هي السلفية
نسبةً وعقيدةً ومنهجاً
بقلم
محمّد إبراهيم شقرة
طبعة جديدة، مزيدةٌ ومحققةٌ
وملحقٌ بها تعقباتٌ وتوضيحات واستدراكات
وفوائد علميةٌ، وضوابط منهجية أحسبها رضيَّة
C
جميع حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى 1413هـ - 1992م
الطبعة الثانية 1421هـ - 2000م
هي السلفية
نسبةً وعقيدةً ومنهجاً(1/1)
مقدمة الطبعة الثانية
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى... أما بعد:
فإن مقدمتي التي جعلتها في أول الطبعة الأولى من كتابي "هي السلفية"، كانت تكون صالحة أن تكون هي نفسها مقدمة لهذه الطبعة الثانية، من غير زيادة عليها، أو إضافة شيء إليها. إلا أن صنيعَ واحدٍ يُعد من رؤوسِ الدعوة السلفية في الكويت -وما أكثر الرؤوس السلفية هذه الأيام، على تفاوتٍ في أحجامها ومقاساتها- ألجأني إلى بيان ما لبَّس به هذا الرأس على الناس، غفر الله له، وكان غنياً أن يواقع مثل هذه الأخطاء الفادحة -التي يُعاب بها الدعامِصَة الصِّغار من الأتباع والمريدين- لو أنه قرأ بنفسه، ولم يتَّكل على معاونيه، الأخيار الصغار، لكنَّه بَشرٌ، وكُلُّنا مثلُه، فأملي أن يتوبَ، توبة نصوحاً قبل موته. من خطيئة كانت منه بمثل هذا الصنيع القبيح.
هذا إلى ما كان من آخرين، ربَّما يعدُّ صنيعه إلى جانب (صنائعهم)، ما يصدق فيه: نار فلانٍ ولا جنَّتُك، أو قول ذلك الشاعر:
والمستجير بعمرو عند كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار
فكان حَسَناً أن أُبيِّن للناس بعضَ الأمور على كرهٍ مني، ولست أعدُّها ردَّاً، وإن ادَّعى بعض من غاصَ في حوبةِ سوءِ نفسه أني حِكتُ ردوداً، وهو يعلم أنِّي أكرهها، وأنهى عنها، وإن كان صار على حداثة سنه ينسى، فليذهب إلى مقبرةِ حيِّ هملان ليسأل ذلك الساكن فيها، رحمه الله، لِم ولمن كانت نُصْرتي، بتلكم الرُّدود التي أحْلِفُ بالله صادقاً أني ما خططت حرفاً منها إلا انتصاراً لذلك الرجل رحمه الله، ودفاعاً عنه، وتبياناً لحقٍّ، سأظلُّ ما حييت مقيماً ثابتاً عليه، لا يُدْنيني منه ثناءٌ، ولا ترغيبٌ، ولا يُقْصيني عنه ذمٌ ولا ترهيبٌ.(2/1)
أولاً: ظهرت في السنوات الأخيرة فرقةٌ سلفيَّةٌ جديدة، تُدعى الفرقة (الرُّدودية) نسبة إلى الرَّدِّ، شُغِفَتْ بنبش القبور، والتسلل بين الدُّور، ونسيانِ البعث والنشور، وهي موزَّعة في بلاد العالم، الناجي منها سعيدٌ، ولو تأهَّل بباطلٍ، والمُدْرَكُ منها شقيٌّ، ولو ظاهره الحقُّ، ولو أقسمت - ولا أكون حانِثاً- أن هذه الفرقة، إن أحْسَنَتْ، فما والله أحسَنَتْ، إلا بظنٍّ منها بنفسها أنها أحْسَنَتْ، وقد نالني -وعهدي بنفسي أنَّ الله سبحانه يُنيلني بين الحين والآخر من لطائفِ بلائه- على يد هذه الفرقة شيءٌ أحمد الله عليه. ولستُ -على ما أدركني من سوئها، وبسطِ ألسنتها، وشدَّةِ ضَرَّائها- أُبالي بها، والعجيب الغريب أن كلَّ ما تصنعه هذه الفرقة، إنما تصنعه على (منهج الكتاب والسُّنَّة!) ولقد حُقَّ والله للكتاب والسنة أن يدعوا: اللهم لا تفرِّقْ بيننا وبين الطَّيبين المساكين، الذين خلقهم الله من ماءٍ مهين، ولا تجعلنا شافعين للهادرين الغلاظ المستكبرين، وحَسَنٌ من هذه الفرقة الجديدة أن تفقه: "اتقوا الظلم فإنَّ الظلم ظلماتٌ يوم القيامة" من قبل أن يأتي يومٌ لا ينفع فيه دينارٌ ولا درهم.
ثانياً: وأحبُّ أن أُطمئن هذه الفرقة "الردوديَّة" أنَّ ردودهم تلك، الناس حيالها، واحدٌ من خمسة:
الأول: لا يفهم ما يقرأُ، فهو لا يكلِّف نفسه أن يقرأ، أو يُحَدِّث نفسه أن يقرأ.
الثاني: قد يفهم ما يقرأُ، ولكن لا يريد أن يفهم ما يقرأُ، إن أراد أن يقرأ.
الثالث: يفهم ما يقرأُ، لكنه يعوِّل على من يقرأُ له، وهذا لا يفهم ما يقرأُ، فهو يُنقَلُ إليه من بعدُ ما لم يَفْهم الذي يقرأُ.
الرابع: يفهم ما يقرأُ، لكنه إن يقرأْ، فهو يقفز عن السهل ويريحُ نفسه من عناءِ قراءة الصعب، فهو إذاً: لم يقرأْ.(2/2)
الخامس: وهم الجمهور والسَّواد الأعظم من قُرَّاء الرُّدود، يقرؤُون بآذانهم، ويَلْقفون ما يُلْقى عليهم من كلِّ من هبَّ ودبَّ بأسماعهم، يزيدون ويُنْقِصون، من عند أنفسهم، بتحريفٍ للمسموع، وتزويقٍ للمنطوق من بعد أن يسمعوه، وتَلَهُّفٍ بمسارعةٍ أن يذيعوه، في غيْر تثبتٍ من حروفه، ولا تقديرٍ لِسوءِ عاقبةٍ، فانظر من بَعْدُ إلى الآثار التي تكون جرَّاءَ تلكم الرُّدود المتناطحة المتسالخة، ومن ذا الذي يحمل أوزارها، هل هو الذي سطَّرها وكتبها، أم هو الذي نظر فيها وقرَأها؟
ثم انظر أيضاً هذا الرُّكام الذي يزيد ويعظم كلَّ يوم، من الردودات -التي عمادُها، الثأْر، والانتصار للنفس، وغمرة الجهل، والإفكُ السافكُ، والغرور التافهُ، وحبُّ الظهور، ونشوب العداوات، وتسافُدُ الأحقاد، وإذهابُ المودَّات، وإنهاكُ التَّقوى- ما الذي عاد به على طلاب العلم من النفع، اللهم إلا أن يكونوا قد عرفوا به كيف يتهارجون، ويتهارشون، و(يتهاوشون) و(يتحاردون) ويُعمِّرون مجالسهم بالغيبة السوداءِ النكراءِ، وحتى إنه أصبح خيراً للمرءِ أن يَلْقى ضِغْثاً من همٍّ في صباحٍ، وآخَرَ من مثله أزواجاً في مساءٍ، من أن يلقى واحداً سلفياً مثل هذا الجاحد الكنود، أو السافح الحقود.
وصَنَعَ مثل هذا أيضاً في جماعات السَّلفيَّة وفرقِها الكثيرة، علمُ الجرح والتعديل، بقواعده الجديدة، التي نُسِيَت بها القواعدُ القديمة، التي حُفِظَت بها السُّنَّة، وعُرِفَ بها دين الله سبحانه منذ الصدر الأول، وأهمُّها: "الغلظة الجامحة الرادحة" و "نسيان الفضل، وجحد حقِّ أهله" و "الإبلاس المطبق والتسليم المطلق المتهارج".(2/3)
ثالثاً: أما أجزاء فريق الردوديَّة السَّلفيين المجدِّدين الأردُنيِّين، الغيورين على الدعوة -لأنهم هم الأحقُّ بها وأَهلُها عند أنفسهم وهم الحاكمون على المصائر بدفاترهم وأقلامهم- فقد أنالهم حظُّ النفس ما أنالهم في الردِّ على ما أودعت كتابي "إرشاد السَّاري"، فلا والله ما أجلتُ بصري فيما كتبوا، ولا نظرت حرفاً مما به أجلبوا، ولا أذنت لأحدٍ أن يقول في أحدهم قولاً بما أغْلوا من سيئات، وأرخصوا من حسنات، ونشروا من ناقص العبارات والعدوان على الكلمات بخطأ التأويلات، ومن كان عنده فضلُ علم، وصبرٌ على حَسَنٍ وسيِّءٍ مما يقرأ ولا يقرأُ، إن كان يريد أن يقرأَ، فلينظر فيما كُتِبَ في تلك المجلة، ليرى فواقر العلم، من (بتر، ونهب، وتحريف، وتقوى غائرة) إلى غير ذلك، ثم ليقل وليحكم.
وأنِّي لناصحٌ صادقٌ أمين لهم أن يكفُّوا غرب نفوسهم، وأن يكونوا على غير ما صاروا إليه، وأن يعودوا عمَّا فرحوا به، وأن لا يظنوا أنهم أحسنوا صُنْعاً فيما ائْتلفوا واجتمعوا عليه. وأن يعلموا أن الذي رأيته لهم فلم يقبلوه، خير مما أروه أنفسهم هم فكتبوه، وأحدثوا به فتنة، ظنوا لأنفسهم بها فوزاً عظيماً، ونصراً مبيناً، ولا والله ما كان منهم إلا إرباعاً على الشيطان وله، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وسيعلم الذين ظلموا أيَّ مُنقَلبٍ ينقلبون.
والله يتولاَّنا بعفوه، ويقيمنا على صوابِ أمره ونَهْيه، فنكون ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وصلى الله وسلَّم وبارك على نبيِّه محمد وآله وصحبه.
عمان في 15 ربيع الثاني 1421هـ
16 تموز 2000
أبو مالك محمد إبراهيم شقرة
المقدمة
إنَّ الحمدَ لله، نَحمدُهُ ونَستعينُهُ ونَستَغفرُهُ، ونَعوذُ بالله مِن شرورِ أنفُسِنا، ومن سَيِّئاتِ أعمالنا، مَن يَهدِهِ الله فلا مُضِلَّ لهُ، ومَنْ يُضلِل فلا هادِيَ لهُ.
وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ الله وَحدَهُ لا شَريكَ لهُ.
وأشهَدُ أنَّ محمداً عَبدُهُ ورَسولُهُ... أما بعد.(2/4)
فهذا كتابٌ مُهمٌّ أوفى عَلى تَجربةٍ قامَت على سُوقِها بَعد نَيِّفٍ وثلاثينَ عاماً، ما بَخِلتُ فيه بشيءٍ مِمَّا أعلَمُ أنَّهُ حقٌّ، يُجْبى إليه مثلُهُ - بالنَّظَر المُتأمِّل، والبَصرِ المُتَعمِّق - مِمَّا يُشبهه، مِمَّا يَجري في حياةِ أُمَّتنا اليَوم، أو مِمَّا سَيَجري فيها من غَدٍ، غيرَ راجٍ به إلاَّ وجهَ الله واليومَ الآخِرِ، فإنْ سألني الله عزَّ وجَلَّ - وهو سائِلُني - هَل نَصحتَ للأُمَّةِ في أمرٍ عَلِمتَهُ، فكان من النَّاسِ حيالَه ظالمٌ لنَفسه، ومُقسطٌ، وسابقٌ بالخَير؟ فيكونُ رجائي أن أكونَ - إن شاءَ الله - مِن السَّابقين بالخَير، والله عندَ حُسن ظَنِّ عَبدِهِ بهِ، إذْ لم أكتُم الأُمَّة شيئاً مِمَّا علمتُهُ حقَّاً فأسديتُ به نُصحاً لها، أو مِمَّا علمتُهُ باطلاً، فكان تحذيرٌ منِّي لها، والله شاهدٌ على ذلك.
وقد جَعَلتُ هذا الكتابَ في عَشرةِ مباحِثَ، بَيَّنتُ فيها منهجَ الدَّعوة السًّلفية(1)، وشرحتُ فيها قواعِدَها وأُصولَها، وَرَددتُ على المُشكِّكينَ بها، الطَّاعنينَ عليها، وأظهَرتُ ما تُخفيهِ نفوسُهُم من الحَسَدِ والمَكْرِ بها، أو الجَهلِ بِحَقيقتِها، ولَبَّيتُ فيه رَغبةَ الكثيرينَ من إخوانِنا وأصحابِنا، نُصرَةً لحَقٍّ، وكَشفاً لباطلٍ، وذَبَّاً عن دَعوةٍ أقامَها الله على عَمودِ النُّور.
ولا إخالُ مسلماً إلاَّ وهو في حاجَةٍ إلى هذا الكتاب، مُحباً كان أمْ باغِضاً، ليزدادَ المُحبُّ حُباً، ويَعرفَ الباغِضُ أينَ هو بِبُغضِهِ من هذه الدَّعوةِ المبارَكةِ، التي أظَلَّت الدُّنيا زَماناً، وستُظلُّهُ مُستَقبلاً إنْ شاءَ الله، بأفيائها الظَّليلَةِ إلى أن يَرثَ الله الأرضَ ومَن عليها، وذلك وعدُ الله؛ ولَن يُخلفَ الله وعدَهُ(2)، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } [سورة الصف: اّية 9].(2/5)
والله سبحانَهُ أسألُ، أنْ يَهديَنا بِنورِهِ إليه، وأنْ يُلزمنا كلمَةَ التَّقوى، ويَجعلنا أهلَها المُخلصين، الرَّاجين رَحمتُه، الخائفينَ عذابَهُ، إنِّه سَميعٌ قَريبٌ مجيبٌ.
وقد كان الفراغ منه
ليلةَ السَّابع والعشرين من رَمضان / عام 1412هـ
الموافق التَّاسع والعشرين من آذار / عام 1992م
والحمدُ لله الذي بنعمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحات
{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [سورة النمل: اّية 19].
كتبه
محمَّد إبراهيم شقرة
عمَّان - الأردن
توْطِئَة وَبيان
فقد كَثُرتْ في الآوِنَةِ الأخيرةِ الأحاديثُ - إمَّا بِجَهلٍ جاهرٍ، وإمَّا بسوءِ قَصدٍ جائرٍ - عَن السَّلفيَّة والسَّلفيِّين، حتى صارَت بهذه الأحاديث، موضعَ شكٍّ وريبةٍ، لدى كثير من أهل السِّياسةِ، يَخافونَها في أنفُسِهم خوفاً شديداً، وَيَخشونَها كَخَشيتهم أعداءَهُم أو أشدَّ خَشيَةً، ويَتربَّصونَ بها الدَّوائرَ، لظنِّهم أنَّها مُوقعةٌ بهم شرَّاً، أو مُنزلةٌ فيهم نُكراً!
وزاد مِن شكِّهم وريبتِهم، ما وقعَ في بَعضِ الأقطارِ الإسلاميَّة مِن أحداثٍ، نُسبَت زوراً وبُهتاناً إلى الدُّعاةِ السَّلفيِّين - وهم منها والله براءٌ براءةَ الذِّئب من دمِ يوسُف - وصل بعضها إلى حدِّ استِباحَةِ الدِّماءِ، واكتفى بعضها الآخر بالمناوَشة من مكانٍ بعيد، تَختفي حيناً، وتَظهَرُ حيناً، ورُبَّما صاحَبَ الحالَين حَذرٌ شديدٌ من طرَفين، يَلِجَّانِ في خُصومَةٍ في آنٍ معاً، وكلٌّ منهما يتربَّصُ بالآخر خَتْلاً، أو ريبةً، أو مِراءً، حتى إذا أصابَ منهُ غَرَضاً أنفَذَ سهمَهُ فيه، لا ليُدميَه، بل لِيَصْمِيَه!!(2/6)
لكنَّ الأمرَ في كل هذه الحالات لا يجاوز دائرة الحَذَر، ثم لا يُخرجْ أضغاثَ الأحقادِ من الصُّدور ، فتَظلُّ مُستَتِرةً، حتى إذا أصابَتها شرارةٌ واحدةٌ اشتَعلَت وأشعَلَت، واحتَرقَت وأحرَقَت، وكان حَصادُها: رؤُوساً، وأرواحاً، ودماءً، وأموالاً مَهدورةً، وثاراتٍ مَوتورَةً، وبيوتاً مَهجورةً، وإحَناً مَسعورَةً، وعداواتٍ ظاهرَةً ومَستورة - عياذاً بالله -!!
ثمَّ ومع هذا الاختلاط، وغياب العقل الواعي، وبترِ اليد السَّديدة الرَّحيمة، وتَداخُل الأشياءِ والأحداثِ، حتى لا يكادَ يُعرَفُ منها حدثٌ يُنسَبُ إلى طرف ما، نِسبَةَ علم ويَقين، لا تَجِدُ مَن يَتَّقي الله من أولئكَ الذينَ يتَربَّصونَ بالمُسلمينَ الدَّوائر - حتى إنَّهُم ربما كانوا مِن المُسلمين أنفُسهم - فيقول قَولَةَ صِدقٍ، لا يَتَّهمُ طَرفاً دونَ الآخرَ، أو يُدينهُ، بل إنَّهُ لَيُفوِّقُ سهمَهُ، ويُوتِّرُ قَوسَهُ، ثمَّ يرمي به طرَفاً واحداً، مَشحوناً بِحقده على الدِّين والعَقيدة، فيَزيدُ بذلك من إشعالِ نارِ العَداوَةِ، ويوقظُ في النُّفوسِ حِسَّاً خامِداً، يُمدُّهُ أحدُ الطَّرفين متى شاءَ، لتَدمير جسور المَودَّة، والتَّعاونِ، والقَرابَةِ، والجوارِ، ويَومئذٍ يَفرح المُجرمون الآثمونَ، ويَرقُصونَ طَرباً على مزامير الشيطان، أليسَ قَد حقَّقوا ما يُريدون؟! وكان لهم من الشرِّ والفسادِ، والخرابِ، والتَّدمير ما يَبغون؟
ولقد ظُلِمَت السَّلفيَّة قَديماً وحديثاً ظُلماً شديداً من أوليائها ومِن خُصومِها معاً، ما ليس في طَوقِ البشرِ لو اجتَمعوا على كلمةٍ واحدةٍ، أن يَنصروا أنفُسَهم إلاَّ أن يكونَ فَصلُ العَدل فيه لله وحدَهُ سبحانَهُ، يومَ يقومُ الأشهاد، وتَذوبُ الأبعاد، ويقف فيه أمامَ الميزان العِبادُ.(2/7)
بيد أنَّه لا بُدَّ من دَفعِ الظُّلمِ بالحُجّةِ والبُرهان، ما استَطَعنا إلى ذلك سبيلاً، فإنَّ نُصرَة الحَقِّ واجبةٌ، ومظاهرةَ أهل الحقِّ أوجَبُ وأوجَبُ، إذ الحقُّ ظاهرٌ بنَفسِهِ جليٌّ، وهو لو تَبدَّى وحدَهُ - بلا نَصيرٍ ولا ظَهيرٍ - لكان تَبدِّيه يَكفيه نَصيراً وظَهيراً، أمَّا أهلُ الحقِّ فَقَد نُوزعوا في الحقِّ قديماً ولا يَزالون، وكان مِن عداوَةِ أهلِ الباطل لهم لباساً، وشَّاهُ أهلُه بزُخرفِ القولِ، وزور العلم، فأهاجوا عليهم العامَّة، وناصرُوا عليهم أهلَ الجَوْرِ من ذوي الرِّياسة والسُّلطان، وأركَضوا كلَّ آثامهم نَحوَ دورهم، وبيوتهم، ومساجدهم، ومدارسهم، لم يَختلف لهم وجهٌ، ولا لَونٌ، ولا شكلٌ، في زمان دون زمان، وهل عُلِمَ أهل سوءٍ، إلاَّ وباطِلُهم قَد كُوِّرَ على ليلٍ بهيمٍ، لا مكان لحقٍّ فيه، وإن ظُنَّ أنَّ حقاً يكون فيه، فلا يُبصر فيه!!
وتناوَلتُ في هذا الكتاب بعضَ القضايا والمسائل، التي تدور في فَلَك السَّلفيَّة، مِن غَيرِ قَصدٍ إلى تَرتيب مُعيَّن، ولا إلى نظام عرفهُ المؤلِّفون والكُتَّاب والباحثون، مِن خلالِ تَجربةٍ عِلميَّةٍ عَمَليَّةٍ، امتَدَّت سنين كثيرةً، لم يكن في حسابي يوماً، أن أجدني قاضياً على نفسي بتجربةٍ، ولا على غيري بِحُكمٍ، قَد يَروقُ بعضاً، ولا يَروق بعضاً آخر، وإن كان يَجدُرُ القول: إنَّ حكم الإنسان على نَفسِهِ، بما يَعلم منها، أصدَقُ وأصوَبُ مِن حُكم غيره عليه، وبِخاصَّة فيما يَتَعلَّقُ بالأعمال القلبيَّةِ التي لا يَعلمُها إلاَّ الله وحدَهُ منه، وحينَ يحكُم الإنسان على نَفسِهِ بِمثلِ ما وَصفنا، يكون أقدَرَ على تَغيير ما يَراه مِن نَفسِهِ خطأً.(2/8)
إذاً: فَثُلْثُ قَرنٍ من الزَّمَن - جَاست خلالَ سنواتِهِ تجربةٌ، حَمَلت صاحِبَها على كفِّها راضيَةً مُطمئنَّةً، واثقةً من صدقِهِ في إقبالِهِ إذ أقبل، وإن خُيِّلَ لِبَعضٍ - من أصحابنا وإخوانٍ لنا - بأنَّه كان له إدبار(!) فعاجَت بهم الظُّنون عَوْجَ مَن لَقِفَ قَلْبُهُ أمراً يُحدَّثُ به، غَيرَ مُتَثَبِّتٍ ولا مُتأنٍّ، وكأنَّهُم لم يَقرءُوا قوله سبحانُه:
{وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله} [سورة الأنفال: اّية 16]، كافٍ(3) في سَبرِ هذه الدَّعوة المُباركةِ، واستظهار حقيقتها، وبناء قناعةٍ مُستَقرَّةٍ، لا يُقبَل غيرها!!
وليسَ مَطلوباً من إنسانٍ - أيِّ إنسانٍ - وهو يضع نَفسَهُ تحتَ ظُلَّةِ القَضاءِ، يَحكُم على نَفسِهِ بِنَفسِهِ، أن يُظهِرَ خَفايا صَدرِهِ، ومكنونَ قَلبِهِ، ومستورَ ذَنبِهِ، ومَن مِن البَشَر ليسَ يُخفي في صَدره، ويُكنُّ في قلبه، ويستُر على نَفسه من ذَنبه؟! وليسَ في هذا شيءٌ من تَزكيةِ النَّفس، بل هو مِمَّا يزكِّي به الله سبحانهُ عَبدَهُ الصَّانِعَهُ، والله سبحانُه هو وحدَهُ العليمُ الخبيرُ، المُوفِّق للخَير الذي يَرضاهُ لِعبادِه.
وحينَ يكون الحُكم على منهج، آمن به المَرءُ، وآثرَهُ على كلِّ ما سواهُ، صدَّقَهُ وأحبَّهُ، فإنَّ الأمرَ مُختلفٌ جداً، إذ الحُكمُ عليه عند مَن آمن به وصَدَّقه، لا يَقبَل إخضاعَه للنَّظَر العَقليِّ، والسَّبْر، والاستقصاءِ، والتَّرجيح، وهو يُقارَن بغَيره.
وإذا كان هذا يَصْدُقُ على كلِّ منهج من مناهج الأرض التي تَواضَعَ عليها البشرُ، فإنَّه لا يَصْدُقُ على المنهج الذي ارتضاهُ ربُّ البَشرِ للبَشرِ.
ومن أخضَعَ هذا المنهج لهذا النَّظَر، فقد أخَذَ بِخطامِ نَفسِهِ إلى مباءةِ إثم، وساقَها إلى مُنحَدرِ هَلاك، وحَمَلها على غَضبٍ من الله وعقاب.(2/9)
ولو أنَّ أهل العلم في كلِّ عَصرٍ، استبصروا الحقَّ واستنطقوه، وأحلُّوا أنفسَهُم منه مكاناً لا ظِنَّة فيه ولا امتراء، لرَأوا أنَّه يَقضي عليهم؛ بأن لا يُبصروا إلاَّ ذلك المنهج الأبلج الأبهج، أمام أعينهم، فلا يَضِلُّ عنهم، ولا يُضِلُّون أنفسَهُم عنه، وكيف يَضِلُّ هو أو يُضَلُّون عنه، وهو الذي تداعَت إليه القرون، وذلَّت له الشِّعاب الحُزون، وانقادَت إليه كلُّ سَهْلَةٍ وحَرونٍ؟
ولا أدري كيف، ولا لماذا أنشأ أعداءُ هذا المنهج عداوتَهم في صدورهم، ونشَّأوا قلوبهم في بُغضِه، وتنافَسوا في المَكرِ والكَيدِ له ولأهله، وألَّفوا الكتب والرَّسائلَ في تَشويه وجهِه، وتَنفير النَّاس منه؟
نَعَم؛ قَد يَجدُ المَرءُ العَدلُ البَصيرُ عُذراً في مثل هذا الصَّنيع، فيمن وجَدوا أنفسَهُم - بعلمهم - موثوقين بِرُممٍ مُحكَمةِ الفَتلِ، إلى جذوع الضَّلالِ والجَهلِ، تَنزعُ بهم إلى أسناخِ الرَّفض الباطنيِّ، والزَّيغ الاعتزالي، والغَولِ الفَلسَفيِّ، فيَنفضُ منهم يديه، ويُعَزِّي نفسه أن لو كانوا يعلمون الغَيب، ما ألبثوا أنفسهم، ولا أقاموها في البلاء المُبين، الذي نَسجوا رِداءه الخَشِنَ الغَليظَ لأنفسهم بأنفسهم هم!!
وقد أعانَ هؤلاءِ على صنيعهم هذا، ما يقع في بعض الأحيان بينَ بعض مُلتزمي هذا المنهج، مِن خلافٍ، وصِدامٍ، وقطيعةٍ، إن أحسَنتَ الظَّنَّ بهم في ما أجرَوا على أنفسهم، وأجازوه لها، مِن خلافٍ، وصِدامٍ، وقطيعَةٍ، فلا يَعدو أن يَكونَ منشؤهُ تنافُساً بينهم - لطبيعتهم البشرية - على أمورٍ دُنيويَّة، ليسَ فيها حتى مِن رَغبةٍ لعمل الآخِرَة!(2/10)
ثمَّ لا يَلبَثُ أن يُحَوِّلوه بتَزيين النَّفس له ولها، إلى خلافٍ في حقٍّ وفي باطل، فهذا يَرى نفسه بأنَّهُ على حقٍّ لا شِيَةَ فيه، وأنَّ الآخَرَ على باطل لا شائبةً من حقٍّ فيه، والآخر يُري نَفسَهُ ما أرى خصمه نفسه، ويذوب الخلاف على أمور الدُّنيا في الظَّاهر، والصُّدور مستَعرةٌ بغضاءَ وكراهيةً وتربُّصاً بالشرِّ، عياذاً بالله تعالى، ويحيكونَ - كل للآخَر - ثوباً مِن هذه البَغضاءِ والكراهية والتَّربُّصِ بالشرِّ، والفائزُ منهم هو الأسرعُ بإلقائه الثَّوبَ الذي حاكه على الآخر، ولا يذكِّرُني هذا الصَّنيع، إلاّ بمُبارزات رُعاة البَقَر، وبها وَحدهَا فقط، فالرَّصاصةُ التي تَنطلقُ أولاً هي القاتلة، وهي التي تُنهي المُبارَزَة!!!(4)
لهذا فإنِّي أقول دائماً: البَيتُ لا يخرب بالفؤوس والمعاول التي تعمل فيه هدماً من الخارج، بل من المسامير والأوتاد الصَّغيرة، التي تُدَقُّ فيه مِن الدَّاخل!!
وعليه؛ فلا يَنبغي أن يَعيب السَّلفيُّون - فَقط - على مَن يَحمل في قلبِهِ الضِّغن، والبَغضاء لهم، بل يَنبَغي لهم - أيضاً - أن يُفَتِّشوا عَن العيوب في داخلهم، وأن يقولوا حُسناً: العيبُ فينا أوَّلاً، وَلْنُفَتِّش عن العيب في أنفسنا لنعلمَهُ منها قبلَ أن يعلمَهُ الآخَرون فنُصلحَهُ! فذلك: أحرى أن يَصدَّ عنهم شَرَّة الوِغادة واللُّؤمِ التي تَستَقرُّ حُمَّاها في صدورِ خُصومهم.(2/11)
وهذا الكتابُ، تَحكي صَفحاتُهُ تَجربةً مَنَّ الله بها عَليَّ زُهاءَ ثُلثِ قَرنٍ، رقَّت فيها حواشي النَّفس، وسمتْ فيها خواطِرُ القلبِ، وترسَّخَت فيها حقائقُ الإيمان والتَّوحيد الحقّ، ونَبَتَت فيها غِراسُ العلم، وضَعُفَت فيها رغائب الآمال، وقَصُرَ فيها غَرْبُ الشهوات، وانبَجَسَت فيها عيونُ المَعرفَة، وأبصَرَت العَينُ فيها قذاها، ورأت أردية العجز تضطربُ على سيقان الأماني، الجارية في خمائل التَّقوى، فأمسكتْ بها وهي تفوحُ بشذا عَرْف الجنَّة، فَغَمرتها، وغابت في ثنيَّاتها، تُصبحُ وتُمسي، والحمد لله على آلائه، والشكر له على نعمائِه.
وكُنتُ أوَدُّ - وهو أحبُّ إليَّ من وجهٍ - أن لا أستعمل كلمة السَّلفية والسَّلفيين، خشية أن أُرمى بما كنت عِبتُهُ على الجماعات والحركات الإسلاميَّة، قبل سنين خَلَت في مقالٍ لي بعنوان: "إنْ هي إلاَّ أسماءٌ فرَّقَت فَدَعوها"، وإن كنت قد بيَّنت في مقال لي آخَر بعده بعنوان "لا دفاعاً عن السَّلفية"(5) ما تَعني هذه الكلمة، ومِمَّا كتبته في ذلك المقال: "وأوَّلُ ما يجبُ أن نعرفه معنى السَّلفية، فهي كلمةٌ، تَنفي بمعناها المُتبادِرِ منها - أيَّ مَعنى يدلُّ على حركةٍ سياسيَّةٍ، أو جماعةٍ حزبيَّةٍ، أو تَكتُّلٍ مُتطرِّفٍ غالٍ، فهذه كلُّها ومثيلاتُها لا مَوردَ لها إلى كلمة (السَّلفيَّة) ألبتَّة، فمن فهم غَير ذلك، أو أُفهم غَير ذلك، فإنَّه مُخالفٌ ولِنَهج السَّلفِ غيرُ سالك، إنَّما السَّلفية دعوةٌ فِطريَّةٌ محوطَةٌ بأُخوَّة حقَّةٍ، وتَعاوُنٍ صادِقٍ، فهل لأهلها أن يعرفوا ذلك؟!
وإذا رَددنا هذه الكلمة إلى اللُّغة ومقاييسها، فإنَّنا واجدونَ أنَّها مَصدَرٌ صِناعيٌّ، والمصدَر الصِّناعيُّ، تَلحَق بآخِرة ياءُ النِّسبةِ مع اقتِرانها بالهاء، يُسكَتُ عليها حينَ الوقفِ، وتُقلَبُ تاءً في الوَصل.(2/12)
ولا يَخفى على عاقلٍ، أنَّ كلمة "السَّلفِيَّة" إنَّما تعني النِّسبة إلى السَّلفِ الصَّالح رضوان الله عليهم، والسَّلف "كلُّ عمل صالح قدَّمته، أو فرطٍ فرطَ لك، وكلُّ من تقدَّمك مِن آبائك وأقربائكَ"، هذا هو المعنى اللُّغويُّ لكلمة السَّلف.
وأمَّا في ما اصطلَح عليه جماهيرُ أهل العلم فهو:
مَن تقدَّمنا من هذه الأمَّة، وبخاصَّةٍ القرون الثلاثة الأولى، وكانوا على مِنهاجِ النُّبوة، الذي جاءَ به الوحيُ، ونزلَ به، وبلَّغهُ كما وعاهُ عن ربِّه، نبيُّه محمد صلى الله عليه وسلم.
وهو اصطلاحٌ قديمٌ، لم يكن من وَضع مَن أصبحوا يُعرَفونَ به ابتداءً، وهذا فرقٌ عظيمٌ ما بَينَ مَن ينتسبون إلى هذه النِّسبة الشريفة، وبينَ مَن يَتَسمَّونَ بأسماء أخرى مِن الجماعات والحَركات الإسلاميَّة، التي وضع أسماءَها مُؤَسِّسوها.
ولستُ أحسبُ أحداً مِن المُسلمين يَعرف هذه النِّسبَةَ على حقيقها، إلاَّ وهو يَعلمُ أنّها نسبةٌ إلى الإسلام كلِّه، بأحكامِهِ وآدابِهِ، وأخلاقِهِ وعقيدَتِهِ، كما أمَرَ الله سبحانهُ {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [سورة البقرة: آية 208]، وكما أمَر نبيُّه صلى الله عليه وسلم: "عليكُم بسنَّتي وسُنَّة الخُلفاء المَهديين الرَّاشدين مِن بعدي، عَضُّوا عليها بالنَّواجذ، وإيَّاكم ومُحدثاتِ الأمور، فإنَّ كلَّ مُحدثةٍ بِدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةُ"(6).
والسَّلفية بهذا المعنى، ليسَت حِكراً على فئة من النَّاس، عُرفوا بهذه النِّسبة، إمَّا من تِلقاء أنفسهم وإمَّا من تَلقيبِ غيرهم لهم بها.(2/13)
لذا؛ فإنَّه لا يحسن أن يُفاجأ المُتعصِّبة من أتباعِ المذاهب، إذا قامَ الدَّليلُ على أن أئمَّة المذاهب - رحمهم الله - جميعهم سلفيُّون - وما كانوا لِيُعرفوا بها وهم كذلك - إلا لأنَّهم على قَدم المُصطفى عليه الصَّلاةُ والسَّلام، وقدمِ أصحابهِ رِضوان الله عليهم، وقد عُرفوا بها قبل نُشوءِ الحركاتِ والجماعاتِ الإسلاميَّة المُعاصرة بقرونٍ، وحينَ كانت بلاد المُسلمين تَموجُ بفتَن الفِرَق.
فالأئمةُ الأربعةُ - وغيرهُم من أمثالهم - هم سادةُ السَّلفيين، وأئمَّتهم، وهم أيضاً سادةُ كلِّ من لا يُحبُّ أن يُنسب إلى هذه النِّسبةِ الشريفة، مِمَّن يَرى في عداوَة أهلها واجباً شرعيّاً، وأدباً إسلامياً، وشرفاً دينيَّاً!
ومرَّة أخرى أقول: كنت أودُّ أن لا أستعملَ كلمة (السَّلفية) هذه لما ذكرتُهُ آنفاً، أما وقد فرضتْ نفسها، وصارت اصطلاحاً علميِّاً، أقرَّه التَّاريخ، ورضيته الأمَّة كلُّها على مرِّ العصور، حتى صِرنا نَسمعُ من يَقول - وقوله غيرُ صواب -: "عقيدةُ السَّلف أسلمُ، وعقيدةُ الخَلفِ أحكمُ"(7) ، فليس مِن بأسٍ أن نستعملها اصطلاحاً علميَّاً شمولياً مُحكماً.
ولماذا لا يكون في استعمال نسبة الشافعيَّة أو الحنفيَّة مثلاً، ما يُشعرُ بالفُرقة، ويكون ذلك في استعمال السَّلفية، في حين أن السَّلفية تَستوعبُ أئمةَ المذاهب ومذاهِبهم، وتَستغرق أجيالاً وقروناً، بادَت أو لم تأتِ بعد، وتشمل الزَّمان كلَّه، والأرضَ جميعاً.(2/14)
إنَّ هذا الكتابَ، وهو يَحكي تجربةً علميَّةً، ودعويَّةً، لا يُغفل الرَّدَّ على المُفتريات، التي حَشدها بعض مَن كتَب عَن السَّلفية، طعناً ونَيْلاً، ولا بيانَ بعض الأخطاءِ التي خالطها بعضُ السَّلفيين، ولا التَّعريف بالأسباب التي انخذل بها الذين لم يَثبتوا على المنهج الأبلج الأبهج، وصاروا يحاولون التَّلفيق بين مَناهجَ مُتعددَّة، ليُخرجوا من هذا التَّلفيق أضغاثاً، يكونُ منها جميعاً منهجٌ واحدٌ (زَعموا)!!
ولا بُدَّ من الإشارةِ، إلى أنَّ العِلم لم يُؤتَ بانتفاضٍ، أو انتقاصٍ، بمثلِ ما أوتي من المتعالِمينَ المُتطاولينَ، وأنَّ منهج الحق هذا، يحتاج دعاةً علماءَ أتقياءَ، أوفياءَ، أصفياءَ، أنقياءَ، لا يُغلَبون، ولا يُغالبون إلا بالحقِّ، وبالحقِّ وحَده.
وشرفٌ عظيمٌ أن يكونَ مِقوَلُ الحقِّ هو الأعلى، يسوقُ النَّاسَ إلى بابه، ويُغذيهم من حِلابه، ويُمدهم من خَبءِ جِرابِه.
وليس أصدق في الوصول إلى صوابِ الحُكم على أمرٍ ما، من التَّجربة الذاتيَّة، المُتجردَةِ من عَنعَنات الرِّواية، وأسانيد الحكاية، تهديكَ إليه في غير انقطاع ولا تحيُّرٍ.
وكلَّما اتَّسعت دائرة التَّجربةِ - لتشملَ الأحداثَ، وشخوصَها، وأحوالَها، ومتعلَّقاتِها، سواءٌ القريبة منها والبَعيدة، وكان لصاحب هذه التَّجربة تعلُّق دائمٌ بها، تمتدُّ زماناً، يَكفي لاستحكام التَّجربةِ، واستيثاقها في نفسه - كانت (التَّجربةُ) أمكنَ في الصَّواب، وأظهَر في الدَّلالةِ(8) عليه، وأهدى سبيلاً في الانتهاء إليه.
وليس يحسُن بصاحب مثل هذه التجربة، أن يضُمَّها إلى صَدره في حرص عليها، أن تنفَلِتَ منه فيُبصرَ بها الآخرون، ولا أن يُكتِّمها في نفسه، خشيةً من أن يكون للنَّاسِ علمٌ بها فَتشيعَ فيهم من قبل أن يَبْرءُوا سبيلها، ولا أن يَحوزوها حِرزاً نَفيساً، لا يطَّلعُ عليه إلاَّ من ترسَّخَت في قلبه مودَّتهم وصُحبتُهم.(2/15)
بل إنَّ واجباً على صاحب هذه التَّجربة، أن يُرخيَ الحَبل لتجربته على غاربه، لتنطلقَ في النَّاس، تُكلِّمهم أنَّهم في غَفلةٍ غافلةٍ عنها، ولو كانوا أرادوا الخيرَ لأنفسهم لَهمُّوا بها مِن قبلُ.
وعليه - أيضاً - أن يجعلَ من لسانِه آلةً أمينةً، تُلقي في أسماعهم حديثاً مُبرءاً من وَشوَشات الصَّمت، وتَمتمات الوقْر، وأن لا يَضِنَّ بها على أحدٍ في الناس - مُسلماً كان أم غيرَ مُسلم - لئلاَّ يكون لهم حجَّة عليها، أو على صاحبها، يَعرف منها المسلم، أنَّ أصلَ هذه التجربة، هو دينه المُحكم، بعقيدته السَّمحةِ الواضحةِ، وشريعته السَّهلة المُبيَّنة.
ويعرفُ منها غير المسلم، أن أصلها هو الحقُّ الذي لُبِّسَ به عليه، فانصرف عنه غير آسفٍ عليه، ولا راغبٍ فيه، ومضى عنه بعيداً بعيداً، يَبحث عن حق غيره، كنزهُ أحبارٌ من كلِّ دينٍ، وهم يَتلونَ قول الله سبحانهُ: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإِسْلاَمُ} [سورة آل عمران: آية 19] وقوله: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [سورة آل عمران: آية 85].
إنها تجربةٌ ذاتيةٌ، تقلَّبتُ في أعطافها في غضارة الشباب، وتضمَّختُ بِخَلوقِها الذَّكي منذ يفاعةِ العمر، ومشيت في ركابها، أسمعُ حُداءَها النَّديَّ، ثلاثةَ عقودٍ ونيفاً، أملأُ منه جوانحَ صدري، ويسري تطريبُه في أوصال جَسَدي، وتَهْمي منه عيوني شوقاً إلى لُقيا داعيهِ الأوَّل.(2/16)
عشتُ هذه التَّجربة بعقلي، علماً ومعرفةً، وبقلبي نوراً وهدى، وبذاتي سلوكاً والتزاماً، فلا -والله- ما خَدَعتُها ولا خَدَعتني (وحاشاها)، وما أضمرتُ لها إلاَّ الوفاء والحب، فأنالَتني من شرف ما فيها ومن فيها، وسعيتُ إليها في علانيّةٍ شارقةٍ، فآذنتني بأحسن ما فيها ومَن فيها (وما فيها إلا حَسَنٌ، وكلُّ من فيها على أحسَنِها فهو حسنٌ)، وتعفَّفتُ بها عن نوال المُتكسِّبين والمُنيلين، فألقَت على منكبيَّ برداءِ القناعةِ المُوشَّى بِعرف التَّقوى، وطهارة الغِنى، والحمدُ لله الذي بنعمته تتمُّ الصَّالحات(9).
تجربةٌ ظاهرها هو باطنُها، ولفظُها هو معناها، واسْمُها هو فَحواها، أرخَت ذيولها على جَمر البَغضاءِ ففثأته، ونفَثَت من صَدرها الحاني على الجَهل فأذهَبته، وتجلَّلت سوادَ الأهواءِ العاشية بنورها وضيائها ففرَّقتهُ.
امتدَّت على القرون، بأجيالها، وركبانها، وأقيالها، وأوفرت لهم الجمَّ الغَفير من جَلالها وكمالها وجمالها، وأنالت أيديَهم أعناقَ السُّحُب، فانهلَّت عليهم فضلاً من مآقيها، وألقت إليهم بِبُردها المخموم بإحسانها.
تجربةٌ سادت الدُّنيا بفِكرها، وعَقيدَتها، وعلمِها، وسَراتِها، وحِلَقِها، ومدارِسها، ومَكتباتها، عَزيزةَ الجانب، بهيَةَ الطَّلعَةِ، نَديَّةَ الكفِّ، عفَّةَ اللِّسانِ، مِعطاءَة الجَنانِ، طاهرَةَ الذَّيل، جَمَّة الوفاءِ، في غير استحياءٍ، ولا استخفاءٍ، ولا مُخادعةٍ، وكيف لا...؟! وهي السُّنَّة والكتابُ، وطابُ اللُّباب، وجَرَع الصَّواب.
تجربة من استشفى بها أسرعَ إليه الشِّفاء، ومَن رامَها حكمةً، وعصمةً، وشرفاً لم يُخطىء الرَّوم، ومَن فاءَ إليها بعد فترةٍ وطولِ انقطاعٍ أوَى إلى جناحِه الفَيءُ.(2/17)
وها أنذا أضعُ هذه التجربةَ -التي تفضَّل الله بها عليَّ- هبةً غيرَ ممنونةٍ ولا مَمنوعةٍ، وأقامني بها على الحقِّ الذي أراده سبحانَهُ لعبادِهِ، وأوثقني إليها في رضا، وطواعية، وصدق - بين يَدَي "الأُمَّة"، لا أبغي بها حِوَلاً عن خَير "أَمَّة"، قصُرت أمْ طالَت بي "الأُمَّة"(10).
سائلاً ربي سبحانه -أن يجعل مني مفتاحَ خيرٍ، مِغلاقَ شرٍ، مقبلاً بحق، معرضاً عن باطلٍ، باذلاً لمعروفٍ ممسكاً عن منكرٍ، إنه سميعٌ قريبٌ مجيبٌ(11).
أغاليطُ ظالمةٌ وتَمويهاتٌ غائِمَة
لستُ هنا بصَدَد مماراةِ الذين طَعنوا على السَّلفية، ولا الرَّدُ على الذين سلقوها بألسنتهم الحِداد، ولا النَّيل من الذين قالوا فيها ما لا يُقال؛ بل ويَحرُم أن يقال، فكم من عائب أمراً، عابَ نفسَهُ بعيبه به، مِن بعد ما تَبيَّنَ له الحقُّ فلم يجد العيبَ إلاَّ فيه، وكم من طاعن، طَعَن نفسهُ بحملِ الناسِ عليه، فلم يَجد بُداً من الصَّمت، وكم من رأيٍ قاتلٍ، سُلِبَ صاحبُهُ الصَّوابَ بسوءِ ظنِّه في النَّاس.
فحسنٌ بالمؤمن إذاً -إن لُبِّس الحقُّ عليه، وغامَت الحقيقةُ بينَ يديه- أن يَستَبينَ الحق من أهله، سماعاً، أو قراءةً، أو رُؤيَةً، حتَّى يكونَ من الواقفين بالتَّسليم المُطلق، عند حُدود قول الله سبحانه: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ} [سورة الحجرات: أية 6]، فلا يَريبه الظنُّ بإخوانه المؤمنين، إذ "الظن أكذبُ الحديث"(12)، فإذا ما لقي واحداً منهم، لقيه بالأدب الذي علَّمَناهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، إذ كان عليه السَّلام يحب لُقيا إخوانه سليمَ الصَّدر.(2/18)
ولقد أكثرَ الطَّاعنون على السَّلفية في الماضي والحاضر، ولا أحسبهم -والله الذي لا يُحْلَفُ إلا به- إلا أنهم أُتوا من جهل بها، رَبا عندهم ورَبا، حتى أصبحَ حِقداً شرِساً، لا ينفعُ معه إلاَّ أن يُقال: "حسبُنا الله ونِعم الوكيل"، و "إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون"، و "لا حول ولا قوَّة إلا بالله العَليِّ العظيم"، فالمصاب -والله- في الأمَّة الآكلةِ ميراث نَبيِّها جَلَلٌ، والتَّهوين منه، لا يُرضي إلاَّ مَن سُلبَ حظاً من إرادته، وأرادَ نفسهُ بما بقيَ مِن هذه الإرادة، على غيرِ ما يصلُح عليه شأنُه، وهل يُستراد مذهبٌ لمؤمنٍ في حياته الدُّنيا من غيره، وهو قادرٌ أن يَستريده بإرادته؟
وهل في زماننا مَن يَملك أن يَستريدَ مذهباً يُحسبُ فيه أنَّه لا يأخذ رأياً من غيره يُعينه عليه؟!
إنَّ جِماعَ الرَّأي السَّديد، لا يكون إلا في البَصر بالأشياءِ التي يَعرفُ بها المؤمنُ نفسه أنَّه على حقٍّ فيما يُقدَّر أن يكون منها.
وذلك محتاجٌ منه أن يكون على علم يتكافأُ مع علم مَن يَعيب عليه أمره، وهذا هو الحقُّ، ولقد -والله- علمنا أنَّ الطَّاعنين على السَّلفية، إنَّما طَعنوا عليها بظلم أو بجَهلٍ، والظُلمُ ظُلُمات، والجهلُ من المُهلِكاتِ المُرديات!! والعاقلُ من يُسرعُ إلى النَّجاة قبلَ الفَوات!!
ولقد أتبعتُ هذه الأغاليطَ والتَّمويهاتِ - وهي جمٌّ غفيرٌ، مُلفَّعةٌ بأهواءِ ظالمةٍ، وأحقادٍ سَوداءَ عارمة - فاخترتُ منها رُؤوسها، وأبَنْتُ للنَّاس زيفَها وعُوارها، من غيرِ ذكرٍ لأسماءِ الذين تمنَّوا بها على الشيطان الأمانيّ، وغرَّهم في دينهم ما كانوا يفترون، تاركاً للقارئ أن يعرفَ أو أن لا يعرف، والله المُستعان على ما يَصفون.(2/19)
(أ) مِمَّا قالوا: "نحنُ لا نُريد مُناقَشةَ آراءِ السَّلفية، وأفكارَهم التي يُعرفون بها، لا بالتَّصويب ولا بالتَّخطئة، صَوناً لألسنتنا وأقلامنا أن تَزِلَّ، ونحنُ -إذ نُريدُ الإصلاح ما استطعنا - نعرض لها عَرضاً علميَّاً موضوعيَّاً، مبنيَّاً على النَّظرةِ الشمولِيَّة، نَستقرئُ بها السَّلفية من كلِّ جوانبها، كما يشهد بذلك التَّاريخ عليها" اهـ.
إن كانَ هذا قولَهم، فلِمَ إذاً يُجمِّلون كتبهم، ومقالاتهم بالطَّعن عليها، وتجريح علمائها، وروَّادها المُستقدمين منهم والمُستأخرين؟! لماذا يعمدون إلى الكلمات النَّاطقةِ بالبراءةِ من كلِّ ما يثلُم الكلام، برَّأت السَّلفيَّة وعلماءَها، فيلوونَ أعناقَها - ليسوقوها إلى غَير مواضعها، فَيستَنطِقوها بغير ما تنطِقُ به، ولا تومئُ إليه، ويُحمِّلوها، ما لا يَجْمُلُ بمسلم أن يَقوله في غَير مُسلمٍ؟!
ألم يقرؤوا قول الله سبحانه: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [سورة المائدة: آية 8]، فيكونُ منهم العَدلُ مع غير المُسلمين، قبل أن يَكونَ مع إخوانهم المؤمنين؟!!
هل من العَدلِ، الذي أمر الله سبحانهُ في هذه الآية وغيرها، أن أُلبِّس على النَّاس بالهَوى، ابتغاءَ مرضاةِ مَن لا يَرى الحق إلاَّ على لسانه، وفي قلمه، ثمَّ هو يَجري في مضمارهم، مُرخِياً الحبلَ لهواه على غاربه، غير راج لقاءَ ربِّه، ولا ناظرٍ في أمرٍ يعرف أنَّه سيبعثُ معه من قبره، ليكون شاهداً له أو عليه؟
إي والله، لكأنَّما لا يَرى حقَّاً عليه لمُسلمٍ، يحملهُ على نُصرته، إلاَّ بما استماله إليه هواه الجانحُ به عَن سواءِ السَّبيل.
ثمَّ، أليس في مسيرَة السَّلفية، بعقيدتها، وفقهها، ونُبلائها، وتاريخها، ما يُمدَح، حتى لا يكون من مدحٍ لها عند من يعرضونها عَرضاً علميَّاً موضوعيَّاً، على حَدِّ قولهم؟(2/20)
إنَّه لمِنَ الظُّلم الشديد أن أعرفَ أمراً يَستحقُّ به صاحبُه الثَّناءَ، ثمَّ أُمسكَ عنه خَشيةً مِن ذمٍّ يَلحقني من آخرين.
ثمَّ إن كان عندهم ما تُمدح به السَّلفية، فإنَّ في ذكرهم إيَّاهُ ما يحمل على إحسان الظنِّ فيها، فلماذا يُحجمون عنه، أيكون ذلك جالباً لحُسنِ الظَّنِّ أم لسوءِ الظَّنِّ؟
أن يعملَ المُسلم على جلب حسن الظَّنِّ هو لا شكّ من باب قول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} [سورة المائدة: 2]، وأن يعمل على درئه عنه، هو من باب قوله تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة: 2].
وممَّا لا رَيبَ فيه، أن حَملَ النَّاسِ على إساءَةِ الظَّنِّ في مُسلم -بأي سبيل كان نُطقاً، أو إمساكاً - هو من باب الإعانَةِ على المُنكر، أو الاشتراكِ في الإثم، حريٌّ بالمؤمن أن يَكونَ منه على بَيِّنةٍ، كيلا يواقع إثماً، تُمسُّه إيَّاه أعراضُ إخوانه المؤمنين.
وأشدُّ من هؤلاء طَعناً على السَّلفية، وإذايةً لها نفرٌ من أهل العلم، اتَّخذوا العلمَ مهنةً، شُهروا في النَّاس بالجمع والتَّحقيق، وبلغوا في ذلك شأواً بعيداً، سلَّمَ لهم فيه العلماءُ وطلاَّبُ العلم بالبَراعةِ والإتقان، وكانَ لهم اهتمامٌ خاصٌّ بكتب ابن تَيميَّة وابن القَيم رحمهما الله تعالى، وغيرهما من ينابيع العلم الثرَّة من علماءِ السَّلف.
ولم يَكُن هذا بمانِعهم، من أن يُظاهِروا سراً وعلانيةً بعض الذين يَلْوونَ ألسنتَهم في شيخ الإسلام، وعَلَم الأعلام الإمام ابن تَيميَّة رحمه الله تَضليلاً أو تَكفيراً، ذلك السَّيفِ الذي كَسر رقبة الشرك، وخضد شوكتَهُ، وأذهَبَ ضيَعته، فهل هذا من الدِّين والتَّقوى؟(2/21)
ولا أدري كيف سيقابل هؤلاء ربهم يوم القيامة وهو سائلهم لا رَيب: ما الذي حملهم على مُظاهرَة هؤلاء الذين طَعنوا على ابن تَيميَّة رحمه الله، وأضرابه من الأعلام سَرَّاً وعلانية، فماذا سيكون جوابهم يوم يَلقون ربَّهم، ويقف ابن تَيميَّة -بِتَبتُّلِهِ، وزُهدِهِ، وجهادِهِ، وعلمِهِ، وصالحِ عملِهِ -ولا نُزكِّيه على الله- وقلمِهِ، ولسانِهِ، وقلبِهِ، وعقلِهِ، وغير هؤلاء الشهود، التي تنطق أمامَ الله، بأنه واحدٌ من آيات الله، أظهَرَ الله به الحقَّ، وخَذَل به الباطل، وأعلى به منارَ الإسلام، وكَبَتَ به خُصوم التَّوحيد، وكتب الله على يَديه كثيراً من معنى قوله سبحانه: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي} [سورة المجادلة: آية 21] - لأنه واحدٌ من أفذاذِ أنصارِ الرُّسل، وخِيار أتباعهم - قائلاً لربِّه سبحانَهُ: لقد جاهدتُ في سبيلك، وأنفقتُ من عَقلي، وقلبي، وجَسدي، ومالي، وبذَلتُ ما بَلَغْتَهُ يدي حلالاً؟!!
إنَّ الذين ظاهروا هؤلاء الذين عَصفت بهم أحقادُهُم وصَفَقوا في سوق الجهل والهَوى معاً ببضاعةٍ مُزجاة، في غَير أناةٍ ولا صبرٍ، حتى أوقَعَتهم في القول بكفر ابن تَيميَّة رحمه الله، ليسوا أقلَّ إثماً وافتراءً منهم على الحق وأهله، من أُولئك الذين ظاهروهم.
إذاً فليَنظروا جيِّداً قول الله سبحانه: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ} [سورة المؤمنون: آية 101]، ليعلموا أين هم في هذه الآية؟
فهؤلاء - وإن كان البعيدُ عنهم يحسبهم سلفيِّين، لاشتغالهم بعلم السًّلف، وجَهله بِحالهم - فهم ليسوا من السَّلفية، ولا السَّلفيَّة منهم في شيء!(2/22)
ومَمَّا يَحسُنُ لفتُ النَّظر إليه، أنَّ السَّلفية منهاجٌ متكاملٌ، لا تَقَع في إطارها السَّليم - الذي يستبين فيه معناها الصَّحيح، وتَتَّضح حقيقتها، وتَجري منه على أوضَح سنَنٍ، وأقوَم جادَّة - إلا إن كان على وفق ما جَرَت عليه في قرونها الثَّلاثة الأولى، أمَّا إن بدا فيها عُوارٌ، ينبئُ عن غير ذلك، فهي ليست تلك السَّلفيَّة ذاتَ المنهج المتكامل، التي عرفتها القرون الثَّلاثة الأولى، ولن تكون سلفيَّة إلاَّ إن زال منها ذلك العُوار.
وحينئذٍ، لا يقال: سلفيَّة صحيحة مُسقتيمة، وسلفيَّة غير صحيحة ولا سليمة - كما يطيب لبعض أن يقسِّموا هذا التَّقسيم، فالسَّلفيَّة لا تكون سلفيَّة إلاَّ بمنهاجها المتكامل العتيق، الذي تستوي به على ساقها، أصلها ثابتٌ في الأرض، وفرعها في السَّماءِ، ثمرتُها، أمةٌ عرفت صدق نفسها مع خالقها، في توحيدها إياه، ولزومها شريعته، واستقامتها على أمرِ ربِّها سبحانه، ولن يَضيرَ السَّلفيَّة أن يقولَ فيها خصومُها اليوم - من عداوةٍ مستحرَّةٍ فيهم، أو أولياؤها - من جهل وسوءِ ظنٍّ منهم - ما يقولون، فلطالما قالوا فيها من قبلُ، وظلَّت قلعةً منيعَةً صامدَةً، وستظلُّ - إن شاء الله - كذلك، ما دامَ في هذه الأمَّةِ من يعرف قدرَ نفسه بالانتساب والولاء لها.
وليس يبرِّىءَ نفراً أو طائفةً، ممن ينتسبون إلى السَّلفية مجرَّدُ ادعائهم أنَّهم على منهج السلف الصالح، واستمساكهم بحبلهم الموصول بالنبي صلى الله عليه وسلم - وهم في حقيقة الأمر وواقع الحال ليسوا على شيء مما يقولون ويدَّعون - فأولئك بريئون من السَّلفية، والسَّلفية بريئةٌ منهم، إذ السَّلفية منهجٌ متكامل، شيَّدته أذرع الأولين السابقين، وما كان على من بعدهم إلا أن يحافظوا عليه ويحرسوه، فلما أن صار مركباً سهلاً لشهوات الصائدين في غَفَلاتِ الصيد، أضحى على صفقة الغادي إلى سوق السِّلاب.(2/23)
(ب) مِمَّا قالوا: "يجب اتِّباع السَّلف، بكونِهم أفهم للنُّصوص، لسلامة لغتهم ولمُخالطتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم" اهـ.
هذا كلامٌ حَسَنٌ جميلٌ، يُحمدُ به قائله، أو كاتُبه، أو قائلوه أو كاتبوه، إن كانَ يَجعَل لجهمور علماءَ السَّلف -رحمهم الله- على تعاقب القرون - منذ القرون الثلاثة الأولى - حظَّاً من هذا القَول، أمَّا إن كان يُرادُ به الصَّحابة وحدهم، أو القَرنان التَّاليان له إن زاد عليه، ويَنفي عن خلف السَّلف ما أثبت لأولئكَ -أي سلف السَّلف- فإنَّه كيلٌ بصاعَين، ووزن بميزانَين، وهذا - رضي أم أبى ذلك المُثبت النَّافي - إجحافٌ، ليسَ يحسن بطالب علم مبتدئٍ - فضلاً عن واحدٍ ذاعَ في النَّاس صِيتُه، وشاعَ في الأمَّة كتابُه، واشتهر أنَّه مِن العلماء الكبار، بِشاراتِهم العلميَّة، ومؤلّفاتهم الكثيرة، وألقابِهم المُثيرة!!
نعم؛ إنَّ اجتماع سلامه اللُّغة، واستقامة الألسن بها، إلى التَّلقِّي المباشر عَن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أصلٌ مُهمٌّ جداً في العلم بكتابِ الله وآيه، وبالسُّنَّة ونصوصها.
ولسنا نَدَّعي أنَّ لغَة القرن الرَّابع عَشر - بضعفها على ألسنة سواد الأمَّة الأعظم، وعلى أقلام كتَّابها، وشعرائها، وأُدبائها - تَرقى إلى لغَة القَرن الأوَّل، باستقامتها على ألسُن أهل ذلك القَرن، فهي فيهم سجيَّةٌ، وفي هذا القَرن مُكتسبةٌ بقواعدها، وقوانينها، ومُصطلحاتها.(2/24)
وإذا أضفنا إلى ضَعف اللُّغة على ألسنة أبناءِ الأمَّة في القرون المُتأخرة، البُعدَ الزَّمني، الذي حِيلَ به بيننا، وبين شخص الرَّسول صلى الله عليه وسلم، رؤيةً، وسماعاً، ومُخالطةً، فإنَّا مدركون - لا محالة - أنه لم يبقَ أمامَنا إلاَّ الجَهدُ العَقليُّ في الوقوف على السُّنن والآثار، التي حفظتها القرون الأولى، تحفُّه إرادةٌ جادَّةٌ، وعزيمةٌ صادقةٌ، وإخلاصٌ صادقٌ، تمضي بنا إلى استظهار آي الكتاب، ونصوص السُّنَّة بأقسامها، سَبْراً، وفهماً، وتعلُّماً، ليسلم لكُلِّ مُنتَسب بحق إلى المنهج العلمي السَّلفي، قَدْرٌ من سيرة أولئك الذين عاشوا في أكناف النُّبوَّة، فحُقَّ لهم - أي: لبعض منهم - أن يحصَّلوا ما لم تحصِّله القرون الآتية من بعدهم، وإن كان بعضٌ من أبناءِ القرون الآتية - من بعد القَرن الأوَّل - أصابوا من الحفظ والرواية والمعرفة والدِّراية، ما لم يُصب الكثيرون من أبناءِ القرن الأوَّل، وهذا فضلُ الله يُؤتيه من يشاءُ.
وهذا يعني بداهةً، أنَّ الذين تحقَّق لهم الأخذُ المباشر عَن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وسلامةُ اللُّغة، ما كانوا على قَدْرٍ واحدٍ من المعرفة العلميَّة، بل كان بينهم تفاوتٌ، حفظته لنا كُتُب الرِّجال والتَّراجم، كما هو الحالُ بين علماءِ كلِّ قرن.
وهذا التَّفاوت، ربَّما أظهر لنا أنَّ بعضاً من علماء القرون الآتية بعد القرن الأوَّل، أحاطوا بما لم يُحط به بعضُ علماء تلك القرون الثلاثة الأولى، وهذا لا يَعني تفضيلَ القرون الآتية من بعد القرون الأولى عليها، فقد فازَت الثَّلاثة بقصب السبَّق بشهادة نبيِّنا صلى الله عليه وسلم، وثنائه عليها(13).(2/25)
فاعتقاد أنَّ السَّلفية مرحلة زَمنية مُباركة، وقفَت عند نهاية القرون الثَّلاثة الأولى، وانتهت إليها، وحطَّت رحلَها أمامها وانقُطِعَ بها، دعوى باطلة مَنكورةٌ، لا دليلَ عليها، ولا ينبغي (لعاقل) أن يستمسك بها، وقد ظهر له أنَّ خيراً له منها الرُّجوع عنها!!
فَنحن على مثل اليقين، أنَّ السَّلفية، زمانُها الزَّمان كلُّه، ومكانُها الأرض كلُّها، تَجري موقورةً، بخَيرها، وعطائها، ورجالها على عَين ربِّها سبحانه، حتى تَلقى صاحبها، ورُبَّانها، ومبلِّغها، رسول الله صلى الله عليه وسلم على حَوضِه بأصْلَيْهَا: كتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، "ولن يَتفرَّقا حتى يَرِدا عليَّ الحوض"(14).
إذاً: فليس بضائرنا أن نعيش معها في كلِّ زمانٍ، وفي كلِّ مكانٍ من الأرض، راغبين عَن الطَّاعنين عليها، غير متألِّين، ولا باخعين، ولا آمِّين رُقْبى سفاهةٍ وإضلال، آخذين بهَدي كتاب ربِّنا سبحانُه: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [سورة الأعراف: آية 199]، ولَسنا في ذلك إلاَّ قائلين في ظلِّ هَدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي كان المثلَ اليُحتَذى في صَبره الجميل.
ثمَّ؛ هل كانَ (البَوْطُ) - وهو الافتقارُ والذِّلَّةُ - لامرئٍ في عقلِهِ إلاَّ من جَهلٍ مُربعٍ، وفي دينه إلاَّ من فجورٍ دافق، وفي علمِهِ إلاَّ من كبرٍ سابغٍ، وطَوْلٍ بالباطلِ، وغرورٍ جامح، تلجُّ بها كلُّهان ليَرمي بقَوسِ افترائِه ومَيْنِهِ مَن إذا ذُكرَ، لم يكن له حظٌ معه إلاَّ خمولُ الذِّكر، وإذا رامهُ بإعناتٍ انقُطِعَ به نَفسُهُ، وإذا وجَّه إليه مطيَّة، أسرعَت نحوهُ، لتضع جِرَانَها بين يديه في خضوع غير ناكث! ألاَ باطَ بدِلَّةٍ، وناءَ بفقرٍ، ودُثر بخِزي مَن لا يعرفُ قدرَ نفسه!!!
ومع ذلكَ يَستعلي باسمِه، ويَتفاخَرُ بشهادتِه، ويَستكبِرُ بِعمامته!!(2/26)
(ج) مِمَّا قالوا: "إنَّ السَّلف لم يَدْعوا النَّاس إلى الأخذ بأقوالهم، وأعمالهم، مرتّباً على ذلك، أنَّ للعالم أو لطالب العلم، أن يَدَع أقوال السَّلف -على شدَّة تحرِّيهم الحقَّ، وصدقِ اتِّباعهم، وحسنِ أخذهم- إلى غيرها من أقوال غيرهم مِمَّن ليسوا على منهج السلف" اهـ.
ولكأني بهذا القائل هذا القولَ، ومن كان على شاكلته، يجدونَ لأنفسهم العذر في طرح مذهب السَّلف، والأخذ بمذاهب الأئمَّة المَشهورةِ.
إمَّا لبعد العهد بيننا وبين القرون الثَّلاثة الأولى، وقد قيَّض الله للأُمَّة هؤلاء الأئمَّة، فأراحوها من عناء البحث العلمي، والاجتهاد في تحصيل الأحكام من أدلَّتها الخافية عنَّا.
وإمَّا لأنَّهم أعلمُ الأمَّة، فليس لأحدٍ من بعدهم، أن يُزاحمهم، أو يَظهر عليهم.
وإمَّا لأنَّ الأمَّة قد أجمعت من بعد ظهور هذه المذاهب على قبولها، وإسلام القياد العِلْميِّ الفِقْهيِّ لأصحابها، فإن يظهر في الأمَّة من بعدهم هذا فإنَّه لا يعني تفريق كلمة الأمَّة، واشتداد حدَّة الاختلاف، واتِّساع رقعة العداوة فيها.
ولا أحسبُ أنَّه يغيب عَن هذا القائل، أنَّ أصحاب المذاهب -رحمهم الله تعالى- لم يُنشئوا مذاهب، قالوا بوجوب اتِّباعها، والتَّقيُّد بها، وعدم المُخالفة عن الآراءِ والأقوالِ التي حُشدت في كتبها.
كما وأحسبني أنَّني لست في حاجةٍ إلى تذكير هذا القائل: بأنَّ للمَرءِ أن يختار ما يشاءُ من هذه المذاهب، للتقيُّد به وتقليد إمامه، إن رأى نفسه عاجزاً عن إدراك مَرتبةِ الاتِّباع أو الاجتهاد، بالاصطلاح العلمي المعروف.(2/27)
وإذْ ذلك كذلك، فلماذا يُعاب على مَن يقلِّد عُمر، أو أبا بكر، أو آخر غيرهما، إذا وصل إليه مذهبه، وأحاط بمسائله؟ أو يُنكَر عليه مثلاً تقليدُ غَير الأئمَّة الأربعة في بعض المسائل؟ إن كان يظنُّ أنَّ مَن يصنع ذلك، إنَّما يتسلَّق سُلَّماً عالياً لا يَقوى على الوصول إلى أعلاه، فنقول: يكفي أن يَصِلَ نصفَه، أو أدنى درجاته، المهمّ: أنَّه كان لديه الشجاعةُ في التَّفكير في صعود هذا السُّلَّم!!
ومن البداهة بمكان، أنَّه لا يجوز -لمن يختار مذهباً أيَّ مذهب- الاعتقادُ أو الظَّنُّ، أن تخيُّره هذا، صيَّره إلى قطعةٍ من هذا المذهب الذي اختاره، حتى إنَّه ليرى أنَّ أقصرَ الطُّرق إلى هذا المذهب، أنَّه ما على مَن يريد التقيُّد بمذهب ما، إلاَّ أن ينظر في شخص إمامه، فيتَّخذه دليلاً على صحَّة المسألة، أو المسائل من هذا المذهب، فإنَّه لم يَصِرْ إلى حالٍ، يكون فيها معصوماً، باختيار هذا المذهب الذي أكسبه هذه العصمة المظنونة.
ثم إنَّ ادِّعاءَهم عدمَ دعوة السَّلف إلى الأخذ بمذهبهم، يرادُ به الغضُّ من قدرهم، لما في هذه الدَّعوى عليهم من سَوْقِ تهمة التَّناقض، ونسبتهم إليها، ذلكم أنَّ طبيعةالدَّعوة السَّلفيَّة تأبى عليهم أن لا يَدْعوا النَّاسَ إليها، وهم يقرءُونَ قولَ الله سبحانه:
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [سورة يوسف: آية 108]، وقولَ الرَّسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الرَّاشدين المَهديِّين من بَعدي، عَضُّوا عليها بالنَّواجذ"(15)، فليس لهم أن يَدَعوا النَّاس إلى ما هم فيه، بدَعوى أنَّ الحريَّة المذهبيَّة تقضي بذلك، وليخْتر لنفسه أيَّ المذاهب شاءَ.(2/28)
نعم؛ إنَّ السَّلفية أماطت اللِّثام عن كثير من الحقائق، والأصولِ المذهبيَّة، التي لو عاش قائلوها إلى يومنا هذا لما وسعهم إلاَّ التَّبَرُّءُ منها، وتحذيرُ النَّاس من الأخذ بها، والدَّعوة إليها، فإنَّ أولى الناس باتِّباع الحق، وسلوك طريقه، هم أئمَّةُ المذاهب رحمهم الله.
لذا فإنَّ موقفهم من مذاهبهم - كان موقفَ الحَذِرِ اليَقظِ التَّقيِّ - الذي يعلم علم اليقين أنَّ كلَّ البشر، يُؤخَذ منهم، ويُردُّ عليهم إلاَّ من نزل عليه القُرآن، وبلَّغه النَّاسَ، وكان فيما بلَّغه منه، {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء: آية 59].
وهم قَد أفضَوا إلى ربِّهم، وخرجوا من الدُّنيا وقد تركوا من ورائهم أقوالاً وكلماتٍ هي أبرُّ بهم من كلِّ قولٍ قالوه من غير دليل، أو بدليلٍ ثمَّ ظهر لهم ثانٍ وثالثٌ، يردُّ قولهم ذاك، إن نظر فيها المنصف، علم أنَّ الحقَّ فيها، على أيِّ لسانٍ أتَت، ومن أيِّ فم خرجت، دليلهم فيها وإليها تقواهم، التي وُهبوا بها العلمَ ووَهبُوهُ، وهُدوا إلى الحقِّ وهَدَوا إليه، ورُفعوا بها في منازل الدُّنيا ورَفعوا إليها، وأوفرُهم في ذلك حظّاً، هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرى الحيُّ منهم نفسه متأخِّراً في العلم والفضل عَمَّن سبقوه إلى ربِّهم، فيقول فيهم ابن مسعود رضي الله عنه: "مَن كان مُستنَّاً فليستَنَّ بمَن قد مات، فإنَّ الحيَّ لا تؤمنُ عليه الفتن، أولئك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبرُّ النَّاس قلوباً، وأغزرهم علماً، وأقلُّهم تكلُّفاً"(16).(2/29)
وليس غيرُ عبدالله بن مسعود رضي الله عنه وعنهم، براغب عَن هذه الكلمة، التي تركها عبدالله من بعده للأُمَّة، من بقي منهم، ولا التابعين الذين أدركوه، فهؤلاء جميعاً كانوا ولا زالوا يشربون من الرَّاوية الدَّافئة، التي تَركها رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثاً لهم.
وقد مضى علماء السَّلف على مثل هذا القول المُحكَم البديع في كلِّ القرون - وما خلا قرنٌ منهم - أخبيةَ علم، وكوانفَ فضل، سُقيَتْ بها الشِّعاب، والجبال، والسُّهول، والقيعان، فازْدانَت بخضرة العلم، وطابَت بشذى الفضل، وظلت بهم الأمَّة خَير أمَّةٍ، مُمسكةً بعواصم الهُدى، عاضَّةً على وصائل التَّقوى، آخذةً بأجفانِ الجهاد.
وقد ضمَّت مكتباتُ العلم في أرجاء الدُّنيا، كتباً ورسائلَ ودواوين، مُلئت بأقوالٍ، وكلماتٍ، وقصائدَ، وأراجيزَ - تداعَت إليها من كلِّ صُقْع وأُفق - لكأنَّما كلُّ مؤلَّفٍ من مؤلِّفيها شاخصٌ بذاته، وناطقٌ بلسانه، وداع ببيانِه، يحذّر الأمَّة بكلِّ ما سطَّر وكتب، أن تعدل عَن منهج السَّلف، الذي فاز به السَّابقون الأوَّلون، وحسنت به رفقتهم بما كتبوا، أحياءً وأمواتاً، فأعذَروا، ووَفَّوا، وبَرُّوا.
وبهذه الكتب والرَّسائل والدَّواوين، عَرَف النَّاسُ جميعاً، أنَّ كاتبيها، أبرؤُوا ذمَّتهم، وأقاموا الحجَّة على من بَعْدهم، فمن قال: إنَّ السَّلفيين لا يَدعون النَّاسَ إلى سلفيَّتهم! فَقَد أعظم الفريَة، وقال قولاً ذا عوجٍ وريبةٍ.
إذاً؛ فليتَّق الله ربَّهُ، وليَدَع ما تُرهِقُه به نفسهُ الأمَّارَةُ صُعوداً، ولْينظُر ما قدَّمَ لغدٍ من سوءٍ أو خَيرٍ، فإنَّ الله سبحانهُ آخذٌ من حقوقِ الطَّاعِنِهم، ومُوَفِّيه حسابَه!
(د) مِمَّا قالوا: "إنَّ التَّغيُّر الذي يحدث للنَّاس في العادات، والتًّقاليد، وتقلُّب الأحوال الاجتماعية والبيئيَّة، هو الذي يفرض التَّغيُّر، في المسائل والقضايا التي لها تعلُّقٌ بالأحكام الشرعيَّة" اهـ.(2/30)
إن هذه المقولة، لا يقصدُ بها قائلوها مجرَّد الإخبار بما قَد كان في ظنّهم، بل يُقصد بها الطعنُ على التَّمسك بالأمر العتيق، والنَّعي على من يُلزم نفسه - أفراداً وجماعات - هَديَ القُرون الأولى، واتِّهامهم بالانغلاق، وضيقِ الأفق والعَطَن، وأنَّهم لا يصلحون لدَعوة النَّاس إلى الإسلام الحق!
فإن كان هذا ما يَرمي إليه أحدٌ من قائلي هذه المقولة فقد -والله- أربى في الظُّلم وأفْقَر (أتى بداهيةٍ كسَرت فَقاره)، وأتى بما لم يأت الأوَّلون والآخرون، وأمكن لأعداءِ الإسلام أن ينالوا منه - ظلماً وعُتُوّاً -أكثر مِمَّا نالوا منه من قبل.
فإنَّ ما قَرَّره الشرعُ الحكيم، وبصَّر به النَّاس من أوَّل يوم بدأ نزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجرى في نهر القرون، عملاً واعتقاداً، وتعليماً ودعوةً، وتحاكم النَّاس إليه على مَرِّ العصور والأجيال، حتى صارَ فيهم قراراً وإلفاً ثابتاً، لا يقبلون عنه تحولاً، ولا يَقبلُ هو ذاتهُ عنهم حِولاً، إذ قد انعقَدت بين الأُمَّة المُسلمة، وبينه - أي: ما قرَّره الشرع - آصرةٌ وثيقةٌ، صنعتها فيهم عقيدة التَّوحيد، بنصوص الوَحي المبين، كقوله سبحانه: {شَرَعَ لَكُم مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الله يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} [سورة الشورى: آية 13].(2/31)
وهذه الآيةُ، تُعَدُّ أصلاً من أصول منهاج السَّلفيَّة الدَّاعية إلى وحدَة كلمة الأمَّة، وهو منهاج الأنبياء والرُّسل قبل نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، فهل يكون ما شرع الله لأنبيائه جميعاً من قبلُ مقطوعاً عمَّا شرَع لنا نحن أمَّةَ محمَّد صلى الله عليه وسلم، وبخاصَّةٍ وأنَّ الخطاب في هذه الآية للأمَّة، تذكيراً لها بالنِّعمة التي أنعم الله بها علينا، وهي نعمة التَّشريع السَّماوي، الذي لا تصلح الدُّنيا إلاَّ عليه، ولا يستقيمُ أمر البشر إلاَّ به، ولا يكون صلاحٌ ولا استقامةٌ، إلاَّ بالاجتماع على الدِّين كما أوحى الله به إلى رسله وأنبيائه.
والقاعدةُ الكلِّيَّةُ، التي أسَّس الله سبحانه دينَه عليها هي التَّوحيدُ الكاملُ، الذي لا يَتغيَّر ولا يَتبدَّل، وما كان لدين أقامه الله على توحيده، أن يتغيَّر أو أن يتبدَّل، وبخاصّةٍ الدِّين الذي ختم الله به رسالاته، ولا يُقبل من أحد من البشر دينٌ سواه، فكيف يُساغُ لدين هذا شأنُه في الأرض وفي السَّماء، أن تتغيَّر مسائله وقضاياه المتعلِّقة بالأحكام الشرعيَّة، بتغيُّر العادات، والتَّقاليد، والأحوال الاجتماعية والبيئيَّة؟! إنَّ هذا لشيءٌ عُجاب!! ويكادُ -والله- يذهبُ بالعقول والألباب!!
ولنا أن نسأل هؤلاء القائلين هذا القولَ: أيكون التغيُّر الذي تزعمون هذا، واقعاً على العبادات أيضاً كما هو واقعٌ على غيرها؟ نسأل ولا نزيد على السُّؤال، وليكن الجواب منهم وحدهم، لهم وحدهم! فقد كُفِيَ غيرهم شرَّ ما أوقعوا فيه هم أنفسهم، نسأل الله السَّلامة والعافية من هذا، ومِن كلِّ سوءٍ غيره!!
وأعجبُ من مقولتِهم هذه، مقولتُهم الأخرى، وهي: إنَّ تغيُّر المسائل والقضايا، يتبع التَّغيُّر الذي يقع على الأشياء التي خلقها الله لمنافع العباد، ومناطُ التَّكليف الشرعي فيها، إنَّما هو بالأفعال المتعلِّقة بهذه الأشياء المخلوقة لمنافع العباد.(2/32)
إذاً؛ فإنَّه لمن الجهل الشديد، أن نُخضع الأحكام الشرعية لقانون التَّغيُّر، الذي تخضع له الأشياء، والأحوال المعاشيَّة، والاجتماعيَّة، والعادات، والتقاليد، فإذا تغيَّرت الأشياءُ والعاداتُ والتَّقاليدُ، نُلجئها إلى الأحكام الشرعيَّة، المستمدَّة من أدلَّتها الشرعيَّة التي تُصرِّح بأوصاف الأفعال، التي تجري بها أعضاءُ الإنسان، فعلاً وتركاً، ناشئةً من أوامرَ ونواهٍ.
ألا فهَيهات هَيهات، أن تَذهبَ الليالي والأيَّام القادمات، بما أثَبتتهُ الأعوامُ الماضيات والقرونُ الغابرات! وما كان للأمَّة إلا أن تجري في الأمر العتيق.
نعم: إن كان التغيُّر في الأشياء قد شملها كلَّها، فإن الأصل يبقى على ما كان عليه، ويكون التغيُّر في الأحكام على قدر ما وقع عليه التغيُّر في الأشياء إن كان الحكم عليه غير مكافئ ولا مطابقٍ الحكم السابق.
ولقد علمنا أنَّ التغيُّر على نحو ما وصفنا لم يغيِّر من الأحكام على الحادثات شيئاً - لأنها محكومة كلُّها بنظام واحد.
(هـ) مِمَّا قالوا: "إنَّ مخالفة بعض الخلف لمنهج السَّلف، كان ضرورة، اقتضاها الفتحُ، واتِّساع رقعة الإسلام، ودخولُ أجناسٍ غير العرب في الدِّين، وثقافاتُهم ليست عربيَّة، فكان لا بدَّ إذاً من اعتماد أُسلوب جديدٍ في الاستقراء الاجتهادي، ولسنا نرى من فَرّقٍ بين ما انتهى إليه الخلف باجتهاداتهم، وبين ما انتهى إليه السَّلف باجتهاداتهم، ذلكم أنَّ الاختلاف الذي وقع بين مجتهدي الخلف، لم يكن بأكثر من الاختلاف الذي كان بين مجتهدي السَّلف" اهـ.
أقول: هذا كلامٌ تضرب صدورُه أعجازَه، وأعجازُه صدورَه، ويحمل في ثنيَّاته نقائضَ واضحةً، لبعض الأغاليط التي سبقته، فيكفي أوَّلاً: أنه كلامٌ أقرَّ قائلوه، بأنَّ اختلافاً في الاجتهاد وقع بين مجتهدي الخلف، وكان مثلُه بين علماء السَّلف رحمهم الله جميعاً.(2/33)
وهنا يحسنُ بنا أن نسأل: ما الحدُّ الذي يفصل بين علماء السَّلف، وبين علماء الخلف، كي نميز بين الفريقين؟
ولو كان هناك حدٌّ زمنيٌّ واضحٌ يفصلُ بينهما، لما كان لنا أن نسأل، فخفاؤه يجعلنا نسأل، ونقول: إنَّ الحدَّ الذي يفصلُ بين الفريقين، ليس حدَّاً زمانيَّاً، ولا حدَّاً مكانيَّاً، إنه حدٌّ موصوفٌ وصفاً ذِهْنيَّاً فحسب، يُعرف به كلُّ فريق، ويُمازَ به من الآخر، عند أجيال الأمَّة، وعلمائها، ومؤرِّخيها.
