عنوان الكتاب:
وجوب الحكم بما أنزل الله
تأليف:
عطية محمد سالم
الناشر:
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
السنة السادسة - العدد الثاني - رجب 1393هـ - أغسطس 1973م
ص -38- وجوب الحكم بما أنزل الله
هذا المبحث من أهم مباحث القضاء الإسلامي، وألزم ما يعنى به في قسم الدراسة الخاص به في جميع مراحل التعليم والمعاهد العالية الإسلامية وأخص ما يكون بشعبة القضاء بالجامعة الإسلامية وهو الأصل وما عداه فرع عنه.
ولذا لزم البسط فيه قدر الطاقة واحتمال الجهد. وإيراد أقوال السلف واختيارات الخلف، والنظر في حال العالم اليوم مما يسير عليه من قضاء وضعي وتحاكم لغير ما أنزل الله.
وإن العناية بمثل هذه الدراسة ليست من ضروريات هذه الشعبة فحسب بل من ألزم ما تكون للعالم الإسلامي بل وغير العالم الإسلامي ليروا حقيقة الأمر ولتمد إليهم أيدي المساعدة. وتضاء لهم الطريقة ويوضح لهم المنهج ويوجهون إلى الجهة الصحيحة بهداية كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ونور الوحي المنزل من رب العالمين على سيد المرسلين وخاتم النبييين المبعوث رحمة للعالمين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وهذا الموضوع وإن كان بالأهمية بمكانته فإني أورد ما بلغه الوسع ومما يقرب دراسة هذا الموضوع تقسيمه إلى ثلاث نقاط:
ص -39- الأولى: بيان من له حق الحكم والتشريع للخلق وتلزم طاعته وامتثال أوامره والخضوع له والانقياد لما شرع ومن ثم يملك الإلزام به والعقوبة على مخالفته والثواب على طاعته.
الثانية: من الذي شرع لجميع الأمم الماضية ولمن كان تحاكمهم وبيان مصدر التشريع لها والحكم فيها.
الثالثة: ما جاء في حق هذه الأمة من النصوص وما يترتب عليه من نتاج عاجلة وآجلة.(1/1)
أما من له حق الحكم والتشريع فإنه حق لله تعالى لأنه خالق الخلق وأعلم بمصالحهم مربيهم وأعلم بشؤونهم، وهو الحكيم العليم الرؤوف الرحيم سبحانه له مقاليد السموات والأرض وبيده ملكوت كل شيء وهو على كل شيء قدير، شرع لجميع الخلائق في جميع الأمم كما قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه}.
وجاء في النصوص متضافرة متوافرة على أن الحكم كله لله لا حكم لأحد سواه كما في قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلا َّلِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ}. وذكر القرطبي أنه قرئ {يقض الْحَقَّ} وكقوله: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} ومنها قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} قال القرطبي: "أي ليس يتعقب أحد حكمه بنقض ولا تغيير".
ومن ناحية أخرى فإن امتثال الحكم طاعة والطاعة هي عين العبادة والعبادة لا تكون إلا لله وحده وقد جمع الحكم والعبادة معاً لله وحده في قوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاه} فكما لا تجوز عبادة غير الله لا يجوز الحكم إلا لله.
وهذا الحق واجب لله تعالى على خلقه بموجب ولايته عليهم، وأيضاً قد جمعا معاً في قوله تعالى: {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً}.(1/2)
ص -40- وفي هذا كله دليل على أن الحق في الحكم وفي تشريع الأحكام لله تعالى وحده وأن من عداه يكون شركاً مع الله كما في قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}. وبالتالي يكون من أطاعهم فيما شرعوا مما لم يأذن الله به مشركاً مع الله، وهو المسمى شرك الطاعة المنوه عنه في قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}.
فجعل تعالى طاعتهم فيما يوحون به شركاً، وذلك بعد قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ}، فقالوا ما قتلتموه يكون حلالاً وما قتله الله يكون حراماً، فأنزل الله الآية {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}.
