وقفات مع كتاب الصحبة والصحابة
لحسن بن فرحان المالكي
أو
ذب البهتان عن الصحابة الكرام
كتبه
عبد الباسط بن يوسف الغريب
عمان- الأردن
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل الله فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:
فهذه وقفات مع حسن بن فرحان المالكي في كتابه الصحبة والصحابة بين الإطلاق اللغوي والتخصيص الشرعي
فقد وقع المخالف في كتابه في عدة أغلوطات وهي كالآتي:
1- قصره الصحبة على المهاجرين والأنصار, ومن في حكمهم من مواليهم وحلفائهم ونحو ذلك, وإخراج مسلمة الفتح من مسمى الصحبة بل إخراج من أسلم بعد صلح الحديبية, وكذلك كل من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وآمن به بعد صلح الحديبية.
2- مسألة عدالة الصحابة وأن الصحابة كغيرهم يجب البحث في عدالتهم, وأن ثناء الله في كتابه وثناء النبي صلى الله عليه وسلم عليهم لا يدخل فيه جميع الصحابة بل فقط المهاجرين والأنصار؛ بل يرى حتى هؤلاء لا دليل على تعديلهم بل ويجب البحث عن عدالتهم.
3- ترتب على المسألة السابقة قوله أنه قد يأتي في القرون المتأخرة من يفضل بعض المهاجرين والأنصار!
4- تعرضه لبعض الصحابة الكرام والذي يلمس القاريء من كلامه تشيعاً ورفضاً وانحرافاً يحاول أن يخفيه, وإلى غير ذلك من المسائل كما سيأتي بيانه.
المسألة الأولى: وهي مسألة قصره الصحبة على المهاجرين والأنصار ومن في حكمهم.
قال المخالف (ص16): "النصوص الشرعية أيضا تخرج الذين أسلموا بعد الحديبية من الصحبة على الراجح! وتخرج المسلمين بعد فتح مكة بأدلة أوضح وأصرح ...".
وقال أيضا (ص42): "إذن فأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - – الصحبة الشرعية – ليسوا إلا المهاجرين والأنصار ومن يدخل في حكمهم ممن أسلم قديماً في العهد المكي...".(1/1)
ثم قال: "فهذا أسلم تعريف لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى لا يساء لمقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بإضافة من ليس على منهجه إليه ممن أساء السيرة من الظلمة والفسقة والمضطربين في السيرة، إضافة إلى أن هذه الصحبة الشرعية هي التي كان فيها النصرة والتمكين في أيام الضعف والذلة, وهي الصحبة الممدوحة في القرآن الكريم والسنة والنبوية بمعنى أن كل آيات الثناء في موضوع الصحبة كان الثناء منصباً على المهاجرين والأنصار فقط...
"وعلى هذا فلا يدخل في الصحابة خالد بن الوليد - رضي الله عنه - وطبقته كعمرو بن العاص وعثمان بن أبي طلحة, ولا يدخل من بعدهم كالعباس بن عبد المطلب وأبي سفيان بن حرب, ومن باب أولى ألا يدخل من أسلم بعد هؤلاء كالطلقاء من قريش ومنهم ( أبو سفيان بن حرب وأبناؤه معاوية ويزيد)، والعتقاء من ثقيف والأعراب والوفود, ولا أبناء الصحابة الصغار الذين رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أطفالا أو صبياناً لم يبلغوا الحلم ولم يشهدوا شيئاً من الأحداث وقد يفضل بعضهم على بعض الصحابة بدليل خاص؛ كالحسن والحسين..".
قلت: وهو بهذا التعريف يخرج جماً كبيراً من مسمى الصحبة لأن الذين شهدوا فتح مكة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا عشرة آلاف صحابي, والذين شهدوا حنين من الصحابة كانوا اثنا عشر ألف, والذين حضروا حجة الوداع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا مائة ألف, و قوله هذا شاذ مخالف لقول جماهير أهل السنة والجماعة, وإن حاول أن يستدل بأقوال بعضهم في غير مكانه كما سيأتي. وإليك الآن مستند كلامه والرد عليه(1/2)
أولا: استند إلى العرف. قال (ص13): إذن فالأصل في اللغة أنه عندما تقول إن فلاناً صاحب فلاناً يعني أنه لازمه أو خالطه أو عاشره أو ماشاه أو نحو هذا، ولو كان قدراً قليلاً من الصحبة بخلاف العرف كما سيأتي إذ العرف لا يطلق الصحبة إلا على طول الملازمة بحيث يصح أن يقال فلان صاحب لفلان؛ فالعرف أخص من اللغة ولا يدخل فيه المجاز!. وللرد عليه نقول:
1- إن العرف قد نازع بعض العلماء في دلالته كما قال ابن حزم رحمه الله: ولا عرف إلا ما بين الله تعالى نصا أنه عرف , وأما عرف الناس فيما بينهم فلا حكم له ولا معنى(1).
2- إن تقديم العرف على اللغة يحتاج إلى دليل وهو منازع في ذلك.
جاء في كتاب "البرهان في أصول الفقه": "مسألة": "إذا ورد لفظ من الشارع وله مقتضى في وضع اللسان, ولكن عم في عرف أهل الزمان استعمال ذلك اللفظ على خصوص في بعض المسميات؛ فالذي رآه الشافعي أن عرف المخاطبين لا يوجد تخصيص لفظ الشارع. وقال أبو حنيفة العرف من المخصصات ,وهو مغن عن التأويل والمطالبة بالدليل.
وضرب العلماء لذلك مثالاً وهو نهيه عليه السلام عن بيع الطعام بالطعام. فزعم بعض أصحاب أبي حنيفة أن الطعام في العرف موضوع للبر وحاولوا حمل الطعام في لفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما جرى العرف فيه.
وهذا الذي ادعوه من العرف ممنوع وهم غير مساعدين عليه, ولو قدر ذلك مسلماً لهم بمجرد العرف؛ فمجرد العرف لا يقتضي تخصيصاً؛ فإن القضايا متلقاة من الألفاظ وتواضع الناس عبارات لا يغير وضع اللغات ومقتضى العبارات.
__________
(1) ... "الإحكام" (7/398).(1/3)
فإن قالوا: الناس مخاطبون على أفهامهم. قلنا: فليفهموا من اللفظ مقتضاه لا ما تواضعوا عليه، ولو تواضع قوم على تخصيص أو تعميم ثم طرقهم آخرون لم يشاركوهم في تواضعهم فإنهم لا يلتزمون أحكام تواطئهم، فالشرع وصاحبه كيف يلزمهم حكم تواضع المتعاملين, وقد خاطب المصطفى بشريعة العربية الأعاجم على اختلاف لغاتها على تقدير أن يسعوا في درك معاني الألفاظ التي خوطبوا بها، والمسألة موضوعة فيه إذا لم يكن الرسول صاحب الشريعة ناطقا بما ينطق أهل العرف فلو ظهر منه مناطقة أهل زمانه بما اصطلحوا عليه فلفظه في الشرع لا ينزل على موجب اللسان. وإنما مأخذ المسألة في ظن الخصوم أن الشارع وإن لم يكن من الناطقين باصطلاح أصحاب العرف فإنه لا يناطقهم إلا بما يتفاوضون به وليس الأمر كذلك كما قدمناه"(1).
وقال الآمدي في كتابه "الإحكام"(2): "المسألة الثامنة": اختلفوا في مسمى الصحابي؛ فذهب أكثر أصحابنا وأحمد بن حنبل إلى أن الصحابي من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - . وذهب آخرون إلى أن الصحابي إنما يطلق على من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - واختص به اختصاص المصحوب وطالت مدة صحبته وإن لم يرو عنه.
وذهب عمر بن يحيى إلى أن هذا الاسم إنما يسمى به من طالت صحبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأخذ عنه العلم. والخلاف في هذه المسألة وإن كان آيلا إلى النزاع في الإطلاق اللفظي فالأشبه إنما هو الأول.ويدل على ذلك ثلاثة أمور:
الأول: أن الصاحب اسم مشتق من الصحبة والصحبة تعم القليل والكثير ومنه يقال صحبته ساعة وصحبته يوماً وشهراً وأكثر من ذلك، كما يقال فلان كلمني وحدثني وزارني وإن كان لم يكلمه ولم يحدثه ولم يزره سوى مرة واحدة.
الثاني: أنه لو حلف أنه لا يصحب فلانا في السفر أو ليصحبنه فإنه يبر ويحنث بصحبته ساعة.
__________
(1) ... "البرهان" (1/296).
(2) ... (2/104).(1/4)
الثالث: أنه لو قال قائل صحبت فلانا فيصح أن يقال صحبته ساعة أو يوما أو أكثر من ذلك، وهل أخذت عنه العلم ورويت عنه أو لا، ولولا أن الصحبة شاملة لجميع هذه الصور, ولم تكن مختصة بحالة منها لما احتيج إلى الاستفهام.
فإن قيل إن الصاحب في العرف إنما يطلق على المكاثر الملازم ومنه يقال أصحاب القرية وأصحاب الكهف والرقيم وأصحاب الرسول وأصحاب الجنة للملازمين لذلك, وأصحاب الحديث للملازمين لدراسته وملازمته دون غيرهم.
ويدل على ذلك أيضا أنه يصح أن يقال فلان لم يصحب فلانا لكنه وفد عليه أو رآه أو عامله, والأصل في النفي أن يكون محمولا على حقيقته بل, ولا يكفي ذلك بل لا بد مع طول المدة من أخذ العلم والرواية عنه, ولهذا يصح أن يقال المزني صاحب الشافعي، وأبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة ولا يصح أن يقال لمن رآهما وعاشرهما طويلا ولم يأخذ عنهما أنه صاحب لهما.
والجواب عن الشبهة الأولى أنا لا نسلم أن اسم الصاحب لا يطلق إلا على المكاثر الملازم ولا يلزم من صحة إطلاق اسم الصاحب على الملازم المكاثر كما في الصور المستشهد بها امتناع إطلاقه على غيره بل يجب أن يقال بصحة إطلاق ذلك على المكاثر وغيره حقيقة ...
3- إن من العلماء من بين أن العرف على وفق اللغة في إطلاق الصحبة على القليل والكثير.
قال الإمام النووي رحمه الله: بعد أن نقل كلام أبي الطيب الباقلاني في هذه المسألة ونقل الخلاف فيها .. قال: هذا كلام القاضي المجمع على أمانته وجلالته وفيه تقرير للمذهبين ويستدل به على ترجيح مذهب المحدثين؛ فإن هذا الإمام قد نقل عن أهل اللغة أن الاسم يتناول صحبة ساعة, وأكثر أهل الحديث قد نقلوا الاستعمال في الشرع, والعرف على وفق اللغة فوجب المصير إليه, والله أعلم(1).
__________
(1) ... "مقدمة الإمام مسلم – شرح النووي" (1/36).(1/5)
4- إن العرف لا ضابط له فما هو الضابط في العرف وإلى أي عرف يتحاكم؟ قال السخاوي في "فتح المغيث" (3|85): "ثم إن القائلين بالثاني لم يضبط أحد منهم الطول بقدر معين كما صرح به الغزالي وغيره؛ لكن حكى شارح البزدوي عن بعضهم تحديده بستة أشهر!.
قلت: فإذا قلنا بما حده شارح البزدوي يدخل جل من أخرجهم المخالف من مسمى الصحبة فتأمل!
ذكرالمخالف في (ص20): أما المذهب الأول – وهو الأقرب للصواب – الذي لا يكتفي بالرؤية واللقيا فهم جمهور علماء المسلمين المتقدمين من محدثين وفقهاء على حد سواء! كذا قال.
ومن أبرز الذاهبين إلى هذا المذهب من الصحابة والعلماء، عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وأم المؤمنين عائشة بنت الصديق، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله.
والأسود بن يزيد النخعي، وسعيد بن المسيب، ومعاوية بن قرة، وشعبة بن الحجاج، وعاصم الأحول، والواقدي، وأحمد بن حنبل، في قول، والبخاري في قول، ومسلم وابن مندة ويحيى بن معين وأبو حاتم وأبو زرعة والعجلي وأبو داود والخطيب البغدادي وابن عبد البر والبغوي وابن الجوزي والباقلاني والماوردي وأبو المظفر السمعاني والمازري والعلائي وابن الملقن وابن عماد الحنبلي وغيرهم(1).
وأصحاب هذا المذهب وهو مذهب الأصوليين في الجملة..
أقول مستعينا بالله وفي كلامه تهويل وتدليس:
أما التهويل: فهو مجازفته في إطلاقه أن هذا القول هو قول جمهور علماء المسلمين المتقدمين من محدثين وفقهاء على حد سواء، كذا قال.
وهو في هذه النسبة بعيد عن الصواب.
قال السخاوي في "فتح المغيث" (3|79): إذا علم هذا ففيه عشرة مسائل:
الأولى: في تعريف الصحابي وهو لغة يقع على من صحب أقل ما يطلق اسم صحبة فضلا عمن طالت صحبته وكثرت مجالسته.
__________
(1) ... والقاريء لأول وهلة يظن بعد قراءة هذا السرد أن المخالف ينقل من كتاب "الأوسط" لابن المنذر أو "التمهيد" لابن عبد البر أو غيرها من الكتب التي تنقل الإجماع.(1/6)
وفي الاصطلاح (راء النبي - صلى الله عليه وسلم - ) اسم فاعل من رأى حال كونه (مسلماً) عاقلاً (ذو صحبة) على الأصح كما ذهب إليه الجمهور من المحدثين والأصوليين, وغيرهم اكتفى بمجرد الرؤية ولو لحظة وإن لم يقع معها مجالسة ولا مماشاة ولا مكالمة لشرف منزلة النبي صلى الله عليه وسلم وممن نص على الاكتفاء بها أحمد.
وقال أيضاً: وما حكاه عن الأصوليين إنما هو طريقة لبعضهم وجمهورهم على الأول(1).
ثم إن كلمة أصوليين كلمة يدخل فيها جم غفير من المنحرفين على بعض الصحابة كالمعتزلة وغيرهم.
ولذلك قال السخاوي(2): وقال الكيا الطبري: هو من ظهرت صحبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحبة القرين قرينه حتى يعد من أحزابه وخدمه المتصلين به. قال صاحب "الواضح" وهذا قول شيوخ المعتزلة.
قلت: فلا يسلم له إطلاق ذلك على جمهور الأصوليين لأن المنحرف لا يقبل منه ما يقوي بدعته وانحرافه.
وقال الشوكاني: إذا عرفت أن الصحابة كلهم عدول فلا بد من بيان من يستحق اسم الصحبة, وقد اختلفوا في ذلك فذهب الجمهور إلى أنه من لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به ولو ساعة سواء روى عنه أم لا, وقيل هو من طالت صحبته وروى عنه فلا يستحق اسم الصحبة إلا من يجمع بينهما, وقيل هو من ثبت له أحدهما أما قول الصحبة أو الرواية , والحق ما ذهب إليه الجمهور(3).