فالسَّلف هم الملتزمون منهجَ الكتاب والسُّنَّة، لا يحيدون عنه قيدَ أُنملة، ولا يَخْفَون به، مهما حاول مخالفوهم سترَ سيرتهم، فَكُتُبُهم، ورسائلُهم، ومؤلفاتُهم، شاهدةٌ عليهم شهودَ الشمس على الأرض والحياة فيها.
والخَلَفُ هم من كان منهم على غير هذا المنهج في الاجتهاد والعلم، فأهل الرَّأي، ومن على شاكلتهم في الاجتهاد، من الذين لم يكن لهم تمكُنٌ من معرفة السُّنَن والآثار، بدَعوى أنَّ الحوادثَ المُستجدَّة، تقتَضي توسيعَ الرُّؤيَة، استجابةً أو تَلبيةً لروحِ العَصر، فهؤلاء جميعاً ليسوا سلفيِّين في منهجهم.
لذا، فإنَّ هذه المقولة، ما أنصفَ بها قائلُها السَّلف ولا الخلف، لأنَّها نادَّةٌ عن الطَّرفين، قاصِيةٌ عَن الفريقين، ومهما حاول أن يَترفَّق في التَّعبير، ويُحسِّن الألفاظ، ويحاول الظُّهور بمظهر المُقسط، فإنَّه لا يُغيِّر من الواقع شيئاً، ولا يمكنه أن يجعل الغرب شرقاً، ولا الشرق غَرباً، إلاَّ إن أدرَك الآية الكُبرى، وهي شروق الشمس من المغرب، وغروبها في المشرق، فتنقطع به حوبتُه، ولا تنفعه يومئذٍ توبتُه!! ألا باطَ وباطَ!(2/34)
ويجدر بنا أن نُعْلِم النَّاس قاطبةً، أنَّ هذا المنهج في الاجتهاد، لا يُذَمُّ به أصحابه، إلاَّ أن يكون منهم تعمُّدٌ ظاهرٌ، مقصودٌ في المخالفة عن منهج السَّلف، وهم يعلمون به الحقَّ، الذي لا ينبغي الحَيد عنه، ويغلب على ظنِّهم أنَّ الحقَّ معهم في ما ذَهبوا إليه، وانتَهوا إليه باجتهاداتهم، وأن لا يَغلوا في ظنِّهم، حتى يقول قائلهم: إنَّ اجتهادَنا في هذه المسألة أو تلك، أحرى بالأتِّباع والأخذ، لأنَّه أوفى من اجتهاد السَّلف، وأوعَبُ في التَّأصيل والتَّفْريع، وأجدرُ في الوصول إلى معرفة الحق والصَّواب.
نقول هذا، مع علمنا الأكيد، بأنَّ نُبلاء الأعلام من العلماء المجتهدين، المتأخِّرين، الذين حفظ التَّاريخ ذكرَهم، لم يخالفوا جميعُهم عَن منهج السَّلف في الاجتهاد، حتى من خالف السَّلف منهم في العقيدة، فلم تَحْملْهُم مُخالَفَتهم لهم في العقيدةِ على الطَّعن عَلى السَّلف، ولا على مَنْهجِهِم، فإنَّ للسَّلف عندَهم منزلةً خاصَّةً، أقاموا بها الحجَّة للنَّاس جميعاً، على عظيم حبِّهم، وإجلالهم، وولائهم، إذْ قد علموا بعلمهم وأدبهم، أنَّ الأمَّة كلَّها على مدار الحياة، ستظلُّ في مسيس الحاجة إلى السَّلف، في عقيدتهم، ومنهجهم العلمي، فهو عقيدةُ التَّوحيد الخالصةُ، وهو المنهج الذي تحقَّق فيه حُسنُ الاتِّباع، والحرصُ الشديد على الإحاطة علماً بكل ما صَدر عنهم من علمٍ، بأُصوله وفروعه.
وما أمر ابن حجر العسقلاني، والإمام النووي، وابن حزمٍ، وغيرهم من نبلاءِ أعلام الأمَّة بخافٍ على أحد.(2/35)
ولا ينبغي أن يغيب عنَّا، أنَّ الصَّحابة رضوان الله عليهم جميعاً، هم طليعةُ السَّلف، وأبصرُهم بالسُّنَّة ومواقعها، فِقْهاً واستدلالاً، وأعرفُهم بكتاب الله سبحانه، ومواقع آياته، فقهاً، واهتداءً، وأعلمهم بالعربيَّة، لفظاً، ومعنىً، وأداءً، لذلك لم يكونوا بحاجةٍ إلى سفسطات علماءِ الكلام، ولا إلى جَدَل النُّظَّار والمناطقة، ولا إلى تلبيسات الفلاسفة وشِقْشِقات ألسنتهم.
ومن هنا، سَلِمت لهم أصولُ العقيدة، واستبانت في عقولهم معالمُ الشريعة، وكانت الفضائلُ النَّفسية، والآداب الخُلُقيَّة، تجري عليهم جريانَ الماءِ الرَّقراق في الجداول النَّقيَّة الصَّافية.
وظلَّ منهج الصَّحابة رضي الله عنهم، ظاهراً ظهور الشمس في رابعة النَّهار، لكلِّ الأجيال والقرون الآتية من بعدهم، فكان لها جميعاً حظٌّ وافرٌ منه، لا عَن اختيار من هذا القرون، بل عَن حاجةٍ وضرورةٍ فقد تكفَّل الله سبحانه لهذا المنهج بالحفظ والسَّلامة، ليكون ظهورُ الحق، وبقاؤه فيهم.
وهذا -ولا رَيب- شيءٌ من معنى قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة الحجر: آية9]، لذلك كان تحذيرُ ربِّنا سبحانه لعباده: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء: آية 115]، وأمرُ نبينا صلى الله عليه وسلم لنا لزوم سنَّتهم مقرونةً بسنَّته، "عليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الرَّاشدين المَهديين من بَعدي، عَضُّوا عَليها بالنَّواجذ"(17)، وعدُّ المخالفة عنها إحداثاً في الدِّين: "وإيَّاكم ومُحدّثاتِ الأمور، فإنَّ كلَّ مُحدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٍ"(18).(2/36)
فلا جَرَم إذاً أن يبقى منهج الصَّحابة محطَّ أنظار طائفة مهديَّةٍ في كلِّ قَرنٍ، تأخذ منه ما به تهتدي هي أوَّلاً، إلى الحقِّ، وتَهدي به إليه، وتكون حلقة من سلسلة السَّلفيَّة اللُّؤلؤيَّة، التي كتب الله لها البقاء.
فلماذا يُعاب على هؤلاء ما لا يُعاب، وهل درى هؤلاء العائبون بهذا أنَّهم بعيبهم هذا إنَّما يَعيبونَ السُّنَّة والكتاب؟!
(ز) مِمَّا قالوا: "إنَّ بعضاً من أحبار اليهود، ورهبان النَّصارى، وموابذةِ المجوس، بثُّوا بين أعراب الرُّواة من المُسلمين، أساطيرَ وأخباراً في جانب الله، فيها تجسيمٌ وتشبيهٌ، وأنَّ بعضاً من علماء الجدلِ من المُتكلِّمين، أُمِروا بتَصنيف الكُتب في الرَّدِّ على المُلحدين، والزَّنادقة، وأقاموا البراهين، وأزالوا الشُّبَه، وخَدموا الدِّين" اهـ.
لكأني بهؤلاء القائلين، يريدون إخراجَ السَّلفيِّين والسَّلفيَّة من الإسلام بِرُمَّته، وسوقَهم بين يدي مفترياتهم إلى الكُفر البواح، انتقاماً وثأراً، إذ خالفوهم في أُصول العقيدة، وكان يسعُهم أن يقولوا قَولاً حسناً، يحملُ عليه وجوبُ إحسان الظَّنِّ بالمُسلمين، ونصبُهُم أنفُسَهُم مقيساً عليه والآخرين مقيساً، ليروا: هل يقبلون أن يُحكَمَ عليهم - إن كانوا يريدون وجه الله بعلمهم - بما حَكموا به على الآخرين؟!
وقد سبق وأن قُلنا: "إنَّ السَّلفيَّة لا تُحَدُّ بزمانٍ، ولا بمكانٍ، فزمانها الزَّمان كله، ومكانها الأرضُ كلُّها، وهي بذلك سِجلُّ الإسلام، حفظ الله بها دينه، وحرَّز عقيدته، وَمنعها الله من أن تُنتَقَصَ أو تُنالَ، أسلمَ لها القيادَ كلُّ مَن يقف مع نصوص الوَحي الأمين، في العقيدة والأحكام، وذلك الزَّمان كلَّه، في الأرض كلَّها.(2/37)
والسَّلفيَّة - سواءُ في العقيدة، أم في الأحكام - هي التي أثنى الله على أهلها في كتابه، ما دام في الأرض لسانٌ ينطق، وروحٌ تحرِّك جَسَداً: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [سورة التوبة: آية 100].
والذين اتَّبعوا المُهاجرين والأنصار بإحسان، لا يحجُزهم عنهم زمانٌ، ولا يُحال بينهم وبينهم بمكان، وقد أخذوا عنهم ما أخذوا من علم، فما ضَنُّوا عليهم بمسألةٍ، ولا أخفَوا عنهم مقالة، ولا أبطأُوا عليهم بفائدةٍ، سواءٌ أكان ذلك كلُّه في العقيدة أم في الأحكام، فترسَّم أولئكَ التَّابعون خُطى من سبقهم من المهاجرين والأنصار - أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - ترسُّماً فطريَّاً، في غير تكلُّفٍ ولا إرجاءٍ، فكانوا على مثل ما هم عليه، في العقيدة والأصول وفي الأحكام والفروع(19)، فظلَّت آصِرَةُ الهُدى والحبِّ، عاقدَةً بينهم، على مثل ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مُهاجرين وأنصاراً مُجسِّمين، مُشبِّهين، مُأوِّلين؟!(2/38)
لا والذي برأ النَّسَمات، وقضى في أُمِّ الكتاب عنده في الآجال والأرزاق، ما كانوا مأوِّلين، ولا مُشبِّهين، ولا مُجسِّمين، بل أنْطَقهم ربُّهم بما نطق به كتابُهُ، قرأُوا قوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشورى: آية 11]، فأغناهم عن تلمُّس شيء - في ذات الله وصفاته - من الفهم في غيرها، أثبتوا ما أثبت الله لنفسه من صفات الكمال، من سمعٍ وبصرِ وغيرهما، وقطعوا الطَّمَع عَن إدراك حقائقها، فهي من ذات الله سبحانه، وذاتُه سبحانه غيرُ مُدرَكةٍ، ونَفَوا أن يكونَ الله -في صفاته- مُشبِهاً فيها شيئاً من خلقه، فكانوا بها في أعلى درجات التَّصديق والصِّدق.
فمن هو يا تُرى إلى المشبِّهة، والمجسِّمة، والمُؤوِّلةِ، ألصقُ وأقربُ، آلذي يُثبتُ لله ما أثبت لنفسه، من غير تشبيهٍ ولا تَعطيلٍ ولا تأويلٍ، أم الذي ينفي عَن الله ما أثبته لنفسه، بالتَّعطيل والتَّأويل والتشبيه؟!
فَلْنَنْظُر أيُّ الفريقَين أقربُ إلى الصَّواب، وأدنى من الحق؟!
إنَّ الذي يُنزِّهُ الله سبحانه، بما لم يُنزِّه نفسَهُ، هو المُشبِّه المُجسِّم حقيقةً، لأنَّه يُسَوِّي في تنزيهه ربَّه سبحانه بينه وبين المخلوقين بالبداءِ، فيرى لله به ما يراهُ للبشر، فكأنَّ الله عنده، ليس حقيقاً بأكثر ممَّا كان للبشر من الصِّفات.
وقد جرَّهم تعطيلُ الله من صفاته التي أثبتها لنفسه، إلى عقائدَ فاسدةٍ كُفريَّةٍ، وصَفوا الله بها من عند أنفسهم بأوصافٍ كريهةٍ بغيضةٍ، يأباها لأنفسهم حتى أدنياءُ البشر، فقالوا: إنَّ الله هو الكونُ، والكونَ هو الله، (وحدةُ وجودٍ متزندقة)، وقالوا: إنَّ الله حالٌّ في كلِّ شيءٍ (حلوليَّةٌ كافرةٌ مارقةٌ).(2/39)
ونجد القائلين هذه المقولةَ النَّاسبيها إلى أعراب الرُّواة، إن كانوا لا يصدِّقون ولا يَعتقدون مثل هاتين العقيدتين، فإنَّهم لا يجدون في أنفسهم حرجاً من مخالطتهم، والرِّضا عنهم، والسُّكوت على كُفرهم، فكيف وهم غارقون فيهما، ويرون في مُحاجَّتهم، ومُناظرتهم - لِتَبيينِ الحق لهم - تفريقاً للأمَّة، وإثارةً لأمورٍ عَفى عليها الزَّمن، ومَضَت على النَّاس وفيهم، فكان منهم حيالها ومنهم، ولا يَفيد المُسلمون من إثارتها، إلاَّ تذكُّرَها!!
إنَّ الذي يُنَزِّه الله، بنفي المعنى المُراد من لُغَةٍ مُكوَّنةٍ مِن ألفاظٍ، وكلماتٍ أبدَعَها الله سبحانه، وعلَّم خَلقهُ كيف ينطقون بها ليعبدوه بها، ويتقرَّبوا إليه بدلالاتها، ويَهتدوا إلى كمالاته المُطلقة بمعانيها، لكأنَّما يستنطق ربَّه - وحاشاه سبحانه - أن يَدَع هذه الألفاظَ والكلماتِ - التي أنزلَ بها كتابهُ العربيَّ المُبين على أَعرب العرب لساناً، وأفصَحهم بياناً - لخلقه، ويتنزَّل عَن معانيها ودلالاتها التي علَّمهم إيَّاها، ليجعلوا لها معانيَ ودلالاتٍ أخرى، غيرَ التي علَّمهم إيَّاها، ثمَّ ليُوافقَهم على ما أرادوا من تنزيهه بتلك الألفاظ والكلمات، بمعانيها ودلالاتها التي وضعوها لها، ألا ساءَ ما يقولون!
ثمَّ إنِّي والله لفي عجبٍ لا ينقطع مِمَّا يقول هؤلاء، إذ كيف استطاعوا أن يَصِلوا بعلمهم إلى أنَّ بعضاً من أحبارِ اليهود، ورُهبان النَّصارى، وموابذَة المجوس، أدخلوا بين أعراب الرُّواة (هكذا!!) من المُسلمين، أساطيرَ وأخباراً في جانب الله، فيها تجسيمٌ وتشبيهٌ، ولم يَصِلوا بعلمهم، إلى أنَّ أولئك أنفسهم، هم الذين أدخلوا على مُستعجمة الرُّواة، أساطيرَ وأخباراً في جانب الله، جَرَّدوا فيها الخالق سبحانه من صفات الكمال التي وصفَ بها نفسه، وأحَلُّوه بها خلقه، وأطافوه بها على كلِّ مستقذرٍ وقبيحٍ، وجعلوه بذاتِه خلقَه؟! أليس هذا مِمَّا يُعجَبُ له ومنه؟!(2/40)
ولِمَ نُبعد النُّجعة في طلب الحقِّ للرَّدِّ والتَّبرئة، من مثل هذا القول المُفترى على أعراب الرُّواة من المسلمين؟ الأعراب الذين حفظوا على الأمة تراثها، وزيَّنوا الأرض على رحبها بما أوعبت صدورهم من طِلاع نوره!!
إنَّ ربَّنا سبحانه، يصف نفسه في آيات من كتابه بصفات، لا بُدَّ وأنَّ الطَّاعن على هؤلاء الأعراب، يرى بأنَّ ظاهر هذه الآيات يستلزم التَّشبيه والتَّجسيم، فهل يكون ربنا سبحانه، مُتَّهماً عند القائلين هذا القول، بأنَّه يجسِّم نفسه ويشبِّهُها بخلقه، فَيُسَوُّونَ بذلك -وحاشا ربَّنا- بين الله وبين الموابذَة، والرُّهبان، والأحبار؟!
لكنَّنا إن تذكَّرنا أنَّ الله سبحانه -عند طوائفَ منهم- هو الكونُ، وأنَّ الكونَ هو الله، وأنَّه حالٌّ في خلقه بذاته، فإنَّ العجب سُرعان ما يذهب ويُدبِرُ!! فلا عجب من أن يكون الله -وحاشاه سبحانه- راهباً، أو حبراً، أو موابذاً!! وكُتُب قدماءِ شيوخهم مليئةٌ بهذه الطَّامَّات!!
ثمَّ لك بعد ذلك وقبله، أن تتأمَّل قول قائلهم: "أعراب الرُّواة"؛ لتعلم كم تحمل من الذَّمِّ والتَّحقير، "وكفى بالمرءِ إثماً أن يَحْقِرَ أخاه"(20)، بيد أنِّي أحسب أنَّه على ما يَبدو -يخال- أنَّ الطَّاعن عليه ليس أخاه، إنَّه من الأعراب، وليسَ من الأعاجم!! والأعراب فيهم، الجهل، والجفاء، والجبروت، (جيمات ثلاثة)، أمَّا أهل الحاضرة، ففيهم أضدادُها، وهي محاسن حُرِمَ منها الأعراب!!
حسيبك الله يا هذا الباعثَ شعوبيَّةً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في أُختها الجاهليَّة: "دعوها فإنها مُنتنة"(21)، ولا أحسبهُ -يُصلحُ معهُ الصَّبرُ والمُصابرَة، ولا يطهِّرهُ من مَكْره ماءُ المُزنِ بالمُكاثرة، ولو غُمِسَ بهواه في ماءِ (الكوثر) (هكذا)! لظلَّت نسبَتهُ إليه -أي إلى الكوثر- عارِمةً بالمواترَةِ، فلماذا الرضا والسكوت عن موابذة الحاضرة ورهبانها وأحبارها، ممن يدَّعون أنهم على دين الحق، وهم على ما رأيت؟(2/41)
وتلامذة هذا الشعوبي لا زالوا يعزفون عن نايه، ويضربون على وترهِ رُغمَ دعواهم: أنَّهم عربٌ أقحاحٌ، درسوا "المحيط" و "الصِّحاح"!
ولو أنَّ هذا القائل أنصف نفسه من نفسه -حمانا الله من سُفكَة العُجمة، وفَنَك اللَّجاج في الخصومة، وتسعُّر غيظ الانتصار بالهوى وله- لَرَدَّ دعواه إلى نفسه، وصدَّق ظنَّه بظنِّه فيه، ولما أغولت نفسه بحصادها المرِّ، فإنَّ الأعراب، بجفائهم، وجبروتهم، وجهلهم بالحواضر وما فيها، يبقَوْن عرباً أقحاحاً، بيدهم مقاليدُ اللُّغَة والبيان، وأدرى بمعاني العربيَّة ودلالات ألفاظها، وشِعْرها، فكانوا بها سادة الحاضرة قبل البادية، وسُوَّاسَ المَدَرِ قبل الوَبَر، لكن العُجمة تأبى إلاَّ أن يظلَّ رداؤُها الشعوبيَّةَ المائنة.
ولست أرى -والله- من يوالي أُولئك -على ما فيهم من شعوبيَّة العجم، تأبى عليهم التحوُّل عنها، إلى العربيَّة- والعربيَّة هي رداءُ الإسلام، ومادَّةُ إعجازه وبلاغه، وإبلاغه - إلا أنَّهم مثلُ أُولئك، حتى وإن كانوا أفصحَ النَّاس لساناً عربيَّاً، وأوثقَهم لصوقاً بعرقِها، وإذا أنت جمعت إلى ذلك - مذهبيَّة النَّاصر والمُنتصَر له- ألفيتَ نفسك على استحكامٍ من استغاربٍ، لا يزيدك فيهم إلاَّ غموضاً وبعداً!!(2/42)
وكان حقيقاً بذلك القائلِ هذا القولَ: أن يشكر لله سبحانه فضلَه عليه، أن جعل هذا الدِّين -في ذاته- سهلاً ميسَّراً، واضحاً، وأنَّه على يُسره، وسهولته، ووضوحِه في ذاته، حماه الله بأعزِّ لغة، وأمنعِها على الأيَّام، وأرفَعِها قَدراً في لغات الأنام، حتى أنعم الله بها عليه، فعرف هذه اللُّغَة، وبرعَ في قواعدها وأُصولها، فيسَّر الله له الفقه في هذا الدِّين، والعلم بأحكامه، في كنف المذهبيَّة المُرجِفَةِ، فليكن دائماً على محمدة من ربِّ السَّماءِ، ولينظر ما قدَّم لغدٍ، وليتَّقِ الله ربَّه، هذا إن كان لا زال حيَّاً، أمَا والعلمُ أنَّه مات، فلا أدري ماذا كان له من شأنٍ مع علمه الذي ضاجعه في قبره؟! ثمَّ لا أدري ما ينتَظر من نصرَهُ على باطلٍ من بعده؟
إنَّه لو صُبَّ عليهم وعليه ماءُ (الكوثر!!) ما أنقى قلوبَهُم من حِقدها وحَسدِها، ولا جلودَهُم من ذُنوبِها وآثامِها!!
والمُحقِّق الصَّادق الذي يورد قلمَه موارد النَّقل الأمين، ويسوقه عقلُه إلى مواطن الحكمة، ويُنشده ظنُّه الحسنُ نواشدَ التَّقوى، يأبى عليه علمه أن يواطئَ الدَّهماءَ في حالهم، وأن يزاحمهم على شِربهم، لِيّدهقَ كأسه من أعراض المُسلمين -وبخاصَّة صفوةَ علمائهم- قبل أن يدهقوا كؤوسَهُم وهو ربَّما يعلم في نفسه -إذ يصنع ذلك- أنَّه يواقع أمراً نُكراً، لا يجمُل بعاقلٍ -فضلاً عن عالمٍ- أن يواقِعه ابتغاءَ مرضاة العامَّة، أو مُداهنةً لهم، أو مُحاكاةً لهم.
وهو بصنيعه هذا يُجرِّئُ مُتهوِّكي الأحلام، مُفَلَّعي الأقلام، المُبحرين في لجَّة الظلام، على أن يكونوا مثله، لا في علمه - فهو وإن كان عنده علم فقد صار بائراً حاسراً - بل في غَوْل قلبه، وحميم صدره، وترييخ أضْلُعِه من عجز، ثمَّ يمضي من أمامهم، إماماً ضالاًّ مُضلاًّ، في استكبار وغرور.(2/43)
ولسنا نُنْكر أنَّ الذين درسوا الفَلسفَة وتعلَّموها، وحَذَقوا المَنطق وأتقنوه، وأحاطوا بعلم الكلام وأحسنوه، ليسوا جميعُهم على قدْر واحدٍ في هذه العلوم العقليَّة، فهم متفاوتون، كما أنَّهم ليسوا جميعُهم على غاية واحدة، ومَقصِد واحد,
فابنُ تَيميَّة رحمه الله، يُعدُّ رأساً من رؤوس هذه العلوم في تاريخ الإسلام، وكما يقال اليوم: "حطَّم الرَّقم القياسي"، سبق فيها من قبله وأعجز من بعده، وأناخَ راحلته -وهو في أرض قومه- أمام أبواب أثينا وإسبرطة، فاستحيا القوم فيهما منه، وغدوا في مضيعةٍ أمامه، جمدت لهواتُهم في حلوقهم، وأبلست ألسنتهم في أفواههم، وشرَد عنهم ذكاؤهم بعيداً جدَّاً، وبقي شيخ الإسلام فرداً في هذه العلوم، لكأنَّما خُلقَت لهُ وحده، فكان ربَّها بلا مُنازع، لا شريك له فيها حتى مِن أربابها وسَدَنتِها!!
غير أنَّ ابن تَيميَّة رحمه الله تعالى، كان يصدر في كلِّ ما يكتب من هذه العلوم، عَن مَعرفةٍ بالكتابِ والسُّنَّةِ كبيرةٍ، وإرادةٍ مُؤمنةٍ بصيرةٍ، ونيَّةٍ خالصةٍ وفيرةٍ، يُؤمَنُ معها الشرُّ المُستطير، الذي تداعَت إليه عقولٌ في غير أناةٍ ولا استبصار، فقد عُمِّيت عليها السُّبل، وما دَرَت أنَّها - وهي يقفو بعضها بعضاً إلى هذه العلوم - إنَّما تبحثُ لدى هذا الشر المُستطير عَن مكانٍ تُعفِّي فيه على قدرات إيمانها الفِطريِّ، الذي مَنَّ الله به عليها.
أمَّا ابن تَيميَّة رحمه الله، فقد أصابَ من علمهِ الجَمِّ، وإرادته المؤمنة، ونيَّته الخالِصَةِ، سلاحاً، وفَّره للدِِّفاع عن ملَّة التَّوحيد، فجاهد به جهاد البُسلاء الأولياء، حتى لقيَ ربَّه في أغلال سجنه، وكأنَّما يُكْرَبُ بسكرات الموت، وهو يدعو بدعاء نبيِّه صلى الله عليه وسلم: "اللَّهم اغفِر لي، وارحمني وألحقني بالرَّفيق الأعلى"(22).(2/44)
ولا أحسب أنَّ مسلك ابن تَيميَّة رحمه الله خافٍ على أحدٍ في الأمَّة، حتى على أشد النَّاس عداوة له، فهو لا يفتأُ يذمُّ هذه العلوم، التي أفسدت على العقل المُسلم سلامة تفكيره، وعلى الفطرة المُسلمة نقاءَها، ويشتدُّ في الصيِّال عليها، وهي في يده قَد صارَت سلاحاً ماضياً، يغشى به جموعَ المبتدعة، والزَّنادقة، والحلوليَّة، وغيرهم من إخْوانِ الشياطين، فيبعثِرُهم، ويُبدِّدهم، ويجعلهم فلولاً عِزين!!
ثمَّ يحذِّر من تَعلُّم هذه العلوم، مَن لم تستَحْكِمْ مَلكاتُ العلوم والمعارف في عقله، وصارت أصولُها إلى اجتماع مكينٍ، على عقيدة التَّوحيد بفروعها اليانعة.
* "غَريبةٌ فاذَّةٌ شاذَّةٌ!!":
ومن أغرب ما لا يخطر ببال مبتدئٍ من طلاب العلم - فضلاً عن شاذٍ فيه، فضلاً عمَّن تصدَّر للنَّاس ليأخُذوا العلم عنه - ما قال واحدٌ من الذين تصدَّروا لأخذ العلم عنهم - وقد أشرنا إليه من قبل، وهو من الذين اشتدُوا في الطَّعن على السَّلفيَّة، ورأوا أنَّها مرحلةٌ ولَّتْ وانْقَضَتْ -: "يجب التأكُّد من صحَّة النُّصوص الوارِدَة، والمنقولة عَن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قرآناً كانت هذه النُّصوص أو سنَّة"!
أرأيت بربِّك كيف تصنع الغفلة بأهلها، وإلاَّ فهل يُعقلُ أن تصدر هذه المقولةُ عن أقلِّ النَّاس عِلماً، فيقَسِّم نصوص القُران، قسمين: قسماً صحيحاً، وقسماً غير صحيح؟!(2/45)
أنا أعلم أنَّ هذا المقولة لم تصدر عَن كاتبها المشهور من جهل، بل من غفلة آخذة بمجامع القلب، وهي أشدُّ، وأنكى، وأسوأ من الجهل -عياذاً بالله- وأرجو أن تدرك قائلَها توبةٌ قبل الغرغرة!! وليعلم أنَّ أعراض علماء السَّلفيَّة ولحومهم -التي سلَقها بناعم كلامه، أو انتصر لمن رماها بقاذع لسانه وقلمه- مَسمومةٌ! فكانت جَرَّاءَ ذلكَ هذه الزَّلَّة التي أُوتيها من غفلةٍ آخذةٍ بمجامع القلب، والتي هي في ظاهرها أقربُ إلى الكفر منها إلى الإيمان، ولا يُعذَر قائلها إلاَّ أن ينخلع منها بتوبة نصوح، ولا ينفعه ولوج باب البيان، يلتمسُ فيه مخرجاً لقَوْلَتِهِ الغافلة!!
وإن التَمَسْنا لهذا القائل مخرجاً فلعلَّه يكون في دعواه: أنَّه إنَّما أراد بهذا التَّقسيم، التأكُّد من ضبط ألفاظ الآيات القُرآنيَّة، شكلاً ومباني، فإن كان أراد بذلك، فهو عندي لا يقلُّ خطيئةً عمَّا يكون من غَفلةٍ، فهل نزل الوحيُ يومَ كان ينزل بالقرآن على الرَّسول صلى الله عليه وسلم، بحركات الضَّبط الشكلي للقرآن؟! اللَّهم إلاَّ أن يكون عند صاحبنا ذاك، أنَّ النَّص القُرآني، يخضع للتَّغير، وبتغير الأشياء التي خلقها الله لمنافع العباد، فانظر واعقل!!
لكن، ينفي -حتى المُراد من مُراد صاحبنا - قوله بعد ذلك: "إنَّه يجب على الباحث عرضُ حصيلة تلك المعاني (أي معاني النُّصوص الصَّحيحة، ومنها نصوصُ القُرآن الصَّحيحة)!! التي وقف عليها، وتأكَّد منها، على موازين المنطق والعقل لتمحيصها، ومعرفة العقل منها"!!
لا أُريد مناقشَة هذه المقولة الآدَّة الفادَّة، بيد أنِّي أسأل: ما حكم من يعتقد أنَّ في وسع العقل تمحيص ما (صحَّ) من آيات كتاب الله عزَّ وجلَّ؟!
وسؤال ثانٍ: هل يتساوى جهدُ مريدِ الوقوفِ علىنصوص القرآن الصَّحيحة (هكذا... نعم!)، وجهدُ مريدِ الوقوفِ على نصوص السُّنَّة الصَّحيحة؟!!(2/46)
عذراً عذراً، من سوءِ هذين السؤالين، لكنَّ حاكيَ الشر لا يكون بحكايَتهِ شرِّيراً!! وناقل الكفر بنقله لا يكون كافراً!
اللَّهمَّ إنَّا نعوذ بك من الحَوْرِ بعد الكَوْرِ، ومن الضَّلال بعد الهُدى، ومن الرَيب بعد اليَقين، ونسألك اللَّهمَّ الثَّبات على الحق، وفي الحق، وبالحق، ومع الحق، وصدق الله {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ} [سورة يونس: آية 32].
(ح) مِمَّا قالوا: "كيف نجيز لأنفسنا تقسيم المُسلمين إلى سلفيِّين وبدعيِّين؟" اهـ.
سأوافق القوم - جَدلاً - في إنكارهم هذا التَّقسيم، وأُسلِّم لهم -تَنزُّلاً- أنَّ في هذا التَّقسيم نظراً، وأنَّ الحقَّ، (قد) يكون معهم فيما أنكروه على السَّلفيَّين.
وكان إنكارهم يكون مقبولاً -حقَّاً- لو أنَّهم أبصروا العُودَ فوق جفونهم، أو في داخلِ عيونهم، لكان الشَّنآن -عُوفيتَ من شرِّ الضِّغنِ الآفِكِ- حملهم على إبصار القَذاةِ في عيون الآخرين فقط، فكيف بالله يجيزُ كاتبهم أو شيخٌ من شيوخهم تقسيم القرآن إلى صحيحٍ وغير صحيحٍ، ولا يُنكرون عليه؟! أمَّا إن قُسِّمَ المُسلمون إلى سلفيِّين وبدعيِّين، فهو تقسيمٌ منكر -عندهم- لا يُرتَضى، والوَيلُ والثُّبور لمَن يقول بهذا التقسيم!! فهل في هذا إنصافٌ بالله عليك؟!
ثمَّ ماذا يقول منكرو هذا التَّقسيم في قوله صلى الله عليه وسلم: "عليكُم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الرَّاشدين المًهديِّين من بعدي، عَضُّوا عليها بالنَّواجذ وإيَّاكم ومُحدثاتِ الأمور، فإنَّ كلَّ مُحدثةٍ بِدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ"(23)، الذي قسَّم بالوحي أمَّته هذين القسمين، وهو ما يكاد يكون منطوقَ هذا الحديث، وإن كنَّا -بالتَّجرُّد المُنْصِف- يكفينا مفهومُهُ؟(2/47)
فهل يُعاب بعد، من يرتضي لنفسه منهج الكتاب والسُّنَّة، وصدَّق من أُوحي به إليه، تصديقاً دعاه إلى التَّمسُّك بحذافيره، ووصفَ نفسه بالسَّلفيَّة، وقال في وصف من ركب متن البدعة -وأناخها في كلِّ أرضٍ وطئتها قدماه، وجعلها شرعةً مرتضاةً لتلاميذه، وأرخى لها الحَبْلَ على الغارب، فطارت به مُسرعَةً، فأهاجَهُ إسراعُها، فأخذَ يحدو لها حُداءَ المَشوق إلى لُقيا حبيبه - إنَّه بدعيٍّ؟!! ألا إلى الله تصير الأمور.
وإخالُ أنَّ تقسيم المُسليمن إلى قسمين، خيرٌ وأحبُّ إلى الله من تقسيمهم إلى: سُنِّي، وشيعي، وخارجي، وإباضي، وشافعي، وحنبلي، ومالكي، وحنفي، وظاهري، وباطني، وزَيدي،... الخ.
لقد كان حريَّاً بصاحبنا وأصحابه معه، أن يكون لهم -وهم الصَّفُّ الأوَّل كما يقال- أن يَدَعوا المذاهب التي ما عُرفت، حتى عن مُنشئيها، المنسوبة إليهم، ويَدْعوا أنفسهم والنَّاس معهم إلى الحقِّ الصُّراح، الذي أشرقت به السَّماواتُ والأرض، وصلح عليه أمر الدُّنيا والآخرة، وكان الفَوزُ، والعزَّةُ، والتَّمكينُ في الأرض للمُسلمين؛ وإلى العودةِ بالأُمَّة إلى سذاجة القرون الثَّلاثة المفضَّلة، ويسرِ الإسلام، الذي شقيَت الأُمَّة، حين وَلَّت عنه ظَهرها، وأدبرت عَن الصُّورة العمليَّة الرِّائعة، التي رَسَمها سلوكُ الصَّحابة رضوان الله عيلهم جميعاً، فنالت بذلك من عذابات الاحتراب والاضطراب، وأظلَّها بسُحُبٍ دكناءَ، شرَقَت بها حلوقُها، وجمدت منها لَهَواتُها، وأذكرتها بأيَّام الجاهليَّة، الملتئمة على جراحات الأكبادِ النَّازفة، المطلولةِ بدماءِ الحنيفيَّة أمام جلاميدِ الأنصاب الذَّليلة!!
* "قصَّةٌ طريفةٌ":
وأذكُر هنا واقعةً لطيفةً، جديرةً بالذِّكر في الحديث عَن هذه المقولة، فيها طرافةٌ وعِبرةٌ:(2/48)
دُعيتُ قبل سنواتٍ إلى بلادِ المَغرب، -وقاها الله وحرسها من سوءِ ما يُراد بها- لشهودِ الدُّروس الحَسَنيَّة الرَّمضانيَّة، التي تُلقى بين يدي ملك المغرب من كلِّ عام في رمضان، ويحضرها عددٌ من أهل العلم، يُدعون لها من العديد من بلاد المُسلمين.
وكان أحد المدعوِّين في هذه السَّنة، شيخُ الطُّرق الصُّوفية في مصر، يحلم لقلب "دكتور"، حالقٌ لحيته وشاربيه، يرتدي اللِّباس الغربيَّ، وليسَ عليه من سيماءِ الإسلام والعربيَّة، إلاَّ ما تسمعه من كلامه حين يتكلَّم، ينطقُ بالشهادتين بعربيَّة عاجزة.
وكان طُلِبَ منه إلقاءُ درسٍ بين يدي الملك!
فلا والله ما رأيتُ حالاً لبست رجلاً أسوأ من تلك الحال التي رأيتها لَبِسَتْه، حتى لكأنَّ الرَّائيَهُ، يحسب مصيبةً حلَّت به، فهو لا يُحسن معها إلاَّ التَّسليم، لما قَضى الله فيها بها!!
أخذته الرُّحضاءُ وامتُقِعَ وجههُ، وتلَعثَمَ لسانُه، واصطكَّت أسنانهُ، وانفَرَجت شفتاه فلا تمسكان على جملةٍ تامَّةٍ، وعراه اضطرابٌ وفَزَع، وخِلتُهُ أنَّه لا يّدري ما يجري به لسانُه، لكثرة ما أخطأ، فلا أراك الله ما أصابه، ولا ابتلاك بما نابَه، ولا آلمَكَ ما هَتَم نابَه، ومثلُه في ذلك كلِّه -عافانا الله وإيَّاك- كلُّ من ناب منابَه!
ولا أحسب أحداً من الجلوس، إلاَّ وقد أشفق عليه، ورجا أن يؤذَن له في الخلاص من سوءِ الحال التي لبسته.
وفي اليوم الثَّاني، طُلِبَ إليَّ أن أُعقبِّب على درسه في إحدى قاعات وزارة الأوقاف المغربيَّة، وكان ممَّا أذكر من كلامي الذي عَقَّبتُ به على درسه:(2/49)
كنت أودُّ أن نَسمع أنَّ الأستاذ شيخٌ لطريقةٍ واحدةٍ، لا شيخ لطرق كثيرة، وما أكثرها في مصر -وهي والحمد لله (على كل حال) تزدادُ يوماً بعد يوم- إذ كيف يكون مقبولاً شرعاً تعدد الطُرق، والله سبحانه لم يجعل لعباده المؤمنين إلاَّ طريقاً واحدة، وهي طريق الكتاب والسُّنَّة، التي ترك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه عليها، وأمرهم بالبقاء عليها، ونهاهم عَن المخالفة عنها، وهي التي ذكرها الله ووصفها في كتابه، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [سورة الأنعام: آية 53]، ولا إخالُ إلاَّ أن الأستاذ على ذُكرٍ من هذه الآية من كتاب الله، فكيف يرضى أن يكون شيخاً لطرق كثيرة وطريق الله واحدة؟!
وكان حريَّاً بالأستاذ الشيخ -وهو الآن في بلادٍ عامَّةُ أهلِها مالكيُّون- أن ينسى مشيخته هذه، فشيخهم واحد وهو الإمام مالك رضي الله عنه، ومن الإحسان إلى من يدعوك ويكرمك، أن تحسن إليه، بما هو أهلٌ له، وبِما يُحبُّ.
وهنا أُذكّر المغاربة بأمرٍ لا يحسن أن يكون غائباً عنهم، وهو: أنَّهم قد أجمعوا على إمامة الإمام مالك لهم في الفقه، والفقهُ يؤسِّس الإدراكات العلميَّة، التي يقف بها الإنسان على رغائب الهُدى، فتنفي عنه الرَّذائل النَّفسيَّة، والانحرافات الفكريَّة، والزُّيوغات العقليَّة، ولست بظانٍّ أنَّ أهل التَّصوُّف يودُّون لأنفسهم أكثر من ذلك، إن هم استطاعوا إدراكها أو بعضاً منها.
إذاً؛ فلماذا يَعْدلُ المغاربة المالكيُّون عَن إمامهم الذي ينتسبون إليه في الفقه، إلى إمام آخر غيره في الطَّريقة والسُّلوك، وهل للفقه ثمرة إلاَّ سلوك الطَّريقة التي سلكها مِنْ قبلهِم إمامُهم مهتدياً فيها بالفقه، الذي أفاده وتعلَّمه، ثمَّ علَّمه تلامذتَهُ فنشروه في أرجاء الأرض؟!(2/50)
وكيف لهم أن يعدلوا عنه إماماً في العلم والفقه، وهم يعلمون -أو لا يعلمون- أنَّه رحمه الله كان من أكثر النَّاس إعظاماً، واتِّباعاً، وأدباً، وحبَّاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكن لحياته، ونشأته، وحرصه على أن يموت في المدينة أثر كبير جدَّاً، فيما منَّ الله به عليه، من أدبٍ جمٍّ مع الرَّسول صلى الله عليه وسلم، واتِّباع له وإعظام في نفسه.
فكان حقَّاً للإمام مالك -رحمه الله- عليهم أن يقرءُوا سيرته جيِّداً، ليتعلَّموا منها الكثير الكثير، مِمَّا لم يؤْثَرْ عن شيوخ الطَّريق منه شيءٌ، ثمَّ نَسَجَ لهم المريديون والأتباع سِيراً، وكراماتٍ، لم يكن منها شيءٌ حتى ولا للأنبياء والرُّسل، والحواريِّين، والصَّحابة!!
فلا أدري، أضَنُّوا على أنفسهم بالإمام مالك، بأن يجمعوا له الإمامتين، وهو حقيق وجدير بهما؟! أم علموا من سيرته بأنَّهُ إمامٌ ورأسٌ في الفقه والعلم، وأنَّه لم يبلغ مبلغ من اتَّخذوهم أئمَّة في السُّلوك والطَّريقة، فآثروا غيره عليه؟!
كلاهما سَيِّئ، وما -والله- أحسنوا صنعاً، فلو عقلوا الأمر عقلاً حسناً، لعلموا أنَّ الإمام الفقيه، هو الأجدرُ والأحقُّ أن يكون العارفَ بالله، كما يُسَمَّوْنَ، فالفقيهُ العالمُ، يفوق في الفضل أسبقَ النَّاس في العبادة، لأنَّ الفقه جُنَّةٌ يَدَّرِيءُ بها الفقيهُ سهامَ الشيطان، ولأنَّه أيضاً، يمحو الله بعلمه رانَ الجهل والضَّلال عن القلوب والعقول.
ومالكٌ رحمه الله لا ينكر من شهد له بالفقه والعلم والإمامة فيهما، سبوغَ فضل الله عليه، في السُّلوك، والأدب، والرَّقائق، والحرص الشديد على العبادات -فرائضها، ونوافلها- مَمَّا فتح الله به عليه في العلم والفقه، حتى تناهت إليه جماعاتُ العلماءِ، وطُلابُ العلم يَفِدونَ إليه -في مدينة الرَّسول صلى الله عليه وسلم- من كلِّ الآفاق وأطراف الأرض.(2/51)
هذا إن كان لا بدَّ من اتِّخاذ شيخ في الطَّريقة، أمَّا وإنَّ التَّفريق بين العلم والفقه، وبين السُّلوك والطَّريق، من المبتدعات فخيرٌ لأهل المغرب، وغير أهل المغرب، أن لا يزيديوا على شيخ يجمع بين الفقه وبين السُّلوك، لتكون به القدوةُ الواصِلَتُهُم برسول الله صلى الله عليه وسلم.
والشيخ، حين يجمع بين العلم وبين السُّلوك -أو قُلْ: بين الفقه وبين الطَّريقة- يكون قد بلغ الذِّروة، وأماط اللِّثام عَن مكنون الزَّمان، لا بيده، بل بحاله الناطقة بآيات العمل الصَّالح، المُنبِئَة عن تقوى الله في كل ما يفعل ويدع.
فأيَّةُ عقول تلك، التي رضيت أن تتفَرَّق أوَّلاً على شيوخ الأذواق والطُّرق، تفرُّقاً غير حميد، فتكون أزمَّتُها في أيدٍ مملوءَةٍ ذنوباً وجهلاً، وهي شامسةٌ عن العلم الذي ملأ بقاع الأرض، وأحيا فيها عقولاً وقلوباً، من كل الأجناس والألوان، حتى تتامَّت لها النِّعمة، التي قال الله فيها: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [سورة المائدة: آية 3].
ولست أدري -والله- كيف يرضى إنسانٌ يقلِّدُ مالكاً رحمه الله تعالى في الفقه، ثمَّ هو يرضى أن يتَّخذَ شيخاً آخر في السُّلوك والطَّريق، ربَّما كان أجهل الخلق في العلم، ومن أسوئهم في السُّلوك الباطن، كما يقولون؟
فالعلمُ هو الوثاقُ المتينُ للعقل والجوارح معاً، يوثق العقل بالحكمة الرَّاشدة، ويوثق الجوارح بالعمل الصَّالح، وما بين العقل وبين الجوارح، كما بين الماء وبين التُّراب، فإذا أصَاب الماءُ تُرابَ الأرض، أخصبت، وأينعت، وأنبتّت زَرْعها و شَجَرها.(2/52)
والغاية من العلم، الوقوفُ على أمْرِ الله فيما أمَرَ، ليَعلَم، الواقفُ عليه كيف يكون عمله موافقاً لمُرادِ الله به في ظاهره، فإنْ رجا لقاءَ ربِّه، أخلصً فيه النِّيَّة له، فيجتمع له في عمله الإخلاصُ والموافقة، وهما شرطا قبول العمل، الذي يُرجى به ثوابُ الله سبحانه في الآخرة، فمن الذي يُحتاجُ إليه حينئذٍ، أمالكٌ رحمه الله - ينبوع العلم الثَّرُّ الذي لا ينضب على الأيَّام -أم غيره من شيوخ الطُّرق، الذين لا يحسنون عبادتهم على الوجه الذي يعرفه مالكٌ رحمه الله، علَّمه بعد أن حذَقَه، وأبصَرَ به، وعلَّمه وبَصَّرَ به؟!
ثمَّ إنَّ اتخاذ شيخين وإمامَين، واحدٍ للطَّريقة والسُّلوك، والآخر للعلم والفقه، يُحدِثُ -ولا بدَّ- تناقضاً في ذات المريد التَّابع، ويوجد في نفسه ازدواجيَّةً، تفصِمُ بين العقل وبين القلب فَصْماً شديداً، إذْ الطريقةُ يُرادُ بها صلاح النَّفس والرُّوح، والعلم يُرادُ به صلاحُ العقل والجوارح، كما يقولون، فأين هو الحدُّ الذي يفصل بين العقل وبين الجوارح، حتى نجعل لكلٍّ منهما متعلَّقاً خاصّاً به، لا يصلح إلاَّ له وحده؟ في حين أنَّنا نجد الرَّسول صلى الله عليه وسلم، الذي ائتلف فيه العقل والرُّوح ائتلافاً، كان به القدوةُ الفَذَّة في حياة البشريَّة كلِّها، لم يفرِّق بين العلم وبين السُّلوك في مواطأتهما القلبَ والجوارحَ، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم:(2/53)
"إنَّ الله لا يَنظُر إلى صوركُم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبِكم وأعمالِكُم"(24)، ذلك أنَّ القلب في الحقيقة، جارحةٌ باطنةٌ، تعمل كسائر الجوارح الظَّاهرة، بيد أنَّ أعمال الجوارحِ الظاهرةِ ظاهرةٌ مثلُها، وأعمال القلب - الجارحةِ الباطنة- خَفيَّة، لا تُدْرك إلاَّ بآثارها النَّاجمة عنها، وصلاحُ الجارحة الخفيَّة، يؤثِّر ولا شك في صلاح الجوارح الظَّاهرة، "ألا وإنَّ في الجسد مُضغة إذا صَلُحت صلحَ الجسدُ كلُّه، وإذا فَسَدَت فَسَد الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلب"(25).
ويُروى عَن عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه قوله: "أصلحوا بواطنكُم، تَصلُحْ ظواهركم".
ثمَّ أليسَ لنا -أمَّةَ محمَّد- فيه أُسوةٌ حسنةٌ؟ أليس هو الذي قال الله فيه: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيراً} [سورة الأحزاب: آية 21].
إنَّه بمنطق أُولئك المفرِّقين بين الفقه وبين السُّلوك، كان ينبغي أن يكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولٌ آخرُ، مُحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم لإصلاح الجوارح والعقل بالعلم، والآخرُ لإصلاح الرُّوح والقلب بالسُّلوك.
ورُبَّما انتهى بأولئك القولُ أيضاً إلى مقولةٍ فاسدةٍ، كافرةٍ، يقولون فيها: إنَّ لكلِّ ضِدَّين إلهَين، يجمعهما جميعاً إله الخير وإله الشَّر، ولعلَّه لا يخفى عيلنا، أنَّ هذه المقولة قد قيل ما هو أفسد وشرٌّ منها -وإن كان القَدْرُ الجامع بينهما الكفرَ عياذاً بالله تعالى- سبحانه وتعالى عمَّا يقولون علوَّاُ كبيراً - بهاتين العقيدتين.(2/54)
إنَّ التَّفرُّق في الطُّرق، والصَّفق فيها، بعقائد ما عرفها المُسلون إلاَّ من بعد ما صارَت في أيديهم مقاليد البلاد بالفتح، فنالوا وأنالوا، بيد أنَّهم أتى عليهم وقتٌ ألانوا فيه مناكبَهم، فركبتهم أمشاجُ ثقافاتٍ مدهوقةٍ بشرورِ العقول التي أودعتها كتباً ورسائل، ما كانت يوماً لتكون، إلاَّ عِدْلاً للوحي المنزَّل على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
ولو أنَّ المُسلمين بعدما جاءتهم هذه الثَّقافات، صنعوا ما صنع بها شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله، فردُّوها إلى كتاب الله وسنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، لسخَّروها في نقض نفسها بنفسها كما صنع رحمه الله، لكنَّ الكثيرين منهم بُهرِوا بها، وحسبوها تأتي بخير لهم إذ علموها، فكانت بهذا بلاءً مستطيراً، وإثماً خَطيراً، أرضخَتهُم للعقول التي اخترَعَتْها، ودوَّنتها، فأذاقتْهم من وبالها المُرِّ، ووبْلها الهرِّ، ما كان المُسلمون أغنى الناس عنه، بدينهم السَّهل الميسًّر، وعقيدتهم الصَّافية الصَّريحة، التي حفظها القُرآن في آياته المسطَّرة.
فمسكينٌ هذا الشيخُ الذي أُسندت إليه رئاسة الطُّرق، ومَشيَخَتُها، ببنطاله الواصِف، ورباط عنقه الخانق، ووجهه الأملس النَّاعم، وشاربيه المحلوقين، وطاقيَّته الغربيَّة، وشارته التلفيقيَّة، لعلَّه يرحمه الله لا زال يجهل تأويلَ قول الله سبحانه: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [سورة الأحزاب: آية 21]، فهو يحتالُ على ظاهره هذا، بما يظنُّه صلاح باطنه!!
وإذا كان هذا هو حالَ شيخ شيوخ الطُّرق، فكيف بأولئك الشيوخ الذين ارتَضوه شيخاً لهم، ونَصَّبوه إماماً عليهم؟! بل كيفَ بأولئكَ الرِّعاعَ التَّابعين؟! لا أحسبهم -جميعاً- إلاَّ كما قال ذلك القائل: "كما تكونوا يولَّى عليكم"(26) .
وبعد:(2/55)
فإنَّ تَقسيم الأُمة إلى سلفيِّين وبدعيِّين، ليس إلاَّ تعبيراً آخر، للتَّقسيم الذي استقرَّ في الأُمَّة منذ قرون وهو: السَّلف والخلف، حتى صار مألوفاً للأسماع، أن يقال: "مذهبُ الخلف أحكم ومذهبُ السَّلف أسلم" أي: في العقيدة، وليس في هذا القول من شيءٍ يُساغ في العلم، إلاَّ جرْسُ السَّجعة، أمَّا فَحواه ومعناه، فأمرٌ يَنِدُّ بالعقل بعيداً، ليبحث عَن قيد علميٍّ، يضعفه في يدِ هذا القول فلا يجده.
إذاً، فهذا التَّقسيم ليس من صنع السَّلفيَّة، ولا من وضع السَّلفيِّين، وليت واحداً ممَّن ينعُونَ على السَّلفيَّة والسَّلفيِّين، يجد أصلاً لهذا التَّقسيم (سلف وخلف)، فنقول لهم: إنَّ التَّقسيم إلى سلفيِّين وبدعيِّين، ليس مصطلحاً علميَّاً، ولن يصير كذلك، لكنَّه اصطلاحٌ واقعيٌّ، أملاه الواقع المشهود في الأُمَّة، وبخاصَّةٍ حين تطايرت سهامُ طوائف العادين، من المغرب والمشرق، تُصوِّبها أقواسٌ، صُنعت من أعوادِ أشجارِ غاباتٍ ليست في أرضنا، ودُرِّبت على تَفويقها في تلك الأقواس، أيدٍ راعشةٌ من حسدٍ ومكرٍ معاً، في القديم والحديث.
ثمَّ إنَّ هذا التَّقسيم الذي أملاه الواقعُ المشهودُ، هو تحقيقُ لنبوءَة المُصطفى صلى الله عليه وسلم، مِمَّا هو كائنٌ في مُستقبل هذه الأمَّة، بما أوحى إليه ربُّه سبحانه، كما أسلفنا من قبل، ولتبقى طائفةٌ من هذه الأُمَّة قائمةً بأمر الله، وعلى الحق الذي ارتضاه ربُّ العباد للعباد.
ولسنا نَنعم بطيب الحديث، حين نستخرجُ مكنون كنانتنا -مِمَّا يُؤيِّده الوحيُ المبينُ -لنقول للنَّاس حُسناً ونحن نردُّ تلك الفِرى الباهتة، التي طالما ردَّدَتها ألسنةٌ وأقلامٌ، وهي تحسب -بِتَرْدادِها- أنَّها إنَّما تُحسن صُنعاً، وحاشا للحَسَن أن يصير قَبيحاً!!(2/56)
فلا والله ما يحملنا على الرَّدِّ، إلاَّ أن يُبيَّن الحقُّ للنَّاس، وأن تُصانَ ألسنتُهم وأقلامُهم، مِمَّا يؤثِّمهم، ويحمِّلهم ذنوباً وآثاماً يُخشى أن يلقوا ربَّهم بها قبل توبتهم، والنُّصح لكلِّ مُسلمٍ حقٌّ على كلِّ مُسلمٍ.
ولسنا نريد للطاَّعنين على السَّلفيَّة في هذا الزَّمان، أن يُوغلوا ببغيهم عليها إلى أبعدَ مِمَّا وصلوا إليه، فيكفيهم ذلك، والموت آتيهم، ونازلٌ في رحابهم، ولا يردُّه عنهم ظنُّهم الحَسَنُ بأنفسهم، وأنَّه لطالما أشفت أضغاثُ الأحقاد بأهلها -في قرونٍ غابرةٍ- على أغوارٍ سحيقة، ألقت فيها بسوادها المائد بالهوى، المشحون بالغَوى، الفائز بالجَوى، فما استطاعت لأنفسها نصراً، وما كان أهلُّها منتصرين، ولا لمن كان يحملها من رغبةٍ في أذىً، أو طمعٍ في نفعٍ.
وإني مع الأيَّام، لا أرى في السَّلفيِّين إلاَّ ضَرَّة جميلة حسناءَ، تقف مائسةً بحُسنها وجمالها -لا تردُّ عنها يَدَ لامسٍ، مُريدٍ لنفسه عفَّة فكرٍ، ونزاهةَ حُكمٍ، وسلامةَ عقيدةٍ، وصحَّة علمٍ، ونُصوعَ حُجَّةٍ، ودقَّة فقهٍ، واستحكامَ منطقٍ- أمام ضرائر كُثْرٍ، ما وَجَدْن شيئاً يَعِبنَهُ فيها، إلاَّ ما قال ذلك الشاعر:
كضرائرِ الحسناءِ قُلْنَ لوجهِها حَسداً وتيهاً إنَّهُ لَدَميمُ(2/57)
ونحن لا نريدُ أن نلوي عُنُق الحقيقة ليَّاً، فنَستَنطِقَها - قسراً- أمراً ليس في جوهر السَّلفيَّة، ولا في ظاهر سلوكها، نُطاول به الزَّمان، ونباهي به الدُّنيا، ونهزُّ به أرْيَحِيَّات الغيارى، ونستجلبُ به أطماع الجياع المهلوعين، فالسَّلفيَّة غنيَّةٌ بذاتها، نقيَّةٌ في جوهرها، غرَّاءُ زهراءُ بأُصولها وفروعها، ولقد أمْلَتْ على الدُّنيا بأسرها هذه الحقيقة مذ كانت، وستظلُّ ماثلةً في آفاقها الفسيحة الرَّحيبة، تنهَلُّ بشذاها النَّديِّ، وتنسكبُ برَوحها العَبقِ، وتتألَّق بسناها الوضيء، إلى أن يقوم المنهجُ الحقُّ وأهلُه لربِّ العالمين، راغبين في رحمته، خائفين من عذابِهِ، راجين أن تكون السَّلفيَّةُ الحقيقيَّةُ شاهدةً وشافعةً عنده لهم.
أما أُولئك الذين شقيت نفوسُهم بالنُّفرة منها، أو مُلئت صدورُهم بعداوتها، أو زُحزحت عقولهم عن فقهها ونورها، أو استمالتهم أهواؤهم إلى غير السَّبيل الواصِلَتِهم بها، أو أدبرت بهم بالاستحياء أو العجز أو التردُّد عنها، أو أجلبوا سرَّاً وعلانيةً بعداوتها، أو تمارَوا في الحِقَب التي حفظتها، أو خذلوا أولياءَها وأهلها، وهم على بيِّنةٍ ويقينٍ أنَّهم واقفون على حُدودِ الله، ومعالم الحقِّ بها، أو ارتدُّوا على أدبارهم عنها حين اشرأبَّت بهم أطماعُهم إلى مغانم عاجلةٍ.
أقول: أمَّا أولئك جميعاً، فقد لَبِسوا قُمُصاً من قَطِران، سابغةً أو غيرَ سابغةٍ؛ كلٌّ حسب ما أسلف لنفسه، وقدَّم أمامه من نُفرتهِ وعداوته، وغشيتهم غواشي الظُّلم -والظُّلم ظُلُماتٌ يوم القيامة- وركنوا إلى همٍّ طويلٍ، لائلٍ، ثاغبٍ بالآثام، والخطايا، والهُون.(2/58)
فلماذا يُنكر أولئك المُنكرون أنَّ تقسيمَ الأُمَّة قسمين اثنين -سلفيِّين وبدعيِّين- وقد قسَّموها من قبل هم إلى سلفٍ وخلفٍ، ولا يُنكرون أن تُقسَّم الأمَّة إلى فِرَق وشيع وطرق؟ وربُّنا سبحانه يقول: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [سورة الأنعام:: آية 53].
اللَّهمَّ فاشهَد بأنَّا قد رضينا بكتابك حكماً عدلاً، وببلاغِ نبيِّك فَصلاً حقَّاً، وبالإقامَةِ على منهج الحقِّ عملاً صالحاً.
(ط) مِمَّا قالوا: "إنَّ السَّلفيِّين يُدنَدِنونَ دائماً حول خبر الآحاد، ويرفعونه إلى مرتبة الخبر المتواتر في إثبات مسائل العقيدة" اهـ.
حسبُنا الله ونِعم الوكيل!! لكأنمَّا اجترح السَّلفيُّون خطيئةً نكراءَ، وهم يقولون ذلك!
ولست أُريد الوقوفَ طويلاً عند هذه المقولة المُحْدَثةِ، التي ما عرفها سلفُ هذه الأمَّة، ولا خَلَفُها أيضاً، إلاَّ من بعد أن عُقِرت ناقة الإسلام في مربضها، وتعاورتها ذئابُ الشرك والبدع من كلِّ جانب، وتناوشتها سهامُ الحوادثِ المَسْمومةُ من كلِّ صَوب، وهي صابرةٌ محتسبَةٌ، ناظرةٌ رحمةَ ربِّها، في غير ما قُنوطٍ ولا فزعٍ.
وكانت هذه المقولةُ واحدةً من مقولات، استطالت بشِرَّتها، ثمَّ ما لبثت أن امتدَّت فروعها، واسَّاقط ثمرُها المُرُّ، وكأنَّما لم يكن بدٌّ من أن يذوقه أهلُ كلِّ قُطرٍ وصل إليهم فرعٌ منها، حتى كاد ينسى معه طعم الثَّمر الشهيِّ الحلو، مِن جَنى شجرة الإسلام الباسقة.
ويكفي أن نعلم أنَّ التَّفريق بين العقيدة وبين الأحكام في الأدلَّة، أمرٌ لم يعرفه أهلُ الصَّدر الأوَّل، وكلُّ أمر لم يعرفه أولئك فجزاؤهُ أن يُطْمَس ويُغَوَّر، وكلُّ أمرٍ عرفه أولئك يجب أن يُعلن ويُظهر، ولو أنَّ القائلين هذه المقولة أفنوا أعمارهم في البحث عن أصلٍ لها، يَصلُحُ للتَّعويل عليه لَفاتَهم، وما أفادوا إلاَّ جهداً ضائعاً.(2/59)
ولا أشُكُّ في أنَّها مقولةٌ خبيثةٌ، جرت بها لهواتُ رهطٍ لم يجدوا لِمكْرِهم منفذاً يُقبل في الأمَّة، يَسوءُون به وجه الإسلام -زعموا- إلاَّ مثل هذه المقولة، فهم يعلمون أنَّ جُلَّ أحاديث العقيدة أحاديث آحاد، كما يعلمون أنَّ المتواتر منها قليلٌ جداً، وآيات القُرآن -وإن أتَت على أصول العقيدة- فإنَّه يبقى فروعُ هذه الأصول، التي لا بدَّ وأن تُعرف من أدلّةٍ تفصيليَّةٍ، وهي لا تُستوفى إلاَّ من أحاديثَ آحادٍ، فإن وقفنا عند المتواتر، فإنَّ هذه الفروعَ أو جُلَّها، يكادُ لا يقترب من دليل يُثبتها أو يقتر هو منه دليل، ومعنى هذا أنَّ جمهرةً كبيرةً من السُّنَّة، تُرَدُّ بدعوى عدم قبولها في العقائد.
ولكن أسألُ: كيف يكون الحُكم على هذه الأحاديث الآحاد، أو على بعضٍ منها، إن كانت مشتركة، تصلح أدلَّةً على العقائد والأحكام معاً، أو إن كانت لا تصلح إلاَّ أدلَّةً للعقائد وحدها؟!
فإن كانت لا تصلح أدلَّةً إلاَّ على العقائد وحدَها، فهي مردودةٌ جُملةً وتفصيلاً، لأنَّها لا تصلح للاستدلال بها على العقائد.
إذاً: فهي وإن كانت صحيحةً أو حسنةً باعتبار أسانيدها، لكنَّها من حيث العملُ والاستدلالُ بها معطَّلةٌ، فالحكم الذي يَصْدُق عليها يمكن أن يكون البطلانَ، فهي بهذا الاعتبار ليست داخلةً تحت قسم الثَّابت من الحديث، بل ولا تحت الضَّعيف منها، بل هي أقربُ إلى أن يحكم عليها بالوضع، إذ لا يفاد من روايتها ولا من درايتها، ما دام أنَّ العمل بها موقوفٌ غير جائز.
وعلى ذلك نسأل: ما حكمُ من يَظُنُّ في هذه الأحاديثِ الصَّحيحةِ أو الحسنة هذا الظَّنَّ، وهو لازمٌ لا ينفكُّ عنها وبخاصةٍ إن كانت هذه الأحاديث مما اتفق عليها الشيخان البخاري ومسلم؟!(2/60)
أمَّا إن كانت تصلح للاستدلال بها على العقائد والأحكام، فحينئذٍ تُشطر شطرين، يؤخذُ شطرُ الأحكام للاستدلال به، ويُترك الشطرُ الآخرُ، لعدم صلاحه للاستدلال، وهذا أيضاً لا يخلو من شيء مِمَّا أُسيءَ به إلى الأحاديث الآحاد، التي لم يذكر فيها إلاَّ مسائل العقيدة.
ونحن إذ نقول هذا، لا نقوله مَيْناً وتخرُّصاً، فالحقُّ -ولا بدَّ- يقضي بأن يُحكم على هذه الأحاديث بمثل الذي حكمنا، لكنَّنا نَدعو إخوانَنا القائلين هذه المقولةَ المُحدثةَ الآفكةَ إلى ودْعها، والخروج من إثم اعتقادها، ذلك أنَّ هذه المقولةَ في حدٍّ ذاتها مسألةٌ مِن مسائل العقيدة، وإثباتها على زعم القوم محتاجٌ إلى نصٍّ قُرآنيٍّ، أو حديثٍ متواتر، فهل يقولُ قائلٌ هذه المقولة؟ إن كان يقوله فليأت بدليلٍ على ما يقول!! ودون ذلك خَرْطُ القتادِ!!
ثمَّ لنَنظر جميعاً معاً، أين كان أصحاب مُحمَّد صلى الله عليه وسلم، وهم يحملون رسائلَه، وكلماتِه، إلى القبائل وأهل الأديان، فرادى وجماعاتٍ، لم يكونوا يفرِّقون بين ما يحمله الواحد منهم من عقيدةٍ وأحكامٍ، وبين ما تحمله من ذلك الجماعة منهم، وهلاَّ كانوا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أنَّهم علموا شيئاً من هذا الذي علمه هؤلاء المتأخِّرون!! وهل كان هذا يغيب عَن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يُحمِّل الواحد منهم ما أوحى الله إليه من كلماته في العَقيدة، أنَّ العقيدة لا يكفي فيها الواحدُ من أصحابه؟ إلاَّ أن يكون هؤلاء القائلون، اجتهدوا في أمرٍ خَفِيَ عن الصَّحابة رضوان الله عليهم علمُه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان لا بدَّ من الاجتهاد فيه، وهذا أمرٌ شائنٌ.(2/61)
ويجدُر بنا أن نُذكِّر القائلين هذه القَولةَ الآفكةَ، بأن الرَّسول صلى الله عليه وسلم، النَّاقلَ الوحيَ عَن ربِّه، المُبلِّغ رسالتَه، ما كان ليَخفى عليه أنَّ بيان مثل هذا الحُكم -لو كان على مثل هذه القولة الآفكة- واجبٌ عليه، وبخاصَّةٍ وأنَّها أصلٌ كبيرٌ، وقاعدةٌ كليَّةٌ، فلو أخفاها لم يكن مُبلِّغاً وحيَ ربِّه، ولو أقرَّها لكان مؤخِّراً بياناً لحكم عَن وقت الحاجة إليه، ولو مات وهو مؤخِّرُه لكان كاتماً وحياً من الوحي، وحاشاه عليه السَّلام هذا!!
إنَّه لحَريٌّ بالقائلين هذه المقولة أن يَتوبوا منها تَوبةً نَصوحاً، وأن يًنأوا بأنفسهم عنها قبلَ أن يأتيهم المَوتُ وهم عليها، فإنَّها -والله- مقولةٌ ليسَ فيها إلاَّ الضَّلالُ المبين.
ثم أني لفي عجبٍ لا ينقطع من هذا التقسيم الذي استقر على مرِّ القرون، ولم يعرف واحد من أهل العلم أنكره، أو قال فيه قولاً غير ذي عوج، إذ يقول لو قال: إنَّ هذا التفريق بين ما هو متواتر وبين ما هو آحاد تفريق يقضي ولا بدَّ على السُّنَّة بالتبدُّد والردِّ والتَّجرؤ على نصوصها، والتناقض في الحكم عليها.
ولعلَّ الله سبحانه ييسِّر لي قريباً أن أجمع تفرق من كلام في هذه المسألة، قلته في مجالس متباعدة، ولست أدَّعي أنني لم أسبق إليه، بل أقول وبثقة: إنه كلام حقيقٌ أن يظهر وأن يعرفه طلاب العلم، وبخاصة وقد آض العلم إلى أُغيلمةٍ، أدبرت عنهم التقوى كما ولَّى عنهم أدبُ العلم، وحسنُ الخلق.(2/62)
(ي) ومِمَّا قالوا: "إنَّ الابتداع في الدِّين مذمومٌ وشرٌّ كلُّه، وليس يصحُّ شرعاً تقسيمُ البدعة إلى بدعةٍ حسنةٍ وبدعةٍ سيّئةٍ، هذا ما يدَّعيه السَّلفيون في حين نجد الرَّسول صلى الله عليه وسلم يقول: "مَن سنَّ في الإسلام سنَّة حسنةً فله أجرُها وأجرُ من عملَ بها إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيءٌ، ومَن سنَّ في الإسلام سنَّة سيِّئة فعليه وزرها ووزر من عملَ بها إلى يوم القيامة لا ينقص من أوزارهم شيءٌ"(27) اهـ.
لسنا نحبُّ أن نخوضَ مع الخائضين، ولا أن نسوق بين أيدينا أحاديث يبرأُ منها حتى الذين افتروها، لنردَّ عليها، أو لنثبت عكس ما فيها، شاغبين بغير حقٍّ يُراد، ولا دليلٍ يُرتجى، بل سنفرد للقرَّاء بحثاً علميَّاً هادئاً، مستقلاً برأسه، إذْ رأينا أنَّ الجواب عن هذه القالة -لشيوعها- لا يغني إلاَّ أن يأتي فيه على جوانبها بالإبانة المطوّلَّة، والتَّفصيل الواضح، يستغني به القارىءُ عن العديد من الكتب والرَّسائل، فيكون له فيه الجواب الكافي، والبيانُ الشافي، والحق الوافي إن شاء الله، والحقُّ أحقُّ أن يُتَّبع، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مُستقيم.
فليُنظَر المبحثُ الثَّامن من مباحث هذا الكتاب، الذي أرجو أن يكون على نحو ما وصفت إن شاء الله.
وقد أطلْتُ القول فيه في كتابي: "المجتمع الرباني" فلينظر في مُطَّلَبه.
(ك) ومِمَّا قالوا: "يخطىءُ الظنَّ، أو يخطئه الظنُّ من يزعم، أو يعتقد أنَّ السَّلفيِّين يدَّعون أنَّهم أعلى كعباً في فهمهم لنصوص الوحي، كتاباً وسنَّةً وأنَّهم أولاهم بهما، وأنَّهم بفهمهم وولائهم، يصيبون فقط ولا يخطئون، أو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ(2/63)
= والعلماء، وينالون فيها من الذين حاموا عنهم، وأحاطوهم بالرعاية والحب والوفاء في حياتهم ومن بعد موتهم، وكأنما يريدون أن لا يكون لسواهم مكانٌ -حتى بعد موت أولئك الأشياخ- كما كان خشيةً من أن ينازعوا مجداً نالوه بزلفاهم الزائفة لديهم، وكم ذاق على أيديهم ذلك الإنسان الذي يصدق فيه لو كان يصدق القول (الحر العبد) رضي الله عنه بحقٍّ، ببذله الذي لم يعرف له نظير في دنيا السَّلفيين الأخيار رضي الله عنهم!!! وطلع بأيديهم!! فكان أول ضحية في يوم عيدهم الأكبر!! ألا ساءَ ما يزرون.
أنَّ الصَّواب هو الغالب، والخطأ في فهمهم نصوصَ الوحي قليلٌ لا يذكر إلى جانب الصَّواب" اهـ.
فهذه دعاوى لا سند لها من واقع يهدي إليها، ولا من مراءٍ انقُطِعَ بحقٍّ عَن باطلِ قوم، أزَّهم باطلُهم إليه ليُغالبوهُ، أو أنَّهم ألجموا ألسنتهم به، فما كان لهم من سبيلٍ إلى حقٍّ، ولا إلى شِبههٍ فيه، ولا من قَول واحدٍ من السَّلفيِّين الذين نشروا أعلام السَّلفيَّة وبنودَها في الخافِقَين، ولا من وِجادَةٍ أصابها باحثٌ منَقِّبُ في رفوف المكتبات وخزائنها، أو عَثَرَ عليها عالمٌ خَرِّيتٌ عَهِدَ بها إلى ما ورءَاه، ليكونوا حفَظَةً أُمناء لها من بعده.
ولو أنَّ الذين أجالوا أقلامهم في الصَّحائف، وعقولَهم في النُّصوص، فمالوا بهذه أو بتلك، بما ألْفَوا عليه قوماً مِمَّن قبلهم -إلى باطلٍ ظنُّوه حقاً، أو إلى خطأ حسبوه صواباً- أنحَوا على الأقلّ باللاَّئمَة على أنفسهم بما صنعوا، إن بدا أنَّهم لم يًصيبوا، أو ظهر لهم أنَّهم قد أخطأوا، لكان خَيراً لهم وأقومُ، وأنجى لهم من مذمَّةِ النَّاس في الدُّنيا، وعقوبة ِالله في الآخرة.(2/64)
لكنَّهم -عفا الله عنَّا وعنهم- مضوا بميراث -حملوه جيلاً بعد جيل وقرناً بعد قرن- يتلونه من غير بصر، ويقرءُونه في غير استبصارٍ ولا إنصافٍ، قد يحسنون ما يقرءُون من حروفٍ وألفاظٍ، لكن كثيراً من معانيها يغيب عنهم، فإذا هم على نَأي من الحقِّ، لا يُرتجى لهم من قرب إليه يوماً، إلاَّ بتوبةٍ علميةٍ بارَّةٍ، يُقلعون بها عَن سِفادَةِ بُغاثِ الطَّير، وإقلابِ الأطفالِ حروفَ الهجاءِ، ويرون في توبتهم -رؤية بصيرةً جاهرةً- معنى قوله تعالى: {إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [سورة يونس: آية 36]، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "إيَّاكُم والظَّنَّ، فإنَّ الظَّنَّ أكذبُ الحديث"(28) وإلاَّ، فإنَّهم مطلوبون إلى الباهلة، على معنى قوله تعالى: {قُلْ يَأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ} [سورة المائدة: آية 77].
لكنْ: مِمَّا يُعزِّي النَّفس، أنَّ للسَّلَفيِّين في طلائع مُنْشِئي السَّلفيَّة وبُناتِها الأوَّلين، الذَّابِّين عن حياضها -كأبي بكر، وعُمر، وعثمان، وخالد، وعَمرو، ومُعاوية، وابي ذرٍّ- أُسوةً حسنةً، فما كان لهؤلاء أن يُصيبَهم ما أصابهم من أذى، ثمَّ ننجو نحن من بعدهم، فأهل الحقِّ دائماً على ذلك، ليس لهم من دون هذا الطَّعن، والتَّجريح والتَّبكيت كاشفةٌ، إلاَّ أن يكون لهم تشبُّهٌ بأُولئك الأخيار السَّابقين.(2/65)
نعم؛ إنَّ السَّلفيِّين، لا ينكرون أنَّ قِيادَ عقل الأمَّة، هو مسؤوليتهم الكبرى(29)، وأنَّ عليهم تنشِئتُها على منهج الوحي الأوَّل، الذي تأسَّست عليه القرون الثَّلاثة الأولى، فكانت أرفعَ القرون قدراً، وأوفرَها ضياءً، وأبصرها عاقبةً، وأنضرَها من بعدُ تاريخاً، وأوفرَها مجداً، وأوعبَها هُدىً وعلماً، وأنَّ هذه المسؤوليَّة لن تبلُغها أيديهم وعقولُهم إلاَّ بأمورٍ؛ هي: إخلاصٌ في النيَّة، وسواءٌ في القصد في العمل، ورجاءٌ فيما عند الله من ثوابٍ، وحرصٌ على تبصير الأمَّة في القصد في العمل، وحرصٌ على تبصير الأُمَّة بعقيدتها وشريعتها، وبواقعها المنظور المشهود المُنبئِ عَن حقيقة حالها، تبصيراً، يقصُر بها عَن الإيغال في بُنيّات الخيال، ويصُدُّها عن التَّرهُّب الفكري، الذي ما فَتىءَ يقود المئات والأُلوف بل الملايين، إلى شفا الجروف الهاوية، ويُرَدِّيها في قعرها، ويُنجيها من غِراءِ الأمل الخادع، الذي شفَّها بالهموم، وجرَّ عليها كآبة الأحزان الحرَّى، وجرَّعها علاقمَ السَّموم واليَحموم.
وهذا -وأيم الحق- هو الفقه البصير، الذي يهدي صاحبه إلى مرضاة الله سبحانه، ويزيل عن قلبه ران الهوى، ويدنيه من الفهم الصَّواب لنصوص الوحي.
وقد ذكرنا مراراً، أنَّ السَّلفيَّة منهجٌ، زمانه الزَّمان كلُّه، ومكانُه المكانُ كلُّه، وليس لأحدٍ من الأمَّة فضلٌ في حفظ نصوصه، التي قدَّمت لها أرفع منزلةٍ عرفتها الدُّنيا، وأبقت عليها في سطورٍ خوالد، محفورةٍ على جبين التَّاريخ، يقرؤها البصير المُبصر من بعد قرونٍ طِوالٍ، ويتلمَّسُها الضَّرير البَصير، بدبيب أنامله من فوقها؛ وأنَّ هذا المنهج، يقيم العقل الإنسانيّ المؤمن على الجادَّة الواضحة، ما دام قد استقى منه أسلوب العمل، وطريقة التَّفكير.(2/66)
لذا؛ فإنَّ على كل من ارتَضى منهج السَّلف الصَّالح منهجاً لهُ، أن يتعرَّف هذا المنهج بكلِّ ما أودعه الله سبحانهُ من خصائص، لكي يسلم له أسلوبُ العمل، وطريقةُ التَّفكير، فلا يكون ظالماً نفسه بالجهلِ به، إذ أنَّ المسؤوليَّة التي يتقلَّدها السَّلفيُّون حيالَ الأُمَّة، تَقتَضيهم هذا، وإلاَّ فقد استباحوا أعراضهم لألسنَةِ النَّاس الطَّاعنين على السَّلفيَّة، لا يُمسكها وَرَعٌ، ولا يكفُّها علمٌ، ولسوف إن طال بنا العمر -نشاهد هذا الامر على جليَّته، وواجبٌ على الكثيرين أن يجتنبوا الأسباب التي استاقتهم إلى ما حذَّرنا منه مراراً وتكراراً، فذهبوا مع عوجهم الذي لا يصلح عليه غلا ما خلق الله من خلقه عليه(30).
وأحسب أنَّ السَّلفيِّين حين لا يعلمون على أن يمسك الطَّاعنون عليهم ألسنتهم، وعلى أن يكفُّوا طعونهم عنهم، فإنَّهم بذلك يكونون شركاءَهم في الإثم، وليس يُنجيهم من هذا الإثم، دَعواهم أنَّهم قَد بلَّغوا ما أوجبَ الله عليهم بلاغه، فإنَّ في الأمَّة أنماطاً مختلفة، وعقولاً مُتباينة، وطبائع غير مؤتلفة.
والسَّلفيَّة -دعوةً وفقهاً- تريدُ طائفةً يحملونها للنَّاس، لأخلاقِها، وفِقهِها، ويُسرها، وقُوَّتِها، وكمالِها، وحسنِ قَبولها، وعَقيدتِها، وشجاعتِها، وتمامِها، وتأثيرِها، وهي الطَّائفة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفةٌ من أمَّتي ظاهرين، حتَّى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون" وفي رواية أخرى: "لا تزالُ طائفةٌ من أمَّتي مَنصورين، لا يضرُّهم خذلانُ من خذلَهم حتى تقوم السَّاعة"، وفي رواية: "لا تزالُ طائفةٌ من أمَّتي قائمةً بأمر الله لا يضرُّهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمرُ الله وهم ظاهرون على النَّاس"(31).(2/67)
والظُّهور أو النُّصرة التي ذَكَرتها الأحاديثُ باختلاف ألفاظها، تختلف باختلاف أحوال الأمَّة، وليست تعني ظهورَها أو انتصارَها بالأمرةِ العامَّة تكون بيدها على الأمَّة فحسب، بل قَد تعني شعور هذه الطَّائفة بأنَّها قويَّةٌ في نفسها، ليست تُبالي ما يكونُ من ذوي السُّلطان، أو المال، أو القوَّة، إن كان ما حولها على غير المنهج الحق، ذلكم أنَّ القوَّة الذَّاتية التي أودعها الله المنهج تُكسبُ حامليه قوَّة نفسيَّة عالية، تكادُ تنطقُ بها جوارحُهم وحواسُّهم، يراها فيا ويسمعها كلُّ من حولها، وما حولها.
وأظهر ما تكون هذه القُوَّة المُكتسبة بالمنهج، ما يلقيه الله سبحانه على ألسنةِ هذه الطَّائفة من الحقِّ، الذي تُظهرهُ الحجَّةُ، وتُنطقهُ البيِّنة، وتَصدَعُ به البراهين المُتعاضِدةُ الواضحةُ الواثقةُ(32).
ولا يَجْمُلُ بالسَّلفيِّين أن يَفرَكوا النَّاس لخصومتهم، ومحاولةِ الظُّهور أو استظهار النَّاس عليهم، وكَيْل الاتِّهام، واستعداءِ السُّفهاء، والنَّيل من أعراضهم، ومجافاتهم، فإنَّ الدَّعوة مذ كانت، وهي تلقى مثلَ هذا وأشدَّ، ولولا ما أنعم الله به عليها من جهاد الطَّائفة الباقية في النَّاس، القائمة بالأمرِ، لما كان لهذه الدَّعوة هذا الشأنُ الذي يعرفه النَّاس عنها.(2/68)
غير أنَّه لا يحسُنُ أن يُغمِض السَّلفيُّون عيونهم على الخلافات التي تظهر فيهم بين الحين والآخر، فهم كسائر البشر يكون فيهم الخلاف، لكن لا عليهم لو أنَّهم سارعوا إليه وأخمدوه قبل أن يصبح عداوة مستَحِرَّةً فيهم، على نحو ما كان بين بعض رؤوسهم!! انتهى بهم إلى قطيعةٍ مريرةٍ، وتنازعٍ لازبٍ، وبغضاءَ طاحنةٍ، وضراوةٍ خرجت بهم عن النَّصَفةِ والأدب، مكَّن لخصوم السَّلفيَّة من الأكل من لحومهم أكلاً لمَّاً، والتَّزيُّدِ عليهم، والتَّشنيع على سيرتهم، والسُّخرية منهم، وهذا من هؤلاء السَّلفيِّين -ولا ريب- إعانةٌ منهم على المنكر، وكفٌّ عن المعروف، ولا يقال: مُحقّ ومُبطل، بل يُقال سلفيُّون خَلَعوا أنفسهم من سلفيَّتهم، وأوغلوا يرتعون في لعاعات الدُّنيا، ويمورون موراً في أتون البغضاء المكوَّرة، حين صاروا إلى فِئامٍ أضجعها حبُّ الدنيا، فأنساهم الله حق طاعته عليهم، ليتيهوا في الأرض أكثرَ من أربعين سنة(33).
