بذلك، فهو أبلغ. وقال الله تعالى: { أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا } [الأنعام: 114](3).
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (الحكم):
أولاً إن أول ما يقتضيه اسمه سبحانه (الحكم) هوالرضى بحكمه - عز وجل - والتسليم له، وأنه لا حكم يعلو على حكمه سبحانه وأنه لا أحسن منه حكمًا ولا شريك له - عز وجل - في حكمه، كما أنه لا شريك له في عبادته.
__________
(1) توضيح الكافية الشافية ص 127، والحق الواضح المبين ص 80.
(2) تفسير القرطبي 7/70.
(3) المفردات ص 127.(1/432)
قال سبحانه: { وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) } [الكهف: 26]، وقال عز وجل: { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) } [المائدة: 50]، وقال سبحانه عن يوسف عليه السلام وهو يدعو صاحبي السجن: { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } [يوسف: 40].
والحكم الذي لله - عز وجل - ثلاثة أحكام هي من موجبات اسمه الحَكم:
الأول: الحكم الكوني القدري: وهو نوعان:
1- نوع يمكن مدافعته، فعلى المسلم فعل الأسباب في مدافعته فيدفع قدر الجوع بقدر الأكل والشرب، ويدافع المرض بالعلاج المشروع، وكل ما يمكن مدافعته من المصائب يدفع بأضدادها فإن نفع الله بها فالحمد لله وإن لم ينفع الله بها فلله الحمد على ذلك وتكون من النوع التالي.
2- نوع لا يمكن مدافعته أو تمت مدافعته فلم ينفع الله بالأسباب فموقف المسلم حينئذ الرضى والتسليم لحكم الله - عز وجل - واليقين بأنه سبحانه حكيم عليم لطيف له الحمد في أسمائه وصفاته وأفعاله.
الثاني: الحكم الديني الشرعي:
وليس أمام المسلم أمام هذا النوع من الحكم إلا التسليم والإذعان، والقبول قال الله - عز وجل -: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } [الأحزاب: 36]، وقال سبحانه: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) } [النساء: 65].(1/433)
وقال سبحانه: { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) } [الشورى: 10].
ولازم هذا الإيمان الكفر بكل قوانين البشر ودساتيرهم التي تعارض حكم الله وشرعه المطهر، وعدم الرضا بغير شرع الله بديلاً، وترك التحاكم إلى حكم الجاهلية ودساتيرها الجاهلية الجائرة.
وأنقل بهذه المناسبة كلامًا نفيسًا للشيخ الشنقيطي - رحمه الله تعالى - حول هذه المسألة.
يقول رحمه الله تعالى: "اعلم أن الله - عز وجل - بين في آيات كثيرة صفات من يستحق أن يكون الحكم له، فعلى كل عاقل أن يتأمل الصفات المذكورة التي سنوضحها الآن - إن شاء الله - ويقابلها مع صفات البشر المشرعين للقوانين الوضعية، فينظر هل تنطبق عليهم صفات من له التشريع؟
سبحان الله وتعالى عن ذلك، فإن كانت تنطبق عليهم ولن تكون، ليتبع تشريعهم.
وإن ظهر يقينًا أنهم أحقر وأخس وأذل وأصغر من ذلك، فليقف بهم عند حدهم، ولا يجاوزه بهم إلى مقام الربوبية.
سبحانه وتعالى أن يكون له شريك في عبادته، أو حكمه أو ملكه.
فمن الآيات القرآنية التي أوضح بها تعالى صفات من له الحكم والتشريع قوله هنا: { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } [الشورى: 10]، ثم قال مبينًا صفات من له الحكم: { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) } [الشورى: 10 - 12].(1/434)
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين للنظم الشيطانية، من يستحق أن يوصف بأنه الرب الذي تفوض إليه الأمور، ويتوكل عليه، وأنه فاطر السماوات والأرض أي: خالقهما ومخترعهما على غير مثال سابق، وأنه هو الذي خلق للبشر أزواجًا، وخلق لهم أزواج الأنعام الثمانية المذكورة في قوله تعالى: { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ } [الأنعام: 143]، الآية، وأنه: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } وأنه: { لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } ، وأنه هو الذي: { يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ } [الرعد: 26]، أي: يضيقه على من يشاء وهو: { مبe@ن3خ/ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
فعليكم أيها المسلمون أن تتفهموا صفات من يستحق أن يشرع ويحلل ويحرم، ولا تقبلوا تشريعًا من كافر خسيس حقير جاهل.
ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) } [النساء: 59]، فقوله فيها: { فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ } كقوله في هذه: { فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } .
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: { لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِع مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) } [الكهف: 26].
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأن له غيب السماوات والأرض؟ وأن يبالغ في سمعه وبصره لإحاطة سمعه بكل المسموعات وبصره بكل المبصرات؟ وأنه ليس لأحد دونه من ولي؟ سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا؟
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: { وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) }(1/435)
[القصص: 88].
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين من يستحق أن يوصف بأنه الإله الواحد؟ وأن كل شيء هالك إلا وجهه؟ وأن الخلائق يرجعون إليه؟ تبارك ربنا وتعاظم وتقدس أن يوصف أخس خلقه بصفاته.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: { ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) [غافر: 12].
فهل في الكفرة الفجرة المشرعين النظم الشيطانية، من يستحق أن يوصف في أعظم كتاب سماوي، بأنه العلي الكبير؟
سبحانك ربنا وتعاليت عن كل ما لا يليق بكمالك وجلالك.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: { وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) } [القصص: 70 - 73].
فهل في مشرعي القوانين الوضعية، من يستحق أن يوصف بأن له الحمد في الأولى والآخرة، وأنه هو الذي يصرف الليل والنهار مبينًا بذلك كمال قدرته، وعظمة إنعامه على خلقه؟
سبحان خالق السماوات والأرض، جل وعلا أن يكون له شريك في حكمه أو عبادته، أو ملكه.(1/436)
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) }
[يوسف: 40].
فهل في أولئك من يستحق أن يوصف بأنه هو الإله المعبود وحده، وأن عبادته وحده هي الدين القيم؟"(1) أهـ باختصار.
الثالث: الحكم الجزائي:
وهو الحكم الذي يحكم به (الحكم العدل) بين عباده يوم القيامة بمجازاتهم على أعمالهم، والحكم بين المتخاصمين والمختلفين، وإظهار الحق ورد المظالم إلى أهلها.
قال تعالى: { قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) } [الزمر: 46].
وقوله سبحانه: { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) } [الحج 56، 57].
__________
(1) أضواء البيان 7/163 - 173.(1/437)
وهذا النوع من الحكم هو من مقتضيات اسمه سبحانه (الحكم)، والإيمان بهذا يثمر في قلب العبد الخوف من الله - عز وجل - في هذه الدنيا، والالتزام بشريعته والقيام بما يرضيه والابتعاد عن مساخطه حتى إذا جاء يوم الحكم والجزاء يكون من الفائزين المصلحين، كما يثمر أيضًا البعد عن مظالم العباد وعدم الاعتداء على حقوقهم؛ لأن وراء ذلك يوم الفصل والقضاء حيث يحكم الله - عز وجل - فيه بحكمه ولا يُظلم عنده أحدٌ قال - عز وجل -: { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) } [النمل: 78]، وقال سبحانه: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) } [الأنبياء: 47].
- - -
(68) [الرؤوف]
ورد اسمه سبحانه (الرؤوف) في القرآن الكريم (10 مرات) منها:
قوله تعالى: { y$tBur كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِن اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) } [البقرة: 143]، { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) } [الحج: 65].
وقوله سبحانه: { وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) } [الحديد:9].
وقوله تبارك وتعالى: { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) } [النور: 20].
وقوله تعالى: { وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } [آل عمران: 30].
ويلاحظ أن منها ثمان آيات جاء فيها هذا الاسم مقترنًا باسمه سبحانه (الرحيم)؛ كما سبق ذكره.
المعنى اللغوي:
جاء في الصحاح "الرأْفَةُ: أشدُّ الرحمة، قال أبو زيد: رَؤُفْتُ بالرجل أرْؤُفُ به رأْفةً ورآفةً، ورأفْت به أرأف، ورِئفتُ به رأفًا، قال: كل من كلام العرب، فهو رؤوفٌ على فَعُولٍ"(1).
__________
(1) الصحاح 4/1362.(1/438)
وقال في اللسان: "الرأفة: الرحمة، وقيل: أشد الرحمة"(1).
وقال الزَّجَّاج: "يقال: إنَّ الرأفةَ والرحمة واحدٌ، وقد فرَّقوا بينهما أيضًا، وذلك أن الرأفةَ هي المنزلةُ الثانية، يقال: فلانٌ رحيم، فإذا اشتدَّت رحمته، فهو رَؤُوفٌ"(2).
المعنى في حق الله تعالى:
قال ابن جرير - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ : } "إن الله: بجميع عباده ذو رأفة، والرأفة أعلى معاني الرحمة، وهي عامة لجميع الخلق في الدنيا ولبعضهم في الآخرة"(3).
وقال الخطابي: " (الرؤوف) هو الرحيم العاطف برأفته على عباده، وقال بعضهم: الرأفة أبلغ الرحمة وأرقها، ويقال: إن الرأفة أخص والرحمة أعم، وقد تكون الرحمة في الكراهة للمصلحة، ولا تكاد الرأفة تكون في الكراهة فهذا موضع الفرق بينهما"(4).
ويؤكد هذا الفرق القرطبي بقوله: "إن الرأفة نعمة ملذة من جميع الوجوه، والرحمة قد تكون مؤلمة في الحال ويكون عقباها لذة، ولذا قال سبحانه: { وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } [النور: 2]، ولم يقل: رحمة، فإن ضرب العصاة على عصيانهم رحمة لهم لا رأفة؛ فإن صفة الرأفة إذا انسدلت على مخلوق لم يلحقه مكروه.
فلذلك تقول لمن أصابه بلاءٌ في الدنيا، وفي ضمنه خير في الأخرى: إن الله قد رَحِمه بهذا البلاء، وتقول لمن أصابه عافية في الدنيا، في ضمنها خير في الأخرى واتصلت له العافية أولاً وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا: إنَّ الله قد رأف به"(1).
__________
(1) اللسان 3/1535.
(2) تفسير الأسماء ص 62، وانظر اشتقاق الأسماء للزجاجي ص 86.
(3) تفسير الطبري 2/12.
(4) شأن الدعاء ص 91.(1/439)
قال الأُقليشي: "فتأمل هذه التفرقة بين الرأفة والرحمة، ولذلك جاءا معًا، فقال: { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } وعلى هذا الرأفة أعمُّ من الرحمة، فمتى أراد الله بعبدٍ رحمةً أنعم عليه بها، إلا أنها قد تكون عقيب بلاءٍ، وقد لا تكون، والرأفة بخلاف ذلك"(1).
ذكر شيء من آثار رأفته سبحانه بعباده:
يذكر هنا ما ذكر منه آثار رحمته سبحانه عند الكلام عند اسميه سبحانه (الرحمن، الرحيم) ويضم إلى ذلك آثار أخرى تستنبط من الآيات التي ضمنت باسميه سبحانه (الرؤوف الرحيم)، ومنها:
أولاً: أن من رأفته سبحانه أنه لا يبطل عمل عباده الذين صلوا قبل تحويل القبلة، فقد تساءل الصحابة - رضي الله عنهم - عن عملهم وعمل إخوانهم الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس بعد أن حولت القبلة إلى الكعبة، فأنزل الله: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِن اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) } [البقرة: 143].
ثانيًا: ومن رأفته سبحانه أنه أخبر عباده بما سيلاقونه في يوم القيامة، حيث تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا، وهذا الإخبار من رأفته، حتى يستعد الناس لذلك اليوم: { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) } [آل عمران: 30].
ثالثًا: ومن رأفته تبارك وتعالى إنزاله الكتاب على رسوله × ليخرجنا من ظلمات الكفر والشرك إلى نور الحق ودين الإسلام: { هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) } [الحديد: 9].
__________
(1) ، (2) نقلاً عن كتاب النهج الأسمى في شرح أسمائه الحسنى محمد حمود النجدي 2/216.(1/440)
رابعًا: ومن رأفته توبته على عباده: { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) }
[التوبة: 117].
خامسًا: ومن رأفته سبحانه تسخيره لنا وسائل النقل المتمثلة في الجمال والخيول والبغال والحمير قديمًا، والسيارات والطائرات حديثًا: { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِن رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) } [النحل: 7].
سادسًا: والمؤمن الحق الذي يعلم أن ربّه رؤوف رحيم دائمًا يلجأ إلى الله باسمه الرؤوف داعيًا ومناديًا طالبًا منه أن يرأف به، ويرحمه: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) } [الحشر: 10] (1).
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (الرؤوف):
تراجع هذه الآثار عند الكلام عن آثار الإيمان باسمه (الرحمن الرحيم).
اقتران اسمه سبحانه (الرؤوف) باسمه سبحانه (الرحيم):
سبق ذكر وجه هذا الاقتران عند الكلام على اسمه سبحانه (الرحمن الرحيم) فليرجع إلى ذلك.
- - -
(69) [الودود]
ورد اسمه سبحانه (الودود) مرتين في كتاب الله - عز وجل - وذلك في قوله سبحانه: { وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) [هود: 90].
وقوله - عز وجل -: { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) } [البروج: 14].
المعنى اللغوي:
قال في اللسان: "الوُدَّ مصدرُ المودة. وقال ابن سيده: الودُّ الحبُّ يكون في جميع مداخل الخير، عن أبي زيد.
__________
(1) انظر أسماء الله الحسنى للأشقر ص 258، 259.(1/441)
وَوَدِدْتُ الشيء أوَدُّ، وهو من الأمنية.
قال الفرّاء: هذا أفضل الكلام، وقال بعضهم: وَدَدْتُ والفعل منه يَوَدُّ لا غير.
ذكر هذا في قوله تعالى: { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ } [البقرة: 96]، أي: يتمنى"(1).
وقال الجوهري: "ودِدْتُ الرجل أوَدُّه وُدًا، إذا أحببته، والوُدُّ والوَدُّ والوِدُّ: الموَدَّةُ، تقول: بوُدِّي أن يكون كذا.
والوَدُودُ المحبُّ"(2).
وقال الزجاج: " (الودود) يجوز أن يكون فعولاً بمعنى فاعل، ويجوز أن يكون فعولاً بمعنى مفعول"(3).
وقال الراغب: "الودّ محبة الشيء وتمني كونه، ويستعمل في كل واحد من المعنيين، على أن التمني يتضمَّن معنى الوُد لأن التمني هو تشهي حصول ما تودُّه"(4).
المعنى في حق الله تعالى:
قال ابن جرير رحمه لله تعالى: " (ودود) يقول: ذو محبةٍ لمن أناب وتاب إليه يوده ويحبه"(5).
وقال في قوله: { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ } "يقول تعالى ذكره وهو ذو المغفرة لمن تاب إليه من ذنوبه، وذو المحبة له"(6).
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:
"أما (الودود) ففيه قولان:
أحدهما: أنه بمعنى فاعل، وهو الذي يُحِبُّ أنبياءه ورسله وأولياءه وعباده المؤمنين.
والثاني: أنه بمعنى مودود، وهو المحبوب الذي يستحقُّ أن يُحَبَّ الحبَّ كلَّه، وأن يكون أحبَّ إلى العبد من سمعه وبصره وجميع محبوباته"(7).
وقال في نونيته:
"وهو الوَدُودَ يُحبِّهُمْ ويُحِبُّه أحبابُه والفضلُ للمنَّانِ
وهو الذي جعل المحبة في قلو بِهم وجازاهم بحُبِّ ثانِ
هذا هو الإحسانُ حقّاً لا مُعَا وَضَة ولا لتَوَقُعِ الشُكْرانِ"(8)
__________
(1) اللسان 6/4793.
(2) الصحاح 2/549.
(3) تفسير الأسماء ص 52.
(4) المفردات ص 516.
(5) تفسير الطبري 12/64.
(6) نفس المصدر 30/89.
(7) جلاء الأفهام ص 447.
(8) الكافية الشافية: الأبيات (3296 - 3298).(1/442)
وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "الودود هو المحب المحبوب بمعنى واد ومودود"(1)، وقال أيضًا: "فهو الذي يحب أنبياءه ورسله وأتباعهم ويحبونه، فهو أحب إليهم من كل شيء قد امتلأت قلوبهم من محبته، ولهجت ألسنتهم بالثناء عليه، وانجذبت أفئدتهم إليهم ودًا وإخلاصًا وإنابة من جميع الوجوه"(2).
وقال أيضًا: "ولا تعادل محبة الله من أصفيائه محبة أخرى، لا في أصلها ولا في كيفيتها ولا في متعلقاتها وهذا هو الفرض، والواجب أن تكون محبة الله في قلب العبد سابقة لكل محبة عالية كل محبة وبقية المحاب تبعًا لها، ومحبة الله هي روح الأعمال، وجميع العبوديات الظاهرة والباطنة ناشئة عن محبة الله"(3).
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (الودود):
أولاً: محبة الله - عز وجل - المحبة الحقيقية التي تثمر إخلاص العبودية له وحده وتقديم محابه سبحانه على ما سواها كما أنها تستلزم محبة من يحبه الله - عز وجل - وما يحبه، ويبغض من يبغضه وما يبغضه وهذه هي حقيقة الولاء والبراء.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
"وليس ما يستحق أن يكون هو المحبوب لذاته، المراد لذاته، المطلوب لذاته، المعبود لذاته، إلا الله. كما أنه ليس ما هو بنفسه مبدع خالق إلا الله، فكما أنه لا ربّ غيره، فلا إله إلا هو، فليس في المخلوقات ما يستقل بإبداع شيء حتى يكون ربًا له، ولكن ثمَّ أسباب متعاونة ولها فاعل هو سببها.
وكذلك ليس في المخلوقات ما هو مستحق لأن يكون المستقلّ بأن يكون هو المعبود المقصود المراد بجميع الأعمال، بل إذا استحق أن يُحب ويُراد، فإنما يراد لغيره، وله ما شاركه في أن يحب معه، وكلاهما يجب أن يحب لله، لا يُحب واحدٌ منهما لذاته، إذ ليست ذاته هي التي يحصل بها كمال النفوس وصلاحها وانتفاعها، إذا كانت هي الغاية المطلوبة...
__________
(1) الحق الواضح المبين ص 69.
(2) تفسير السعدي 5/631.
(3) الحق الواضح المبين ص 69 - 70.(1/443)
ولهذا وجب التفريق بين الحب مع الله، والحب لله. الأول شرك والثاني إيمان.
قال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ } [البقرة: 165].
وقال: { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } [التوبة: 24].
فليس لأحد أن يحب شيئًا مع الله وأما الحبُّ لله فقال × في الصحيح: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذا أنقذه الله منه، كما يكره أن يُلقى في النار) (1)"(2).
ثانيًا: قوة باعث الرجاء فيه وحده سبحانه وحسن الظن به، وعدم اليأس من روحه سبحانه ورحمته.
ثالثًا: الأنس به سبحانه والطمأنينة إلى ذكره، والتضرع إليه سبحانه وحلاوة مناجاته، وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "فمن ظهر له اسم (الودود) مثلاً؛ وكشف له عن معاني هذا الاسم ولطفه وتعلُّقه بظاهر العبد وباطنه: كان الحال الحاصل له من حضرة هذا الاسم مناسبًا له، فكان حال اشتغال حبٍّ وشوقٍ ولذةِ لا أحلى منها، ولا أطيب؛ بحسب استغراقه في شهود معنى هذا الاسم وحظِّه من أثره...
__________
(1) البخاري (21).
(2) درء تعارض العقل والنقل 9/374 - 376 (باختصار).(1/444)
وكذلك إن كان اسم فاعل بمعنى الوادِّ - وهو المحبُّ -: أثمرت له مطالعة ذلك حالاً تناسبه، فإنه إذا شاهد بقلبه غنيّاً كريمًا جوادًا عزيزًا قادرًا؛ كلُّ أحدٍ محتاجٌ إليه بالذات؛ وهو غنيُّ بالذات عن كلِّ ما سواه؛ وهو مع ذلك يودُّ عباده ويُحبُّهم ويتودَّد إليهم بإحسانه إليهم وتفضله عليهم: كان له من هذا الشهود حالة صافية خالصة من الشوائب، وكذلك سائر الأسماء والصفات، فصفاء الحال بحسب صفاء المعرفة بها؛ وخلوصها من دم التعطيل وفرث التمثيل، فتخرج المعرفة من بين ذلك فطرة خالصة سائغة للعارفين؛ كما يخرج اللبن: { مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا $Zَح !$y™ لِلشَّارِبِينَ (66) } [النحل: 66]"(1).
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "فتبارك الذي جعل وأودع المحبة في قلوب المؤمنين ثم لم يزل ينميها ويقويها حتى وصلت في قلوب الأصفياء إلى حالة تتضاءل عندها جميع المحاب، وتسليهم عن الأحباب وتهون عليهم المصائب، وتلذذ لهم مشقة الطاعة، وتثمر لهم ما يشاءون من أصناف الكرامات التي أعلاها محبة الله والفوز برضاه والأنس بقربه"(2).
__________
(1) مدارج السالكين 3/150.
(2) الحق الواضح ص 69 - 70.(1/445)
رابعًا: الاغتباط والفرح بالهداية إلى مذهب السلف الصالح الذين يثبتون ما أثبته الله - عز وجل - لنفسه أو أثبته له الرسول × من الأسماء والصفات من غير تشبيه ولا تعطيل ولا تكييف، ومن ذلك إثبات المحبة لله تعالى والإيمان بأنه سبحانه يُحِب ويُحَب وهذا معنى (الودود) وما يترتب على ذلك من الآثار والأحوال الإيمانية، وهذا يقتضي شكر الله - عز وجل - وحمده على هذه الهداية التي حُرمها أهل البدع من المعطلة والنفاة الذين ينفون أن الله - عز وجل - يُحِب أو يحب، وبذلك حرموا آثار كثير من أسمائه سبحانه وصفاته فضعفت أحوالهم وقست قلوبهم. ويقابل هؤلاء الجفاة قوم غلوا في محبتهم لله تعالى وادعائهم محبة الله لهم حتى أفضى بهم ذلك إلى الإدلاء على الله عز وجل، والخروج على أحكام الشريعة بحجة سقوط التكليف وبلوغهم درجة اليقين بزعمهم، ولذا قال من قال من السلف: (من عبد الله بالحب وحده تزندق).
خامسًا: اتباع الرسول × في أوامره ونواهيه وسنته كلها، لأن ذلك علامة محبة العبد لربه - عز وجل - كما أنها علامة محبة الله - عز وجل - لعبده.
قال سبحانه: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) } [آل عمران: 31].
وهذه الآية فيها امتحان صدق المحبة لله تعالى ولرسوله ×، لأنه ليس كل من ادعى المحبة فهو صادق فيها.
ومحبة الله - عز وجل - لعبده تطلب بفعل أسبابها وذلك بالإكثار من ذكره سبحانه والثناء عليه وقوة التوكل عليه والتقرب إليه بالفرائض والنوافل والإخلاص في ذلك كله كما جاء في الحديث القدسي؛ (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه... الحديث)(1).
__________
(1) رواه البخاري (6502).(1/446)
ومن ذلك بعض الأعمال التي أثنى الله - عز وجل - على أهلها وأخبر بأنه أحبهم عليها كما في قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) } [البقرة: 222]، وقوله تعالى: { وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) } [الحجرات: 9]، وقوله تعالى: { بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) } [آل عمران: 76]، وقوله تعالى: { وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) } [آل عمران: 146]، وقوله سبحانه: { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) } [آل عمران: 148]، وقوله - عز وجل -: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) } [آل عمران: 159]، وقوله - عز وجل -: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) } [الصف: 4].
ويتحدث ابن القيم - رحمه الله تعالى - عن الأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى فيقول: " الأسباب الجالبة للمحبة، والموجبة لها. وهي عشرة:
أحدها: قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به، كتدبر الكتاب الذي يحفظه العبد ويشرحه، ليتفهم مراد صاحبه منه.
الثاني: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، فإنها توصله إلى درجة المحبوبية بعد المحبة.
الثالث: دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب، والعمل والحال، فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من هذا الذكر.
الرابع: إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى، والتسنم إلى محابه، وإن صعب المرتقى.
الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته، ومشاهدتها ومعرفتها وتقلبه في رياض هذه المعرفة ومباديها؛ فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبه لا محالة. ولهذا كانت المعطلة والفرعونية والجهمية قطاع الطريق على القلوب بينها وبين الوصول إلى المحبوب.
السادس: مشاهدة بره وإحسانه وآلائه، ونعمه الباطنة والظاهرة، فإنها داعية إلى محبته.(1/447)
السابع: - وهو من أعجبها - إنكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى. وليس في التعبير عن هذا المعنى غير الأسماء والعبارات.
الثامن: الخلوة به وقت النزول الإلهي لمناجاته وتلاوة كلامه، والوقوف بالقلب والتأدب بأدب العبودية بين يديه، ثم خَتْم ذلك بالاستغفار والتوبة.
التاسع: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما ينتقى أطايب الثمر؛ ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام، وعلمتَ أن فيه مزيدًا لحالك، ومنفعة لغيرك.
العاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله - عز وجل -.
فمن هذه الأسباب العشرة وصل المحبون إلى منازل المحبة، ودخلوا على الحبيب. ومِلاك ذلك كله أمران: استعداد الروح لهذا الشأن، وانفتاح عين البصيرة، وبالله التوفيق"(1).
سادسًا: الحرص على الاتصاف بهذا الوصف بما يناسب حال المسلم وصفاته، وذلك بأن يكون (ودودًا) يُحِبُّ ويُحَبَ، يألف ويؤلف، كما جاء في الحديث الصحيح: (المؤمن يألف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف)(2) ، وذلك بأن يحب إخوانه المسلمين، ويحب الخير لهم، ويكف شره عنهم، ويتعامل معهم بالأخلاق الطيبة التي تجعلهم يحبونه ويألفونه.
اقتران اسمه سبحانه (الودود) باسه سبحانه (الغفور) وباسمه سبحانه (الرحيم):
__________
(1) مدارج السالكين 3/18، وقد شرح هذه الأسباب الشيخ عبد العزيز مصطفى كامل في رسالة مستقلة، أسماها [شرح الأسباب العشرة الموجبة لمحبة الله تعالى] فليرجع إليها فهي مفيدة ونافعة.
(2) مسند أحمد 5/235، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6661).(1/448)
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "وما ألطف اقتران اسم الودود بالرحيم؛ وبالغفور، فإن الرجل قد يغفر لمن أساء إليه ولا يُحبُّه، وكذلك قد يرحم من لا يُحِبُّ، والربُّ تعالى يغفر لعبده إذا تاب إليه؛ ويرحمه ويُحبُّه مع ذلك، فإنه: { يُحِبُّ التَّوَّابِينَ } [البقرة: 222]، وإذا تاب إليه عبده: أحبَّه؛ ولو كان منه ما كان"(1).
- - -
(70) [البَرُّ]
ورد اسمه سبحانه (البر) مرة واحدة في القرآن الكريم وذلك في قوله تعالى: { إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) } [الطور: 28].
المعنى اللغوي:
قال في اللسان: " (البَرُّ): الصدق والطاعة... وبرَّ يبُرُّ: إذا صلح.. وقد بر ربه، وبرت يمينه تَبرَّ وتَبِرُّ بَرَّاً وبِرَّاً وبرورًا: صدقت... والبرَّ والبار بمعنى والبَرُّ: الصادق، وفي التنزيل: { إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ قOSدmچ9$# } والبرُّ من صفات الله تعالى وتقدس: العطوف الرحيم اللطيف الكريم... والبِرُّ: ضد العقوق والمبرة مثله...
وجمع البر: أبرار وهو كثير يخص بالأولياء والزهاد والعباد"(2).
معنى الاسم في حق الله تعالى:
قال ابن جرير رحمه الله: " { إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ ق } يعني: اللطيف بعباده"(3).
وقال الزجاج - رحمه الله - بعد أن ذكر معنى (البر) لغة: "والله تعالى بَرٌّ بخلقه في معنى: أنه يُحْسِن إليهم، ويصلح أحوالهم"(4).
وقال الخطابي رحمه الله تعالى: "(البَرُّ) هو العَطُوفُ على عباده، المحسنُ إليهم، عَمَّ ببره جميع خلقه، فلم يَبْخلْ عليهم برزقه.
وهو البَرُّ بالمحْسنِ في مُضاعَفته الثواب له، والبرُّ بالمسيء في الصَّفْحِ والتجاوُزِ عنه.
وفي صفات المخلوقين: رجلٌ برٌّ وبارٌّ إذا كان ذا خيرٍ ونفع، ورجلٌ بَرٌّ بأبويه وهو ضِدُّ العاق"(5).
__________
(1) التبيان في أقسام القرآن ص 124.
(2) لسان العرب 1/252، 253.
(3) تفسير الطبري 27/18.
(4) تفسير الأسماء ص 61.
(5) شأن الدعاء ص 90.(1/449)
وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في نونيته:
"والبَرُّ في أوْصَافِهِ سُبحانه هو كَثْرةُ الخَيراتِ والإحْسَانِ
صَدَرَتْ عن البرِّ الذي هو وَصْفُه فالبر حينئذٍ نوعان
وَصفٌ وفعلٌ، فهو بَرٌّ مُحسنٌ مُولي الجَميل ودائم الإحسان"(1)
وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "وصفه البر وآثار هذا الوصف جميع النعم الظاهرة والباطنة فلا يستغني مخلوق عن إحسانه وبره طرفة عين"(2).
من آثار اسمه سبحانه (البرَّ):
إن كثيرًا مما ذكر من آثار أسمائه سبحانه (الرحيم، الرؤوف، اللطيف) يمكن أن يقال هنا في آثار اسمه سبحانه (البر) ومن ذلك:
أولاً: الله تبارك وتعالى بَرّ رحيم بعباده، عطوف عليهم، محسنٌ إليهم، مُصلح لأحوالهم في الدنيا والدين.
أما في الدنيا فما أعطاهم وقسم لهم من الصحة والقوة والمال والجاه والأولاد والأنصار، مما يخرج عن الحصر، قال سبحانه: { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا } [إبراهيم: 34]، فيدخل في ذلك كلُّ معروف وإحسان، لأنها ترجع إلى البر.
ويشترك في ذلك المؤمن والكافر.
وأما في الدين فما منَّ به على المؤمنين من التوفيق للإيمان والطاعات، ثم إعطائهم الثواب الجزيل على ذلك في الدنيا والآخرة، وهو الذي وفَّق وأعان أولاً، وأثاب وأعطى آخرًا.
فمنه الإيجاد، ومنه الإعداد، ومنه الإمداد، فله الحمد في الأولى والمعاد.
ثانيًا: من برِّه سبحانه بعباده إمهاله للمسيء منهم، وإعطاؤه الفرصة بعد الفرصة للتوبة، مع قدرته على المعاجلة بالعقوبة.
قال سبحانه: { وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ Wxح ِqtB (58) } [الكهف: 58].
قال الإمام ابن القيم- رحمه - الله في شرحه للطائف أسرار التوبة:
__________
(1) النونية 2/234.
(2) الحق الواضح المبين ص 82، 83.(1/450)
ومنها: أن يعرف بِرَّه سبحانه في سَتره عليه حال ارتكاب المعصية، مع كمال رؤيته له، ولو شاء لفضحه بين خلقه فحذروه، وهذا من كمال بره. ومن أسمائه (البَرُّ) وهذا البِرُّ من سيده كان به مع كمال غناه عنه، وكمال فقر العبد إليه، فيشتغل بمطالعة هذه المنة، ومشاهدة هذا البر والإحسان والكرم؛ فيذهل عن ذكر الخطيئة؛ فيبقى مع الله سبحانه. وذلك أنفع له من الاشتغال بجنايته. وشهود ذل معصيته. فإن الاشتغال بالله والغفلة عما سواه: هو المطلب الأعلى والمقصد الأسنى.
ولا يوجب هذا نسيان الخطيئة مطلقًا، بل في هذه الحال. فإذا فقدها فليرجع إلى مطالعة الخطيئة، وذكر الجناية. ولكل وقت ومقام عبودية تليق به"(1).
ثالثًا: الله تبارك وتعالى بارٌّ بأوليائه، صادقٌ فيما وعدهم به من الأجر والثواب: { وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ } [الأعراف: 44].
{ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) } [الزمر: 74].
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (البر):
أولاً: محبته سبحانه المحبة الحقيقية التي تقتضي عبادته وحده لا شريك له تقتضي شكره سبحانه وحمده على بره ورحمته ولطفه وكرمه حيث خلقنا وأمدنا بنعمه التي لا تعد ولا تحصى. وخص أولياءه بأعظم بره ورحمته ألا وهي هدايته لهم وتوفيقهم وتثبيتهم وإثابتهم على ذلك برضوانه وجنته.
ثانيًا: الله - جل شأنه- بَرٌّ يُحبُّ البِرَّ ويأمر به، ويحب من يتخلَّقُ به من عباده الأبرار.
__________
(1) مدارج السالكين 1/206.(1/451)
ومن أجمع الآيات التي ذكرت أعمال البرِّ قوله تعالى: { * لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ tû,خ#ح !$،،9$#ur وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) } [البقرة: 177].
وأثنى تعالى على ابني الخالة عيسى ويحيى - عليهما الصلاة والسلام - ببرهما أبويهما، فقال في وصف عيسى عليه الصلاة والسلام: { وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) } [مريم: 32]، وفي وصف يحيى عليه الصلاة والسلام: { وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) } [مريم: 14].
وجعل رسول الله × كلَّ الأخلاق الفاضلة الحسنة من البِرِّ، فعن النَّواس بن سمعان قال: سألت رسول الله × عن البِر والإثم؟ فقال: (البِرُّ حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس) (1).
ثالثًا: لن ينال العبدُ برَّ الله تعالى به في الآخرة إلا باتباع ما يُفضي إلى بره ومرضاته ورحمته، قال تعالى: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) } [آل عمران: 92].
وقد فُسِّر (البر) في هذه الآية بالجنة وثواب الله تعالى.
__________
(1) مسلم في البر والصله، وأحمد 4/182.(1/452)
ومما يدخل في هذا المعنى قوله ×: (إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلي الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب صديقًا، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل يكذب حتى يكتب كذابًا)(1).
اقتران اسمه سبحانه (البر) باسمه سبحانه (الرحيم):
سبق الكلام عن وجه هذا الاقتران في الكلام عن اسمه سبحانه (الرحيم) فليرجع إليه.
- - -
(71) [الحليم]
ورد اسمه سبحانه (الحليم) في القرآن الكريم إحدى عشرة مرة من ذلك.
قوله سبحانه: { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) } [البقرة: 225].
وقوله سبحانه: { وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) } [آل عمران: 155].
وقوله - عز وجل -: { وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) } [النساء: 12].
وقوله تعالى: { * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) } [البقرة: 263].
وقوله تبارك وتعالى: { إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) } [التغابن: 17].
كما جاء ذكر اسمه سبحانه (الحليم) في دعائه × عند الكرب ومنه: (لا إله إلا الله العظيم الحليم...) الحديث (2).
المعنى اللغوي:
"الحلم بالكسر: الأناةُ والعَقْلُ، وجمعه أحْلامٌ وحُلُومٌ، وأحلامُ القومِ: حُلماؤُهُم، ورجل حليمٌ من قومٍ أحلامٍ وحُلَماء.
وحَلُمَ يَحْلُمُ حِلْمًا: صار حَليمًا، وحَلُمَ عنه وتحَلَّمَ سواءٌ، تَحلَّم تكلَّف الحلم.
والحِلْمُ: نقيض السَّفَهِ.
__________
(1) البخاري (6094)، مسلم (2607)، وانظر النهج الأسمى 2/172-177 (باختصار).
(2) البخاري (6345)، ومسلم (2730).(1/453)
أمّا الحُلْمُ والحُلُمُ فهو الرُّؤْيا والجمع أحْلامٌ يقال: حَلَمَ يحْلُمُ: إذا رأى في المنام"(1).
وقال الراغب رحمه الله تعالى: "الحِلْمُ ضَبطُ النفس والطبع عن هيجان الغضب وجمعه أحلامٌ، قال تعالى: { أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ } [الطور: 32]، قيل معناه: عُقولُهُم وليس الحِلْمُ في الحقيقة هو العقلُ، لكن فسَّروه بذلك لِكونِهِ من مُسَبَّبَاتِ العقل"(2).
معناه في حق الله تعالى:
قال ابن جرير رحمه الله تعالى: "(حليم) يعني أنّه ذو أناة، لا يعجل على عباده بعقوبتهم على ذنوبهم"(3).
وقال في موضع آخر: "حليمًا عمّن أشرك وكفر به من خلقه، في تركه تعجيل عذابه له"(4).
وقال الخطابي رحمه الله تعالى: "هو ذو الصَّفحِ والأناةِ، الذي لا يَستفزُّهُ غضبٌ، ولا يَستَخِفُّهُ جهلُ جاهل، ولا عصيانُ عاصٍ.
ولا يستحق الصافح مع العجزِ اسم الحِلمِ، إنّما الحليمُ هو الصَّفُوحُ مع القدرة والمتأنّي الذي لا يَعجَلُ بالعقوبة.
وقد أوضح بعض الشعراء بيانَ هذا المعنى في قوله:
لا يدركُ المجدَ أقوامُ وإنْ كَرُمُوا
حتى يَذِلُّوا وإنْ عَزُّوا لأقوامِ
ويشتموا فترى الألوان مسفرة
لا صفح ذل ولكن صفح أحلام (5)
ويقول ابن القيم - رحمه الله تعالى - في نونيته:
"وهو الحليم فلا يعاجل عبده بعقوبة ليتوب من عصيان"(6).
ويقول في موطن آخر:
"شهود حلم الله - سبحانه وتعالى- في إمهال راكب الخطيئة ولو شاء لعاجله بالعقوبة ولكنه (الحليم) الذي لا يعجل فيحدث له ذلك معرفة ربه سبحانه باسمه (الحليم) ومشاهدة صفة الحلم والتعبد بهذا الاسم"(7).
__________
(1) انظر الصحاح 5/1903، واللسان 2/979 - 980.
(2) المفردات ص 129.
(3) تفسير الطبري 2/327.
(4) نفس المصدر السابق 22/95.
(5) شأن الدعاء ص 63 - 64.
(6) النونية 2/227.
(7) مدارج السالكين 1/206.(1/454)
ويقول أيضًا: "ولما كان اسم (الحليم) أدخل في الأوصاف، واسم (الصبور) في الأفعال، كان الحلم أصل الصبر وموقع الاستغناء بذكره في القرآن عن اسم الصبور"(1).
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "والحليم الذي يدر على خلقه النعم الظاهرة، والباطنة مع معاصيهم، وكثرة زلاتهم، فيحلم عن مقابلة العاصين بعصيانهم، ويستعتبهم كي يتوبوا، ويمهلهم كي ينيبوا"(2).
وقال في موطن آخر: "الحليم الذي له الحلم الكامل، والذي وسع حلمه أهل الكفر، والفسوق، والعصيان، ومنع عقوبته أن تحل بأهل الظلم عاجلاً، فهو يمهلهم ليتوبوا، ولا يهملهم إذا أصروا، واستمروا في طغيانهم، ولم ينيبوا... والله تعالى حليم عفو، فله الحلم الكامل، وله العفو الشامل، ومتعلق هذين الوصفين العظيمين معصية العاصين، وظلم المجرمين، فإن الذنوب تقتضي ترتب آثارها عليهما من العقوبات العاجلة المتنوعة. وحلمه تعالى يقتضي إمهال العاصين، وعدم معاجلتهم، ليتوبوا، وعفوه يقتضي مغفرة ما صدر منهم من الذنوب خصوصًا إذا أتوا بأسباب المغفرة من الاستغفار، والتوبة، والإيمان، والأعمال الصالحة، وحلمه وسع السماوات، والأرض، فلولا عفوه ما ترك على ظهرها من دابة، وهو تعالى عفو يحب العفو عن عباده، ويحب منهم أن يسعوا بالأسباب التي ينالون بها عفوه من السعي في مرضاته، والإحسان إلى خلقه.
ومن كمال عفوه أن المسرفين على أنفسهم إذا تابوا إليه غفر لهم كل جرم صغير، وكبير، وأنه جعل الإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها"(3).
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (الحليم):
أولاً: محبة الله - عز وجل - والحياء منه، حيث إن حلمه العظيم اقتضى الصبر على عباده العصاة، وعدم الاستعجال في عقوبتهم لعلهم يستعتبون ويتوبون.
__________
(1) عدة الصابرين ص 425.
(2) تفسير السعدي 5/630.
(3) الحق الواضح المبين ص 55، 56.(1/455)
فعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن رسول الله × قال: (ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله تعالى، إنهم يجعلون له ندًا ويجعلون له ولدًا وهو مع ذلك يرزقهم ويعافيهم ويعطيهم)(1).
ومن هذا شأنه يحب الحب كله ويستحي منه حق الحياء، وهذا يثمر في القلب الأنس به سبحانه والمبادرة إلى طاعته وترك معاصيه.
ولو عاجل الله - عز وجل - العصاة بعذابه ولم يحلم عليهم لما بقي على وجه الأرض أحد.
قال سبحانه: { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) } [النحل: 61].
وقال: { وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ Wxح ِqtB (58) } [الكهف: 58].
قال ابن جرير رحمه الله تعالى: "ولو يؤاخذ الله عصاة بني آدم بمعاصيهم: { مَا تَرَكَ عَلَيْهَا } يعني: الأرض من دابة تدبّ عليها { وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ } يقول: ولكن بحلمه يؤخِّر هؤلاء الظلمة، فلا يعاجلهم بالعقوبة: { إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } يقول: إلى وقتهم الذي وقَّتَ لهم: { فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ } يقول: فإذا جاء الوقت الذي وَقَّتَ لهلاكهم لا يستأخرون عن الهلاك ساعة فيمهلون، ولا يستقدمون قبله حتى يستوفوا آجالهم" أهـ(2).
ثانيًا: فتح باب الرجاء وعدم اليأس من رحمة الله تعالى والمبادرة إلى التوبة والإنابة عن الذنوب مهما عظمت؛ لأنه سبحانه ما أخَّر العقوبة على الذنب إلا للإنابة والتوبة، ولذلك اقترن اسمه سبحانه (الحليم) باسمه سبحانه (الغفور) في أكثر من آية.
__________
(1) رواه مسلم (2804).
(2) تفسير الطبري 14/85.(1/456)
ثالثًا: الحذر من غضبه سبحانه لأن (الحليم) إذا غضب لم يقف لغضبه شيء. وحلمه سبحانه صادر عن قوة وقدرة، والله - عز وجل - (الحليم) لا يغضب إلا على من لا يستحق الرحمة ولا يصلح في حقه الحلم، وذلك بعد أن يعطي المهلة والوقت الكافي، ليتوب ويهتدي فلم يستجب.
وقد ذكر الله - عز وجل - في كتابه الكريم ما فعله بأعدائه الكفرة عندما تمادوا في طغيانهم بعد أن حلم الله- عز وجل - عنهم وأمهلهم.
قال الله - عز وجل - : { فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) } [الزخرف: 55]، وقال: { كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) } [آل عمران: 11]، وقال: { وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40) } [الفرقان: 37 - 40].(1/457)
وقد يحلم الله - عز وجل - عن الكفار ويستأنى بهم ويرزقهم ولا يأخذهم بعقوبة في الدنيا، لكنه سبحانه لا يتأنى بهم في الآخرة ولا يصفح عنهم، بل تسوقهم ملائكة الرحمن إلى النار، فتحيط بهم، فلا يقبل رجاؤهم، ولا يخفف عذابهم: { فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) } [مريم: 68 - 72]، { يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) } [العنكبوت: 54].
رابعًا: ومن آثار حلمه سبحانه أنه لا يستجيب لاستعجال عباده بإنزال العقوبة بالكافرين، سواء كان ذلك من قبل المؤمنين في استعجالهم الفتح بينهم وبين القوم الكافرين أو كان ذلك من الكافرين الذين يستعجلون العذاب والله - عز وجل - يحلم عنهم ويؤخره عنهم.
قال الله - عز وجل - لنبيه ×: { قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) } [الأنعام: 58].
وقال له أيضًا: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) } [آل عمران: 128].
وقال عن الكافرين: { وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) } [ص: 16]، وقال سبحانه: { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِن يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) } [الحج: 47].(1/458)
ومع ذلك فالله - عز وجل - يحلم عنهم ويتأنى بهم فتبارك الله العظيم الحليم الذي له الحمد في السماوات والأرض، وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير.
خامسًا: مجاهدة النفس بالتخلق بهذا الخلق الكريم ألا وهو صفة (الحلم)، فهو سبحانه (حليم) يحب من عباده الحلماء، كريم يحب الكرماء.
وقد أثنى الله - عز وجل - على خليله ونبيه إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - بقوله: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) } [هود: 75].
وجعل من صفات نبيه إسماعيل - عليه الصلاة والسلام - الحلم، وذلك بقوله: { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) } [الصافات: 10]، وكان لرسولنا × النصيب الأوفر من هذا الخلق العظيم وسيرته العطرة تشهد بذلك.
كما جاء في الأثر مدح صفة الحلم وأنه من الأخلاق التي يحبها الله - عز وجل - حيث ثبت عنه × أنه قال لأشج عبد قيس: (إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة)(1).
والحلم الممدوح المحبوب لله - عز وجل - هو الحلم الناشئ عن القدرة، أما حلم العاجزين فليس بممدوح، وكذلك ينبغي أن لا يتكلف في الحلم حتى يصير ذلة ومهانة واستخفافًا من قبل السفهاء، ولا يفرَّط فيه حتى يصير طيشًا وجهلاً، وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "والفرق بين العفو والذل أن العفو إسقاط حقك جودًا وكرمًا وإحسانًا مع قدرتك على الانتقام، فتؤثر الترك رغبة في الإحسان ومكارم الأخلاق، بخلاف الذل، فإن صاحبه يترك الانتقام عجزًا وخوفًا ومهانة نفس، فهذا مذموم غير محمود، ولعل المنتقم بالحق أحسن حالاً منه، قال تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) } [الشورى: 39]"(2).
اقتران اسمه سبحانه (الحليم) ببعض الأسماء الحسنى:
أولاً: اقتران اسمه سبحانه (الحليم) باسمه سبحانه (العليم):
__________
(1) مسلم في الإيمان (18).
(2) الروح ص 513.(1/459)
ومن ذلك ما ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى في آخر آيات المواريث: { وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) } [النساء: 12].
وقوله سبحانه: { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) }
[الأحزاب: 51].
وعن وجه هذا الاقتران يرجع إلى الكلام عن اسمه سبحانه (العليم) فقد ذكر هنالك.
ثانيًا: اقتران اسمه سبحانه (الحليم) باسمه سبحانه (الغفور):
ورد ذلك ست مرات في القرآن الكريم ومن ذلك في قوله تعالى: { لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) } [البقرة: 225].
وعن وجه هذا الاقتران، يقول ابن عاشور رحمه الله تعالى: "ومناسبة اقتران وصف (الغفور) (بالحليم) هنا، دون (الرحيم) لأن هذه مغفرة لذنب هو من قبيل التقصير في الأدب مع الله تعالى، فلذلك وصف الله نفسه بالحليم، لأن الحليم هو الذي لا يستفزه التقصير في جانبه ولا يغضب للفعلة ويقبل المعذرة"(1).
ثم إن من مقتضى حلمه سبحانه أن يغفر ذنوب عباده ويتوب عليهم، ولا يؤاخذهم عليها.
ثالثًا: اقتران اسمه سبحانه (الحليم) باسمه سبحانه (الغني):
ورد ذلك مرة واحدة في القرآن وذلك في قوله سبحانه: { * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) } [البقرة: 263].
يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: "وختم الآية بصفتين مناسبتين لما تضمنته فقال: { وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ } ، وفيه معنيان:
__________
(1) التحرير والتنوير 2/184.(1/460)
أحدهما: أن الله غني عنكم لن يناله شيء من صدقاتكم، وإنما الحظ الأوفر لكم في الصدقة فنفعها عائد عليكم لا إليه سبحانه وتعالى، فكيف يمنُّ بنفقته ويؤذي مع غنى الله التام عنها وعن كل ما سواه، ومع هذا فهو حليم إذ لا يعاجل المانّ بالعقوبة. وفي ضمن هذا الوعيد والتحذير.
والمعنى الثاني: أنه سبحانه وتعالى مع غناه التام من كل وجه فهو الموصوف بالحلم والتجاوز والصفح، مع عطائه الواسع وصدقاته العميمة، فكيف يؤذي أحدكم بمنه وأذاه مع قلة ما يعطي ونزارته وفقره" (1).
ويقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: " { وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ } ، غني عن الصدقة المؤذية، حليم يعطي عباده الرزق فلا يشكروه فلا يعجلهم بالعقاب، ولا يبادرهم بالإيذاء وهو معطيهم كل شيء، ومعطيهم وجودهم ذاته قبل أن يعطيهم أي شيء. فليتعلم عباده من حلمه سبحانه فلا يعجلوا بالأذى والغضب على من يعطونهم جزءًا مما أعطاهم الله لهم حين لا يروقهم منه أمر أو لا ينالهم منهم شكر"(2).
وفي اقتران هذين الاسمين الكريمين دلالة أيضًا على أن حلمه سبحانه لم يكن عن عجز أو فقر أو حاجة وإنما عن غنى تام، وقدرة تامة والله أعلم.
رابعًا: اقتران اسمه سبحانه (الحليم) باسمه سبحانه (الشكور):
وذلك في قوله تعالى: { إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) } [التغابن: 17]، وذلك مرة واحدة في القرآن الكريم.
يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: " وتبارك الله ما أكرمه وما أعظمه، وهو ينشئ العبد ثم يرزقه ثم يسأله فضل ما أعطاه، قرضًا يضاعفه ثم يشكر لعبده الذي أنشأه وأعطاه، ويعامله بالحلم في تقصيره هو عن شكر مولاه .. يالله!! "(3).
خامسًا: اقتران اسمه سبحانه (الحليم) باسمه سبحانه (العظيم):
__________
(1) بدائع التفسير 1/421.
(2) في ظلال القرآن 1/308.
(3) نفس المصدر 6/3591.(1/461)
وذلك في دعائه × عند الكرب: (لا إله إلا الله العظيم الحليم...) الحديث(1).
ووجه الاقتران هنا بين فهو سبحانه على عظمته وكبريائه وقوته فإنه حليم بعباده وحلمه عن قوة وعظمة، وليس عن عجز وحاجة، و(العظيم) صفة كمال، (والحليم) صفة كمال أيضًا له سبحانه، واجتماع (العظيم) و(الحليم) فيهما كمال آخر فعظمته سبحانه يزينها الحلم، وحلمه عن قوة وعظمة، لأن الغالب في عظماء البشر وملوكهم ضعف الحلم عندهم لأنهم يغترون بعظمتهم، ويبشطون بمن خالفهم ولا يحلمون عنه.
- - -
(72)، (73)، (74) [الغفور]، [الغفار]، [غافر الذنب]
ورد اسمه سبحانه (الغفور) في القرآن الكريم في إحدى وتسعين آية جاء في أكثرها مقترنًا باسمه سبحانه (الرحيم)، كما في قوله تعالي: { أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) } [الشورى: 5]، وقوله سبحانه: { * نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) } [الحجر: 49]، وقوله - عز وجل -: { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) } [النساء: 100].
وجاء مقترنًا باسمه سبحانه (العفو) كما في قوله سبحانه: { فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) } [النساء: 99].
وجاء مقترنًا باسمه سبحانه (العزيز) كما في قوله تعالى: { كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِن اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) } [فاطر: 28].
وجاء مقترنًا باسمه سبحانه (الشكور)، كما في قوله سبحانه: { لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) } [فاطر: 30].
وجاء مقترنًا باسمه سبحانه (الودود) كما في قوله سبحانه: { وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) } [البروج: 14].
__________
(1) سبق تخريجه ص555.(1/462)
وجاء مقترنًا باسمه سبحانه (الحليم) كما في قوله تعالى: { * إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) } [فاطر: 41].
وأما اسمه سبحانه (الغفار) فقد ورد في القرآن الكريم في خمسة مواضع منها، قوله تعالى: { يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) } [الزمر: 5].
وقوله - عز وجل -: { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) }
[ص: 66].
وقوله عز وجل : { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) } [نوح: 10].
وجاء (الغافر) مضافًا مرة واحدة في القرآن وذلك في قوله تعالى: { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ } .. الآية [غافر: 3]، وبعض أهل العلم لم يدرج اسمه (الغافر) من أسمائه سبحانه، لأنه جاء مضافًا ولذلك لم أدرجه هنا.
المعنى اللغوي (للغفور) و (الغفار):
"أصل الغفر التغطية والستر ... تقول العرب: اصبغ ثوبك بالسواد فهو أغفر لوسخه أي: أحمل له وأعطى له؛ وكذا غفر الشيب بالخضاب وأغفره أي: ستره؛ والمغفرة: التغطية، والمِغفر: هو حِلق يتقنع به المتسلح يقيه ويستره"(1).
المعنى في حق الله عز وجل :
قال الخطابي: "فالغفار الستار لذنوب عباده والمسدل عليهم ثوب عطفه ورأفته ومعنى الستر في هذا: أنه لا يكشف أمر العبد لخلقه، ولا يهتك ستره بالعقوبة التي تشهره في عيونهم"(2).
وقال الزجاج: "ومعنى الغفر في حق الله سبحانه هو الذي يستر ذنوب عباده ويغطيهم بستره"(3).
وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في نونيته:
__________
(1) انظر لسان العرب 5/3273، 3274.
(2) تفسير الأسماء 38.
(3) شأن الدعاء ص 52.(1/463)
"وهو الغفور فلو أتى بقرابها من غير شرك بل من العصيان
لأتاه بالغفران ملء قرابها سبحانه هو واسع الغفران"(1)
وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "الغفور الذي لم يزل يغفر الذنوب ويتوب على كل من يتوب"(2).
وقال أيضًا: " (العفو والغفور والغفار): الذي لم يزل ولا يزال بالعفو معروفًا، وبالغفران والصفح عن عباده موصوفًا، كل أحد مضطر إلى عفوه ومغفرته، كما هو مضطر إلى رحمته وكرمه، وقد وعد بالمغفرة لمن أتى بأسبابها قال تعالى: { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82) } [طه: 82]"(3).
من آثار الإيمان بأسمائه سبحانه (الغفور، الغفار، غافر الذنب):
أولاً: محبة الله - عز وجل - وحمده وشكره على رحمته لعباده وغفرانه لذنوبهم، وهذا الأثر يثمر في قلب المؤمن توقي معاصي الله تعالى قدر الطاقة، وإذا زلت القدم ووقع المؤمن في الذنب فإنه يتذكر اسمه سبحانه الغفور والغفار فيسري الرجاء في قلبه ويقطع الطريق على اليأس من رحمة الله تعالى ويحسن الظن بربه الذي يغفر الذنوب جميعًا.
ثانيًا: فتح باب الرجاء والمغفرة للشاردين عن الله تعالى والمسرفين على أنفسهم بعظائم الذنوب كما قال تعالى: { * قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) } [الزمر: 53].
__________
(1) النونية 2/231 الأبيات (3304، 3305).
(2) الحق الواضح المبين ص 73.
(3) تفسير السعدي 5/300.(1/464)
ثالثًا: الإكثار من الأعمال الصالحة والحسنات لأنها من أسباب الحصول على مغفرة الله تعالى للسيئات السالفة؛ قال الله - عز وجل -: { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) } [هود: 114]، وقال سبحانه: { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82) } [طه: 82].
وقوله ×: (واتبع السيئة الحسنة تمحها)(1).
رابعًا: إن كونه سبحانه غفورًا وغفارًا للذنوب لا يعني أن يسرف المسلم في الخطايا والذنوب ويتجرأ على معصية الله تعالى بحجة أن الله غفور رحيم، لأن المغفرة لا تكون إلا بشروطها وانتفاء موانعها، قال سبحانه: { إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) } [الإسراء: 25]، وقال - عز وجل -: { إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) } [النمل: 11].
ويرد الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - على المتجرئين على معاصي الله تعالى اعتمادًا على مغفرة الله ورحمته فيقول مفرقًا بين حسن الظن بالله تعالى والغرة به: "قال الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ } [البقرة: 218]، فجعل هؤلاء أهل الرجاء لا الظالمين الفاسقين... فالعالِم يضع الرجاء مواضعه، والجاهل المغتر يضعه في غير مواضعه"(2).
__________
(1) الترمذي في البر، وصححه الألباني في صحيح الترمذي رقم (1618).
(2) الجواب الكافي ص 15 (باختصار).(1/465)
خامسًا: سؤال الله - عز وجل - بهذا الاسم الكريم مغفرة الذنوب ووقاية شرها، لأنه سبحانه وحده الذي يملك غفران الذنوب، ولا يملك ذلك أحد سواه، وما أكثر الأحاديث التي تحث على أفضلية الاستغفار وما أكثر الأدعية النبوية التي فيها الاستغفار، ومن أشهرها سيد الاستغفار المذكور والذي منه: (... وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)(1) ، ولما سأل أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - الرسول × دعاء يدعو به في صلاته قال: قل: (اللَّهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم)(2).
سادسًا: مجاهدة النفس على التخلق بخلق الصفح عن الناس وستر أخطائهم وعوراتهم والاهتداء بهدي القرآن الكريم الذي يأمر بالعفو عن الناس ومقابلة السيئة بالحسنة.
قال سبحانه في وصف المتقين: { ttûüدù$yèّ9$#ur عَنِ النَّاسِ } [آل عمران: 134]، وقال - عز وجل -: { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ } [المؤمنون: 96]، وقال ×: (ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة)(3) ، وهذا لمن يستحق العفو والستر، أما المجاهر الذي استمرأ الظلم والتعالي على الناس فهذا حقه الانتصار منه ومنعه من الظلم.
يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى - في سرده لبعض الحكم في تخلية العبد بينه وبين الذنب "الحادي عشر: أن يعامل عباده في إساءتهم إليه وزلاتهم معه بما يحب أن يعامله الله به"(4).
اقتران اسميه سبحانه (الغفور)، (الغفار) ببعض الأسماء الحسنى:
أولاً: اقتران اسمه سبحانه (الغفور) باسمه سبحانه (الرحيم):
بلغ عدد الآيات التي اقترن فيها هذان الاسمان الكريمان اثنين وسبعين آية، وقد مر بنا وجه هذا الاقتران عند الكلام على اسميه سبحانه (الرحمن ، الرحيم) فليرجع إليه.
__________
(1) البخاري (5831).
(2) البخاري (790)، مسلم (6839).
(3) البخاري (2442).
(4) طريق الهجرتين ص 161 "دار الحديث".(1/466)
وفي كل الآيات التي ورد فيها هذا الاقتران كان اسمه سبحانه (الغفور) مقدمًا فيها على اسمه (الرحيم) إلا في آية واحدة في سورة سبأ وهي قوله تعالى: { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) } [سبأ: 2]، ويبين الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - القول في تقديم اسمه سبحانه (الغفور) على اسمه سبحانه (الرحيم) فيقول: "ولما كان دفع الشر مقدمًا على جلب الخير قدم اسم (الغفور) على (الرحيم) حيث وقع"(1)، أما عن تقديم (الرحيم) على (الغفور) في سورة سبأ فيبين ذلك بقوله: "وقدَّم (الرحيم) في هذا الموضع لتقدم صفة العلم فحسن ذكر (الرحيم) بعده ليقترن به فيطابق قوله: { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) } [غافر: 7]"(2).
