بسم الله الرحمن الرحيم
هل القرشية شرط في الإمامة ؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أما بعد :-
فقد أثار أحد الإخوة مسألة بخصوص شرط القرشية في الإمامة .. وقد أدلى بعض الأفاضل بدلوهم في المسألة وأجاد وإن كانت الإجابة مقتضبة .. في حين تخبط بعضهم أيضاً .. و رغبة مني في بيان الحق ، وما عليه أهل السنة والجماعة في هذه المسألة ، أشارك بهذه المقالة والتي أسأل الله أن ينفع بها ..
يعد شرط القرشية من الشروط التي وردت النصوص عليه صريحة وانعقد إجماع الصحابة والتابعين عليه وأطبق عليه جماهير علماء المسلمين ، ولم يخالف في ذلك إلا النزر اليسير من أهل البدع كالخوارج وبعض المعتزلة وبعض الأشاعرة ، و نحن سنورد الأدلة المثبتة لهذا الشرط ، ثم أدلة النافين ، و نرى الراجح منها ، والحكمة من ذلك وهل هذا الشرط مطلق أم مقيد ، إلى غير ذلك من البحوث المتعلقة بهذا الموضوع .
أدلة أهل السنة والجماعة على اشتراط القرشية ..
قلنا إن جماهير علماء المسلمين قاطبة ذهبوا إلى اشتراط هذا الشرط ، و حُكي الإجماع عليه من قبل الصحابة والتابعين ، وبه قال الأئمة الأربعة .
قال الإمام أحمد : الخلافة في قريش ما بقي من الناس اثنان ، ليس لأحد من الناس أن ينازعهم فيها ولا يخرج عليهم ، ولا نُقر لغيرهم بها إلى قيام الساعة . انظر : طبقات الحنابلة (1/26) .
وقد نص الشافعي رضي الله عنه على هذا في بعض كتبه ، انظر : الأم (1/143) .
و كذلك رواه زرقان عن أبي حنيفة . انظر : أصول الدين (ص 275) .
وقال الأمام مالك : ولا يكون أي الإمام إلا قرشياً ، و غيره لا حكم له إلا أن يدعو إلى الإمام القرشي . انظر : أحكام القرآن لابن العربي (4/1721) .
و لم يخالف في ذلك كما ذكرت إلى النزر اليسير من الخوارج وبعض المعتزلة و بعض الأشاعرة ، و سيأتي ذكر أسمائهم وآرائهم قريباً ..(1/1)
واستدل المثبتون بعدة أدلة صريحة صحيحة من السنة والإجماع فمن السنة ما يلي :-
أولاً : الأحاديث الصرحية الصحيحة من السنة ..
1 ما رواه البخاري في صحيحة عن معاوية رضي الله عنه ، حيث قال البخاري : باب الأمراء من قريش ، حدثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري قال : كان محمد بن جبير بن مُطْعِمْ يحدث أنه بلغ معاوية وهم عنده في وفد من قريش أن عبد الله بن عمرو يحدث أنه سيكون مَلِكٌ من قحطان ، فغضب فقام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال : أما بعد فإنه بلغني أن رجلاً منكم يحدث أحاديث ليست في كتاب الله ولا تؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأولئك جهالكم فإياكم والأماني التي تضل أهلها ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله في النار على وجهه ما أقاموا الدين . البخاري (13/114) مع الفتح .
قلت : و نفي معاوية رضي الله عنه لهذا الحديث حديث القحطاني لا يعني أنه غير صحيح بل ثبت حديث القحطاني في الصحيح ، و الظاهر أن معاوية رضي الله عنه لم يبلغه حديث القحطاني .
2 و منها حديث عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان . البخاري (13/114) ومسلم برقم ( 1820) . قال الحافظ ابن حجر : و ليس المراد حقيقة العدد وإنما المراد به انتفاء أن يكون الأمر في غير قريش . الفتح (13/117) .
3 ومنها ما رواه البخاري (6/526) و مسلم برقم (1818) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الناس تبع لقريش في هذا الشأن ، مسلمهم تبع لمسلمهم وكافرهم تبع لكافرهم .(1/2)
4 وفي مسند الإمام أحمد (1/5) بإسناد مرسل حسن أن أبا بكر وعمر ذهبا إلى سقيفة بين ساعدة حين اجتمع الأنصار لاختيار خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تكلم أبوبكر ولم يترك شيئاً أنزل في الأنصار و ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم من سأنهم إلا ذكره ، وقال : ولقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لو سلك الناس وادياً وسلك الأنصار وادياً سلكت وادي الأنصار ، و لقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد : قريش ولاة هذا الأمر فبر الناس تبع لبرهم و فاجرهم تبع لفاجرهم ، فقال له سعد : صدقت ، نحن الوزراء وأنتم الأمراء . وفي لفظ عند البخاري (12/144) : ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش .
5 ومنها ما رواه الأمام أحمد في المسند (3/183) بسند صحيح عن أنس بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على باب البيت و نحن فيه فقال : الأئمة من قريش ، إن لهم عليكم حقاً ولكم عليهم حقاً مثل ذلك ، ما إن استرحموا رحموا ، وإن عاهدوا وفوا ، وإن حكموا عدلوا ، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين .
قال ابن حزم معلقاً : و هذه رواية الأئمة من قريش ، جاءت مجيء التواتر رواها أنس بن مالك و عبدالله بن عمر بن الخطاب ومعاوية و روى جابر بن عبد الله و جابر بن سمرة وعبادة بن الصامت معناها . انظر : الفصل في الملل و الأهواء و النحل (4/89) .
وأكثر من هذا ما ذكره الحافظ ابن حجر حيث قال : وقد جمعت طرقه عن نحو أربعين صحابياً لما بلغني أن بعض فضلاء العصر ذكر أنه لم يرد إلا عن أبي بكر الصديق . انظر : الفتح (7/32) .
ثانياً : الإجماع :-(1/3)
أما الإجماع فقد حكاه غير واحد من العلماء ، منهم : النووي حيث قال في شرحه لحديث الناس تبع لقريش : هذه الأحاديث وأشباهها دليل ظاهر على أن الخلافة مختصة بقريش لا يجوز عقدها لأحد من غيرهم ، وعلى هذا انعقد الإجماع في زمن الصحابة والتابعين ، فمن بعدهم بالأحاديث الصحيحة . انظر : شرح صحيح مسلم (12/200) .
ومنهم القاضي عياض ، فقد نقل عنه النووي قوله : اشتراط كونه أي الإمام قرشياً هو مذهب العلماء كافة ، قال : وقد احتج به أبو بكر وعمر رضي الله عنهما على الأنصار يوم السقيفة فلم ينكره أحد ، قال القاضي : وقد عدها العلماء من مسائل الإجماع ، و لم ينقل عن أحد من السلف فيها قول ولا فعل يخالف ما ذكرنا ، و كذلك من بعدهم في جميع الأعصار قال : ولا اعتداد بقول النظام و من وافقه من الخوارج وأهل البدع أنه يجوز كونه من غير قريش ، ولا سخافة ضرار بن عمرة في قوله : إن غير القرشي من النبط وغيرهم يُقدّم على القرشي لهوان خلعه إن عرض منه أمر ، و هذا الذي قاله من باطل القول و زخرفه ، مع ما هو عليه من مخالفة إجماع المسلمين والله أعلم . انظر : شرح النووي على صحيح مسلم (12/200) .