وعن عكرمة قال: "الشياطين هنا مردة الأنس من مجوس فارس". وعن عبد الله بن الزبير أنه قيل له: "إن المختار يقول يوحى إليّ" فقال: "صدق إن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم". ويشهد لهذا قوله تعالى: {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً}.
ومن هنا كانت طاعة غير الله فيما لم يأذن به الله ربوبية لهم. قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّه} وسئل حذيفة عن هذه الآية هل عبدوهم فقال: "لا. أحلوا لهم الحرام فاستحلوه. وحرموا عليهم الحلال فحرموه".(1/3)
وعليه حديث عدي بن حاتم عند الترمذي قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: ما هذا يا عدي اطرح عنك هذا الوثن وسمعته يقرأ في سورة براءة {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّه} ". ثم قال: "أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه". وفي رواية "أن عدياً قال: "يا رسول الله ما كنا نعبدهم". فقال: "ألم يكونوا يحرمون عليكم ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون لكم ما حرم الله فتحلونه"، قال: "بلى". قال: "تلك عبادتكم إياهم".
ص -41- وبهذا يظهر أن الحكم أصالة لله وحده وتشريع الأحكام له سبحانه وحده وليس لأحد سواه في ذلك حق.
وقد ظفرت في هذا المقام بما كتبه فضيلة والدنا الشيخ محمد الأمين حفظه الله لأضواء البيان فيما يعده للجزء السابع الذي لم يقدم للطبع وهو مبحث لم يسبق إليه في بيان موجبات التشريع وصفات من له الحق في ذلك لكمال ذاته وصفاته.
ذكر ذلك عند قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} نوجزه من ما يحتمله المقام إلى أن يتم الله هذا الجزء وينعم علينا بظهوره. فيرجع إليه كل طلب، ويتزود منه كل راغب وقد ذكر فضيلته عن هذا الموضوع في مواضع مختلفة من الأضواء خاصة في الجزء الثاني وفي سورة النساء، والكهف، والمائدة، وبني إسرائيل، وكلها ولله الحمد وافية، ولكن ما أعده حفظه الله في هذا المقام أتم وأوفى ما كتب.(1/4)
قال حفظه الله: "( مسألة ): اعلم أن الله جل وعلا بيّن في آيات كثيرة صفات من يستحق أن يكون الحكم له. فعلى كل عاقل أن يتأمل الصفات المذكورة التي سنوضحها إن شاء الله، ثم يقابلها مع صفات البشر المشرعين للقوانين الوضعية فينظر هل تنطبق عليه صفات من له التشريع سبحان الله عن ذلك فإن كانت تنطبق عليهم ولن تنطبق، فليتبع تشريعهم، وإن ظهر يقيناً أنهم أصغر من ذلك فليقف بهم عند حدهم ولا يتجاوز بهم إلى مقام الربوبية سبحانه وتعالى أن يكون له شريك في عبادته أو حكمه أو ملكه.
الآية الأولى: قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}. ثم قال مبيناً صفات من له الحكم بقوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ، فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأََرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. فهل في الكفرة المشرعين للنظم الشيطانية من يستحق أن يوصف بأنه الرب الذي له هذه الصفات من الخلق وبسط الرزق.(1/5)
ص -42- الآية الثانية: قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}. فقوله تعالى فيها: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ} كقوله في تلك {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ}. وقد عجب نبيه عليه السلام بعد قوله {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ} من الذين يدعون الإيمان مع أنهم يريدون المحاكمة إلى من لم يتصف بصفات من له الحكم المعبر عنه بالطاغوت، وكل تحاكم إلى غير شرع الله تحاكم إلى الطاغوت وذلك في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً}.
فالكفر بالطاغوت المصرح به هنا شرط في الإيمان كما بينه تعالى بقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} ومن لم يتمسك بها فهو في مهواة مترد مع الهالكين.
الآية الثالثة: قوله تعالى: {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً}، فهل في الكفرة من يستحق أن يوصف بشيء من هذه الصفات.
الآية الرابعة: قوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. فهل في الكفرة المشركين من له هذه الصفة.