ثانيًا: اقتران اسميه سبحانه (الغفور، الغفار) باسمه سبحانه (العزيز):
وقد ورد هذا الاقتران في القرآن خمس مرات من ذلك قوله سبحانه: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِن اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) } [فاطر: 28].
وقوله - عز وجل -: { أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) } [الزمر: 5].
__________
(1) طريق الهجرتين ص 161 (دار الحديث).
(2) بدائع الفوائد 1/74.(1/467)
وقد مر بنا وجه هذا الاقتران عند الكلام عن اسمه سبحانه (العزيز) فليرجع إليه، ويمكن القول هنا أن اتصاف الله سبحانه بأنه (غفار) للذنوب والسيئات فضل من الله ورحمة عظيمة للعباد، لأنه غني عن العالمين، لا ينتفع بالمغفرة لهم، لأنه سبحانه لا يضره كفرهم أصلاً، ولا يغفر لهم خوفًا منهم أيضًا، لأنه قوي عزيز، قد قهر كل شيء وغلبه، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وقد نبه الله عباده إلى هذا الأمر في القرآن الكريم عدة مرات، باقتران اسمه (الغفور) مع (العزيز) كقوله تعالى: { إِن اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [فاطر: 28]، وقوله: { أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ } [الزمر: 5]، فمع عزته وقهره، إلا أنه غفور رحيم.
ثالثًا: اقتران اسمه سبحانه (الغفور) باسمه سبحانه (العفو):
وقد ورد ذلك في القرآن الكريم أربع مرات، ومن ذلك قوله سبحانه: { فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) } [النساء: 99].
قال الغزالي: "العفو الذي يمحو السيئات ويتجاوز عن المعاصي، وهو قريب من الغفور، ولكنه أبلغ منه وإن الغفران ينبني عن الستر، والعفو ينبني عن المحو، والمحو أبلغ من الستر"أهـ(1).
واجتماع الاسمين الكريمين فيه كمال آخر فهو سبحانه يمحو أثر التقصير نهائيًا حتى يعفو أثره.
__________
(1) المقصد الأسنى ص 117.(1/468)
وعفو الله تعالى أيضًا يكون لما يقع من العبد من تقصير وضعف لعدم القدرة أو الحرج في فعله؛ فالله - عز وجل - أوجب الوضوء لمن أراد الصلاة، ولكن عفا عمن لا يجد الماء ولم يستطع استعماله مراعاة لضعفه فأباح التيمم، وهذا من تمام عفوه وإلا لو شاء الله - عز وجل - لأعْنَتَنَا وألزمنا بالوضوء أبدًا، ولذا ختمت آية التيمم في سورة النساء (بالعفو الغفور)، قال تعالى: { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ إفح !$tَّ9$# أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43) } [النساء: 43].
والمغفرة تستلزم العفو، ويمكن أن يقال: إن (العفو والغفور) إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا.
رابعًا: اقتران اسمه سبحانه (الغفور) باسمه سبحانه (الشكور):
ورد هذا الاقتران ثلاث مرات في القرآن الكريم ومن ذلك قوله عز وجل: { لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } [فاطر: 30].
وقوله سبحانه: { وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) } [الشورى: 23].
واقتران هذين الاسمين الكريمين فيه كمال آخر؛ فالله سبحانه يغفر ذنوب عباده ويصفح عن سيئاتهم وإذا أحسنوا وعملوا صالحًا لم تكن ذنوبهم السالفة لتحول بينهم وبين ثواب الله - عز وجل - لهم وشكره على طاعتهم له. ومثال ذلك حديث الرجل الذي سقى الكلب فشكر الله له فغفر له(1).
هذا من مقتضى اسميه سبحانه (الغفور الشكور)، وسيأتي تفصيل ذلك في باب اسمه سبحانه (الشكور) إن شاء الله تعالى.
خامسًا: اقتران اسمه سبحانه (الغفور) باسمه سبحانه (الحليم):
__________
(1) انظر البخاري الحديث رقم (2363).(1/469)
سبق بيان ذلك عند الكلام على اسمه سبحانه ( الحليم) فليرجع إليه وقد ورد في القرآن في ست آيات.
سادسًا: اقتران اسمه سبحانه (الغفور) باسمه سبحانه (الودود):
ورد في القرآن مرة واحدة، وقد سبق بيان سبب ذلك الاقتران عند الكلام عن اسمه سبحانه (الودود) فليرجع إليه(1).
(75) [العفو]
ورد اسمه سبحانه (العفو) في القرآن الكريم في خمس آيات، منها أربع آيات اقترن فيها اسمه سبحانه (العفو) باسمه سبحانه (الغفور)، ومن ذلك قوله تعالى: { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43) } [النساء: 43]، وغيرها من الآيات.
وآية واحدة اقترن فيها اسمه سبحانه (العفو) باسمه سبحانه (القدير) وذلك في قوله سبحانه: { إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) } [النساء: 149].
المعنى اللغوي:
قال في اللسان:"(العفوُّ) وهو فعول من العفو وهو التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه، وأصله المحو والطمس وهو من أبنية المبالغة، وكل من استحق العقوبة فتركتها فقد عفوت عنه... مأخوذ من قولهم عفت الرياح الآثار إذا درستها ومحتها"(2).
وقال الراغب في المفردات: "العفو: القصد لتناول الشيء، يقال عفاه واعتفاه أي: قصده متناولاً ما عنده، وعفت الريح الدار قصدتها متناولة آثارها... وعفوت عنه قصدت إزالة ذنبه صارفًا عنه. فالمفعول في الحقيقة متروك وعن متعلق بمضمر. فالعفو: هو التجافي عن الذنب"(3).
وقال الخليل ابن أحمد: "كل من استحق عقوبة فتركته ولم تعاقبه عليها فقد عفوت عنه عفوًا"(4).
المعنى في حق الله تعالى:
__________
(1) انظر ص 548.
(2) لسان العرب 4/3019.
(3) المفردات ص 339.
(4) اشتقاق أسماء الله ص 134.(1/470)
قال ابن جرير - رحمه الله تعالى - في قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا } [النساء: 43]: "إن الله لم يزل عفوًا عن ذنوب عباده، وتركه العقوبة على كثير منها ما لم يشركوا به"(1).
وقال الخطابي رحمه الله تعالى: " (العفُوُّ) وزنه فعول من العفو، وهو بناء المبالغة، والعفو: الصفح عن الذنوب، وترك مجازاة المسيء، وقيل: إن العفو مأخوذ من عفت الريح الأثر إذا درسته، فكأن العافي عن الذنب يمحوه بصفحه عنه"(2).
وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في نونيته:
وهو العفو فعفوه وسع الورى لولاه غار الأرض بالسكان(3)
قال الهراس - رحمه الله تعالى - في شرحه لهذا البيت: "أي: ولولا كمال عفوه وسعة حلمه لغارت الأرض بأهلها لكثرة ما يرتكب من المعاصي على ظهرها"(4).
وقال الشيخ السعدي - رحمه الله تعالى - في شرحه للبيت السابق في نونية ابن القيم: "وأما العَفُوُّ: فهو الذي له العفو الشامل الذي وسع ما يصدر من عباده من الذنوب؛ ولا سيما إذا أتوا بما يوجب العفو عنهم من الاستغفار والتوبة والإيمان والأعمال الصالحة، فهو سبحانه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، وهو عفوّ يحبُّ العفو، ويحبُّ من عباده أن يسعوا في تحصيل الأسباب التي ينالون بها عفوه؛ من السعي في مرضاته والإحسان إلى خلقه، ومن كمال عفوه أنه مهما أسرف العبد على نفسه ثم تاب إليه ورجع غفر له جميع جُرْمِه؛ كما قال تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) } [الزمر: 53] "(5).
من آثار الإيمان بهذا الاسم الكريم:
__________
(1) تفسير الطبري 5/74.
(2) شأن الدعاء ص 90 - 91.
(3) النونية 2/227.
(4) شرح النونية لمحمد خليل هراس - رحمه الله تعالى - 2/81.
(5) انظر الحق الواضح المبين ص 56.(1/471)
يمكن القول بأن ما ذكر من آثار الإيمان باسمه (الغفور) في المبحث السابق يصلح أن يقال هنا في اسمه (العفو) مع التأكيد على التوسل إلى الله - عز وجل - وسؤاله سبحانه بهذا الاسم الكريم العفو عن السيئات والصفح عن الزلات، كما جاء في دعائه × الذي أوصى به عائشة -رضي الله عنها - بأن تدعو به في ليلة القدر وغيرها: (اللَّهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)(1).
اقتران اسمه سبحانه (العفو) ببعض أسمائه الحسنى:
أولاً: اقتران اسمه سبحانه (العفو) باسمه سبحانه (الغفور):
وقد ورد هذا الاقتران في أربع آيات من القرآن سبق ذكرها، وقد سبق ذكر وجه الاقتران في مبحث اسمه (الغفور) فليرجع إليه.
ثانيًا: اقتران اسمه سبحانه (العفو) باسمه سبحانه (القدير):
وجاء هذا الاقتران مرة واحدة في القرآن الكريم وذلك في قوله تعالى: { إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) }
[النساء: 149].
وقد سبق ذكر سر هذا الاقتران في مبحث اسمه سبحانه (القدير) فليرجع إليه.
- - -
(76) [التواب]
ورد اسمه سبحانه (التواب) في إحدى عشرة آية في القرآن الكريم منها تسع آيات اقترن فيها باسمه سبحانه (الرحيم) كما في قوله تعالى: { فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) } [البقرة: 37]، وقوله سبحانه: { وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [البقرة: 128]، وقوله عز وجل : { وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) } [الحجرات: 12].
وجاء في آية واحدة مقترنًا باسمه سبحانه (الحكيم) كما في قوله تعالى: { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) } [النور: 10].
__________
(1) الترمذي في الدعوات (3513) وقال: حسن صحيح.(1/472)
وجاء مفردًا في قوله تعالى: { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3) } [النصر: 3].
المعنى اللغوي:
"التاء والواو والباء كلمة واحدة تدل على الرجوع، يقال: تاب من ذنبه أي رجع عنه، يتوب توبة ومتابًا فهو تائب، والتوب: جمع توبة مثل عزمة وعزم .
قال تعالى: ب@خ/$s% { التَّوْبِ } [غافر: 3]، ورجل تواب: تائب إلى الله، والله تواب: يتوب على عبده"(1).
وقال الزجاجي: " (وتواب) على وزن (فَعَّال) من تاب يتوب وفعال من أبنية المبالغة، مثل: ضرَّاب للكثير الضرب، وقتَّال للكثير القتل"(2).
المعنى في حق الله عز وجل :
قال الطبري - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: { إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } : "إن الله - جل ثناؤه - هو (التواب) على من تاب إليه من عباده المذنبين من ذنوبه، التارك مجازاته بإنابته إلى طاعته بعد معصيته بما سلف من ذنبه، وتوبة الله على عبده هو أن يرزقه ذلك ويؤوب من غضبه عليه إلى الرضا عنه ومن العقوبة إلى العفو والصفح عنه"(3).
وقال الزجاجي رحمه الله تعالى: "فجاء تواب على أبنية المبالغة لقبوله توبة عباده، وتكرير الفعل منهم دفعة بعد دفعة، وواحدًا بعد واحد على طول الزمان، وقبوله - عز وجل - ممن يشاء أن يقبل منه فلذلك جاء على أبنية المبالغة، فالعبد يتوب إلى الله - عز وجل - ويقلع عن ذنوبه، والله يتوب عليه أي: يقبل توبته. فالعبد تائب، والله تواب"(4).
وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في نونيته:
"وكذلك التواب من أوصافه والتَوْبُ في أوصافه نوعان
إذن بتوبة عبده وقبولها بعد المتاب بمنة المنان"(5)
__________
(1) انظر لسان العرب 1/454، والصحاح 1/91 - 92.
(2) اشتقاق أسماء الله ص 62.
(3) تفسير الطبري 1/195.
(4) اشتقاق الأسماء ص 63.
(5) النونية 2/231، البيتين 3306، 3307.(1/473)
ويبين في موطن آخر المقصود من هذين البيتين بقوله: "فتوبة العبد محفوفة بتوبة من الله تعالى عليه قبلها، وتوبة ثانية منه عليه قبولاً ورضًا، فله الفضل في التوبة والكرم أولاً وآخرًا لا إله إلا هو"(1).
ويؤكد هذا المعنى الشيخ السعدي - رحمه الله تعالى - بقوله: "فهو التائب على التائبين أولاً: بتوفيقهم للتوبة، والإقبال بقلوبهم إليه، وهو التائب على التائبين بعد توبتهم قبولاً لها وعفوًا عن خطاياهم"(2)، ووصف الله سبحانه نفسه بالتواب لكثرة من يتوب عليه، ولتكريره ذلك في الشخص الواحد حتى يقضي عمره.
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (التواب):
أولاً: محبة الله - عز وجل - والأنس به، لأنه سبحانه الرحيم بعباده ومن رحمته بهم ولطفه بهم أن وفق من شاء من عباده إلى التوبة والرجوع إليه، ثم قبل ذلك منهم، بل إنه سبحانه يفرح بتوبة عبده إليه أشد ما يكون من الفرح، ويكفينا في ذلك قوله ×: (لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخد بخطامها ثم قال من شدة الفرح: أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح)(3)؛ فحري بمن هذا وصفه في رحمته بعباده أن يحب الحب كله، وأن يعبد وحده لا شريك له وأن تظهر آثار هذه المحبة بإخلاص العبادة له، والتقرب إليه بطاعته ومحبة من يحبه وما يحبه، وبغض من يبغضه وما يبغضه.
__________
(1) انظر مدارج السالكين 1/339، ومفتاح دار السعادة 2/273.
(2) تفسير السعدي 5/300.
(3) مسلم (2747)، وانظر الروايات الأخرى للحديث عند مسلم (2744)، (2746).(1/474)
ثانيًا: إفراد الله - عز وجل - بالتوبة وطلب العفو وغفران الذنوب، لأنه لا يغفر الذنوب، ولا يوفق إلى التوبة ويقبلها إلا الله وحده، قال الله - عز وجل -: { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ } [الشوري: 25]، وقال سبحانه: { وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ } [آل عمران: 135].
فالتوبة عبادة لله وحده شأنها شأن العبادات الأخرى كالصلاة والاستغاثة والاستعانة والاستغفار لا يجوز صرفها إلا إلى الله وحده فلا يتاب إلى نبي مرسل ولا ملك مقرب إلا من أذن الله له بالشفاعة بعد رضاه عن المشفوع ، وقد قال الله - عز وجل - لرسوله ×: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) }
[آل عمران: 128].
وقد نصب بعض رهبان النصارى وغلاة الصوفية أنفسهم شركاء لله - عز وجل - فزعموا أن لديهم صلاحية غفران الذنوب والتوبة على العباد وهذا من إفكهم وضلالهم.
ثالثًا: الحياء من الله - عز وجل - البر الرحيم التواب الغفور الذي يفرح بتوبة عبده، وهذا الحياء إذا تمكن من القلب أثمر تعظيمًا لله - عز وجل - وحياءً منه، ومبادرة إلى طاعته وترك معاصيه قدر الجهد والاستطاعة.
رابعًا: المبادرة إلى التوبة النصوح عند الوقوع في المعصية مهما كان عظمها، وعدم اليأس من رحمة الله تعالى، والقوة في رجائه سبحانه، لأنه التواب الرحيم الغفور الودود، ولكن لا بد أن تكون التوبة صادقة نصوحًا حتى يقبلها الله - عز وجل - وينتفع بها العبد، وقد ذكر العلماء تفصيلاً لهذه الشروط، ومن ذلك ما ذكره الراغب الأصفهاني في المفردات، حيث يقول رحمه الله تعالى: "التوبة هي تَرْكُ الذنب على أجملِ الوجوه، وهو أبلغ وُجُوه الاعتذار، فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه:
إما أن يقول المُعْتَذر: لم أفعل.
أو يقول: فعلتُ لأجل كذا.(1/475)
أو فعلتُ وأسأتُ وقد أقلعت، ولا رابع لذلك. وهذا الأخير هو "التوبة".
والتوبة في الشرع: تركُ الذنب لقُبحه، والنَّدم على ما فَرَط منه، والعزيمة على ترك المعاودِة، وتدارُكِ ما أمكنه أن يُتداركَ من الأعمال بالإعادة، فمتى اجتمعت هذه الأربعة فقد كمل شرائط التوبة"(1).
وأضاف أهل العلم شرطًا خامسًا إذا كان الذنب ناشئًا عن الاعتداء على حقوق العباد في نفس أو مال أو عرض، وذلك بأن يتحلل من أصحاب الحقوق ويعيد حقوقهم إليهم، وإن كان في كتم الحق وإضلال الناس فلا بد في التوبة من ذلك من بيان الحق المكتوم ورد الناس إلى الحق بعد تلبيسه عليهم.
خامسًا: حاجة العبد إلى التوبة في جميع مراحل عمره وأنها لا تفارقه ولا غنى له عنها وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "ومنزل "التوبة" أول المنازل، وأوسطها، وآخرها؛ فلا يفارقه العبد السالك، ولا يزال فيه إلى الممات. وإن ارتحل إلى منزل آخر ارتحل به، واستصحبه معه ونزل به. فالتوبة هي بداية العبد ونهايته. وحاجته إليها في النهاية ضرورية، كما أن حاجته إليها في البداية كذلك. وقد قال الله تعالى: { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) } [النور: 13] وهذه الآية في سورة مدنية، خاطب الله بها أهل الإيمان وخيار خلقه أن يتوبوا إليه بعد إيمانهم وصبرهم، وهجرتهم وجهادهم، ثم علق الفلاح بالتوبة تعليق المسبب بسببه، وأتى بأداة "لعلَّ" المشعرة بالترجي، إيذانًا بأنكم إذا تُبْتُمْ كنتم على رجاء الفلاح، فلا يرجو الفلاح إلا التائبون. جعلنا الله منهم.
__________
(1) المفردات ص 76.(1/476)
قال تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) } [الحجرات: 11] قسم العباد إلى تائب وظالم، وما ثَمَّ قِسم ثالث البتة. وأوقع اسم "الظالم" على من لم يَتُبْ. ولا أظلم منه، لجهله بربه وبحقه، وبعيب نفسه وآفات أعماله. وفي الصحيح عنه × أنه قال: (يا أيها الناس، توبوا إلى الله، فو الله إني لأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة) (1) وكان أصحابه يَعُدُّونَ له في المجلس الواحد قبل أن يقوم: (رب اغفر لي وتب عَلَيَّ إنك أنت التواب الغفور، مائة مرة) (2) وما صلى صلاة قط بعد إذ أنزلت عليه { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) } [النصر: 1] إلى آخرها. إلا قال فيها: (سبحانك اللَّهم ربنا وبحمدك. اللَّهم اغفر لي) (3)؛ وصح عنه × أنه قال: (لن يُنْجِيَ أحدًا منكم عمله). قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) (4).
فصلوات الله وسلامه على أعلم الخلق بالله وحقوقه وعظمته، وما يستحقه جلاله من العبودية، وأعرفهم بالعبودية وحقوقها وأقومهم بها"(5).
والتوبة لا يستغني عنها أحد حتى الأنبياء - صلوات الله عليهم - لأنها ليست نقصًا، بل هي من الكمال الذي يحبه الله ويرضاه ويأمر به.
وقد سُئل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن معنى قوله تعالى: { لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ } [التوبة: 117]، والتوبة إنما تكون عن شيء يصدر من العبد، والنبي × معصوم من الكبائر والصغائر؟
__________
(1) البخاري (6307).
(2) مسلم (2702)، وأبو داود (1294).
(3) البخاري (794)، مسلم (484).
(4) البخاري (6463)، مسلم (2816).
(5) مدارج السالكين 1/178- 179.(1/477)
فأجاب رحمه الله تعالى: "الحمد لله، الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - معصومون من الإقرار على الذنوب، كبارها وصغارها، وهم بما أخبر الله به عنهم من التوبة يرفع درجاتهم، ويعظم حسناتهم، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وليست التوبة نقصًا، بل هي من أفضل الكمالات، وهي واجبة على جميع الخلق كما قال تعالى: { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } [الأحزاب: 72، 73]، فغاية كل مؤمن هي التوبة، ثم التوبة تتنوع كما يقال: حسنات الأبرار سيئات المقربين"(1).
الأسماء المقترنة باسمه سبحانه (التواب):
أولاً: اقتران اسمه سبحانه (التواب) باسمه سبحانه (الرحيم):
جاء هذا الاقتران في تسع آيات من القرآن الكريم سبق ذكرها آنفًا ومنها قوله سبحانه: { وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) } [الحجرات: 12].
ومناسبة هذا الاقتران - والله أعلم - هو أن توبة الله - عز وجل - على من يشاء من عباده بتوفيقهم إليها ثم قبولها منهم هو من آثار رحمة الله تعالى وبره وإحسانه، وكذلك كونه سبحانه لا يعاقب من تاب إليه ولا يرد من تاب إليه بصدق إن هو إلا برحمته سبحانه وفضله.
قال الطبري - رحمه الله تعالى - : "قال قتادة: { إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) } [التوبة: 104]: إن الله هو الوهاب لعباده الإنابة إلى طاعته، الموفق من أحب توفيقه منهم لما يرضيه عنه، (الرحيم) بهم أن يعاقبهم بعد التوبة أو يخذل من أراد منهم التوبة والإنابة ولا يتوب عليه"(2).
ثانيًا: اقتران اسمه سبحانه (التواب) باسمه سبحانه (الحكيم):
__________
(1) مجموع الفتاوى 15/51.
(2) تفسير الطبري 11/41.(1/478)
قال الله - عز وجل -: { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) } [النور: 10].
وقد سبق الكلام عن وجه هذا الاقتران في الكلام عن اسمه (الحكيم) فليرجع إليه.
- - -
(77)، (78) [الكريم]، [الأكرم]
ورد اسمه سبحانه (الكريم) في القرآن ثلاث مرات وذلك في قوله سبحانه: { وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) } [النحل: 40]، وقوله - عز وجل -: { يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) } [الانفطار: 6]، وقوله سبحانه: { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) } [المؤمنون: 116].
واسمه سبحانه (الكريم) في هذه الآية جاء في قراءة حفص بالكسر على أنه صفة للعرش، أما في قراءة ابن تغلب وابن محيص وابن كثير فجاء بالرفع على أنه صفة للرب سبحانه(1).
وفي الحديث: (إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردها صفرا)(2).
أما اسمه سبحانه (الأكرم) فلم يرد في القرآن الكريم إلا مرة واحدة وذلك في قوله - عز وجل -: { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) } [العلق: 3].
المعنى اللغوي:
قال في اللسان: "قال ابن سيده: الكرم نقيض اللؤم، يكون في الرجل بنفسه وإن لم يكن له آباء، ويستعمل في الخيل والإبل والشجر وغيرها من الجواهر إذا عنوا العتق وأصله في الناس"(3).
وقال الزجاجي رحمه الله: "الكرم سرعة إجابة النفس، كريم الخلق وكريم الأصل"(4).
__________
(1) انظر تفسير القرطبي 12/157.
(2) أحمد 5/538، والترمذي 5/3556، وقال: حسن غريب.
(3) لسان العرب 5/3861.
(4) تفسير أسماء الله ص 50، 51.(1/479)
وقال الزجاجي رحمه الله: "الكريم: الجواد. والكريم: العزيز، والكريم: الصفوح، هذه ثلاثة أوجه للكريم في كلام العرب، كلها جائز وصف الله - عز وجل - بها"(1).
وقال الخطابي رحمه الله تعالى: "قال بعض أهل اللغة: الكريم: الكثير الخير، والعرب تسمي الشيء النافع الذي يدوم نفعه ويسهل تناوله كريمًا، ولذلك قيل للناقة الحوار: كريمة وذلك لغزارة لبنها وكثرة درها"(2).
المعنى في حق الله عز وجل:
قال الخطابي - رحمه الله تعالى - في معنى (الكريم): "إنه الذي يبدأ النعمة قبل الاستحقاق، ويتبرع بالإحسان من غير استثابة، ويغفر الذنب، ويعفو عن المسيء. ويقول الداعي في دعائه: يا كريم العفو، فقيل: إن من كرم عفوه، أن العبد إذا تاب عن السيئة، محاها عنه، وكتب له مكانها حسنة"(3).
وقال الغزالي رحمه الله تعالى: "الكريم الذي إذا قدر عفا، وإذا وعد وفىّ، وإذا أعطى زاد على منتهى الرجاء، ولا يبالي كم أعطى، ولمن أعطى، وإن رفعت حاجة إلى غيره لا يرضى، وإذا جُفي عاتب، وما استقصى، ولا يضيع من لاذ به والتجأ، ويغنيه عن الوسائل والشفعاء، فمن اجتمع له جميع ذلك لا بالتكلف، فهو الكريم المطلق، وذلك لله سبحانه وتعالى فقط"(4).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: "إن الكريم هو البهي الكثير الخير العظيم النفع، وهو من كل شيء أحسنه وأفضله. والله سبحانه وصف نفسه بالكرم، ووصف به كلامه، ووصف به عرشه، ووصف به ما كثر خيره وحسن منظره من النبات وغيره(5).
__________
(1) اشتقاق أسماء الله ص 302.
(2) شأن الدعاء ص 70، 71.
(3) المصدر السابق.
(4) المقصد الأسنى ص 96.
(5) البيان في أقسام القرآن ص 286.(1/480)
أما اسمه سبحانه (الأكرم) فقال ابن القيم رحمه الله تعالى: "أعاد الأمر بالقراءة مخبرًا عن نفسه بأنه الأكرم، وهو الأفعل من الكرم، وهو كثرة الخير ولا أحد أولى بذلك منه سبحانه، فإن الخير كله بيده والخير كله منه والنعم كلها هو موليها، والكمال كله والمجد كله له فهو الأكرم حقًا"(1).
وقال أيضًا: "ذكر من صفاته ها هنا اسم (الأكرم) الذي فيه كل خير وكل كمال فله كل كمال وصفًا ومن كل خير فعلاً فهو (الأكرم) في ذاته وأوصافه وأفعاله"(2).
وقال الخطابي في معنى (الأكرم): "هو أكرم الأكرمين، لا يوازيه كريم ولا يعادله نظير.
وقد يكون (الأكرم) بمعنى الكريم كما جاء الأعز والأطول بمعنى: العزيز والطويل"(3).
من آثار هذين الاسمين الكريمين:
ذكر ابن العربي - رحمه الله تعالى - في ذلك آثارًا عظيمة أكتفي بذكر بعض منها بشيء من التصرف:
قال - رحمه الله تعالى - في شرحها بعد أن سردها سردًا:
1- إن (الكريم) هو الكثير الخير فمن أكثر خيرًا من الله لعموم قدرته وسعة عطائه، قال سبحانه: { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا ¼çmمYح !#t"yz وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) } [الحجر: 21].
2- والكريم هو الدائم بالخير، وذلك بالحقيقة لله؛ فإن كل شيء ينقطعُ إلاّ الله وإحسانه، فإَّنه دائمٌ متصل في الدنيا والآخرة.
3- والكريم هو الذي يَسهل خيرهُ، ويقربُ تناول ما عنده، وهو الله بالحقيقة؛ فإنه ليس بينه وبين العبد حجابٌ، وهو قريب لمن استجاب؛ قال الله سبحانه: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي } [البقرة: 186].
__________
(1) مفتاح دار السعادة 1/342.
(2) نفس المصدر 1/241.
(3) شأن الدعاء ص 103.(1/481)
4- إنَّ (الكريم) هو الذي له قدر عظيم، وخطرٌ كبير، فليس لأحدٍ قدر بالحقيقة إلا لله تعالى، إذ الكلُّ له خلقٌ وملك، إليه يضاف كل شيء، ومن شرفه يشرفُ كل شيء، وكرمُ كل كريمٍ من كرمه.
5- و(الكريم) هو المنزَّه عن النقائص والآفات، وهو الله وحده بالحقيقة؛ لأنه تقدَّس عن النقائصِ والآفات وحده على الإطلاق والتمام والكمال من كل وجهٍ، وفي كل حالٍ. بخلاف الخلق؛ فإنهم إن كَرُموا من وجه نقصوا من وجه آخر.
6- و(الكريم) بمعنى المُكرِم، فمن المكرمُ إلا الله تعالى؟ فمن أكرمه الله أُكرِمَ ومن أهانه أهين؛ قال عز وجل: { وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ } [الحج:18].
7- و(الكريم) هو الذي لا يتوقع عِوضًا، وهو الله وحده؛ لأن كل شيء خَلْقه وملكه فما يعطي له وما يأخذه له، وما يُعطي كل مُعطٍ أو يعمل كل عاملٍ، فبقدرته وإرادته، والعوضُ والمعوَّض خلق له.
8- و(الكريم) هو الذي يعطي لغير سبب، وهو الله وحده؛ لأنه بدأ الخلق بالنِّعم، وختم أحوالهم بالنعم، وإن جاء في الأخبار أنه أعطي بكذا أو عمل بكذا لكذا، فالعطاءُ منه والسبب جميعًا، والكلُّ عطاءٌ بغير سبب.
9- و(الكريم) هو الذي لا يبالي من أعطى، وهو الله وحده؛ لأن الخلق جبلت قلوبهم على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها، والباري يُعطي الكافرين والمتقين، وربما خَص الكافر في الدنيا بمزيد العطاء، ولكنَّ الآخرة للمتقين.
10- و(الكريم) هو الذي يُعطي من احتاج ومن لا يحتاج، وهو الله وحده؛ لأنه يُعطي ويزيد على قدر الحاجة، ويُعطي من يحتاج ومن لا يحتاج حتى يصب عليه الدنيا صبًّا.
11- و(الكريم) هو الذي لا يُخصُّ بكبير من الحوائج دون صغيرها، وهو الله تعالى.
وذكر القشيري أن موسى - عليه السلام - قال في مناجاته: إنه لتعرض لي الحاجة أحيانًا فأستحيي أن أسألك، فأسأل غيرك، فأوحى الله إليه: يا موسى لا تسل غيري، وسلني حتى ملح عجينك وعلف شاتك.(1/482)
وذلك لأن أمرهُ بين الكاف والنون، فسواءً الصغير والكبير، بل الكبير عنده صغير، والعسير يسير، والصعب لين.
12- و(الكريم) هو الذي إذا وعد وَفَّى، فإن كل من يعد يمكن أن يفي، ويمكن أن يقطعه عُذرٌ، ويحولُ بينه وبين الوفاء أمرٌ. والباري صادق الوعدِ لعمومِ قدرته وعظيمِ ملكه، وإنه لا يتصوَّرُ أن يقطعَ به قاطع، ولا يحول بينه وبينه مانع.
13- و(الكريم) هو الذي لا يُضيع من التجأ إليه، وهو الله وحده، والالتجاء إليه: التزام الطاعة وحسن العمل، وقد أخبر بذلك عن نفسه حين قال: { إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) } [الكهف: 30].
14- و(الكريم) هو الذي إذا أعطى زاد على المُنَى، وهو الله وحده، فقد رُوي أنه أعطى أهل الجنة مُناهم، ويزيدهم على ما يعلمون، وقد صح أنه قال سبحانه: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، بَلْهَ ما أُطلعتم عليه)(1) "(2).
من آثار الإيمان باسميه سبحانه (الكريم، الأكرم):
أولاً: محبته سبحانه وتعالى على كرمه وجوده ونعمه التي لا تعد ولا تحصى والسعي إلى تحقيق هذه المحبة بشكره سبحانه بالقلب واللسان والجوارح، وإفراده وحده بالعبادة، وأن لا يكون من العبد إلا ما يرضي الله سبحانه، ومجاهدة النفس في ترك ما يسخطه والمبادرة إلى التوبة عند الوقوع فيما لا يرضيه عز وجل. ومن لوازم محبته سبحانه محبة أوليائه ونصرتهم وبغض أعدائه، والبراءة منهم ومن شركهم.
__________
(1) البخاري (3244)، ومسلم (2824)، واللفظ لمسلم.
(2) الكتاب الأسنى نقلاً عن كتاب النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى 2/380 - 384 (باختصار وتصرف يسير).(1/483)
ثانيًا: الحياء منه سبحانه والتأدب معه - عز وجل - حيث مع كثرة معاصي عباده إلا أنه لم يمنع عنهم عطاءه وكرمه وجوده، وهذا الكرم العظيم يورث في قلب العبد المؤمن حياء وانكسارًا وخوفًا ورجاءً وبعدًا عما يسخطه سبحانه وتعالى.
ثالثًا: التعلق به وحده سبحانه، والتوكل عليه وتفويض الأمور إليه، وطلب الحاجات منه وحده سبحانه، لأنه الكريم الذي لا نهاية لكرمه والقادر الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، الحي الذي لا يموت بخلاف المخلوق الذي يغلب عليه الشح في العادة، ولو كان كريمًا فإن كرمه محدود، وفان بفنائه وقد يريد التكرم على غيره ولكن عجزه يحول دون ذلك قال الله تعالى: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ } [الفرقان: 58]، وقال سبحانه: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) } [الشعراء: 217]، وهذا يورث قوة الرجاء والطمع في كرمه ورحمته، وقطع الرجاء من المخلوق.
رابعًا: التخلق بخلق الكرم والتحلي بصفة الجود والسخاء على عباد الله تعالى، فإن الله - عز وجل - كريم يحب من عباده الكرماء الذين يفرج الله بهم كرب المحتاجين ويغيث بهم الملهوفين؛ وخلق الكرم الذي يحبه الله تعالى ليس في الإسراف والتبذير وتضييع الأموال، وإنما هو التوسط بين الإسراف والتبذير، وبين البخل والشح.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "وقد مدح تعالى أهل التوسط بين الطرفين المنحرفين في غير موضع من كتابه، فقال تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) } [الفرقان: 67].
وقال تعالى: { وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) } [الإسراء: 29]، وقال سبحانه: { وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) } [الإسراء: 26].(1/484)
فمنع ذي القربى والمسكين وابن السبيل حقهم انحراف في جانب الإمساك، والتبذير انحراف في جانب البذل، ورضا الله فيما بينهما"(1).
ثم إن الكرم المطلوب من العبد لا يتوقف على الكرم بالمال فحسب، وإنما يدخل فيه الكرم بالجاه والكرم بالعلم، والكرم بالنفس والجود بها في سبيل الله.
خامسًا: كثرة دعاء الله - عز وجل - وطلب الحاجات منه سبحانه، مهما كان قدر هذه الحاجة وإحسان الظن به تعالى، فإن تأخير أو منع إجابة الدعاء وقضاء الحاجة، لا يقدح في كرم الله سبحانه وجوده، بل إن منعه سبحانه قضاء حاجة عبده المؤمن هي في ذاته كرمًا منه سبحانه ورحمة، إذ قد يكون في قضاء الحاجة التي يلح العبد في قضائها هلاك له في دينه أو دنياه، والله سبحانه بمنه وكرمه ورحمته لا يستجيب له لما يعلم من ضررها عليه لو حصلت له(2).
سادسًا: المكرم من أكرمه الله تعالى بالإيمان والهدى ولو كان فقيرًا مبتلى، والمهان من أهانه الله تعالى بالكفر والفسوق والعصيان ولو كان غنيًا ووجيهًا ذا مال وبنين: { وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ } [الحج: 18]، هذا هو ميزان الإكرام والإهانة وليست هي موازين المال والبنين والجاه والسلطان التي يوزن بها الناس اليوم، قال الله - عز وجل -: { فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا } الآية [الفجر:15، 16]، وقال تعالى: { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) } [ المؤمنون:55، 56].
اقتران اسمه سبحانه (الكريم) باسمه سبحانه (الغني):
__________
(1) الصلاة وحكم تاركها ص226.
(2) الصلاة ص 193، 194.(1/485)
قال الله - عز وجل -: { قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) } [النمل: 40].
يوضح الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - شيئًا من وجه هذا الاقتران فيقول: "الله سبحانه غني كريم، عزيز رحيم، فهو محسن إلى عبده مع غناه عنه، يريد به الخير، ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إليه من العبد، ولا لدفع مضرة، بل رحمة منه وإحسانًا، فهو سبحانه لم يخلق خلقه ليتكثَّر بهم من قِلَّة، ولا ليعتزَّ بهم من ذِلَّة، ولا ليرزقوه ولا لينفعوه، ولا ليدفعوا عنه، كما قال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) } [ الذاريات: 56 - 58]، وقال تعالى: { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111) } [الإسراء: 111] فهو سبحانه لا يوالي من يواليه من الذل، كما يوالي المخلوق المخلوق، وإنما يوالي أولياءه إحسانًا ورحمة ومحبة لهم، وأما العباد فإنهم كما قال تعالى: { وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ } [محمد: 38]، فهم لفقرهم وحاجاتهم إنما يحسن بعضهم إلى بعض لحاجته إلى ذلك وانتفاعه به عاجلاً أو آجلاً، ولولا تصور ذلك النفع لما أحسن إليه، فهو في الحقيقة إنما أراد الإحسان إلى نفسه، وجعل إحسانه إلى غيره وسيلة وطريقًا إلى وصول نفع ذلك الإحسان إليه، فإنه إما أن يحسن إليه لتوقع جزائه في العاجل، فهو محتاج إلى ذلك الجزاء، أو معاوضة بإحسانه، أو لتوقع حمده وشكره، وهو أيضًا إنما يحسن إليه ليحصل منه ما هو محتاج إليه من الثناء(1/486)
والمدح، فهو محسن إلى نفسه بإحسانه إلى الغير، وإما أن يريد الجزاء من الله تعالى في الآخرة، فهو أيضًا محسن إلى نفسه بذلك، وإنما أخر جزاءه إلى يوم فقره وفاقته، فهو غير ملوم في هذا القصد، فإنه فقير محتاج، وفقره وحاجته أمر لازم له من لوازم ذاته، فكماله أن يحرص على ما ينفعه ولا يعجز عنه، وقال تعالى: { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ } [الإسراء: 7]، وقال: { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) } [البقرة: 272]، وقال تعالى، فيما رواه عنه رسوله × : (يا عبادي إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني؛ يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوَفّيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه)(1) "(2).
- - -
(79)، (80) [الشاكر]، [الشكور]
ورد اسمه سبحانه (الشكور) في القرآن الكريم أربع مرات كما في قوله سبحانه: { وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) } [التغابن: 17]، وقوله - عز وجل -: { لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) } [فاطر: 30].
وقوله تبارك وتعالى: { إِن رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) } [فاطر: 34].
وقوله سبحانه: { وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) } [الشورى: 23]، أما اسمه سبحانه (الشاكر)، فقد ورد في القرآن الكريم مرتين فقط وذلك في قوله - عز وجل -: { وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) } [البقرة: 158]، وقوله تبارك وتعالى: { مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147) }
[النساء: 147].
المعنى اللغوي:
__________
(1) مسلم (2577).
(2) إغاثة اللهفان 1/41.(1/487)
قال في لسان العرب: " (الشكر): عرفان الإحسان ونشره... ورجل شكور: كثير الشكر. وفي التنزيل: { إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) } [الإسراء: 2]... والشكور من أبنية المبالغة، والشكور من صفات الله جل اسمه معناه: أنه يزكو عنده القليل من أعمال العباد فيضاعف لهم الجزاء.. وأما الشكور من عباد الله فهو الذي يجتهد في شكر ربه بطاعته وأدائه ما وظف عليه من عبادته.. والشكر مثل الحمد إلا أن الحمد أعم منه فإنك تحمد الإنسان على صفاته الجميلة وعلى معروفه، ولا تشكره إلا على معروفه دون صفاته.
والشكر من شكرت الإبل تشكر إذا أصابت مرعى فسمنت عليه. والشكور من الدواب ما يكفيه العلف القليل، وقيل الشكور من الدواب: الذي يسمن على قلة العلف، كأنه يشكر وإن كان ذلك الإحسان قليلاً"(1).
المعنى في حق الله تعالى:
قال الطبري رحمه الله تعالى: "قال قتادة: { إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) } [فاطر: 30]، إنه غفور لذنوبهم، شكور لحسناتهم"(2).
وقال أيضًا: "إن الله غفور للذنوب، شكور للحسنات يضاعفها"(3).
قال الخطابي: " (الشكور): هو الذي يشكر اليسير من الطاعة فَيُثيبُ عليه الكثير من الثواب، ويعطي الجزيلَ من النعمة، فيرضى باليسير من الشكر كقوله سبحانه: { إِن رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) } [فاطر: 34].
ومعنى الشكر المضاف إليه: الرضا بيسير الطاعة من العبد والقبولُ له، وإعظام الثواب عليه والله أعلم. وقد يحتمل أن يكون معنى الثناء على الله عز وجل بالشكور ترغيب الخلق في الطاعة، قَلَّتْ أو كثُرت، لئلا يستقلُّوا القليل من العمل فلا يتركوا اليسير من جملته إذا أعوزهم الكثير منه" أهـ(4).
وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في نونيته:
"وهو الشكور فلن يضيع سعيهم لكن يضاعفه بلا حسبان
__________
(1) لسان العرب 4/2305.
(2) تفسير الطبري 22/133.
(3) نفس المصدر، 25/27.
(4) شأن الدعاء ص 65، 66 .(1/488)
ما للعباد عليه حق واجب هو أوجب الأجر العظيم الشان
كلا ولا عمل لديه ضائع إن كان بالإخلاص والإحسان
إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله والحمد للمنان"(1)
وقال الشيخ السعدي: "ومن أسمائه تعالى الشاكر والشكور وهو الذي يشكر القليل من العلم الخالص النقي النافع، ويعفو عن الكثير من الزلل ولا يضيع أجر من أحسن عملاً، بل يضاعفه أضعافًا مضاعفة بغير عدٍ ولا حساب، ومن شكره أنه يجزي بالحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وقد يجزي الله العبد على العمل بأنواع من الثواب العاجل قبل الآجل. وليس عليه حق واجب بمقتضى أعمال العباد وإنما هو الذي أوجب الحق على نفسه كرمًا منه وجودًا، والله لا يضيع أجر العاملين إذا أحسنوا في أعمالهم وأخلصوا لله تعالى"(2).
وقال أيضًا: "فإذا قام عبده بأوامره، وامتثل طاعته أعانه على ذلك، وأثنى عليه، ومدحه، وجازاه في قلبه نورًا وإيمانًا وسعة، وفي بدنه قوة ونشاطًا وفي جميع أحواله زيادة بركة ونماء، وفي أعماله زيادة توفيق.
ثم بعد ذلك يقدم على الثواب الآجل عند ربه كاملاً موفورًا، لم تنقصه هذه الأمور. ومن شكره لعبده أن من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه... "(3).
الفرق بين الحمد والشكر:
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "والفرق بينهما: أن الشكر أعم من جهة أنواعه وأسبابه، وأخص من جهة متعلقاته، والحمد أعم من جهة المتعلقات وأخص من جهة الأسباب.
ومعنى هذا: أن الشكر يكون بالقلب خضوعًا واستكانة، وباللسان ثناءً واعترافًا، وبالجوارح طاعة وانقيادًا، ومتعلقه: النعم دون الأوصاف الذاتية، فلا يقال: شكرنا الله على حياته وسمعه وبصره وعلمه، وهو المحمود عليها كما هو محمود على إحسانه وعدله، والشكر يكون على الإحسان والنعم.
__________
(1) النونية 2/230.
(2) انظر توضيح الكافية الشافية ص 125، 126، والحق الواضح المبين ص 70.
(3) تفسير السعدي 1/185، 5/630.(1/489)
فكل ما يتعلق به الشكر يتعلق به الحمد من غير عكس، وكل ما يقع به الحمد يقع به الشكر من غير عكس، فإن الشكر يقع بالجوارح، والحمد يقع بالقلب واللسان"أهـ(1).
ويفصل ابن القيم - رحمه الله تعالى - بعض معاني شكر الله - عز وجل - فيقول: "وأما شكر الربِّ تعالى: فله شأنٌ آخر كشأن صبره، فهو أولى بصفة الشكر من كلِّ شكورٍ، بل هو الشكور على الحقيقة، فإنه يُعطي العبد؛ ويوفِّقه لما يشكره عليه، ويشكر القليلَ من العمل والعطاء؛ فلا يستقلّه أن يشكره، ويشكر الحسنة بعشر أمثالها؛ إلى أضعاف مضاعفة.
ويشكر عبده بقوله؛ بأن يُثني عليه بين ملائكته وفي ملئه الأعلى؛ ويُلقي له الشكر بين عباده؛ ويشكره بفعله.
فإذا ترك له شيئًا أعطاه أفضل منه، وإذا بذل له شيئًا ردَّه عليه أضعافًا مضاعفة، وهو الذي وفَّقه للترك والبذل؛ وشكره على هذا وذاك.
ولما عقر نبيهُ سليمانُ الخيلَ - غضبًا له إذ شغلته عن ذكره؛ فأراد ألا تشغله مرة أخرى - أعاضه عنها متن الريح، ولما ترك الصحابة ديارهم وخرجوا منها في مرضاته، أعاضهم عنها أن ملَّكهم الدنيا؛ وفتحها عليهم، ولما احتمل يوسف الصديق ضيق السجن، شكر له ذلك بأن مكَّن له: { فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ } [يوسف: 56]، ولما بذل الشهداء أبدانهم له حتى مزَّقها أعداؤه، شكر لهم ذلك بأن أعاضهم منها طيرًا خضرًا أقرَّ أرواحهم فيها؛ ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها إلى يوم البعث؛ فيردها عليهم أكمل ما تكون وأجمله وأبهاه، ولما بذل رسله أعراضهم فيه لأعدائهم فنالوا منهم وسبُّوهم: أعاضهم من ذلك بأن صلَّى عليهم هو وملائكته؛ وجعل لهم أطيب الثناء في سماواته وبين خلقه؛ فأخلصهم: { بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) } [ص: 46].
__________
(1) مدارج السالكين 2/246.(1/490)
ومن شكره سبحانه أنه يُجازي عدوَّه بما يفعله من الخير والمعروف في الدنيا؛ ويُخفِّف به عنه يوم القيامة؛ فلا يُضيع عليه ما يعمله من الإحسان؛ وهو من أبغض خلقه إليه.
ومن شكره أنه غفر للمرأة البغيِّ بسقيها كلبًا كان قد جهده العطش؛ حتى أكل الثرى(1)، وغفر لآخر بتنحيته غصن شوكٍ عن طريق المسلمين(2)، فهو سبحانه يشكر العبد على إحسانه لنفسه، والمخلوق إنما يشكر من أحسن إليه.
وأبلغ من ذلك أنه سبحانه هو الذي أعطى العبد ما يحسن به إلى نفسه؛ وشكرَه على قليله بالأضعاف المضاعفة؛ التي لا نسبة لإحسان العبد إليها، فهو المحسن بإعطاء الإحسان وإعطاء الشكر، فمَنْ أحقُّ باسم (الشكور) منه سبحانه؟
وتأمل قوله سبحانه: { مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147) } [النساء: 147] كيف تجد في ضمن هذا الخطاب أن شكره تعالى يأبى تعذيب عباده سدى بغير جرم؛ كما يأبى إضاعة سعيهم باطلاً، فالشكور لا يُضيع أجر محسنٍ؛ ولا يُعذب غير مسيء.
وفي هذا ردٌّ لقول من زعم أنه سبحانه يُكلِّفه ما لا يُطيقه؛ ثم يعذبه على ما لا يدخل تحت قدرته تعالى الله عن هذا الظنِّ الكاذب، والحسبان الباطل علوًا كبيرًا، فشُكْرُه سبحانه اقتضى أن لا يُعذب المؤمنَ الشكورَ؛ ولا يُضيع عمله، وذلك من لوازم هذه الصفة؛ فهو منزَّهٌ عن خلاف ذلك، كما يُنزَّه عن سائر العيوب والنقائص التي تُنافي كماله وغناه وحمده.
__________
(1) انظر الحديث في البخاري (3467)، ومسلم (2245).
(2) انظر الحديث في البخاري (652)، ومسلم (1914).(1/491)
ومن شُكْرِه سبحانه: أنه يُخرج العبد من النار بأدنى مثقال ذرةٍ من خيرٍ؛ ولا يُضيع عليه هذا القدر، ومِن شُكْرِه سبحانه: أن العبد من عباده يقوم له مقامًا يُرضيه بين الناس؛ فيشكره له؛ ويُنوِّه بذكره؛ ويُخبر به ملائكته وعباده المؤمنين، كما شكر لمؤمن آل فرعون ذلك المقام؛ وأثنى به عليه؛ ونوَّه بذكره بين عباده، وكذلك شكره لصاحب يس مقامه ودعوته إليه، فلا يهلك عليه بين شكره ومغفرته إلا هالك، فإنه سبحانه: غفور شكور يغفر الكثير من الزلل، ويشكر القليل من العمل"(1).
من آثار الإيمان باسميه سبحانه (الشاكر، الشكور):
أولاً: محبته سبحانه والسعي في مرضاته حيث إنه سبحانه قد غمر العباد بفضله وإحسانه وكرمه، وهو الذي أنعم عليهم بنعمة الإيجاد والإعداد والإمداد، ومع ذلك فحينما يعملون العمل الصالح القليل الذي هو بتوفيقه وفضله يشكرهم عليه ويضاعف لهم الأجور ويغفر لهم الذنوب، فسبحانه من إله بر رحيم جواد كريم يستحق الحمد كله والحب كله وإفراده وحده بالعبادة لا شريك له.
يقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: { إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) } [التغابن: 17]: "وتبارك الله ما أكرمه وما أعظمه وهو ينشئ العبد ثم يرزقه ثم يسأله فضل ما أعطاه فرضًا يضاعفه، ثم يشكر لعبده الذي أنشأه وأعطاه ويعامله بالحلم في تقصيره هو عن شكر مولاه .. يا لله!! "(2).
__________
(1) عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين ص 426 - 428.
(2) في ظلال القرآن 6/3591.(1/492)
ثانيًا: الحياء من الله - عز وجل - والقيام بشكر نعمه سبحانه وحمده، وذلك بالقلب واللسان والجوارح؛ وفي ذلك يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: "وإذا كان الخالق المنشئ، المنعم المتفضل، الغني عن العالمين.. يشكر لعباده صلاحهم وإيمانهم وشكرهم وامتنانهم.. وهو غني عنهم وعن إيمانهم وعن شكرهم وامتنانهم.. إذا كان الخالق المنشئ، المنعم المتفضل، الغني عن العالمين يشكر.. فماذا ينبغي للعباد المخلوقين المحدثين؛ المغمورين بنعمة الله.. تجاه الخالق الرازق المنعم المتفضل الكريم؟!
ألا إنها اللمسة الرفيقة العميقة التي ينتفض لها القلب ويخجل ويستجيب.
ألا إنها الإشارة المنيرة إلى معالم الطريق.. الطريق إلى الله الواهب المنعم، الشاكر العليم"(1).
ثالثًا: القيام بشكر الله - عز وجل - لا يتوقف على النطق فقط، وإنما هو من أعمال القلوب واللسان والجوارح، وقد مدح الله - عز وجل - أنبياءه وعباده الصالحين بأنهم من الشاكرين كما في قوله تعالى عن نوح عليه السلام: { إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) } [الإسراء: 3]، وقال عن خليله إبراهيم عليه السلام: { شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) } [النحل: 121]، وقال نبينا محمد × عندما أشفقت عليه عائشة - رضي الله عنها - من طول القيام في العبادة: (أفلا أكون عبدًا شكورًا)(2) ، وأمر الله - عز وجل - عباده بشكره فقال: { اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) } [سبأ: 13]، وقال سبحانه: { وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) } [البقرة: 172]، وقال سبحانه: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152) } [البقرة: 152].
__________
(1) في ظلال القرآن 2/786.
(2) البخاري (1130)، ومسلم (2819).(1/493)
والمؤمن لا يستطيع شكر ربه سبحانه إلا بأن يعينه الله - عز وجل - على ذلك، ولذا أوصى النبي × معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أن يقول دبر كل صلاة: (اللَّهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)(1).
وجاء في الحديث: (اللَّهم اجعلني لك شكارًا لك ذكارًا.. الحديث)(2).
ويذكر ابن القيم رحمه الله تعالى: "أن الشكر مبني على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور وحبه له، واعترافه بنعمته، وثناؤه عليه بها وأن لا يستعمله فيما يكره، فهذه الخمس هي أساس الشكر وبناؤه عليها فمتى عدم منها واحدة اختل من قواعد الشكر قاعدة، وكل من تكلم في الشكر وحدِّه فكلامه إليها يرجع، وعليها يدور"(3).
ثم تحدث عن معنى الثناء على الله - عز وجل - بالنعمة، فقال: "والثناء على المنعم المتعلق بالنعمة نوعان: عام وخاص. فالعام وصفه بالجود والكرم، والبر والإحسان، وسعة العطاء ونحو ذلك. والخاص: التحدث بنعمته والإخبار بوصولها إليه من جهته كما قال تعالى: { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) } [الضحى: 11] "(4).
والتحدث بالنعمة يشتمل الإخبار بها وقوله: أنعم الله علي بكذا وكذا، وكذلك الدعوة إلى الله تعالى وتبليغ رسالته وتعليم الأمة.
ويتحدث - رحمه الله تعالى - عن كرم الله تعالى وعظيم بره بعبده المؤمن حينما يأمره بشكره فيقول: "فإنه تعالى هو المنعم المتفضل، الخالق للشكر والشاكر.وما يُشكر عليه؛ فلا يستطيع أحد أن يحصي ثناء عليه، فإنه هو المحسن إلى عبده بنعمه، وأحسن إليه بأن أوزعه شكرها؛ فشكره نعمة من الله أنعم بها عليه تحتاج إلى شكر آخر، وهلم جرا.
__________
(1) أبو داود (1522)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1347).
(2) الترمذي في الدعوات باب من أدعية النبي × وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح أبي داوود (1337).
(3) مدارج السالكين 2/244.
(4) نفس المصدر 2/582 (ط.دار طيبة).(1/494)
ومن تمام نعمته سبحانه، وعظيم بره وكرمه وجوده ومحبته له على هذا الشكر، ورضاه منه به، وثناؤه عليه به، ومنفعته وفائدته مختصة بالعبد؛ لا تعود منفعته على الله. وهذا غاية الكرم الذي لا كرم فوقه؛ ينعم عليك ثم يوزعك شكر النعمة، ويرضى عنك، ثم يعيد إليك منفعة شكرك، ويجعله سببًا لتوالي نعمه واتصالها إليك، والزيادة على ذلك منها"(1).
رابعًا: ومن شكر الله - عز وجل - شكر من أجرى الله سبحانه النعمة على يده، فقد أمر الله سبحانه به في قوله تعالى: { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) } [لقمان: 14] فأمر بشكره ثم بشكر الوالدين إذ كانا سبب وجوده في الدنيا، وسَهِرَا وتعبا في تربيته وتغذيته، فمن عقَّهما أو أساء إليهما فما شكرهما على صنيعهما، بل جحد أفضالهما عليه، ومن لم يشكرهما فإنه لم يشكر الله الذي أجرى تلك النعم على أيديهما، وقد قال ×: (من لا يشكر الناس لا يشكر الله)(2).
خامسًا: إن الله سبحانه وتعالى شكور يحب الشاكرين له، الشاكرين لعباده المحسنين، لذا فإن من آثار اسمه سبحانه (الشاكر، الشكور): الاتصاف بموجب هذا الاسم الكريم، والبعد عن ضده وهو الكفر والجحود.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "ولمّا كان سبحانه هو الشكور على الحقيقة، كان أحب خلقه إليه من اتصف بصفة الشكر، كما أن أبغض خلقه إليه من عطَّلها واتصف بضدها.
وهذا شأن أسمائه الحسنى، أحب خلقه إليه من اتصف بموجبها، وأبغضهم إليه من اتصف بأضدادها، ولهذا يبغض: الكفور، والظالم، والجاهل، والقاسي القلب، والبخيل، والجبان، والمهين، واللئيم.
__________
(1) مدارج السالكين 2/252.
(2) رواه الترمذي في البر والصلة باب ما جاء في الشكر لمن أحسن إليك ، وقال: حديث حسن صحيح (1954).(1/495)
وهو سبحانه جميل يحب الجمال، عليم يحب العلماء، رحيم يحب الراحمين، محسن يحب المحسنين، شكور يحب الشاكرين، صبور يحب الصابرين، جواد يحب أهل الجود، ستار يحب أهل الستر، قادر يلوم على العجز، والمؤمن القوي أحب إليه من المؤمن الضعيف، عفو يحب العفو، وتر يحب الوتر، وكل ما يحبه فهو من آثار أسمائه وصفاته وموجبها، وكل ما يبغضه فهو ما يضادها وينافيها"أهـ(1).
اقتران اسميه سبحانه (الشاكر)، و(الشكور) بأسمائه سبحانه الحسنى:
اقتران اسمه سبحانه (الشاكر) باسمه سبحانه (العليم):
ورد هذا الاقتران مرتين في القرآن الكريم، وذلك في قوله تعالى: { وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) } [البقرة: 158]، وقوله سبحانه: { مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147) }
[النساء: 147].
وقد سبق الكلام عن وجه هذا الاقتران في الكلام عن اسمه سبحانه (العليم) فليرجع إليه.
اقتران اسمه سبحانه (الشكور) باسمه سبحانه (الحليم):
ورد هذا الاقتران مرة واحدة وذلك في قوله تعالى: { إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) } [التغابن: 17].
وقد سبق الكلام عن وجه هذا الاقتران في الكلام عن اسمه سبحانه (الحليم) فليرجع إليه.
اقتران اسمه سبحانه (الشكور) باسمه سبحانه (الغفور):
وجاء هذا الاقتران في القرآن الكريم ثلاث مرات وذلك في قوله تعالى: { لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) } [فاطر: 30]، وقوله سبحانه: { إِن رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) } [فاطر: 34]، وقوله عز وجل: { وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) } [الشورى: 23].
__________
(1) عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين ص 337.(1/496)
وقد سبق الكلام عن وجه هذا الاقتران في الكلام عن اسمه سبحانه (الغفور) فليرجع إليه، وقد وقفت بعد ذلك على كلام نفيس للإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - يفصل القول في سر اقتران هذين الاسمين الكريمين فيقول: "يا من عزم على السفر إلى الله والدار الآخرة: قد رُفع لك علمٌ فشمِّر إليه فقد أمكن التشمير، واجعل سيرك بين مطالعة منَّته، ومشاهدة عيب النفس والعمل والتقصير، فما أبقى مشهدُ النعمة والذنب للعارف من حسنةٍ يقول: هذه مُنجيتي من عذاب السعير، ما المُعوَّل إلا على عفوه ومغفرته فكلُّ أحدٍ إليهما فقير: (أبوء لك بنعمتك عليَّ وأبوء بذنبي فاغفر لي)؛ أنا المذنب المسكين وأنت (الرحيم الغفور).