وممن حكى هذا الإجماع أيضاً الماوردي في الأحكام السلطانية (ص 6) ، والإيجي في المواقف ( ص 398) ، و ابن خلدون في المقدمة ( ص 194) ، و الغزالي في فضائح الباطنية ( ص 180) ، و غيرهم .
و من المُحْدَثين الشيخ محمد رشيد رضا ، حيث قال : أما الإجماع على اشتراط القرشية فقد ثبت بالنقل والفعل ، رواه ثقات المحدّثين واستدل به المتكلمون وفقهاء مذاهب السنة كلهم ، و جرى عليه العمل بتسليم الأنصار وإذعانهم لبني قريش ، ثم إذعان السواد الأعظم من الأمة عدة قرون .. انظر : الخلافة أو الإمامة العظمى (ص 19) .(1/4)
و لكن الحافظ ابن حجر يعترض على هذا الإجماع بقوله : قلت : و يحتاج من نقل الإجماع إلى تأويل ما جاء عن عمر من ذلك ، فقد أخرج أحمد عن معمر بسند رجاله ثقات أنه قال : إن أدركني أجلي و قد مات أبو عبيدة استخلفت معاذ بن جبل .. الحديث . ومعاذ بن جبل أنصاري لا نسب له في قريش ، فيحتمل أن يقال : لعل الإجماع انعقد بعد عمر على اشتراط أن يكون الخليفة قرشياً ، أو تغير اجتهاد عمر في ذلك والله أعلم . انظر : الفتح ( 13/119) . و الواقع أنه لا يرجع إلى التأويل إلا إذا صح الخبر في مخالفة عمر للإجماع ، و لكن هذا الأثر ضعيف لانقطاعه ، و سيأتي الكلام عليه قريباً .
نكمل اليوم ما بدأناه في الحلقة الماضية ومع أدلة القائلين بعدم اشتراط القرشية في الإمامة وأدلتهم في ذلك ..
أول من قال بعدم اشتراط القرشية الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه ، إذ جوزوا أن تكون الإمامة في غير قريش ، و كل من نصبوه برأيهم وعاشر الناس على ما مثلوا له من العدل واجتناب الجور كان إماماً . انظر : الملل والنحل (1/116) .
وزعم ضرار بن عمرة من شيوخ المعتزلة أيضاً أن الإمامة تصلح في غير قريش ، حيث قال : حتى إذا اجتمع قرشي و نبطي قدمنا النبطي إذ هو أقل عدداً وأضعف وسيلة فيمكننا خلعه إذا خالف الشريعة . انظر : الملل والنحل (1/91) .
قال الشهرستاني : والمعتزلة أي جمهورهم وإن جوزوا الإمامة في غير قريش ، إلا أنهم لا يجيزون تقديم النبطي على القرشي . الملل والنحل (1/91) .
وزعم الكعبي أن القرشي أولى بها من الذي يصلح لها من غير قريش ، فإن خافوا الفتنة جاز عقدها لغيره . انظر : أصول الدين (ص 275) .(1/5)
و من الأشاعرة إمام الحرمين الجويني حيث مال إلى عدم اشتراطه ، و زعم أنه من أخبار الآحاد ، و هو على مذهبه الباطل في عدم الاحتجاج بخبر الآحاد لا يحتج به في مثل هذه المسائل حيث قال : وهذا مسلك لا أوثره ، فإن نقلة هذا الحديث معدودون لا يبلغون مبلغ عدد التواتر ، والذي يوضح الحق في ذلك أنا لا نجد في أنفسنا ثلج الصدور واليقين المثبوت بصدد هذا من فلق في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما لا نجد ذلك في سائر أخبار الآحاد ، فإذاً لا يقتضي هذا الحديث العلم باشتراط النسب في الإمامة . انظر : غياث الأمم ( ص 163) .
وقال في كتابه الإرشاد ( ص 427) : وهذا مما يخالف فيه بعض الناس وللاحتمال فيه عندي مجال ، والله أعلم بالصواب .
وقد اختلف قول أبي بكر الباقلاني ، فاشترط القرشية في كتابه الإنصاف ( ص 69) فقال : و يجب أن يعلم أن الإمامة لا تصلح إلا لمن تجتمع فيه شرائط ، منها : أن يكون قرشياً لقوله صلى الله عليه وسلم الأئمة من قريش .
ولم يشترطها في كتابه التمهيد حيث قال : إن ظاهر الخبر لا يقضي بكونه قرشياً ، ولا العقل يوجبه . نقلاً عن الصواعق المحرقة للهيتمي ( ص 9) .
وإلى نفي اشتراط القرشية ذهب أكثر الكتاب المحدَثين ، منهم : الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه تاريخ المذاهب الإسلامية ( 1/91 ) ، حيث ذهب إلى أن الأحاديث الواردة مجرد أخبار لا تفيد حكماً .
ومنهم العقاد في كتابه الديمقراطية في الإسلام (ص 69 ) ، والدكتور علي حسني الخربوطلي في كتابه الإسلام والخلافة ( ص 42) ، و تجرأ على رمي الأحاديث المذكورة بالوضع .
ومنهم الدكتور صلاح الدين دبوس في كتابه الخليفة توليته و عزلة ( ص 270) ، وذهب إلى أن هذه الأحاديث مجرد أخبار .
ومنهم الأستاذ محمد المبارك رحمه الله و عفا عنه واعتبرها من باب السياسة الشرعية المتغيرة بتغير العوامل . انظر : نظام الإسلام في الحكم والدولة ( ص 71 ) .(1/6)
واستدل من ذهب إلى نفي اشتراط القرشية بما يلي ، و سأذكر كل دليل ، ثم أتبعه بالرد :-
1 بقول الأنصار يوم السقيفة ( منا أمير و منكم أمير ) ، قالوا : فلو لم يكن الأنصار يعرفون أنه يجوز أن يتولى الإمامة غير قرشي لما قالوا ذلك .
الرد : الاستدلال بهذا القول واضح البطلان ، و ذلك لرجوعهم رضي الله عنهم عن هذا القول في تلك اللحظة بعد أن سمعوا النص الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو بكر رضي الله عنه في قوله : ولقد علمت يا سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأنت قاعد : قريش ولاة هذا الأمر .. الحديث ، فيحتمل أنهم قالوا هذا القول قبل أن يعرفوا النص الذي يثبت الخلافة في قريش ولهذا رجعوا إلى رشدهم فما عرفوا الحقيقة .
2 ومن أدلتهم أيضاً : ما أخرجه البخاري في صحيحه (13/121) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه ربيبة . فالحديث أوجب الطاعة لكل أمام وإن كان عبداً ، فدل على عدم اشتراط القرشية .