وقال شيخ الإسلام: ولهذا قال أحمد بن حنبل في الرسالة التي رواها عبدوس بن مالك عنه من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة أو شهرا أو يوما أو ساعة أو رآه مؤمنا به فهو من أصحابه له من الصحبة على قدر ما صحبه. وهذا قول جماهير العلماء من الفقهاء وأهل الكلام وغيرهم يعدون في أصحابه من قلت صحبته ومن كثرت, وفي ذلك خلاف ضعيف(4).
__________
(1) ... فتح المغيث" (3/84).
(2) ... المرجع السابق.
(3) ... "إرشاد الفحول" (101).
(4) ... "منهاج السنة" (8/383).(1/7)
وأما تدليسه فهو نسبة هذا القول الذي ذهب إليه إلى علماء هم قائلون بخلافه وكذلك نسبة هذا القول إلى بعض الصحابة.
وهنا مسألة ينبغى التنبه لها؛ ألا وهي أن مرتبة الصحبة تتفاضل فهي على طبقات كما قال الإمام أحمد رحمه الله بعد أن ذكر العشرة والمهاجرين والأنصار ثم أفضل الناس بعد هؤلاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرن الذي بعث فيهم كل من صحبة سنة أو شهرا أو يوما أو ساعة أو رآه فهو من أصحابه له من الصحبة على قدر ما صحبه, وكانت سابقته معه وسمع منه ونظر إليه نظرة فأدناهم صحبة هو أفضل من القرن الذين لم يروه ولو لقوا الله بجميع الأعمال(1).
وقال ابن الجوزي رحمه الله: فصل الخطاب في هذا الباب أن الصحبة إذا أطلقت فهي في المتعارف تنقسم إلى قسمين:
أحدهما: أن يكون الصاحب معاشرا مخالطا كثير الصحبة فيقال هذا صاحب فلان كما يقال خادمه لمن تكررت خدمته لا لمن خدمه يوما أو ساعة.
الثاني: أن يكون صاحبه في مجالسة أو ممشاه ولو ساعة فحقيقة الصحبة موجودة في حقه وإن لم يشتهر(2).
فأفضل الصحابة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ثم سائر العشرة ثم أهل بدر ثم أهل بيعة الرضوان ثم باقي الصحابة كل له الفضل والمدح بقدر ما له من صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - . إذا فهم المسلم هذه النقطة سهل عليه فهم كثير من أقوال العلماء التي يستدل بها المخالف.
فهناك صحبة خاصة تطلق على المقربين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين صحبوه ونصروه ولازموه. وهناك صحبة عامة يدخل فيها من آمن به ورآه وفارقه من قريب أو لم يتسن له نصرته لتأخر إسلامه, والمخالف يعترف بمسمى هذه الصحبة الخاصة إلا أنه يناقض نفسه عند التطبيق.
__________
(1) ... "فتح المغيث" (3/96).
(2) ... "تلقيح فهوم أهل الأثر" (101).(1/8)
ولذلك قال شيخ الإسلام: ومما يبين أن الصحبة فيها خصوص وعموم كالولاية والمحبة والإيمان وغير ذلك من الصفات التي يتفاضل فيها الناس في قدرها ونوعها وصفتها ما أخرجاه في "الصحيحين" عن أبي سعيد الخدري قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((لا تسبوا أحدا من أصحابي؛ فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)). [انفرد مسلم بذكر خالد وعبد الرحمن دون البخاري].
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لخالد ونحوه: لا تسبوا أصحابي- يعني عبد الرحمن بن عوف وأمثاله - لأن عبد الرحمن ونحوه هم السابقون الأولون, وهم الذين أسلموا قبل الفتح وقاتلوا, وهم أهل بيعة الرضوان؛ فهؤلاء أفضل وأخص بصحبته ممن أسلم بعد بيعة الرضوان وهم الذين أسلموا بعد الحديبية وبعد مصالحة النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل مكة ومنهم خالد وعمرو بن العاص وعثمان بن أبي طلحة وأمثالهم.
وهؤلاء أسبق من الذين تأخر إسلامهم إلى أن فتحت مكة وسموا الطلقاء مثل سهيل بن عمرو والحارث بن هشام وأبي سفيان بن حرب وابنيه يزيد ومعاوية وأبي سفيان بن الحارث وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وغيرهم، مع أنه قد يكون في هؤلاء من برز بعلمه على بعض من تقدمه كثيراً كالحارث بن هشام وأبي سفيان بن الحارث وسهيل بن عمرو وعلى بعض من أسلم قبلهم ممن أسلم قبل الفتح وقاتل , وكما برز عمر بن الخطاب على أكثر الذين أسلموا قبله. والمقصود هنا أنه نهى لمن صحبه آخرا يسب من صحبه أولاً لامتيازهم عنهم في الصحبة بما لا يمكن أن يشركهم فيه حتى قال: ((لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)).(1/9)
فإذا كان هذا حال الذين أسلموا من بعد الفتح وقاتلوا وهم من أصحابه التابعين للسابقين مع من أسلم من قبل الفتح وقاتل وهم أصحابه السابقون؛ فكيف يكون حال من ليس من أصحابه بحال مع أصحابه(1).
ومن تدليسه:
1- نسب هذا القول الذي ذهب به إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مع أن عمر - رضي الله عنه - على خلافه.
قال السخاوي : قال شيخنا – أي الحافظ ابن حجر: وقد كان تعظيم الصحابة ولو كان اجتماعهم به - رضي الله عنه - قليلاً مقرراً عند الخلفاء الراشدين وغيرهم. ثم ساق بسند رجاله ثقات عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - : أنه كان متكئاً فذكر من عنده علياً ومعاوية رضي الله عنهما فتقاول رجلاً معاوية فاستوى جالساً ثم قال: كنا ننزل رفاقاً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكنا في رفقة فيها أبو بكر فنزلنا على أهل أبيات, وفيهم امرأة حبلى ومعنا رجل من أهل البادية فقال للمرأة الحامل: أيسرك أن تلدي غلاما قالت: نعم. قال: إن أعطتني شاة ولدت غلاماً فأعطته فسجع لها أسجاعا ثم عمد إلى الشاة فذبحها وطبخها وجلسنا نأكل منها ومعنا أبو بكر؛ فلما علم بالقصة قام فتقيأ كل شيء أكله قال ثم رأيت ذلك البدوي قد أتى به عمر بن الخطاب, وقد هجا الأنصار فقال لهم عمر: لولا أن له صحبة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أدري ما نال فيها لكفيتموه ولكن له صحبة(2).
قال: فتوقف عمر عن معاتبته فضلاً عن معاقبته لكونه علم أنه لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - . وفي ذلك أكبر شاهد على أنهم كانوا يعتقدون أن شأن الصحبة لا يعدله شيء كما ثبت في حديث أبي سعيد الماضي. فهذا النص يبين تدليسه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - .
2- قول أنس بن مالك - رضي الله عنه - لما سئل هل بقي من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد غيرك؟ فقال: بقي ناس من الأعراب قد رأوه؛ فأما من صحبه فلا.
__________
(1) ... "منهاج السنة" (8/433).
(2) ... "فتح المغيث" (3/95).(1/10)
قال المخالف: والأثر واضح بأن أنس بن مالك لا يعد كل من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - صحابياً – كذا قال –.
وهذه مجازفة منه؛ فأنس - رضي الله عنه - يقصد هنا الصحبة الخاصة وليست الصحبة العامة. ولذلك قال الحافظ العراقي وغيره: والجواب أنه أراد إثبات صحبة خاصة ليست لأولئك(1).
وقال ابن حجر رحمه الله في قول الإمام أحمد في مسلمة بن مخلد: ليست لمسلمة صحبة.
قال ابن حجر: فلعله أراد الصحبة الخاصة.
وكذلك قول أبي حاتم في الحسين بن علي رضي الله عنهما: ليست له صحبة(2).
وكذلك قول عاصم الأحول في عبد الله ين سرجس.
قال ابن حجر في ترجمة عبد الله من "الإصابة": وقال شعبة عن عاصم الأحول قال: رأى عبد الله بن سرجس النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن له صحبة.
قال أبو عمر: أراد الصحبة الخاصة.
وعليه ينزل قول جابر الذي أورده المخالف , وقول شعبة في معاوية بن قرة, و قول كثير من العلماء في بعض الصحابة له رؤية ولا نذكر له صحبة. فهم يقصدون الصحبة الخاصة، فتنبه.
3- استدل المخالف بقول سعيد بن المسيب - والذي لا يصح عنه – وهو أنه كان لا يعد صحابياً إلا من أقام مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سنة أو سنتين أو غزا معه غزوة أو غزوتين.
وقد اعترف المخالف بضعفه لأن في سنده الواقدي ومع ذلك استدل به. وقوله إنه ضعيف, فيه قصور والأصح أن يقال فيه أكثر من ذلك فالواقدي متروك عند العلماء وضاع متهم بالكذب كما ذكر ابن حجر.
__________
(1) ... "تدريب الراوي" (2|211) و"الباعث الحثيث" (175).
(2) ... وقد اعترف المخالف أن قول أبي حاتم في الحسين أراد الصحبة المقتضية للنصرة والجهاد, وهنا تلمس التشيع الذي يحاول أن يخفيه مناقضاً نفسه في قوله الشاذ.(1/11)
وقد تعقب ابن الجوزي هذا القول المنسوب إلى سعيد بن المسيب فقال بعد أن ذكر أن الصحبة تتفاوت – القول الذي قدمناه عنه – قال: فسعيد بن المسيب عنى القسم الأول – أي الصحبة الخاصة - .. وعموم العلماء على خلاف قول ابن المسيب فإنهم عدوا جرير بن عبد الله من الصحابة وإنما أسلم في سنة عشر, وعدوا في الصحابة من لم يغز معه, ومن توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو صغير السن(1).
وأما مذهب الواقدي أنه كان لا يعد الصحابي إلا من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالغاً عاقلاً, واستدل به المخالف. فهو مذهب شاذ كما ذكر العلماء(2).
وقال السخاوي : والتقييد بالبلوغ كما قال المؤلف شاذ وهو يخرج نحو محمود بن الربيع الذي عقل من النبي صلى الله عليه وسلم مجة وهو ابن خمس سنين مع عدهم إياه في الصحابة .
4- تدليسه في نسبة مذهبه إلى الإمام أحمد ومحاولة إظهار أن للإمام أحمد قولين، مع أن المعروف والمشهور عند العلماء قوله الذي نقلناه ولم ينقلوا عنه خلاف ذلك, ولا يصح للباحث المنصف أن ينسب مذهباً لعالم بالاستنباط من قوله وإلا نسب إلى الكذب وخلاف الأمانة العلمية.
5- دلل المخالف على مذهبه من تسمية البخاري لكتابه "الأوسط": كتاب "المختصر من تاريخ هجرة رسول الله والمهاجرين والأنصار وطبقات التابعين لهم بإحسان ومن بعدهم" ....
قال المخالف: أقول فالبخاري يطلق على من سوى المهاجرين والأنصار تابعين بإحسان!
أقول: وهذا والله من المضحك المبكي فهل يفهم المسلم من قول البخاري هذا الإطلاق الذي يدعيه المخالف؛ فمذهب البخاري قرره في "الصحيح" وهو مذهبه ومذهب شيخه ابن المديني فلم التدليس والتلبيس، ثم الحكم في ذلك كتابه "الأوسط".
__________
(1) ... "تلقيح فهوم أهل الأثر" (101) عن كتاب الباعث الحثيث تحقيق الشيخ علي الحلبي
(2) ... "تدريب الراوي" (2|212).(1/12)
ومثال واحد على ذلك معاوية بن خديج، قال البخاري: له صحبة, وقد عده المخالف من التابعين بغير إحسان, والأمثلة على ذلك كثيرة.
وكذلك يقال في قول الإمام مسلم ما قدمناه من تفاوت الصحبة، فقد نقل المخالف قوله في كتاب "الطبقات" ذكر تسمية من رووا عن رسول الله من الرجال الذين صحبوه ومن رووا عنه ممن رآه ولم يصحبه لصغر سن أو نأي دار.
ثم قال بعد ذلك: منهج مسلم واضح في إخراج بعض من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولقيه من مسمى الصحبة!
6- استدل المخالف بإيراد العجلي جارية بن قدامة في التابعين.
ونحن نقول له: قد عده أبو حاتم من الصحابة وأقره ابن حجر في "الإصابة".
7- اشتراط ابن عبد البر في الصحابي أن يكون بالغاً(1).
وهو قول الواقدي الذي قدمناه قول شاذ كما ذكره العلماء ثم هنا التنبيه أن ابن عبدالبر كان فيه تشيع طفيف.
قال ابن الملقن في باب معرفة الصحابة: وقد ألف الناس فيه كتباً كثيرة من أجلها وأكثرها فوائد "الاستيعاب" لابن عبد البر لولا ما شانه به من إيراده كثيراً مما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم وحكايته عن الإخباريين لا المحدثين وغالب على الإخباريين الإكثار والتخليط فيما يروونه(2).
__________
(1) ... ذكر اللكنوي في ظفر الأماني (530) أن أوسع الأقوال في حد الصحابي قول ابن عبد البر: وهو كل مسلم أدرك زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن لم يره. قال": وهذا هو شرط ابن عبد البر في كتابه الذي ألفه في ذكر الأصحاب المسمى بـ "الاستيعاب".
(2) ... "المقنع" (2|490) وانظر: "الباعث الحثيث" (174) و"فتح المغيث" (3|78).(1/13)
وقال شيخ الإسلام: لكن تشيعه وتشيع أمثاله من أهل العلم بالحديث كالنسائي وابن عبد البر وأمثالهما لا يبلغ إلى تفضيله – أي علي - على أبي بكر وعمر فلا يعرف في علماء الحديث من يفضله عليهما بل غاية المتشيع منهم أن يفضله على عثمان أو يحصل منه كلام أو إعراض عن ذكر محاسن من قاتله ونحو ذلك(1).
8- وأما قول المازري: لسنا نعني بقولنا الصحابة عدول كل من رآه - صلى الله عليه وسلم - يوماً ما أو زاره لماماً أو اجتمع به لغرض وانصرف وإنما نعني به الذين لازموه وعزروه.
فقد تعقبه العلائي بقوله: وهذا قول غريب يخرج كثيراً من المشهورين بالصحبة والرواية عن الحكم بالعدالة؛ كوائل بن حجر ومالك بن الحويرث وعثمان ابن أبي العاص وغيرهم ممن وفد عليه - صلى الله عليه وسلم - ولم يقم عنده إلا قليلاً وانصرف, وكذلك من لم يعرف إلا برواية الحديث الواحد ومن لم يعرف مقدار إقامته من أعراب القبائل والقول بالتعميم هو الذي صرح به الجمهور وهو المعتبر(2).
9- كذلك قول البغوي في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ}، يعني التابعين وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة.
قال المخالف: وهذا يتفق مع مذهبنا تماماً في قصر الصحبة على المهاجرين والأنصار وأن من سواهم من التابعين.