الآية الخامسة: قوله تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ}.(1/6)
الآية السادسة: قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ. وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
ص -43- فهل في مشرعي القانون من يستحق أن يوصف بشيء من ذلك أو يستطيع ولو ادعاء أن يأتي بشيء من ذلك.
الآية السابعة: قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ ألاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
الآية الثامنة: قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}.
الآية التاسعة: قوله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} فهل لأحد ممن يضع القوانين يدعي لنفسه شيئاً من ذلك.
الآية العاشرة: قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. فهل في أولئك من له شيء من هذه الصفات.(1/7)
ويمكن أن يقال أيضاً: هل منهم من تمت كلمته لا تبديل ولا تغيير أم أنهم في كل وقت يغيرون ويبدلون ويعدلون بحسب ما يطرأ عليهم مما لا يعلمون عند وضعهم للقوانين أو كلما جاءت أمة غيرت ما وضعته الأمة قبلها فلم يثبت لهم وضع ولم يسلم لهم قانون.
الحادية عشرة: قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}. فهل من أولئك من ينزل الرزق للخلائق ويتصرف فيه فيملك التحريم والتحليل.
الثانية عشرة: قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
ص -44- وهنا تصريح بأن ما قننوه إنما هو ما تصف ألسنتهم الكذب افتراء على الله، وأنهم بذلك لا يفلحون ثم يثبت أنهم يمتعون قليلاً ثم يعذبون العذاب الأليم. وهذا واضح في تباعد صفاتهم من صفات من له حق التحليل والتحريم وفرض الحكم والزام الطاعة.
الثالثة عشرة: قوله تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ}. وهذا على قصد التعجيز عن بيان مستند التحريم.
فهذه الآيات كلها التي ساقها فضيلته حفظه الله في بيان من له حق الحكم والتشريع، وأن أخص ما فيها أنه تعالى له مقاليد السموات والأرض والخالق الرزاق الدائم الباقي العلي الكبير. يقلب الليل والنهار وتمت كلمته صدقاً وعدلاً، وما يكون من غيره كذب وافتراء، ولا يقيمون عليه شهادة ولا يفلحون ولهم عذاب أليم.(1/8)
ومن أهم ما يلفت النظر في هذه النصوص أنه تمت كلمته تعالى صدقاً وعدلاً؛ لأنها من عالم السر وأخفى يعلم غيب السموات والأرض لا تخفى عليه خافية.. وكلمات غيره افتراء وكذب مضطربة متغيرة ومبدلة من وقت لآخر. كما أن أولئك لا يفلحون بتشريعاتهم وغايتهم يمتعون قليلاً ولهم عذاب أليم. حتى لو ادعوا استقامة أمرهم وسلامة أوضاعهم في نظرهم فإن ذلك كله مؤقت ومتاع فإذا جاؤوا إلى الله كان لهم العذاب الأليم. وأي قيمة في متاع قليل يعقبه عذاب أليم..
بينما تشريع الله تعالى فيه سعادة الدنيا وفلاح الآخرة كما في قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى}.
حتى قيل: إن الله ضمن لمن اتبع هداه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ونحوها قوله: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاًً لِنَفْتِنَهُمْ فِيه} أي بالعمل. {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً}.
ص -45- كما حكم على من أعرض عن ذكره بالعكس {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}. لأن الأول يسير على هدى من الله ونور، والثاني يتخبط في دياجير الجهل على ما سيأتي بيانه إن شاء الله عند المقارنة بين الجانبين في بيان محاسن الشريعة الآتي:
تحكيم الشريعة في الأمم الماضية:
وقد تولى سبحانه الحكم والتشريع لجميع الأمم على ألسنة الرسل بواسطة الكتب وبما يوحيه سبحانه لمن شاء من عباده..
ابتداء من آدم عليه السلام إلى مجيء نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.. فكان حكم الله فيهم وكانوا يتحاكمون إليه بالقرابين كما تقدم1..(1/9)
ثم جميع الأنبياء من بعد نوح عليه السلام في قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} فكان الناس أمة واحدة على التوحيد فاختلفوا فبعث الله النبيين من نوح وما بعده.