ولسنا نعدُّ هؤلاء في الحواريِّين والصِّديقين، لكن حسبهم أنَّ لهم من السَّبق في العلم والدَّعوة، ما كان في وُسعِهم معه -لو أرادوا- أن يقطعوا ألسنة الخائضين، وأن يستجيبوا للحق، وينأوا عَن رغائب النُّفوس، ويكونوا أُسوة بالعفوِ، وكظمِ الغيظ، والصَّفح الجَميل، والرغبة عن التحاكم إلى الطاغوت(34)!!!
والصَّبر هو أمثلُ الأخلاق التي كان حقَّاً على السَّلفيِّين أن يتجمَّلوا بها، والنَّصرُ معقودٌ به، والرَّجاءُ بالظَّفر موقوفٌ عليه، والأجرُ المأمولُ في الدُّنيا والآخرة مأتيٌ منه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران: آية 200].(2/69)
والمُنصفُ الرَّاجي عفوَ ربَّه، الذي يعرف الحق من مأتاه، ولا يتَّعتَع فيه، ولا يميلُ به الهوى إلى غيره، إذا نظرَ بعين العقل في تاريخ السَّلفيَّة، لا يرى فيه إلاَّ الضِّياء والبهجة، والسُّموَّ، والبَذلَ، ونُشدانَ الحقِّ والعَدل، والنَّصفَة، والوقوفَ مع قول الله سبحانه مخاطباً نبيَّه:
{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ الله وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [سورة يونس: آية 109].
ألا فَلْيَدَعِ السَّلفيُّون (دقَّتهم) العلميَّة في خصوماتهم الدُّنيويَّة! فقد أذهبوا عنهم زينتهم التي ألفوا أنفسهم عليها، من غير جهدٍ يضني، ولا قلٍّ يُقعِدُ، وكانوا بذلك كلِّه على وهج الحسد والكبر ونُكران الجميل.
(ل) ومِمَّا قالوا: "الاجتهاد عند السَّلفيِّين، لا يستعصي علىأحد منهم!! والأئمَّة الأعلام من أصحاب المذاهب المشتهرة وغيرهم هم وإيَّاهم في الاجتهاد على قدم سواء!! والقَولة المشهورة الجارية على ألسنة السَّلفيِّين حين يذكر أولئكَ الأئمَّة: نحن رجال وهم رجال" اهـ.
هذه المقولة لاحقة بالتي قبلها، وهي شيءٌ منها لكنَّها -لكثرة تردادها على ألسنة الطَّاعنين على السَّلفيَّة بها- يحسن أن نفردها بردٍّ خاصٍّ بها؛ لنتبيَّن به المُحقَّ من المُبطل، والمُتخرِّص الجاني من الصَّادق الْباني.(2/70)
وإنَّني والله لا أعجبُ عَجبي ممَّن يتَّهم السَّلفيِّين بالاجتهاد بمثل هذا الإطلاق الذي لا يعرف عن السَّلفيِّين إلاَّ من الطَّاعنين عليهم، ولو أنَّ أولئك الطَّاعنين قَصروه على العلماء النَّابهين من السَّلفيِّين -وذلك القرونَ كلَّها- لصدقوا ولأنصفوا؛ لكنَّهم بهذا الإطلاق ما أرادوا إلاَّ الإساءَة بالقول، والأذى باللسان، وقد حرَّم الله هذا وذاك؛ لأنَّه خَرقٌ لأعراضِ المُسلمين، وتطاولٌ عليها، و "كلُّ المُسلم على المُسلم حرام: دمهُ، ومالهُ، وعرضهُ"(35)، فأين يذهب أولئك الخرَّاصون من بَهتِهم هذا، والنَّيل من أعراض إخوانٍ لهم من المسلمين، حرَّمها الله كما حرَّم الدِّماء والأموال.
والعصور كلُّها مملوءَةٌ غاصَّةٌ بمثل هذا البهت والتَّطاوُل، وكلُّ عصر يأخذ هذا عن الذي قبله لِيُهَيِّئهُ للذي بعده، ومن يأتي لا بدَّ وأن يُسعدَ الآتي من ورائه بشيءٍ من عنده، يزيدهُ على الذي ورثه عمَّن قبله، كأنَّما كَتَب القومُ على أنفسهم أن لا يَدَعوا سبيلاً، يصلهم بالإساءةِ لإخوانٍ لهم، تَجمعُهُم بهم وَشيجة نَسبِ الإسلام إلاَّ وسَلكُوه، فإنَّا لله وإنَّا إليهِ رَاجعونَ.
وإنَّه لو كانَ للسَّلفيِّين أن يَفخَروا بأمرٍ تفَرَّدوا به في النَّاس؛ لكان أعظَمَ مَا يفخرُون به ظَنُّهُم الحَسَن بأنفُسهم - مِمَّا أنعَمَ الله بهِ عَلَيهم - أنَّهم مُقَلِّدون مُتَّبِعُون، لا يَعصُونَ نبيهم صلى الله عليه وسلم وإمامَهُم فيما أمَرَهم به، ويَفعلون ما يُؤمَرونَ به مِمَّا يأتيهِم عنهُ مِن غَير أناةٍ ولا تَرَدُّدٍ، ولا تَخيُّرٍ!!(36)
بَل إنَّ إجلالَهم لِذاتِهِ المَصونة من العُيوبِ، المُبَرَّأةِ من النَّقائض، الوافرةِ بالكَمال، هوَ عندهُم من أحسَن مَا يتَقَّربُون به إلى الله سُبحانَهُ وتعالى من الطَّاعاتِ، وليسَ يُعرفُ هذا عَن أحدٍ سِوَاهم في الأُمَّةِ، ومَا حَفِظتهُ عَيبةُ التَّاريخ لهم في هذا يَكفي دَليل صِدق ظَاهرٍ لهم.(2/71)
وهذا المفهوم صَاغَهُ الإمامُ الجَهبَذُ نَاصرُ السُّنَّة قامِعُ البدعَة أحمد بن حَنبل رحمه الله بقوله: "الاتِّباع أن يَتَّبع الرَّجُلُ ما جاءَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِهِ، ثُمَّ هو مِن بعدِ التَّابعينَ مُخيَّر". وفي قوله الآخر المُماثِله: "لا تُقلِّدني، ولا تُقلِّد مالكاً، ولا الشَّافعي، ولا الأوزَاعي، ولا الثَّوريِّ، وخُذْ من حيثُ أخذُوا". وفي رواية: "لا تُقَلِّد دينك أحداً من هَولاءِ؛ ما جاءَ عن النَّبيِّ وأصحابه فَخُذ به، ثُمَّ التَّابعينَ بَعدُ الرَّجُلُ فيهِ مُخَيَّر".
وقد مَضَت القُرون مَوقُورةً بِسيرَتهم -عُلماء، وطُلاَّبَ عِلم، ودُعاةً، ومُجاهِدينَ، وآمرين بمعروفٍن وناهينَ عَن منكرٍ- مَسطورةٌ في صَحَائفها أقوالُهُم، مُدَوَّنةٌ على حَواشيها كلِماتُهُم وآراؤهم، والنَّاظِرُ فيها لا يَجدُ غَيرَ ما قُلتُ، لَيسَت دَعاوَى مُحَمَّلةً بالظُّنونِ، ولا سَجَحَاتِ فِكر مَنظُومةً بالتَّكلُّفِ، ولا تَمْتَمَاتِ شِفَاةٍ مَعقُولةً بالرِّيَبِ، فانظُر إلى آثارها فيهم تَجِدَ نفسَك -إن كنتَ مُنصِفاً- أنَّك على رَجاءٍ أو أمَلٍ يوماً في نَفسِكَ أن تَلتَقيهُم على الطَّريق الَّذي سلكتْهُ قَافِلَتُهُم مذ كانُوا، حَتَّى تَغيبَ شمسُ الدُّنيا، وتُدبر الحَيَاةُ عَن الكَونِ.
ولَكِن أينَ المُقسِطُونَ المُسدَّدُونَ؟!!
ولَكَ أيُّها الظَّانُّ! في أيِ واحدٍ يَنهجُ مَنَهجَ السَّلفِ الصَّالح أن تَسألُهُ: ماذا يصنَع حينَ يجد نفسهُ أمامَ أمرٍ يَقتَضيه أن يَعرف حُكمَ الله فيه؟ وهذا الأمرُ إمَّا أن يكونَ حادثاً لَم يُحكم عَلَيهِ بِحُكمٍ من قبل؛ وإمَّا أن يَكونَ قَد حُكِمَ عليهِ من قبلُ.(2/72)
ولسَوف تَجِد جَوابَ هذا المَسؤول اليَومَ هوَ نفسهُ جَوابَ مَن لَو كَانَ قد سُئِلَ عَن الأمرِ نفسِهِ قبَل قَرنٍ أو أكثر؛ مَوصولاً بالقُرُونَ العَتِيقَةِ الأولى التي شادَ ذِكرها الحَسَن الصَّحابةُ والتَّابعونَ وتابِعُوهم، حَتَّى لكأنَّ هذا الجَوَاب قد صِيغَ من ألفاظٍ وحُرُوفٍ واحدةٍ، وحَتَّى لكأنَّما المُجيبُ على تباعُدِ الحِقَبِ وَاحدُ، وحَتَّى لكأنَّما النَّظرُ المُستقرىءُ الجَوابَ على اختِلافِ البِقَاعِ واحِدُ.
ما الَّذي جَعلَ ذَلكَ كلَّهُ كذلكَ؟
هوَ لا شَكَّ وِحدةُ المَنهج؛ الَّذي لا يَعدو الأصلَين المُنزَّلَيْن على رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم: هُما الكِتابُ والسُّنَّة، ومَا دامَ أنَّهما لَن يَفْترِقا حَتَّى يَرِدَا على رسول الله صلى الله عليه وسلم الحَوضَ، ولَن يَختلِفا ولَن يَتَنافَرا، ولن يُفهَمَ أحَدهما إلاَّ بمُظاهَرَةِ الآخر لَهُ، فكيفَ يُرادُ مِن قَوم ألفوا أنفُسَهُم -بِصَادِقِ رَغبَتِهِم، وحُسنِ تَوجُّههم، بتوفيقٍ من ربِّهم سُبحانه- مُقيمنَ على المَنهج، قافِينَ أثَرَ القُرُونِ الثَّلاثَةِ الأولى، لا يُريدُونَ جَزاءً ولا شُكوراً، أن يَتَحَوَّلُوا عَنهُ إلى غَيرهِ، وأن يَكونَ لَهُم مُتَابعةٌ لِغَير أهْلِ تِلكَ القُرُون؟!
وكَيفَ يَكون لَهُم أن يَتَحَوَّلُوا عن هذا المنهج إلى غَيره، وأن يَكُون لَهُم مُتابعةٌ لِغَيرِ أهلِ تِلكَ القُرونِ الغَرَّاء، وقد أُشربَت قُلُوبهم حُبَّاً لها، ومُلِئَت صُدُورُهُم إعظاماً لهَا، ووُقرت عُقولُهم وأبصارُهُم، وأسماعُهُم بِميرَاثِها المُشرِق الأخَّاذ؟!
إنَّ التَّحول عن هذا المنهج مَرهونٌ بالموت، أمَّا ما دامت الحياة تجري في العروق فلا تحوُّلٌ، لأنَّ التحوُّلَ عنه معناه: إيثَار غير الوحي على الوحي، وتقديم غير الرَّسول صلى الله عليه وسلم عليه.(2/73)
وَمَا عَرَفَ الدُّنيا أحسنَ طاعةً، ولا ألزم أثراً، ولا أشدَّ حباً وَتحرِّياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم من صحابته رضوان الله عليهم؛ فقد كانوا عنواناً مضيئاً للإسلام كلِّه، بعقيدته وَشريعته، وسيرة حامِلِه وَمبلِّغهِ، وما وَجَدت القرونُ المُتَعاقِبَة -ولن تَجد- مثلهم في هذا أبداً ولا في مثلهن وَاستظهاره واتِّخاذهم آلةً في معرفة أمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم كلِّه معرفةً تُلزم العارفَ الحقَّ الذي جاءَهم به صلى الله عليه وسلم من عندِ رَبِّه، حتَّى لكأنَّهم بهذه المعرفة -على بُعدِ الزَّمان وَشُسوع المكان- يُصلُّون معه، ويحجُّون معه، ويُجاهدونَ معه، ويصومون معه، ويعيشون معه، فلا يغب عنهم من أمره شيءٌ ألبتَّة(37).
وإذا كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذت بمجامع قلوب القرون كلِّها؛ فإنَّ سيرة أصحابِه رضي الله عنهم تُعدُّ جزءاً من سيرته صلى الله عليه وسلم، فلها حظٌّ وافرٌ منها، وبذلك حازت شرفين اثنين؛ أدناهما منزلة ازدهت به دُنيا الإسلام وحياةُ المسلمين، فيكف وقد سارا معاً على درب التَّاريخ يتحدَّثان عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم المُعلِّم، المُربِّي، الأُسوة، الآية الَّتي ملأت الأرض والسَّماء علماً، وهدىً، ونوراً، وعن الصَّحابة والحواريِّين الَّذين ما وطئت أقدامُهم مناكبَ الأرض إلا مُجاهدين، دُعاة، علماء، لا يَبتغنوَ تحوُّلاً في أمرهم كلّه عن نبيِّهم المعلِّم المُربِّي الأسوة.(2/74)
كان الصَّحابة رضوان الله عليهم جميعاً -سواءٌ أكانوا على قرب من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أم كانوا على بُعدٍ منه- لا تنزل بهم النَّازلة، ولا تحدُث فيهم الحَادثة، ولا تأتي عليهم الآتية؛ إلاَّ وعقولهم وأسماعُهم وألسنتهم مشدودةٌ مَوثوقةٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، تأخذ منه حكم الله عزَّ وجلَّ من آيةٍ أو من كلمةٍ منه، أو من فعلِ يَفعله، يعرفون ذلك منه مشاهدةً ورؤيةً، أو سماعاً وتلقِّياً من بعضهم البعض، حتَّى إنَّ الواحد منهم لينصرف عن النَّبي صلى الله عليه وسلم -أو عن أخيه الَّذي سمع منه وتلقَّى عنه- إلاَّ وما أخذه أو تلقَّاه عملٌ تتحرَّكُ به جوارحه، وِعلمٌ يجري به لسانه تعليماً بأمر أو بنهيٍ، ودعوةً إلى التَّوحيد والشَّريعة في البادية والحَضَر.
وكانت الآية أو السورة من القرآن تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تقع من لسانه -وهو يتلوها- على مسامع أصحابه؛ إلاَّ وهي على قلوب خضَّلها الإيمان، فَتُيْنَعُ ثَمراتٍ شهيَّةً دانيةً، تتدلَّى بها أماليدُها الخُضر، فلا يُصيب منها واحدٌ ممن لم يكونوا شاهدين نزولها، إلاَّ وهي مُسرعةٌ إلى صدره نوراً مُبيناً، وإلى عقله علماً نافعاً، وإلى جوارحه سلوكاً حميداً.
إذاً؛ فهل لكلِّ من أتى من بعد هؤلاء الصَّحابة رضي الله عنهم أن يرى لغيرهم سبيلاً عليه بفضلٍ من علم أنشأ في عقله معرفةً راشدةً، أو في قلبه هدايةً مُشرقةً، أو في جوارحه سُلوكاً مُهذَّباً؟!
إنه إن يرى ذلك لغيرهم؛ فهو على غير هدىً، ولا على علم، ولا على كتابٍ مبينٍ، لأنَّه يعرف الفضل -بما أفضل الله به عليه من نعمة العلم والهدى والعمل- لأهل الفضل أوَّلاً وآخراً لله سبحانه، والبشر إنَّما هم أدواتٌ صالحةٌ إن سُخِّرت للخَير، وفاسدةٌ إن سخِّرت للشَّرِّ.(2/75)
وأعْلَمُ الأمَّة بموروث علم رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أصحابه من بعده، فهم قد أخذوا العلم عنه أخذاً عمليَّاً بالرُّؤية، وأخذاً شفهيَّاً بالسَّماع، فاجتمع لهم بذلك العلم سماعاً وعملاً، تلقِّياً وتَفسيراً، فما كانَ أسهلَه وأيسره عليهم وأوضَحه وأبينَه لهم.
واللُّغة هي وعاءُ هذا العلم، وكانوا أفصح النَّاس لساناً، وأبينهم بها حجَّةً ومعنى، فلا غَروَ إذاً أن يكون الآخذُ عنهم آخذاً بمثل ما أخذوا هم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وشدَّةُ حرصِ هؤلاءِ الآخذين عن الصَّحابة -وهم التَّابعون- عاضَتْهم من النَّقص الذي كان بعدم السَّماع المُباشر عن الرَّسول صلى الله عليه وسلم.
ثُمَّ يأتي من بعد هؤلاء تابعوهم، على أنَّهم أنزلُ منهم في الفضل، ولكنَّهم في العلم بالغون درجةً عاليةً كانت لهم بالحرص الذي أخذوه عن التَّابعين.
وبهذا ومثله كانت هذه القرونُ الثَّلاثة فَخْرَ قرون الإسلام على الإطلاق، واستحقَّت الثناء النبوي ما لم تَنَلهُ من القرونِ الآتيات من بعدها، إلاَّ طوائف قليلة اشتدَّت عليها وطأةُ الغربة، حفظت من موروث علم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثير، وفازت بحظٍّ وافرٍ من رضاه وحبِّه، فكان لها لقاءٌ مع تلك القرون الثَّلاثة -على بُعد الزَّمن- على درب المنهج الواحد، فأخذت بحبل النَّجاة، وفازت فوزاً عظيماً بِصَبْرها ومصابرتها على غربتها.
وقد منَّ الله على هذه الأمَّة أن بَعَث فيها رسولاً من أنفُسها يَتلو عليهم آيات ربِّهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ثُمَّ قَيَّضَ الله للأمَّة بعد موته صلى الله عليه وسلم من يحفظ لها دينها بتدوين سنَّته؛ قولاً، وفعلاً، وأحوالاً، فكانت هذه الكتب التي أُودعت فيها سنَّتُه صلى الله عليه وسلم شاهدةً على صدق كلمات الله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة الحجر: آية 9].(2/76)
إذاً؛ فأخذُ العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينقطع ولن ينقطع أبد الدَّهر، وستظل هذه الأمَّة -ما بقيت الحياةُ- قائمةً بحقِّ هذا العلم، تنضُو به لباس الجهل عَن الأمم والشُّعوب، وتزيل به اللَّبس الذي خالط عقيدة التَّوحيد.
غير أنَّنا -بكلِّ صدقٍ، ومن غير مَينٍ ولا تخيُّلٍ، ولا جذب، ولا هَوسٍ، ولا دَجلٍ- نقول: نأخذ عن رسول الله بوساطةٍ، ولا نأخذ عنه مباشرة، فنقول: "روينا عن فلان عن فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعَن الذين من بعدهم"، ولا نقول: "أخبرني قلبي عن ربِّي"! لأنَّنا نخاف الله وعذابه، ونرجو رحمته وثوابه، ونستحيي من الكذب الصُّراح، والدَّجل البواح، ونخشى أن تُصيبنا دائرة، أو أن تُحيقَ بنا فتنةٌ، ثمَّ نحبُّ أن نَظلَّ عقلاءَ!!
وكُتب السُّنَّة -والحمد لله- لم تغادر شيئاً مِمَّا تحتاجه الأمَّة في حَياتها الخاصَّة والعامَّة، وطالب العلم الذي يريد الخير لنفسه، وأن يتفقَّه في دينه -إذا ألمَّ بأدوات العلم ووسائله الميسَّرة- فإنَّ ما في الكتب يُغنيه ويُغنيه ويُغنيه، فلا حاجة لأن يأخذَ الفقه من غيرها، فإنَّ الفقه كلَّه في سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والباحث عن الفقه في غَير السُّنَّة -إن توفَّرت له أدوات العلم ووسائله- كالباحث عن ضالَّته في غابة كثيفة الأشجار!
وإنَّه لمِمَّا يُؤلم النَّفسَ، ويُحزن القلب، أن تسمع بأقوامٍ أو رجالٍ يقولون: إنَّ من يشتغل بالحديث أو بالسُّنَّة وعلومها لا يكون فقيهاً، فالفقه شيءٌ والسُّنَّة وعلومها شيءٌ آخراً!(38)(2/77)
وهنا أسأل هؤلاء: ماذا يقولون في الصَّحابة الذين ما كانوا فقهاء إلاَّ بالسُّنَّة؟ وماذا يقولون في الأئمَّة الأربعة الذين ما لانت لهم قناة العلم إلاَّ بالسَّنَّة وعلومها، ولا أمسكوا بزمام علم الأُصول، -أُصول الفقه- إلاَّ بإحاطتهم بالسُّنَّة، ودرايتهم بدلالات نصوصها؟ وكما كان يُعذر بعضُ الصَّحابة في اجتهادهم الذي يخطئون به، فيؤجَرون أجراً واحداً -وبخاصَّة إن كانوا بعيدين من رسول الله صلى الله عليه وسلم- فإنَّ إماماً كأبي حنيفة رحمه الله تعالى -وقد أنعم الله عليه بملكة علم فاذَّة- يُعذر أيضاً في اجتهاده الذي كان واجباً عليه به أن يقول للنَّاس ما يبدو له من وجه الحقِّ فيه -وإن أخطأ وله بخطئه أجرٌ- وإن لم تكن بين يديه نصوص السُّنَّة كما صارت بين يدي مَن بَعده من الأئمَّة المُجتهدين.
ولا يفوتنا أن نذكر هنا أيضاً؛ أنَّ وفرة النُّصوص من السُّنَّة قد لا يدركُ بها المجتهد مرتبة مجتهد آخر، ليس لديه ما لدى الأوَّل من النُّصوص.
فالإمام الشَّافعي رحمه الله تعالى كان أعلى مرتبة في الاجتهاد من الإمام أحمد رحمه الله تعالى، ومعلوم أنَّ الإمام أحمد كان أوفر وأكثر حفظاً للسُّنَّة من الإمام الشَّافعي رحمهما الله تعالى.
ولكن نزول درجة الإمام أحمد عن درجة الشافعي -رغم أنَّ الأوَّل أكثر حفظاً من الثَّاني- ونزول درجة الإمام أبي حنيفة -لغياب نصوص السُّنَّة عنه لعدم تدوينها في زمانه- عَن درجة الإمام مالك مثلاً؛ ما كان ليَغُضَّ من قَدر أحمد ولا من قدر أبي حنيفة، بل يكون كلٌّ منهما مُطَّرَحَ ثناءِ من ملأ ا لأرض علماً -وهو الإمام الشافعي- حيث يقول في أبي حنيفة رحمهما الله: "النَّاس عيالٌ على فقه أبي حنيفة".(2/78)
ولا يرى بأساً أن يحفظ عنه التَّاريخ كلمةً كان يرسلُ بها إلى أحمد رحمه الله: "أنتُم أعلم بالحديث والرِّجال، فإذا كان الحديث الصَّحيح فأعلموني به أيَّ شيءٍ يكون؛ كوفيَّاً أو شاميَّاً، حتى أذهب إليه إذا كان صحيحاً"(39).
هذا -وربِّ الأرض والسَّماء- هو العلم الذي يُعرف به لحامليه قدرُهم، ويَعرف حاملوه به أقدارَهم، وحُقَّ لكلِّ واحدٍ منهم أن يقول في نفسه لنفسه: ما رأيت مثل نفسي!! من باب الاعتراف والإقرار بنعمة الله عليه، لو كان يقول!
فهل يَضيرُ هؤلاء الجبال أن يقال فيهم بَعد القرون الطِّوال التي ظلَّت تَفترُّ ثغورُها بكلماتهم العِذاب: إنَّ فلاناً أخطأ في كذا، أو لم يصب في كذا، أو لو أنَّه قال كذا لكان أحسن وأفضل؟
هؤلاء ليسوا كمن أتى من بعدهم؛ ممَّن ألفَوْا أنفسهم أُسارى التَّقليد الأعمى، فإنَّ قول أحد من النَّاس من بعدهم في واحدٍ منهم: أخطأ في كذا، كقوله: أصاب في كذا. فلا يُفرحه ثناءٌ، ولا يُغضِبه تخطئةٌ، إنَّهم جبالٌ، جهابذةٌ، عقولٌ ضخمة، أتقياءُ، أفذاذٌ، ورثوا عن الصَّحابة كلَّ فضائل النَّفس، وعلموا منهم أنَّ: نصف العلم لا أدري.
وإذ ذلك كذلك؛ فلا جَرَم أن يَتركوا من بعدهم للأُمَّة كلماتٍ برَّؤوا فيها أنفسهم من تَبِعَةِ الخطأ الذي كان باجتهادهم، فما حملوا فيه وزراً، ولا أصابوا منه ذَنباً، بل إنَّهم أحسَنوا فيه صُنعاً، ونالوا بِهِ أجراً: "إذا اجتهدَ الحاكم فأصَاب كانَ لهُ أجران، وإذا اجتَهَدَ فأخطأ كانَ له أجر"(40).
فهذا أبو حنيفة رحمه الله يقول: "إذا صَحَّ الحديث فهو مذهبي"، ويقول أيضاً: "لا يحِلُّ لأحدٍ أن يأخذَ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه"، وفي رواية: "حرامٌ على من لا يعرف دليلي أن يفتي بكلامي، فإنَّنا بشرٌ نقول القول اليوم ونرجع عنه غداً".(2/79)
وهذا الإمام مالك رحمه الله يقول: "إنَّما أنا بشرٌ أُخطىءُ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكلُّ ما وافق الكتاب والسُّنَّة فخذوه، وكلُّ ما لم يوافق الكتاب والسُّنَّة فاتركوه"، وقال: "ليس أحدٌ بعد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إلاَّ ويُؤخذ من قوله ويترك؛ خلا النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم".
ومثل هذا يقول الإمام الشافعيُّ رحمه الله: "ما من أحدٍ إلاَّ وتذهب عليه سنَّةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتَعزُبُ عنه، فمهما قلت من قول، أو أصَّلْتُ من أصلٍ فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافُ ما قلت؛ فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قولي"، وقال: "أجمع المسلمون على أنَّ من استبان له سنَّةٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لم يحلَّ له أن يدعها لقول أحدٍ"، وما أجمَلَ ما قال -وكلُّ ما قال جميلٌ وحسنٌ-: "إذا وجدتُم في كتابي خلافَ سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقولوا بسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودَعوا ما قلت"، وفي رواية: "فاتَّبعوها، ولا تلتفتوا إلى قول أحد"، وقال: "كلُّ حديثٍ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فهو قولي وإن لم تسمعوه منِّي".
وهذا الإمام أحمد رحمه الله يقول: "رأي الأوزاعي، ورأي مالك، ورأي أبي حنيفة؛ كلُّه رأيٌن وهو عندي سواءٌ، وإنَّما الحجَّةُ في الآثار".
وقالك "لا تقلِّدني، ولا تقلِّد مالكاً، ولا الشَّافعي، ولا الأوزاعيَّ، ولا الثَّوري، وخُذ من حيثُ أخَذُوا"(41).(2/80)
رحمهم الله وجزاهم عن الإسلام والمُسلمين خير ما يَجزي عباده الصَّالحين، فقد -والله- عَظُمت أقدارهم بهذه الكلمات المُبينات، عند الله وعند النَّاس، ولو لم يتركوا من ورائهم علماً إلاَّها لكفى، فكيف وقد أمْلَوا على التَّاريخ صحائفَ من نور الكتاب والآثار، ستظلُّ موفورة بذكرهم الماجد، تدفع عنهم في صدور الَّذين تواطؤوا على أن ينسبوا لهم أقوالاً وآراءً في الفقه، لو أنهم بعثوا من قبورهم، وقرؤوها أو سمعوها؛ ما زادهم ذلك إلاَّ إيماناً بأنفسهم، وتصديقاً بما خلَّفوا من ورائهم من تلك الكلمات الباهرة، التي تنفي بنورها، وصِدقها، كلَّ ما نُسبَ إليهم من بعدهم، وتظلُّ قناديلَ مسرجةً في دُنيا النَّاس، تحدِّث النَّاس بِنورها المنبعث منها؛ أنَّهم سيظلُّون في حاجةٍ دائمةٍ إلى نورها.
ولا أحسبُ أحداً في الأُمَّة يرى أنَّ اتِّباعَ هؤلاء الأئمة رحمهم الله تعالى -فيما صحَّت نسبتُه إليهم، وصحَّ لهم دليلهُ- موافقاً للوحي بدعةٌ وخطأ؛ فإنَّ اتِّباعهم فيه هو -في الحقيقَةِ- اتِّباعٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، واتِّباعهم فيهِ على مثل ما ذكرنا يصحُّ القول فيه: "كلُّهم من رسول الله ملتمس"!!
أمَّا إن انتفى مَمَّا نُسبَ إليهم ما ذكرناه؛ فهذا القول باطل جدَّاً، وسيِّءٌ جداً، وليس من الأدب العقلي ولا الأدب الشرعي ذكرُه؛ لأنَّه شيءٌ من الكذب ولا بدَّ، إذ كيف يكون مُلتَمَساً من الرَّسول صلى الله عليه وسلم الشيءُ وضدُّه من الأحكام؟! وهو تناقضٌ لا في كلام البشرن بل في وحي ربِّ البشر؛ سبحانه وتعالى عن ذلك عُلُوَّاً كبيراً.(2/81)
فهل يُعابُ من يتحرَّون الحقَّ في أقوال الأئمَّة رحمهم الله تعالى على نحو ما قالوا وحدَّثوا وأمروا؛ لكيون مُتَخَيِّراً منه ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحقيقة والواقع؟! لأنَّهم -رحمهم الله- في أقوالهم وفتاواهم إنَّما هم موقِّعون عَن ربِّ العالمين، وهل يكون مجترحاً خطيئةً أو كاسباً إثماً من يرى من أقوالهم رحمه الله -حسب ما قالوا- خطأ فيدعه، ثمَّ يعرف الصَّواب فيأخذه؟!
إنَّ اجتراح الخطيئةِ -في الحقيقة والواقع- وكسبَ الإثم، إنَّما هو في ترك الصَّواب إن عُرف؛ وفي فعل الخطأ إن عُلم، وهذا هو التَّقليد الأعمى الذي يُكِبُّ المقلِّد على وجهِه، أو يُلقي المُتِّبع على قفاه، وهذا هو ما عليه عامَّة المُتَمَذهبينَ، ثمَّ هم يصرُّون على أنَّ كلَّ مذاهبهم ليس فيها إلاَّ الحقُّ، وأنَّ هذا الحقَّ كله -على ما بين المذاهب في كثير من المسائل من تناقض- مؤيَّدٌ بالأدلَّة الشرعيَّة، فكيف لا يقال إذاً: "وكلُّهم من رسول الله ملتمس"؟! ثمَّ كيف يُعذَلُ، أو يُخاصَم، أو يُقاطع، أو يُعادى، أو يُنكَر عليه، أو حتى يُشتَم، أو حتى يُتَّهم بأنَّه خامسيٌّ، أو رافضيٌّ، أو خارجيٌّ، وأخيراً بأنَّه وهَّابيٌّ!!
وهذه (الأخيرة)!! أفظَعُها وأخبثُها وشرُّها عند أولئك العادين الظَّلمة!! إي والله العظيم -من يفرِّق بين الصَّواب وبين الخطأ في المذاهب، فيقبل الصَّواب ويدع الخطأ، يقبل الصَّواب على أنَّه هو ما أمر الله به، وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم، ويدع الخطأ على أنَّه ما لم يأمر الله به سبحانه، ولا أمرَ به رسوله صلى الله عليه وسلم.(2/82)
فأيُّ الفريقين أهدى سبيلاً وأقوم قيلاً؟ الذي يسلِّم للمذاهب -أي بكلِّ ما فيها- تسليماً، ويرى الخطأ فيها كالصَّواب والصَّواب كالخطأ؟ أم الذي يَميز ما بينَ الخطأ وبين الصَّواب امتثالاً للأئمَّة وكلماتهم رحمهم الله جميعاً، وتأدُّباً معهم، وطاعةً لهم، وإبراءً لذمَّتهم، واحتراماً لكلماتهم، من غير تجريحٍ ولا تقبيحٍ ولا سخيمةٍ في صدرٍ، ولا مذمَّةٍ على لسانٍ، ولا نُفرةٍ في قلبٍ، ولا مكرٍ سيِّءٍ في جَنانٍ؟! إنَّهما لا يستَويان مثلاً!!
إنَّ مَن يعيب على من يسلك هذا المسلك مع أئمَّة المذاهب؛ إنَّما هو يعيبُ على هؤلاء الأئمَّة أنفسهم، ثمَّ يَمضي بإعابته هذه حتى يبلغ الصَّحابة رضوان الله عليهم، ثمَّ هو يُخشى عليه أن يكون عائباً على الوحي -عياذاً بالله- والمُنزَّل عليه الوحي، وكان ممَّا نزل به الوحي عليه: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [سورة آل عمران: آية 31]، ومنه: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ} [سورة لانساء: آية 59].
فالأمر -بالإنكار على المُفرِّقين بينَ الصَّواب وبين الخطأ في المذاهب- ليس هيِّناً؛ إنَّه شرٌّ على العقيدة وبيلٌ، وخطرٌ على الدِّين عظيمٌ جليلٌ، فإذا كان ولا بدَّ من أمر لا يَبين عَن رأي صاحبه بكتمانه؛ فَلْيَسَعْ أولئك المُنكرين الصَّمتُ، وهو خيرٌ، وقليلٌ فاعله.
إنَّ الذين ينظرون في فقه المذاهب، فيأخذون الصَّواب ويدعون الخطأ -حسب القواعد الرَّصينة التي خلَّفها الأئمة المجتهدون من بعدهم لا يُؤثِرونَ فِقْهَ أحدٍ على أحدٍ منهم، لنسبةٍ عَصبيَّةٍ، إو إيثارٍ بهوى، أو انقيادٍ أعمى- هو الفقهُ السَّويُّ الذي يُقيمُ المُسلم على بصيرةٍ من أمره، وينجيه من التَّخبُّط المُضني الذي لا يُسلمه في النِّهاية إلا إلى الحَيْرَة.(2/83)
إذاً؛ فالاتِّباع الحق، والتَّقليد السَّليم؛ ليس هو أن يُسلم طالب العلم عقله إلى أقوال المذاهب وآراء أصحابها -الذين رأينا من أقوالهم وكلماتهم في التَّحذير من التَّسليم المُطلق لآرائهم وأقوالهم- بل هو النَّظر المُميِّز الذي يُفرَّق فيه بين الصَّواب وبين الخطأ.
وهذا كما أسلفنا من قبل، إن كان طالب العلم لديه من القدرة ما يمكِّنه من النَّظر والتَّمييز، أمَّا إن كان ممَّن ليس لديهم القُدرة؛ فإنَّه يصبح من العبثِ أن يقال لمثله: انظُر وميِّز! فهل لفاقد الشَّيءِ أن يُعطيه؟! وكيف؟!
وكثيرون هم الذين يرمون السَّلفيِّين بهذا، ويصرِّحون بأعلى أصواتهم بها، ويبادرون بالويل والثُّبور عليهم، ويحسبون أنَّهم على شيء من حقٍّ أو بصيرةٍ، ولا والله ما هم على شيءٍ من ذلك أبداً، لكنْ ساءَهم أن يروا ملايين الشَّباب في العالم يُقبلون على كتب السَّلف وعلماء منهاج السَّلف، فيأخذون بأقوالهم وفتاواهم؛ لغلبة ظنِّهم -أو اعتقادهم- أنَّهم لا يدعون الدَّليل في أيَّة مسألة علميَّةٍ أو أيِّ رأيٍ فقهي، فماذا في هذا؟
هذا هو العيب الذي سوَّد وجوهَ الشَّباب السَّلفيِّين -وهي بيضاءُ ناصعةٌ- في نظر هؤلاء الذين ينادون بالويل والثُّبور على الشَّباب السَّلفيِّين، ويتَّهمونهم بالخروج على المذاهب الأربعة، وتجريح الأئمَّة، والتَّهوين من أقدارهم العلميَّة! ألا ساءَ ما يقولون وسيقولون! ووالله لا يقولون حقَّاً! وما أرادوا بما يقولون إلاَّ العُدوان المُبين!(2/84)
والسَّلفيُّون في طريقة أخذِهم الفِقْه عن العلماء متَّبعون طريق الرِّواية ولا بدَّ، فهم إذ يأخذون مثلاً بقول صحابيٍّ لا يَقفزونَ إليه قفزاً من وراءِ جُدُرٍ؛ أو يَطيرون نحوه طيراناً في الهواء، بل يَبدءُون من أقربِ العلماء إليهم في زمانهم، فلا يَدَعونهم إلى مَن بعدهم؛ إلاَّ بعد أن يعلموا أنَّ علماء زمانهم ليس في جُعبَتهم ما يستوفون حقَّ السَّائلين، وهذا -فيما أظنُّ- من أمحل المحال، فما خلا زمانٌ من أزمان الأمَّة من علماء مُجتهدين، يرفعون عن الأمَّةِ آصار الحَرَج إن وقع عليها، ويأخذون بيدها في الأمور الحادثة، ويهدونها السَّبيل الواضحة، ويُخرجونها -بما أفضل الله عليهم من علم بوحيِه- من العِوَجِ والتَّذبذب إلى الاستقامة والثَّبات.
ولكنَّهم حين ينتقلون من زمانهم إلى الذي قبله لا ينتقلون انتقالاً عشوائيَّاً، فأيُّ علام صادَفهم -وهم يبحثون- أخذوا بفُتياه أو بقوله في هذه المسألة أو تلك، بل ينتقلون انتقالاً انتقائيَّاً، إذ غايتهم الوقوف على أصوب الصَّواب، ولا يكون عندهم إلاَّ ممَّن يوثق بعلمه ودينه، ولا أحسب أنَّ التَّاريخ قد استأثر بمثل هذا النَّوع من العلماء فصَرَّهم إليه، فالتَّاريخ صفحاته مَقروءةٌ بيِّنةٌ - لا تخفى إلاَّ على العاجز- شاهدةٌ بأسماء هؤلاء العلماء أنَّ هذه الأمَّة، مهما امتدَّ زمانها، وطالَ بقاؤها على الأرض، أُمَّةٌ محروسةٌ ظاهرةٌ بعلمها على الأُمم كافَّة، فيأبى الله سبحانَهُ إلاَّ أن يُتمَّ نُوره، ويُظهرَ دينه، ويُعلي شأن كلماته.(2/85)
وقد كتب لنا التَّاريخ أسماء أُولئك العلماء بمدادٍ من النُّور والذَّهب، وجعلَ من كتبهم ورسائلهم ومؤلَّفاتهم براهين ناطقةً -ما ذهب منها وما خفي، وما ظهر منها أو بقي- لأنَّ الدُّنيا ما عَرَفت أكبر منهم إحاطة بعلوم الوحي، ولا أصدقَ من أقلامهم في حفظها بأمانةٍ، ولا أبينَ من ألسنتهم وأفصحَ في حلِّ مشكلاتها والدِّفاع عنها، يستوي في ذلك من كان منهم في عهد النُّبوَّة، ومَن جاءَ من بعده، ألم يقل ربُّنا: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة الحجر: آية 9]؟! ومِنْ حِفْظِ هذا الذكر أن يجعل الله في كلِّ قرنٍ علماء حَفَظةً ينفون عنه الرَّيب، ويكشفون عن خبايا الظُّنون الطَّاعنة عليه، ويصدُّون عن آياته وأحكامه عاديات الفتن المصنوعة على عيون دهاقنة الفلسفة والمنطق وعلم الكلام.
جمالَ ذي الأرض كانوا في الحياة وهم بعدَ المماتِ جمالُ الكُتبِ والسِّيرِ
لذا؛ فإنَّ هؤلاء العلماء هم مَن يجب البحثُ عنهم، واستقراءُ أقوالهم وفتاواهم حين تعرض عارضةٌ -أو تقع حادثةٌ- بالتَّدرُّج ا لواعي المقارن بين الأعلم منهم و بين مَن هو دونه، حتى إذا ما عُلمَ الأعلم، قُدِّم، وهكذا...
وهذا ليس اختراعاً من السَّلفيِّين أنفسهم في عصورهم المتأخِّرة، بل هو شيءٌ من المنهج نفسه، شرعه للأُمَّة -بوحي من الله- نبيُّها صلى الله عليه وسلم؛ إذ أنَّه كان يأمر بأن يُقدَّم في إمامة الصَّلاة، الأقرأُ لكتاب الله، ثمَّ الأعلم بالسُّنَّة، ثمَّ الأكبر سنَّاً، كما كان أيضاً يُوَلِّي حَفَظَة القرآن في سرايا الحرب قيادتها.(2/86)
وما كان هذا إلاَّ لأنَّ الصَّلاة والجهاد، يحتاجان الفقيه؛ لا لإبداء الرَّأي في أمور تَعرِضُ؛ فهذه يكفي أن يكون الحافظ الفقيه واحداً من الجند، إن كانت الحاجة إليه لمثل هذا؛ لكن هناك أموراً أخرى غيرها، تحتاج إلى إعمال النَّظر، وبيان حكم الله فيها، والأمير الفقيه العالم إذا قضى في أمر؛ فإنَّما يقضي فيه بما علَّمه الله، فهو موقِّعٌ عن الله في قضائه، ولا يُرتَضى قضاؤه إلاَّ أن يكون مؤسَّساً على الشرع الإلهي المعروف من الوحي الأمين.
ثمَّ إنَّ تفضيل الحافظ الفقيه على غيره بالتَّقديم، هو من التَّكريم الذي شرعه الله، وحريٌّ بالأُمَّة التي يكرِّم الله علماءَها، أن تكرِّم نفسها بتكريم هؤلاء العلماء الذين كرَّمهم الله لعلمهم.
وحين تعرف الأُّمَّة من هم العلماء الذين حَظوا عند الله بهذا التَّكريم؛ تعرف هي كيف تختار العالم الذي تأمنه على دينها، وترضاه حَكَماً فيما لها من أُمورها، إنَّه العالم الذي لا يقول قولاً ولا يفتي فُتيا إلاَّ والدَّليل يبن يديه من كتاب الله ومن سنَّة نبيِّه، يهديه إلى قوله ذاك، أو إلى فُتياه هذه.
وأمور الأمَّة العامَّة التي لا تُحّدُّ بحَدٍّ، ولا تقف عند نهاية للحوادث التي تطرأ والأحوال التي تنشأ؛ أولى أن يُبحث لها عن العالم المُلتزم منهج الكتاب والسُّنَّة، ومثلُها في ذلك الأمورُ الخاصَّة بالفرد الواحد، أو الثُّلَّةُ الصَّغيرة من المُسلمين، فدين الله سبحانه بالفُتيا لا يُعرف إلاَّ من مثل هؤلاء العلماء الذين دوَّن قلمُ التَّاريخ ذِكْرَهم، وحفظ في صحائفه سِيرَهم.(2/87)
والأئمَّةُ الأربعة رحمهم الله جميعاً، لشيوع مذاهبهم، ووفرة الكتب التي آُلِّفت فيها، وكثرة العلماء الذين برعوا في مسائلها وقضاياها؛ هم أقرب العلماء عند السَّلفيِّين، وأدناهم منهم، وهم أحرص ما يكونون على استيفاء حاجتهم العلميَّة من مذاهبهم؛ لا على نحو ما يصنع المتمذهبون بمذاهبهم -من المقلِّدة المستسلمين لكلِّ ما قالوا؛ بل لكلِّ ما نُسب إليهم- بل لكلِّ ما نُحِلوا- بل على نحو ما يصنع مجتهدو المذاهب من الاتِّباع والنَّظر المُقسط والتَّرجيح بالأدلَّة المُعتمدة لدى علماءِ المذاهب.
والنَّصَفَة والتَّقوى يقضيان أن نقول: إنَّ الأئمَّة الأربعة رحمهم الله -بمجموع مذاهبهم- وفَّروا للأُمَّة جُلَّ ما تحتاجه في حياتها من مسائل العبادات والمُعاملات والسِّيَر، وغير ذلك، ويسَّروا لها تناول هذه المسائل، وأودعوها -بأمانةِ العلماءِ الأتقياءِ الجهابذة كُتُباً خلَّدها التَّاريخ، وخلَّدت هي التَّاريخ الذي خلَّدها، ثمَّ جاء من بَعدِ رؤوس المذاهب، أصحابٌ وتلامذةٌ لهم، ثمَّ علماء استظهروا مذاهبهم، وحفظوا أقوالهم، وغُرموا بها، فكان لهؤلاء وأولئك عِلمٌ أُضيفَ إلى علم رؤوس المذاهب -رحمهم الله جميعاً- فصار لكلِّ مذهبٍ من المذاهب علمٌ وفيرٌ جدَّاً في كلِّ فرع من فروعه، وفي كلِّ باب من أبوابه.(2/88)
فمن أراد أن يجعل علم المذاهب الأربعة هو الباب الذي ينفذ منه إلى جميع ميراث العلماء فقد أخذ بحظٍّ وافرٍ من العلم وأسبابه، يغنيه عن الكثير الكثير، وما عُرف عن المشاهير من العلماء الذين شُهروا أنَّهم رؤوس علماء السَّلف إلاَّ هذا، ومن شاء أن يُشهِدَ نفسه على ما نقول؛ فلينظر في كتب المتأخِّرين من هؤلاء العلماء وكتب المُتقدِّمين أيضاً؛ فإنَّه لسوف يعلم علم اليقين أنَّهم لم يخالفوا عن هذا البتَّة، ولعلِّي أستطيع القول: إنَّ أكثر النَّاس أخذاً عن المذاهب الأربعة وعلمائها هم السَّلفيُّون، وبهذا يصدق عليهم أنَّهم مقلِّدون متَّبعون، كما يصدق على الصَّحابة أيضاً هذا الوصف بالنِّسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
لكنَّ هناك فرقاً بين أخذ الصَّحابة وأخذ مَن بَعْدَهم، فالصَّحابة أخذُهُم كان بغير وساطة؛ أمَّا من بعدهم من السَّلفيِّين فكان بوساطة.
وفرقٌ آخر: أنَّ الصَّحابة لم يكونوا بحاجةٍ إلى التَّحري لمعرفة الصَّواب من الخطأ، وكيف يكون ذلك وهم على الصَّدر الذي لا يغيض، وعلى منبع الوحي الأمين، تتلقَّفُ أسماعُهم كلَّ ما ينطق به، وما ينطق عن الهوى، ويرون بأعينهم حركات حروفه وهي تخرج من بين شفتيه؟!
أمَّا من جاءَ من بعد الصَّحابة رضي الله عنهم، فقد كانَ تحرِّي الصَّواب جزءاً من مهمَّة التَّلقِّي عن طريق السَّند، ومن هنا كان السَّند العالي والسّند النَّازل، والحِرصُ على السَّند العالي إنَّما كان لتقصير سند المرويِّ، فيكون المرويُّ أرفعَ منزلةٌ من مرويِّ السَّند النَّازل.(2/89)
غير أنَّ زمان السَّند النَّازل قَصُر جدَّاً جدَّاً، وذلك حين وجدنا مِن علماء السُّنَّة مَن يُثبتون مرويَّاتهم بأسانيدها الصَّحيحة ورواتها الأثبات، فصار طالب العلم يجتاز المسافة الزَّمنية الطَّويلة الفاصلة بين الرُّواة في لحظات قصيرةٍ جدَّاً، وعيناه لا تكادان تطرفان، يستوعب فيها علماً كثيراً لا يسعه إلاَّ أن يدعو لأولئك الرُّواة، وقد أعجزه أن يُدرَك شأوُهم أنَّه على الأقل ليس في زمانهم، ومثل هؤلاء العلماء قليلون جدَّاً جدَّاً، ولكن توفُّرَ وسائل الطِّباعة والنَّشر يسَّرت شيوعَ هذا العلم، وقصَّرت المسافة يبنه وبين طلاَّب العلم.
ولست بمعرِّج طويلاً لنقد الإجازات العلميَّة التي كثرت في العقودِ المتأخِّرة، وصارت تباهياً عند كثير من طلبة العلم، وهم يحسبونها قد زادَتهُم علماً إلى علم، ولست أحسبها كذلك؛ فهي قد آلت إلى ما يشبه القراءة المجرَّدة لكتاب من كتب السُّنَّة، فلو أنَّ طالب الإجازة من شيخ ما اقتصر على قراءة الكتاب لكانت هي الإجازة نفسها، إذ لا فرق أبداً.
وحين تسمع هذا المُجاز بإجازته التي يباهي بها، أو يحدِّث أو يسرد حديثاً فلربَّما أخطأ في واحد أو أكثر من رجال السَّند، أو أخطأ في نصِّ الحديث الذي يسرده!!
إذاً؛ فحسبنا من الإجازات سماعها، ويمكن للمُجدِّ من طلاَّب العلم أن يكون محدِّثاً بلا إجازة، وبخاصَّةٍ بعد أن صارت كتبُ السُّنَّة ورجالها وعلومها سهلةَ المنال.
وقد عرف أهلُ الحديث ما يُعرف بالوِجادَةِ، وهو الوقوفُ على كتاب مصنِّفٍ ومعرفُتُه والرِّوايةُ منه.
وبطباعة كتب السُّنَّة وتحقيقها والعثور على ما كان في حكم المفقود أو الضَّائع منها، وتبادل الخبرات التُّراثية، ويسر الاتصال بين المكتبات ودور العلم والنَّشر والطِّباعة: لم تعد الوِجادة أمراً مُرهقاً ولا صعباً.(2/90)
بيد أنَّ هذا خلَّف أثراً سلبيَّاً في نفوس كثير من أهل العلم؛ إذ قَد أعجزهم أن يكون لهم شأنٌ في السُّنَّة وعلومها -رغم تيسُّر كتُبها وعلومها- في حين أنَّه قد نبغَ كثير من طلابهم وتلامذتهم، أو ممَّن هم في مثل طبقتهم، وتفوَّقوا عليهم في دقَّة التَّحقيق والتَّأليف، والتَّرجيح والاجتهاد في مفردات المسائل، وصار توجُّه الشباب في كل بلاد الدُّنيا إلى هؤلاء الشيوخ والطلاَّب والتَّلاميذ(42).
ولا يُنكَرُ أنَّ نفراً من علماء السُّنَّة في عصرنا، بلغوا في مضمار السُّنَّة وعلومها مبلغاً ربَّما عجزَ عنه السَّابقون الأوَّلون منهم، والعجب ممَن يرى -من بعض الغلاة الحاملين بغضاءَ منهج السَّلف- قصورَ فضلِ الله سبحانه عن إدراك هؤلاء النَّفر أن يكون لهم شأن في السُّنَّة وعلومها، وأحسب -والله- لو كان فضلٌ من فضل الله بأيديهم، وعلموا أنَّه مدرك هؤلاء النَّفر -الذين منَّ الله عليهم بهذا الفضل- لحبسوه عنهم وضنُّوا به لو علموا أنَّه مدركٌ غيرَهم؛ حتى على أنفسهم!!
لكنَّ الله سبحانه صاحبُ فضلِه، وخالقُ النَّاس، وفضله الذي لَهُ يختصُّ به من يشاءُ من النَّاس الذين خلقهم.
وهناك نفرٌ من هؤلاء النَّفر، أصابهم شيءٌ من فضل الله من السُّنَّة، لكنهم منعوا أنفسهم من الخروج من طوق المذهبيَّة، وعاجوا بما أفضل عليهم منها على المذهبيَّة؛ إمَّا بمحاولةِ تطويع نصوص السُّنَّة لمذهبيَّتهم، وإمَّا بالفصل ما بينها وبين المذهبيَّة؛ فأبقوا أنفسهم في عناق وثيق مع مذهبيَّتهم، وجعلوا من السُّنَّة -أي: الاشتغال بها- مهنةً يتكسَّبون منها؛ فأفادوا غيرَهم ممَّن وثق بمهنة علمهم، وحَرموا هم أنفسهم من الإفادة منها، إلاَّ ما عادت عليهم من مكاسب ماليَّة ودنيويَّة! وكانت حسبهم!!(2/91)
ومن هذا النَّفر الأخير -ممَّن أصاب حظَّاً من السُّنَّة وعلومها- من أوغل -بحكم نشأته وبيئته- في الانحرافات الفكريَّة والعقديَّة؛ حين شردت به نشأته عن الحق الذي منَّ الله عليه بمعرفته، وآثر عليه أن يبقى على ما نشأ عليه.
وليته وقف عند ما آثر أن يبقى مُقيماً عليه؛ أخذ يعدو عَدْوَ الكواسر في أعراض علماء السَّلف الأوَّلين السّابقين منهم والمتأخِّرين، ويرمي أُهُبَهُم الطَّاهرة، ويُمزِّق أبشارهم النَّقيَّة، ويسلقهم بلسانٍ برئت منه التَّقوى، فأضلَّ بعد أن ضلَّ، واستاق أمامه أُغيلمةً صغاراً، وصبيةً جُهَّالاً، ينزع عنهم في كلِّ يوم جزءاً من الفطرة التي فطرهم الله عليها، حتى إذا ما نزعها جميعها قال لهم وابتسامةٌ صفراءَ تعلو شفتيه: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ الله وَالله شَدِيدُ الْعِقَابِ} [سورة الأنفال: آية 48].
وقد يسأل -في هذا المقام- سائلٌ: لماذا يُعنى السَّلفيُّون بكتب ابن تَيميَّة رحمه الله، وكتب تلميذه ابن القيِّم رحمه الله أكثر من عنايتهم بكتب غيرهما؟
لا أُريد أن أُطيل في الجواب عن هذا السؤال، وحسبي أن أقول فيه:
أوَّلاً: لأنَّ كتبهما أوعبت أبوابَ الإسلام كلَّها، واستوفت ما فات غيرهما من علماء الإسلام في عصوره كلِّها.
ثانياً: مازَهُما الله سبحانه بخُلق الإنصاف والعدل، فلا ينتقصان أحداً؛ حتى ولو كان عدوَّاً غالياً لعقيدته الصَّحيحة؛ إلاَّ أن يكون حكاية منهما عن نفسه، أو عن غيره عنه.
ثالثاً: سهولة التَّعبير، واستحكام الجُمَل والفقرات ووضوح المعاني، واستقصاؤها، والتَّدرج العقلي المقنع.
رابعاً: معرفة مداخل الخصومة -سواءٌ أكانوا مسلمين أم كانوا غير مسلمين- التي يُظنُّ أنَّها نائلةٌ من الإسلام وعقيدته -وهي ليست كذلك- فكانت ردودهما عليهم ردوداً شافيةً وافيةً بالغةً الغايَةَ في الدِّقَّة والصَّواب والوضوح.(2/92)
خامساً: مكَّنوا للمعارف والعلوم الإسلاميَّة بعامَّة من العقول بردِّ الأمر فيها إلى يُسر القرون الأولى، وسلامة فطرتها؛ وبخاصَّةٍ في العقيدة التي شابتها شوائب العلوم العقليَّة الوافدة إلينا؛ ممَّا أيقظ في نفوس طلاب العلم والعلماء حسَّاً علميَّاً جديداً أوفى بهم على أبوابِ نهضةٍ دينيَّةٍ مكَّنتهم من إعادة ثوبها القشيب إليها.
سادساً: تحررُّهما من قيود المذهبيَّة، وانتصابُهما -بما آتاهما الله من علمٍ واسعٍ- لكل من حاول الغضَّ من هذا، والرَّدُّ عليه ردَّاً معجباً لم يُعهَد من قبل، ومن استقرأ المسائل التي اجتهدا فيها، وخرجا بها عن المذهب الذي نَشَآ عليه؛ يعلم ذلك يقيناً، ويعلم أنَّ الله سبحانه ما يَسَّر شيئاً لهذه الأُمَّة، ما يسَّر من آلات الإجتهاد في علوم الشريعة، والحمد لله.
هذه أهم الأمور التي جعلت السَّلفيِّين -وغيرهم من العَدَلة النَّصفَة- وهم كُثر وإن استَخْفَوا وَضنُّوا على أنفسهم بالثَّواب وعلى الأُمَّةِ بالنَّفع -وخير النَّاس أنفعهم للنَّاس- يُقبلون على شيخيِّ الإسلام، ورائديِّ أجياله الآتية من بعدهما، لا بخساً لحق أحدٍ ممَّن قبلهما، ولا ضِغناً على أحدٍ من علماء الأُمَّة وشيوخها، ولا إعراضاً عن أحد عُرفَ بفضل علم.
ولله وَحدهُ الفَضلُ والمنَّةُ، ولهُ الحمدُ أوَّلاً وآخراً.
أمَا والله إنَّهم مع إعجابهم الشديد بابن تيميَّة وتلميذه، وحُبِّهم العظيم لهما، وتقديمهما على الكثير الكثير من علماء الأُمَّة ونبلائها الأعلام؛ فإنَّهم لا يرونهما إلاَّ تبعاً للحق، وقد أعليا من مكانتِه -أي: الحق- في النَّاس، يأخذون منهما، ويردُّون عليهما، فما كانَ من حقٍّ لا لَبسَ فيه، فهما وسائر الأمَّة فيه سواءٌ، وما كان من خطأ أو شبهةٍ فهما وغيرهما بشر يخطئون ويصيبون(43).
* غمزةٌ واضحةٌ:(2/93)
عجيبٌ أمر "فلان" يُبدي غَيرةً على ابن تيميَّة ونُصرةً له، وهو يَعقِدُ مقارنةً بين نفسه وبين ابن تيميَّة في نقده ابن عربي، أو قل: فيما رَمى ابن عربي نفسه من الدَّواهي والطَّامات العقديَّة والدِّينيَّة، ولم يأت من بَعده من يدفعها عنه ويُبرىءُ ساحته منها، وهي كثيرةٌ جدَّاً، فمن شاءَ استقصاءَها؛ فما عليه إلاَّ أن ينظر في أيِّ كتابٍ من كتبِ الرَّجل -ونسأل الله سبحانه أن يكون بريئاً من سوئها كي لا يعذِّبه الله بها- لكن أين من أثبت براءته منها؟! وكيف وهي محمولةٌ على أكفِّ الزَّمن تُدار كما تُدار أقداح الرَّاح على النَّدامى!
يقول فلانٌ هذا -ولا ننقله نصَّاً-: من لوازم إثبات ما نسب لابن عربي مَّما استلزم الطَّعن عليه بها، الطَّعنُ ولا بدَّ على ابن تيميَّة بما نسب إليه من شذوذات (على رأيه!!).
ونحن نقبلُ من فلان هذا لو سلمت له لازماتُه؛ لكن لا تسلم لأسباب:
1- أنَّ في النَّوايا خبايا، ونحن على علم أنَّ فلاناً -هداه الله- ربَّما عاب على ابن تَيميَّة رحمه الله حب السَّلفيِّين له، وعليه فهو ربَّما طعن عليه وغمزَ قناته بأدنى شبهةٍ عنده هو!
وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً وآفته مِنَ الفهمِ السَّقيم
وفي روايةٍ: من الحقد القديم!!
لأنَّه بالطَّعن عليه يشفي غليله مرَّتين، وإن كان طعنه عليه -كما يقال في علم البيان- بِسوقِ الذَّم في صورة المدح.(2/94)
2- لقد علمت الدُّنيا ألدَّ خصوم ابن تيميَّة رحمه الله لم يَستطيعوا القيام أمامه بحجَّة واحدة من حججه، وبخاصَّةٍ أقماءَ قَرننا هذا الأغبرِ بأهله، ومضى رحمه الله إلى ربِّه، وهو يحمل هموم الأُمَّة في صدره، لم يخرجها ما بذله من علم في حياته، عجزت القرون أن تأتي بمثله من بعده، وما ذاك إلاَّ لإخلاصه الذي يعلمه الله وحده؛ لكنَّنا علمناه بالآثار الحسنة الطَّيِّبة، التي عرفت الأُمَّة كلها فضلَ علم ابن تَيميَّة رحمه الله بها، فأبقى رحمه الله من بعدهِ ما يغني عن الدِّفاع عنه أبد الدَّهر.
3- قيَّض الله لابن تَيميَّة رحمه الله رجالاً، يذبُّون عنه بألسنتهم وأقلامهم، وينفون عنه الشبهات التي ألصقها به خصومه، والتُّهم التي جهدوا أن يلحقوها به في حياته وبعد موته، ممَّا لم يكن لغيره من العلماء رحمهم الله، فقد شغل ابنُ تَيميَّة عقلَ الزَّمن، وراضَ من استعصى على السَّابقين من قبله، وابتلي رحمه الله بطوائفَ من الجهلاء، والحاقدين والمتشبِّعين بغير ما هو لهم، ولو أنَّ واحداً من كلِّ فرقةٍ من هؤلاء رمى ابن تَيميَّة بتهمةٍ أو بشبهةٍ؛ لصارت مع الزَّمان كالجبال، فكيف وهم جميعاً قَد أجمعوا على عداوته، وإذايته، ورميه بكلِّ مؤثِّمة وزور من القول؟!
أما الأفعال فقد نكَّسوا رؤوسهم حياءً وإكباراً لها؛ إذ ماذا يقولون في رجلٍ عاش لسيفه وقلمه وعقيدته، لو أرادَ الدُّنيا لحازَ منها ما لم يَحُز منها الملوك، في غير سعي لها، ولا اشتدادٍ في طلبها.(2/95)
ويحسنُ بنا أن لا ننسى ذلك الرَّجل المصلح المُجدِّد الذي ورث من علم ابن تَيميَّة رحمه الله ومن دعوته ما مكَّنه أن يواجه جاهليَّةً برُمَّتِها؛ بسطت نفوذها ردحاً من الزَّمن على عقول أهل الجزيرة، أذكرتنا قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقومُ السَّاعةُ حتى تضطرب ألياتُ نساءِ دَوْس حول ذي الخَلَصة"(44)، وما كان عليه غلوُّ الجاهليَّة الأولى في العقيدة، والعبادات، والعادات؛ حين لقفت يدُه سيف علم ابن تَيميَّة رحمه الله، وشرَعه في وجه هذه الجاهليَّة، وجعل يجأ به خاصرتها، حتى ولَّت مدبرة عن الجزيرة ولم تعقِّب -رحمه الله- هو: الإمام مُحمَّد بن عبدالوهَّاب وأجزل له المثوبة.
ولا أرى إلاَّ أنَّ جماهير طلاب العلم، والعلماء في عصرنا الحاضر يعلمون علم اليقين، أنَّ ما صار بين أيديهم من السُّنن والآثار والأخبار والسِّيَر، يفوق ما كان بين أيدي طلاب العلم والعلماء في القرون السَّابقة بكثير جدَّاً، فما من عام يأتي إلا واكتشافٌ علميٌ جديدٌ يُظهر لنا كنزاً دفيناً من كنوز العلم في السُّنَّة وعلومها، والآثار، والأخبار، والفقه، والتَّاريخ، والرِّجال، وغير ذلك ممَّا يمكِّن للعالم الجادِّ المُثابر من زيادة علمه ووفرة معرفته في كلِّ علمٍ من هذه العلوم، مِمَّا يكون من اختصاصه وموضع اهتمامه.(2/96)
ومن هنا وجدنا بَعضَ الأخيار الفضلاء من علماء السُّنَّة في عصرنا -حين صارت إليه هذه الكنوز- يعودون عن بعض أقوالهم في السُّنن والأخبار، التي كانوا قَد حكموا عليها بالقَبول أو بالرَّدِّ، وليس هذا بعائبهم، وقد علمنا أنَّ أئمَّة مِن أئمَّة هذا العلم قَد تعُقِّبوا في أحكامهم، واستُدرك عليهم في كتبهم ومَرويَّاتهم، فإنْ يستدرك عالمٌ على نفسه بنفسه -بما حباه الله من علم حادثٍ لم يكن لديه من قبل- هو خير ناله وأناله، ودلَّل به على صدقٍ في نفسه، أظهره الله للنَّاس، وما كان هذا ليكون لولا ما منَّ الله به عليه من خشية من الله وعلم ونيَّةٍ خالصةٍ فيه، ومن لم يصنع هذا الصَّنيع -بعد أن علم- فإنَّه ولا شكَّ يَصدُقُ فيه قول النَّبي صلى الله عليه وسلم:
"من حَدَّث عنِّي بحديث يُرى أنَّهُ كذب فهو أحدُ الكذَّابين"(45).
وهذا خلقٌ علميٌّ قلَّ أن تجدَه بين أهل العلم في زماننا هذا، اللَّهمَّ ما علمناه في خاصَّة الخاصَّة منهم، وعلى رأسهم: جبل السُنَّة الباذخ، وصيرفها البارع، الذي ألان الله له نصوصها، وطوَّع له عَصِيَّها، وقرَّب إليه بعيدها، وجمع الله به من علومها الظَّاهرة الدَّامغة ما آتى منها الأوَّلين، فكان بها من المجدِّدين، وامتداداً للسَّابقين، ودليلاً أميناً للاَّحقين -وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء- الدَّاعية الحُجَّة العلاَّمة النَّقَّادُ المُحدِّثُ الشيخُ مُحمَّد ناصر الدِّين الألباني.
والإمام، الفقيهُ، الثَّبتُ، عالمُ الجزيرة، الزَّاهد، الورع، الجواد، البَصير، الدَّاعية، الجمُّ التواضع، الذي أحبَّه المخالفُ قبل الموافق، العلاَّمة الأثري، الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز، أمتع الله المسلمين بطول عمرهما، ونفعهم بعلمهما، وجزاهما ربُّنا سبحانه عن الإسلام والمُسلمين خيراً، فقد -والله- بذلا فأجزلا، وسقيا فأرويا، وبنيا فأعليا، وشهد لهما بذلك النَّصفَة من الأعداء قبل الأولياء(46).(2/97)
وقَد علمنا بعضاً من منتسبة العلم لا يجلسون مجلساً ولا يشهدون نادياً، ولا تتحرَّك عيونهم في محاجرها، إلاَّ وألسنتهم ناطقةٌ بفيض من التُّهم، لا تصلح إلاَّ أقنعةً لوجوههم المتلوِّنة، ولا تحسن إلاَّ لحسناتهم النَّزرة، وإن طالبتهم بالدَّليل على صحَّة هذه التُّهم لجُّوا في طغيانهم، وأوغلوا في بهتهم، وزادوا في بسط ألسنتهم أذىً واستكباراً!
فماذا يا ترى يقولون؟ يقولون: إنَّ الاجتهاد عند السَّلفيِّين أيسر من شرب الماء، واستنشاق الهواء، والجري في العراء؟!
والاجتهاد أعلى مراتب العلم، وأرفع درجات المعرفة في الإسلام فكيف إذاً يستوفيها العالم وطالب العلم الماهر الحاذق فيه، وطالب العلم الأدنى؟!
أن يقول أحدٌ: إنَّ هؤلاء يستوون جميعاً؛ إمَّا جاهل غِرٌّ أحمق؛ وإمَّا مريبٌ معتدٍ، وإمَّا سفيهٌ كريهٌ، ومن ذا الذي يرضى لنفسه أن يكون واحداً من هؤلاء؟ نعم؛ يمكن أن يرضى بذلك الذي يرضى من هؤلاء الثَّلاثة!!
أمَّا مُسلمٌ تقيٌّ يعرف حقَّ لا إله إلا الله عليه، وبأدنى منازل العلم؛ فلا يُعقل أن يرضى سماع ذلك فضلاً عن أن يرضى أن يكون واحداً من أولئك.(2/98)
وكل واحد رضي لنفسه أن يكون سالكاً منهج السَّلف عقيدةً، وعلماً، وأدباً، يأبى ذلك على نفسه البتَّة؛ لأنه يعلم أنَّ علماء الأُصول جعلوا مراتب العلم للنَّاس ثلاثاً: مرتبة الاجتهاد، مرتبة الاتِّباع، مرتبة التَّقليد، وهو إذ يعلم ذلك؛ فلسوف يضع نفسه في المرتبة التي يعرف أنَّها اللائقة به، لأنَّه -أوَّلاً- أعلم النَّاس بنفسه، ولأنَّه -ثانياً- لن يُترك إن وضع نسفه في غير ما يليق، والأيَّام سوف تُعرِّيه، ويعرف النَّاس منه حينئذٍ ما لا يعرف هو من نفسه، ذلكم أنَّ العلم ليس بالأمانيِّ، والدَّعاوى، إنَّه بالسَّهر، وإدامة النَّظر، وتقليب الفِكَر، ومن ادَّعى شيئاً ليس فيه؛ عَرَفه النَّاس من غَدٍ بما فيه، وليس هو حينئذٍ بمُصدِّقه ولا بِنافيه، ورحمَ الله امرءاً عرف مكانه فأناخَ راحلته فيه!
ولكن هل يضير السَّلفيِّين أن يكون فيهم مجتهدون، ومتَّبعون، ومقلَّدون؟ ليس ذلك بضائرهم قطُّ، ولا بمنقصٍ من مروءاتِهِم، ولا بغاصٍّ من عقيدتهم وأخلاقهم، إذ إنَّهم لم يبتدعوا في دين الله بدعة، ولا أمسكوا بذَنَبِ ضلالةٍ، ولا أهاجوا غُبارَ فتنة(47)، إنَّهم مع الأُمَّة في هذا التَّقسيم، ورضوا أن يكون فيهم المقلِّدون وما أكثرهم، وأن يكون فيهم المتَّبعون وهم دون الأوَّلين، وأن يكون فيهم المجتهدون وهم أقلُّهم عدداً، وأوفرهم علماً.(2/99)
ونجحد نعمة الله على الأُمَّة إن قلنا هم أقلُّ المجتهدين فيها علماً!! وإن شئت فانظر مصداق ذلك في أئمَّة العلم: أحمد، والشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، والغرَّة التي ضوَّأت آفاق الدُّنيا شيخ الإسلام، وعَلَم الإيمان، بند الهدى، وراية الجهاد، وفارس القلم، ومهد العمل، وجبل السُّنَّة، وعنوان الكتاب، وسيف القُرآن، وفَصل القضاء، وحِلس الزُّهد، ولِواذ التَّوحيد، وعَرْف الصَّلاح، وفيض العقل، الإمام الرَّمز ابن تَيميَّة رحمه الله {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه} [سورة الأنعام: آية 90].
وقد يؤخذ على السَّلفيِّين فيما يؤخذ عليهم -والضرَّة المليحة في عين ضرَّتها قبيحة كما يقال- أنَّهم لا يأخذون العلم إلاَّ عن شيوخهم الذين اشتهروا أنَّهم على منهج الكتاب والسُّنَّة، وأنَّهم يُسوُّون بين الفضائل من الأعمال وبين المندوبات والواجبات!!
وقَد يطولُ النَّفَسُ بالجواب عن هذين المأخذين إن كانا، لذا فإنَّنا ندع الجواب عنهما لفصل مستقلٍّ؛ ندرأُ فيه شبهةً جديدةً عصريَّةً ألصقها بالإسلام أولياؤه، ولم يقُل بها خصومه وأعداؤه؛ هي: أنَّ في الإسلام قشراً ولباباً!!
وقَد صرنا نسمع في معاهدنا العلميَّة، وجامعاتنا، بعضاً من أساتذتها يُسمعونَ تلامذتهم أنَّ الاجتهاد من أعظم النِّعم التي أنعم الله بها على المُسلمين، ومن يقول بأنَّ الاجتهاد ظلَّ بابه مفتوحاً حتى نهاية القرن الرَّابع الهجري فقط (!) فقد أعظم الفرية، وجاءَ الأُمَّة ببهتٍ، فإنَّ أبوابَ العلم مُشرَّعةٌ على مصاريعها، ومن شاء دخل من أيِّ أبوابه شاءَ، ومن شاء دخل منها جميعاً.(2/100)
وهكذا كلُّ مسألةٍ أظهرها السَّلفيُّون، وعلموا أنَّ الحقَّ فيها معهم وعالنوا بها -وكانت خافية أو مجهولة- بعد طول غياب وإهمال لها؛ ما تفتأ أن تشيع في الأُمَّة، وتصير حاضرة في أذهانها، لا تريم إلاَّ لتجيءَ، ولا تغيب إلاَّ لتظهر، ولا تُنسى إلاَّ لتُذكر، فالحَمدُ لله الذي بنعمته تتمُّ الصَّالحات.
وأعظم ما يكون سرورهم حين يرون أصول الإسلام الكلِّيَّة الصَّحيحة، وعقائده الإيمانيَّة السَّليمة، وفروعه التَّكليفيَّة المعروفة والمجهولةَ؛ تصبح مألوفةً مقبولةً في الأُمَّة، وإن كان الفضلُ في ذلك يعود إلى غيرهم؛ لأنَّهم علموا أنَّ الحقَّ لله وحده، وأنَّه يوفِّق إليه من شاءَ من صالحي عباده في الأُصول وفي الفروع على حدٍّ سواء، فهم لا يَحسدون بل يَغبِطون، ولا يملُّون بل يثابرون، ولا يقطعون بل يَصِلون، وشعارهم في ذلك كلِّه قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: "إن قامت القيامة وفي يَد أحدِكُم فَسيلَةٌ؛ فإن استطاعَ أن لا تقوم حتى يَغرسَها فليَغرسْها"(48)، وقولهُ صلى الله عليه وسلم: "خَيرُ النَّاس أنفعهم للنَّاس"(49)، وقولُه صلى الله عليه وسلم: "من استطاعَ منكم أن ينفع أخاه فليَنفعه"(50).
وما أجملَ وأعجبَ كلمةَ ذلك الحكيم: "قل كلمتَك وامضِ؛ فإنَّه لا بدَّ أن يأتي اليوم الذي يسمعُ فيه النَّاسُ صوتَها!!".
ومن كان على منهاج الكتاب والسُّنَّة يَرى أنَّ الأخذ عن شيوخ هذا المنهج قديماً وحديثاً أوصَلُ للعلم إليهم، وأبقى لنوره في صدورهم، وأرضى لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم؛ إذ إنَّ هؤلاء الشيوخ لا يصدرون إلاَّ عن كتاب الله سبحانه وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهما الحبل المتين، والدَّرع الحصين، والحِرز المكين.(2/101)
والأخذُ عن هؤلاء الشيوخ في هذا القرن هو نوع من الإسناد العالي الذي عزَّ جداً، بل يكاد أن يكون قد اندثَر، فجزى الله خيراً من يسَّر للأُمَّة الطَّريق إلى سُنَّة نبيِّها صلى الله عليه وسلم تحقيقاً، واختصاراً، وتصحيحاً، وتَضعيفاً، وتبياناً لأحكام ومسائلَ وفروعٍ وأُصولٍ كانت منسيَّةً فذُكرت، غائبةً فأحضرَت، مخفيَّةً فأُظهرت، فالتقى شباب الإسلام عليها في كلِّ أرجاءِ الأرض، وسَعَوا إلى كتبها ورسائلها وفتاواها من كلِّ حَدبٍ وصَوبٍ، وأقبلوا نحوها ركباناً ورجالاً، وبذلوا أموالهم رخيصةً في شراء كتبها ورسائلها ومعاجمها، وتنافسوها كأشدِّ ما يكون التَّنافس، وصارت ذخائر نفيسةً -تُمِدُّ القعلَ والقلبَ بالعلم والهُدى- ومطارحَ علم نبغ فيها شبابٌ فتح الله عليهم من رحمته، وأزجى إليهم من نعمائه، وأنعم عليهم بسابغ فضله، حتى برعَ في السُّنَّة وعلومها منهم طائفةٌ أرخوا ذيولَ جِدِّهم فوقَ تلك الكتب والرَّسائل والمعاجم، فاستَظهروها، وجمعوا في عقولهم ما فيها، وصارت طيِّعةً رضيَّةً تحت أسنان أقلامهم، وأصبحوا بذلك ظاهرين على أصحاب الدَّعاوى العريضةِ ممَّن كانوا يظنُّون أنفسهم -أو يظنُّهم النَّاس- أنَّهم على شيءٍ، ونَفَوا الأباطيل التي غلَّقت عقولهم زماناً ولبَّسوا بها على الجهلاء، فكانوا في أعينهم سادَة العلماء، وما لبث أُولئك أن وجدوا حزَّ موسى الحسد في قلوبهم ممَّا رأوا من هذه الطَّائفة، فقد علموا أنَّهم أضْحَوا على إفلاسٍ، وهوت بهم عروش السُّمعة، وصاروا يُبيِّتون في نفوسهم سوءَاً لهؤلاء الشباب، ويتناجَونَ في نواديهم ومجالسهم الخاصَّة والعامَّة بالإثم والعدوان، ويَستَعْدون عليهم الظَّلمَة، وينسبون إليهم كثيراً من الفِرى العارية إلاَّ من الكذب النَّاقم، والخرص الفاضح، والمكر البائر، لا يردعهم خوف من مصير كاشفٍ يذهب الحلم، ولا يزجرهم وعيد من يوم آتٍ تغيب فيه الأبصار، ولا يصدُّهم تحذيرٌ من هول عذابٍ(2/102)
تتقطَّع فيه الألباب.
مَصيرٌ في يومٍ يقف فيه النَّاس شاخصةً أبصارُهم ترهقم ذلَّةٌ، لا يرتدُّ إليهم طرفُهم وأفئدتهم هواءٌ، فماذا سيقولون لربِّهم وهو سائلهم وقائلٌك {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} [سورة الصافات: آية 24].
وأخيراً؛ فلا بدَّ من أن يكون معلوماً، أنَّ الاجتهاد لا يُقبل في العقيدة، ولا يُدندنُ به حولها، ولا يذكر من أمامها ولا من خلفها؛ لذا كان حقَّاً علينا أن نخصِّص فصلاً للعقيدة؛ نؤكِّد فيه أنَّ الاجتهادَ في العقيدة سائقُ إلى الكُفر الصُّراح.
تنبيهٌ وتذكيرٌ وتوثيقٌ
كنت أزمعتُ أن أرفع هذا الفصل كلَّه من الكتاب وهو (التكفير وقواعده) حيث كان منيِّ بعض الزيادة في مواضعَ منه، أو النقص في مواضع أُخر، اقتضاها اجتهادٌ جديدٌ منِّي في بعض مسائله.
وأكبر هذه المسائل وأجَلُّها، الكلمة التي تُنسب لابن عباسٍ رضي الله عنهما: "كفر دون كفر" و "حكمُ تارك الصَّلاة"، ولا أزعم أني -وقد قلت حُسْناً بالتأويل والتوفيق- أحسبني قد أصبتُ الحق، فذا أمرٌ لا يعلمه إلاَّ الله وحده، وليس يُعاب المجتهدُ باجتهادٍ أخطأ فيه، من غير أن يُقارِفَ هوىً، أو يُجْلبَ بإبانةِ سوءٍ، راغبة في بَخْع بباطلٍ من أكْرَهُ، فذا ليس خلقاً عندي والحمد لله، وما عهدتني إلا باحثاً عن الحق والحقيقة، ولا أبغي عنهما حولاً.
وقد أدهشني أشدَّ دهشٍ تلكم الجَلَبةُ التي حُلَّت فيها أُزرٌ، وأُميطَتْ بها مَوَدَّاتٌ وأُذْهِبَت فيها حسناتٌ، وتكشَّفَتْ من تحتها سوقٌ وسوءَاتٌ، وحَلَّت بها أوزار، وسُمِعَ لها زفيرٌ وشهيقٌ، حتى لكأن السامع -وهو لا يرى- يحسب أنَّ كِسَفاً من السماء تسَّاقط، تنذِر بيوم الجمع والشتات الذي لا ريب فيه، لماذا هذا وذاك؟! سؤُال صعبٌ عليَّ الجوابُ عنه، لكنه قد يكون سهلاً على غيري بما هو خفيٌّ عني، ظاهرٌ جليٌّ لغيري!!(2/103)
بيد أني آثرت أن يبقى هذا الباب بتمامه وكماله، وعلى ما كنت أحسبه هو الصواب من قبل، لأمرين اثنين:
(الأول): يمثِّل مرحلةً من المراحلِ العلمية التي مررت بها، فما ينبغي أن يُخفى، أو أنْ يُزْورَّ عنه.
(الثاني): أن بعض مسائل الملاحق، التي جعلتُها في آخر الكتاب لها تَعَلُّقٌ بهذا الباب، ولا بدَّ من أن تبقى ليعود القارىءُ إليها عند الحاجة.
ثم إن ما صرت إليه من الحكم الجديد على هذه المسائل، صار قطعةً من كتابي: "إرشاد الساري" في طبعته الثامنة، فمن شاء فليرجع إليه، بالاستدراك الذي جعلته ملحقاً مستقلاً عنه، ولسوف أجعَلُ منه كلِّه رسالةً أو كتاباً مستقلاً عن الكتاب برأسه، إن شاءَ الله، فيسهل تناولُه وتداولُه باستقلاله.
والله وليُّ الأمر كلِّه، وله الفضلُ والنِّعمةُ، وبِيدِه مقاليدُ الخلق والنعمة، ومنه الهدى والسداد، وصلى الله وسلَّم على الهادي المجتبيىالمرتضى.
التَّكفِير وقَواعِدُهُ
وهناك مسألة من مسائل العقيدة؛ فُوِّقت بها سهام العدوان، وبُريت فيها أقلام العادين الطَّاعنين، وأُغمضت بها عيون أهل الأهواء على قَذىً وصَديدٍ.
ولا زالت هذه المسألة تتدحرج كلماتها على ألسنة الخصوم الألدَّاء بطعنٍ وعدوانٍ وهوىً، وتتسارع على ألسنة الجهلاء من أولياء التقليد بتأويلٍ باطلٍ سمجٍ لآياتِ الكتاب الكريم، وبالنَّظر الخاطف المُبْتَسَر لأحاديث النَّبيِّ الكريم صلى الله عليه وسلم.
وحسبُنا أن يُصيب منها أهل المنهج الحق -منهج الكتاب والسُّنَّة- في هذا العصر، ما أصاب من قبلهم من القرون التي سبقت.(2/104)
هذه المسألة هي: التَّكفير بظواهر معاني نصوص القرآن والسُّنَّة، مثل قول الله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [سورة المائدة: آية 44]، ومثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، من تركها فقد كفر"، ونصوص كثيرة أُخرى غيرها ضلَّت فيها عقول وتاهت فيها فهوم، وأوفت منها على بَوَادٍ لا عشب فيها ولا ماء(51).
