نور الاقتباس
في مشكاة وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس
تصنيف
الحافظ الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي
رحمه الله تعالى
(736-795هـ)
تحقيق وتعليق
محمد بن ناصر العجمي
دار البشائر الإسلامية
الطبعة الثالثة
1414 هـ - 1993 م(/)
بسم الله الرحمن الرحيم. وبه نستعين
الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، وصلى الله على محمد النبي الأمي وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
خرج الإمام أحمد من حديث حنش الصنعاني عن ابن عباس قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا غلام -أو يا غليم- ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن؟)) فقلت: بلى. فقال: ((احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة. وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، قد جف القلم بما هو كائنٌ، فلو أن الخلق كلهم جميعاً أرادوا أن ينفعوك بشيءٍ لم يقضه الله لم يقدروا عليه، وإن أرادوا أن يضروك بشيءٍ لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه. واعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً)).
هكذا ساقه من طريق حنش مع إسنادين آخرين منقطعين، وفي السياق أنه لا يحفظ حديث بعضهم من بعض.(1/33)
وخرجه أيضاً من طريق حنش وحده مختصراً ولفظه:
((يا غلام، إني محدثك حديثاً، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، فقد رفعت الأقلام وجفت الكتب، فلو جاءت الأمة ينفعوك بشيءٍ لم يكتبه الله لك لما استطاعت ولو أرادت أن تضرك بشيءٍ لم يكتبه الله لك لما استطاعت)).
وخرجه الترمذي بنحو هذا السياق المختصر، ولفظه:
((إني أعلمك كلماتٍ: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيءٍ لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف)).
وقال: ((حديثٌ حسنٌ صحيحٌ)).
وقال الحافظ أبو عبد الله ابن منده: ((لهذا الحديث طرق عن ابن عباس وهذا أصحها)). قال: ((وهذا إسناد مشهور، ورواته ثقات)).
قلت: قد روي هذا الحديث عن ابن عباس من رواية جماعة. فمنهم: علي ابنه، وعطاء، وعكرمة، ومن رواية عمر مولى غفرة عنه، وعبد الملك بن عمير وابن أبي مليكة عن(1/34)
ابن عباس. وقيل: إنهما لم يسمعا منه، وفي أسانيدها جميعها [كلها] مقال، وفي ألفاظها بعض الزيادة والنقص.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وصى بذلك ابن عباس من حديث علي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري، وسهل بن سعد، وغيرهم من الصحابة، وفي أسانيدها أيضاً مقال. وذكر العقيلي أن أسانيد الحديث كلها لينة، وبعضها أصلح من بعض.
قلت: وأجود أسانيده من رواية حنش عن ابن عباس التي ذكرناها، وهو إسناد حسن لا بأس به.
وقد استوفينا ذكر طرق الحديث مع الكلام عليها في كتاب ((شرح الترمذي)).(1/35)
ومقصودنا ههنا الكلام على معنى الحديث وشرح ألفاظه، فإنه تضمن وصايا عظيمة وقواعد كلية من أهم أمور الدين وأجلها. حتى قال الإمام أبو الفرج في كتابه ((صيد الخاطر)): ((تدبرت هذا الحديث فأدهشني وكدت أطيش))، ثم قال: ((فوا أسفا من الجهل بهذا الحديث، وقلة الفهم لمعناه)).(1/40)
فقوله صلى الله عليه وسلم : ((احفظ الله يحفظك))
يعني احفظ حدود الله وحقوقه وأوامره ونواهيه، وحفظ ذلك هو الوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده فلا يتجاوز ولا يتعدى ما أمر به إلى ما نهي عنه، فدخل في ذلك فعل الواجبات جمعيها وترك المحرمات كلها، كما في حديث أبي ثعلبة المرفوع:
((إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم حرماتٍ فلا تنتهكوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها)).
وذلك كله يدخل في حفظ حدود الله كما ذكره الله في قوله:
{والحافظون لحدود الله.. .. } الآية.
وقال تعالى:
{هذا ما توعدون لكل أوابٍ حفيظٍ. من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلبٍ منيبٍ}.(1/41)
وفسر الحفيظ ههنا بالحافظ لأوامر الله، وفسر بالحافظ لذنوبه حتى يرجع عنها، وكلاهما يدخل في الآية.
ومن حفظ وصية الله لعباده وامتثلها فهو داخل أيضاً، والكل يرجع إلى معنى واحد.
وقد ورد في بعض ألفاظ حديث يوم المزيد في الجنة:
((إن الله تعالى يقول لأهل الجنة، إذا استدعاهم إلى زيارته وكشف لهم الحجب: مرحباً بعبادي الذين حفظوا وصيتي، ورعوا عهدي، وخافوني بالغيب، وكانوا مني على كل حالٍ مشفقين)).
فأمره صلى الله عليه وسلم لابن عباس بحفظ الله يدخل فيه هذا كله.
ومن أعظم ما يجب حفظه من المأمورات الصلوات الخمس. قال تعالى:
{حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى}.
وقال تعالى: {والذين هم على صلاتهم يحافظون}.(1/42)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم :
((من حافظ عليها .. .. كان له عند الله عهدٌ أن يدخله الجنة)) الحديث.
وفي حديث آخر:
((من حافظ عليهن كن له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة)) الحديث.
وكذلك الطهارة فإنها مفتاح الصلاة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمنٌ)).(1/43)
فإن العبد تنتقض طهارته ولا يعلم بذلك إلا الله، فالمحافظة على الوضوء للصلاة دليل على ثبوت الإيمان في القلب.
ومما أمر الله تعالى بحفظه الأيمان لما ذكر كفارة اليمين قال:
{ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم}.
فإن الأيمان كثيراً ما تقع من الناس وموجباتها مختلفة. فتارة يجب فيها كفارة يمين وتارة يجب فيها كفارة مغلظة، وتارة يلزم بها المحلوف عليه من طلاق ونحوه. فمن حفظ أيمانه دل على دخول الإيمان في قلبه.
وكان السلف كثيراً يحافظون على الأيمان، فمنهم من كان لا يحلف بالله ألبتة، ومنهم من كان يتورع حتى يكفر عما شك في الحلف فيه. ووصى الإمام أحمد عند موته أن يخرج عنه كفارة يمين، وقال: أظن أني حنثت في يمين حلفتها.
وقد روي عن أيوب -عليه السلام- كان إذا مر باثنين(1/44)
فقوله صلى الله عليه وسلم : ((احفظ الله يحفظك))
يعني احفظ حدود الله وحقوقه وأوامره ونواهيه، وحفظ ذلك هو الوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده فلا يتجاوز ولا يتعدى ما أمر به إلى ما نهي عنه، فدخل في ذلك فعل الواجبات جمعيها وترك المحرمات كلها، كما في حديث أبي ثعلبة المرفوع:
((إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم حرماتٍ فلا تنتهكوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها)).
وذلك كله يدخل في حفظ حدود الله كما ذكره الله في قوله:
{والحافظون لحدود الله.. .. } الآية.
وقال تعالى:
{هذا ما توعدون لكل أوابٍ حفيظٍ. من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلبٍ منيبٍ}.(1/45)
وحفظ الرأس وما وعى يدخل فيه حفظ السمع والبصر واللسان من المحرمات. وحفظ البطن وما حوى يتضمن حفظ القلب عن الإصرار على محرم. وقد جمع الله ذلك كله في قوله تعالى:
{إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً}.
ويدخل في حفظ البطن وما حوى: حفظه من إدخال الحرام إليه من المأكولات والمشروبات.
ومما يجب حفظه من المنهيات: حفظ اللسان والفرج. وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :
((من حفظ ما بين لحييه وما بين رجليه دخل الجنة)). خرجه الحاكم.(1/46)
وخرجه البخاري من حديث سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولفظه: ((من يضمن لي ما بين لحييه ورجليه، أضمن له الجنة)).
وفي ((مسند الإمام أحمد)) عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من حفظ ما بين فقميه وفرجه دخل الجنة)).
وقد أمر الله تعالى بحفظ الفروج خاصة، ومدح الحافظين لها. قال تعالى:
{قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم.. .. }.
[و] قال تعالى:
{والحافظين فروجهم والحافظات}.