قيل كانوا على التوحيد حتى وقع الشرك في قوم نوح فبعث الله النبيين وأنزل مع كل نبي كتاباً بالحق ليحكم الله بكتابه أو يحكم النبي في قومه بكتاب الله، فيما اختلفوا فيه، فلم يترك الحكم لأحد من الخلق حتى الأنبياء، ولكن كان الحكم لله بمقتضى كتابه الذي ينزله على أنبيائه وهذا عام في الأنبياء.
ثم جاء في خصوص داود في تنصيبه خليفة للحكم بين الناس بالحق: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم في مبحث ضرورة نصب القضاء.
ص -46- فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} فجعل استخلافه في الأرض للحكم بين الناس، وجعل حكمه بالحق ونهاه عن اتباع الهوى وحذره من عقاب الذين يضلون عن سبيل الله الذي هو الحق ...
وبعد داود أمة موسى. أنزل الله عليهم التوراة للحكم بما أنزل الله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأََحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}.(1/10)
فالتوراة أنزلت على نبي الله موسى يحكم بمقتضاها في قومه.. ثم يحكم بها من بعده النبيون من بني إسرائيل والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله أي التوراة، وكانوا عليه شهداء على أنها من عند الله.. ثم جاء من بعده عيسى عليه السلام، وأنزل عليه الإنجيل وأمر بالحكم بما فيه وأمر قومه أن لا يخرجوا عن حكمه..
قال تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} أي من الهدى والنور..
وجعل من لم يحكم به منهم: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ثم جاء عقب ذلك مباشرة في سلك النظم في حق الأمة قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجا}..
ص -47- وبهذا تكتمل حلقة الحكم بما انزل الله في جمع الأمم منذ أن كانوا أمة واحدة فاختلفوا، إلى داود إلى أنبياء بني إسرائيل إلى موسى وعيسى ثم إلى هذه الأمة..
الجديد في خصوص هذه الأمة
وبتأمل النصوص المختصة بهذه الأمة خاتمة الأمم نجده يتميز عما قبله بما يتناسب ورسالتها الدائمة إلى أن يرث الله الأرض من عليها، وهذه النصوص كالآتي:(1/11)
أولاً ـ قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً}..
ثم أعيد الأمر مرة أخرى في الآية التالية لها بنفس النص:
{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}..
ففي هذا النص عدة نقاط جديدة عما تقدم من الأمم:
أ ـ أن ما أُنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة مع أنه مصدقاً لما بين يديه من الكتاب فهو مهيمن عليه.
ب ـ التحذير مرتين عن اتباع أهوائهم عما جاء من الحق.
ج ـ انفراد كل أمة بمنهاج تشريعي يخصها.
د ـ التحذير من أن يفتنوه صلى الله عليه وسلم عن بعض ما أنزل الله.
ص -48- وفي النقطة الأولى: بيان منزلة ما أنزل الله على هذه الأمة مما أنزله تعالى على الأمم الماضية من أنه مهيمن على كل ما سبقه من الكتب لاشتماله على كل ما فيها وزيادة عليه بما يلائم هذه الأمة فهو مهيمن على غيره ولا يهيمن غيره عليه.
وهذه الهيمنة هي التي جعلت هذه الأمة خير أخرجت للناس وكانت أمة وسطاً لتكون شهداء على الناس. وهي التي من أجلها غضب الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى الصحيفة في يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتلوه من التوراة ويستحسنها. قال له: " ألم آت بها بيضاء نقية يا ابن الخطاب، والله لو أن موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا اتباعي.." فلم يدع هذا الكتاب مجالاً لشيء من غيره..(1/12)
وفي النقطة الثانية: التحذير مرتين عن اتباع عما جاء من الحق، وأن أعداء الإسلام سيحاولون استمالة المسلمين والحكام خاصة عما جاءهم من الحق وأن ما يحاولون إليه هو الباطل والضلال لأنه ليس بعد الحق إلا الضلال ولا واسطة بينهما، ويشهد لهذا قوله تعالى:
{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَق}..