ما تُساوي أعمالُك - لو سَلِمَتْ مما يُبطلها - أدنى نعمةٍ من نعمه عليك، وأنت مرتهنٌ بشكرها من حين أُرسل بها إليك، فهل رعيتها بالله حقَّ رعايتها وهي في تصريفك وطوع يديك؟ فتعلّق بحبل الرجاء ؛ وادخل من باب التوبة والعمل الصالح: { إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) } [ فاطر:30].
نهج للعبد طريق النجاة وفتح له أبوابها، وعرفه طريق تحصيل السعادة وأعطاه أسبابها، وحذره من وبال معصيته وأشهده على نفسه وعلى غيره شؤمها وعقابها، وقال: إن أطعت فبفضلي؛ وأنا أشكر، وإن عصيت فبقضائي، وأنا أغفر: { إِن رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) } [ فاطر:34].
أزاح عن العبد العلل، وأمره أن يستعيذ به من العجز والكسل، ووعده أن يشكر له القليل من العمل، ويغفر له الكثير من الزلل: { إِن رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) } [ فاطر:34].
أعطاه ما يشكر عليه ثم يشكره على إحسانه إلى نفسه لا على إحسانه إليه، ووعده على إحسانه لنفسه أن يُحسن جزاءه ويقربه لديه، وأن يغفر له خطاياه إذا تاب منها ولا يفضحه بين يديه: { إِن رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } .(1/497)
وثَقَتْ بعفوه هفوات المذنبين فوَسِعَتْها، وعَكَفَتْ بكرمه آمال المحسنين فما قطع طمعها، وخَرَقَتْ السبعَ الطباق دعواتُ التائبين والسائلين فسمعها، ووسع الخلائق عفوُه ومغفرتُه ورزقُه فما: { مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا } [ هود:6]، { إِن رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } .
يجود على عبيده بالنوال قبل السؤال، ويعطي سائله ومؤمِّله فوق ما تعلَّقت به منهم الآمال، ويغفر لمن تاب إليه ولو بلغت ذنوبه عدد الأمواج والحصى والتراب والرمال: { إِن رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } .
أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وأفرح بتوبة التائب من الفاقد لراحلته التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة إذا وجدها، وأشكر للقليل من جميع خلقه، فمن تقرَّب إليه بمثقال ذرةٍ من الخير شكرها وحمدها: { إِن رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } .
تعرَّف إلى عباده بأسمائه وأوصافه، وتحبَّب إليهم بحلمه وآلائه، ولم تمنعه معاصيهم بأن جاد عليهم بآلائه، ووعد من تاب إليه وأحسن طاعته بمغفرة ذنوبه يوم لقائه: { إِن رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } .
السعادة كلُّها في طاعته، والأرباح كلُّها في معاملته، والمحن والبلايا كلُّها في معصيته ومخالفته، فليس للعبد أنفع من شكره وتوبته: { إِن رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } .
أفاض على خلقه النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته تغلب غضبه: { إِن رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } .
يُطاع فيشكر؛ وطاعته من توفيقه وفضله، ويُعصى فيحلم؛ ومعصية العبد من ظلمه وجهله، ويتوب إليه فاعل القبيح فيغفر له حتى كأنه لم يكن قطُّ من أهله: { إِن رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } .(1/498)
الحسنة عنده بعشر أمثالها أو يضاعفها بلا عددٍ ولا حسبان، والسيئة عنده بواحدة ومصيرها إلى العفو والغفران، وباب التوبة مفتوحٌ لديه منذ خلق السماوات والأرض إلى آخر الزمان: { إِن رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } .
بابه الكريم مناخ الآمال ومحطُّ الأوزار، وسماء عطاه لا تقلع عن الغيث، بل هي مدرار، ويمينه ملأى لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار: { إِن رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } .
لا يُلقَّى وصاياه إلا الصابرون، ولا يفوز بعطاياه إلا الشاكرون، ولا يهلك عليه إلا الهالكون، ولا يشقى بعذابه إلا المتمردون: { إِن رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } .
فإياك أيها المُتمرِّد أن يأخذك على غرةٍ فإنه غيور، وإذا أقمت على معصيته وهو يُمدُّك بنعمته فاحذره فإنه لم يُهملك لكنه صبور، وبُشراك أيها التائب بمغفرته ورحمته: { إِن رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } .
من علم أن الربَّ شكورٌ تنوع في معاملته، ومن عرف أنه واسع المغفرة تعلَّق بأذيال مغفرته، ومن علم أن رحمته سبقت غضبه لم ييأس من رحمته: { إِن رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } .
من تعلَّق بصفة من صفاته: أخذته بيده حتى تُدخله عليه، ومن سار إليه بأسمائه الحسنى وصل إليه، ومن أحبَّه أحبَّ أسماءه وصفاته، وكانت آثر شيءٍ لديه، حياة القلوب في معرفته ومحبته، وكمال الجوارح في التقرب إليه بطاعته، والقيام بخدمته والألسنة بذكره والثناء عليه بأوصاف مدحته، فأهل شكره أهل زيادته؛ وأهل ذكره أهل مجالسته؛ وأهل طاعته أهل كرامته؛ وأهل معصيته لا يُقنِّطهم من رحمته، إن تابوا فهو حبيبهم؛ وإن لم يتوبوا فهو طبيبهم، يبتليهم بأنواع المصائب: ليكفر عنهم الخطايا؛ ويُطهِّرهم من المعائب: { إِن رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } "(1).
- - -
(81) [السميع]
__________
(1) عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين ص 419 - 431.(1/499)
ورد اسمه سبحانه (السميع) في القرآن الكريم خمسًا وأربعين مرة من ذلك قوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) } [الشورى: 11]، وقوله سبحانه: { وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) } [المجادلة: 1].
وقوله عز وجل: { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [البقرة: 127].
وقوله سبحانه: { وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) } [سبأ: 50].
المعنى اللغوي:
قال في اللسان: "السمع للإنسان وغيره: حِسُّ الأذن أو ما وقر في الأذن من شيء تسمعه، ورجل سميع أي: سامع ورجل سَّماع إذا كان كثير الاستماع لما يقال، وينطق كقوله تعالى: { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } [المائدة: 41].
والسميع على وزن فعيل من أبنية المبالغة"(1).
وتفسير صاحب اللسان هنا السمع بحس الأذن مختص بسمع أغلب المخلوقات. ولو فسَّره بإدراك الصوت لكان أولى؛ لأنه لا يشترط في السمع الأذن، حتى في سمع المخلوق - كسمع الملائكة - وإثبات السمع لهم لا يستلزم إثبات الآذان.
وقال الزجاج: "ويجيء في كلامهم: سمع بمعنى أجاب"(2).
المعنى في حق الله تعالى:
لله تعالى سمع يليق بعظمته وجلاله من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تمثيل، ولا تكييف، يسمع به أقوال عباده وما ينطق به خلقه، سواء عند الجهر أو الخفوت.
يقول الطبري - رحمه الله تعالى - عند قوله سبحانه: { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } : "يقول جل ثناؤه واصفًا نفسه بما هو به (وهو) يعني نفسه: السميع لما تنطق به خلقه من قول"(3).
__________
(1) اللسان 3/2096، وانظر النهاية 2/401.
(2) تفسير الأسماء ص 42.
(3) تفسير الطبري 25/9.(1/500)
وقال الخطابي رحمه الله تعالى: " (السميع) بمعنى السامع إلا أنه أبلغ في الصفة وبناؤه فعيل بناء المبالغة كقولهم: عليم من عالم، وقدير من قادر، وهو الذي يسمع السر والنجوى سواء عند الجهر والخفوت والنطق والسكوت.
وقد يكون السماع بمعنى: القبول والإجابة؛ كقول النبي ×: ( اللَّهم إني أعوذ بك من قول لا يسمع)(1) ، أي: من دعاء لا يستجاب، ومن ذلك قول المصلي: "سمع الله لمن حمده" معناه: قبل الله حمد من حمده"(2).
فيكون من معاني السميع: المستجيب لعباده إذا توجهوا إليه بالدعاء وتضرعوا.
ومن ذلك قول الخليل عليه السلام: { إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ } [إبراهيم: 39].
ويقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في نونيته:
"وهو السميع يرى ويسمع كل ما في الكون من سر ومن إعلان
ولكل صوت منه سمع حاضر فالسر والإعلان مستويان
والسمع منه واسع الأصوات لا يخفى عليه بعيدها والداني"(3)
وقال أيضًا:
"والحمد لله السميع لسائر الـ أصوات من سر ومن إعلان"(4)
ويقول أيضًا: " (السميع): الذي قد استوى في سمعه سر القول وجهره، وسع سمعه الأصوات، فلا تختلف عليه أصوات الخلق، ولا تشتبه عليه، ولا يشغله منها سمع عن سمع ولا تغلطه المسائل ولا يبرمه كثرة السائلين.
وقالت عائشة رضي الله عنها: "الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة تشكو إلى رسول الله × وإني ليخفى عليَّ بعض كلامها، فأنزل الله - عز وجل -: { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) } " [المجادلة: 1]"(5).
__________
(1) أحمد 3/192، وصححه الألباني.
(2) شأن الدعاء ص 9.
(3) النونية 2/215.
(4) النونية البيت رقم (4983).
(5) طريق الهجرتين ص 234، والحديث رواه البخاري تعليقًا 13/273 وأحمد 6/46، والنسائي (3460).(2/1)
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "ومن أسمائه الحسنى السميع الذي يسمع جميع الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحالات، فالسر عنده علانية، والبعيد عنده قريب"(1).
وسمعه تعالى نوعان:
أحدهما: سمعه لجميع الأصوات الظاهرة والباطنة، الخفية والجلية وإحاطته التامة بها.
والثاني: سمع الإجابة منه للسائلين والداعين والعابدين فيجيبهم ويثيبهم، ومنه قوله تعالى: { إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) } [إبراهيم: 39]، وقول المصلي: "سمع الله لمن حمده، أي: استجاب"(2).
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (السميع):
أولاً: إثبات صفة السمع لله تعالى كما يليق بعظمته سبحانه وجلاله من غير تمثيل ولا تحريف ولا تكييف، خلافًا للمعطلة والنفاة، سواء منهم من نفى هذا الاسم لفظه ومعناه، أو من أثبت اللفظ ولم يثبت المعنى كالمفوضة وأشباههم.
قال الأزهري رحمه الله: "والعجب من قوم فسّروا (السميع) بمعنى المُسْمِعْ فرارًا من وصف الله بأن له سمعًا، وقد ذكر الله الفعل في غير موضع من كتابه، فهو سميع ذو سمع، بلا تكييف ولا تشبيه بالسميع من خلقه، ولا سمعه كسمع خلقه ونحن نصف الله بما وصف به نفسه بلا تحديد ولا تكييف"(3).
وقد بوّب البخاري - رحمه الله تعالى - في صحيحه في كتاب التوحيد: باب "وكان الله سميعًا بصيرًا".
قال ابن بطال: "غرض البخاري في هذا الباب الرد على من قال إن معنى "سميع بصير": عليم، قال: ويلزم من قال ذلك أن يسويه بالأعمى الذي يعلم أن السماء خضراء ولا يراها، والأصم الذي يعلم أن في الناس أصواتًا ولا يسمعها.
__________
(1) توضيح الكافية الشافية ص 118.
(2) الحق الواضح المبين ص 35.
(3) تهذيب اللغة 2/124.(2/2)
ولا شك أن من سمع وأبصر أدْخَلُ في صفة الكمال ممن انفرد بأحدهما دون الآخر، فصح أن كونه سميعًا بصيرًا يفيد قدرًا زائدًا على كونه عليمًا، وكونه سميعًا بصيرًا يتضمن أنه يسمع بسمع، ويبصر ببصر، كما تضمن كونه عليمًا أنه يعلم بعلم ولا فرق بين إثبات كونه سميعًا بصيرًا وبين كونه ذا سمع وبصر. قال: وهذا قول أهل السُّنَّة قاطبة"أهـ(1).
واشتراك المخلوق مع الخالق سبحانه في هذا الاسم لا يعني المشابهة، فإن صفات المخلوق تناسب ضعفه وعجزه وخلقه، وصفات الخالق - عز وجل - تليق بكماله وجلاله سبحانه وتعالى.
يقول أبو القاسم الأصبهاني - رحمه الله تعالى - موضحًا بعض الفروق بين سمع الله - عز وجل - وسمع المخلوق: "خُلق الإنسان صغيرًا لا يسمع، فإنْ سمع لا يعقل ما يسمع، فإذا عَقَل ميَّزَ بين المسموعات فأجاب عن الألفاظ بما يستحق، وميَّز الكلام المستحسن من المستقبح، ثم كان لسمعه مَدى إذا جاوزه لم يسمع، ثم إنْ كلَّمه جماعة في وقتٍ واحد عَجَزَ عن استماع كلامهم، وعن إدراك جوابهم.
والله - عز وجل - السميع لدعاء الخلق وألفاظهم عند تفرقهم واجتماعهم مع اختلافِ ألسنتهم ولُغَاتهم، يعلم ما في قلب القائل قبل أن يقول، ويعجزُ القائل عن التعبير عن مراده فيعلم الله فيُعطيه الذي في قلبه، والمخلوق يزول عنه السمع بالموت، والله تعالى لم يزل ولا يزال، يُفني الخلق ويرثهم فإذا لم يبق أحدٌ قال: { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } [غافر: 16]، فلا يكون من يرد! فيقول: { لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) } [غافر: 16] "(2).
__________
(1) فتح الباري 13/372، 373.
(2) نقلاً عن النهج الأسمى، محمد الحمود النجدي 1/231.(2/3)
ثانيًا: مراقبة الله - عز وجل - فيما يقوله اللسان، سواء أسر القول أو جهر به، وسواء كان ذلك في جماعة أو في خلوة، قال الله - عز وجل -: { سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) } [الرعد: 10]، وقال سبحانه: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) } [المجادلة: 7].
وهذا الإيمان يثمر في القلب الخوف من الله - عز وجل - والمحافظة على اللسان من أن ينطق بما يسخط الله تعالى، فالله تعالى يسمع ذلك والملائكة تكتبه، ومن تعبد لله تعالى بهذا الاسم الكريم جنب لسانه الفحش من القول من سب، وسخرية، وغيبة، ونميمة، وبهتان، ولهو باطل أو نشر لباطل يضل به الناس.
فعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ×: (ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم)(1).
__________
(1) الترمذي في الإيمان باب ما جاء في حرمة الصلاة، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2110).(2/4)
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "اجتمع عند البيت قرشيان وثقفي - أو ثقفيان وقرشي - كثيرةٌ شحم بطونهم، قليلةٌ فقهُ قلوبهم. فقال أحدُهم: أترون أن الله يسمع ما نقول؟ قال الآخرُ: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، وقال الآخر: إن كان يسمعُ إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا. فأنزل الله عز وجل: { وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) } [فصلت: 22](1).
ثالثًا: اللجوء إلى الله - عز وجل - وسؤاله سبحانه من حاجات الدنيا والآخرة، فهو السميع لدعاء عباده سرهم ونجواهم، وهو السميع بمعنى (المجيب) لدعائهم والمفرج لكرباتهم، وهذا المعنى من معاني السميع يسكب في القلب الطمأنينة والأنس بالله تعالى وحسن الظن به سبحانه، والرجاء فيما عنده، وعدم الملل من دعائه، وعدم اليأس من كشف الشدائد وقضاء الحاجات، فهو سبحانه السميع لدعاء عباده، المجيب القريب منهم، وهذا يثمر صدق التوكل على الله سبحانه، والتعلق به وحده والرجاء فيما عنده.
وقد دعا الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - والصالحون ربهم سبحانه بهذا الاسم ليقبل منهم أو ليستجيب دعاءهم، قال سبحانه: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [البقرة: 186].
فإبراهيم وإسماعيل - عليهما الصلاة والسلام - قالا: { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) } [البقرة: 127]، وهما يرفعان قواعد البيت الحرام.
وقال سبحانه عن ثناء خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) } [إبرهيم: 39].
__________
(1) البخاري (4817)، مسلم (2775).(2/5)
وامرأة عمران عندما نذرت ما في بطنها خالصًا لله، لعبادته ولخدمة بيت المقدس قالت: { فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) } [ال عمران: 35]، ثم أخبر تعالى أنه قبل منها ذلك: { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } [آل عمران: 37].
ودعا زكريا ربه أن يرزقه ذرية صالحة ثم قال: { إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) } [آل عمران: 38]، فاستجاب الله دعاءه.
ودعا يوسف - عليه الصلاة والسلام - ربه أن يصرف عنه كيد النسوة: { فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) }
[يوسف: 34].
وأمر بالالتجاء إليه عند حصول وساوس شياطين الإنس والجن.
قال تعالى: { وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) } [الأعراف: 200].
رابعًا: الصبر على ما يلاقيه العبد من أذى الخلق وخاصة من الكافرين والمنافقين والفاسقين، سواء ما يقولونه من السب، والشتم، والبهتان، والظلم، والتهم الباطلة، لأن الله - عز وجل - يسمع كلامهم ولايخفى عليه أمرهم؛ وسينصف سبحانه عباده المؤمنين منهم إن عاجلاً أو آجلاً، قال الله عز وجل لموسى وهارون عليهما الصلاة والسلام: { قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [طه: 46]، وقال سبحانه: { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) } [الزخرف: 80]، وفي الحديث الذي رواه مسلم عن الأذى الذي تعرض له الرسول × وهو يعرض نفسه على القبائل والذي جاء فيه: (إن الله قد سمع قول قومك لك...) الحديث(1).
__________
(1) البخاري (3231)، مسلم (1795).(2/6)
والإيمان بهذا يثمر في القلب الصبر والرضى والطمأنينة والاستعانة به سبحانه، وانتظار فرجه ونصره، وعدم استبطاء ذلك، لأن الله سبحانه يسمع ويعلم، ولكنه يمهل ولا يهمل.
اقتران اسمه سبحانه (السميع) ببعض الأسماء الحسنى
أولاً: اقتران اسمه سبحانه (السميع) باسمه (العليم):
ورد هذا الاقتران في القرآن الكريم في اثنين وثلاثين آية من ذلك قوله تعالى: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) } [البقرة: 127]، وغيرها من الآيات.
وقد سبق ذكر وجه الاقتران في باب اسمه سبحانه (العليم) فليرجع إليه.
وقد ذكر الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - وجه هذا الاقتران عند قوله تعالى: { وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) } [البقرة: 227]، فقال: "فإن الطلاق لما كان لفظًا يسمع، ومعنى يقصد، عقبه باسم (السميع) للنطق به (العليم) بمضمونه"(1).
ثانيًا: اقتران اسمه سبحانه (السميع) باسمه سبحانه (البصير):
وقد ورد هذا الاقتران في كتاب الله - عز وجل - في إحدى عشرة آية من ذلك:
قوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) } [الشورى: 11].
وقوله سبحانه: { وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) } [المجادلة: 1].
وعن وجه هذا الاقتران يمكن أن يقال: "إن اسمي (السميع والبصير) يشيران إلى اتصاف الله سبحانه - بكمال السمع والبصر - وإحاطتهما ونفاذهما، فكلٌ منهما صفة كمال له - عز وجل - ويستفاد من اجتماعهما صفة كمال ثالثة كما هو الشأن في الصفات المقترنة.
__________
(1) جلاء الأفهام ص 280.(2/7)
ويمكن اعتبار هاتين الصفتين مجتمعتين عنوانًا على تنزيهه تعالى عن مشابهة المخلوقين، فإنَّ لهم سمعًا وبصرًا، لا كسمعه وبصره - عز وجل - فضلاً عما يوحي به اقتران الصفتين من إحكام الرقابة، على الأقوال والأفعال، والإحاطة التامة للمخلوقات كلها وأن الله محيط بها لا يفوته شيء منهم، ولا يخفى عليه من أمورهم شيء، بل هم تحت سمعه وبصره.
وعن وجه تقديم (السميع) على (البصير) في جميع الآيات يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "قيل: تقديمُ السّمع على البصر له سببان:
أحدهما: أن يكون السّياق يقتضيه بحيث يكون ذكرها بين الصّفتين متضمنًا للتهديدِ والوعيد، كما جرت عادة القرآن بتهديد المخاطبين وتحذيرهم بما يذكرهُ من صفاتِه التي تقتضي الحذرَ والاستقامة، كقوله: { فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) } [البقرة: 209]، وقوله: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134) } [النساء: 134].
والقرآن مملوءٌ من هذا، وعلى هذا فيكونُ في ضمن ذلك: أني أسمعُ ما يَردّون به عليكَ، وما يقابلون به رسالاتي، وأبصرُ ما يفعلون.
ولا ريب أن المخاطبين بالرسالة بالنسبة إلى الإجابة والطاعة نوعان: أحدهما: قابلوها بقولهم: صدقت ثم عملوا بموجبها.
والثاني: قابلوها بالتكذيب، ثم عملوا بخلافها فكانت مرتبة المسموعِ منهم قبل مرتبةِ المُبْصَر، فقدَّمَ ما يتعلقُ به على ما يتعلق بالمُبْصر.
وتأمل هذا المعنى في قوله تعالى لموسى: { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) } [طه: 46]، هو يسمعُ ما يُجيُبهم به وَيرى ما يصنعُه، وهذا لا يعم سائر المواضعِ، بل يختصُّ منها بما هذا شأنه.(2/8)
والسّبب الثاني: أن إنكار الأوهام الفاسدة لسمعِ الكلام مع غايةِ البعد بين السّامع والمسموع أشدُّ من إنكارها لرؤيته من بُعْد.
وفي "الصحيحين" عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: "اجتمع عند البيت ثلاثة نفر: ثقفيَّان وقرشي، أو قرشيان وثقفي، فقال أحدهم: أترون الله يسمعُ ما نقول؟ فقالَ الآخر: يَسمُع إنْ جهَرنا، ولا يسمع إن أخفينا، فقال الثّالث: إن كان يسمعُ إذا جهرنا فهو يَسمعُ إذا أخفينا"(1) ولم يقولوا: أترون الله يرانا، فكان تقديمُ السّمع أهم، والحاجةُ إلى العلم به أمَسَ.
وسبب ثالث: وهو أن حركةَ اللّسان بالكلام أعظمُ حركات الجوارح وأشدُّها تأثيرًا في الخير والشّر والصّلاح والفساد؛ بل عامة ما يترتبُ في الوجودِ من الأفعال إنما ينشأ بعد حركة اللسان، فكان تقديمُ الصّفةِ المتعلقةِ به أهمَّ وأولى، وبهذا يُعلَمُ تقديمه أيضًا على العليم حيث وقع"(2).
ثالثًا: اقتران اسمه سبحانه (السميع) باسمه سبحانه (القريب):
ورد هذا الاقتران مرة واحدة في القرآن الكريم وذلك في قوله سبحانه: { قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) } [سبأ: 5].
يقول البقاعي عند قوله تعالى: { إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } ، أي: "لا يغيب عنه شيء من حال من يكذب عليه فهو جدير بأن يفضحه كما فضحكم في جميع ما تدعونه، ولا يبعد عليه شيء، ليحتاج في إدراكه إلى تأخير لقطع مسافة أو نحوها، بل هو مدرك لكل ما أراد كلما أراد.. "(3)، وهو سبحانه قريب في علوه يسمع ويرى وعال في قربه.
(82) [البصير]
ورد اسمه سبحانه (البصير) في القرآن الكريم اثنتين وأربعين مرة منها.
قوله تعالى: { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) }
[البقرة: 233].
__________
(1) سبق تخريجه ص 620.
(2) بدائع الفوائد 1/97، 98.
(3) نظم الدرر 15/535.(2/9)
وقوله سبحانه: { وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) } [آل عمران: 15].
وقوله سبحانه: { إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) } [الشورى: 27].
المعنى اللغوي:
قال في اللسان: "البصر في الخلق: حاسَّةُ الرؤية، أو حِسَّ العين، والجمع أبصار، ورجل بصير: مُبْصر، خلاف الضرير وهو فعيل بمعنى مُفْعِل، أو هو فعيل بمعنى فاعل، وهو من أبنية المبالغة، ورجل بصير بالعلم: عالم به، والبصيرة: العلم والفطنة"(1).
المعنى في حق الله تعالى:
قال ابن جرير رحمه الله تعالى: "يعني جل ثناؤه بقوله: { ِھ!$#ur بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) } [البقرة: 96]، والله ذو إبصار بما يعملون، لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، بل هو بجميعها محيط، ولها حافظ ذاكر، حتى يذيقهم بها العقاب جزاءها. وأصل بصير: مبصر، من قول القائل: أبصرت فأنا مبصر، ولكن صرف إلى فعيل، كما صرف مسمع إلى سميع، وعذاب مؤلم إلى أليم، ومبدع السماوات إلى بديع وما أشبه ذلك"(2).
وقال الخطابي رحمه الله تعالى: "البصير هو المبصر، ويقال البصير: العالم بخفيات الأمور"(3).
وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في نونيته:
"وهو البصير يرى دبيب النملة ال سوداء تحت الصخر والصوان
ويرى مجاري القوت في أعضائها ويرى عروق بياضها بعيان
ويرى خيانات العيون بلحظها ويرى كذلك تقلب الأجفان"(4)
ويقول أيضًا:
"وكذا بصير وهو ذو بصر ويبـ صر كل مرئي وذي الأكوان"(5)
__________
(1) لسان العرب 1/290.
(2) تفسير الطبري 1/341.
(3) شأن الدعاء ص 60، 61 (باختصار).
(4) الكافية الشافية الأبيات (3229 - 3223).
(5) الكافية الشافية البيت رقم (2748) ص 210.(2/10)
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "البصير الذي أحاط بصره بجميع المبصرات في أقطار الأرض والسماوات، حتى أخفى ما يكون فيها فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، وجميع أعضائها الباطنة، والظاهرة، وسريان القوت في أعضائها الدقيقة، ويرى سريان المياه في أغصان الأشجار، وعروقها وجميع النباتات على اختلاف أنواعها، وصغرها، ودقتها ، ويرى نياط عروق النملة، والنحلة، والبعوضة، وأصغر من ذلك، فسبحان من تحار العقول في عظمته، وسعة متعلقات صفاته، وكمال عظمته، ولطفه، وخبره بالغيب، والشهادة والحاضر، والغائب، ويرى خيانات الأعين، وتقلبات الأجفان، وحركات الجنان، قال تعالى: { الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) } [الشعراء : 218 - 220]، { يَعْلَمُ spuZح !%s{ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) } [غافر: 19]، { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) } [البروج: 9]، أي: مطلع، ومحيط علمه، وبصره، وسمعه بجميع الكائنات"(1).
وفي ضوء الأقوال السابقة يظهر أن لاسمه سبحانه (البصير) معنيين:
الأول: أن له سبحانه بصرًا يليق بعظمته يحيط بأقطار السماوات والأرض ويرى به سبحانه جميع مخلوقاته دقيقها وجليلها باطنها وظاهرها، ولا يخفى عليه منهم شيء.
الثاني: أنه ذو البصيرة بالأشياء الخبير بها المطلع على بواطنها.
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (البصير):
أولاً: مراقبة الله - عز وجل - والخوف منه حيث لا تخفى عليه خافية في ليل أو نهار، في سر أو إعلان، في خلوة أو اجتماع، في باطن الأرض أو ظاهرها إن اليقين بهذا يثمر في قلب المؤمن خوفًا من الله - عز وجل - من أن يراه على حال لا ترضيه، ويستحيي من ربه سبحانه أن يراه على معصية.
__________
(1) الحق الواضح المبين ص 35، 36.(2/11)
ثانيًا: الإخلاص لله تعالى في جميع الأعمال، لأنه سبحانه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وهو سبحانه يرى عبده إذا قام لعبادته كما قال سبحانه: { الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) } [الشعراء: 218]، وكما قال ×: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) ، ومن علم أن الله - عز وجل - يراه أحسن عمله وعبادته، وأخلص فيها لربه.
ثالثًا: الله تبارك وتعالى بصير بأحوال عباده، خبير بها، بصير بمن يستحق الهداية منهم ممن لا يستحقها، ويقول الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى- عند قوله تعالى: { وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } [آل عمران: 15] : "أي هو عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلالة، وهو الله لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، وما ذلك إلا لحكمته ورحمته" (1). بصير بمن يصلح حاله بالغنى والمال، وبمن يفسد حاله بذلك: { * وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } [الشورى: 27]، وهو بصير بالعباد شهيد عليهم، الصالح منهم والطالح، المؤمن والكافر: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [التغابن: 2]، { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا } [الإسراء: 96]، بصير خبير بأعمالهم وذنوبهم: { ِ4's"x.ur بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا } [الإسراء: 17]، وسيجزيهم عليها أتم الجزاء.
رابعًا: إثبات صفة البصر له جل شأنه، إثباتًا يليق بجلاله وعظمته؛ لأنه وصف نفسه بذلك وهو أعلم بنفسه.
__________
(1) تفسير ابن كثير 1/354.(2/12)
وصفة البصر من صفات الكمال كصفة السمع، فالمتصف بهما أكمل ممن لا يتصف بذلك، قال تعالى: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) } [الأنعام: 50].
وقال: { * مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24) } [هود: 24].
وقد أنكر إبراهيم عليه السلام على أبيه عندما عَبَدَ ما لا يُبصر ولا يسمع: { ّzNد9 تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) } [مريم: 42].
وقال تعالى مُوبخًا الكفار ومُسفهًا عقولهم لعبادتهم الأصنام التي هي من الحجارة الجامدة التي لا تتحرك، ولا تملك سمعًا ولا بصرًا: { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا }
[الأعراف: 195].
أيّ: أنتم أكمل من هذه الأصنام، لأنكم تسمعون وتبصرون فكيف تعبدونها وأنتم أفضل منها؟!(1).
قال الأصبهاني رحمه الله تعالى: "وأما (البصير) فهذا الاسم يقع مشتركًا، فيقال: فلان بصير - ولله المثل الأعلى - والرجل قد يكون صغيرًا لا يُبصر ولا يميز بالبصر بين الأشياء المتشاكلة، فإذا عَقَل أبصر فميَّزَ بين الرديء والجيد، وبين الحسن والقبيح، يُعطيه الله هذا مدَّةً ثم يسلبه ذلك، فمنهم من يسلبه وهو حي، ومنهم من يسلبه بالموت.
والله بصير لم يزل ولا يزول، والخَلق إذا نظر إلى ما بين يديه عَمِيَ عما خلفه وعما بَعدَ منه، والله تعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة في خَفيَّات مُظلم الأرض، وكل ما ذَكَرَ مخلوقًا به وصفه بالنَّكرة، فإذا وَصَفَ به ربَّه وصفه بالمعرفة".
__________
(1) نقلاً عن النهج الأسمى، محمد الحمود النجدي 1/237، 238.(2/13)
خامسًا: إن الإيمان بأن الله - عز وجل - لا يخفى عن بصره شيء يضفي على المؤمن الطمأنينة والصبر والاحتساب حين يناله من أعداء الله الأذى والابتلاء، وذلك لعلم العبد بأن الله - عز وجل - يرى ذلك ويعلمه وما حصل إلا بعلمه وحكمته ولو شاء الله - عز وجل - لانتقم من أعداء الله تعالى لأوليائه، ولكنه سبحانه حكيم ورحيم ولطيف بعباده حيث يسوق إليهم الخير والرحمة من حيث لا يشعرون، بل من حيث يكرهون .
قال الله - عز وجل - عن أصحاب الأخدود: { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) } [البرج: 9]، فهذه لمسة رحمة لقلوب المؤمنين، وتهديد ووعيد للكافرين، حيث لم يخف عليه أمرهم.
اقتران اسمه (البصير) باسمه سبحانه (السميع):
سبق الكلام عن وجه هذا الاقتران في باب اسمه سبحانه (السميع) فليرجع إليه.
اقتران اسمه سبحانه (البصير) باسمه سبحانه (الخبير):
سبق ذكر هذا الاقتران في باب اسمه سبحانه (الخبير) فليرجع إليه.
(83) [الشهيد]
ورد اسمه سبحانه (الشهيد) في القرآن ثماني عشرة مرة من ذلك قوله سبحانه: { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) } [المائدة: 117].
وقوله - عز وجل -: { إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) } [الحج: 17].
وقوله سبحانه: { وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) } [النساء: 166].
المعنى اللغوي:
قال في اللسان: "وقال ابن سيده: الشاهد العالم الذي يبين ما علمه"(1).
__________
(1) لسان العرب 4/2348.(2/14)
وقال الزجاج: "الشهيد الحاضر، يقال: شهدت الشيء وشهدت به وأصل قولهم شهدت به من الشهادة التي هي الحضور. واليوم المشهود يوم القيامة، لأنه معلوم كونه لا محالة، فكان معنى الشهيد: العالم"(1).
وقال الزجاجي: "الشهيد في اللغة بمعنى الشاهد، كما أن العليم بمعنى العالم، والرحيم بمعنى الراحم، والشاهد خلاف الغائب كقول العرب: فلان كان شاهدًا لهذا الأمر، أي: لم يغب عنه.
والشهيد أيضًا في اللغة: الشاهد الذي يشهد بما عاين وحضر، كما يقال: فلان شاهد على فلان وشهيده كما قال عز وجل: { وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) } [النساء: 41]، أي: شاهدًا"(2).
المعنى في حق الله تعالى:
قال الطبري - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: { وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } : وأنت تشهد على كل شيء لأنه لا يخفى عليك شيء"(3).
وقال الخطابي رحمه الله تعالى: "هو الذي لا يغيب عنه شيء، يقال: شاهد وشهيد كعالم وعليم أي: كأنه الحاضر الشاهد الذي لا يعزب عنه شيء، وقد قال سبحانه: { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [البقرة: 185]، أي: من حضر منكم الشهر فليصمه .. .وهو أيضًا الشاهد للمظلوم الذي لا شاهد له ولا ناصر، على الظالم المتعدي الذي لا مانع له في الدنيا لينتصف له منه"(4).
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: "شهيد على أفعالهم، حفيظ لأقوالهم عليم بسرائرهم وما تكن ضمائرهم"(5).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: "من أسمائه (الشهيد) الذي لا يغيب عنه شيء ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، بل هو مطلع على كل شيء، مشاهد له، عليم بتفاصيله"(6).
__________
(1) تفسير الأسماء ص 53.
(2) اشتقاق الأسماء ص 132.
(3) تفسير الطبري 7/90.
(4) شأن الدعاء ص 70 - 76.
(5) تفسير ابن كثير 3/210.
(6) مدارج السالكين 3/466.(2/15)
وقال السعدي رحمه الله تعالى: " (الشهيد) أي: المطلع على جميع الأشياء، سمع جميع الأصوات خفيها وجليها، وأبصر جميع الموجودات دقيقها وجليها، صغيرها وكبيرها، وأحاط علمه بكل شيء الذي شهد لعباده وعلى عباده بما عملوه"(1).
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (الشهيد):
أولاً: إن الإيمان بأنه سبحانه شهيد من الشهود بمعنى الحضور المستلزم لاطلاعه سبحانه على كل شيء، يسمع جميع الأصوات خفيها وجليها، ويبصر جميع المخلوقات دقيقها وجليها، ويحيط علمه بكل شيء. إن اليقين بهذه المعاني يثمر في القلب اليقظة والحذر والخوف من الله - عز وجل - بحيث لا يصدر من العبد إلا ما يحبه الله - عز وجل - ويرضاه من الأقوال والأعمال لأنه سبحانه لا تخفى عليه خافية في ليل أو نهار، في سر أو جهار.
قال الله عز وجل: { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) } [يونس: 61].
ثانيًا: والإيمان بأنه سبحانه شهيد على الخلق يوم القيامة بما عملوا وما كان بينهم من خصومات في الدنيا يجعل العبد على حذر من ظلم العباد، والتعدي على حقوقهم فإن الله - عز وجل - شاهد على ذلك، قال الله عز وجل: { إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [الحج: 17]، وكذلك يجعل العبد يتحرى الإخلاص والتقوى في أقواله وأعماله، لأن الله - عز وجل - مشاهد على ما في القلوب من النوايا والمقاصد، ولا يقبل سبحانه إلا ما كان من العلم خالصًا صوابًا.
__________
(1) تفسير السعدي 5/303.(2/16)
ثالثًا: الإيمان بأن شهادة الله - عز وجل - أعظم شهادة، فالله سبحانه هو الأعظم والأعلى والأجل والأرفع، وشهادته شهادة حضور ومعاينة، وهو لا يخفى عليه شيء من جوانب الحقيقة كما يحدث للبشر، فمن شهد الله له فهو حسبه، ولا يحتاج إلى شهادة غيره، ولذلك أمر الله رسوله × أن يقول للمشركين الذين ينازعونه في التوحيد وفي صدق ما جاء به: { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ِNن3Yخ r& لَتَشْهَدُونَ أَن مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) } [الأنعام: 19].
وقد شهد الله - عز وجل - لنفسه بالتوحيد وشهد له به ملائكته وأنبياؤه ورسلُه، قال الله تعالى: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ $JJح !$s% بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) } [آل عمران: 18، 19].
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "تضمنت هذه الآية الكريمة إثبات حقيقة التوحيد، والرد على جميع الطوائف ... فتضمنت هذه الآية أجل شهادة وأعظمها، وأعدلها وأصدقها، من أجل شاهد، بأجل مشهود"(1).
وقد شهد الله - عز وجل - بصدق رسوله × وأن ما أنزله على رسوله × إنما هو كلامه سبحانه.
__________
(1) مدارج السالكين 3/450 "باختصار".(2/17)
وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: " فكونه سبحانه شاهدًا لرسوله: معلوم بسائر أنواع الأدلة عقليها ونقليها وفطريها وضروريها ونظريها. ومن نظر في ذلك وتأمله، علم أن الله سبحانه شهد لرسوله أصدق الشهادة، وأعدلها وأظهرها، وصدقه بسائر أنواع التصديق بقوله الذي أقام البراهين على صدقه فيه، وبفعله وإقراره، وبما فطر عليه عباده من الإقرار بكماله، وتنزيهه عن القبائح، وعما لا يليق به؛ وفي كل وقت يُحدث من الآيات الدالة على صدق رسوله ما يقيم به الحجة، ويزيل به العذر، ويحكم له ولأتباعه بما وعدهم به من العز والنجاة، والظفر والتأييد، ويحكم على أعدائه ومكذبيه بما توعدهم به من الخزي والنكال والعقوبات المعجلة، الدالة على تحقيق العقوبات المؤجلة: { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } [الفتح: 82] فيظهره ظهورين: ظهورًا بالحجة، والبيان، والدلالة، وظهورًا بالنصر، والظفر، والغلبة، والتأييد، حتى يظهره على مخالفيه، ويكون منصورًا.
وقوله: { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ } [النساء: 166] فما فيه من الخبر عن علم الله الذي لا يعلمه غيره من أعظم الشهادة بأنه هو الذي أنزله" (1).
رابعًا: ما ذكر من الآثار الإيمانية في اسميه سبحانه (السميع)، (البصير) يناسب أن يذكر هنا والله أعلم.
- - -
(84) [الرقيب]
ورد اسمه سبحانه (الرقيب) في القرآن الكريم ثلاث مرات وذلك في قوله - عز وجل -: { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) } [المائدة: 117].
وقوله سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) } [النساء: 1].
__________
(1) مدارج السالكين 3/470.(2/18)
وقوله تبارك وتعالى: { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52) } [الأحزاب: 52].
المعنى اللغوي:
قال في الصحاح: " (الرقيب): الحافظ، والرقيب: المنتظر، تقول: رقبت الشيء أرقبه رُقُوبا ورِِقبة ورقبانًا بالكسر فيهما: إذا رصدته" (1).
وفي اللسان: "في أسماء الله تعالى: (الرقيب) وهو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء، فعيل بمعنى فاعل، والترقب الانتظار، وكذلك الارتقاب ومن ذلك قوله تعالى: { وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) } [طه: 94]، ومعناه لم تنتظر قولي" (2)، والترقب: تنظر وتوقع شيء.
وقال الزجاجي: "وراقب الله تعالى في أمره، أي: خافه، والرقيب فعيل بمعنى فاعل كعليم بمعنى عالم"(3).
المعنى في حق الله تعالى:
قال الطبري - رحمه الله تعالى - عند قوله سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) } [النساء: 1].
"ويعني بقوله: (رقيبًا): حفيظًا محصيًا عليكم أعمالكم متفقدًا رعايتكم حرمة أرحامكم وصلتكم إياها وقطعكموها وتضييعكم حرمتها"(4).
وقال الزجاجي رحمه الله تعالى: "(الرقيب) هو الحافظ الذي لا يغيب عما يحفظه"(5).
وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في نونيته:
"وهو الرقيب على الخواطر واللواحظ
كيف بالأفعال بالأركان"(6)
ومعنى قوله: "كيف بالأفعال بالأركان": أي أنه إذا كان الله - عز وجل - رقيبًا على دقائق الخفيات، مطلعًا على السرائر والنيات كان من باب أولى شهيدًا على الظواهر والجليات، وهي الأفعال التي تفعل بالأركان أي الجوارح(7).
__________
(1) الصحاح 1/138.
(2) اللسان 3/1699.
(3) اشتقاق الأسماء ص 128.
(4) تفسير الطبري 4/152.
(5) تفسير الأسماء ص 51.
(6) النونية 2/228 البيت: (3284).
(7) انظر شرح القصيدة النونية للسعدي ص 89.(2/19)
وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "الرقيب والشهيد من أسمائه الحسنى هما مترادفان، وكلاهما يدل على إحاطة سمع الله بالمسموعات، وبصره بالمبصرات، وعلمه بجميع المعلومات الجلية والخفية، وهو الرقيب على ما دار في الخواطر، وما تحركت به اللواحظ، ومن باب أولى الأفعال الظاهرة بالأركان"(1).
وقال أيضًا: "والرقيب المطلع على ما أكنته الصدور، القائم على كل نفس بما كسبت، الذي حفظ المخلوقات وأجراها على أحسن نظام وأكمل تدبير"(2).
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (الرقيب):
ما ذكر من الآثار السابقة في أسمائه سبحانه (السميع)، (البصير)، (الشهيد) يصلح أن يذكر هنا، ويؤكد فيها على الثمرة التالية:
إن التعبد لله سبحانه باسمه (الرقيب) يثمر في القلب مراقبة الله - عز وجل - في السر والعلن، في الليل والنهار، في الخلوة والجلوة، لأنه سبحانه مع عبده لا تخفى عليه خافية، يسمع كلامنا ويرى مكاننا، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فإذا أيقن العبد بهذه الحقائق سعى إلى حفظ قلبه وسمعه وبصره ولسانه وجوارحه كلها من أن يكون منها أو فيها ما يسخط الله - عز وجل -.
وعن منزلة المراقبة يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: و"المراقبة" هي التعبد باسمه (الرقيب، الحفيظ، العليم، السميع، البصير) فمن عقل هذه الأسماء وتعبد بمقتضاها: حصلت له المراقبة. والله أعلم"(3).
ويقول أيضًا: "(المراقبة) دوام علم العبد، وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه، فاستدامته لهذا العلم واليقين: هي "المراقبة" وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه رقيب عليه، ناظر إليه، سامع لقوله، وهو مطلع على عمله كل وقت وكل لحظة، وكل نَفَس وكل طرفة عين، والغافل عن هذا بمعزل عن حال أهل البدايات، فكيف بحال المريدين، فكيف بحال العارفين؟
__________
(1) الحق الواضح المبين ص 58.
(2) تفسير السعدي 5/625.
(3) مدارج السالكين 2/66.(2/20)
وقيل: من راقب الله في خواطره، عصمه في حركات جوارحه.
وقيل لبعضهم: متى يَهِشُّ الراعي غنمه بعصاه عن مراتع الهلكة؟ فقال: إذا علم أن عليه رقيبًا.
وقال الجنيد: من تحقق في المراقبة خاف على فوات لحظة من ربه لا غير.
وقال ذو النون: علامة المراقبة إيثار ما أنزل الله، وتعظيم ما عظم الله، وتصغير ما صغر الله.
وأرباب الطريق يجمعون على أن مراقبة الله تعالى في الخواطر: سبب لحفظها في حركات الظواهر؛ فمن راقب الله في سره، حفظه الله في حركاته في سره وعلانيته"(1).
ثم استطرد - رحمه الله تعالى - في موجبات هذه المراقبة فقال: "وهي توجب صيانة الباطن والظاهر، فصيانة الظاهر: بحفظ الحركات الظاهرة. وصيانة الباطن: بحفظ الخواطر والإرادات والحركات الباطنة التي منها رفض معارضة أمره وخبره، فيتجرد الباطن من كل شهوة وإرادة تعارض أمره، ومن كل إرادة تعارض إرادته، ومن كل شبهة تعارض خبره، ومن كل محبة تزاحم محبته، وهذه حقيقة القلب السليم الذي لا ينجو إلا من أتى الله به؛ وهذا هو حقيقة تجريد الأبرار المقربين العارفين؛ وكل تجريد سوى هذا فناقص، وهذا تجريد أرباب العزائم...
والاعتراض ثلاثة أنواع سارية في الناس. والمعصوم من عصمه الله منها.
النوع الأول: الاعتراض على أسمائه وصفاته بالشُّبَه الباطلة، التي يسميها أربابها قواطع عقلية؛ وهي في الحقيقة خيالات جهلية، ومحالات ذهنية اعترضوا بها على أسمائه وصفاته - عز وجل - وحكموا بها عليه، ونفوا لأجلها ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسوله ×، وأثبتوا ما نفاه، ووالوا بها أعداءه، وعادوا بها أولياءه، وحرفوا بها الكلم عن مواضعه، ونسوا بها نصيبًا كثيرًا مما ذُكِّروا به، وتقطعوا لها أمرهم بينهم زبرًا، كل حزب بما لديهم فرحون.
__________
(1) مدارج السالكين 2/65، 66.(2/21)
والعاصم من هذا الاعتراض: التسليم المحض للوحي، فإذا سلم القلب له: رأى صحة ما جاء به، وأنه الحق بصريح العقل والفطرة؛ فاجتمع له السمع والعقل والفطرة؛ وهذا أكمل الإيمان، ليس كمن الحربُ قائم بين سمعه وعقله وفطرته.
النوع الثاني: الاعتراض على شرعه وأمره، وأهل هذا الاعتراض: ثلاثة.. أنواع:
أحدها: المعترضون عليه بآرائهم وأقيستهم، المتضمنة تحليل ما حرم الله سبحانه وتعالى، وتحريم ما أباحه، وإسقاط ما أوجبه، وإيجاب ما أسقطه، وإبطال ما صححه، وتصحيح ما أبطله، واعتبار ما ألغاه، وإلغاء ما اعتبره، وتقييد ما أطلقه، وإطلاق ما قيده.
وهذه هي الآراء والأقيسة التي اتفق السلف قاطبة على ذمها، والتحذير منها، وصاحوا على أصحابها من أقطار الأرض، وحذروا منهم، ونَفروا عنهم.
الثاني: الاعتراض على حقائق الإيمان والشرع بالأذواق، والمواجيد والخيالات، والكشوفات الباطلة الشيطانية، المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله، وإبطال دينه الذي شرعه على لسان رسوله ×، والتعوض عن حقائق الإيمان بخدع الشيطان، وحظوظ النفوس الجاهلة...
وهؤلاء في حظوظ ٍاتخذوها دينًا، وقدموها على شرع الله ودينه، واغتالوا بها القلوب، واقتطعوها عن طريق الله؛ فتولد من معقول أولئك، وآراء الآخرين وأقيستهم الباطلة،وأذواق هؤلاء خراب العالم، وفساد الوجود، وهدم قواعد الدين ، وتفاقم الأمر، وكاد لولا أن الله ضمن أنه لا يزال يقوم به من يحفظه، ويبين معالمه، ويحميه من كيد من يكيد.
الثالث: الاعتراض على ذلك بالسياسات الجائرة التي لأرباب الولايات التي قدموها على حكم الله ورسوله، وحكموا بها بين عباده، وعطلوا لها وبها شرعه وعدله وحدوده.
فقال الأولون: إذا تعارض العقل والنقل: قدمنا العقل.
وقال الآخرون: إذا تعارض الأثر والقياس: قدمنا القياس.
وقال أصحاب الذوق والكشف والوجد: إذا تعارض الذوق والوجد والكشف وظاهر الشرع: قدمنا الذوق والوجد والكشف.(2/22)
وقال أصحاب السياسة: إذا تعارضت السياسة والشرع: قدمنا السياسة.
فجعلت كل طائفة قُبالة دين الله وشرعه طاغوتًا يتحاكمون إليه.
فهؤلاء يقولون: لكم النقل، ولنا العقل. والآخرون يقولون: أنتم أصحاب آثار وأخبار، ونحن أصحاب أقيسة وآراء وأفكار. وأولئك يقولون: أنتم أرباب الظاهر، ونحن أهل الحقائق. والآخرون يقولون: لكم الشرع، ولنا السياسة.
فيا لها من بلية، عَمَّت فأعْمَتْ، ورزية رَمَتْ فأصْمَت، وفتنة دعت القلوب فأجابها كل قلب مفتون، وأهوية عصفت، فصُمَّت منها الآذان، وعميت منها العيون. عطلت لها - والله - معالم الأحكام، كما نفيت لها صفات ذي الجلال والإكرام، واستند كل قوم إلى ظلم وظلمات آرائهم، وحكموا على الله وبين عباده بمقالاتهم الفاسدة وأهوائهم، وصار لأجلها الوحي عرضة لكل تحريف وتأويل، والدين وقفًا على كل إفساد وتبديل.
النوع الثالث: الاعتراض على أفعاله وقضائه وقدره؛ وهذا اعتراض الجهال. وهو ما بين جلي وخفي، وهو أنواع لا تحصى.
وهو سار في النفوس سريان الحمى في بدن المحموم، ولو تأمل العبد كلامه وأمنيته وإرادته وأحواله لرأى ذلك في قلبه عيانًا؛ فكل نفس معترضة على قَدَر الله وقَسْمه وأفعاله، إلا نفسًا قد اطمأنت إليه، وعرفته حق المعرفة التي يمكن وصول البشر إليها، فتلك حظها التسليم والانقياد، والرضى كل الرضا" (1).
__________
(1) مدارج السالكين 2/68، 69، 70، 71 (باختصار).(2/23)
ويقول الأستاذ عمر الأشقر حفظه الله تعالى: "وإذا تحقق معنى الرقيب في قلب العبد، وملك عليه زمام نفسه، أورثه ذلك التقوى، وراقب نفسه، أن لا يراها حيث نهاها، ولا يفتقدها حيث أمرها، وتأتيه المغريات والشهوات التي تدير الرؤوس، يسوقها شياطين الجن والإنس، كي يدخلوا العباد في متاهات الباطل، وظلمات الفساد، فتأتي رقابة الله التي استقرت في قلب العبد، فكانت حماية ووقاية، علم العبد أن الله رقيب عليه، عالم به، وعلم أن الملائكة الكرام الكاتبين الذين يرقبون أعماله وأقواله، ويطلعون عليه ، ويدونون كل ما يصدر عنه: { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) } [ق: 18]...
إن غرس الرقابة في النفوس عبر تعريف العباد بصفات الله، هي الضمان لبناء النفسية الإسلامية الأصيلة التي تخاف الله وتخشاه، فلا تمتد اليد إلى الحرام، ولا تنظر العين إلى الحرام، وإذا دخل المال الحرام جيب التقيّ رآه كالثعبان الذي أدخله في جيب قميصه، لا يهدأ له بال حتى يتخلص منه، وقد يزيد عليه كفارة لذنبه.
ومتى راقب العبد ربّه أحسن قوله وعمله، فبلغ درجة الإحسان للملك الديان، وما أحسن قول الشاعر:
"إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل خلوت ولكن قل عليَّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب
ألم تر أن اليوم أسرع ذاهب وأنَّ غدًا للناظرين قريب"(1)
- - -
(85) [القريب]
ورد اسمه سبحانه (القريب) في القرآن ثلاث مرات، مرة مفردًا كما في قوله تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [البقرة: 186]، ومرة مقترنًا باسمه سبحانه (السميع) كما في قوله تعالى: { وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) } [سبأ: 50].
__________
(1) أسماء الله الحسنى، د. عمر الأشقر ص 171، 172.(2/24)
ومرة مقترنًا باسمه سبحانه (المجيب) كما في قوله تعالى: { فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) } [هود: 61].
المعنى اللغوي:
قال في اللسان: "القرب نقيض البعد؛ قُرب الشيء بالضم يقرب قربًا وقُرَبانًا وقِربانًا أي: دنا فهو قريب. الواحد والاثنان والجميع في ذلك سواء.
... تقول العرب: هو قريب مني، وهما قريب مني، وهم قريب مني، وهي قريب مني.
وقال الليث: القُراب والقِراب مقاربة الشيء... والقُربان بالضم: ما قرب إلى الله - عز وجل - وتقرب إلى الله بشيء أي: طلب به القربة عنده تعالى... وأقربت الحامل وهي مُقرِب: دنا ولادها وجمعها مقاريب... والقرابة والقربى: الدنو في النسب والقربى في الرحم"(1).
المعنى في حق الله عز وجل:
قال الطبري -رحمه الله تعالى- في قوله: { إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) } [سبأ: 50]: "إن ربي سميع لما أقول لكم، حافظ له وهو المجازي لي على صدقي في ذلك، وذلك مني غير بعيد فيتعذر عليه سماع ما أقول لكم وما تقولون وما يقوله غيرنا، ولكنه قريب من كل متكلم، يسمع كلَّ ما ينطق به، أقربُ إليه من حبل الوريد" (2).
__________
(1) لسان العرب 5/3566. - 3568 (باختصار).
(2) تفسير الطبري 22/72.(2/25)
وقال الزجاجي: (القريب) في اللغة على أوجه: القريب الذي ليس ببعيد، فالله - عز وجل - قريبٌ ليس ببعيد كما قال - عز وجل -: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [البقرة: 186]، أي: أنا قريبُ الإجابة، وهو مثل قوله - عز وجل -: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } [الحديد: 4]، وكما قال - عز وجل -: { مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا }
[المجادلة: 7](1).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
"وهو القَريبُ وقُرْبُهُ المختصُّ بالـ دَّاعي وعَابِدِه على الإيمان" (2)
وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "القريب أي: هو القريب من كل أحد، وقربه نوعان:
قرب عام من كل أحد بعلمه، وخبرته، ومراقبته ومشاهدته، وإحاطته، وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد.
وقرب خاص من عابديه، وسائليه، ومجيبيه، وهو قرب يقتضي المحبة، والنصرة، والتأييد في الحركات، والسكنات، والإجابة للداعين، والقبول، والإثابة.
__________
(1) اشتقاق أسماء الله ص 146.
(2) النونية 2/229 البيت: (1202).(2/26)
وهو المذكور في قوله تعالى: { وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ) (19) } [العلق: 19]، وفي قوله: { إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) } [هود: 61]، وفي قوله: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [البقرة: 186]، وهذا النوع قرب يقتضي ألطافه تعالى، وإجابته لدعواتهم، وتحقيقه لمراداتهم، ولهذا يقرن باسمه (القريب) اسمه (المجيب)، وهذا القرب قرب لا تدرك له حقيقة، وإنما تعلم آثاره من لطفه بعبده، وعنايته به وتوفيقه، وتسديده، ومن آثاره الإجابة للداعين والإثابة للعابدين"(1).
ويفصل الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله تعالى - القول في أنواع قربه سبحانه فيقول: "واعلم أن من العلماء من قسم قرب الله تعالى إلى قسمين؛ كالمعية، وقال: القرب الذي مقتضاه الإحاطة قرب عام، والقرب الذي مقتضاه الإجابة والإثابة قرب خاص.
ومنهم من يقول: إن القرب خاص فقط؛ مقتضٍ لإجابة الداعي وإثابة العابد، ولا ينقسم.
ويستدل هؤلاء بقوله تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [البقرة: 186]، وبقوله ×: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) (2)، وأنه لا يمكن أن يكون الله تعالى قريبًا من الفجرة الكفرة.
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى.
__________
(1) الحق الواضح المبين (640)، والتفسير 5/630.
(2) مسلم (482).(2/27)
ولكن أورد على هذا القول قوله تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) } [ق: 16]؛ فالمراد بـ { الْإِنْسَانَ } : كل إنسان، ولهذا قال في آخر الآية: { لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } إلى أن قال: { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) } [ق: 22 - 24]؛ فهو شامل.
وأورد عليه أيضًا قوله تعالى: { فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) } [الواقعة: 83 - 85]، ثم قسم هؤلاء الذين بلغت أرواحهم الحلقوم إلى ثلاثة أقسام، ومنهم الكافر.
وأجيب عن ذلك بأن قوله: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) } [ق: 16]؛ يعني: بملائكتنا، واستدل لذلك بقوله: { إِذْ } ظرف متعلق بـ { أَقْرَبُ } ، يعني: ونحن أقرب إليه حين يتلقى المتلقيان، وهذا يدل على أن المراد بقربه تعالى قرب ملائكته.
وكذلك قوله في المحتضر: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ } : المراد: قرب الملائكة، ولهذا قال: { وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) } [الواقعة: 85]، وهذا يدل على أن هذا القريب موجود عندنا، لكن لا نبصره، وهذا يمنع غاية الامتناع أن يكون المراد به الله - عز وجل - لأن الله في السماء، وما ذهب إليه شيخ الإسلام فهو عندي أقرب ولكنه ليس في القرب بذاك"(1).
__________
(1) شرح العقيدة الواسطية لابن تيمية 2/92.(2/28)
ويبين ابن القيم - رحمه الله تعالى - أن لا منافاة بين علوه سبحانه وقربه فيقول: "وهو سبحانه قريبٌ في علوه؛ عالٍ في قربه، كما في الحديث الصحيح عن أبي موسى الأشعري قال: "كنا مع رسول الله × في سفرٍ، فارتفعت أصواتنا بالتكبير، قال: (أيها الناس، أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، إن الذي تدعونه سميعٌ قريبٌ، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)(1).
فأخبر × وهو أعلم الخلق به أنه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته، وأخبر أنه فوق سماواته على عرشه؛ مُطَّلعٌ على خلقه؛ يرى أعمالهم، ويرى ما في بطونهم، وهذا حقٌ لا يُناقض أحدُهما الآخر.
والذي يُسهِّل عليك فهم هذا: معرفة عظمة الربِّ؛ وإحاطته بخلقه، وأن السماوات السبع في يده كخردلة في يد العبد، وأنه سبحانه يقبض السماوات بيده والأرض بيده الأخرى؛ ثم يهزهنَّ، فكيف يستحيل في حقِّ مَنْ هذا بعض عظمته أن يكون فوق عرشه؛ ويقرب من خلقه كيف شاء وهو على العرش؟"(2).
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (القريب):
أولاً: محبته سبحانه والأنس به، لأن الإيمان بقربه سبحانه القرب الخاص المستلزم للرحمة، وإجابة الدعوة، واللطف بعبده يثمر المحبة والطمأنينة والأنس به سبحانه، وطلب العون منه وحده.