وقال تعالى:(1/47)
{والذين هم لفروجهم حافظون. إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين.. .. } الآية.
وقد روي عن أبي إدريس الخولاني: أن أول ما وصى الله آدم عند إهباطه إلى الأرض بحفظ فرجه، وأن لا يضعه إلا في حلال.(1/48)
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((يحفظك))
يعني أنه من حفظ حدود الله وراعى حقوقه حفظه الله فإن الجزاء من جنس العمل، كما قال تعالى:
{وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم}.
وقال: {فاذكروني أذكركم}.
وقال: {إن تنصروا الله ينصركم}.
وحفظ الله لعبده يتضمن نوعين:
أحدهما: حفظه له في مصالح دنياه، كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله.
وفي حديث ابن عمر قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح:
((اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، واحفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي)).(1/49)
خرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه.
وهذا الدعاء منتزع من قوله عز وجل:
{له معقباتٌ من بين يديه ومن خلفه.. .. } الآية.
قال ابن عباس: هم الملائكة يحفظونه بأمر الله، فإذا جاء القدر خلوا عنه.
وقال علي رضي الله عنه: إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر، فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه، وإن الأجل جنةٌ حصينة.
وقال مجاهد: ما من عبد إلا له ملك يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما من شيء يأتيه إلا قال: وراءك. إلا شيئاً قد أذن الله فيه فيصيبه.
ومن حفظ الله للعبد: أن يحفظه في صحة بدنه وقوته وعقله وماله. قال بعض السلف: العالم لا يخرف. وقال بعضهم: من جمع القرآن متع بعقله. وتأول بعضهم على ذلك قوله تعالى:(1/50)
{ثم رددناه أسفل سافلين. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات}.
وكان أبو الطيب الطبري قد جاوز المائة سنة وهو ممتع بعقله وقوته، فوثب يوماً من سفينة كان فيها إلى الأرض وثبة شديدة، فعوتب على ذلك، فقال: هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر، فحفظها الله علينا في الكبر.
وعكس هذا أن الجنيد رأى شيخاً يسأل الناس، فقال: إن هذا ضيع الله في صغره، فضيعه الله في كبره.
وقد يحفظ الله العبد بصلاحه في ولده وولد ولده، كما قيل في قوله تعالى:
{وكان أبوهما صالحاً}.
إنهما حفظا بصلاح أبيهما.
وقال محمد بن المنكدر: إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده وقريته التي هو فيها، والدويرات التي حولها، فما يزالون في حفظ من الله وستر.
وقال ابن المسيب لابنه: با بني! [إني] لأزيدن في صلاتي من أجلك، رجاء أن أحفظ فيك. وتلا هذه الآية:
{وكان أبوهما صالحاً}.(1/51)
وقال عمر بن عبد العزيز: ما من مؤمن يموت إلا حفظه الله في عقبه وعقب عقبه.
وقال يحيى بن إسماعيل بن سلمة بن كهيل: كان لي أخت أسن مني فاختلطت وذهب عقلها وتوحشت، وكان في غرفة في أقصى سطوحنا فمكثت بذلك بضع عشرة سنة، فبينما أنا نائم ذات ليلة إذا باب بيتي يدق نصف الليل، فقلت: من هذا؟! قالت: كجه. فقلت: أختي؟ قالت: أختك. ففتحت الباب فدخلت ولا عهد لها بالبيت أكثر من عشر سنين فقالت: أتيت الليلة في منامي فقيل لي: إن الله قد حفظ أباك إسماعيل لسلمة جدك، وحفظك لأبيك إسماعيل، فإن شئت دعوت الله فذهب ما بك، وإن شئت صبرت ولك الجنة، فإن أبا بكر وعمر قد شفعا لك إلى الله عز وجل بحب أبيك وجدك إياهما. فقلت: فإذا كان لا بد من اختيار أحدهما فالصبر على ما أنا فيه والجنة، وإن الله عز وجل لواسع بخلفه لا يتعاظمه شيء، إن شاء أن يجمعهما لي فعل. قالت: فقيل لي: فإن الله تعالى قد جمعهما لك ورضي عن أبيك وجدك بحبهما أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، قومي فانزلي فأذهب الله ما كان بها.
ومتى كان العبد مشتغلاً بطاعة الله عز وجل، فإن الله تعالى يحفظه في تلك الحال كما في مسند الإمام أحمد عن حميد بن هلال عن رجل قال:(1/52)
أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو يريني بيتاً، فقال: ((إن امرأة كانت فيه فخرجت في سرية من المسلمين وتركت ثنتي عشرة عنزاً [لها] وصيصيتها، كانت تنسج بها، قال: ففقدت عنزاً [من غنمها] وصيصيتها فقالت: يا رب، إنك قد ضمنت لمن خرج في سبيلك أن تحفظ عليه، وإني قد فقدت عنزاً من غنمي وصيصيتي، وإني أنشدك عنزي وصيصيتي. قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شدة مناشدتها ربها تبارك وتعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((فأصبحت عنزها ومثلها وصيصيتها ومثلها، وهاتيك، فائتها [فسألها] إن شئت))، قال: قلت: بل أصدقك.
وكان شيبان الراعي يرعى غنماً في البرية، فإذا جاءت الجمعة خط عليها خطاً وذهب إلى الجمعة ثم يرجع وهي كما تركها.
وكان بعض السلف في يده الميزان يزن بها دراهم فسمع الأذان فنهض ونفضها عن الأرض وذهب إلى الصلاة، فلما عاد جمعها فلم يذهب منها شيء.
ومن أنواع حفظ الله لمن حفظه في دنياه: أن يحفظه من شر(1/53)
كل من يريده بأذى من الجن والإنس. كما قال تعالى:
{ومن يتق الله يجعل له مخرجاً}.
قالت عائشة: يكفيه غم الدنيا وهمها.
قال الربيع بن خثيم: يجعل له مخرجاً من كل ما ضاق على الناس.
وكتبت عائشة إلى معاوية: ((إن اتقيت الله كفاك الناس، وإن اتقيت الناس لم يغنوا عنك من الله شيئاً)).
وكتب بعض الخلفاء إلى الحكم بن عمرو الغفاري كتاباً يأمره فيه بأمر يخالف كتاب الله، فكتب إليه الحكم: إني نظرت في كتاب الله فوجدته قبل كتاب أمير المؤمنين، وإن السموات والأرض لو كانتا رتقاً على امرئ فاتقى الله -عز وجل-، جعل الله مخرجاً، والسلام.
وأنشد بعضهم:
بتقوى الإله نجا من نجا ... وفاز وصار إلى ما رجا
ومن يتق الله يجعل له ... كما قال من أمره مخرجا
كتب بعض السلف إلى أخيه: ((أما بعد، فإنه من اتقى الله فقد حفظ نفسه، ومن ضيع تقواه فقد ضيع نفسه، والله الغني عنه)).
ومن عجيب حفظ الله تعالى لمن حفظه أن يجعل الحيوانات المؤذية بالطبع حافظة له من الأذى وساعية في مصالحه، كما جرى(1/54)
لسفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كسر به المركب، وخرج إلى جزيرة، فرأى السبع، فقال له: يا أبا الحارث! أنا سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فجعل يمشي حوله ويدله على الطريق حتى أوقفه عليها، ثم جعل يهمهم كأنه يودعه وانصرف عنه.
وكان أبو إبراهيم السائح قد مرض في برية بقرب دير، فقال: لو كنت عند باب الدير لنزل الرهبان فعالجوني. فجاء السبع فاحتمله على ظهره حتى وضعه على باب الدير فرآه الرهبان فأسلموا وكانوا أربعمائة.
وكان إبراهيم بن أدهم نائماً في بستان، وعنده حية في فمها طاقة نرجس، فما زالت تذب عنه حتى استيقظ.
فمن حفظ الله حفظه من الحيوانات المؤذية بالطبع، وجعل تلك الحيوانات حافظة له.
ومن ضيع الله ضيعه الله بين خلقه، حتى يدخل عليه الضرر بشيء ممن كان يرجو أن ينفعه، ويصير أخص أهله به وأرفقهم به يؤذيه.