الرد : المراد بالعبد في هذا الحديث كما استنبط العلماء هو إمامة المتغلب أو الإمارة الصغرى على بعض الولايات ، أو لأجل المبالغة في الأمر بالطاعة وضربه مثلا . انظر : فتح الباري (13/122) وأضواء البيان (1/56 ) .(1/7)
3 واستدلوا أيضاً بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إن أدركني أجلي وأبو عبيدة حي استخلفته .. وإن أدركني أجلي وقد مات أبو عبيدة استخلفت معاذ بن جبل . المسند (1/18) وقال عن الحافظ ابن حجر رجاله ثقات (13/119) و لكن في إسناده انقطاع لأن شريح بن عبيد تابعي متأخر لم يدرك عمر ، و كذلك راشد بن سعد الحمصي لم يدرك عمر ، فالحديث ضعيف لانقطاعه . انظر المسند تحقيق أحمد شاكر ( حديث رقم ( 108 ) (1/201) . ومن المعروف أن معاذ بن جبل أنصاري لا نسب له في قريش . انظر الإصابة (9/219) ، فدل على الجواز ، كما روى عنه رضي الله عنه أنه قال : لوأدركني أحد رجلين ثم جعلت هذا الأمر إليه لوثقت به : سالم مولى أبي حذيفة وأبو عبيدة بن الجراح . المسند (1/20 ) وصحح الأستاذ أحمد شاكر إسناده . انظر : المسند رقم (129) .
الرد : فبالرغم من ذكر العلة التي في الحديث ، فإنه يقال أيضاً : إن هذا الأمر لم يتم ، وإنما رشح عمر ستة قرشيين اختارهم وقال : ( ليختاروا أحدهم ) ، وأيضاً لو ثبت ذلك فإن النص مقدم على قول الصحابي وإن بلغ من الفضل ما بلغ ، ولعله اجتهاد من عمر رضي الله عنه ثم تراجع عنه إلى النص ، و قد أجاب الحافظ ابن حجر في الفتح على هذا الاعتراض باحتمالين هما :-
أ إما أن يكون الإجماع انعقد بعد عمر على اشتراط أن يكون الخليفة قرشياً .
ب وإما أن يكون قد تغير اجتهاد عمر في ذلك .
قلت : وإما أن يريد من قوله ذلك الولاية الصغرى ، أي على أحد الأقاليم ، و هذا لا يشترط فيه النسب اتفاقاً ، هذا على افتراض صحة الحديث وإلا فقد سبق أن بينا ضعفه لانقطاع سنده فلا يصلح للاحتجاج به .(1/8)
أما الرواية الثانية والذي فيه ذكر سالم مولى أبي حذيفة وأبي عبيدة فيحتمل إرادة التولية الصغرى أيضاً ، أو أنه يعتبره قرشياً ، لأن ابا حذيفة القرشي قد تبناه و هو مولى له و مولى القوم منهم وقد أرضعته زوجه وهو كبير بعد تحريم التبني فأصبح ابنا له . انظر : الإصابة (11/81) . و قصة إرضاعه مشهورة وهي في صحيح مسلم وغيره ، قال ابن عبد البر : و هو يعد في قريش لما ذكرنا . انظر : الاستيعاب على هامش الإصابة (4/101) . أما أبو عبيدة فقرشي باتفاق . انظر : الإصابة (5/285) .
4 كما استدلوا من قول أبي بكر رضي الله عنه : إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش .. وهذا تعليل لطاعة العرب لهم فإذا تغير الحال تغير موضع الاختيار .
الرد : هذا تعليل بعيد ، لأنه ظاهر في أحقية قريش بالخلافة فهو بحث دليل على اشتراط القرشية لا على نفيها ، والنصوص التي ذَكَرَتْ استدلال أبي بكر مُبَيّنَة لهذا الظاهر ، وهذا ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم بدليل تسليمهم بالطاعة لأبي بكر رضي الله عنه حينما بين لهم الدليل .. و الله أعلم .
5 ومنهم من قال : إن هذه الأحاديث التي يستدل بها أهل السنة إنما هي على سبيل الإخبار ، و ليس فيها أمر يجب امتثاله .(1/9)
الرد : هذا أمر مردود لأنها أمر في صيغة الخبر ، و قد وردت بعض الأحاديث بالأمر الصريح كقوله صلى الله عليه وسلم : ( قدموا قريشاً ولا تقدموها ) السنة لابن أبي عاصم (2/637) بسند صحيح . فهذا أمر منه صلى الله عليه وسلم بذلك ، كما أنه لو كان إخباراً من النبي صلى الله عليه وسلم لتحقق الخبر ، و هو أنه لن يتولى الخلافة إلا قريش ، لأن خبر الصادق لابد أن يتحقق ، لكن الواقع غير ذلك فق تولى الخلافة غيرهم ، منهم من يدعي كذباً أنه قرشي كالعبيدين الذين تسموا بالفاطميين ، ومنهم من لم يدّع ذلك كسلاطين الدولة العثمانية ، قال ابن حزم في المحلى ( 10/503) : هذان الخبران يقصد حديث ابن عمر ومعاوية السابق ذكرهما وإن كانا بلفظ الخبر ، فهما أمر صحيح مؤكد ، إذ لو جاز أن يوجد الأمر في غير قريش لكان تكذيباً لخبر النبي صلى الله عليه وسلم وهذا كفر ممن أجازه .
6 واستدلوا على ذلك أيضاً بقوله تعالى { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } فجعل الأفضلية والإكرام بالتقوى لا بالمعايير الأخرى كالنسب ونحوه ، بل وردت أحاديث تحذر من التفاخر بالأنساب والأحساب ، و تنهى عن العصبية الجاهلية . انظر الأحاديث في البخاري (6/156) و مسلم (2/644) و أبو داود (14/21) مع عون المعبود .
الرد : إن الإسلام باشتراطه أن يكون الإمام قرشياً لم يكن بذلك داعياً إلى العصبية القبلية التي نهى عنها في أكثر من موضع ، فإن الإمام في نظر الإسلام ليس له أي مزية على سائر أفراد الأمة ولا لأسرته أدنى حق زائد على غيرهم ، فالإمام وغيره من أفراد المسلمين سواء في نظر الإسلام ، بل هو متحمل من التبعات والمسؤوليات ما يجعله من أشد الناس حملاً وأثقلهم حساباً يوم القيامة .(1/10)
هذا وليس معنى أن الإسلام نهى عن العصبية أن الناس لا تفاضل بينهم ، بل التفاضل بين الخلق في الدنيا من صميم الفطرة ، ووردت أدلة شرعية على ذلك ، فجمهور العلماء كما ذكر ذلك شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (19/29) على أن جنس العرب خير من غيرهم ، كما أن جنس قريش خير من غيرهم ، وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أن سئل ( أي الناس أكرم ؟ فقال أتقاهم ، فقالوا : ليس عن هذا نسألك ، فقال : فيوسف نبي الله ابن يعقوب نبي الله ابن إسحاق نبي الله ابن إبراهيم خليل الله ، قالوا ليس عن هذا نسألك ، قال : أفعن معادن العرب تسألوني ؟ خياركم في الجاهلية خيراكم في الإسلام إذا فقهوا ) . وفي رواية : (الناس معادن كمعادن الذهب والفضة ، خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا ) . متفق عليه (6/387) مع الفتح ومسلم برقم (1378) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ذهبت الطائفة إلى عدم التفضيل بين الأجناس ، و هذا قول طائفة من أهل الكلام كالقاضي أبي بكر بن الطيب و غيره .. وهذا القول يقال له مذهب الشعوبية ، و هو قول ضعيف من أقوال أهل البدع . منهاج السنة (2/260) .