ثانيًا: قوة الرجاء في الله سبحانه، وعدم اليأس من رحمته، والتضرع بين يديه فهو قريب لمن ناجاه مجيب لمن دعاه، وهذا يثمر الأمل والرَّوح في القلب، ويزرع حسن الظن به سبحانه في قضاء الحاجات وتفريج الكربات، ويفتح باب الدعاء والتضرع من العبد لربه سبحانه، ويخلص القلب من شوائب الشرك والتعلق بالمخلوقين ممن يسمون بالأولياء الذين يتخذهم كثير من الناس شفعاء ووسطاء عند الله - عز وجل - كالحاجب بين يدي الملك، ولكن إذا أيقن العبد بقرب ربه سبحانه ورحمته دخل على ربه مباشرة وتضرع بين يديه وألقى حاجته إليه وحده.
__________
(1) البخاري (2992)، مسلم (2704).
(2) مختصر الصواعق المرسلة 2/460.(2/29)
ثالثًا: الإيمان بقربه سبحانه القرب العام لجميع الخلائق بالإحاطة والعلم، والرقابة، والسمع والبصر يثمر في القلب الخوف منه سبحانه ومراقبته والحياء منه، وهذا كله يثمر البعد عن معاصيه وامتثال أوامره، والمسارعة في مرضاته.
رابعًا: إن الإيمان بقرب الله - عز وجل - واستحضار ذلك في القلب وأنه أقرب من كل قريب يؤدي إلى إخفاء العبد دعاءه ربه والإسرار به.
ويتحدث ابن القيم - رحمه الله تعالى - عن هذا المعنى فيقول: "من النكت السرية البديعة جدًا أنه دالٌّ على قُرْبِ صاحبه من الله، وأنه لاقترابه منه وشدَّة حضوره: يسأله مسألة أقرب شيءٍ إليه، فيسأله مسألة مناجاة للقريب؛ لا مسألة نداء البعيد للبعيد، ولهذا أثنى سبحانه على عبده زكريا بقوله: { إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) } [مريم: 3].
فكلَّما استحضر القلب قرب الله تعالى منه؛ وأنه أقرب إليه من كلِّ قريبِ؛ وتصوَّر ذلك أخفى دعاءه ما أمكنه، ولم يتأتَّ له رفع الصوت به، بل يراه غير مُستحسنٍ، كما أنَّ من خاطب جليسًا له - يسمع خَفِيَّ كلامه - فبالغ في رفع الصوت: اسْتُهْجِنَ ذلك منه، ولله المثل الأعلى سبحانه.
وقد أشار النبي × إلى هذا المعنى بعينه؛ بقوله في الحديث الصحيح لما رفع الصحابة - رضي الله عنهم - أصواتهم بالتكبير؛ وهم معه في السفر، فقال: (اربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا قريبًا، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)(1).
وقال تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [البقرة: 186].
__________
(1) البخاري (2992)، مسلم (2704).(2/30)
وقد جاء أن سبب نزولها: أن الصحابة- رضي الله عنهم - قالوا: "يارسول الله ، ربنا قريبٌ فنناجيه، أم بعيدٌ فنناديه؟ فأنزل الله - عز وجل -: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } (1).
وهذا يدلُّ على إرشادهم للمناجاة في الدعاء؛ لا للنداء - الذي هو رفع الصوت - فإنهم عن هذا سألوا، فأُجيبوا بأن ربهم تبارك وتعالى قريبٌْ؛ لا يحتاج في دعائه وسؤاله إلى النداء، وإنما يُسأل مسألة القريب المناجي؛ لا مسألة البعيد المنادي.
وهذا القرب من الداعي: هو قربٌ خاصٌّ؛ ليس قربًا عامًا من كلِّ أحدٍ، فهو قريبٌ من داعيه؛ وقريبٌ من عابده، وأقرب ما يكون العبد من ربِّه وهو ساجدٌ، وهو أخصُّ من قرب الإنابة وقرب الإجابة - الذي لم يُثبت أكثر المتكلمين سواه - بل هو قربٌ خاصٌّ من الداعي والعابد، كما قال النبي × راويًا عن ربِّه تبارك وتعالى: (من تقرَّب مني شبرًا: تقرَّبت منه ذراعًا، ومن تقرَّب مني ذراعًا: تقرَّبت منه باعًا)، رواه البخاري ومسلم(2).
فهذا قربه من عابده، وأما قربه من داعيه وسائله: فكما قال تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [البقرة: 186]، وقوله: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } [الأعراف: 55]، فيه الإشارة والإعلام بهذا القرب"(3).
خامسًا: طلب قرب الله - عز وجل - والتقرب إليه بالطاعات، لأن الله - عز وجل - قريب ممن أطاعه، قال سبحانه: { إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) } ، وقال في الحديث القدسي: (من تقرب إليَّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا...) الحديث(4).
__________
(1) أخرجه الطبري في تفسيره 2/158، وضعفه أحمد شاكر برقم (2904).
(2) جزء من حديث رواه البخاري (7405)، مسلم (2675).
(3) بدائع الفوائد 3/8 - 9.
(4) البخاري (6502).(2/31)
وكلما كمل العبد مراتب العبودية، كان أقرب إلى الله تعالى، ويشرح شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - الحديث القدسي السابق فيقول: "فقرب الشيء من الشيء مستلزم لقرب الآخر منه، لكن قد يكون قرب الثاني هو اللازم من قرب الأول، ويكون منه أيضًا قُرْبٌ بنفسه، فالأول: كمن تقرَّب إلى مكة أو حائط الكعبة، فكلما قَرُبَ منه قَرُبَ الآخر منه من غير أن يكون منه فعل، والثاني: كقرب الإنسان إلى من يتقرب هو إليه كما تقدم في هذا الأثر الإلهي، فتقرب العبد إلى الله وتقريبه له نَطَقَت به نصوص متعددة، مثل قوله: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } [الإسراء: 57]، { فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) } [الواقعة: 88]، { ّz`دBur الْمُقَرَّبِينَ (45) } [آل عمران: 45]، (وما تقرَّبَ إليِّ عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه)(1) الحديث. وفي الحديث: (أقربُ ما يكون العبدُ من ربِّه في جَوف الليل الآخر)(2).
وليس في الكتاب والسُّنَّة قط قربُ ذاته من جميع المخلوقات في كل حال، فعلم بذلك بُطلان قول الحلولية، فإنهم عمَدوا إلى الخاص المقيد فجعلوه عامًا مطلقًا، كما جعل إخوانهم "الاتحاديَّة" ذلك في مثل قوله: "كنتُ سمعه"، وفي قوله: "فيأتيهم في صورة غير صورته"، وأنَّ الله قال على لسان نبيه: "سَمِع الله لمن حمده".
وكل هذه النصوص حجة عليهم، فإذا فُصِّلَ تبين ذلك، فالداعي والساجد يوجه روحه إلى الله، الروح لها عروج يناسبها، فتقرب من الله تعالى بلا ريب بحسب تخلصها من الشوائب، فيكون الله - عز وجل - منها قريبًا قربًا يلزم من قربها، ويكون منه قرب آخر كقربه عشية عرفة، وفي جوف الليل، وإلى من تقرب منه شبرًا تقرب منه ذراعًا.
__________
(1) البخاري (6502).
(2) الترمذي (3832)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2833).(2/32)
وظاهر قوله: { فَإِنِّي قَرِيبٌ } [البقرة: 186]، يدل على أنَّ القربَ نَعته، ليس هو مجرد ما يلزم من قرب الداعي والساجد، ودنوه عشية عرفة هو لما يفعله الحاج ليلتئذ من الدعاء، والذكر، والتوبة، وإلا فلو قُدِّرَ أنَّ أحدًا لم يقف بعرفة لم يحصل منه سبحانه ذلك الدنو إليهم، فإنه يباهي الملائكة بأهل عرفة، فإذا قُدِّر أنه ليس هناك أحد لم يحصل، فدلَّ ذلك على تقربهم إليه بسبب قربه منهم كما دل عليه الحديث الآخر.
والناسُ في آخر الليل يكون في قلوبهم من التوجُّه والتقرب والرِّقة ما لا يوجد في غير ذلك الوقت، وهذا مناسب لنزوله إلى السماء الدنيا، وقوله: (هل من داع؟ هل من سائل؟ هل من تائب؟)(1).
ثم إنَّ هذا النزول هل هو كدنوه عشية عرفة مُعلَّق بأفعال؟ فإن في بلاد الكفر ليس فيهم من يقوم الليل فلا يحصل لهم هذا النزول، كما أنَّ دُنوه عشية عرفة لا يحصل لغير الحجاج في سائر البلاد، إذ ليس لها وقوف مشروع، ولا مباهاة الملائكة، وكما أن تَفْتيح أبواب الجنة، وتغليق أبواب النار، وتصفيد الشياطين إذا دخل شهر رمضان، إنما هو للمسلمين الذين يصومونه لا الكفار الذين لا يرون له حرمة.
وكذلك اطلاعه على أهل بدر وقوله لهم: (اعملوا ما شئتم) (2) كان مختصًا بأولئك أم هو عام؟ فيه كلام ليس هذا موضعه.
والكلام في هذا (القُرب) من جنس الكلام في نزوله كل ليلة ودُنوه عشية عرفة، وتكليمه لموسى × من الشجرة، وقوله: { y أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا } [النمل: 8] ، وقد بسط الكلام على هذا في غير هذا الموضع... "(3).
اقتران اسمه سبحانه (القريب) باسمه سبحانه (السميع):
وقد سبق ذكر وجه هذا الاقتران عند الكلام عن اسمه سبحانه (السميع) فليرجع إليه.
اقتران اسمه سبحانه (القريب) باسمه سبحانه (المجيب):
__________
(1) البخاري (7494)، مسلم (758) واللفظ لمسلم.
(2) البخاري (3983)، مسلم (2494).
(3) مجموع الفتاوى 5/240 - 242.(2/33)
وذلك في قوله تعالى: { فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ } [هود: 61]، ووجه هذا الاقتران - والله أعلم- هو أن الله سبحانه عندما يسأله عباده ويدعونه فإنه يسمع دعاءهم ويستجيب لهم، ولا يمنعه علوه فوق خلقه عن سماع دعائهم؛ لأنه قريب لهم يسمع دعاءهم ويقضي حوائجهم على اختلاف لغاتهم وتفنن حاجاتهم، فهو سبحانه قريب في علوه عالٍ في قربه.
(86) [المجيب]
ورد اسمه سبحانه (المجيب) مرة واحدة في القرآن وذلك في قوله تعالى: { nrمچدےَّtFَ™$$sù ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) } [هود: 61].
وورد بصيغة الجمع في قوله تعالى: { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) }
[الصافات: 75].
المعنى اللغوي:
قال في اللسان: "وهو اسم فاعل من أجاب يجيب، والجواب معروف: رديد الكلام، والفعل أجاب يجيب.
قال الله تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي } [البقرة: 186] ، أي فليجيبوني ... والإجابة: رجع الكلام؛ تقول: أجابه عن سؤاله وقد أجابه إجابة وإجابًا وجوابًا وجابة، واستجوبه واستجابه واستجاب له.. والإجابة والاستجابة بمعنى"(1).
المعنى في حق الله تعالى:
قال في اللسان أيضًا: "وفي أسماء الله تعالى: (المجيب) وهو الذي يقابل الدعاء والسؤال بالعطاء والقبول سبحانه وتعالى"(2).
وقال الزجاجي رحمه الله تعالى: " (المجيب): اسم الفاعل من أجاب يجيب فهو مجيب، فالله - عز وجل - مجيب دعاء عباده إذا دعوه، كما قال - عز وجل -: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [البقرة: 186]، فالإجابة والاستجابة سواء"(3).
__________
(1) لسان العرب 1/716.
(2) المصدر السابق 1/716.
(3) اشتقاق أسماء الله ص 254.(2/34)
وقال أبو سليمان الخطابي: "هو الذي يجيب المضطر إذا دعاه، ويغيث الملهوف إذا ناداه، فقال: { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [غافر: 60]، وقال: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } ، ويقال: أجاب واستجاب بمعنى واحد" (1).
وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في نونيته:
"وهو المجيب يقول من يدعو أجيبه أنا المجيب لكل من ناداني
وهو المجيب لدعوة المضطر إذ يدعوه في سر وفي إعلان"(2)
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "من أسمائه المجيب لدعوة الداعين، وسؤال السائلين وعباده المستجيبين وإجابته سبحانه نوعان:
إجابة عامة لكل من دعاه: دعاء عبادة، أو دعاء مسأله قال تعالى: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [غافر: 60]، فدعاء المسألة يقول العبد: اللَّهم أعطني كذا أو اللَّهم ادفع عني كذا فهذا يقع من البر والفاجر، ويستجيب الله فيه لكل من دعاه بحسب الحالة المقتضية وبحسب ما تقتضيه حكمته، وهذا يستدل به على كرم المولى وشمول إحسانه للبر والفاجر، ولا يدل بمجرده على حسن حال الداعي الذي أجيبت دعوته إن لم يقترن بذلك ما يدل عليه وعلى صدقه وتعين الحق معه، كسؤال الأنبياء ودعائهم لقومهم وعلى قومهم فيجيبهم الله، فإنه يدل على صدقهم فيما أخبروا به وكرامتهم على ربهم، ولهذا كان النبي × كثيرًا ما يدعو بدعاء يشاهد المسلمون وغيرهم إجابته، وذلك من دلائل نبوته وآيات صدقه، وكذلك ما يذكرونه عن كثير من أولياء الله من إجابة الدعوات فإنه من أدلة كراماتهم على الله.
__________
(1) شأن الدعاء ص 72.
(2) النونية 2/229.(2/35)
وأما الإجابة الخاصة فلها أسباب عديدة؛ منها: دعوة المضطر الذي وقع في شدة وكربة عظيمة، فإن الله يجيب دعوته، قال تعالى: { أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } [النمل: 62]، وسبب ذلك شدة الافتقار إلى الله، وقوة الانكسار، وانقطاع تعلقه بالمخلوقين، ولسعة رحمة الله التي يشمل بها الخلق بحسب حاجتهم إليها فكيف بمن اضطر إليها.
ومن أسباب الإجابة طول السفر، والتوسل إلى الله بأحب الوسائل إليه من أسمائه، وصفاته، ونعمه، وكذلك دعوة المريض، والمظلوم، والصائم، والوالد على ولده، أو له في الأوقات والأحوال الشريفة"(1).
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (المجيب):
تراجع الآثار المذكورة في اسمه سبحانه (القريب) فهي صالحة أن تذكر هنا.
وقد ذكر الله - عز وجل - لنا في كتابه الكريم أمثلة كثيرة من إجابته سبحانه لدعاء أنبيائه ورسله وأوليائه، من ذلك ما ذكره سبحانه في سورة الأنبياء حيث قال - عز وجل -: { وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) } [الأنبياء: 76].
__________
(1) الحق الواضح المبين ص 65، 66.(2/36)
وقال سبحانه في نفس السورة: { * وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) } [الأنبياء: 83 - 90].
وكل من دعا الله - عز وجل - دعاء اضطرار وفاقة، وتعلق به سبحانه وحده فإن الإجابة لا تتأخر في العادة إلا إذا كان في إجابة الدعاء ضرر أو هلاك لصاحب الدعوة، قال الله - عز وجل -: { أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } الآية [النمل: 62].
وعن الحكمة في تأخير الإجابة عن بعض الداعين يقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى: "رأيت من البلاء العجاب أن المؤمن يدعو فلا يجاب، فيكرر الدعاء وتطول المدة، ولا يرى أثرًا للإجابة، فينبغي له أن يعلم أن هذا من البلاء الذي يحتاج إلى الصبر.
وما يعرض للنفس من الوسواس في تأخير الجواب مرض يحتاج إلى طب.(2/37)
ولقد عَرَض لي من هذا الجنس، فإنه نزلت بي نازلة، فَدَعَوْتُ وَبَالَغْتُ، فلم أرَ الإجابة، فأخذ إبليس يجول في حلبات كيده.
فتارة يقول: الكرم واسع والبخل معدوم، فما فائدة تأخير الجواب؟
فقلت له: اخسأ يَا لَعِين، فما أحتاج إلى تقاضي، ولا أرضاك وكيلا.
ثم عدت إلى نفسي فقلت: إياك ومساكنة وسوسته، فإنه لو لم يكن في تأخير الإجابة إلا أن يبلوك في محاربة العدو لكفى في الحكمة.
قالت: فسلِّني عن تأخير الإجابة في مثل هذه النازلة.
فقلت: قد ثبت بالبرهان أن الله - عز وجل - مالك، وللمالك التصرف بالمنع والعطاء، فلا وجه للاعتراض عليه.
والثاني: أنه قد ثبتت حكمته بالأدلة القاطعة، فربما رأيت الشيء مصلحة، والحقُّ أن الحكمة لا تقتضيه، وقد يخفى وجه الحكمة فيما يفعله الطبيب، من أشياء تؤذي في الظاهر يقصد بها المصلحة، فلعل هذا من ذاك.
والثالث: أنه قد يكون التأخير مصلحة، والاستعجال مضرة، وقد قال النبي ×: (لا يزال العبد في خير ما لم يستعجل، يقول دعوت فلم يستجب لي) (1).
والرابع: أنه قد يكون امتناع الإجابة لآفة فيك، فربما يكون في مأكولك شبهة، أو قلبك وقت الدعاء في غفلة، أو تزاد عقوبتكِ في مَنْعِ حَاجَتِك لِذَنْبٍ مَا صدقتِ في التوبة منه. فابحثي عن بعض هذه الأسباب لعلك توقنين بالمقصود...
والخامس: أنه ينبغي أن يقع البحث عن مقصودك بهذا المطلوب، فربما كان في حصوله زيادة إثم، أو تأخير عن مرتبة خير، فكان المنع أصلح.
وقد روي عن بعض السلف أنه كان يسأل الله الغزو، فهتف به هاتف: إنك إن غَزَوْت أُسِرْتَ، وإن أسرت تنصرت.
والسادس: أنه ربما كان فقد ما تفقدينه سببًا للوقوف على الباب واللجأ. وحصوله سببًا للاشتغال به عن المسؤول.
وهذا الظاهر بدليل أنه لولا هذه النازلة ما رأيناك على باب اللجأ.
__________
(1) مسلم (2735).(2/38)
فالحقُّ - عز وجل - علم من الخلق اشتغالهم بالبر عنه، فلذعهم في خلال النعم بعوارض تدفعهم إلى بابه، يستغيثون به، فهذا من النعم في طي البلاء"(1).
اقتران اسمه سبحانه (المجيب) باسمه سبحانه (القريب):
سبق ذكر وجه هذا الاقتران في باب اسمه سبحانه (القريب) فليرجع إليه.
- - -
(87) [المحيط]
ورد اسمه سبحانه (المحيط) ثماني مرات في كتابه الكريم ومن ذلك:
قوله تعالى: { وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ } [البقرة: 19].
وقوله سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) } [آل عمران: 120].
وقوله - عز وجل -: { أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) } [فصلت: 41].
وقوله سبحانه: { وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) } [البروج: 20].
وقوله - عز وجل -: { وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126) }
[النساء: 126].
المعنى اللغوي:
قال في اللسان: "حَاطَهُ يَحُوطه حَوْطًا وحيطةً وحياطةً: حَفِظه وعهده وتعهده واحتاط الرجل: أخذ في أموره بالأجْزم.
ومع فلان حِيطةٌ لك - ولا تقل عليك - أي: تحنُّنٌ وتعطف.
والحائِط: الجدار لأنه يَحُوطُ ما فيه، والحُوَاطة: حظيرة تتُخذ للطعام.
وكلُّ من أحرز شيئًا كلَّه وبلغ علمه أقصاه، فقد أحاط به، يقال: هذا الأمر ما أحطتُ به علمًا.
وقوله تعالى: { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } [النمل: 22] أي: عَلِمتُه من جميع جهاته. وأُحيط بفلان: إذا دنا هلاكه فهو مُحاطٌ به ، قال عز وجل: { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } [الكهف: 42] أي: أصابه ما أهلكه وأفسده"(2).
__________
(1) صيد الخاطر ص 69، 70.
(2) لسان العرب 2/1052.(2/39)
وقال الزجاجي: "المحيط في اللغة اسم الفاعل، من قولهم: أحاط فلان بالشيء فهو محيط به إذا استولى عليه، وضم جميع أقطاره ونواحيه، حتى لا يمكن التخلص منه ولا فوته. فالله - عز وجل - محيط بالأشياء: كلها لأنها تحت قدرته لا يمكن شيء منها الخروج عن إرادته فيه ولا يمتنع عليه منها شيء"(1).
المعنى في حق الله عز وجل :
قال الطبري - رحمه الله تعالى - في قوله: { أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ } : "يقول تعالى ذكره: ألا إن الله بكلِّ شيءٍ مما خلق محيطٌ علمًا بجميعه وقدرته عليه، لا يَعزب عنه علم شيء منه أراده فيفوته، ولكنه المُقتدر عليه العالم بمكانه"(2).
وقال الزجاجي رحمه الله تعالى: "فالله - عز وجل - محيطٌ بالأشياء كلِّها، لأنها تحت قدرته، لا يمكن شيء منها الخروج عن إرداته فيه، ولا يمتنع عليه منها شيء، وقد قال الله عز وجل: { أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12) } [الطلاق: 12]، أي: علم كل شيءٍ على حقيقته، بجميع صفاته فلم يخرج شيء منها عن علمه.
وقد قال الله تعالى: : { وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ } قال المفسرون: تأويله: مُهلك الكافرين، حقيقته أنهم لا يُعْجزونه ولا يفوتونه فهو مُحيطٌ بهم"(3).
وقال الخطابي رحمه الله تعالى: " (المحيطُ) هو الذي أحاطت قدرته بجميع خلقه، وهو الذي أحاطَ بكل شيٍء علمًا، وأحصى كلَّ شيءٍ عددًا"(4).
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "قد دلَّ العقل والفطرة، وجميع كتب الله السماوية على أن الله تعالى عالٍ على خلقه؛ فوق جميع المخلوقات، وهو مستوٍ على عرشه ، وعرشه فوق السماوات كلِّها، فهو سبحانه (مُحيطٌ) بالعالم كلِّه"(5).
وقال السعدي رحمه الله تعالى: " (المحيط) بكل شيء علمًا وقدرة ورحمة وقهرًا"(6).
__________
(1) اشتقاق أسماء الله ص 46.
(2) تفسير الطبري 25/5.
(3) اشتقاق أسماء الله ص 46 - 47.
(4) شأن الدعاء.
(5) مختصر الصواعق المرسلة 2/395.
(6) تفسير السعدي 5/302.(2/40)
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (المحيط):
أولاً: الخوف من الله - عز وجل - والحياء منه ومراقبته سبحانه في كل خطرة ولفظة ولحظة وخطوه، لأن علمه سبحانه محيط بكل شيء ولا يخفى عليه شيء دق أو جل خفي أم ظهر.
ثانيًا: البعد عن ظلم العباد والاعتداء عليهم، ذلك بأن الله - عز وجل - قد أحاطت قدرته بكل شيء، فلا يفوته شيء ولا يعجزه شيء، فتذكر هذه القدرة المحيطة تمنع العبد من الاغترار بقدرته على الناس وظلمهم، لأن قدرة الله - عز وجل - فوق قدرته وهو القاهر الذي أحاط قهره بكل شيء، وما من دابة إلا هو سبحانه آخذ بناصيتها.
ثالثًا: إن الإيمان بإحاطة قدرته سبحانه وقهره لكل شيء تثمر في القلب الاستهانة بقوة المخلوق من الأعداء الكفرة والمنافقين بعد الأخذ بأسباب المدافعة لشرهم، لأن الله - عز وجل - محيط بهم وقاهر لهم. وإذا حصل التقوى والصبر من المؤمنين فلن يضرهم كيد الكائدين لأن الله - عز وجل - بما يعملون ويكيدون محيط.
قال سبحانه: { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) } [آل عمران: 120].
- - -
(88) [الحسيب]
ورد ذكر اسمه سبحانه (الحسيب) في القرآن الكريم ثلاث مرات؛ وذلك في قوله سبحانه: { وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6) } [النساء: 6]، وقوله عز وجل: { وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا } [الأحزاب: 39]، وقوله سبحانه: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) } [النساء: 86].
المعنى اللغوي:
قال في اللسان : " (الحسيب): الكافي، فعيل بمعنى مفعل من أحسبني الشيء إذا كفاني. والحسب الكرم. والحسب: الشرف الثابت في الآباء.. وحْسبُ -مجزوم- بمعنى كفى، قال سيبويه: وأما حسب فمعناه الاكتفاء، وحسبك درهم أي كفاك.. ويقال: أحسبني ما أعطاني أي: كفاني... يقول: حسبك هذا أي: اكتف بهذا"(1).
__________
(1) لسان العرب 2/863 - 865.(2/41)
وقال الراغب: "والحسيب والمحاسب من يحاسبك ثم يعبر به عن المكافئ بالحساب"(1).
المعنى في حق الله تعالى:
قال الزجاجي رحمه الله تعالى: " (الحسيب) يجوز أن يكون من حسبت الحساب، ويجوز أن يكون أحسبني الشيء إذا كفاني. فالله تعالى (محسب) أي: كاف فيكون فعيلاً في معنى مفعل كأليم ونحوه"(2).
وقال الطبري رحمه الله تعالى في قوله تعالى: { وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا } [الأحزاب: 39]، أي: وكفاك يا محمد بالله حافظًا لأعمال خلقه ومحاسبًا عليها"(3).
وقال الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- في نونيته:
"وهو الحسيب كفاية وحماية والحسبُ كافي العبدَ كلَّ أوان"(4).
وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: " (الحسيب): هو العليم بعباده، كافي المتوكلين، المجازي لعباده بالخير والشر بحسب حكمته وعلمه بدقيق أعمالهم وجليلها"(5).
وقال أيضًا: "والحسيب بمعنى الرقيب الحاسب لعباده المتولي جزاءهم بالعدل، وبالفضل، وبمعنى الكافي عبده همومه، وغمومه. وأخص من ذلك أنه الحسيب للمتوكلين: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [الطلاق: 30]، أي: كافيه أمور دينه ودنياه"(6).
وقال كذلك: "والحسيب أيضًا هو الذي يحفظ أعمال عباده من خير، وشر، ويحاسبهم إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.
وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [الأنفال: 64]، أي: كافيك وكافي أتباعك، فكفاية الله لعبده بحسب ما قام به في متابعة الرسول ظاهرًا وباطنًا، وقيامه بعبودية الله تعالى"(7).
__________
(1) المفردات ص 117.
(2) تفسير الأسماء ص 49.
(3) تفسير الطبري 22/12.
(4) نونية ابن القيم البيت رقم (2317).
(5) تفسير السعدي ص 947.
(6) توضيح الكافية الشافية ص 126، 127.
(7) الحق الواضح المبين ص 78.(2/42)
وقال في موطن آخر: { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا } [النساء: 86]، فيحفظ على العباد أعمالهم حسنها وسيئها، صغيرها وكبيرها ثم يجازيهم بما اقتضاه فضله وعدله وحكمه المحمود"(1).
وقال الخطابي رحمه الله تعالى: "الحسيب هو المكافئ فعيل بمعنى مفعل كقولك: أليم بمعنى مؤلم، تقول العرب: نزلت بفلان فأكرمني وأحسبني أي أعطاني ما كفاني حتى قلت: حسبي. والحسيب أيضًا بمعنى المحاسب، كقولهم: وزير ونديم بمعنى موازر ومنادم ومنه قول الله سبحانه: { ù4's"x. بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) } [الإسراء: 14] أي: محاسبًا والله أعلم"(2).
مما سبق من الأقوال يتحصل لنا في معنى (الحسيب) معنيان:
الأول: بمعنى الكافي والحافظ.
الثاني: بمعنى المحاسب.
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (الحسيب):
أولاً ما ذكر من الآثار في الإيمان باسمه سبحانه (الكافي)، (الكفيل) يصلح أن يذكر هنا لتقارب المعنى في هذه الأسماء.
فالله سبحانه هو الكافي لعباده الذي لا غنى لهم عنه أبدًا، ولا يشاركه في ذلك أحد أبدًا، وإن ظن بعض الناس أن غير الله يكفيهم فهو ظن باطل، بل كل شيء لا يتم إلا بخلقه وأمره وتقديره سبحانه، وفي ذلك يقول الغزالي رحمه الله تعالى: "هو الكافي، وهو الذي من كان له كان حسبه، والله تعالى حسيب كل أحد وكافيه، وهذا وصف لا يتصور حقيقته لغيره، فإن الكفاية إنما يحتاج إليها المكفي، لوجوده، ولدوام وجوده، ولكمال وجوده.
وليس في الوجود شيء هو وحده كافٍ لشيء إلا الله تعالى، فإنه وحده كافٍ لكلِّ شيء، لا لبعض الأشياء أي: هو وحده كافٍ يتحصل به وجود الأشياء ويدوم به وجودها، ويكمل به وجودها.
ولا تظنن أنك إذا احتجت إلى طعام وشراب، وأرض وسماء، وشمس وغير ذلك، فقد احتجت إلى غيره، ولم يكن هو حسبك، فإنه هو الذي كفاك بخلق الطعام والشراب، والأرض والسماء فهو حسبك.
__________
(1) تفسير السعدي ص 191.
(2) شأن الدعاء ص 69 - 70.(2/43)
ولا تظنن أن الطفل الذي يحتاج إلى أمه، ترضعه وتتعهده فليس الله حسيبه وكافيه، بل الله كفاه إذ خلق أمه، وخلق اللبن في ثديها، وخلق له الهداية إلى التقامه، وخلق الشفقة والمودة في قلب الأم حتى مكنته من الالتقام، ودعته إليه وحملته عليه.
فالكفاية إنما حصلت بهذه الأسباب، والله وحده المتفرد بخلقها... فهو وحده حسب كل أحد، وليس في الوجود شيء وحده هو حسب شيء سواه، بل الأشياء يتعلق بعضها ببعض، وكلها تتعلق بقدرة الله تعالى"(1).
ثانيًا: وعلى المعنى الثاني لاسمه سبحانه (الحسيب) وهو المحاسب الذي أحصى كل شيء على عباده ويوم القيامة يحاسبهم ويجازيهم على أعمالهم؛ إن هذا المعنى يثمر في قلب المؤمن الخوف والوجل من الله - عز وجل - ومحاسبة النفس، والاستعداد لهذا الحساب بالطاعات واجتناب المحرمات ومظالم العباد، لأنه سيقف بين يدي الحكم العدل الذي قال عن نفسه سبحانه: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) } [الأنبياء: 47]، وقال - عز وجل -: { ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) } [الأنعام: 62].
وهذا الحفظ والإحصاء الدقيق، والحساب الذي لا يفوته شيء، هو الذي يبهت أهل الأجرام، الذين لا يبالون بأعمالهم صلحت أو فسدت، يعملون السيئات بلا حساب ويظنون أنهم متروكون سدى، لا حساب ولا عذاب، قال تعالى عنهم: { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) } [الكهف: 49].
__________
(1) المقصد الأسنى ص 72.(2/44)
لذلك كان لزامًا علينا أن نحاسب أنفسنا قبل أن نحاسب، وأن نزن أعمالنا قبل أن تُوزن.
والذين نسوا يوم الحساب ولم يعملوا له، وعاشوا دنياهم غير ناظرين لآخرتهم هؤلاء أهلكوا أنفسهم: { إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيد بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) } [ص: 26].
والذين لا يؤمنون بيوم الحساب خطر على الناس والحياة والأحياء، لأنهم لا يستقيمون على أمر الله، ويفسدون الحياة بكبرهم: { وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) } [غافر: 27].
وفي يوم الحساب يبعث الله الأولين والآخرين، ويجمعهم على صعيد واحد، لا يتخلف منهم أحد: { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) } [مريم: 93 - 95].
(89) [الغني]
ورد اسمه سبحانه (الغني) ثماني عشرة مرة في القرآن الكريم تارة مفردًا كما في قوله سبحانه: { قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ } [يونس: 68]، وتارة مقرونًا باسمه سبحانه (الحميد) وهو أكثرها كما في قوله تعالى: { * يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) } [فاطر: 15]، وقوله تعالى: { وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) } [الحديد: 57]، ومرة مقرونًا باسمه سبحانه (الكريم) كما في قوله سبحانه: { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) } [النمل: 40]، ومرة مقرونًا باسمه سبحانه (الحليم) كما في قوله سبحانه: { * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) } [البقرة: 263].
المعنى اللغوي:(2/45)
قال في اللسان: "في أسماء الله عز وجل: الغني، قال ابن الأثير: هو الذي لا يحتاج إلى أحد في شيء وكل أحد محتاج إليه، وهذا هو الغنى المطلق... ".
وقال ابن سيده: "الغنى مقصور: ضد الفقر... والغَناء بالفتح: النفع، والغِناء بالكسر من السماع، والغنى مقصور: اليسار، وتغانوا: استغنى بعضهم عن بعض، واستغنى الرجل: أصاب غنى... والغني والغاني: ذو الوفر. وما لك عنه غنى ولا غنية ولا غنيان ولا مغنى أي: ما لك عنه بد... ويقال: ما يغني عنك هذا، أي: ما يجزي عنك وما ينفعك"(1).
المعنى في حق الله تعالى:
مضى قول ابن الأثير: "أن الغني من أسماء الله - عز وجل - وهو الذي لا يحتاج إلى أحد في شيء وكل أحد محتاج إليه"(2).
وقال الخطابي رحمه الله تعالى: " (الغني) هو الذي استغنى عن الخلق وعن نصرتهم وتأييدهم لملكه، فليست به حاجة إليهم، وهم إليه فقراء محتاجون كما وصف نفسه تعالى فقال عز من قائل: { وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ } [محمد: 38] "(3).
وقال الزجاج رحمه الله تعالى: "وهو (الغني) والمستغني عن الخلق بقدرته وعزة سلطانه، والخلق فقراء إلى تطوله وإحسانه، كما قال تعالى: { وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ } [محمد: 38](4).
وقال الطبري - رحمه الله تعالى - في قوله سبحانه: { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) } [البقرة: 267]، واعلموا أيها الناس أن الله - عز وجل - غني عن صدقاتكم وعن غيرها، وإنما أمركم بها وفرضها في أموالكم رحمة منه لكم ليغني بها عائلكم، ويقوي بها ضعيفكم ويجزل لكم عليها في الآخرة مثوبتكم لا من حاجة به منها إليكم"(5).
وقال ابن القيم رحمه الله في نونيته:
__________
(1) لسان العرب 5/3308، 3309.
(2) لسان العرب 5/3308، 3309.
(3) شأن الدعاء ص 92 - 93.
(4) تفسير الأسماء ص 63.
(5) تفسير الطبري 3/58.(2/46)
"وهو الغني بذاته فغناه ذا تي له كالجود والإحسان"(1)
وقال أيضًا: "هو الغني بذاته الذي كل ما سواه محتاج إليه، وليس به حاجة إلى أحد"(2).
وسيأتي بيان لوازم هذا الاسم الكريم في آثار الإيمان به إن شاء الله تعالى.
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "قال تعالى: { * يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) } [فاطر: 15]، فهو الغني بذاته، الذي له الغنى التام المطلق، من جميع الوجوه، والاعتبارات لكماله، وكمال صفاته، فلا يتطرق إليها نقص بوجه من الوجوه ، ولا يمكن أن يكون إلا غنيًا، لأن غناه من لوازم ذاته، كما لا يكون إلا خالقًا قادرًا رازقًا محسنًا فلا يحتاج إلى أحد بوجه من الوجوه، فهو الغني الذي بيده خزائن السماوات والأرض، وخزائن الدنيا والآخرة، المغني جميع خلقه غنى عامًا، والمغني لخواص خلقه مما أفاض على قلوبهم من المعارف الربانية والحقائق الإيمانية"(3).
وقال أيضًا: "ومن كمال غناه وكرمه أنه يأمر عباده بدعائه، ويعدهم بإجابة دعواتهم، وإسعافهم بجميع مراداتهم، ويؤتيهم من فضله ما سألوه، وما لم يسألوه. ومن كمال غناه أنه لو اجتمع أول الخلق وآخرهم في صعيد واحد فسألوه، فأعطى كلاً منهم ما سأله، وما بلغت أمانيه ما نقص من ملكه مثقال ذرة. ومن كمال غناه، وسعة عطاياه ما يبسطه على أهل دار كرامته من النعيم، واللذات المتتابعات، والخيرات المتواصلات، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
ومن كمال غناه أنه لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا ولا شريكًا في الملك، ولا وليًا من الذل، وهو الغني الذي كمل بنعوته، وأوصافه، المغني لجميع مخلوقاته"(4).
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (الغني):
__________
(1) النونية ص 239 البيت رقم 3201.
(2) شفاء العليل 1/387.
(3) تفسير السعدي 5/629.
(4) الحق الواضح المبين ص 47، 48.(2/47)
أولاً: إفراد الله - عز وجل - بالعبادة لأنه سبحانه هو الغني المطلق، والغني وصف له سبحانه ذاتي وما سواه من الخلائق مفتقر إليه، فالأمر كله له والملك كله له، وجميع الخلق مربوبون مملوكون، فكيف يتخذ منهم معبودًا مع الله تعالى؟ وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "الأمر كلُّه لله وحده، فليس لأحدٍ معه من الأمر شيءٌ، وأعلى الخلق وأفضلهم وأكرمهم عنده: هم الرسل والملائكة المقربون - وهم عبيدٌ محضٌ -: { لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ } [الأنبياء: 27]، ولا يتقدمون بين يديه ولا يفعلون شيئًا إلا بعد إذنه لهم وأمرهم؛ ولا سيَّما: { يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا } [الانفطار: 15]، فهم مملوكون مربوبون، أفعالهم مقيدةٌ بأمره وإذنه، فإذا أشرك بهم المشرك واتخذهم شفعاء من دونه - ظنّاً منه أنه إذا فعل ذلك تقدَّموا وشفعوا له عند الله -: فهو من أجهل الناس بحقِّ الربِّ سبحانه وما يجب له ويمتنع عليه، فإن هذا محالٌ ممتنعٌ؛ شبيه قياس الربِّ تعالى على الملوك والكبراء، حيث يتخذ الرجل من خواصِّهم وأوليائهم من يشفع له عندهم في الحوائج، وبهذا القياس الفاسد عُبِدَتْ الأصنام؛ واتَّخَذَ المشركون من دون الله الشفيعَ والوليَّ.
والفرق بينهما: هو الفرق بين المخلوق والخالق؛ والربِّ والمربوب؛ والسيِّد والعبد؛ والمالك والمملوك؛ والغنيِّ والفقير؛ والذي لا حاجة به إلى أحدٍ قطُّ، والمحتاج من كلِّ وجهٍ إلى غيره...(2/48)
فأما الغنيُّ الذي غناه من لوازم ذاته؛ وكلُّ ما سواه فقيرٌ إليه بذاته؛ وكلُّ من في السماوات والأرض عبيدٌ له؛ مقهورون بقهره مصرفون بمشيئته، لو أهلكهم جميعًا: لم ينقص من عِزِّه وسلطانه وملكه وربوبيته وإلهيته مثقالُ ذرةٍ، قال تعالى: { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) } [المائدة: 17]، وقال سبحانه في سيدة آي القرآن آية الكرسي: { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } [البقرة: 255]، وقال: { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [الزمر: 44] "(1).
ثانيًا: الافتقار التام إلى الله - عز وجل - لأن الفقر صفة ذاتية ملازمة للعبد في جميع أحيانه ولا حول ولا قوة له إلا بالله تعالى، ولا يستغني عن ربه سبحانه طرفة عين، لأنه سبحانه الغني ذو الغنى المطلق الذي لا يحتاج إلى أحد، وكل أحد محتاج إليه .
__________
(1) إغاثة اللهفان 1/341 - 342.(2/49)
والشعور بالافتقار إلى الله - عز وجل - يجعل العبد خائفًا راجيًا متوكلاً على ربه سبحانه في دفع الضرر، وجلب النفع، متبرئًا من الحول والقوة، متضرعًا إلى ربه سبحانه، وداعيًا له في كل حين بالهداية والحفظ والتوفيق، وأن لا يكله سبحانه إلى نفسه طرفة عين فيضيع ويهلك، وعن هذه المعاني يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "قال الله سبحانه: { * يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) } [فاطر: 15]، بيَّن سبحانه في هذه الآية أن فقر العباد إليه أمر ذاتي لهم لا ينفك عنهم، كما أن كونه غنيًا حميدًا ذاتي له، فغناه وحمده ثابتٌ له لذاته لا لأمرٍ أوجبه، وفقر من سواه إليه ثابت لذاته لا لأمر أوجبه، فلا يُعلّل هذا الفقر بحدوث ولا إمكان، بل هو ذاتي للفقير، فحاجة العبد إلى ربه لذاته لا لعلةٍ أوجبت تلك الحاجة، كما أن غنى الرب سبحانه لذاته لا لأمر أوجب غناه، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
والفَقْرُ وَصفُ ذاتٍ لازمٍ أبدًا كما الغنى أبدًا وَصْفٌ له ذاتي
فالخلق فقيرٌ محتاج إلى ربه بالذات لا بعلة، وكل ما يُذكر ويُقرر من أسباب الفقر والحاجة فهي أدلة على الفقر والحاجة لا عِلَلٌ لذلك، إذ ما بالذاتَ لا يُعلل، فالفقير بذاته محتاج إلى الغني بذاته، فما يُذكر من إمكان وحُدوث واحتياج فهي أدلة على الفقر لا أسباب له...
والمقصود أنه سبحانه أخبر عن حقيقة العباد وذواتهم بأنها فقيرة إليه سبحانه، كما أخبر عن ذاته المقدسة وحقيقته أنه { غَنِيٌّ حَمِيدٌ } فالفقر المطلق من كلِّ وجهٍ ثابتٌ لذواتهم وحقائقهم من حيث هي، والغنى المطلق من كل وجه ثابتٌ لذاته تعالى وحقيقته من حيث هي، فيستحيل أن يكون العبد إلا فقيرًا، ويستحيل أن يكون الربُّ سبحانه إلا غنيًا، كما أنه يستحيل أن يكون العبد إلا عبدًا والرب إلا ربًا.(2/50)
إذا عرف هذا فالفقر فقران: فقر اضطراري، وهو فقر عام لا خروجَ لبر ولا فاجر عنه، وهذا الفقر لا يَقتضي مدحًا ولا ذمًا، ولا ثوابًا ولا عقابًا، بل هو بمنزلة كون المخلوق مخلوقًا ومصنوعًا.
والفقر الثاني: فقر اختياري هو نتيجة علمين شريفين: أحدهما: معرفة العبد بربه، والثاني: معرفته بنفسه، فمتى حصلت له هاتان المعرفتان أنتجتا فقرًا هو عين غناه وعنوان فلاحه وسعادته، وتفاوت الناس في هذا الفقر بحسب تفاوتهم في هاتين المعرفتين، فمن عَرَفَ ربه بالغنى المطلق عرف نفسه بالفقر المطلق، ومن عرف ربه بالقُدرة التامة عرف نفسه بالعجز التام، ومن عرف ربه بالعز التام عرف نفسه بالمسكنة التامة، ومن عرف ربه بالعلم التام والحكمة عرف نفسه بالجهل.
فالله سبحانه أخرج العبد من بطن أمه لا يعلم شيئًا ولا يقدر على شيء، ولا يملك شيئًا ولا يقدر على عطاء ولا منع ولا ضر ولا نفع ولا شيء البتة، فكان فقره في تلك الحال إلى ما به كماله أمرًا مشهودًا محسوسًا لكل أحد، ومعلوم أن هذا له من لوازم ذاته، وما بالذات دائم بدوامها، وهو لم ينتقل من هذه الرتبة إلى رتبة الربوبية والغنى، بل لم يزل عبدًا فقيرًا بذاته إلى بارئه وفاطره.
فلما أسبغ عليه نعمته، وأفاض عليه رحمته، وساق إليه أسباب كمال وجوده ظاهرًا وباطنًا، وخلع عليه ملابس إنعامه، وجعل له السمع والبصر والفؤاد، وعَلَّمه وأقدره وصرَّفه وحركه ومكَّنه من استخدام بني جنسه، وسخَّر له الخيل والإبل، وسلطه على دواب الماء، واستنزال الطير من الهواء، وقهر الوحش العادية، وحفر الأنهار، وغرس الأشجار، وشق الأرض، وتعلية البناء والتَّحَيُّلِ على مصالحه، والتحرز والتحفظ لما يؤذيه، ظنَّ المسكين أن له نصيبًا من الملك! وادعى لنفسه مُلْكًا مع الله سبحانه! ورأى نفسه بغير تلك العين الأولى، ونسي ما كان فيه من حالة الإعدام والفقر والحاجة! حتى كأنه لم يكن هو ذلك الفقير المحتاج، بل كأن ذلك شخصًا آخر غيره.(2/51)
كما روى الإمام أحمد في مسنده من حديث بسر بن جحاش القرشي أن رسول الله × بصق يومًا في كفه فوضع عليها إصبعه ثم قال: "قال الله تعالى: (يا ابن آدم أنَّى تُعجزني وقد خلقتكُ من مِثْلِ هذه حتى إذا سَوَّيْتُك وعدَلْتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التَّراقي قُلت: أتصدَّق، وأنَّى أوَانُ الصدقة)(1).
ومن ها هنا خَذَل من خذل ووفَّق من وفق، فحجب المخذول عن حقيقته ونسي نفسه، فنسي فقره وحاجته وضرورته إلى ربه، فطغى وعَتَا فحقَّت عليه الشقوة، قال تعالى: { كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى (7) } [العلق: 6 - 7]، { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) } [الليل: 5 - 10]، فأكمل الخلق أكملهم عبودية، وأعظمهم شهودًا لفقره وضرورته وحاجته إلى ربه وعدم استغنائه عنه طرفة عين، ولهذا كان من دعائه ×: (أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك)(2).
وكان يدعو: (يا مقلِّبَ القلوب ثِّبت قلبي على دينك)(3) ، يَعلَم × أن قلبه بيد الرحمن - عز وجل - لا يملك منه شيئًا، وأن الله سبحانه يصرفه كما يشاء، كيف وهو يتلو قوله تعالى: { وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) } [الإسراء: 74] فضرورته × إلى ربه، وفاقته إليه بحسب معرفته به، وحسب قربه منه ومنزلته عنده.
__________
(1) مسند أحمد 4/210، وابن ماجه 2/2707، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1143).
(2) البخاري في الأدب المفرد (701)، وأبو داود (5090)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3388).
(3) أحمد 3/112، وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (2792).(2/52)
وهذا أمر إنما بدا منه لمن بعده ما يرشح من ظاهر الوعاء، ولهذا كان أقربَ الخلق إلى الله وسيلة، وأعظمهم عنده جاهًا وأرفعهم عنده منزلة، لتكميله مقام العبودية والفقر إلى ربه، وكان يقول لهم: (أيُّها الناس ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي إنما أنا عبد)(1).
وكان يقول : (لا تُطْرُوني كما أطرت النصارى المسيحَ ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله)(2) ، وذكره الله سبحانه بسمة العبودية في أشرف مقاماته، مقام الإسراء ومقام الدعوة ومقام التحدي فقال: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا } [الإسراء: 1]، { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) } [الجن: 19]، { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } [البقرة: 23]، وفي حديث الشفاعة: (إنَّ المسيح يقول لهم اذهبوا إلى محمدٍ عبد غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر)(3) ، فنال ذلك المقام بكمال عبوديته، وبكمال مغفرة الله له.
فتأمل قوله تعالى في الآية: { أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ } [فاطر: 15] باسم الله دون اسم الربوبية ليؤذن بنوعي الفقر، فإنه كما تقدم نوعان: فقر إلى ربوبيته، وهو فقر المخلوقات بأسرها، وفقر إلى ألوهيته وهو فقر أنبيائه ورسله وعباده الصالحين، وهذا هو الفقر النافع، والذي يشير إليه القوم ويتكلمون عليه، ويشيرون إليه هو الفقر الخاص لا العام، وقد اختلفت عباراتهم عنه ووصفهم له، كلٌّ أخبر عنه بقدر ذوقه وقدرته على التعبير"(4).
__________
(1) الطبراني 3/128ح (2889)، وحسن إسناده الهيثمي في مجمع الزوائد 9/21.
(2) البخاري (3445).
(3) البخاري(4476).
(4) طريق الهجرتين ص 10 - 13.(2/53)
ثالثًا: إن اسمه سبحانه (الغني) يثمر في قلب المؤمن الغنى القلبي كما جاء في الحديث: (ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس)(1) ، وهذا يثمر الاستغناء بالله تعالى وحده عن الناس وعزة النفس، والتعفف والزهد بما في أيدي الناس، وعدم التذلل لهم وعدم التعلق بأعطياتهم، وإعانتهم، بل يجرد العبد تعلقه وقضاء حوائجه وطلب رزقه بالله الغني الحميد الكريم الوهاب الذي لا تفنى خزائنه، فما أسعد من تعفف عن الناس واستغنى بربه سبحانه، قال ×: (وإنه من يستعفف يعفه الله ومن يتصبر يصبره الله ومن يستغن يغنه الله ولن تعطوا عطاء خيرًا وأوسع من الصبر)(2).
اقتران اسمه سبحانه (الغني) باسمه سبحانه (الحميد):
قال الله - عز وجل -: { * يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) } [فاطر: 15]، وقد جاء هذا الاقتران في القرآن الكريم (عشر مرات) وقد سبق ذكر وجه هذا الاقتران في الكلام على اسمه سبحانه (الحميد) فليرجع إليه.
اقتران اسمه سبحانه (الغني) باسمه سبحانه (الكريم):
وقد جاء هذا الاقتران مرة واحدة في القرآن الكريم وذلك في قوله تعالى: { فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) } [النمل: 40].
وقد سبق ذكر وجه هذا الاقتران في الكلام على اسمه سبحانه (الكريم) فليرجع إليه.
اقتران اسمه سبحانه (الغني) باسمه سبحانه (الحليم):
وقد جاء هذا الاقتران مرة واحدة في القرآن وذلك في قوله تعالى: { وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) } [البقرة: 263]، وقد سبق ذكر وجه هذا الاقتران في باب اسمه سبحانه (الحليم) فليرجع إليه.
(90) [الوهاب]
__________
(1) البخاري (6446).
(2) البخاري (6470).(2/54)
ورد اسمه سبحانه (الوهاب) ثلاث مرات في القرآن الكريم وذلك في قوله عز و جل: { رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) } [آل عمران : 8]، وقوله سبحانه: { أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) } [ص: 9]، وقوله تعالى: { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) } [ص: 35].
المعنى اللغوي:
قال في اللسان: "الهبة: العطية الخالية عن الأعراض والأغراض، فإذا كثرت سمي صاحبها وهابًا، وهو من أبنية المبالغة... وكل ما وهب لك من ولد وغيره فهو موهوب، والوَهُوب: الرجل الكثير الهبات.
وقال ابن سيده: "وهب لك الشيء يهبه وهْبًا ووَهَبًا بالتحريك، وهبة. والاسم الموهِب، والموْهِبَة بكسر الهاء فيها... ووهبت له هبة وموهبة ووهْبا ووَهَبَاً إذا أعطيته، ووهب الله له الشيء فهو يهب هبة... والموهِبَة: العطية"(1).
المعنى في حق الله تعالى:
قال ابن جرير - رحمه الله تعالى - عند قوله تعالى: { رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } [آل عمران:8] "يعني إنك أنت المعطي عبادك التوفيق والسداد للثبات على دينك وتصديق كتابك ورسلك"(2)، وقال أيضًا: "إنك وهاب ما تشاء لمن تشاء بيدك خزائن كل شيء تفتح من ذلك ما أردت لمن أردت"(3).
__________
(1) لسان العرب 6/4929 ( باختصار).
(2) تفسير الطبري 3/125.
(3) تفسير الطبري 23/103.(2/55)
وقال الخطابي رحمه الله تعالى: " (الوهاب): هو الذي يجود بالعطاء عن ظهر يد من غير استثابة .. إلى قوله... فكل من وهب شيئًا من عرض الدنيا لصاحبه فهو واهب، ولا يستحق أن يسمى وهّابًا إلا من تصرفت مواهبُهُ في أنواع العَطَايا فكثرت نوائله ودامت، والمخلوقون إنما يملكون أن يهبوا مالاً أو نوالاً في حالٍ دون حال، ولا يملكون أن يهبوا شفاءً لسقيمٍ، ولا ولدًا لعقيم، ولا هدى لضالٍ، ولا عافيةً لذي بلاء، والله الوهاب سبحانه يملك جميع ذلك، وسع الخلق جودُه، فدامت مواهبه واتصلت مننه وعوائده"(1).
وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في نونيته:
"وكذلك الوهاب من أسمائه فانظر مواهبه مدى الأزمان
أهل السماوات العلى والأرض عن تلك المواهب ليس ينفكان"(2)
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (الوهاب):
__________
(1) شأن الدعاء ص 53.
(2) النونية 2/234.(2/56)
أولاً: محبة الله - عز وجل - وإخلاص العبادة له وحده، لأنه بيده وحده جميع المواهب التي لا تعد ولا تحصى بجميع أصنافها وأنواعها فهو سبحانه واهب الحياة، وواهب القوة، وواهب الرزق، وواهب الهداية والإيمان من غير عوض ولا ثواب يريده سبحانه من خلقه؛ فخليق بمن هذه مواهبه أن يبذل له الحب كله وأن يعبد وحده لا شريك له إذ لا يستطيع المخلوق، بل الخلائق جميعها أن تهب شيئًا من الهبات استقلالاً كما في قوله - عز وجل -: { قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) } [يونس: 31] إلى قوله تعالى في نفس السياق: { قُلْ هَلْ مِنْ /ن3ح !%x.uژà° مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ /ن3ح !%x.uژà° مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) } [يونس: 34، 35].
ثانيًا: القيام بشكر الله - عز وجل - على هباته العظيمة الدينية، والدنيوية وذلك يبذلها في طاعته سبحانه واتقاء مساخطه، ونشر هدايته وإيصالها للناس من غير عوض يرجى في الدنيا.
ثالثًا: التخلق بهذه الصفة لمن أقدره الله - عز وجل - عليها، وذلك بأن يهب المؤمن مما وهبه الله - عز وجل - من مال أو جاه أو علم للمحتاجين إليه.(2/57)
رابعًا: المحافظة على نعم الله - عز وجل- وهباته العظيمة من الضياع، وذلك بالبعد عن أسباب فقدها، ولا سيما هبة الهداية إلى الحق والإيمان، وسؤال الله - عز وجل - والتضرع بين يديه بالثبات على الهداية وعدم الزيغ عنها كما توسل الراسخون في العلم باسمه (الوهاب) للثبات على الدين، وذلك في قوله تعالى: { وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) } [آل عمران: 7، 8].
خامسًا: سؤال الله - عز وجل - بهذا الاسم الكريم كل ما يحتاجه العبد من خيري الدنيا والآخرة؛ لأنه لا واهب إلا الله - عز وجل - وهذا كثير في دعاء الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - في القرآن الكريم.
قال الله - عز وجل -: { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) } [آل عمران: 38]، وقال سبحانه عن دعوة سليمان عليه السلام: { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) } [ص: 35].
وتحدث موسى - عليه السلام - عن نعمة ربه عليه بالنبوة فقال: { فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) } [الشعراء: 21].
اقتران اسمه سبحانه (الوهاب) باسمه سبحانه (العزيز):
وذلك في قوله تعالى: { أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) } [ص: 9].
وقد سبق الكلام عن وجه هذا الاقتران عند الكلام على اسمه سبحانه (العزيز) فليرجع إليه.
- - -
(91) [المقيت](2/58)
ورد ذكر اسمه سبحانه (المقيت) مرة واحدة في القرآن الكريم وذلك في قوله تعالى: { مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) } [النساء: 85].
المعنى اللغوي:
قال في اللسان: "قال الزجاج: إن "المقيت" بمعنى الحافظ والحفيظ؛ لأنه مشتق من القوت أي: مأخوذ من قولهم: قتُّ الرجل أقوته إذا حفظت نفسه بما يقوته، والقوت: اسم الشيء الذي يحفظ"(1).
وقال الزجاج: "قال أهل اللغة: إن المقيت: المقتدر على الشيء، وقال الله عز وجل: { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا } أي: مقتدرًا"(2).
المعنى في حق الله تعالى:
قال ابن جرير رحمه الله تعالى: "اختلف أهل التأويل في تأويل قوله تعالى: { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا } ، فقال بعضهم في تأويله: وكان الله على كل شيء حفيظًا وشهيدًا.
وقال آخرون معنى ذلك: القائم على كل شيء بالتدبير، وقال آخرون: هو القدير.
ثم قال: والصواب من هذه الأقوال: قول من قال: معنى المقيت: القدير وذلك أن ذلك فيما بلغه يذكر كذلك بلغة قريش، وينشد للزبير بن عبد المطلب عم رسول الله ×:
وذي ضغن كففت النفس عنه وكنت على مساءته مقيتًا
أي: قادرًا"(3).
وقال الخطابي: "المقيت بمعنى القدير، والمقيت أيضًا: معطي القوت"(4).
وقال ابن العربي: "وعلى القول بأنه (القادر) يكون من صفات الذات، وإن قلنا إنه اسم للذي يعطي القوت فهو اسم للوهاب والرزاق ويكون من صفات الأفعال"(5).
وقال القرطبي - رحمه الله - في التفسير: "وقال أبو عبيدة: المقيت الحافظ، وقال الكسائي: المقيت المقتدر.
__________
(1) تفسير الأسماء ص 48، 49.
(2) اللسان 5/3769.
(3) تفسير الطبري 5/118.
(4) شأن الدعاء ص 68.
(5) انظر النهج الأسمى 1/358، محمد الحمود النجدي.(2/59)
وقال النحاس: وقول أبي عبيدة أولى لأنه مشتق من القوت، والقوت معناه مقدار ما يحفظ الإنسان"(1).
وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "المقيت الذي أوصل إلى كل موجود ما به يقتات، وأوصل إليها أرزاقها وصرفها كيف يشاء بحكمته وحمده"(2).
وقال الراغب: "وقاته يقيته قوتًا أطعمه قوته، وأقاته يقيته جعل له ما يقوته وفي الحديث الشريف (كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت)(3) ، وقيل: (من يقيت)، قال الله تعالى: { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا } ، وقيل: مقتدرًا، وقيل: حافظًا، وقيل: شاهدًا، وحقيقته قائمًا عليه يحفظه ويقيته"(4)، وفي الحديث: (اللَّهم اجعل رزق آل محمد قوتًا)(5).
ويبدو أن هناك فرقًا بين اسم المقيت واسم الرزاق، فالمقيت أخص من الرزاق؛ لأنه يختص بالقوت، أما الرزاق فيتناول القوت وغير القوت.
فالمقيت سبحانه يقدر حاجة الخلائق بعلمه، ثم يسوقها إليهم بقدرته، ليقيتهم بها ويحفظهم. قال الله - عز وجل -: { وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا } [فصلت: 10].
قال ابن كثير - رحمه الله تعالى - عند هذه الآية: "وقدر فيها أقواتها وهو ما يحتاج أهلها إليه من الأرزاق والأماكن التي تزرع وتغرس"(6).
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (المقيت):
لما كان من معاني (المقيت): الحفيظ، القدير، فإن ما ذكر من الآثار في هذين الاسمين يناسب ذكره هنا فليرجع إليه.