كما قال بعضهم: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق خادمي وحماري. يعني أن خادمه يسوء خلقه عليه ولا يطيعه، وحماره يستعصي عليه فلا يواتيه لركوبه. فالخير كله مجموع في طاعة الله والإقبال عليه، والشر كله مجموع في معصيته والإعراض عنه.(1/55)
قال بعض العارفين: من فارق سدة سيده لم يجد لقدميه قراراً أبداً.
[وقال بعضهم شعراً]:
والله ما جئتكم زائراً ... إلا وجدت الأرض تطوى لي
ولا ثنيت العزم عن بابكم ... إلا تعثرت بأذيالي
بالله فاعفوا واصفحوا واجبروا ... كسري فحالي بكم حالي
النوع الثاني: من الحفظ وهو أشرفهما وأفضلهما حفظ الله لعبده في دينه، فيحفظ عليه دينه وإيمانه في حياته من الشبهات المردية والبدع المضلة، والشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه عند موته، فيتوفاه على الإسلام.
قال الحكم بن أبان عن أبي مكي: إذا حضر الرجل الموت يقال للملك شم رأسه! قال: أجد في رأسه القرآن. قال: شم قلبه! قال: أجد في قلبه الصيام، قال: شم قدميه! قال: أجد في قدميه القيام قال: حفظ نفسه فحفظه الله عز وجل.
خرجه ابن أبي الدنيا.
وقد ثبت في الصحيحين من حديث البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه أن يقول عند منامه:
((اللهم إن قبضت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)).(1/56)
وفي حديث عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علمه أن يقول: ((اللهم احفظني بالإسلام قائماً، واحفظني بالإسلام قاعداً، واحفظني بالإسلام راقداً، ولا تطع في عدواً ولا حاسداً)).
خرجه ابن حبان في ((صحيحه)).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ودع من يريد السفر يقول له:
((أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك)).
وفي روايةٍ، وكان يقول:
((إن الله إذا استودع شيئاً حفظه)).
خرجه النسائي وغيره.
وخرج الطبراني حديثاً مرفوعاً:(1/57)
((إن العبد إذا صلى الصلاة على وجهها صعدت إلى الله ولها برهانٌ كبرهان الشمس وتقول لصاحبها: حفظك الله كما حفظتني. وإذا ضيعها لفت كما يلف الثوب الخلق ثم يضرب بها وجه صاحبها، وتقول له: ضيعك الله كما ضيعتني)).
وكان عمر رضي الله عنه يقول في خطبته: اللهم اعصمنا بحفظك وثبتنا على أمرك. ودعا رجل لبعض السلف بأن يحفظه الله فقال له: يا أخي! لا تسأل عن حفظه ولكن قل يحفظ الإيمان. يعني أن المهم هو الدعاء بحفظ الدين، فإن الحفظ الدنيوي قد يشترك فيه البر والفاجر فالله تعالى يحفظ على المؤمن دينه، ويحول بينه وبين ما يفسده عليه بأسباب قد لا يشعر العبد ببعضها، وقد يكون يكرهه.
وهذا كما حفظ يوسف -عليه السلام- قال:
{كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين}.
فمن أخلص لله خلصه من السوء والفحشاء، وعصمه منهما من حيث لا يشعر، وحال بينه وبين أسباب المعاصي المهلكة.
كما رأى معروف الكرخي شباباً يتهيئون للخروج إلى القتال في فتنة، فقال: اللهم احفظهم. فقيل له: تدعو لهؤلاء؟ فقال: إن(1/58)
حفظهم لم يخرجوا إلى ما أرادوا.
وسمع عمر رجلاً يقول: اللهم إنك تحول بين المرء وقلبه، فحل بيني وبين معاصيك. فأعجب ذلك عمر ودعا له بخير.
وروي عن ابن عباس في قوله تعالى:
{يحول بين المرء وقلبه}.
قال: يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجره إلى النار.
حج بعض المتقدمين فبات بمكة مع قوم، فهم بمعصية، فسمع هاتفاً يهتف يقول: ويلك ألم تحج؟ فعصمه الله مما هم به.
وخرج بعضهم مع رفقة إلى معصية، فلما هم بمواقعتها هتف به هاتف:
{كل نفسٍ بما كسبت رهينة}. فتركها.
ودخل رجل غيضة ذات شجر فقال: لو خلوت ههنا بمعصية(1/59)
من كان يراني؟ فسمع صوتاً ملأ ما بين حافتي الغيضة:
{ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}.
وهم رجل بمعصية فخرج إليها، فمر في طريقه بقاص يقص على الناس، فوقف على حلقته فسمعه يقول: أيها الهام بالمعصية! أما علمت أن خالق الهمة مطلع على همتك؟ فوقع مغشياً عليه فما أفاق إلا عن توبة.
كان بعض الملوك الصالحين قد تعلق قلبه بمملوك له جميل، فخشي على نفسه، فقام ليلة واستغاث الله، فمرض المملوك من ليلته، ومات بعد ثلاث.
ومنهم من عصم بموعظة جرت على لسان من أراد منه الموافقة على المعصية.
((كما جرى لأحد الثلاثة الذين دخلوا الغار وانطبقت عليهم الصخرة، فإنه لما جلس من تلك المرأة مجلس الرجل من امرأته، قالت له: يا عبد الله! اتق الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه فقام عنها)).
((وكذلك الكفل من بني إسرائيل، كان لا يتورع عن معصيةٍ، فأعجبته امرأةٌ فأعطاها ستين ديناراً، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت، فقال: أكرهتك؟ قالت: لا، ولكن هذا عمل ما عملته قط وإنما حملني عليه الحاجة.(1/60)
فقال: تخافين الله ولا أخافه! ثم قام عنها ووهب لها الدنانير، وقال: والله لا يعصي الله الكفل أبداً. ومات من ليلته فأصبح مكتوباً على بابه، قد غفر الله للكفل)).
خرج الإمام أحمد والترمذي حديثه هذا من حديث ابن عمر مرفوعاً.
وراود رجل امرأة عن نفسها، وأمرها بغلق الأبواب ففعلت، وقالت له: قد بقي باب واحد. قال: وأي باب هو؟ قالت: الباب الذي بيننا وبين الله عز وجل. فلم يعرض لها.
وراود رجل أعرابية، قال لها: ما يرانا إلا الكواكب. قالت: فأين مكوكبها؟!
وهذا كله من ألطاف الله وحيلولته بين العبد وبين معصيته.
قال الحسن وذكر أهل المعاصي: هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم. وقال بشر: ما أصر على معصية الله كريم، ولا آثر الدنيا على الآخرة حكيم.(1/61)
ومن أنواع حفظ الله لعبده في دينه: أن العبد قد يسعى في سبب من أسباب الدنيا -إما الولايات أو التجارات أو غير ذلك- فيحول الله بينه وبين ما أراد لما يعلم له من الخيرة في ذلك وهو لا يشعر مع كراهته لذلك.
قال ابن مسعود: إن العبد ليهم بالأمر من التجارة والإمارة حتى ييسر له، فينظر الله إليه فيقول للملائكة: اصرفوه عنه، فإني إن يسرته له أدخلته النار فيصرفه الله عنه، فيظل يتطير، يقول: سبقني فلان، دهاني فلان، وما هو إلا فضل الله عز وجل.
وأعجب من هذا أن العبد قد يطلب باباً من أبواب الطاعات، ولا يكون له فيه خيرة، فيحول الله بينه وبينه صيانة له وهو لا يشعر.
وخرج الطبراني وغيره من حديث أنس مرفوعاً: ((يقول الله عز وجل: إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر، وإن بسطت عليه أفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا السقم ولو صححته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من يطلب باباً من العبادة فأكفه عنه لكيلا يدخله العجب، إني أدبر عبادي بعلمي بما في قلوبهم إني عليمٌ خبيرٌ)).(1/62)
كان بعض المتقدمين يكثر سؤال الشهادة فهتف به هاتف: إنك إن غزوت أسرت، وإن أسرت تنصرت. فكف عن سؤاله.
وفي الجملة فمن حفظ حدود الله وراعى حقوقه، تولى الله حفظه في أمور دينه ودنياه، وفي دنياه وآخرته.