قلت: لا أدري ما وجه هذا الاستنباط من قوله!
10- وكذلك قول ابن الجوزي : فصل الخطاب في هذا الباب أن الصحبة إذا أطلقت فهي في المتعارف تنقسم إلى قسمين:
أحدهما: أن يكون الصاحب معاشرا مخالطا كثير الصحبة فيقال هذا صاحب فلان كما يقال خادمه لمن تكررت خدمته لا لمن خدمه يوما أو ساعة.
الثاني: أن يكون صاحبه في مجالسة أو ممشاه ولو ساعة فحقيقة الصحبة موجودة في حقه وإن لم يشتهر.
قلت: فهل في قوله دلالة أنه يخرج من الصحبة غير المهاجرين والأنصار؟
__________
(1) ... "منهاج السنة" (7/371).
(2) ... "تدريب الراوي" (2/214)، و"فتح المغيث" (3|95).(1/14)
بل في بقية كلام ابن الجوزي ما يدلل أنه يقول بقول الجمهور فقد تعقب قول ابن المسيب المنسوب إليه كما مر معنا.
مفهوم الصحبة في القرآن:
حاول المخالف أن يستدل بآيات من القرآن الكريم على قصور الصحبة على المهاجرين والأنصار, وإخراج من أسلم بعد صلح الحديبية من ثناء الله تعالى. وللجواب على ذلك نقول:
1- إن القرآن نزل بلغة العرب كما قال تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}، ومفهوم الصحبة في لغة العرب تطلق على من طالت ملازمته وعلى من لم تطل وتطلق أيضا على المخالف والعدو ويفهم ذلك من السياق.
فلا يفهم المسلم إذا قرأ قوله تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ} أنه يقتضي ثناء على الكفار كما أنه يفهم من قوله تعالى :{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} أنه مقام مدح وثناء, وكذلك يفهم من جميع الآيات التي فيها ثناء على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - على العموم أنه مقام ثناء وتزكية ومدح, ولا يخرج منهم إلا ما دل عليه الدليل كما في قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((من يصعد الثنية ثنية المرار فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل)). قال: فكان أول من صعدها خيلنا خيل بني الخزرج ثم تتام الناس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((وكلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر)). فأتيناه فقلنا له: تعال يستغفر لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: والله لأن أجد ضالتي أحب إلي من أن يستغفر لي صاحبكم قال: وكان الرجل ينشد ضالة له(1).
__________
(1) ... "مسلم" (2780).(1/15)
2- وهنا مسألة ثانية ألا وهي: أن الهجرة من مكة إلى المدينة لم تتوقف على الراجح من أقوال العلماء إلا بفتح مكة فكل من أسلم وهاجر وتمكن من ذلك فهو من المهاجرين, وإن كانت الهجرة تتفاوت فمن هاجر في بداية الدعوة أعظم أجرا ممن هاجر بعد كما قدمناه في بيان تفاوت الصحبة.
قال ابن عبد البر في "التمهيد"؛ بعد أن ذكر حديث بريدة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال: ((اغزوا بسم الله وفي سبيل الله تقاتلون من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال....)).
قال أبو عمر: هذا من أحسن حديث يروى في معناه إلا أن فيه التحول عن الدار وذلك منسوخ؛ نسخه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((لا هجرة بعد الفتح)), وإنما كان هذا منه صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة فلما فتح الله عليه مكة قال لهم: قد انقطعت الهجرة ولكن جهاد ونية إلى يوم القيامة(1).
ويدل على ذلك أيضاً: ما رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير "باب لا هجرة بعد الفتح":
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة: ((لا هجرة ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا))(2).
2- عن مجاشع بن مسعود قال: جاء مجاشع بأخيه مجالد بن مسعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: هذا مجالد يبايعك على الهجرة فقال: ((لا هجرة بعد فتح مكة ولكن أبايعه على الإسلام))(3).
3- عن عطاء قال: ذهبت مع عبيد بن نمير إلى عائشة رضي الله عنها وهي مجاورة بثبير فقالت لنا: انقطعت الهجرة منذ فتح الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - مكة(4).
__________
(1) ... "التمهيد" (2/218).
(2) ... "البخاري" (3077).
(3) ... "البخاري" (3078).
(4) ... "البخاري" (3080).(1/16)
قال ابن حجر: قوله: ((لا هجرة بعد الفتح)): أي فتح مكة(1).
وقال الخطابي وغيره: كانت الهجرة فرضاً في أول الإسلام على من أسلم لقلة المسلمين بالمدينة وحاجتهم إلى الاجتماع؛ فلما فتح الله مكة دخل الناس في دين الله أفواجاً فسقط فرض الهجرة إلى المدينة, وبقي فرض الجهاد والنية على من قام به أو نزل به عدو. انتهى.
وكانت الحكمة أيضا في وجوب الهجرة على من أسلم ليسلم من أذى ذويه من الكفار؛ فإنهم كانوا يعذبون من أسلم منهم إلى أن يرجع عن دينه وفيهم نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا}(2).
قال النووي: قال العلماء: الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام باقية إلى يوم القيامة وفي تأويل هذا الحديث قولان:
أحدهما: لا هجرة بعد الفتح من مكة لأنها صارت دار إسلام وإنما تكون الهجرة من دار الحرب وهذا يتضمن معجزة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنها تبقى دار الإسلام لا يتصور منها الهجرة.
والثاني: معناه لا هجرة بعد الفتح فضلها كفضلها قبل الفتح كما قال الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ}(3).
وقال أيضاً: وفى الرواية الأخرى لا هجرة بعد الفتح قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: الهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام باقية إلى يوم القيامة, وتأولوا هذا الحديث تأويلين:
أحدهما: لا هجرة بعد الفتح من مكة لأنها صارت دار إسلام فلا تتصور منها الهجرة.
__________
(1) ... "الفتح" (6/220).
(2) ... "الفتح" (6/36).
(3) ... "شرح النووي" (9/23).(1/17)
والثاني: وهو الأصح أن معناه أن الهجرة الفاضلة المهمة المطلوبة التي يمتاز بها أهلها امتيازا ظاهرا انقطعت بفتح مكة ومضت لأهلها الذين هاجروا قبل فتح مكة لأن الإسلام قوى وعز بعد فتح مكة عزاً ظاهراً بخلاف ما قبله(1).
وعليه نقول:
أولا:
أ- استدلال المخالف بقوله تعالى: {لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ}، على قصر الثناء على المهاجرين والأنصار فقط الذين صحبوه في بداية الدعوة مجازفة، ويرده ما قدمناه أن مسمى الهجرة لم ينقطع إلا بفتح مكة, وهذه الآية كانت قبل فتح مكة وكان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثون ألفاً فهم بين اثنين؛ إما مهاجري وإما أنصاري, والثناء يتناول الجميع ولا يخرج منهم إلا ما دل عليه الدليل, ولا يتصور أن يخرج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الجم ويقصر الله الثناء على ألفين من الصحابة هذا يحتاج إلى دليل خاص.
ب- وكذلك قوله تعالى:{لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى}، فقد وعد الله الحسنى الجميع وهذا عام في الجميع.
__________
(1) ... "شرح النووي" (13/8).(1/18)
ج- كذلك قوله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء}، وهذه الآية نزلت بعد صلح الحديبية في فتح مكة. وكذلك قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ* ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ* ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، وهذه الآية نزلت بعد فتح مكة، وفيها ثناء عام على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ووصفهم بالمؤمنين في تلك الغزوة.
د- حاول المخالف أن يدلل على أن الفتح المقصود في الآيات – التي ذكر فيها الفتح - هو صلح الحديبية لا فتح مكة ليتسنى له إخراج من أسلم بعد صلح الحديبية من مسمى الصحبة.
والصواب أن الآيات التي ذكر الله فيها الفتح على أقسام.
قال ابن حجر رحمه الله: وهذا موضع وقع فيه اختلاف قديم, والتحقيق أنه يختلف ذلك باختلاف المراد من الآيات فقوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا}، المراد بالفتح هنا الحديبية لأنها كانت مبدأ الفتح المبين على المسلمين لما ترتب على الصلح الذي وقع منه الأمن ورفع الحرب وتمكن من يخشى الدخول في الإسلام والوصول إلى المدينة من ذلك كما وقع لخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وغيرهما ثم تبعت الأسباب بعضها بعضا إلى أن كمل الفتح.(1/19)
وقد ذكر ابن إسحاق في المغازي عن الزهري قال: لم يكن في الإسلام فتح قبل فتح الحديبية أعظم منه إنما كان الكفر حيث القتال؛ فلما أمن الناس كلهم كلم بعضهم بعضاً وتفاوضوا في الحديث والمنازعة, ولم يكن أحد في الإسلام يعقل شيئاً إلا بادر إلى الدخول فيه؛ فلقد دخل في تلك السنتين مثل من كان دخل في الإسلام قبل ذلك أو أكثر. قال ابن هشام: ويدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم خرج في الحديبية في ألف وأربعمائة ثم خرج بعد سنين إلى فتح مكة في عشرة آلاف، انتهى.
وهذه الآية نزلت منصرفه صلى الله عليه وسلم من الحديبية كما في هذا الباب من حديث عمر.
وأما قوله تعالى في هذه السورة: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}، فالمراد بها فتح خيبر على الصحيح لأنها هي التي وقعت فيها المغانم الكثيرة للمسلمين.
وقد روى أحمد وأبو داود والحاكم من حديث مجمع بن حارثة قال: شهدنا الحديبية فلما انصرفنا وجدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفا عند كراع الغميم, وقد جمع الناس قرأ عليهم: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} الآية. فقال رجل :يا رسول الله أو فتح هو قال: أي والذي نفسي بيده إنه لفتح ثم قسمت خيبر على أهل الحديبية.
وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح عن الشعبي في قوله:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} قال: صلح الحديبية وغفر له ما تقدم وما تأخر وتبايعوا بيعة الرضوان وأطعموا نخيل خيبر وظهرت الروم على فارس وفرح المسلمون بنصر الله. وأما قوله تعالى: {فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} فالمراد الحديبية. وأما قوله تعالى: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا هجرة بعد الفتح))، فالمراد به فتح مكة باتفاق؛ فبهذا يرتفع الإشكال وتجتمع الأقوال بعون الله تعالى(1). هذا أولاً.
وثانياً: الفتح المقصود في سورة النصر هو فتح مكة لا صلح الحديبية وعليه تدل الأدلة:
__________
(1) ... "الفتح" (7/442).(1/20)
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فقال بعضهم: لم تدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله؟ فقال: إنه ممن قد علمتم قال فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم. قال: وما رأيته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني فقال: ما تقولون في {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} حتى ختم السورة فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا وقال بعضهم: لا ندري أو لم يقل بعضهم شيئاً فقال لي: يا ابن عباس أكذلك قولك؟ قلت: لا قال: فما تقول؟ قلت :هو أجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلمه الله له {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فتح مكة؛ فذاك علامة أجلك، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}. قال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم(1).
2- عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: قال لي ابن عباس تعلم آخر سورة نزلت من القرآن نزلت جميعاً؟ قلت: نعم، {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}. قال: صدقت(2).
3- عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر من قول سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه. قالت: فقلت: يا رسول الله أراك تكثر من قول سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه؟ فقال: ((خبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي؛ فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه؛ فقد رأيتها إذا جاء نصر الله, والفتح فتح مكة ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً))(3).
__________
(1) ... "البخاري" (3627).
(2) ... "مسلم" (3024).
(3) ... "مسلم" (484).(1/21)
قال ابن حجر: وقد أخرج النسائي من حديث ابن عباس أنها آخر سورة نزلت من القرآن, وقد تقدم في تفسير براءة أنها آخر سورة نزلت والجمع بينهما أن آخرية سورة النصر نزولها كاملة بخلاف براءة كما تقدم توجيهه, ويقال إن إذا جاء نصر الله نزلت يوم النحر وهو بمنى في حجة الوداع، وقيل عاش بعدها أحداً وثمانين يوماً وليس منافياً للذي قبله بناء على بعض الأقوال في وقت الوفاة النبوية(1).
__________
(1) ... "الفتح" (8/734).(1/22)
ثالثاً: ما ذكره المخالف من استدلاله على نزول سورة النصر قبل فتح مكة(1) بما أخرجه البيهقي في "الدلائل" (7|142): عن عكرمة والحسن بن أبي الحسن قالا: أنزل الله من القرآن بمكة اقرأ باسم ربك ون والمزمل والمدثر وتبت يدا أبي لهب وإذا الشمس كورت وسبح اسم ربك الأعلى والليل إذا يغشى والفجر والضحى وألم نشرح والعصر والعاديات والكوثر وألهاكم التكاثر وأرأيت وقل يا أيها الكافرون وأصحاب الفيل والفلق وقل أعوذ برب الناس وقل هو الله أحد والنجم وعبس وإنا أنزلناه و الشمس وضحاها والسماء ذات البروج والتين والزيتون ولإيلاف قريش والقارعة ولا أقسم بيوم القيامة والهمزة والمرسلات وق ولا أقسم بهذا البلد والسماء والطارق واقتربت الساعة وص والجن ويس والفرقان والملائكة وطه والواقعة وطسم وطس وطسم وبني إسرائيل والتاسعة وهود ويوسف وأصحاب الحجر والأنعام والصافات ولقمان وسبأ والزمر وحم المؤمن وحم الدخان وحم السجدة وحم عسق وحم الزخرف والجاثية والأحقاف والذاريات والغاشية وأصحاب الكهف والنحل ونوح وإبراهيم والأنبياء والمؤمنون وآلم السجدة والطور وتبارك والحاقة وسأل وعم يتساءلون والنازعات و إذا السماء انشقت وإذا السماء انفطرت والروم والعنكبوت.
__________
(1) ... وقد ناقض المخالف نفسه فذكر في آخر كلامه: ومع هذا فقد يراد بالفتح في سورة النصر فتح مكة، فقد جاء في إحدى الروايتين عن ابن عباس في "صحيح البخاري" صرح به في كتاب المغازي, وأهمله في كتاب التفسير، فلعل ذكر الفتح في المغازي من الصحيح من باب الرواية بالمعنى غير أن له شاهداً عن عائشة في مسلم، لكن هذا كله لا يمنع من نزول السورة قبل الحديبية ولا يمنع كذلك من تعدد النزول!.(1/23)
وما نزل بالمدينة: ويل للمطففين والبقرة وآل عمران والأنفال والأحزاب والمائدة والممتحنة والنساء وإذا زلزلت والحديد ومحمد والرعد والرحمن وهل أتى على الإنسان والطلاق ولم يكن والحشر وإذا جاء نصر الله والنور والحج والمنافقون والمجادلة والحجرات ويا أيها النبي لم تحرم والصف والجمعة والتغابن والفتح وبراءة.
قال البيهقي: والتاسعة يريد بها سورة يونس. قال: وقد سقط من هذه الرواية الفاتحة والأعراف وكهيعص فيما نزل بمكة.