أما المعنى الآخر (للمقيت) وهو الذي يقيت عباده ويسوق الأرزاق إليهم فإن ما ذكر من الآثار في اسمه سبحانه الرزاق) يناسب أن يذكر هنا أيضًا فليرجع إليه، وأخص هذه الآثار ما يلي:
__________
(1) تفسير الطبري 5/296.
(2) تفسير السعدي 5/625.
(3) أحمد 2/160، وصححه أحمد شاكر في المسند برقم (6842).
(4) المفردات للراغب ص 414.
(5) مسلم (1055) ورواه البخاري بلفظ مقارب (6460).
(6) تفسير ابن كثير 4/93.(2/60)
أولاً: محبته سبحانه المحبة الحقيقية التي تثمر توحيده سبحانه وإخلاص العبادة له لا شريك له؛ لأنه سبحانه الخالق الرازق المتصرف في شؤون خلقه المحيي المميت لهم، المتكفل بحفظ حياتهم وأرزاقهم فكيف يعرض الكثير من عبيده عن عبادته إلى عبادة غيره من المخاليق الضعاف الذين لا يملكون موتًا ولا حياة ولا نشورًا، ولا يملكون رزقًا ولا حفظًا لأنفسهم فضلاً عن أن يملكوه لغيرهم؟
ثانيًا: الاعتماد على الله وحده والتوكل عليه سبحانه في طلب الرزق وجلب النفع ودفع الضر؛ لأنه سبحانه الذي يملك ذلك كله لا شريك له، وهذا لا يمنع الأخذ بالأسباب المتاحة مع عدم التعلق بها، لأن خالق الأسباب ومسبباتها هو الله سبحانه، وهذا التعلق بالله وحده يسكب الطمأنينة والرضى في القلب، فلا تتعاوره المخاوف والهواجس ولا يعتريه القلق والهلع على الرزق والأجل.
ثالثًا: التوجه إلى الله - عز وجل - وحده في طلب القوت والرزق وبخاصة قوت القلوب من الإيمان، والهدى، والإخلاص، والإخبات، وغيرها من أعمال القلوب، وهذا هو القوت الحقيقي الذي إذا حصل للعبد فلا يضره ما فاته من قوت الأبدان، وهذا هو القوت الذي أخبر عنه النبي × حينما قيل له: إنك تواصل الصوم فقال: (إني لست كهيئتكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقين)(1)، وما أحسن قول الشاعر :
فقوت الروح أرواح المعاني وليس بأن طعمت وأن شربتا
(92)، (93) [القابض]، [الباسط]
لم يرد هذان الاسمان في القرآن الكريم، وإنما وردا بصيغة الفعل كما في قوله سبحانه { وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) } [البقرة: 245].
__________
(1) البخاري (1964)، ومسلم (1103).(2/61)
أما الحديث النبوي فقد ورد فيه ذكر هذين الاسمين الكريمين كما في سنن أبي داود وابن ماجه عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال الناس : يارسول الله غلا السعر فسعر لنا فقال رسول الله ×: (إن الله هو المسعر، القابض الباسط الرازق وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال)(1).
المعنى اللغوي:
أولاً: معنى (القابض):
قال الراغب رحمه الله تعالى: "فقبض اليد على الشيء جمعها بعد تناوله، وقبضها عن الشيء: جمعها قبل تناوله؛ وذلك إمساك عنه؛ قال تعالى: { وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ } [التوبة: 67]، أي: يمنعون من الإنفاق"(2).
وقال في اللسان: "قبضت الشيء قبضًا: أخذته، والقبض خلاف البسط، والانقباض خلاف الانبساط.. .والقبض أيضًا: الأخذ بجميع الكف، والقبص: بأطراف الأصابع، والقَبَضُ بالتحريك: ما قبض من الأموال والغنائم وغيرها، وقُبض الرجل: مات فهو مقبوض"(3).
ثانيًا: معنى الباسط:
قال في اللسان: "البسط: نقيض القبض.. وبَسَطَ الشيء: نشره، وبالصاد أيضًا، والبسطة: السعة، والبِساط: ما يُبسط. والبَسَاط: الأرض الواسعة. ورجل بسيط اليدين: منبسط بالمعروف .. وبسط يده: مدها. وفلان بسيط الجسم: فيه سعة وامتداد وزيادة وطول"(4).
وقال الراغب رحمه الله تعالى: "وبْسط الكف يستعمل تارة للطلب نحو: { كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ } [الرعد: 14].
وتارة للأخذ نحو: { وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو } [الأنعام: 93].
__________
(1) رواه الترمذي وصححه الألباني وصحيح الترمذي (1059)، وأبو داود (2200)، والإمام أحمد في مسنده 3/156، وغيرها وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود برقم (3450).
(2) المفردات ص 391.
(3) لسان العرب 5/312، وانظر الصحاح 3/1100، واشتقاق الأسماء للزجاجي ص 97.
(4) اللسان 1/282، وانظر الصحاح 3/1116.(2/62)
وتارة للصولة والضرب، قال تعالى: { وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ } [الممتحنة: 2].
وتارة للبذل والإعطاء نحو: { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } [المائدة: 64]" (1).
معنى الاسمين في حق الله تعالى:
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في نونيته:
"هو قابض هو باسط هو خافض هو رافع بالعدل والميزان" (2)
قال الهراس - رحمه الله تعالى - في شرحه لهذا البيت: "هذه الأسماء الكريمة من الأسماء المتقابلات التي لا يجوز أن يفرد أحدها عن قرينه ولا أن يثنى على الله - عز وجل - بواحد منها إلا مقرونًا بمقابله، فلا يجوز أن يفرد القابض عن الباسط ولا الخافض عن الرافع...
قال: لأنَّ الكمال المطلق إنما يَحصل بمجموع الوصفين.
فهو سبحانه القابض الباسط، يقبض الأرواح عن الأشباح عند الممات، ويبسط الأرواح في الأجساد عند الحياة، ويقبض الصدقات من الأغنياء، ويَبسط الأرزاق للضعفاء، ويبسط الرزق لمن يشاء حتى لا تبقى فَاقة، ويَقبضه عمن يشاء حتى لا تبقى طاقة.
ويقبض القلوب فَيُضيِّقها حتى تصير حَرجَا كأنما تصَّعَّدَ في السماء، ويبسطها بما يُفيض عليها من معاني بِره ولُطفه وجماله، قال تعالى: { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } " [الأنعام: 125](3).
__________
(1) المفردات، ص46.
(2) النونية 2/236.
(3) شرح الهراس للنونية 2/104.(2/63)
ويقول السعدي - رحمه الله تعالى - عن هذين الاسمين الكريمين ومثيلاتهما: "هذه الأسماء الكريمة من الأسماء المتقابلات التي لا ينبغي أن يثنى على الله بها إلا كل واحد مع الآخر، لأن الكمال المطلق من اجتماع الوصفين، فهو القابض للأرزاق والأرواح والنفوس، والباسط للأرزاق، والرحمة والقلوب.. وهذه الأمور كلها تبع لعدله وحكمته وحمده ... فعلى العبد أن يعترف بحكمة الله، كما عليه أن يعترف بفضله ويشكره بلسانه وجنانه وأركانه"(1).
ويقول الزجاجي رحمه الله تعالى: " (القابض): اسم الفاعل من قبض فهو قابض المفعول مقبوض، وذلك على ضروب.
فأما في هذه الآية التي ذُكر فيها هذا الحَرْف في سورة البقرة في قوله عز وجل: { وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ } [البقرة: 245]، فقالوا: تأويله: يُقتِّر على مَن يشاء، ويوسع على مَن يشاء على حسب ما يرى من المصلحة لعباده.
فالقَبضُ ها هنا: التَّقتير والتَّضييق.
والبسط: التَّوْسعة في الرزق والإكثار منه.
فالله - عز وجل - القابضُ الباسط، يُقَتِّر على من يشاء، ويُوسِّع على من يشاء.
ومخرجُ ذلك من اللغة، أن أصلَ القبض: ضَمُّ الشيء المنبسط من أطرافه، فيَقْبضه القابض إليه أولاً حتى يَحوزه ويجمعه. والبَسط: نَشرُ الشيء المجتمع أو المنضم أو المطوي.
فمن قُبضَ رزقُه فقد ضُيِّقَ عليه، ومَن بُسط رزقه فقد فُسح له فيه ووسع عليه.
ومن ذلك قيل: فلان قَبيض، أى: بخيل شديد كأنه لا يبسط كفَّه بخير إلى أحد، ولا يَسمح بذلك. وفلان باسط الكف، وباسط الجاه، وإنما يُراد به السخاء وبذله ماله وجاهه...
__________
(1) انظر توضيح الكافية الشافية ص 131، والحق الواضح المبين ص 89.(2/64)
...والباسط الفاعل من بسط يََبسط فهو باسط، فالله - عز وجل - كما ذكرنا باسط رزق مَن أراد من عباده أن يوسع عليه، ومقتر على من أراد، كما يَرى في ذلك من المصلحة لهم، وهو كما قال عز وجل: { * وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ } [الشورى: 27]...
والباسط أيضًا: باسطُ الشيء الذي ليس بمفروش يَبسطه ويفرشه، كما بَسَطَ الأرضَ للأنَام، وبثَّ فيها أقواتهم"(1).
من آثار الإيمان بهذين الاسمين الكريمين:
"من الأدب في هذين الاسمين الكريمين أن يذكرا معًا؛ لأن تمام القدرة والحكمة بذكرهما معًا ألا ترى أنك إذا قلت: إلى فلان قبض أمري وبسطه دلا بمجموعهما أنك تريد أن جميع أمرك إليه، وتقول: ليس إليك من أمري بسط ولا قبض، ولا حل ولا عقد أراد ليس إليك منه شيء... "(2).
ويقول الخطابي: "وإذا ذكرت القابض مفردًا عن الباسط كنت كأنك قد قصرت بالصفة على المنع والحرمان، وإذا وصلت أحدهما بالآخر فقد جمعت بين الصفتين منبئًا عن وجه الحكمة فيها"(3). فالله سبحانه وتعالى يقبض ويبسط بعلمه وحكمته، وقدرته وقهره، والكمال في اقتران هذين الاسمين الكريمين.
ومن آثار الإيمان بهذين الاسمين الكريمين مقترنين ما يلي:
أولاً: محبة الله - عز وجل - الذي بيده البسط والسعة، وبيده القبض والتضيق، وهو العليم الحكيم، وهذا يثمر المحبة لله تعالى والأنس به، وفي نفس الوقت يثمر الخوف منه سبحانه وإجلاله وتعظيمه، وهذا كله يثمر تجريد التوحيد له سبحانه والصدق والإخلاص في عبادته لا شريك له؛ لأنه لا أحد من خلقه يملك البسط والقبض في كل شيء.
__________
(1) اشتقاق الأسماء ص 97 - 99(باختصار).
(2) انظر تفسير أسماء الله الحسنى للزجاج ص 40.
(3) شأن الدعاء ص 58.(2/65)
ثانيًا: تجريد التوكل عليه وحده وتفويض الأمور إليه سبحانه، ذلك أنه القابض الباسط وحده، إذ لا باسط لما قبض، ولا قابض لما بسط، كما جاء في دعائه- عليه الصلاة والسلام - والذي منه: (اللَّهم لك الحمد كله ، اللَّهم لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لما أضللت ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت ولا مباعد لما قربت، اللَّهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك...) الحديث(1) فمن هذه صفاته فهو المستحق لأن يتوكل عليه وحده ويستعان ويستغاث به وحده.
ثالثًا: الرضا بما يقسم الله - عز وجل - من رزق وغيره، سواء كان بسطًا أو قبضًا؛ لأنه سبحانه الحكيم العليم بخلقه وما يصلح لهم فله الحمد على كل أفعاله، وله الحمد في خلقه وأمره.
قال الله - عز وجل -: { * وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) } [الشورى: 27]، ويقول سبحانه: { اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) } [العنكبوت: 62].
قال ابن الحصار: "وهذان الاسمان يختصان بمصالح الدنيا والآخرة... وذلك يتضمن قوام الخلق باللطف والخبرة، وحسن التدبير والتقدير، والعلم بمصالح العباد في الجملة، والتفاصيل وبحسب ذلك يرسل الرياح ويسخر السحاب فيمطر بلداً ويمنع غيره، ويقل ويكثر وكذلك يصرف جملة العوالم لجملة العالمين"(2).
__________
(1) أحمد 3/424 بإسناد حسن.
(2) انظر النهج الأسمى محمد حمود النجدي 2/129.(2/66)
رابعًا: سؤال الله - عز وجل - أعظم البسط وأفضله، وهو بسط الرحمة والهداية على القلب حتى يستضيء بنور الإيمان ويتخلص من آثار الذنوب كما قال تعالى: { أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ } [الزمر: 22] وضد ذلك أعظم القبض والتضييق وهو كما في قوله تعالى: { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } [الأنعام: 125].
خامسًا: الإيمان بأن كل ما يصدر عن الله - عز وجل - من بسط وقبض، فله الحكمة البالغة فيه. ولا يعني بسطه سبحانه على أحد من خلقه في شيء من الدنيا رضاه عن المبسوط له، كما لا يعني أيضًا قبضه سبحانه عن أحد من خلقه في شيء من الدنيا سخطه عليه ومقته له، كلاً، بل قد يدل ذلك على العكس؛ إذ إن الله - عز وجل - يضيق على بعض أوليائه رحمة بهم ولطفًا، ويوسع ويبسط على أعدائه إملاء لهم واستدراجًا كما في قوله سبحانه: { فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا } [الفجر: 15، 17].
وقوله سبحانه: { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) } [المؤمنون: 55].(2/67)
ومن ذلك ما ينعمه سبحانه على الكفار والعصاة من هذه الدنيا إملاء واستدراجًا قال سبحانه: { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ } [الأنعام: 44]، وقال سبحانه: { وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) } [الزخرف: 33].
والعكس من ذلك ما يصيب الله به أنبياءه وأولياءه من قبض وتضييق وبلاء فهو محنة عاجلة موصلة إلى جوده ورحمته وفضله المتصل لهم في العاجل والآجل.
سادسًا: الحذر من استعمال ما بسط الله - عز وجل - من الرزق وغيره في معاصيه، بل الواجب شكر الله - عز وجل - على ذلك بالقلب واللسان والأعمال، وذلك بالسعي في صرف هذا البسط في ما يرضي الله - عز وجل -، والسعي إلى التوسعة على عباد الله - عز وجل - والإحسان إليهم كما تفضل الله - عز وجل - وأحسن.
يقول القرطبي رحمه الله تعالى: "فإن كنت مبسوط القلب بالمعارف والحقيقة والعلوم الدينية فابسط بساطَك، وابسطْ وجْهك، واجلسْ للناس حتى يَقتبسوا من ذلك النِّبْراس.
وإنْ كنت ذا بسطة في الجسم، فابْسطه في العبادة التي تُفْضي بك إلى السعادة، وفي الصَّولِة على الأعداء، بما خُوِّلتَ من المُنَّة والشِّدة.
وإنْ كنت ذا بَسطٍ في المال، فابسطْ يدكَ بالعَطَاء، وأزلْ ما على مالك من الغِطَاء، ولا تُوكي فيوكي الله عليك، ولا تُحْصي فيحصي الله عليك.
وإنْ كنت لم تَنَلْ حظًا من هذه البَسَطاتِ فابسط قلبكَ لأحكام ربِّك، ولسانَك لذِكره وشكره، ويدك لبذل الواجبات عليك، ووجهك للَخْلق، كما قال × في بَذل المعروف: (فإن لم تَجِدْ فالْقَ أخاكَ بوجه طَلْقٍ) (1) ويروى (طليق).
ولقد أحسنَ القائل:
__________
(1) روا ه أحمد 5/173 واللفظ له، ومسلم بنحوه (2626).(2/68)
بُنَيَّ إنَّ البِرَّ شيءٌ هَين وَجهٌ طليقٌ ولسانٌ ليِّنٌ"(1)
وفي حال القبض يوقن العبد - كما سبق بيانه - أن هذا القبض والتضييق فيه الحكمة والرحمة للعبد المؤمن، وإن لم يظهر له ذلك فيطمئن ويرضى، وفي نفس الوقت يسعى لدفع هذا التضييق بالأسباب الشرعية وأعظمها اللجوء إلى الله - عز وجل - القابض الباسط، أما الأسباب الأخرى فيأخذ بها مع عدم التعلق بها؛ وإنما التعلق بالله وحده إذ هو مسبب الأسباب وهو القابض الباسط على الحقيقة حيث لا باسط لما قبض ولا قابض لما بسط، وكما قال سبحانه: { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) } [فاطر:2].
وجه اقتران هذين الاسمين الكريمين:
يذكر الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - بعض الأوجه في اقتران هذين الاسمين الكريمين أنقل منها ما يلي:
أولاً: "إن مقام الخوف لا يجامع مقام الانبساط، والخوف من أحكام اسم (القابض)، والانبساط من أحكام اسم (الباسط)، والبسط عندهم من مشاهدة أوصاف الجمال والإحسان والتودد والرحمة، والقبض عندهم من مشاهدة أوصاف الجلال والعظمة والكبرياء والعدل والانتقام"(2).
ثانيًا: "يشهد العبد حركات العالم وسكونه صادرة عن الحق تعالى في كل متحرك وساكن، فيشهد تعلق الحركة باسمه (الباسط)، وتعلق السكون باسمه (القابض) فيشهد تفرده سبحانه بالبسط والقبض"(3).
__________
(1) انظر: النهج الأسمى محمد حمود النجدي 2/132 - 133.
(2) مدارج السالكين 2/357.
(3) المصدر السابق 2/142.(2/69)
ثالثًا: "الرضى به ربًا: متعلق بذاته وصفاته وأسمائه وربوبيته العامة والخاصة، فهو الرضى به خالقًا ومدبرًا، وآمرًا وناهيًا، وملكًا ومعطيًا ومانعًا وحكمًا، ووكيلاً ووليًا، وناصرًا ومعينًا، وكافيًا وحسيبًا، ورقيًبا ومعافيًا، وقابضًا، وباسطًا إلى غير ذلك من صفات ربوبيته"(1).
- - -
(94)، (95) [المقدم]، [المؤخر]
ذكر هذين الاسمين معًا فيه أدب وزيادة حسن، لأن الكمال في اقترانهما كما قيل ذلك في (القابض والباسط)، ولم يرد ذكر هذين الاسمين الكريمين في القرآن الكريم وإنما وردا في حديث صحيح؛ وذلك في دعائه × في استفتاحه لصلاة التهجد حيث جاء فيه قوله ×: (... اللَّهم لك أسلمت وبك آمنت، وعليك توكلت وإليك أنبت، وبك خاصمت وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخَّرت وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت - أو- لا إله غيرك)(2).
وورد أيضًا في حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في وصفه لصلاة النبي × إذ يقول: "... ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: (اللَّهم اغفرلي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت)"(3).
المعنى اللغوي:
أولاً: (المقدم)
قال في اللسان: "يقال: قَدَمَ يقدُمُ، وتقدم يتقدم، وأقدم يقدم، واستقدم يستقدم بمعنى واحد. وفي التنزيل العزيز: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } [الحجرات: 1] وقُرِئ (لا تَقَدمَّوا)... ويقال: قَدَم فلان فلانًا إذا تقدمه.
__________
(1) المصدر السابق 2/184.
(2) البخاري في التهجد (1120).
(3) مسلم في صلاة المسافرين (771).(2/70)
وقال الجوهري: "قدم بالفتح يقدم قدومًا أي تقدم، ومنه قوله تعالى: { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ } [هود: 98] أي يتقدمهم إلى النار.. والقِدم نقيض الحدوث.. والتقدم والقِدمَة: السابقة في الأمر ... وقدَّام: نقيض وراء"(1).
ثانيًا: المؤخر:
قال في اللسان: "والتأخر ضد التقدم... والتأخير ضد التقديم. ومؤخر كل شيء بالتشديد خلاف مقدمِّه؛ يقال: ضرب مقدم رأسه ومؤخره.. والآخِر والآخِرة نقيض المتقدم والمتقدمة. والمستأخر نقيض المستقدم"(2).
المعنى في حق الله تعالى:
قال الخطابي رحمه الله تعالى: " (المقدم) هو المنزل للأشياء منازلها، يقدم ما شاء منها ويؤخر ما شاء. قدم المقادير قبل أن يخلق الخلق، وقدم من أحب من أوليائه على غيرهم من عبيده، ورفع الخلق بعضهم فوق بعض درجات، وقدم من شاء بالتوفيق إلى مقامات السابقين، وأخر من شاء عن مراتبهم وثبطهم عنها، وأخَّر الشيء عن حين توقعه، لعلمه بما في عواقبه من الحكمة. لا مقدم لما أخَّر ولا مُؤَّخر لما قدَّم... والجمع بين هذين الاسمين أحسن من التفرقة"(3).
وقال النووي رحمه الله تعالى: "يقدم من يشاء من خلقه إلى رحمته بتوفيقه، ويؤخر من يشاء عن ذلك لخذلانه"(4).
وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في نونيته:
"وهو المقدم والمؤخر ذانك الصفتان للأفعال تابعتان
وهما صفات الذات أيضًا إذ هما بالذات لا بالغير قائمتان"(5)
وقال الشيخ السعدي رحمه الله: "المقدم والمؤخر من أسمائه الحسنى المزدوجة المتقابلة التي لا يطلق واحد بمفرده على الله إلا مقرونًا بالآخر، فإن الكمال من اجتماعهما فهو تعالى المقدم لمن شاء، والمؤخر لمن شاء بحكمته.
__________
(1) لسان العرب 5/3552، 3553.
(2) لسان العرب 1/38.
(3) انظر "الأسماء والصفات" للبيهقي ص 86.
(4) شرح مسلم للنووي 17/40.
(5) النونية 2/241 بشرح العيسى رقم البيتين (3371، 3372).(2/71)
وهذا التقديم يكون كونيًا كتقديم بعض المخلوقات على بعض، وتأخير بعضها على بعض، وكتقديم الأسباب على مسبباتها والشروط على مشروطاتها وأنواع التقديم والتأخير في الخلق، والتقدير بحر لا ساحل له.
ويكون شرعيًا كما فضل الأنبياء على الخلق، وفضل بعضهم على بعض، وفضل بعض عباده على بعض، وقدمهم في العلم، والإيمان، والعمل، والأخلاق، وسائر الأوصاف، وأخَّر من أخر منهم بشيء من ذلك وكل هذا تبع لحكمته. وهذان الوصفان وما أشبههما من الصفات الذاتية لكونهما قائمين بالله، والله متصف بهما، ومن صفات الأفعال لأن التقديم والتأخير متعلق بالمخلوقات ذواتها، وأفعالها، ومعانيها، وأوصافها، وهي ناشئة عن إرادة الله وقدرته"(1).
من آثار الإيمان باسميه سبحانه (المقدم، المؤخر):
سبق القول بأن هذين الاسمين الكريمين هما من أسماء الله الحسنى المزدوجة المتقابلة التي لا يطلق واحد بمفرده على الله - عز وجل - إلا مقرونًا بالآخر؛ لأن الكمال في اجتماعهما، ومن آثار الإيمان بهذين الاسمين الكريمين ما يلي:
أولاً: الإيمان بأنه سبحانه (المقدم والمؤخر) يثمر في قلب المؤمن التعلق بالله وحده، والتوكل عليه سبحانه؛ لأنه سبحانه لامقدم لما أخر، ولا مؤخر لما قدم فمهما حاول البشر من تقديم شيء لم يرد الله - عز وجل - تقديمه، أو تأخير أمر لم يرد الله تعالى تأخيره فلن يستطيعوا. وهذا يخلص القلب من الخوف من المخلوق أو رجائه؛ لأنه لا يملك تقديم شيء أو تأخيره إلا بإذن الله تعالى وحده.
ثانيًا: إن التقدم الحقيقي النافع هو التقدم إلى طاعة الله - عز وجل - وجنته ومرضاته، والتأخر عن ذلك هو التأخر الحقيقي المذموم، أما التقدم في الدنيا والتأخر عنها فليس بمقياس للتقدم والتأخر، ولذا ينبغى للمسلم أن يتوسل إلى ربه سبحانه بهذين الاسمين الكريمين لنيل التقَّدم الحقيقي عنده سبحانه، وترك كل ما يؤخر عن جنته ومرضاته.
__________
(1) الحق الواضح المبين ص 100 - 101.(2/72)
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "فالعبد سائر لا واقف. فإما إلى فوق، وإما إلى أسفل وإما إلى أمام، وإما إلى وراء. وليس في الطبيعة، ولا في الشريعة وقوف البتة. ما هو إلا مراحل تطوى أسرع طَيٍّ إلى الجنة أو إلى النار، فمسرع ومبطئ، ومتقدم ومتأخر. وليس في الطريق واقف البتة، وإنما يتخالفون في جهة المسير، وفي السرعة والبطء: { إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) } [المدثر: 53 - 73] ولم يذكر واقفاً؛ إذ لا منزل بين الجنة والنار، ولا طريق لسالك إلى غير الدارين البتة، فمن لم يتقدم إلى هذه بالأعمال الصالحة فهو متأخر إلى تلك بالأعمال السيئة.
فإن قلت: كل مجد في طلب شيء لا بد أن يعرض له وقفة وفتور، ثم ينهض إلى طلبه.
قلت: لا بد من ذلك. ولكن صاحب الوقفة له حالان: إما أن يقف ليجمَّ نفسه، ويعدها للسير، فهذا وقفته سير، ولا تضره الوقفة. فإن "لكل عمل شِرَّة، ولكل شرة فترة"(1).
وإما أن يقف لداع دعاه من ورائه، وجاذب جذبه من خلفه، فإن أجابه أخَّره ولا بد. فإن تداركه الله برحمته، وأطلعه على سبق الراكب له وعلى تأخره، نهض نهضة الغضبان الآسف على الانقطاع، ووثب وجمز واشتد سعيًا ليلحق الركب. وإن استمر مع داعي التأخر، وأصغى إليه لم يرض برده إلى حالته الأولى من الغفلة، وإجابة داعي الهوى حتى يرده إلى أسوأ منها وأنزل دَرَكًا"(2).
__________
(1) هذه قطعة من حديث رواه الترمذي (2455) وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1995).
(2) مدارج السالكين 1/267، 268.(2/73)
ثالثًا: الإيمان بحكمته سبحانه البالغة في تقديم ما قدم وتأخير ما أخَّر، وأن أي أمر قدَّم أو أخَّر فإنما هو بعلم الله تعالى وإرادته وحكمته البالغة، وهذا يشمل كل شيء قدم أو فضل على غيره، أو أخر عنه، ومن ذلك تقديم الآجال وتأخيرها، وتقديم أو تفضيل بعض الأزمنة والأمكنة على بعضها أو تقديم بعض خلقه وتفضيلهم على بعض، أو تقديم إيجاد شيء على شيء آخر، أو تقديم عقوبة أقوام وتأخير آخرين.
وكذلك فيما يحصل للمؤمن من تقديم أمر لا يحب تقديمه أو تأخير أمر يكره تأخيره، فإن مقتضى هذين الاسمين الكريمين ومقتضى حكمته سبحانه يجعل المؤمن يرضى ويسلم ويعتقد بأن الخيرة فيما اختاره الله له من تقديم أو تأخير، وقد يكون في ذلك الرحمة واللطف وهو لا يشعر.
رابعًا: تقديم من قدَّمه الله - عز وجل - وتأخير من أخَّره سبحانه، وذلك بأن يكون ميزان التقديم والتأخير، والحب والبغض، والولاء والبراء هو ميزان الله - عز وجل - في ذلك كله، لا كما يزن به أكثر الناس اليوم، حيث يقدِّمون أهل الجاه والمال والرئاسات وغيرها من أعراض الدنيا على غيرهم من أهل الدين والتقوى وهذا يخالف ميزان الله - عز وجل - في التقديم والتأخير قال الله - عز وجل -: { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) } [الجاثية: 21]، ولقد كان الرسول × وأصحابه الكرام يسيرون بهذا الميزان في تقديم الرجال والمواقف وغيرها.(2/74)
"جاء في سيرة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن سهيل بن عمرو بن الحارث ابن هشام وأبا سفيان بن حرب رضي الله عنهما وجماعة من كبراء قريش من الطلقاء استأذنوا على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأذن قبلهم لصهيب وبلال لأنهما كانا من السابقين إلى الإسلام ومن أهل بدر، فوجد أبو سفيان في نفسه. وقال بانفعال: لم أر كاليوم قط. يأذن لهؤلاء العبيد ويتركنا على بابه! فيقول له صاحبه وقد استقرت في حسه حقيقة الإسلام: أيها القوم إني والله أرى في وجوهكم، إن كنتم غضابًا فاغضبوا على أنفسكم، دعي القوم إلى الإسلام ودعيتم فأسرعوا وأبطأتم فكيف إذا دعوا يوم القيامة وتركتم؟"(1).
"ويفرض عمر - رضي الله عنه - لأسامة بن زيد أكبر مما يفرض لعبد الله بن عمر حتى إذا سأله عبد الله عن سر ذلك قال له: يا بني كان زيد - رضي الله عنه - أحب إلى رسول الله × من أبيك، وكان أسامة - رضي الله عنه - أحب إلى رسول الله × منك، فآثرت حب رسول الله × على حبي"(2).
- - -
(96) [الرفيق]
لم يرد هذا الاسم الكريم في القرآن الكريم، وإنما ورد في السُّنَّة النبوية وذلك فيما ورد عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "استأذن رهط من اليهود على النبي × فقالوا: السام عليك، فقلت: بل عليكم السام واللعنة، فقال: (يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله)، قلت: أو لم تسمع ما قالوا؟ قال: (قلت وعليكم) "(3)، وقد ورد لهذا الحديث عدة روايات أيضًا منها قوله ×: (إن الله رفيق يحب أهل الرفق وإن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف)(4).
المعنى اللغوي:
قال في اللسان: "الرفق ضد العنف، رفَقَ بالأمر وله وعليه يرفُقُ رفقًا، ورفُق يرفق، ورفِق: لَطفَ ، وكذلك ترفق به...
__________
(1) في ظلال القرآن 6/3829.
(2) المصدر السابق.
(3) البخاري (6024).
(4) مسند أحمد 4/87، وصححه الألباني في صحيح الجامع 1771.(2/75)
قال الليث: الرفق لين الجانب ولطافة الفعل وصاحبه رفيق... ويقال للمتطبب: مترفق ورفيق وكره أن يقال طبيب"(1).
المعنى في حق الله تعالى:
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في نونيته:
"وهو الرفيق يحب أهل الرفق بل يعطيهم بالرفق فوق أمان"(2)
وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "ومن أسمائه (الرفيق) في أفعاله وشرعه، وهذا قد أخذ من قوله × في الحديث الصحيح: (إن الله رفيق يحب أهل الرفق وإن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف)(3).
فالله تعالى رفيق في أفعاله، خلق المخلوقات كلها بالتدريج شيئًا فشيئًا بحسب حكمته ورفقه مع أنه قادر على خلقها دفعة واحدة وفي لحظة واحدة"(4).
وقال أيضًا: "ومن تدبر المخلوقات وتدبر الشرائع كيف يأتي بها شيئًا بعد شيء شاهد من ذلك العجب العجيب، فالمتأني الذي يأتي الأمور برفق وسكينة ووقار، اتباعًا لسنن الله في الكون واتباعًا لنبيه ×: فإن كان هذا هديه وطريقه تتيسر له الأمور، وبالأخص الذي يحتاج إلى أمر الناس ونهيهم وإرشادهم، فإنه مضطر إلى الرفق واللين، وكذلك من آذاه الخلق بالأقوال البشعة وصان لسانه عن مشاتمتهم، ودافع عن نفسه برفق ولين، اندفع عنه من أذاهم ما لا يندفع بمقابلتهم بمثل مقالهم وفعالهم، ومع ذلك فقد كسب الراحة، والطمأنينة والرزانة والحلم.
ومن تأمل في خلقه وأمره وجد ما احتوى عليه شرعه من الرفق وشرع الأحكام شيئًا بعد شيء، وجريانها على وجه السعة واليسر ومناسبة العباد، وما في خلقه من الحكمة؛ إذ خلق الخلق أطوارًا، ونقلهم من حالة إلى أخرى بحكم وأسرار لا تحيط بها العقول.
والرفق من العبد لا ينافي الحزم، فيكون رفيقًا في أموره متأنيًا، ومع ذلك لا يفوت الفرص إذا سنحت، ولا يهملها إذا عرضت"(5).
__________
(1) لسان العرب 3/1694 - 1695.
(2) نونية ابن القيم 2/229 بشرح العيسى.
(3) سبق تخريجه ص708 .
(4) الحق الواضح المبين ص 63 .
(5) توضيح الكافية الشافية ص 123.(2/76)
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (الرفيق):
أولاً: محبته سبحانه وتعظيمه وإجلاله وحمده، حيث ظهرت آثار لطفه ورفقه بعباده في خلقه وشرعه وقدرته ورأفته ورحمته، مع غناه سبحانه عن خلقه(1).
ومن ذلك إمهاله سبحانه للعصاة من عباده ليتوبوا، ولو شاء لعاجلهم بالعقوبة لكنه رفق بهم وتأنى فلله الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه.
ثانيًا: شكره سبحانه وحمده والثناء عليه على هدايته إلى هذا الدين الكامل الحكيم الميسر الذي كله لطف ورفق ومصلحة للعباد.
ومن آثار رفقه سبحانه بعباده ما شرع لهم من الرخص الشرعية التي ترفع عنهم الحرج.
والعبد إذا ترفه بالرخص الشرعية، فإنما يتعبد لله تعالى باسمه سبحانه (الرفيق) كما وضح ذلك الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - بقوله: "فرق بين أن يكون التفاته إليها ترفهًا وراحة وأن يكون متابعة وموافقة، ومع هذا فالالتفات إليها ترفهًا وراحة لا يُنافي الصدق، فإن هذا هو المقصود منها، وفيه شهود نعمة الله على العبد، وتعبد باسمه: (البرِّ)؛ (اللطيف)؛ (المُحسن)؛ (الرَّفيق)، فإنه (رفيقٌ) يحب الرفق"(2).
ثالثًا: التخلق بصفة الرفق والتأني في الأمور مع النفس ومع الخلق بل حتى مع العدو كما جاء في حديث عائشة- رضي الله عنها - مع اليهود، وقد جاءت نصوص عديدة تحث على الرفق وتثني على أهله، من ذلك ما ورد في أول الكلام عن هذا الاسم الكريم، ومن ذلك قوله ×: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه"(3)، وقوله ×: (من يحرم الرفق يحرم الخير)(4).
وقد أثنى الرسول × على أشج عبد القيس بقوله: (إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة)(5).
__________
(1) انظر آثار رحمته سبحانه في الكلام على اسمه سبحانه (الرحمن، الرحيم) وكذلك انظر إلى آثار لطفه في اسمه سبحانه اللطيف.
(2) مدارج السالكين 2/282.
(3) مسلم في البر (2594).
(4) مسلم (2594).
(5) مسلم في الإيمان (18).(2/77)
وأولى الناس بالحلم والرفق واللين: الأهل وذوو الأرحام، قال ×: (إذا أراد الله بأهل بيت خيرًا أدخل عليهم الرفق)(1).
والرفق لا يعني التفريط والكسل وتفويت فرص الخير، بل الرفق الممدوح وسط بين العجلة والطيش، وبين الكسل وتفويت الفرص وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "والفرق بين المبادرة والعجلة: أن المبادرة انتهاز الفرص في وقتها ولا يتركها حتى إذا فاتت طلبها، فهو لا يطلب الأمور في إدبارها ولا قبل وقتها، بل إذا حضر وقتها بادر إليها، ووثب عليها وثوب الأسد على فريسته، فهو بمنزلة من يبادر إلى أخذ الثمرة وقت كمال نضجها وإدراكها.
والعجلة طلب أخذ الشيء قبل وقته؛ فهو لشدة حرصه عليه بمنزلة من يأخد الثمرة قبل أوان إدراكها، فالمبادرة وسط بين خُلقين مذمومين أحدهما: التفريط والإضاعة، والثاني: الاستعجال قبل الوقت. ولهذا كانت العجلة من الشيطان؛ فإنها خفة وطيش وحدة في العبد تمنعه من التثبت والوقار والحلم، وتوجب له وضع الأشياء في غير مواضعها، وتجلب عليه أنواعًا من الشرور وتمنعه من الخير، وهي قرين الندامة؛ فقلَّ من استعجل إلا ندم، كما أن الكسل قرين الفوت والإضاعة"(2).
- - -
(97) [المنان]
لم يرد اسمه سبحانه (المنان) في القرآن الكريم إلا بصيغة الفعل كما في قوله تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ } الآية [آل عمران: 164].
__________
(1) رواه أحمد 6/71، وصححه الألباني في صحيح الجامع (303).
(2) الروح ص/546، 547.(2/78)
ولكن جاء في السُّنَّة التصريح بهذا الاسم الكريم كما جاء في السنن عن أنس - رضي الله عنه - أنه كان جالسًا مع رسول الله × ورجل يصلي ثم دعا: اللَّهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض ياذا الجلال والإكرام ياحي ياقيوم، فقال النبي ×: (لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى)(1).
المعنى اللغوى:
قال في اللسان: "قال الجوهري: و(المنُّ): القطع... ورَجُلٌ مَنُوْنَةٌ ومنون كثير الامتنان... ويحتمل المنُّ تأويلين: أحدهما: إحسان المحسن غير معتدٍّ بالإحسان. يقال: لحقت فلانًا من فلان منَّة إذا لحقته نعمة باستنقاذ من قتل أو ما أشبهه. والثاني: منَّ فلان على فلان إذا عظَّم الإحسان وفخر به وأبدأ وأعاد حتى يفسده ويبغِّضه، فالأول حسن، والثاني قبيح... وقال ابن الأثير في(المنان): هو المنعم المعطي من المن في كلامهم بمعنى الإحسان إلى من لا يستثيبه ولا يطلب الجزاء.
و(المنان) من أبنية المبالغة كالسفاك والوهاب.
وفي الحديث ما أحد أمن علينا من ابن أبي قحافة، أي: ما أحد أجود بماله وذات يده. و(المُنَّة) بالضم: القوة"(2).
معنى الاسم في حق الله تعالى:
قال الزجاجي رحمه الله تعالى: " (المنان) فعال من قولك: مننت على فلان إذا اصطنعت عنده صنيعة وأحسنت إليه، فالله - عز وجل - منان على عباده بإحسانه وإنعامه ورزقه إياهم، وفلان يمنُّ على فلان: إذا كان يعطيه ويحسن إليه"(3).
وقال الخطابي رحمه الله: "وأما (المنان) فهو كثير العطاء"(4).
__________
(1) الترمذي (3475)، وأبو داود (1493)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2763).
(2) لسان العرب 6/4278، 4279، (باختصار).
(3) اشتقاق أسماء الله ص 64.
(4) شأن الدعاء ص 100.(2/79)
ويقول القرطبي - رحمه الله تعالى - : "ولما كان البارئ سبحانه يدر العطاء على عباده منَّا عليهم بذلك وتفضلاً، كانت له المنة في ذلك. فيرجع (المنان) إذا كان مأخوذًا من المنِّ الذي هو العطاء إلى أوصاف فعله، ويرجع (المنان) إذا أخذته من (المنة) التي هي تعداد النعمة وذكرها والافتخار بفعلها، في معرض الامتنان إلى صفة كلامه تعالى"(1).
ويقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: " (والمنان) الذي يجود بالنوال قبل السؤال"(2).
__________
(1) انظر النهج الأسمى محمد حمود النجدي 3/85.
(2) النبوات ص 68.(2/80)
وللإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - كلام نفيس في تفسير منة الله - عز وجل - على عباده؛ وذلك عند قوله تعالى في سورة التين { إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) } [التين: 6]، حيث يقول: "وقوله: { غَيْرُ مَمْنُونٍ } [التين: 6]، أي: غير مقطوع ولا منقوص، ولا مكدر عليهم وهذا هو الصواب، وقالت طائفة: غير ممنون به عليهم، بل هو جزاء أعمالهم. ويذكر هذا عن عكرمة ومقاتل. وهو قول كثير من القدرية، قال هؤلاء: إن المنة تكدر النعمة، فتمام النعمة أن يكون غير ممنون بها على المنعم عليه. وهذا القول خطأ قطعًا، أُتي أربابه من تشبيه نعمة الله على عبده بإنعام المخلوق على المخلوق. وهذا من أبطل الباطل؛ فإن المنة التي تكدر النعمة هي منة المخلوق على المخلوق، وأما منة الخالق على المخلوق فيها تمام النعمة ولذتها وطيبها، فإنها منة حقيقية، قال تعالى: { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) } [الحجرات: 17]، وقال تعالى: { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) } [الصافات: 114 - 115]، فتكون منة عليهما بنعمة الدنيا دون نعمة الآخرة، وقال لموسى: { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) } [طه: 37]، وقال أهل الجنة: { فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) } [الطور: 27]، وقال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) } [آل عمران: 164] الآية.(2/81)
وقال: { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ } [القصص: 5] الآية. وفي الصحيح أن النبي × قال للأنصار: (ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ ألم أجدكم عالة فأغناكم الله بي؟) فجعلوا يقولون له: الله ورسوله أمَنُّ (1)، فهذا جواب العارفين بالله ورسوله ×، وهل المنة كل المنة إلا لله المان بفضله الذي جميع الخلق في مننه؟ وإنما قبحت مِنَّةُ المخلوق لأنها منة بما ليس منه، وهي منة يتأذى بها الممنون عليه، وأما منة المنان بفضله التي ما طاب العيش إلا بمنته، وكل نعمة منه في الدنيا والآخرة فهي منة يمنُّ بها على من أنعم عليه، فتلك لا يجوز نفيها، وكيف يجوز أن يقال: إنه لا منة لله على الذين آمنوا وعملوا الصالحات في دخول الجنة؟ وهل هذا إلا من أبطل الباطل؟ فإن قيل: هذا القدر لا يخفى على من قال هذا القول من العلماء، وليس مرادهم ما ذكر، وإنما مرادهم أنه لا يمن عليهم به، بل يقال هذا جزاء أعمالكم التي عملتموها في الدنيا، وهذا أجركم ، فأنتم تستوفون أجور أعمالكم لا نمن عليكم بما أعطيناكم، قيل: وهذا أيضًا هو الباطل بعينه، فإن ذلك الأجر ليست الأعمال ثمنًا له، ولا معاوضة عنه، وقد قال أعلم الخلق بالله ×: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله)، قالوا: ولا أنت يارسول الله؟ قال: (ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل)(2).
فأخبر أن دخول الجنة برحمة الله وفضله، وذلك محض منته عليه وعلى سائر عباده، وكما أنه سبحانه المان بإرسال رسله، وبالتوفيق لطاعته وبالإعانة عليها، فهو المان بإعطاء الجزاء وذلك كله محض منته وفضله وجوده، ولا حق لأحد عليه "(3).
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (المنان):
إن ما ذكر في اسميه سبحانه (الوهاب)، (الكريم) من الآثار يناسب أن يذكر هنا ومن أهمها:
__________
(1) البخاري (4330)، مسلم (1061).
(2) البخاري (5673)، مسلم (2817).
(3) بدائع التفسير 5/272 - 274.(2/82)
أولاً: محبة الله - عز وجل - وحمده والثناء عليه على مننه العظيمة التي لا تعد ولا تحصى وأعظمها منة الهداية للإيمان كما قال سبحانه: { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) } [الحجرات: 17]، وهذا يقتضي شكره سبحانه بالقلب واللسان والجوارح، وإعمال هذه الأركان الثلاثة في طاعته والتقرب إليه وإمساكها عن كل ما يغضبه سبحانه وينهى عنه.
ثانيًا: الشعور بالتطامن وهضم النفس والاعتراف بضعفها ونقصها وأن العبد الضعيف لو وكل إلى نفسه طرفة عين لهلك وخاب وخسر ولكنه توفيق الله - عز وجل - للعبد ومنته عليه هو الذي أقامه وحفظه ويسر له أموره.
ثالثًا: والثمرة السابقة تقود إلى ثمرة أخرى ألا وهي عدم التعلق بالأسباب والركون إليها، وأنها لولا منة الله - عز وجل - وإذنه بنفعها وأثرها لم تجد على فاعلها شيئًا، فالمان بكل خير هو الله وحده مسبب الأسباب، والقاهر لكل شيء، والفعال لما يريد لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع سبحانه وبحمده. فوجب التوكل عليه وحده وتفويض الأمور إليه.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "إذا وصل إلى القلب نورُ صفة المِنَّة؛ وشهد معنى اسمه (المنَّان)؛ وتجلَّى سبحانه على قلب عبده بهذا الاسم مع اسمه (الأول): ذهِلَ القلبُ والنفسُ به؛ وصار العبد فقيرًا إلى مولاه بمطالعة سبق فضله الأوَّل، فصار مقطوعًا عن شهود أمرٍ أو حالٍ ينسبه إلى نفسه"(1).
__________
(1) طريق الهجرتين ص 57.(2/83)
3- البعد عن صفة المنة على الخلق؛ لأن الله سبحانه هو المان الحقيقي على عباده، وقد نهى الله - عز وجل - ورسوله × عن المن بالعطية ورؤية النفس وإيذاء الفقراء بالمن عليهم ، قال الله - عز وجل-: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى } [البقرة: 264]، وقال الرسول ×: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره، والمنان الذي لا يعطي شيئًا إلا مِنَّةً، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)(1).
وقسم ابن القيم - رحمه الله تعالى - المن على الناس إلى قسمين فقال:
"فالمن نوعان: أحدهما مَنٌّ بقلبه من غير أن يصرح به بلسانه، وهذا إن لم يبطل الصدقة فهو من نقصان شهود منة الله عليه في إعطائه المال وحِرمان غيره، وتوفيقه للبذل ومنع غيره منه، فللّه المنة عليه من كل وجه، فكيف يشهد قلبه منة لغيره؟
والنوع الثاني: أنْ يمنَّ عليه بلسانه، فيعتدي على من أحسنَ إليه بإحسانه، ويُريه أنه اصطنعه، وأنه أوجب عليه حقًا وطوَّقه مِنةً في عنقه فيقول: أما أعطيتك كذا وكذا؟ ويعدد أياديه عنده.
قال سفيان: يقول أعطيتك فما شكرت.
وقال عبد الرحمن بن زياد: كان أبي يقول: إذا أعطيت رجلاً شيئًا ورأيت أن سلامك يثقل عليه فكف سلامك عنه، وكانوا يقولون: إذا اصطنعتم صنيعةً فانسوها، وإذا أُسْدِيت إليكم صنيعة فلا تنسوها.
وفي ذلك قيل:
وإنْ أمرؤ أهْدى إليَّ صَنِيعةً وذَكَّرنِيها مرةً لَبَخيلُ
وقيل: صِنْوانٌ مَنْ مَنَحَ سائله ومنَّ، ومَن مَنعَ نائله وضَنَّ.
... وحظر الله على عباده المنَّ بالصنيعة، واختص به صفة لنفسه، لأنَّ منَّ العباد تكديرٌ وتَعيير، ومَنَّ الله سبحانه وتعالى إفضال وتذكير.
وأيضًا: فإنه هو المنعم في نفس الأمر والعباد وسائط؛ فهو المنعم على عبده في الحقيقة.
__________
(1) مختصر صحيح مسلم للألباني (1360).(2/84)
وأيضًا فالامتنان استعباد وكسر وإذلال لمن يمن عليه ولا تصلح العبودية والذل إلا لله.
وأيضًا فالمنة أن يشهد المعطي أنه هو ربُّ الفضل والإنعام؛ وأنه ولي النعمة ومُسديها، وليس ذلك في الحقيقة إلا الله.
وأيضًا فالمانُّ بعطائه يشهد نفسه مترفعًا على الآخذ مُستعليًا عليه غنيًا عنه عزيزًا، ويشهد ذلَّ الآخذ وحاجته إليه وفاقته، ولا ينبغي ذلك للعبد.
وأيضًا فإنَّ المُعْطي قد تولى الله ثوابه وردَّ عليه أضعاف ما أعطى، فبقي عِوضُ ما أعطى عند الله، فأيُّ حق بقي له قبل الآخذ؟ فإذا امتن عليه فقد ظَلَمه ظُلمًا بيِّنًا، وادَّعى أن حقه في قلبه، ومن هنا - والله أعلم - بَطَلت صدقته بالمن، فإنه لما كانت معاوضته ومعاملته مع الله، وعوض تلك الصدقة عنده، فلم يرضَ به ولاحظ العوض من الآخذ والمعاملة عنده فمنَّ عليه بما أعطاه، أبطَلَ معاوضته مع الله ومعاملته له.
... فتأمل هذه النصائح من الله لعباده، ودلالته على ربوبيته وإلهيته وحده، وأنه يُبْطلُ عملَ مَنْ نازعه في شيء من ربوبيته وإلهيته، لا إله غيره ولا رب سواه. ونبَّه بقوله: { ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى } [البقرة: 262] على أن المنَّ والأذى ولو تراخى عن الصدقة وطالَ زمنه ضرَّ بصاحِبِه، ولم يَحصل له مقصود الإنفاق، ولو أتى بالواو وقال: ولا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذى، لأوهمَتْ تقييد ذلك بالحال، وإذا كان المنَّ والأذى المتراخي مُبْطلاً لأثر الإنفاق مانعًا مِنَ الثواب فالمقارن أولى وأحرى.(2/85)
وتأمَّل كيف جَرَّد الخير هنا عن الفاء فقال: { لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ } ، وقرنه بالفاء في قوله تعالى: { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ } [البقرة: 274] فإنَّ الفاء الداخلة على خبر المبتدأ الموصول أو الموصوف تفهم معنى الشَّرط والجزاء، وأنه مستحقٌ بما تضمنه المبتدأ من الصِّلة أو الصفة. فلما كان هنا يقتضي بيان حصر المستحق للجزاء دون غيره، جَرَّد الخبر عن الفاء، فإنَّ المعنى: إن الذي ينفق ماله لله ولا يمنّ ولا يؤذي، هو الذي يستحق الأجر المذكور، لا الذي ينفق لغير الله ويَمنُّ ويُؤذي بنفقته، فليس المقام مقام شرطٍ وجزاء، بل مقام بيان للمستحق دون غيره.
وفي الآية الأخرى ذَكَرَ الإنفاق بالليل والنهار سرًا وعلانية، فذكر عموم الأوقات وعموم الأحوال، فأتى بالفاء في الخبر ليدل على أن الإنفاق في أي وقتٍ وُجِدَ من ليلٍ أو نهار، وعلى أي حالة وُجد من سر وعلانية فإنه سبب للجزاء على كل حال، فليبادر إليه العبد ولا ينتظر به غير وقته وحاله. ولا يُؤخر نفقة الليل إذا حضر إلى النهار، ولا نفقة النهار إلى الليل، ولا ينتظر بنفقة العلانية وقت السر، ولا بنفقة السر وقت العلانية، فإن نفقته في أي وقت وعلى أي حال وجدت سببًا لأجره وثوابه، فتدبر هذه الأسرار في القرآن فلعلك لا تظفر بها فيما يمر بك في التفاسير، والمنة والفضل لله وحده لا شريك له"(1).
- - -
(98) [الجواد]
لم يرد ذكر هذا الاسم الكريم في القرآن الكريم وإنما جاء ذلك في السُّنَّة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله ×: (إن الله تعالى جواد يحب الجود ويحب معالي الأخلاق ويكره سفاسفها)(2).
__________
(1) طريق الهجرتين ص 365 - 368 (باختصار).
(2) صححه الألباني في صحيح الجامع (1744)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1627)، وأخرجه أبو نعيم في الحلية 5/29.(2/86)
وروى الترمذي عن أبي ذر الحديث القدسي الطويل والذي مطلعه: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي...) وزاد الترمذي فيه: (ذلك بأني جودا ماجد أفعل ما أريد...) الحديث(1).
المعنى اللغوي:
قال في اللسان: "الجيد نقيض الرديء... ورجل جواد: سخي والجمع: أجواد، وجاودت فلانًا فجدته أي: غلبته بالجود.. وجاد الرجل بماله يجود جُودًا بالضم فهو جواد"(2).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وقال أهل العلم: الجواد في كلام العرب معناه: الكثير العطاء؛ يقال: منه جاد الرجل يجود جودًا فهو جواد. قال أبو عمر بن العلاء: الجواد: الكريم... وتسمية الرب سبحانه وتعالى جوادًا، وإن كان قد قيل هو بمعنى كونه كريمًا فالاسم الكريم يتناول معاني الجود، فإن فيه معنى الشرف والسؤدد ومعنى الحلم وفيه معنى الإحسان"(3).
المعنى في حق الله تعالى:
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في نونيته:
"وهو الجواد فجوده عم الوجود جميعه بالفضل والإحسان
وهو الجواد فلا يُخيِّب سائلاً ولو أنه من أمة الكفران"(4)
وتحدث - رحمه الله تعالى - عن آثار جوده سبحانه فقال: "إن الربَّ: هو القادر الخالق البارئ المصور؛ الحي القيوم؛ العليم السميع البصير؛ المحسن المنعم (الجواد)؛ المعطي المانع؛ الضار النافع؛ المقدم المؤخر الذي يُضلُّ من يشاء ويهدي من يشاء؛ ويُسعد من يشاء ويُشقي؛ ويُعِزُّ من يشاء ويُذِلُّ من يشاء؛ إلى غير ذلك من معاني ربوبيته التي له منها ما يستحقه من الأسماء الحسنى"(5).
__________
(1) هذه الزيادة حسنها الترمذي (2495)، وضعفها الألباني في ضعيف الترمذي (447).
(2) لسان العرب 1/720.
(3) بيان تلبيس الجهمية 1/196.
(4) نونية ابن القيم الأبيات (3293 ) (3294).
(5) بدائع الفوائد 2/212.(2/87)
كما قرَّر - رحمه الله تعالى - معنى هذا الاسم؛ وبيَّن أنَّ الله تعالى هو الجواد لذاته بقوله: "إنه يُحِبُّ الإحسان والجود والعطاء والبِرَّ، وإن الفضل كلَّه بيده؛ والخير كلَّه منه؛ والجود كلَّه له. وأحبُّ ما إليه: أن يجود على عباده ويُوسِعهم فضلاً، ويغمرهم إحسانًا وجودًا، ويتم عليهم نعمته، ويضاعف لديهم منته، ويتعرف إليهم بأوصافه وأسمائه، ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه، فهو الجواد لذاته، وجود كل جواد خلقه الله، ويخلقه أبدًا أقل من ذرة بالقياس إلى جوده. فليس الجواد على الإطلاق إلا هو، وجود كل جواد فَمِنْ جوده. ومحبته للجود والإعطاء والإحسان، والبر والإنعام والإفضال فوق ما يخطر ببال الخلق، أو يدور في أوهامهم.
... ولو أن أهل سماواته وأرضه، وأول خلقه وآخرهم، وإنسهم وجنهم، ورطبهم ويابسهم قاموا في صعيد واحد فسألوه فأعطى كل واحد ما سأله: ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة.
وهو الجواد لذاته، كما أنه الحي لذاته، العليم لذاته، السميع البصير لذاته. فجوده العالي من لوازم ذاته، والعفو أحب إليه من الانتقام، والرحمة أحب إليه من العقوبة، والفضل أحب إليه من العدل، والعطاء أحب إليه من المنع.(2/88)
فإذا تعرض عبده ومحبوبه الذي خلقه لنفسه، وأعد له أنواع كرامته، وفضله على غيره، وجعله محل معرفته، وأنزل إليه كتابه، وأرسل إليه رسوله، واعتنى بأمره ولم يهمله، ولم يتركه سدى؛ فتعرض لغضبه، وارتكب مساخطه وما يكرهه وأبَق منه، ووالى عدوه وظاهَره عليه، وتحيز إليه، وقطع طريق نعمه وإحسانه إليه التي هي أحب شيء إليه، وفتح طريق العقوبة والغضب والانتقام، فقد استدعى من الجواد الكريم خلاف ما هو موصوف به من الجود، والإحسان، والبر، وتعرض لإغضابه وإسخاطه وانتقامه، وأن يصير غضبه وسخطه في موضع رضاه، وانتقامه وعقوبته في موضع كرمه وبره وعطائه. فاستدعى بمعصيته من أفعاله ما سواه أحب إليه منه، وخلاف ما هو من لوازم ذاته من الجود والإحسان"(1).
وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "الجواد: يعني أنه تعالى الجواد المطلق الذي عم بجوده جميع الكائنات، وملأها من فضله، وكرمه، ونعمه المتنوعة، وخص بجوده السائلين بلسان المقال أو لسان الحال من بر، وفاجر، ومسلم، وكافر، فمن سأل الله أعطاه سؤاله، وأناله ما طلب، فإنه البر الرحيم: { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) } [النحل: 53].
ومن جوده الواسع ما أعده لأوليائه في دار النعيم مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"(2).
__________
(1) مدارج السالكين 1/212، 213.
(2) الحق الواضح المبين ص 66 ، 67.(2/89)
وقال أيضًا: "والجواد الذي عم بجوده أهل السماء، والأرض فما بالعباد من نعمة فمنه وهو الذي إذا مسهم الضر فإليه يرجعون، وبه يتضرعون، فلا يخلو مخلوق من إحسانه طرفة عين، ولكن يتفاوت العباد في إفاضة الجود عليهم بحسب ما منّ الله به عليهم من الأسباب المقتضية لجوده، وكرمه، وأعظمها تكميل عبودية الله الظاهرة، والباطنة العلمية، والعملية القولية، والفعلية، والمالية، وتحقيقها باتباع محمد × بالحركات والسكنات"(1).
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (الجواد):
أولاً: ما ذكر من آثار الإيمان باسمه سبحانه (الكريم، الأكرم، المنان، الوهاب) يصلح أن يذكر هنا فليرجع إليها. ويحسن أن يضاف هنا قول ابن القيم رحمه الله تعالى: "فهو سبحانه يُحِبُّ من عباده أن يُؤَمِّلُوه ويرجوه ويسألوه من فضله؛ لأنه الملك الحقُّ (الجواد)، أجود من سُئِلَ؛ وأوسع من أعطى، وأحبُّ ما إلى (الجواد): أن يُرجى ويُؤَمَّل ويُسأل، وفي الحديث: (من لم يسأل الله يغضب عليه)(2).
والسائلُ راجٍ وطالبٌ، فمن لم يرج الله: يغضب عليه، فهذه فائدةٌ أخرى من فوائد الرجاء؛ وهي: التخلُّص به من غضب الله"(3).
ثانيًا: ومن الآثار التي يؤكد عليها هنا: التَخلق بصفة (الجود) والسعي لإيصال الخير للناس، والإنفاق بسخاء في وجوه الخير التي يحبها الله - عز وجل - فالله - عز وجل - جواد يحب الأجواد من عباده، وقد ذكر الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عشر مراتب للجود أسوقها على وجه الاختصار، قال رحمه الله تعالى: "و"الجود" عشر مراتب:
أحدها: الجود بالنفس، وهو أعلى مراتبه، كما قال الشاعر:
يجود بالنفس، إذ ضَنَّ البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود
__________
(1) توضيح الكافية الشافية ص 124.
(2) الترمذي (3770)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2686).