وقد أخبر الله تعالى في كتابه أنه ولي المؤمنين وأنه يتولى الصالحين، وذلك يتضمن أنه يتولى مصالحهم في الدنيا والآخرة، ولا يكلهم إلى غيره، قال تعالى:
{الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور}.
وقال تعالى:
{ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم}.
وقال: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه}.
وقال: {أليس الله بكافٍ عبده}.
فمن قام بحقوق الله عليه فإن الله يتكفل له بالقيام بجميع مصالحه في الدنيا والآخرة، فمن أراد أن يتولى الله حفظه ورعايته في أموره كلها فليراع حقوق الله عليه، ومن أراد ألا يصيبه شيء مما يكره فلا يأت شيئاً مما يكرهه الله منه.(1/63)
كان بعض السلف يدور على المجالس، ويقول: من أحب أن تدوم له العافية فليتق الله.
وقال العمري الزاهد لمن طلب منه الوصية: كما تحب أن يكون الله لك، فهكذا كن لله -عز وجل-.
وقال صالح بن عبد الكريم: يقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي لا أطلع على قلب عبد أعلم أن الغالب عليه حب التمسك بطاعتي، إلا توليت سياسته وتقويمه.
وفي بعض الكتب المتقدمة: يقول الله عز وجل: ابن آدم! ألا تعلمني ما يضحكك؟! ابن آدم! اتقني ونم حيث شئت.
والمعنى: أنك إذا قمت بما عليك لله من حقوق التقوى فلا تهتم بعد ذلك بمصالحك، فإن الله هو أعلم بها منك، وهو يوصلها إليك على أتم الوجوه من غير اهتمام منك بها.
وفي حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((من كان يحب أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده، فإن الله ينزل العبد منه، حيث أنزله من نفسه)).
فهذا يدل على أنه على قدر اهتمام العبد بحقوق الله وبأداء حقوقه ومراعاة حدوده واعتنائه بذلك وحفظه له، يكون اعتناؤه به(1/64)
وحفظه له، فمن كان غاية همه رضا الله عنه وطلب قربه ومعرفته ومحبته وخدمته، فإن الله يكون له على حسب ذلك كما قال تعالى:
{فاذكروني أذكركم}.
{وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم}.
بل هو سبحانه أكرم الأكرمين. فهو يجازي بالحسنة عشراً ويزيد، ومن تقرب منه شبراً تقرب منه ذراعاً، ومن تقرب منه ذراعاً تقرب منه باعاً، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة.
فما يؤتى الإنسان [إلا] من قبل نفسه ولا يصيبه المكروه إلا من تفريطه في حق ربه عز وجل، كما قال علي رضي الله عنه: لا يرجون عبد إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه، وقال بعضهم: من صفي صفي له، ومن خلط خلط عليه.
وقال مسروق: من راقب الله في خطرات قلبه عصمه الله في حركات جوارحه. وبسط هذا المعنى يطول جداً، وفيما أشرنا إليه كفاية، ولله الحمد.(1/65)
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((احفظ الله تجده أمامك)) وفي رواية أخرى: ((تجاهك))
معناه أن من حفظ حدود الله وراعى حقوقه وجد الله معه في جميع الأحوال يحوطه وينصره ويحفظه ويوفقه ويؤيده ويسدده، فإنه قائم على كل نفس بما كسبت، وهو تعالى مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
قال قتادة: من يتق الله يكن معه، ومن يكن الله معه فمعه الفئة التي لا تغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل.
كتب بعض السلف إلى أخ له: ((أما بعد، فإن كان الله معك فممن تخاف؟! وإن كان عليك فمن ترجو؟! والسلام)).
وهذه المعية الخاصة بالمتقين غير المعية العامة المذكورة في قوله تعالى:
{وهو معكم أين ما كنتم}.
وقوله:
{ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول}.(1/66)
فإن المعية الخاصة تقتضي النصر والتأييد والحفظ والإعانة، كما قال تعالى لموسى وهارون:
{لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى}.
وقوله تعالى:
{إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}.
وكان صلى الله عليه وسلم قد قال لأبي بكر الصديق في تلك الحال: ((ما ظنك باثنين الله ثالثهما)).
فهذا غير المعنى المذكور في قوله تعالى:
{ما يكون من نجوى ثلاثةٍ إلا هو رابعهم.. .. } الآية.
فإن ذلك عام لكل جماعة. ومن هذا المعنى الخاص الحديث الإلهي وقوله فيه:
((ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها)).
إلى غير ذلك من نصوص الكتاب والسنة الدالة على قرب الرب سبحانه ممن أطاعه واتقاه، وحفظ حدوده وراعاه.
دخل بنان الحمال البرية على طريق تبوك، فاستوحش فهتف به هاتف: لم تستوحش؟ أليس حبيبك معك؟.(1/67)
فمن حفظ الله وراعى حقوقه وجده أمامه وتجاهه على كل حال، فاستأنس به واستغنى به عن خلقه.
وفي الحديث:
((أفضل الإيمان أن يعلم العبد أن الله معه حيث كان)). خرجه الطبراني وغيره. وبسط هذا القول يطول جداً.
كان بعض العلماء الربانيين كثير السفر على التجريد، وحده، فخرج الناس مرة معه يودعونه فردهم، وأنشد:
إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا ... كفى لمطايانا بذكراك هاديا
وكان الشبلي ينشد هذا البيت وربما قطع مجلسه عليه.(1/68)
قوله صلى الله عليه وسلم : ((تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة))
المعنى: أن العبد إذا اتقى الله وحفظ حدوده وراعى حقوقه في حال رخائه وصحته، فقد تعرف بذلك إلى الله وكان بينه وبينه معرفة، فعرفه ربه في الشدة وعرف له عمله في الرخاء، فنجاه من الشدائد بتلك المعرفة.
وهذه أيضاً معرفة خاصة تقتضي القرب من الله عز وجل، ومحبته لعبده، وإجابته لدعائه، وليس المراد بها المعرفة العامة فإن الله لا يخفى عليه حال أحد من خلقه، كما قال تعالى:
{هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنةٌ في بطون أمهاتكم].
وقال:
{ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه}.
وهذا التعرف الخاص هو المشار إليه في الحديث الإلهي:
((ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه.. .. )) إلى(1/69)
أن قال: ((ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)).
اجتمع الفضيل بشعوانة العابدة فسألها الدعاء، فقالت: يا فضيل، وما بينك وبينه؟ إن دعوته أجابك. فشهق الفضيل شهقة خر مغشياً عليه.
وقال أبو جعفر السائح: أتى الحسن إلى حبيب أبي محمد هارباً من الحجاج، فقال: يا أبا محمد! احفظني من الشرط، هم على إثري. فقال: استحييت لك يا أبا سعيد، أليس بينك وبين ربك من الثقة ما تدعوه فيسترك من هؤلاء؟ ادخل البيت فدخل الشرط على إثره فلم يروه. فذكروا ذلك للحجاج فقال: بل كان في بيته إلا أن الله طمس أعينهم فلم يروه.
ومتى حصل هذا التعرف الخاص للعبد حصل للعبد معرفة خاصة بربه توجب له الأنس به والحياء منه، وهذه معرفة خاصة غير معرفة المؤمنين العامة. ومدار العارفين كلهم على حصول هذه المعرفة وهذا التعرف، وإشاراتهم تومئ إلى هذا.
سمع أبو سليمان رجلاً يقول: سهرت البارحة في ذكر النساء، فقال: ويحك! أما تستحي منه، يراك ساهراً في ذكر غيره، ولكن كيف تستحي ممن لا تعرف؟
وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي: أحب أن لا أموت حتى أعرف مولاي. وليس معرفته الإقرار به ولكن المعرفة الذي إذا عرفته استحييت منه. وهذه المعرفة الخاصة والتعرف الخاص(1/70)
توجب طمأنينة العبد بربه وثقته به في إنجائه من كل شدة وكرب وتوجب استجابة الرب دعاء عبده.