لقد أتى زمان على المُسلمين انحسرت فيه عن حياتهم المناهج العلميَّة التي تهدي إلى إنشاء مَلَكةٍ علميَّةٍ موحَّدةٍ، يتَّفِقون بها على الحُكم، حتى على المجتمع الواحد الذي يعيشون فيه، وهي المَلكة التي يُنشئها الكتاب والسُّنَّة، فتفرَّقوا شيعاً وأحزاباً، وصاروا إلى حالٍ مُحزنةٍ من السُّوء والاضمحلال النَّفسي والفكريِّ، وصار اعتزازهم بغير ما ورَّثهم السَّابقون الأوَّلون من أبناء جلدتهم، واجتالهم الشيطان من مكامن وحدتهم وقوَّتهم، وأضحوا عالةً على موائد الثَّقافات والمناهج الفكريَّةِ والعلميَّةِ المُضادَّةِ لمناهجهم وثقافتهم الرَّشيدة، وصارَ المجتمع الواحد مجتمعات، والحياةُ الواحدة حَيَواتٍ، والجيل الواحد أجيالاً، وتعدَّدت الأحكام، وتناقضت التَّصوُّرات، وتباينت الأوصاف.
وممَّا ساعد على هذا كلِّه، وجودُ فئةٍ حسبوا أنفسهم يعلمون ما لا يعلم العلماء، ووضعوا أنفسهم مواضع لم يُحسنوا أن يَثبتوا فيها على مقاعدهم إلاَّ بقدر ما أفرغوا كلَّ ما حفظوه ممَّا حسبوه علماً نافعاً، ولو أنَّهم علموا أنَّهم ما علموا لكان خيراً لهم وأقوم، حتى يستبين لهم الحقُّ، ممَّن علموا وأحسنوا وأحكموا ما علموا.
وقد أوهَنَ الجهلُ بالإسلام الأُمَّة، وأرادَها أن تأتيه على رغم منها بجهلها، وآتاها من لدنه علماً صالحاً إلاَّ وهي تسعى إلى معاطن السُّوء؛ التي تنسى فيها مقتضى كلمة التَّوحيد؛ شعار الإسلام، وعنوان الإيمان، والحاقن دماءَ النَّاطقيها.(2/105)
وكأنما هذه الفئة لا تجدُ راحَةَ صُدورها إلاَّ في إطلاق كلمة الكُفر أو الجاهليَّة، تحكم بهذه، أو تلك على مجتمع كلُّ ملايينه مسلمون(52).
وقَد وجدَ هذا الحُكْم سبيلاً إلى قلوب الأُلوف من الشباب المتحمِّس، فاستقرَّ فيها اعتقاداً جازماً، فحرَّموا على أنفسهم، غشيان المساجد، والصَّلاة وراء أئمَّتها، وكفَّروا الحكَّام الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله، وعدُّوهم مُشركين، وتوكَّؤوا على فهمٍ غير قويمٍ، لآياتٍ من كتاب الله تعالى.
ثمَّ وسَّعوا دائرةَ حكمهم على المجتمع، فقالوا: إنَّ كلَّ أهله يَدينون دين الجاهليَّة، ومن يرضى بحكم حكَّام المسلمين الآن؛ فهو كافرٌ مثلهم، سواءٌ أكان رضاه سكوتيَّاً أو قوليَّاً.
ولعلَّ آيات سورة المائدة الثَّلاث، وهي التي تَصِفُ من لم يحكم بما أنزل الله بالكفر والظُّلم والفسق، النَّازلة في حقِّ أهلِ الكتاب هي أظهر الأدلَّة على ما ذهبوا إليه من الغُلُوِّ في حكمهم على المجتمع بأسره، أو على الحكَّام فقط وأعوانهم.
لكنَّ الإطلاقَ القُرآني هذه الأوصافَ الثَّلاثة على من لم يحكم بما أنزل الله إنَّما هو لِجُحودِ أهل الكتاب حكمَ التَّوراة والإنجيل، وكفرهم بحكمهما كفراً إنكاريَّاً، وعدم اعتقادهم صلاحَهُ فيهم، فهذا كفر اعتقاديٌّ قلبيٌّ، والله سبحانه هو أعلم بما يخفي أهلُ الكتب هؤلاء من كفرهم بكتابهم.
وهل من لا يحكم بما أنزل الله -وهو موقنٌ بقلبه أنَّ ما أنزل الله ممَّا لا يحكم هو به لأمر ما، هو خيرٌ وأفضل ممَّا يحكم به من غير ما أنزل الله، بل لا سبيل للمفاضلة عنده- يستوي هو ومن على مثل ما وصف الله به أهل الكتاب الذي قضى الله سبحانه بكفرهم لجحودهم وإنكارهم.(2/106)
بأقلِّ تفكير تُرْفَضُ هذه المساواةُ بين الاثنين، إذ هذا الثَّاني من الاثنين، وإن كان معطِّلاً ما أنزل الله، هو غير معتقدٍ أفضليَّة ما حكم به من غير ما أنزل الله، فهو بتعطيله هذا حكم ما أنزل الله، يوصف بأنَّه كافرٌ كفراً عمليَّاً، أي هو مُشبهٌ بتعطيله الحكم بما أنزل الله فعلَ الكفَّار من أهل الكتاب.
وهذا -وإن كان لا يكفِّره ويخرجه من الملَّة- لا ينفي عنه الإثم العظيمَ والجُرمَ المُبين لتعطيله حكم الله وهو قادر عليه، فهو كبيرة الكبائر، وإثم الآثام، وذنب الذُّنوب، فهو بذلك يتحمَّل أوزار أمَّة مع أوزاره هو نفسه، أليس هذا بكافيه من غضب الله؟
وقد سئلَ حبرُ الأمَّة وترجمان القرآن، واللسان المُعْرِب عن معنى الوحي المنزَّل على محمَّد صلى الله عليه وسلم في الكتاب العظيم عَن معنى آيات سورة المائدة الثَّلاث، فقال:
"كفرٌ دون كفرٍ، وظلمٌ دون ظلمٍ، وفسقٌ دون فسقٍ(53)"(54).
أي: إنَّ درجات الكفر والفسق والظٌّلم متفاوتةٌ متباينةٌ في تحمُّلها، فمنها الكفر المُخرج من الملَّة؛ المجاوز دائرة الإيمان، ومنها الكفر المُبقي على الموصوف به في دائرة الإيمان، وليس مجاوزاً به حدود الملَّة.
ومثلُ الكفرِ في هذا، الفِسق، والظُّلمُ.
فكيف لنا أن نحكم على مجتمع أهله مسلمون -أو جلُّهم مسلمون- بأنَّه مجتمع جاهليٌّ كافر؟!
يمكن القول: إنَّه مجتمعٌ جائرٌ عن المحجَّة، مائلٌ عن الصِّراط الأقوم، وأنَّه قد يُخشى على مجتمع هذا شأنه أن يتحوَّل -بالتَّدرُّج، والاعتياد- عن وصف الكفر أو الظُّلم أو الفسوق العملي، إلى وصفه بهذه الأوصاف وصفاً اعتقاديَّاً، وأنَّ ما يدرك الأميرَ من ذلك أشدُّ وأعظم وأكبر.(2/107)
وبناءً على ذلك فيما تقدَّم، فإنَّ أحداً من السَّلفيِّين لم يجرؤ على تكفير أحدٍ من الأُمَّة تكفيراً اعتقاديَّاً، إلاَّ بصريح ما يُكفِّر، وليس يحتمل تأويلاً صارفاً يحمي الموصوف بوصف الكفر أو الظُّلم أو الفسوق من الكفر البواح، ذلكم أنَّ تكفير المُسلم الذي ينطق بالشهادتين ليس بالأمر السَّهل، لأنَّه إن سَلِمَ المُكفَّر من الكُفر البواح لسقوط الدَّليل المُستَدلِّ به على كفره؛ فإنَّ المُكفِّرَ سيبوءُ هو بالكفر، لقوله صلى الله عليه وسلم: "أيُّما رجل قال لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما"(55).
ومن هنا كان حقَّاً على العالِم أن يتحرَّى أشدَّ التَّحرِّي، وأن يَستبين الأمر من كلِّ جوانبه، فإن وجَدَ ما يسعه بصرفِ الكفر -بما يكفِّر ظاهراً- وإلاَّ قال به حين لا يجد بُداً من القول بكفر هذا أو ذاك، وليس يجد ما يُعينه بالتَّأويل القريب أو البعيد على صرف الوصف بالكفر عمَّن ثبت له بأنَّه كافر بقول أو بفعل، ولا يكفي في ذلك صريح اللفظ، إلاَّ أن يكون اللَّفظ غير محتمل إلاَّ لِما صرَّح به ظاهر اللَّقظ.
والأدلَّة على هذا المذهب كثيرةٌ متظاهرةٌ متعاضدةٌ، منها:
أوَّلاً: قوله صلى الله عليه وسلم: "من قال: لا إله إلا الله، مخلصاً بها قلبه، أنجتهُ يوماً من دهره، أصابه قبل ذلك ما أصابه"(56)، فهو صريح بأنَّ المَرءَ إذا نطق بالشَّهادة، وصدَّق بها قلبه، واعتقدها جازماً، وآمن بحقِّها كلِّه؛ فهو مؤمن، وإن اجترح المعاصي كلَّها، ما ظهر منها ومَا بطن، ما لم يصاحبها جحود أو نكرانٌ لما هو معلومٌ من الدِّين بالضَّرورة، وهو من أهل الجنَّة، ولو بعد أن يمسَّه سوءُ العذاب، ويمكث فيه زماناً، طال هذا الزَّمان أم قصُر.
وليس الانتفاع بـ "لا إله إلاَّ الله" إلاَّ دخول الجنَّة، يدلُّ على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لقِّنوا موتاكم: لا إله إلاَّ الله؛ فإنَّه من كان آخر كلامه لا إله إلاَّ الله دخل الجنَّة"(57).(2/108)
"من قال لا إله إلاَّ الله دخل الجنَّة"(58).
فقال أبو ذرٍّ -رضي الله عنه-: "وإن زنى وسرق"؟
فقال صلى الله عليه وسلم: "وإن زنى وسرق، رُغم أنف أبي ذرٍّ".
وهناك الجمُّ الغفير من الأقوال النَّبويَّة المباركة، التي تشهد لما ذهبنا إليه، من أصرحها ما كان عن أبي هريرة رضي الله عنه حين أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يبشر كلَّ من شهد أنَّه لا إله إلاَّ الله بالجنَّة(59).
ثانياً: أنَّ هذا حقٌّ للعباد على ربِّهم أوجبه على نفسه لهم، فضلاً منه وتكرُّماً، لا يُستثنى منه إلاَّ من رغب بنفسه عنه، وهذا الرَّاغب بنفسه عنه، واحِدٌ من اثنين إمَّا جاحدٌ الشَّهادة، مستكبرٌ عن حقِّها، جاحدٌ له، وإمَّا جاحد بَعضه.
وهذا شيءٌ، والنَّاطق به -المصدِّق بها، الموقن بحقِّها- شيءٌ آخر.
وأين هذا من ذاك؟
فهذا الجاحد أوْثَقَ نفسَه بجحوده واستكباره فكيف نسوِّيه بمن لا يجحدها، ولا يستكبر عنها؛ وإن كان يعصي ربَّه بالعدول عن طاعته؟
يدل على هذا ما كان من قتالِ أبي بكر رضي الله عنه المرتدَّة من قبائل العرب، بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وامتناعهم من تأدية الزَّكاة، إذ قد عدَّها حقَّاً كانوا يؤدّونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، أما وقد مات؛ فلم يبق هذا الحق قائماً لأحد، فكان ذلك منهم جحوداً لهذه الفريضة من فرائض الإسلام.
وحتى لو كان امتناعهم من تأدية الزَّكاة ليس من جحودٍ لها لما كان يسع أبا بكر إلا أن يقاتلهم، لأن إجماع قبائل على مثل هذا الأمر -وإن كان من غير جحود- ينبىءُ عن خطر لا تحمد عاقبته في الأُمَّة، وبخاصَّة في ركن من أركان الإسلام، فلو تُرِكَ النَّاس فيه وشأنَهم لكان تفريطاً من الإمام، يُجرِّىءُ على سائر شرائع الإسلام، ثمَّ تكون فتنة لا تُقمَع ولا يُطفأ لها أُوارٌ.(2/109)
فلا بُدَّ إذاً من الحيطة، واتِّخاذ الأسباب الواقية قبل البحث المُضني عن أسباب العلاج، حيث قد لا ينفع البحث، ولا تنفع الأسباب إن أوصلَ البحث إليها، والقاعدة الشرعيَّة تقول: "درء المفاسد مقدَّم على جلبِ المصالح"، والمفسدة هنا مُحقَّقة، وهي الاجتراء على دين الإسلام، وتعدِّي حدوده، وانتهاك حرمته، والمصلحة مظنونة وهي؛ صيانة الدِّماء، ورجاء عودة المجترئين على الإسلام عن فسادهم وإفسادهم، فكيف إن كان التَّرك منهم جحوداً ظاهراً؟
ومن ذلك نتبيَّن أنَّ وِقفة أبي بكر الحازمة ما كانت لتفرِّق بين جحودٍ وبين غيره، لأنَّه لو سكت واستجاب لتأويل عمر رضي الله عنه؛ لانْفَتَحَ بابٌ من الشرِّ أوسع وأوسع.
ثالثاً: أنَّ الاعتقاد القلبي بنوعيه -إيماناً وكفراً- هو الذي ينشيءُ الأفعال الظَّاهرة الدَّالة عليه، إلاَّ أن يكون التَّالي منها نفاقاً، فلا يدلَ عليه إلاَّ ببوحٍ من صاحبه نفسه.
هذا هو الأصل الذي تأسَّست عليه القواعد، وبُنيت عليه الأحكام، وتأصَّلت الأُصول.
وهذا فيما يتعلَّق بالأفعال والأقوال الظَّاهرة، ومثله:
لو أنَّ رجلاً قذف رجلاً، فإنَّ الأمير يقيم عليه الحدَّ، ولا ينظر فيه إلى ما كان ينويه، وهل كان جادَّاً أم هازلاً، فقَذْفُهُ فعلٌ يُدان به من غير نظرٍ إلى نيَّته، ويوقع به الحدَّ الذي قضى به القرآن.
وهذا الظَّاهر لا فرق فيه بينه وبين العقيدة والأحكام، فلو أنَّ رجلاً نطق بالشَّهادتين -درءاً للقتل، وصوناً لدمه- فهو كافٍ فيه، ومن قتله بعد نُطقه بالشَّهادة -من غير تأويل- فهو قاتل ظلماً، وحاملٌ وزراً، يدلُّ عليهِ ما وقع لأُسامة بن زيد -رضي الله عنه- من قتله ذلك الرَّجل الذي كان كافراً، فلمَّا أدركه أُسامة بالسّيف، نطق بالشَّهادة، فلم يكفَّ عنه وقتله، فلامه الرَّسول صلى الله عليه وسلم وعذله عذلاً شديداً، وأنكر عليه فعلته(60).(2/110)
رابعاً: إن قلنا بالتَّكفير بظواهر النُّصوص، فيجب طرد هذا حتى في النُّصوص التي جاءت نصوص أُخرى غيرها تنفي عن الموصوفين بالكفر فيها هذا الوصف، وهذا لا ينبغي أن يقول به عالمٌ قطٌّ، فإن قال به فهو غير حقٍّ، وعليه أن يُعيد النَّظر في فقه النُّصوص التي تبدو متعارضة في ظواهرها، وهي ليست كذلك.
ونسوق لذلك مثلين اثنين:
الأوَّل: قوله صلى الله عليه وسلم: "سبابُ المسلم فسوقٌ وقتاله كفر"(61)، فإن أخذنا بظاهر قوله: "قتاله كفر" حكمنا عليه بالكفر الذي يحكم به على الكفَّار والمشركين الذين يعبُدون غير الله، ويتَّخذون ديناً غير الإسلام، لكن صريح القرآن ينفي هذا الحكم عن المسلم الذي يقاتل مُسلمين آخرين بظاهر لفظه، وذلك قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُواْ الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ الله فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُواْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [سورة الحجرات: آية 9].
فقد سمَّى الله الطائفتين المتقاتلتين في هذه الآية -سواءٌ الباغيةُ، والمبغيُّ عليها- بالمؤمنين، ومقتضى القول بتكفير المُقاتِل جماعةَ المؤمنين -كما هو ظاهر قوله: "قتاله كفر"- يقتضيها القول بتكفير من لم يكفِّرْ الله في هذه الآية، وإن نحن كفَّرنا من لم يكفِّر الله عزَّ وجلَّ كذَّبنا صريح القرآن الكريم.(2/111)
وعليه؛ فإنَّه لا بدَّ من أن نَعدِل عن مقتضى ظاهر قوله: "قتاله كفر"، إلى البيان الذي يصرف -ولا بدَّ- إلىعدم التَّكفير -التَّكفير الاعتقاديَّ- فيكون المُرادُ الكفرَ العملي الذي يُبقي على المؤمن العاصي ربِّه سبحانه -بقتاله جماعةَ المؤمنين- إيمانه الذي لا يجوز نَفيه عنه إلاَّ بما نفاه الله سبحانه، وإلاَّ فماذا نقولُ في الصحابة الذين قاتَلَ بَعضُهُم بعضاً مع عليٍّ ومعاويةَ رضيَ الله عنهم(62)!
نعم؛ يمكن أن نَعُدَّ المستحلَّ قتلَ المسلم بغير حقٍّ -أو المستحلَّ قتالَهم واستباحةَ الخروج على جماعة المُسلمين، وسفك دمائهم، كافراً كفراً اعتقادياً يخرجه من الملَّة، أمَّا أن نعدَّه كافراً كفراً اعتقاديَّاً وهو لا يستبيح قتلهم، ولا قتالهم، فإنَّ الوقوف مع صريح القرآن هو الذي يُقصينا عن الوقوع في تكفير مُسلم بغير ما يُكفِّر، فنَكْفُر عياذاً بالله بهذا التَّكفير بصريح قوله صلى الله عليه وسلم: وقد تقدَّم-: "أيُّما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باءَ بها أحدُهما".
أمَّا الثاني: فقوله صلى الله عليه وسلم: "من تركها فقد كفر"(63)، أي؛ الصَّلاة، والقول بتكفير تارك الصَّلاة على إطلاقه -من غير تفريق بين التَّاركها عمداً من جحود وإنكار لها، وبين التَّاركها عمداً من غير جحود ولا إنكارٍ لها- قولٌ باطلٌ، صريح البُطلان.
يدلُّ على بطلانه دلائلُ كثيرةٌ؛ مِن أصْرحِها وأقواها الحديث الصَّحيح المتَّفق عليه عند الشَّيخين البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب "الصِّحاح" و "السُّنن" واستوفاه بطرقه وزياداته وفوائده الجمَّة محدِّث العصر وشيخ السُّنَّة وعَلَمها الفَرْدُ العلاَّمة الشيخ محمَّد ناصر الدين الألباني(64). ونصُّه:(2/112)
عن أبي سعيد الخُدريِّ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خلَصَ المُؤمنون من النَّار، فوالذي نفسي بيده، ما مجادلة أحدكم لصاحبه في الحق يكون له في الدُّنيا بأشدَّ من مُجادلة المؤمنين لربِّهم في إخوانهم الذين أُدخلوا النَّار، قال: يقولون: ربَّنا! إخواننا كانوا يصلُّون معنا ويصومون معنا، ويحجُّون معنا، ويجاهدون معنا، فأدخلتهم النَّار، قال: فيقول: اذهبوا فأخرجوا من عرفتم منهم، فيأتونهم فيعرفونهم بصورِهم، لا تأكل النَّار صورَهم، فمنهم من أخذته النَّار إلى أنصاف ساقيه، ومنهم من أخذته إلى كعبيه، فيُخرجون منها بشراً كثيراً، فيقولون: ربَّنا! لم نذر فيها أحداً ممَّن أمرتنا، ثم يقول: ارجعوا فمن كان في قلبه وزن نصف دينارٍ فأخرجوه، فيُخرجون خلقاً كثيراً، ثمَّ يقولون: ربَّنا! لم نذر فيها أحداً مِمَّن أمرتنا، حتى يقول: أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرَّةٍ، فيُخرجون خلقاً كثيراً".
قال أبو سعيد -يعني الخدري-: فمن لم يصدِّق بهذا الحديث فليقرأ هذه الآية: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيما} [سورة النساء: آية 40].
قال: فيقولون: ربَّنا قد أخرجنا من أمرتنا، فلم يبق في النَّار أحدٌ فيه خيرٌ، قال: ثمَّ يقول: شَفَعَت الملائكة، وشفَعَت الأنبياء، وشفَعَ المؤمنون، وبقي أرحم الرَّاحمين، قال: فيقبض قبضةً من النَّار -أو قال: قبضتين-
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ويكشف مَيْنَهم-، اللهم إلا أن يكون لهؤُلاء كرامة تظهر لهم عند قبر الشيخ حين يزورونه بين الفينة والأخرى، يستهدونه ما يظهرون من فرى ينسبونها إليه، أو أن يكون قد عهد الشيخ إليهم بشيءٍ خاص حين صلَّوا عليه في القبر، بعد عودتهم الظافرة!!!(2/113)
ناساً لم يعملوا لله خيراً قطُّ، قد احترقوا حتى صاروا حُمَماً، قال: فيؤتى بهم إلى ماءٍ يقال له: (الحياة) فيصبُّ عليهم، فينبتون كما تنبت الحبَّة في حميل السَّيل، قد رأيتموها إلى جانب الصَّخرة، وإلى جانب الشَّجرة، فما كان إلى الشَّمس منها كان أخضر، وما كان منها إلى جانب الظلِّ كان أبيض، قال: فيخرجون من أجسادهم مثل اللؤلؤ، وفي أعناقهم الخاتم -وفي رواية: الخواتيم- عتقاءَ الله، قال: فيقال لهم: ادخلوا الجنَّة، فما تمنَّيتم ورأيتم من شيء فهو لكم، ومثله معه، فيقول أهل الجنَّة: هؤلاء عتقاء الرَّحمن، أدخلهم الجنَّة بغير عملٍ عملوه، ولا خيرٍ قدَّموه، قال: فيقولون: ربنا! أعطيتنا ما لم تُعط أحداً من العالمين، قال: فيقول: فإنَّ لكم عندي أفضل منه، فيقولون: ربَّنا! وما أفضل من ذلك؟ قال: فيقول: رضائي عنكم، فلا أسخط عليكم أبداً"(65).
وأخيراً: أليس في قوله سبحانه: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [سورة النساء: آية 48]، ما يُغني عن التَّأويل، والإطالة في الرَّد والمراء في هذه المسألة، وتلمُّس الصَّواب فيها؟!(66)
* وخلاصةُ القول:
أحْسِبُني بذلك أنَّني قد استوفيت الرَّدَّ على تلك المقولة التي اعتَسَفَت بها -على غير هدىً ولا كتابٍ منير- عقولٌ جمدت بأصحابها على أقوالٍ جائرةٍ، استبدَّت بها على مثل الجمر المتلظِّي، وهي: "إنَّ السَّلفيَّة يحكمون على بعض النَّاس بالكُفر، وأقوالٍ يقولونها، وعقائد يعتقدونها، كالذي يعتقد في علي -رضي الله عنه- أنَّه يعلم الغيب، وأنَّ الله حالٌّ فيه، أو كالذي يعتقد أن العصمة المطلقة في شيخه لاعتقاده أنَّ الله لا يلهمُه إلاَّ الصَّواب، وهو شيءٌ من الوحي، أو كالذي يقدم إمامه في الرُّتبة على الملائكة المقرَّبين والأنبياء والمرسلين".(2/114)
وكأنِّي بهؤلاء القائلين هذه المقولة -النَّاسِّبيها إلى السَّلفيَّة وهم ينفونها عن أنفسهم -لا يرون الكفر إلاَّ على مثل ما كان عليه أبو لهب، وأبو جهل، وأُبيُّ بن خلف، وجلاوذةُ قريش وعتاتُها، أمَّا الذين يرفعون بعضاً من البشر إلى مصافِّ الأنبياء والمرسلين، ويرون لهم من العصمة والقدسيَّة ما يرون للملائكة -بل ويُقدِّمونهم على هؤلاء وأُولئك- ومن يَرى أنَّ الله سبحانه هو الكون، والكون هو الله، ومن يَرى أنَّ الله سبحانه حالٌّ بذاته القدسيَّة، في كلِّ شيءٍ، حتى في الأشياء التي يتنزَّه البشر عنها ومن يرى بأنَّ العصمة في الأولياء والصَّالحين إنَّما جاءَتهم من حلول الله في محمد صلى الله عليه وسلم؛ الذي حلَّ بموته في ذوات الصَّالحين، وتفرَّقت روحه عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= -ولا شك- من التمادي في غيره، وإذا جاءك الدليل المنير يسعى فاتبعه وكن من ورائه.
السَّلام فيهم، ومن يرى بأنَّ الله سبحانه قد وكَل تدبير مُلكه وكَونه إلى الأقطاب نيابةً عنه، ومن يرى أنَّ الله عارٍ عن صفات الكمال، هذه العقائد ونحوها، ليست مكفِّرةً معتقديها ولا غائلةً إيمانَهم، وأحسبهم جميعاً يَرونَ أنَّ رِدَّة القبائل بعد موت النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام بترك الزَّكاة ليست ردَّة، وأنَّ قتال أبي بكر رضي الله عنه لتلك القبائل لم يَعْدُ أن يكون نَوع تأديب، لكن هل يدركُ التَّأديبُ قتل الأنفس، وإزهاق الأرواح، وإراقة الدِّماء؟ أما كان يكفي أبا بكر أن يَدَعَهم، ثمَّ يُلين لهم قناته، ويأخذهم بالحكمة والدَّعوة الحسنة، ويَجد في رأي عُمر مُعتَضداً له في ترك قتال تلك القبائل؟(2/115)
إنَّ إصرار أبي بكر على قتال المرتدِّين، ونُكوصَ عُمر عن رأيه الذي أشار به أوَّلاً على أبي بكر أن يدع قتالهم؛ لَدليلٌ ظاهرٌ على ردَّة تلك القبائل، وقد أجمعت الأمَّة كلُّها -من لدن تلك الواقعة- على أنَّ ردَّةً كانت في تلك القبائل، فرَضت على أبي بكر أن يستلَّ سيفه من غمده ليطيح بها -وقد أطاح وكان رضي الله عنه لها- رغم النَّتائج الأليمة المحزنة التي خلَّفتها، وكان من آلمِها وأعظمِها حزناً المقتلة التي ذهبت بِحَفَظَةِ كتاب الله.
وليس خافياً على أحدٍ، أنَّ المرتدَّة من العرب، كانوا ينطقون بالشَّهادة، لكن نطقاً لم يكن بمغنٍ عنهم شيئاً، ولا بمانع عنهم السَّيف، ولا برادٍّ عنهم غيرةَ أبي بكر على الإسلام وأهله.
إذاً فالنُّطق بالشَّهادة باللِّسان وحده، لا يكون به العبد مؤمناً ولا مسلماً، فالمنافقون كانوا ينطقون بها، وأهل الرِّدَّة كانوا ينطقون بها، وكلُّ أهل العقائد الباطلة الفاسدة -ممَّن خالفوا بها عن العقيدة الصَّحيحة- ينطقون بالشَّهادة، لكن هذا النُّطق ما أغنى عنهم من الحقِّ شيئاً، ولا هي تنجيهم من عذاب الله يوم القيامة، بل ولا من الخلود في النَّار.
وإذا كانت هذه العقائد التي أتينا على عددٍ منها تُعَدُّ شذوذات لا تستَوجب الكفر، فما هي الشذوذات -وكل الكفر شذوذات وشذوذات- التي تستوجب الكفر عندهم؟!
إنَّ سلامة العقيدة -أو قل: العقيدة السَّليمة- هي التي تمنع عن صاحبها السُّوء، وتدرأُ عنه الأذى أن يصيبه في دينه، وتهديه إلى الصّواب في تقدير الأُمور، ووضعها في مواضعها، ويكون الخطأ ضئيلاً إلى جانب الصَّواب الذي يحرص عليه.
وإني لأعجب من الذين يسمُّون هذه العقائد الموقورة بالفساد والأذى -حتى بظاهر ألفاظها- شذوذاتٍ.(2/116)
هل يريدون التَّهوين من خطرها على الدِّين؟ أم هل يريدون تبرئة معتقديها من الكفر الصَّارخ؟ أم هل يريدون توحيد الأُمم قاطبةً ليكونوا أهل دين واحد مزيج من أمشاجِ أديانٍ بادَ بعضها، ونُسخ بعضها، وتخالج بعضها، وبقيت أثاراتٌ سانحة من بعضها؟! ولعلهم ينتهون إلى مقولة القوميين السافحين: (الدين لله والوطن للجميع).
وحسبنا أن نعلم أنَّ قروناً مضت -وهي تحمل أضغاثاً من الآلام النَّفسيَّة والبدنيَّة، والأحقاد المأبورة الرَّادفة- لا زالت تُقطِّع نفوسَنا حسراتٍ لا نَعدُّها شيئاً يذكر بجانب تلك العقائد، وحطَّمت قوارب النَّجاة التي كانت معدَّة لرحيلهم عن الأرض التي كانت الحِضنَ الدَّافيءَ الهانيءَ لهم، ووقفت حواجبَ صُلبةً في سبيل الأمل الذي يرتجى يوماً أن يُوائم بين الأتراح وبين الأفراح، ويؤلِّف بين الأوتار المتدفِّقة بأنغامها النَّشاز، لكن أنَّى يكون أمل يُرتجى لمواءَمةٍ أو تأليفٍ، وهو مصنوعٌ من نار ودخانٍ، يتأجَّجُ لظىً ملتهباً يُقطِّع ويحرق، ويذيب، ولا يُبقي من ورائه إلاَّ ذكراً لأشياء كانت يوماً لها أسماءٌ!!
إنَّ الَّذين يسمُّون هذه العقائد شذوذات لا تُكفِّر، لا يًصدِّقون أنفسهم، وهم إنَّما يقولونها زُلفى لأقوام أسرعت إليهم الدُّنيا بعد طول انتظار، وعلى حين غرَّة، بمنافع عراض طوالٍ هكذا تبدو للسُّراة في دهاليز الباطن المروِّع، يستخفون بأنفسهم من أنفسهم، ويحسبونها -وهي تستخفي- قادرةً على أن تعلن عنهم غير ما يخفون.
لكنَّها لم تنفعهم يوماً، ولا أرادها المعنيُّون بها حقائقَ موصولةً بصدور قائليها، فالحقُّ يظلُّ حقَّاً ولا يُدرأُ بباطل، والباطل يبقى باطلاً ولا يَستخفي من وراءِ الحقِّ، والظُّلمة والنُّور لا يجتمعان، والأرض والسَّماء لا يلتقيان، والهدى والضَّلالُ لا يأتلفان، واللَّيل والنَّهار لا يمتزجان.(2/117)
ولقد رأينا من صنائع المتزلِّفين إلى أهل الباطل ما يبغِّض الذُّلَّ حتى لنفسه!! وما يكرِّه الصَّغار حتى لذاته!! وما يحقر الهوان حتى على حاله!! وكلَّما ظنَّ المتزلِّفون بأنفسهم خيراً، أقفرت الأرض الخِصبَةُ أمام نواظرهم، وصوَّحت الحدائق الغنَّاء في حَدَقاتهم، وصارت آمالهم العراض كالعصف المأكول تحت أقدامهم.
فأهل تلك العقائد لا يفرِّقون بين من لا يرى كفرَهم، وبين من يَرى كُفرهم من غير من هم على غير عقائدهم تلك، فقد نذروا أنفسهم لتلك العقائد بأن يكونوا على حذرٍ وكرهٍ دائمين لكلِّ من ليس على عقائدهم هذه، فلا يُسِرُّون في أنفسهم إلاَّ المكر والشرَّ لهم.
والمُتَسَربِلُون بتلك العقائد لا يرون سلامتهم إلاَّ في التَّفاعل معها روحاً ونصَّاً، وما آمنوا بها إلاَّ لعلمهم أنَّها ما جيءَ بها إلاَّ لتوهين صَفِّ الأُمَّة، وتفريق كلمتها، وإذكاء روح العداوة والحقد في صدورها.
إذاً؛ فأريحوا أنفسكم أيُّها المتزلِّفون، وأربعوا عليها، فكلُّ جهدٍ تبذلونه إلى ضياع، وكلُّ أملٍ تريدونه عن نفسه إلى ذلك السَّبيل إلى زوال.(2/118)
الأمر -أوَّلاً وآخراً- بيد الله وحدَه، وإرادة الله التي بين الكاف والنُّون إن كانت فليس إلى ردِّها من سبيل، وليس على الله ببعيدٍ أن يُعيد الأُمَّة اليوم، بما فيها من نواقضَ، وحوائبَ، وكوابدَ، إلى صدرها الأوَّل، ينفي عنها ما رسمته الأيَّام على جبينها، ويُذهب عنها الأوضار التي زَرَعتها السُّنون في صدرها، ويُبرئُها من الأوصاب التي صنعتها البغضاء الفائرة في قبولها، فتعود أمَّة واحدة كما كانت، على أُمَّةٍ واحدةٍ كما بدأت، بأمَّةٍ واحدةٍ عازمةٍ فيها على لقيا واحدةٍ، تنزع عنها الأغلال والآصار التي وضعتها في أيديها وأرجلها بأنفسها، وترفع الحُجُبَ الثَّقيلة السَّوداء، التي غطَّت بها عقولها وقلوبها، والأغشية الصَّفيقة التي عصَبت بها عيونها، فتبرأ من ذلك كلِّه، وتعيد إلى أنفسها الثِّقة التي أفلتت من أيديها، حين وُضعت في الأغلال والآصار، والرؤية الصَّافية الواضحة حين عصبت عيونها بالأغشية الصَّفيقة، والتَّفكير السَّويِّ الصَّافي حين غَطَّت عقولها وقلوبها بالحُجب الثَّقيلة السَّوداء.
حينئذٍ: تكون بحقٍّ خَيرَ أمَّةٍ أُخرجت للنَّاس مِن بَعدُ ومِن قَبلُ، وتكون حكومتها في الأرض هي المُرتضاةَ في الأُمم والشُّعوب.
* عَودٌ على بدءٍ، وبدءٌ من عَود:
أرجو أن لا يفوت الأخ القارىء، أن يرجع إلى ما كتبته في الطبعة الثامنة من كتابي "إرشاد الساري" في مسألة التكفير، ومسائلَ ثلاثٍ أخَرَ، كيلا يَقَع في تحيُّرٍ، أو ظَنٍّ باختلافٍ مضطرب، وأُحبُّ للأخ القارىء (البصير التَّقيِّ) أن لا يكون (إمَّعةً)، [وأن يقرأ ما يقرأُ بعينيه لا بعينٍ يستعيرُ بعضَ بصرها، كما هي عادة السَّواد الأعظم من طلاب العلم السَّلفيين تَعُضُّهم التبعيَّة التافهة، لأشياخٍ يستحيي الزمان من ذكرهم في زماننا هذا، نسأل الله العافية].
مَاذا عن فِقهِ الواقِعِ؟(2/119)
على كلِّ داعيةٍ، وعالمٍ، ومُفكِّرٍ، أن يحفظ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قوله -وقد رأى أحد أصحابه رضوان الله عليهم جميعاً- وهو عُمر بن الخطَّاب -يقرأ في صحائف من التَّوراة فنظر إليه مغضباً-: "أمتهوِّكون فيها يا ابن الخطاب، لو كان موسى حيَّاً لما وسعه إلا اتِّباعي"(67)، فإنَّ في هذا الحديث توجيهاً تربويَّاً علميَّاً عظيماً، يصلُحُ أن يكون أصلاً كبيراً واسعاً لمنهاج متكامل، يحقِّق أهدافاً كثيرةً جدَّاً، في ميادينَ معرفيّةٍ كثيرةٍ واسعةٍ، كلُّ واحدٍ منها موصولٌ بالآخر يتحرَّك بمن فيه وما فيه، ليُكوِّن مع الأُخرى دائرة معرفيَّة واحدة.
ولست ذاكراً هذا الحديث لأتناوله بالشَّرح والتَّفصيل والإبانة، والسَّبر والتَّقسيم والتَّبويب، بل لأسوقه دليلاً على أنَّ "فِقهَ الواقع" الذي يدندن حوله بعض الدُّعاة، ما هو إلاَّ نافلةٌ من نوافل الفقه إن قُلنا بمشروعيَّتها العلميَّة، إن جاز التَّعبير، بل إنَّه أقرب إلى أن يكون من التَّرف المعرفي الذي شُغف به طوائف من مثقَّفي العصر، وبخاصَّة أولئك الذين أُقصوا عن دائرة المعرفة العلميَّة الدِّينيَّة (التَّقليديَّة) أو التي ألَّفت تأليفاً سائغاً بين الأسلوبين القديم والحديث في العلم.
وقد صار حسناً ومُساغاً في مجتمعات المُسلمين، أن يقرأ الواحد منهم مئات الصَّحائف في السِّياسة العصريَّة، وعلم الاجتماع الحديث، والاقتصاد والتربية وغير ذلك، ولا يستسهل قراءة رسالة صيغرة قليلة الصَّحائف في علم الفقه، أو أُصوله، أو العقيدة، أو علوم الحديث ومُصطَلَحِهِ، أو غير ذلك من مواريث علوم الإسلام.(2/120)
ولا زلت أذكر أنَّ صديقاً لنا أتاني بكتابٍ ضخمٍ، عنون له مؤلِّفه بـ: "القرآن والكتاب"، وهو مُعجبٌ أشدَّ الإعجاب به، وبمؤلِّفه، الذي جاءَ -على حدِّ قوله- بنظريَّة تجديديَّة شموليَّة، لم يُسبق إليها، هَدَم بها الكثير الكثير ممَّا تركه السَّابقون، وصار عند اللاَّحقين حقائق مسلَّمة، مطهَّرة، لا يجوز الحومُ حولها بريبةٍ، أو الدُّنو منها بنقدٍ يُرادُ به مسُّ طهرها، أو انتقاصها!!
وقال: لقد قرأت هذا الكتاب أربع مرَّات، وفي كلِّ مرَّةٍ يزداد إعجابي ورغبتي في إعادة قراءَته، فهو ثورة فكريَّة علميَّة، تستمدُّ قوَّتها من الواقع المعاصر الحديث، الذي يجب أن يكون هو المكيال الذي تُكال به الثَّقافة والمعرفة، وإليه تردُّ حتى الحقائق المسلَّمة من كلِّ العلوم الإسلاميَّة والعربيَّة، ذلكم أنَّه -الواقع- أثبت أشياء كثيرة جدَّاً، وكشف عن مجهولاتٍ لم يكن في حساب العقل الإنسان أن تكون، وأظهر أسباباً ووسائل معرفيَّةً جديدةً وَصَلَتِ الإنسانَ بعوالمَ كانت خيالاتٍ دائرةً في الفضاء المجهول الرَّحب، حتى صارت هي الواقع، والواقع هي، وحتى أصبح عسراً جدَّاً على الإنسان -الذي خاطبه الله من أوَّل يوم أنزل فيه الوحي على نبي الرَّحمة والهُدى، بالعلم وآلته-: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [سورة العلق: الآيات 1-5] أن يُميِّز الواقع المنظور المشهود المُحسَّ وبين المعرفة التي تُحدِّدُ معالمه، وترفع اللَّبس عن متشاكله، وتزيل الخفاء عن دقيقه وخفيِّه.
كان هذا موجزَ ما حدَّثنيه هذا الصَّديقُ عن هذا الكتاب.(2/121)
وحين قرأت منه ما قرأت، رأيت فيه من الطَّامات الرَّاكدات والجانحات ما لا يُحصى ولا يُعدُّ، لو أُفْرِدَت كلُّ طامَّةٍ منها بكتاب لأسرع الفناء إلى كلِّ ما أتت عليهن، فكيف وقد اجتمعت كلُّها بين دِفَّتي كتابٍ واحدٍ، روَّجت له مؤسَّسات علميَّةٌ، وتوفَّرت على الدَّعوة لقراءته والإفادة منه دوائر إعلامية، وبُذلت في طباعته ونشره وتوزيعه الأموال الكثيرة الطَّائلة؟!
وأحضَرْتُ له بعضاً من تلكم الطَّامَّات، وأبَنْتُ له ما فيها من كفرٍ صريحٍ ظاهرٍ، وزندقةٍ خفيَّةٍ باطنةٍ، فانتابه العجب، وأخذت منه الدَّهشةُ كلَّ مأخذ، فقد كان يحسب أنَّني سأوافقه في إعجابه بهذا الكتاب، وأدعو الناس إلى قراءته، ولو مرَّة واحدة!!
فلما تبين له أنَّ هذا الكتاب هو الباطلُ الزَاهق، والكفر الحائق، علم أنه -وعلى زعمه أنه قارىءٌ واسع الثقافة- ليس على شيءٍ -على الأقل- من الثقافة الإسلامية الواعية، التي يرجو به أو يؤمل النجاة، من وبير!! أو من دبير!! وأنه لا يصيب خلوصاً من فتْل ما ظنّه شديداً محكماً، إلاَّ ونقضه، وفتله مرة أخرى إن بقي فيه ما يصلح أن يُفتل بمرّة!!
والقارىء هذا الكتابَ وغيرَه من كتب أخرى تشبهه -وما أكثرها في هذه الأيام- يعلم علم اليقين أن مؤلفيها وجامعيها، ما نهضوا إليها تأليفاً وجمعاً، إلا ليترجموا بها وفيها ترجمة عملية تلك المقولة: "ضرورة فقه الواقع، وحاجتنا الملحَّة لاستظهار ما فيه، وبيانه للناس بياناً علميّاً، يوقِفُ الجيلَ على بواطن الأمور وجليِّها، فلا يفوتهم منه إلا ما يُدرَك بظنٍّ ولا رغبة في تحصيله" ثم تراهم يعمدون إليها، يشرحونها شرحاً مفصلاً يَلفِتونَ به عقول الناس -وبخاصَة الشَباب منهم- إليهم في تحريض خفيٍّ ذكيٍّ، على الفقه الإسلامي، يكسرون أبوابه كسراً مروعاً، حتى لكأنما يثأرون لأنفسهم من أصوله، وقواعده، ومسائله، وفروعه.(2/122)
ويتعدّى تحريضهم هذا، لينال من العلوم الإسلامية والعربية كافَة، التي قامت على عقول العلماء، وألقت بها في الأسماع ألسنتُهم، وسطّرتها في الصّحائف أقلامُهم على امتداد القرون، وتعاقب الأيام واللّيالي، في غير كَللٍ ولا ضجرٍ، ولا حرصٍ على مالٍ ولا شهرةٍ، ولا ابتغاء رضوان واصلٍ بنفع دنيوي يُرتجى.
وقد فُتن بهذه المقولة الجائفة الزائفة -ولكن على نحو آخر- كثيرون من أصحاب المنهج الحقّ، وأخذوا يتتبعونها في مظانّها، في الكتب والرسائل والمجلاّت والمحاضرات والندوات، وشغفوا بالمبدعين الداعين لها، المروِّجين لفلسفتها وهُجنتها، حتى صرفهم اشتغالهم بهذا الفقه؛ فقه الواقع -أو كاد عن الواقع نفسه، و أصارهم اسارى له في فترة زمنيّة وجيزة.
ومما ساعد على سرعة انتشار هذه المقولة، وتجميع الأنصار المعجبين بها وبدُعاتها، الأحداثُ العاتية التي اصطنعها أعداء الملّة، ليجتثُّوا بها الدِّين والمال والأخلاق من أرضنا، جمعوها في جرابٍ واحدٍ، وأطلقوها جامحة في أرض الجزيرة والفُراتين، لِتأكُل الأخضر واليابس معاً، بما أسموها: "حرب الخليج"؛ فنالت بضرِّها من كلِّ ما ينسب إلى العروبة والإسلام.
ولو كنّا ممّن يدّعي الكشف -وحاشا- لأفضينا للناس بصحائف من الغيب، قرأناها بعقولنا وبصائرنا من أوّل يوم بدأت فيه فتنة الخليج، لم يغب فيها عنّا غائبةٌ مما حملته تلك الفتنة العمياءُ منذ يومها الأول، وحتى وضعت أول أوزارها، وإلى أن تتمخّض عن آخر أوزارها، وإن كنتُ لا أدري متى سيكون مخاضها الأخير لتنتج آخر تلك الأوزار، نسأل الله العافية والسَّلامة، حتى وإن بدا للنَّاس أنَّها قد وضعت أوزارها، أعاذنا الله من سوء عاقبتها.
ووالله ما كان من شغفٍ بفقه الواقع، ولا بصرف جهدٍ ولو بيسيرٍ نحوه، ولا برغبةٍ في تعريف النّاس به، والتّفاخر فيه، إنما كان بأمرين اثنين:(2/123)
الأوَّل: الصِّدق في نُصح الأمَّة الذي أوجبه الله سبحانه على المسلمين بعضهم لبعض، وبخاصّة على العلماء الدُّعاة منهم، وهو عهد أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وعلى سائر قرون أمّته، كما جاءت به الأخبار الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الثاني: النَظر المستبصر في كتاب الله العزيز، وسُّنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم، وفيهما الغنية كلُّ الغنية عمَّا سواهما، فمن أوقر ذهنه بدقيق فقه نصوصهما فقد أوفى في العلم والمعرفة على مشارف العلم المقدور عليه، وصار إليه من دقة النظر، وصواب الرأي ما ليس لغيره.
ومِمَّا يستوجب الشُّكر لله علينا أنّنا -والحمد لله- كنّا، ولا زلنا نعتقد أن الإيغال في نظريّة فقه الواقع -على نحو ما صارت إليه، عند طوائف المثقفين المسلمين- مضيعةٌ للوقت، مذهبةٌ للجهد، مأكلة للفائدة المرتجاة من العلم، ويكفي من فقه الواقع ما يبصِّره بالحاجات والضرورات، والحوادث التي تفرضها الحياة بأسبابها ودواعيها على الأُمَّة، إذ ليس يحسن بالدعاة العلماء، أن يصمُّوا آذانهم عن سماع ما يُلقى إليها من سؤالاتٍ يستنبىء بها السّائلون عمّا يدور حول هذه الحاجات والضرورات والحوادث، وفيما يحيط بها ويتصل بحركتها وأسباب نشوئها، والغايات التي أُحدثت أو كانت من أجلها في حياة الناس، كي يكون جوابُ كلِّ واقعةٍ لحاجة -أو لضرورة، أو لحادثة- مؤسَّساً على النظر العقلي المسدَّد بالدليل الشرعيِّ الذي لا يخطىء إمَّا بقياسٍ، وإمَّا بعموم الاستدلال، وإمَّا بنصّ يطابق الواقعة المشابه لها حين وقوعها وطُرُوِّها أوَّلاً.(2/124)
ولا أحسب أنَّ مسلماً عاقلاً اليوم -مثقفاً كان أم غير مثقّف- يجهل أمراً يكاد ينطق في النّاس بلسان عربيٍّ غير ذي عوج، وهو أنَّ الأمَّة المسلمة اليوم مكبَّلةٌ بأغلال ثقيلة أوثقتها بالأرض، فلا تستطيع معها حراكاً، إلاَّ أن يأذن لها به صانعو هذه الأغلال، وما كان صُنْعُ صانعيها لها إلاَّ لكي تظلّ هذه الأمَّة -التي قال الله فيها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [سورة آل عمران: آية 110]، رازحةً تحت ثقل الذل، والهوان، والضياع، والتنازع، والاختلاف، والتفرُّق، والإحساس بالديمومة -التي لا تنزع عنها- من خشية، تلبس قُمُصها، وتترسل بها، بل وتتخذها زينة لها، لا تُحسنُ إلقاء شيءٍ منها إلاَّ أن تتضرّع إلى صانعي تلك الأغلال تضرّعها إلى خالقها، بل وأشدُّ تضرعاً!! فيكون منَّا -عياذاً بالله تعالى- مضاهاةٌ لمن قال الله فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله} [سورة البقرة: آية 156]، ونسيت الأمة شطر الآية الآخر: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لله} فكان أن تسلّط عليها الأعداء من كلِّ جانب، وأوفروا لها في أنفسهم وفي أيديهم من أسباب الانتقاص لأرضهم، والاستعباد لقلوبهم وعقولهم، والاستيلاء على أموالهم وثرواتهم، ما لا يُحصى ولا يُعد، وما لا قِبلَ لها بترجمته إلا بحروف وكلمات أعجمية، فيها شوائب الرّطانَةِ وأمشاج الاستغراب، وأخلاط الاستشراق، فلا تهمس -إن همست- إلا بها، ولا تحرِّك لساناً، -إن حرَّكته- إلا بإرادةٍ مُلْجَمةٍ بِلجامٍ من غير مسَدِ أرضها.(2/125)
ولا يَحْسُنُ أن يغيب عن مسلم عاقل -مثقفاً كان أم غَيرَ مثقّف- أنَّ لهؤلاء الصُّنَّاع المهرة من أعداء الأمَّة أولياء بَرَرة يُصدِّقونهم، ويُخلصون لهم في سرٍّ وعلانيةٍ، ولا يبخلون عليهم بشيء يُطلبُ منهم، ولو على حساب كرامتهم، ومروءتهم، بل وعلى حساب دينهم وعقيدتهم، فهم يهرعون إليهم مسرعين في كلِّ وقتٍ، وفي أيِّ مكان، يحنون لهم قاماتهم المديدة، يبذلون لهم الطاعة في صدقٍ وإخلاصٍ وحبٍّ، لا يعرف إلاَّ الوفاء!! والإخلاص الذي لا يُرى معه إلا التَّقصير في الأداء!! وهؤلاء كثرٌ في الأمَّة اليوم، يزيدون ولا ينقصون.
وهذا ممَّا يؤكده قوله صلى الله عليه وسلم:
"يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كلِّ أفق كما تداعى الأكلَة على قصعتها، قيل: يا رسول الله! فمن قلّةٍ يومئذٍ؟! قال: لا، ولكنّكم غُثاء كغثاء السَّيل، يُجعل الوهن في قلوبكم، وينزع الرُّعب من قلوب عدوكم، لحبِّكم الدُّنيا وكراهيتكم الموت"(68).
حديثٌ يصوِّر واقع الأمَّة، بكلِّ ما أجلبت على نفسها من أسباب الخذلان والتنازع والفرقة، وذلك بإقبالها على الدُّنيا الفانية، وزخرفها الفاتن، ومتاعها الآسن، أغرقت به نفسها في لجّة التِّيه الآبدة، وذهبت فيها مع شهواتها كلَّ مذهب، وأوغلت في بيداء مربعة الإذلال والاضمحلال، والشتات، وأوفت على غايةٍ من اليأس، نفضَ الشيطان عندها يديه من قدراته الماكرة التي أذلّ بها الخلائق بمعاصيهم، وأرغم آنافهم لوحيه الشَّرِه بالذُّنوب، والآثام، وطفق من بعدها يغريهم ساخراً بالعودة إلى الطَّاعة، ولكن أنَّى!! وقد صارت فيهم الذنوب والآثام والمعاصي إلى حالٍ؛ لا تنزع عنهم إلا بفطرةٍ أخرى جديدة يبدلها الله بها، تُحوِّلهم من هذه الحال التي صاروا إليها إلى الحال التي كانوا عليها من قبل!!(69)(2/126)
ولما أن فرغ الشيطان من أمرهم وقف يناديهم: هلمّوا إليّ يا أهل طاعتي! ويا خاصّة أوليائي! ويا قرّة عيني!! لقد وعدكم الله وعد الحقِّ وأمركم بطاعته فأبيتموها، ونهاكم عن معصيته فأتيتموها، فكان منكم أن أخلفتم موعد ربكم، وصدَّقتم موعدي، فما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيَّ، فعليكم بأنفسكم، فلا أنا منكم ولا أنتم مني، ولا مردّ إلى ربكم منكم من سبيل، فقد صارت أزمَّةُ قلوبكم بيد الشَّهوات، ومقاودُ عقولكم بيد الأهواء، واستحوذ على نفوسكم حبُّ الدُّنيا، وأذلّكم أطماعها، وقد حذّركم من ذلك كلّه نبيُّكم، فما أطعمتوه، وأقامكم على المحجَّة فما أجبتموه، وها أنا ذا أُدْبِرُ عنكم بعد أن أصارتكم الأهواء والشَّهوات، والأطماع إليَّ {إِنِّي بَرِيءٌ مِّنْكُمْ إِنَّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنَّي أَخَافُ الله وَالله شَدِيدُ الْعِقَابِ} [سورة الأنفال: آية 48].
وما ابتُليَ المسلمون في زمانٍ بمثل ابتلائهم بغلبة شهوة المال والنساء عليهم، وما حذّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من شيء، بأكثر ممَّا حذّرهم من المال وسطوته، والمرأة ومكرها.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "الدُّنيا حلوة خضرة، وإنَّ الله مستخلفكم فيها فناظرٌ ماذا تعملون، فاتَّقوا الدُّنيا واتَّقوا النساء؛ فإنَّ أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء"(70).
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "ما تركتُ بعدي فتنةً أضرّ على الرِّجال من النساء"(71).
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تُبسط الدُّنيا عليكم كما بُسِطَت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافَسوها فتهلككم كما أهلكتهم"(72).
ولست أحسب أنَّه يغيب عن المسلمين أن كل ما حذّرهم منه نبيُّهم صلى الله عليه وسلم مما سيكون فيهم من بعده، إلاَّ وقد كان فيهم كما أخبر وحذَّر، وما يكاد ينجو منه إلا من رحم ربُّنا، وقليل ما هم.(2/127)
فماذا يا ترى ينتظر المسلمون أن يأتيهم به الله سبحانه؟! هل ينتظرون بغضاء تَنبُت بين ظهرانيهم، وحسداً يطارد جمعهم، وذلاً يُطيح بهم، وفرقةً تضرب بِجِرانها فيهم، وسخائمَ سوداء تدبُّ بأرجلها بينهم، وجحافل من المنكر تسوقهم من أمامها، وأغلالاً من الآثام والمعاصي تُثقِل رقابهم ونواصيهم.
إن كانوا ينتظرون غير ذلك فإنَّ الغفلة تكون قد بلغت منهم مبلغاً، صاروا معها يرون القبيح هو الحسن، والشرّ هو الخير، واللَّيل هو النّهار، والسَّماء هي الأرض، والكلبَ هو الأسد، والحمارَ هو الحصان، والعَمى هو الإبصار، والمنكرَ هو المعروف، والمثلومَ هو السّليم، والمنقوصَ هو التّامَّ، والدَّنيّ هو الرَّفيع، ويكون قد صدق فيهم ذلك الأثر: "كيف أنتم إذا رأيتم المعروف منكراً، والمنكر معروفاً؟! كيف أنتم إذا أمرتم بالمنكر ونيهتم عن المعروف؟!".
إنَّ الأمَّة التي تصير إلى مثل هذه الحال، يكون عسيراً عليها أن تنجوَ منه، وتنفضَ عن نفسها آثاره، وتنخلع من آثامه، وذلك يكلِّفها جهدٌ جهيد، وزمنٌ مديد، وعلى الأمَّة كلها، أن تنهض متنادية متداعيةً إليه حتى تمسك بحبل النَّجاة، وتظفر بخيط الرّجاء!! لكنْ أيّة أمَّة هذه؟
إنَّ الأمَّة كلّها تقف اليوم شاخصةً أبصارُها، مهطعةً أمام أعدائها، تمشي على الشَّوك وتظنُّ أنها تمشي على العشب النّاعم الأخضر!! ويملأ صدورها نتنُ الحضارة الحديثة والمدنيّة المجلوبة، وتخال أنها تستبق أريج الرَّبيع!! وتختال في كبرياء الذُّل السَّاحق، وتحسب أنها قد لامست برؤوسها أديم السَّحاب!! لو لم تفقه من الواقع إلاَّ هذا، لكفانا فقهاً لواقعنا!!
يا الله! ما أوسع حلمك!
يا الله! ما أجلَّ عفوك!!
يا إلهنا! ما أعظم فضلك!!!
أمَّةٌ عبثت بعقلها في شريعتك.
وأوغلت بجوارحها في معصيتك.
ودبّت بأهوائها في أكناف دينك.
وحلمك قد وسع العاصي منها قبل الطائع.
وعفوك قد أظلَّ المسيء قبل المحسن.
وفضلك قد أدرك المعرض قبل المقبل.(2/128)
فأيُّ حلمٍ إله حِلمُك؟
وأيُّ عفوٍ ربّي عفوك؟
وأيُّ فضلٍ إلهي فضلك؟!
لو لم يكن من حِلمِكَ إلاَّ أن أبقيت فينا العافية.
لو لم يكن من عفوك إلاَّ أن أبقيت فينا الأمن.
لو لم يكن من فضلك إلاَّ أن أبقيت فينا الرِّيَّ والشِّبَع.
يا الله! ليس لنا ملجأٌ منك إلا إليك.
ولا منجى منك إلاَّ بك.
ولا ملاذ منك إلاَّ فيك.
يا ربَّنا!
لا تخذل العائذين بعفوك.
ولا تُحزن الطامعين بجنّتك.
يا سيدنا!
لا تُيئس الهاربين من عدلك إلى فضلك.
ولا تمنع العافين عن فيض خير يدك.
ولا تفضح العاصين بذنوبهم على مشهد من خلقك.
ثم إنَّه لا يَحسُنُ بمسلمٍ عاقلٍ -مثقّفاً كان أم غير مثقّف- أن يرى سواد الأمَّة -بملايينها الكاثرة- تقبل على الجهل المضحك المبكي في آنٍ معاً، إقبال المطر المهراق على الأرض الجُرُزِ - حتى إنهم لا يحسنون من صلاتهم إلا حفظ أعدادها إن حفظوها، ويجهلون أقرب مسائل عقيدتهم وأيسرها- ثمَّ هو يرى أنَّ الفقه بفقه الواقع على نحو ما هو من ضحالةٍ ألزم وأوجب!
ولنا في بعض الجماعات الإسلامية المعروفة ما يكفي من التحذير من مغبّة الجهل الذي أركض نشاطهم وجهدهم في مسائل إيمانية عامّة لا تقيم طائفة منهم على حقٍّ ولا تزحزحها عن باطلٍ، لا بسوء نية وإصرارٍ على منكر هم ظانون أنهم فاعلوه، بل بعجزٍ كفاهم وأقعدهم عن البحث في نصوص الوحي، وحفظها، وتعلُّمها، ليكون منه وقوفٌ على حقيقة التصفية والتنقية للعقيدة، والتَّعلم والتربية على منهج الوحي في الأحكام الشَّرعية، وتكون النتيجة أو الثَّمرة اتِّساع رقعة الضّياع والتّيه على أرض واقع الأمَّة، وهل يُرجى في أُمتنا ومنها الخير إن هي شغلت نفسها بفقه الواقع، الذي صارت كلّياته وثوابته معلومة حتى عند الصِّغار، وآثرته على فقه الماضي، الذي إن شغلَت به وقَفَها لا على فقه الواقع فحسب، بل وعلى فقه المستقبل القريب والبعيد!! فإنَّ المؤمن يعرف بحدسه الإيماني، ما لا يعرفه كبارُ فقه الواقع!!(2/129)
إنَّ الأرض على رحبها، صارت صغيرةً جداً، زويت أطرافها وجمعت، وضُمّت جهاتها وتدانت، حتى صار لا يخفى من أمرها شيءٌ، وأخرجت للناس أخبارها، وأظهرت لهم خبءَ أسرارها، فتساوى جميعهم في ذلك، ولم يَعُدْ واحد منهم يَفضُلُ لآخر إلاَّ بما يكون فيه من رغبةٍ في الإقبال، أو في الإدبار.
إنَّ غِربان ثقافات السّراب الشَّاسع في غرب وشرق وشمال وجنوب ينقلون إلينا -نحن في مهود النُّبوات- نعيباً علا وعلا، حتى ملأ أسماعنا، وأثقل صدورنا، وأجهد عقولنا، إذ تشاكلت عندنا الأشياء المتباينة، وتنافرت الأشياء المتشابهة، ونُفجَ المكددون بالاتباع المهين بما ألقي إليهم في أيديهم، فكان منهم الوحيُ لبني جلدتهم، المتحدِّثين بلسانهم، الشّاربين معهم كأس عذاب واحد!! بكلِّ ضواري الفكر التي أفسدت عقول العباد وتُراب البلاد!!
فإلى متى؟ إلى متى؟
أكاد أقول أخيراً: إنَّ فقهَ فقهِ الواقع، أن تدَعَ فقهَ الواقع، ليستحكم عندك فقه الواقع، فتكون من أعلم الناس، وأفقههم بفقه الواقع!!
وعلينا أن نستذكر دائماً تلك القاعدة النَّبوية التي أرساها رسول الله صلى الله عليه وسلم -وقد رأى عُمر بن الخطّاب ينظر في التوراة- بقوله: "أمتهوِّكون فيها يا ابن الخطّاب، لو كان موسى حيّاً ما وسعه إلا اتِّباعي"(73)، فإنه قاعدة عظيمة في هذا الأمر الذي غرقَ فيه متيّمون، وجَهِد فيه مُرمِلون، وأوفى على مسبغته جياعٌ عانون، فلجّوا في ضحالة فكرهم وتصورّهم يعمهون، وباتوا وأصبحوا على مثل شوك السَّعدان فهم لا يُغمصون.(2/130)
ولو أنهم ظنّوا في أنفسهم ظنَّ الحَسن لنظروا في مستقبل الأمَّة بعين البصيرة، التي شامت حقائق العلم، ومباني الإيمان، وهداية الرّحمن، فأصبحت -وهمُّها الآخرة في اختلاط الأحوال، وتراكض الأهوال، وانتفاج الأموال- تكاد بها أن تكشف عن مكنون الأمور المودَعَةِ في خاصِّ علم الله سبحانه، بل ربّما وُهِبَ هذا المرء أو ذاكَ ملكةً مدركةً، يعرف بها بالتَّفرُّس -وفْقَ النّواميس والسُّنن الإلهية التي أقامها الله سبحانه- دلائل لا يخطئها حتى النظر العقلي المحض، فكيف إن اجتمع إلى هذا النظر العقلي، الفقه البصير بطبيعة تلك النواميس والسُّنن؟ ثم ما يكون من حرص صاحب هذا الفقه على وزن الأحداث الجارية في آفاق الحياة الإنسانية وواقعها وفق هذه النواميس والسُّنن؟
وأحسب أنَّ هذا كلّه من فقه قوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ لله تعالى عباداً يعرفون الناس بالتّوسم"(74) فليهنأ أولئك الذين وهبهم الله بعلمهم، وتقواهم بصيرةً، فإذا المستقبل أمامهم صورةٌ واضحةٌ باطنُها كظاهرها، وأعلاها كأسفلها، ووجهُها مثل قفاها، وذلك أن من كانت له بصيرة بحقائق العلم، ومباني الإيمان، وهداية الرحمن، كانت له بها ملكةٌ يكاد يقرأُ بها في قلوب الناس بالنّظر في وجوههم، ويعرف ما في صدورهم بالتأمل في جباههم، ويرى ما يجول في خواطرهم في حركاتهم وسكناتهم.
والنَّاس هم الذين يصنعون الأحداث بإرادة الله وقدَره، وتجري في الأرض وفيهم بسنن الله ونواميسه التي لا تقبل التَّغير ولا التَّحول، فإذا ما أنزل صاحب هذه المَلكةِ فكرته المقدّرة على الأحداث الجارية أصاب -وفي وقت يسير- دقّة الصَّواب المحكم بما سيكون، وفق تقدير هذه المَلَكة، بوصلها بالسُّنن والنَّواميس الإلهية الثابتة.(2/131)
والنظر الدَّقيق في النصوص الثابتة الهادية من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، للتحاكم إليها، في الحلال، والحرام، والنّظر، والاستنباط والحكم الدقيق، والواقع الحاضر، والمستقبل الناظر.
ويكفي المسلم العاقل في زماننا هذا أن يفقه من واقعه أمرين اثنين فقهاً يكون من وراء البصيرة الفطرية لا ليدرك بها الواقع، بل ليرى بها المستقبل بكلِّ أحداثه وأحواله:
الأوَّل: أنَّ مصائر الأمَّة ومقاليدها صارت إلى أيدي أعدائها، وأنَّها لذلك لا تملك لنفسها معهم نفعاً ولا ضراً، وأنَّ كلّ ما يصدر عنهم لا يحمل عنهم خيراً قليلاً ولا كثيراً لها، لا لحاضرها ولا لمستقبلها، وأنّهم يعملون جاهدين على طمس ماضيها الذي أشرقت به الأرض بنورها، وما أمر كتائب الاستشراق والتبشير التي تتابعت على أرض الأُمَّة، بمؤسساتها، ومدارسها، وجامعاتها، ودهاقنتها بغائبٍ عنا، ولا الحملات العسكرية في القريب والبعيد التي دمّرت مدنيّة الأمَّة وحضارتها، واستلبتها إرادتها، وأحكمت قيد الذلّ والاستعباد المهين حول عنقها، وأشفت بها على جروف الموت، والبوار، والهوان، بخافٍ علينا.
الثاني: أنَّ الأخبار النَّبويَّة -التي ملأت الأسفار، وحفظها العلماء الأحبار، وانجلت بمعانيها وفحوى صدقها انجلاء الإسفار؛ حملت لنا عن الوحي ما لو علم بعضه أُولئِك الدّاعون المتيَّمون، لعلموا أنَّ شيئاً مما كان لهذه الأمة أو سيكون، مسطورٌ فوق أرضها، مقروءٌ فوق جبينها، مسموعٌ من فوق آفاقها، وإنَّ هذه الأحداث موثوقة إلى القوانين والسُّنن الإلهية، وما عليها إلاَّ أن تستبصر هذه القوانين والسُّنن الإلهية، لتخبرها بكلِّ الأحداث الجارية، أو التي ستجري في المستقبل أيضاً.(2/132)
ولستُ أعجب في هذه الدُّنيا إلاَّ من أولئك المسلمين الذين ملّكهم الله سبحانه مفاتيح المعرفة، بكلِّ ألوانها وأشكالها وأسبابها، ثمّ تراهُم يُدهشون أمام نظريّات الأمم والشُّعوب الأخرى، أحدثوها في حياتهم، بتجارب عمليّة، أو بنظريات عقلية، أو بتقديرات ظنّية، وبَنوها على واقع زمانيٍّ أو مكانيٍّ محدود، لا يتعدّى -على أوسع دائرةٍ تقديريةٍ- ملايين معدودة من البشر، وربّما كانت أخلاطاً متنافرةً بأصولها المختلفة في ألسنتها، وعاداتها، وألوانها، حتى في عقائدها، فإن تبني نظريّات على حدس، أو تجربة محدودة، لا تتجاوز رقعةً مكانيةً، أو دائرة زمانيّةً، فهذا لا يصلح أولاً قياساً، يستجلب به أممٌ أو شعوبٌ أو جماعاتٌ إنسانيةٌ غير تلك التي بنيت أو أُسست عليها هذه النظريات العقليّة -إن كان يصلح-، وإن كان صلاحٌ، فإنما هو لفترة زمنية محدودة ضيِّقة.
ولا يخفى أنَّ بشريَّة الإنسان تنتهي -على أبعد مدى- عند حدود المقدور عليه عقلاً لدى الإنسان، وعقل الإنسان مخلوق فيه من ضعف ما فيه هو، والضّعف لا يشتدُّ حين يشتدُّ إلاَّ ليأخذ طوراً جديداً في الضعف تقتضيه مراحل عمر الإنسان نفسه، وهذا ما يثبته القرآن العظيم وبصورة منذ الخلق الأول للإنسان في إيجازٍ بليغٍ {الله الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} [سورة الروم: آية 54].
أضف إلى هذا الوصف اللازم الذي لا ينفك عن الإنسان -بوصفه إنساناً- ما يعتريه من شذوذات الفكر العارض، ومن الحاجات التي يُنشئها ضغط الانحرافات، ومن التصورات النفسية الحالمة، التي تلزم الإنسان إلزاماً بأعمال حسيَّة وتقديرية توافق هذه التصورات وفق ما تفرزه الرغبات البشرية.(2/133)
وكلّ شذوذات الفكر، وحالات الانحراف، وتصورات النفس هذه، هي من صنع المدنية الصناعية الحديثة، صنعتها بلا ضوابط ولا حواجز، وحتى لو كانت ضوابط وحواجز، فهي من صياغة بشرية الإنسان، ما كانت هي في ذاتها صالحةً للحدّ من آثارها، وكلُّ آثارها فاسد لا يصلح.
ولو كان الإنسان يقصد إلى تدمير نفسه وعلمه وحضارته التي شادها بعرقه وجهده، ما زاد على ذلك لو كان قد فكّر في أن يدع للفكر الديني الموضوع من علم البشر أن يكون له دور -على ما فيه من أخطاء الوضع- ليعمل على الحد من تلك الآثار الفاسدة الناشئة من تلك الشذوذات.
ولقد ناءت البشرية - مذ سلخت نفسها عن العقيدة السليمة والدِّين النقي- بأحمالٍ من الهموم والأوجاع والآلام النفسية والجسدية المبرِّحة، وستظلّ على مثل ذلك، إلى أن تفكر في عزل نفسها عن تلك الشذوذات، ولن تجد نفسها في عزلةٍ عنها إلاَّ إن فكّرت وقدّرت في الحواجز والضوابط التي وضعها الله بوحيه للناس، وهي منه بتقديره وكلامه وإرادته، فهم مخاطبون بها، لأنَّ الله سبحانه أرادها، وأحكم تقديرها، وليس في وسع البشر أن يأتوا بمثلها، وكيف لهم ذلك وهم بشر أودع الله فيهم فطرة جِبِلّيَّة، ليكونوا بها قادرين على قَبول هذه الحواجز والضَّوابط التي خلقها ووضعها لهم؟
وتظلُّ الفطرة قادرة على قبولها ما دامت قاصيةً عن التأثيرات المصنوعة في غياب مقتضى العقيدة السليمة أمراً ونهياً، فعلاً وتركاً، إيجاباً وسلباً.
لذا؛ فإنّه لا يحسن بنا أن نغلق عيوننا، ونصمّ آذاننا عن رؤية تلك الصورة الماثلة أمام عقولنا وسماعها، بكلِّ حركاتها وسكناتها، رسمتها يد الزّمن على رقعة الحياة البشريّة حين أعرض الإنسان ونأى بجانبه عن مقتضى الفطرة التي فطر الله الخلق عليها، بما صاغته يد المدنيّة الحديثة.(2/134)
هذه الصور الشائهة للإنسان جسداً، وروحاً، وعقلاً، وفكراً، وحتى إنسانيَّته شاهت، وكيف لا تكون إنسانيته شائهة وقد أزمعت صَرْماً للدين، والعقيدة، وباءت بخُسرٍ لا ينفكُّ، وأضحت رهينة قيود المدنية الحديثة المصنوعة على عيون الشذوذات، فهل يحتاج المرء المسلم لاستبيان هذه الصورة الشائهة -وهي على مثل هذا الظهور الجلي- إلى البحث عن نظرية يحدسُ بها ظاهراً وباطناً، وظاهرها ينبىءُ عن باطنها، وباطنها أسوأُ وشرٌّ من ظاهرها؟! ولست إخالها، بخافيةٍ على أحدٍ يتحرّك فوق الأرض، ولو في مستقرٍّ صغيرٍ جداً، فكيف مستقرُّها الأرض جميعاً؟!
والناس بكلِّ رغائبهم وأهوائهم وغرائزهم يتحرّكون فيها، وليس أحدٌ منهم يدري أنّه بقادرٍ على أن يتجاوز هذه الصورة، ومستقرها الأرض كلُّها -بأشواق تضمّه إلى صدرها- تصعد به في طريق السماء، ليقبسَ شيئاً من طُهر مُزنها، يغسلُ به أدراناً لس في وسعه أن يزيلها عن نفسه إلا بذلك المزن الطّاهر.
بيْدَ أنَّ الداعية المسلم ليس يكفيه من العلم ما يمكنه من الاستبصار بهذه الصورة، ومعرفة الباطن منها قبل الظّاهر، بشيءٍ يسير من النظر المتأمِّل ولو أبطأ، إذ غيره يمكنه ذلك، على أنّه ليس بالدّاعية، ولا الدّعوة منه.
إذاً؛ فيجب أن يكون الداعية المسلم على معرفة دقيقةٍ يُلمُّ بها بكلِّ ما يدور فوق الأرض، مستقرّ هذه الصورة.
والداعية المسلم الذي اختاره الله بإرادته الحافظة ليحمل عبء الدعوة بالعلم والحكمة، والمصابرة، والمثابرة، والخوف، والرجاء، ليس في حاجة إلى الاستزادة من المعرفة، بعيداً عن دائرة الوحي، ففي كتاب الله وسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم الغناء كلُّ الغناء عن كلِّ ما سواهما من المعرفة وأسبابها.(2/135)
وحسْبُ الدّاعية المسلم أن يُبصر بالأخبار الغيبية، التي نطق بها الكتاب الكريم، والسُّنَّة النبويَّة الصحيحةن فكانت كما أخبر بها، لم يتخلف منها واحد، أجمعت على تصديق المُخْبِر بها عن ربه صلوات الله وسلامه عليه، وكانت بوقوعها على ما أخبر بها، كما وصفها الله سبحانه في قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة الأنعام: آية 115].
والبصير العارف بمعاني كتاب الله سبحانه يعرف تأويله بوقوع هذه الأخبار كما أخبر بها صلى الله عليه وسلم، فليس هو في حاجةٍ إلى تلمُّس معانيها في بطون كتب التفسير وأجواف قواميس اللغة، فما عليه إلا أن يقرأ هذه الأخبار مسطورةً في كتب السُّنن والصَّحاح، والمسانيد، فإذا هو قائمٌ أمام حقائق التنزيل المحكمة، يرى تأويلها في الكون والإنسان والحياة، فلا يندُّ عنه منها واحدٌ، وإذا الواقع -بكونه وإنسانه وحياته- مجموعٌ إلى هذا الداعية المسلم، يتخير منه ما يشاء، ليزداد إيماناً مع إيمانه أنَّ الله سبحانه جعل للدعاة إليه على معرفة وبصيرة، فضلاً على سائر النَّاس بما وهبهم إياه من معرفة بحقائق التنزيل، على وفق التأويل الواقع المشهود، في الإنسان والحياة والكون، يكون بها قادراً بأدنى نظرٍ على إدراك التطابق الكامل، بين الخبر المنبىء عن الأمر الواقع الذي يحيط به الداعية المسلم علماً بكلِّ ما في الواقع الحياتي من العلوم الإنسانية؛ النظرية والعلمية، التي ولَّدها العقل الإنساني فأصاب بها الإنسان خيراً وشراً، على الرَّغم أنها منه.
وليس أمر هذه العلوم بخافٍ عن الإنسان، سواءٌ الذي عاش هذه العلوم من بداياتها، أم الذي شهد قمّة ازدهارها، أم الذي تجرّع أوصاب بلائها، أم الذي سيولد وليس يدرك إلا نهايات فسادها.(2/136)
وحين يتجرّد الداعية المسلم -بصدق ولائه للدعوة، وبإخلاص نيّته للعمل لها، وشفقته الرّحيمة على من يدعوهم إلى ربِّه- يزداد معرفةً وفقهاً بالواقع، ويشتدُّ حرصه على معرفة الأخبار والآثار التي نزل بها الوحي الأمين على قلب الرّسول صلى الله عليه وسلم، فيكون فقهه بالواقع بقدر ما ينتهي إليه علمه من تلك الآثار والأخبار.
وحتى لا يطول بنا المسير في الحديث عن فقه الواقع حديثاً نظرياً بحتاً، فإنّه يحسن بنا أن نسوق بعضاً من تلك الأخبار التي بمثلها نكون أفقه البشر وأعلمهم بالواقع، لا بواقع بلدٍ، أو قطرٍ، أو شعبٍ، بل بواقع العالم كله، ما يراه الداعية المسلم، ويقف على أحواله، من قُربٍ أو من بعدٍ، وما لا يراه؛ يعرف من أحواله شيئاً فهما سيّان، ليس ذلك لأنه أوتي حظاً من العلم الكشفي، الذي تنحسر به أستار الغيب ليعرف ما وراءها، فذا شيءٌ يعرف المسلم -بداهةً- أنَّه ليس في حوله ولا من طَوله، بل لأنه الأخبار والآثار التي قصّ بها علينا نبيُّنا صلى الله عليه وسلم ما يكون في واقع الحياة الإنسانية، صدّقها هذا الواقع تصديقاً ينفي الرّيب والشكوك، ويحمل الإنسان العاقل على أن يُقبل لا على التسليم بما جاءنا من أخبار الغيب، تقصُّ علينا واقع حياة الإنسان في مستقبله، بل ليُسلِّم بكلِّ الخطابات الإلهية التي خاطب الله سبحانه بها عباده؛ ليكون العملُ بها السبيل الواصلتهم إلى سعادتهم في الدُّنيا، وإلى رضوانه في الآخرة.
وأسوق بعضاً من الأخبار النبوية، التي حدّث الرسول صلى الله عليه وسلم أمته عمّا سيكون في حياتها من أحوال، تتعاقب فيها تعاقب الليل والنهار، وتتابع على أرضها تتابع القرون والأعوام، آخذاً بعضها برقاب بعض، كلما حلَّ منها واحدٌ وارتحل، تبعه الآخر بما ينبىء عمّا بعده، تمتدُّ علىطولِ القرون حتى تقوم الساعة، في انتظام بديع، منها المؤتلف ومنها المختلف:(2/137)
منها: قوله صلى الله عليه وسلم جواباً على سؤال جبريل عن الساعة: "سأحدِّثك عن أشراطها: إذا ولدت الأمةُ ربَّها (أي سيدها) فذاك من أشراطها، وإذا كانت العراة الحفاة رؤوس الناس (أي ملوك الأرض وسادتهم) فذاك من أشراطها، وإذا تطاول رعاءُ البُهم في البنيان فذاك من أشراطها"(75).
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي أخذ القرون قبلها، شبراً بشبر، وذراعاً بذراعن قيل: يا رسول الله! كفارس والروم؟ قال: ومَن الناس إلا أولئك؟"(76).
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد"(77).
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزّمان، فتكون السَّنة كالشهر، والشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كالضّرمة بالنار"(78).
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى يبعث دجّالون كذّابون قريباً من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله"(79).
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة، قيل: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أُسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة"(80).
وهناك الكثير الكثير من هذه الأخبار النَّبوية التي يتأولها الواقع، ويوافق صريح الوحي، نكتفي منها بهذا القدر الذي أوردناه، فالواحد منها يغني عن الجمِّ الغفير.
ولستُ أريد شرح هذه الأحاديث، وبيان ما اشتملت عليه من عِبر أنباء الغيب التي جاءت فيها؛ فإنَّ إجالة النّظر فيها سريعاً تقفنا على ما ينبغي للداعية الفقيه المسلم أن يعرفه من فقه واقع الحياة، لا يطلبه من غير طريق الوحي.(2/138)
وإذا ما فقه الدَّاعية المسلم الواقع الإنساني الحياتي في ضوء نصوص الوحي، عرف الخير خيراً، والشّر شراً؛ لأنه إخبار وحي صادق أمين، فلا يكون به الخير إلا خيراً، ولا الشرُّ إلا شراً، إذ معدن هذا غير معدن ذلك، والوحي إنما يخبر عن الأشياء بما جبلت عليه، وبما أودعها من خصائص، تعرف بالآثار الناشئة عن أفعالها، والغايات التي خلقها الله من أجلها، وحسب الداعية ذلك.
ولا أحسب شيئاً مما ذكرته هذه الأحاديث الآنفة الذكر إلا هو مشهودٌ معلومٌ لكلِّ من كان له قلبٌ، ولو ذهبت تتعرفها من غير إخبار الوحي عنها في بلاد الكفّار المشركين، لوجدتَ عندهم منها خُبْراً؛ علموها بإقبالٍ منها وإدبارٍ، فكانت حالهم قبل سنين أفضل بكثير منها الآن، ولو تركت أحدهم يحدِّثك بما في نفسه؛ لأفضى إليك بما هو في نفسك أو بشيء منه، لكنّه وهو يذكر ما انحسر من خير عنهم وزال، يذكره بتفجُّع وحزن، وأنت إنما تذكره مستعيذاً بالله مما هو أشدّ منه وأكبر، ذاكراً معه قول النَّبي صلى الله عليه وسلم: "ما من يوم يأتي إلا والذي بعده شرٌّ منه"(81) فتطيب نفسك، وتسلم الأمر لله، وتدعو الله أن تُلمّ بالناس فتنةٌ تكون أنت من بعض حصَادها.
وما هذا إلا لأنك ترى الواقع مطابقاً للأخبار التي جاءتنا عن المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ فكان فيها العزاء للأنفس، والتحذير من شرٍّ هو كائنٌ لا محالة، والترغيب في خيرٍ يُفعل يُتقى به الشرّ ويدفع.
من هنا نتبيّن: أنّ فقه الواقع، لا يتأتّى بتتبع أحوال الحياة البشرية في كلِّ أصقاع الأرض، وتقصِّي ما تُفرزه الحضارات الإنسانية القائمة على التجارب وحدها، أو الظُّنون والتخمين والحدس لما يكون، وبناءً على النظريات التي يُخطَّط بها للإنسان، فمثل هذه النظريات تزول أو يعتريها الخلل والفساد، ثمّ لا تعود صالحة للتخطيط، والعمل على وفقها.(2/139)
أما ما تحدِّثنا به الأخبار النبوية مما سيكون في حياة الإنسان؛ فإنها تنشيء حقائق ثابتةً مسلّمةً، تضع العقل الإنسان -أينما كان- أمامها، فلا يملك إلا التسليم المطلق لها.
فكيف إذاً بالداعية الذي لا يرتدُّ إليه طرفه عن أمرٍ من الأمر قضى به الوحي؟ أو عن حكمة ألَّم بها بأثرٍ من الأثر؟ أو عن حقيقةٍ من الحقائق اجتناها من كتاب أو سنّة؛ فأصاب بها علماً وحكمة؟ وهو في ذلك كلّه، لا يصدر إلا عن رغبة في الوقوف على ما كتبه الوحي، وصدّقته الأحداث الجارية.