(3) مدارج السالكين2/50.(2/90)
الثانية: الجود بالرياسة، وهو ثاني مراتب الجود، فيحمل الجواد جودُه على امتهان رياسته، والجود بها، والإيثار في قضاء حاجات الملتمس.
الثالثة: الجود براحته ورفاهيته، وإجمام نفسه، فيجود بها تعبًا وكَدّاً في مصلحة غيره. ومن هذا جود الإنسان بنومه ولذته لمسامِرِه، كما قيل:
مُتَيَّمٌ بالنَّدَى، لو قال سائله: هب لي جميع كَرى عينيك، لم يَنَمِ
الرابعة: الجود بالعلم وبذله؛ وهو من أعلى مراتب الجود؛ والجود به أفضل من الجود بالمال؛ لأن العلم أشرف من المال.
والناس في الجود به على مراتب متفاوتة، وقد اقتضت حكمة الله وتقديره النافذ أن لا ينفع به بخيلاً أبدًا. ومن الجود به أن تبذله لمن يسألك عنه، بل تطرحه عليه طرحًا.
ومن الجود بالعلم أن السائل إذا سألك عن مسألة استقصيت له جوابها جوابًا شافيًا، لا يكون جوابك له بقدر ما تدفع به الضرورة، كما كان بعضهم يكتب في جواب الفتيا "نعم" أو "لا" مقتصرًا عليها...
الخامسة: الجود بالنفع بالجاه؛ كالشفاعة والمشي مع الرجل إلى ذي سلطان ونحوه؛ وذلك زكاة الجاه المطالَبُ بها العبد، كما أن التعليم وبَذْلَ العلم زكاته.
السادسة: الجود بنفع البدن على اختلاف أنواعه، كما قال ×: (يُصْبح على كل سُلامَى من أحدكم صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس، يعدل بين اثنين صدقة، ويعين الرجل في دابته، فيحمله عليها، أو يرفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خُطوة يمشيها الرجل إلى الصلاة صدقة، ويُميط الأذى عن الطريق صدقة)(1).
السابعة: الجود بالعرض، كجود أبي ضَمْضَم من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كان إذا أصبح قال: "اللَّهم إنه لا مال لي أتصدق به على الناس، وقد تصدقت عليهم بعرضي، فمن شتمني، أو قذفني فهو في حل. فقال النبي ×: (من يستطيع منكم أن يكون كأبي ضمضم؟)"(2).
__________
(1) مسلم (720)، وأبو داود (1285).
(2) أبو داود (4887)، وضعفه الألباني في الأرواء (2366).(2/91)
وفي هذا الجود من سلامة الصدر، وراحة القلب، والتخلص من معاداة الخلق ما فيه.
الثامنة: الجود بالصبر، والاحتمال ، والإغضاء، وهذه مرتبة شريفة من مراتبه، وهي أنفع لصاحبها من الجود بالمال، وأعزّ له وأنصر، وأملك لنفسه، وأشرف لها، ولا يقدر عليها إلا النفوس الكبار.
فمن صعب عليه الجود بماله فعليه بهذا الجود، فإنه يجتني ثمرة عواقبه الحميدة في الدنيا قبل الآخرة...
التاسعة:الجود بالخُلق والبشر والبسطة؛ وهو فوق الجود بالصبر، والاحتمال والعفو؛ وهو الذي بلغ بصاحبه درجة الصائم القائم؛ وهو أثقل ما يوضع في الميزان. قال النبي ×: (لا تَحْقِرَنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط إليه)(1) وفي هذا الجود من المنافع والمسار، وأنواع المصالح ما فيه؛ والعبد لا يمكنه أن يسع الناس بماله ويمكنه أن يسعهم بخلقه واحتماله.
العاشرة: الجود بتركه ما في أيدي الناس لهم، فلا يلتفت إليه. ولا يستشرف له بقلبه، ولا يتعرض له بحاله، ولا لسانه؛ وهذا الذي قال عبد الله بن المبارك: "إنه أفضل من سخاء النفس بالبذل".
ولكل مرتبة من مراتب الجود مزيد وتأثير خاص في القلب والحال، والله سبحانه قد ضمن المزيد للجواد، والإتلاف للممسك، والله المستعان"(2).
الفرق بين الجود والتبذير:
ومع أن الجود ممدوح ومحبوب إلى الله تعالى، فإنه ينبغي التفريق بين الجود الممدوح وبين السرف والتبذير المذمومين، وبيَّن الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - الفرق بين الجود والإسراف فقال: "والفرق بين الجود والسرف، أن الجواد حكيم يضع العطاء مواضعه، والمسرف مبذر، وقد يصادف عطاؤه موضعه، وكثيرًا لا يصادفه، وإيضاح ذلك أن الله سبحانه بحكمته جعل في المال حقوقًا وهي نوعان:
حقوق موظفة، وحقوق ثانية، فالحقوق الموظفة كالزكاة والنفقات الواجبة على من تلزمه نفقته.
__________
(1) أبو داود (4084)، وروى نحوه مسلم (2626).
(2) مدارج السالكين 2/293 - 296 (باختصار).(2/92)
والثانية: كحق الضيف، ومكافأة المهدي، وما وقى به عرضه ونحو ذلك، فالجواد يتوخى بماله أداء هذه الحقوق على وجه الكمال طيبة بذلك نفسه راضيةً مؤملة للخلف في الدنيا والثواب في العقبى، فهو يخرج ذلك بسماحة قلب وسخاوة نفس وانشراح صدر بخلاف المبذر فإنه يبسط يده في ماله بحكم هواه وشهوته جزافًا لا على تقدير، ولا مراعاة مصلحة وإن اتفقت له.
فالأول بمنزلة من بذر حبة في الأرض تنبت وتوخى ببذره مواضع المَغْل والإنبات فهذا لا يعد مبذرًا ولا سفيهًا. والثاني بمنزلة من بذر حبة في سباخٍ وعزاز من الأرض، وإن اتفق بذره في محل النبات بذر بذرًا متراكمًا بعضه على بعض، فذلك المكان البذر فيه ضائع معطل، وهذا المكان بذر بذرًا متراكمًا على بعض، فلذلك يحتاج أن يقلع بعض زرعه ليصلح الباقي ولئلا تضعف الأرض عن تربيته.
والله سبحانه هو الجواد على الإطلاق بل كل جود في العالم العلوي والسفلي بالنسبة إلى جوده أقل من قطرة في بحار الدنيا وهي من جوده، ومع هذا فإنما ينزل بقدر ما يشاء، وجوده لا يناقض حكمته، ويضع عطاءه مواضعه وإن خفي على أكثر الناس أن تلك مواضعه فالله يعلم حيث يضع فضله وأي المحال أولى به"(1).
(99) [المحسن]
لم يرد ذكر اسمه سبحانه (المحسن) في القرآن الكريم وإنما ورد بصيغة الفعل. قال الله تعالى: { وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ } [القصص: 77]، ولكن ورد هذا الاسم الكريم في السنة المطهرة، فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ×: (إذا حكمتم فاعدلوا وإذا قلتم فأحسنوا فإن الله محسن يحب الإحسان)(2).
__________
(1) الروح ص 498، 499.
(2) رواه ابن عدي في الكامل 6/2145، وأبو نعيم في أخبار أصبهان 2/213، وحسنه الألباني في الصحيحة (470).(2/93)
وعن شداد بن أوس - رضي الله عنه - قال: "حفظت من رسول الله × اثنتين أنه قال: (إن الله - عز وجل - محسن يحب الإحسان فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته ثم ليرح ذبيحته) "(1).
المعنى اللغوي:
الحسن: نقيض القبح والجمع محاسن، وحسَّنتُ الشيء تحسينًا: زينته وأحسنت إليه وبه. والمحاسن في الأعمال ضد المساوئ. والمحاسن: المواضع الحسنة من البدن.
وقال الراغب: "والإحسان يقال على وجهين: أحدهما: الإنعام على الغير يقال: أحسن إلى فلان.
والثاني: إحسان في فعله، وذلك إذا علم علمًا حسنًا أو عمل عملاً حسنًا. والإحسان فوق العدل وذلك أن العدل هو أن يعطي ما عليه ويأخذ ما له.
والإحسان أن يعطي أكثر مما عليه ويأخذ أقل مما له، فالإحسان زائد على العدل فتحري العدل واجب، وتحري الإحسان ندب وتطوع"(2).
المعنى في حق الله تعالى:
قال القرطبي رحمه الله تعالى: "المحسن جل جلاله وتقدست أسماؤه، لم يرد في القرآن اسمًا وإنما ورد فعلاً فقال: { y وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ } [يوسف: 100].
ومعناه راجع إلى معنى المفضل وذي الفضل، والمنان والوهاب"(3).
وقال المناوي في قوله ×: (إن الله تعالى محسن): "أي: الإحسان له وصف لازم لا يخلو موجود عن إحسانه طرفة عين، فلا بد لكل مكون من إحسانه إليه بنعمةالإيجاد ونعمة الإمداد"(4).
والله سبحانه محسن في إنعامه فيعطي النعم الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى، ومحسن في فعله فهو سبحانه وتعالى أحسن كل شيء خلقه قال تعالى: { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } [السجدة: 7].
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (المحسن):
__________
(1) مصنف عبد الرزاق (8603)، ومن طريق الطبراني في الكبير 7/7121، وصححه الألباني في الجامع الصغير (1824).
(2) انظر لسان العرب 2/877، والصحاح 5/(2099).
(3) انظر النهج الأسمى 3/153.
(4) فيض القدير 2/264.(2/94)
أولاً: ما ذكر من الآثار في أسمائه سبحانه: (الكريم، المنان، الجواد، الوهاب) يصلح أن يذكر هنا فليرجع إليها.
ثانيًا: الفرح بهذا الدين وشريعة الإسلام التي هي من آثار إحسانه سبحانه والسعي لنشرها والدعوة إليها لتهنأ البشرية بهذا الإحسان العظيم وذلك بالعيش في ظلال هذه الشريعة الحسنى المتقنة التي كفلت الخير والمصالح العظيمة للناس، قال الله تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) } [المائدة: 50].
ثالثًا: التحلي بصفة الإحسان والسعي لأن يكون العبد من المحسنين الذين يحبهم الله - عز وجل - حيث يقول: { وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) } [البقرة: 195]، والإحسان من العبد نوعان:
الأول: إحسان في عبادة الله تعالى كما جاء في الحديث الصحيح: (الإحسان أن تعبد الله تعالى كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)(1).
والثاني: إحسان إلى عباد الله تعالى، وذلك بإيصال جميع أنواع الخير لهم، وكلا النوعين قد وعد الله تعالى بالثواب عليهما فقال: { إِن اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) } [التوبة: 120]، والإحسان إلى الخلق صوره كثيرة فمن ذلك قضاء حوائجهم وإغاثة ملهوفهم، وتعليمهم ما ينفعهم في دينهم ودنياهم وإرشادهم إلى طريق الخير، وتحذيرهم من مسالك الشر والمهالك، وغير ذلك من وجوه الإحسان إلى الخلق.
- - -
(100) [السِّتِّير]
لم يرد هذا الاسم الكريم في كتاب الله - عز وجل - وإنما ورد في السُّنَّة النبوية فعن يعلى بن أمية - رضي الله عنه - أن رسول الله × رأى رجلاً يغتسل بالبراز، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال ×: (إن الله - عز وجل - حيي ستير يحب الحياء والستر فإذا اغتسل أحدكم فليستتر)(2).
__________
(1) مسلم (8).
(2) رواه أبو داود (4012)، وصححه الألباني في صحيح النسائي (393).(2/95)
(وللستير) روايتان: إحداهما بكسر السين وتشديد التاء مكسورة؛ والثانية: بفتح السين وكسر التاء مخففة(1). وقد جرى على ألسنة كثير من الناس قولهم: (يا ساتر) أو (يا ستار) ولم يرد هذان الاسمان في السُّنَّة الصحيحة، لذا ينبغي أن يقال بدلاً من ذلك: (يا ستير).
المعنى اللغوي:
قال في اللسان: "سَتَر الشيء يستره ويسترُه سِترًا وسَترًا: أخفاه والسَّتْرُ بالفتح: مصدر سترت الشيء أستره إذا غطيته فاستتر هو.
وتَسَتَّر أي: تغطى، وجارية مستَّرة أي: مخدرة.
وسَتِير: فعيل بمعنى فاعل. أي: من شأنه وإرادته حب السَّتر والصون"(2).
وقال الراغب: " الستر تغطية الشيء، والستر والسترة ما يستتر به، والاستتار: الاختفاء"(3).
المعنى في حق الله تعالى:
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
"وهو الحَييُّ فليس يفضح عبده عند التجاهر منه بالعصيان
لكنه يلقي عليه ستره فهو الستير وصاحب الغفران"(4)
ويقول البيهقي: "وقوله (ستير) يعني أنه ساتر يستر على عباده كثيرًا ولا يفضحهم في المشاهد، كذلك يحب من عباده الستر على أنفسهم واجتناب ما يشينهم والله أعلم"(5).
وقال في اللسان: "والستير: فعيل بمعنى فاعل أي: من شأنه وإرادته حب الستر والصون، وفي الحديث: (إن الله حيي ستير يحب الستر)(6).
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (الستير):
أولاً: محبة الله - عز وجل - الحليم على عباده الذي يسترهم ولا يفضحهم، ولا يستعجل بعقوبتهم فحقيق بمن هذا وصفه مع أوصافه الأخرى الكاملة أن يحب كل الحب، ويفرد وحده بالعبودية والمحبة والإخلاص والتعظيم والإجلال.
__________
(1) انظر حاشية سنن أبي داود 4/302، ومختصر السنن 6/15.
(2) لسان العرب 3/1935.
(3) المفردات ص 223.
(4) النونية 2/227.
(5) الأسماء والصفات ص 91.
(6) لسان العرب 3/1935.(2/96)
ثانيًا: الحياء من الله - عز وجل - الذي يرى عبده وهو يعصيه فيستره ولا يفضحه، فحري بالعبد أن يتأدب مع ربه سبحانه ويستحي منه الذي يراه في جميع أحواله، ولا يخفى عليه من عبده خافية.
ثالثًا: التخلق بصفة الستر على النفس وعلى الخلق، لأن الله- عز وجل- ستير يحب الستر ويأمر عباده بالتستر على النفس إذا ابتليت بالمعصية وعدم المجاهرة بها، وكذلك أمر بالستر على الناس والبعد عن إشاعة الفاحشة بينهم.
قال الله - عز وجل -: { إِن الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) } [النور 19].
وأخبر النبي × أن المجاهر بالمعاصي لا يعافى منها أو من عقوبتها فقال: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله عليه فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه)(1).
وجاء الحث على الستر على عباد الله ورُغِّب في ذلك حيث يقول الرسول ×: (... ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة)(2).
ونهى النبي × عن تتبع عورات المسلمين والبحث عنها وكشفها فقال: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع عورته يفضحه في بيته)(3).
__________
(1) صحيح البخاري (6069).
(2) رواه البخاري في المظالم (2442)، ومسلم في البر والصلة (2580).
(3) أحمد 4/420، وأبو داود 5/4880، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (4083).(2/97)
رابعًا: دعاء الله - عز وجل - وسؤاله الستر في الدنيا والآخرة، ومن دعائه - عليه الصلاة والسلام- في هذا الباب ما حفظه ابن عمر - رضي الله عنهما- أن النبي × لم يكن يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: (اللَّهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللَّهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللَّهم استر عوراتي وآمن روعاتي، اللَّهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وشمالي ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي)(1).
- - -
(101) [الديان]
لم يرد هذا الاسم الكريم في كتاب الله - عز وجل - وإنما ورد في السُّنَّة من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: "بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله × فاشتريت بعيرًا ثم شددت عليه رحلي فسرت إليه شهرًا حتى قدمت عليه الشام فإذا عبد الله بن أنيس، فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب، فقال: ابن عبدالله؟ قلت: نعم، فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته، فقلت: حديثًا بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله × في القصاص فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه، قال: سمعت رسول الله × يقول: (يُحشر الناسُ يومَ القيامة - أو قال: العباد - عُراة غُرلاً بُهْمًا)، قال: قلنا: وما بُهْمًا؟ قال: (ليس معهم شيءٌ، ثم يُناديهم بصَوتٍ يَسمعه من بَعُد كما يَسمعه مَنْ قَرُب: أنا الملكُ، أنا الديّان ولا ينبغي لأحد من أهلِ النار أنْ يدخلَ النارِ، وله عند أحدٍ منِ أهلِ الجنة حقٌّ، حتى أقُصَّه منه، ولا ينبغي لأحد من أهلِ الجنة أن يدخلَ الجنة ولأحد من أهلِ النار عنده حقٌّ، حتى أقصه منه حتى اللَّطْمة"، قلنا: كيف! وإنا إنما نأتي الله - عز وجل - عُراةً غرلاً بُهْمًا؟ قال: (بالحَسَناتِ والسَّيئات).
__________
(1) أبو داود (5074)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (4239).(2/98)
زاد في رواية الحاكم والبيهقي: وتلا رسول الله ×: { الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ } [غافر: 17]"(1).
وورد في حديث أبي قلابة عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -: "البر لا يبلى والإثم لا ينسى والديان لا ينام فكن كما شئت كما تدين تدان"(2).
المعنى اللغوي:
قال في اللسان: "والديان: القهار.. وقيل: الحاكم والقاضي. وهو فعال من دان الناس أي: قهرهم على الطاعة يقال: دنتهم فدانوا أي: قهرتهم فأطاعوا، وفي حديث أبي طالب قال له عليه السلام (أريد من قريش كلمة تدين لهم بها العرب) أي: تطيعهم وتخضع لهم، ويوم الدين: يوم الجزاء، وفي المثل: كما تدين تدان أي: كما تجازي تجازى"(3).
المعنى في حق الله تعالى:
قال ابن الأثير: "في أسماء الله تعالى (الديان) قيل: هو القهار، وقيل هو الحاكم القاضي، وهو فعال من دان الناس أي: قهرهم على الطاعة، يقال: دنتهم فدانوا أي: قهرتهم فأطاعوا"(4).
وقال الخطابي: "الديان: هو المجازي، يقال: دنت الرجل إذا جزيته أدينه والديان أيضًا: الحاكم، ويقال: من ديان أرضكم أي: من الحاكم بها"(5).
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (الديان):
__________
(1) رواه الحاكم في مستدركه (2/437 - 438)، وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وحسنه الألباني في السُّنَّة لابن أبي عاصم (514).
(2) لم يصح مرفوعًا إلا فيما رواه البيهقي في الأسماء والصفات ص 79، وقال: هذا مرسل ، والصحيح وقفه كما جاء ذلك في الزهد للإمام أحمد ص 142.
(3) لسان العرب 2/1467.
(4) النهاية 2/148.
(5) شأن الدعاء ص 106 مختصرًا.(2/99)
أولاً: الخوف من الله سبحانه وتعالى، واجتناب ما يسخطه قبل يوم الحساب، يوم الجزاء والفصل والقضاء، اليوم الذي قال الله- عز وجل - عنه: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) } [الأنبياء:47]، اليوم الذي يحكم الله - عز وجل - فيه بحكمه بين الناس ويقتص فيه للمظلوم من الظالم كما في قول سبحانه: { وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) } [إبراهيم: 42]، وقوله - عز وجل -: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) } [الزمر:30، 31].
ولما نزلت هذه الآية قال الزبير بن العوام - رضي الله عنه -:"يا رسول الله أتكرر علينا الخصومة بعد الذي كان بيننا في الدنيا قال: نعم قال: إن الأمر إذًا شديد"(1).
إذًا فاجتناب مظالم العباد من ثمرات الإيمان باسمه سبحانه (الديان) الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون، ولا يستطيع أحد أن يخرج عن طاعته وحكمه وقهره.
__________
(1) الترمذي في التفسير من سورة الزمر وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (2584).(2/100)
عن عائشة رضي الله عنها: "أن رجلاً قعد بين يدي النبي × فقال: يارسول الله: إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأشتمهم وأضربهم، فكيف أنا منهم! فقال: (يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافًا، لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلاً لك. وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم. اقتص لهم منك فضلاً).. قال: فتنحى الرجل فجعل يبكي ويهتف. فقال رسول الله × : (أما تقرأ كتاب الله: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } ، فقال الرجل: والله ما أجد لي ولهؤلاء شيئًا خير من مفارقتهم، أشهدكم أنهم أحرار كلهم"(1).
ووفاء الحقوق يوم القيامة ليس بالدينار والدرهم وإنما بالحسنات والسيئات كما جاء في حديث المفلس الذي رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله × قال: (أتدرون ما المفلس؟) فقالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: (إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)(2) ، وقال الشافعي رحمه الله تعالى: "بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد"(3).
__________
(1) رواه أحمد 6/280، والترمذي في التفسير من سورة الأنبياء، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2531).
(2) مسلم (2581).
(3) سير أعلام النبلاء 10/41.(2/101)
ثانيًا: ومن آثار الإيمان باسمه سبحانه (الديان) تسلية المظلومين والمقهورين في هذه الدنيا وذلك بأن يوقنوا بأن هناك يومًا لا ريب فيه سيقتص فيه (الديان) سبحانه من الظالمين، ويشفي صدور المظلومين ممن ظلمهم كما قال تعالى: { وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) } [إبراهيم: 42 ].
وقد يعجل الله - عز وجل - عقوبته للظالمين ويجازيهم على ظلمهم وطغيانهم في الحياة الدنيا كما حصل ذلك لكثير من الظالمين والطغاة والجبابرة. وإذا كان الله - عز وجل - (الديان) سيقتص للحيوانات العجماوات بعضها من بعض فكيف بالإنسان المسلم المكرم؟
قال ×: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء)(1).
ثالثًا: توخي العدل مع الناس لمن ابتلاه الله - عز وجل - بالحكم بينهم أو مجازاتهم في الدنيا، وإشاعة العدل والحكم بما أنزل الله - عز وجل - بين الناس، لأن حكم الله تعالى هو الحكم العدل الذي لا يتطرق إليه ظلم ولا جهل ولا هوى. ولقد ضرب سلفنا الصالح- رحمهم الله تعالى- أروع الأمثلة في ذلك ويكفينا في ذلك ما قام به الخلفاء الراشدون من العدل في حكمهم وخوفهم من الله - عز وجل - في ذلك، ومن ذلك ما قام به عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله تعالى - من العدل والخوف من الله عز وجل عندما تولى الخلافة.
__________
(1) مسلم (2582)، وأحمد 2/235.(2/102)
عن عمر بن ذر، حدثني عطاء بن أبي رباح، قال: حدثتني فاطمة امرأة عمر بن عبدالعزيز أنها دخلت عليه، فإذا هو في مصلاه يدُهُ على خده، سائلة دموعه، فقلتُ: يا أمير المؤمنين! ألشيء حدث؟ قال: يا فاطمةُ! إني تقلَّدتُ أمْرَ أمة محمد ×، فتفكَّرتُ في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، والمظلوم المقهُور، والغريب المأسور، والكبير، وذي العيال في أقطار الأرض، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم، وأن خصمي دونهم محمد × فخشيت ألا تثبت لي حجة عند خصومته، فَرَحِمت نفسي فبكيت"(1).
رابعًا: الرضا بحكم الله تعالى: الشرعي، والقدري، والجزائي، ويرجع في تفصيل ذلك إلى ما ورد من ذلك في الكلام عن اسمه سبحانه (الحكيم) و(الحكم).
- - -
(102)، (103) [الشافي]، [الطبيب]
لم يرد ذكر هذين الاسمين الكريمين في القرآن الكريم إلا أن اسمه سبحانه (الشافي) قد ورد في القرآن بصيغة الفعل كما في قوله تعالى: { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) } [الشعراء: 80].
أما في السنة فقد ورد ذكر اسمه سبحانه (الشافي) وذلك في حديث عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله × كان إذا أتى مريضًا أو أتُي به إليه قال عليه الصلاة والسلام: (أذهب البأس رب الناس أشف وأنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما)(2).
وأما اسمه سبحانه (الطبيب) فقد جاء في حديث أبي رمثة - رضي الله عنه - قال: "انطلقت مع أبي نحو النبي ×: قال له أبي: أرني هذا الذي بظهرك فإني رجل طبيب. قال: (الله الطبيب، بل أنت رجل رفيق، طبيبها الذي خلقها)(3).
__________
(1) سير أعلام النبلاء 5/131.
(2) رواه البخاري في المرض (5675)، ومسلم في السلام (2191).
(3) أبو داود في الترجل (4207) وصححه الألباني في السلسلة برقم (1537)، وقال: صحيح على شرط مسلم.(2/103)
وروى الإمام أحمد - رحمه الله - أن أبا بكر - رضي الله عنه - قيل له في مرضه: ألا ندعو لك الطبيب، فقال: قد رآني الطبيب، قالوا: فأي شيء قال لك، قال: قال إني فعال لما أريد.
المعنى اللغوي:
أولاً (الشافي):
قال في اللسان: "الشفاء: دواء معروف، وهو ما يبرئ من السقم والجمع أشفية وأشافٍ جمع الجمع، والفعل شفاه الله من مرضه شفاءً ممدود، واستشفى فلان: طلب الشفاء... وأشفى زيد عمرًا إذا وصف له دواء يكون شفاؤه فيه... واستشفى: طلب الشفاء. واستشفى: نال الشفاء"(1).
ثانيًا: (الطبيب).
قال في اللسان: "الطِّبُّ: علاج الجسم والنفس، ورجل طَبُّ وطبيب: عالم بالطب، وقالوا تطبب له: سأل له الأطباء، وجمع القليل: أطبة والكثير: أطباء.. وقالوا: إن كنت ذا طِب فطبَّ لنفسك أي: ابدأ أولاً بإصلاح نفسك...
والطَّبُّ والطبيب: الحاذق من الرجال الماهر بعلمه... والمتطبب: الذي يعاني الطب ولا يعرفه معرفة جيدة... والمطبوب: المسحور، قال أبوعبيدة: إنما سمي السحر طُبَّاً على التفاؤل بالبرء"(2).
المعنى في حق الله تعالى:
الله - عز وجل - هو الشافي الحقيقي لأمراض الأبدان والقلوب لا شفاء إلا شفاؤه لا يكشف الضر إلا هو سبحانه، ولا يأتي بالخير إلا هو كما في قوله تعالى: { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) } [يونس: 107]، وما سوى الله - عز وجل - فإنما هي أسباب إن شاء الله - عز وجل - نفع بها وإن شاء أبطلها.
__________
(1) لسان العرب 4/2294.
(2) لسان العرب 4/2630، 2631.(2/104)
يقول الحليمي: "قد يجوز أن يقال في الدعاء: يا شافي يا كافي لأن الله - عز وجل - يشفي الصدور من الشبه والشكوك، ومن الحسد والغلول، والأبدان من الأمراض والآفات لا يقدر على ذلك غيره، ولا يدعى بهذا الاسم سواه"(1).
قال الله - عز وجل - عن أثر القرآن في شفاء القلوب وهدايتها: { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) } [الإسراء: 82]، وقال سبحانه: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) } [يونس: 57].
أما عن شفاء الأبدان فقال سبحانه عن عسل النحل: { يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) } [النحل: 69].
يقول الإمام الطبري - رحمه الله تعالى - عند آية الإسراء السابقة الذكر: "يقول تعالى ذكره: وننزل عليك يا محمد من القرآن ما هو شفاءٌ يُستشفى به من الجهل ومن الضلالة، ويُبصَّرُ به من العمى، للمؤمنين، ورحمة لهم دون الكافرين به، لأن المؤمنين يعلمون بما فيه من فرائض الله، ويحلُّون حلاله ويحرِّمون حرامه فيدخلهم بذلك الجنة، ويُنجيِّهم من عذابه، فهو لهم رحمةٌ ونعمة من الله، أنعم بها عليهم.
{ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا } يقول: ولا يزيد هذا الذي نُنزل عليك من القرآن الكافرين به إلا خسارًا، يقول: إهلاكًا، لأنهم كلما نَزَل فيه أمرٌ من الله بشيء أو نهي عن شيء كفروا به، فلم يأتمروا لأمره، ولم ينتهوا عما نهاهم عنه، فزادهم ذلك خسارًا إلى ما كانوا فيه قبل ذلك من الخسار، ورجْسًا إلى رجسهم قبل"(2).
__________
(1) انظر الأسماء والصفات للبيهقي ص 90.
(2) تفسير الطبري 15/152، 153.(2/105)
وكما أن القرآن فيه شفاء لأمراض القلوب من الشبهات والشهوات، وكذلك فيه شفاء لأمراض الأبدان والأجساد، كما شفي الملدوغ بقراءة الفاتحة ولكن حاجته إلى شفاء القلوب أعظم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وحاجة العبد إلى الرسالة أعظم بكثير من حاجة المريض إلى الطب فإن آخر ما يُقَدَّر بعدم الطبيب موت الأبدان، وأما إذا لم يحصل للعبد نور الرسالة وحياتها مات قبله موتًا لا ترجى الحياة معه أبدًا أو شقي شقاوة لا سعادة معها أبدًا"(1).
ويقول الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عند آية (يونس) السابقة: "ولا شيء أحق أن يفرح العبد به من فضله ورحمته التي تتضمن الموعظة، وشفاء الصدور من أدوائها بالهدى والرحمة فأخبر سبحانه: أن ما آتى عباده من الموعظة التي هي الأمر والنهي، المقرون بالترغيب والترهيب، وشفاء الصدور، المتضمن لعافيتها، من داء الجهل، والظلمة، والغي، والسفه وهو أشد ألمًا لها من أدواء البدن، ولكنها لما ألفت هذه الأدواء لم تحس بألمها، وإنما يقوى إحساسها بها عند المفارقة للدنيا. فهنالك يحضرها كل مؤلم محزن، وما آتاها من ربها الهدى الذي يتضمن ثلج الصدور باليقين وطمأنينة القلب به، وسكون النفس إليه، وحياة الروح به، و"الرحمة" التي تجلب لها كل خير ولذة، وتدفع عنها كل شر ومؤلم.
فذلك خير من كل ما يجمع الناسُ من أعراض الدنيا وزينتها، أي: هذا هو الذي ينبغي أن يُفْرح به، ومن فرح به فقد فرح بأجل مفروح به، لا ما يجمع أهل الدنيا منها، فإنه ليس بموضع للفرح، لأنه عرضة للآفات، ووشيك الزوال، ووخيم العاقبة، وهو طيف خيال زار الصب في المنام ، ثم انقضى المنام وولى الطيف وأعقب مزاره الهجران"(2).
__________
(1) مجموع الفتاوى 19/96.
(2) بدائع التفسير 2/408.(2/106)
ويفصل الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - القول في أمراض القلوب وشفائها فيقول: "ولما كان مرض البدن خلاف صحته وصلاحه، وهو خروجه عن اعتداله الطبيعي؛ لفساد يعرض له، يفسد به إدراكه وحركته الطبيعية، فإما أن يذهب إدراكه بالكلية، كالعمى والصمم والشلل، وإما أن ينقص إدراكه لضعف في آلات الإدراك مع استقامة إدراكه، وإما أن يدرك الأشياء على خلاف ما هي عليه، كما يدرك الحلوَ مُرّاً، والخبيث طيبًا، والطيب خبيثًا.
وأما فساد حركته الطبيعية فمثل أن تضعف قوته الهاضمة، أو الماسكة، أو الدافعة، أو الجاذبة، فيحصل له من الألم بحسب خروجه عن الاعتدال، ولكن مع ذلك لم يصل إلى حد الموت والهلاك، بل فيه نوع قوة على الإدراك والحركة...
ولما كان البدن المريض يؤذيه ما لا يؤذي الصحيح: من يسير الحر، والبرد، والحركة، ونحو ذلك، فكذلك القلب إذا كان فيه مرض آذاه أدنى شيء: من الشبهة أو الشهوة، حيث لا يقوى على دفعهما إذا وردا عليه، والقلب الصحيح القوي يطرقه أضعاف ذلك وهو يدفعه بقوته وصحته...
ومرض القلب نوعان: نوع لا يتألم به صاحبه في الحال؛ وهو النوع المتقدم، كمرض الجهل، ومرض الشبهات والشكوك، ومرض الشهوات. وهذا النوع هو أعظم النوعين ألمًا، ولكن لفساد القلب لا يُحس بالألم، ولأن سَكْرة الجهل والهوى تحول بينه وبين إدراك الألم، وإلا فألمه حاضر فيه حاصل له، وهو متوارٍ عنه باشتغاله بضده، وهذا أخطر المرضين وأصعبهما، وعلاجه إلى الرسل وأتباعهم، فهم أطباء هذا المرض.
والنوع الثاني: مرض مؤلم له في الحال، كالهمِّ والغمِّ والحَزَنِ والغيظ، وهذا المرض قد يزول بأدوية طبيعية، كإزالة أسبابه، أو بالمداواة بما يضاد تلك الأسباب؛ وما يدفع موجبها مع قيامها، وهذا كما أن القلب قد يتألم بما يتألم به البدن ويشقى بما يشقى به البدن، فكذلك البدن يألم كثيرًا بما يتألم به القلب، ويشقيه ما يشقيه.(2/107)
فأمراض القلب التي تزول بالأدوية الطبيعية من جنس أمراض البدن، وهذه قد لا توجب وحدها شقاءه وعذابه بعد الموت، وأما أمراضه التي لا تزول إلا بالأدوية الإيمانية النبوية فهي التي توجب له الشقاء والعذاب الدائم، إن لم يتداركها بأدويتها المضادة لها، فإذا استعمل تلك الأدوية حصل له الشفاء، ولهذا يقال: "شفي غيظه" فإذا استولى عليه عدوه آلمه ذلك، فإذا انتصف منه اشتفى قلبه، قال تعالى: { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ } [التوبة: 14، 15] فأمر بقتال عدوهم، وأعلمهم أن فيه ستَّ فوائد.
فالغيظ يؤلم القلب، ودواؤه في شفاء غيظه، فإن شَفاه بحق اشتفى، وإن شفاه بظلم وباطل زاده مرضًا من حيث ظن أنه يشفيه، وهو كمن شفى مرض العشق بالفجور بالمعشوق، فإن ذلك يزيد مرضه، ويوجب له أمراضًا أُخر أصعب من مرض العشق، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وكذلك الغَمُّ والهم والحزن أمراض للقلب، وشفاؤها بأضدادها: من الفرح والسرور، فإن كان ذلك بحق اشتفى القلب وصح وبرئ من مرضه، وإن كان بباطل توارَى ذلك واستتر. ولم يَزُل، وأعقب أمراضًا هي أصعب وأخطر.(2/108)
وكذلك الجهل مرض يؤلم القلب، فمن الناس من يداويه بعلوم لا تنفع، ويعتقد أنه قد صح من مرضه بتلك العلوم، وهي في الحقيقة إنما تزيده مرضًا إلى مرضه؛ لكن اشتغل القلب بها عن إدراك الألم الكامن فيه، بسبب جهله بالعلوم النافعة، التي هي شرط في صحته وبُرْئه، قال النبي - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - في الذين أفتوا بالجهل، فهلك المستفتي بفتواهم: (قتلوه، قتلهم الله، ألا سألوا إذْ لم يعلموا؟ فإنما شِفاء العِىِّ السؤال)(1) فجعل الجهل مرضًا وشفاءه سؤال أهل العلم.
وكذلك الشاك في الشيء المرتاب فيه، يتألم قلبه حتى يحصل له العلم واليقين، ولما كان ذلك يوجب له حرارة قيل لمن حصل له اليقين: ثلج صدره؛ وحصل له بَرْد اليقين، وهو كذلك يضيق بالجهل والضلال عن طريق رُشده، وينشرح بالهدَى والعلم، قال تعالى: { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } [الأنعام: 125]...
والمقصود: أن من أمراض القلوب ما يزول بالأدوية الطبيعية، ومنها ما لا يزول إلا بالأدوية الشرعية الإيمانية، والقلب له حياة وموت، ومرض وشفاء، وذلك أعظم مما للبدن"(2).
أما الحديث الذي فيه قوله ×: (الله هو الطبيب):
__________
(1) رواه أبوداود في الطهارة باب التيمم للمجروح وصححه الألباني في صحيح أبي داود (326).
(2) إغاثة اللهفان 1/16 - 19(باختصار).(2/109)
فقال في: بذل المجهود: "فيه كراهية تسمية المعالج طبيبًا، لأن العارف بالآلام والأمراض في الحقيقة هو الله سبحانه وتعالى، وهو العالم بأدويتها وشفائها، وهو القادر على شفائه دون دواء، وقوله: (بل أنت رجل رفيق)، أي: ترفق بالمريض وتتلطفه وقوله: (طبيبها الذي خلقها)، وهو الله سبحانه وتعالى ذكره"(1). والصحيح أن لا كراهة؛ شأنه شأن أكثر اسماء الله عز وجل التي يجوز أن يتسمى بها المخلوق للاشتراك في اللفظ مع الاختلاف في الحقيقة.
والله - عز وجل - هو طبيب الأبدان والقلوب وشريعته - عز وجل - هي طب البشرية وعلاج أدوائها، ومصدر خيرها وصلاحها.
يتحدث الإمام ابن القيم عن الاستشفاء بفاتحة الكتاب وما في قوله سبحانه: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } من طب الأبدان والقلوب المتنوعة فيقول: "فإن هذا الدواء مركب من ستة أجزاء (1) عبودية الله لا غيره (2) بأمره وشرعه (3) لا بالهوى (4) ولا بآراء الرجال وأوضاعهم، ورسومهم، وأفكارهم (5) بالاستعانة على عبوديته به (6) لا بنفس العبد وقوته وحوله ولا بغيره.
فهذه هي أجزاء { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فإذا ركبها الطبيب اللطيف، العالم بالمرض، واستعملها المريض، حصل بها الشفاء التام. وما نقص من الشفاء فهو لفوات جزء من أجزائها، أو اثنين أو أكثر.
ثم إن القلب يعرض له مرضان عظيمان، إن لم يتداركهما العبد تراميا به إلى التلف ولا بد. وهما الرياء والكبر. فدواء الرياء بـ: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ودواء الكبر بـ: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } .
وكثيرًا ما كنت أسمع شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يقول: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } تدفع الرياء: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } تدفع الكبرياء.
__________
(1) انظر بذل المجهود 17/94.(2/110)
فإذا عوفي من مرض الرياء بـ { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ومن مرض الكبرياء والعجب بـ { y‚$ƒخ)u نَسْتَعِينُ } . ومن مرض الضلال والجهل بـ: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } عوفي من أمراضه وأسقامه؛ ورفَل في أثواب العافية، وتمت عليه النعمة، وكان من المنعم عليهم: { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } وهم أهل فساد القصد، الذين عرفوا الحق وعدلوا عنه: { وَلَا الضَّالِّينَ } وهم أهل فساد العلم الذين جهلوا الحق ولم يعرفوه"(1).
ثم ذكر بعد ذلك ما تضمنته سورة الفاتحة من شفاء للأبدان وساق حديث اللديغ الذي شفي بقراءة فاتحة الكتاب عليه.
من آثار الإيمان بهذين الاسمين الكريمين:
أولاً: محبة الله - عز وجل - الذي لا شفاء إلا شفاؤه، والذي لا يكشف الضر إلا هو ولا يأتي بالخير إلا هو، وهو الذي أنزل الكتب وأرسل الرسل ليشفي الناس من أمراض الشرك الكفر والشكوك، وهو الذي يحفظ أبدانهم ويشفي أمراضهم وحده لا شريك له. وهذا كله يثمر في القلب محبة من هذه صفاته وتوحيده والتعبد له وحده بكل أنواع العبادة لا شريك له .
ثانيًا: التوكل على الله وحده ودعاؤه سبحانه واللجوء إليه في كشف الكربات وشفاء أمراض القلوب والأبدان، وعدم التعلق بأي شيء من الأسباب؛ لأنه سبحانه وحده هو الشافي وهو خالق الأسباب ومسبباتها.
وأنبه بهذه المناسبة إلى ما ظهر في هذه الأزمنة من أمور محدثة في معالجة المرض بالرقى الشرعية والإتيان بما لم يفعله الرسول × وصحابته الكرام والتابعون لهم بإحسان ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، ومن أخطر ما يكون عند المعالجين والمستشفين بالرقى الشرعية هو بث الأوهام والوساوس النفسية بين الناس وجعلهم يعيشون في خوف وذعر من أمراض السحر والعين والمس التي يُكثر ذكرها الرقاة لمرضاهم مما ينشأ عنه تعلق شديد بالراقي ونفثه، ويصبح أسيرًا له ناسيًا ربه وأنه وحده سبحانه الشافي الذي لا شفاء إلا شفاؤه.
__________
(1) مدارج السالكين 1/54.(2/111)
والمتتبع لهديه × في علاج الأمراض يرى كثيرًا من الأدعية والرقى الشرعية الصحيحة في دعائه × في علاج الأمراض وأذكاره في اليوم والليلة التي تجرد التعلق بالله والتوكل عليه وحده.
وفعل الأسباب في علاج الأمراض لا ينافي التوكل على الله - عز وجل - إذا لم يتعلق بها، ولقد قال الرسول ×: ( ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء)(1).
ثالثًا: السعي في إيصال الخير وكشف الكربات وقضاء الحاجات لعباد الله - عز وجل - والحرص في أن يكون المسلم سببًا في إذهاب الأمراض القلبية والجسدية عن الناس حسب العلم والقدرة، قال ×: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)(2).
رابعًا: الفرح بهذا الدين وبشريعة الإسلام التي جاءت لشفاء الصدور ومعالجة أدواء الشبهات والشهوات كما في قوله عز وجل: { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) } [الإسراء: 82]، ومثل هذه الآية كثير في القرآن الكريم فيجب حمد الله - عز وجل - وشكره والثناء عليه بهذا الاسم الكريم؛ لأن هذا الشفاء العظيم الذي يتضمنه القرآن الكريم هو من آثار أسمائه سبحانه (الشافي، الهادي، الرحمن، الرحيم) ومع ما في هذه الشريعة الكريمة من خير وشفاء وصلاح للناس إلا أنه يوجد من يكفر بها ويعرض عنها ويعاديها ويستبدل بها قوانين البشر وأنظمة الجاهلية التي تجلب للناس الشر والشقاء والظلم والفساد، فالحمد لله الذي هدانا لهذا النور والهدى والرحمة الذي هو شفاء لما في الصدور وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
__________
(1) البخاري (567).
(2) مسلم (2199).(2/112)
خامسًا: ومن آثار الإيمان باسمه سبحانه (الشافي) ما يشفي به صدور المؤمنين بقتال أعدائهم الكافرين وقتلهم لهم وانتصارهم عليهم كما في قوله تعالى: { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) } [التوبة: 14]، وغير هذه الآية.
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى: "فإن في قلوبهم - أي المؤمنين - من الحنق والغيظ عليهم ما يكون قتالهم وقتلهم شفاء لما في قلوب المؤمنين من الغم والهم، إذ يرون هؤلاء الأعداء محاربين لله ولرسوله × ساعين في إطفاء نور الله، وزوالاً للغيظ الذي في قلوبهم، وهذا يدل على محبة الله للمؤمنين واعتنائه بأحوالهم حتى إنه جعل من جملة المقاصد الشرعية شفاء ما في صدورهم وذهاب غيظهم"(1).
سادسًا: ومن آثار اسمه سبحانه (الشافي): النظر إلى ما يقدره الله - عز وجل - على عبده المؤمن من أمراض ومكروهات على أنها في ذاتها شفاء لأمراض في القلب قد تفتك به لو استمرت فيه فيأتي المرض أو المصيبة ليكونا سببًا في التخلص منها. وبذا يكون المرض ذاته شفاء. وليس الشفاء بالضرورة هو المعافاة من المرض، وفي ذلك يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى - وهو يعدد حكم الله - عز وجل - ورحمته في المصائب: "السابع: أن يعلم أن هذه المصيبة هي دواء نافع ساقه إليه (الطبيب) العليم بمصلحته، الرحيم به فليصبر على تجرعه ولا يتقيأه بتسخطه وشكواه فيذهب نفعه باطلاً. الثامن: أن يعلم أن في عقبى هذا الدواء من الشفاء والعافية والصحة وزوال الألم ما لم تحصل بدونه، فإذا طالعت نفسه كراهة هذا الدواء ومرارته فلينظر إلى عاقبتة وحسن تأثيره قال تعالى: { |#س|
__________
(1) تفسير السعدي عند الآية (14) من سورة التوبة.(2/113)
ur أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) } [البقرة: 216]، وقال الله تعالى: { فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا } [النساء: 19]"(1).
- - -
(104) [السيد]
لم يرد ذكر اسمه سبحانه (السيد) في القرآن الكريم، وإنما ورد في السُّنَّة الصحيحة فعن مطرف بن عبد الله بن الشخير قال: "قال أبي: انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله × فقلنا: أنت سيدنا فقال: (السيد الله) قلنا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً فقال: (قولوا بقولكم أو ببعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان) (2).
المعنى اللغوي:
قال في اللسان: "السؤدد: الشرف، وقال ابن شميل: السيد الذي فاق غيره بالعقل والمال والدفع والنفع، والمعطي ما له في حقوقه المعين بنفسه فذلك السيد، وقال عكرمة: السيد الذي لا يغلبه غضبه.
وقال أبو خبرة : سمي سيدًا لأنه يسود سواد الناس أي عظمهم.
وقال الفراء: السيد الملك، والسيد الرئيس، والسيد السخي، وسيد العبد مولاه، والأنثى من كل ذلك بالهاء، وسيد المرأة: زوجها"(3).
وقال الراغب: "السيد: المتولي للسواد أي الجماعة الكثيرة"(4).
وقال ابن الأثير: "السيد يطلق على الرب والمالك والشريف والفاضل والحليم والكريم"(5).
المعنى في حق الله تعالى:
قال الخطابي رحمه الله تعالى: "قوله (السيد الله) يريد أن السؤدد حقيقة لله - عز وجل - وأن الخلق كلهم عبيد له"(6).
__________
(1) طريق الهجرتين ص 416.
(2) رواه أحمد 4/24، وأبو داود 5/4806، واللفظ له وصححه الألباني في صحيح أبي داود (4021).
(3) لسان العرب 3/2144، 2145، وانظر الصحاح 2/490.
(4) المفردات ص247.
(5) النهاية 2/418.
(6) معالم السنن 7/176.(2/114)
وقال في اللسان: "وقال الأزهري: وأما حق الله جل ذكره بالسيد فمعناه أنه مالك الخلق. والخلق كلهم عبيده"(1).
وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في نونيته:
"وهو الإله السيد الصمد الذي صمدت إليه الخلق بالإذعان
الكامل الأوصاف من كل الوجوه كماله ما فيه من نقصان"(2)
ويقول أيضًا: "ولا ينافي هذا قوله ×: (أنا سيد ولد آدم) (3). فإن هذا إخبارٌ منه عما أعطاه الله من سيادة النوع الإنساني؛ وفضَّله وشرَّفه عليهم.
وأما وصف الربِّ تعالى بأنه (السيد): فذلك وصفٌ لربه على الإطلاق، فإنَّ سيِّد الخلق: هو مالك أمرهم الذي إليه يرجعون؛ وبأمره، يعملون؛ وعن قوله يصدرون، فإذا كانت الملائكة والإنس والجن خلقًا له سبحانه وتعالى ومِلْكًا له، ليس لهم غنى عنه طرفة عين، وكلُّ رغباتهم إليه، وكلُّ حوائجهم إليه: كان هو سبحانه وتعالى (السيد) على الحقيقة"(4).
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (السيد):
أولاً: لما كان من معاني (السيد) ما يطلق على الرب المالك والمتصرف في شؤون الخلق كان من آثار ذلك وثمراته، ولا بد محبة الله - عز وجل - وتوحيده وإجلاله وتعظيمه، وصرف جميع أنواع العبادة له وحده لا شريك له.
ثانيًا: أن الإنسان مهما بلغ من السؤدد في هذه الدنيا فهو سؤدد ناقص زائل، وهذا الشعور يثمر التواضع في قلب المسوَّد، وعدم استخدام سيادته في ظلم الناس والتكبر عليهم؛ لأن السؤود الحقيقي السرمدي لله عز وجل.
__________
(1) لسان العرب 3/2144، 2145، وانظر الصحاح 2/490.
(2) النونية 2/231.
(3) أحمد 3/2، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1468).
(4) تحفة المولود ص 109.(2/115)
ثالثًا: كما يثمر ذلك أيضًا التعلق بالله وحده خوفًا ورجاءً، واستعانة وتوكلاً؛ لأنه المالك المتصرف المدبر لشؤون عباده، وما من دابة إلا هو سبحانه آخذ بناصيتها، وبالتالي يزول الخوف والتعظيم من قلوب الناس نحو السيد من البشر الذي لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا فضلاً عن أن يملكه لغيره ، فلا يذل له ولا يخضع، وإنما يذل لله وحده السيد الصمد.
رابعًا: إن الشرف والسؤدد الحقيقي في هذه الدنيا إنما ينال بطاعة الله تعالى وتقواه، حيث إن الكرامة والشرف والرفعة وعلو الذكر - وهذه أركان السؤدد- إنما هي لأنبياء الله - عز وجل - وأوليائه وهم السادة على الناس، أما الكفرةُ والمنافقون والفُسَّاقُ فلا كرامة لهم ولا سيادة، وإن حصلت لهم السيادة الزائفة في وقت من الأوقات. ولذا جاء النهي عن تسمية المنافق بالسيد كما جاء في الحديث: (لا تقولوا للمنافق سيد)(1).
خامسًا: يجوز إطلاق السيد على المخلوق كما في قوله تعالى عن يحيى عليه السلام: { وَسَيِّدًا وَحَصُورًا } [آل عمران: 39]، وكما جاء في حديث الشفاعة: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)(2) ، وقوله × في سعد بن معاذ: (قوموا إلى سيدكم)(3) ، ولا تعارض بين هذه الروايات وقوله ×: (السيد الله).
قال في اللسان: "قال ابن الأنباري: إن قال قائل: كيف سمى الله - عز وجل - يحيى سيدًا وحصورًا، والسَّيد هو الله، إذْ كان مالك الخلق أجمعين، ولا مالك لهم سواه؟
قيل له: لم يُرِدْ بالسَّيد ههنا المالك، وإنما أراد الرئيسَ والإمامَ في الخير، كما تقول العرب: فلانٌ سيدنا، أي: رئيسنا والذي نُعظِّمه"(4).
__________
(1) أبو داود (4977)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (4163).
(2) مسند أحمد 3/2، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1468).
(3) أبو داود (5215)، وصححه الألباني في الجامع (4427).
(4) لسان العرب 3/2145.(2/116)
وقال أيضًا: "... ونحوه ما جاء في حديث مطرف السابق، إذ قالوا للنبي ×: أنت سيدنا، فقال: (السيد الله تبارك وتعالى)، قلنا: وأفْضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً، فقال: (قولوا بقولكم، أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان).
قال أبو منصور الأزهري: كره النبي × أن يُمدح في وجهه، وأحبَّ التواضع لله تعالى، وجَعلَ السيادة للذي ساد الخلق أجمعين، وليس هذا بمخالف لقوله لسعد بن معاذ حين قال لقومه الأنصار: (قوموا إلى سيدكم) أراد أنه أفضلكم رجلاً وأكرمكم.
وأما صفة الله - جلَّ ذكره - بالسيد فمعناه أنه مالكُ الخلقِ، والخَلقُ كلُّهم عبيده.
وكذلك قوله: (أنا سيِّدُ وَلدِ آدم ولا فخرَ) أراد أنه أولُ شفيعِ وأولُ من يُفتح له بابُ الجنة، قال ذلك إخبارًا عما أكرمه الله به من الفَضل والسُّؤْدَدِ، وتحدُّثًا بنعمة الله عنده، وإعلامًا منه ليكونَ إيمانُهم به على حَسَبه وموجبه.
ولهذا أتْبَعَه بقوله: (ولا فخر) أي: إنَّ هذه الفضيلة التي نلتُها كرامةٌ لله، لم أنَلها من قِبَل نفسي، ولا بَلغْتُها بقوتي فليس لي أن أفْتخَر، وقيل في معنى قوله لهم لما قالوا له: أنت سيدنا: (قولوا بقولكم) ادعوني نبيّاً ورسولاً كما سمَّاني الله، ولا تُسموني سيِّدًا كما تُسمون، فإني لست كأحدِهم ممن يَسودُكم في أسباب الدنيا"(1).
وقال الخطابي: وإنما منعهم ـ فيما نرى ـ أن يَدْعوه سيدًا، مع قوله: (أنا سيد ولد آدم)، وقوله لقومه: (قوموا إلى سيدكم) يريد سعد بن معاذ، من أجل أنهم قومٌ حديثٌ عهدهم بالإسلام(2).
ومما يؤيد جواز إطلاقه على المخلوق قوله ×: (إذا نصح العبد سيده وأحسن عبادة ربه كان له أجره مرتين)(3).
وقول عمر - رضي الله عنه - عنه: "أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا"، يعني بلالاً رضي الله عنهم جميعًا(4).
__________
(1) انظر لسان العرب 3/2144.
(2) معالم السنن للخطابي 7/176، 177.
(3) البخاري في العتق (2546).
(4) البخاري 5/179 فضائل الصحابة.(2/117)
سادسًا: لما كان من معاني اسمه سبحانه (الصمد): السيد الذي كمل في سؤدده، فإن ما ذكر من الآثار في اسمه سبحانه (الصمد) يصلح أن يذكر منه ما يناسب المقام هنا.
- - -
(105) [الوتر]
لم يرد ذكر هذا الاسم الكريم في القرآن الكريم، وإنما ورد في حديث النبي × حيث روى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله × قال: (إن لله تسعة وتسعين اسمًا مائة إلا واحد؛ لا يحفظها أحد إلا دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر)(1).
وعن علي - رضي الله عنه - أن رسول الله × أوتر ثم قال: (أوتروا يا أهل القرآن فإن الله وتر يحب الوتر)(2).
المعنى اللغوي:
"الوِتر والوَتر: الفرد أو ما لم يتشفع من العدد... وأوتره: أفذه.
وقال اللحياني: أهل الحجاز يسمون الفرد: الوَتر، وأهل نجد يكسرون الواو ... وأوتر الرجل: صلى الوتر. وهي ركعة تكون بعد صلاته مثنى مثنى من الليل"(3).
المعنى في حق الله تعالى:
قال ابن قتيبة رحمه الله تعالى: "الله - عز وجل - وتر وهو واحد"(4).
وقال الخطابي رحمه الله تعالى: " (الوتر) هو الفرد الذي لا شريك له ولا نظير"(5).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: " (الوتر) الفرد ومعناه في حق الله أنه الواحد الذي لا نظير له في ذاته ولا انقسام"(6).
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (الوتر):
أولاً: يرجع لمعرفة هذه الآثار إلى آثار الإيمان باسميه سبحانه (الواحد، الأحد) في أول الكتاب لأن من معاني الوتر: (الواحد) كما سبق.
__________
(1) البخاري (6410)، مسلم (2677).
(2) أبو داود (1416) وأهل السنن وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1256).
(3) انظر اللسان 6/4757، الصحاح 2/842.
(4) غريب الحديث 1/172.
(5) شأن الدعاء ص 104، وانظر البيهقي في الاعتقاد ص 68.
(6) فتح الباري 11/227، وهذا جزء من التعريف فكما أنه سبحانه واحد في ذاته، فهو أيضًا واحد في أسمائه وصفاته وأفعاله.(2/118)
ثانيًا: الحرص في الأقوال والأعمال على إيقاعها وترًا حسب ما ورد في السنة من الحث على إنهاء بعض الأقوال والأعمال على وتر؛ لأنه سبحانه وتر يحب الوتر. والمتتبع لكثير من الأذكار والأعمال التي جاءت في الشريعة يجد أنها تنتهي بوتر؛ وبخاصة الواحد، والثلاثة، والسبعة.
وقد جاء الحث على صلاة الوتر - حيث يختم الليل بها - وقد قال ×: (يا أهل القرآن أوتروا، فإن الله وتر يحب الوتر)(1).
- - -
(106) [الحيي]
لم يرد ذكر هذا الاسم الكريم في القرآن الكريم وإنما ورد في حديث الرسول × فعن يعلى بن أمية - رضي الله عنه - أن رسول الله × رأى رجلاً يغتسل بالبراز بلا إزار فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: (إن الله - عز وجل - حَيِيُّ ستير يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر)(2).
وعن سلمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ×: (إن ربكم تبارك وتعالى حَييُّ كريم يستحيي من عبده إذا رفع يده أن يردهما صفرًا)(3).
المعنى اللغوي:
يقال: استحيت بياء واحدة، وأصله استحييت مثل: استعييت فأعلَّوا الياء الأولى وألقوا حركتها على الحاء.
وقال الأخفش: اسْتحي بياء واحده لغة تميم، وبياءين في لغة الحجاز وهو الأصل.
قال الأزهري: "والقرآن نزل بهذه اللغة الثانية في قوله عز وجل: { إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا } [البقرة: 26].
(والحيى) مقصور: المطر والخصب، و(الحياء) ممدود: الاستحياء.
ورجل حيي: ذو حياء بوزن فعيل، وامرأة حيية (4).
__________
(1) أبو داود (1416)، وأهل السنن، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1256).
(2) أبو داود (4012)، والنسائي (393)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (3387).
(3) أبو داود (1488)، والترمذي (3556)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1320).
(4) انظر لسان العرب (2/1079)، والصحاح 6/2324.(2/119)
وعرف الراغب الحياء عند المخلوق بقوله: "انقباض النفس عن القبائح وتركه لذلك"(1).
المعنى في حق الله تعالى:
نثبت صفة الحياء لله تعالى على ما يليق به كسائر صفاته نؤمن بها ولا نكيفها ولا نشبهها بحياء المخلوق.
وقد ذكر الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - اسمه سبحانه (الحيي) في نونيته وذكر بعض معانيه وذلك في قوله:
"وهو الحيي فليس يفضح عبده عند التجاهر منه بالعصيان
لكنه يلقي عليه ستره فهو الستير وصاحب الغفران"(2)
ويشرح الشيخ الهراس - رحمه الله تعالى - هذين البيتين بقوله: "وحياؤه تعالى وصفٌ يليق به، ليس كحياء المخلوقين الذي هو تغير وانكسار يَعْتري الشخص عند خوف ما يُعاب أو يُذم، بل هو تركُ ما ليس يتناسب مع سعِة رحمته، وكمالِ جوده وكرمه، وعظيم عفوه وحلمه.
فالعبد يجاهره بالمعصية مع أنه أفقرُ شيءٍ إليه، وأضعفه لديه، ويستعين بنعمه على معصيته، ولكن الربَّ سبحانه مع كمال غناه وتمام قدرته عليه، يَستحي من هَتْكِ ستره وفضيحته، فيستره بما يُهيؤه له من أسباب الستر ثم بعد ذلك يعفو عنه ويغفر"(3).
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "أما حياء الرب تعالى من عبده فذاك نوع آخر لا تدركه الأفهام ولا تكيفه العقول، فإنه حياء كرم وبر وجود وجلال فإنه: (حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرًا)(4).
وكان يحيى بن معاذ يقول: سبحان من يذنب عبده ويستحيي هو، وفي أثر: من استحيى من الله استحيى الله منه"(5).
__________
(1) المفردات ص 140.
(2) النونية 2/227.
(3) شرح النونية 2/80 للهراس.