لما اختفى الحسن البصري من الحجاج، قيل له: لو خرجت من البصرة فإنا نخاف أن يدل عليك. فبكى، ثم قال: أخرج من مصري وأهلي وإخواني؟ إن معرفتي بربي وبنعمته علي تدلني على أنه سينجيني ويخلصني منه إن شاء الله تعالى. فما ضره الحجاج بشيءٍ ولقد كان يكرمه بعد ذلك إكراماً شديداً، ويحسن ذكره.
وقال رجل لمعروف: ما الذي هيجك على الانقطاع والعبادة؟ وذكر له الموت والبرزخ والجنة والنار، فقال معروف: أي شيءٍ هذا؟! إن ملكاً هذا كله بيده، إن كانت بينك وبينه معرفة كفاك جميع هذا.
ومما يبين هذا ويوضحه الحديث الذي خرجه الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :
((من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد، فليكثر الدعاء في الرخاء)).(1/71)
وخرج ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم وابن جرير وغيرهم من حديث يزيد الرقاشي عن أنس يرفع الحديث:
((أن يونس -عليه السلام- لما دعا وهو في بطن الحوت، قالت الملائكة: يا رب: هذا صوتٌ معروفٌ من بلاد غريبة! فقال الله: أما تعرفون ذلك؟ قالوا: ومن هو؟ قال: عبدي يونس. قالوا: عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عملٌ متقبلٌ ودعوةٌ مستجابةٌ؟! قال: نعم. قالوا: يا رب! أفلا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه من البلاء؟ قال: بلى. فأمر الله الحوت فطرحه بالعراء)).
قال الضحاك بن قيس: اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدة، إن يونس -عليه السلام- كان يذكر الله، فلما وقع في بطن الحوت قال الله تعالى:
{فلولا أنه كان من المسبحين. للبث في بطنه إلى يوم يبعثون}.
وإن فرعون كان طاغياً ناسياً لذكر الله فلما أدركه الغرق قال: آمنت. فقال الله تعالى:(1/72)
{ءآلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين}.
وقال رشدين بن سعد: قال رجل لأبي الدرداء: أوصني فقال: اذكر الله في السراء يذكرك في الضراء. قال سلمان الفارسي: إذا كان الرجل دعاءً في السراء فنزلت به ضراء فدعا الله عز وجل، قالت الملائكة: صوت معروف فشفعوا له، وإذا كان ليس بدعاءٍ في السراء فنزلت به ضراء فدعا الله عز وجل قالت الملائكة: صوت ليس بمعروف فلا يشفعون له.
وحديث الثلاثة الذين دخلوا الغار وانطبقت عليهم الصخرة يشهد لهذا أيضاً، فإنهم فرج عنهم بدعائهم لله بما كان سبق منهم من الأعمال الخالصة في حال الرخاء: من بر الوالدين، وترك الفجور، وأداء الأمانة الخفية.
فإذا علم أن التعرف إلى الله في الرخاء يوجب معرفة الله لعبده في الشدة فلا شدة يلقاها المؤمن في الدنيا أعظم من شدة الموت، وهي أهون مما بعدها إن لم يكن مصير العبد إلى خير، وإن كان مصيره إلى خير فهي آخر شدة يلقاها.
فالواجب على العبد الاستعداد للموت قبل نزوله بالأعمال الصالحة والمبادرة إلى ذلك، فإنه لا يدري المرء متى تنزل به هذه الشدة من ليل أو نهار. وذكر الأعمال الصالحة عند الموت(1/73)
مما يحسن ظن المؤمن بربه، ويهون عليه شدة الموت ويقوي رجاءه.
قال بعضهم: كانوا يستحبون أن يكون للمرء خبيئة من عمل صالح، ليكون أهون عليه عند نزول الموت. أو كما قال.
وكانوا يستحبون أن يموت المرء عقب طاعة عملها من حج أو جهاد أو صيام.
وقال النخعي: كانوا يستحبون أن يلقنوا العبد محاسن عمله عند موته لكي يحسن ظنه بربه.
قال أبو عبد الرحمن السلمي في مرضه: كيف لا أرجو ربي وقد صمت له ثمانين رمضان.
ولما احتضر أبو بكر بن عياش وبكوا عليه قال: لا تبكوا، فإني ختمت القرآن في هذه الزاوية ثلاث عشرة ألف ختمة
وروي عنه أنه قال لابنه: أترى أن الله يضيع لأبيك أربعين سنة يختم القرآن كل ليلة؟
وقال بعض السلف لابنه عند موته ورآه يبكي قال: لا تبك فما أتى أبوك فاحشة قط.
وختم آدم بن أبي إياس القرآن وهو مسجى للموت ثم قال: بحبي لك إلا رفقت بي في هذا المصرع، كنت أؤملك لهذا اليوم، كنت أرجوك، لا إله إلا الله، ثم قضى رحمه الله.
وكان عبد الصمد الزاهد يقول عند موته: سيدي! لهذه الساعة خبأتك، ولهذا اليوم اقتنيتك، حقق حسن ظني بك.(1/74)
وقال ابن عقيل عند موته وقد بكى النسوة: قد وقعت عنه خمسين سنة، فدعوني أتهنأ بلقائه.
ولما هجم القرامطة على الحجاج وقتلوهم في الطواف، وكان علي بن بابويه الصوفي يطوف فلم يقطع الطواف والسيوف تأخذه حتى وقع. فأنشد:
ترى المحبين صرعى في ديارهم ... كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا
وبعده بيت آخر:
تالله لو حلف الأحباب أنهم ... موتى من البين يوم البين ما حنثوا
فمن أطاع الله واتقاه وحفظ حدوده في حياته، تولاه الله عند وفاته، وتوفاه على الإيمان وثبته بالقول الثابت في القبر عند سؤال الملكين، ودفع عنه عذاب القبر، وآنس وحشته في تلك الوحدة والظلمة.
قال بعض السلف: إذا كان الله معك عند دخول القبر فلا بأس عليك ولا وحشة. ورؤي بعض العلماء الصالحين في النوم بعد موته، فسئل عن حاله، فقال: يؤنسني ربي عز وجل.
فمن كان الله أنيسه في خلواته في الدنيا، فإنه يرجى أن يكون أنيسه في ظلمات اللحود إذا فارق الدنيا وتخلى عنها، وفي هذا المعنى يقول بعضهم:(1/75)
فيا رب كن لي مؤنساً يوم وحشتي ... فإني بما أنزلته لمصدق
وما ضرني أني إلى الله صائر ... ومن هو من أهلي أبر وأرفق
وكذلك أهوال القيامة وأفزاعها وشدائدها، إذا تولى الله عبده المطيع له في الدنيا، أنجاه من ذلك كله.
قال قتادة في قوله تعالى:
{ومن يتق الله يجعل له مخرجاً}.
قال: من الكرب عند الموت، ومن أفزاع يوم القيامة.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية: ننجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة.
وقال زيد بن أسلم في قوله تعالى:
{إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا}.
قال: يبشر بذلك عند موته وفي قبره ويوم يبعث، فإنه لفي الجنة، وما ذهبت فرحة البشارة من قلبه.
وقال ثابت البناني في هذه الآية: بلغنا أن المؤمن حين يبعثه الله من قبره يتلقاه ملكاه اللذان كانا معه في الدنيا، فيقولان له: لا تخف ولا تحزن. فيومن الله خوفه ويقر الله عينه، فما من(1/76)
عظيمة تغشى الناس يوم القيامة إلا وهي للمؤمن قرة عين، لما هداه الله ولما كان عمل في الدنيا. خرج ذلك كله ابن أبي حاتم وغيره.
وأما من لم يتعرف إلى الله في الرخاء، فليس له من يعرفه في الشدة لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وشواهد هذا مشاهدة حالهم في الدنيا، وحالهم في الآخرة أشد، وما لهم من ولي ولا نصير.(1/77)
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((إذا سألت فاسأل الله))
أمر بإفراد الله عز وجل بالسؤال ونهى عن سؤال غيره من الخلق، وقد أمر الله تعالى بسؤاله. فقال:
{وسئلوا الله من فضله}.
وفي الترمذي عن ابن مسعود مرفوعاً:
((سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يسأل)).
وفيه عن أبي هريرة مرفوعاً: ((من لا يسأل الله يغضب عليه)).