وقال : لكن تفضيل الجملة على الجملة ى يستلزم أن يكون كل فرد أفضل من كل فرد ، فإن في غير العرب خلق كثير خير من أكثر العرب ، وفي غير قريش من المهاجرين والأنصار خير من أكثر قريش .. قال : والمقصود أنه أرسل صلى الله عليه وسلم إلى جميع الثقلين الإنس و الجن فلم يخص العرب دون غيرهم من الأمم بأحكام شرعية ، و لكن خص قريشاً بأن الإمامة فيهم ، وخص بني هاشم بتحريم الزكاة عليهم ، و ذلك لأن جنس قريش لم كانوا أفضل ، وجب أن تكون الإمامة في أفضل الأجناس مع الإمكان ، و ليس الإمامة أمراً شاملاً وإنما يتولاها واحد من الناس . مجموع الفتاوى (19/30) .(1/11)
وقال : وإذا فرضنا اثنين أحدهما أبوه نبي والآخر أبوه كافر تساويا في التقوى والطاعة من كل وجه كانت درجتهما في الجنة سواء ، و لكن أحكام الدنيا بخلاف ذلك في الإمامة والزوجية والشرف وتحريم الصدقة ونحو ذلك .. ، قال : و الخير في الأشراف أكثر منه في الأطراف . انظر المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي (ص 530) .
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في فضل قريش على سائر القبائل ، منها قوله صلى الله عليه وسلم : إن الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل و اصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى بني هاشم من قريش واصطفاني من بني هاشم . مسلم برقم (2276 ) . ولمن أراد الاستزادة فليراجع كتاب السنة لابن أبي عاصم (2/632) .
فالحاصل أن هناك من ألغى فضيلة الأنساب مطلقاً وهناك من يفضل الإنسان بنسبه على من هو أعظم منه في الإيمان والتقوى فضلاً عمن هو مثله . قال ابن تيمية في المنهاج (2/261) : فكلا القولين خطأ و هما متقابلان بل الفضيلة بالنسبة فضيلة جملة و فضيلة الأجل المظنة والمسبب ، والفضيلة بالإيمان والتقوى فضيلة تعيين وتحقيق وغاية ، فالأول يفضل به لأنه سبب وعلامة ، ولأن الجملة أفضل من جملة تساويها في العدد ، والثاني يفضل به لأنه الحقيقة والغاية ، ولأن كل من كان أتقى كان أكرم عند الله ، والثواب من الله يقع على هذا ، لأن الحقيقة قد وجدت فلم يعلق الحكم بالمظنة .
فالمقصود أن اشتراط القرشية في الإمام ليس له علاقة بالعصبية القبلية التي نهى الإسلام عنها البتة .
هذا وأهل السنة لم يقصوها على نوع بعينه من قريش وإنما كان من انتسب إلى قريش جازت له الإمامة إذا توفرت شروطها الأخرى ، و هناك من المبتدعة من قصرها على فرع معين ، فقصرها بعضهم على بني هاشم ، و هؤلاء انقسموا إلى قسمين :-(1/12)
1 الراوندية من أتباع أبي هريرة الراوندي من فرقة الكيسانية : و هؤلاء يرون أنها يجب أن تكون في العباس بن عبد المطلب وولده إلى أن ينتهوا بها إلى أبي جعفر المنصور .
2 الرافضة : و هؤلاء يرون أنها تكون في علي رضي الله عنه ثم في ولده من بعده ، ثم اختلفوا بعد ذلك إلى مذاهب شتى :
فزعمت الزيدية منهم أنها لا تكون إلا في ولد علي رضي الله عنه ومن خرج من ولج الحسن والحسين شاهراً سيفه و فيه آلات الإمامة فهو إمام ..
وزعمت الإمامية أنها في واحد مخصوص من أولاد علي رضي الله عنه و هو محمد بن الحسن العسكري الإمام الثاني عشر الذي ينتظرونه حيث قالوا : إن الإمامة في علي ثم الحسن ثم الحسين ثم تسلسلت في أبنائهم إلى محمد بن الحسن العسكري ( المنتظر ) .
وقال بعض الغلاة من الروافض : إن الإمامة في الأصل في علي وولده ثم أخرجوها إلى جماعة من غير قريش ،إما بدعواهم وصية بعض الأئمة إليه ، وإما بدعواهم تناسخ الأرواح من الإمام إلى من يزعمون أن الإمامة انتقلت إليه كالبيانية في دعواها انتقال روح الإله من أبي هاشم بن محمد بن الحنفية إلى بيان ، وكدعوى من ادعى أن الروح انتقلت إلى الخطاب الأسدي ، وكدعوى المنصورية بنوة أبي منصور العجلي وإمامته ، و كدعوى الإسماعيلية والنصيرية والدروز و غيرهم من لاطوائف الباطنية التي تظهر الرفض و التشيع والانتساب إلى آل البيت وباطنهم الكفر المحض . انظر : أصول الدين ( ص 275) . المقالات (1/96) واعتقاد فرق المسلمين للرازي (ص 95 ) .
تقييد السلطة في قريش والتوعد بخروج الأمر عنهم :-
هذا و مع ذلك فلم ترد هذه السلطة مطلقة ، وإنما مقيدة بإقامة الدين ، و توعدهم بخروج الأمر عنهم إذا لم يراعوا حقوقها ، فقد جاءت الأحاديث المشيرة إلى ذلك على ثلاثة أنحاء ..(1/13)
الأول : وعيدهم باللعن إذا لم يحافظوا على المأمور به كما في حديث : الأئمة من قريش ما فعلوا ثلاثاً ، ما إن استرحموا رحموا ، وإن عاهدوا وفوا ، وإن حكموا عدلوا ، فمن لم يفعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين . رواه الإمام أحمد في المسند (3/183) و قال الهيثمي رجاله ثقات ، انظر المجمع (5/192) و قد صحح أحمد شاكر هذا الإسناد في تخريجه للمسند برقم (7640) و صححه الشيخ الألباني رحمه الله كما في الجامع الصغير برقم (2755) .
قال ابن حجر : وليس في هذا ما يقتضي خروج الأمر عنهم . انظر : الفتح (13/116) .
الثاني : وعيدهم بأن يسلط الله عليهم من يبالغ في أذيتهم ، فعند أحمد من حديث ابن مسعود يرفعه : يا معشر قريش إنكم أهل هذا الأمر ما لم تعصوا الله ، فإذا عصيتموه بعث الله عليكم من يلحاكم كما يُلحى هذا القضيب ، لقضيب في يده ، ثم لحى القضيب فإذا هو أبيض يصلد . المسند (4/458) ور جال أحمد رجال الصحيح انظر : المجمع (5/192) .
و ليس في هذا تصريح بخروج الأمر عنهم أيضاً ، وإن كان في إشعار به .