(4) سبق تخريجه ص765.
(5) مدارج السالكين 2/259 (باختصار).(2/120)
ويقول الشيخ السعدي - رحمه الله تعالى - عن اسمه سبحانه (الحيي): "هذا مأخوذ من قوله ×: (إن الله حيي كريم يستحيي من عبده إذا مد يده إليه أن يردهما صفرًا)(1). وهذا من رحمته وكرمه وكماله وحلمه أن العبد يجاهر بالمعاصي مع فقره الشديد إليه حتى أنه لا يمكنه أن يعصي إلا أن يتقوى عليها بنعم ربه، والرب مع كمال غناه عن الخلق كلهم من كرمه يستحيي من هتكه، وفضيحته، وإحلال العقوبة به، فيستره بما يقيض له من أسباب الستر، ويعفو عنه، ويغفر له، فهو يتحبب إلى عباده بالنعم وهم يتبغضون إليه بالمعاصي، خيره إليهم بعدد اللحظات، وشرهم إليه صاعد.
ولا يزال الملك الكريم يصعد إليه منهم بالمعاصي، وكل قبيح. ويستحيي تعالى ممن شاب في الإسلام أن يعذبه، وممن يمد يديه إليه أن يردهما صفرًا، ويدعو عباده إلى دعائه، ويعدهم بالإجابة"(1).
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (الحيي):
أولاً: محبة الله - عز وجل - وإجلاله وتعظيمه وحمده وشكره والثناء عليه وذلك بما يقتضيه هذا الاسم الكريم من الحلم والكرم والعفو والستر منه سبحانه على عباده، وحق لمن هذه صفاته أن يجرد له الحب كله والإخلاص والتعظيم، والحمد والثناء، واللهج بشكره والتقرب إليه بطاعته.
ثانيًا: الحياء منه سبحانه والانكسار بين يديه ومقت النفس، والاعتراف بتقصيرها، حيث ينعم سبحانه على عباده ويحلم عنهم ويسترهم وهم متمادون في معاصيه.
__________
(1) الحق الواضح المبين ص 54، 55.(2/121)
إن التعبد لله سبحانه باسمه (الحيي) يثمر، ولا بد عند المؤمن، الحياء منه سبحانه من أن يكون على حالة مشينة يكرهها الله سبحانه ويسخطها فشعور العبد بجنايته يثمر له حياء من ربه سبحانه، وإجلالاً وعلى حسب معرفة العبد بربه وأسمائه وصفاته يكون حياؤه منه، وهذا هو حياء العبودية الذي عرفه ابن القيم - رحمه الله تعالى - بقوله: "هو حياء ممتزج من محبة وخوف، ومشاهدة عدم صلاح عبوديته لمعبوده وأن قدره أعلى وأجل منها فعبوديته له توجب استحياء منه لا محالة"(1).
ثالثًا: الحياء من الخلق أن يروه على فعل قبيح أو خارم للمروءة، وهذا الحياء يحبه الله - عز وجل - بل هو من شعب الإيمان كما جاء في الحديث: (والحياء شعبة من الإيمان)(2).
وكذلك قوله ×: (إن الحياء خير كله أو كله خير)(3).
ولكن ينبغي أن لا يكون الحياء سببًا لجهل الإنسان بالحق أو تفويت ما يحتاج إليه في دينه أو دنياه، فإنه في هذا الحال يصير مذمومًا، وما أحسن ما قاله الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - عن الحياء المحمود المحبوب لله - عز وجل - وأنه وسط بين القحِة والمجاهرة بالقبائح، وبين العجز والخور، يقول رحمه الله تعالى: "فإن النفس متى انحرفت عن التوسط انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين ولا بد فإن انحرفت عن خلق (التواضع) انحرفت إما إلى كبر وعلو وإما إلى ذل ومهانة وحقارة، وإذا انحرفت عن خلق (الحياء) انحرفت إما إلى قحة وجرأة وإما إلى عجز وخور ومهانة بحيث يطمع في نفسه عدوه، ويفوته كثيرٌ من مصالحه ويزعم أن الحامل له على ذلك الحياء وإنما هو المهانة والعجز وموت النفس"(4).
لذا فإن من الحياء المذموم الامتناع عن قول الحق ومناصرته وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطلب العلم والتفقه في الدين.
__________
(1) مدارج السالكين 2/263.
(2) البخاري في الإيمان باب الإيمان، ومسلم في الإيمان عدد شعب الإيمان.
(3) البخاري (24)، ومسلم(36).
(4) مدارج السالكين 2/309، 310.(2/122)
رابعًا: حياء المرء من نفسه: وهو حياء النفوس الشريفة العزيزة الرفيعة من رضاها لنفسها بالنقص، وقناعتها بالدون، فيجد نفسه مستحيًا من نفسه حتى كأن له نفسين، يستحي بإحداهما من الأخرى، وهذا من أكمل ما يكون من الحياء، فإن العبد إذا استحيى من نفسه فهو بأن يستحي من غيره أجدر(1).
- - -
(107) [الطيب]
لم يرد ذكر اسمه سبحانه (الطيب) في القرآن الكريم، وإنما ورد في حديث النبي × حيث روى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله × قال: (أيها الناس إن الله طيب ولا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) } [المؤمنون: 51]، وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [البقرة: 172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك)(2).
المعنى اللغوي:
"ومعنى الطيب: الطاهر والنظيف والحسن والعفيف والسهل واللين، والطيب: خلاف الخبيث.. ويقال: أرض طيبة للتي تصلح للنبات. وريح طيبة: إذا كانت لينة ليست بشديدة، وطعمة طيبة إذا كانت حلالاً، وامرأة طيبة: إذا كانت حصانًا عفيفة، وكلمة طيبة: إذا لم يكن فيها مكروه، وبلدة طيبة: أي آمنة كثيرة الخير.
وقد يرد الطيب بمعنى: الطاهر"(3).
المعنى في حق الله تعالى:
قال النووي - رحمه الله تعالى - في شرح الحديث: "قال القاضي عياض: الطيب في صفة الله تعالى بمعنى المنزه عن النقائص وهو بمعنى القدوس، وأصل الطيب: الزكاة والطهارة والسلامة من الخبث"(4).
__________
(1) انظر مدارج السالكين 2/261.
(2) رواه مسلم في الزكاة (1015).
(3) انظر لسان العرب 4/2731، والصحاح 1/173.
(4) شرح مسلم للنووي 7/100.(2/123)
وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في شرحه لقوله ×: (والصلوات والطيبات) وذلك في دعاء التشهد: "وكذلك قوله: (والطيبات) هي صفة الموصوف المحذوف أي: الطيبات من الكلمات والأفعال والصفات والأسماء لله وحده، فهو طيب وأفعاله طيبة، وصفاته أطيب شيء، وأسماؤه أطيب الأسماء، واسمه (الطيب)، ولا يصدر عنه إلا طيب، ولا يصعد إليه إلا طيب، ولا يقرب منه إلا طيب، وإليه يصعد الكلم الطيب وفعله طيب، والعمل الطيب يعرج إليه، فالطيبات كلها له ومضافة إليه وصادرة عنه ومنتهية إليه ... فإذا كان هو سبحانه الطيب على الإطلاق فالكلمات الطيبات، والأفعال الطيبات، والصفات الطيبات، والأسماء الطيبات كلها له سبحانه لا يستحقها أحد سواه، بل ما طاب شيء قط إلا بطيبته سبحانه فطيب كل ما سواه من آثار طيبته، ولا تصلح هذه التحية الطيبة إلا له"(1).
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (الطيب):
أولاً: لما كان من معاني اسمه سبحانه (الطيب): القدوس المنزه عن العيوب والنقائص، فإن ما ذكر من آثار الإيمان باسمه سبحانه (القدوس)، (السبوح) يصلح أن يذكر هنا فليرجع إليه.
ثانيًا: محبة الله سبحانه لصفاته وأسمائه الطيبة الجليلة الكريمة، وحمده عليها وإجلاله وتعظيمه، والثناء عليه بها.
ثالثًا: ومن آثار اسمه سبحانه (الطيب) ما جاء في الحديث نفسه من أنه سبحانه طيب لا يقبل إلا طيبًا، ولا ينبغي أن يتقرب إليه العبد إلا بالطيب من الأقوال والأعمال المنبعثة من المقاصد الطيبة، قال - عز وجل -: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) } [البقرة: 267].
__________
(1) الصلاة وحكم تاركها ص 214، 215.(2/124)
وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي × قال: (مَنْ تصدَّق بعَدْل تمرة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - فإن الله يتقبَّلها بيمينه ثم يُربيها لصاحبها كما يُربِّي أحدُكم فَلُوَّه، حتى تكون مثل الجبل)(1).
فلا يقبل الله تعالى الصَّدقة بالحرام، لأنه تصرفٌ فيما لا يملك، فمن تصدَّق من ربا أو سرقة أو غلولٍ فإن الله تعالى لا يقبله، كما قال ×: (لا تُقبلُ صلاةٌ بغير طُهور، ولا صدقةٌ من غُلُول)(2).
وكذلك كل الأقوال والأعمال لا يقبل الله - عز وجل - منها إلا الطيب الصالح، قال - عز وجل -: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [فاطر: 10].
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "وهو (طيب) لا يصعد إليه إلا طيب، والكلم الطيب إليه يصعد فكانت الطيبات كلها له ومنه وإليه له ملكًا ووصفًا ومنه مجيئها وابتداؤها وإليه مصعدها ومنتهاها"(3).
رابعًا: ومن آثار الإيمان باسمه سبحانه (الطيب) محبة من اختاره سبحانه لأن يكون طيبًا من مخلوقاته لأنه لا يختار ولا يختص من المخلوقات إلا أطيبها، ومن هو أهل للطيب والزكاء.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "إن الله سبحانه وتعالى اختار من كل جنس من أجناس المخلوقات أطيبه واختصه لنفسه وارتضاه دون غيره، فإنه تعالى طيب لا يحب إلا الطيب ولا يقبل من العمل والكلام والصدقة إلا الطيب، فالطيب من كل شيء هو مختاره تعالى"(4).
__________
(1) رواه البخاري في الزكاة (1410)، وكذلك مسلم في الزكاة (1014).
(2) رواه مسلم في الطهارة (224).
(3) بدائع الفوائد 2/162.
(4) زاد المعاد 1/65.(2/125)
لذا فإن من الآثار الحسنة للإيمان باسمه سبحانه (الطيب) أن المؤمن لا يحب ولا يؤثر من العقائد والأقوال، والأعمال والأخلاق، والأصحاب والمناكح، والمطاعم والمشارب إلا أطيبها وأزكاها. ويفصل هذه الآثار الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - فيقول: "فإن الطيب لا يناسبه إلا الطيب، ولا يرضى إلا به، ولا يسكُن إلا إليه، ولا يطمئن قلبُه إلا به، فله من الكلام الكَلِمُ الطيب الذي لا يصعد إلى الله تعالى إلا هو، وهو أشدُّ شيء نُفرة عن الفحش في المقال، والتفحُّش في اللسان والبذَاء، والكذب والغيبة، والنميمة والبُهت، وقول الزور، وكل كلام خبيث.
وكذلك لا يألف من الأعمال إلا أطيبها، وهي الأعمال التي اجتمعت على حسنها الفِطَرُ السليمةُ مع الشرائع النبوية، وزكتها العقولُ الصحيحة، فاتفق على حسنها الشرعُ والعقلُ والفِطرةُ، مثل أن يَعْبُدَ الله وحده لا يُشرِكُ به شيئًا، ويؤثِرَ مرضاته على هواه، ويتحببَ إليه جُهده وطاقته، ويُحْسِنَ إلى خلقه ما استطاع، فيفعل بهم ما يُحب أن يفعلوا به، ويُعَاملوه به، ويَدَعَهم ممّا يحب أن يَدَعُوه منه، وينصحهم بما ينصح به نفسه، ويحكم لهم بما يحب أن يحكم له به، ويحمل أذاهم ولا يحمِّلهم أذاه، ويكُفَّ عن أعراضهم ولا يُقابلهم بما نالوا من عرضه، وإذا رأى لهم حسنًا أذاعه، وإذا رأى لهم سيئًا كتمه، ويُقيم أعذارهم ما استطاع فيما لا يُبطِلُ شريعة، ولا يُناقضُ لله أمرًا ولا نهيًا.
وله أيضًا من الأخلاق أطيبها وأزكاها، كالحلم، والوقار، والسكينة، والرحمة، والصبر، والوفاء وسهولة الجانب، ولين العريكة، والصدق، وسلامة الصدر من الغِل والغش والحقد والحسد، والتواضع، وخفض الجناح لأهل الإيمان والعزة، والغلظة على أعداء الله، وصيانة الوجه عن بذله وتذلله لغير الله ، والعِفة والشجاعة، والسخاء، والمرُوءة، وكل خلق اتفقت على حسنه الشرائع والفطر والعقول.(2/126)
وكذلك لا يختار من المطاعم إلا أطيبها، وهو الحلال الهنيء المريء الذي يُغذِّي البدن والروح أحسنَ تغذية، مع سلامة العبد من تَبِعَتِهِ.
وكذلك لا يختار من المناكح إلا أطيبها وأزكاها، ومن الرائحة إلا أطيبَها وأزكاها، ومن الأصحاب والعُشراء إلا الطيبين منهم، فروحه طيبة، وبدنُه طيب، وخُلُقُه طيب، وعملُه طيب، وكلامُه طيِّب، ومطعمُه طيب، ومَشربه طيب، وملبَسهُ طيب، ومنكِحُه طيب، ومدخلُه طيب، ومخرجُه طيب، ومُنْقَلَبُهُ طيب، ومثواه كله طيب. فهذا ممن قال الله تعالى فيه: { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) } [النحل: 32]، ومن الذين يقول لهم خزنة الجنة: { سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } [الزمر: 73] وهذه الفاء تقتضي السببية، أي: بسبب طيبكم ادخلوها. وقال تعالى: { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ } [النور: 26] وقد فسرت الآية بأن الكلمات الخبيثات للخبيثين، والكلمات الطيبات للطيبين، وفسرت بأن النساء الطيبات للرجال الطيبين، والنساء الخبيثات للرجال الخبيثيين، وهي تعم ذلك وغيره، فالكلمات والأعمال، والنساء الطيبات لمناسبها من الطيبين، والكلمات، والأعمال، والنساء الخبيثة لمناسبها من الخبيثين، فالله سبحانه وتعالى جعل الطَّيِّبَ بحذافيره في الجنة، وجعل الخبيث بحذافيره في النار، فجعل الدُّور ثلاثة: دارًا أخلصت للطيبين، وهي حرامٌ على غير الطيبين، وقد جمعت كُلَّ طيب وهي الجنة، ودارًا أخلصت للخبيث والخبائث، ولا يدخلها إلا الخبيثون، وهي النَّار، ودارًا امتزج فيها الطيبُ والخبيث، وخلط بينهما، وهي هذه الدار، ولهذا وقع الابتلاءُ والمحنة بسبب هذا الامتزاج والاختلاط، وذلك بموجب الحكمة الإلهية، فإذا كان(2/127)
يوم معاد الخليقة، ميز الله الخبيث من الطيب، فجعل الطيب وأهله في دار على حدة لا يُخالِطهم غيرُهم، وجعل الخبيثَ وأهله في دار على حدة لا يخالطهم غيرهم، فعاد الأمر إلى دارين فقط: الجنَّة، وهي دار الطيبين، والنار، وهي دار الخبيثين.
... وقد يكون في الشخص مادتان، فأيهما غلب عليه كان من أهلها، فإن أراد الله به خيرًا طهره من المادة الخبيثة قبل الموافاة، فيُوافيه يوم القيامة مطهرًا، فلا يحتاج إلى تطهيره بالنار، فيطهره منها بما يوفِّقه له من التوبة النصوحِ، والحسناتِ الماحية، والمصائب المكفِّرة، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة، ويُمسك عن الآخر مواد التطهير، فيلقاه يوم القيامة بمادة خبيثة، ومادة طيبة، وحكمته تعالى تأبى أن يُجَاوره أحد في داره بخبائثه، فيدخله النار طهرة له وتصفية وسبكًا، فإذا خلصت سبيكةُ إيمانه من الخبث،صلح حينئذٍ لجواره، ومساكنة الطيبين من عباده، وإقامة هذا النوع من الناس في النار على حسب سرعة زوال تلك الخبائث منهم وبطئها، فأسرعهم زوالاً وتطهيرًا أسرعُهم خروجًا، وأبطؤهم أبطؤُهم خروجًا، جزاءً وفاقًا، وما ربُّك بظلام للعبيد.
ولما كان المشرك خبيث العنصر، خبيث الذات، لم تطهر النار خبثه، بل لو خرج منها لعاد خبيثًا كما كان، كالكلب إذا دخل البحر ثم خرج منه، فلذلك حرَم الله تعالى على المشرك الجنَّة.
ولما كان المؤمن الطيب المطيب مبَّرءًا من الخبائث، كانت النار حرامًا عليه، إذ ليس فيه ما يقتضي تطهيره بها، فسبحان من بهرت حكمته العقول والألباب، وشهدت فِطَرُ عباده وعقولهم بأنه أحكم الحاكمين، وربُّ العالمين، لا إله إلا هو"(1).
__________
(1) زاد المعاد 1/65 - 68 (باختصار يسير).(2/128)
خامسًا: حمده سبحانه والثناء عليه واللهج بذكره وشكره على ما أنعم به سبحانه علينا، حيث أنزل علينا أفضل كتبه وأرسل إلينا أفضل رسله، وشرع لنا أفضل شرائعه، التي كلها طيبة في عقيدتها وأحكامها وأخلاقها، والتي تْكَفل لكل من تعلمها وعمل بها الحياة الطيبة الهنيئة المطمئنة في الدنيا والآخرة كما في قوله عز وجل: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) } [النحل: 97].
وهذا كله من آثار اسمه سبحانه (الطيب)، ومع ذلك نرى اليوم أكثر مجتمعات المسلمين قد أعرضت عن هذه الشريعة الكريمة الطيبة واستبدلت بها الأنظمة البشرية الجاهلية التي تنضح بالخبث والشقاء والظلم والهوى: { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) } [المائدة: 50].
وإن من الشكر على الهداية لهذه الشريعة الطيبة الكاملة الغراء السعي لنشرها بين الناس والدعوة إليها وبيان محاسنها وإقامتها في مجتمعات المسلمين، والتحذير من الأحكام الجاهلية الكافرة الجائرة، وبيان عوارها وخبثها للناس والدعوة إلى نبذها وبيان أن قبول حكم الله - عز وجل - ورفض ما يخالفه ويضاده من أصول الإيمان، قال الله - عز وجل -: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) } [النساء: 65].
- - -
(108) [المعطي](2/129)
لم يرد ذكر اسمه سبحانه (المعطي) في القرآن الكريم، وإنما ورد في السُّنَّة النبوية، حيث روى البخاري - رحمه الله تعالى - في صحيحه عن معاوية - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ×: (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، والله المعطي وأنا القاسم، ولا تزال هذه الأمة ظاهرة على من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون)(1).
وقد ورد في القرآن بصيغة المصدر للفعل (أعطى) وذلك في قوله تعالى: { كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) } [الإسراء: 20]، كما ورد بصيغة الفعل وذلك في قوله سبحانه: { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) } [الضحى: 5]، وقوله عز وجل: { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) } [الكوثر: 1].
المعنى اللغوي:
"العطو: التناول، يقال منه: عطوت أعطو.. وعطوت الشيء: تناولته باليد، والعطاء: نول للرجل السمح، والعطاء والعطية: اسم لما يعطى، والجمع عطايا وأعطية، وأعطيات جمع الجمع... ورجل معطاء: كثير العطاء، والمعاطاة: المناولة وتعاطى الشيء: تناوله... وفلان يتعاطى كذا أي: يخوض فيه... واستعطى وتعطى: سأل العطاء"(2).
المعنى في حق الله تعالى:
الله سبحانه هو المعطي على الحقيقة، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، وعطاؤه سبحانه واسع ليس له حدود ولا قيود، يعطي عباده في الدنيا كافرهم ومؤمنهم أما في الآخرة فإن عطاءه وفضله لا يكون إلا للمؤمنين به فحسب قال الله تعالى: { كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) } [الإسراء: 20، 21].
__________
(1) البخاري (3116).
(2) انظر لسان العرب 4/3001.(2/130)
وعطاؤه سبحانه واسع يشمل كل العطايا والهبات وأعظمها عطية الإيمان والهداية. وبين اسمه سبحانه (المعطي) وأسمائه سبحانه (الوهاب)، (المنان)، (الجواد) تقارب في المعاني والآثار.
يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى - في نونيته:
"هو مانع معط فهذا فضله والمنع عين العدل للمنان
يعطي برحمته من يشاء بحكمة والله ذو السلطان"(1)
ويقول أيضًا فيما يتضمنه قوله ×: (اللَّهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت)(2) من معان: "لما كان المقصود بهذا تفرد الرب سبحانه بالعطاء والمنع لم يكن لذكر المُعطَى ولا لحظ المُعطي معنى، بل المقصود أن حقيقة العطاء والمنع إليك لا إلى غيرك، بل أنت المتفرد بها لا يشركك فيها أحد"(3).
وإن مما يتضمنه اسم الجلالة (المُعطي): أن الله سبحانه وتعالى لا يتبرم بعطائه بل إنه سبحانه يحب أن يجود على عباده ويحسن إليهم، كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "محبته للجود والإعطاء والإحسان، والبر والإنعام والإفضال فوق ما يخطر ببال الخلق، أو يدور في أوهامهم.
...إذ هذا شأن الجواد من الخلق؛ ... ولو أن أهل سماواته وأرضه، وأول خلقه وآخرهم، وإنسهم وجنهم، ورطبهم ويابسهم قاموا في صعيد واحد فسألوه فأعطى كل واحد ما سأله: ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة.
وهو الجواد لذاته، كما أنه الحي لذاته، العليم لذاته، السميع البصير لذاته. فجوده العالي من لوازم ذاته، والعفو أحب إليه من الانتقام، والرحمة أحب إليه من العقوبة، والفضل أحب إليه من العدل، والعطاء أحب إليه من المنع"(4).
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (المعطي):
ما ذكر من الآثار في أسمائه سبحانه (الوهاب)، (الجواد)، (المنان) يناسب ذكرها في اسمه سبحانه (المعطي) ومن أهمها:
__________
(1) الكافية الشافية ص 248، والأبيات رقم 3348، 3349.
(2) البخاري (844)، ومسلم (593).
(3) جلاء الأفهام ص 631.
(4) مدارج السالكين 1/233 - 234 (باختصار).(2/131)
أولاً: محبته سبحانه وحمده والثناء عليه وشكره على ما له من العطايا المتنوعة في الدين والدنيا والتي لا تعد ولا تحصى، والشكر على ذلك يستلزم العمل بطاعته سبحانه واجتناب محارمه وتعظيم أوامره ونواهيه.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "لو لم يكن من تحبُّبه إلى عباده وإحسانه إليهم وبره بهم إلا أنه خلق لهم ما في السماوات والأرض؛ وما في الدنيا والآخرة، ثم أهَّلهم وكرَّمهم؛ وأرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه وشرع لهم شرائعه، وأذن لهم في مناجاته كلّ وقتٍ أرادوا، وكتب لهم بكلِّ حسنةٍ يعملونها عشر أمثالها؛ إلى سبعمائة ضعف؛ إلى أضعافٍ كثيرةٍ، وكتب لهم بالسيئة واحدة، فإن تابوا منها: محاها؛ وأثبت مكانها حسنة، وإذا بلغت ذنوب أحدهم عنان السماء ثم استغفره: غَفَرَ له، ولو لقيه بقراب الأرض خطايا ثم لقيه بالتوحيد لا يشرك به شيئًا: لأتاه بقرابها مغفرة وشرع لهم التوبة الهادمة للذنوب، فوفقهم لفعلها ثم قبلها منهم، وشرع لهم الحج الذي يهدم ما قبله؛ فوفَّقهم لفعله؛ وكفَّر عنهم سيئاتهم به، وكذلك ما شرعه لهم من الطاعات والقربات، وهو الذي أمرهم بها؛ وخلقها لهم؛ وأعطاهم إياها؛ ورتَّب عليها جزاءها.
فمنه السبب ومنه الجزاء؛ ومنه التوفيق ومنه العطاء أولاً وآخرًا، وهم محلُّ إحسانه كلِّه منه أولاً وآخرًا، وأعطى عبده المال؛ وقال: تقرَّب بهذا إليَّ أقبله منك، فالعبد له والمال له والثواب منه، فهو (المُعطي) أولاً وآخرًا.
فكيف لا يُحبُّ من هذا شأنه؟ وكيف لا يستحي العبد أن يصرف شيئًا من محبته إلى غيره؟ ومن أولى بالحمد والثناء والمحبة منه؟ ومن أولى بالكرم والجود والإحسان منه؟ فسبحانه وبحمده؛ لا إله إلا هو العزيز الحكيم"(1).
__________
(1) طريق الهجرتين ص 571 - 572.(2/132)
ثانيًا: سؤاله سبحانه وحده والتعلق به في جلب المنافع والمصالح، ودفع المضار إذ إن المخلوق الضعيف لا يملك من ذلك شيئًا إلا أن يأذن الله - عز وجل - ويجعله سببًا في العطية، والحرص في سؤال الله - عز وجل - على العطية العظيمة التي لا تبيد ولا تفنى ألا وهي الجنة ونعيمها ورؤية الله - عز وجل - قال الله تعالى: { كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) }
[الإسراء: 20، 21].
ثالثًا: السخاء بما في اليد وإعطاؤه لمستحقيه من الفقراء والمحتاجين، لأن المال مال الله - عز وجل - وهو المعطي على الحقيقة، فمن شكر الله - عز وجل - في نعمة المال الجود به وإعطائه لمستحقيه قال الله عز وجل: { وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ } .
[الحديد: 7].
رابعًا: كما أن من آثار اسمه سبحانه (المعطي) عدم المن بالعطية لأنها من الله - عز وجل - على الحقيقة وإنما العبد مستخلف فيه للابتلاء، كما قال الله عز وجل: { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ } [الأنعام: 165].
- - -
(109) [الجميل]
لم يرد هذا الاسم الكريم في القرآن، وإنما ورد في الحديث النبوي وذلك فيما رواه مسلم في صحيحه عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي × قال: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنًا قال: (إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس)(1).
__________
(1) مسلم (91).(2/133)
وذكر ابن القيم - رحمه الله تعالى - أن قوله: (إن الله جميل يحب الجمال) قد رواه جمع من الصحابة - رضي الله عنهم - منهم عبدالله ابن عمرو بن العاص، وأبي سعيد الخدري، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وثابت بن قيس، وأبو الدرداء، وأبو هريرة، وأبو ريحانه رضي الله عنهم جميعًا.
المعنى اللغوي:
"الجمال: الحسن، والجمال: مصدر الجميل، والفعل: جَمُل.
وقوله - عز وجل -: { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) } [النحل: 6]، أي: بهاء وحسن".
قال ابن سيده: "الجمال:الحُسن ويكون في الفعل والخلق وقد جُمل الرجل بالضم جمالاً فهو جميل وجُمَال وجُمَّال"(1).
معناه في حق الله تعالى:
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في نونيته:
"وهو الجميل على الحقيقة كيف لا وجمال سائر هذه الأكوان
من بعض آثار الجميل فربها أولى وأجدر عند ذي العرفان
فجماله بالذات والأوصاف والـ أفعال والأسماء بالبرهان
لا شيء يشبه ذاته وصفاته سبحانه عن إفك ذي البهتان"(2)
ويعلق - رحمه الله تعالى - على قوله ×: (إن الله جميل...) الحديث، فيقول: "والمقصود أن هذا الحديث الشريف مشتمل على أصلين عظيمين. فأوله معرفة، وآخره سلوك، فيعرف الله سبحانه بالجمال الذي لا يماثله فيه شيء، ويعبد بالجمال الذي يحبه من الأقوال والأعمال والأخلاق، فيحب من عبده أن يجمل لسانه بالصدق، وقلبه بالإخلاص والمحبة والإنابة والتوكل، وجوارحه بالطاعة، وبدنه بإظهار نعمه عليه في لباسه وتطهيره له من الأنجاس والأحداث والأوساخ والشعور المكروهة، والختان، وتقليم الأظافر، فيعرفه بصفات الجمال ويتعرّف إليه بالأفعال والأقوال والأخلاق الجميلة فيعرفه بالجمال الذي هو وصفه ويعبده بالجمال الذي هو شرعه ودينه فجمع الحديث قاعدتين: المعرفة والسلوك"(3).
__________
(1) انظر الصحاح، ولسان العرب 1/685.
(2) نونية ابن القيم 2/214 الأبيات (3223 - 3226).
(3) الفوائدلابن القيم ص 181.(2/134)
وقال الشيخ السعدي -رحمه الله تعالى- في شرحه لأبيات ابن القيم في نونيته: "الجميل من له نعوت الحسن والإحسان، فإنه جميل في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، فلا يمكن لمخلوق أن يعبر عن بعض جمال ذاته، حتى أن أهل الجنة مع ما هم فيه من النعيم المقيم، واللذات، والسرور، والأفراح التي لا يقدر قدرها إذا رأوا ربهم، وتمتعوا بجماله نسوا ما هم فيه من النعيم، وتلاشى ما هم فيه من الأفراح، وودّوا أن لو تدوم هذه الحال، ليكتسبوا من جماله، ونوره جمالاً إلى جمالهم، وكانت قلوبهم في شوق دائم ونزوع إلى رؤية ربهم، ويفرحون بيوم المزيد فرحًا تكاد تطير له القلوب.
وكذلك هو جميل في أسمائه، فإنها كلها حسنى، بل أحسن الأسماء على الإطلاق وأجملها، قال تعالى: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } [الأعراف: 180]، وقال تعالى: { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) } [مريم: 65]، فكلها دالة على غاية الحمد، والمجد، والكمال، لايسمى باسم منقسم إلى كمال وغيره.
وكذلك هو الجميل في أوصافه؛ فإن أوصافه كلها أوصاف كمال ونعوت ثناء وحمد، فهي أوسع الصفات، وأعمّها، وأكثرها تعلقًا، خصوصًا أوصاف الرحمة، والبر، والكرم، والجود.
وكذلك أفعاله كلها جميلة فإنها دائرة بين أفعال البر والإحسان التي يحمد عليها ويثنى عليها ويشكر، وبين أفعال العدل التي يحمد عليها لموافقتها للحكمة والحمد، فليس في أفعاله عبث ولا سفه، ولا سدى ولا ظلم، كلها خير وهدى ورحمة ورشد وعدل: { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [هود: 56].
فلكماله الذي لا يحصي أحد عليه به ثناء كملت أفعاله كلها فصارت أحكامه من أحسن الأحكام، وصنعه وخلقه أحسن خلق وصنع، وأتقن ما صنعه: { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } [النمل: 88].(2/135)
وأحسن ما خلق: { الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } [السجدة: 7]، { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) } [المائدة:50].
ثم استدل المصنف(1) بدليل عقلي على جمال الباري، وأن الأكوان محتوية على أصناف الجمال، وجمالها من الله تعالى فهو الذي كساها الجمال، وأعطاها الحسن، فهو أولى منها، لأن معطي الجمال أحق بالجمال، فكل جمال في الدنيا والآخرة باطني وظاهري، خصوصًا ما يعطيه المولى لأهل الجنة من الجمال المفرط في رجالهم، ونسائهم، فلو بدا كف واحدة من الحور العين إلى الدنيا لطمس ضوء الشمس كما تطمس الشمس ضوء النجوم: أليس الذي كساهم ذلك الجمال ومنَّ عليهم بذلك الحسن والكمال أحق منهم بالجمال الذي ليس كمثله شيء؟
فهذا دليل عقلي واضح مسلم المقدمات على هذه المسألة العظيمة وعلى غيرها من صفاته، قال تعالى: { وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى } [النحل: 60].
فكل ما وجد في المخلوقات من كمال لا يستلزم نقصًا، فإن معطيه وهو الله أحق به من المعطى بما لا نسبة بينه وبينهم كما لا نسبة لذواتهم إلى ذاته، وصفاتهم إلى صفاته، فالذي أعطاهم السمع، والبصر، والحياة، والعلم، والقدرة، والجمال، أحق منهم بذلك.
وكيف يعبر أحد عن جماله وقد قال أعلم الخلق به: ( لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)(2).
وقال ×: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)(3) فسبحان الله، وتقدّس عما يقوله الظالمون النافون لكماله علوًا كبيرًا، وحسبهم مقتًا وخسارًا أنهم حرموا من الوصول إلى معرفته والابتهاج بمحبته"(4).
من آثار الإيمان باسمه سبحانه (الجميل):
__________
(1) يعني بالمصنف الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في نونيته.
(2) مسلم (486).
(3) مسلم (179).
(4) انظر توضيح الكافية الشافية ص 117، وانظر الحق الواضح المبين ص 29 - 32.(2/136)
أولاً: إثبات صفة الجمال له سبحانه على الوجه اللائق به - عز وجل - على الحقيقة بلا كيف ولا تمثيل، جمال الذات والصفات والأسماء والأفعال قال سبحانه: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) } [الشورى: 11]، قال القاضي أبو يعلى الفراء رحمه الله تعالى: "اعلم أنه غير ممتنع وصفه تعالى بالجمال وأن ذلك صفةٌ راجعة إلى الذات، لأنَّ الجمال في معنى الحُسْن، وقد تقدم في أول الكتاب قوله: (رأيتُ ربيِّ في أحسن صُورة)(1) وبيَّنَّا أنَّ ذلك صفةٌ راجعة إلى الذات كذلك ها هنا، ولأنه ليس في حمله على ظاهره ما يُحيل صفاته ولا يُخرجها عما تستحقه، لأنَّ طَريقَه الكمال والمدح، ولأنه لو لم يُوصف بالجمال جاز أنْ يُوصَفَ بضدِّه وهو القُبْح، وَلمَّا لم يجزْ أن يُوصف بضده؛ وجب أنْ يُوصف به، ألا تَرَى أنَّا وصفناه بالعلم والقدرة والكلام، لأن في نفيها إثباتُ أضدادها وذلك مستحيلٌ عليه، كذلك ها هنا.
فإن قيل: قوله: "جميل" بمعنى: مُجْمِل منْ شاء مِنْ خَلْقه، لأنَّ فعيل قد يجيء على معنى: مُفعل، ومنه قولنا: حكيمٌ، والمراد محكم لما فعله.
قيل: هذا غلطٌ، لأن الخبر وَرَد على سبب، وهو الحثُّ لهم على التَّجمُّل في صفاتهم لا على معنى التجميل في غيرهم فكان مقتضى الخبر، إنَّ الله جميلٌ في ذاته يجب أنْ تتجملوا في صفاتكم، فإذا حُمِل الخبر على فعل التجميل في الغير، عدل بالخبر عمَّا قُصِدَ به.
فإن قيل: معنى الجمال ها هنا الإحسان والإفضال، فيكون معناه: هو المظهر النعمة والفضل على مَنْ شاء من خَلْقه برحمته.
قيل: هذا غلطٌ لأنَّه قد ذَكَر الجمال والإحسان والإفضال فقال: (جميل يُحبُّ الجمالَ، وجوادٌ يحبُّ الجود، وكريمٌ يحبُّ الكرماء)(2) ، فإذا حَملنا الجمال على ذلك حُمِلَ اللفظٌ على التكرار وعلى ما لا يُفيد.
__________
(1) صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (448).
(2) لم أقف على هذه الرواية.(2/137)
وجواب آخر: وهو أن نِعَم الله ظاهرةٌ، فَحَمْلُ الخبر على هذا يُسقط فائِدة التخصيص بالجمال"(1).
ثانيًا: محبته سبحانه وتعالى لما له من كمال الجمال في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله وما يرى من جمال في خلق الله - عز وجل - هو من جماله سبحانه فحقيق بمن هذا وصفه أن يحب لذاته فليس في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله صفة نقص وذم، بل هي جميلة وحسنى وطيبة وخير كلها.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "الله سبحانه تعرف إلى عباده من أسمائه وصفاته وأفعاله بما يُوجب محبَّتهم له، فإن القلوب مفطورةٌ على محبَّة الكمال؛ ومن قام به، والله سبحانه وتعالى له الكمال المطلق من كلِّ وجهٍ؛ الذي لا نقص فيه بوجهِ ما.
وهو سبحانه (الجميل)؛ الذي لا أجمل منه، بل لو كان جمال الخلق كلِّهم على رجلٍ واحدٍ منهم؛ وكانوا جميعهم بذلك الجمال: لما كان لجمالهم قطُّ نسبة إلى جمال الله؛ بل كانت النسبة أقلَّ من نسبة سراجٍ ضعيف إلى حذاء جرم الشمس: { وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى } [النحل: 60].
ومن أسمائه الحسنى: (الجميل)، ومن أحقُّ بالجمال ممَّنْ كُلُّ جمالٍ في الوجود فهو من آثار صنعه؟ فله جمال الذات؛ وجمال الأوصاف؛ وجمال الأفعال؛ وجمال الأسماء، فأسماؤه كلُّها حسنى؛ وصفاته كلُّها كمالٌ؛ وأفعاله كلُّها جميلهٌ.
فلا يستطيع بشرٌ النظرَ إلى جلاله وجماله في هذه الدار، فإذا رأوه سبحانه في جنات عدن: أنْسَتْهُم رؤيته ما هم فيه من النعيم، فلا يلتفتون حينئذٍ إلى شيءٍ غيره"(2).
__________
(1) إبطال التأويلات لأخبار الصفات 2/465، 466، نقلاً عن النهج الأسمى للنجدي 3/38.
(2) روضة المحبيين ص 420 - 421.(2/138)
ثالثًا: الرضا بما يقدر الله - عز وجل - ويقضيه من المصائب والمكدرات، لأنه سبحانه لا يفعل إلا ما فيه الحكمة والخير لعبده المؤمن لأن كل أفعاله جميلة وما ينشأ من الفعل الجميل إلا جميل، وهذا يثمر في قلب المؤمن الطمأنينة إلى أقدار الله - عز وجل - المؤلمة، وحسن الظن بالله تعالى وذلك بعد الأخذ بالأسباب الشرعية لمدافعة ما يمكن مدافعته.
رابعًا: الشوق إلى رؤية الله - عز وجل - الذي له الجمال كله والاستعداد بالعمل الصالح المقرب إلى جنته، والتنعم بأعظم نعيم في الجنة ألا وهو رؤية الله - عز وجل - وقد كان الرسول × يكثر أن يقول في دعائه: (وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة)(1) ، وحري بالمسلم أن يتأسى بالرسول × في هذا الدعاء.
خامسًا: في قوله ×: (إن الله جميل يحب الجمال) حث على التجمل والنظافة، وهذا التجمل يشمل جمال الظاهر في الجسد واللباس من غير إسراف، كما يشمل جمال الأخلاق، وجمال الباطن في القلب وما ينطوي عليه من الأعمال القلبية الجميلة كالإخلاص والمحبة وسلامته من كل ما يدنسه ويكدره.
__________
(1) النسائي في الصلاة وصححه الألباني في صحيح النسائي (1237).(2/139)
وعن جمال الصورة واللباس يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "الجمال في الصورة واللباس والهيأة ثلاثة أنواع، منه ما يحمد، ومنه ما يذم، ومنه ما لا يتعلق به مدح ولا ذم. فالمحمود منه ما كان لله وأعان على طاعة الله وتنفيذ أوامره والاستجابة له كما كان النبي × يتجمل للوفود وهو نظير لباس آلة الحرب للقتال ولباس الحرير في الحرب والخيلاء فيه، فإن ذلك محمود إذا تضمن إعلاء كلمة الله ونصر دينه وغيظ عدوه، والمذموم منه ما كان للدنيا والرياسة والفخر والخيلاء والتوسل إلى الشهوات وأن يكون هو غاية العبد وأقصى مطلبه، فإن كثيرًا من النفوس ليس لها همة في سوى ذلك، وأما ما لا يحمد ولا يذم هو ما خلا عن هذين القصدين وتجرد عن الوصفين"(1).
- - -
الفصل الرابع
إجمال بعد التفصيل
في هذا الفصل محاولة لإجمال ما تم تفصيله مما هو متفرق في المباحث السابقة من الآثار الإيمانية والسلوكية لأسماء الله الحسنى؛ وذلك بذكر كل ثمرة من هذه الثمار في عنوان مستقل، ثم أذكر بعض الأسماء الحسنى التي تثمرها، مستشهدًا لذلك ببعض النماذج المضيئة من أحوال سلف الأمة الذين تعبدوا لله - عز وجل - بهذه الأسماء، وكيف ظهر ذلك في إيمانهم وأخلاقهم.
وقد يتكرر الاسم الواحد من أسماء الله الحسنى في أكثر من ثمرة لمناسبته فيها.
أما اسمه سبحانه (الله) فهو مقتضي لكل آثار أسمائه الحسنى؛ لأن لفظ الجلالة أصل جميع الأسماء الحسنى.
أولاً: الأسماء التي تثمر محبة الله - عز وجل - والأنس به:
__________
(1) الفوائد 181.(2/140)
من عرف الله - عز وجل - بأسمائه وصفاته أحبه محبة عظيمة لا تضاهيها محبة أخرى، ذلك أن أسماء الله - عز وجل - كلها حسنى وجميلة وجليلة وهي مقتضية للخلق والأمر. وشهود آثار أسمائه الحسنى التي مضى في هذا البحث ذكر شيء منها يورث في القلب محبة الرب العظيم ذي الجلال والإكرام، الرحمن الرحيم - ولله المثل الأعلى - لو أن مخلوقًا من الناس اجتمعت فيه صفات جميلة كالرحمة والصدق والعدل والوفاء والحكمة... إلخ، ثم كان مع ذلك محسنًا وخيره واصل لبعضهم لكان ذلك مدعاة لمحبة الناس له والثناء عليه، هذا وهو مخلوق ضعيف يعتريه النقص والجهل ومحدود الزمان والمكان والصفات فكيف بمن له كل صفات الكمال والجلال، والعظمة والجمال، والإحسان والإنعام.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "فإذا انضم داعي الإحسان والإنعام إلى داعي الكمال والجمال لم يتخلف عن محبة من هذا شأنه إلا أردأ القلوب وأخبثها وأشدها نقصًا وأبعدها من كل خير، فإن الله فطر القلوب على محبة المحسن الكامل في أوصافه وأخلاقه، وإذا كانت هذه فطرة الله التي فطر عليها قلوب عباده، فمن المعلوم أنه لا أحد أعظم إحسانًا منه سبحانه وتعالى، ولا شيء أكمل منه ولا أجمل، فكل كمال وجمال في المخلوق من آثار صنعه سبحانه وتعالى، وهو الذي لا يحد كماله ولا يوصف جلاله وجماله، ولا يحصي أحد من خلقه ثناء عليه بجميل صفاته وعظيم إحسانه وبديع أفعاله، بل هو كما أثنى على نفسه وإذا كان الكمال محبوبًا لذاته ونفسه وجب أن يكون الله هو المحبوب لذاته وصفاته؛ إذ لا شيء أكمل منه، وكل اسم من أسمائه وصفة من صفاته وأفعاله دالة عليه، فهو المحبوب المحمود على كل ما فعل وعلى كل ما أمر؛ إذ ليس في أعماله عبث ولا في أوامره سفه، بل أفعاله كلها لا تخرج عن الحكمة والمصلحة، والعدل والفضل والرحمة، وكل واحد من ذلك يستوجب الحمد والثناء والمحبة عليه"(1).
__________
(1) طريق الهجرتين 520 - 521.(2/141)
ومحبة الله - عز وجل - ليست كلامًا يدعى وإنما هي عند الصادقين فيها معنى يجمع بين قوة الإخلاص لله تعالى وقوة المتابعة لرسول الله × ظاهرًا وباطنًا، قال الله عز وجل: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) } [آل عمران: 31].
يقول ابن كثير - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية: "هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله، وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله وأحواله كما ثبت في الصحيح عن رسول الله × أنه قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)(1)، ولهذا قال: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } ، أي: يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه، وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول، كما قال بعض الحكماء العلماء: ليس الشأن أن تحب، إنما الشأن أن تُحَب، وقال الحسن البصري وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية، فقال: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } (2).
__________
(1) البخاري (2697)، مسلم (1718).
(2) تفسير ابن كثير عند الآية 31.(2/142)
ومع أن جميع أسماء الله الحسنى تقتضي محبة الله - عز وجل - إلا أنه يمكن اختصاص الأسماء التي يظهر فيها ذلك بصورة جلية مباشرة كما مر بنا في ثنايا البحث ومن هذه الأسماء: [الله جل جلاله - الرب الرحمن الرحيم - الأول، الآخر - القدوس، السبوح - الحي القيوم - السلام - المؤمن - اللطيف - الحكيم - البر - الكريم الأكرم - الغفور، الغفار - العفو - الرؤوف - الصمد - الحليم - الودود - الشاكر والشكور - المولى - النصير - الخالق، البارئ ، المصور - الحافظ، الحفيظ، المقيت، الرزاق، الرازق، الحميد، المجيد - الواسع - الفتاح - الطبيب- الشافي - الجواد - الغني- المحسن - الجميل - المعطي- الوهاب - المنان- التواب - الوكيل، الكفيل، القريب - المجيب - الحيي - الستير - الرفيق - الباسط].
نماذج من أحوال السلف - رحمهم الله تعالى - تظهر فيها عبودية المحبة لله عز وجل:
(1) يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "وأما محبة الرب سبحانه فشأنها غير هذا الشأن، فإنه لا شيء أحب إلى القلوب من خالقها وفاطرها، فهو إلهها ومعبودها، ووليها ومولاها، وربُّها ومدبرها ورازقها، ومميتها ومحييها، فمحبته نعيم النفوس، وحياة الأرواح، وسرور النفوس، وقوت القلوب، ونور العقول، وقرة العيون، وعمارة الباطن. فليس عند القلوب السليمة والأرواح الطيبة، والعقول الزاكية أحلى، ولا ألذ، ولا أطيب، ولا أسر، ولا أنعم من محبته والأنس به، والشوق إلى لقائه، والحلاوة التي يجدها المؤمن في قلبه بذلك فوق كل حلاوة، والنعيم الذي يحصل له بذلك أتَمُّ من كل نعيم، واللذة التي تَناله أعلى من كل لذة. كما أخبر بعض الواجدين عن حاله بقوله: "إنه لَيَمُرُّ بالقلب أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا، إنهم لفي عيش طيب".
وقال آخر: "إنه ليمر بالقلب أوقات يَهتزُّ فيها طَرَبًا بأُنسه بالله وحبه له".
وقال آخر: "مساكينُ أهل الغفلة، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها".(2/143)
وقال آخر: "لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف".
وَوُجْدَانُ هذه الأمور وذَوْقُها هو بحسب قوة المحبة وضعفها، وبحسب إدراك جمال المحبوب والقرب منه، وكلما كانت المحبة أكمل ، وإدراك المحبوب أتمّ ، والقرب منه أوفر، كانت الحلاوة واللذة والسرور والنعيم أقوى.
فمن كان بالله سبحانه وأسمائه وصفاته أعرف، وفيه أرغب، وله أحب، وإليه أقرب، وجد هذه الحلاوة في قلبه ما لا يمكن التعبير عنه"(1).
(2) وعن مالك بن دينار قال: "إن القلب المحب لله يحب النصب لله عز وجل"(2).
(3) سأل رجل فضيل بن عياض فقال: يا أبا علي، متى يبلغ الرجل غايته من حب الله تعالى؟ فقال له الفضيل: "إذا كان عطاؤه ومنعه إياك عندك سواء فقد بلغت الغاية من حبه"(3).
(4) سُئِل المرتعش: بماذا ينال العبد المحبة؟ قال: "بموالاة أولياء الله ومعاداة أعداء الله"(4).
(5) قال عامر بن عبدالله: "أحببت الله - عز وجل - حبًا سهَّل عليَّ كل مصيبة، ورضَّاني في كل قضية، فما أبالي مع حبي إياه ما أصبحت عليه وما أمسيت" (5).
ثانيًا: الأسماء التي تثمر قوة الرجاء في الله - عز وجل- والطمأنينة إلى روحه سبحانه وحسن الظن به:
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "فقوة الرجاء على حسب قوة المعرفة بالله سبحانه وأسمائه وصفاته، وغلبة رحمته غضبه، ولولا روح الرجاء لعطلت عبودية القلب والجوارح..، بل لولا روح الرجاء لما تحركت الجوارح بالطاعة ولولا ريحه الطيبة لما جرت سفن الأعمال في بحر الإرادت"(6).
__________
(1) إغاثة اللهفان 1/197، 198.
(2) الحلية 2/363.
(3) الحلية 8/113.
(4) سير أعلام النبلاء 15/231.
(5) حلية الأولياء 2/89.
(6) مدارج السالكين 2/42.(2/144)
ومن الأسماء الحسنى التي تبعث على قوة الرجاء والأنس بالله - عز وجل -: [الرحمن، الرحيم، البر، المحسن، اللطيف، الودود، الغفور، الغفار، الرؤوف، العفو، التواب، الفتاح، الواسع، الرفيق، القريب، المجيب، العليم الحكيم، السلام].
والرجاء لا يتصور من مفرط مسرف مقيم على مساخط الله تعالى، آخذ بأسباب الهلاك، بل إنه لا يكون إلا مع انعقاد أسباب النجاة... وهذا ما يقرره ابن القيم - رحمه الله تعالى - حيث يقول: "حسن الظن إنما يكون مع انعقاد أسباب النجاة، وأما مع انعقاد أسباب الهلاك فلا يتأتى إحسان الظن فإن قيل: بل يتأتَّى ذلك؛ ويكون مستند حسن الظنِّ: سعة مغفرة الله ورحمته وعفوه وجوده؛ وأن رحمته سبقت غضبه؛ وأنه لا تنفعه العقوبة ولا يضرُّه العفو.
قيل: الأمر هكذا، والله فوق ذلك، وأجلُّ وأكرم؛ وأجود وأرحم، ولكن إنما يضع ذلك في محلِّه اللائق به، فإنه سبحانه موصوفٌ بالحكمة والعِزَّة والانتقام وشِدَّة البطش؛ وعقوبة من يستحقُّ العقوبة، فلو كان مُعَوَّل حسن الظنِّ على مجرَّد صفاته وأسمائه: لاشترك في ذلك البرُّ والفاجر؛ والمؤمن والكافر؛ ووليُّه وعدوُّه.
فما ينفع المجرمَ أسماؤُه وصفاتُه وقد باء بسخطه وغضبه؛ وتَعَرَّض لِلَعْنَتِه؛ وأوقع في محارمه؛ وانتهك حرماته؟ بل حسن الظنِّ ينفع من تاب وندم وأقلع، وبَدّل السيئة بالحسنة، واستقبل بقيَّة عُمُره بالخير والطاعة، ثم أحسن الظنَّ، فهذا حُسْنُ ظنِّ، والأول غرورٌ، والله المستعان.(2/145)
ولا تستطل هذا الفصل؛ فإن الحاجة إليه شديدةٌ لكلِّ أحدٍ، فَفَرْق بين حسن الظن بالله وبين الغرة؛ قال الله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ } [البقرة: 218]، فجعل هؤلاء أهل الرجاء لا الظالمين، وقال تعالى: { ثُمَّ إِن رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِن رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) } [النحل: 110]، فأخبر سبحانه أنه بعد هذه الأشياء غفور رحيم لمن فعلها، فالعالم يضع الرجاء مواضعه، والجاهل المغتر يضعه في غير مواضعه"(1).
نماذج من أحوال السلف تظهر فيها عبودية الرجاء وحسن الظن بالله عز وجل:
(1) لما حضر معاذ بن جبل - رضي الله عنه - الموت قال: "انظروا أصبحنا؟ فأُتيَ فقيل: لم تصبح، فقال: انظروا أصبحنا؟ فأتى فقيل له: لم تصبح حتى أتى في بعض ذلك فقيل: قد أصبحت. قال: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار، مرحبًا بالموت مرحبًا، زائر مغب، حبيب جاء على فاقة، اللَّهم إني قد كنت أخافك فأنا اليوم أرجوك، اللَّهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، ولكن لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالرُّكب عند حلق الذكر"(2).
(2) عن معاذ بن معاذ قال: "ما رأيت أحدًا أعظم رجاء لأهل الإسلام من ابن عون؛ لقد ذكر له الحجاج وأنا شاهد فقيل: إنهم يزعمون أنك مستغفر للحجاج فقال: ما لي لا أستعفر للحجاج من بين الناس؟ وما بيني وبينه؟ وما كنت أُبالي أن أستغفر له الساعة قال معاذ: وكان إذا ذكر عنده الرجل بعيب قال: إن الله تعالى رحيم"(3).
__________
(1) الجواب الكافي ص 36 - 37.
(2) حلية الأولياء 1/239.
(3) نفس المصدر 3/41.(2/146)
(3) قال محمد بن يحيى الذهلي: "سألت الخريبي عن التوكل، فقال: أرى التوكل حسن الظن بالله عز وجل"(1).
(4) عاد حماد بن سلمة سفيان الثوري فقال سفيان: "يا أبا سلمة، أترى الله يغفر لمثلي؟ فقال حماد: والله لو خيرت بين محاسبة الله إياي وبين محاسبة أبوي لاخترت محاسبة الله، وذلك لأن الله أرحم بي من أبوي"(2).
(5) وقال ابن عيينة: "تَبِعَ ابنُ المنكدر جِنازة سفيهٍ، فعُوتب، فقال: إني والله لأستحي من الله أن أرى رحمته عجزت عن أحد"(3).
ثالثًا: الأسماء التي تثمر عبودية التوكل على الله عز وجل وصدق التعلق به سبحانه:
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "إن التوكل حال مركبة من مجموع أمور لا تتم حقيقة التوكل إلا بها... فأول ذلك: معرفة بالرب وصفاته من قدرته وكفايته وقيوميته وانتهاء الأمور إلى علمه وصدورها عن مشيئته وقدرته. وهذه المعرفة أول درجة يضع بها العبد قدمه في مقام التوكل - إلى أن قال رحمه الله تعالى - والتوكل من أعظم المقامات متعلقًا بالأسماء الحسنى، فإنه له تعلقًا خاصًا بعامة أسماء الأفعال وأسماء الصفات فله تعلق باسم (الغفار، والتواب، والعفو، والرؤوف، والرحيم) وتعلق باسم (الفتاح، والوهاب، والرزاق، والمعطي، والمحسن)"(4).
ويضاف إلى ما ذكره رحمه الله تعالى أسماؤه: (الحكيم، الجواد، المنان، القوي، العزيز، الحي، القيوم، القدير، المجيد، الصمد، المقيت، الشافي، الأول، الآخر، الوكيل، الغني الرزاق، الكفيل، الحفيظ، اللطيف، الحسيب).
نماذج من أحوال السلف التي تظهر فيها عبودية التوكل على الله عز وجل:
__________
(1) سير أعلام النبلاء 9/349.
(2) نفس المصدر 7/449.
(3) سير أعلام النبلاء 5/559.
(4) مدارج السالكين 2/117، 118.(2/147)
1- عن محمد بن حماد بن المبارك قال: قال رجل لمعروف: أوصني قال: توكل على الله حتى يكون جليسك وأنيسك وموضع شكواك، وأكثر ذكر الموت حتى لا يكون لك جليس غيره، واعلم أن الشفاء لما نزل بك: كتمانه، وأن الناس لا ينفعونك ولا يضرونك، ولا يعطونك ولا يمنعونك(1).
2- وعن عبد الله بن خبيق قال: سمعت إبراهيم البكاء يقول: قلت لمعروف الكرخي: أوصني. فقال: توكل على الله - عز وجل - حتى يكون هو مُعلّمُك وموضع شكواك؛ فإن الناس لا ينفعونك ولا يضرونك(2).
3- قيل لحاتم الأصم على ما بنيت أمرك في التوكل؟ قال: على خصال أربع: علمت أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنت به نفسي، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتي بغتة فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلو من عين الله فأنا مستحيي منه(3).
4- قال شقيق البلخي لحاتم الأصم: مذ صحبتني أي شيء تعلمت مني قال: ست كلمات: رأيت الناس في شك من أمر الرزق فتوكلت على الله، قال الله تعالى: { * وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا } [هود:6]، إلى آخر ما قال"(4).
رابعًا: الأسماء التي تثمر عبودية المراقبة والإخلاص لله - عز وجل - والحياء منه سبحانه:
__________
(1) صفة الصفوة 2/321.
(2) شعب الإيمان 2/111.
(3) سير أعلام النبلاء 11/485.
(4) المصدر السابق 11/486.(2/148)
إن علم العبد بعلم الله - عز وجل - الذي لا تخفى عليه خافية، وبشهوده ومراقبته لعباده، وبسمعه لأصواتهم ما أعلنوا منها وما أسروا، وببصره سبحانه الذي لا يحجبه شيء، وبخبرته التي يعلم بها مكنونات القلوب وخفايا المقاصد والنوايا، إن ذلك كله يثمر في قلب العبد مراقبة ربه سبحانه فلا يكون على حال ظاهرة أو باطنة تسخط الله - عز وجل - وهذا الإيمان إذا تمكن في قلب العبد أثمر فيه الإخلاص لله تعالى في جميع الأقوال والأعمال، وانتفى من العبد الرياء وإرادة الدنيا بأعماله وأقواله، كما يثمر مراقبة ربه سبحانه بأن لا يكون في حال تسخط الله - عز وجل - وأن لا يكون في القلب من الخواطر والأفكار إلا ما يحبه الله عز وجل.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "وإذا تجلَّى سبحانه بصفة السمع والبصر والعلم، انبعث من العبد قوة الحياء، فيستحي من ربه أن يراه على ما يكره، أو يسمع منه ما يكره، أو يُخفي في سريرته ما يمقته عليه، فتبقى حركاته وأقواله وخواطره موزونة بميزان الشرع غير مهملة ولا مرسلة تحت حكم الطبيعة والهوى"(1).
ويقول أيضًا: "المراقبة: دوام علم العبد ويقينه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه فاستدامته لهذا العلم واليقين هي المراقبة، وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه رقيب عليه، ناظر إليه، سامع لقوله، وهو مطلع على عمله كل وقت وكل لحظة وكل نفس وكل طرفة عين"(2).
والمراقبة والإخلاص والحياء من الله - عز وجل - هي ثمرة التعبد بأسمائه سبحانه: (السميع، العليم، الرقيب، المحيط، البصير، الخبير، الرقيب، الشهيد، الحفيظ، المهيمن، الباطن، القيوم، القريب، اللطيف).
نماذج من أحوال السلف - رحمهم الله تعالى - التي تظهر فيها عبودية المراقبة لله - عز وجل - والإخلاص له سبحانه والحياء منه:
__________
(1) طريق الهجرتين ص 134 .
(2) مدارج السالكين 2/65.(2/149)
1- قال حميد الطويل لسليمان بن علي: عظني، فقال: "لئن كنت إذا عصيت الله خاليًا ظننت أنه يراك لقد اجترأت على أمر عظيم، ولئن كنت تظن أنه لا يراك فلقد كفرت"(1).
2- عن الفضيل بن عياض قال: "المؤمن يحاسب نفسه، ويعلم أن له موقفًا بين يدي الله تعالى، والمنافق يغفل عن نفسه، فرحم الله عبدًا نظر لنفسه قبل نزول ملك الموت به"(2).