أليس هذا الداعية أولى بالتسليم، وأن يكون فقهه بالواقع الحياتي الإنساني من هذه الأخبار، وبها، وفيها وحدها، فيكون أقدر على البلاغ؛ لأنه يصدر في علمه من معدن الوحي؟!
أحسب أنّه لا يملك إلا أن يجيب بنعم!!!
ولا ننسى أنّ وقوع هذه الأخبار على النّحو الذي جاءت به، لا يكون إلا وفق سنن الله ونواميسه التي وضعها في الكون والحياة، لذا فإنه لا بدّ من تخصيص بحث مستقل عن سنن الله وقوانينه.
(1) أعني السلفية الفطرية، غير المكتسِّبةِ بثدييها.
(2) ما أحسن كلمة قالها في هذا الكتاب، الأخ فتحي أبو عبدالله واضع القواعد الملحقة به: "ما عُرف كتابٌ بيَّن منهج السلف خير منه، فهو المحكم وغيره المتشابه" ولست إلا ناقلاً قوله، لا مريداً ثناءً، ولا جالباً فضلاً، ولا حريصاً على شيء من نفع.
(3) كاف: خبر لـ: ثلث في قولي: فثلث قرن.
(4) وأني لأكاد أقول: لقد أصبح مثل هذا الأمر عادة مستحبَّة عند سلفيتي زماننا، يدعون إليه ويتداعون، ويرتحلون من أجله ويجوبون ويقومون ويقعدون، ويسحجون ويصفِّرون، ويهيِّجون العواطف ويطربون.
(5) ثم طبعت مفردة بزيادات مرات عدة.
(6) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن العرباض بن سارية، وهو حديث صحيح.
(7) انظر نقض هذه المقولة في "مجموع فتاوى ابن تيمية رحمه الله" (11/366-377).
(8) تكسر الدال من (دلالة) وتفتح مع تضعيفها.(2/140)
(9) وأقول للمتكسِّبين المتسلقين الذين استسهلوا الأمر الصعب لأنفسهم - وقد وجدوا السبيل ميسَّرة لهذه الدعوة - حنانيكم، وأربعوا على أنفسكم، وأقصروا من تطاولكم وافترائكم وهَمْهَمَةِ المجالس الخفيَّة على من أنْعَمَ عليكم!!
(10) الأمة في قولي: بين يدي الأمة، بضم الهمزة، تعني: الجماعة، وأمَّةٌ في قولي: عن خير أمة بفتح الهمزة، تعني: الملة، وأما الثالثة: بضم الهمزة فتعني: الزمان.
(11) وأحبُّ أن أذكر، أنه ما كان لأحدٍ عند الله سبحانه من فضل عليَّ بالاهتداء إلى هذا المنهاج ولكأنما وُجِّه قلبي إليه أيام الطلب في الأزهر الشريف، بما فُطرتُ عليه، والحمد لله.
(12) متفق عليه عن أبي هريرة.
(13) إشارة إلى الحديث المتفق عليه عن ابن مسعود رضي الله عنه: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم".
(14) انظر "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (4/357).
(15) سبق تخريجه.
(16) أخرجه ابن عبدالبر في "جامع بيان العلم وفضله" (2/97)، وانظر "مشكاة المصابيح" (1/68) والتعليق عليه، وما كانت هذه الشهادة من المتأخرين للسابقين، إلا لأن الذين سبقوا، ظلَّ ما قدَّموه من العلم للمتأخرين كاملاً غير منقوص، فحفظ بموتهم لمن بعدهم.
(17) سبق تخريجه.
(18) وهو تتمة السابق نفسه.
(19) لم يكن شيءٌ بما يسمَّى بالعقيدة والأُصول والأحكام والفروع معروفاً عند أهل الصدر الأول، فكلُّ أولئك وغيره كان هو الدين، وليت الأمر بقي كذلك، لكان خيراً وأحسن قيلاً.
(20) رواه مسلم.
(21) متفق عليه.
(22) متفق عليه عن عائشة.
(23) تقدم.
(24) رواه مسلم.
(25) متفق عليه.
(26) وهذه المقولة كما أنها خطأٌ في نسبتها إلى الرسول × فهي خطأٌ في لغتها وإعرابها، ومن نسبها إلى الرسول × فقد أخطأ وأساء، انظر "الضعيفة" (320).(2/141)
(27) لقد نبتت في طوائفَ من السَّلفيين نابتة حاطبةٌ، فاضخة، واريةٌ، وهي من أسوأِ الشَّرِّ، وأشرِّ السُّوء، ولم تعرف حتى في أُصلاءِ أهلها من غبر منهم، ومن حضر أو احتضر "وهي نابتة الوضع" التي شغف بها بعضهم، إذ صاروا ينسبون إلى بعض أشياخهم الموتى أقوالاً ينصرون بها فسادَ أقوالهم التي يشيعونها، في أتباعهم فمن يسمونهم بطلاَّب العلم، والعلم منهم براءُ، ولو كان منهم وفاءٌ لأشياخهم لما نسبوا إليهم مثل هذه الأقوال، وبخاصَّةٍ منها تلك التي يحقِّرون بها كبار الدُّعاة =
(28) رواه مسلم.
(29) ذلك حقٌ لو أبقى السَّلفيون على هَيْبتهم واحترام الناس لهم، أما وقد صاروا إلى الحال السَّيئَة -التي هم عليها اليوم فلا ولن-، فقد أفَلَتْ أحلامهم، وولَّت أدبارها عنهم، وصار يحزنهم أن يكونوا علىكلمة واحدة سواءٍ، فخير لهم أن يقرءُوا قول الله {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم} وأن يستحيوا من -=الكلمات الفضفاضة، والشعارات الجوفاء من مثل: كتاب وسنَّة على فهم سلف الأُمة، فلا وربِّ الكعبة، ما كان مثل هذا عند سلف الأُمة، فليحزنوا كثيراً وليبكوا كثيراً، لعلَّ الله يتوب عليهم. ويعيدهم إلى الحق والصواب.(2/142)
(30) وليس يصلح أمر السَّلفيين بدعواهم: أنهم على منهج الكتاب والسُّنَّة وهم مقيمون على ما ينفي هذه الدعوى التي لا يصدِّقها الواقع، وليتهم يتراحمون فيما بينهم بعضهم مع بعض، أو ليتهم إذا كانت منهم دعوى على واحدٍ منهم أنه قد خرج عن (مذهب السَّلفيَّة بزعم) مدَّعيهم أنها مذهب يعرفون له حقه بحق قول الله: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، نعم هي مذهب بل هي مذهب الحق، لكنها لا تصلح إلا لأهلها، وقليل هم والله هم، يعرفون أنفسهم، بأدب الصالحين، وعلم الأخيار المتقين، وخلق العلماءِ الفالحين، والدعاة الفضلاء الذين يعرفون معنى وصيَّة لقمان لابنه كلِّها من أولها إلى آخرها...!!
(31) حديث متواتر، ألفاظه عدّة، وروايته متعددة.
(32) تلك أُمَّة قد خلت، وبقيت ثلَّةٌ، أرجو أن يحفظها الله بما أبقت تلك الأُمَّة الخالية من أثارة أدب وحسن خلق!!
(33) وأظهر ما يكون هذا الاختلاف بينهم في أصحاب الأقلام والكتب التي صارت فيهم مِهنَة حلابٍ من إبلٍ عجفاءَ مهزولة، أما الذين كتبوا لينشروا دعوة الحق في الأرض فقد أضحوا على شرف قلوب الناس.
(34) وقد تمعَّرت قلوبهم ووجوههم مِن قتار المال الذي أرخَص مودَّاتهم، ونفى عن صدورهم بَرْد الهدى، وسنا النور.
(35) رواه مسلم وأحمد عن أبي هريرة.
(36) كان هذا في قوم سلفوا، أما اليوم فقد صار المجتهدون كثيرين في السَّلفيين.(2/143)
(37) لكن هل يبقى السَّلفيون العاقبون الآتون من بعد القرون الأولى على المنهج نفسه، أم سيسفك بعضهم أعراض بعض، ويكيل التُّهَم بعضهم لبعض، ويتحاسدون في الدنيا وعليها من غير ورع ولا تقوى، وهم يدَّعون أنهم ينصرون الدَّعوة والمنهج وهم والله يستقدمون أهواءهم بذلك؟! ولم يعد عجيباً أن يُرى أو يُسمع، تسافك الأعراض، وتسافُح القلوب، بين هذا المُهبِّشِ وذاك المُحرِّشِ، من الصفوة الصَّفوة من السَّلفيين، في غير ورعٍ ولا أدب ولا رجاءٍ في عاقبة، ثم يقول أحدهم: إني أخاف الله وأنصرُ الحقَّ، يا سبحان الله، ما أضلَّها وأفسدها من دعوى!!
(38) وهذا شيءٌ كان يُكْثِر القول فيه، بعض من لم يعرف علم الشيخ ناصر رحمه الله.
(39) انظر كتاب "مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسُّنَّة" للسيوطي رحمه الله.
(40) متفق عليه.
(41) انظر هذه الأقوال وغيرها معها في "مقدمة صفة صلاة النبي ×" للشيخ العلاَّمة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله، وعُدْ من بعدها إلى الكتب التي أخذ منها.
(42) ليته لم يكن لهؤلاء ما كان، إذاً لظلَّ فيهم شيءٌ من الأدب. لكنهم، وقد أفضَوْا إلى كِبرٍ زائفٍ، فإنَّ خيراً لهم التَّواري.
(43) التكافؤُ بين التابع وبين المتبوع كان صفةً نبيلةً عاليةً من صفات من كان يُجِلُّ ابن تيمية رحمه الله، فلما زال هذا التكافؤُ، صار كثيرٌ من السَّلفيين -من جهلٍ فيهم، وخوفٍ ممن يعظِّم بعضهم- يرى المتبوع هو الحقيق بالتنزيه وحده، ويرمي المخالف له بالجهل في العلم، والركاكة في الدين والعقيدة.
(44) الشيخان عن أبي هريرة "وذو الخَلَصة صنم كانت قبيلة دَوْس تعبده في الجاهلية والمعنى: أنهم يرجعون إلى جاهليتهم الأولى في عبادة الأوثان، فترمل نساءُ دوس طائفات حوله. فترتجُّ أردافهن" مختصر من "جامع الأصول" (10/394).
(45) علقه مسلم في مقدمة صحيحه. ورواه أحمد وابن ماجه عن سمرة.(2/144)
(46) فجع العالم بوفاة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله يوم الخميس في السابع والعشرين من محرم عام 1420 هجري، ثم تبعه الشيخ ناصر رحمه الله عصر يوم السبت قبل الغروب في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة عام 1420 هجري، وكان فقدهما شديداً أليماً على قلوب المسلمين في أرجاء الأرض، رحمهما الله.
(47) اللهم إلا ما كان من الفتنة المشتعلة نيرانُها بينهم وهي فتنةٌ مصنوعةٌ على يد كبرائهم، وأقلام مقدَّميهم، والأدِلَّة ظاهرةٌ لا تحتاج إلى طولِ نظرٍ وبَحثٍ.
(48) رواه أحمد والطيالسي بسند صحيح.
(49) رواه الطبراني والقضاعي بسند حسن.
(50) رواه مسلم.
(51) ينظر التنبيه قبله، حتى ينتفي الخلطُ عن القارىء.
(52) وقد شطَّ النَّوى بهؤُلاء شطَّاً بعيداً، وكانوا على نقيض لفئة أخرى وقفت من هذه القضية موقفاً آخر، نفت به مع الأخرى الوسطيَّة التي انتهينا إليها والحمد لله، وهي الوسطية التي أراد الله سبحانه أن نكون عليها.
(53) قاعدة جليلة صحيحة مروية بألفاظٍ عدة وطرق كثيرة، لكن لا على الفهم التقليدي الذي لَلْجهل -والله- خير منه وأقوم قيلاً!
(54) وكان لا بد لي من إعادة النظر في مفهوم هذه القاعدة الجليلة، وقد شرحتها بإسهاب وتبصُّرٍ وردٍّ للأمر على أصوله اللغوية والعلمية الشرعية، فظهر لي أنه لا بدَّ من إظهار المعنى الجديد لهذه القاعدة، على نحو ما بينته في الطبعة الجديدة من كتابي "إرشاد الساري"، وذلك في الزيادة الهامَّة التي وضعتها في آخر الكتاب تحت عنوان: (كفر دون كفر)، وأرجو أن أكون قد أصبت الحقَّ إن شاء الله، فمن شاءَ فليرجع إلى صفحة (189-194) والله الهادي.
(55) متفق عليه وله ألفاظ أُخرى.
(56) انظر تخريجه في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1932).
(57) رواه ابن حبان عن أبي هريرة بسندٍ صحيح تاماً، والقطعة الأولى من الحديث في "صحيح مسلم".
(58) رواه أحمد وابن حبان عن جابر بسندٍ صحيحٍ.
(59) رواه مسلم.(2/145)
وأُحب أن أذكر أنَّ ما بَيَّنته في الطبعة الثامنة من "إرشاد الساري" لهذه الأحاديث وغيرها، بياناً حسناً والحمد لله، يذهب بالتعارض الذي يظن به أن الأمر فيها على إطلاقه كما يذهب البعض، أو أن الأمر فيها على غير وجهه كما يذهب البعض الآخر، وقد وفقت فيما أحسب إلى درء هذا التعارض إن شاءَ الله.
(60) رواه مسلم.
(61) متفق عليه عن ابن مسعود.
(62) ينظر في كتابي "إرشاد الساري" معنى: كفر دون كفر، فقد استوفيت هذه المسألة فيه استيفاءً، يأتي بالقناعة لمريد الحق إن شاء الله.
(63) سبق تخريجه، وينظر في كتابي "إرشاد الساري".
(64) في رسالته المفردة: حكم تارك الصلاة وهي مطبوعة سائرة. وقد ذهبت أنا إلى خلاف ما قاله الشيخ ناصر رحمه الله. ولست الوحيد في ذلك، بل سبقني إليه جمهور الصحابة رضي الله عنهم، وجمهور علماء الأمَّة من بعدهم، والشيخ ناصر رحمه الله هذا ما أدَّاه إليه اجتهاده، وإن خالفناه، فما عُجْنا عن حقٍّ لباطل ولا أرخصنا ديننا بهوىً، ولا بإغماض طرفٍ عن خلافٍ بحق، جُبناً، أو هرولةً إلى منافع دنيويةٍ عاجلةٍ، أو لصوقاً بمن لم يكن له من فضلٍ عليه إلا بدعوى كذبٍ ومباهاة، ولقد خالفت الشيخ ناصر رحمه الله في حياته في مسائل كثيرة، وما جرى بيننا مناظرة في واحدةٍ منها، ولا أنكر عليَّ يوماً أني خالفته فيها، ولا علمت أنَّه قال فِيَّ كلمة لا تحمل المدح والثناء، ولا يعرف عنه أنه يقول في واحدٍ كلاماً في وجهه، ويقول غيره في قفاه، خلق الأدعياءِ الكذبة. رحم الله الشيخ ناصر، فقد ارتحل عن الدنيا وما أبقيت له في عنقي حقاً كنت مستطيعه، ولست بقائل فيه إلا خيراً، ومِمَّا يفرحني حقاً أن ينْسُبَ بعضهم إلى الشيخ بعد أن صار تحت الثرى أنه قال فيَّ غير ما أعلم عنه أنه قاله عني في حياته -لأنه مما يفضح كذبهم =(2/146)
(65) وهذا الحديث لا بدَّ وأن ينظر فيه مقروناً بالأحاديث الأخرى الكثيرة التي لا يَعْرفُ اخلاص المذكورين فيها إلا الله سبحانه، فأمرهم إليه وحده، وبذلك يزول التعارض بين هذه الأحاديث، وهذا الحديث وغيره، مما يبدو فيها التعارض.
(66) قد أتيتُ على بيان هذه المسألة بوجوهٍ من الاستدلال جديدةٍ، لا أدعي أنيِّ لم أسبق إليها، لكنها والحمد لله جديدة،فلينظر في كتاب "إرشاد الساري" الطبعة = =الثامنة، وليس أجمل وأحسن من أن يكون المسلم وقافاً عند حدود الله يبينها بأدلتها، لذا فقد رأيت الرجوع عما كنت ذهبت إليه في أمر الإيمان والكفر، على ما قد ظهر لي على وجه لا يقبل العود عنه إن شاء الله، إذ العود إلى الحق أولى =
(67) سيأتي تخريجه.
(68) ينظر تخريجه مفصلاً في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (958).
(69) إن فقه الواقع، ليس بالفقه الغائب، إنه فقه منظور، يُبصر بالحس والشعور ويُعلم بالإرادة الواعية، وحين يكون الإنسان المسلم فقيهاً بأحكام الإسلام على مقتضى التوحيد الحق، فلسوف يكون مُلْهَماً مُوَفَّقاً في إدراك الأمور كلها في واقع الأمة.
(70) رواه الطبراني عن ابن عمر بسندٍ صحيح.
(71) متفق عليه عن أسامة.
(72) متفق عليه عن عمرو بن عوف.
(73) حديث حسن، له طرقٌ عدة، منها في "المسند" وغيره، وانظر "إرواء الغليل" (1585) للعلامة الألباني.
(74) حديث حسن، وهو مخرّج في "السلسلة الصحيحة" (1693).
(75) متفق عليه، واللفظ لمسلم.
(76) رواه البخاري.
(77) رواه أحمد والحاكم بسندٍ صحيح.
(78) رواه أحمد والترمذي بسندٍ صحيح.
(79) رواه مسلم.
(80) متفق عليه.
(81) رواه البخاري عن أنس.
??
??
??
??
22
21(2/147)
السلفية بين الدِّين السياسي وسياسة الدِّين
العمل السياسي سلوك اجتماعي عام، كل فرد في الأمَّة يضرب فيه بسهم، ويصيب منه قدراً يقل ويزيد، حسب قدرات الأفرادن وتفاوتها قوة وضعفاً.
ولست أعني بالعمل السياسي ذلك المعروف بنظرياته المختلفة، وأنظمته المتباينة، التي تشرد بعيداً عن الضوابط الشرعية، ولا ترى سلطاناً للعقيدة على فروعها وأصولها التي صاغها المنظرون والمشرعون، بقدراتهم العقلية البشرية المحدودة، سواء أأدركناها، وعرفناها -إما بالدراسة والنظر، والتلقي، وإما بالممارسة والعمل ضمن أطرها- أم طوتها يد النسيان، وغابت في خوافي القرون الغابرة، وضلت في ثنيات الزمن البعيد، وظلت أسماؤها لا تدل على حقيقة موسومة برسم أو معروفة بحد.
إذ هذا في حقيقة "دين السياسة" بنفاقها، وكذبها، وتزويرها.
بل أعني ذلك السلوك الذي تقيده العقيدة بمقتضاها ولوازمها وضوابطها الذاتية الدائرة في فلكها مذ كانت، وإلى أن تعود ميراثاً إلى ربها.
وهذا في أول أمره ونهايته "سياسة الدين" ورعايتها شؤون الأمة، وضبطها أوضاعها وشؤونها وأحوالها.
وإذ ذلك كذلك، فإن السلوك السياسي، والموثوق بمقتضى العقيدة، هو جزء من التصور الديني الشامل، وعمل سلوكي تحكمه الأحكام الشرعيةن ولا ينأى عنها بكله أو ببعضه إلا حين يكون انفصام بين العقيدة والسلوك، وبين الإنسان الذي ضل السبيل وذهب يتلمس بسلوكه سبيلاً غير سبيل الهدى، يحسب نسفه به أنه على الهدى، وليس هو على مثل ما يظن؛ ذلكم أن الظن يضع الظان بين أمرين مظنونين، لذا فإنه لا بد، وأن يكون الحكم في كل أمرٍ لله سبحانه وحده؛ لأنه المشرِّع الموحي بشرعه إلى المُبَلِّغ الصادق عنه وهو نبيه صلى الله عليه وسلم.
حينئذٍ -وبمثل هذا الحكم- يكون العبد المتلقي عن المبلغ الصادق صلى الله عليه وسلم قادراً على الحكم على كل أمرٍ يوافقه من الحكم الأتية من الله سبحانه، بدقة وصواب ووضوح.(3/1)
ومن هنا؛ فإن غياب الشريع الغراء عن الحيا أحدث اضطراباً شديداً، واختلافاً قوياً، أخرجا الإنسان المسلم عن التصور السليم، والتقدير الصواب أو القريب من الصواب، إلا ما كان من الطائفة، التي أذهب الله عن بصيرتها الغشاوة فقد أمسكت هذه الطائفة بميزان العدل الإلهي ووزنت الأمور والأشياء به، فأصابت الحق، ونفع الله بها العباد، بما أنعم عليها من حُسن تقدير العواقب والتبصر بالنهايات.
وليس من الكيس أن يدع الإنسان الحيس بليس، بل الكيس أن يأخذ الحيس بالكيس، وأن يدع ليس!!
ومن الكيس أن يعرف أين هو من الحيس؟ أبعيد منه أم قريب؟ فإن كان قريباً منه ذاقه أولاً؛ فإن وجده لذيذ الطعم، طيب المذاق -وهو واجد ذلك ولا بد- حرص على أن يأخذ منه شيئاً فشيئاً حتى لا يدع منه شيئاً، إما إن أقبل عليه بنهم ولم يسمع لقول من يقول له مرة: لا، ومرة: نعم، فإنه لا يبالي حينئذ أمع البشر يكون أم مع البهم.
ولقد أخلف كثير من المسلمين الظن الحسن حتى بأنفسهم حين تنادوا ممسين ومصبحين: أن أمسوا أو اغدوا على حرث السياسة إن كنتم صارمين، فانطلقوا إليه وهم يتخافتون، أن لا ينال منه أحد غيركم إن كنتم صارمين، وأدنوا إلى النار أقراصكم دون أقراص المسلمين أجمعين، ولا تدعوا لأحدٍ منهم كسرة يفيد منها إن كنتم عقلاء ناطقين.
ومُقتضى العقيدةِ يضع الإنسان المسلم في زماننا هذا -كما هو في أي زمان- أمام المنهج الذي لا يزيع بأهله -وما زاغ بهم من قبل- فما وافقه أخذ به، وما خالفه نأى بنفسه عنه، وما كان للأمَّة من وجودها الحق فوق الأرض إلا به.(3/2)
وحين يضع الإنسان المسلم هذا، يعلم علم اليقين أن الاقتراب من السلوك السياسي، أو الحوم من حوله هو كعمل الفراشة يستهويها الدوران حول النار، حتى إذا كلّت ملّت إلى النار فاحترقت، لماذا هذا؟ لأن السلوك السياسي أصبح خاضعاً لتفكير القوانين والأنظمة الإدارية والحياتية للإنسان، التي نسجتها يده لتصنع له سعادة وهمية، تنطلق به في آفاق الخيال الفسيحة، حتى إذا رأى الأمور بجلاء، على باطنها وظاهرها هبط مسرعاً إلى الأرض واقعاً، فإذا هو أمام ذاته الهزيلة المجهدة!
والسَّلفيَّة ما كانت يوماً خيالية التصور، ولا مثالية التفكير، فهي تنظر إلى الواقع بما فيه؛ فتحذر الشر وتبعد منه، وتستبشر بالخير وتسعى إليه، فإن أصابها أذى، أو أدركها نصب، فلا يزيدها ذلك إلا استمساكاً بالذي هو خير، وتعدُّ ما أصابها في ذاتها تجربة في ثوب ابتلاء.
ومن هنا أيضاً فإن التجربة التي تصيب أي عضو في جسد الأمَّة ابتلاء، وهو حق على كل فرد في الأمَّة لسائر الأمَّة -يجعلنا نقول: إن العمل السياسي الذي لا يخضع لمقتضى العقيدة، ولا يلتزم بالأحكام الشرعية، يجرِّىء الأوشاب التائهة على الاستكبار على الإسلام بسبب، في حين أننا قد نجد- من بعض من يقوم على رعاية الأمَّة بالسلوك السياسي الرافض لمقتضى العقيدة والأحكام الشرعية- من لا يعادي الإسلام، ولا يستكبر على شرائعه وأحكامه، فهم يرون بعين المصلحة السياسية أن عداوة الدين لا تفيدهم في سلوكهم السياسي؛ فلا أقل إذاً من أن لا يكونوا له أعداءً، يمنون أنفسهم يوماً أن يكونوا له أولياءً، ويعلمون من التاريخ أن العدل ولو من غير دين يمد في عمر الدول والممالك، وأن الظلم -ولو مع الدين- يعجل في عمر الدول والممالك، فالعاقل من لا يجمع بين هجر الدين في ملكه وبين الظلم في الرعية، والجاهل من يجمع بين هجر الدين وبين الظلم في الرعية.(3/3)
وحين يكون السلوك السياسي في بلد المسلمين محاكاة له في غير بلاده، لا يُكسب القائمين عليه قوة إلى قوة، ولا منعة إلى منعة -ولو خُيِّل إليهم ذلك- بما يمدون به من مالٍ وشوكة؛ بل إنه يكون من الظلم الذي يُشرع للرعية أن تظلم، فتكون عداوة ظاهرة أو مستترة بينها وبين الراعي، يزيدها ضراوة وحدَّة التربُّص الخفي الموثوق بحبال رقيقة لا تُرى إلا تحت مجاهر عيون الرصد التي لا تنام، في أقبية الأمن البعيدة.
وحين يلتقي العدل مع الدين على صعيد واحدٍ يصبح السلوك السياسي تحت ظلتها عملاً فاضلاً يرى عامله نفسه ساعياً إليه باختياره، راغباً في أخذه لنفسه بما يقوى عليه جهده وطاقتهن نافياً عنها المذمة التي كان يخشاها التقاة المحسنون من مخالطة السلوك السياسي قديماً.
وقد انحسر في زماننا هذا السلوك السياسي الإسلامي الذي كان مستظلاً بظله الدين والعدل في الحقب الماضية، نأى عن مجتمعات المسلمين بعيداً، موثراً الترقب والانتظار إلى أن تعود تلك الظلة إلى مجتمعات المسلمين مرة أخرى، ويأوي إليها المسلمون مرة أخرى، ويمسكوا بطرف حبل العزة التي كانت لهم يوماً من الدهر.(3/4)
ولما أن وفدت ظنون القوانين والأنظمة الكافرة إلى بلاد المسلمين، وغيب فيها المسلمون سلوكهم العام، وأرادها تلامذة الحضارات الخاوية الهابطة على تحطيم القيم والأخلاق الباقية للأمَّة، بعد أن زحزحوا بها الأثارة الصغيرة من الحدود، والأحكام التي كانت تحكم السلوك العام للمجتمع وتضبط مسيرته الحياتية، واستجاب لها المسلمون بالخواء الفكري، والترهل الجسدي، والترف المعيشي، وأضحوا من الفناء على غلوة سهم، استيقظت في صدور بعض منهم جذوة فكرية كانت خامدة بفعل الإلف الطويل، وصاروا ينظرون من طرف خفي إلى يوم موعود، ظنوه قريباً، وما هو بالقريب، وحسبوه يسير المنال، ولو أنهم نظروا بعين العقل والبصيرة، لعلموا أن عقوداً -وربما قرون- ستقطعها أجيال وأجيال حتى يلاقوا هذا اليوم الموعود.
وبعد؛ فإن العمل السياسي في عالمنا العربي الإسلامي، لا يحسنه إلا من هيأ له، وصنع خصيصاً من أجله، ومن غير هؤلاء أحسن الدخول من بابه الواسع، فإنه لن يستطيع الخروج من باب النهاية الضيق، فإنَّ دخوله ربما كان من قبيل الصدفة، والصدفة لا تتكرر، وإن تكررت فبمثل ما وقعت في المرة الأولى.
وقد خيل لبعض (المارَّة)! من المسلمين الذين رأوا زخرف العمل السياسي مرة أو مرتين أنهم قادرون على الكر والفر بالعمل السياسي، فقالوا: جرَّبوا ولو (في العمر مرَّة) وجرَّبوا فعلاً، لكن كانت التجربة أكثر من مرة، وفي كل مرة لم تكن تسلم الجرَّة!! حتى إذا لم يبق من الجرة إلاَّ عرواتها، أيقنوا أنه لم يعد للتجربة مكانٌ، فقنعوا بالجلوس على الكراسي والمنصات، والإمساك بالأقلام الجميلة، وإلقاء العباءات على ظهورهم العريضة المفلطحة، وإعفاء اللحى (المُخَنْجَرةَ)!! وتصعيد المحسوبيات والشفاعات الخاصة، التي تحقق المنافع الشخصية.(3/5)
وصار غيابهم كحضورهم، وحضورهم كغيابهم، وكلامهم كصمتهم، وصمتهم مثل كلامهم، وابتسامتهم كعبوسهم، وعبوسهم كابتسامتهم، وإعراضهم كإقبالهم، وإقبالهم كإعراضهم، وقيامهم كقعودهم، وقعودهم كقيامهم، وعويلهم كإمساكهم، وإمساكهم كعويلهم، وهكذا وهكذا.
وكانت دروساً -لا درساً واحداً- تسرع تترى، لم يكن من أن يفيد منها من نأى بنفسه عن ذلك السلوك السياسي المسلوب الإرادة، المحمول على أجنحة الموت؛ موت الفكر السويِّ، موت الحياة الكريمة، موت المروءة الفضلى، موت الصدق، موت الوفاء، موت الورع، موت الهيبة، موت الزهد.
إن السلوك السياسي سلوك متميز -في عالمنا العربي بخاصة، والعالم الإسلامي بعامة- بصفات خاصة.
فهو غامض خفي! عروقه مملوءة حسرة وحشرجة!! إهابه ليس له لون يحب أو يكره!! يريحُ النظر أو يُتْعِبُه!! مصنوع من نفطٍ وماء!! مزاجه لا يعرف إلاَّ من أسَرَّ له به!! يبدو أحياناً رقيق الشعور جذاباً شاعري الحاشية!! ويبدو أحياناً غليظ الإحساس، منفراً، ثقيل الظل، جاسي العصا!! إن أقبل فلا يدبر، وإن أدبر فلا يقبل، إن أحسن أساء، وإن أساء أحسن، إن أضحك أبكى، وإن أبكى أضحك، حُسنه مصنوع، وقبحه مطبوع، يده طويلة، وكفه مقبوضة، باعه قصيرة، وجيبه محظورة، من أطاعه منحه، ومن عصاه منعه، ذلكم أن الانفصام بين الدين وبين الدولة، صار أمراً مقضياً لا مرد له، ولا طاعن عليه، ولا محيد عنه.
ومن هنا فإن مخالطة السلوك السياسي على ما هو عليه الآن لا ينبغي، ولا وجه من الإباحة لزحزحته عن دائرة المحظورات الشرعية، من خالطه بوزر ومن تاب منه تاب الله عليه.(3/6)
وإن كان لا بد من مخالطته فبالقدر الذي تفرضه "الضرورات تبيح المحظورات" والضرورة تقدَّر بقدرها، ولا يجوز مجاوزتها بأكثر منها، والأمة كلها على مثل هذا، ولا نقول: "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله" ولكن نقول: بأن لكل أجلٍ كتاباً، و "الأمور مرهونة بأوقاتها"، و "من تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه"، و "من أحسن البدء في أمره أصاب نجحاً في دبره".
ولعل قائلاً يقول: -أو لعل معترضاً يعترض -وهل هذه قواعد شرعية، حتى لا يعدل الإنسان عنها بالتعامل مع السلوك السياسي؟ فأقول جواباً على ذلك: إنّ هذا هو الطريق الآمن الذي يقرأ فيه المسلم العاقل النهاية المأمولة من قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون} [سورة التوبة: آية 32].
وما أصاب المسلمون من هذا الوعد الإلهي إلا أقله، أما هو آت فلا ريب فيه، يشهد لذلك الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم وغيره: "لا يذهب الليل والنهار حتى تُعبد اللاّت والعُزَّى" فقالت عائشة: يا رسول الله! إن كنت لأظن حين أنزل الله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [سورة الصف: آية 9]، أن ذلك تام، قال: "إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحاً طيبة؛ فتوفى كل من في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فيبقى من لا خير فيه؛ فيرجعون إلى دين آبائهم".(3/7)
ومن هذه القراءة يعرف الإنسان المسلم أن الجهد العقلي والقلبي والبدني الذي يبذله يجب أن يكون حافظاً له، ومحفوظاً به في آن معاً، وأن الله سبحانه سائله عن أقل القليل من هذا الجهد، وأن يجعله سائراً به بعيداً عن السلوك السياسي، يقوده بحسن التفكير والبصر إلى رضوان الله سبحانه، وامتثال قول الله سبحانه به: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة} [سورة النحل: آية 125].
ثم ههنا أمرٌ مهم، وهو أن الاجتهاد -خطأً كان أم صواباً- لا يحسن أن يُسلم المجتهد بخطئه إلى عاقبة سوء، ولا أن يُسلمه بصوابه إلى نجح تافه يسير بعد أن يكون قد أبدى للزمان عن ناجذيه، أو أرجف بكلام راعد، أو أجلب عليه بظنون حالمة، ألقت به على نمارق ناعمة، أو أوقفته أمام سراب خادع -إن حسر فإنما يحسر عن أوام ومسغبة دائبين، لذا فإن الذين يجتهدون اليوم ويجعلون من الواقع -على حد تعبيرهم- دليلاً من الأدلة الملزمة في تصويب ما يجتهدون فيه، أو تخطئته، إن يظنون إلا ظناً، لذا: فإن الاجتهاد لا يصلح بهم، ولا هم يصلحون له ولا به؛ فخير لهم أن يوصدوا باب الاجتهاد دونهم بأنفسهم، وأن يدعوه للقادرين عليه ممن أفاء الله عليهم باستظهار الأدلة من الكتاب والسُّنَّة، وسبر غورها، والتمكن من معانيها.
إنما الاجتهاد -خطأً كان أم صواباً- لا يحسن إلا إن كان قد أسلم صاحبه بخطئه إلى عاقبة سالمة لا شيَةَ فيها من شر إلا أذى يسيراً إن كان، أو أن يسلمه بصوابه إلى نجح باهر جميل يحثه أو يحمله على مثله في الأيام الآتية، يبصر فيه نفسه وأمته مسرورة بأن قد أقصاها باجتهاده الصواب عن عاقبة السوء، وسوء العاقبة.
وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر"(1) ولا بد ومن هنا كان حقاً على الاجتهاد أن لا يقبل لنفسه كل غر يدعي الاجتهاد!!(3/8)
هذا إلى أن الاجتهاد لا يكون مع صريح النصوص، وما أكثر النصوص المتواردة المتتابعة على موطن خطر مخالفة السلوك السياسي في عالمنا العربي والإسلامي، ليس سلوكاً يرضى عنه الله سبحانه، إذ كيف يرضى عن سلوك لا يقبل حكم الله وقضاءه الفصل: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيما} [سورة النساء: آية 65]؟!، ولكأنهم عند مراد الله في قوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [سورة المائدة: آية 50]؟!
فأين يكون الاجتهاد الذي ينتهي بالمجتهد أو المجتهدين إلى مخالفة صريح النص، ومطابقة نص ينعى عليهم ما هم فيه، وهذاما يجب أن يبرأ منه كل مسلم، وأن يحذره، وينأى بنفسه عنه، ويحذر المسلمين منه بما أوجب الله عليه من النصح إن هو عرف حكم الله فيه، وإلا فهو غاش جماعة المسلمين، والرسول صلى الله عليه وسلم هو القائل: "من غشنا فليس منّا"(2) والغش هو أن لا يمحض المسلم نصحه إخوانه المسلمين وهو عالم ما يفسد وما يصلح.
وإذا كان الواقع المشهود يصلح دليلاً ينصب على أمر فإن الواقع التجريبي -الذي يعلمه الناس علم اليقين- يؤكد خطأ الاجتهاد -الذي أودى في الماضي بجهود كثيرة بذلك ولا زال، والمستقبل بيد الله وحده، ومفاتيحه عنده- وما ينبغي أن يجتهد في واقعه المجهول غير المنظور ولا المحسوس إلا من خلال الأخبار النبوية الصادقة، التي علمنا بها مسار الأمة من أوله إلى آخره.(3/9)
ومجانبة السلوك السياسي ليس مهادنة للأنظمة التي تعكف عليه وتحميه وتدافع عنه -فإن ذلك كله أمرٌ قضاه الله سبحانه، وخلق له أسبابه- بل هو من باب السياسة الشرعية التي يجب على العلماء والدعاة تعليمها الناس، وتفقيههم بها، فإن في هذه المجانبة حمايةً للجهد الدعوي، ونجاةً من مخالطة أمرٍ يقود مخالطه -ولا بد- إلى محظورات أنه يصير يرضى بالسكوت عن المنكر؛ الذي لم يكن يرضى عنه قبل المخالطة، ذلك أن طبيعة السلوك السياسي لا تقبل التفريق بين المنكر وبين المعروف، فالمنكر سلوك، والمعروف سلوك، ويمكن أن يعيشا معاً جنباً إلى جنب من غير أن ينكر المعروف على المنكر شيئاً، أو ينكر المنكر على المعروف شيئاً، وماذا يعيب المنكر على المعروف أو المعروف عن المنكر وفي وسعهما أن يمتزجا، ويأتلفا، ولا يتخالفا؟! نعم: هكذا!! وهذه فلسفة السلوك السياسي المعاصر!!
فمثلاً هذا فلان من المخالطين السلوك السياسي يصلي، وفلان لا يصلي، فلا يحسن بالمصلي أن يرى في ترك الصلاة عيباً يعيب تارك الصلاة، وليس من حسن الأدب أن يرى تارك الصلاة في فعل الصلاة عيباً يعيب به فاعلها، ولم يكن هذا السلوك السلبي قبل المخالطة مقبولاً، لكنه بالمخالطة أصبح هو الأمر المقبول وحده(3).
ومثل الصلاة في هذا سائر الأعمال -سواءٌ أكانت صالحة أم كانت غير صالحة- فالائتلاف الذي أحدثه مخالطة السلوك السياسي أحدث قبولاً للمتناقضات، وصيَّرها مقبولةً كلَّ القبول، فهل يكون العمل السِّياسي مقبولاً بمثل هذا القبول؟!
أحسب أن مقولة: "دَع ما لقيصر لقيصر وما لله لله" كلمةٌ حكيمةٌ تصلحُ لزماننا، ونحن نرى السُّلوك السِّياسي على مثل ما نراه ما دُمنا نستحضر في ذواكرنا المسار الذي حدَّدته الأخبار النَّبويَّة للأُمَّة.(3/10)
وإذا كان لنا أن نجتهد في هذا الأمر -ونحن لا ندَّعي صوابَ اجتهادنا- وبعد أن عرضنا السُّلوك السِّياسي -عَرضاً وافَينا به أموراً لا تقع إلاَّ في دائرة المحظورات- فإنَّنا نرى: أنَّ العمل السِّياسي للمسلم لا ينبغي أن يجاوز التَّصوُّر النَّظري المحض، فإن تجاوزه فإلى التَّعبير عنه بالكلمة الواعية، التي تُصوِّر كل ما يتَّصل بالسُّلوك السِّياسي تَصويراً واقعيَّاً يُنبىءُ عن صدق التَّصوُّر، ويَضع الإنسان المُسلم أمام حقائق مُسلَّمةٍ تُفضي به إلى النَّجاة بفكره وعقيدتِه ودينه وبدنه، ويُبعده عن مهابِّ الفتن، وتيَّاراتها الجامحة التي أحاطت بأرضنا من كلِّ جهاتها، وملأت آفاقنا كلَّها، وما كادَ ينجو منها إلاَّ كلُّ ذي لبٍّ رَشيدٍ، والنَّاجي يُرجى بنجاته نجاةُ آخرين.
واجتهادنا في هذا الأمر -ونَرجو أن يكون صالحاً فيه خيرٌ ورشد إن شاء الله- نرتِّبه في المسائل الآتية:
1- العمل السِّياسي الإسلامي جزءٌ من النِّظام الإسلامي العام، لا يجوز إغفاله، ولا إسقاطه من حساب العمل الإسلامي.
2- وحين تكون للإسلام دولٌ تحمي وجوده، ووجود العاملين له يُصبح العمل السِّياسي للسَّواد الأعظم من الأمَّة من النَّوافل لأمرين:
الأوَّل: أنَّه يحتاج للتَّخصُّص والمتخصِّص.
الثَّاني: أنَّه جزءٌ من العمل القيادي.
3- العمل السِّياسي في عصرنا -ونحن نعدُّه من المحظورات الشرعيَّة- يُفرَضُ على العلماء والدُّعاة التَّحذيرُ منه؛ لما بيَّنا من قبل، وعليه فإنَّ تركه للقائمين عليه أولى من أن يُنافسهم فيه غيرهم، وخشية من أن يُضارُّوا به، والتَّحذير منه بدءاً يُجنِّب العاملين الإسلاميِّين كثيراً من الأخطاء التي ألمَّ بها الذين خالطوا العمل السِّياسي، وغرقوا في لُجَّته وأغرَقوا غيرهم!(3/11)
4- والتَّحذير من العمل السِّياسي ليس تحذيراً مجرَّداً، بل يجب التَّحذير مع بيان المحاذير الشرعيَّة التي تخالط العمل السِّياسي، والمحظورات التي تأسَّس عليها، وشيُّد هيكله من أجل ديمومته، وطول بقائه، ومن أوضح الواضحات في هذه المحظورات أنَّه بمجموعه مصادم لأُصولِ العقيدة وفروع الشريعة.
5- العمل السِّياسي جزءٌ لا يتجزأ من عمليَّة واسعةٍ ضخمةٍ إذا نجحت الأُمَّة في تحقيقها، لا يلبث العمل السِّياسي أن يصبح همَّاً سهلاً من همومها، وما لم تنجح الأُمَّة في تحقيقها فسَيبقى العمل السِّياسي في أدنى درجات الاهتمام، رغم الدَّعاوى العريضة التي تطلقها حناجر السِّياسيين، ومحترفي السِّياسة، والصَّاعدين الجدد في سلَّمها، والمؤمنين بسلبيَّاتها الكثيرة، وإيجابيَّاتها القليلة، ومن شاءَ فليَنظر، ليُبصِرَ الواقع!
هذه العمليَّة ذات شقَّين تسير في خطَّين اثنين في آن معاً، ولا بدَّ من التقائهما في نهاية هذين الخطَّين، والشقُّ الأوَّل هو: تنقية العقيدة وتَصفيتها من كلِّ الشوائب التي خالطتها وشوَّهت وجهَها البَهيج، والشقُّ الثَّاني هو: تربيةُ أفراد الأُمَّة وتنشئتهم على أساس من الأحكام الشرعيَّة، والآداب الإسلاميَّة وفق ما ورثناه عن القرون الثَّلاثة المُفضَّلة الأولى.
وهذه العمليَّة بشقَّيها هي التي سيَّر عليها النَّبي صلى الله عليه وسلم أصحابه منذ اليوم الأوَّل الذي بدأ فيه نزول الوحي عليهِ، وما كان له أن يفصم بينهما، والوحي يعقد بينهما بآصرة واحدة، في بواكير الآيات القُرآنيَّة، فقوله سبحانه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم} [سورة العلق: الآيات 1-5]، هذه الآيات مَزَجت بين العقيدة، وبين الأحكام في وثاق متين وهو شيءٌ لا يَخفى على من يتأمَّله ويتبصَّر فيه.(3/12)
ومثل هذه الآيات أيضاً قوله سبحانه: {يأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [سورة المدثر: الآيات 1-4] فقد جمعت بين العقيدة وبين الأحكام وبين الدَّعوة، وكأن الله سبحانه يلفتُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم، إلى أنَّ هذه الثَّلاثة لا ينفك بعضها عن بعض، فوضوح العقيدة يُلزم العمل بالأحكام المخاطب بها، وثمرة العمل بالأحكام -وهو مقتضى العقيدة- هي دعوة النَّاس إلى ما منَّ الله به عليه من وضوح العقيدة والعمل بمقتضاها.
وإذا كان هذا هو شأن نبيَّنا صلى الله عليه وسلم مع الوحي، فالأُمَّة -وهي المتأسِّية به- أولى أن يكون هذا شأنها مع الوحي، لأنَّ استجابتها للوحي ليس كاستجابة النَّبي صلى الله عليه وسلم، واستجابة الصَّحابة أفضل وأسرع للوحي من استجابة الأُمَّة في قرونها الآتية من بعد إلى أن يأذن الله سبحانه بإرادته أن يكون لهذه الأُمَّة في آخر أمرها خلافةٌ على منهاج النُّبوَّة، فيكون لهذه الخلافة -ولا بدَّ- هَيمنَةٌ بولايتها العامَّة على الأُمَّة، وبالشوكة التي في يدها التي كان لها بها التَّمكين في الأرض.
وبَدَهيٌّ أن عمليَّة التَّربية والتَّصفية كانت أيسر تقبُّلاً، وأسرع استجابةً في الصَّحابة، فمُعلِّمهم والآخذون عنه محمَّد صلى الله عليه وسلم، والوحي لا يبطىءُ عنهم بأمر إلاَّ لحكمة، ثمَّ لا تلبث آياته أن تنزل عليهم سراعاً، فيرونها ماثلةً في شخص نبيِّهم صلى الله عليه وسلم سلوكاً واضحاً نيِّراً، لذا فإنَّ إقامة البُنية الذَّاتيَّة للجماعة المسلمة هذه الجماعة في العهد المكِّي قد استغرقت وقتاً أطول من الوقت الذي استغرقه بناءُ الدَّولة بعد الهجرة، فالإعدادُ -ولا شك- أصعب ممَّا يأتي من بعده في عمليَّة بناءِ الدَّولة والمجتمع.(3/13)
من هنا؛ فإنَّ حقَّاً على العلماء، والدُّعاة العلماء أيضاً أن يكونوا نقلةً أخياراً أُمناءَ لهذه العمليَّة ذات الشقَّين، وأن يكونوا هم الأُسوة الظَّاهرة للعيان، لا تَخفى منهم خافيةٌ من أجزاء هذه العمليَّة، فذلك أدعى لأن يكون هناك استجابةٌ صادقةٌ من النَّاس لهم، وإذا نحن علمنا أنَّ للأحوال الزَّمنيَّة والبيئيَّة التي يعيشها المسلمون -في هذا القرن، وما قبله، وما سيأتي من بعده- أثراً بيِّناً واضحاً في البطء الذي مُنيت به الأُمَّة نحو دينها؛ فإنَّ الإسراع في الحصول على ثمرة هذه العمليَّة لن يكون محموداً، لا في بدايته، ولا في نهايته؛ إذ أنَّ الأمَّة ليست مهيَّأةً أوَّلاً: التَّهيأة الصَّحيحة لجني هذه الثَّمرة، وثانياً: فإنَّ أعداء هذه الأُمَّة في يقظةٍ دائمةٍ يرقبون بها حركات العمل الإسلامي، ويقدِّرون -حسب خطَّة زمنيَّة دقيقة- النَّتائج والثَّمرات التي يمكن أن يجنيها ويحصل عليها الإسلاميُّون، على اختلافهم وتفرُّقهم وتنازعهم.
لذا، فإنَّه لا بدَّ وأن يكون تقديرنا -في إنجاح مسارنا بهذه العمليَّة ذاتِ الشقَّين- تقديراً دقيقاً محكماً، إن لم يكن مثل إحكام تقدير أعدائنا ودقَّته؛ فلا أقلَّ من أن يكون قريباً منه.
نقول هذا لو أنَّنا كنَّا لا نملك الرُّؤية الواضحة الموضِّحة؛ التي نعرف فيها معرفةً كاملةً كلَّ خطوَةٍ يجب أن نخطوها ونحنُ نمضي سراعاً إلى المُستقبل؛ فكيف ونحن نملك هذه الرُّؤية بالأخبار النَّبويَّة الصَّادقة التي لم يبخل بها -وحاشاه- نبيُّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم؛ فكان فيها العلمُ، والتَّعلُّم، والتَّعليمُ، والبيانُ الجَليُّ، والخُطوَةُ الآمنَةُ، والثِّقَةُ الكاملةُ؟
إذاً؛ فلْنَلْوِ أعنَّة نفوسنا وعقولنا إلى الوحي نستبصره، ونستجليه، ونستعين بالله، ونصير على موعوده، ولا نعجل على أنفسنا بأمرٍ قضى الله فيه فكان، ولن يكون إلاَّ كما قَضى.(3/14)
سادساً: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزالُ طائقةٌ من أُمتي قائمةً بأمر الله، لا يضرُّهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على النَّاس"(4) قولٌ محكمُ، فسيحُ الجوانب، بعيد الغايات، وكثير الدَّلالات، حريٌّ بأن نستظهر دلالاته، وغاياته، وجوانبه، فإنَّ فيه -أي الاستظهار- دليلاً منيعاً لا يُظاهر الأدلَّة التي سقناها على ما ذَهبنا إليه فحسب؛ بل هو الدَّليل الأظهر والأقوى الذي لو لم يكن سواه لكفى(5)!
فقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال" أي: ستظل وتبقى، وقوله: "طائفة" أي: جماعة من أمَّتي أو فرقةً منها، وقوله: "قائمةً بأمر الله" أي: حافظةً له، والحفظ هنا قد يكون بالشوكة والقوَّة، وقد يكون بالعمل والبيان والدَّعوة، وقوله: "لا يضرُّهم من خذلهم" أي: إنَّ تَخذيل المخذِّلين لهم وتركهم نُصرتهم وإعانتهم لا يُضعفهم ولا يُقعدهم عن القيام بحقِّ أمر الله والحفاظ عليه ذهابُ بعض النَّاس إلى خلاف ما ذهبوا هم إليه، وضدِّه، وقوله: "حتى يأتي أمر الله" أي: حتى يُظهر الله دينه، ويُتمَّ نوره، ويُكمل للأُمَّة النِّعمة بالتَّمكين لهم في الأرض بشريعته.
وقَد يرى بعضٌ بأنَّ معنى أمر الله، هو: يوم القيامة، لقوله سبحانه: {أَتَى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} [سورة النحل: آية 1]، ولعلَّ هذا المعنى بعيدٌ هنا، ويؤكِّد بُعده قوله صلى الله عليه وسلم بعده: "هم ظاهرون" أي: وهم المنصورون، ولا يكون لظهورهم معنىً إذا كان وقت قيام السَّاعة لأنَّ في ظهورهم نعمةً باديةً -ولا بدَّ- للأُمَّة، وهل من النِّعمة على الأُمَّة، أن لا تُصيب الأُمَّة من النِّعمة؟!(3/15)
ومن الشكر على النعمة، أن يكون شكر من الذين لا يعرفون وجه الصواب، في مثل هذا الأمر، لمن يدلهم على وجه الصواب فيه، وإلا حبس قلوبهم والسنتهم عن أداء حق الشكر لهؤلاء، ويزيد من امعان السوء في الأُمَّة وزيادة، وفي هذا المعنى يقول عليه الصلاة والسلام "من لا يشكر النَّاس لا يشكر الله".
والرَّسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، إنَّما يُحدِّث أُمَّته بنعمةٍ آتيةٍ لها، مقبلةٍ عليها، لتُصيبَ منها ما به يكون لها فَرَحٌ وسرورٌ، وأين يكون فرحٌ وسرور للأُمَّة، يستوجب منها الشكر لله على هذه النِّعمة، التي أصابت منها ما كانت تُمنِّي بها نفسها، إن وافَتها حين تقوم السَّاعة؟ والسَّاعة لا تقوم إلاَّ على لُكَعِ ابن لُكَع، ولا تأتي إلاّ على شرار الخلق كما أخبر بذلك النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، هل يكون للأُمَّة فرحَةٌ وسرورٌ بأن يرى شرار الخلق طائفةً منها، وقَد ألمَّت بموعود الله لها وحدها دون سائر الأُمَّة، ليوم أو لأيَّامٍ قليلة؟!
إذاً؛ أين تكون الأُمَّة من هذا الفرح، ومن هذا السُّرور وهي قد كانت ترقب أملاً يُشرق على أرضها بشيءٍ، يبدِّدُ أحزانها ويُغيِّبُ آلامَها، ويُنسيها -كما يُقال- البلاء الذي حلَّ بها من قبل؛ بانتشار الإسلام، وهيمنة عقيدته، وعلو كلمته؟ كما أخبر بذلك صلى الله عليه وسلم، في كلماته التي حملت بشرياتٍ صادقةً، وكما أعلمنا ربُّنا سبحانه بصريح كلماته في كتابه بقوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [سورة الصف: آية 9].(3/16)
ونذكر جملةً صالحةً من كلماته صلى الله عليه وسلم، لنعلم بها أنَّ الله سبحانه -الذي اجتبى هذه الأُمَّة باجتباء نبيِّه ورسوله منها، لتكون الأُمَّة الخاتمة، التي تحمل رسالات ربِّها للعالمين قاطبَةً- قد جعلها حِجراً دافئاً للأُمَم كافَّةً تأوي إليه؛ فتَصيبُ فيه الهُدى، والعلم، والقوَّة، وتَذوقُ فيه طَعمَ الإخاء، الذي بشَّر به الأنبياء من قبل نبيِّنا، وبشَّر به هو صلى الله عليه وسلم من بعدهم، وتكون الأُمم كافَّةً تبعاً لهذه الأُمَّة المرحومة، بما هيَّأ الله لها على يَدي نبيِّ الهُدى والرَّحمة صلى الله عليه وسلم.
ومن هذه الكلمات قولهً صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله زَوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإنَّ أمَّتي سيبلغ مُلكها ما زوي لي منها"(6).
وقوله: "لَيبلُغنَّ هذا الأمر ما بلغ اللَّيل والنَّهار، ولا يترك بيت مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلاَّ أدخله الله هذا الدِّين، بعزِّ عزيزٍ، أو بذلِّ ذليلٍ، عزَّاً يُعزُّ الله به الإسلام، وذُلاًّ يذلُّ به الكُفر"(7).
ومنها أيضاً ما روى الإمام أحمدُ وغيره عن أبي قبيل قال: كنَّا عند عبدالله بن عَمرو بن العاص، وسئل أيُّ المدينتين تفتح أوَّلاً، القسطنطينيَّة أو روميَّة؟ فدعا عبدالله بصندوق؛ فأخرج منه كتاباً، قال فقال عبدالله: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب، إذ سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيُّ المدينتين تُفتح أوَّلاً أقسطنطينيَّة أو روميَّة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مدينة هرقل تفتح أوَّلاً، يعني قسطنطينيَّة".
وهذه الأحاديث وغيرها مخرَّجة تخريجاً كاملاً في الجزء الأوَّل من "سلسلة الأحاديث الصَّحيحة" لشيخ السُّنَّة الأوحد، وصيرفها الحاذق الفرد: الشيخ مُحمد ناصر الدِّين الألباني، أمتع الله المُسلمين بطول عمره(8)، ونافع علمه، فمن شاء التَّزود فليعد إلى هذه السِّلسلة الفريدة.(3/17)
وهذه الطَّأئفة الظَّاهرة ليست ظاهرةً بشوكتها وقوَّتها، ومنعتها، إنَّما هي ظاهرةٌ بعلمها، وفقهها، وسَعيها الدَّؤوب في دَعوة النَّاس إلى الحقِّ وإلى الصِّراط المُستقيم، والأمر بالمعروف والنَّهي عن المُنكر، والأخذ بعزائم الأمور، وعَدم التَّرخُّص في الدِّين(9)، والصَّدع بكلمةِ الحقِّ، والإبانة عن الأُصول الكلِّيَّة التي تأسَّس عليها شرع الله، والتَّواضع للخلق، والأذان في النَّاس بأنَّ النُّصرة من الله لا تكون إلاَّ بالمُستضعفين والمساكين كما أخبر بذلك صلى الله عليه وسلم، وأنَّ الاستكثار من الدُّنيا ومتاعها، والانصراف إلى جمع المال وكنزه يزيد من طغيان النَّاس، ويذهب رونق الإيمان من حياتهم، وهذا ولا شك سببٌ في إبطاء النَّصر عن الأمَّة، إن لم يكن سبباً في دمارها وقَد كان(10).
ولم يكن الرَّسول صلى الله عليه وسلم يخشى الفقر على أمَّته؛ بل كان يخشى أن تبسط عليها الدُّنيا، فتتنافسها فتهلك فيها كما أهلكت الأُمَم التي قبلها، وليس أمر الخاصَّة والعامَّة اليوم بخافٍ علينا، فليَنظر أحدُنا فيما أحدث المال من فتنة فينا، وكم أذهب من مروءات، وأضاع من التَّقوى، وأزهق من الأخلاق، وأفقد من الهُدى.
وبهذا لم يعد هناك من سبب، تبسط به الأُمَّة يدها بالدُّعاء والتَّضرُّع تستنزل به النَّصر من واهبه، وتَستكتب به التَّمكين من المُنعم به، وتظاهر به نفسها على تَحقيق وعد الله للأُمَّة.
وقَد يسأل سائل فيقول: لقد ذكرت في مطلع كلامك أنَّ العمل السِّياسي سلوكٌ اجتماعيٌّ عامٌّ، على كلِّ فردٍ من الأُمَّة أن يضرب فيه بسهمٍ، ويصيبَ منه قدراً، وكلامك من بعد قولك هذا يلغيه، لأنَّك ترى أنَّ العمل السِّياسي لا ينبغي فهل يكون المسلم الملتزم في حلٍّ من أمره بتركه العمل السِّياسي، يمسك بزمامه البعيد والقريب، والقاصي والدَّاني، والخيِّر والشرِّير، على تفاوت فيما بينهم في الشرِّ؟!(3/18)
أقول جواباً لذلك كلمةٌ جميلةٌ تعلَّمناها من مشايخنا قديماً، وحفظناها كما نحفظ الآية من كتاب الله، هي: "أفعال المكلَّفين مصونةٌ عن العَبث"، وهل هناك عبثٌ أكبر من أن يشتغل بالسِّياسة من لا يعرف معناها في عصرنا هذا؟ ولا يدري مأتاها وسبيلها، ولا قواعدها وأُصولها، ولا أبوابها ومخارجها؟ إذ السِّياسة اليوم -بكل نظريَّاتها- تجعل من نفسها حمىً يَحرُمُ على المسلم الملتزم دخوله أو الاقتراب منه، وتُغري بها كلَّ من يلتزم بالإسلام، أو من يكون له بالإسلام شِبه التزام، أو من يكون على وفاقٍ مع بعض الإسلام، وليس على وفاقٍ مع البعض الآخر، فأين سيكون موقعُ المسلم الملتزم بين هؤلاء الذين ذكرنا، وهو يعلم سلفاً أنَّهُ إن دخلَ هذا الحمى -فلا يدخله إلاَّ وهو يضع رداء الغُربة على منكبيه- لا يلبث أن يخرج مسرعأً. وإلاَّ ذاقَ مرارة الهوان؟!
ولا أحسب أنَّ مسلماً يرى -والأمر على مثل ما وصفنا- أنَّ واجباً عليه العمل السِّياسي، لأنَّه ليس شيئاً يُطيقه، ولا أمراً يقدر عليه، والله لا يكلِّف نفساً إلاَّ وسعها.(3/19)
إذاً؛ فواجبٌ عليه أن ينظر فيما هو مُستطاع له، ولا ريب أنَّ الاشتغال في المستطاع -ممَّا أمر الله سبحانه به عباده، وكلَّفهم به، من فعل المأمورات، وترك المنهيَّات- هو المطلوب أوَّلاً منه شرعاً، لأنَّ الله سبحانه لا يكلِّفُ نفساً إلاَّ وسعها، ولا يكلِّفُ العباد في دينهم -الذي شرعه لهم- ليؤثِّمهم بالعجز عمَّا يطيقون من فعل المأمورات وترك المنهيَّات، وهو ثانياً: بتكليفه المخاطبين بما يطيقون من فعل المأمورات، وترك المنهيَّات فقط، يحملهم على الإقبال الجادِّ عليه، وصرف الجهد إليه، وترك غير المقدور عليه، حتى يُصبح مقدوراً عليه؛ فيُصبح الجُهد المبذول في المقدور عليه أوفر بمُضاعفته، فيكون حظُّ النُّجح فيه أقوى وأكثر، ويكون العمل أحسن وأصلح، وأسلم عاقبةً، وبخاصَّةٍ إذا أيقنَّا أنَّ أعداءَ الإسلام يرقبون بعيونهم المبثوثة في كلِّ أرجاء عالمنا الإسلامي ما يكون من أمر المُسلمين الملتزمين منهم وغير الملتزمين، ويضعون -بالنَّتائج التي تعود عيونهم بها إليهم- الخطط المنظَّمة، ويحيطونها بالكتمان، ويسخِّرون لها إمكاناتٍ وطاقاتٍ كثيرةً؛ ماليَّةً، وبدنيَّةً، وعلميَّةً يُحكمونَ بها الطَّوق حولَ الأُمَّة، فلا تستطيع التَّحرك بحريَّةٍ تَمنحها قِسطاً من القدرة على التَّفكير في أمر نفسها.
أضف إلى هذا، أنَّ المسلمين الملتزمين، على فُرقةٍ، واختلافٍ، وعداوةٍ، وتحاسدٍ، وتحارشٍ، ومراءٍ لا ينقطع فيمن هو الأحقُّ والأولى بالاتِّباع والصَّدارة!! وعدوُّهم جميعاً واحدٌ، لا يؤثر واحداً منهم أو جماعةً على جماعةٍ أخرى في عداوته.
وكثيرٌ منهم مالَ إلى الدُّنيا، ومالت به الدُّنيا، واطمأنَّ لها، واطمأنَّت به، ولا أدلَّ على هذا وذاك ممَّا نشاهده من الواقع المذهل الذي جعلهم أُضحوكةً في نظر أُولئك الأعداء.(3/20)
فالمقدور عليه عند المسلمين الملتزمين: نزاعٌ، وتفرُّقٌ، وتحارشٌ، وتحاسدٌ، وتباغضٌ،واختلافٌ، ومراءٌ موصولٌ، وقعودٌ عن نُصرَة بعضهم البعض، ومفهوم النُّصرة فيهم لا يكون إلاَّ بالانتماء والولاءِ للجماعة أو الحركة، أمَّا الانتماءُ للدِّين فيأتي من وراء الانتماءِ الأوَّلِ.
وأشدُّ وأنكى من هذا كلِّه قناعة الكثيرين منهم -بعد رؤيتهم الحال السَّيئة التي صاروا إليها- بجدوى نجاحهم إن هُم خالطوا العملَ السِّياسي، وظنُّهم أنَّهم قادرون على التَّغيير وتوجيه الأُمَّة في مسيرتها نحو الأفضل والأمثل!!
وإذا كان هذا هو المقدورَ عليه عند جماهير المسلمين الملتزمين، ممَّن يَتَسمَّون بأهل السُّنَّة والجماعة، لأنَّه الأيسر والأسهل عندهم -والحمد لله على كلِّ حال!!- وهو الذي رَضُوه وألفوه، بل وأحبُّوه جداً، وإلاَّ ما كانوا ليَحرصوا عليه هذا الحرص الذي يبقيه فيهم، بشرَّتِه، وفَراهَتِه، وعُنفُوانه، فماذا إذاً هو غير المقدور عليه فيهم؟
غيرُ المقدور عليه فيهم هو: ما كان يمكن لو حرصوا عليه، واستعانوا الله عليه -بإخلاصٍ، وعملٍ لا يُخالف فيه عن أمر الله سبحانه- أن يُنقذهم من كلِّ الاسباب التي قادتهم إلى هذا الواقع المرير الأليم الحزين الباكي.
وهل هناك شيءٌ أفسدُ للأُمَّة، وأذهب لمَودَّتها، وأنفى لصلاحها من فساد ذات البين كما قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ فسادَ ذات البين هي الحالقة، لا أقول؛ تحلقُ الشعر، بل تحلقُ الدِّين"(11).
وما الذي يُذهب فساد ذات البين؟ إنَّه الذي قلنا: عَمليَّةٌ ذات شقَّين، تسير في خطَّين اثنين في اتِّجاهٍ واحدٍ، وفي آنٍ واحدٍ: تنقية العقيدة وتصفيتها من كلِّ الشوائب التي خالطتها، وتربية أفراد الأُمَّة وتنشئتهم على أساس من الأحكام الشرعيَّة، والآداب الإسلامية وفق ما ورثناه عن القرون الثَّلاثة المفضَّلة الأولى.(3/21)
وهذا واجبٌ، أوَّل من يجب أن يحرص عليه، هم أهل المنهج الحق، الذين ورثوا ما منَّ الله به على القرون الثَّلاثة المفضَّلة، وفق ما أمر الله من غير حرجٍ، ولا إثمٍ، ولا عجزٍ عنه "فاتَّقوا الله ما استَطعتم" "إذا نهيتكم عن شيءٍ فاتركوه كلّه، وإذا أمرتكم بشيءٍ فأتوا منه ما استطعتم"(12).
نعم: قد يوفَّق بعض المسلمين في بلدٍ من بلادهم إلى إقامة حكم الشريعة، لكن هذا لا يعني تحقيق موعود الله سبحانه لها، بل يكون من ظهور الطَّائفة النَّاجية، وما لم تتحقَّق وحدة الأمَّة على كلمةٍ سواءٍ بينها، بالتوحيد الحق، والحكم الواحد الذي يختلف عليه ولا فيه، وما لم تزل الهنات -من بين أفراد ال طَّائفة النَّاجية- النَّاشئة من الجهل، واستصغار الشأن، والطَّمع، فقيام مثل هذا الحكم لا يغيِّر من واقع الأُمَّة شيئاً يذكر.
وما أحكم تلك الكلمة التي ردَّ بها الحسن بن علي رضيَ الله عنه على دعوة عبدالله بن الزُّبير -حين دعاه للقتال معه، وذكَّره بأنَّه كان قَد قاتل مع أبيه- ضدَّ معاوية: "هات لي مثل أبي أُقاتل معه".
وبهذا يظهر جليَّاً للذين يأخذون على السَّلفيِّين عدم اشتغالهم بالعمل السِّياسي -لماذا يكره السَّلفيُّون هذا العمل؟ فالبَون بينهم وبين الدَّائبين السَّعيَ في العمل السِّياسي شاسعٌ جدَّاً.(3/22)
ولقد علمت الجِنَّة والإنس أجمعون أن لو شاء الله سبحانه أن يكون للمسلمين دولة في هذا القرن لكانت، ولكن أين سيقع خبر المصطفى صلى الله عليه وسلم: الذي أخبر فيه بأنَّ دولة الخلافة هي آخر مراحل العمل السِّياسي لهذه الأُمَّة، وخاتمة المطاف لسعيها، ولسوف يسبقها الملك الجبريُّ القهري، الذي تُستلبُ في السُّلطة استلاباً بالحديد والنَّار والاستكبار، وبه يكون الخراب للبلاد والفساد بين العباد، فقد قال: "تكون النُّبوَّةُ فيكم ما شاءَ الله أن تكون، ثمَّ يرفعها الله إذا شاءَ أن يرفعها، ثمَّ تكون خلافةً على منهاج النُّبوَّة، فتكون ما شاءَ الله أن تكون، ثمَّ يرفعها إذا شاءَ الله أن يرفعها، ثمَّ تكون مُلكاً جبريَّاً فتكون ما شاءَ الله أن تكون، ثمَّ يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثمَّ تكون خلافة على منهاج النُّبوة".
إذاً؛ فليس يطلب من الأُمَّة الآن إلاَّ أن تُهيِّء نفسها لموعود ربِّها سبحانه، بتحقيق دولة الخلافة، التي يعمُّ عدلها الأرض، ويملأُ نورها ما بين الخافقين، فإذا ما علم الله أنَّ الأُمَّة قَد تهيَّأت لمثل هذا الأمر كان، ولن يكون إلاّ حين تَذوب الفِرَق والطَّوائف والجماعات كلُّها، وتلتقي على المنهج الحق، منهج الكتاب والسُّنَّة، منهج القرون الثَّلاثة الأولى التي استمسكت بالعروة الوثقى، عُروة العقيدة السَّليمة النَّقيَّة، والشريعة الصَّحيحة السَّويَّة، التي تستمسك بها في هذا القرن -وفي كلِّ قرن مضى أو سيأتي- الفرقة المرحومة النَّاجية التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: "من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي"، فإذا ما علم الله سبحانه أن قد تهيَّأت الأسباب، ورضيت الأُمَّة لنفسها أن تلتقي بها على الفرقة النَّاجية؛ فإنَّه سبحانه سوف يُظهر أمره، ويعلي حكمه، ويكافيءُ الأُمَّة على ما أحسنت لنفسها، بخلافةٍ راشدةٍ على منهاج النُبوَّة.(3/23)
وربَّما حدَّثت البعض نفوسهم أنَّ الأُمَّة قَد سئمت أنظمة الحكم وأنماط المذاهب الفكريَّة التي تأسَّست وقامت عليها دولُ هذه الأنظمة بما جرَّت عليها من بلاءٍ عظيم، وبما أصابت الشعوب من ضرَّائها وبأسائها، ما لا قِبَلَ للجبال به، فالأُمَّة بهذا أصبحت مهيأةً راغبةً في إقصاءِ هذه الأنظمة الحاكمة التي لم تستطع أن ترغِّب في الإبقاء عليها، وقفزةٌ خاطفةٌ واحدةٌ سوف تطيحُ بهذا النِّظام أو بذاك؛ فإذا هو مكبٌّ على وجهه، لا يقوى على النُّهوض.
وليته بقي حديث نفس -إذاً: ما كان الله سبحانه ليؤاخذ من حدَّثتهم نفوسهم به- لكنَّه تعدّاه في بعض البلاد إلى الجهر به، ثمَّ إلى المشي نحوه، ثمَّ إلى رَمي (القفَّاز) في وجه النِّظام! ثمَّ إلى العمل على تغيير هذا النِّظام، الذي ظُنَّ أنَّهُ طائحٌ لا محالة.
والمستقرىءُ الأحداث التي نجمت من جرَّاء تغيير هذه الأنظمة، أو محاولة التَّغيير، يعلم الطَّامَّات التي جاشت بها الأرض وتجشأت، وتناوحت، بها الرِّياح ونوَّحت، وتحالكت بها الليالي وأحلكت!!
ويحسن بالأُمَّة بعامَّة، وبالعلماء، وبالدُّعاة بخاصَّة، أن يَستبصروا قول الله سبحانه: {إِنَّ الله لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الرعد: آية 11] فهي قاعدةً توجيهيَّةٌ تُصيب الأُمَّة بها حظَّها من الرِّبح أو من الخسارة، بقدر ما أدركت أو علمت من معناها.
وليس يَصلح حال الأُمَّة اليوم إلاَّ بما صلح عليه من قبل، وحالها اليوم لا يُنبىءُ عن رجاءٍ، بل ولا عن أمل.(3/24)
وكثيرٌ هم أُولئك الذين يقيسون الحاضر على الماضي، ويحسبون الزَّمن واحداً، لأنَّه -على تعدُّد قرونه، وعقوده، وسنينه، وشهوره، وأسابيعه وأيَّامه- موصولٌ بعضه ببعض، فلا ينفك قرن عن الذي قبله، ولا عن الذي بعده، ومثل القرن في ذلك العقد، والسَّنة، والشهر، والأُسبوع، واليوم، لكنَّهم يَنسبون -في فورة حماستهم- أنَّ أهل القرون والعقود -إلخ- يتفاوتون، فلا هؤلاء مثل أُولئك، ولا أُولئك مثل هؤلاء، وإلاّ فماذا يُقال في هذه الفِرَق والجماعات التي تقرأ وتسمع قول نبيِّها صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسَدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يَبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخواناً".
ولو كان أهل قرن -كالقرن الثَّاني عشر مثلاً- يشبهون أهل القرن العاشر، فلا يقال: إنَّ أهل القرن الثَّالث مثلاً يُشبهون أهل القرن التَّاسع، فالفروق النَّفسيَّة، والأخلاقيَّة، والقدرات والطَّاقات البدنيَّة والعقليَّة ظاهرة الفرق، بيِّنة البعد بين هذا القرن وذاك القرن، فالاعتداد باعتبار أنَّ الزَّمن كالجسم الواحد على تباعد قرونه وعقوده -إلخ- اعتدادٌ ضعيفٌ، ولا يحسن أن يُنظر إليه علىأنَّه مقيس عليه، يبحث عن مقيس -ليكون أحد أركان القياس- فيقال في المقيس أهل القرون أو أحوالها، أو أحداثها، فذاك قياسٌ باطلٌ لا يصلح.(3/25)
لذا فإنَّ قرننا هذا الخامس عشر، لا يصلح له ما كان يصلح في القرن الأوَّل، أو الثَّالث، أو الخامس مثلاً، فيقال، لمن يقول بخلاف هذا: انظر في الانحسار الذي يكون عند نهاية كل قرنٍ، عن ماذا ينحسر؟ وماذا يخلِّف وراءَه للقرن الذي يليه؟ وما دام أنَّه لا يصلح لهذا القرن ما يصلح للقرن الذي يليه؛ فإنَّه -قياس القرون المتأخِّرة على القرون المتقدِّمة- قياسٌ مرودٌ، وإلاَّ لتساوى ناس القرون جميعاً لأنَّ الكتاب الذي تأسَّست عليه القرون السَّابقة هو الكتاب نفسه الموجود بين أيدي أهل القرون اللاَّحقة، فلماذا إذاً كان هذا التَّفاوت الظَّاهر بين القرون السَّابقة وبينَ القرون اللاحقة؟!
إذاً؛ فالعبرة ليست بظرف الزَّمان، إنَما العبرَة بأهل الزَّمان أنفسهم!
ولا يجوز أن يكون للأُمَّة دورٌ -بسكوتها- في المظاهرة على إبقاء أعداء الإسلام يقيمون فوق أرضهم، أو يَنتقصون أنفسهم وأموالهم، وليكن دور الأُمَّة -وبخاصَّة علماءَها- النُّصح؛ لنفي الخطأ، وإقامة العوج، والإعانة على ما يكون حقَّاً غير ملتبسٍ بباطلٍ، والتَّذكير بالأمانة التي حمَّلهم الله إيَّاها، وأوجب عليهم حفظها، وبمصائر النَّاس التي لم يخلِّفوا من ورائهم بعدها، إلاَّ ذكراً حميداً أو ذكراً سيِّئاً.
وليكن الحاملُ علماء الأُمَّة وعُقلائها من ورائهم، درءَ الفتن، وحفظَ الأنفس والأموال والأعراض، وصيانة الأرواح والدِّماء والأخلاق، وإشاعةَ المودَّة والأُلفةِ والتَّراحُمِ.
ويجب على العلماء والدُّعاة -وإن اختلفوا على أمور في غير العقيدة- أن يكونوا هم القدوة الصَّالحة لأفراد الأُمَّة وجماعاتها، وأن يكون تعلُّم الأُمَّة منهم بسلوكهم الحسن أكثر من تعلُّمها منهم بأقوالِ أفواهِهِم، وأن يكون في إعراضهم عن كلِّ منكرٍ، وإقبالهم على كلِّ معروفٍ، ما يُبيِّنُ للأُمَّة السَّبيل الأقوم، والمنهج الأكمل.(3/26)
إنَّ التَّجارب العمليَّة التي خاضها الإسلاميُّون في بعض بلاد المسلمين أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك والظَّنِّ أنَّ العمل السِّياسي مِصيَدَةٌ نُصبَت؛ ليسقطَ فيها كل من يَدنو منها، أو يمسُّها، ولو بالكلمة.
والعاقل من يتَّعظ بغيره، والحكيم من يأخذ الحكمة من تجربة من سبقه، والبَصير من يُبصر ما جناه الآخرون في نفسه؛ فلا يخالط أمراً يعلم يقيناً، أنَّه مضيعةٌ للجهد والوقت، وليس وراءَه من طائل، وليرَ في تلك الكلمة الحكيمة ما يُلزمه مأمنه: "أفعال العقلاء مصونةٌ من العبث"، وإنَّه لمن العبث أن تسوقَ الحماسة العاطفيَّة بعضاً من المسلمين إلى العمل السيِّاسي الذي لا يصلح إلاَّ لأهله وحدهم!! والأُمَّة على مثل هذا التَّفرُّق، والتَّنازع، والتَّخالف، الذي جعل من كل فرقةٍ من الثَّلاث وسبعين فرقاً كثيرة.
ألا فإلى الله وحدَه المُشتكى!
الجِهَادُ
الجهاد هو درعُ الله الحصينة، وعروة الدِّين الوثقى، وسنام الإسلام الأعلى، وحمى التَّوحيد المكين، وحين وهنت الأُمَّة، وانخذلت في نفسها، ورَكَنَت إلى الدُّنيا وزينتها، وقال قائلها: شغَلتنا أموالنا وأهلونا وصارَ الجهادُ شريداً طريداً في أرض الأُمَّة، يبحثُ في الأرض بعينين زائغتين، عن مكان يأوي إليه يُسِرُّ فيه لصاحب لواءٍ بالمودَّة، لِيَرفَع عنهُ الأوزارَ الثِّقال التي ألقت بها الأُمَّة عليه، ويعيد إليه ولو بعضاً من عافيته التي أطلَّ بها يوماً على مشارق الأرضِ ومغاربها، يَطرد عنها الذُّلَّ والمسغَبة، فتشرَق بها حلوقُ الجبابرة الطُّغاة - فلم يجد هذا المكان.(3/27)
ولم يكُن الجهادُ يوماً -حين كانَ جهاداً- إلاَّ وله يدٌ كاسبةٌ في الأرضِ للأُمَّة، وكان على الأُمَّةِ وهي تقرأ قوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ} [سورة الرحمن: آية 60]، وقد أصابت بالجهاد عزَّاً وتمكيناً وسلطاناً، أن تُبقي يدها قابضةً على سيفِ الجهادِ مكافأةً له على ما أعطاها، وردَّاً على حُسن الصَّنيع بمثله.
بيدَ أنَّ الأُمَّة التي صدَّت نفسَها بنَفسها عن سبيل الله، وأعرضت عن شرعه، وتنكَّرت لعقيدته -على تفاوتٍ فيما بينها- ليسَ غريباً أن تقبض يدها عن الإحسان الذي نَدَبَ الله إليه، وكافأ عليه عباده المتَّقين، وكأنَّما جَعَلَ السَّبيلَ إليه أن يَرى عباده الصَّالحون في صنيع خالقهم معهم -على اقترافهم السَّيِّئات التي حرَّمها عليهم- ما يحبَّب إليهم الإحسان كلَّه إلى كلِّ شيءٍ يكون منه الإحسان إليهم.
ولا ريبَ أنَّ الجهاد لا يُسبقُ في إحسانهِ إلى هذه الأُمَّة المرحومَة؛ فهو السُّور المُمنَّع الذي يحميها، والسَّيف المُشرَعُ الذي يُقصي أعداءَها عنها، والبيت المعمور الذي يوفِّر الأمن والرَّخاء والعافية لها.
ولا والله ما ذاقَت الأمَّة طعم الذُّلِّ، ولا أكلت شوك العَوسَج، ولا تقلَّبت على فراش من حَسَك السَّعدان إلاَّ حينَ أغمدت سُيوفها في قُربُها، وأناخَت رواحلَ الفتح في مرابضها، وجعلت تعلفها بالسمنة، وأسلمت قيادها لرايات عميَّة لا تهتدي -من بعيد ولا من قريب- إلاَّ إلى أخونَةِ الطَّعام والشرابِ التي تَصنع الموت البطىء!! وتقود -من قبل ذلك- إلى مواطىء الهَوان الباخع، ويُمسي النَّاس -من حولها- ويُصبحون وهم يتجشأون من تُخمتها الرَّغيب بأمشاج القلق، والحيرة، والتَّردُّد، والفزع، النَّاشبة في صدورهم؛ في نومهم ويَقظتهم.(3/28)
والجهادُ اصطلاحٌ إسلاميٌّ محضٌ، فإذا ما ذكرَ ذكر معه الصَّبر، والتَّضحية، والبذل، والرَّجاء النَّائل إحدى الحُسنيين النَّصر أو الشهادة، وهما طريق العزَّة في الدُّنيا، والخلود في نعيم الآخرة، ومن مات ولم يجاهد، أو لم يحدِّث نفسه بالجهاد، مات ميتةً جاهليَّةً عياذاً بالله تعالى.
والجهاد ليس نظريَّةً علميَّةً، إن أخطأت العالِمَ أو أخطأها العالمُ، فلا إثمَ عليهِ ولا تَثريب، إنَّما هو حقيقةٌ كلِّيَّةٌ من حقائق الإيمان، وفرضٌ عظيمٌ من فرائض الإسلام، بل هو سنامُ الإسلام(13) كما أخبر بذلك النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، والسُّور المنيع الذي يدَّريء المسلمون به، والغار الأمين الذي يأوي إليه الإسلام.
ولا يخفى على أحد من المسلمين ما أصاب المسلمين من بلاء وذلٍّ حين سقطت رايةُ الجهاد، ووقفَ المدُّ الجهادي، الذي شرَّق به المجاهدون وغرَّبوا، وصاروا به غرَّة التَّاريخ، بما حقَّقوا بجهادهم، من عدلٍ، وأمنٍ، ورخاءٍ، ومساواةٍ، فلمَّا أفاقوا -أي بعضهم- من الغفلة التي ضربت على قلوبهم أخذوا يتفكَّرون!! فلم يَجدوا ما يخلِّصهم من البلاء الذي حلَّ بهم إلاَّ الجهاد، ولكن من يقوى على رفع رايته التي سقطت؟! وهل في وسع الأُمَّة -من مَشرقها إلى مغربها- أن ترفعها، لتلتقي من جديد حولها، وتومىءَ إلى نفسها -ولو بإشارة خفيفةٍ غير مسموعةٍ- أن تَخطوَ ولو خطوةً واحدةً في طريقِ الجهادِ.