الثالث : الإذن في القيام عليهم وقتالهم ، والإيذان بخروج الأمر عنهم ، كما أخرج الطيالسي والطبراني من حديث ثوبان يرفعه : استقيموا لقريش ما استقاموا لكم ، فإن لم يستقيموا فضعوا سيوفكم على عواتقكم فأبيدوا خضراءهم ، فإن لم تفعلوا فكونوا زرّاعين أشقياء . و الحديث وإن كان رجاله ثقات إلا أنه ضعيف لانقطاعه لأن سالم بن أبي الجعد لم يلق ثوبان .
قال الحافظ ابن حجر : و يؤخذ من بقية الأحاديث أن خروجه عنهم إنما يقع بعد إيقاع ما هددوا به من اللعن أولاً و هو الموجب للخذلان وفساد التدبير وقد وقع .. ثم التهديد بتسليط من يؤذيهم عليه و وجد ذلك .. ثم طرأ عليهم طائفة بعد طائفة حتى انتزاع الأمر منهم في جميع الأقطار ولم يبق للخليفة إلا مجرد الاسم في بعض الأمصار . الفتح (13/117) .
هل يجوز خلو قريش ممن هو صالح الإمامة ؟(1/14)
وعلى هذا التساؤل يجيب القاضي أبو يعلى بقوله : لا يجوز خلو قريش ممن يصلح للإمامة خلافاً للجبائي انظر المغني في أبواب التوحيد للقاضي عبدالجبار المعتزلي (20/239) و عليه أكثر المعتزلة كما يذكر أبن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة (9/87) ، - في قوله يجوز ، وإذا خلوا جاز نصب إمام من غيرهم يستوفي الحقوق ويقيم الحدود والدلالة عليه أنه قد ورد الشرع بالإمامة في قريش ، فلو خلت قريش ممن يصلح للإمامة كان فيه تكليف نصبه إماماً مع عدم القدرة ولا يجوز هذا . المعتمد في أصول الدين (ص 241) .
قلت : و يدل عليه أيضاً حديث ابن عمر المتقدم ( لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان ) وهذا وإن لم يُرد حقيقة العدد فإنما يدل على بقاء الوجوب إلى قيام الساعة ، ولا يمكن أن يوجب الشرع شيئاً لا وجود له ، و يدل عليه أيضاً حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( قريش ولاة الناس في الخير والشر إلى قيام الساعة ) . الترمذي (4/503) وقال حديث حسن صحيح .
و يستدل به أيضاً على عدم وقوع ما فرضه الفقهاء من الشافعية وغيرهم أنه إذا لم يوجد قرشي يستخلف كناني ، فإن لم يوجد فمن بني إسماعيل ، فإن لم يوجد منهم أحد مستجمع الشروط فعجمي ، و في وجه جرهمي وإلا فمن ولد إسحاق . انظر : نهاية المحتاج (7/409) .
قال ابن حجر : قالوا : وإنما فرض الفقهاء ذلك على عادتهم في ذكر ما يمكن أن يقع عقلاً ، وإن كان لا يقع عادة أو شرعاً . انظر : الفتح (13/119) .
الحكمة من اشتراط القرشية ..
من المسلم به أن كل تشريع من الله سبحانه وتعالى ولابد له من حكمة ومقصد شريف ، علمه من علمه و جهله من جهله ، و نحن لسنا مطالبين بمعرفة حكمة كل تشريع يرد ، بل مطالبون بالتحقق من صحة هذا التشريع ثم تنفيذه في واقع الحياة العملي سواء اتضحت لنا حكمته أم لا ، و من هذا القبيل اشتراط القرشية في الإمام .(1/15)
وقد حاول بعض العلماء الاهتداء إلى هذه الحكمة والتعرف عليها ، و من أشهرهم ابن خلدون ، وولي الله الدهلوي و محمد رشيد رضا ..
رأي ابن خلدون :-
قال ابن خلدون في المقدمة : إن الأحكام الشرعية كلها لابد لها من مقاصد وحكم تشتمل عليها و تشرع لأجلها ، و نحن إذا بحثنا عن الحكمة في اشتراط النسب القرشي و مقصد الشارع منه لم يقتصر فيه على التبرك بوصلة النبي صلى الله عليه وسلم كما هو في المشهور ، وإن كانت تلك الوصلة موجودة والتبرك بها حاصلاً ، لكن التبرك ليس من المقاصد الشرعية كما علمت ، .. فلابد إذن من المصلحة في اشتراط النسب و هي المقصودة من مشروعيتها ، وإذا سبرنا وقسنا لم نجد إلا اعتبار العصبية التي تكون بها الحماية والمطالبة ، و يرتفع الخلاف والفرقة بوجودها لصاحب المنصب لتسكن إليه الملة وأهلها ، و ينتظم حبل الإلفة فيها ، وذلك أن قريشاً كانوا عصبة مضر وأصلهم ، وأهل الغلب فيهم ، و كان لهم على سائر مضر العزة بالكثرة والعصبية والشرف ، فكان سائر العرب يعترف لهم بذلك ، و يستكينون لغلبهم ، فلو جُعل الأمر في سواهم لتوقع افتراق الكلمة .. و الشارع يحذر من ذلك ، لأنه حريص على اتفاقهم ورفع التنازع والشتات بينهم لتحصل اللحمة والعصبية و تحسن الحماية ، بخلاف ما إذا كان الأمر في غير قريش ، لأنهم قادرون على سوق الناس بعصا الغلب إلى ما يراد منهم فلا يخشى من أحد من خلاف عليهم ولا فرقة ، لأنهم كفيلون حينئذ بدفعها ومنع الناس منها ، فاشتراط نسبهم القرشي في هذا المنصب وهو أهل العصبية القوية ليكون أبلغ في انتظام الملة واتفاق الكلمة ..(1/16)
فإذا ثبت اشتراط القرشية إنما هو لدفع التنازع بهما كان لهم من العصبية والغلب ، وعلمنا أن الشارع لا يخص الأحكام بجيل ولا عصر ولا أمة معينة ، علمنا أن ذلك إنما هو من الكفاية ، فرددناه إليها وطردنا العلة المشتملة على المقصود من القرشية وهي وجود العصبية ، فاشترطنا في القائم بأمور المسلمين أن يكون من قوم أولي عصبية قوية غالبة على من معها . المقدمة ( ص 195 196 ) . بتصرف .
مناقشة هذا الرأي ..
هذا هو كلام ابن خلدون في الحكمة من اشتراط القرشية .. وأنت تلاحظ أنه جعل مدار علة الشرط هو العصبية ، فإن وجدت وجد الشرط وإن عدمت عدم ، فإذا لم تكن لقريش عصبية فعلى رأيه لا يلزم أن تكون الإمامة فيهم ، بل يجب أن تكون في الأقوى عصبية في ذلك العصر وإن كان من غير قريش . و ممن ذهب إلى هذا الرأي عدد من الكتّاب المحدثين مثل : د . محمد ضياء الدين الريس في كتابه النظريات السياسية الإسلامية ( ص 302) ، و د . محمد فاروق النبهان في كتابه نظام الحكم في الإسلام ( ص 470 ) و د . محمد فؤاد النادي في كتابه طرق اختيار الخليفة ( ص 107 ) و مؤلفو الخلافة وسلطة الأمة ( ص 23 ) تعريب عبد الغني سني . و إليه ذهب الشيخ عبدالوهاب خلاف في السياسة الشعرية ( ص 56 ) و استحسنه الأستاذ محمد يوسف موسى في نظام الحكم في الإسلام ( ص 69) .