لا دليل فيه لأن سياق ما ذكره ليس في سياق معرفة ترتيب نزول السور ولكن في بيان المكي والمدني من السور, ويدل عليه تبويب البيهقي باب ذكر السور التي نزلت بمكة والتي نزلت بالمدينة وأورده السيوطي في "الإتقان" في باب معرفة المكي والمدني. وهو مخالف لما قدمناه من الأحاديث .
رابعا: اتفاق السلف على الاستدلال بهذه الآيات على عدالة الصحابة عامة ولم يخالف في ذلك إلا المنحرفون على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كالروافض وغيرهم.
مفهوم الصحبة في الأحاديث النبوية:
قال حسن المالكي: (ص43): الغريب أن بعض الناس يبالغ في الاستدلال بأدلة ضعيفة الثبوت أو الدلالة بينما يرد دلالة الآيات الكريمة والأحاديث الصحيحة..
قلت: وهذا الذي عابه المخالف على غيره قد وقع فيه فقد استدل بأحاديث كثيرة ضعيفة الثبوت والدلالة وإليك البيان:
الحديث الأول: عن أبي البختري الطائي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: لما نزلت هذه الآية {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}، قال: قرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ختمها وقال: ((الناس حيز وأنا وأصحابي حيز)). وقال: ((لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية)). فقال له مروان: كذبت! وعنده رافع بن خديج وزيد بن ثابت وهما قاعدان معه على السرير فقال أبو سعيد الخدري: لو شاء هذان لحدثاك فرفع عليه مروان الدرة ليضربه فلما رأيا ذلك قالا: صدق(1).
__________
(1) ... "أحمد في "مسنده" (5/178).(1/24)
قال المخالف: أخرجه أحمد بسند صحيح.
وقال: هذا الحديث فيه إخراج محتمل لمن أسلم بعد الرضوان من الصحابة وإخراج واضح لمن أسلم بعد فتح مكة كالطلقاء والعتقاء ....
قلت: وهذا إسناد ضعيف منقطع وأبو البختري وهو سعيد بن فيروز لم يسمع من أبي سعيد الخدري كما قال أبو داود. وقال أبو حاتم: لم يدرك أبا سعيد.
وتأمل قوله محتمل فهو دليل ظني عنده, ومع ذلك يتعلق به ويستدل به أكثر من مرة.
الحديث الثاني: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية: ((يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم قلنا: من هم يا رسول الله أقريش هم؟ قال: لا ولكن أهل اليمن أرق أفئدة وألين قلوبا فقلنا: هم خير منا يا رسول الله؟ فقال: لو كان لأحدهم جبل من ذهب فأنفقه ما أدرك مد أحدكم ولا نصيفه ألا إن هذا فصل ما بيننا وبين الناس {لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ..} الآية إلى قوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}))(1).
قال المخالف: وفي هذا الحديث بيان للصحبة الشرعية التي فاز بها المهاجرين والأنصار ولن يدركها من أتى بعدهم حتى لو فعلوا ما فعلوا.
قلت: وقد ناقض نفسه فقد قرر في (ص242) لكنني أرى أن بعض المؤمنين في العصور المتأخرة قد يكونون أفضل من بعض المهاجرين والأنصار؟
وهذا الحديث نحن نقول بدلالته كما قدمنا أن الصحبة تتفاوت وأن من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - قي بداية دعوته له السابقة والأجر وهو مقدم على من آمن من بعد، وكلاً وعد الله الأجر والثواب.
__________
(1) ... الطبري في تفسيره (11/673).(1/25)
قال الطبري: قوله: {وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى} يقول تعالى ذكره: وكل هؤلاء الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا والذين انفقوا من بعد وقاتلوا وعد الله الجنة بإنفاقهم في سبيله وقتالهم أعداءه بنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل(1).
الحديث الثالث: عن مجاشع بن مسعود أنه: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بابن أخ له يبايعه على الهجرة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((لا بل يبايع على الإسلام فإنه لا هجرة بعد الفتح ويكون من التابعين بإحسان))(2).
قلت: ناقض نفسه المخالف بقوله أن هذه القصة حصلت يوم فتح مكة مع أنه يرى أن الهجرة انقطعت ببيعة الرضوان ثم ابن أخي مجاشع هو معبد قد عده من الصحابة البخاري والبزار وابن حبان.
وقد ذكر ابن حجر رواية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بايعهم على الجهاد والنصرة ولم يبايعهم على الهجرة لأن الهجرة انقطعت بفتح مكة.
قال ابن حجر في "الإصابة" في ترجمة معبد: وأخرج البغوي والإسماعيلي من طريق زهير بن معاوية عن عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي قال: حدثني مجاشع بن مسعود قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بأخي معبد بعد الفتح لنبايعه على الهجرة فقال: ذهب أهل الهجرة بما فيها. فقلت: على أي شيء نبايعك يا رسول الله؟ قال: ((على الإيمان والجهاد قال: فلقيت معبدا بعد . وكان أكبر فسألته فقال: صدق مجاشع)). ورجاله ثقات.
فهذه الرواية تبين ما جاء في رواية مسند الإمام أحمد.
الحديث الرابع: حديث تخاصم خالد بن الوليد مع عبد الرحمن بن عوف وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تسبوا أصحابي ....
قال المخالف: وهذا دليل واضح على إخراج النبي - صلى الله عليه وسلم - لخالد بن الوليد وطبقته من الصحبة الشرعية ...
__________
(1) ... الطبري في تفسيره (11/673).
(2) ... أحمد في "مسنده" (3/468).(1/26)
أقول: هذا الحديث لا يدل على إخراج خالد - رضي الله عنه - من مسمى الصحبة وإنما يدل كما قدمناه على تفاضل الصحبة.
ويؤيده ما جاء في رواية أخرى عند ابن حبان في "صحيحه" (15|565) عن الشعبي: عن عبد الله بن أبي أوفى قال: شكى عبد الرحمن بن عوف خالد بن الوليد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((يا خالد لم تؤذ رجلا من أهل بدر؟ لو أنفقت مثل أحد ذهباً لم تدرك عمله)). فقال: يا رسول الله يقعون في فأرد عليهم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((لا تؤذوا خالداً فإنه سيف من سيوف الله صبه الله على الكفار)).
وهذا إسناد صحيح كما قال الشيخ شعيب.
فهذه الرواية تبين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن سب عبد الرحمن لأن له فضل في سابقته وشهوده بدر, وفي نفس الأمر نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أذية خالد لأنه سيف الله, وهذا يتفق مع ما قدمناه من تفاوت الصحبة.
وقد أخذ العلماء بدلالته على عدالة الصحابة وأنه لا يجوز التعرض لأحد منهم.
قال الحافظ العراقي: ... فيه أمران: أحدهما أنه اعترض على المصنف في استدلاله بحديث أبى سعيد وذلك لأنه قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - لخالد بن الوليد لما تقاول هو وعبد الرحمن ابن عوف أي أنه أراد بذلك صحبة خاصة.
والجواب: أنه لا يلزم من كونه ورد على سبب خاص في شخص معين أنه لا يعم جميع أصحابه ولا شك أن خالدا من أصحابه وإنه منهي عن سبه, وإنما درجات الصحبة متفاوتة فالعبرة إذا بعموم اللفظ في قوله لا تسبوا أصحابي وإذا نهى الصحابي عن سب الصحابي فغير الصحابي أولى بالنهى عن سب الصحابي(1).
__________
(1) ... "التقييد والإيضاح" (1/302).(1/27)
وأما استدلاله في الحديث الرابع عشر بلفظ: "مالك ولرجل من المهاجرين"، فهو من الاستدلال بالضعيف الذي عابه على غيره؛ فهو من مرسل الشعبي, والمرسل من أقسام الضعيف، فخالد - رضي الله عنه - من المهاجرين, وقد هاجر إلى المدينة وترك دياره وإن كانت الهجرة متفاوتة كما قدمناه في الصحبة.
الحديث الخامس: عن جرير بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة والمهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض في الدنيا والآخرة))(1).
قال المخالف: وهذا الحديث صريح في أن طلقاء قريش وعتقاء ثقيف ليسوا من المهاجرين ولا من الأنصار.
قلت: لكنهم من الصحابة لأن الهجرة انقطعت بفتح مكة ثم إن في الحديث دلالة على فضل الجميع لأن المقام مقام مدح وثناء في الحديث وليس مقام ذم فتأمل.
الحديث السادس: وهو من الاستدلال بالضعيف(2) عن عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً بعدي فمن أحبهم فبحي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه))(3).
الحديث السابع: عن حذيفة بن اليمان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يكون لأصحابي بعدي زلة يغفرها الله لهم بصحبتهم وسيتأسى بهم قوم بعدهم يكبهم الله على مناخرهم في النار))(4).
__________
(1) ... أحمد في "مسنده" (4/363).
(2) ... قال المخالف: مع تحفظي على صحته. وهذه كلمة فضفاضة قالها المخالف في أحاديث صحيحة لا ندري ما مدلولها عنده؟.
(3) ... الترمذي (3862) وقد ضعفه بقوله غريب.
(4) ... الطبراني في "الأوسط" (3|300) وإسناده ضعيف في إسناده ابن لهيعة.(1/28)
الحديث الثامن: عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - : أن أعرابياً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الهجرة فقال: ((ويحك إن شأنها شديد فهل لك من إبل تؤدي صدقتها. قال: نعم. قال: فاعمل من وراء البحار فإن الله لن يترك من عملك شيئاً))(1).
قال المخالف: في هذا الحديث دلالة على أن الهجرة لا يكفي في ثبوتها القدوم إلى المدينة وإعلان الإسلام فلا بد من البقاء والإنفاق والجهاد ..
قلت:
1- وهذا من تدليسه فهذا الأعرابي لم يأت إلى المدينة وإنما عرض للنبي - صلى الله عليه وسلم - في فتح مكة وقد انقطعت الهجرة, وقد ذكره الإمام مسلم في الأحاديث التي ساقها في بيان أنه لا هجرة بعد الفتح. ولذلك بوب الإمام النووي عليه: "باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير وبيان معنى لا هجرة بعد الفتح".
2- وقال النووي رحمه الله: قال العلماء: والمراد بالهجرة التي سأل عنها هذا الأعرابي ملازمة المدينة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وترك أهله ووطنه فخاف عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يقوى لها, ولا يقوم بحقوقها وأن ينكص على عقبيه فقال له: إن شأن الهجرة التي سألت عنها لشديد ولكن اعمل بالخير في وطنك وحيث ما كنت فهو ينفعك ولا ينقصك الله منه شيئاً. والله أعلم(2).
الحديث التاسع: عن عبد الرحمن بن عوف قال: لما حضرت النبي - صلى الله عليه وسلم - الوفاة قالوا : يا رسول الله أوصنا قال: "أوصيكم بالسابقين الأولين من المهاجرين وبأبنائهم من بعدهم إلا تفعلوه لا يقبل منكم صرف ولا عدل". رواه الطبراني في "الأوسط" والبزار إلا أنه قال : "أوصيكم بالسابقين الأولين وبأبنائهم من بعدهم وبأبنائهم من بعدهم". قال الهيثمي: ورجاله ثقات.
__________
(1) ... البخاري (1452) ومسلم (1865).
(2) ... شرح النووي (13/9).(1/29)
قلت: قول الهيثمي: رجاله ثقات لا يعني صحة الحديث كما ذكر شيخنا الألباني في مقدمة "تمام المنة". وهذا الحديث من ذلك ففي إسناده حميد بن القاسم وكذا القاسم بن حميد, وعدادهم في المجهولين فلم يوثقهم سوى ابن حبان.
الحديث العاشر: عن أنس - رضي الله عنه - قال: لما كان يوم حنين التقى هوازن ومع النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرة آلاف والطلقاء فأدبروا قال: يا معشر الأنصار. قالوا: لبيك يا رسول الله وسعديك لبيك نحن بين يديك فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أنا عبد الله ورسوله)). فانهزم المشركون فأعطى الطلقاء والمهاجرين ولم يعط الأنصار شيئاً فقالوا فدعاهم فأدخلهم في قبة فقال: ((أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله . ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لو سلك الناس واديا وسلكت الأنصار شعبا لاخترت شعب الأنصار))(1).
قال المخالف: في هذا الحديث دلالة على إخراج الطلقاء من الصحابة بدلالة قول أنس "عشرة آلاف – يعني من أصحابه – والطلقاء" ولم يقل "اثنا عشر" لأن الطلقاء ليسوا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قلت: وهذا من تناقض المخالف وتذبذبه فهو على تعريفه؛ قد حد الصحبة ببيعة الرضوان والذين لم يتجاوزوا الألفين على أكثر تقدير وهنا حدها بعشرة آلاف قال: يعني من أصحابه!
وهذا رد عليه أيضا في مسألة أخرى؛ فقد تقدم معنا أنه نسب إلى أنس - رضي الله عنه - أنه قصر الصحبة على المهاجرين والأنصار. فأنس هنا باعترافه يطلق الصحبة هنا على غير المهاجرين والأنصار.
الحديث الحادي عشر: ليس له إسناد فقد ذكره ابن حجر في الإصابة بغير إسناد.
__________
(1) ... البخاري (4337).(1/30)
قال ابن حجر: وقال الزبير: ذكروا أنه لما قدم المدينة قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((يا نعيم إن قومك كانوا خيراً لك من قومي. قال: بل قومك خير يا رسول الله. قال: إن قومي أخرجوني وإن قومك أقروك. فقال نعيم: يا رسول الله إن قومك أخرجوك إلى الهجرة وإن قومي حبسوني عنها)).
الحديث الثالث عشر: عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر أمير على جيش أو سرية أوصاه خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال: ((اغزوا باسم الله وفي سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال ...)) الحديث(1).
قال المخالف: وهذا الحديث فيه شرط رئيسي من شروط الهجرة الشرعية وهو التحول من ديار الشرك إلى ديار الإسلام؛ فقدوم الرجل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم عودته إلى بلاده لا تجعله من المهاجرين ؛ والهجرة تستلزم الجهاد أيضا للقادر ...
قلت: لو طبقنا قول المخالف هنا على غيره من كلامه لوجدنا أنه متناقض فخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ويزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهم وغيرهم قد هاجروا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاهدوا معه, وقد أخرجهم المخالف من مسمى الصحبة!
الحديث الخامس عشر: وهو ما جاء عن الزهري مرسلاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر: ((لن أؤمر عليكم بعدها إلا رجل منكم)). لما شكوا عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل.
قلت: وهذا من الاستدلال بالضعيف الذي عابه على غيره فهو كما ذكر المخالف مرسلا وفي إسناده ابن لهيعة.
الحديث السادس عشر: وعن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((لا تزالون بخير ما دام فيكم من رآني وصاحبني)).
قال الهيثمي: رواه الطبراني من طرق ورجال أحدها رجال الصحيح.