وفيه أيضاً:
((إن الله يحب الملحين في الدعاء)).(1/78)
وفي حديث آخر:
((ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع)).(1/79)
وفي المعنى أحاديث كثيرة، وفي النهي عن سؤال الخلق أحاديث كثيرة صحيحة.
وفي حديث ابن مسعود مرفوعاً:
((لا يزال العبد يسأل وهو غني حتى يخلق وجهه فما يكون له عند الله وجهٌ)).
وقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه على أن لا يسألوا الناس شيئاً منهم: أبو بكر الصديق، وأبو ذر، وثوبان، وكان أحدهم يسقط سوطه أو خطام ناقته فلا يسأل أحداً أن يناوله إياه.
واعلم أن سؤال الله تعالى دون خلقه هو المتعين عقلاً وشرعاً، وذلك من وجوه متعددة:
منها: أن السؤال فيه بذل ماء الوجه وذلة للسائل، وذلك(1/80)
لا يصلح إلا لله وحده، فلا يصلح الذل إلا له بالعبادة والمسألة، وذلك من علامات المحبة الصادقة.
سئل يوسف بن الحسين: ما بال المحبين يتلذذون بذلهم في المحبة؟
فأنشد:
ذل الفتى في الحب مكرمةٌ ... وخضوعه لحبيبه شرف
وهذا الذل وهذه المحبة لا تصلح إلا لله وحده، وهذا هو حقيقة العبادة التي يختص بها الإله الحق.
كان الإمام أحمد يقول في دعائه: اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك، فصنه عن المسألة لغيرك.
وقال أبو الخير الأقطع: كنت بمكة سنة فأصابتني فاقة وضر، فكنت كلما أردت أن أخرج إلى المسألة هتف بي هاتف يقول: الوجه الذي تسجد لي به تبذله لغيري؟
وفي هذا المعنى يقول بعضهم:
ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله ... بدلاً وإن نال الغنى بسؤال
وإذا السؤال مع النوال وزنته ... رجح السؤال وخف كل نوال
فإذا ابتليت ببذل وجهك سائلاً ... فابذله للمتكرم المفضال
ولهذا المعنى كان عقوبة من أكثر المسألة بغير حاجة أن يأتي يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم، كما ثبت ذلك في الصحيحين، لأنه أذهب عز وجهه وصيانته وماءه في الدنيا،(1/81)
فأذهب الله من وجهه في الآخرة جماله وبهاءه الحسي فيصير عظماً بغير لحم، ويذهب جماله وبهاؤه المعنوي فلا يبقى له عند الله وجاهة.
ومنها: أن في سؤال الله عبوديةً عظيمةً لأنها إظهار للافتقار إليه، واعتراف بقدرته على قضاء الحوائج، وفي سؤال المخلوق ظلم لأن المخلوق عاجز عن جلب النفع لنفسه ودفع الضر عنها فكيف يقدر على ذلك لغيره؟ وسؤاله إقامة له مقام من يقدر وليس هو بقادر.
ويشهد لهذا المعنى الحديث الذي في ((صحيح مسلم)) عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم :
((يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني، فأعطيت كل إنسانٍ مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر)).
وفي الترمذي وغيره زيادة في هذا الحديث وهي:
((وذلك بأني جوادٌ واجدٌ ماجدٌ أفعل ما أريد، عطائي كلامٌ، وعذابي كلامُ، إذا أردت شيئاً فإنما أقول له كن فيكون)).
فكيف يسأل الفقير العاجز ويترك الغني القادر؟ إن هذا لأعجب العجب!.(1/82)
قال بعض السلف: إني لأستحي من الله أن أسأله الدنيا وهو مالكها فكيف أسألها من لا يملكها. يعني المخلوق.
وحصل لبعض السلف ضيق في معيشته حتى هم أن يطلب من بعض إخوانه، فرأى في منامه قائلاً يقول:
أيحسن بالحر المريد. إذا وجد عند الله ما يريد. أن يميل بقلبه إلى العبيد. فاستيقظ وهو من أغنى الناس قلباً.
وقال بعض السلف: قرأت في بعض الكتب المنزلة: ((يقول الله عز وجل: يؤمل غيري للشدائد! والشدائد بيدي وأنا الحي القيوم. ويرجى غيري ويطرق بابه بالبكرات! وبيدي مفاتيح الخزائن، وبابي مفتوح لمن دعاني. من ذا الذي أملني لنائبة فقطعت به! أو من ذا الذي رجاني لعظيم فقطعت رجاءه! ومن ذا الذي طرق بابي فلم أفتحه له؟ أنا غاية الآمال، فكيف تنقطع الآمال دوني؟! أبخيل أنا؟! فيبخلني عبدي! أليس الدنيا والآخرة والكرم والفضل كله لي؟! فما يمنع المؤملين أن يؤملوني! لو جمعت أهل السموات وأهل الأرض ثم أعطيت كل واحد منهم ما أعطيت الجميع وبلغت كل واحد منهم أمله لم ينقص ذلك من ملكي عضو ذرة، وكيف ينقص ملك أنا قيمه؟ فيا بؤساً للقانطين من رحمتي! ويا بؤساً لمن عصاني وتوثب على محارمي!)).(1/83)
ومنها: أن الله يحب أن يسأل، ويغضب على من لا يسأله فإنه يريد من عباده أن يرغبوا إليه ويسألوه ويدعوه ويفتقروا إليه، ويحب الملحين في الدعاء.
والمخلوق غالباً يكره أن يسأل لفقره وعجزه، قال ابن السماك: لا تسأل من يفر منك وأسأل من أمرك أن تسأله.
قال أبو العتاهية:
الله يغضب إن تركت سؤاله ... وبني آدم حين يسأل يغضب
فاجعل سؤالك للإله فإنما ... في فضل نعمة ربنا نتقلب
كان يحيى بن معاذ يقول: يا من يغضب على من لا يسأله لا تمنع من قد سألك.
وأنشد بعض الأعراب:
أيا مالك لا تسأل الناس والتمس ... يكفيك فضل الله فالله أوسع
ولو يسأل الناس التراب لأوشكوا ... إذا قيل هاتوا أن يملوا ويمنعوا
ومنها: أن الله تعالى يستدعي من عباده سؤاله، وينادي كل ليلة: هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأستجيب له؟ وقد قال الله تعالى:(1/84)
{وإذا سألك عبادي عني فإني قريبٌ أجيب دعوة الداع إذا دعان}.
فأي وقت دعاه العبد وجده سميعاً قريباً مجيباً ليس بينه وبينه حجاب ولا بواب، وأما المخلوق فإنه يمتنع بالحجاب والأبواب ويعسر الوصول إليه في أغلب الأوقات.
قال طاووس لعطاء: إياك أن تطلب حوائجك إلى من أغلق دونك بابه ويجعل دونها حجابه، وعليك بمن بابه مفتوح إلى يوم القيامة، أمرك أن تسأله ووعدك أن يجيبك. وقال وهب بن منبه لبعض العلماء: ألم أخبر أنك تأتي الملوك وأبناء الملوك تحمل إليهم علمك؟! ويحك تأتي من يغلق عليك بابه، ويظهر لك فقره ويواري عنك غناه! وتدع من يفتح لك بابه بنصف الليل وبنصف النهار ويظهر لك غناه؟ ويقول:
{ادعوني أستجب لكم}.
ورأى ميمون بن مهران الناس مجتمعين على باب بعض الأمراء فقال: من كانت له حاجة إلى سلطان فحجبه فإن بيوت الرحمن مفتحة، فليأت مسجداً فليصل ركعتين ثم ليسأل حاجته.