لكن عند استقراء النصوص لا نجد أنها تدل على ذلك ، فالتشريع الإسلامي جاء تشريعاً للحياة من أول النبوة المحمدية إلى قيام الساعة ، فهو غير خاص بزمان معين أو مكان محدد ، ولو كان المراد العصبية لنص عليها النبي صلى الله عليه وسلم ، أو للزم أن تكون العصبية دائماً لقريش ، لأن النصوص نصت على قريش بالذات ، و هذا ما يقول به أحد خلاف الواقع ، فدل على بطلان ذلك .(1/17)
وكذلك لو كانت العلة هي العصبية فقط لكانت الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم في أقوى بيوت قريش عصبية ، والواقع يخالف ذلك ، فالخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر الصديق بإجماع أهل السنة ، و هو من تيم وليست بأقوى بطون قريش في ذلك العصر ، ولا بأكثرهم عصبية ، بل كانت بنو هاشم أقوى منهم شوكة وأكثر عصبية ، ولم تكن الخلافة الأولى فيهم ، فدل على أن المقصود ليس هو العصبية .. والله أعلم .
رأي ولي الله الدهلوي :
وممن حاول التماس الحكمة أيضاً في اشتراط النسب القرشي ، شاه ولي الله الدهولي ، حيث قال : والسبب المقتضي لهذا أي اشتراط النسب القرشي في الإمامة أن الحق الذي أظهره الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم إنما جاء بلسان قريش وفي عاداتهم ، وكان أكثر ما تعيّن من المقادير والحدود ما هو عندهم ، وكان المعدّ لكثير من الأحكام ما هو فيهم ، فهم أقوى به وأكثر الناس تمسكاً بذلك ، وأيضاً فإن قريشاً قوم النبي صلى الله عليه وسلم و حزبه ولا فخر لهم إلا بعلو دين محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد أجتمع فيهم حمية دينية وحمية نسبية فكانوا مظنة القيام بالشرائع والتمسك بها ، وأيضاً فإنه يجب أن يكون الخليفة ممن لا يستنكف الناس عن طاعته ، لجلالة نسبه و حسبه ، فإن من لا نسب له يراه الناس حقيراً ذليلاً ، وأن يكون ممن عرف منهم الرئاسات والشرف ، ومارس قومه جمع الرجال ونصب القتال ، وأن يكون قومه أقوياء يحمونه وينصرونه ويبذلون دونه الأنفس ولم تجتمع هذه الأمور إلا في قريش لاسيما بعدما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ونبه به أمر قريش . انظر : حجة الله البالغة (2/737) .
رأي محمد رشيد رضا :(1/18)
وقريب من هذا ما ذهب إليه الشيخ محمد رشيد رضا في مجال التماسه لهذه الحكمة حيث يقول : إن الله تعالى ختم دينه وأكمله بكتابه الحكيم الذي أنزله قرآناً عربياً و حكماً عربياً ، على خاتم رسله العربي القرشي ، واقتضت حكمته أن يكون نشره في مشارق الأرض ومغاربها بدعوة قريش وزعاماتهم وقوة العرب وحماية هذه الدعوة بسيوفهم ، و كل من دخل في الإسلام من الأعجم وكان له عمل صالح في ه كان تابعاً لهم متلقياً عنهم ، على مساواة الشرع في أحكامه بينهم ، ونبوغ كثير من مواليهم الذين استعربوا لهم ، وكانت قريش في جملة بطونها أكمل العرب خلقاً وأخلاقاً وفصاحة وذكاء وفهماً وقوة عارضة ، كما كانت أصرح نسباً في سلالة إسماعيل ، وأشرف تأريخاً في العرب بفضائلها وفواضلها ، و خدمتها لبيت الله تعالى ، فكان مجموع هذه المزايا التي كملت بالإسلام مؤهلاً لها لاجتماع كملة العرب عليها ، ثم كلمة من يدخل في الإسلام من شعوب العجم بالأولى ، و لا سيما بعد النص من الرسول صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة عليه .. ثم يقول : فحكمة جعله صلوات الله وسلامه عليه خلافة نبوته فيها وسببه أمران :-
1 كثرة المزايا التي تنتشر بها الدعوة وتكون بحسب طباع البشر سبباً لجمع الكلمة ، ومنع المعارضة والمزاحمة أو ضعفها وكذلك كان .
2 أن تكون إقامة الإسلام متسلسلة في سلائل أول من تلقاها ودعا إليها ونشرها حتى لا ينقطع اتصال سيرها المعنوي والتأريخي .. انظر : الخلافة أو الإمامة العظمى ( ص 21 ) .
مناقشة هذين الرأيين :-(1/19)
وهكذا يلاحظ أن كلاً من الدهلوي و رشيد رضا يرى الحكمة من اشتراط القرشية لما لهذه القبيلة من المنزلة والفضل والمكانة ، و قد يكون هذا هو السبب وقد يكون غيره على أننا لا نسلم بجميع هذه النقاط الجزئية التي ذكراها ، وعلى سبيل المثال قول الدهلوي : ( الحق الذي أظهره الله على لسان نبيه إنما جاء بلسان قريش وفي عاداتهم .. ) ، فهذا ليس على إطلاقه ، فأكثر عاداتهم حاربها الإسلام وحرمها ولم يقر من عاداتهم إلا القليل جداً ، والتي تتلاءم وما جاء به الإسلام ، كإكرام الضيف و نحوه بعد أن صبغها الإسلام ، فلا يجوز أن نقول : إن الإسلام جاء بعادات قريش .
و نحوها في كلام الأستاذ محمد رشيد رضا رحمه الله في عده خدمة قريش لبيت الله الحرام من المزايا والفضائل ، فهذه لا ترفع منزلتهم على الذين آمنوا بالله واليوم الآخر بنص القرآن : { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر .. } الآية من سورة التوبة . وإن كان لهذه الخدمة منزلة عند العرب وفضيلة لقريش على غيرها ، وعمارة المساجد من أفضل القربات عند الله ، لكنها لا تنفع صاحبها إذا خلت من الإيمان { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر .. } الآية .
و كذلك قوله : ( واقتضت حكمته أن يكون نشره في مشارق الأرض ومغاربها بدعوة قريش وزعامتهم ) ، فهذا غير مسلم به ، لأن الدعوة أول ما انتشرت كانت بمساهمة جميع المسلمين من قريش ، ومن الأنصار ومن القبائل العربية الأخرى ، بل من الأعاجم أيضاً ، فكان كل فرد يأتي فيسلم و يتعلم أمور الدين ثم ينقلب إلى قبيلته داعياً إلى الله فيؤمن على يديه الخلق الكثير ، وقد تؤمن القبيلة بأكملها بسبب هذا الداعية فينضمون إلى جند الله ناشرين لهذا الدين وداعين له ، وبذلك انتشرت الدعوة في مشارق الأرض ومغاربها ، و كانوا تحت قيادات مختلفة قرشية و غير قرشية .(1/20)
وكذلك اعتباره كونها في سلسلة واحدة متصلة من الأسباب التي خصت قريش بالإمامة ، فهذا أيضاً غير مسلم ، لأنه قد يفهم من ذلك التوارث في الإمامة ، وهذا قد اتفق العلماء على أنه ليس من الإسلام في شيء ، و لم يقل به إلا الروافض . انظر : الفصل في الملل والنحل (4/167 ) .