__________
(1) ... مسلم (1731).(1/31)
قلت: قد تحفظ المخالف على صحته ومع ذلك استدل به على هواه.
الحديث السابع عشر: ليس له إسناد ذكره ابن حجر في "الإصابة" كما اعترف المخالف وليس من شرط ابن حجر في "الإصابة" أنه إذا سكت على حديث دل على صحته عنده.
الحديث الثامن عشر: وروى البزار والبغوي والبخاري في "التاريخ" والطبراني وابن قانع من طريق عمرو بن قيظي بن عامر بن شداد بن أسيد السلمي حدثني أبي عن جده شداد أنه قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاشتكى فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : مالك يا شداد قال: اشتكيت ولو شربت ماء بطحاء لبرئت قال: فما يمنعك؟ قال: هجرتي قال: فاذهب فأنت مهاجر حيثما كنت.
قلت: عمرو بن قيظي له ترجمة في التاريخ الكبير ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً.
الحديث التاسع عشر: قال إياس حدثني أبي قال: عدنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً موعوكا قال: فوضعت يدي عليه فقلت: والله ما رأيت كاليوم رجلاً أشد حرا فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - : ((ألا أخبركم بأشد حرا منه يوم القيامة؟ هذينك الرجلين الراكبين المقفيين لرجلين حينئذ من أصحابه))(1).
قال المخالف: والحديث فيه نوع من دلالة على أن في الصحابة خاصة وعامة وأن هذين المعذبين من صحابة الصحبة العامة لا الخاصة وقد يكونان منافقين.
أقول: أتفق معك على هذا التقسيم في أن الصحبة منها العامة والخاصة, وأن في الصحابة بعض المنافقين أعلمهم الله لنبيه وأعلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لحذيفة صاحب السر لكن اختلف معك أن ثناء وتزكية الله لجميع الصحابة – العامة والخاصة - ولا يخرج منهم إلا ما دل عليه الدليل كما في هذا الحديث.
وثانياً: لو كان من المنافقين أبو سفيان وعمرو بن العاص ومعاوية وأخاه يزيد لما سكت حذيفة عنهم لما ولاهم عمر بل نصح له وحذره .
مفهوم الصحبة في آثار الصحابة والتابعين:
__________
(1) ... مسلم (2783).(1/32)
1- حديث ابن عمر أنه سمع رجلاً وهو يتناول بعض المهاجرين فقرأ عليه {للفُقَراء المُهاجِرين} الآية ثم قال: هؤلاء المهاجرون فمنهم أنت؟ قال: لا ثم قرأ عليه: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ} الآية ثم قال: هؤلاء الأنصار أفأنت منهم؟ قال: لا ثم قرأ عليه: { {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ} الآية ثم قال: أفمن هؤلاء أنت؟ قال: أرجو قال: لا ليس من هؤلاء من يسب هؤلاء(1).
2- قول سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - : الناس على ثلاث منازل فمضت منهم اثنتان وبقيت واحدة، فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت ثم قرأ: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ} الآية ثم قال: هؤلاء المهاجرون وهذه منزلة و قد مضت، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ} الآية ثم قال: هؤلاء الأنصار وهذه منزلة وقد مضت ثم قرأ: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ} الآية، قال: فقد مضت هاتان المنزلتان وبقيت هذه المنزلة فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت(2).
قلت: في إسناده عبد الله بن زبيد له ترجمة في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم, ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً.
__________
(1) ... "الدر المنثور" (8/113) ولم يذكر إسناده.
(2) ... الحاكم في "المستدرك" (2/526) وصححه ووافقه الذهبي.(1/33)
3- حديث جابر عن عمر بن عبد الرحمن بن جرهد قال: سمعت رجلاً يقول لجابر بن عبد الله: من بقي معك من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: بقي أنس بن مالك وسلمة بن الأكوع فقال رجل: أما سلمة فقد ارتد عن هجرته فقال جابر: لا تقل ذلك فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لأسلم: أبدوا يا أسلم قالوا يا رسول الله وإنا نخاف أن نرتد بعد هجرتنا فقال إنكم أنتم تهاجرون حيث كنتم.
أخرجه أحمد (3|361) وإسناده ضعيف، لكن له شاهد: فأخرج أحمد من طريق سعيد بن إياس بن سلمة أن أباه حدثه قال قدم سلمة المدينة فلقيه بريدة بن الخصيب فقال: ارتددت عن هجرتك فقال: معاذ الله إني في إذن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعته يقول: ابدوا يا أسلم أي القبيلة المشهورة التي منها سلمة وأبو برزة وبريدة المذكور. قالوا إنا نخاف أن يقدح ذلك في هجرتنا قال: أنتم مهاجرون حيث كنتم(1).
قال المخالف: فيه دلالة صريحة على إخراج من ليس من المهاجرين والأنصار من عداد الصحابة لأن سلمة بن الأكوع مات عام 74 فلم يبق في تلك السنة من الصحابة إلا ثلاثة على قول جابر, وهم سلمة بن الأكوع وأنس بن مالك ... وعلى هذا فكل من ترجم له في الصحابة وتوفي بعد عام 74 فليس من الصحابة أصحاب الصحبة الشرعية الخاصة وهؤلاء ألوف .. وعندما بحثنا في تراجم المذكورين في كتب الصحابة ممن توفوا بعد عام 74 وجدنا أغلبهم ليسوا من المهاجرين والأنصار, ولا في حكمهم بل لم نستدرك عليه رضي الله عنه إلا اثنين وهما أبو أمامة الباهلي وعبد الله بن أبي أوفى فهما من الصحابة وماتا بعد الثمانين.
__________
(1) ... "الفتح" (13|41)، أخرجه أحمد (4|55).(1/34)
وقد يوجد غير هذين الواحد والاثنان ممن يغيب عن ذاكرة الصحابي، وعلى هذا يخرج من الصحابة من مات بعد عام 74 ممن ذكر في تراجم الصحابة مثل أبي ثعلبة الخشني وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب وعتبة بن الندر الأسلمي وواثلة بن الأسقع وعبد الله بن الحارث الزبيدي والمقدام بن معد يكرب الزبيدي وعبد الله ين بسر المازني وسفيان بن وهب الخولاني وطارق بن شهاب وعبد الله بن ربيعة بن فرقد الأسلمي وعبد الله بن سرجس وعبد الله بن ثعلبة وعبيد الله بن عباس وعتبة بن عبد السلمي وعمرو بن حريث المخزمي وقدامة بن عبد الكلابي وكثير بن العباس والهرماس بن زياد وسهل بن سعد وأبو عنبة الخولاني والسائب بن خلاد وأبو أمامة بن سهل بن حنيف وأبو الطفيل عامر بن واثلة ويوسف بن عبد الله بن سلام ونحوهم ممن ليسوا من المهاجرين ولا الأنصار وعلى هذا فليسوا من الصحابة عند الصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري!
وللرد عليه نقول:
أ- حديث جابر الذي استدل به المخالف عند التحقيق حديث ضعيف والمرفوع منه حسن لغيره يشهد له حديث سلمة وهو ضعيف أيضا لكن بمجموع الطريقين يرقى الحديث إلى مرتبة الحسن لغيره المرفوع للمرفوع, وأما قول جابر رضي الله عنه فلا شاهد له.
ب- على فرض صحة قول جابر فالجواب عليه ما قدمناه من جواب العلماء على قول أنس وأنه أراد الصحبة الخاصة لا الصحبة العامة.
ج- ما سرده من أسماء الصحابة ثم نسب أن هؤلاء ليسوا بصحابة عند جابر قول يدل على جرأة منه في نسبة هذا المذهب لجابر.
د- تحديده بإخراج من كان من الصحابة بعد عام 74 ثم تناقضه أنه وجد من مات بعد الثمانين من الصحابة وهما أبو أمامة الباهلي وعبد الله بن أبي أوفى ثم حيطته بأنه قد يوجد غير هذين دليل على تخبطه وتذبذبه.(1/35)
4- عن الأسود بن يزيد قال: قلت لعائشة: ألا تعجبين لرجل من الطلقاء (معاوية) ينازع أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - في الخلافة قالت: وما تعجب من ذلك هو سلطان الله يؤتيه البر والفاجر وقد ملك فرعون أهل مصر أربع مائة سنة(1).
قال المخالف: وسنده حسن.
قلت: في سنده أيوب بن جابر قال عنه ابن حبان: كان يخطيء حتى خرج عن حد الاحتجاج به لكثرة وهمه, وقد ضعفه ابن معين والنسائي وأبو زرعة وأبو حاتم وابن المديني. وقول ابن حبان جرح مفسر فيقدم على التعديل المجمل. وفي السند أيضا أبو إسحق وهو مختلط فأنى للأثر الحسن.
5- قول عمر: يا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تناصحوا فإنكم إن لا تفعلوا غلبكم عليها – يعني الخلافة – مثل عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان(2).
والأثر مرسل كما ذكر المخالف والمرسل من أقسام الضعيف.
6- قول عمار: والله لأنتم أشد حباً لرسول - صلى الله عليه وسلم - ممن رآه أو من عامة من رآه.
قال الهيثمي: رواه البزار والطبراني وفيه عبد الله بن داود الحراني أخو عبد الغفار ولم أعرفه وبقية إسناد البزار حديثهم حسن.
قال المخالف: عبد الله بن داود الحراني لم أجد له ترجمة لكن ذكر الخطيب البغدادي ...
ثم وجدت متابعاً لعبد الله بن داود الحراني عند ابن سعد وهو الحسن بن موسى فقد روى عن ابن لهيعة عن أبي عشانة عن أبي اليقظان الحديث نفسه لكن يبقى مدار الحديث على ابن لهيعة وقد حسن له الهيثمي ...
قلت: ابن لهيعة مختلط عند العلماء المحققين, واستثنى العلماء منها رواية العبادلة عنه وهذا ليس منها.
__________
(1) ... "تاريخ دمشق" (59/154).
(2) ... المروزي في "الفتن" (1|128).(1/36)
7- عن إسماعيل بن عبيد الأنصاري قال عبادة لأبي هريرة: يا أبا هريرة إنك لم تكن معنا إذ بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنا بايعناه على السمع والطاعة في النشاط والكسل وعلى النفقة في اليسر والعسر وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى أن نقول في الله تبارك وتعالى ولا نخاف لومة لائم فيه وعلى أن ننصر النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قدم علينا يثرب فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا ولنا الجنة فهذه بيعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي بايعنا عليها فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما بايع عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي الله تبارك وتعالى بما بايع عليه نبيه صلى الله عليه وسلم؛ فكتب معاوية إلى عثمان بن عفان أن عبادة بن الصامت قد أفسد على الشام وأهله؛ فإما تكن إليك عبادة وإما أخلي بينه وبين الشام فكتب إليه أن رحل عبادة حتى ترجعه إلى داره من المدينة فبعث بعبادة حتى قدم المدينة فدخل على عثمان في الدار وليس في الدار غير رجل من السابقين أو من التابعين قد أدرك القوم؛ فلم يفجأ عثمان إلا وهو قاعد في جنب الدار فالتفت إليه فقال: يا عبادة بن الصامت ما لنا ولك ؟فقام عبادة بين ظهري الناس فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا القاسم محمدا - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((أنه سيلي أموركم بعدي رجال يعرفونكم ما تنكرون وينكرون عليكم ما تعرفون فلا طاعة لمن عصى الله تبارك وتعالى فلا تعتلوا بربكم)).
أحمد (5|325) من طريق الحكم بن نافع أبي اليمان ثنا إسماعيل بن عياش عن عبد الله بن عثمان بن خثيم حدثني إسماعيل بن عبيد الأنصاري.
قال المخالف: بإسناد قوي ثم قال: وهذا الأثر دلالته ظنية ليست بصريحة.
قلت: بل ضعيف قال الهيثمي: رواه أحمد بطوله ... وكذلك الطبراني ورجالهما ثقات إلا أن إسماعيل بن عياش رواه عن الحجازيين وروايته عنهم ضعيفة.(1/37)
8- حديث أنس - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج على أصحابه من المهاجرين والأنصار وهم جلوس فيهم أبو بكر وعمر فلا يرفع إليه أحد منهم بصره إلا أبو بكر وعمر؛ فإنهما كانا ينظران إليه وينظر إليهما ويتبسمان إليه ويتبسم إليهما(1).
قلت: وهذا الحديث ضعيف في إسناده الحكم بن عطية روى عنه أبو داود أحاديث منكرة, وقال الإمام أحمد: حدث بمناكير.
9- طعنه في المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - وأنه لم يهاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - , وإنما فر وهناك فرق بين الهجرة والفرار قال: ورجل فعل هذا لن تكون هجرته خالصة لله ورسوله لأن الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى.
أقول: هذا الطعن في النيات دليل على سوء وخبث طوية لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وهذا المخالف منحرف على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - , وخصوصا من كان منهم مع معاوية - رضي الله عنه - كما سيأتي بيانه.
ثانياً: إن الواقدي كذاب وضاع وعلى فرض ثبوت هذه القصة فيلزمك ما فيه. وفيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للمغيرة: الإسلام يجب ما كان قبله(2). فلا يصح أن يعاب الصحابة بما عملوا في الجاهلية قبل إسلامهم .
10- قول ابن عباس رضي الله عنهما قال: ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس يوم توفي على أربعة منازل؛ مؤمن مهاجر والأنصار وأعرابي مؤمن لم يهاجر إن استنصره النبي نصره وإن تركه فهو أذن له وإن استنصروا النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلم كان حقا عليه أن ينصره والرابعة التابعين بإحسان.
وهذا من الاستدلال بالضعيف فابن جريج لم يسمع من ابن عباس وهو مدلس ولم يصرح بالتحديث كما ذكر المخالف , ومع ذلك يستدل به.
__________
(1) ... "الترمذي" (3668).
(2) ... "طبقات ابن سعد" (4|286).(1/38)
11- عن زيد بن أسلم أن عمر بن الخطاب جمع أناسا من المسلمين فقال: إني أريد أن أضع هذا الفيء موضعه فليغد كل رجل منكم علي برأيه؛ فلما أصبح قال: إني وجدت آية من كتاب الله تعالى - أو قال آيات - لم يترك الله أحدا من المسلمين له في هذا المال شيء إلا قد سماه قال الله: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} حتى بلغ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}، ثم قرأ {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} إلى {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} فهذه للمهاجرين، ثم قرأ {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ} حتى بلغ {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، ثم قال: هذه للأنصار، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ رَبَّنَا} حتى بلغ {رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} ثم قال: فليس في الأرض مسلم إلا له في هذا المال حق أعطيه أو حرمه(1).
قلت: وهذا إسناد ضعيف في إسناده عبد الله العمري وهو ضعيف.
12- عن عبد الرحمن بن ميسرة قال: مر بالمقداد بن الأسود رجل فقال: لقد أفلحت هاتان العينان رأتا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاجتمع المقداد غضبا وقال: يا أيها الناس لا تتمنوا أمرا قد غيبه الله فكم ممن قد رآه ولم ينتفع برؤيته.