والنقطة الثالثة: تدل على أن مناهج تلك الأمم في التشريعات الفعلية والفرعية لا تتلاءم مع هذه الأمة، ويشهد لهذا أيضاً أن جميع العبادات مشروعة لمن قبلنا ولكنها ليست مثل ما هي مشروعة لنا كالصلوات والزكاة والصيام والحج وهذا معروف ومفصل في محلاته، فكذلك تشرع الأحكام في العقود والعقوبات والمعاملات ... الخ. فلا يصلح أخذ شيء مما كان مشروعاً لهم ولو أنه منزل من عند الله إليهم إلا يجيء لنا كما هو معروف في قاعد شرع ما قبلنا شرع لنا ما لم يأت في شرعنا ما يدل على أنه ليس بشرع لنا، ومعلوم أنه ما كان شرعاً لهم وجاء في شرعنا أنه ليس شرعاً لنا لا يحق لنا أن نأخذ به فكيف بتشريعات البشر ووضع القوانين الوضعية.(1/13)
ص -49- والنقطة الرابعة: تدل على أنهم سيحاولون بكل وسع أن يفتنوا المسلمين ولو عن بعض ما أنزل الله، والتحذير من هذا البعض لأنهم إن تمكنوا من هذا البعض سيحاولون إلى بعض آخر وهكذا، ولا يكتمل التشريع إلا بتمامه ومن ناحية أخرى فلسنا بحاجة إلى أخذ بعض منهم لأن فيما أنزل إلينا تبياناً لكل شيء. ولا يحق للأمة أن تترك مما أنزل الله إليها ولا البعض منه وإن كان هذا مما اختص به مما أنزل الله على هذه الأمة فإن الله تعالى قد اختص رسوله صلى الله عليه وسلم عمن قبله من الرسل في مجال الحكم في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}. فقد أعطى حق الحكم وأن حكمه بما أراه الله ولذا ألزموا لحكمه والتسليم لأمره في قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}.
إرساء قواعد الحكم السليم: وفي جملة ما تقدم إرساء لقواعد الحكم السليم الذي يقوم على أساس العلم والمعرفة لأنه بما أنزل الله وبما أراه الله وجاء في الحديث أن من ولي القضاء بدون طلب له وكل به ملك يسدده.
ومحاطاً بالنزاهة التامة لأنه مجانب لاتباع الهوى، وجاء في حديث القضاء ثلاثة: وقاض عرف الحق ولم يحكم به أي حكم بهواه فهو في النار. مستقلاً عن أي مؤثر، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك.
وفي نهاية السياق بيان عاقبة من تولى عنه وأعرض في قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} ..(1/14)
فقد اكتملت في هذا العرض أسمى عناصر القضاء والحكم المثالي مما ينادي به العالم اليوم لإصلاح القضاء من وحدة، واستقلال، وحرية، كما اكتمل للحاكم في منهج الإسلام عوامل الحكم السليم من العلم المعرفة والنزاهة.
وعلى هذا الاكتمال عقدت مقارنة بين منهجين في الحكم مختلفين:
ص -50- أ ـ حكم الجاهلية.
ب ـ وحكم الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
أما المنهج الأول: فيكفي لبطلانه ورده إسناده للجاهلية، وهو وصف يتنافى مع أبسط قواعد العدالة وزاده نكارة أنه عرض في صورة إنكاره أفحكم الجاهلية يبغون.