والآن نأتي إلى الرأي الراجح في هذه المسألة .. و هي الحكمة في اشتراط القرشية في الإمامة ..
قلت والله أعلم : أن قريشاً هي أفضل قبائل العرب بنص الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فمعن واثلة بن الأسقع قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله اصطفى قريشاً من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم . رواه مسلم وقد سبق تخريجه في حلقة مضت .
فالعرب في الأجناس و قريش في العرب مظنة أن يكون فيهم الخير أعظم مما يوجد في غيرهم ، ولهذا كان منهم أشرف خلق الله النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي لا يماثله أحد في قريش ، فضلاً عن وجوده في سائر العرب وغير العرب ، و كان منهم الخلفاء الراشدون وسائر العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم ، وغيرهم ممن لا يوجد له نظير في العرب وغير العرب ، وكان في العرب السابقون الأولون ممن لا يوجد لهم نظير في سائر الأجناس ، فلابد أن يوجد في الصنف الأفضل مالا يوجد مثله في المفضول ، فمظنة وجود الفضلاء في قريش أكثر من مظنة وجودهم في غيرها ، و لم يخص النبي صلى الله عليه وسلم بني هاشم دون غيرهم من قريش و هو أفضل بطون قريش ، لأنها بطن من قبيلة فعددها محصور وقليل ، فلا يلزم أن يكون الفضلاء فيها ، كما أن أفضل الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن فيهم ، وإنما في بني تيم و هو أبو بكر ، ثم عمر من بني عدي ، ثم عثمان من بني أمية ، ثم علي من بني هاشم .(1/21)
ومما يدل على فضل العرب على غيرهم قول الإمام أحمد في رواية الإصطخري عند ذكر عقيدته : و يعرف للعرب حقها وفضلها وسابقتها و يحبهم لحديث : ( حبهم إيمان و بغضهم نفاق ) ولا بقول الشعوبية وأراذل الموالي الذين لا يحبون العرب ولا يقرون لهم بفضل ، فإن لهم بدعاً ونفاقاً وخلافاً . انظر : طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/30 ) .
ومن الحكمة أيضاً أن الله سبحانه وتعالى قد ميزهم عن غيرهم من سائر القبائل بقوة النبل وسداد الرأي ، و هما صفتان هامتان وضروريتان للإمام ، يدل على ذلك الحديث الذي رواه الإمام أحمد بسنده عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن للقرشي مِثلَي قوة الرجل من غير قريش ) فقيل للزهري : ما عني بذلك ؟ قال نبل الرأي . المسند (4/81 ) و المستدرك للحاكم (4/72 ) وصححه على شرط البخاري ومسلم وأقره الذهبي .
وقد يكون هذا هو السبب في تخصيص قريش بالإمامة وقد يكون غيره ، ولا أثر لعدم معرفتنا الحكمة من ذلك على الحكم العام والعمل به و هو اشتراط القرشية في المرشح للإمامة .
و هذا الشرط كغيره من الشروط التي لا تشترط إلا عند الاختيار من قبل أهل الحل والعقد ، وأما إذا كان تولي الإمام الإمامة بغير هذه الطريقة فلا يشترط فيه القرشية كالمتغلب مثلاً ومن عهد إليه من إمام سابق و خشيت الفتنة إن عُزل ، ففي مثل هذه الحالة تجب طاعته في غير معصية ، والجهاد معه ونحو ذلك ، وله من الحقوق ما للقرشي بنص الأحاديث النبوية والموجبة لطاعة المتغلب وإن لم تكتمل فيه جميع هذه الشروط ، كقوله صلى الله عليه وسلم : ( إلا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية الله ؛ فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يداً من طاعة ) مسلم برقم (1855) . والله أعلم .
وإتماماً للفائدة ألحق بالموضوع سؤال وجه إلي من قبل أحد الإخوة الأفضل و نصل السؤال هو :
((1/22)
كيف يمكن لنا إثبات قرشية نسب المرشح لتولي مهام قيادة الدولة الإسلامية الجديدة بعد مضي أربعة عشر قرنا على بزوغ فجر الإسلام ) ؟
الجواب : لمعرفة النسب القرشي يجب أولاً معرفة من هي قريش أصلاً .. و قبيلة قريش هم أولاد قريش ، واختلف النسابون في قريش هذا ، من هو ؟ على عدة أقوال :
القول الأول : قيل هو النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر . قال ابن هشام : النضر قريش ، فمن كان من ولده فهو قرشي ، و من لم يكن من ولده فليس بقرشي . انظر : سيرة ابن هشام (1/93 ) .
وإلى هذا القول ذهب بعض الشافعية ، و يدل على ذلك ما ذكره ابن إسحاق وغيره في قصة وفد كندة ، أن الشعث بن قيس قال : يا رسول الله ، نحن بنو آكل المرار ، و أنت ابن آكل المرار ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ناسبوا بهذا النسب العباس بن عبد المطلب و ربيعة بن الحارث .. ثنم قال لهم : لا بل نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفوا أمّنا ولا نقتفي من أبينا ، - قفى أمه : أي رماها بالفجور و انتفى من أبيه أي انتسب إلى غير أبيه فقال الأشعث بن قيس : هل فرغتم يا معشر كندة ؟ والله لا أسمع رجلاً يقولها إلا ضربته ثمانين . ابن هشام (4/4/585) . والمرار من شجر البوادي ، وآكل المرار هو الحارث بن عمرو بن حجر بن عمرو بن معاوية بن كندة ، و للنبي صلى الله عليه وسلم جدة من كندة مذكورة ، و هي أم كلاب ابن مرة ، وإياها أراد الأشعث . عن زاد المعاد (3/40 ) .
قال البغدادي : وهذا اختيار أبي عبيدة معمر بن المثنى وأبي عبيد القاسم بن سلام و به قال الشافعي رضي الله عنه وأصحابه . انظر : أصول الدين ( ص 276 ) .
و هو قول ابن حزم في جمهرة أنساب العرب (ص 12 ) ، و ابن منظور في لسان العرب ( 6/334 ) ، وقول الحافظ ابن حجر في الفتح (6/534) و ابن القيم في زاد المعاد ( 3/40 ) .(1/23)
القول الثاني : أن قريشاً هو فهر بن مالك ، قال الزبيري : قالوا : اسم فهر بن مالك ، قريشي ، و من لم يلد فهرٌ فليس من قريش . نسب قريش ( ص 12 ) ، وقال الزبيدي : والصحيح عند أئمة النسب أن قريشاً هو فهر بن مالك بن النضر وهو جماع قريش وهو الجد الحادي عشر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكل من لم يلده فليس بقرشي . إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين (2/30 ) .