وكان بكر المزني يقول: من مثلك يا ابن آدم؟! متى شئت تطهرت ثم ناجيت ربك ليس بينك وبينه حجاب ولا ترجمان. وسأل رجل بعض الصالحين أن يشفع له في حاجة إلى بعض(1/85)
المخلوقين، فقال له: أنا لا أترك باباً مفتوحاً، وأذهب إلى باب مغلق. وفي هذا المعنى يقول بعضهم:
وأفنية الملوك محجباتٌ ... وباب الله مبذول الفناء
وقال آخر:
قل للذين تحصنوا عن سائلٍ ... بمنازلٍ من دونها حجاب
إن حال دون لقائكم بوابكم ... فالله ليس لبابه بواب
ولبعض العلماء:
لا تجلسن بباب من ... يأبى عليك دخول داره
وتقول حاجتي إليه ... يعوقها إن لم أداره
واتركه واقصد ربها ... تقضى ورب الدار كاره
وخرج ابن أبي الدنيا من حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: إن بني فلانٍ أغاروا علي فذهبوا بابني وإبلي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ((إن آل محمدٍ كذا وكذا أهل بيتٍ ما لهم مدٌ من طعامٍ أو صاع))، فسل الله عز وجل فرجع إلى امرأته، فقالت: ما قال لك؟ فأخبرها، فقالت: نعم ما رد عليك، فما لبث أن رد الله عليه ابنه وإبله أوفر ما كانت، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فصعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فحمد الله وأثنى عليه وأمر الناس بمسألة الله عز وجل والرغبة إليه، وقرأ عليهم:(1/86)
{ومن يتق الله يجعل له مخرجاً. ويرزقه من حيث لا يحتسب}.
وسأل رجل ثابتاً البناني أن يشفع له إلى قاض في قضاء حاجة له، فقام ثابت معه، فكان كلما مر بمسجد في طريقه دخل فصلى فيه ودعا، فما وصل إلى مجلس القاضي إلا وقد قام منه، فعاتبه طالب الحاجة في ذلك، فقال: ما كنت إلا في حاجتك. فقضى الله حاجته، ولم يحتج إلى القاضي.
وكان إسحاق بن عباد البصري نائماً فرأى في منامه قائلاً يقول له: أغث الملهوف. فاستيقظ فسأل: هل في جيرانه محتاج؟ قالوا: ما ندري؟ ثم نام فأتاه ثانياً وثالثاً، فقال له: أتنام ولم تغث الملهوف؟ فقام وأخذ معه ثلاثمائة درهم، وركب بغله فخرج به إلى البصرة حتى وقف به على باب مسجد يصلي فيه على الجنائز، فدخل المسجد فإذا رجل يصلي فلما أحس به انصرف فدنا منه، فقال له: يا عبد الله! في هذا الوقت؟ في هذا الموضع؟ ما حاجتك؟ قال: أنا رجل كان رأس مالي مائة درهم فذهبت من يدي ولزمني دين مائتا درهم، فأخرج له الدراهم، وقال: هذه ثلاثمائة درهم خذها فأخذها ثم قال له: أتعرفني؟ قال: لا. قال: أنا إسحاق بن عباد، فإن نابتك نائبة فأتني فإن منزلي في موضع كذا. فقال له: رحمك الله إن نابتنا نائبة فزعنا إلى من أخرجك في هذا الوقت حتى جاء بك إلينا.(1/87)
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أصبحنا ذات يوم فقالت أمي لأبي: والله ما في بيتك شيء يأكله ذو كبد. فقام فتوضأ ولبس ثيابه ثم صلى في بيته، قال: فالتفت إلي أمي، فقالت: إن أباك ليس يزيد على ما ترى، فاخرج أنت. فخرجت، فخطر ببالي صديق لنا تمار فجئت إلى سوقه، فلما رآني صاح بي وذهب بي إلى منزله وأطعمني، ثم أخرج لي صرة فيها ثلاثون ديناراً من غير أن أذكر له شيئاً من حالنا إلا ابتداءً منه. وقال: اقرأ على أبيك السلام، وقل له: إنا جعلنا له شركاً في كل شيء من [متجرنا] وهذا نصيبه منه.
وعن شقيق البلخي قال: كنت في بيتي قاعداً فقال لي أهلي: قد ترى ما بهؤلاء الأطفال من الجوع، ولا يحل لك أن تحمل عليهم ما لا طاقة لهم به قال: فتوضأت، وكان لي صديق لا يزال يقسم علي بالله أن يكن لي حاجة أعلمه بها ولا أكتمها عنه فخطر ذكره ببالي، فلما خرجت من المنزل مررت بالمسجد فذكرت ما روي عن أبي جعفر، قال: من عرضت له حاجة إلى مخلوق فليبدأ فيها بالله عز وجل. فدخلت المسجد فصليت ركعتين، فلما كنت في التشهد أفرغ علي النوم، فرأيت في منامي أنه قيل: يا شقيق أتدل العباد على الله ثم تنساه! فاستيقظت وعلمت أن ذلك تنبيه نبهني به ربي، فلم أخرج من المسجد حتى صليت العشاء الآخرة ثم انصرفت إلى المنزل فوجدت الذي أردت(1/88)
أن أقصد قد حركه الله وأجرى لأهلي على يديه ما أغناهم.
وعن إبراهيم بن أدهم أنه خرج إلى الغزو مع أصحابه، وأنهم تناهدوا [فوضع] كل واحد منهم ديناراً، ففكر فيمن يقصد من إخوانه ويستقرض منه ثم استفاق فبكى، واسوأتاه أطلب من العبيد، وأترك مولاهم فيقول لي: من كان أحق أن يطلب منه: أنا أو عبدي؟ فتوضأ وصلى وخر ساجداً، وقال: يا رب! قد علمت ما كان مني وذلك بخطئي وجهلي فإن عاقبتني عليه فأنا أهل لذلك، وإن عفوت عني فأنت أهل لذلك، وقد عرفت حاجتي فاقضها برحمتك. ثم رفع رأسه فإذا هو بنحو أربعمائة دينار فتناول منها ديناراً واحداً وذهب.
وعن أصبغ بن زيد، قال: مكثت أنا ومن عندي ثلاثاً لم نطعم شيئاً، فخرجت إلي ابنتي الصغيرة وقالت: يا أبة! الجوع! فأتيت الميضأة فتوضأت وصليت ركعتين وألهمت دعاءً دعوت به في آخره: اللهم افتح علي منك رزقاً لا تجعل لأحد علي فيه منة، ولا لك علي في الآخرة فيه تبعة، برحمتك يا أرحم الراحمين. ثم انصرفت إلى البيت، فإذا بابنتي الكبيرة قد قامت إلي وقالت: يا أبة جاء عمي الساعة بهذه الصرة من الدراهم وبحمال عليه دقيق، وحمال عليه من كل شيءٍ في السوق، وقال: أقرئوا أخي السلام، وقولوا له: إذا احتجت إلى شيء فادع بهذا الدعاء تأتك حاجتك. قال أصبغ: والله ما كان لي أخ قط ولا أعرف من كان هذا القائل؟! ولكن الله على كل شيء قدير.(1/89)
وعن الحكم بن موسى قال: أصبحت يوماً، فقالت لي المرأة: ليس عندنا دقيق ولا خبز فخرجت ولا أقدر على شيء، فقلت في الشارع: اللهم إنك تعلم أني أعلم أنك تعلم أنه لا دقيق لي ولا خبزاً. وقال: ولا دراهم فأتنا بذلك. فلقيني رجل، فقال: خبزاً تريد أو دقيقاً؟ فقلت له: أحدهما ثم مشيت نهاري أجمع لا أقدر على شيء فرجعت فقدم أهلي إلي خبزاً ولحماً واسعاً، فقلت: من أين هذا لكم؟ قالوا: من الذي وجهت به. فسكت.
وعن الأوزاعي قال: رأيت رجلاً في الطواف وهو متعلق بأستار الكعبة وهو يقول: يا رب إني فقير كما ترى، وصبيتي قد عروا كما ترى، وناقتي قد عجزت كما ترى، فما ترى يا من ترى ولا يرى؟ فإذا بصوت من خلفه: يا عاصم! يا عاصم! الحق عمك! فقد هلك بالطائف وقد خلف ألف نعجة، وثلاثمائة ناقة، وأربعمائة دينار، وأربعة أعبد، وثلاثة أسياف يمانية، فامض فخذها فليس له وارث غيرك. قال: فقلت: يا عاصم! إن الذي دعوته لقد كان قريباً منك. قال: يا هذا أما سمعت قوله تعالى:
{وإذا سألك عبادي عني فإني قريبٌ}.