وأما المنهج الثاني: فيكفي للحرص على قبوله ووجوب العمل به أنه من عند الله ومن أحسن من الله حكماً لقوم يؤمنون والتذييل بقوم يؤمنون هنا تتبين للأذهان وإيقاظاً للضمائر واليقين في النفس لعظمة هذا الأمر، تحذير الأمة مما حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد حذر المؤمنين من أعدائهم كما حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
فهذا نداء تحذير لجميع المؤمنين أن يتخذوا اليهود والنصارى أولياء، وهذه الولاية المنهي عنها وإن كانت عامة فهي تتناول الولاية في الحكم الذي هو موضع السياق وهو عين التحذير الوارد في أول السياق الموجه للرسول صلى الله عليه وسلم. وأحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك.(1/15)
وما استقر القانون الوضعي في البلاد الإسلامية بهذه المولاة المنهي عنها لأنه إن كان إيجاده ابتداء فرضاً من المستعمر بالقوة فقد ذهب المستعمر وبقي من يواليه وقد أخذت البلاد استقلالها سياسياً، ولم تستطع تحقيق استقلالها قضائياً، لا لشيء إلا للموالاة، وكأنها لا تريد أن تقطع صلتها بمن كان مستعمرها.
ص -51- النص الثاني: والنص الثاني الخاص بهذه الأمة في وجوب الحكم بما أنزل الله أعم من الأول لاشتماله جميع الأمة بتكليفها بأداء الأمانة ونصب الحكام والحكم بين الناس والطاعة لأولي الأمر منهم.
في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأََمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأََمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}.
{(1/16)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً. فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً. أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً. وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماًً. فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً. وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً. وَإِذاً لآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً. وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً.(1/17)
ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ}.
وهذا السياق كله في قضية الحكم وبيان موقف المنافقين من التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله. وبجانب ذلك منهج مزدوج يبين موقف الحكام من المحكومين وموقف المحكومين من الحكام. فأمر الجميع أولاً بأمر عام وهو
ص -52- أداء الأمانة إلى أهلها وأخصها أمانة الحكم عند الحكام وأمانة الحقوق عند المحكومين ثم خص كل منهما بما يلزمه وكلف به فخص الحكام بقوله: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}. وليس هذا قاصراً على الحكام في مجلس القضاء بل هو عام في كل حكم بين اثنين من شؤون المسلمين كما يشمل حكمي الزوجية وغيرهما.
ثم خص المحكومين بالأمر: بالسمع والطاعة لأولي الأمر وهم العلماء والأمراء وبالتالي الحكام.
وبالنظر في تكليف الأمة بالسمع والطاعة نجد أصلاً أصيلاً في حدود تلك الطاعة المأمور بها فيقول تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول} بتكرار لفظ الطاعة. أما أولوا الأمر فتأتي طاعتهم معطوفة على طاعة من قبلهم.
وبحكم تبعية المعطوف للمعطوف عليه تكون طاعة أولي الأمر تابعة لطاعة الله ورسوله. أي أنه لأولي الأمر حق الطاعة ما داموا طائعين لله ورسوله أو ما دامت طاعتهم موافقة لطاعة الله ورسوله. فإذا كانت مخالفة لطاعة الله ورسوله فلا طاعة لهم فيما يأمرون به لمخالفته لأوامر الله ورسوله.
وعليه الحديث " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " . وهذا خاص فيما يأمر به وينهى عنه لا فيما يأتي هو ويذر. وعليه الحديث "عليكم بالسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي " . "والسمع والطاعة ما لم تروا كفراً بواحاً ". إلى غير ذلك من النصوص التي تضع حداً للسمع والطاعة وتفرق بين الحكم والحاكم.(1/18)
وفي هذا المقام يقيم المرجع بين الأمة فيما بينه وبينها وبين حكامها فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول أي لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم ربط هذا بالإيمان بالله واليوم الآخر وبيان النتيجة خير وأحسن تأويلا. مآلا في العاقبة عاجلاً وآجلاً.
وأيضاً مقارنته بين متحاكمين إلى منهجين مختلفين متحاكمين إلى الطاغوت وقد أمروا انظر: يكفروا به ومتحاكمين إلى كتاب اله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ص -53- أ ـ فالمتحاكمون إلى الطاغوت بدعوة من الشيطان ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً.
ب ـ والتحاكمون إلى ما أنزل الله. بدعوة من الله. ولكن المنافقون يصدون عنه صدوداً.