قلت: الذين لم ينتفعوا برؤيته هم الكفار والمنافقين وليس الصحابة
__________
(1) ... عبد الرزاق في "مصنفه" (4|151).(1/39)
فعن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: جلسنا إلى المقداد بن الأسود يوماً فمر به رجل فقال: طوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله لوددنا أنا رأينا ما رأيت وشهدنا ما شهدت. فاستغضب فجعلت أعجب ما قال إلا خيراً ثم أقبل عليه فقال: ما يحمل الرجل على أن يتمنى محضراً غيبة الله عنه لا يدرى لو شهده كيف يكون فيه, والله لقد حضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقوام كبهم الله على مناخرهم في جهنم لم يجيبوه ولم يصدقوه أو لا تحمدون الله عز وجل إذ أخرجكم لا تعرفون إلا ربكم فتصدقون بما جاء به نبيكم - صلى الله عليه وسلم - قد كفيتم البلاء بغيركم, والله لقد بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - على أشد حال بعث عليها نبي قط في فترة وجاهلية ما يرون أن دينا أفضل من عبادة الأوثان فجاء بفرقان فرق به بين الحق والباطل, وفرق به بين الوالد وولده حتى إن كان الرجل ليرى والده أو ولده أو أخاه كافراً وقد فتح الله قفل قلبه بالإيمان, ويعلم أنه إن هلك دخل النار فلا تقر عينه وهو يعلم أن حبيبه في النار وأنها للتى قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}.
المسألة الثانية: عدالة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
قال المخالف (ص202): من المباحث الرئيسية المتعلقة بالصحابة مبحث عدالة الصحابة هذه المسألة الغامضة التي تحتاج لتجلية وتفصيل في ضوء النصوص الشرعية بعيداً عن الأقوال والأحكام المتأثرة بالخصومات المذهبية بين أهل السنة من جهة وبين الشيعة والخوارج من جهة أخرى ... ونسمع كثيراً قاعدة يرددها كثير من الناس من "أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم عدول...".(1/40)
وقال أيضا (ص214): بعض العلماء قديماً وحديثاً يناقشون مسألة عدالة الصحابة بعيداً عن مفهوم العدالة العام ولا يطبقونها إلا على التابعين فمن بعدهم بينما لا يلتفتون إلى تطبيق هذه الشروط على الصحابة وهم يشملون عندهم كل من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومات على الإسلام وأرى أن أول الخلل يكون عندما نتعامل مع الصحابة وكأنهم جنس آخر غير البشر ...
وقال أيضاً (ص215): فإذا كانت العدالة تزول لارتكاب المظالم والمحرمات فيجب أن يكون ذلك في الصحابة وغيرهم ولم أجد نصاً صحيحاً صريحاً في استثناء الصحابة أصحاب الصحبة الشرعية فضلاً عن غيرهم من أصحاب الصحبة العامة ...
وقال أيضا (ص217): الأدلة التي استدل بها القائلون بعدالة كل الصحابة كلها أدلة غير صريحة في عدالة كل فرد ممن ترجم له في الصحابة بل ولا يصح إطلاق العدالة العامة إلا في المهاجرين والأنصار ومن في حكمهم من حيث الإجمال أيضاً ....
وللجواب على ذلك نقول:
1- إن مسألة عدالة الصحابة رضوان الله عليهم من المسائل المتفق عليها وقد نقل ابن عبد البر الإجماع في ذلك.
وكذلك ممن حكى الإجماع على القول بعدالتهم إمام الحرمين(1)، ولم يخالف في ذلك إلا طوائف من أهل البدع المنحرفين على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كالرافضة.
قال الصنعاني في "توضيح الأفكار": وأما القول بعدالة المجهول منهم أي من الصحابة فهو إجماع أهل السنة والمعتزلة والزيدية.
قال ابن عبد البر في "التمهيد": أنه مما لا خلاف فيه. وقال أيضاً في خطبة "الاستيعاب": ونحن وإن كان الصحابة قد كفينا البحث عن أحوالهم لإجماع أهل الحق من المسلمين وهم أهل السنة والجماعة على أنهم كلهم عدول انتهى ثم أبان المصنف صحة دعواه لإجماع من ذكر فقال: أما أهل السنة فظاهر, وأما المعتزلة فذكره أبو الحسين في كتابه "المعتمد" في أصول(2).
__________
(1) ... "فتح المغيث" (3/94).
(2) ... "توضيح الأفكار" (2|464).(1/41)
وقال الخطيب في "الكفاية" (46): "باب ما جاء في تعديل الله ورسوله للصحابة": وأنه لا يحتاج إلى سؤال عنهم, وإنما يجب فيمن دونهم كل حديث اتصل إسناده بين من رواه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يلزم العمل به إلا بعد ثبوت عدالة رجاله, ويجب النظر في أحوالهم سوى الصحابي الذي رفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم واختياره لهم في نص القرآن؛ فمن ذلك قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وقوله: { {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}، وهذا اللفظ وإن كان عاما فالمراد به الخاص, وقيل وهو وارد في الصحابة دون غيرهم وقوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}، وقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ}، وقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ* فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، وقوله تعالى:{لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ* وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى(1/42)
أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. في آيات يكثر إيرادها ويطول تعدادها. ... ووصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحابة مثل ذلك وأطنب في تعظيمهم وأحسن الثناء عليهم فمن الأخبار المستفيضة عنه في هذا المعنى ... والأخبار في هذا المعنى تتسع وكلها مطابقة لما ورد في نص القرآن وجميع ذلك يقتضى طهارة الصحابة والقطع على تعديلهم ونزاهتهم، فلا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله تعالى لهم المطلع على بواطنهم إلى تعديل أحد من الخلق له فهو على هذه الصفة إلا أن يثبت على أحد ارتكاب ما لا يحتمل إلا قصد المعصية والخروج من باب التأويل فيحكم بسقوط العدالة, وقد برأهم الله من ذلك ورفع أقدارهم عنه على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأولاد والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين القطع على عدالتهم والاعتقاد لنزاهتهم وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين الذين يجيئون من بعدهم أبد الآبدين هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء.
وذهبت طائفة من أهل البدع إلى أن حال الصحابة كانت مرضية إلى وقت الحروب التي ظهرت بينهم وسفك بعضهم دماء بعض فصار أهل تلك الحروب ساقطي العدالة, ولما اختلطوا بأهل النزاهة وجب البحث عن أمور الرواة منهم, وليس في أهل الدين والمتحققين بالعلم من يصرف إليهم خبر ما لا يحتمل نوعاً من التأويل وضرباً من الاجتهاد، فهم بمثابة المخالفين من الفقهاء المجتهدين في تأويل الأحكام لإشكال الأمر والتباسه ويجب أن يكونوا على الأصل الذي قدمناه من حال العدالة والرضا إذ لم يثبت ما يزيل ذلك عنهم.(1/43)
ثم ساق بسنده إلى أحمد بن محمد بن سليمان التستري قال سمعت أبا زرعة يقول: إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعلم أنه زنديق وذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندنا حق والقرآن حق وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة.
وقد أقره الحافظ ابن حجر والسخاوي فتح المغيث (3|108).
وقال النووي: فإن الصحابة رضي الله عنهم كلهم هم صفوة الناس وسادات الأمة وأفضل ممن بعدهم, وكلهم عدول قدوة لا نخالة فيهم, وإنما جاء التخليط ممن بعدهم وفيمن بعدهم كانت النخالة(1).
وقال الشوكاني رحمه الله: اعلم أن ما ذكرناه من وجوب تقديم البحث عن عدالة الراوي إنما هو في غير الصحابة؛ فأما فيهم فلا لأن الأصل فيهم العدالة فتقبل روايتهم من غير بحث عن أحوالهم حكاه ابن الحاجب عن الأكثرين.
قال القاضي: هو قول السلف وجمهور الخلف وقال الجويني بالإجماع؛ ووجه هذا القول ما ورد من العمومات المقتضية لتعديلهم كتاباً وسنة ....(2).
والنقول في ذلك كثيرة جدا عن العلماء.
2- تذبذب المخالف في هذه المسألة فهو يقرر أن الصحابة عدول, ويعني بذلك المهاجرين والأنصار - على استحياء - ثم يقرر أنه لم يجد نصاً صحيحاً صريحاً في استثناء الصحابة أصحاب الصحبة الشرعية فضلاً عن غيرهم من أصحاب الصحبة العامة ...
وقال أيضاً: الأدلة التي استدل بها القائلون بعدالة كل الصحابة كلها أدلة غير صريحة في عدالة كل فرد ممن ترجم له في الصحابة، بل ولا يصح إطلاق العدالة العامة إلا في المهاجرين والأنصار ومن في حكمهم من حيث الإجمال أيضاً ....
__________
(1) ... "شرح النووي" (12|216).
(2) ... "إرشاد الفحول" (101).(1/44)
3- ما الهدف من تقرير رد عدالة الصحابة إلا فتح الباب للروافض وغيرهم من المنحريفين ليتسنى لهم الطعن والقدح في أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كما فعل المخالف فقد لمز بعض الصحابة وتطاول عليهم كما سيأتي.
4- الذي يلجأ إلى أسئلة المكابرة هو المخالف الذي يقول: فالذي يأتي ليدافع عن أمثال الوليد بن عقبة وبسر بن أبي أرطأة وأبي الأعور السلمي وأمثالهم(1) بأنهم صحابة – حسب المفهوم الواسع للصحبة - محتجاً بأن الله أثنى على الصحابة وعلى التسليم له بأن الثناء يشمل صحابة الكافة "الخاصة والعامة"، فهذا المدافع بمنزلة ذلك المحامي في سوء الفهم وضعف العقل أو السخرية بأساليب لغة العرب فهذا من أدلتنا العقلية ...
المسألة الثالثة: وهي التي أشار إليها في (ص242): لكنني أرى أن بعض المؤمنين في العصور المتأخرة قد يكونون أفضل من بعض المهاجرين والأنصار وأن منع التفاضل إنما هو في تفضيل من بعد الحديبية على من قبلهم، أما من لم يدرك ذلك الزمان ولم يجد له على الحق أعوانا فقد يكون له أجر خمسين من أصحاب الصحبة الشرعية ... وملت لهذا الرأي بعد جمع النصوص التي تبدوا متعارضة ...
قلت:
1- وقد طبق هذه القاعدة وأشار إليها في مسألة التفاضل بين الحسن والحسين – وهما تابعيان كما قرر- هل هم أفضل من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
__________
(1) ... كرر المخالف اللمز على هؤلاء الوليد وبسر وغيرهم ممن تكلم عليهم في تراجمهم وكأن الخلاف على هؤلاء وهذا باب يحاول أن يلج منه المخالف إلى غيرهم من الصحابة.(1/45)
قال (ص183): كما يوجد في هذه الطبقة "طبقة التابعين" من هو أفضل من بعض الصحابة صحبة شرعية كالحسن والحسين؛ فهما سيدا شباب أهل الجنة رغم أنهما تابعيان، بل إن هناك خلافاً بين بعض أهل العلم في تفضيلهما على أبي بكر وعمر رضي الله عن الجميع لأن أبا بكر وعمر قد وردت نصوص "في صحتها نظر" - كذا قال - تفيد أنهما سيدا كهول أهل الجنة والحسن والحسين ورد فيهما نص "حسن" يفيد أنهما سيدا شباب أهل الجنة، فهل سيدا شباب أهل الجنة أفضل أم سيدا كهول أهل الجنة؟ هناك خلاف, وإن كان الأكثر على تفضيل أبي بكر وعمر، لكن هذا الخلاف دليل على أن بعض صالحي التابعين أفضل من كثير من المهاجرين والأنصار يشرط أن يأتي التقضيل بأدلة خاصة كما استفدنا تفضيل الحسن والحسين.
قلت: لا خلاف بين أهل السنة - الذي يدعي الانتماء إليهم - أن الشيخين أبا بكر وعمر أفضل من الحسن والحسين، بل من أبيهما وقد صح عن علي: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أبو بكر و عمر سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين ما خلا النبيين والمرسلين لا تخبرهما يا علي))(1).
وصح كذلك عن محمد ابن الحنفية قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال: أبو بكر قلت: ثم من؟ قال :ثم عمر, وخشيت أن يقول عثمان. قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين(2).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نعدل بأبي بكر أحداً ثم عمر ثم عثمان ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم(3).
وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن علياً - رضي الله عنه - أفضل من ولديه الحسن والحسين كما جاء عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة, وأبوهما خير منهما))(4).
__________
(1) ... الترمذي (3665) (3666).
(2) ... البخاري (3671).
(3) ... البخاري (3655).
(4) ... ابن ماجة (118).(1/46)
وقال ابن حجر: ولأبي داود من طريق سالم عن ابن عمرقال: كنا نقول ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي: أفضل أمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان.
زاد الطبراني في رواية: فيسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك فلا ينكره.
وروى خيثمة بن سليمان في فضائل الصحابة من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن ابن عمر قال: كنا نقول إذا ذهب أبو بكر وعمر وعثمان استوى الناس فيسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك فلا ينكره(1).
وقال أيضاً: ونقل البيهقي في "الاعتقاد" بسنده إلى أبي ثور عن الشافعي أنه قال: أجمع الصحابة وأتباعهم على أفضلية أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي(2).
وقال شيخ الإسلام: وأما سائر الاثنى عشر – أي الأئمة عند الشيعة - فهم أصناف منهم من هو من الصحابة المشهود لهم بالجنة كالحسن والحسين, وقد شركهم في ذلك من الصحابة المشهود لهم بالجنة خلق كثير, وفي السابقين الأولين من هو أفضل منهما مثل أهل بدر وهما رضي الله عنهما, وإن كانا سيدا شباب أهل الجنة فأبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة, وهذا الصنف أكمل من ذلك الصنف, وإذا قال القائل هما ولد بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قيل وعلي بن أبي طالب أفضل منهما باتفاق أهل السنة والشيعة(3).
__________
(1) ... "الفتح" (7|17).
(2) ... "الفتح" (7|17).
(3) ... "منهاج السنة" (4|169).(1/47)
وقال شيخ الإسلام: إذ قد تواتر عنه من الوجوه الكثيرة أنه قال - أي علي بن أبي طالب - على منبر الكوفة وقد أسمع من حضر: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر. وبذلك أجاب ابنه محمد بن الحنفية فيما رواه البخاري في "صحيحه" وغيره من علماء الملة الحنيفية, ولهذا كانت الشيعة المتقدمون الذين صحبوا علياً أو كانوا في ذلك الزمان لم يتنازعوا في تفضيل أبي بكر وعمر, وإنما كان نزاعهم في تفضيل علي وعثمان, وهذا مما يعترف به علماء الشيعة الأكابر من الأوائل والأواخر حتى ذكر مثل ذلك أبو القاسم البلخي قال: سأل سائل شريك بن عبد الله ابن أبي نمر فقال له: أيهما أفضل أبو بكر أو علي؟ فقال له: أبو بكر. فقال له السائل: أتقول هذا وأنت من الشيعة؟ فقال: نعم إنما الشيعي من قال مثل هذا, والله لقد رقى علي هذا الأعواد فقال: ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر. أفكنا نرد قوله أكنا نكذبه والله ما كان كذاباً(1).