3- وقال أبو حفص لأبي عثمان النيسابوري: "إذا جلست للناس فكن واعظًا لقلبك ونفسك، ولا يغرنك اجتماعهم عليك، فإنهم يراقبون ظاهرك، والله يراقب باطنك"(3).
4- عن الحسن بن علي العابد قال: "سمعت حاتمًا الأصم، وقد سأله سائل، على أي شيء بنيت أمرك؟ فقال: على أربع خصال: على أني لا أخرج من الدنيا حتى أستكمل رزقي، وعلى أن رزقي لا يأكله غيري، وعلى أن أجلي لا أدري متى هو، وعلى أن لا أغيب عن الله طرفة عين"(4).
5- وقال ابن خُبيق: "قال لي حذيفة المرعشي: إنما هي أربعة، عيناك، ولسانك، وهَوَاك، وقلبك، فانظر عَيْنيك لا تنظر بهما إلى ما لا يحل لك، وانظُر لسانك لا تقُل به شيئًا يعلم الله خلافه من قلبك، وانظر قلبك لا يُكن فيه غِلّ ولا دغل على أحد من المسلمين، وانظر هواك لا تهوى شيئًا يسخط الله، فما لم تكن فيك هذه الأربع الخصال فالرّماد على رأسك"(5).
__________
(1) إحياء علوم الدين 4/398.
(2) تاريخ بغداد 4/184.
(3) مدارج السالكين 2/66.
(4) تاريخ بغداد 8/243.
(5) صفة الصفوة 4/268.(2/150)
6- قال أحمد بن أبي الحواري: "صحبت أبا سليمان طول ما صحبته فما انتفعت بكلمة أقوى علي وأهدى لرشدي، وأدل على الطريق من هذه الكلمة، قلت له في ابتداء أمري: أوصني. فقال: أمستوص أنت؟ قلت: نعم إن شاء الله. قال: خالف نفسك في كل مراداتها؛ فإنها الأمّارة بالسوء، وإياك أن تحقر أحدًا من المسلمين، واجعل طاعة الله دثارًا، والخوف منه شعارًا، والإخلاص زادًا، والصدق جُنةً، واقبل مني هذه الكلمة الواحدة ولا تفارقها ولا تغفل عنها: إنه من استحيا من الله - عز وجل - في كل أوقاته وأحواله وأفعاله بلّغة إلى مقام الأولياء من عباده، فجعلت هذه الكلمات أمامي، ففي كل وقت أذكرها وأطالب نفسي بها"(1).
7- صام داود الطائي أربعين سنة ما علم به أهله، وكان خرازًا، وكان يحمل غداءه معه، ويتصدق به في الطريق، ويرجع إلى أهله يفطر عشاء لا يعلمون أنه صائم(2).
8- عن ابن المبارك قال: "ما رأيت رجلاً ارتفع، مثل مالك بن أنس، ليس له كثير صلاة ولا صيام، إلا أن تكون له سريرة"(3).
9- وعن عبد الله بن مبارك قال: "قيل لحمدون بن أحمد: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا قال: لأنهم تكلَّموا لعِزّ الإسلام ونجاة النفوس ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لعز النفوس وطلب الدنيا ورضا الخلق"(4).
10- يروى أن ابن عمر - رضي الله عنهما - لقي غلامًا يرعى الغنم، "فسأله أن يبيعه رأسًا منها، فقال الغلام: الغنم ليست لي، كما أن صاحبها لم يأذن لي ببيعها، قال ابن عمر: فبعني رأسًا منها واحتفظ بالثمن لنفسك وقل لصحابها أن ذئبًا قد اختطفها ، قال الراعي: فأين الله إذًا".
12- عن حاتم الأصم قال: "تعاهد نفسك في ثلاث: إذا عملت فاذكر نظر الله إليك، وإذا تكلمت فاذكر سمع الله منك، وإذا سكت فاذكر علم الله فيك"(5).
__________
(1) تهذيب الكمال 1/373.
(2) تاريخ بغداد 8/350.
(3) تاريخ بغداد 6/330.
(4) صفة الصفوة 4/122.
(5) سير أعلام النبلاء 11/486.(2/151)
13- عن حاتم الأصم قال: "لو أن صاحب خبر جلس إليك لكنت تحترز منه وكلامك يعرض على الله فلا تحترز"(1).
خامسًا: الأسماء التي تثمر عبودية الخوف منه - عز وجل - والخشية من عقابه:
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "كلما ازدادت معرفة العبد بربه ازدادت هيبته له وخشيته إياه كما قال الله تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [فاطر: 28]، أي العلماء به، وقال النبي ×: (أنا أعرفكم بالله وأشدكم له خشية) (2)،(3).
ويقول ابن عباس- رضي الله عنهما - عند قوله تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } ، "إنما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزتي وسلطاني"(4).
وأسماء الله الحسنى التي تبعث الخوف في قلب المؤمن هي التي تتضمن عظمة الله وإجلاله، وقهره وقدرته ومطلق إرادته كاسمه سبحانه: (العظيم، القدير، القاهر، العزيز، المحيط، الكبير، القوى، المتين، العلي، الأعلى، الجبار).
وكذلك أسماؤه سبحانه التي تتضمن معرفته سبحانه وإحاطته وعلمه ورقابته وشهوده كاسمه سبحانه: (العليم، الخبير، السميع، البصير، الرقيب، الشهيد، الحفيظ)، وكما يبعث الخوف في قلب المؤمن أسماؤه سبحانه التي تتضمن عدله وعذابه وشدة انتقامه ممن عصاه، وذلك كأسمائه سبحانه: (الديان، الحكم، الحسيب)، فإذا شهد العبد عظمة الله وإجلاله وقهره وقدرته، وكذلك إحاطته وعلمه ورقابته وسمعه وبصره، وكذلك حكمه الجزائي، وعدله وشدة انتقامه قام في القلب الخوف منه سبحانه والخشية والوجل من عقابه، وأثمر ذلك المسارعة إلى طاعته والانقباض عن أسباب سخطه وعقابه.
نماذج من أحوال السلف في خوف من الله -عز وجل -والخشية من عقابه:
__________
(1) سير أعلام النبلاء 11/487.
(2) البخاري (6101)، ومسلم (2356)، بلفظ (إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية).
(3) روضة المحبين (406).
(4) زاد المسير 6/486.(2/152)
1- عن ابن شوذب قال: لما حضرت أبا هريرة - رضي الله عنه - الوفاة بكى فقيل له: "ما يبكيك؟ فقال: بُعد المفازة وقلة الزاد وعقبة كؤودٌ، المهبِطُ منها إلى الجنة أو النار"(1).
2- وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه دخل على عمر - رضي الله عنه - حين طعن فقال: "أبشر يا أمير المؤمنين، أسلمت مع رسول الله حين كفر الناس، وقاتلت مع رسول الله حين خذله يعني الناس، وتوفى رسول الله وهو عنك راض، ولم يختلف في خلافتك رجلان، فقال عمر: أعد، فأعدت فقال عمر: المغرور من غررتموه، لو أن لي ما على ظهرها من بيضاء وصفراء لافتديت به من هول المطلع"(2).
3- وعن القاسم بن معين أن أبا حنيفة قام ليلة بهذه الآية: " { بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) } [القمر: 46]، يرددها، ويبكي، ويتضرع"(3).
4- وعن أبي زكريا يحيى بن معاذ الرازي قال: "مسكين ابن آدم لو خاف النار كما يخاف الفقر دخل الجنة"(4).
5- وعن القاسم بن محمد قال: "كنا نسافر مع ابن المبارك فكثيرًا ما كان يخطر ببالي فأقول في نفسي: بأيّ شيٍ فُضِّل هذا الرجل علينا حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة؟ إن كان يصلي إنَّا لنصلي، ولئن كان يصوم إنَّا لنصوم، وإنْ كان يغزُو فإنا لنغزو، وإن كان يحج إنَّا لنحجَّ". قال: فكنَّا في بعض مَسيرنا في طرق الشام ليلة نتعشى في بيتٍ إذ طفئ السراجُ فقام بعضنا فأخذ السراج وخرج يَستصبح فمكث هنيهة ثم جاء بالسّراج فنظرتُ إلى وجه ابن المبارك ولحيته قد ابتلَّت من الدموع، فقلت في نفسي: بهذه الخشية فُضِّل هذا الرجل علينا، ولعله حين فقد السراج فصار إلى الظُلمة ذكر القيامة"(5).
__________
(1) صفة الصفوة 1/694.
(2) تاريخ بغداد 7/325.
(3) تاريخ بغداد 13/357.
(4) المصدر السابق 14/212.
(5) صفة الصفوة 4/145.(2/153)
6- عن أبي عبد الرحمن الأسدي قال: "قلت: لسعيد بن عبد العزيز ما هذا البكاء الذي يعرض لك في الصلاة؟ فقال: يا ابن أخي وما سؤالك عن ذلك؟ قلت: لعل الله أن ينفعني به، فقال: ما قمت إلى صلاة إلا مثلت لي جهنم".
وقال إسحاق بن إبراهيم: "كنت أسمع وقع دموع سعيد بن عبد العزيز على الحصير في الصلاة"(1).
7- وقال أحمد بن إبراهيم الدورقي: "حدثنا يحيى بن الفضل الأنيسي، سمعت بعض من يذكر عن محمد بن المنكدر، أنه بينا هو ذات ليلة قائم يُصلي، إذ استبكى، فكثر بكاؤه حتى فَزِعَ له أهله، وسألوه، فاستعجم عليهم، وتمادى في البكاء، فأرسلوا إلى أبي حازم فجاء إليه، فقال: ما الذي أبكاك؟ قال: مَرَّتْ بي آية، قال: ما هي؟ قال: { وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) } [الزمر: 47] فبكى أبو حازم معه، فاشتد بُكاؤُهما"(2).
سادسًا: الأسماء التي تثمر عبودية الصبر والرضى بحكمه والاستسلام لأمره.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "من صحت له معرفة ربه والفقه في أسمائه وصفاته علم يقينًا أن المكروهات التي تصيبه والمحن التي تنزل به فيها من ضروب المصالح التي لا يحصيها علمه ولا فكرته"(3)، وهذا يعين على الصبر والرضى والاستسلام لحكم الله - عز وجل - ومن الأسماء الحسنى التي تثمر عبودية الصبر والرضى بحكم الله تعالى: (اللطيف، الحكيم، العليم، الخبير، البر، الرحيم، القيوم، الرب، الوكيل، القدوس، السلام، المؤمن، الطيب، الحميد، الجميل).
نماذج من أحوال السلف - رحمهم الله تعالى - في ظهور آثار أسماء الله الحسنى في صبرهم وتسليمهم لحكم الله تعالى:
__________
(1) سير أعلام النبلاء 8/34.
(2) السير 5/355.
(3) الفوائد ص 85.(2/154)
1- قال المبرد: "قيل للحسن بن علي: إن أبا ذر يقول: الفقر أحب إلي من الغنى، والسقم أحب إلي من الصحة، فقال: رحم الله أبا ذر، أما أنا فأقول: من اتكل على حسن اختيار الله له لم يتمن شيئًا. وهذا حدُّ الوقوف على الرضا بما تصرف به القضاء"(1).
2- وعن مكحول الأزدي، قال: سمعت ابن عمر - رضي لله عنهما - يقول: "إن الرجل يستخير الله تبارك وتعالى؛ فيختار له فيسخط على ربه - عز وجل -! فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو خير له"(2).
3- اجتمع وهيب بن الورد، وسفيان الثوري، ويوسف بن أسباط. فقال الثوري: "قد كنت أكره موت الفجاءة قبل اليوم، وأما اليوم: فوددت أني ميت، فقال له يوسف بن أسباط: ولم؟ فقال: لما أتخوف من الفتنة.
فقال يوسف: لكني لا أكره طول البقاء. فقال الثوري: ولم تكره الموت؟ فقال: لعلي أصادف يومًا أتوب فيه وأعمل صالحًا. فقيل لوهيب: أي شيء تقول أنت ؟ فقال: أنا لا أختار شيئًا؛ أحب ذلك إليَّ أحبه إلى الله.
فقبَّل الثوري بين عينيه. وقال: روحانية ورب الكعبة"(3).
4- وقال الذهبي في ترجمته لأبي بكر النابلسي: قال أبو ذرٍّ الحافظ: سَجَنَه بنو عُبيد، وصلَبُوه على السنّة، سمعتُ الدَّارقُطنيَّ يذكُرُه، ويَبْكي، ويقول: كان يقول وهو يُسلخ: "كان ذلك في الكتاب مسطورًا"(4).
__________
(1) سير أعلام النبلاء 3/262.
(2) الزهد لابن المبارك ص 32.
(3) مدارج السالكين 2/215.
(4) سير أعلام النبلاء 16/148.(2/155)
5- وعن أبي عبد الله الصوفي قال: "كتب رجل إلى أخٍ له: أما بعد، فإني أوصيك بتقوى الله - عز وجل - والرضى بالقدر، والتسليم لما علم الجبار من مكنون الأجل ومقسوم الرزق؛ فإن الله - عز وجل - جعل لكل نفس رزقًا موصوفًا ليس لشيء منه إلى غيرها منصرف، فلا يشغلك الرزق المضمون لك عن العمل المفروض عليك، فقد شغلت رجالاً أتعبت أبدانهم، وطالت أسفارهم ثم لم يزيدوا ولم يزدادوا على المقسوم لهم رزقًا، رزقنا الله وإياك القنوع والرضاء؛ فإنه من رضي قنع، ومن قنع رضي بقسم الله - عز وجل - والسلام"(1).
6- وقال مصطفى السباعي رحمه الله تعالى: "ربما كان فيما تستعجل من الخلاص من الآلام والأمراض تعرض لمحنة أقسا وبلاء أشد، فلا تستبطئ وعد ربك بالرحمة، فإنه وعدك بما يراه هو رحمة لك، لا بما تراه أنت رحمة، والله يعلم وأنتم لا تعلمون"(2).
سابعًا: الأسماء التي تثمر عبودية الشكر له - عز وجل - والحياء منه سبحانه:
وما أكثر أسماء الله الحسنى التي تبعث في قلب المؤمن شكره لربه وحمده، والاعتراف بآلائه ومننه وعطائه، ومن هذه الأسماء: (الرب، الحي، القيوم، الرزاق، الوهاب، المعطي، المنان، الجواد، البر، الرحمن، الرحيم، المقيت، الوكيل، الكفيل، الشافي، الشاكر، الشكور، الحليم، الرؤوف، العفو، الكريم، الكافي، الباسط، اللطيف، الحيي، المجيب). والشكر الصادق يثمر للعبد عبوديات أخرى كالمحبة والتعظيم والإجلال والمسارعة في مرضات الله - عز وجل - والبعد عن مساخطه.
نماذج من أحوال السلف رحمهم الله تعالى يظهر فيها آثار هذه الأسماء من عبودية الشكر لله تعالى:
__________
(1) صلاح المال لابن أبي الدنيا ص 480.
(2) هكذا علمتني الحياة 1/124.(2/156)
1- عن علي بن عبد الرحمن قال: "كتب بعض الحكماء إلى أخٍ له: أما بعد يا أخي، فقد أصبح بنا من نعم الله - عز وجل - ما لا نحصيه مع كثرة ما نعصيه، فما ندري أيها نشكر: أجميل ما ظهر أم قبيح ما ستر"؟(1) .
2- وعن بكر بن عبدالله المزني قال: "لقيت أخًا لي من إخواني الضعفاء، فقلت: يا أخي أوصني، فقال: ما أدري ما أقول، غير أنه ينبغي لهذا العبد أن لا يفتر عن الحمد والاستغفار، وابن آدم بين نعمة وذنب، ولا تصلح النعمة إلا بالحمد والشكر، ولا الذنب إلا بالتوبة والاستغفار. قال: فأوسعني علمًا ما شئتُ"(2).
3- عن عبدالله بن الحسن السكري البغدادي قال: "سمعت علي بن خشرم يقول: كتب إليّ بشر بن الحارث أبو نصر: إلى أبي الحسن علي ابن خشرم: السلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإني أسأل الله أن يتم ما بنا وبكم من نعمة، وأن يرزقنا وإياكم الشكر على إحسانه، وأن يميتنا ويحيينا وإياكم على الإسلام، وأن يسلم لنا ولكم خلفًا من تلف، وعوضًا من كل رزية"(3).
4- عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين قال: "لما قال سفيان الثوري: لا أقوم حتى تحدثني، قال له: أنا أحدثك، وما كثرة الحديث لك بخير؛ يا سفيان، إذا أنعم الله عليك بنعمة، فأحببت بقاءها ودوامها: فأكثر من الحمد والشكر عليها، فإن الله - عز وجل - قال في كتابه: { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ } [إبراهيم: 7]"(4).
5- عن سليم بن منصور بن عمار قال: "سمعت أبي يقول: دخلت على المنصور أمير المؤمنين، فقال لي: يا منصور عظني وأوجز. فقلت: إن من حق المنِعم على المنعَم عليه أن لا يجعل ما أنعم به عليه سببًا لمعصيته. فقال: أحسنت وأوجزت"(5).
__________
(1) الشكر لابن أبي الدنيا ص 194.
(2) الشكر لابن أبي الدنيا ص 150.
(3) حلية الأولياء 8/341.
(4) المصدر السابق 3/193.
(5) تاريخ دمشق 60/340.(2/157)
6- عن أبي عبد الله الرازي قال: "قال لي سفيان بن عيينة: يا أبا عبد الله إن من شُكر الله على النعمة أن نحمده عليها، ونستعين بها على طاعته فما شكر الله من استعان بنعمته على معصيته"(1).
7- أكل سفيان الثوري ليلة فشبع فقال: "إن الحمار إذا زيد في علفه زيد في عمله فقام حتى أصبح"(2).
8- قال رجل لأبي حازم: "ما شكر العينين؟ فقال: إن رأيت بهما خيرًا أعلنته، وإن رأيت بهما شرًا سترته، قال: فما شكر الأذنين؟ قال: إن سمعت بهما خيرًا وعيته، وإن سمعت بهما شرًا دفنته، قال: ما شكر اليدين. قال: لا تأخذ بهما ما ليس لك، ولا تمنع حقًا لله هو فيهما، قال وما شكر البطن. قال: أن يكون أسفله طعامًا وأعلاه علمًا، قال وما شكر الفرج؟ قال كما قال الله تعالى: { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } إلى قوله: { فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) } [المؤمنون: 5 - 7] ، قال: فما شكر الرجلين؟ قال: إن رأيت ميتًا غبطته استعملت بهما عمله، وإن رأيت ميتًا مقته كففتهما عن عمله وأنت شاكر لله - عز وجل -، فأما من يشكر بلسانه ولم يشكر بجميع أعضائه فمثله كمثل رجل له كساء فأخذ بطرفه ولم يلبسه، فلم ينفعه ذلك من الحر والبرد والثلج والمطر"(3).
__________
(1) حلية الأولياء 7/278.
(2) تاريخ بغداد /158.
(3) حلية الأولياء 3/243.(2/158)
9- عن عبد الله بن أبي نوح قال: قال رجل لي: "كم عاملته تبارك اسمه بما يكره فعاملك بما تحب؟ قلت: ما أحصي ذلك كثرة، قال: فهل قصدت إليه في أمر كربك فخذلك؟ قلت: لا والله، ولكنه أحسن إلي وأعانني، قال: فهل سألته شيئًا قط فما أعطاك؟ قلت: وهل منعني شيئًا سألته؟ ما سألته شيئًا قط إلا أعطاني، ولا استعنت به إلا أعانني، قال: أرأيت لو أن بعض بني آدم فعل بك بعض هذه الخلال ما كان جزاؤه عندك؟ قلت: ما كنت أقدر له على مكافأة ولا جزاء، قال: فربك تعالى أحق وأحرى أن تدأب نفسك في أداء شكر نعمه عليك، وهو قديمًا وحديثًا يحسن إليك، والله لشكره أيسر من مكافأة عباده، إنه تبارك وتعالى رضي بالحمد من العباد شكرًا"(1).
ثامنًا: الأسماء التي تثمر عبودية الإجلال والتعظيم والأدب مع الله عز وجل:
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "على قدر المعرفة يكون تعظيم الرب تعالى في القلب. وأعرف الناس به أشدهم له تعظيمًا وإجلالاً.
وقد ذم الله تعالى من لم يعظمه حق عظمته، ولا عرفه حق معرفته، ولا وصفه حق صفته؛ وأقوالهم تدور على هذا. فقال تعالى: { مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) } [نوح: 13].
قال ابن عباس ومجاهد: "لا ترجون لله عظمة".
وقال سعيد بن جبير: "ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته؟".
وقال الكلبي: "لا تخافون لله عظمة".
قال البغوي: "والرجاء بمعنى الخوف، والوقار: العظمة؛ اسم من التوقير، وهو التعظيم".
وقال الحسن: "لا تعرفون لله حقّاً، ولا تشكرون له نعمة".
وقال ابن كيسان: "لا ترجون في عبادة الله أن يثيبكم على توقيركم إياه خيرًا".
وروح العبادة: هو الإجلال والمحبة؛ فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت، فإذا اقترن بهذين الثناء على المحبوب المعظم، فذلك حقيقة الحمد، والله سبحانه أعلم"(2).
__________
(1) حلية الأولياء 6/298، 299.
(2) مدارج السالكين 2/495.(2/159)
ومن الأسماء الحسنى التي تبعث في القلب تعظيم الرب سبحانه وإجلاله والأدب معه: (الحي، القيوم، الظاهر، الباطن، الرب، السيد، القاهر، العظيم، الكبير، الجبار، العلي، المحيط، الملك، القوي، العزيز، القدير، الواسع، الحميد، المجيد، المهيمن، المتكبر).
نماذج من أحوال السلف رحمهم الله تعالى يظهر فيها تعبدهم لله تعالى بهذه الأسماء في تعظيمه وإجلاله:
1- قال الخطيب: "أنبأنا الجوهري، أنبأنا المرزباني، حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى، حدثنا أبو العيناء قال: لما حج المهدي دخل مسجد رسول الله × فلم يبق أحد إلا قام إلا ابن أبي ذئب، فقال له المسيب ابن زهير: قم، هذا أمير المؤمنين. فقال: إنما يقوم الناس لرب العالمين. فقال المهدي: دعه فلقد قامت كل شعرة في رأسي"(1).
2- قال هرم بن حيان لأويس القرني: أوصني. قال: توسّد الموت إذا نمت، واجعله نصب عينيك، وإذا قمت فادع الله أن يصلح لك قلبك ونيتك، فلن تعالج شيئًا أشد عليك منهما؛ بينا قلبك معك ونيتك إذا هو مدبر، وبينا هو مدبر إذا هو مقبل، ولا تنظر في صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت(2).
3- وقال سليمان بن عبد الملك: "يا أبا حازم أوصني. قال: نعم، سوف أوصيك وأوجز: نزّه الله تعالى وعظّمه أن يراك حيث نهاك، أو يفقدك حيث أمرك. ثم قام، فلما ولى قال: يا أبا حازم هذه مائة دينار، أنفقها، ولك عندي أمثالها كثير، فرمى بها وقال: والله ما أرضاها لك فكيف أرضاها لنفسي، إني أعيذك بالله أن يكون سؤالك إياي هزلاً وردّي عليك بذلاً"(3).
4- وقال أبو حفص: "حسن الأدب في الظاهر عنوان حسن الأدب في الباطن، فالأدب مع الله حسن الصحبة معه، بإيقاع الحركات الظاهرة والباطنة على مقتضى التعظيم والإجلال والحياء. كحال مجالس الملوك ومصاحبتهم"(4).
__________
(1) سير أعلام النبلاء 7/143.
(2) صفة الصفوة 3/55.
(3) حلية الأولياء 3/234.
(4) مدارج السالكين 2/376.(2/160)
5- وكتب عمر بن عبد العزيز - رحمه الله تعالى - إلى بعض عمّاله: "أما بعد، فقد أمكنتك القدرة من ظلم العباد، فإذا هممت بظلم أحد فاذكر قدرة الله عليك، واعلم أنك لا تأتي إلى الناس شيئًا إلا كان زائلاً عنهم باقيًا عليك، واعلم أن الله - عز وجل - آخذٌ للمظلومين من الظالمين والسلام"(1).
6- وقال الباجي: "خرج السلطان أيوب في يوم العيد في أبهة الملك، وأخذت الأمراء تقبل الأرض، فالتفت إليه الشيخ العز بن عبد السلام وناداه يا أيوب، ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئ لك ملك مصر ثم تبيح الخمور؟
فقال السلطان: هل جرى هذا؟
قال العز: نعم وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة؛ يناديه بأعلى صوته والعساكر واقفون.
فقال السلطان: يا سيدي، هذا أنا ما عملته، هذا من زمان أبي.
فقال العز: أنت من الذين يقولون: إنا وجدنا آباءنا على أمة؟!
فأمر السلطان بإبطال تلك الحانة.
فسأله الباجي: أما خفته؟ قال العز: والله يا بني، استحضرت هيبة الله تعالى، فصار السلطان قدامي كا...."(2).
7- وقال جعفر بن عبد الله: "كنا عند مالك بن أنس فجاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) } [طه: 5]، كيف استوى؟ فما وجد مالك من شيء ما وجد من مسألته، فنظر إلى الأرض وجعل ينكت بعود في يده حتى علاه الرحضاء - يعني العرق - ثم رفع رأسه ورمى بالعود، وقال: الكيف منه غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وأظنك صاحب بدعة وأمر به فأخرج"(3).
8- وقال إبراهيم بن الأشعث: "ما رأيت أحدًا كان الله في صدره أعظم من الفضيل، كان إذا ذكر الله أو ذكر عنده أو سمع القرآن ظهر به الخوف والحزن وفاضت عيناه، وبكى حتى يرحمه من بحضرته"(4).
__________
(1) إحياء علوم الدين 4/55.
(2) طبقات الشافعية 8/211، 212.
(3) حلية الأولياء 6/325.
(4) حلية الأولياء 8/84.(2/161)
تاسعًا: الأسماء التي تبعث على خلق الكرم والجود والسخاء والإحسان إلى عباد الله والحلم والعفو عنهم:
من آثار التعبد لله - عز وجل - بأسمائه: (الكريم، الجواد، المحسن، المنان، الوهاب، المعطي، العفو، الرحيم) أن يتخلق العبد بموجب هذه الأسماء من الكرم والجود والإحسان إلى عباد الله - عز وجل - والعفو عنهم والرحمة بهم.
نماذج من تخلق السلف بهذه الأخلاق الفاضلة
تعبدًا لله تعالى بأسمائه الحسنى المذكورة
1- قال ابن عُيَيْنة: "دخل هشام الكعبة فإذا هو بسالم بن عبد الله، فقال: سَلْني حاجةً؛ قال: إنِّي أستحيي من الله أنْ أسألَ في بيته غَيْرَه؛ فلمَّا خرجا قال: الآن فسلني حاجةً فقال له سالم: من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟ فقال: من حوائج الدنيا قال: والله ما سألتُ الدُّنيا من يَمِلكُها، فكيف أسألُها مَنْ لا يملِكُها"(1).
2- عن الفضل بن سهل قال: "رأيت جملة البخل سوء الظن بالله تعالى، وجملة السخاء حسن الظن بالله تعالى، قال الله عز وجل: { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ } [البقرة: 268]، وقال: { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) } [سبأ: 39] "(2).
3- قال المأمون لمحمد بن عباد المهلبي: "أبا محمد بلغني أنه لا يقدم أحد البصرة إلا أدخل دار ضيافتك قبل أن يتصرف في حاجاته، فكيف تسع هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين منع الموجود سوء ظن بالمعبود. فاستحسنه منه، وأوصل إليه المأمون ما مبلغه ستة آلاف ألف درهم، ومات وعليه خمسون ألف دينار دينًا"(3).
__________
(1) سير أعلام النبلاء 4/466.
(2) تاريخ بغداد 12/342.
(3) المصدر السابق 2/372، وقوله: ستة آلاف ألف درهم أي: ستة ملايين درهم، فالعرب لم تكن تعرف المليون.(2/162)
4- عن معمر قال: "صك رجل ابنًا لقتادة - بن دعامة - فاستعدى عليه عند بلال بن أبي بردة، فلم يلتفت إليه، فشكاه إلى القسري؛ فكتب إليه: إنك لم تنصف أبا الخطاب؛ فدعاه، ودعا وجوه أهل البصرة يتشفعون إليه، فأبى أن يشفعهم؛ فقال له: صكه كما صكك، فقال لابنه: يا بني احسر عن ذراعيك، وارفع يديك، وشد؛ قال: فحسر عن ذراعيه، ورفع يديه، فأمسك قتادة يده، وقال: قد وهبناه لله، فإنه كان يقال: لا عفو، إلا بعد قدرة"(1).
5- عن عبد الصمد قال: "سمعت الفضيل بن عياض يقول: إذا أتاك رجل يشكو إليك رجلاً، فقل: يا أخي، اعف عنه، فإن العفو أقرب للتقوى؛ فإن قال: لا يحتمل قلبي العفو، ولكن انتصر كما أمرني الله - عز وجل - قل: فإن كنت تحسن تنتصر مثلاً بمثل، وإلا فارجع إلى باب العفو، فإنه باب أوسع، فإنه من عفا وأصلح، فأجره على الله، وصاحب العفو: ينام الليل على فراشه، وصاحب الانتصار: يقلب الأمور"(2).
6- قال أبو عُمر بنُ عبد البَرُ: روينا أنَّ جاريةً لصَفِيَّةَ أتت عمر بن الخطاب، فقالت: "إن صَفِيَّةَ تُحب السبت، وتَصِلُ اليهود. فبعث عُمُر يسألُها، فقالت: أما السبتُ، فلم أحِبَّه مُنذ أبدلني الله به الجمعة، وأما اليهودُ، فإنَّ لي فيهم رَحِمًًا، فأنا أصِلُها، ثم قالت للجارية: ما حَمَلَكِ على ما صَنَعْتِ؟ قالت: الشيطان، قالت: فاذهبي فأنت حرة"(3).
7- قال عبد الله بن صالح: "صحبت الليث عشرين سنة لا يتغدى ولا يتعشى إلا مع الناس"(4).
8- قال ذو النون: "الثلاثة من أعلام الحلم: قلة الغضب عند مخالفة الرأي، والاحتمال عن الورى إخباتًا للرب، ونسيان إساءة المسيء عفوًا عنه واتساعًا عليه"(5).
__________
(1) المصدر السابق 2/340.
(2) حلية الأولياء 8/112.
(3) سير أعلام النبلاء 2/232.
(4) حلية الأولياء 7/321.
(5) المصدر السابق 9/393.(2/163)
9- قال أزهر: "جاء غلام لابن عوف فقال: فقأت عين الناقة، قال: بارك الله فيك، قال: فقلت: فقأت عينها فتقول بارك الله فيك، قال: أقول أنت حر لوجه الله"(1).
10- قال عبد الله بن منازل: "تسفَّه رجل على حمدون القصار فسكت حمدون، وقال: يا أخي لو نقصتني كل نقص لم تنقصني كنقصي عندي، ثم قال: تسفه رجل على إسحاق الخطابي فاحتمله، وقال: لأي شيء تعلمنا العلم"(2).
11- "وكان قيس بن سعد بن عُبادة - رضي الله عنهما - من الأجواد المعروفين، حتى إنه مرض مرة، فاستبطأ إخوانَه في العيادة؛ فسأل عنهم؟ فقالوا: إنهم كانوا يستحيون مما لك عليهم من الدين، فقال: أخزى الله مالاً يمنع الإخوان من الزيارة، ثم أمر مناديًا ينادي: من كان لقيس عليه مال فهو منه في حل، فما أمسى حتى كُسرت عتبة بابه، لكثرة من عاده.
وقالوا له يومًا: هل رأيت أسخى منك؟ قال: نعم. نزلنا بالبادية على امرأة، فحضر زوجها، فقالت: إنه نزل بك ضيفان؛ فجاء بناقة فنحرها، وقال: شأنكم؟ فلما كان من الغد جاء بأخرى فنحرها، فقلنا: ما أكلنا من التي نحرتَ البارحة إلا اليسير، فقال: إني لا أطعم ضيفاني البائت، فبقينا عنده يومين أو ثلاثة، والسماء تمطر، وهو يفعل ذلك، فلما أردنا الرحيل وضعنا مائة دينار في بيته، وقلنا للمرأة: اعتذري لنا إليه، ومضينا؛ فلما طلع النهار إذا نحن برجل يصيح خلفنا: قفوا أيها الركب اللئام. أعطيتموني ثمن قرايَ؟ ثم إنه لحقنا، وقال: لَتأْخُذُنَّه أو لأُطاعِننكم برمحي، فأخذناه وانصرف"(3).
عاشرًا: الأسماء التي تبعث على خلق التواضع وترك الكبر والتعالي على الخلق:
والتواضع خلق عظيم شريف ينشأ من معرفة العبد ربه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا ومن معرفته لنفسه القاصرة الضعيفة التي هي مأوى كل سوء وشر إلا أن يرفعها الله - عز وجل - ويزكيها.
__________
(1) حلية الأولياء 3/39.
(2) المصدر السابق 10/232.
(3) مدارج السالكين 2/292.(2/164)
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "إن التواضع يتولد من بين العلم بالله سبحانه ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوت جلاله وتعظيمه ومحبته وإجلاله، ومن معرفته بنفسه وتفاصيلها وعيوب عملها وآفاتها.
فيتولّد من بين ذلك كلِّه خلقٌ هو التواضع؛ وهو: انكسار القلب لله؛ وخفض جناح الذلِّ والرحمة بعباده، فلا يَرى له على أحدٍ فضلاً؛ ولا يَرى له عند أحدٍ حقًا، بل يرى الفضل للناس عليه؛ والحقوق لهم قِبَلَه، وهذا خُلقٌ إنما يُعطيه الله - عز وجل - من يُحبُّه ويُكرمه ويُقرِّبه"(1).
ويقول أيضًا: "أركان الكفر أربعة: الكبر، والحسد، والغضب، والشهوة، فالكبر يمنعه الانقياد، والحسد يمنعه قبول النصيحة وبذلها، والغضب يمنعه العدل، والشهوة تمنعه التفرغ للعبادة ... ومنشأ هذه الأربعة: من جهله بربه وجهله بنفسه، فإنه لو عرف ربه بصفات الكمال ونعوت الجلال، وعرف نفسه بالنقائص والآفات لم يتكبر ولم يغضب لها ولم يحسد أحدًا على ما آتاه الله، فإن الحسد في الحقيقة نوع من معاداة الله فإنه يكره نعمة الله على عبده... فهو مضاد لله في قضائه وقدره ومحبته وكراهته. ولذلك كان إبليس عدوًا حقيقة لأن ذنبه كان عن كبر وحسد. فقلع هاتين الصفتين بمعرفة الله وتوحيده والرضا به وعنه والإنابة إليه"(2).
والتواضع يراد به أمران: الأول: التواضع للحق والانقياد له.
الثاني: التواضع للخلق وعدم التكبر عليهم.
ومن الأسماء الحسنى التي تبعث على خلق التواضع أسماؤه سبحانه: (الرب، السيد، الحي، القيوم، الواسع، المجيد، العظيم، الكبير، المتكبر، الغني، الحميد، المجيد، الصمد، الحق، المبين، الهادي، الغني، الرزاق، الخلاق، الجبار، القاهر، الوهاب).
نماذج من تعبد السلف - رضي الله عنهم - بهذه الأسماء وظهور ذلك في تواضعهم وبعدهم عن الكبر:
__________
(1) الفوائد ص157، 158 (باختصار).
(2) الروح ص 522.(2/165)
1- عن جبير بن نفير أن نفرًا قالوا لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "والله، ما رأينا رجلاً أقضى بالقسط، ولا أقول بالحق، ولا أشد على المنافقين منك يا أمير المؤمنين، فأنت خير الناس بعد رسول الله ×؛ فقال عوف بن مالك: كذبتم والله، لقد رأينا خيرًا منه بعد رسول الله ×؛ فقال: من هو يا عوف؟ فقال: أبو بكر؛ فقال عمر: صدق عوف، وكذبتم؛ والله لقد كان أبو بكر أطيب من ريح المسك، وأنا أضل من بعير أهلي"(1).
2- وعن يونس بن عبيد: "أن الحسن سئل عن القائلين في المسجد، فقال: رأيت عثمان بن عفان يقيل في المسجد، وهو يومئذ خليفة؛ قال: ويقوم، وأثر الحصى بجنبه؛ قال: فيقال: هذا أمير المؤمنين، هذا أمير المؤمنين"(2).
3- وعن مَعْمر، عن أيوب، عن نافع، أو غيره، أن رجلاً قال لابن عُمر: " يا خيرَ الناس، أو ابنَ خيرِ الناس، فقال: ما أنا بخير الناس، ولا ابن خير الناس، ولكني عبدٌ من عباد الله، أرجو الله، وأخافُه، والله لن تزالوا بالرجل حتى تُهِلكُوه"(3).
4- وقال عمرو بن العاص: "انتهى عجبي عند ثلاث، المرء يفر من القدر وهو لاقيه، والرجل يرى في عين أخيه القذاة؛ فيعيبها، ويكون في عينه مثل الجذع فلا يعيبه، والرجل يكون في دابته الصعرُ فيقومها جهده ويكون في نفسه الصعَّرُ فلا يقوم نفسه"(4).
5- وعن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه قال: "أتاه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن علمني كلمات جوامع نوافع، فقال له عبد الله: لا تشرك به شيئًا وزُل مع القرآن حيث زال، ومن جاءك بالحق فاقبل منه ولو كان بعيدًا بغيضًا، ومن جاءك بالباطل فاردده عليه وإن كان حبيبًا قريبًا"(5).
__________
(1) تاريخ بغداد 5/134.
(2) حلية الأولياء 1/60.
(3) سير أعلام النبلاء 3/236.
(4) تاريخ بغداد 8/106.
(5) صفة الصفوة 1/421.(2/166)
6- عن حبيب بن أبي ثابت قال: "خرج ابن مسعود ذات يوم فاتبّعه ناس، فقال لهم: ألكم حاجة؟ قالوا: لا، ولكن أردنا أن نمشي معك. قال: ارجعوا فإنه ذلّة للتابع وفتنة للمتبوع"(1).
7- وعن الحارث بن سويد قال: "قال عبدالله لو تعلمون ما أعلم من نفسي حثيتم على رأسي التراب"(2).
8- "ومر الحسن على صبيان معهم كِسرَ خبز، فاستضافوه، فنزل فأكل معهم، ثم حملهم إلى منزله، فأطعمهم وكساهم، وقال: اليد لهم، لأنهم لا يجدون شيئًا غير ما أطعموني، ونحن نجد أكثر منه"(3).
9- وقال الحسن: وكنت مع ابن المبارك يومًا فأتينا على سِقاية والناس يشربون منها، فدنا منها ليشرب ولم يعرفه الناس فزحموه ودفعوه فلما خرج قال لي: ما العيش إلا هكذا. يعني حيث لم نُعْرَف ولم نُوقَّر.
قال: وبينا هو بالكوفة يقرأ عليه كتاب المناسك. انتهى إلى حديث وفيه: قال: عبدالله وبه نأخذ قال: مَن كتب هذا من قولي؟ قلت: الكاتب الذي كتبه. فلم يزل يحكّه بيده حتى دَرَسَ ، ثم قال: ومن أنا حتى يُكتب قولي؟(4).
10- وعن رجل قال: "رأيتُ أثر الغَمِّ في وجه أبي عبدالله [يعني الإمام أحمد] وقد أثنى عليه شخص، وقيل له: جزاك الله عن الإسلام خيرًا، قال: بل جزى الله الإسلام عني خيرًا، من أنا ومَا أنا؟!"(5).
11- ورأى محمد بن واسع ابنًا له يمشي مشية منكرة، فقال: "تدري بكم شريت أمك، بثلاثمائة درهم، وأبوك - لا كَثَّر الله في المسلمين مثله - أنا. وأنت تمشي هذه المشية"؟(6).
__________
(1) نفس المصدر 1/406.
(2) نفس المصدر 1/406.
(3) مدارج السالكين 2/330.
(4) صفة الصفوة 4/135.
(5) سير أعلام النبلاء 11/225.
(6) مدارج السالكين 2/331.(2/167)
12- وعن كنانة بن جبلة السلمي قال: قال بكر بن عبدالله: إذا رأيت من هو أكبر منك، فقل: هذا سبقني بالإيمان والعمل الصالح فهو خير مني، وإذا رأيت من هو أصغر منك، فقل: سبقتُه إلى الذنوب والمعاصي فهو خير مني، وإذا رأيت إخوانك يكرمونك ويعظّمونك فقل: هذا فضلٌ أخذوا به، وإذا رأيت منهم تقصيرًا فقل: هذا ذنب أحدثته"(1).
13- ويقول ابن رجب رحمه الله تعالى: "كان أئمة السلف المجمع على علمهم وفضلهم يقبلون الحق ممن أورده عليهم وإن كان صغيرًا، ويوصون أصحابهم وأتباعهم بقبول الحق إذا ظهر في غير قولهم"(2).
حادي عشر: الأسماء التي تبعث على سلامة القلب وزكاته وطمأنينته:
يقول ابن القيم - رحمه الله تعالى - في تعريف القلب السليم: "اعلم أن "التسليم" هو الخلاص من شبهةٍ تعارض الخبر، أو شهوةٍ تعارض الأمر، أو إرادة تعارض الإخلاص، أو اعتراضٍ يعارض القدر والشرع.
وصاحب هذا التخلص: هو صاحب القلب السليم الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله به - فإن التسليم ضد المنازعة. والمنازعة: إما بشبهة فاسدة، تعارض الإيمان بالخبر عما وصف الله به نفسه من صفاته وأفعاله، وما أخبر به عن اليوم الآخر، وغير ذلك. فالتسليم له: ترك منازعته بشبهات المتكلمين الباطلة.
وإما بشهوة تعارض أمر الله - عز وجل- فالتسليم للأمر بالتخلص منها.
أو إرادة تعارض مراد الله من عبده؛ فتعارضه إرادة تتعلق بمراد العبد من الرب؛ فالتسليم بالتخلص منها.
أو اعتراض يعارض حكمته في خلقه وأمره؛ بأن يظن أن مقتضى الحكمة خلاف ما شرع، وخلاف ما قضى وقدر. فالتسليم: التخلص من هذه المنازعات كلها "(3).
__________
(1) صفة الصفوة 3/248.
(2) الفرق بين النصيحة والتعيير ص 10.
(3) مدارج السالكين 2/147، 148.(2/168)
ومن أسماء الله الحسنى التي تبعث على التسليم أسماؤه سبحانه (العليم، الحكيم، الخبير، الرحيم، اللطيف، البر، القيوم، الرب، السلام، الملك، القدوس، المؤمن، الطيب، الخبير، المحيط، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الحكم، الصمد، الواحد، الأحد).
نماذج من أحوال السلف - رحمهم الله تعالى - التي يظهر فيها سلامة قلوبهم وطمأنينتها:
1- يبين ابن القيم - رحمه الله تعالى - أثر الرضى واليقين في سلامة القلب فيقول: "إن الرضى يفتح له باب السلامة، فيجعل قلبه سليمًا نَقِيَّا من الغش والدَّغل والغِلِّ، ولا ينجو من عذاب الله إلا من أتى الله بقلب سليم، كذلك وتستحيل سلامة القلب مع السخط وعدم الرضى، وكلَّما كان العبد أشد رضى كان قلبه أسلم. فالخَبث والدغَل والغش: قرين بالسخط، وسلامة القلب وبره ونصحه: قرين الرضى، وكذلك الحسد: هو من ثمرات السخط، وسلامة القلب منه من ثمرات الرضى"(1).
2- عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: "ذروة الإيمان: الصبر للحكم، والرضى بالقدر، والإخلاص في التوكل، والاستسلام للرب - عز وجل -"(2).
3- ويقول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "خير ما ألقي في القلب اليقين"(3).
4- وقال ابن رجب رحمه الله تعالى: "وقد استحسن الإمام أحمد ما حكي عن حاتم الأصم أنه قيل له: أنت رجل أعجمي لا تفصح، وما ناظرك أحد إلا قطعته؛ فبأي شيء تغلب خصمك؟ فقال: بثلاث: أفرح إذا أصاب خصمي، وأحزن إذا أخطأ، وأحفظ لساني عنه أن أقول له ما يسوؤه؛ أو معنى هذا، فقال أحمد: ما أعقله من رجل"(4).
__________
(1) مدارج السالكين 2/207.
(2) حلية الأولياء 1/216.
(3) حلية الأولياء 1/138.
(4) الفرق بين النصيحة والتعيير ص 32.(2/169)
5- وهذه رسالة مؤثرة من شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - إلى تلامذته تبين فيها طمأنينة قلبه وسلامته نحو خصومه الذين آذوه فكيف عن سواهم؟ يقول رحمه الله تعالى: "وتعلمون من القواعد العظيمة - التي هي من جماع الدين - تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، وصلاح ذات البين، فإن الله تعالى يقول: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } [آل عمران: 103]، ويقول: { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) } [آل عمران: 105]، وأمثال ذلك من النصوص التي تأمر بالجماعة والائتلاف، وأهل هذا الأصل هم أهل الجماعة، كما أن الخارجين عنه هم أهل الفرقة... " إلى أن قال في الرسالة نفسها:
"وأول ما أبدأ به من هذا الأصل: ما يتعلق بي، فتعلمون - رضي الله عنكم - جميعًا أني لا أحب أن يؤذى أحد من عموم المسلمين - فضلاً عن أصحابنا - بشيء أصلاً، لا باطنًا، ولا ظاهرًا، ولا عندي عتب على أحد منهم، ولا لوم أصلاً، بل لهم عندي من الكرامة والإجلال والمحبة والتعظيم أضعاف أضعاف ما كان، كل بحسبه.(2/170)
ولا يخلو الرجل إما أن يكون مجتهدًا مصيبًا، أو مخطئًا، أو مذنبًا، فالأول: مشكور، والثاني: أجره على الاجتهاد؛ فمعفو عنه، مغفور له، والثالث: يغفر الله لنا وله ولسائر المؤمنين، فنطوي بساط الكلام المخالف لهذا الأصل كقول القائل: فلان كان سبب هذه القضية، فإني لا أسامح من آذاهم من هذا الباب ولا حول ولا قوة إلا بالله، بل مثل هذا يعود على قائله بالملام، إلا أن يكون له من حسنة، وممن يغفر الله له إن شاء، وقد عفا الله عما سلف... " إلى أن قال - رحمه الله - في الرسالة نفسها: "فلا أحب أن ينتصر من أحد بسبب كذبه علي، أو ظلمه وعدوانه، فإني قد أحللت كل مسلم، وأنا أحب الخير لكل المسلمين، وأريد لكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي، والذين كذبوا وظلموا منهم في حل من جهتي"(1).
ثاني عشر: الأسماء التي تبعث على الشجاعة في الحق والاستهانة بالباطل:
إن تعظيم الله - عز وجل - والخوف منه وحده، وشهود قهره وعلوه وإحاطته ومراقبته وعزته وقوته وربوبيته، وولايته، ونصره، ووعده ووعيده كل ذلك يثمر في القلب الشجاعة والثبات على الحق والنصيحة في سبيل الله - عز وجل - والاستهانة بالباطل وأهله، لأنهم في قبضة الله - عز وجل - وتحت قهره وملكه وسلطانه.
ومن الأسماء الحسنى التي تثمر هذه الصفات: (الملك، الحق، المبين، الحي، القاهر، القهار، المحيط، العليم، الخبير، النصير، الولي، الحكيم، الوكيل، الحميد، القوي، العزيز، القادر، السيد، السميع، البصير، العظيم، الكبير، العالي، المتعال، الظاهر، الباطن).
__________
(1) مجموع الفتاوى 28/51 - 57 (باختصار).(2/171)
قال الله - عز وجل -: { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) } [آل عمران: 175]، وقال سبحانه: { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) } [آل عمران: 120]، وقال عن نبية هود - عليه الصلاة والسلام - في تحديه لقومه وهو وحيد وهم كثير وعتاة جبابرة: { قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) [هود: 54 - 56].
نماذج من أحوال السلف - رحمهم الله تعالى - تظهر فيها آثار هذه الأسماء في ثباتهم على الحق واستهانتهم بالباطل:
1- وقال الذهبي في ترجمة الإمام قاضي مدينة بَرقة، محمد بن الحَبَلي: "أتاه أميرُ بَرْقَة، فقال: غدًا العيد، قال: حَتَّى نرى الهِلال، ولا أفطر النَّاس، وأتقلَّد إثمَهم، فقالَ: بهذا جاء كتابُ المَنصور - وكان هذا من رأي العبيدية يفطْرون بالحساب، ولا يعتبرون رؤية - فلم يُر هلال، فأصبح الأميرُ بالطُبولِ والبنود وأهبة العيد. فقال القاضي: لا أخرج ولا أصلّي، فأمر الأميرُ رجلاً خَطَبَ، وكَتَبَ بما جرى إلى المنصور، فَطَلَبَ القاضي إليه، فأحضِر، فقال له: تَنَصَّلْ، وأعفو عنك، فامتنعَ، فأمر، فعُلق في الشمس إلى أن مات، وكان يستغيث العطشَ، فلم يُسق. فصلبوه على خشبة فلعنة الله على الظالمين"(1).
__________
(1) سير أعلام النبلاء 15/374.(2/172)
2- وعن الحسن أن زيادًا بعث الحكم بن عمرو على خرسان، ففتح الله - عز وجل - عليهم وأصابوا أموالاً عظيمة فكتب إليه زياد: أما بعد، فإن أمير المؤمنين كتب إليَّ أن أصفي الصفراء والبيضاء، ولا تقسم بين الناس ذهبًا ولا فضة.
فكتب إليه: "سلام عليك. أما بعد إنك كتبت تذكر كتاب أمير المؤمنين، وإني وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين، وإنه والله لو كانت السماوات والأرض رَتْقًا على عبد فاتقى الله - عز وجل - لجعل الله له منهما فَرجًا ومخْرجًا والسلام عليك"(1).
3- وعن أبي المنذر إسماعيل بن عمر قال: سمعت أبا عبد الرحمن العمري يقول: إن من غفلتك إعراضك عن الله بأن تَرى ما يُسخطه فتجاوزه، ولا تأمر ولا تنهَى خوفًا ممن لا يملك ضُرّاً ولا نفعًا.
وقال سمعته يقول: "من ترك الأمر بالمعروف والنهيَ عن المنكرَ من مخافة المخلوقين نُزِعت منه هيبةُ الله تعالى، فلو أمر بعض ولده أو بعض مواليه لاستخفّ به"(2).
4- وعن الهيثم بن خَلف الدُّوري أنَّ محمد بن سُوَيد الطَحَّان حدَّثه قال: "كنَّا عند عاصم بن علي ومعنا أبو عُبيد، وإبراهيمُ بنُ أبي اللَّيث وجماعة، وأحمد بن ُ حنبل يُضرَبُ، فجعل عاصمٌ يقولُ: ألا رجلٌ يقومُ معي، فنأتي هذا الرجلَ، فنكلِّمه؟ قال: فما يُجيبه أحد، ثم قال ابنُ أبي الليث: أنا أقومُ معك يا أبا الحُسين، فقال: يا غلامُ: خُفِّي. فقال ابنُ أبي الليث: يا أبا الحسين أبْلُغُ إلى بناتي، فأوصيهم، فظنَنَّا أنه ذهب يَتكفَّنُ وَيتَحنَّطُ، ثم جاء، فقال: إني ذهبتُ إليهن، فبكيْنَ، قال: وجاء كتابُ ابنَتَي عاصم من واسط: يا أبانا إنَّه بلغَنا أنَّ هذا الرجلَ أخذ أحمدَ بنَ حنبل، فضربَه على أن يقول: القرآنُ مخلوق، فاتقِ الله، ولا تُجبْهُ فو الله لأنْ يأتينا نعيك أحب إلينا من أن يأتينا أنك أجبْتَ"(3).
__________
(1) صفة الصفوة 1/672.
(2) المصدر السابق 2/181.
(3) سير أعلام النبلاء 9/264.(2/173)
6- قال أبو الفرج بن الجوزي: "أقام جوهر القائد(1)لأبي تميم صاحب مصر أبا بكر النَّابُلسي، وكان ينزل الأكواخ، فقال له: بلغنا أنك قلت: إذا كان مع الرَّجل عشرةُ أسهم، وجب أن يرمي في الروم سهمًا، وفينا تسعة، قال: ما قلتُ هذا، بل قلت: إذا كان معه عشرة أسهم، وجب أن يرميكم بتسعة، وأن يرمي العاشر فيكم أيضًا، فإنكم غيّرتم الملَّة، وقَتلْتُم الصالحين، وادعيتم نور الإلهية، فشهرَهُ ثم ضربه، ثم أمر يهوديًا فسلخه"(2).
ثالث عشر: الأسماء التي تثمر الافتقار إلى الله عز وجل وكثرة دعائه وذكر الثناء عليه:
كل أسماء الله - عز وجل - وصفاته يثنى على الله سبحانه بها ويحمد عليها ويدعى بها ويخص من هذه الأسماء بعض ما ورد في الأذكار والأدعية المأثورة من كثرة الدعاء بها وما تثمره من الافتقار إلى الله - عز وجل - مثل: (لفظ الجلالة، الحي، القيوم، الرحمن، الرحيم، البر، اللطيف، الغفور، العفو، الملك، القدوس، الغني، الحميد، الرزاق، المنان، الجواد، الكريم، الحليم، الجبار، العظيم، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الأحد، الصمد، الولي، النصير).
نماذج من أحوال السلف - رحمهم الله تعالى - يظهر فيها افتقارهم إلى الله - عز وجل - وكثرة ذكرهم له ودعائهم والتضرع بين يديه:
1- كان من افتقاره ودعائه ×: "اللهم تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سري وعلانيتي، لا يخفى عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير، المستغيث المستجير، والوجل المشفق، المقر المعترف بذنوبي، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عيناه، وذل جسده، ورغم أنفه لك، اللَّهم لا تجعلني بدعائك رب شقيًا، وكن بي رؤوفًا رحيمًا، يا خير المسؤولين، ويا خير المعطين"(3).
__________
(1) جوهر الصقلي هو أحد قادة دولة بني عبيد الباطنية في مصر.
(2) 16/148.
(3) زاد المعاد/ 237، وحسنه الأرناؤط في تحقيق الزاد.(2/174)
2- وقال الحسن البصري رحمه الله: "تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، وفي الذكر، وقراءة القرآن، فإن وجدتم... وإلا فاعلموا أن الباب مغلق"(1).
3- يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، قال: وكان إذا صلى الفجر يجلس في مكانه يذكر الله تعالى حتى يتعالى النهار جدًا، وكان إذا سئل عن ذلك يقول: هذه غدوتي ولو لم أتغد هذه الغدوة سقطت، وقال لي مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجمام النفس وإراحتها لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر أو كلام هذا معناه"(2).
4- ويقول أيضًا: "وشهدت شيخ الإسلام - قدس الله روحه - إذا أعيته المسائل واستعصت عليه فر منها إلى التوبة والاستغفار، والاستعانة بالله واللجأ إليه، واستنزال الصواب من عنده، والاستفتاح من خزائن رحمته فقلما يلبث المدد الإلهي أن يتتابع عليه مدًا، وتزدلف الفتوحات الإلهية إليه بأيتهن يبدأ"(3).
5- ويقول مطرف بن عبد الله الشخير رحمه الله تعالى: "تذاكرت ما جماع الخير فإذا الخير كثير: الصيام والصلاة وإذا هو في يد الله، وإذا أنت لا تقدر على ما في يد الله إلا أن تسأله فيعطيك فإذا جماع الخير الدعاء"(4).
6- وقال بعض الشيوخ: "إنه ليكون لى إلى الله حاجة فأدعوه فيفتح لي من لذيذ معرفته وحلاوة مناجاته ما لا أحب معه أن يعجل قضاء حاجتي خشية أن تنصرف نفسي عن ذلك"(5).
- - -
فهرس الموضوعات
…الموضوع…الصفحة
المقدمة…5
الفصل الأول
المبحث الأول : تفسير قوله تعالى: { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } …21
المبحث الثاني : شرح حديث: (إن لله تسعة وتسعين اسمًا)…41
الفصل الثاني
بيان مختصر لمنهج أهل السنة والجماعة في توحيد الأسماء والصفات …49
__________
(1) مدارج السالكين 2/424.
(2) الرد الوافر ص 69.
(3) إعلام الموقعين 4/172.
(4) الإبانة لابن بطه 2/195.
(5) مجموع الفتاوى 10/333.(2/175)
الفصل الثالث
شرح بعض أسماء اللَّه الحسنى وذكر بعض آثارها وثمرات الإيمان بها …63
(1) [الله جل جلاله]…40
(2) [الرب]…85
(4،3) [الواحد، الأحد]…104
(6،5) [الرحمن، الرحيم]…118
(7) [الحيُّ]…154
(8) [القيوم]…160
(10،9) [الأول، الآخر]…166
(12،11) [الظاهر، الباطن]…173
(13) [الوارث]…182
(14) [القدوس]…186
(15) [السبوح]…199
(16) [السلام]…201
(17) [المؤمن]…209
(18) [الحق]…215
(19) [المتكبر]…227
(20) [العظيم]…233
(21) [الكبير]…246
(24،23،22) [العلي، الأعلى، المتعالي]…255
(25) [اللطيف]…263
(26) [الحكيم]…279
(27) [الواسع]…321
(30،29،28) [العليم، العالم، علام الغيوب]…330
(33،32،31) [الملك، المليك، المالك]…357
(34) [الحميد]…369
(35) [المجيد]…386
(36) [الخبير]…391
(37) [القوي]…397
(38) [المتين]…402
(39) [العزيز]…404
(41،40) [القاهر، القهار]…413
(44،43،42) [القادر، القدير، المقتدر]…418
(45) [الجبَّار]…426
(47،46) [الخالق، الخلاق]…432
(48) [البارئ]…441
(49) [المصور]…444
(50) [المهيمن]…449
(52،51) [الحافظ، الحفيظ]…453
(54،53) [الولي، المولى]…459
(56،55) [النصير، خير الناصرين]…464
(58،57) [الوكيل، الكفيل]…475
(59) [الكافي]…485
(60) [الصمد]…489
(62،61) [الرازق، الرزاق]…495
(63) [الفتاح]…505
(64) [المبين]…512
(65) [الهادي]…516
(67،66) [الحكم، خير الحاكمين]…525
(68) [الرؤوف]…534
(69) [الودود]…539
(70) [البَرُّ]…549
(71) [الحليم]…555
(74،73،72) [الغفور، الغفار، غافر الذنب]…567
(75) [العفو]…576
(76) [التواب]…580
(78،77) [الكريم، الأكرم]…588
(80،79) [الشاكر، الشكور]…599
(81) [السميع]…614
(82) [البصير]…626
(83) [الشهيد]…632
(84) [الرقيب]…638
(85) [القريب]…646
(86) [المجيب]…657
(87) [المحيط]…663
(88) [الحسيب]…667
(89) [الغني]…672
(90) [الوهاب]…683
(91) [المقيت]…687
(93،92) [القابض، الباسط]…691(2/176)