وبمفهوم هذا فإن المؤمنين على خلاف ذلك، وقد بينه تعالى في قوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
بيان الدوافع التي سببت الإعراض ونتيجته
ومع هذه المقارنة الكاشفة بين الله تعالى نتيجة هذا الإعراض وأسبابه.
أما النتيجة ففي قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي الإعراض والصدود والتحاكم إلى غير ما أنزل الله فيجر عليهم كل المصائب بعدم الردع أو الزجر أي بضياع الأموال وانتهاك الأعراض وغير ذلك.
التمويه والتضليل: ثم يبين تعالى ما يتلبسون من مظاهر التمويه والتضليل بقوله تعالى: {ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً}.(1/19)
وفي هذا المقام بيان لعين الدعوة القديمة المتجددة وهي عين الإحسان والإصلاح وهي عين ما يدعيه أولئك دعاة التغيير من قولهم نريد ما فيه المصلحة وما يتناسب والوضع الحاضر وما يساير التطور إلى غير ذلك مما لا يخرج من ادعاء السابقين من سلفهم حتى أدى ببعضهم أن تجرأ وقال حيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله ز وهذا القول زاد في ضلاله عن قول المتقدمين لأنه ينزل بمستوى الشرع إلى هؤلاء الناس ويجعل الشرع تابعاً لما يسمونه مصلحة. إنا لنتساءل ما حدود هذه المصلحة المزعومة أهي في ربويات البنوك أم عقود الغرر
ص -54- أم في حرية الأفراد ومساواة المرأة وإشباع الرغبات. أم في أي مجال يريدون. وهل المصلحة هي ضابط التشريع أم العكس. وهل المصلحة إلا أمور نسبية فما يكون مصلحة لهذا يكون مضرة لذاك. ولو كانت المصلحة هي المتحكمة لما كانت للشرائع حاجة. ولكن الشرائع هي التي تحدد المصالح المعتبرة. وتحد من أنانيات البشر وطغيان المادة وشره النفوس ولذا يقول تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}. ولم يقل تتحقق مصلحة.
ولعل من قائل أن المصالح المرسلة أصل من أصول التشريع فيقال له: لا تنسى ما قيدت به من كونها مرسلة ولم تتعارض مع نص ينهى عنها ولها باب واسع.
ولبيان كون تلك دعاوى كاذبة ونابعة عن هوى ومرض في قلوبهم جاء قوله تعالى: جواباً على ادعائهم {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} من واقع التولي والإعراض. ولكأن هذا الجواب الموجه إلى ما في قلوبهم ونفوسهم إغفال واطراح وإلغاء لدعواهم إرادة الإحسان والتوفيق. فكان يقول لهم ليس لهذا الادعاء وجود فيما تدعونه وليس لدعواكم قيمة ولا اعتبار أو حقيقة.(1/20)
وإنما الحقيقة هي ما وقر في قلوبكم وصدقه العمل. ومع هذا كله فقد اتجه القرآن الكريم إلى تلك النفوس الضعيفة والقلوب المريضة بالموعظة {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً}. لعل الله ينفعهم بذلك.
ثم قضية عامة في حق عموم الرسل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}. أي فما كان من حقهم أن يخالفوه أو يعرضوا أو يتولوا عنه.
ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم بهذا الإعراض وبهذا التولي وسمعوا الموعظة وأثر فيهم القول البليغ جاؤوك فاستغفروا الله جاءوا تائبين مقلعين عما كانوا عليه راجعين إلى الله وإلى ما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم واستغفر لهم الرسول. ولعل في استغفار الرسول لهم إشعار بصدق توبتهم وقوة عزيمتهم وإخلاصهم في رجوعهم إلى الله. لوجدوا الله تواباً رحيماً.