قيل اسمه فهر ولقبه قريش وقيل العكس ، و قد روي عن نسابي العرب أنهم قالوا : من جاوز فهراً فليس من قريش . شرح المواهب للزرقاني (1/75 ) .
قال الزهري : وهو الذي أدركت عليه من أدركت من نسابي العرب أن من جاوز فهراً فليس من قريش . زاد المعاد (3/40 ) .
قال الشنقيطي : فالفهري قرشي بلا نزاع ، و من كان من أولاد مالك بن النضر ،أو أولاد النضر بن كنانة ففيه خلاف ، و من كان من أولاد كنانة من غير النضر فليس بقرشي بلا نزاع . أضواء البيان (1/52 ) .
و يدل على ذلك ما رواه واثلة بن الأسقع قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم . مسلم برقم (2276 ) .
وهناك أقوالاً أخرى ضعيفة في هذا الموضوع راجعها في : أصول الدين للبغدادي ( ص 277 ) .
و عن سبب تسمية قريش قريشاً : قال ابن إسحاق : يقال سميت قريش قريشاً لتجمعها من بعد تفرقها . سيرة ابن هشام (1/93-94 ) .
وقال الزبيدي : وحكى بعضهم في تسمية فهر بقريش عشرين قولاً أوردتها في شرحي على القاموس . انظر : تاج العروس (4/337 ) . وقيل غير ذلك ، للاستزادة راجع نسب قريش لابن مصعب الزبيري ( ص 12 ) و لسان العرب مادة ( قرش ) ( 6/335 ) و فتح الباري (6/534 ) .(1/24)
أما عن كيفية إثبات صحة هذا النسب ، فهذا الشيء يتولاه أهل الاختصاص و أهل النسب و هم كثير والحمد لله ، فالمرجع هم أهل الأنساب المتخصصون بذلك وهم موجودون بكثرة والحمد لله وقريش باقية إلى قرب قيام الساعة كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم نحو قوله: لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان .
وأما إذا لم نتيقن فالعبرة بغلبة الظن أنه من قريش . ولا يجوز الطعن في النسب إلا بيقين وشيء واضح كالشمس وإلا فالطعن في الأنساب من أمر الجاهلية.
و أضيف أيضاً : أنه إذا لم نستطع إثبات هذه القرشية ، فالحل هو كما حكاه أهل العلم من إمكانية قيام المفضول بتولي الولاية مع وجود الأفضل إذا كان هذا الأفضل لم تتوفر فيه شروط الولاية وهي : الإسلام والبلوغ و العقل و الحرية وأن يكون ذكراً والعلم و لاجتهاد مع وجود الخلاف في ذلك ، والعدالة والكفاية النفسية والكفاية الجسمية وعدم الحرص على الإمامة إلى باقي الشروط ، فإن توفرت هذا الشروط في إمام مفضول فإنه يكون أولى لأنه الأقدر على تحقيق أهداف الإمامة وهو أولى بالتنصيب . لأنه إذا كان صالحاً في نفسه ضعيفاً في تدبير الأمور أثر هذا الضعف على جميع الأمة ، أما إذا كان قوياً في سياسته وحسن تدبيره و عنده شيء من التقصير في الطاعة فإن هذا التقصير ترجع مضرته على نفسه دون الأمة ، فهو أولى بالتقديم ، و لذلك منع الرسول صلى الله عليه وسلم أباذر رضي الله عنه من التولية وبين له السبب في منعه ، فعنه رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله ألا تستعملني ؟ قال : فضرب بيده على منكبي ثم قال : يا أبذر إنك ضعيف ، وإنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزي وندامة ، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها . مسلم برقم (1825) .(1/25)
أما إذا اجتمع الفضل والمصلحة في شخص واحد فهو أولى بالتقديم بلا شك ، وإنما يصار إلى الثاني لأجل المصلحة العامة وخوف وقوع الفتنة ، وهذا ما حدا بعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أن لا يولي رجلاً صالحاً بعده ، كما قال مالك رحمه الله للعمري : أتدري ما الذي منع عمر بن عبد العزيز أن يولي رجلاً صالحاً ؟ قال العمري : لا أدري ، قال مالك : لكني أنا أدري ، إنما كانت البيعة ليزيد بعده ، فخاف عمر إن ولّى رجلاً صالحاً أن يكون ليزيد بُد من القيام فتقوم هجمة فيفسد ما لا يصلح . الاعتصام للشاطبي (2/128 ) وذكرها استدلالاً على العمل بالمصالح المرسلة .
قال الشاطبي تعليقاً على هذه الرواية : فظاهر هذه الرواية أنه إذا خيف عند خلع غير المستحق وإقامة المستحق أن تقع فتنة وما لا يصلح ، فالمصلحة في الترك . السياسة الشرعية لابن تيمية ( ص 14 ، 15 ) .
و قد حدد بعضهم عدداً من الأسباب تجعلنا نعدل عن الأفضل إلى المفضول في الإمامة .. أذكرها تتمة للفائدة واستكمالاً للموضوع .
حدد القاضي عبد الجبار من المعتزلة في كتاب المغني في أبواب التوحيد والعدل ( القسم الأول ص 227-228 ) أسباب معينة تقتضي في رأيه جواز العدول عن إمامة الفاضل إلى المفضول إذا وجد أحد هذه الأسباب وهي :-
1 أن يكون في الأفضل علة تخرجه من أن يصح كونه إماماً ، نحو أن تكون بعض الشرائط التي يحتاج إليها الإمام مفقودة ، كالعلم والمعرفة بالسياسة .
2 أن يكون الأفضل من غير قريش ، فيقدم المفضول من قريش عليه لثبوت السمع الدال على أن الإمامة في قريش .
3 أن يقترن إلى حال المفضول ما يجعله بالتقديم أحق وإن كان الأول سليم الحال ، وذلك بحق شهرة فضلة وصلاحه عند الخاص والعام دون الأفضل ، فيكون بالتقديم أولى ، لأن النفوس إليه أسكن ولأن الفضل المطلوب في الإمامة إنما يراد لما يعود على الكافة من المصلحة .(1/26)
4 كذلك القول في من يعرف أن انقياد الناس له أكثر واستقامتهم إليه أتم وشكواهم إليه أعظم ، فهو بالتقديم أحق ممن هو أفضل منه إذا لم يكن هذا حاله .
5 إذا كان في حال العقد عارض يقتضي تقديم المفضول ، نحو أن يكون المفضول في البلد الذي مات فيه الإمام ومست الحاجة إلى نصب آخر وإن أُخّر نصب المفضول أدى إلى فتنة أو ما شاكلها ، أو أن يكون الفاضل غائباً أو مريضاً أو نحو ذلك .
إما إذا لم يوجد هناك أي سبب يؤدي إلى تقديم المفضول على الفاضل فالأولى تقديم الأفضل لأنه الأصلح قطعاً ، وإذا بايع أهل الحل والعقد المفضول ولو لم يكن هناك أي سبب فالإمامة له منعقدة وطاعته واجبة .
والله أعلم والحمد لله رب العالمين ..
أخوك : أبو عبد الله الذهبي ..(1/27)