وحين يذكر الجهاد، أوَّل ما يُذكر بذكره العملُ السِّياسيُّ، وكلمة السِّياسة لا تعني في الإسلام الاشتغالَ بالقضايا أو المسائل المتعلِّقَة بالشؤون والعلاقات الدَّوليَّة، سواءٌ أكانت هذه العلاقات والشؤون -على حدِّ التَّعبير السِّياسي اليوم- مع دولٍ صديقةٍ أو شقيقةٍ!!(3/29)
السِّياسة في الإسلام تعني تدبير أمور الأُمَّة بعامَّة، وقَصْرُها على ما يتعلَّق بالشؤون الدَّوليَّة هو تقليدٌ واتِّباعٌ نشأ من الانسلاخِ من الأُصول الشرعيَّة والقواعد الدِّينية، والإعجاب بالمستحدثات الاصطلاحيَّة، التي أضلَّتنا عن ميراث النَّبي صلى الله عليه وسلم، وصارت هي السَّدَّ الحاجز بين المتشبِّعين بحب السِّياسة باصطلاحها الحادث، وبين من غفلوا عن معناها الشرعي الواسع، وقصروها على مقارعة الحكَّام، ومصاولتهم على طول الأيَّام، وما أُتي هؤلاء وهؤلاء من غفلةٍ، وهوىً، وجهلٍ.
ولو أنصفوا لعادوا لِمَا نَهْوا أنفسهم عنه، ونأوا عنه، وآثروا غيره عليه.
ونسأل: لماذا لا تستطيع الأُمَّة القيام بأعباء فريضة الجهاد؟
ذلكم، أنَّ الجهاد -وهو فريضة فرضها الله سبحانه- لا يكون إلاَّ بإمام وبإذنٍ منه، وهو في هذا مثل الحدود والعقوبات، فهذه لا يوقعها ولا يقيمها إلاَّ إمام العامَّة.
إذ لو تركَ أمرُها إلى أفراد الأُمّة؛ لَفَسَد نظامُ المجتمع، وتَهارَش النَّاسُ فيه، وأضحوا فرائسَ بعضهم لبعض، وصارت الغَلَبة فيه للأقوى، لا للحق والعدل(14).
والقوَّة المودَعَة في دين الله هي فطرته التي فطر الله النَّاس عليها، وأناط تكليف العباد بما استودعها الله سبحانه من خصائص كانت نظاماً متيناً جمع الله إليه وبه التَّكاليف الشرعيَّة التي خاطبَ بها عباده.(3/30)
وبما أنَّ الله سبحانه شرع الجهاد، وفرضه على العباد تأسيساً لقانون المدافعة؛ {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [سورة البقرة: آية 257]، وليس يَقوى على إمضاء هذا القانون في النَّاس إلاَّ من أذن الله له أن يُمضيه، وبما أنَّ الله سبحانه جَعَل في طبيعة فرض الجهاد أنَّه لا يقوم إلاَّ بمجموع أفراد الأُمَّة، وطاقاتها العقليَّة، والبدنيَّة، والماليَّة، وبما أنَّ الله سبحانه شرع الجهاد لتأمن الأُمَّة به على نفسها في أرضها، وفي خارج أرضها، من عاديات النَّاهدين بعداوتهم على الأُمَّة ودينها وعقيدتها، وبما أنَّ الله شرع الجهاد لإرهاب أعداء الله، وكسر شوكة باطلهم، والحدِّ من تطلُّع غرورهم ومكرهم، وَشِرَّة باطلهم، الذي أجلبوا ويُجلِبونَ به على أهلِ ملَّة التَّوحيد.
وهذه كلُّها لا تكون، ولا تصلح، ولا تُحدث أثرها المطلوب؛ إلاَّ بالعمل بمقتضى قانون المدافعة الذي أقامه الله ناموساً مؤتلفاً مع النَّواميس الكونيَّة الأُخرى، إذاً فلا بدَّ من الرُّجوع إليه واستنطاقه.
وهذا القانون -قانون المدافعة- لا يعمل في الدَّائرة التي وضعه الله من أجل العمل فيها إلاَّ وفق حساب دقيق قدَّره تقديراً محكماً، لا يملك أحدٌ من البشر -بل وليس في طوقه- أن يستظهر حكمته، فضلاً عن أن يُقدِّم فيه أو يُؤخِّر.
ومن هذا الحساب الدَّقيق الذي قدَّره، أن يكون العملُ بمقتضاه مرهوناً بوجود أمير عامَّةٍ -يقيم حدود الله، ويقضي في النَّاس بما شرعَ الله في كتابه وسُنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويحمي الأُمَّة التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ويُثيب على الطَّاعة، ويُعاقب على المعصية.(3/31)
ولا نوغلُ في التَّاريخ، لضربِ الأمثال من كنانته التي أودعها الله سبحانه أمثالاً، وأخباراً، وعبراً، بل يكفينا أن نُجيل النَّظر في واقع الأُمَّة اليوم لنُبصر كم كانت الخطيئات التي حطَّت بأثقالها على الأُمَّة برُمَّتها؟ وكم كانت الفتن التي اشتعلت أحقاداً مضرَّمةً بنارها! وكم كانت الدِّماء التي سالت أنهاراً تحت أرجلها! وكم كانت الأموال التي أُهرقت فاحترقت في أتونها! وكم وكم وكم! فإذا ما أبصرنا بهذا كلِّه علمنا علم اليقين أنَّ الجهاد من الأمور التي لا يؤذن بها إلاَّ أن يكون الآذِنُ به هو الإمام، لأنَّ هذا كلَّه إنَّما كان -وابتليت الأُمَّة به، وأصابت من شروره وآثامه- حين صارت الأمور العَّامة التي لا تكون إلاَّ بوجود الأمير- وله، وبإذنه -موزَّعةً بين أيدي أمراء؛ لا يُقوَّم أحدهم إلاَّ بذلاقة لسانه، وجَعجَعَة كلامه، وجَهجَهَة عنانه، ثمَّ إذا نظر من حوله، وجد نفسه عارياً من كل ما يوجب على الأُمَّة طاعة الأمير الذي قال فيه الرَّسول: "واسْمَعوا وأطيعوا وإن وُلِّيَ عَلَيكم عبدٌ كأنَّ رأسهُ زبيبةٌ"(15).
والله -سبحانه- وهو يخاطب الأُمَّة بالجهاد، لا يخاطبهم به ليعجزهم عن القيام بحقِّه، فهو من الخطابات الشرعيَّة، التي تدخل في القاعدة الكلِّيَّة للتَّكليف {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [سورة: آية]، فإذا لم يكن في وسع الأُمَّة القيام بحقِّ الجهاد لغياب الأمير (الخليفة) الذي يَعقد رايته، ويأذن به، ويولِّي أميراً على الجيش؛ فإنَّ -الجهاد- يصير من التَّكاليف غير المقدور عليها، ولا تُؤَثَّمُ الأُمَّة بتركه، إلاَّ إن رضيت، وليس عليها إلاَّ أن يظلَّ الجهاد حاضراً في نفوسها ترقب اليوم الذي يهييءُ الله له أسبابه، فتستجيب لندائه، والإثم يصيب منه من ولاَّه الله أمر الأُمَّة، وجعلَ مقاليدها في يده.(3/32)
وحتى هذا الذي ولاَّه الله أمر الأُمَّة، لا يُؤثَّم إنَّما يُؤثَّم بترك الجهاد إذا كانَ قَد شغل نفسه عن الأُمَّة بأموره الخاصَّة، وانصرف عنها لاهياً عابثاً، وأدنى العُصاة الفُسَّاق أهل الأهواء، وأقصى عنه أهل الطَّاعة والنَّصيحة الأخيار، وأنال أولئك ومكَّن لهم، وحَرَم هؤلاء وأعرض عنهم، وألان قياده لأهل الكفر والباطل، وسعى إليهم لتكون لهم الوصاية والقِوامةَ على الأُمَّة، أمَّا إن كان لأسباب ليس في وسعه تلافيها، ولا في طوقه اختيار سبيل غيرها، فإنَّ له مندوحةً عن الإثم ولا يكلَّف به، لأنَّه عجزٌ عن القيام بحقِّه واستجلاب أسبابه، شأنه في ذلك شأن الأُمَّة.
ولا عذرَ لأُمراء الأُمَّة بترك الجهاد، بسبب ما هم فيه من فرقة، واختلاف، وتنازع؛ فإنَّ من حقِّ الأُمَّة عليهم أن يتداعوا إلى أمر سواءٍ بينهم، وأن يُوَلُّوا عليهم الأحقَّ منهم بالولاية، وأن لا يكون الحرص على الإمارة فيهم سبباً في بقاء يد الأُمَّة مغلولة عن الجهاد لإعلاء كلمة الله في الأرض، وبسط نفوذ الإسلام في الشعوب، وإقامة حكم دين الله بينهم، ولينظر كلٌّ منهم ما قدَّم لغدٍ، وليستيقن أنَّ ما مكَّنه الله به من إمارةٍ، وسلطانٍ، وقوَّةٍ، ومالٍ ذاهبٌ من يده باقٍ في عقبه، وهو مقبل بالموت على ربِّه، وكم هم أولئك الذين ملكوا في الدُّنيا ما ملكوا ينظرون الآن -وهم أحياء- إلى ما كانوا يملكون، في حسرةٍ، وحزنٍ، وعجزٍ، ويرتدُّ إليهم طرفهم -عن ذلك الذي كانوا يملكون، وهم يبصرون به- وهو ذليل حسير، فقد أضحى كلُّ الذي كانوا يملكون إلى غيرهم!!(3/33)
والجهادُ ثلاثةٌ: جهادٌ بالنَّفس، جهادٌ بالمال، جهادٌ بالدَّعوة والعلم، فإذا اجتمعت الثَّلاثة، فذلك ما نبغي(16)، وإذا عُجزَ عن واحد منها طُلب المقدورُ عليه، ولا أحسب أنَّه يأتي يومٌ على الأُمَّة تعجزُ فيه جميعها عن جميع أنواع الجهاد، فلا بدَّ وأن يصيب نوعٌ من هذه الثَّلاثة -مهما بلغت الأُمَّة من ضعفٍ- حظَّاً ما من جُهدِها باجتماعها، أو بتفرُّقها.
وهذا مِمَّا لا يُقعد الأُمَّة باليأس -أو بالعجز- عن الجهاد يوماً من الدَّهر، لكن عليها أن تنظر: أيُّ نوع من هذه الأنواع الثَّلاثة هو المقدور عليه؟ حتى إذا ما استَيقنَت أنَّ واحداً فقط هو المقدورُ عليه دون الاثنين الآخرين، فحينئذٍ يكون هو الواجبَ عليها، وإذا ما سعت إلى الآخر، وهو غير مقدور عليه، وأصابت به من شرٍّ، أو فتنةٍ؛ فإنَّما هي مؤاخذةٌ بذلك.
ومن الواضح، أنَّ الجهد بالمال، أو بالدَّعوة والعلم، مقدور عليهما، حتى في حال غياب الأمير (الخليفة)، أمَّا الجهاد بالسَّيف؛ فلا يكون إلاَّ بإمام يندب النَّاس إليه، ويأمرهم به، ويجمعهم عليه، وقد علمنا أنماطاً فريدةً -حفظها لنا التَّاريخ- من العلماء، فاقوا الملوك والأُمراء عزَّاً، وَظَفراً، وبأساً، وملكوا قلوبَ النَّاس من غير قهرٍ ولا سلاحٍ(17) ، وسعت إليهم الأُمَّة في طواعية وحبٍّ، لم يكن بدٌّ معه أن يَستصغر الملوك والأمراء في زمانهم شأنهم معهم، وأن يَجدوا في سيرتهم مرتعاً خِصباً مُمرعاً، يقبسون منه الورع والزُّهد والاستقامة على الأمر، فكان أن أخذ عنهم أولئك الملوك والأمراء علماً عمليَّاً، ألَّف بين قلوبهم، وأودعها مودَّةً صادقَةً، نفرت منها العداوة والبغضاء، ومالت بهم جميعاً إلى قولٍ من أحسن قوله صلى الله عليه وسلم: "خير أمرائكم الذي تحبُّونهم ويحبُّونكم، وتُصلُّون عليهم ويُصلُّون عليكم"(18).(3/34)
ولا يخفى على ذي لُبٍّ، أنَّ الجهاد بالسَّيف هو أعلى المراتب، وأوفرها نصيباً من الجهد الذي يبذل في الجهاد، ويستغرق نوعي الجهاد الآخرين: الجهاد بالمال، والجهاد بالدَّعوة والعلم.
ثم إنَّ الجهاد بالسَّيف قد يقتضي أن يخرج المجاهدون من داخل أرضهم إلى أرض أُخرى، قريبةٍ أو بعيدةٍ من أرضهم.
كلُّ هذه الأمور يجب أن تجتمع خيوط مسؤوليَّتها في يدٍ واحدةٍ، ليكون التَّقدير فيها أحكمَ وأوضحَ وأسلم.
وهذا ما تفرضه طبيعة قانون المدافعة -وسنفرده بمبحث مستقل- الذي وضعه الله في النَّاس؛ ليكون عوناً لهم في شؤون حياتهم، خاصِّها وعامِّها، فإنَّ طبيعة القوانين التي وضعها الله ليسير الكون بوفقها أنَّها لا تعمل بذاتيَّة الأشياء الموضوعة لها، إلاَّ إن نُفِّذت على الوجه الذي وضعه الله سبحانه لها.
وجعل الله سبحانه نفاذَ هذه القوانين في خلقه بأسباب ظاهرٍ للنَّاس وفيهم، ومن هذه الأسباب الظَّاهرة حركة الإنسان بين الأخذ وبين الرَّدِّ، وفق ما تمليه هذه القوانين.
وقانون المدافعة موكولٌ نَفاذه في النَّاس لهم دون غيرهم، والإنسان -بما وهبه الله من إدراكات- يملك التَّعامل مع قانون المدافعة، فإذا ما أراد الإنسان تعطيل المدافعة يمضي على وجهه لما خلقه الله له، ويبوء من يريد تعطيله بالإثم والمذمَّة في الدُّنيا والآخرة.
والجهاد الذي جعله الله سبحانه من الأسباب التي تجري في فَلَكِ قانون المدافعة هو منه، وبه، وفيه، وقانون المدافعة يقضي بأنَّ الجهاد لا بدَّ وأن يكون مأذوناً به من إمام عامَّةٍ، فإن أذن على نحو ما بيَّنا سابقاً، وإلاَّ فهو آبقٌ إلى إثمٍ، غادٍ إلى عذَابٍ، رائشٌ لنفسه سهماً من غضبِ الله يجأُ به صدره!!(3/35)
وكما أنَّ تعطيل الجهاد المقدور على أسبابِهِ من إمام عامَّةٍ مُؤذِنٌ بفساد حياة الأُمَّة، مُذْهِبٌ هَيْبَتَها، مذلُّها لعدوِّ الله وعدوِّها؛ فكذلك أيلولته إلى غير وليِّه (إمام عامَّة) ملحقٌ الفساد بالأُمَّة، مضعفٌ شوكتها، زائدٌ في فُرقتها، لأنَّ لكل أمير -إن كان أميرٌ- شأناً يختلف فيه عن غيره، وتقديراً وتفكيراً يباين فيهما سواه، ورؤية تعكس إرادته لا يتَّفق فيها مع الأخرين.
إذاً؛ فأين تقع المصلحة الشرعيَّة، التي تتحقَّق من وراء هذا النَّمط من الجهاد؟! وإن كنَّا لا نُؤثِّم من طابت سريرته، وصدقت نيَّته فيه على الرُّغم ممَّا رأينا من نتائج الجهاد المتعدِّد الأمراء، الكثير الرَّايات، المختلف القيادات "ما شابت له منَّا العَثانين"، أهونها: صنائع المجد (!!) التي كانت صدور هؤلاء المجاهدين مثوى لحرابهم التي كانوا قَد شرعوها أوَّل ما شرعوها في وجوه أعداء الملَّة (!!!) أظنُّ قادَة المجاهدين -الذين أخذ كلٌّ منهم برايةٍ- يعلمون لك جيِّداً (!!) فإنْ كانوا لا يعلمون إلاّ بالتَّصريح، فإنَّنا نُمسك عنه، خشيةً ممَّا يزيدُ منهُ في أحزاننا، وآلامنا!!
وبعد؛ فإنَّ الجهاد لا يفتح بابه، ولا يرفع رايته، ولا يأذن به ويدعو إليه، إلاَّ إمامٌ واحدٌ، رضي من رضي، وكره من كره، صوناً للأُمَّةِ، وحِفظاً لِقَناتِها.(3/36)
أمَّا الجهاد بالمال، ببذله في وجوه البرِّ والمعروف المختلفة، وإغاثة الملهوفين به، ورفع ضوائق الذُّلِّ والاستضعاف عن المعذِّبين، ومدِّ يد العون إلى الذين لا يمسكون بأيديهم إلاّ على الفقر، وغير ذلك مِمَّا حثَّ الله عليه، ورغَّب فيه، فيمكن أن يكون ذلك من غير إمام عامَّةٍ، ولا إذنٍ منه، ولا حثِّ ولا ترغيبٍ فيه، فإنَّ في ترغيب الله فيه، وحثِّه عليه في كتابه وفي سُنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم ما يكفي لأن يُسارع إليه المسلمون من غير إبطاء ولا تردُّد، وهذا الجهاد هو جهاد الأغنياء، ذلكم أن أي عمل من أعمال الخير التي أمر الله بها العباد مرهون نفاذها بالاستطاعة عليها أو الاستطاعة في فعلها، وعدم ترتب فساد أو شر في القيام بها.
ومثل الجهاد في ذلك الجهاد بالعلم، وأظهر ما يكون الجهاد بالعلم في الأمر بالمعروف وفي النَّهي عن المنكر، وفي نشر العلم الصَّحيح وتعليمه النَّاس، وبناء العقيدة في القلوب، وتشييد بناء الأحكام والفروع في العقول.
وهذا هو جهادُ العلماء والدُّعاة.
والعلماء والدُّعاة ليسوا في حاجةٍ إلى إذنٍ من أمير عامَّة، يأمرهم أن يبذلوا علمهم، وينشروه في النَّاس، ويُقوِّموا عقائدهم، ويُصوِّبوا ما تعلَّموه على غير دليل من كتاب وسنَّة، ليكون على وفقهما.
وعلى مثل هذا الفقه البصير يكون الجهاد الذي اراده الله من الأُمَّة، تصان به الأرواح، وتُحمى به الدِّيار، ويُدرأُ به الشر، ويُجلب به الخير، ويُنصر به الدِّين، ويُذاذُ به عن العِرْضِ، وتُحفظُ به الأموال والأنفس.(3/37)
والله سبحانه لا يكلِّف نفساً إلاُّ وُسعها، وإذا وقف المسلم عند حدود ما يُطيق أصابَ حُكمَ الله، وأدَّى ما يُؤمر به على الوجه المُراد شرعاً، فإن جاوزه؛ فقد أصار نفسه إلى ما لا تُطيق، وحمَّلها ما لا يستطاع، ويكون بذلك قَد أتى شيئاً لم يأذن به الله سبحانه، وما ينبغي للمؤمن إلاَّ أن يكون عند ما شرع الله وحده، وبلَّغه الأُمَّة نبيُّه صلى الله عليه وسلم؛ {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [سورة النور: آية 51].
ومجاوزة حدِّ ما شرع الله -في أيِّ أمرٍ- لا يكون مخالفةً يأثم بها المُخالفُ فحسب، بل إنَّها تُحْدِثُ في الأُمَّة من السُّوء بالقَدْرِ الذي وقعت فيه من المخالفة، بمجاوزتها الحدَّ الموضوع لها.
وقد رأينا ما أصاب الأُمَّة مِن بلاءٍ وسوءٍ حين لم تقف مع قانون المدافعة، الذي وضعه الله؛ لتُجاهد على وَفْقِه، وتُلْزِمُ نفسها الأسبابَ التي بها تؤدِّي حقَّ قانون المدافعة الإلهي، الذي فرضه الله سبحانه عليها، في غير حماسةٍ طاغيةٍ، ولا إبطاءٍ متعثِّرٍ.(3/38)
ومِمَّا يُحزن النَّفس حقَّاً، أنَّ طغيان الحماسة الدِّينيَّة التي لا تقوم على فقهٍ سليمٍ، أخرج الأُمَّة عن دائرة الصِّدق حتى مع النَّفس، وأولجهم تيهاً شرَدت فيه أبصارهم، وضلَّ فيه صبرهم، وتمارى فيه جهلهم، فإذا هم طوائف شتَّى، وجماعات مختلفة، يلعن بعضها بعضاً، ولا تذكر الواحدة للأخرى إلاَّ ما يبرأ منه إبليس، ويستخفي منه حياءً!! ولا تُضمرُ لها إلاّ سوءاً تراه من جهلها وسوءِ ظنِّها قرباً زُلفى إلى الله عياذاً بالله، وكل واحدةٍ منها تظنُّ بنفسها أنَّها على هدىً وبصيرةٍ، ولا أحسب حالَ الفِرَق التي أخبر النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّها ستكون في الأُمَّة، بأسوأ من حال الجماعات والطَّوائف، الموجودة اليوم -وكلُّها تَدَّعي أنَّها من أهل السُّنَّة والجماعة!-، ألا إلى الله وحده المشتكى، ومنه العياذ، وفيه وحده الرَّجاء.
ويحسنُ أن لا يفهم أحدٌ من القرَّاء أنَّني أدعو إلى تعطيل فريضة الجهاد في هذا الوقت، والأُمَّة تذوق من الهوان المرِّ، والذُّلِّ المهين، والبلاء الوبيل، ممزوجةً جميعها في كأسٍ واحدةٍ تُقطِّع أمعاءَها، وتشوي أجوافها، وتُذيب أكبادها!!
إنَّ من يقول بتعطيل فريضة الجهاد في أيِّ وقتٍ من الأوقات، يسقي نفسه من سوءِ العذاب ما يسقيها، وفرقٌ واسعٌ جداً بين من يقول بتعطيل فريضة الجهاد، وبين من يقول: يجب الإعداد الصَّحيح لها، ولو استغرق هذا الإعداد سنينَ طويلةً؛ لأنَّ في الإعداد امتثالاً لقوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ} [سورة الأنفال: آية 60].(3/39)
ومَن أنعَمَ النَّظر في هذا النَّص يرى أنَّه يكاد ينطق بوجوب الإمساك عن الجهاد حتى يكون الإعدادُ على تمامه -وقد يكون من الإعداد تَرْكُ الإعداد- إذ الإعداد يُقصد به إرهاب أعداءِ الله، وأعداءِ المسلمين، وإذا لم يتمَّ على الوجه الذي يُدخل الرُّعب في قلوبهم، ويؤرِّقُ عليهم مضاجِعهم، وينفي الرَّاحة والاستقرار والأمن عنهم، فليس هو الإعداد المطلوب، وإلاَّ فما معنى قوله: {تُرْهِبُونَ}؟!
والإعداد يكون بالوسائل الشرعيَّة التي تحقِّق الغاية منه، وهو: إرهاب الأعداء، وهو أقلُّ غَرَضٍ من أغراض الجهاد، فكيف، وليس لدينا من الإعداد ما يكفي أن نرفع أصواتنا بذكر لفظ إرهاب الأعداء؟
أضف إلى هذا، أنَّ الإعدادَ اليومَ غيرُه بالأمس، فإعدادنا: وسائله، وآلاته، ومادَّته، كلُّها بيد أعداء الأُمَّة في الحقيقة والواقع، وإن قالوا ووصفوا أنفسهم أنَّهم أصدقاؤنا!! فَبِيَدهِم كل ما تملك الأُمَّة من آلة الحرب التي دفعت الأُمَّة ثمنها من مالها الذي لا تملكُهُ إلاَّ بحفظ الأرقام، وكل قطعة سلاح، أو سيَّارة، أو دبَّابة، أو طائرة، أو مدفع، أو غير ذلك، محصاةٌ بالعدد، والرَّقم، والنَّوع، والوصف، فهل يُتصوَّر عقلاً أن نُرهِب عدوَّنا بما نملك وهو ليس ما نملك؟ وسيَّان عنده ما نملك وما لا نملك!
وليس يُنبيك عن حالٍ مثل لسان الحال! فهل لنا أن نسأل حالنا عمَّا حلَّ بنا وأحالنا إلى حالٍ يضحك منه عدوُّنا، ويُريحهُ من التَّفكير في أمرنا؟!!
ولك أن تستقرىء الآيات التي جاءت مكمِّلةً لآية الأمر بالإعداد وموضِّحةً، لتعلم أنَّ أفضل الجهاد اليوم -في وَهننا الذي نحنُ فيه- هو الإمساك عن الجهاد، وهذا -ولا ريب- عندي هو من الإعداد الذي تُوَفَّرُ فيه الجهودُ إلىماهو ممكنٌ ومقدورٌ عليه من أنواع الجهاد، حتى تصير مفاتيح خزائن سلاحنا بأيدينا نفتحها متى نشاء، ونغلقها متى نشاء.(3/40)
قال تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} [سورة التوبة: آية 123]، وقال: {يأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [سورة التوبة: آية 73]؛ وهل تكون غِلْظةٌ وإغلاظٌ في الجهاد على الأعداء إلاَّ بالإعداد الذي يكافىءُ -بما يُضاف إليه من أسباب ووسائل- إعداد الكُفَّار والمشركين أعداء الله وأعداء الأُمَّة، أو يقاربه؟!
أترك الجوابَ لمَن يُحسنُ الجوابَ!!
الدِّين قِشرٌ وَلُبابٌ
كلمةٌ جَرَت بها ألسنةُ مشاهير الدُّعاة، وردَّدتها حناجرُ الخطباء، وتناقلتها -في الكتب والرَّسائل- أقلامُ المفكِّرين والعلماء (!) وما كانت لتكون من هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء، لو أنَّهم لم يكونوا ينقمون على إخوان لهم تجمعهم بهم كلمةُ التَّوحيد، التي لا يَختلِفُ على معناها، ولا يَضِلُّه ولا يَهيدُهُ، إلاَّ من طمس الله على قلبه، وغشاه بظُلمةِ الباطل، وأخنى عليه بِشِقوَتِهِ.
هؤلاء الإخوان لا يُفرِّقون في أخذهم الكتابَ والسُّنَّة، بين الواجب وبين المندوب في العمل، ولا بين المكروه وبين الحرام في التَّرك، مُمْتَثلين في ذلك قولَ الله سبحانه: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [سورة البقرة: آية 286]، وقول نبيِّهم صلى الله عليه وسلم: "... فإذا أمرتكم بشيءٍ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيءٍ فاتركوه"(19) فهل في قول الله وقول نبيِّه هذين ما يبيح أو يأذن لنا أن نقول: إنَّ في الدِّين قشراً ولباباً؟
إنَّها مقولةٌ رابيةٌ بالشر، مترَعةٌ بالجهل، عاقدةُ خِنصرَها على سوءٍ ومكر.
ولكي يَزداد هذا المَبحث بياناً ووضوحاً أقولُ:(3/41)
إنَّ الأُمَّة التي لا تعرف قَدْرَ نفسها هي التي تجعل من مقوِّماتها الموروثة حقلاً للتَّجارب، تعبث به العقول والأقلام، لينتهي الأمر إلى التَّفريط فيها، إمَّا بتغييرها، وإما بسلخها عن ماضيها، حتى إنَّ النَّاظر إليها ليكادُ يظنُّها -وهي أشياء متناثرة مقطَّعة- بعضاً من أجزاء الأرض التي لا قيمة لها، تمتدُّ إليها يد الإنسان لإزالتها وإخفائها.
والأُمَّة المسلمة أغنَت نفسها في الماضي بولائها لدينها -وهو أعظم مقوِّمات وجودها- والتصاقها بعقيدتها، وإسباغها على نفسها ثوبَ الإيمان الذي صنعه لها نبيُّها صلى الله عليه وسلم بوحي من ربِّه، وألبَسها إيَّاه لتكون أُمَّةً ممتازَةً من سواها من الأُمَم.
ولَقد ظلَّت الأُمَّة المسلمة قويَّة في نفسها، قادرةً على العطاء قروناً طويلة رغمَ ما اعتراها من ضعفٍ في فتراتٍ متقطِّعةٍ من تاريخها، كان دينها يُقصي عنها هذا الضَّعف، وتمضي به إلى غايتها تشيدُ المجد والعزَّة لنفسها والأمن والسَّعادة لغيرها.
فلمَّا أن خالفت الأُمَّة عن دينها، ونزعت ثوب إيمانها، وأزهقت الميراث الذي آل إليها من السَّابقين الأوَّلين، لم تعد قادرة -ليس على العطاء- بل على التَّماسك والثَّبات في و جه رياح الفكر التي تهبُّ عليها بين الحين والآخرَ من كلِّ الآفاق والأقطار، تنزعها من بقايا مقوِّماتها التي صارت تشبه الأحلام المختلطة، وتحكي الرُّؤى الواهمة، حتى إنَّ الأجيال القادمة سوف لا تراها -لا أحلاماً مختلطة، ولا رُؤىً واهمة- بل ستكون في أعينها سراباً مضطرباً بِقيعةٍ، يُقطِّع أنفاسها، ولا تدرك منه ريَّاً لظمئها.(3/42)
وتذكيراً منِّي لشبابِ الإسلام وشيوخه، وعلمائه ودعاته، وأوليائه وأعدائه معاً، أودُّ أن أذكِّرهم بحقيقة من الحقائق الكلِّية الكُبرى التي وضعها لنا نبيُّنا مُحمد صلى الله عليه وسلم بقوله: "مَن أحدثَ في أمرنا هذا ما ليسَ منهُ فهو ردّ"(20)، ولقد رأينا الكثيرين اليوم يُقصي هذه الحقيقة عمداً أو غفلةً وجهلاً، أو أنَّهُ لينساها، حتى لكأنَّ قائلها ليسَ النَّبيَّ المعصوم صلى الله عليه وسلم، فصارَت تُحدِث أشياء، وتغيِّر أشياء، وتقدم وتؤخر أشياء وأشياء، فكانوا بذلك كأهل الكتاب، الذين قال القرآن فيهم: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [سورة البقرة: آية 79].
بعد هذا البيانِ أقولُ:
إنَّ ممَّا أحدث النَّاسُ في زماننا هذا مقولةً واسعةَ الأرجاء، ممتدَّةَ الأطراف، ليس لها بدايةٌ، ولا تُعرفُ لها نهايةٌ، زيَّنها في أعينهم العجزُ والجهلُ والهَوى جميعاً، تلكم هي: "على المسلمين اليوم أن يَدَعوا القشور ويهتمُّوا باللباب"!! أو بعبارةٍ أخرى: "أن يأخذوا المضمون ويتركوا الشكل"!! وصارت هذه المقولة شعاراً له أنصارٌ ودعاةٌ وأقلامٌ وصُحف ومناهج وعقول.
وبالرُّغم من كلِّ هذا الحشد الذي التفَّ حول هذا الشعار، فإنَّنا لم نجد حتى الآن ترجمةً واضحَةً له، أو تحديداً دقيقاً لمعناه، لذا: فإنَّني أجدني مُلْجَأً أن أُناقض هذه المقولة مُناقضةً علميَّةً، مطَّرحاً جانباً الحماسة العاطفيَّة، والانفعالاتِ الوُجدانيَّة، والسَّورات النَّفسيَّة، في فقرات متتابعَة آخذٍ بعضها ببعض.(3/43)
أوَّلاً: إنَّ القائلين بهذه المقولة الحادثة، رغم تأكيدهم عليها، والإكثار من الحديث عنها، فإنَّهم لم يضعوا تعريفاً أو حدَّاً لما سمَّوه قشراً، أو لما يُسمَّى لباباً ينتهي إليه الرَّاغب في العمل باللباب وحده دون القشر، ولا أحسبهم واضعين، وهل من الحكمة أن يدعوَ واحدٌ أو جماعةٌ لشيءٍ ثمَّ لا يكونوا على بيِّنةٍ منه؟
ثمَّ كيف يستطيعُ هؤلاء أن يدْعوا غيرهم إلى شيءٍ وهم غير قادرين على تعريفه أو بيان حدِّهِ؟ أو لِنقُل: لم يَضعوا لهُ تعريفاً ولا حدَّاً حتى الآن، وقديماً قيل: "الحُكم على الشيءِ فرعُ من تصوُّره"، وإنَّ دعوتهم إلى هذه المقولة الحادثة، لا يمكن أن تصادف قبولاً في عقول النَّاس إذا كانوا هم أنفُسهم غيرَ قادرين على الحكم على ما يدعون إليه.
هذا إن كانوا قادرين أيضاً على الإحاطة به تصوُّراً في أنفسهم أوَّلاً، أمَّا وهم غير قادرين على ذلك، فمن الخير والأجدى أن يصمتوا وأن يمسكوا عن مواصلة الحديث في هذه المقولة.(3/44)
ثانياً: إذا كانَ الدَّاعون إلى هذه المقولة لم يضعوا لها تعريفاً ولم يرسموا لها حدَّاً، فلنضع نحن لها تعريفاً تقريبيَّاً -كما يُقال- ثمَّ لنَنظر، هَل يقوى هذا التَّعريف على الثَّبات أمام النَّظر العلمي المحض بما نورده في الفقرات الآتية، أو أنَّه لا يثبت. لنقل: "اللباب في المأمورات الشرعيَّة هو ما يدخل تحت الحكم الواجب، والقشر هو ما جاوز دائرة الحكم الواجب، أمَّا اللباب في النَّواهي فهو ما يدخل تحت الحكم الحرام، والقشر هو ما لم يتناوله الحرام الصَّريح في النَّواهي"، وعلى ذلك فالقشور في المأمورات: كلُّ مندوبٍ أو مُباحٍ، وفي النَّواهي المكروهات، وبذلك فإنَّه يجتمعُ لدينا من القشور ما يزيدُ على نصف الدِّين، ويبقى لنا من لبابه اقلُّ من النِّصف، فهل من الوَرع في الدِّين، أن ندع لعذر لا يُدرى مأتاه -إلا من جهل أو هوى أو غفلة- أكثر من نصف الدِّين قشوراً، لنأخذ أقلَّ من نصفه لباباً؟
ثالثاً: نسأل هؤلاء المفرِّقين في الدِّين بين القشر وبين اللباب إذا اتَّفقوا معنا على التَّعريف الذي أسلفنا، أين يضعون بعض المسائل المختلف عليها بين الواجب والمندوب أو بين الحرام والمكروه؟ حسب التَّعريف الذي وضعناه لكلٍّ من اللباب والقشر، ففي الأوامر نأخذ مثلاً صلاة الوتر، فهي عند أبي حنيفة رحمه الله واجب يأثم تاركه، وعند جماهير العلماء -ومنهم الشافعي ومالك وأحمد رحمهم الله- سنَّة لا يَأثم تاركها ويُثاب فاعلها، ففي إيِّهما نضع صلاة الوتر، أفي القشر أم في اللباب؟
وفي النَّواهي نأخذ مثلاً شارب المسكر "من غير العنب"، فإنَّه لا يُجلد عند أبي حنيفة إلاَّ إذا سكرَ وثَمِلَ، وعند الجمهور يجلد لمجرَّد شربه، وسواءٌ أكانَ المُسكر من عنب أم كانَ من غير العنب، ففي أيِّهما أيضاً نضع وجوب الجلد لشاربها أفي القشر أم في اللباب؟(3/45)
وهناك أمثلة أُخرى كثيرةٌ تتعارض فيها آراءُ الفقهاء تعارضاً يجعل كلَّ رأي من الآراء المتعارضة على طرفَي نقيض مع الرَّأي الآخر، بحيث لا يمكن إسقاط هذا التَّعارض القائم بين هذه الآراء إلاَّ بالوقوف عند الدَّليل القاطع الصَّريح من كتاب الله عزَّ وجلَّ، ومن صحيح سُنَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم، وفيهما النَّجاةُ كلُّ النَّجاةِ لمَن أراد النَّجاة.
رابعاً: الله سبحانهُ أنزل دينه على نبيِّه صلى الله عليه وسلم ليبني به الإنسان المسلم، فيكون به سعيداً في الدُّنيا والآخرة، ولا يخفى على ذي عقل أنَّ كلَّ أمرٍ ونهي من أوامر هذا الدِّين ونواهيه تسهم إسهاماً قوَيَّاً في بناء هذا الإنسان، سواءً أكانت من المَندوبات أم من المباحات أم من الواجبات، وسواءً أكانت من المكروهات أم من المحرَّمات، لأنَّ جميع هذه الأحكام هي شعب الإيمان التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إلهَ إلاَّ الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطَّريق، والحياءُ شعبة من الإيمان"(21)، فأيُّما شعبة نقصت منها كانت نقصاً من الإيمان، وأيُّما شعبة التزمها المسلم كانت زيادةً في إيمانه، لأنَّ الإيمان يزيد وينقص بالقول والعمل، وهو مذهب السَّواد الأعظم من الأُمَّة.
خامساً: يقول الرَّسول صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه"(22) والاستطاعة في إنفاذ الأمر إمَّا أن تكون في الفعل الواحد، كالصَّلاة مثلاً، فإذا لم يستطع المسلم أن يصلِّيها وهو قائم، وجب عليه أداؤها على الوجه الذي يستطيعه من قعودٍ أو اضطجاع أو غير ذلك.(3/46)
وإمَّا أن تكون الاستطاعة في مجموع الأفعال، فقد لا يستطيع المسلم أن يصوم لمرض، في حين يكون قادراً على أداء الصَّلاة على كلِّ حال، فوجبت الصَّلاة في حقِّهِ، وسقط عنه الصِّيام إن كانَ مرضاً مُزمناً، وإلاَّ صام حين شفائه، وقد لا يقوى المسلم -لعذر من الأعذار- أن يصلِّي في المسجد، وهو مأمورٌ بأدائها فيه، فلا يقال ما دام أنَّهُ لا يستطيع أن يصلِّيها في المسجد فلا يصليِّها، بل يُقال: يفعل ما يقدر عليه، ويُعذر فيما لا يقدر عليه.
أمَّا المنهيَّات، فقد أمر النَّبي صلى الله عليه وسلم أمَّته أن تجتنبها كلَّها، من غير فرقِ بين واحدٍ وواحدٍ، فكما أنَّهُ نهى عن الزِّنا، فإنَّه نهى عن النَّظر المحرَّم إلى المرأة، وكما أنَّه نهى عن شرب الكثير من الخمر فإنَّه نهى عن شرب القليل منها، وكما أنَّه نهى عن سرقة المال الكثير، فإنَّه نهى عن سرقة الدِّرهم والدِّرهمين، وكما أنَّه نهى عن الكذب على الأُمَّة كلِّها، فإنَّهُ نهى عن الكذب على الرَّجل الواحد، وكما أنَّه نهى عن أن تكشف المرأة عن جميع جسدها، فإنَّه نهى أن تكشف عن صدرها أو عن ساقها أو عن أيِّ جزءٍ من بَدنها، فلا يقال هنا: يجتنب ما يستطاع اجتنابه، بل يجب اجتناب كلِّ ما نهى عنه، ولا يعفى إلاَّ عن النَّاسي أو المخطيء أو المُكْرَه.
سادساً: ما صحَّت روايته عن أبي سعيد الخُدري رضيَ الله عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:
"لا يَمْنعنَّ رجلاً هيبةُ النَّاس أن يقول بحقٍّ، إذا عَلِمه أو شهِدَه أو سمعهُ"(23) .(3/47)
هذا الحديث ألمَّ بكلِّ ما يخطر بالبال من قشور ولباب، ولم يفرِّق الرَّسول صلى الله عليه وسلم فيه بين شيء وشيء، فمن رأى أمراً يُخالَفُ فيه حكمُ الشرع، ويُجانِبُ فيه فاعلهُ الحقَّ -سواء أكان قشراً أم لباباً- فحقٌّ عليه أن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر، فإن سكت خشية أن يتَّهمه النَّاس مثلاً بالتَّعصُّب، أو التَّزمُّت، أو الاهتمام بالسَّفاسف من الأشياء، أو مخالفة العُرف السَّائد، أو الخروج على مألوف النَّاس، أو تساهلاً وإعراضاً، أو تجنُّباً لنقد النَّاقدين، أو لئلا يقال: إنه لا يعرف حقَّ العصر، أو إنَّه خارج على مألوف النَّاس، أو غير ذلك من الأعذار التي لا تُقبل عند الله سبحانه؛ فهو آثمٌ يستحقٌّ الذَّم والعقوبة من الله، كما وصفه الرَّسول صلى الله عليه وسلم.
سابعاً: أسال المفرِّقين بين القشر وبين اللباب، هل شيءٌ من القشر لا يدخل في دائرة الأحكام الخمسة؟ ولعلَّهم لا يخطئون! إذاً فليقولوا قولاً سديداً: إنَّ اللباب والقشر جميعاً لا يخرج عن دائرة الأحكام الخمسة، وإذا كان ما قالوا صحيحاً وحقَّاً، فإنِّي أُذكرهم بمعنى الحكم الشرعي، وهو: "خطاب الله تعالى المتعلِّق بأفعال المكلَّفين على سبيل التَّخيير أو الطَّلب تركاً أو فعلاً"، وهل يجوز أن يسمَّى شيءٌ من أحكام الله تعالى قشراً على سبيل الاصطلاح كما افترضنا؟ أو على سبيل التَّهوين والغضِّ مجرَّداً لا لشيء إلاَّ لظنٍّ فاسد؟ لا أحسبُ أحداً يؤمنُ بالله واليومِ الآخر يُجيزُ مثلَ هذا، وهو يعلم أنَّ الله قَد أتمَّ النِّعمَة على المؤمنين، فأكمل لهم الدِّين: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً} [سورة المائدة: آية 3]، فكانوا بذلك خيرَ أُمَّة {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [سورة آل عمران: آية 110].(3/48)
ثامناً: لست أقول بأنَّه لا تكون أولويَّات في الدَّعو، فلا يتقدَّم شيء على شيء، فمثلاً: إذا رُئيَ إنسانٌ يعاقر الخَمر وهو تارك للصَّلاة، فإنَّه يدعى إلى الصَّلاة أوَّلاً لأمرين اثنين:
1- أنَّ إثمَ شرب الخمر لا يبلغ إثمَ ترك الصَّلاة.
2- أنَّ فعل الصَّلاة يعين على ترك المنكر؛ كما قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [سورة العنكبوت: آية 45]، لكن هذا ليس بمانع الدَّاعية في الوقت نفسه، إذا رأى إنساناً مُرتكباً إثمين، أن يقدِّم الأصغر على الأكبر منهما، إذا كانَ مرتكبُهما أدنى إلى الاقتناع بترك الأصغر قبل الأكبر، فالدَّاعية هو الذي يستطيع أن يحدِّد الأهم من الأمرين، أو من الأُمور جميعاً، وقد كانَ النَّبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك مع أصحابه، فكان إذا رأى آحاداً منهم، يفعل كلُّ واحدٍ منهم شيئاً أو يترك شيئاً، لا يدعه يمر إلاَّ وأمر هذا ونهى هذا، حرصاً منه على أن ينال كلٌّ منهم الخير وإن كانَ قليلاً، وأن يعلِّم كلاٍّ منهم علماً نافعاً يحرصُ علىتبليغه النَّاسَ، فيناله فضلُ إبلاغ الدَّعوة، الذي أمر به النَّبي صلى الله عليه وسلم: "بلِّغوا عنِّي ولو آية، فربَّ مُبلَّع أوعى من سامع"(24)، ودعا بالرَّحمة لمَن فعله: "رحم الله امرءاً سمع مقالتي فبلَّغها كما سمعها"(25).
ولا يقال هنا: إنَّ مجتمع الصَّحابة مختلفٌ عن مجتمع المسلمين اليوم، فكلُّ مجتمع في حاجة إلى الدِّين كلِّه؛ آدابه، ومعاملاته، وعباداته، وعقائده، وانتقاصُ أيِّ أمرٍ من هذه الأُمور هو انتقاصٌ من الدِّين والإيمان، ولا يُزيله إلاَّ الرُّجوعُ عنه، وقد أخبر النَّبي صلى الله عليه وسلم بما سيكون من شأن الأُمَّة مع دينها، ونقضها عراه، فقال: "لتُنقَضَنَّ عُرى الإسلام عُروة عُروة، فكلَّما انتقضت عروة تشبَّث النَّاس بالتي تليها، وأوَّلُهنَّ نقضاً الحُكم، وآخرهنَّ الصَّلاة"(26).(3/49)
تاسعاً: إنَّ التَّفريط في الأمر الصَّغير يؤدِّي إلى التَّفريط في الأمر الكبير؛ لأنَّ استمرار هذا التَّفريط ينشىءُ في الإنسان عادة تنتهي به إلى التَّهاون فيما يفعل، والأمَّة كلُّها تعلم أنَّ هناك كثيراً من عرى الدِّين وأحكام الإسلام مَقصِيَّةٌ عن واقعهم، ولا يُستطاع الوصول إليها أو التَّحدُّث عنها، وبعض هذه العرى ممَّا يترتَّب عليه إقامة حكم الله في الأرض، وحماية بيضة الإسلام، فهل من الحكمة والإيمان معاً أن يَتْرُكَ الدَّاعية الدَّعوةَ إلى ما بقي مِن عرى الدِّين وأحكام الإسلام -وأغلبها ممَّا يدخل في عداد القشور بِزَعمهم- بعذر أنَّه لا يقدر على هذه أو تلك منها؟ إنَّه لقولٌ عجابٌ، وأي الأمرين يكون أحسن، أن يدع القادر على البعض، هذا البعض المقدور على فعله، البعض غير المقدور عليه أو أن يَدع غير المقدور عليه للمقدور عليه فيفعله؟!
عاشراً: وأخيراً؛ فإنَّ هذا التَّفريق لم يُعرف في سلف الأُمَّة من الصَّحابة والتَّابعين وتابعيهم بإحسان، فقد كانوا أحرص النَّاس على الاستجابة لكلِّ أمرٍ فيفعلونه، وعلى كل نهيٍ فيجتنبونه، تحقيقاً في أنفسهم لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمرٍ فأْتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه"، فهو أمرٌ حادثٌ، وكانوا أشد النَّاس نُفرةً من الحوادث؛ لأنَّها بدع، وكلُّ بدعة ضلالة، وكلُّ ضلالة في النَّار.
بل لقد بَلغَ من خوفهم من المخالفة عن الدِّين، وتحرِّيهم امتثال أحكامه، أنَّهم كانوا يَدَعون كثيراً من الحلال خشية الوقوع في بابٍ واحدٍ من أبوابِ الحرام.
لقد نشأت هذه المقولة الحادثة من خضوع العقل المسلم للثَّقافات الغريبة التي أخذت عليه أقطاره، وسدَّت عليه طرائقه التي وصلت به من قبل إلى الهدى والحق، وخير الهَدي ما استقرَّ عليه الأمر في القرون المفضَّلة الأولى التي عاشت بالإسلام كلِّه عقيدة وشريعة.(3/50)
فلْيَسَعْنا ما وسع هذه القرون، وَلْنمْض في الطَّريق الذي مضوَا فيه، وليكن منهاجُنا قوله تعالى: {فَاتَّقُواْ الله مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سورة التغابن: آية 16]، وقوله سبحانه: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ...} [سورة هود: آية 112].
ولنعْلَم أنَّ من الطُّغيان -وهو مجاوزَة الحدِّ- الانتقاصَ من الدِّين في العمل، كما هو زيادّةٌ على الدِّين فيه، وقد حذَّرنا الله سبحانه من ذلك بقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور: آية 63].
هل البِدعةُ بِدعتانِ: حَسَنةٌ وسَيِّئَةٌ؟
وإذ قَد استَوفَينا القول في مقولةٍ عصريَّةٍ حادثَةٍ، وهي: الدِّين قشرٌ ولُبابٌ، وما أكثر الحوادث التي حطَّت فوق أرضِ الإسلام، وأرادتهُ بالسُّوء والشرِّ على عقيدته وشريعتِه، كلُّ واحدةٍ منها حين تُقبِلُ في النَّاس، تفتح الباب للمئات والعشرات من البدع، ويصبح عسيراً على مُريد الإصلاح أن يدفعَ في صدورها لكثرتها، وكما قيل: "الكثرة تغلب الشجاعة"!!
فَمن الخير أن نصنعَ في هذه المقولة وهي: "البدعة بدعتان سيِّئة وحسنة" ما صنعناه في المقولة السَّابقة لها، فمن شرِّ البدعَة أو سوءِ الابتداع في الدِّين، أن يُسكتَ عن باطلٍ يُرادُ فيه، أو أن يخلَّى في الرَّدِّ بين من لا يُحْسِنُ الرَّدَّ والجواب، وبين هذه المقولة أو غيرها من المقولات المُفتراة على الإسلام وأهله.
وقَد ضلَّت الأُمَّة الطَّريق الأقومَ، وأزاغَتها البدعُ الحادثةُ فيها عن الحقِّ الأبلجِ، وصيَّرت نفسها إلى غرب الهوى، تَهوي بها وتصعدُ في لجَّةٍ ظلماءَ صاخبةٍ، حين تُرِكَت البدع النَّكراء الشَّوهاء، تَصول وتجول في أرضها، تستقي من نَمير مائها وتأكلُ من طيِّب ثمرها، وتُبهج نواظِرَها من حسن رُؤاها.(3/51)
فأصبحت وإذا هي ترعى في أرضٍ جرداء، لا عشبَ فيها ولا ماءَ، ولا ظلَّ ولا هواء، تتقطَّع فيها أنفاسها، ولا تَغدو إلاَّ على مسغبةٍ، ولا تُمسي إلاَّ على مثل ما غَدَت، وكلَّما أهاجها الحنين إلى سيرتها الأولى، أفقدها لُغوب الحياة الدُّنيا، ورَتْعُها في زينتها، وشغُلها في أحوالها وشؤونها، عن إعمال النَّظر في تلك السِّيرة، وإذا هي قد أخذت في العَودِ قَهقرى، عقوبَةً على طائفةٍ من الذُّنوب ألمَّت بها، بحرصها على الإمساك بأذناب البدع، والعضِّ بالنَّواجذ على المحدثات.
والله سبحانه الذي أبدع السَّماوات والأرض على غير مثال سابق؛ أنزلَ للنَّاس بوحيه تشريعاً يحقِّقُ للبشريَّة سعادتها الدُّنيويَّة والأُخرويَّة على غير مثال سابق في التَّشريع والحكمة، لكن هذه السَّعادة لا تتحقَّق للنَّاس من خلال هذا التَّشريع الإلهي إلاَّ بأمرين اثنين:
الأوَّل: إنفاذ هذا التَّشريع في إخلاص وطواعية.
الثَّاني: إنفاذه على الوجه الذي أنزله الله سبحانه من غير زيادة ولا نقص.
وقد حفل القرآن الكريم والسُّنَّة النَّبويَّة المطهَّرة بالآيات والأحاديث تدلُّ على ذلك؛ من هذه الآيات الكريمة قوله سبحانه: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [سورة النساء: آية 65].
ومنها قوله سبحانه: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة الأنعام: آية 115].
ومنها قوله سبحانه: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور/51].(3/52)
ومنها قوله سبحانه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [سورة الحشر: آية 7].
ومنها قوله سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً} [سورة المائدة: آية 3].
... إلى غير ذلك من الآيات المحكمة.
ومن الأحاديث النَّبويَّة قوله صلى الله عليه وسلم: "تَركتُ فيكم شيئين لن تضلُّوا بعدهما؛ كتاب الله، وسنَّتي، ولن يتفرَّقا حتّى يردا عليَّ الحوض"(27).
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً، فجعلَ الجنادب والفراش يقعْنَ فيها، وهو يذبُّهن، وأنا آخذ بحُجزِكم عن النَّار، وأنت تفلتون من يدي"(28).
فهذه النُّصوص وغيرها قاضيةٌ بأن يَقِفَ الإنسان عند حدود الشريعة، لا يتجاوزها، ولا ينتقص منها، وإلاَّ كان ظالماً نفسه؛ قال تعالى: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [سورة الطلاق: آية 1]، وقال تعالى: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة البقرة: آية 229]، فلا يملك الإنسان حيال هذه النُّصوص إلاَّ أن يقول: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [سورة البقرة: آية 258].
* الابتداع منازعة الله في حُكمِه:
والبديع اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه: موجد الأشياء وخالقها بحكمته، وتقديره على غير مثال سابق بكلمة (كُن)، فمَن يبتدع في دين الله شيئاً؛ فقد نازع الله أمره، وتسمَّى باسمه؛ لأنَّ الابتداع في الدِّين هو إحداث أمر في الدِّين زائد عليه، يقصد به التَّعبُّد، أو الزِّيادة في التَّعبُّد، فالمبتدع زائد في الدِّين ببدعته، محدث في الشرع ما ليس منه، فكأنَّه شَرَع أمراً لم يأذن به الله!(3/53)
وقد ذمَّ الله سبحانه ذلك في كتابه، وعلى لسان نبيِّه صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله} [سورة الشورة: آية 21]، وقال أيضاً موبِّخاً بعض الرُّهبان من أهل الكتاب: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى اثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَاتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ الله فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [سورة الحديد: آية 47].
* الرَّسول صلى الله عليه وسلم يَذُمُّ البِدعَة:
ومِمَّا جاء في ذمِّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم البدعةَ ما صحَّ عن العِرباض بن سارية قال: وعظنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم موعظةً بليغةً، وجِلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنَّها موعظة مودِّع، فأوصنا، قال: "أُوصيكم بتَقوى الله، والسَّمع والطَّاعة، وإن تأمَّر عليكم عبد حبشي، وإنَّه من يعش منكم؛ فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الرَّاشدين المهديِّين، عَضُّوا عليها بالنَّواجذ، وإيَّاكم ومحدثات الأمور، فإنَّ كلَّ بدعة ضلالة".
وجاءَ في بعض طرق هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "إنِّي تركتكم على مثل البيضاء؛ ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلاَّ هالك"(29).
ومن ذلك أيضاً ما ثَبَت عن عائشة أمِّ المؤمنين رضيَ الله عنها أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن عمل عملاً ليس عليه أمرنا؛ فهو ردٌّ"(30).
وفي رواية أُخرى(31) عنها رضيَ الله عنها أيضاً: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو ردٌّ"، أي: مَردود على مُحْدثِهِ، ولا يقبل منه.(3/54)
ومن ذلك أيضاً ما رواه(32) أبو هُريرة أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "كلُّ أمتي يدخلون الجنَّة إلاَّ من أبى"، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: "من أطاعني دخلَ الجنَّة، ومن عصاني فقد أبى".
لقد وضعتْ هذه النُّصوص القُرآنيَّة والنَّبويَّة الإنسانَ أمامَ التَّشريع الإلهي، لتتبدَّى له أجمل صورة، وأروعها، وأبهاها، وأتمَّها، فلا يكون له فضل خيار في الميل عنها، أو لزومها، بل يستقر في عقله ووجدانه معاً أنَّه لا محيد له، فتنساب السَّعادة في صدره ونفسه، ثمَّ ينقلها إلى الآخرين ويُشيعها بينهم.
* حرصُ الصَّحابة والسَّلف الصَّالح على مجانبة البدعةَ:
وقد لزم الصَّحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم من أئمة الهُدى هذه المحجَّة البيضاء، نافحوا عن السُّنَّة والتَّشريع، فقضى منهم من قضى، وصبر منهم من صبر، فما غيَّروا وما بدَّلوا، وتركوا من ورائهم كلماتٍ بصيرةً؛ تهدي من يتبعها، وتخرجه من ظلمة الهَوى والغي إلى نور الحقِّ والهُدى، تصلُح كل واحدة منها أن تكون منهاجاً علميَّاً وعمليَّاً:
من تلكُمُ الكلمات كلمة عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "اتَّبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم، عليكم بالأمر العتيق".
ومنها ما قاله ابن عبَّاس رضي الله عنهما يوصي رجلاً: "عليك بتقوى الله والاستقامة، اتَّبع ولا تبتدع".
ومنها كلمة لحذيفة بن اليمان رضي الله عنه: "كلُّ عبادة ما يتعبَّدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلا تعبَّدوها، فإنَّ الأوَّل لم يدع للآخِرِ مقالاً"(33).(3/55)
وإذا كان الصَّحابة قد تركوا لنا مثل تلك الكلمات البصيرة التي تنفذ بنورها إلى العقول والقلوب؛ فإنَّ رجالاً من بعدهم أصابوا من مواقع الحقِّ ببصائرهم ما أصابوا، فتركوا لنا من بعدهم كلمات تكاد تكون هي كلمات الصَّحابة رضوان الله عليهم جميعاً، وما ذلك إلاَّ لأنَّهم نهلوا من المورد الذي نَهَلَ منه الصَّحابة وترسَّموا خُطاهم، وسامتوهم في الأخذ والتَّرك عن نبيِّهم صلى الله عليه وسلم فهذا مالك بن أنس الأصبَحي رضي الله عنه يقول: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة؛ فقد زعم أنَّ محمَّداً خان الرِّسالة؛ لأنَّ الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً} [سورة المائدة: آية 3].
وهذا الإمام الشَّافعي محمَّد بن إدريس يقول: "من استحسن -أي البدعة- فقد شرَعَ"؛ أي: والتَّشريع من حقِّ الله وحده -وحق البشر أن يلزموه ولا يزيدوا عليه.
وهذا إمام أهل السُّنَّة الإمام أحمد بن حنبل الشيباني يقول: "أُصول السُّنَّة عندنا التَّمسُّك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاقتداء بهم، وترك البدع، وكلُّ بدعةٍ ضلالة".
* أثرُ العصبيَّة المذهبيَّة السيِّء:(3/56)
فليت أتباع المذاهب الأربعة الذي يزعمون أنَّ مذاهبهم هي الحقُّ، ويزعم أتباعُ كلِّ مذهب بأنَّهم هم وحدهم على الحقِّ، يتفكرون في أقوال أئمتهم، ليعلموا البُعد الشَّاسع بين زعمهم هذا وبين ما قاله أئمَّتهم، فإنَّ المنصف منهم سيَعلمُ علم اليقين أنَّ المَذهبيَّة عصفتْ بالعلم عصفاً شديداً، ولم تُبقِ للحقِّ مكاناً في عقولهم، وأنَّ الكُتُبَ التي يتعلَّمون منها لا تعدو أن تكون في كثير منها أقوالاً لا تُنبىءُ عن التَّعصُّب المذهبي الذي أفزع النَّاس زمناً طويلاً، وألقى في قلوبهم العداوة والخصومة والقطيعة، فإلى متى سيظلُّ عامَّة أتباع المذاهب يترنَّمون بخطئهم وصوابهم معاً، بل إلى متى سيظلون يترنَّحون تحت ضربات الأهواء الطَّاغية التي تهوي بكلِّ ثقلِها على الدِّين، فتنقصه يوماً بعد يوم؟!
* الله ورسوله المفْزَع الحق:
وقد أوضح لنا القرآن الكريم السَّبيل التي يجب أن نَسلكها عندما تختلط السُّبُل، وتنبِهمُ الطُّرُقُ، فالمفزع حينئذٍ إلى الله ورسوله؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء: آية 59].
وبيَّن لنا سبحانه أنَّ حبَّ المؤمنين له لا ينالُه أحدٌ منهم إلاّ باتِّباع رسوله ولزوم طريقته؛ قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [سورة آل عمران: آية 13].
وقد جعلَ الله القدوة الكاملة للأُمَّة في شخصه صلى الله عليه وسلم، فقال: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيراً} [سورة الأحزاب: آية 21].(3/57)
وإذا تضافرت جهود الأمَّة، وبخاصَّة جهُودَ علمائها؛ في الوقوف على حقائق التَّنزيل فهماً وعملاً، فإنَّها حينئذٍ ستبني لنفسها حِصناً تمتنعُ به من كل ما قد يُتوهَّم أنَّه سينفذ إليها من شرٍّ وجهلٍ واختلافٍ.
* شبهات وتصحيحُها:
وقد يشتبه على بعض النَّاس معنى بعض الأحاديث المرفوعة إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، أو الآثار الموقوفة على بعض الصَّحابة رضوان الله عليهم، ويحسبون أنَّ من البدعة ما هو حسَنٌ، ومنها ما هو سيِّىٌْ، وينثرون بألسنتهم ما فهموا من هذا المعنى بما أوتوا من جهلٍ أو سوءِ نيَّةٍ.
من هذهِ الأحاديث ما ثبت(34) عن جَرير بن عبدالله رضي الله عنه قال: كُنَّا في صدر النَّهار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء قومٌ عراة، مجتابي النمار، متقلِّدي السُّيوف، عامَّتهم -بل كلُّهم- من مُضَر، فَتَمعَّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى ما بهم من الفاقة، فدخلَ ثمَّ خَرَج، فأمَرَ بلالاً، فأذَّن وأقام، ثمَّ صلَّى، ثمَّ خطبَ، فقال: "تصدَّق رجلٌ من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُرِّه، من صاع تمره"، فجاء رجلٌ من الأنصار بصرَّةٍ كادت كفُّه تعجز عنها، بل قد عجِزتْ، ثمَّ تَتابع النَّاس حتى رأيت كومَيْن من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلَّل كأنَّه مذهبةٌ، فقال صلى الله عليه وسلم: "من سنَّ في الإسلام سنَّةً حسنةً؛ فله أجرها وأجرُ من عملَ بها من بَعدِه من غير أن ينقُص من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنَّةً سيئة؛ كان عليها وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء".
هذا الحديث، يتَّكىءُ عليه اتِّكاءً شديداً من يقول بِحُسنِ بعض البدع، لكنَّه أُتي من سوء فهمه للحديث، وقصور علمه، وإلاَّ فما الَّذي يجعله يظنُّ هذا ويعتقده لو أنَّه بَصُرَ به على علمٍ وشيءٍ من التَّأمُّل الدَّقيق؟!!(3/58)
فعندما أبصرَ الرَّسول صلى الله عليه وسلم بهؤلاء النَّفر من مُضَرٍ، ورأى أماراتِ الفقر ظاهرة عليهم؛ دخلَ بيته وكأنَّه يريد أن يلتمس لهم شياً من طعام، ولكن هل كان يملك الرَّسول صلى الله عليه وسلم شيئاً من طعام؟ وعاد صِفر اليدين، فأمر بلالاً أن يؤذِّن، فصلَّى بالنَّاس، ثمَّ خطبهم، وحثَّهم على التَّصدُّق لهؤلاء، فقام رجل من الأنصار مُسرعاً، فأتى بصرَّة كبيرة، فوضعها بين يديه صلى الله عليه وسلم، فلمَّا رأى الصَّحابة ما فعلَ هذا الصَّحابي؛ قاموا متتابعين، وكلٌّ منهم يأتي بشيءٍ، حتى اجتمع كومان من طعام وثياب، ففرَّقهما بين أُولئك النَّفر من مُضَرَ، وقال: "من سنَّ في الإسلام..." إلخ.
والدَّليل على أنَّ هذا الحديث لا يُؤيِّد مقالَة القائلين بحُسن بعض البدع من وجوه:
أوَّلاً: أنَّ سبب مقالة النَّبي صلى الله عليه وسلم هو فعلُ الأنصاري، فهو صلى الله عليه وسلم إنَّما أراد بذلك الثَّناء عليه، ثمَّ لتنبيه الآخرين إلى أمر غَفَلوا عنه، ولا ريب أنَّ سبب القول يُنبىءُ عن المعنى المراد، ويعين على فهمه والإحاطة به.
ثانياً: أنَّه قال: "تصدَّق رجلٌ من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع برِّه، من صاع تمره"؛ فتتابع النَّاس بالتَّصدُّق بعدما رأوا الرَّجل الأنصاري يتصدَّق؛ فهل فَعَل هؤلاء الصَّحابة شيئاً مُحْدثاً لم يأمر به الله ورسولُه من قبل؟!
وعلى فرض أنَّهم لم يعرفوا الصَّدقة من قبل، فهل استجابتهم لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقتهم هذا تُعدُّ أمراً مُحدثاً؟ سواء أكان هذا أم ذلك؛ فهم لم يَعدُوا أنَّهم فعلوا واستجابوا لأمر مشروع أمرهم به الله ورسوله.(3/59)
ثالثاً: أنَّه صلى الله عليه وسلم قال: "من سنَّ في الإسلام..."، وهل ما فعلَه الصَّحابة من التَّصدُّق والمُسارعة إليه إلاَّ شيئاً من صلب الإسلام وأحكامه؟ فإنَّ كلمة (في) تفيد الظَّرفيَّة، كما هو معلوم ظاهر، فإن كان الشيء المفعول ممَّا شرعه الإسلام، وحثَّ عليه؛ فإنَّ كلمة (في) تتناوله، وإن كان ليس ممَّا شرَعه الإسلام، فإنَّ كلمة (في) لا تتناوله، ومن هنا نعلم بأنَّ كلمة (في) تدلُّ على مشروعيَّة الشيء، أو على عدم مشروعيَّته.
هذا إلى أنَّه من المعلوم بداهةً أنَّ الإسلام المراد هنا، هو الإسلام الذي أكمله الله سبحانه، وأتمَّ به النِّعمة على العباد، وما أكمله الله وأتمَّه ليس يعوزه شيءٌ، ومن أتى بشيءٍ لإضافته إليه ظنَّاً منه أنَّ فيه نقصاً، فأيُّ ظنٍّ أسوأُ من هذا الظَّن عياذاً بالله تعالى؟!
لذا؛ فإنَّ الله سبحانه تجاوز عن خطأ المجتهد، الذي يتحرَّى باجتهاده الصَّواب، بل أثابه عليه أجراً واحداً، وليس يخفى أنَّ الخطأ الذي يُثاب عليه هو الخطأ الذي ظنَّه المجتهد صواباً، أمَّا الذي يأتي بشيءٍ لإضافته إلى الدِّين ولو كان ممَّا يحسبه حسناً، فهو متعمِّد ما صنع، فليس مدركاً بصنيعه هذا ثواباً، بل هو أحاق بنفسه إثماً ولا ريب، لأنَّه قد زاد في دين الله ما ليس منه.
رابعاً: هل كان الرَّسول صلى الله عليه وسلم سيقول الكلمة التي قالها لو لم يفعل هذا الأنصاريُّ ما فعل من إحضار الصرَّة الذي جعل الصَّحابة يقتدون به؟(3/60)
أظنُّ أنَّ الجواب: لا، إذاً، فَظَهرَ جليَّاً أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم إنَّما قال هذه الكلمة ثناءً على هذا الصَّحابي، وحثَّاً لغيره على الاقتداء به من بَعد، فكأنَّه أراد صلى الله عليه وسلم من كلمته هذه تنبيه الصَّحابة إلى أنَّ ما فعله أخوهم أوَّلاً كان تذكيراً لهم بأمرٍ كانوا غافلين عنه، فيكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "من سنَّ في الإسلام سنَّةً حسنةً" أي: مَن أحيا سنَّةً مشروعةً من سنن الإسلام كان النَّاس غافلين عنها، ونبَّههم إلى فعلها؛ فله أجرُها وأجر من عمل بها.
خامساً: "من سنَّ في الإسلام سنَّةً سيِّئة..." هل حدَّد لنا الرَّسول صلى الله عليه وسلم السنَّة السيِّئة التي يحمل الإنسان وزرها ووزر من عمل بها؟ أم أنَّ ذلك متروك للأُمَّة من بَعده، تحكُمُ برأيها على البدعة، فما تراه من الأشياء حسناً؛ فهو من باب السُّنَّةِ الحسنة، وما تراه سيِّئاً؛ فهو من باب السُّنَّة السيِّئة؟!
أحسب الرَّسول صلى الله عليه وسلم لم يُرِد ذلك البتَّة، فقد أتمَّ الله دينه الذي شرَعه للنَّاس قبل موته، وأمره أن يبلِّغهم إيَّاه بقوله تعالى: {يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [سورة المائدة: آية 67]، فكلُّ شيءٍ يُفعَلُ بعد موته صلى الله عليه وسلم زيادةً عمَّا شرعه الله؛ فهو بدعة زائدة، وكلُّ شيءٍ يُفعلَ بعد موته ممَّا شرَعه؛ فهو افتئاتٌ على دينه وظُلمٌ.
وقد مرَّ معنا أقوال بعض السَّلف الصَّالح رضوان الله عليهم في ذمِّ البدعة، وبيان المراد منها؛ ممَّا يغنينا عن إعادتها وتكرارها.(3/61)
وممَّا تقدَّم كلِّه يظهر لنا أنَّ من يتَّكىءُ على هذا الحديث في تسويغ البدعة الحسنة قائلٌ قولاً مردوداً عليه، فهو بقوله هذا مُحْدِثٌ في الإسلام حدثاً لا ينجو من إثمه إن ظلَّ عليه، ويصدُق فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدثَ في أمرنا ما ليس منه فهو رَدٌّ"(35).
أمَّا مقالة عُمر رضي الله عنه التي يتغنَّى بها أُولئك القائلون بحسن البدعة وهي قوله: "نعمت البدعةُ هي"(36)؛ فلا أحسب إلاَّ أنَّ من يتّكىءُ عليها يتَّكىءُ على عصا ليِّنة، كلَّما اتَّكأَ عليها صاحبُها؛ سقط أرضاً!
ولبيان ذلك أقول:
عندما شرع النَّبي صلى الله عليه وسلم لأُمَّته صلاة القيام جماعةً في رمضان؛ قام يصلِّيها في المسجد، فوقف يُصلِّي خلفه عدد من أصحابه أوَّل ليلة، وزاد العدد في اللَّيلةِ الثَّانية، وغصَّ المسجد في اللَّيلة الثَّالثة، فخشي الرَّسول صلى الله عليه وسلم إن هو خرج إليهم للصَّلاة بهم أن تُكتبَ عليهم، فامتنع، فجعل بعض الصَّحابة يرمون باب حُجرته صلى الله عليه وسلم بالحصى يظنُّون أنَّه قد نسي، فخرج إليهم صلى الله عليه وسلم، وأعلمهم أنَّه لم يخرج إليهم خشية أن تُكتبَ عليهم، فجعل النَّاس يُصلُّونها فرادى، ومضى الأمر على ذلك طول حياة أبي بكر رضي الله عنه، وجزءاً من خلافة عُمر، إلى أن خرج عُمر على النَّاس يوماً، فرأى بعض الصَّحابة يصلُّون أوزاعاً في المسجد خلف بعض الحَفَظَةِ من الصَّحابة، فقال: لو أنَّا جمعناهمُ على أُبيّ، فلمَّا حَصَلَ ذلك واجتمَعَ الصَّحابة؛ قال عُمر رضيَ الله عنه: "نعمت البدعة هي".
أفيَظُنُّ ظانٌّ أنَّ عُمر رضي الله عنه لم يكن يعلم ما كان عليه أمر هذه الصَّلاة وهو الذي عاش في أكناف النُّبوَّة؛ يستَقي من وِرْدها الصَّافي، ويتزوَّد منه لآخرته؟! لا أحسب ذلك.(3/62)
إذاً؛ فعمر لم يكن يخشى على النَّاس أن يلتبس أمرُ صلاة القيام جماعة في رمضان عليهم، فيعتقدوهُ واجباً؛ إن هو جَمَعَ النَّاس على إمامٍ واحدٍ؛ لأنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم شرع الأمرين لأُمَّته في قيام رمضان، أي: شرع لهم أن يصلُّوها جماعة، وشرع لهم أن يصلُّوها فرادى، فلمَّا رأى عُمر تفرُّق النَّاس في المسجد الواحد؛ جمعهم على أُبيّ توحيداً للجماعات -وقد انتفت الخشية من ظنٍّ فرضيَّتها- فاستجاب إليه الصَّحابة، ورضوا لأنفسهم ما رضي عُمر لهم، وقد علموا قولَه صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الرَّاشدين المهدييِّن من بعدي، عَضُّوا عليها بالنَّواجذ"(37).
ولم يكن لأحد من أُولئك الخلفاء أن يخالف عن شيءٍ من سُنَّهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبخاصَّة عمر رضوان الله عليه، الذي كان قوله في كثير من المواطن يوافق الوحي، وحينئذٍ يتحتَّم علينا أن نتأوَّل البدعة في كلمة عُمر، فهي قطعاً إمَّا أن تعني البدعة لغة، وإمَّا أن تكون من باب الإنكار على من سمَّاها بدعة، فكأنَّه قال: نعمت البدعة هي لو كانت بدعة، لكنَّها ليست بدعة، فكيف يصحُّ تسميتها بالبدعة؟! وهذا المعنى الثَّاني هو الأقرب عندي من المعنى الأوَّل، والله أعلم، إذ هو المناسب للحال، فإنَّ بعض الصَّحابة رضوان الله عليهم أجمعين ربَّما لم يعلم ما كان، وبعضهم ظنَّ أنَّ انقطاع النَّبي صلى الله عليه وسلم عن صلاتها في جماعة هو تشريع بصلاتها في غير جماعة، فكان منهم الإنكار على جمع النَّاس عليها بتسميتها بالاسم الذي تليق به في ظنِّهم، وهو البدعة، لكن فقه عُمر رضي الله عنه صَوَّب ظنَّهم، وردَّهم إلى الحقِّ الذي جَهِلوه، فعلموا أنَّ الحقَّ مع عُمر رضي الله عنهم أجمعين.(3/63)
أمَّا مقالة عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، وهي: "ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسنٌ"(38) التي ينسبونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي أيضاً عند أدنى نظر إليها تسقط أمامها حُجَّةُ المتَّكيء عليها، ذلك أنَّ عبدالله بن مسعود كان أكثر الصَّحابة تمسُّكاً بالهدي النَّبوي، وقد صحَّت عنه أقوال كثيرة، يبعد معها أن يكون من الذين يستحسنون بدعة؛ مهما كانت هذه البدعة، لذا فإنَّ على من يتَّخذ من هذه الكلمة باباً يلجُ منه إلى تحسين البدعة، أن ينظر قبلاً في سيرة عبدالله بن مسعود؛ ليرى كلَّ كلمة قالها في تقبيح البدعة، والتَّشنيع على قائلها أو فاعلها رِتاجاً قويَّاً ثقيلاً، يُحكم إغلاق هذا الباب، فلا يقوى مريد الولوج منه على كسر أيِّ واحدٍ منها، فضلاً عن أن يقدر على كسرها مجتمعة.
إذاً؛ فتأويلُ هذه الكلمة: "ما رآه المسلمون حسناً" ممَّا يوافق الشَّرع، ولا يندُّ عنه بزيادة أو نقص، ويكون قائماً على دليلٍ من كتاب الله أو سنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو حسن، أو قُل: بأنَّ دليل هذه الكلمة من أُصول الإجماع، والإجماع لا يكون إلاَّ باستناد إلى دليل من الكتاب أو السُّنَّة، فبطل بذلك قول من يهجم على السُّنَة للابتداع بهذه الكلمة الرَّائعة العظيمة التي تأوّلها من تأوَّلها على غير وجه حق.
* البدع كلُّها ضلالات:
بقي أن نعلم أنَّ البِدَعَ كلَّها ضلالات، والضَّلالات مع أصحابها في النَّار، وشرُّ البدع ما يُرَوِّجُ لها المبتدعون أو الجاهلون بشتَّى أنواع التَّرويج، ويتأوَّلون لها الأحاديث النَّبويَّة والآيات القرآنيَّة تأويلاً ينأى بهم كلَّ النَّأي عن الحقِّ والذَّوق معاً، ولا يخلو من زمانٍ أُولئك، رغم ما يهيِّىءُ الله سبحانه من رجال يعرفون الحق، والحق يعرفهم، وينأون بما يعرفون عن الباطل، فينأى الباطل عنهم، والذي يستقرىءُ تاريخ الإسلام الطَّويل؛ يعرف هذا جيِّداً.(3/64)
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى تقسيم البدع بحسب الأحكام الشَّرعيَّة، فجعلوا منها ما هو حرام، ومنها ما هو مكروه، ومنها ما هو مكروه كراهة تنزيه، ويبدو أنَّهم قسَّموها هذا التَّقسيم؛ لتفاوت البدع نفسها، فإنَّ الإثم في البدعة تكون في العقيدة أعظم من إثم بدعةٍ تكون في الأحكام؛ غير أنَّ هذا التَّقسيم عندي لا يحسُن؛ لأمرين:
الأوَّل: أنَّ قوله صلى الله عليه وسلم: "كلُّ محدثةٍ بدعة، وكلُّ بدعةٍ ضلالة"؛ لم يفرِّق في الحكم بين بدعة وبين بدعة أُخرى، فالنَّكرة إذا أُضيفتْ، أفادت العُموم، والعُموم لا يخص إلاَّ بالاستثناء، وأين الاستثناء هنا؟!
الثَّاني: أنَّ الإثم قَدْرٌ مشترك بين البدع كلها، وليس يحسن بنا أن نحكم على بدعة بأنَّها أقلُّ من غيرها، ولم يبيِّن لنا ذلك الرَّسول صلى الله عليه وسلم، فيكون التَّفريقُ في الحكم أو الوصف بين بدعة وبين أُخرى تفريقاً قائماً على الرَّأي المحض، وفي هذا تخرُّص لا يحسن بمسلم أن يفعله، وهو بدعة في ذاته.
إذاً؛ فكلُّ بدعةٍ -أيُّ بدعة- ضلالة، تورد صاحبها ومبتدعها، أو الدَّاعي إليها، أو من يرضَى بها، أو من يعلمها ثمَّ لا يحذِّر منها؛ في النَّار، ثمَّ لا يجد عنها حِوَلاً إلاَّ أن يتداركه الله برحمته.
فهل عسى أُولئك أن يقلعوا عن بدعهم، وأن يتوبوا عمَّا أوقعوا أنفسهم فيه من حوبٍ وإفكٍ، وأن يتوبوا إلى ربِّهم برميهم السَّلفيِّين بغير ما اقترفوا؟!(3/65)
وأخطر بدعة أصابت أمَّة الإسلام هي البدعة التي أضلَّت الكثيرين عن سماحة عقيدة التَّوحيد، واجتالتهم عن سوائها، فاحتالوا عن النُّصوص القُرآنيَّة والنَّبويَّة التي تحدَّثت عن العقيدة احتيالاً لا يقبله وجدانٌ نظيف، ولا ذوق سليم، فضلاً عن أن يتقبَّله عقل مؤمن، وهي بدعة خطرة تتهدَّد الأُمَّة كلها إن هي بقيت في غفلتها عن هذا الخطر لا قدَّر الله، وقد ذاقت الأُمَّة من ويلاتها في الماضي ما يكفي لأن ينبِّهها إلى خطر هذه البدعة، ويعيد إليها رشدها، فتلتقي على طريق التَّوحيد الحق الذي ضلَّت عنه ردحاً طويلاً من الزَّمن، فتَسْعد هي، وتُسْعِد غيرها، وذلك ما سنتحدَّث عنه في المبحث الآتي، إن شاء الله تعالى.
كَيْفَ نَفْهَمُ العَقيِدَة؟
ماذا يفهم العربي -الذي يقرأ بالحرف العربي، وينطق باللسان العربي، ويكتب بالكلمة العربيّة- من قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [سورة الزمر: آية 30]؟
دعني أقلْ: إنَّه يفهم منها: أنَّ الله سبحانه، كتب الموت على الأحياء من البشر جميعاً، ومنهم -أفضلهم، وأكرمهم على الله وأقربهم منزلةً منه- رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنَّ الخلود في هذه الدُّنيا ليس لأحدٍ منهم البتَّة.
ودعني أقل: إنَّ العربيَ الذي وصفنا آنفاً، لا يمكن أن يفهم من هذه الآية غير الذي فهمنا، وإن كان يفهم غيره، فلا أدري ما صلته بالعربيَّة والعرب؟
وقد ذكرَ القرآن الموت بألفاظٍ أُخرى، كلفظ الهلاك، كما في قوله سبحانه: {حَتَّى إِذَا هَلَكَ(39) قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً} [سورة غافر: آية 34]، وكما في قوله سبحانه: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} [سورة الجاثية: آية 24]، فالحياة الباقية الأزليَّة الأبديَّة لا تكون إلا لله وحده سبحانه.(3/66)
ونحن إذ نقرأ قوله سبحانه: {الله لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [سورة البقرة: آية 255] لا يخطر ببالنا، بالنِّسبة لله سبحانه ضدَّ المعنى المتبادر من هذه الآية، والمعنى المتبادر هو: أنَّ الله سبحانه اختصَّ نفسه وحده بالحياة الدَّائمة، التي لا يعتريها وهنٌ، ولا نقصٌ، ولا زوالٌ، من التي تعتري حياة المخلوقين.
أمَّا حين نقرأ قوله سبحانه: {وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [سورة الأنفال: آية 42] فإنه يتبادر إلى الذِّهن فوراً، أنَّ حياة الإنسان، ليست دائمة خالدة، بل هي ذاهبة، واهنة، ناقصة، يؤكِّده قوله سبحانه: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ} [سورة الأنفال: آية 42].
فكيف نفهم من قوله سبحانه: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [سورة الزمر: آية 30] أنَّ الموت هو من صفات المخلوقين، وليس من صفات الخالق، ونقرأ قوله تعالى: {الله لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [سورة البقرة: آية 255]، ونفهم أنَّ الحياة الباقية هي من صفات الخالق، وإن كان البشر يوصفون بالحياة، لكنَّها ليست كحياة الخالق سبحانه؟
الله سبحانه وصف نفسه بالحياة، ووصف البشر بالحياة، لكنَّه ماز حياة البشر من حياته، كيلا يُخالط الأذهان لَبْسٌ بالألفاظ المشتركة المعنى، والتي لا تَميز بظاهرها بين معنيين مرادين للفظٍ من ألفاظها، إلاَّ إن ورد عليه شيءٌ يرفع اللبس ويزيل الإبهام، وإن كان ما كان ينبغي أن يكون لبسٌ ولا إبهامٌ، لكن التَّشريع الإلهي لا يَقِفُ بالعقل الإنساني بألفاظ لغة ما، أو بمعانيها، عند زمان معيَّن، ولا عند أصل إنساني واحد.
ولما كان الإسلام هو خير الأديان، وهو أشملها للزَّمان والمكان والإنسان، كان لا بدَّ وأن يكون للُّغة التي نزل بها دلالاتٌ واضحةٌ ثاتبةٌ، وهي أشرف اللُّغات، وأعلاها قدراً ومنزلةً، وأقواها بالخصائص التي مازها الله بها سبحانه.(3/67)
لذا؛ فإنَّ هذه اللغة، كان لها الفضل من الله على المسلمين في كلِّ القرون والأقطار، أن أبقت عليهم سلامة الفطرة في عقيدتهم وشريعة ربِّهم.