وقال أيضاً: وقال ابن القاسم سألت مالكا عن أبي بكر وعمر فقال: ما رأيت أحداً ممن أقتدي به يشك في تقديمهما يعنى على علي وعثمان؛ فحكى إجماع أهل المدينة على تقديمهما(2).
وأما تفضيل الصحابة على من بعدهم فهذا مما اتفق عليه السلف.
قال شيخ الإسلام: وذلك أن الإيمان الذي كان في قلوبهم حين الإنفاق في أول الإسلام وقلة أهله, وكثرة الصوارف عنه, وضعف الدواعي إليه لا يمكن أحدا أن يحصل له مثله ممن بعدهم, وهذا يعرف بعضه من ذاق الأمور وعرف المحن والابتلاء الذي يحصل للناس وما يحصل للقلوب من الأحوال المختلفة.
وهذا مما يعرف به أنا أبا بكر رضي الله عنه لن يكون أحد مثله؛ فإن اليقين والإيمان الذي كان في قلبه لا يساويه فيه أحد.
قال أبو بكر بن عياش: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صلاة ولا صيام ولكن بشىء وقر في قلبه.
__________
(1) ... "منهاج السنة" (1/14).
(2) ... "منهاج السنة" (2/58).(1/48)
وهكذا سائر الصحابة حصل لهم بصحبتهم للرسول مؤمنين به مجاهدين معه إيمان ويقين لم يشركهم فيه من بعدهم ... والمقصود أن فضل الأعمال وثوابها ليس لمجرد صورها الظاهرة بل لحقائقها التي في القلوب, والناس يتفاضلون ذلك تفاضلا عظيما وهذا مما يحتج به من رجح كل واحد من الصحابة على كل واحد ممن بعدهم فإن العلماء متفقون على أن جملة الصحابة أفضل من جملة التابعين، لكن هل يفضل كل واحد من الصحابة على كل واحد ممن بعدهم ويفضل معاوية على عمر بن عبد العزيز.
ذكر القاضي عياض وغيره في ذلك قولين, وأن الأكثرين يفضلون كل واحد من الصحابة وهذا مأثور عن ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما.
ومن حجة هؤلاء أن أعمال التابعين وإن كانت أكثر , وعدل عمر بن عبد العزيز أظهر من عدل معاوية, وهو أزهد من معاوية لكن الفضائل عند الله بحقائق الإيمان الذي في القلوب، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)).
قالوا: فنحن قد نعلم أن أعمال بعض من بعدهم أكثر من أعمال بعضهم؛ لكن من أين نعلم أن ما في قلبه من الإيمان أعظم مما في قلب ذلك, والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخبر أن جبل ذهب من الذين أسلموا بعد الحديبية لا يساوي نصف مد من السابقين, ومعلوم فضل النفع المتعدى بعمر بن عبد العزيز أعطى الناس حقوقهم وعدل فيهم؛ فلو قدر أن الذي أعطاهم ملكه وقد تصدق به عليهم لم يعدل ذلك مما أنفقه السابقون إلا شيئا يسيراً, وأين مثل جبل أحد ذهباً حتى ينفقه الإنسان وهو لا يصير مثل نصف مد.
ولهذا يقول من يقول من السلف: غبار دخل في أنف معاوية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل من عمل عمر بن عبد العزيز.(1/49)
وهذه المسألة تحتاج إلى بسط وتحقيق ليس هذا موضعه إذ المقصود هنا أن الله سبحانه مما يمحو به السيئات الحسنات, وأن الحسنات تتفاضل بحسب ما في قلب صاحبها من الإيمان والتقوى, وحينئذ فيعرف أن من هو دون الصحابة قد تكون له حسنات تمحو مثل ما يذم من أحدهم فكيف الصحابة(1).
المسألة الرابعة: تعرضه ولمزه لبعض الصحابة.
1- تعرضه لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ومحاولة إظهار تأخر إسلامه, والله الأعلم بمقصده.
قال (ص141): كرواية بعضهم أن عمر أسلم تمام الأربعين! – كذا كتب بعلامة التعجب - وهذا خطأ إنما المراد بالأربعين هنا الذين كانوا في دار الأرقم الذين خرجوا مع عمر إلى البيت لأن عمر لم يسلم إلا بعد مهاجرة الحبشة وكانوا وحدهم أكثر من مئة من الرجال والنساء!...
قلت: قال ابن حجر رحمه الله: وروى ابن أبي خيثمة من حديث عمر نفسه قال لقد رأيتني وما أسلم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا تسعة وثلاثون رجلا فكملتهم أربعين فأظهر الله دينه وأعز الإسلام(2).
وأقر ابن عبد البر في "الاستيعاب" في ترجمة عمر - رضي الله عنه - أن عمر أسلم تمام أربعين رجلاً.
وفي ترجمة الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي ما يدلل على ذلك أيضاً.
2- لما عدد طبقات الصحابة وذكر الطبقة الأولى طبقة أوائل المسلمين بمكة قدم علي بن أبي طالب وزيد بن حارثة على أبي بكر - رضي الله عنه - , وهذا التقديم لا شك له مغزى في نفسه الله أعلم به مع ادعاه انتسابه لأهل السنة! .
3- تعرضه وتنقصه لعدد من الصحابة كمعاوية والمغيرة رضي الله عنهما كما في صفحة (100 -101).
وفي باب الصحابة الذين لم يحسنوا الصحبة على تقسيمه:
قال (ص 177): وهناك أناس صحبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الحديبية لكنهم أساءوا الصحبة أو تغيرا وبعضهم نافق ...
__________
(1) ... "منهاج السنة" (6/227).
(2) ... "فتح الباري" (7/48).(1/50)
مع اعترافه أنه لم يثبت اتهام أكثرهم من حيث الإسناد, وهنا نلمس مدى انحرافه وتعلقه بأي قول للطعن في الصحابة ومن الأمثلة على ذلك:
1- حميد الأنصاري ذكر أنه صاحب الزبير الذي تشاجر معه ولم يرض بحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد اتهم بالنفاق – كذا قال –.
قلت: لم يرتض ابن حجر رحمه الله أنه صاحب الزبير وتعقب من قال ذلك.
قال ابن حجر: حميد الأنصاري يقال: هو الذي خاصم الزبير في شراج الحرة والحديث في "الصحيحين" من طريق الزهري عن عروة بن الزبير, ولم يسم فيه بل فيه أن رجلاً من الأنصار خاصم الزبير أخرجه أبو موسى من طريق الليث عن الزهري فسماه حميداً. قال أبو موسى لم أر تسميته إلا في هذه الطريق قلت: ويعكر عليه أن في بعض طرقه أنه شهد بدرا وليس في البدريين أحد اسمه حميد(1).
2- ثعلبة بن حاطب. قال المخالف: في قول بعضهم وفيه جدل كبير!
قلت: لا يصح أنه نزل فيه {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ} الآية. مع شهرتها فسند الرواية ضعيف, وقد رد ابن حجر رحمه الله في الإصابة ذلك فقال: وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات ولم يقبض منه الصدقة ولا أبو بكر ولا عمر وأنه مات في خلافة عثمان وفي كون صاحب هذه القصة إن صح الخبر ولا أظنه يصح .. وقد تأكدت المغايرة بينهما بقول ابن الكلبي: إن البدري استشهد بأحد ... والبدري اتفق على أنه ثعلبة بن حاطب وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل النار أحد شهد بدراً والحديبية". وحكى عن ربه أنه قال لأهل بدر: "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". فمن يكون بهذه المثابة كيف يعقبه الله نفاقا في قلبه وينزل فيه ما نزل فالظاهر أنه غيره(2).
3- سمرة بن جندب. قال المخالف: لم يؤثر عنه نفاق لكنه أساء السيرة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان يبيع الخمر ويقتل البشر ويرضي معاوية في سخط الخالق ..
__________
(1) ... "الإصابة" (2/129).
(2) ... "الإصابة" (1/400).(1/51)
قلت: {ستكتب شهادتهم ويسألون}.
4- معتب بن قشير. قال المخالف: اتهم بالنفاق وقد اتفقوا على ذكره في المنافقين وهو مذكور في أهل بدر فالله أعلم بحاله.
قلت: لم يجزم العلماء بنفاقه.
قال ابن حجر: وقيل إنه كان منافقاً وإنه الذي قال يوم أحد لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا. وقيل إنه تاب وقد ذكره بن إسحاق فيمن شهد بدراً(1). وكذلك ذكر ابن عبد البر ذلك بصيغة التضعيف.
4- مخشي بن حمير. قال المخالف: اتهم بالنفاق وقيل أنه تاب.
قلت: قال ابن عبد البر: كان من المنافقين وسار مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك حين أرجفوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ثم تاب وحسنت توبته وسمي عبد الرحمن وسأل الله أن يقتله شهيداً. لا يعلم مكانه فقتل يوم اليمامة فلم يوجد له أثر(2).
كما أنه لما عدد التابعين بغير إحسان – على تقسيمه – وهم صحابة، قال: وأما التابعون بغير إحسان فهم الذين ظهر ظلمهم أو فسقهم وكان سوء السيرة غالبا على سيرهم كمعاوية بن أبي سفيان ....
قلت: ومثال هؤلاء الصحابة الذين أساؤوا السيرة في نظره وحشي بن حرب!
قلت: ولما نظرنا في ترجمة وحشي لم نجد له من ظلم أو فسق ولم يخض في حرب صفين أو الجمل، ولم يل لمعاوية، ثم تذكرنا أنه قتل قبل إسلامه حمزة - رضي الله عنه - , فعلمنا أن إسلامه لم يرتضه حسن المالكي, ولم يرتض قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إن الإسلام يجب ما قبله".
وكذلك لما تتبعنا تراجم هؤلاء الصحابة الذين عددهم وجدناهم كانوا مع معاوية أو ولاة لمعاوية أو أقرباء له, وهذا فيه دليل على انحرافه على الصحابة وخصوصاً من كان مع معاوية ومن هؤلاء:
1. عتبة بن أبي سفيان وذنبه أنه أخ لمعاوية.
__________
(1) ... "الإصابة" (6/175).
(2) ... "الاستيعاب" (1/431).(1/52)
2. أبو الأعور السلمي قال مسلم وأبو أحمد الحاكم في الكنى: له صحبة, وذكره البغوي وابن قانع وابن سميع وابن منده وغيرهم في الصحابة. وقال عباس الدوري في تاريخ يحيى بن معين سمعت يحيى يقول: أبو الأعور السلمي رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان مع معاوية.
3. حمل بن سعدانة, وفي ترجمته أنه شهد صفين مع معاوية.
4. الخريت بن راشد, وكان الخريت على مضر يوم الجمل مع طلحة والزبير.
5. زمل بن عمرو وفي ترجمته أنه شهد صفين مع معاوية.
6. منجاب بن راشد وأخيه الحارث, وكانا مع علي ثم خرجا إلى معاوية.
7. يزيد بن أسد البجلي, و كان مع معاوية بصفين.
8. يزيد بن شجرة الرهاوي, وكان مع معاوية. وغيرهم
وأما الذين توقف في حسن اتباعهم:
1. عبد الرحمن بن سمرة, ولم نجد له من ذنب في ترجمته إلا أنه أسلم يوم الفتح.
2. يعلى بن أمية قال المخالف: ولعله تاب.
قلت: وذنبه الذي تاب منه قال أبو عمر: كان يعلى بن أمية سخيا معروفا بالسخاء وقتل يعلى بن أمية سنة ثمان وثلاثين بصفين مع علي بعد أن شهد الجمل مع عائشة, وهو صاحب الجمل أعطاه عائشة, وكان الجمل يسمى عسكراً.
3. خالد بن أسيد الأموي وذنبه أظن في نظر المخالف إما لأنه أموي – وهو متحامل عليهم – أو لأنه أسلم يوم الفتح , ولم نجد في ترجمته غير ذلك!
4. عقبة بن عامر, وسبب توقف المخالف فيه أنه شهد صفين مع معاوية وأمره بعد ذلك على مصر.
5. هند بن عتبة وذنبها أنها صاحبة كبد حمزة - رضي الله عنه - فلم يشفع عنده إسلامها ولا أن الإسلام يجب ما قبله.
6. أنجشة مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - , وذنبه في زعم المخالف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفاه, مع أن الإسناد ضعيف كما ذكر ابن حجر في ترجمته.
إلى غير ذلك الكثير من تخليط وتلبيس وجرأة على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عامله الله بما يستحق.
مسائل أخرى:(1/53)
1- تعرضه لدولة بني أمية في أكثر من موضع وطعنه بهم والذي لا يخلو من رفض وتشيع يحاول إخفاءه(1).
نحن لا ندعي العصمة فيهم؛ فالكمال عزيز لكن نرى أن الله نفع بهم من جهاد ونشر للإسلام ونشر للسنة.
و قد دخل بعض خلفاء بني أمية في ثناء النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله كما في حديث جابر بن سمرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ((يكون اثنا عشر أميرا كلهم من قريش))(2). ووقع عند أبو داود: ((لا يزال هذا الدين عزيزا إلى اثني عشر خليفة)).
قال ابن حجر في تعداد هؤلاء الخلفاء: والذي وقع أن الناس اجتمعوا على أبي بكر ثم عثمان ثم علي إلى أن وقع أمر الحكمين في صفين فسمى معاوية يومئذ بالخلافة ثم اجتمع الناس على معاوية عند صلح الحسن، ثم اجتمعوا على ولده يزيد, ولم ينتظم للحسين أمر بل قتل بعد ذلك، ثم لما مات يزيد وقع الاختلاف إلى أن اجتمعوا على عبد الملك بن مروان بعد قتل ابن الزبير، ثم اجتمعوا على أولاده الأربعة الوليد ثم سليمان ثم يزيد ثم هشام, وتخلل بين سليمان ويزيد عمر بن عبد العزيز فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين, والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك اجتمع الناس عليه لما مات عمه هشام فولي نحو أربع سنين ثم قاموا عليه فقتلوه وانتشرت الفتن وتغير الأحوال من يومئذ ... (3).
__________
(1) ... ولمزه لأهل الشام أخذه من ابن المطهر الحلي الذي رد عليه شيخ الإسلام في "منهاج السنة"، لذلك قال ابن تيمية في الرد على الرافضة: وكذلك من جهلهم وتعصبهم أنهم يبغضون أهل الشام لكونهم كان فيهم أولا من يبغض عليا, ومعلوم أن مكة كان فيها كفار ومؤمنون, وكذلك المدينة كان فيها مؤمنون ومنافقون, والشام في هذه الأعصار لم يبق فيه من يتظاهر ببغض علي, ولكن لفرط جهلهم يسحبون ذيل البغض .. "منهاج السنة" (4|146).