ص -55- وفي نهاية المطاف معهم يأتي الجواب والحكم بفصل الخطاب:
مؤكداً بالإقسام بالله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} ولا يثبت لهم إيمان ولا يكونون ضمن عداد المؤمنين حتى يأتوك مذعنين و{يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً} ولا ضيقاً ولا تأففاً ولا غضاضة مما قضيت. ويروا فيه الإحسان المطلوب والتوفيق المنشود ويسلموا تسليماً. بدون تردد ولا ارتياب. وقد بيّن تعالى موجبات هذا التسليم والرضا بحكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم أولاً: في واقع الحال لأن حكم الله يحكم ما يشاء ويختار. وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم حكم بما أراه الله.
ثانياً: في النص قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} ما كان لهم الخيرة سبحانه وتعالى عما يشركون. {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي ما تكن من دوافع يخفونها وما يعلنون من ادعاءات يلفقونها. وهو الله لا إله إلا هو له صفات الحمد والكمال في الآخرة والأولى وله الحكم وإليه ترجعون.(1/21)
وكذلك الحال في قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لأحد فيها اختيار أو بالأصح ليس لمؤمن فيها اختيار كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}. ومن يعص الله ورسوله: أي بمخالفة قضائه وأوامره: فقد ضل ضلالاً مبيناً، ثم تأتي قضية افتراضية تبيّن رحمة الله ولطفه بجانب حقه وقدرته: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً}.
فلو حكم الله عليهم أن يقتلوا أنفسهم أو يخرجوا من ديارهم وهذا من أشق التكاليف وله الحق في إلزامهم به. ما فعلوه إلا قليل منهم..
مع أنه سبحانه قد فرض على من قبلهم لذنب ارتكبوه. في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى
ص -56- بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} أي ففعلوا وقتلوا أنفسهم طاعة لله.. وأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده إسماعيل عليه السلام: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ}..(1/22)
فلو كان عندهم استعداد لتنفيذ هذا الحكم لو صدر عليهم لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً في إيمانهم كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً}. {وَإِذاً لآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً}.
ثم تأتي الخاتمة بمثابة مقارنة بين من يطيع الرسول ومن تولى عنه فبعد أن عالج موقف المعرضين عن كتاب الله وعن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مبيناً من يطيع بقوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} أي بحقائق النفوس وخفايا الصدور ودوافع الإعراض ودعاوي الإحسان، وهو يعلم المفسد من المصلح.
وقد كشف القرآن في موقف آخر نفسياتهم على حقيقتها بأن دوافع الإعراض هي الأنانية والمادية القاتلة لا دعوى الإحسان والتوفيق كما زعموا..
وذلك في مقارنة بين المؤمنين والمنافقين، بين المعرض عن التحاكم إلى كتاب الله وبين المطيعين لأوامر اله في قوله تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَات} وهي آيات الكتاب ليحكم بينهم بما أنزل الله {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
ثم يعرض الفريقين ومواقفهم إزاء هذه الآيات المبينات:
أ ـ فالفريق الأول: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ
ص -57- مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}. نفى عنهم الإيمان لتوليهم عما أنزل الله.(1/23)
ثم بين واقعهم العملي: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ. وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} موقف غير ثابت وعمل ليس مطرداً..
فهل هي أنانية منهم أو مادية فيهم أو كما قال تعالى: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} : إنه عين الظلم أن يأتوا لحكم الله مذعنين إذا كان الحق لهم ويتولوا عنه معرضين إذا كان الحق عليهم..
ب ـ أما الفريق الثاني: وهم المؤمنون فبينه تعالى بقوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، فالسمع والطاعة في كلتا الحالتين فيما لهم وما عليهم فكانوا مفلحين..
وفي هذه المقارنة بيان للمبررات المتوارثة في كل جيل وفي كل أمة لأنها عين المبررات التي تذرع بها المعرضون من الأمم السابقة. وإن اختلف شكلها: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ذلك أنهم قالوا لن تمسنا لنار إلا أياماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}.
فكلا التعليلين افتراء لا حقيقة له. ولكن الله تعالى كشفها وبيّن حقيقة حالهم..
فهل يحق بعد ذلك الإعراض عما أنزل الله والتحاكم لغير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم اللهم لا.
أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يؤمنون.(1/24)