وقَد زُحزِحَ كثير من المسلمين عن سلامة فطرتهم، وتأوَّلوا كلام الله تأويلاً لا يستقيم إلاَّ في عين الفلسفة الماكرة، والأمر أيسر بكثير جدَّاً ممَّا يظنُّون، فكيف نميز بين حياة الله سبحانه، وبين حياة البشر، أليس بمثل قوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى: آية 11]، وهل يختلف الفهم لكلام الله، ويده، واستوائه، عن الفهم لحياته سبحانه؟
إنَّ اختلاف الفهم، الذي يجعل لفظةً في اللغة العربيَّة -بإجماع كلِّ من يعرف العربيَّة- لها مدلولٌ واحدٌ لا يختلف باختلاف الذَّات التي تنسب إليها هذه اللفظة، أو تصدر منها، في حين يجعل لِلَفْظَةٍ أخرى في اللغة العربيَّة، معنيين مختلفين باختلاف الذَّات التي تنسب إليها أو تصدر عنها، إن دلَّ فإنَّما يدلُّ إمَّا: على عجزٍ في الفهم، وإمَّا: على جهلٍ لعُجمةٍ ونحوها، وإمَّا على تحريفٍ مقصودٍ في معاني ألفاظها، لإدخالِ المجازاتِ عليها المشوبةَ بالمعاني والأفكار الفلسفيَّة الدَّخيلة على الأُمَّة، وما فُتِحَ بابٌ من الشرِّ على القرآن الكريم أوسعَ من باب القول بالمجاز فيه، وهو من المجاز بريءٌ، بل إنَّ لغةَ العَربِ كلَّها بريئةٌ هي مِنَ المجاز.(3/68)
وكثير من النَّاس اليوم، بل سوادُهُم الأعظم يتورَّعون عن التَّحدُّث في أمر العقيدة إلاَّ حديثاً عامَّاً لا يضع عن جاهل جهلاً، ولا يزيد عالماً علماً، ولو كان تَورُّعهم هذا كائناً منهم لوضوح تصورُّهم في العقيدة لمُدحوا عليه، لأنَّه هو الأصل، وهو سبيل السَّلف من الصَّحابة والتَّابعين رضوان الله عليهم أجمعين، فيكونون بذلك قد نهجوا نهج أسلافهم، وحذوا حذوهم، واتَّبعوا سبيلهم، ففازوا بالأخذ بهديهم، كما أرشدهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "عليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء المهدييِّن الرَّاشدين من بعدي، عَضُّوا عليها بالنَّواجذ"(40).
غير أنَّ تورُّعهم هذا كائنٌ إمَّا خشيةً منهم على عقيدة ورثوها أن تُبَدِّل وتُغَيِّر فيهم، وإمَّا -زعموا- حفاظاً على وحدة كلمة الأُمَّة أن تفرَّق، أو تزداد فرقة، وإمَّا خوفاً من الدَّهماء والعامَّة، وهذا لعمر الحق لا يدلُّ على ورعٍ صحيح، ولا حتى على علمٍ شحيحن والورع منشؤه العلم، والعلم ينتهي بالعالم والمتعلِّم معاً إلى الورع.
وكان البعض الآخر يُمسك عن الحديث في صفات الله تنزيهاً له كما يزعمون، ينزِّهون الله بأكثر ممَّا نزَّه به نفسه!!
ومن هنا كان التَّحدُّث في أمر العقيدة فيه بعض الصُّعوبة والحرج من كثيرٍ ممَّن تأثَّر بهذا الاتِّجاه الخاطيء وتأثَّم منه.
والذي أُريد التَّحدث عنه هو توحيد الصِّفات، فأقول: إنَّ توحيد الصَّفات هو الذي دارت فيه رحى الحرب الطَّويلة الأمد بين الحقِّ وبين الباطل، وضلَّت فيها طوائف كثيرة من المسلمين، ودقَّت في ساحتها أعناق الأُلوف المؤلَّفة من أهل العلم، إذ زاغت منهم العقول والقلوب، وانحرفت بهم الأهواء المضلَّة عن سواء الصِّراط.(3/69)
فأقول أوَّلاً: مضت القرون الفاضلة الأولى، والقرآن والحديث هما مصدر التَّوحيد بأنواعه الثَّلاثة، كما كانا مصدر التَّشريع في العبادات وغيرها؛ توحيد الألوهيَّة، وتوحيد الرُّبوبيَّة، وتوحيد الصِّفات، ولم يُعرف أنَّ أحداً من الصَّحابة رضوان الله عليهم كان يسأل الرَّسول صلى الله عليه وسلم عن مسألة من مسائل التَّوحيد أبداً؛ لوضوحهِ، وظهور أمرهِ.
فكانوا يقرؤون قوله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لله قَانِتِينَ} [سورة البقرة: آية 238]، ويقرؤُون قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [سورة هود: آية 107]، ويقرؤون قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [سورة فصلت: آية 46]، ويقرؤون قوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله وَالله خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [سورة الأنفال: آية 30]، ويقرؤون قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [سورة المائدة: آية 64]، ويقرؤون قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [سورة القصص: آية 88]، وغير ذلك من الآيات، فلم يُحفظ عنهم أنَّهم سألوا الرَّسول سؤالاً واحداً عن وجه الله ولا عن يديه، ولا عن مَكْرِه، ولا عن إرادته وفعله أبداً، فكلُّ هذه الأشياء كانت معلومة عندهم لا تحتاج إلى تأويل من الرَّسول صلى الله عليه وسلم لهم.
بل كانت أسئلتهم كلُّها تدور حول مسائل الأحكام المتعلِّقة بالعبادات، والمعاملات، والأخلاق، وهي ما تسمَّى بالفروع، وهذا واضحٌ جدَّاً من آيات القرآن وسُورِه التي خلَّد فيها القرآن السُّؤالات التي كان الصَّحابة يسألونها الرَّسول حتى إنَّه نهاهم عنها بقوله: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [سورة المائدة: آية 101].(3/70)
لِمَ كان هذا من الصَّحابة؟ إنَّه ولا شك لأنَّ فهمهم آيات العقيدة لم تكن عندهم معضلة تشكِّل عقبة تحول بينهم وبين الإحاطة بها، فاليد معناها يد، والعين عين، والوجه وجه، والإرادة هي الإرادة، إلى غير ذلك من الآيات التي اشتملت على ذكر الصِّفات الإلهيَّة، كما يليقُ بجلالهِ وعظمتهِ سبحانهُ.
ثانياً: أنَّه حينما نشأت الفرق المنحرفة الضَّالَّة بين المسلمين، وأخذ غُلاتُها يتأوَّلون آيات الصِّفات تأويلاً بعيداً عن الحقِّ والصَّواب، ويعطِّلونها تعطيلاً يُفضي إلى تجريد الله من كماله الذي أحاط به نفسه، ونزّهها عن النّقص الذي ألحقه به أولئك الغلاة، قامت طائفة من علماء الحقِّ يردّون الناس إلى ما كان عليه الصَّدر الأول تحقيقاً لموعود الله في هذه الأمة أنه سينجي منها هذه الطائفة التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "كلُّها في النار إلا واحدة"، قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي"(41).
هذه الطائفة بعلمائها وأئمتها الأجلاّء قالت بلسان واحد ما نطق به الإمام أحمد رضي الله عنه: "لا يوصف الله إلاَّ بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يُتجاوز القرآنُ والحديثُ"، فأحيت بذلك تفكيراً مضاداً للتفكير الذي مُنيت به الطوائف الضالّة.
ومذهب هذه الطائفة يتلخَّص في ثلاثة أصول:
الأصل الأول:(3/71)
إثبات ما أثبته لنفسه وتنزيهه عما نزّه عنه نفسه، سواءٌ أكان بصريح الكتاب أم بصحيح سنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم، لا يزيد عليه ولا ينقص منه، لأنَّ في الزيادة عليه كذباً على الله وعلى رسوله، وفي النّقص اتهاماً لله ولرسوله، وكلا الأمرين كفر بواح عياذاً بالله، ومن هنا كانت السَّلامة كلُّ السلامة في إثبات هذا الأصل على نحو ما أقرّته هذه الطائفة العظيمة من علماء هذه الأمة، والله ورسوله أعلم بحق الله في ذاته وصفاته وأسمائه، قال تعالى: {أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله} [سورة البقرة: آية 11].
الأصل الثاني:
تنزيه الله سبحانه عن مشابهته بصفاته صفات خلقه، فهو إن وصف نفسه بالسّمع والبصر والإرادة والحياة والقدرة والعلم وغير ذلك، فلا يعني أنه بصفاته هذه يشبه صفات مخلوقيه، فصفات الإنسان تليق بضعفه ونقصه، وصفات الخالق تليق بكماله وعظمته، فبذهاب الإنسان وموته تذهب صفاته وتموت، أمَّا صفات الخالق فهي متعلّقة بذات الله سبحانه، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى: آية 11]، وقال سبحانه: {فَلاَ تَضْرِبُواْ لله الأَمْثَالَ} [سورة النحل: آية 74]، وذات الله لا تفنى ولا تزول.
الأصل الثالث:
أن يقطع الإنسان الطمع عن إدراك حقيقة صفات الله سبحانه، فكما أن ذاته العظيمة مجهولة للناس ولا تُعرف على حقيقتها، فكذلك صفاته سبحانه، اللائقة بذاته، مجهولةٌ للناس لا تُعرف على حقيقتها، وهذا الأصل يوفّر على الإنسان كثيراً من الجهد العقلي، ويحول بينه وبين الضَّلال الذي وقع فيه كثيرٌ من المعطِّلة والمشبِّهة في آنٍ معاً، قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [سورة طه: آية 110].(3/72)
وإذا كان الله سبحانه قد حجب نفسه عن خلقه، واختصّ علمه بذاته بنفسه؛ لحكمةٍ يعلمها ويريدها في الدنيا، فإنَّ هذه الحكمة اقتضت أن يعرف المؤمنون ربهم بذاته يوم القيامة حيث يشاهدونه عياناً، فتغرق كلّ لذة أصابوها في بحر لذة مشاهدة الحقّ سبحانه، يشاهدونه كما يُشاهد البدرُ ليلة تمامه، مصداقُ ذلك في كتاب الله وفي سنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم.
أما ما جاء في الكتاب فقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [سورة القيامة: آية 23]، هذه وجوه المؤمنين مشرقة مسرورة تنظر إلى ربِّها في فرح وسرور، أما ما في السُّنَّة فقوله صلى الله عليه وسلم: "إنّكم سترون ربكم عياناً"(42).
وعن أبي سعيد وأبي هريرة أنّ أُناساً قالوا: يا رسول الله هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ فقال: "هل تضارُّون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما حجاب؟" قالوا: لا، قال: "إنَّكم ترون ربكم كذلك"(43).
ولم يُحدِّد لنا الرَّسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث صفاتِ الله سبحانه، ولا الحالَ التي يكون عليها الرّب سبحانه حين يراه المؤمنون يوم القيامة، ولكنّه قال إن الرؤية تتحقّق لهم، وإنَّ الله سبحانه ينكشف لعباده المؤمنين فيرونه بأبصارهم كظهور الشمس والقمر ورؤيتهما بالأبصار المجرّدة، والمقصود هنا تشبيه الرؤية، أي: من حيث وضوحها، وليس تشبيه المرئي في الآخرة -وهو الله سبحانه- بالمرئي في الدُّنيا -وهو الشمس والقمر-، وبهذا ينتفي ما ألصقه بعض المتخرّصة بالسَّلف، من أنّ رؤية الله على هذا النحو، تستلزم الحيّز والمكان! وما علموا أنهم بهذا اللازم نفوا خبراً صحيحاً -بل أخباراً- من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، أوحى به إليه ربُّه سبحانه.(3/73)
وإذا كان هذا ما عليه الأمر بالنسبة لله سبحانه في الآخرة، فأولى أن يكون ذلك في الدُّنيا، فالله سبحانه وصف نفسه بالاستواء على العرش في سبعة مواضع في القرآن كقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه: آية 5]، فالاستواء على العرش صفةٌ من صفاته سبحانه، لكن الله سبحانه استأثر نفسه بعلم حقيقة استوائه هذا، وإن كان معنى الاستواء معروفاً في اللغة، فمعنى استوى في اللغة: علا وارتفع عليه، يقال: استوت السفينة على الماء، أي: علت وارتفعت، لكن هذا المعنى لا نستطيع أن نطلقه على الله إطلاقه على الشيء المخلوق، فنحن وإن عرفنا معنى استوى في قوله سبحانه: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [سورة طه: آية 5]، لكننا عاجزون على أن ندرك كيفية استواء الله سبحانه على العرش.
وقد علّمنا الإمام مالك -رحمه الله- كيف نفهم هذه الآية على وجه الصَّواب الذي لا يوقعنا في المحظور، الذي من أجله عطّلت الجهمية صفات الله سبحانه، وذلك فيما حكاه لنا ابن وهب عنه، قال: كنت عند مالك فدخل رجل فقال: يا أبا عبدالله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، كيف استوى؟ فأطرق مالك، وأخذته الرُّحصاء -العرق الكثير- ثمّ رفع رأسه، فقال: الرَّحمن على العرش استوى كما وصف نفسه، ولا يقال: كيف، وكيف عنه مرفوع، وأنت صاحب بدعة أخرجوه.
وفي رواية أخرى أنَّه قال: الاستواء منه غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وإنِّي أخاف أن تكون ضالاً، وأُمر به فأُخرج، وهذا هو قول أهل السُّنَّة قاطبة.
فالمطلوب إذاً في هذه الآية أن نسلّم بها تسليماً، وأن نعلم أن المعنى الذي يليق بالمخلوق، وأنّنا إن أدركنا بعلمنا كيفية السماء السابعة، وأنَّ الله سبحانه فوق عرشه بذاته، فإننا يقيناً لن نستطيع أن ندرك كيفيَّة استوائه سبحانه، وقد دلَّ لهذا القرآن والسُّنَّة:(3/74)
أما القرآن: فقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [سورة فاطر: آية 10]، وقوله أيضاً: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [سورة النحل: آية 50]، وقوله أيضاً: {أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُور} [سورة الملك: آية 16]، و "في" هنا في هذه الآية بمعنى على، مثل قوله تعالى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [سورة طه: آية 71].
وأما السُّنَّة: فعن معاوية بن الحكم السُّلمي، أنه كانت له جارية ترعى غنيمات، وأنَّ ذئباً ذهب بشاة منها، فلطمها، فندم، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: ألا أُعتقها؟ فقال: "ادعُها إليّ"، فقال لها: "أين الله؟"، قالت: الله في السماء، قال: "فمن أنا؟"، قالت: أنت رسول الله، قال: "اعتقها فإنّها مؤمنة"(44)، وقوله صلى الله عليه وسلم أيضاً: "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"(45).
وبمثل هذه الآيات والأحاديث الصحيحة تزول ضلالة أخرى من ضلالات أهل الأهواء، وهي أن الله سبحانه في كلِّ مكان، وقد يركنون في هذه الضلالَّة إلى بعض الآيات، كقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ...} [سورة المجادلة: آية 7]، وقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [سورة الحديد: آية 4]، فإذا سألت أحدهم وقلت له: أين الله؟ لم يقلْ ما قالته الجارية التي وصفها الرَّسول بأنها مؤمنة، وأجابت به، بل يقول لك على الفور: الله في كلِّ مكان!!(3/75)
نعم؛ إنَّ الله في كل مكان كما قال عن نفسه، وأثبت ذلك في كتابه؛ لكنَّه ليس معنا معيّة ذات، بل معيّة علم، وذلك لأنَّ النصوص من الكتاب والسُّنَّة التي سقناها قبلُ تدلُّ على عُلُوِّه وفوقيته على عرشه، وتنزيهه سبحانه عن مشابهة خلقه باستوائه، فبذلك يتبيّن لنا أنَّ معنى قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [سورة الحديد: آية 4]، ومعنى قوله: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ...} [سورة المجادلة: آية 7]، هو أنَّ الله سبحانه معهم بعلمه، فهو عالمٌ محيطٌ بكلِّ شيء خفِيَ أو ظَهَر، دقّ أو عظُمَ، كما قال سبحانه: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [سورة طه: آية 7]، وكما قال: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [سورة الأنعام: آية 59]، إلى غير من الآيات الدَّالة على إحاطة علم الله سبحانه بكلِّ شيء.
ثالثاً: بقيت مسألة أخرى نريدُ أن نزيد بها بعض ما قدّمناه وضوحاً وبياناً، يظهر لنا وجه الحقّ فيها بالمقارنة:(3/76)
فصفة الرحمة أو الرّأفة مشتركة بين الله وبين خلقه في قدْر منها، يقول الله في حقِّ نبيه صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [سورة التوبة: آية 128]، وصف الله نبيّه بوصفين وصف بهما نفسه، ولكن بيْنَ وصفِ النبي صلى الله عليه وسلم بالرأفة والرّحمة، وبين وصف الله نفسه بالرأفة والرحمة، من الفَرْق كما هو الفرْقُ بين ذات الرّسول صلى الله عليه وسلم وبين الله سبحانه، فقد مات الرَّسول صلى الله عليه وسلم فرحمته ورأفته ذهبتا معه إلى الرَّفيق الأعلى، وإن كان آثار رحمته عليه السلام باقيةً من بعده إلى أن تزول الدنيا، أما الله سبحانه فرحمته ورأفته أزليتان أبديّتان لا تفنيان ولا تزولان.
ومن هنا لا يجوز أن نسمي بعبدالرؤوف مثلاً أو بعبدالرحيم إذا قصدنا إضافة عبوديته إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم كما يصنع بعضُ الجهلة من المسلمين إذ يسمّون أبناءهم بعبد الرسول، أو بعبد النَّبي، ذلك أن العبودية لا تكون إلا لله وحده سبحانه.
لذا؛ حثّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على التسمية بعبدالله وعبدالرحمن ونحوها.
وقد ذكرنا من قبل أنَّ الله سبحانه مستوٍ على عرشه، وأنّه فوق السماوات العُلى بذاته، وأنَّ استواءه وإن كان معناه في اللغة الارتفاع والاعتلاء، كما في نحو قوله تعالى: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [سورة هود: آية 44]، غير أنَّه ارتفاعٌ واعتلاءٌ مقيّد بأمرين:
الأول: أن الله ليس في حاجة إلى شيء من خلقه، وأنَّه بائنٌ من عرشه، قال تعالى: {سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} [سورة يونس: آية 86].
الثاني: أنَّ استواءه لا يماثل استواء خلقه ولا يُشابهه، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى: آية 11].(3/77)
وقد يسأل البعض سؤالاً فيقول: إذا ثبت لدينا أنَّ الله مع خلقه بعلمه، وأنَّهُ فوق عرشه بذاته، ولكن ماذا تقول في غير ذلك من الصفات التي لا يمكن بحال ما أن تكون وَفْقَ ما نريد، فالله سبحانه يقول: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [سورة القمر: آية 14]، ويقول: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [سورة الطور: آية 38]، ويقول: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [سورة طه: آية 39].
فنقول أولاً: إنَّ هذه الآيات كلها دلّت دلالة صريحة على ما دلَّت عليه جميع آيات الصفات، وهي أن لله عيناً.
ونقول ثانياً: ما قلنا في الاستواء واليد، نقول في العين: قد أثبت الله لنفسه استواءً ويداً ليس بينهما وبين استواء البشر وأيديهم شبَهُ ولا مماثلةٌ، وكذلك العين، فليست هي العين الجارحة كعيون الخلق.
ونقول ثالثاً: بأن من الجهل الفادح بقواعد اللغة العربية وأصولها أن نقول بأنّ الفلك تجري في عين الله بذاتها، فمن يقول؛ فقد أغرق في الجهل، وجاوز حدود اللغة، فإنَّ هذه الآيات الثلاث التي ذكرت فيها العين تدلُّ على شيءٍ واحدٍ، اقتضى الدَّلالة عليه أساليب اللغة، وتنزيه الله سبحانه عن الحلول والاتحاد والاحتياج لشيء من خلقه.
فالمعنى المراد في هذه الآيات الثلاث هو: أنَ الفُلك تسير فوق الماءبأمر ربِّها ورعايته وكلاءته وحفظه، وأنَّ موسى عليه السلام ينشأُ برعاية الله وحفظه ومحبّته، وأنَّك يا محمَّد مهما أصابك من الأذى من قومك فإنَّك محفوظٌ مكلوءٌ بحمايتي ورعايتي لك، مع إثباتِ أصلِ الصِّفة لله سبحانه.
ومثل هذا كما قلتُ: عُرِفَ في اللغة؛ فإذا أردتَ أن تدلِّلَ على حبِّك إنساناً ورعايته أمره تقول له: إنَّك في العين، فهل هو في العينِ فعلاً؟ أظنّ أن كلّ من يشم رائحة العربية يعرف أنَّ المقصود بذلك هو إظهار ما لهذا الرَّجل عندك من حبٍّ ورعايةٍ، فهو من باب الكناية.(3/78)
ويُشبه هذا المعنى الذي أراده الله من هذه الآيات الثَّلاث، معنى حديثٍ مشهور يجري على ألسِنة الناس، وهو حديث الولاية الذي يرويه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربِّه: "من عادى لي ولياً فقد آذنتهُ بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنّوافل حتى أُحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني أعطيته، ولئن استعاذني لأعيذنه"(46)، ولو سألنا الذين يتأوَّلون العين واليد والاستواء وغيرها من الصٍّفات التي أثبتها ربُّنا سبحانه لنفسه عن معنى قوله في هذا الحديث: "كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها"، لقالوا في السَّمع والبصر واليد من غير تأويل لها، أما الرِّجل فإنَّهم سيؤولونها، لماذا هذا التأويل؟ ليس إلا تنزيهاً للخالق سبحانه، فمن أين جاءوا بهذا التفريق الذي لا دليل عليه إلاّ أمر عاطفيُّ وجدانيٌّ محضٌ؟
والتفسيرُ الحقُّ لهذا الحديث هو كالتأويل للعين التي جاءت في هذه الآيات الثلاث، فالعبد إذا أطاع ربَّه وأخلص له العبادة كان موفّقاً في كلِّ ما يفعل ويقول، فهو إن سمع كان موفّقاً فيما يسمع، وإن أبصر كان موفقاً فيما يُبصر، وإن أصابت يده شيئاً أو تحرّك برجل إلى شيءٍ كان موفقاً فيما يفعله، ولا يُعقل في حقِّ الله أن يكون هو بصر العبد وسمعه، ويده ورجله، وإلاَّ انتهينا إلى ضلالةٍ كبيرةٍ في العقيدة ولا بدَّ وهي عقيدة الاتحاد أو الحلول.(3/79)
بمثل هذا الفهم للقرآن الذي يقتضيه أمران اثنان، وهما تنزيه الله سبحانه عمّا لا يليق به، وقواعد اللغة العربية وأصولها، يمكننا تجنّب الوقوع في الإفك والضّلال الذي وقعت فيه الفِرقُ الضالةُ التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النَّصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلُّها في النار، إلاَّ واحدة"(47).
بقي أمر مهمٌّ جداً يجب أن نبينه، وهو أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم علِمَ أنَّ أموراً كثيرة من أمور العقيدة -بوحي من ربِّه- ستقع فيها الأُمَّة من بعده فبيّنها بياناً شافياً لم يدع مجالاً فيها لمرتاب.
ولو كان في هذه الآيات ما يُريبُ في فهمها لبيّنه صلى الله عليه وسلم، لأنه واجبٌ في حقِّه صلى الله عليه وسلم، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وإلاَّ لم يكن قد بلّغ الرِّسالة التي أمره الله سبحانه بإبلاغها بقوله: {يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [سورة المائدة: آية 67].
وهناك مسألةٌ أخرى مهمة يتنطّع فيها البعضُ بجهلٍ وسوء طويّة، وهي قولهم: كيف تصفون الله بالعصمة وهي ليست من الصِّفات التوقيفية التي تدندنون حولها وتُلزمون الناس بقولها؟
فأقول وبالله التوفيق، وعليه التُّكلان، وإليه القصد والتّوجهُ:
نعم؛ هي ليست صفة من صفات الخالق، لكنّها معنىً لصفات عديدة من صفاته سبحانه، فالله سمّى نفسه الحكيم، والمجيد، والعليم، والحفيظ، والقدير، والمحيط، وغير ذلك من الأسماء الحسنى التي تدلُّ كلها بل كلُّ واحدة منها بمفرده على أنَّه سبحانه يكلأُ الخلق ويرعاهم ويحفظهم ويحيط بهم علماً.(3/80)
ولا يقع شيءٌ في الأكوان التي خلقها إلا بإرادته وعلمه ومشيئته، فحين نقول: العصمة لله وحده، إنما نذكرُ معنىً لصفة أو صفات، تماماً كما يقال: الكمال لله وحده إنما نذكرُ معنىَّ لصفة وصفات، وليس من أسمائه سبحانه الكامل، ولا يصحُّ أن نقول: إنَّ من أسمائه سبحانه المعصوم أو الكامل، فهي صفة معنى.
ونحن نقرأ فيما نقرأ وصف الله بالقِدَمِ، ونقول: الله قديمٌ، وقديمٌ ليست من أسماء الله، وإنما هي معنىً لاسم من أسمائه وهو الأوّل، فَلِتقريبِ المعنى للذهن تُؤوَّل أسماء الله وصفاته تأوُّلاً يُبقي على الصِّفة أو الاسم التَّوقيفي من غير إخلال بهما، ويظلُّ المعنى دالاً عليهما من غير أن نسمي الله أو نصفه به، ولا غضاضة في ذلك البتة، وإلا كيف نقول كما قالوا من قبل: الله قديم، والكمال لله وحده؟(48)
وأخيراً: فإنَّه لم يبقَ مكانٌ قطُّ لقول قائلهم: إنَّ التعطيل -أي: تعطيل آيات الصِّفات عن معانيها- يقابله التجسيم أو التشبيه، وهو ترك آيات الصفات على ظاهرها، ويُفهم منها المألوف في حياة المخلوقين؛ فيُفهم من اليد الجارحةُ التي خلق الله فينا، ويُفهم من الاستواء معناه المحتملُ في جلوس أحدنا على كرسيِّه أو سريره، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
ولعلَّ هذا القائل أرادَ الاختباء وراء قوله هذا!! إذ لم يقطع أيّ الوجهين أراد، وإن كان يبدو للمتأمل في أنَّه صريحٌ، وأنه أقرب ما يكون إلى مذهب الاعتزال، الذي أراد أصحابه أن يهربوا من شرِّ التأويل فوقعوا في إثم التعطيل، وأنّه أراد بقوله إلصاق القول بالتجسيم والتشبيه بالسلف وهم منه براء، كما بيّنا في ثنيّات كلامنا فالتقى الإثبات والوقوف مع صريح النصّ من غير تعطيل ولا تشبيه ولا تأويل، وهو الحقّ الذي لا مِرْيةَ فيه.
سنن اللَّه وقوانينه في كونه(3/81)
إنَّ لله سبحانه سُنناً وقوانين في كونه، لا تتبدّل ولا تتحوّل، موثوقةً عراها بالحكمة الإلهية، تجري إلى مستقر لها، كما تجري الشموس والكواكب، منذ أن كانت، وإلى أن يقضي الله سبحانه في هذا الكون بقضائه، الذّاهب به إلى الفناء، قال تعالى: {وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} [سورة الإسراء: آية 77].
فإنْ بدا للناس أن تحوُّلاً وقع لسنّة ما من سنن الله، أو لقانون من قوانينه فيهم، فهو فيما يبدو لهم بظاهره، أمّا في الحقيقة التي تخفى عن الناس، فهو يجري وفْقَ قدر الله وحكمته.
فإمهال الله للظالم، ومدُّ الحبل له في ظلمه، لا يعني أنَّ الله سبحانه يرفع عنه العذاب والعقوبة، بل هو من الاستدراج الذي أخبر الله عنه، وأخبر عنه نبيُّه صلى الله عليه وسلم حين قال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الله ليُملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ قوله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف: آية 182]"(49).
والعارف بسنن الله وقوانينه في خلقه، لا يحزنه ما فات من خير كان يجب أن يكون له، ولا يفرحه ما ينتظر أن يكون له من خير يصيبه فيما يُقبل من يومه، على نحو ما كان يرجوه، فهو لا يتعجل أمراً يرجو خيره، ولا يستبطىءُ أمراً يخشى شرّه، إذ إنَّ {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [سورة الرعد: آية 38].(3/82)
ومن هذه القوانين والسُّنن الإلهية، قانون المدافعة الذي ذكره الله في موضعين اثنين من كتابه، الأول: من سورة البقرة: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ الله ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [سورة البقرة: آية 251]، والثاني: من سورة الحج: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ الله كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [سورة الحج: آية 40].
وقد أشارت الآيتان إلى أنَّ الفساد إن كان بتعطُّل قانون المدافعة، فإنما هو من صُنع البشر أولاً، ثمَّ هو واقعٌ في الأرض، لأنها مستقرُّ الإنسان ومثوى معاشه، وإن كانت آثار الفساد تتجاوز حدود اليابسة من الأرض، فذلك إنَّما هو من صنع البشر أيضاً، لأنهم هم المكلَّفون المخاطبون من الله بأحكامه وشرائعه، فإن عطّلوها بالهجر والنِّسيان، كانت لهم من الله عقوبة، بانتقاص الخيرات، والبركات وذهاب الأمن والعافية، وشيوع الظُّلم والباطل، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ...} [سورة الروم: آية 41].
وحتى يستبين لنا قانون المدافعة، ونعرف حقيقته، وكيف يعمل في الحياة والكون، فإنَّه يحسُن بنا أن نعرضه في مسائل:(3/83)
الأولى: هو قانونٌ يقتضي وجود قوتين متدافعتين، واحدة بإيمانها وحقِّها، والأخرى بجحودها وباطلها، والله خالقُ هذا القانون وواضعهُ في الحياة والكون، إنما وضعه ليظهْرَ به حقّ الإيمان لأنه يحبُّه، ويُذْهبَ باطلَ الجحود لأنَّه يكرهه، فهو سبحانه يحبُّ الإيمان وأهل الإيمان، ويكره الجحود وأهل الجحود، وهو إذ يحب الإيمان وأهله، يحبُّ أن تكون الغَلَبةُ والتّمكين في الأرض لهم، وإذ يكره الجحود وأهله، يحب أن تكون الهزيمة والخذلان والضّعف في الأرض لهم؛ وليس وجودُ القوتين المتدافعتين، يعني أنَّ كلَّ قوة منهما يتكافأ أفرادها في إيمانهم، أو في جحودهم، فللإيمان مراتبه المتفاوتة، وللجحود مراتبه المتفاوتة كذلك، وإذا عَلم الله سبحانه أنَّ تفاوتَ مراتب الإيمان، لا ينزلُ بأفراد المؤمنين إلىما يقارب أدنى درجات الجحود، جعلَ النَّصر حليفهم، أما إذا نزل بهم حتى جاوز الأدنى منها، فظهور إحدى القوّتين يكون مرهوناً بظهور القوة الماديّة فيها، والحِنكة الإدارية، والتفوق الذِّهني والنَّفسي، الذي يقدر على الوصول إلى النتائج السّليمة وفْقَ مقدِّماتها، وفي الأغلب أنَّ الظُّهور في مثل هذه الحالة يكون للقوة الجاحدة، ليكون ظهورها عقوبةً أو شبه عقوبةٍ تمسُ بها القوة الأخرى التي دلّت بمعصيتها حتى بلغت أعلى درجات الإيمان الكامل الذي كانت ستستحقُّ به النصر من الله.
وهذا الجحودُ من القوة الإيمانية، لا يعني قنوطَها ولا قعوها عن رجاء النّصر الذي وعد الله به عباده المتقين، فإنَّ حقاً على الله سبحانه أن يجعل في الأمة طائفةً دائمةَ الظهور، يُعقد رجاءُ المستضعفين في الأرض جميعاً، وهذا من معنى قوله تبارك وتعالى: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِي...} [سورة المجادلة: آية 21].(3/84)
الثانية: وقانون المدافعة يقضي أن يُدفع الشيء بضدِّه، فالضَّلال يُدفع بالهدى، والجهل يُدفع بالعلم، والشرُّ يُدفع بالخير، والظُّلم يُدفع بالعدل، والبدعة تُدفع بالسُّنَّة.
وعليه؛ فإنَّه لا تكون غلبةٌ، وعلوٌّ، وتمكينٌ، للحق وأهله إلا أن يكون فيهم من أسبابها من يؤهله للقيام بحقِّ هذه الغلبة والعُلوِّ والتمكين، إذ إنَّ ذهاب هذه الأسباب وفقدانها، فسادٌ للأرض، وتهديمٌ لمعالم العبادة وبيوتها، التي أمر الله وأذن أن تُرفع.
وفساد الأرض يشمل فيما يشمل، تهديم البيوت التي أذن الله أن تُرفع لعبادته، وتهديم هذه البيوت، يعني بالبداهة شيوع الفساد في الأرض، لأنَّ هذه البيوت مثوى العبادة، التي بها صلاح القلوب هداية، وصلاح العقول علماً، وصلاحُ الأبدان تنزُّهاً عن الذُّنوب والمناكر صيانةً، لذا فإنَّ حقاً لله على العباد، أن يصونوا بيوت العبادة بإعمارها، بأنواع الطاعات والمنكرات، لتظلَّ بيوت العبادة مصونة فتُصان بصيانتها الأرضُ وما عليها، مما خلق الله لمنافع العباد، فلا تكون العقوبة التي توعّد الله بها الخالفين عن طاعته، الزّاهدين في عبادته، القائمين على معصيته، وذلك قوله سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [سورة الروم: آية 41].
الثالثة: وحين لا يعمل قانون المدافعة بقوة الإيمان وفق مقتضى الحكمة الإلهية البالغة، فإمَّا أن يكون ذلك بهيمنة الحقّ واستحواذه على الأرض والحياة والناس، وإمّا أن يكون بتفرُّد الباطل بالطُّغيان والاستحواذ، ولا يكون هذا إلا من خلَلٍ يكون في أهل الحقِّ أنفسهم، فيحدث فيهم ضعفاً يعجزهم عن مدافعة الباطل وأهله.(3/85)
لذا؛ فإن من حقّ هذا القانون علينا، أن نعيد النظر في أنفسنا بحثاً عن الخلل الذي وقع عليها، وتنقية لها من الشوائب والأكدار التي داخلتها، وإقامتها على سواء الجادّة، بتصفية العقيدة من كلِّ ما يعكر صفوها الفطري، وتنقية الأحكام الشرعية التي استقامت بها الأنفس والعقول على أمر الله سبحانه؛ {فِطْرَةَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [سورة الروم: آية 30]، {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سورة هود: آية 112]، وبذلك نُعيد إلى هذا القانون الإلهي حقّه الطبيعي، الذي اهتدت به النَّفسُ الأولى، وتتابعت من بعدها الأنفس المشتقة منها، تحمل تلك الهداية جيلاً بعد جيل، وقرناً من بعد قرن، إلى أن تقوم الساعة.
الرابعة: وإعادة النظر في أنفسنا، لاستظهار الخلل فيها، وتنقيتها من الشوائب والأكدار، وإقامتها على سواء الجادّة، لا يكون إلاَّ من طريقين اثنتين، الأولى: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والثانية: إقامة الحدود والعقوبات الشرعية.(3/86)
ولا يمكن -لتمام الأمر على وجهه، واستوائه على سوقه- إلا بها معاً، فإذا كان الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، يقتضي وجود طائفةٍ من الأُمَّةِ تقوم به، فإنَّ إقامة الحدود والعقوبات أولى في ذلك وأولى، وبخاصّة وأن الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، يستطيعه كل واحدٍ في الأُمَّة، توفّرت فيه عدّته، أما الحدود، فإن إقامتها لا تكون إلا من ذوي شوكةٍ وسلطان، والله يزعُ بالسلطان ما لا يزعُ بغيره كما ورَدَ في الأثر عن عثمان رضي الله عنه، وليس هذا كائناً للطائفة التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، بل إنَّ هذه الطائفة التي أوجب الله أن تكون، هي في حاجة دائمةٍ إلى قوة السلطان، الذي يؤيدها، ويُظاهرها، ويحميها، ويملأ أعين الناس من حُرمتها، فهي لا غنى لها عن قوة السلطان، والسلطان لا غنى له عنها، فكلاهما يعمل لحفظ أمر الإسلام في الأرض، ورعاية أحكامه وعقيدته في أنفس الخلق، هذا بالدّعوة وحمل أمانتها ومسؤوليتها، وذاك بإقامة الحدود، ورعاية أمانتها وأداء مسؤولياتها.
ويمكن القول: إنَّ طائفة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، هي اللسان المبين عن مراد السُّلطان في رعيَّته، وإن السُّلطان، هو السّوط الذي يحمي هذا اللسان المبين عن مراده أن يُقطع، فهما بذلك شيءٌ واحدٌ وإن استقلّ كلٌّ منهما بأمرٍ دون آخر، وحديثٌ واحدٌ من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصوِّرُ هذين الشيئين معاً أدقَ تصوير وأتمَّه، وأحسنه، والآثار الناشئة عن تعطيلها، وذلك قوله: "والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده، ثمّ لتدعُنّه فلا يستجيب لكم"(50).
فإنَّ الوعيد الشديد بالعقاب الذي يعمُّ الأمّة بترك الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، لا يُرفع عنها إلا بدفع أسبابه، وظاهرٌ جداً أن أسبابه، انتشار المعاصي، وشيوعُ المنكرات، والسُّكوت عليها، والعجزُ عن مدافعتها.(3/87)
ولا شكّ أن السُّكوت على المعاصي والمنكرات، والعجز عن مدافعتها، يخلق إلفاً بينها وبين النّاس، يحمل في النهاية على الرِّضا القلبي، عن المعاصي والمنكرات.
ويُحدث فيهم خطةً لا يُمازُ بها طيِّب من خبيث، ولا خيرٌ من شر، ولا معروف من منكر، ولا حسنٌ من قبيح، فيصير الشيءُ وضِدّه متماثلين! بل ربما أصبح الشر فيهم خيراً، والمنكر معروفاً، والقبيح حسناً والخبيث طيباً، وحينئذٍ: أين تكون الأمَّة قد أقامت نفسها، ولتنظر من غدٍ القريب هلاكها، كما أصابت الأمم في أمسها، وليس شيءٌ بنافعها إلا إذا ابتدرت الأمر قبل حلوله، والشر قبل وقوعه، وذا لا يكون إلا باعتضادٍ بين السُّلطان وبين طائفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الخامسة: وإذا كان نفاذ قانون المدافعة في الخَلْق مرهوناً بقيام المؤمنين بحقِّه، فإنَّ حقاً على الله أن يُهيِّىء لهم الأسباب التي يقوَوْنَ بها على القيام بهذا الحق، وحقّه على المؤمنين أن يحسنوا حراسته فلا يغفلوا عنه، وأن يكونوا أُمناء عليه فلا ينتقصوه، فإن هم ضَعُفوا عن أداء هذا الحق، فقد تعطَّل نفاذه، وتفرَّد أهل الباطل بسلطانهم، فعاثوا في الأرض فساداً، ونشروا أعلام ظلمهم، وعلَوا ببطشهم وجبروتهم.
وهذا ما نشهده واقعاً فينا اليوم، لا نكاد نرى ملاذاً نلوذ به، ولا ملجأً نلجأُ إليه، ولا شِعباً نصعد فيه، وضاقت علينا الأرضُ بما رَحُبت، وسُدَّت في وجوهنا السُّبل، وأظلمت في أعيننا الآفاق، وأفلتت من أيدينا الآمال مبعثرةً، وتطاير من فوق رؤوسنا الرّجاء جُذاذاً، وأحط بنا اليأس من كلِّ جانب، وتتابعت فوق أرضنا البلايا الثِّقال الطّامات، والمصائب الجامات الجاثَّات.(3/88)
ننظر يمنةً فلا نُبصر إلا ضياعاً، وننظر يسرةً فلا نرى إلا تيهاً، وننظر من فوقنا فلا نشهد إلا قتاماً، والأرض من تحت أرجلنا تميد وتضطرب، وتكاد تنْشقُّ لتُغوِّرنا في أعماقها، والحسابات الرّقمية تدور في أفلاكها الجارية إلى مستقرٍّ لها، تُنبئنا وتحدِّثنا أن لا منجى من الله إلا إليه، ولا مخرج من سوء البلايا إلاَّ بالرُّجوع إليه، ولا أمن ولا عافية ولا رخاء إلا بالاحتكام إليه، فكيف والآيات والسُّور القرآنية والأخبار والكلمات النبويَّة، تخبرنا وتحذِّرنا، وتقصُّ علينا من أنباء ما قد سبقَ من الأمم، وما حلَّ بهم من النِّقم، ما يكفي أن نستشرف به عوالم الغيب الآتية، فنبصر فيها مصائرنا المكدورة المهينة تدفع بها إلى قيود الذلُّ، فنقعد بها لا نستطيع حراكاً نخفِّف به عن أنفسنا ولو ساعة من مرارة ذلك الذلّ.
ونعلم في قرارة أنفسنا أنَّ مسؤولية الأمم والشعوب تقع على عواتقنا، فإذا كانت هذه القيود مانعتنا من الحراك لنخفِّف بعضاً من ذلك الذّلِّ عنَّا، فهل هي مانِحتُنا شيئاً من الحركة، نتخفّف به من تبِعات المسؤولية التي تقع على عواتقنا؟(3/89)
إنَّ مفاتيح قيود الذُلِّ هذه ليست في أيدينا، إنّها في أيدي أعدائنا، فهم إن شاءوا فتحوا أقفالها، وإن شاءوا لم يفتحوها، ولسنا نملك من الأمر شيئاً، إلا أن نأخذ مفاتيح هذه الأقفال من أيدي أعدائنا، وليس لدينا من القوة ما نأخذ به تلك المفاتيح، وحتى يصير لدينا مثل تلك القوة فلا بدّ من البحث عن سبيل نمتلك به هذه القوة، وليس يخفى أنّ البحث سوف يستغرق زماناً طويلاً، لا ندري ما الله فاعلٌ بنا فيه، فإنّ عُتُوَّ أولئك الأعداء، وتسلطهم على كنوزنا، وحيازتهم قدراتنا المادية، وطاقاتنا الفكرية، والتبعية الصّاغرة المهينة التي تسربلنا بها، حتى غَدَت هي زينتنا، ووشْيَ حياتنا، وزُخرفَ ألسنتنا، وبهجة محافلنا، كلُّ أولئك أجاءنا إلى ظلٍّ أسودَ قاتم، لم يعد بوسعنا ونحن فيه إلا أن نستغيث بهم قائلين: واغوثاه، وانصيراه، أما خالقنا، وربُّنا، وربُّ كل شيءٍ، فقد نسيناه أو أُنسيناه!! وأمسينا نبحث عن ذواتنا المغيَّبة في جوف هذا الظّلّ الأسود فلا نجدها!! وإن نحن عُجْنا باللائمة على الناس، فنحن أحقُّ باللائمة إذ {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} [سورة الزمر: آية 9].
لكن سُنَّةً أُخرى من سنن الله، تُخفي نفسها في أستار الغيب الرّاقب حياةَ الناس، لا تلبث أن تهتك تلك الأستار، وتمضي مُسرعةً تبحث عن مستقرِّها -حينئذٍ يأذن لها الله- في أرضٍ فسقتْ عن أمر ربِّها، واستطالت بمكرها السيِّء في المستضعفين، وعَظُمت في أعينهم ببطشها، وجبروتها -لتلقي بجرانها العدْلَ في تلك الأرض، فتُنيلها ما أنالت الناس، وتنزل بها ما أنزلت بهم، وتقطع يدها التي أحلت بهم من ألوان الظُّلم والهوان والمسغبة، ما لا قِبَل للجبال والرّواسي بها.
تلكم السُّنَّة صاغها النبي صلى الله عليه وسلم لنا في قوله: "حقٌّ على الله عزّ وجلّ أن لا يرفع شيئاً من الدُّنيا إلا وضعه"(51).(3/90)
وحتى تقع هذه السُّنَّة، وفق الحكمة الرَّبانية، وتُصيب الأرض التي أذن الله أن تصيبها، فلا بدَّ وأن تقع في عقول الأُمَّة علماً وفقهاً، وفي قلوبها هدايةً وإيماناً، وفي أبدانهم سلوكاً وعملاً.
ومِن أجلّ الفقه الذي يجب على الأمَّة أن تحرص عليه، أن تنظر في تحرُّك السُّنن الإلهية، وتقلُّبها في الآفاق، وتفاعلها وتداخلها في الحياة والإنسان والكون، وتعقد بين هذا الفقه الجليل، وبين قوله صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله يرفعُ بهذا الكتاب أقواماً، ويضعُ به آخرين"(52).
ومن الذين يرفعهم الله بكتابه، أولئك الذين أنعم الله عليهم بالبصيرة النافذة في الأشياء والأحوال، وملَكهم بالعلم والتّقوى فراسةً، يقرؤون بها الغيب المكنون بالحدس والتّقدير، لا بالكشف والرؤية، فتكون كلمتهم ظاهرةً بهم، ويكونون هم ظاهرين بها، ظهورٌ من ظهورٍ بظهورٍ، فتسعد الأمَّة بعلمِهم الباني، وشوقهم المفضي بتقواهم إلى رحاب العرش، وعطائهم الباذل الجمِّ، ورفع أقدارهم بالصِّدق في طاعته، وأيّدهم بروح من عنده، وأوفاهم على مطالع النّور برحمته ومن رحمته، إنّهم الفئة التي أكرمها الله بالقيام بأمر الله في كلِّ زمان، وإن كان من يعصيهم من الناس أكثرَ من الذي يطيعهم.
ولا يَحسُنُ أن يغيب عنّا، أنَّ الله سبحانه خاطب عباده بالأحكام المقدور عليها، التي لا يشقُّ عليهم حملها ولا يكون من حرج عليهم في فعلها، وهذا تشريع لهم في حياتهم، يهديهم إلى كلِّ أمرٍ من أمورهم، ولا يُضلُّهم في سعيهم أينما كانوا، وحيثما كانوا، وهذا من رحمة الله بهم، التي وسعت كل شيء.(3/91)
وإذ ذلك كذلك، فإنَّ الأمَّة اليوم وهي ترزح تحتَ أثقال البلاء -تجني من قلوبها، وأبدانها، وأموالها، وأنفسها، أعزّها وأغلاها، وقد أمكنت أعداءها من كلِّ غالٍ ومُرتَخَصٍ من أمور دنياها- لا تجد ملاذاً بعد الله سبحانه، إلا في تلك الفئة التي ترسم لها خطّ سيرها بكتاب الله وسنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم، الفئة الناجية التي اصطفاها الله بانتسابها إلى نبيِّها الأكرم صلى الله عليه وسلم اقتداءً وامتثالاً وعملاً(53).
والمقدور عليه المستطاع في زماننا هذا -ممَّا يقتضيه النّظرُ العلميُّ الإيمانيُّ في سُنَّة المدافعة- هو توجيه الأمَّة توجيهاً عقديّاً، تربوياً، يؤهلها إلى تلقِّي تبعات العمل المستقبلي، من غير ضعفٍ ولا تراجع، وهذا لم يبق إلا في ثلةٍ قليلةٍ جداً، أما الجمُّ الغفير فقد صاروا إلى يبابٍ وهبابٍ.
ولعلّه يبدو لكثير من الذين يستحثّون الزّمان أن يعجَل لهم بدولةٍ تحكم بما أنزل الله، أنَّ العمل في دائرة المقدور والمستطاع في هذا الزّمان يُبطىء في قيام هذه الدّولة، لأنه يستغرق زماناً طويلاً، وربّما قعد بالكثيرين عن مواصلة السّعي، حتى فيما هو مقدورٌ مستطاعٌ، أو أجحدهم به بالمرّة، وعليه فإنَّ الانتقال السَّريع من هذا الأمر المقدور المستطاع لا ينبغي أن يدفع عنه في صُدورِ من يستعجلونه، ممَّن لا يجدون في أنفسهم العجز عنه بالرَّجاء في نصر الله وتحقيق موعوده لهم.
وحسبُنا أن نقول لهؤلاء: أن يطول الزّمن بجهدٍ يُبذل، ولا يقطَعَه استدراجٌ ماكرٌ يُبيِته أعداءُ الله خيرٌ من أن يقصُرَ الزّمنُ بجهد يُبذل ويبتزّه تدبير ماكرٌ، يُبيِّته أعداء الله للأمَّة، فيصيبها العجز في كل شيء، وعن كل شيءٍ.(3/92)
والتجارب المريرة التي سارت ليلاً ونهاراً، صيفاً وشتاءً، شرقاً وغرباً، طولاً وعرضاً، وأملَت على الأمَّة دروساً وعبراً، في الماضي والحاضر، يجب أن تظلّ محفوظةً في الذّواكر، وأن تُكتَب وصايا عزيزةً للأجيال المتعاقبة، يُحرص عليها في ورعٍ ورجاءٍ في ذات الله سبحانه، فتفيد منها في أناةٍ وصبرٍ، وهذا شيءٌ من تأويل قوله تعالى: {يأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [سورة يونس: آية 57].
والذين لا يجدون في أنفسهم العجز عن السّعي لبناء دولةٍ تحكم بما أنزل الله، أولى أن ينتفي العجز عنهم، وهم يُعدُّون الأمَّة إعداداً مؤسساً على العقيدة النَّقية والأحكام الشرعية الصافية، فيكون منهم طائفة آمرةٌ بالمعروف، ناهيةٌ عن المنكر، داعيةٌ إلى الخير، باذلةٌ في ذلك كلِّه من مالٍ تملكه، وعلمٍ تعرفه، وجهدٍ تدركه، راغبةٌ فيما عند الله من برٍّ وثواب، راجيةٌ أن يكون لها من ذلك، ما يمهِّد السَّبيل أمام من يخلُفها بجهدٍ ليس يُعدُّ إلاَّ يسيراً إلى جنب الجهد الذي بذلته، وأعدّت به الأسباب والوسائل التي قرّبت لها الغاية، وزوت لها البُعدَ، وأدنت منها النِّهاية.
تُخبرنا بذلك سيرةُ المصطفى صلى الله عليه وسلم، في عهدَيها المكّي والمدني، حيث امتدّت فترة الأول منها، بزيادة ثلاثِ سنين عن الفترة الثانية، إذ الجهد الذي يبذل في بناء الجماعة، وتأسيسها، أكبر من الجهد الذي يُبذل في بناء الدّولة وتأسيسها، لأنّ الجماعة هي التي ستتولّى بناء الدّولة وتأسيسها، مالم تكون هذه الجماعة، متمكّنة من قدرات هذا البناء والتأسيس، فإنَّها تبعدُ كثيراً جداً عن الغاية التي تنشدها.(3/93)
وحين نعقد مقارنةً بين العهد النَّبوي وبين أيِّ عهدٍ جاء من بعده، فإنَّنا نجد الفرق شاسعاً بينهما، من حيث القُدُرات التي يجب إعدادها للبناء؛ سواءٌ أكان بناء الجماعة، أم بناء الدّولة، ومن حيث الوقت الذي تستغرقه عمليّة البناء، فهناك نبيٌّ يوحى إليه، يتلقّى من ربِّه، ويلقي ما يتلقاه في مسامع قلوبِ أحسنِ ما عُرف عنهم التلقّي في كلِّ أجيال البشر وقرونهم.
وهناك سذاجةُ الحياة، وسلامة الفطرة، واستواء الفضائل، ومَلَكاتُ الأمَّة المختارة لأشرف رسالة، ونقاءُ البيئة من عَكَر الفلسفات، والثقافات، والمدنيّات المجلوبة بالآفات العقلية، والبدنية، والنَّفسية، والاستعداد الذّاتي المكتسب، هذه كلُّها وسواها أمكنت للجماعة المؤمنة في العهد المكي أن تستوعب مضامين الرسالة في فترةٍ زمنيةٍ وجيزةٍ، لتنتقل بها إلى العهد المدني، لتؤسس دولة شاهقة البناء، قوية الأركان في فترة زمنيةٍ أوجز.
وهي بهذا؛ تعملُ -حقيقة- على اختصار الزّمن ما أمكنها ذلك، ليقرب المسافة بينها وبين الهدف الأسمى، الذي لا يغيب عن عقل جيلٍ من أجيالها، ولا عن عقل قرنٍ من قرونها، بل يظلُّ حاضراً في صدورها، حتى يصبح حقيقة واقعة، ماثلة لكلّ الشعوب والأمَّم، ولكأنما يريد أن يثبت للعالم والكون، أنَّ الأمَّة في ماضيها هي الأمَّة نفسها في حاضرها، وهي الأمَّة نفسها في مستقبلها، لكنْ على الأمَّة أن لا تُدخل مادةَ الزّمن بُعداً أو قُرباً في حسابها، فالنّجاح كالفشل، قد يطولُ زمانُ الأوّل ويقصُرُ زمانُ الثاني، وقد يكون العكس، وهذا ما ألقى به النبي صلى الله عليه وسلم في أسماع أصحابه وقلوبهم رضي الله عنهم، وهم في مكة، قبل الهجرة، وسياطُ العذاب تمزِّق أبشارهم، وألسنّةُ الكفر تسخر منهم، وتدعوهم إلى الخروج عن الخطّ الذي خطّه نبيُّهم صلى الله عليه وسلم من أوّل يوم جاءهم فيه، حين قال لهم: "ولكنكم قوم تستعجلون".(3/94)
فأين الأمَّة من هذا كله، في كلِّ قرونها وأجيالها وبخاصّة في زماننا هذا، الذي اختلطت فيه الأمور اختلاطاً صار من الصَّعب معه التمييز بين الأضداد؟
إنَّ الأمَّة في كلِّ قرنٍ من القرون التي تلت القرن الأوّل، تحتاج من الزمن مدّة، تختلف باختلاف حال القرون، وقد تبلغ حاجتها، حتى تستقرّ في مستقرِّها الآمِن في زمانها هذا قروناً، ليس ينبغي أن تُدخلها في عدِّها الحسابي، فإنَّ نجاح الأمَّة في قرنٍ ما، لا يُعدُّ مقياساً صحيحاً لتحقِّق على أساسه نجاحاً من قرنٍ آخر بعده، فإنَّ حاجات القرون، وأنماط عيشها، وطرائق تفكيرها، تختلف من قرنٍ لآخر، لذا فإنَّ عليها أن تتخير أو تبتكر من الوسائط المشروعة، ما يمكنها من تحقيق موعود الله، من غير تعجُّل ولا استبطاء، فإنَّ الله لا يبخل على عباده المؤمنين بوعده، حين يعلم أنَّهم أهلٌ له.
ملحقان جديدان
وفوائد علمية وضوابط منهجية
1- كان لزاماً أن لا يخرج هذا الكتاب بطبعته الجديدة، إلا بهذين الملحقين اللذين يحملان درءَ الشبهات والأغاليط التي نسبها لي واحد من إخواننا الدعاة غفر الله له وهداه.
2- وقد صنع الأخ الفاضل "فتحي بن عبدالله الموصلي" فهرسة لطيفة لمادة الكتاب، رتَّبها في فوائد علمية وضوابط منهجيَّة -جزاه الله خيراً- قرَّب بها مادة الكتاب، ويسَّرها في صورة حسنة.
بين يدي الملحقين
لست -والذي نفسي بيده- من أُولئك الذين يحبون أن يضيِّعوا أوقاتهم بما يسمَّى بالردود العلمية المتهافتة، ولا من هؤلاء الذين ينفقون شطراً من أعمارهم في دعاوى حائصةٍ عافصةٍ -والناس- والحمد لله- يعرفون مني هذا.
لكن أمراً فرض عليَّ أن أدعو قلمي، فأملي عليه ردّاً على "فلانٍ"، وفلان هذا ما كان قد أرضع نفسه لبناً متغيِّراً طعمه، كريهةً رائحتُه، فأساغه -عياذاً بالله- على ودادٍ للشيطان غير كاره له، ولا مُكْره عليه.(3/95)
ولكأنَّ فلاناً هذا -أصلح الله له شأنه- لم يعفَّ عن الإعجاب بنفسه، فغدا إليها والعُجب ملأ برديه، وقد أفرغ مخاض قلبه في جوف قلمه، ودفعه إلى صفحات كتابي على غير هدى ولا كتاب منير، وأناله قسطاً وافراً من عرضي في غير حرجٍ ولا تأثُّم، ولا خوف من عاقبة، ولا حياءٍ من تلاميذه والناس، وحمَّلني من زور القول الخفيِّ والجاهر ما لا يخطر ببال جاهلٍ ولا سافك آفك.
ولست في شكٍّ من أمري، ولا أنا براغبٍ عن حقٍّ يبرأُ منه الباطل، ولا بناءٍ بجنبي عن مأوى كلمة صدقٍ، ولا بخائفٍ من اجتماعِ أقلامٍ تمعَّطت بطانَتُها (!!) وتهتكت ظِهارتُها (!!)
وإني لآملُ أن يأتي يومٌ على هذا "الفلان" قبل موته يتوب إلى ربه متاباً، ينجو بها من مرذول فقهه وقبيح كلامه -وهو يعلم من نفسه إن كان عنده بقيَّةُ خشيةٍ من ربه، أنه لم يقرأ كتابي: "هي السلفيَّة"، أو أنَّه لم يفهم شيئاً ممَّا قرأ إن كان قرأ- فلماذا يُحِبُّ أن يُبْقيَ على وشيجة الحب سالمةً بينه وبين الشيطان؟!
فكان مني -ولا بدَّ- أن يكون هذا الردُّ لعلَّ فيه تبياناً مقسطاً، لكل محبٍّ للحق، راغب إليه لا عنه!!!
والسلام على كل متبع للهدى.
الملحق الأول
دفع شبهات أوردها صاحبها
لم تعرف البشرية في قرونها كلِّها نبياً أشرف ولا أفضل ولا أتمَّ خَلقاً وخُلقاً من محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم.
كما لم تعرف ديناً أحكم، ولا أكمل، ولا أوفى بحاجات البشر وضروراتهم من دين الإسلام الذي ارتضاه الله للناس كافَّة. فمن أعرض عنه فقد أوضح بعقله في ضلال، وأشرف بنفسه على هلكة، وأناخ براحلته في عرصات الأفك الموبقة في أليم العذاب، ذلكم أنه قد أكذت محمداً صلى الله عليه وسلم، وأنزى نفسه بكل آثامنها على الوحي، وارتقى بها عدواناً واستكباراً على أهل الأرض والسماء.(3/96)
وليس يعابُ على الكافر -وهو في كفره- أنه مرتكس بكفره في حضيض الأفك، وقائم به في درك الزور والبهتان، كواحدٍ يُحسب على أهل العلم، أشهده الله بما أوتي من علم، أنه لا إله إلاَّ هو، فابصر بها بالحق فغُمَّ عليه، ورأى بها الباطل فحبب إليه.
ومما يُحزن النفس، ويعكِّر صفوها، ويدمي صفحتها، أن يكون انتهاك لحدود الله، وطمسٌ لمعالمها، وردٌّ وتكذيب علميٌّ وعمليٌّ لها. واستخفاف بما حقَّت به من أوامر ونواه. ومِمَّن؟! ممن اشرأبت إليهم الأعناق، من بعض من يَعدُّون أنفسهم أو يعدُّهم الناس دعاةً على منهج الكتاب والسُّنَّة، خالط نفوسهم سوء الظن، فأبوا إلا أن يرتدوا سربال العدوان، فأنسوا حقَّ إخوان لهم عليهم، واتخذوا لأنفسهم مأوى في أكناف الهوى.
وكان من هؤلاء واحدٌ من أخواننا أحسنَّا فيه الظن زمناً طويلاً، وآثرناه بهذا الظن على كثير ممن نُحبُّهم ونصطفيهم بمودتنا، وأحللناه من قلوبنا السويداء، وما ذُكر أمامنا إلا وأثنينا عليه، وقلنا فيه خيراً، وذببنا عن عرضه ابتغاء مرضاة الله.
وبالأمس، أبدى لنا صفحته، وكشف بسوء قول عوار نفسه، وأهاج شيطانه، أو أهاجه شيطانه لا أدري!! فاستطال بقلمه ولسانه من غير علم ولا هدى ولا كتاب منير، وقذف بوغر صدره، وحميم قلبه، ورضخ هواه -عليَّ، وعلى كتاب ألَّفته تبياناً لحق، ودفاعاً عن منهج صِدقِ، وتأليفاً لقلوب فرَّقها الجهل والهوى، ودرءاً لفتنةٍ توشك أن تحطَّ بسخيمتها بين ظهرانيهم، وقطعاً لغرب شرٍّ يُراد بهم، ومحواً لشبهاتٍ نَسَجها أعداؤهم لهم ظلماً وكذباً هذا الكتاب هو: "هي السَّلفية نسبة، ودعوة، ومنهجاً".(3/97)
وكنت أرجو أن يكون هذا الأخُ منصفاً على الأقل ولو في كلمة واحدة من كلماته وعباراته، التي وصف بها كتابي أو كان مؤدِّياً حقّ العلم والقلم. أو كان على شيءٍ -ولو يسيراً- من الحق فيما سوَّد وكتب، إذاً لحقَّ لي أن أقول: اجتهد في نقده، غفر الله له، ولكل مجتهد نصيب من صواب أو من خطأ كما يقال، ولكان له حقٌّ عليَّ أن أعذِره، وألتمسَ له وجه الصواب حتى في خطئه، وأحمَد له صوابَه، وأدعوَ له بالتوفيق والسداد.
لكن أنْ يكون هذا، وشيءٌ من ذلك كلِّه -والله- ما كان أبداً، فحسيبك الله يا هذا، وما كان أغناك وأغناني عن أن تقول فيَّ. أو أن أدفع ما تقول.
ومن باب إحسان الظن فيك أقول: لعلك -لانشغالك بشؤون الدَّعوة وهمومها كما يقال، وكثرة أسفارك- رأيتَ الكلمات أو سمعت به، فكلَّفت أحداً من أصحابك أو مريديك أن يقرأه، ليضع لك تقريراً عنه، يبين لك منه سواءته!!! التي صارت سَمة النقد في زماننا هذا. وكان من هذا الصاحب أو هذا المريد، أن اختار لك هذه النتف أو المقتطفات أو المبتسرات، فبنيت عليها مذكرتك ذات الصفحات الخمس، التي قام مريدوك وأصحابك بتوزيعها أولاً -قبل أن تنشر أجزاء متفرقة منها في مجلة الفرقان، في حوارك المزعوم تحت عنوان "حوار مع الألباني".
ولعلك يا هذا لم تعِ الأخطاء الشنيعة الفاحشة، التي وقعت فيها، وجعلت من نفسك معها، مُطَّلعاً على ما تُخفيه قلوب العباد، ولقد والله أسأت لنفسك قبل أن تسيءَ لغيرك، وإن كان هذا شأنكَ مع الناس يا هذا فويلٌ لك ثم ويل، ثم ويل، والله إن تهمة واحدة من التهم التي سخّمت بها مقالك أو مذكرتك، كافيةٌ أن تُحبطَ كثيراً من صالح عملك. وتجعلكَ أقربَ إلى الإفلاس منك إلى الغنى بعملك.(3/98)
لقد قلت فيَّ قولاً لا يقال إلا في كافرٍ صريح الكفر أو في منافق عظيم النفاق، قلت وما أفظع ما قلت: قلتَ "هذا إلى أمور منكرة عظيمة" جعلت ما صوَّره -أي أنا أو الكتاب لا أدري- من السَّلفية، قاديانيةً جديدة، وصوفيةً مستحدثة، لبست لباس السَّلفية زوراً وبهتاناً، أو ثعلبيةً ماكرة خبيثة، أو بيعاً للدين بالدنيا، أو وقوعاً في فتنة عمياء، حسيبك الله يا هذا، فلقد والله قلت قولاً، لو مزج بماءِ البحر لأفسده.
ولكن لا أدري لم حذفت العبارات والكلمات، التي كنت تعقِّب بها على تلك المقتطفات أو المبتسرات التي بنيت عليها مذكرتك، لقد خانتك شجاعتك في باطلِ ما كتبت فيها، فلعلك قدَّرت أن ذكرها في مقال ينشر في مجلَّة يسيء إليك إذ هي ليست من النقد الموضوعي العلمي كما يقال في شيء، فاحتَبَسْتَها، وأخفيتها، وأخرجت للناس، ما لا تعاب به عندهم، فحسيبك الله، وزادك حرصاً على الشهرة، وسأُورِدها جميعَها بنصِّها كما وردت في مذكرتك.
أناشدك الله إن كنت تخشاه -هل اتقيت الله فيما كتبت؟! هل كنت عادلاً مقسطاً، أم ظالماً قاسطاً فيما كتبت؟! هل ابتغيت وجه الله والدار الآخرة فيما كتبت؟! ألا تحفظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقِ دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب"، ووالله، الذي لا يحلف إلا به، إنك لمن الظالمين العادين فيما كتبت، فتُبْ إلى رشدك، وحاسب نفسك، وانخلع من مظلمة قلَدَّتها عُنُقَك.
لو أنَّك تريَّثت، ونظرت في عاقبة سوء ما صنعت، وأمَّلت في أخيك خيراً، وأحسنت فيه ظنّاً، لما أقدمت على الذي صنعت، ولكنت أمضيت على نفسك نصحٍ، إن كنت رأيت فيَّ أو في كتابي ما يسوءُك، أو علمت فيه شيئاً يخالف عن العقيدة أو مقتضاها. فكان منك اتصال ولو بالهاتف، فتدلَّني على ما فيه من مخالفة واحدة أو مخالفات، فحسيبك الله.(3/99)
وليس والله من طبعي ولا من خلقي أن أنتصر لنفسي، حتى من أولئك الأشرار، الذين صَخِبُوا عليَّ. وأُمعنوا في إذايتي، والطعن عَليَّ سراً وعلانية، وألَّبوا عليَّ العامَّة والخاصة، فما عهدت نفسي والله إلا سمحاً سهلاً عفوّاً "وما ازداد عبد بعفوٍ إلا عزَّاً"(54).
ولا تحسبن ما أصنعه الآن انتصاراً لنفسي، إنما هو بيان وإيضاح، لمن يَحسِب نفسه على منهاج السلف الصالح، ولو انتحالاً!!
وليتك يا هذا أن لا تكون وأنا أكتب إليك لتقرأه أو ليَسمَعَه من الذين قال الله فيهم: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [سورة النور: آية 15]. فلعلَّ الله يفرح بتوبةٍ منك أنت آتيها. فلا يكون بعدُ منك بهتٌ مائرٌ، ولا خرص مائنٌ، ولا إفكٌ عائر، فقد كفيتَ من ذلك كله، وحسبُك.
وإليك يا هذا بعض ما افتريت عليّ وفضح أمرك بالجواب عليه.
(الفرية الأولى): قلت مستنكراً عليَّ: يقول أي أنا: "إن الجهاد لا يفتح بابه، ولا يرفع رايته، ولا يأذن به ولا يدعو إليه إلا إمام واحد، رضي من رضي، وكره من كره" ثم يقول أي -أنا- "ونسأل لماذا لا تستطيع الأمَّة القيام بأعباء فريضة الجهاد؟ ذلكم أن الجهاد لا يكون إلا بإمام عامة، وإذن منه، وهو مثل الحدود والعقوبات، فهذه لا يوقعها، ولا يقيمها إلا إمام عامة" ثم قلت يا هذا "ويعني -أي أنا- أن الأمَّة لا تأثم بترك الجهاد اليوم، فإذا لم يكن في وسع الأمَّة القيام بحق الجهاد لغياب الأمير، الذي يعقد رايته، ويأذن فيه، ويولّي أميراً على الجيش، فإن الجهاد يكون من التكاليف غير المقدور عليها، ولا تأثم بتركه".
وخلصت من هذه الفقرات التي سقتها يا هذا، إلى أنني وضعت قاعدة جديدة في حكم الجهاد اليوم وهي "أفضل الجهاد اليوم هو الإمساك عن الجهاد".(3/100)
من أنت يا هذا حتى تدَّعي عليَّ أنني وضعت قاعدة جديدة في حكم شرعيٍّ قرَّره الله سبحانه؟ أتعرف ما القاعدة، ومن الحقيق بوضع القواعد في الدين؟ أجعلتني أو جعلت نفسك نداً لله، ألا اتقيْت ربك، وحرصت على حسناتك أن تذهب سدى؟!
الحقُّ، والحق أقول يا هذا أنك... كنت صادقاً في نقلك العبارات والفقرات التي نقلتها من الكتاب، فلم تزد حرفاً ولم تنقص حرفاً، كما كنت صادقاً في ذكر الصفحات التي عزوت إليها نقولاتك، لكن ليتك لم تصدق هذا الصدق الذي، الكذبُ أهدى سبيلاً منه، وأقوم قيلاً، أو لعلك أحطت بعلم لم يحط به أحدٌ سواك في الحديث الصحيح الذي رواه الثقات عن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، قالت: لم أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرخِّص في شيء مما يقول الناس كذب إلا في ثلاث، الحرب، والإصلاح بين النَّاس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها، فهل كذبك عليَّ وعلى كتابي واحد من هذه الثلاث، أم أن الله أطلعك على أمر رابع خصَّك به دون سواك يا هذا؟
ومثَلُكَ في نقل هذه النصوص مبتورة من كتابي، مثل الذي يقرأُ قول الله: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ} أو الذي يقرأ قوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ } ولا يزيد عليهما. فهلاَّ قرأت قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ} وقوله: {وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ}، لَيتمَّ المعنى المراد؟!
ولسوف أريحك من عناء النظر في الكتاب، لتأتي بالعبارات والفقرات الموضحة لكلامي المبتسر، الذي ظلمت نفسك باقتطاعه من غير فهم ولا تثبُّت، أو بعمْدٍ وتقصُّد.(3/101)
قلت (أنا) يا هذا في صفحة (208-209): (والله سبحانه وهو يخاطب الأمَّة بالجهاد لا يخاطبهم به ليعجزهم عن القيام بحقه، فهو من الخطابات الشرعية التي تدخل في القاعدة الكلية للتكليف) {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}، فإذا لم يكن في وسع الأمَّة القيام بحق الجهاد، لغياب الأمير الذي يعقد رايته، ويأذن به، ويولي أميراً على الجيش، فإن الجهاد يصير من التكاليف غير المقدور عليها، ولا تؤثّم الأمَّة بتركه، إلا أن رَضيتْ (أي كانت راضية في نفسها محبَّة لترك الجهاد) تأمل عبارة (إلا إن رَضيت) يا هذا. "وليس عليها إلا أن يظل الجهادُ حاضراً في نفوسها، ترقب اليوم الذي يهيّىء الله أسبابه، فتستجيبَ لندائه، والإثمُ يصيبُ من ولاَّه الله أمر الأمَّة، وجعل مقاليدها في يده، وحتى هذا الذي ولاَّه الله أمر الأمَّة، لا يؤثَّم بترك الجهاد إن كان لأسبابٍ، ليس في وسعه تلافيها، ولا في طوقه اختيار سبيل غيرها، فإن له مندوحةً عن الإثم، ولا يكلف به، لأنه عجز عن القيام بحقه واستجلاب أسبابه، شأنه في ذلك شأْنَ الأمَّة" ا.هـ.
فهل من يقول هذا الكلام أو مثله، يقول بسقوط فريضة الجهاد؟ حسيبك الله يا هذا.
وتأمّل ما قلته أيضاً: قلت أي أنا: ولا عذر لأمراء الأمَّة بترك الجهاد،فإن من حق الأمَّة عليهم أن يتداعوا إلى أمرٍ سواءٍ بينهم، وأن يولّوا عليهم الأحق منهم بالولاية. وأن لا يكون الحرص على الإمارة فيهم سبباً في بقاءِ يد الأُمَّة مغلولة عن الجهاد، لإعلاءِ كلمة الله في الأرض، وبسط نفوذ الإسلام في الشعوب، وإقامة حكم الله بينهم.(3/102)
ثم قلتُ في صفحة (215-216): أن من يقول بتعطيل فريضة الجهاد في أي وقت من الأوقات يسقي نفسه من سوء العذاب ما يسقيها، وفرق واسع جداً بين من يقول بتعطيل فريضة الجهاد، وبين من يقول: يجب الإعداد الصحيح لها، ولو استغرق هذا الإعداد سنين طويلة، لأن في الإعداد إمتثالاً لقوله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ} [سورة الأنفال: آية 60]، ومن أنعم النظر في هذا النص، يرى أنه يكاد ينطق بوجوب الإمساك عن الجهاد حتى يكون الإعداد على تمامه، وقد يكون في الإعداد ترك الإعداد، إذ الإعداد يقصد به إرهاب أعداء الله وأعداء المسلمين وإذا لم يتم على الوجه الذي يُدخِل الرعب في قلوبهم، ويؤرِّق عليهم مضاجعهم، وينفي الراحة والاستقرار والأمن عنهم، فليس هو الإعداد المطلوب، وإلا فما معنى قوله تعالى: {تُرْهِبُونَ}.
والإعداد يكون بالوسائل الشرعية التي تحقق الغاية منه -وهو إرهاب الأعداء- وهو أقل غرض من أغراض الجهاد، فكيف وليس لدينا من الإعداد ما يكفي أن نرفع أصواتنا بذكر لفظ إرهاب الأعداء؟
أضف إلى هذا، أن الإعداد اليوم غيره بالأمس، فإعْدادُنا: وسائلُه، وآلاتُه، ومادتُه، كلُّها بيد أعداء الأمَّة في الحقيقة والواقع، وإن وصفوا أنفسهم بأنهم أصدقاؤنا فبيدهم كل ما تملك الأُمَّة من آلة الحرب، التي دفعت الأمَّة ثمنها من مالها، الذي لا تملكه إلا بحفظ الأرقام، وكل قطعة سلاح، أو سيارة،أو دبابة، أو طائرة، أو مدفع أو غير ذلك - محصاة بالعدد، والرقم، والنوع، والوصف، فهل يتصوّر عقلاً أن نرهب عدونا بما نملك، وهو (في الحقيقة) ليس ما نملك؟!(3/103)
وبعد فيا هذا، أحسبك -بعد هذه الفقرات المنقولة من كتابي بنصِّها الحرفي- قد عرفت معنى قولي في صفحة (217): (أفضل الجهاد اليوم هو الإمساك عن الجهاد) وقولي في صفحة (216): (وقد يكون من الإعداد ترك الإعداد) ولا أزيد.
ولعلك قرأت في فصل الجهاد، أني ذكرت الجهاد بأنواعه الثلاثة، الجهاد بالدعوة والعلم، والجهاد بالمال، والجهاد بالسيف، وأنني ذكرت أيضاً، أنه لا يُعدل عن النوع المستطاع إلى سواه إلاَّ بالعجز عنه، وأنَّ الجهاد بالعلم والدعوة، والجهاد بالمال، لا تحتاج الأُمَّة فيهما إلى إذن من أمير عامَّة، وإن الجهاد بالسيف يحتوي النوعين الأدنيين.
أليس هذا الفقه للجهاد هو الذي أجمعت عليه الأمَّة يا هذا؟ إذاً فأنا لم أخالف عن إ جماع الأُمَّة فيه، حسيبك الله يا هذا، بل أنت الذي شذذت عنه.
ومن أفظع وأشنع ما همى به ضلالُ قلمك قولك: (وجعل -أي أنا- المقاتل في سبيل الله في العصر الحاضر متعرضاً لغضب الله وسخطه، يموت منتحراً حيث يقول: أي أنا "هو -أي المقاتل في سبيل الله في العصر الحاضر- آبق إلى إثم، غادٍ إلى عذاب، رائش لنفسه سهماً من غضب الله يجأ به في صدره").
فأقول: يا هذا، لقد صدقت وكذبت معاً، أو صدقت وضللت معاً، فاختر أيهما شئت، فواحدة منهما كائنةٌ ولا بدَّ. كيف؟
أما أنك صدقت، ففيما نقلت من صفحة (212) وما بعدها، أما أنك كذبت أو ضللت، فذلك يظهر من السطور التي قبل السطر، الذي طاب لك أن تنزعه منها، فانظر العبارة جيداً تعرف منها كذبك أو ضلالك مرة أخرى. اختر ما شئت!
قلتُ: "والجهاد الذي جعله الله من الأسباب التي تجري في فلك قانون المدافعة هو منه، وبه، وفيه. وقانون المدافعة يقضي بأن الجهاد لا بد وأن يكون مأذوناً به من إمام عامَّة، فإن أذن على نحو ما بيَّنا سابقاً، وإلا فهو آثم غادٍ إلى عذاب، رائش لنفسه سهماً من غضب الله يجأ به صدره".(3/104)
لعلك يا هذا تعرف القاعدة النحوية (أو لا تعرف لا أدري) التي تقول: "إن الضمير يعود إلى أقرب مذكور ظاهر قبله". فأين أقرب مذكور ظاهر في العبارة السابقة، يعود إليه الضمير: (هو): في قولي فهو آثم غادٍ إلىعذاب... الخ؟ أليس هو (إمام عامة)؟ فمن أين جئت بأن الضمير يعود إلى المقاتل في سبيل الله؟ هل في هذه العبارة ذكر للفظ المقاتل؟ دلَّني عليه بالله عليك!!
أتدري يا هذا من أين أُتيت؟!، ليس من ضلالٍ أو كذب هذه المرة، بل من جهلٍ ولبسٍ من حفظك لقوله عليه السلام: "فهو في نار جهنم يجأ بها صدره خالداً مخلَّداً".
فلما قرأت قولي: "يجأ به صدره" شرد بك حفظك القديم بعيداً، فأوهمك أن المقاتل في سبيل الله اليوم، هو المراد من كلامي، لعلك أدركت يا هذا من هذه الفرية وحدها، ماذا يصنع التسرع وعدم التثبت في صاحبه. فأين أنت وأين أنا؟! فحسيبك الله وحده، ولا أستعدي عليك بدعائي غيره، أما أنت فقد استعديت عليَّ البشر، وربُّ البشر أقوى من البشر مثلي ومثلك يا هذا إلا مثل قول الشاعر:
سارت مغربة وسرت مشرِّقاً!
وممَّا يؤكِّد تسرُّعك وعدم التثبُّت فيك أنك لم تقف عند الفقرة التي تلي فقرة تهمتك هذه التي أقول فيها: "وكما أن تعطيل الجهاد المقدور على أسبابه من إمام عامة مؤذنٌ بفساد حياة الأمَّة، مذهبٌ هيبها، مذلِّها لعدوِّها، فكذلك أيلولتُه إلى غير إمام عامة ملحقٌ الفساد بالأُمَّة مضعف شوكتها، زائد في فرقتها، لأن لكل أمير شأناً يختلف فيه عن غيره".
ثم قل لي بربك يا هذا أين المصلحة الشرعية التي تحققت، أو تظنها تحققت - أو تظنها ستتحقق في المستقبل من وراء هذا النمط من الجهاد؟ أظن أن حدسك هذه المصلحة قد تحقق في كابل حيث تدور رحى معارك طاحنة بين أصحاب الرايات السبع؟
أظنك نسيت يا هذا دم جميل الرحمن؟ وأنَّ الله عزَّ وجلَّ بالمرصاد لقاتليه!!(3/105)
ولكي لا تظن يا هذا أو يظن أمثالك ممن يظلمون الناس بغير حق لرد الظلمة فإني لم أُغفل حَظّ من جاهد من غير إذن أمير عامة، فقلتُ: "وإن كنا لا نؤثِّم من طابت سريرته، وصدقت نيَّته فيه، على الرُّغم مما رأينا من نتائج الجهاد، المتعدد الأمراء، الكثير الرايات، المختلف القيادات، ما شابت له منَّا العثانين"، فهل ما أقول وقلت سواء؟!
أما استشهادك بقوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ}، فهو استشهاد مبتور، وإليك ما يقول الإمام أبو جعفر الطبري في تأويلها، يقول: "فجاهد يا محمد أعداء الله من أهل الشرك، به في سبيل الله، يعني في دينه الذي شرعه لك، وهو الإسلام، وقاتلهم فيه بنفسك، أي: لا يكلفك الله فيما فرض عليك من جهاد عدوه وعدوك، إلاَّ ما حمَّلك من ذلك، دون ما حمِّل غيرك منه، أي إنما تتَّبع بما اكتسبته، دون ما اكتسبه غيرك، وإنما عليك ما كُلفته دون ما كُلفه غيرك".
كأنما تقول يا هذا، إن هذه الآية شرعت حكم وجوب الجهاد على الفرد الواحد، لأنه لا يتوقف على أمر إمام عامَّة، وكأنك نسيت قول الله بعد هذا الجزء من الآية وهو: {وحرِّض المؤمنين على القتال}، فهو عليه الصلاة والسلام مأمور بالجهاد، لأنه هو الرأس المفكرة المدبِّرة، وهو بما علم ا لله منه من صدق عزيمة، منصورٌ، يزرع النصر في قلوب المؤمنين بالتحريض بصدق العزيمة الذي أُوتيه، وبذلك تكون الأُمَّة على هذا النحو من فقه هذه الآية مندوبة للجهاد. مستنزلة النصر من ربها عليها، من وراء إمام لها تبايعه، فالآية حجة عليك لا لك، تأمَّل.(3/106)
ثم إني أظنك يا هذا تعرف القاعدة القائلة: "خطاب الله نبيَّه عليه السلام إن لم يكن خصوصية له، فهو خطاب للأمَّة"، فكل مسلم مخاطب بهذه الآية، والجهاد لا يكون إلا في جماعة، ولا يُخصُّ فرد منها بالتكليف به، وبإمامٍ يأمر بعقد رايته، وحسبك في فقهك هذا يا هذا، أن الجهاد بلا راية واحدةٍ، راحت به أُلوفُ الضحايا، لا زالت تنزف دماؤها على أرض كابل.
ولا أدري لِمَ لَمْ تنتظم في صفوف المقاتلين في أفغانستان، خلال أربعة عشر عاماً، فحسبُ من يرفل في ناعم برديه، وينظر في عطفيه، ويسعى في رغد العافية بين خلاَّنه والمفتونين به، أن يُنَظِّر للجهاد والمجاهدين، والسياسة والسياسيين، من مكان بعيد.