(2) ... "البخاري" (7222).
(3) ... "الفتح" (13/227).(1/54)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ثم السنة كانت قبل دولة بني عباس أظهر منها وأقوى في دولة بني العباس؛ فإن بني العباس دخل في دولتهم كثير من الشيعة وغيرهم من أهل البدع(1).
وقد كان في بني أمية قوم صالحون ماتوا قبل الفتنة, وكان بنو أمية أكثر القبائل عمالاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ فإنه لما فتح مكة استعمل عليها عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية واستعمل خالد بن سعيد بن العاص بن أمية وأخويه أبان بن سعيد وسعيد بن سعيد على أعمال أخر, واستعمل أبا سفيان بن حرب بن أمية على نجران أو ابنه يزيد ومات وهو عليها وصاهر نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ببناته الثلاثة لبني أمية؛ فزوج أكبر بناته زينب بأبي العاص بن الربيع بن أمية بن عبد شمس وحمد صهره لما أراد علي أن يتزوج ببنت أبي جهل فذكر صهراً له من بني أمية بن عبد شمس فأثنى عليه في مصاهرته, وقال حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي..(2).
2- محاولة المقارنة بين أهل السنة وبين الروافض في أكثر من موضع وشتان بين الفريقين. كما في (ص 8 - 46 – 222- 245 - 250).
وقال (ص57): ومثلما نجيز لأنفسنا أن نجعل من علامات الشيعي أن يطلق على أهل السنة النبوية نواصب فمن العدل أن نقرر أن من علامات الناصبي أيضاً أن يطلق على أهل السنة النبوية روافض أو شيعة!
3- يزعم أنه ينتمي إلى أهل السنة كما في (ص9) ثم يكيل إليهم التهم ويعيبهم وينتقصهم.
__________
(1) ... "منهاج السنة النبوية" (4/130).
(2) ... "منهاج السنة" (4|145).(1/55)
قال (ص245): وبما أن في كثير منا "أهل السنة" انحرافاً واضحاً عن علي بن أبي طالب بسبب غلو الشيعة فيه؛ فلذلك لا بد من الإكثار من الدفاع عنه لانتشار النصب بين كثير من طلبة العلم عندنا؛ فمثلما قام الروافض بظلم أبي بكر وعمر وعثمان فعندنا ظلم – وإن كان أقل – لعلي بن أبي طالب, ومن أكبر دلالات ظلمنا له أننا نعد المدافع عنه متشيعاً مذموماً بينما نعتبر المدافع عن معاوية سنياً سلفياً!
4- طعنه في بعض علماء السنة فمقولة: التراب الذي دخل أنف معاوية مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل من عمر بن عبد العزيز. قالها بعض مغفلي الصالحين كما في (ص74) مع أن الكلمة مشهورة لعبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل.
5- علماء السلف في نظره عندهم سطحية وجمود في البحث فتعريف الصحابي الذي رجحه العلماء بكل من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - سببه: أنهم يلجئون للأسهل والأيسر ويبتعدون عن الأمور التي يصعب حسمها أو تحديداً, وإن كانت أكثر علمية فانتشار الأسهل لا يعني صحته, وإنما يعني ضمور البحث العلمي وتطبيقاته عند المسلمين هذا الضمور والجمود على ما رجحه بعض العلماء هو الذي سبب إشكالات علمية في العصور المتأخرة, وأدى إلى تعميق الاختلاف والنزاع والتقليد بين طوائف المسلمين- كذا قال – .
قلت: وكأن الحديث عن مجموعة من العوام الخاملين الكسالى الذين يحبون الراحة والدعة حتى يلجئون إلى الأسهل وليس الحديث عن علماء قدموا الغالي والنفيس وقدموا المهج والأرواح في الدفاع عن الدين والذب عنه. ...
6- وعلماء السلف في نظره متعصبين. قال (ص8): ولذلك نجد أنه تكفي عبارة "فلان يطعن في الصحابة" للقضاء عن كل إبداع بحثي عند أهل السنة، وعلماء السلف في نظره متزلفين لدولة بني أمية فهي لجأت إلى تعميم الصحبة على كل من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يدخل فيهم كلقاء بني أمية كآل أبي سفيان وغيرهم من بني أمية. انظر (ص46).(1/56)
7- وعلماء السلف في حدهم الصحبة بكل من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يلجؤون إلى الأدلة وإنما يلجئون إلى أسئلة المكابرة المشحونة بالتعميم والعاطفة مع إهمال فهمها ... (ص223).
8- وشيخ الإسلام شامي وأهل الشام منحرفون على علي بن أبي طالب وهذا الميل لا يعرفه إلا من عرف الحق وهو منحرف – أي شيخ الإسلام - على علي وأهل البيت متوسعاً في جلب شبه النواصب مع ضعفه في الرد وعنده ازدواجية وهوى وانحراف وهو لم يضبط علماً واحداً ضبطاً قوياً, وأخطاء ابن تيمية لا يدركها إلا من بحث ... وهذه كلمة يريد بها وجه الله وعلى شيخ الإسلام مسؤولية أكثر الانحراف المعاصر على علي بن أبي طالب... انظر (ص239).
أدلة أهل السنة في أن الصحابي هو كل من لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً ومات على ذلك:
1- اللغة وقد تقدم.
2- العرف كما ذكر الإمام النووي وغيره وقد تقدم.
3- الشرع والأدلة على ذلك كثيرة:
أ والدليل على قول الجمهور ما أخرجاه في "الصحيحين" عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس فيقال هل فيكم من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقولون: نعم. فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم. ثم يغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم)). وهذا لفظ مسلم(1/57)
وله في رواية أخرى: ((يأتي على الناس زمان يبعث منهم البعث فيقولون انظروا هل تجدون فيكم أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فيوجد الرجل فيفتح لهم به ثم يبعث البعث الثاني؛ فيقولون هل فيكم من رأى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم به، ثم يبعث البعث الثالث فيقال: انظروا هل ترون فيكم من رأى من رأى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فيقولون نعم. ثم يكون البعث الرابع فيقال: هل ترون فيكم أحدا رأى من رأى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيوجد الرجل فيفتح لهم به)).
ولفظ البخاري ثلاث مرات كالرواية الأولى لكن لفظه: يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس, وكذلك قال في الثانية والثالثة. وقال فيها كلها صحب, واتفقت الروايات على ذكر الصحابة والتابعين وتابعيهم وهم القرون المفضلة...
ففي الحديث الأول: هل فيكم من رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: هل فيكم من رأى من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فدل على أن الرائي هو الصاحب، وهكذا يقول في سائر الطبقات في السؤال هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله ثم يكون المراد بالصاحب الرائي.
وفي الرواية الثانية: هل تجدون فيكم أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم يقال في الثالثة: هل فيكم من رأى من رأى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ومعلوم إن كان الحكم لصاحب الصاحب معلقا بالرؤية ففي الذي صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطريق الأولى والأحرى.
ولفظ البخاري قال فيها كلها صحب, وهذه الألفاظ إن كانت كلها من ألفاظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فهي نص في المسألة, وإن كان قد قال بعضها والراوي مثل أبي سعيد يروي اللفظ بالمعنى؛ فقد دل على أن معنى أحد اللفظين عندهم هو معنى الآخر وهم أعلم بمعاني ما سمعوه من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .(1/58)
وأيضا: فإن كان لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى فقد حصل المقصود وإن كان لفظه صحب في طبقة أو طبقات؛ فإن لم يرد به الرؤية لم يكن قد بين مراده فإن الصحبة اسم جنس ليس لها حد في الشرع ولا في اللغة والعرف فيها مختلف.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقيد الصحبة بقيد ولا قدرها بقدر بل علق الحكم بمطلقها ولا مطلق لها إلا الرؤية, وأيضا فإنه يقال صحبه ساعة وصحبه سنة وشهرا فتقع على القليل والكثير ؛ فإذا أطلقت من غير قيد لم يجز تقييدها بغير دليل بل تحمل على المعنى المشترك بين سائر موارد الاستعمال.
ولا ريب أن مجرد رؤية الإنسان لغيره لا توجب أن يقال قد صحبه, ولكن إذا رآه على وجه الاتباع له والاقتداء به دون غيره والاختصاص به, ولهذا لم يعتد برؤية من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - من الكفار والمنافقين؛ فإنهم لم يروه من قصده أن يؤمن به ويكون من أتباعه وأعوانه المصدقين له فيما أخبر المطيعين له فيما أمر الموالين له المعادين لمن عاداه الذي هو أحب إليهم من أنفسهم وأموالهم وكل شيء.
وامتاز أبو بكر عن سائر المؤمنين بأن رآه وهذه حاله معه فكان صاحباً له بهذا الاعتبار(1).
ب- ودليل ثانٍ ما ثبت في "الصحيحين" عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((وددت أني رأيت إخواني قالوا: يا رسول الله أولسنا إخوانك؟ قال: بل أنتم أصحابي, وإخواني الذين يأتون بعدي يؤمنون بي ولم يروني)).
ومعلوم أن قوله إخواني أراد به إخواني الذين ليسوا بأصحابي, وأما أنتم فلكم مزية الصحبة ثم قال: قوم يأتون بعدي يؤمنون بي ولم يروني.
فجعل هذا حداً فاصلا بين إخوانه الذين ود أن يراهم وبين أصحابه فدل على أن من آمن به ورآه فهو من أصحابه لا من هؤلاء الإخوان الذين لم يرهم ولم يروه. فإذا عرف أن الصحبة اسم جنس تعم قليل الصحبة وكثيرها وأدناها أن يصحبه زمنا قليلاً(2).
__________
(1) "منهاج السنة" (8/388).
(2) "منهاج السنة" (8/389).(1/59)
ج- وعن أنس قال: ذكر مالك بن الدخشن عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فوقعوا فيه يقال له: رأس المنافقين فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "دعوا أصحابي لا تسبوا أصحابي".
قال الهيثمي: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح.
ومالك بن الدخشن - رضي الله عنه - اتهمه بعض الصحابة بالنفاق, وقد رفض النبي - صلى الله عليه وسلم - التكلم عليه.
وأصل الحديث في "الصحيحين" عن عتبان بن مالك وكان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن شهد بدراً من الأنصار: أنه أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني أنكرت بصري وأنا أصلي لقومي؛ فإذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم لم أستطع أن آتي مسجدهم لأصلي لهم فوددت يا رسول الله أنك تأتي فتصلي في بيتي فأتخذه مصلى فقال: سأفعل إن شاء الله. قال عتبان: فغدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر حين ارتفع النهار؛ فاستأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأذنت له فلم يجلس حتى دخل البيت ثم قال لي: أين تحب أن أصلي من بيتك. فأشرت إلى ناحية من البيت؛ فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فكبر فصففنا فصلى ركعتين ثم سلم, وحبسناه على خزير صنعناه فثاب في البيت رجال من أهل الدار ذوو عدد فاجتمعوا فقال قائل منهم أين مالك بن الدخشن؟ فقال بعضهم: ذلك منافق لا يحب الله ورسوله قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا تقل ألا تراه قال لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله. قال: الله ورسوله أعلم قال: قلنا: فإنا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين فقال: فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله.
د- عن عبد الله بن بسر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : طوبى لمن رآني وطوبى لمن رأى من رآني طوبى لهم وحسن مآب.
قال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه بقية , وقد صرح بالسماع فزالت الدلسة وبقية رجاله ثقات.(1/60)
وقد صح الحديث عن ابن عمر وأنس وأبي هريرة وأبي سعبد وواثلة وأبي أمامة وقد ذكرها شيخنا الألباني في "صحيح الجامع".
هـ - عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - : أنه كان متكئاً فذكر من عنده علياً ومعاوية رضي الله عنهما فتقاول رجلاً معاوية فاستوى جالساً ثم قال: كنا ننزل رفاقاً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فكنا في رفقة فيها أبو بكر فنزلنا على أهل أبيات, وفيهم امرأة حبلى ومعنا رجل من أهل البادية فقال للمرأة الحامل: أيسرك أن تلدي غلاماً؟ قالت: نعم. قال: إن أعطتني شاة ولدت غلاماً فأعطته فسجع لها أسجاعاً ثم عمد إلى الشاة فذبحها وطبخها وجلسنا نأكل منها ومعنا أبو بكر؛ فلما علم بالقصة قام فتقيأ كل شيء أكله قال: ثم رأيت ذلك البدوي قد أتى به عمر بن الخطاب, وقد هجا الأنصار فقال لهم عمر: لولا أن له صحبة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أدري ما نال فيها لكفيتموه, ولكن له صحبة.
قال ابن حجر : فتوقف عمر عن معاتبته فضلاً عن معاقبته لكونه علم أنه لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - . وفي ذلك ابن أكبر شاهد على أنهم كانوا يعتقدون أن شأن الصحبة لا يعدله شيء كما ثبت في حديث أبي سعيد الماضي(1).
و- عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أشد أمتي لي حباً ناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله))(2).
ز- بالاستقراء أن كثيراً ممن ترجم للصحابة لم يشترط طول الصحبة أو الملازمة الطويلة ومن أمثلة ذلك ممن أسلم يوم الفتح:
(1) عبد الرحمن بن سمرة.
(2) أسيد بن جارية الثقفي.
(3) أيمن بن خريم بن فاتك الأسدي.
(4) جناب الكلبي.
(5) الحارث بن هشام بن المغيرة.
(6) حي بن جارية الثقفي.
(7) عامر بن كريز.
(8) عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة.
(9) عبد الله بن عمرو بن بجرة.
(10) معمر بن عثمان بن عمرو.
(
__________
(1) "فتح المغيث" (3|114) وقال ابن حجر: بسند رجاله ثقات.
(2) "مسلم" (2832).(1/61)
11) جهيم بن الصلت.
وغيرهم كثير جداً جداً.
وفي الختام هذا ما أعان الله من الرد على حسن بن فرحان المالكي في كتابه "الصحبة والصحابة", نسأل الله لنا وله الهداية, والحمد لله رب العالمين.
الفهرس
الموضوع ... الصفحة
- المسألة الأولى: قصره الصحبة على المهاجرين والأنصار ....... ... 3
- مفهوم الصحبة في القرآن ..................................... ... 17
- مفهوم الصحبة في الأحاديث النبوية ........................... ... 25
- مفهوم الصحبة في آثار الصحابة والتابعين .................... ... 34
- المسألة الثانية: عدالة الصحابة رضوان الله عليهم ............... ... 41
- المسألة الثالثة: قوله: أن بعض المؤمنين في العصور المتأخرة قد يكونون أفضل من بعض المهاجرين والأنصار ...................... ... 45
- المسالة الرابعة: تعرضه ولمزه لبعض الصحابة ................. ... 50
- مسائل أخرى ............................................... ... 54
- أدلة أهل السنة في أن الصحابي هو كل من لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً ومات على ذلك .................................................... ... 58(1/62)