أنصح لك يا هذا أن تقرأ فصل الجهاد، وغيره من فصول الكتاب بتأمل وإمعان، فإن وجدتَ فيه غير ما صَخِب به قلمك، وتفطَّر به لسانك -ولسوف تجده إن أردت- ثم إما إن تُعلن على الملأ أنك كنتَ متسرِّعاً، متقحِّماً بسوء نيَّتك شيئاً جهلتَه، وإما أن تكون بيننا مباهلة، تتغشَّى بها عاقبة سوء بإصرارك على باطلك، وإما أن تقول للناس: موعدنا الساعة. إذ يقول الله: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ} [سورة الصافات: آية 24]، والله سائلك ولا بد عن تلكم الافتراءات التي جادت بها قريحتك الدعوية، فأعدَّ لها العُدَّة من الآن، وانظر ماذا ستجيب ربك، يوم لا ينفع قلم ولا قرطاس، ولا تلاميذ ولا أعوان، ولا مريدون مفتونون أو غير مفتونين، فارتقب يا هذا، يوم تقوم الساعة، يومئذ لا ينفع نفساً ندامتها لم تكن ندمت وتابت من قبل.
وهل تأذن لي أن أسألك، إن كنت تفقه هذا الفقه من قوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} [سورة النساء: آية 84] هذا، فلماذا لا تخرج إلى واحد من الثغور، حاملاً سلاحِك؟ أم أنك مأذون لك بأن تكون مع القواعد ثم ماذا صنعت يا هذا؟ أيها الداعية المجاهد، في موقفٍ مشهود، لا زال يُذْكر بظلاله السوداء.(3/107)
(الفرية الثانية): ومما قلت في مذكرتك: "وكذلك -أسقَطَ -أي أنا- عن المسلمين وجوب التبصر في واقعهم، ومعرفة أحوال الناس في زمانهم، وهو ما يسميه بعض الدعاة اليوم فقه الواقع". ونقلت عبارتين من صفحة (160) وهما، الأولى: "أتركوا فقه الواقع لتفقهوا الواقع". والثانية: "أن من فِقْهِ الواقع أن تدع فقه الواقع ليستحكم عندك فقه الواقع، فتكون من أعلم الناس وأفقههم بفقه الواقع" وأُغضي عن كلامك السيِّء في وصف هذه الجملة.
عجيب والله أمرك يا هذا، والله لكأنما، لا تريد إلاَّ فتنة، تنزع بها إلى أمر لست بملاقيه إلا فيها، وكلما أوضعت في قطعة منها بظلم، آثرت ألاَّ تخرج منها إلا بذنب، تُفرح بها الشيطان وحده، ولا والله يا هذا ما أحسنت -إن أحسنت- إلا لشيطانك، ولا والله ما كانت منك إلا إساءة، لا إليَّ وحدي، بل وإلى من يشدون عضدك، أما إساءتك لي، فلستُ مباليها، فكم هم الذين أناخت بهم رواحلهم الهزيلة، أمامي، موقورةً، إفكاً، وخرافة، وزوراً، وظلماً، وعدواناً وأفرغوها عند قدميّ، فتطايرت وتبعثرت. فالله سبحانه يدافع عن الذين آمنوا، فإني والله ممن تسرهم الحسنة، وتسيئهم السيئة، والله سبحانه يدافع عن الذين آمنوا(55).
وإني أبرِّؤك من مثل ما تنطوي عليه صدور أولئك من سوء، لكن هل في وسعك أنت أن تبرِّئ نفسك مما قذفتني به من غير حق؟!
كان الله في عون قلمك من سوء ما أمليت عليه، ولا كان في عونك أنت من سوء ما أملى عليك!
وبنيت على العبارتين اللتين نقلتهما من صفحة (160) حكماً قلت فيه: "فأبطل -أي أنا- فرضاً من فروض الكفايات على علماء الأمة، وهي أن يكون فيها من يبصر بواقعها، وكيفية معالجة أزماتها ومشكلاتها وانحرافاتها على ضوء الكتاب والسُّنَّة".(3/108)
فيا هذا، لقد والله جانبت الصدق، وأخطأك الصواب في هذا الذي قلت، وقد كان عليك أن تقول: "على ضوء الكتاب والسُّنَّة ومنهج السلف الصالح"، وهل من منهج السَّلف الصالح يا هذا الذين تدعي أنك تنتسب إليهم، أن تسبّ الناس عدواً بغير علم، وأن تنحلهم كذباً وظلماً ما لم يقولوا، ولم يخطر لهم ببال؟!
إن كنت حاسباً نفسك أنك واحد من أولئك الذين من حقِّ الأمَّة عليهم أن يبصِّروها بواقعها، فيا ضيعة هذه الأمَّة، إذ لم تر فيك -بما صنعت- إلا واحداً من غمارها، ليس من حقِّهم إلا أن يصيخوا السمع لما يلقى إليهم إن أحسنوا وحسبهم ذلك!!
يا هذا انظر ماذا كتبت في صفحة (152) وتأمّله جيداً: قلتُ: "ومما يستوجب الشكر لله علينا، أننا -والحمد لله- كنا ولا زلنا، نعتقد أن الإيغال في نظرية فقه الواقع على ما صارت إليه -عند طوائف المثقفين المسلمين، مضيعة للوقت، مذهبة للجهد، مأكلة للفائدة المرتجاة من العلم، ويكفي من فقه الواقع ما يبصِّرُ بالحاجات والضرورات والحوادث، التي تفرضها الحياة، بأسبابها ودواعيها على الأمة، إذ ليس يحسن بالدعاة العلماءِ أن يصمُّوا آذانهم عن سماع ما يلقى إليهم من سؤالات، يستنبىءُ بها السائلون عما يدور حول هذه الحاجات، والضرورات والحوادث، وفيما يحيط بها، ويتصل بحركتها، وأسباب نشوئها، والغايات التي أحدثت أو كانت من أجلها حياة الناس. كي يكون جواب كل واقعة لحاجةٍ، أو لضرورة، أو لحادثة، مؤسساً على النظر العقلي، المسدَّد بالدليل الشرعي الذي لا يخطىء، إما بقياس جليِّ، وإما بعموم استدلالٍ، وأما بنصٍّ يطابق الواقع المشابه لها حين وقوعها، وطروِّها أوَّلاً".
أسألك الله يا هذا هل من يكتب هذا يلغي فريضة من فرائض الكفايات؟!
إن كنت لم تقرأها وأصدرت حكمك الذي أصدرت فتلك مصيبة، وإن كنت قرأتها وحكمت، فالمصيبة أعظم.(3/109)
ولو أنَّك أخذت من هذه الفقرة عبارة واحدة لما زلَّت بك قدمك. وهي: إذ ليس يحسن بالدعاة العلماءِ أن يصمَّوا آذانهم عن سماع ما يلقى إليهم من سؤالات، يستنبىء بها السائلون عما يدور حول هذه الحاجات والضرورات، والحوادث الخ" ففقه الواقع أو التبصر بالواقع على حدِّ تعبيرك حقٌ للأُمَّة على علمائها، وهذا ما أقوله، أيُّها الفقيه الداعية المبجَّل، ولو أنك قرأت قولي: "الجواب المؤسس على النظر العقلي المسدد بالدليل الشرعي، الذي لا يخطىء" لما فعلتَ فعلتك التي فَعلت يا هذا.
ومثلها أيضاً قولي في صفحة (161): "فكيف إن اجتمع إلى هذا النظر العقلي. الفقه البصير بطبيعة تلك النواميس والسُّنن، ثم ما يكون من حرص صاحب هذا الفقه على وزن الأحداث الجارية في آفاق الحياة الإنسانية وواقعها وفق هذه النواميس"؟
ومثلها أيضاً قولي: "فيجب على الداعية المسلم أن يكون على معرفة دقيقة يلمُّ بها بكل ما يدور فوق الأرض، والداعية المسلم ليس في حاجة إلى الاستزادة من المعرفة بعيداً عن دائرة الوحي، ففي كتاب الله وسنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم الغناء كل الغناء عن كل ما سواهما من المعرفة وأسبابها، وحين يتجرد الداعية المسلم بصدق ولائه للدعوة، وبإخلاص نيته للعمل بها، يزداد معرفة وفقهاً بالواقع، ويشتد حرصه على معرفة الأخبار والآثار التي نزل بها الوحي، فيكون فقه بالواقع، بقدر ما ينتهي إليه علمه من تلك الآثار والأخبار".
ولعلي لو استوفيت الفصل كاملاً في هذا المقال ما أصابت القناعة من نفسك بخطأ أنت واقعته إن كنت مصراً على أن تمضي في خطئك، وأذكرك بالمقالة التي أُثِرَت عن عمر رضي الله عنه: الرجوع عن الباطل خير من التمادي فيه، أو الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ووالله يا هذا لئن لم ترجع عما قلت فأنت مبطل ظالم. وحسيبك الله.(3/110)
(الفرية الثالثة): وفرية أُخرى ياهذا ألصقتها بي وبكتابي إذ تقول: "وكذلك أبطل المؤلف ما سمَّاه بالعمل السياسي الإسلامي على إطلاقه، وأمر بوجوب ترك الحكام على اختلاف مناهجهم وما يريدون، وعدم منازعتهم في شيء، وعدم مشاركتهم في أمر وقال: أي أنا بالحرف الواحد، "أحسب أن مقولة: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله كلمة حكيمة تصلح لزماننا" وقال أيضاً: -أي أنا- "العمل السياسي في عصرنا ونحن نعده من المحظورات الشرعية، يفرض على العلماء والدعاة التحذير منه".
يا هذا، مسلكك في التقاط الكلمات في مذكرتك من كتابي واحد، "فويل للمصلين" "لا تقربوا الصلاة"، فهلاَّ قرأت ما قبل هذه الكلمة وما بعدها، فتخلص إلى حكم غير الحكم الذي رفعت به عقيرتك؟!
ما هكذا يكون الداعية، ولا طالب العلم، أن يوغل في ضلال خطئه من غير ورع ولا فقه، ولا دليل مبين!! بل ولا ينبغي أن يكون!!
قلتُ: "وإذا كان لنا أن نجتهد في هذا الأمر- ونحن لا ندعي صواب اجتهادنا- وبعد عرضنا السلوك السياسي عرضاً وافينا به أموراً لا تقع إلا في دائرة المحظورات، فإننا نرى أن العمل السياسي للمسلم، لا ينبغي أن يجاوز دائرة التصور النظري المحض، فإن جاوزه فإلى التعبير عنه بالكلمة الواعية، التي تصور كل ما يتصل بالسلوك السياسي، تصويراً واقعياً، ينبيء عن صدق التصور، ويضع الإنسان المسلم أمام حقائق مسلمة، تفضي به إلى النجاة بفكره وعقيدته، ودينه وبدنه، ويبعده عن مهاب الفتن، وتياراتها الجامحة، التي أحاطت بأرضنا من كل جهاتها، وملأت آفاقنا كلها، وما كاد ينجو منها إلا كل ذي لب رشيد، والناجي يرجى بنجاته نجاة آخرين".
واجتهادنا في هذا الأمر -ونرجو أن يكون صالحاً- فيه خير ورشد إن شاء الله- نرتبه في المسائل الآتية:
1- العمل السياسي الإسلامي جزءٌ من النظام الإسلامي العام، لا يجوز إغفاله، ولا إسقاطه من حساب العمل الإسلامي.(3/111)
2- العمل السياسي في عصرنا -ونحن نعدُّه من المحظورات الشرعية- يفرض على العلماء والدعاة، التحذير منه، لما بيَّنا من قبل، وعليه، فإن تركه للقائمين عليه أولى من أن ينافسهم فيه غيرهم وخشية من أن يضارُّوا به، والتحذير منه بدءاً يجنب العاملين الإسلاميين كثيراً من الأخطاء التي ألمَّ بها الذين خالطوا العمل السياسي في أحيانٍ متفرِّقةٍ، وغرقوا في لجته، وأغرقوا معهم غيرهم.
3- التحذير من العمل السياسي ليس تحذيراً مجرَّداً، بل يجب التحذير مع بيان المحاذير الشرعية التي تخالط العمل السياسي، والمحظورات التي تأسس عليها، وشيد هيكله من أجل ديمومته، وطول بقائه، ومن أوضح الواضحات في هذه المحظورات أنه بمجموعه مصادم لأصول العقيدة- وفروع الشريعة.
4- العمل السياسي جزءٌ لا يتجزأ من عملية واسعة ضخمة، إذا نجحت الأمَّة في تحقيقها لا يلبث العمل السياسي أن يصبح همّاً سهلاً من همومها (تأمَّل هذه العبارة جيداً يا هذا) وما لم تنجح الأمَّة في تحقيقها فسيبقى العمل السياسي في أدنى درجات الاهتمام، رغم الدعاوى العريضة التي تطلقها حناجر السياسيين والمحترفين، والصاعدين الجدد في سلَّمها، والمؤمنين بسلبياتها الكثيرة، وإيجابياتها القليلة، ومن شاء فلينظر ليبصر الواقع.
هذه العملية تقوم على تنقية العقيدة وتصفيتها، وتنشئتهم على أساس من الأحكام الشرعية، والآداب الإسلامية، وفق ما ورثناه عن القرون الثلاثة المفضلة الأولى.(3/112)
يا هذا... هل من الإنصاف أن تقتطع كلمة دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وتغمض عينيك عن كل هذه الفقرات والجمل، التي تجعلها ذاهبةً لا معنى لها ولا مفهوم للفظها، كما تقول العرب: (تربت يداك) و (لا أُمَّ لك) و (ثكلتك أُمُّك) وغير ذلك مما درج على لسان العرب، ونُسيَ معناه الأول، كان خيراً لك يا هذا أن تعلِّم مريديك العربية، لا أن تعلِّمهم الطعن والتطاول والاستطالة في حمى أعراض المسلمين، ثم تحذرهم -ربما- من قراءة كتابي.
هل تعرف هذا يا هذا ؟ إن كنت لا تعرفه، وألقيت به على مريديك واتباعك ليتعلموا به، ومنك، كيف يطعنون على إخوانهم، وكيف يلبِّسون عليهم، وكيف لا يرعون فيهم إلاَّ ولا ذمَة، أو لعلك سننت لهم سنَّة رأيتهاحسنة، فطاروا بها فرحاً لأنها من شيخهم ومُرَبِّيهم، يا الله إن لك في كل شيء مما خلقت وقدرت حكمة.
ويا هذا. اقتطعت من صفحة (197) قولي: "لكن هذا لا يعني تحقيق موعود الله سبحانه لها".
ثم اقتطعت عبارة أخرى بعد أربعة أسطر من الصفحة نفسها، وضممتها إليها وأوهمت أنها متممة لها، وهي: "فقيام مثل هذا الحكم لا يغير من واقع الأُمَّة شيئاً يذكر".
لماذا أغفلت يا هذا أربعة أسطر كاملة؟ هل هذا من أمانة العلم، وخلق الإسلام أن توهم القارىء أو السامع ما يوقعه في عرض مسلم ظنَّاً أو كلاماً؟
لقد كان حريَّاً بك يا هذا أن تسوق الفقرة كاملة. وإليك الجزء الذي أغفلته.
قلتُ: "وما لم تتحقق وحدة الأمَّة على كلمة سواءٍ بينها، بالتوحيد الحق، والحكم الواحد، الذي لا يختلف عليه، ولا فيه، ولم تَزُلْ الهنات -من بين أفراد الفرقة الناجية- الناشئة من الجهل، واستصغار الشأنِ، والطمع، فقيام مثل هذا الحكم لا يغيِّر من واقع الأمَّة شيئاً".
ثم قلتُ: "وبهذا يظهر جلياً للذين يأخذون على السَّلفيين عدم اشتغالهم بالعمل السياسي، لماذا يكره السَّلفيون هذا العمل. فالبون شاسع بينهم وبين الدائبين السعي في العمل السياسي شاسع جداً"(56).(3/113)
يا هذا. ألم يكن من أمانة العلم، وخلق الإسلام أن تورد كلامي هذا كلَّه؟ لئلا يتوهم الناس صدق ما تقول، ويكون منهم نصفةٌ لم تُرِدها أنت لي يا هذا؟
ألا حسيبك الله وحده.
ويزيد ما سقتُه أنا من كلامي وضوحاً قولي في صفحة (179-180): "وإن كان لا بدَّ من مخالطة العمل السياسي، فالبقدر الذي تفرضه الضرورة، إذ الضرورات تبيح المحظورات، والضرورة تقدر بقدرها، ولا يجوز مجاوزتها بأكثر منها، والأمَّة كلها على مثل هذا، ولا نقول -أي حينئذٍ- دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، ولكن نقول: بأن لكل أجلٍ كتاباً، والأمور مرهونة بأوقاتها، ومن تعجَّل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه، ومن أحسن البدء في أمره أصاب نجحاً في دَبْرِه".
فهل مثل هذا القول يقوم دليلاً لك يا هذا على الطعن عليَّ بسوقي عبارة دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله؟!
ولعلَّ قائلاً يقول، أو لعلَّ معترضاً يعترض، وهل هذه قواعد شرعية، حتى لا يعدل الإنسان عنها بالتعامل مع السلوك السياسي؟
فأقول جواباً على ذلك: إن هذا هو الطريق الآمن الذي يقرأ فيه المسلم العاقل البصير النهاية المأمولة من قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [سورة التوبة: آية 32].
وما أصاب المسلمون من هذا الوعد الإلهي إلا أقله، أما هو فآت لا ريب فيه، يشهد لذلك الحديث الذي أخرجه مسلم وغيره: "لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزَّى، فقالت عائشة: يا رسول، إن كنت لأظن حين أنزل الله، {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} إن ذلك تامٌّ، قال أنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحاً طيِّبة، فتوفَّى كلّ من كان في قلبه حبة خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم".(3/114)
كان حرياً بك يا هذا أن تقرأ هذه الجمل من صفحة (179)، وما بعدها، لتعرف ما تعني: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، الذي أثَّمتني به.
لقد أزاغك عن الحق والله تسرُّعك يا هذا، وواقعت إثماً أشاقك له الإعجابُ بالنفس، وتخطفَّك عن الصواب غمطُك إيايَّ بسوء الظن. لماذا هذا يا هذا؟! ألأني على المنهج الذي تدَّعي أنك عليه؟ إذاً، فماذا أبقيت للأعداء الألِدَّاء؟
ومثل الذي حكمت به عليَّ بإيرادي: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، كان حكمك أيضاً إذ قلتُ: "أفضل الجهاد اليوم هو الإمساك عن الجهاد"، مرة أخرى أذكرك بـ: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ} و {لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ}.
(الفرية الرابعة): وكان مما قلتَ يا هذا: هذا إلى خلطه، وتخبيطه في أمور كثيرة من أمور العقيدة، كادعائه أنَّ أمَّة الإسلام اليوم: لا تملك من أمرها شيئاً، حيث يقول -أي أنا- بالنَّص: "إن مقاليد الأمَّة ومقاليدها صارت ألى أيدي أعدائها، ولا تملك لنفسها معهم نفعاً ولا ضراً".
ووالله يا هذا، أني لأرجو الله صادقاً أن أكون مخطئاً في قولي هذا، لكن هات برهانك إن كنت تملك أنت من الأمر الذي أعنيه بقولي: لا تملك من أمرها شيئاً.
نعم: أنك تملك ويملك كل أفراد الأمَّة أن يأكلوا، ويشربوا، ويلبسوا، ويتزوجوا ويشيدوا القصور والبيوت، ويقتنوا الأثاث والرياش والسيارات، ويمشوا في الأسواق ويرفع البعض منهم أصواتهم فوق أعواد المنابر، بالسبّ والشتم، واتهام نوايا العباد، والحكم على ما في سرائر الصدور(57). وحتى هذا الذي تملك يا هذا أن تصنعه لا يكون إلا بقدر مأذون فيه، أحسبك معي في هذا. وإلا فمن أنت؟ وأين أنت؟ وكيف أنت من فقه الواقع؟!(3/115)
ولعلَّ مما يعجبك يا هذا، وتطرب له كثيراً، وترى أنَّ الإسلام حقق به نجحاً ظاهراً في بلاد الغرب، حين تذكر في نفسك أن الحركة الإسلامية تنمو في تلك البلاد، وتمتد فروعها، وتجد -على حدِّ تعبير القابعين في تلك البلاد- حُرِّية لا تجدها في بلاد المسلمين أنفسهم، وهذا يعني أن الحركة الإسلامية -على حدِّ تعبير فلاسفة تلك الحركة- تحميها الأنظمة التي تحمي حرية الشعوب القاطنة في تلك البلاد.
ولعلك تذكر جيداً يا هذا ويذكر معي ملايين المسلمين، البلايا والطامات التي تمعن أنظمة الحكم في أوروبا وأمريكا في إنزالها بالشعوب الإسلامية في كل أرجاء الأرض.
فهل تصدق يا هذا. أن الحركة الإسلامية في بلاد الغرب -تحمى باسم الحرية، والمسلمون في كل أقطار الأرض يسامون باسم الحرية نفسها على يديها أو بها سوء العذاب؟
تأمَّل جيِّداً يا هذا ما أعني..
ثم وأنت مؤلف في العقيدة وغيرها، هل من صواب العقل أن تقول: "هذا إلى خلطه وتخبيطه في أمور كثيرة من أمور العقيدة، لعلك قضيت عليَّ بهذا الحكم الجائر الفاسد من قولي: ولا تملك لنفسها -أي الأمَّة- معهم نفعاً ولا ضراً".
إن كنت قضيت عليَّ بحكمك الجائر بقولي هذا، فأذكرك بـ: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ} و {لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ}، فوالله الذي جعل لك عينين، ولساناً وشفتين ما هديت إلى سلامة النجدين.
وأناشدك الله يا هذا هل فهمت قولي الذي نقلته من صفحة (179)، وهو: "ذلكم أن الانفصام السياسي بين الدين والدولة صار أمراً مقضياً لا مردَّ له... الخ". لتحكم به أنني أقول بكفر جميع الحكام، حسيبك الله يا هذا، والله ما أنصفت ولا أصبت، بل ظلمت وأخطأت.
لو أنك قرأت فصل: التكفير وقواعده من صفحة (127) وحتى صفحة (146)، جيدأً وفهمت ما قرأت لما قلت قولتك الآفكة هذه.(3/116)
قلت في صفحة (132): وبناء على ذلك فيما تقدم، فإن أحداً من السَّلفيين لم يجروء على تكفير أحدٍ من الأُمَّة تكفيراً إعتقادياً إلاَّ بصريح ما يكفِّر، وليس يحتمل تأويلاً صارفاً، يحمي الموصوف، بوصف الكفر أو الظلم، أو الفسق من الكفر البواح (وأشيرُ بهذه الأوصاف الثلاثة إلى آيات سورة المائدة) ذلكم أن تكفير المسلم الذي ينطق بالشهادتين ليس بالأمرالسهل، لأنه إن سلم المكفّر من الكفر البواح لسقوط الدليل المسْتَدلِّ به على كفره. فإن المكفِّر -بكسر الفاء- سيبوءُ هو بالكفر، لقوله صلى الله عليه وسلم: "أيُّما رجلٍ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما".
ومن هنا كان حقاً على العالم أن يتحرَّى أشد التحري، وأن يستبين الأمر من كل جوانبه، فإن وجد ما يسعه بصرف الكفر، بما يكفر ظاهراً، وإلا قال -حين لا يجد بداً من القول بكفر هذا أو ذاك. وليس يجد ما يعنيه بالتأويل القريب أو البعيد على صرف الوصف بالكفر، عمّن ثبت له بأنه كافر بقول أو بفعل، ولا يكفي في ذلك صريح اللفظ، إلا أن يكون اللفظ غير محتمل إلاَّ لما صرَّح به ظاهر اللفظ.
وهل الحكام يا هذا إلاَّ من أفراد الأمَّة، فهل هذا الكلام يستثني الحكام أم أنهم داخلون بهذا الحكم الذي حكمتُ به أنا في أفراد الأمَّة؟ اتق الله يا هذا.
ولا بأس أن تقرأ أيضاً ما قلته في الحكام بذواتهم، قلت: وهل من لا يحكم بما أنزل الله، وهو موقن بقلبه أن ما أنزل الله مما لا يحكم هو به لأمر ما، هو خير وأفضل مما يحكم به من غير ما أنزل الله -بل لا سبيل إلى المفاضلة- يستوي هو ومن كان على مثل ما وصف الله به أهل الكتاب، الذين قضى الله سبحانه بكفرهم لجحودهم وإنكارهم بأقلَّ تفكير، ترفض المساواة بين الإثنين(58).(3/117)
ألا حسيبك الله يا هذا، لا أدري ما علاقة تلك الجملة التي اقتطعتها من فصل كامل وهي: ذلكم أن الانفصام السياسي... الخ، بحكمك عليَّ بها "إني أكفِّر جميع الحكام، ولذا فإني لا أرى إباحة العمل السياسي"، كيف فهمت هذا يا هذا؟!.
إن واحداً ينظِّر للمئات بل للألوف من الشباب المسلم، عيْبٌ منه أن يكون مثل هذا الحكم، بتلك الأدلة، والمقتطفات المبتسرة. ولولا أنني لا زلت أحسن الظنّ بك، لقلت لك: إنك تقصد لكلامك أو قل بحملك إلى إذايتي!!! إي والله إذايتي، وإلا فما معنى قولك أني لا أرى مشروعية العمل السياسي لأن جميع الحكام كفارٌ؟! ألست تعرف سبب نزول قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [سورة آل عمران: آية 128]؟
إن كنت لا تعرف، فعد إلى أي كتاب من كتب التفسير، لتعلم أن الرسول عليه السلام، لا يعلم شيئاً من الغيب إلا بإعلام الله له، وإلا لما كان له أن يدعو على من كان في علم الله أنه سيؤمن، ويحسن إيمانه؟
(الفرية الخامسة): وأخيراً تأتي الطامَّة الكبرى في مذكرتك يا هذا حيث تقول: "هذا إلى أمور منكرة عظيمة، جعلت ما صوَّره من السَّلفية قاديانية جديدة، أو صوفية مستحدثة، لبست لباس السَّلفية زوراً وبهتاناً، أو ثعلبيةً ماكرة، أو بيعاً للدين بالدنيا، أو وقوعاً في فتنة عمياء".
حسيبك الله يا هذا، وَغَداً تموت، ثم تبعث ثم تقف بين يدي الله للحساب، فماذا ستجيب ربك وهو ولا بدَّ سائلك في هذا (الإصدارات الثورية الدينية التجديدية)، هل ستقول له: "أنا لم أقطع بما قلت، بل سقت هذه الأوصاف متعاطفة بحرف العطف (أو)، وتركت لصاحب كتاب هي السَّلفيَّة أن يتخيَّر منها ما شاء"، أم تقول له أني كنت متسرِّعاً، أم تقول له أني سرت من وراءِ شيطاني يهديني سبيل الضلال؟(3/118)
أسألك الله يا هذا ألا دللتني على موضع واحد في كتابي يصدقك في جزءٍ صغيرٍ من فرية طابت لك بقبحها، وحلت لك بعلقمها.
أتعلم يا هذا أنك كأنما بسطت صفحة قلبي بين يديك، ورأيت هذه الأوصاف كلَّها مرموقة عليها، وتتبعتها من بعد لتجدَ من ورائها نيَّة أسفرت لك عن وجهها، وتحدثت لك بلسانها، وأسمعتك هذه الأوصاف.
لكأنما وأنت تضع هذه الصفات لأختار منها ما أشاء لنفسي، قد عرفت ما اختص الله نفسه بعلمه! لن أعجل إليك بهذه التهمة، كما عجلت أنت إليَّ بتهمتك الظالمة السوداء -بحسن نية أو بسوئها- إذ المسلم مأمور أن يكون حسن الظن بإخوانه المسلمين، وأن لا يكون قاسطاً مع الكفرة والمشركين، كما أمر الله، {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [سورة المائدة: آية 8].
تُب إلى الله، فوالله لقد أبليتَ مع الشيطان بلاءً حسناً في كل ما كتبت في مذكرتك ومقالك، وأمعنت فيَّ بظلم وبهتٍ وسوء ظن، بلا خوف من الله، ولا تقدير لسوء عاقبة.
ولا أدعو عليك فأقول: أنضل الله بنانك. وفَسَل قلمك، وبيَّض مدادك. ولكن أسأله سبحانه أن يجزيك بفضله إن أحسنت وأصبت فيما كتبت، وأن يكافِئَك بعدله إن أسأت وظلمت فيما كتبت، ولا أحيلك في ذلك إلا إليك، ولا أكِلُك في سريرتك إلا إلى علمك، وموعدنا الساعة يا هذا، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
الملحق الثاني
رسالة ناصِحَة غير ناضحة(3/119)
وددت أنِّي أكون قد حبستُ هذه الرسالة، وأضمرتها في صدري، وضممتها إلى سائر ما أكتبه وأُخفيه عن النَّاس -ولربَّما نسيته- للقادمات من الأيَّام، احتساباً لله، وكفكفةً لظلمٍ يواقعه صاحبنا مرَّة أُخرى، أو يحدِّث به نفسه، من إملاءِ أبي مُرَّة!! عليه اللَّعائن -وإن كنتُ على ثَبجِ حقٍّ أبلجَ لا يُدافع إلا إن أجاءَ إليه جهلٌ، أو هوىً، أو ارتيابٌ، تَخِذَ منها صاحبُها ذريعةً، يستبق بها من أوحى به إليه، في حطِّ أذىً على كاهل من نُكبَ بأن عَلِم فيه من قبلُ خيراً، حتى إذا لمعت بارقةٌ من فتنةٍ داجيةٍ، نفث فيها من روعه، فصارت فتناً تُؤَجّجها أرواحٌ ما زكت إلا بارتياب!! -ولا طهُرت إلا بهوى ولا نَقِيتْ إلا بجهلٍ! فانظر -بربِّك كيف يكونُ أمرُ أمَّةٍ، هذه الأرواح تطَّاير بطُهرٍ من هوىً، ونقاءٍ من جهلٍ، وزكاةٍ من ارتياب؟- لولا ما بلغني أنَّ الرجل لم يجد من نفسه وازعَ تقوى يكفُّه، ولا فضلَ علم يردعه، ولا وفاءَ لِقدامةِ عهدٍ وصُحبةٍ يصُدُّه، فأتبع ميناً ميناً، ووصَلَ إفكاً بإفكٍ، وأربى بهتاً على بهتٍ.
ولا أدري كيف يفكّر صاحبنا هذا حين يصنع ذلك كلّه، وهو -ولا بدَّ- يحفظ قول النَّبي الأكرم صلوات الله وسلامه عليه: "إنَّ الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته".
لكنَّ عذره -المسكين- أنَّه يجد من زُمْرةٍ- أصاب بينها حظَّاً من السُّمعة -مظاهرةً، يَزيد من عَدْوه وغروره، وتنسيه هذا الحديث الذي يحفظ، فتذْهب به نَفْسُه مذاهبَ العَطَبِ والإعنات، فلا هو صَدَق بسوءِ ظنِّه، ولا هو صدق بسوءِ فهمه، ولا هو صدق بسوءِ نظره من عاقبة أمره، فقد -والله- احتلب حوبةً عَزَّت على من قال الله فيهم: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ}.(3/120)
ولا أدري إن كان صاحبُنا أتاه نبأ أبي سفيان حين وفَدَ على عظيم الروم، وجعل يسأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يُسعفه لسانه -وهو العدوُّ الجاهليُّ المستكبرُ الباغضُ رَسول الله صلى الله عليه وسلم- بكلمةٍ واحدةٍ يطعنُ بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، مخافة أن تُكتب عليه كِذبةً، تشيعُ عنه في العرب، فهلا وسعك يا صاحبنا -الداعية الأمثل! والمنظِّر الأفخم! والكاتب الأرفع! -وأنت تدعو- كما تدَّعي- إلى الله على بصيرةٍ -ما وسع أبا سفيان، حين كان على دين آبائه وأجداده مخافة أن تُكتب عليه كِذْبة؟
لو فقهت يا صاحِبنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّما بعثت لأتمِّم صالحَ الأخلاق"، لتمنَّيت أن تكون مطويَّاً تحت جناح أبي سفيان رضي الله عنه قبل أن يُسْلم، لعلها كانت تدركك ندامةٌ تنفعك في النَّاس، لو قضى أبو سفيان قبل أن ينال شرف صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم!!(3/121)
فلماذا كلَّ هذا يا صاحبنا الذي تصنع، وأنت تُعَدُّ، أو تَعُدُّ نفسك مثلاً يُحتذى في النَّاس، في زمانٍ تصَّاعدَ فيه دخان الإرجاء العلماني، واصطخبت فيه كوارِهُ الأحوال، وجاشت فيه صدورُ حواضنِ الآثام؟! أما كان حقَّاً لنا عليك -وهو أدنى حقوق المسلم على أخ مسلم له لا يعرفه. فكيف بمن يعرفه؟ -أن تكون منك ندامةٌ تجزُّ بها ما فرَّطت في جنبِ واحدٍ من إخوانك المسلمين، وتُبدي له بها صفاءَ ودٍّ، لم يكن منه بينكما قِدْماً إلا تواصلٌ موكوءٌ على برورٍ، يزكو بأنفاس القرون الأولى، كان واجباً على كلِّ واحدٍ منكما أن يزداد عليه حرصاً، وأن يتفقَّده صباح مساءَ، فإن وجده سالماً حمد الله عليه، وأكفأ عليه قلبه، وإن وجده على غير ذلك ادَّارَكَ ما قد يكون انتابه من فسادٍ، فيُقْصي عنه الأسبابَ المُنشِأةَ ذلك الفساد، حتى لا تكون من حجةٍ ظاهرةٍ عليه، تَثْني عُنقّه بلائمةٍ، فلمَ لم يكن منك هذا يا هذا؟ هل كان خَسارٌ سيلحقُك لو شربتَ من كأس النَّدامة على أمرٍ أوكأتْ شَنَّهُ يداك!! أم كان تطامُنَّ منك سينتقصُ من غرورٍ وكبرٍ، أرقدهما فيك شيطانُك، بما سيقول عنك مُريدوك المخلصون، حين يبدو لهم عَوار ما رصفَ قلمك على صفحاتِ (الفرقان)!!! أو انفلت من لسانك في ذلك الذي سمَّيته ميناً (حوار مع الألباني)!!! لم تستطع فيه إلا أن تكون نادماً أنَّك لم تكتب، أو لم تقل من قبل كلَّ ما تريد عني!!! فاستخرجْتَه من صدرك، في غير ورع، ناسياً وثيقتك التي دبَّجَتها يراعتك يوماً مع نفر قادتهم قدماك إلى شر صنيع، وأرسلتهم بها مجتمعين إلى بغداد، كأنَّما هي بيعة تمشي في النَّاس على استحياء أو وجل؟!!!(3/122)
يا هذا: ويكأنِّي برأسك -من سهم ظلم أبيت إلا أن تُفَوِّقَه إلى سريرتي وديني- مردوخةٌ به!! إمَّا في الدُّنيا وإمَّا في الآخرة، وأرجو أن تكون الأُولى، فعذابُ الدنيا أهون من عذاب الآخرة، ولسنا ممَّن يحبون لإخوانهم المسلمين أن يعذَّبوا في النَّار، ولا والله أن ينالهم سوءٌ في أدنى من ذلك بكثير، ولكن: {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [سورة البقرة: آية 74].
وأرجو أن تكون قد عرفتَ أنَّك ظالم، فلا يشق عيك أن تثوب إلى رشدك، وتؤوب إلى ورائك، لتبصر كم كنت ظالماً بما أسلفت من إمعانٍ في إذاية مؤمن، أصررت عليها ابتداءً، من غير مظلمة لك عنده، تثأر منه بإذايتك إيَّاه، وكأني بك على ذُكرٍ -أو هكذا أظن- من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} [سورة الأحزاب: آية 58].
وهل تعلم أيهذا الرجل أنَّ إذايتك جاوزت العبد الضعيف (أنا)، وامتدت سحُبها السوداءُ إلى خارج الأرض التي أنت فيها، حاملة في أجوافها هطلاً، اسَّاقط متسعِّراً على ألسنة من يحسب أنَّك تَصْدُقُ النَّاس في كلِّ ما تقول، ويكفون عقولهم همَّ قراءة كتاب قلت فيه قولاً، غير راعين إلاَّ ولا ذمَّة في أعراض إخوانٍ لهم، اتباعاً لشيخهم، واقتداءً بإمامهم، وتأسِّياً بمربّيهم على منهاج الكتاب والسُّنَّة(!!!) وفيهم السلف الصالح (!!!) وأخلاق القرون الثلاثة المفضلة (!!!) إي والله، هكذا يقول هؤلاء فيك أو يعتقدون!.(3/123)
ويلك يا هذا أين أنت من ذنب، أدنى بهتٍ فيه، لا تطيقه العصبةُ من الرجال الإشداء، فكيف به ضالعةٌ أبعاضه كلُّها إلى خرصٍ مطبوعٍ في صدرك، التحف الويلَ، وافترش الغيَّ، ورهُفَ بغرورٍ وَهَنَ بنسيان الآخرة!! فدُحَ ثِقلُه بأوزارٍ مَنَنْتَ بها على نفسك إذ أودعتها -بسرور ورياء- صدور الكثيرين، فكنت بها إمامهم، غدوا -منها وبها- في لجَّة تعوي بأعاصيرَ مكروبةٍ من فوت خيرٍ كان، ثمَّ إذا ما تثنَّت أمامهم الدُّنيا بقدِّها المحترق، وأطمارها البالية، طربوا، فصفقوا لها ورقصوا على أنغام تثنِّي قدِّها المحترق(59).
ويلك! ماذا ستقول لربِّك، وقد أنِسْت بوحشة المعصية، وآثرت أن ترضى بالآثَرةِ العمياءِ، وصرت بها طريدَ الطاعة، لا تغضي منها على استحياء، وترى فضلاً عليها في نفسك لزيف الكبرياء، ومضيت على وجهك لا تلوي على ندامةٍ، تقطع بها على شيطانك استرساله في تسويله لك ما لا يجمل ولا يحسن إلا في عين من يكون وادَّاً له، رائياً في هواه رَجاه، وفي تَسْويله مُناه!
فإلى متى، وأنت أنت وقد أقلعتَ عن شيء من عبودية اسمك لربِّك، أنِفت نَفْسُك الأمَّارة عن أمرٍ فيه طاعةٌ ترجو بها رحمته، وتؤمِّنك من فزع الهول الأكبر؟! ألا ما أضيعك يا هذا، وما أضلَّ سعيَك، وما أسْعَدَ الشيطان
بك!!
ونقول مثل ذلك لأضرابك ممن قرضت جلودم الأطماع الزائفة في الشام ومصر وفي كل بلد تكوَّرت بين ظهراني السَّلفيين شوائب الأهواء والكِبْر المقيت.
لا زلتُ -والله- أرجو أن تعلنَ توبتك على النَّاس وأن تُعيدَ قراءتَك كتابي: (هي السَّلفيَّة)، لعلَّ الله يفتح عليك، وتفهمه فهماً حسناً، كما يفهم أهل اللسان العربي عربيَّتهم!!(3/124)
وأُذكِّرك أيهذا الرجل، أنه لا يجمل بواحدٍ مثلك -يُحْسَبُ على العلم والعلماء- أن يَخْفى عليه شيءٌ من جمال العربية في ألفاظها، وتراكيبها، ودلالات حروفها وكلماتها، وإلا فليصمت امتثالاً لقوله عليه الصلاة والسلام: "من كان يؤْمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت"!!
وكان حسبك من إثم -أنت راضيه، بل وحريصٌ عليه، وطالبُه في مظانِّه- ما أوقعته فِيَّ، وصدَّقك به النَّاس، الذين تجمعهم الهَيْعةُ، وتفرِّقهم الصَّرخةُ، وآذنتَ نفسك بفعلك وإيَّاهم بعيبٍ شائِن، وجهلٍ متسرِّعٍ.
بيد أنَّك أمعنتَ في سِرادِك الإذَايَة، وذهبتَ تَبحث في حلقومك عن إذاية أخرى، فوجدتها واقفةٌ على طرفه، في كلمة كنتُ ألقيتُها في مؤْتمر إسلاميٍّ، وكان حظُّك في فهمِها هو حظَّك في فهم كتابي "هي السَّلفيَّةُ" فذهبتَ تُلبّد من وحي إفكك، أكثر مما لبَّدت منه بعد دعواك أنَّك قرأت كتابي! ولولا أنَّ الظنَّ أكذبُ الحديث لأقسمت يميناً، -أُقسم أني غير حانثٍ فيها- أنَّك ما قرأت كتابي ولا مرَّة واحدة!
وليس هذا فقط، بل أوهمت سامعيك، أنَّ هذه الكلمة كانت أيَّام فتنة الخليج، وخرَصْت بالجمع بين سوء فهمك للكتاب، وبين سخيمة تدليسك على النَّاس في كلمتي تلك، وحسيبك الله!!!
أن يكون مسلم عاميٌّ كذَّاباً أمرٌ قد يقبل! أمَّا أن يكون الكذَّاب واحداً يقال في النَّاس: إنَّه داعية، ولو وقف عند الكذب لقسناه على العاميِّ!! وقلنا: لا حول ولا قوَّة إلا بالله، أمَّا أن يكون هذا الداعية، كذَّاباً، مدلِّساً، مخادعاً، ملبِّساً، حريصاً على أذى المسلمين، محرِّضاً الجهلاء على استباحة أعراض إخوانهم، مغرياً بهم الظَلمة، فأظن أيهذا الداعية الأفخم، أنَّ هذا عيبٌ! أليس هذا صحيحأ!؟ ولا أزيد! وحسيبك الله.
وأظنُّك يا عزيزنا تحفظ قول الرسول عليه الصلاة والسلام: "ما لأحدكم يرى القذاة في عين أخيه، ولا يرى الخشبة في عينه".(3/125)
أهذا: أيهذا الرجل الرامي غيرَه، بسهمِ وغرٍ ما سألت عتاباً، من أخلاق السَّلف وصفاتهم، وحسن صنائعهم، الذين كتبت وخطبت، ولا زلت تكتب وتخطب عنهم؟!
اتق الله، وخذ حذرك من نفسك، وانضُ ثوبَ الكبر والغرور عن عقلك وقلمك، ولا تمش في الأرض مرحاً، ولا تصعِّر خدَّك للناس، وأسْبِتْ قلبك لله بطاعته، واذكر دائماً أنَّك معروض على الله يوم الحساب فماذا أنت قائلٌ له وأنت قادمٌ إليه بتلك الأوزار الثِّقال، التي قويَت منكباك على حملها؟!!! غير ناظرٍ إلى توبة عاجلةٍ في دنياك -من كبرٍ أنت حاسِبُه نافِعَك يوم تلقى الله- يومَ الهول الأكبر-، ولا راجٍ رحمةً من الله في آخرتك، تحبِسك عن حرِّ جهنَّم، وتنجيك من سوءِ صنيعك.
والسَّلام على من اتَّبع الهدى، واستقام على أمر الله، ورضي حكمه طائعاً، منيباً إليه في غير عوجٍ.
(1) متفق عليه عن أبي هريرة.
(2) رواه مسلم.
(3) ولذلك.. لُعِنَ الَّذين كفروا من بَني إسرائيل على لَسانِ داوودَ وعيسى ابن مريمَ ذلكَ بما عصَوا وكانوا يعتدون ، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يَفعلون.
(4) متفق عليه عن معاوية.
(5) ولي في الطائفة المنصورة رسالة مفردة فلتنظر.
(6) رواه مسلم عن ثوبان.
(7) رواه أحمد وابن حبان والبيهقي عن المقداد بن الأسود بسند صحيح.
(8) توفي رحمه الله في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة، سنة عشرين بعد أربعمائة وألف من الهجرة.
(9) ومن الترخُّص في الدين وضع الأمور في غير مواضعها، كأن نضع الصعب محل السهل، والسهل موضع الصعب، كالذين يسعون لازالة أو لزعزعة الأنظمة التي يتربع فيها الظالمون، والواحد منهم لا يكاد يقيم على لسانه آيةً من كتاب الله، أو حديثاً من كلام رسول الله ×، وليس يملك من أمره إلا التسليم والإذعان للظلم الذي لا يستطيع دفعه أو تحريك لسانه بإنكاره.(3/126)
(10) وليس أدل على ذلك مما آلت إليه حال الأُمة حين نظرت بعد الفتنة إلى أموالها فلم تعد تملك منها إلا ما تحسبه أن لها، وليس لها منه إلا الأرقام تحفظها فحسب، أما التَّصرُّف فيها فلا، وكلا!
(11) رواه أبو داود والترمذي عن أبي الدرداء بسند صحيح.
(12) سبق تخريجه.
(13) كما في حديث معاذٍ الصحيح عند الترمذي وابن ماجه.
(14) وما أمر أفغانستان ببعيد، فقد أقبلت الأمَّة كلها في أرجاء الأرض على أفغانستان حين رفعت الجماعات السبع راياتها السبع ظناً منها -أي الأمَّة- أن النصر بات قاب قوسين!
ولكن صار النصر محمولاً على أمل خائر، ورجاء بائر، وحسرات تقطع نياط العزائم.
(15) قطعة من حديث العرباض المتقدم تخريجه.
(16) وهذا ما يجتمع إلا في إمام عامة.
(17) من هؤلاء الإمام العالم الرباني الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله.
(18) رواه مسلم عن عوف بن مالك.
(19) سبق تخريجه.
(20) متفق عليه عن عائشة.
(21) رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة.
(22) سبق تخريجه.
(23) رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم وأحمد بسند فيه ضعف، لكن له متابعاتٌ وطرق تقوِّيه، انظرها في "السلسلة الصحيحة" (168).
(24) رواه البخاري عن ابن عمرو.
(25) حديث متواتر.
(26) رواه أحمد وابن حبان والحاكم عن أبي أمامة بسند صحيح.
(27) رواه الحاكم والبيهقي عن ابن عباس بسند حسن.
(28) رواه مسلم.
(29) الحديث -باللفظين- رواه أحمد وابن ماجه والحاكم بسندٍ حسن.
(30) رواه مسلم.
(31) رواه البخاري ومسلم.
(32) رواه البخاري.
(33) انظر مقدمة "سنن الدارمي" و "البدع" لابن وضَّاح و "مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسُّنَّة" للسيوطي.
(34) رواه مسلم.
(35) رواه البخاري ومسلم عن عائشة.
(36) رواها البخاري.
(37) تقدم تخريجه.
(38) أخرجه أحمد، والطيالسي، بسندٍ حسن موقوفاً.
(39) أي: يوسف عليه السلام.
(40) سبق تخريجه.
(41) سبق تخريجه.
(42) رواه البخاري.(3/127)
(43) متفق عليه.
(44) رواه مسلم.
(45) رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي عن ابن عمرو، وهو حديث صحيح.
(46) رواه البخاري.
(47) تقدمّ تخريجه.
(48) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أن هذه العصمة والكمال والقدم هي أسماء معانٍ، وأسماء المعاني يتصرف فيها التصرف الذي تأذن به اللغة، ولا يصادم أصول الشرع.
(49) الحديث متفق عليه عن أبي موسى.
(50) رواه أحمد والترمذي عن حُذيفة بسند صحيح.
(51) رواه البخاري عن أنس.
(52) رواه البخاري عن أنس.
(53) ولست أدري -والأطماع الدنيوية قد أبدت نواجذها في تلك الفئة، وصارت تتهاداها بأسبابها- هل بقي لها من علمها، إلا ما يزيدها استمالة إلى الدنيا، وتعظيم أسباب الفرقة والتنازع بينها، وهذا ظاهر في أدعياءِ العلم أكثر من غيرهم.
(54) لكأنَّما أراد الله أن يكون منه ابتلاءٌ لي، يتجدَّد ويزداد، ويتعاظم وليته يكون على أيدي من يخالفون عن المنهج -على حدِّ المصطلح الحادث- فكان يهون، لكن أن يكون هذا الابتلاء المتجدد للتعاظم من أولئك الذين يزعمون السَّلفية بمنهجها، فإنه والله لهو البلاء الأمرُّ، والحبل -كما يقال- على الجرار!
(55) وإني لأحمد الله أنَّ الصبر -على من يرفعون عقائرهم بنصر الدعوة السَّلفية- صار رداءً جميلاً لي!!!
(56) أسأل الله أن يسلُّمنا من سوء الفهم، وفساد الرأي، وشرود الحكمة!
(57) ولعل الحذَقة المهرة في هذا الباب، من لا ظل في حقيقةٍ لدعواه أنه: (على منهج الكتاب والسُّنَّة)، فيقول قائلهم: هذا خبيث، هذا مقنِّع أفَّاكٌ، هذا يُظْهر ما لا يُبْطن، إلى غير ذلك مما يشبهها.
(58) وموضوع التكفير برُمَّته يحتاج مني إلى زيادة بيان وإيضاح، واتيان عليه من كل جوانبه، لذا فإنِّي رأيت أن أرفعه من الكتاب بالكلية، لأجعله في رسالة خاصة؛ إن شاء الله، ألحقها بالكتاب مستقبلاً.(3/128)
(59) ولكأنما صار الذي وقع فيه صاحبنا هذا، هو المنهج الذي يسير فيه وعليه كثير من أدعياء السَّلفية اليوم، القابعين من وراء جلودهم الغليظة المسمنة بكسب المحابر والورق، وهذا أمرٌ لم يعد خافياً حتى على الأطفال والسُّذج.
??
??
??
??
188
187(3/129)
الفوائد العلمية والمفاهيم الشرعية
والضوابط المنهجية التي تضمنها كتاب
هي السَّلفية
نسبة وعقيدة ومنهجاً
من وضع وترتيب
أبو عبدالله فتحي بن عبدالله الموصلي
جزاه اللَّه خيراً
الاتباع
1- تجربة الربانيين مدارها الكتاب والسُّنَّة.
2- طريقة المؤمن إذا لُبس الحق عليه وغاصت الحقيقة بين يديه.
3- ذم التقليد.
4- كيف يمكن الفصل بين الطريقة والشريعة؟
5- الإخلاص والموافقة شرطا قبول العمل.
6- أحسن ما يتقرب به العبد إلى الله سبحانه وتعالى من الطاعات هو أن يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم.
7- المسلك الأسلم والأعلم مع أئمة المذاهب.
8- ما ينبغي أن يجتهد العبد في واقعه المجهول غير المنظور إلا من خلال الأخبار النبوية الصادقة.
9- التفريق بين القشور واللباب -زعموا- تفريق حادث لم يعرف في سلف الأمَّة من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، فقد كانوا أحرص الناس على الاستجابة لكل أمر فيفعلونه وعلى كل نهي فيجتنبونه.
10- نصوص من الوحي قاضية بأن يقف الإنسان عند حدود الشريعة، لا يتجاوزها، ولا ينتقص منها وإلا كان ظالماً لنفسه.
11- الابتداع في الدين هو إحداث أمر في الدِّين زائد عليه، يقصد به التَّعبُّد أو الزيادة في التَّعبُّد.
12- لا يحسن بنا أن نُقَسِّم البدع بحسب الأحكام الشرعية؛ لأن النصوص الواردة في ذم البدع لم تفرق بين بدعة وبين بدعة أخرى.
13- آثار الإعراض عن دين الإسلام.
الأخوة الإيمانية
1- مسامير الخلاف بين أهل المنهج الواحد، تدق فيه من الداخل وتضعفه.
2- حمل الناس على إساءة الظن بالمسلم، من باب الإعانة على المنكر.
3- ينبغي عدم إهمال الخلافات التي تظهر في السَّلفيين بين الحين والآخر.
4- تنقية العقيدة وتصفيتها وتربية أفراد الأمَّة وتنشئتهم على ذلك يُذهب فساد ذات البين.
الأعلام
1- مناقب ابن تيمية -رحمه الله تعالى-.
2- منهج شيخ الإسلام في ما يكتب من علوم الفلسفة والمنطق.(4/1)
3- فضيلة وإمامة الإمام مالك في العلم والفقه.
4- مسلك شيخ الإسلام في نقض الثقافات الدخيلة.
5- الأئمة الأربعة -رحمهم الله تعالى- وفَّروا للأمَّة جل ما تحتاجه في حياتها من مسائل الدين.
6- لماذا يُعنى السَّلفيون بكتب ابن تيمية وابن القيم -رحمهما الله تعالى-.
7- خصائص كتب الشيخين ابن تيمية وابن القيم -رحمهما الله تعالى-.
8- مضى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- إلى ربه وهو يحمل هموم الأمَّة في صدره.
9- ابن تيمية -رحمه الله تعالى- رجل عاش لسيفه وقلمه وعقيدته.
10- فضائل الشيخ المجدد محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله تعالى-.
11- فضائل الإمام الفقيه الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله تعالى-.
الأمة
1- تحذير الأمَّة ونصحها.
2- المهمة الكبرى التي يجب على الأمَّة أن تسعى لتحقيقها والعمل السياسي -في النتيجة- جزء من هذه المهمة.
3- حاجة الأمَّة إلى استظهار التلازم بين العقيدة والأحكام والدعوة.
4- حتى تكون الأمَّة مهيأة لخلافة راشدة على منهاج النبوة.
5- ولاء الأمَّة المسلمة لدينها من أعظم مقومات وجودها، وبه فُضِّلت على سائر الأمم.
6- إذا تضافرت جهود الأمَّة وبخاصة جهود علمائها؛ في الوقوف على حقائق التنزيل فهماً وعملاً فإنها حينئذ ستبني لنفسها حصناً منيعاً.
7- المقدور عليه المستطاع في زماننا هذا -مما يقتضيه النظرُ العلميُّ الإيماني في سنة المدافعة- هو توجيه الأمَّة عَقَديَّاً تربويَّاً، يؤهلها إلى تلقي تبعات العمل المستقبلي، من غير ضعف ولا تراجع.
8- على الأمَّة أن لا تُدخل مادة الزمن بُعداً أو قرباً في حسابها، فالنجاح كالفشل، قد يطول زمان الأول ويقصُر زمان الثاني، وقد يكون العكس.
التزكية وتربية النفوس / منازل العبودية
1- أقسام الناس: ظالم لنفسه، ومُقسط، وسابق بالخيرات.
2- ينبغي أن نفتش عن العيوب في داخل أنفسنا قبل أن نَعْلَمه من غيرنا.(4/2)
3- صدق التجربة يكون بالعقل معرفةً والقلب هدىً والذات سلوكاً.
4- كم من رأي قائلٍ، سُلبَ صاحبه الصوابَ سوء ظنِّه في الناس؟
5- موجبات من أربى في الظلم والفقر.
6- الإخلاص والموافقة شرطا قبول العمل.
7- التلازم بين الظاهر والباطن تلازم ظاهر.
8- الصبر هو أمثل الأخلاق التي كانت حقاً على السَّلفيين أن يتجملوا بها.
9- كسب الإثم يكون من وجهتين: في ترك الصواب إن عرف، وفي فعل الخطأ إن علم.
10- من الخشية والإخلاص أن يستدرك عالم على نفسه بنفسهِ.
11- الأفعال الظاهرة دالة على الباطن.
12- يجب على العلماء والدعاة أن يكونوا هم القدوة الصالحة لأفراد الأمَّة وجماعاتها، وأن يكون تعلّم الأمَّة منهم بسلوكهم الحسن أكثر من تعلُّمها منهم بأقوال أفواههم.
13- كلّ مجتمع في حاجة إلى الدين كلّه؛ آدابه، ومعاملاته، وعباداته، وعقائده، وانتقاصُ أيّ أمرٍ من هذه الأمور هو انتقاص من الدين والإيمان ولا يزيله إلا الرُّجوع عنه.
14- إن التفريط في الأمر الصغير يؤدي إلى التفريط في الأمر الكبير؛ لأن استمرار هذا التفريط ينشىء في الإنسان عادة تنتهي به إلى التهاون فيما يفعل.
15- ما يجب مراعاته لنيل السعادة الحقيقية من خلال التشريع الإلهي.
16- أثر التعبد بأسماء الله -تعالى- وصفاته.
17- الورع منشؤه العلم، والعلم ينتهي بالعالم والمتعلِّم معاً إلى الورع.
18- حين لا يعمل قانون المدافعة بقوة الإيمان وفق مقتضى الحكمة الإلهية البالغة؛ آنذاك لا بدّ من إعادة النظر في أنفسنا، لاستظهار الخلل فيها.
19- حاجة المتجني إلى توبةٍ ينجو بها من مرذول فقهه وقبيح كلامه.
التصفية والتربية
1- حتى يكون لهذه الأمة في آخر أمرها خلافة على منهاج النبوة؛ لا بدّ من التربية والتصفية.
2- لا بد أن يكون تقديرنا في إنجاح عملية التربية والتصفية تقديراً دقيقاً محكماً؛ وأن نملك رؤيةً واضحةً موضِّحة مستندة على الأخبار النبوية الصادقة.(4/3)
3- تنقية النفس من الشوائب والأكدار، وإقامتها على سواء الجادة، لا يكون إلاَّ من طريقين: الأول: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الثاني: إقامة الحدود والعقوبات الشرعية.
الجهاد
1- وجوب دفع الظلم بالحجة والبرهان.
2- فضيلة الجهاد، وأنه عروة الدين الوثقى، وسنام الإسلام الأعلى وحمى التوحيد المكين.
3- ليس غريباً أن تقبض الأمَّة يدها عن الإحسان وهي قد صدت نفسها بنفسها عن سبيل الله، وأعرضت عن شرعه وتنكرت لعقيدته.
4- الجهاد ليس نظرية علمية إنما هو حقيقة كلية من حقائق الإيمان، وفَرْض عظيم من فرائض الإسلام.
5- لماذا لا تستطيع الأمَّة اليوم القيام بأعباء فريضة الجهاد؟
6- شرع الله -تعالى- الجهاد، وفرضه على العباد تأسيساً لقانون المدافعة.
7- الجهاد من الأمور التي لا يؤذن بها إلا أن يكون الآذن هو الإمام، وهو من الخطابات الشرعية التي تدخل في القاعدة الكلية للتكليف.
8- أنواع الجهاد، وأن الأمَّة لا تعجز عن جميعها، فلا بد أن يكون نوع منها دخلاً في مقدورها.
9- من الواضح أن الجهاد بالمال، أو بالدعوة والعلم مقدور عليهما حتى في حال غياب الأمير (الخليفة).
10- الجهاد بالسيف هو أعلى المراتب، وأوفرها نصيباً من الجهد الذي يبذل في الجهاد، ويستغرق نوعي الجهاد الآخرين: الجهاد بالمال، والجهاد بالدعوة والعلم.
11- أظهر ما يكون الجهاد بالعلم في الأمر بالمعروف وفي النهي عن المنكر، وفي نشر العلم الصحيح وتعليمه الناس، وبناء العقيدة في القلوب وتشييد بناء الأحكام والفروع في العقول.
12- فرق واسع جداً بين من يقول بتعطيل فريضة الجهاد، وبين من يقول: يجب الإعداد الصحيح لها، ولو استغرق هذا الإعداد سنين طويلة.
13- لنعلم أن أفضل الجهاد اليوم -في وهننا الذي نحن فيه- هو الإمساك عن الجهاد، وهذا -ولا ريب- هو من الإعداد الذي توفَّرُ فيه الجهود إلى ما هو ممكن ومقدورٌ عليه من أنواع الجهاد.(4/4)
14- : بعض الناس لا يفرقون بين قول من يقول بتعطيل فريضة الجهاد، وبين من يقول: يجب الإعداد الصحيح لها.
15- : من مطالب القرآن: أن يكون الجهاد محققاً لغايته، وهو إرهاب الأعداء.
الحق
1- نصرة أهل الحق واجبة ومظاهرة أهل الحق أوجب.
2- الحق ظاهر بنفسه جليٌّ
3- طريقة أهل الباطل في عداوة أهل الحق.
4- صولة أهل الحق تكون بالحق وللحق ومع الحق.
5- أولى الناس باتباع الحق، وسلوك طريقه هم أئمة المذاهب -رحمهم الله تعالى-.
6- : كان نقد الناقد بعيداً من النقد الموضوعي العلمي، بل هو ضرب من التجريح والبهتان!!
الدعوة / الدعاة
1- منهج الحق، يحتاج دعاة، علماء، أتقياء، أوفياء، أنقياء.
2- ليس أصدق في الوصول إلى صواب الحكم على أمر ما، من التجربة الذاتية [المدللة بعنعنات الراوية، والمؤيدة بأسانيد الحكاية].
3- التجربة النافعة ما كان أصلها العقيدة السمحة، والشريعة السهلة.
4- إنَّ دعاة السَّلفية وكاتبيها أقاموا الحجة الرسالية على الناس.
5- مسؤولية السَّلفيين الكبرى، والأمور التي يجب مراعاتها لحمل هذه المسؤولية.
6- حاجة السَّلفيين للحكمة والعدل في معاملتهم مع خصومهم.
7- طريقة اتباع السلف في إظهار العلم ونشره.
8- يحسن بالدعاة العلماء أن يكون جوابهم مؤسساً على النظر العقلي المسدد بالدليل الشرعي.
9- إن الله -سبحانه وتعالى- جعل للداعية إليه على معرفة وبصيرة فضلاً على سائر الناس من معرفة بحقائق التنزيل المحكمة؛ يرى تأويلها على الكون والإنسان والحياة.
10- الأمور التي يجب أن يتصف بها الداعية المسلم حتى يزداد معرفة وفقهاً بالواقع.
11- مجانبة السلوك السياسي حماية للجهد الدعوي، ونجاة من أمر يقود إلى محظورات شرعية.
12- مجانبة السلوك السياسي هو من باب السياسة الشرعية التي يجب على العلماء والدعاة تعليمها للناس.
13- الواجب على المسلم أولاً أن ينظر فيما هو مستطاع له فيشتغل فيه، ويعرض عن الأمور التي لا يقدر عليها.(4/5)
14- أصبحت جماهير المسلمين الملتزمين لا يفرقون بين ما هو من المقدور عليه وبين ما هو من غير المقدور عليه.
15- المقدور عليه المستطاع في زماننا هذا -مما يقتضيه النظر العلمي الإيماني في سنة المدافعة- هو توجيه الأمَّة توجيهاً عقدياً تربوياً، يؤهلها إلى تلقي تبعات العمل المستقبلي، من غير ضعف ولا تراجع.
16- مقومات الإعداد في العهدين، المكي والمدني.
17- : بعض الدعاة غيب الضوابط العلميَّة في النقد.
السَّلفيَّة
1- نوع الظلم الواقع على السَّلفية قديماً وحديثاً.
2- السَّلفية كلمة جامعة مانعة، وهي دعوة فطرية [علمية عملية عدلية شمولية] محوطة بأخوةٍ حقة، وتعاون صادق.
3- السَّلفية نسبة إلى الإسلام كلِّه بأحكامه وآدابه، وأخلاقه وعقيدته.
4- قام الدليل على أن أئمة المذاهب -رحمهم الله تعالى- جميعهم سلفيُّون، بل هم من سادة السَّلفيين وأئمتهم.
5- السَّلفيَّة لا تكون سلفية إلا بمنهاجها المتكامل العتيق.
6- السَّلفيَّة زمانها الزمان كلُّه، ومكانها الارض كلها.
7- السَّلفيَّة تدعو إلى وحدة كلمة الأمَّة على ضوء منهج الأنبياء والرسل.
8- السَّلفيَّة غنية بذاتها، نقية في جوهرها.
9- الناظر بعين العقل في تاريخ السَّلفيَّة لا يرى فيه إلا الضياء والبهجة والسُّمو والبذل.
10- السَّلفيون هم أكثر الناس أخذاً عن المذاهب الأربعة وعلمائها.
11- واقعية السَّلفيَّة في النظر إلى الحياة.
السنن الشرعية / السنن الكونية / النوازل
1- الأحكام الشرعية لا تخضع لقانون التغيُّر.
2- من فِقْهِ فقه الواقع، أن تَدَع فقه الواقع، ليستحكم عندك فقه الواقع.
3- إن النظر الدقيق في النصوص الثابتة الهادئة من الكتاب والسُّنَّة كافٍ لمعرفة فقه الواقع، وأن نستبصر القوانين والسنن الإلهية وإدراك الأحداث الجارية، أو التي ستجري في المستقبل.
4- يحسن بالأمَّة بعامة، وبالعلماء والدعاة بخاصّة، أن يستبصروا القواعد القرآنية التوجيهية في تغيير الواقع.(4/6)
5- قياس القرون المتأخرة على القرون المتقدمة قياس مردود، فالعبرة ليست بظرف الزمان، إنما بأهل الزمان أنفسهم.
6- من القوانين والسنن الإلهية التي لا تتبدل ولا تتحول، قانون المدافعة الذي ذكره الله في كتابه العزيز.
7- قانون المدافعة يقتضي وجود قوتين متدافعتين، واحدة بإيمانها وحقها، والأخرى بجحودها وباطلها.
8- نفاذ قانون المدافعة في الخلق مرهون بقيام المؤمنين بحقه؛ فإن هم ضعفوا عن أداء هذا الحق، فقد تعطل نفاذه وتفرَّد أهل الباطل بسلطانهم.
9- قانون المدافعة يقضي بأن الجهاد لا بد وأن يكون مأذوناً به من إمام عامَّة، إلا أن يداهِمَ العدو أرضاً مسلمة، فعلى أهلها المسلمين أن يدافعوا عنها أذن الإمام أم لم يأذن على قدر وسعهم وطاقتهم.
السياسة الشرعية
1- الأمّة بحاجة إلى الأمير الفقيه العالم الذي يكون قضاؤه مؤسساً على الشرع الإلهي.
2- العمل السياسي سلوك اجتماعي عام، يتقيد بمقتضى العقيدة ولوازمها، وضوابطها الذاتية.
3- السلوك السياسي الموثوق بمقتضى العقيدة هو جزء من التصور الديني الشامل.
4- التحذير من العمل السياسي بعد غياب الشريعة عن الحياة، لأن هذا العمل أصبح خاضعاً للقوانين والأنظمة الوضعية.
5- العمل السياسي الذي لا يخضع لمقتضى العقيدة يجرِّىء البعض على أصول الإسلام وفروعه كلها.
6- العاقل لا يجمع بين هجر الدين في ملكه، وبين الظُّلم في الرعية.
7- لقد كان السلوك السياسي في الحقب الماضية مستظلاًّ بظلَّة الدين والعدل.
8- العمل السياسي في عالمنا العربي والإسلامي، لا يحسنه إلا من هُيِّأ له وصنع خصيصاً من أجله.
9- لا يباح مخالطة السلوك السياسي إلا بقدر الضرورة، وهي تقدر بقدرها.
10- فلسفة السلوك السياسي المعاصر!!
11- الحدود التي ينبغي للمسلم أن لا يجاوزها في مجال العمل السياسي.
12- مفاهيم علمية وضوابط شرعية في مجال العمل السياسي الإسلامي.(4/7)
13- أثبتت التجارب العلمية أن العمل السياسي مصيدة نصبت، ليسقط فيها كل من يدنوا منها.
14- بعض الدعاة غير موفق في تقدير المصلحة الشرعية.
الصحابة
1- القرون الخيرية الأولى فازت بقصب السبق.
2- الصحابة -رضوان الله عليهم- جميعاً هم طليعة السلف.
3- الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا عنواناً مضيئاً للإسلام كله بعقيدته وشريعته.
4- سيرة الصحابة -رضوان الله عليهم- تعدُّ جزءاً من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.
5- طريق الصحابة في تلقي الوحيين.
6- الصحابة هم أعلم الأمَّة بموروث علم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
7- الصحابة تلقوا علم الوحي سماعاً وعملاً، تلقياً وتفسيراً.
8- ترك الصحابة -رضوان الله عليهم- من ورائهم كلمات بصيرة؛ تهدي من يتبعها، وتخرجه من ظلمة الهوى والغي إلى نور الحق والهدى، تصلح كل واحدة منها أن تكون منهاجاً علمياً وعملياً.
العلم
1- مباحث ومقاصد تأليف الكتاب.
2- جِماع الرأي السديد، لا يكون إلا في البصيرة والعلم والعدل.
3- ينبغي حمل العلم الموروث رواية ودراية ورعاية.
4- التفاوت في المعرفة العلمية حاصل بين علماء الأمَّة قديماً وحديثاً.
5- مراتب الناس: المقلد، المتبع، المجتهد.
6- طريق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلقي العلم.
7- ما زال علم السَّلف باقياً في الأمَّة يهديها إلى الهدى والتقوى.
8- موجبات التحقيق العلمي.
9- الفقه يؤسس الإدراكات العلمية والموجبة للإرادات العملية.
10- العلم هو الوثاق المتين للعقل والجوارح معاً.
11- التلازم بين الطريقة والعلم.
12- الحاجة إلى الفقه البصير الذي يهدي صاحبه إلى مرضاة الله تعالى.
13- استحقاق الثناء النبوي يكون بقدر حفظ موروث علم النبوة.
14- منهج طالب العلم في تلقي العلم.
15- التلازم بين علم الفقه وعلم السُّنَّة.
16- أئمة السلف قد أحاطوا بالسُّنَّة وكانوا على درايةٍ بدلالات نصوصها.(4/8)
17- الأئمة -رحمهم الله تعالى- في أقوالهم وفتاويهم إنما هم موقّعون عن ربِّ العالمين.
18- طريقة السَّلفيين في أخذهم الفقه عن العلماء.
19- الانتقال عند أهل الحق -في إطار البحث العلمي- انتقالاً انتقائياً.
20- معرفة مراتب العلماء إنما يكون بالتدرج الواعي المقارن بين الأعلم منهم وبين من هو دونه.
21- تفضيل الحافظ الفقيه على الفقيه.
22- الفرق بين أخذ الصحابة للعلم وبين من بعدهم من السَّلفيين.
23- يمكن للمُجدِّ من طلاب العلم أن يكون محدثاً بلا إجازة.
24- الاجتهاد أعلى مراتب العلم، وأرفع درجات المعرفة في الإسلام.
25- العلم ليس بالأماني والدعاوى إنما بالسهر، وإدامة النظر، وتقليب الفكر.
26- ينبغي أن نفقه النصوص التي تبدو متعارضة في ظواهرها.
27- التوجيه التربوي العلمي في سائر الميادين المعرفية.
28- فقه الواقع، ما هو إلا نافلة من نوافل الفقه إن قيل بمشروعيتها.
29- من كانت له بصيرة بحقائق العلم، ومباني الإيمان، وهداية الرحمن كانت له بها ملكة مدركة، يعرف بها بالتفرُّس دلائل وحقائق لا يخطئها.
30- سبب ورود القول ينبىء عن المعنى المراد، ويعين على فهمه والإحاطة به.
31- حتى نتجنب الوقوع في الإفك والظلال لا بد أن يكون فهمنا للقرآن قائم على مقتضى أمرين:
32- تنزيه الله سبحانه عما لا يليق به.
33- قواعد اللغة العربية وأصولها.
34- استدل البعض بآيةٍ من كتاب الله وهي حجة عليه.
35- من الظلم أن تُقطع جملة من السياق، ثم يصدر الحكم عليها بعيداً عن سياقها.
عقائد الفرق
1- المعطلة انتهوا إلى عقائدٍ فاسدةٍ كُفريةٍ.
2- التزاوج بين المذهبية والشعوبية.
3- كلُّ شذوذات الفكر، وحالات الانحراف، وتصورات النفس الحالمة، هي من صنع المدنيَّة الصناعية الحديثة، صاغتها صياغة بشرية قاصرة، ووضعتها بلا ضوابط ولا حواجز.
4- التعقب على مقولة محدثة: "على المسلمين اليوم أن يدعوا القشور ويهتموا باللباب"!!
العقيدة(4/9)
1- التلازم بين ما قرَّره الشرع وبين ما صنعته عقيدة التوحيد في الأمَّة.
2- الدين أسس على قاعدة كلية هامة هي: التوحيد الكامل.
3- طريقة السَّلف في إثبات الصفات.
4- التفريق بين العقيدة وبين الأحاكم في الأدلَّة، أمر محدث والصحابة لم يكونوا يفرقون بين ما يحمله الواحد منهم من عقيدة وأحكام.
5- الاجتهاد في العقيدة سائقٌ إلى الكفر الصُّراح.
6- الكفر كفران: كفر مخرج من الملة، وكفر لا يخرج من الملة.
7- السَّلفيون لا يكفِّرون أحداً من الأمَّة تكفيراً اعتقادياً، إلا بصريح ما يكفّر.
8- العقيدة السليمة هي التي تهدي صاحبها إلى الصواب في تقدير الأمور.
9- تسمية العقائد الفاسدة بالشذوذات تهوين من خطرها على الدين.
10- أثر التعبد بأسماء الله -تعالى- وصفاته.
11- ما فتح بابٌ من الشرِّ على القرآن أوسع من باب القول بالمجاز فيه.
12- الأصول المعتمدة عند الطائفة المنصورة في توحيد الأسماء والصفات.
اللغة
1- اللغة في القرن الأول سجية، وفي هذا القرن مكتسبة.
2- العربية هي رداء الإسلام، ومادة بلاغه وإبلاغه.
3- اللغة وعاء علم النبوة.
4- إنَّ الضمير يعود إلى أقرب مذكور ظاهر قبله.
المنهج
1- من الإثم، وموجبات الهلاك، إخضاع المنهج الحق للنظر العقلي.
2- لو أن أهل العلم استبصروا الحق واستنطقوه، لرأوا أنه يقضي عليهم؛ بأن لا يبصروا أمام أعينهم إلا منهج السلف.
3- محاولة التلفيق بين مفاهيم متعددة والخروج بمنهج واحد -زعموا-.
4- الفرق بين منهج السلف ومنهج الخلف.
5- تكفل الله تعالى لمنهج السلف بالحفظ والسلامة.
6- الإعراض عن المنهج الحق يورث مقالات غريبة وآراء شاذة.
7- تقسيم الناس إلى سلفيين وبدعيين جاء بمنطوق الوحي فضلاً عن مفهومه.
8- التفريق بين العقيدة وبين الأحكام في الأدلة أمر محدث، والصحابة لم يكونوا يفرقون بين ما يحمله الواحد منهم من عقيدة وأحكام.
9- ليس للعقل الإنساني أن يقيم على الجادة الواضحة إلا بمنهج السلف.(4/10)
10- كيف يمكن تهذيب أسلوب العمل وطريقة التفكير.
11- طريقة أهل المنهج الحق في معرفة الأحكام وأدلتها.
12- كان الله في عون قلم بعض الكتَّاب من سوء ما صنعوا وكتبوا.
مسائل في التكفير
1- حكم الإنسان على نفسه، بما يعلم منها، أصدق وأصوب من حكم غيره عليه.
2- الكفر كفران: كفر مخرج من المسلة، وكفر لا يخرج من لاملة.
3- السلفيُّون لا يكفرون أحداً من الأمَّة تكفيراً اعتقادياً، إلا بصريح ما يُكفِّر.
4- ينبغي التحري أشد التحري في مسائل التكفير.
5- بيان السبيل الأقوم في الحكم على الأفراد والجماعات والإيمان والكفر.
6- من الإفلاس -أحياناً- الحكم على بواطن الناس، والجزم بتكفيرهم.
7- مضار التسرع وعدم التثبت في إصدار الأحكام.
النصر / التمكين / الظهور
1- كيف يكون الظهور والنصرة في الأمَّة.
2- لا يخلوا زمان من علماء مجتهدين يرفعون عن الأمَّة آصار الحرج إن وقع عليها.
3- أمَّة الكتاب والسُّنَّة أمة محروسة ظاهرة بعلمها على الأمم كافَّة.
4- الثناء على الحركة العلمية التي انتشرت في كل أرجاء الأرض.
5- الأخبار النبوية الصادقة تبشر بنعمة آتية للأمَّة، مما يستوجب منها الشكر لله على هذه النعمة.
6- الطائفة الظاهرة لسيت ظاهرة بشوكتها وقوتها فحسب إنما هي ظاهرة بعلمها وفقهها.
7- خصائص الظهور والغلبة عند الطائفة المنصورة.
8- مفهوم النصرة عند البعض لا يكون إلا بالانتماء والولاء للجماعة أو الحركة، أما الانتماء للدين فيأتي من وراء الانتماء الأول!!
9- المطلوب من الأمَّة الآن أن تهيِّء نفسها لموعود ربها سبحانه، بتحقيق دولة الخلافة.
10- الأسس التي أمكنت الجماعة المؤمنة في العهد المكي أن تستوعب مضامين الرسالة في فترة زمنية وجيزة، لتنتقل بها إلى العهد المدني، لتؤسس دولة شاهقة البناء، قوية الأركان في فترة زمنية أوجز.(4/11)
11- على الطائفة الظاهرة الناجية أن تعلم أنها محكومة بقدر الله وإرادته، بسننه وقوانينه في خلقه، وفق حكمة لا يعلم كنهها البشر وأن موعود الله لهذه الأمة لا يتحقق إلا كما أراد الله، فاستعجالها لا يقدم واستبطاؤها لا يؤخر.
الخاتمة
وبعد:
فهذه رسالة على الجادّة إلى علماء الأمَّة، ودعاتها، وأهل الرأي فيها كافة -أينما ثقفوا، وحيثما كانوا- ليَتَبيَّنوا!!
والتَّبيُّن الحقُّ لا يُنشدُ إلا بالعلم والتقوى، فإن كانت منهم نصفةٌ في الحكم نرجوها؛ فهي التي نحبُّ ولأنفسهم أحسنوا، وإن كانت منهم الثانية ندافعها في أنفسنا من قبل أن يبرءُوها، فهي التي نكره، ولأنفسهم أساءُوا!!
والله وحده يعلم كم هو شاقٌّ على النفس أن لا يجد المرءُ المسلم من إخوانه المسلمين أُذُناً صاغيةً لنصيحةٍ يبذلها، أو كلمةٍ طيبةٍ يحرصُ لهم عليها.
والعدلُ في الأمر، وعنه، ضدّان لا يجتمعان إلا في قلبٍ منكوسٍ، لا يمسك خيراً، ولا يرجو للآخرين إلا شرّاً.
وليس هذا شأن المؤمنين، بل هو من أخلاق المنافقين.
وليس -والله- أجمعُ لشمل الأمَّة، ولا أصدقُ لها عن باطلٍ، ولا ألزمُ لها لسبيل الرَّشاد، من أن تعلم علم اليقين أن سبيل القرون الأولى هي أقوم سبيل، وأن الحنفَ عنها تردٍّ في عاقبة شرٍّ لا نجاة لها منها، إلاَّ من بعد أن يأذن الله لرحمته إن شاء أن تدركها.
والدَّعوة هي الدَّعوة، والكتاب هو الكتاب، والسُّنَّة هي السُّنَّة، والسبيل هي السبيل، والحقُّ هو الحق، والباطل هو الباطل، والصِّراع بين الحق وبين الباطل، هو الصِّراع نفسُه.
وأهلُ الحقِّ في كلِّ زمانٍ غَرَضٌ ماثلٌ في عين الباطل، لا يغيب عنها، يودُّ الباطل -بجَدع أنفه- أنْ لو لم يكن للحقِّ موضعُ قدمٍ على الأرضِ -في أي زمانٍ- فلا ينازَع في أمرٍ يريده أهله وأنصاره.(4/12)
فعلى الطائفة الظاهرة الناجية، أن تعلم أنها محكومة بقدر الله وإرادته، بسننه وقوانينه في خلقه، وفْقَ حكمةٍ لا يعلم كُنْهها البشرُ، وأنَّ موعودَ الله لهذه الأمَّة، لا يتحقق إلا كما أراد الله، فاستعجالها لا يقدّم، واستبطاؤها لا يؤخّر، والله وليُّ الصادقين، وهو نعم المولى ونعم النصير، الذي إذا أراد شيئاً فإنَّما يقول له: كُن؛ فيكون.
وصلى الله وسلّم على نبيِّ الرّحمة، ورسول الهُدى، ومعلِّم الناس الخير، والمجموع عند قدمه الأمّة، والشّافع المشفّع، محمد بن عبدالله، وعلى آله وصحابته الأبرار الأطهار، وعلى من سار على دربهم واتّبع هداهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
فهرس الموضوعات
الموضوع
الصفحة
مقدمة الطبعة الثانية
7
المقدمة
13
توطئة وبيان
17
أغاليط ظالمة وتمويهات غائمة
31
* غريبة فاذة شاذة
61
* قصة طريفة
65
* غمزة واضحة
114
تنبيه وتذكير وتوثيق
125
التكفير وقواعد
127
* وخلاصة القول
141
* عود على بدء، وبدء من عود
146
ماذا عن فقه الواقع
147
السلفية بين الدِّين السياسي وسياسة الدِّين
173
الجهاد
203
الدِّين قشر ولُباب
219
هل البدعة بدعتان: حسنة وسيِّئة؟
231
* الابتداع منازعة الله في حُكمه
234
* الرسول صلى الله عليه وسلم يذمُّ البدعة
234
* حرص الصحابة والسلف الصالح على مجانبة البدعة
236
* أثر العصبيَّة المذهبيَّة السيِّئة
237
* الله ورسوله المفزَع الحق
238
* شبهات وتصحيحها
238
* البدع كلها ضلالات
245
كيف نفهم العقيدة؟
249
سنن الله وقوانينه في كونه
267
- قانون المدافعة
268
ملحقان جديدان وفوائد علمية وضوابط منهجية
283
بين يدي الملحقين
285
الملحق الأول: دفع شبهات أوردها صاحبها
287
- الفرية الأولى
291
- الفرية الثانية
300
- الفرية الثالثة
304
- الفرية الرابعة
310
- الفرية الخامسة
314
الملحق الثاني: رسالة ناصحة غير ناضحة
317
- إملاء أبي مُرَّة
317
- قتل الخراصون
318
الفوائد العلمية والمفاهيم الشرعية(4/13)
325
- الاتِّباع
327
- الأخوّة الإيمانية
328
- الأعلام
328
- الأمة
329
- التزكية وتربية النفوس/ منازل العبودية
330
- التصفية والتربية
332
- الجهاد
332
- الحق
334
- الدعوة/ الدعاة
334
- السلفية
336
- السنن الشرعية/ السنن الكونية/ النوازل
337
- السياسة الشرعية
338
- الصحابة
339
- العلم
340
- عقائد الفرق
342
- العقيدة
343
- اللغة
344
- المنهج
344
- مسائل في التكفير
345
- النصر/ التمكين/ الظهور
345
الخاتمة
347
فهرس الموضوعات
349
??
??
??
??
342
343(4/14)