والآثار والحكايات في هذا المعنى كثيرة جداً يطول ذكرها، وهي موجودة في مثل ((كتاب الفرج بعد الشدة)) و((كتاب مجابي الدعوة)) لابن أبي الدنيا، وفي ((كتاب المستصرخين بالله عند نزول(1/90)
البلاء)) للقاضي أبي الوليد بن الصفار، و((كتاب المستغيثين بالله عند نزول البلاء)) للحافظ أبي القاسم بن بشكوال الأندلسيين وفي غيرها من كتب الزهد والرقائق والتواريخ وغيرها.
وروى [الشيخ] أبو الفرج في ((تاريخه الكبير)) بإسناده عن الحسن بن سفيان الفسوي الحافظ أنه كان مقيماً بمصر مع جماعة من أصحابه يكتبون الحديث فاحتاجوا فباعوا ما معهم حتى لم يبق لهم ما يباع، وبقوا ثلاثة أيام جياعاً لا يجدون شيئاً يأكلونه وأصبحوا في اليوم الرابع وقد عزموا على المسألة لشدة الضرورة فاقترعوا على من يسأل لهم، فخرجت القرعة على الحسن بن سفيان قال: فتحيرت ودهشت ولم تسامحني نفسي بالمسألة، فعدلت إلى زاوية المسجد أصلي ركعتين طويلتين وأدعو الله -عز وجل- لكشف الضر وسياقة الفرج، فلم أفرغ من الصلاة حتى دخل المسجد رجل معه خادم في يده منديل، فقال: من منكم الحسن بن سفيان؟ فرفعت رأسي من السجود وقلت: أنا. فقال: إن الأمير ابن طولون يقرئكم السلام والتحية، ويتعذر إليكم في الغفلة عن تفقد أحوالكم والتقصير الواقع في رعاية حقوقكم، وقد بعث إليكم بما يكفي نفقة الوقت، وهو زائر لكم غداً ويعتذر إليكم بلفظه ووضع بين يدي كل واحد منا صرة فيها مائة دينار، قال: فتعجبنا وسألنا عن السبب، قال: إنه كان اليوم نائماً فرأى فارساً في الهواء يقول له: قم فأدرك الحسن بن سفيان وأصحابه فإنهم منذ ثلاثة أيام جياع في المسجد الفلاني فقال له: من أنت؟(1/91)
قال: أنا رضوان صاحب الجنة. قال الحسن: فشكرنا الله عز وجل وأصلحنا أحوالنا وسافرنا تلك الليلة من مصر خشية أن يزورنا الأمير، فيطلع الناس على أسرارنا فيكون ذلك سبب ارتفاع اسم، وانبساط جاه، ويتصل ذلك بنوع من الرياء والسمعة.
وروي أيضاً بإسناد له عن محمد بن هارون الروياني أنه اجتمع هو ومحمد بن نصر المروزي ومحمد بن علوية الوراق ومحمد بن إسحاق بن خزيمة فذكر معنى هذه الحكاية وأن المصلي والداعي كان هو ابن خزيمة، وبإسناد آخر أن الأربعة كانوا محمد بن جرير، ومحمد بن نصر، ومحمد بن خزيمة، ومحمد بن هارون.(1/92)
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((وإذا استعنت فاستعن بالله))
لما أمر -عليه السلام- بحفظ الله والتعرف إليه في الرخاء وذلك هو العبادة حقيقة ثم أرشد إلى سؤال الله وحده ودعائه، ((والدعاء هو العبادة)) كما في حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قرأ:
(({وقال ربكم ادعوني أستجب لكم.. .. } الآية،)).
خرجه أهل السنن الأربعة، أرشد بعد ذلك إلى الاستعانة بالله وحده وهذا منتزع من قوله تعالى:
{إياك نعبد وإياك نستعين}.
وهي كلمة عظيمة جامعة يقال: إن سر الكتب الإلهية كلها ترجع إليها وتدور عليها.(1/93)
وفي استعانة الله وحده فائدتان:
إحداهما: أن العبد عاجز عن الاستقلال بنفسه في عمل الطاعات.
والثانية: أنه لا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله عز وجل، فمن أعانه الله فهو المعان، ومن خذله الله فهو المخذول.
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز))، وكان صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته ويعلم أصحابه أن يقولوا: ((الحمد لله نستعينه ونستهديه))، وأمر معاذ بن جبل أن لا يدع في دبر كل صلاة أن يقول: ((اللهم أعني على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتك))، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم : ((يا رب أعني ولا تعن علي))، وفي دعاء القنوت الذي كان يقنت(1/94)
به عمر وغيره: اللهم إنا نستعينك ونستهديك. وفي الأثر المعروف ويقال أن موسى -عليه السلام- قاله لما ضرب البحر فانفلق: ((اللهم لك الحمد وإليك المشتكى، وأنت المستعان وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك)).
فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات، وترك المحظورات، وفي الصبر على المقدورات كما قال يعقوب -عليه السلام- لبنيه:
{فصبرٌ جميلٌ والله المستعان على ما تصفون}.
ولهذا قالت عائشة هذه الكلمة لما قال أهل الإفك ما قالوا فبرأها الله مما قالوا. وقال موسى لقومه:
{استعينوا بالله واصبروا}.
وقال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم :
{قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون}.
ولما بشر صلى الله عليه وسلم عثمان بالجنة على بلوى تصيبه قال: الله(1/95)
المستعان، ولما دخلوا على عثمان وضربوه جعل يقول والدماء تسيل عليه: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، اللهم إني أستعينك عليهم وأستعينك على جميع أموري، وأسألك الصبر على ما ابتليتني.
وروي عن أبي طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بعض غزواته حين لقي العدو: ((يا مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين)) قال أبو طلحة: فلقد رأيت الرجال تصرع. خرجه أبو الشيخ الأصبهاني.
فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في مصالح دينه وفي مصالح دنياه، كما قال الزبير في وصيته لابنه عبد الله بقضاء دينه: إن عجزت فاستعن بمولاي. فقال له: يا أبت من مولاك؟ قال: الله، قال: فما وقعت في كربة من دينه إلا قلت: يا مولى الزبير اقض عنه دينه فيقضيه.
وقال عمر بن الخطاب في أول خطبة خطبها على المنبر: ألا إن العرب جمل آنف قد أخذت بخطامه، وإني حامله على المحجة ومستعين بالله عليه.(1/96)
وكذلك يحتاج العبد إلى الاستعانة بالله على أهوال ما بين يديه من الموت وما بعده.
لما اختصر خالد بن الوليد قال رجل ممن حوله: والله إنه ليسؤه يعني: الموت. قال خالد: أجل فأستعين الله عز وجل. وبكى عامر بن عبد الله بن الزبير عند موته وقال: إنما أبكي على حر النهار وبرد القيام -يعني: صيام النهار وقيام الليل-، وقال: وإني أستعين الله على مصرعي هذا بين يديه. ومن كلام بعض المتقدمين: يا رب عجبت لمن يعرفك كيف يرجو غيرك! عجبت لمن يعرفك كيف يستعين بغيرك!
كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: لا تستعن بغير الله فيكلك الله إليه.
وقال بعضهم: فاستغن بالله واستعنه فإنه خير مستعان.(1/97)
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((جف القلم بما هو كائنٌ)) وفي الرواية الأخرى: ((رفعت الأقلام وجفت الكتب)) وفي الرواية الأخرى: ((وجفت الصحف))
كله كناية عن نفوذ المقادير وكتابتها جميعها في كتاب جامع من أمد بعيد، فإن الكتاب إذا كتب وفرغ من كتابته وبعد عهده فقد رفعت الأقلام عنه التي كتبت به وجفت الأقلام التي كتب بها من مدادها وجفت الصحيفة المكتوب به فيها.
وهذا من أحسن الكنايات وأبلغها وقد دل الكتاب والسنن الصحيحة على مثل هذا المعنى قال الله عز وجل:
{ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتابٍ من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسيرٌ}.(1/98)
قال الضحاك عن ابن عباس: إن الله خلق القلم فأمره ليجري بإذنه، وعظم قدر القلم كقدر ما بين السماء والأرض، فقال القلم: بم يا رب أجري؟ قال: بما أنا خالق وكائن في خلقي من قطر أو نبات أو نفس أو أثر -يعني به العمل- أو رزق أو أجل. فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة فأثبته الله في الكتاب المكتوب عنده تحت العرش.
روى أبو ظبيان عن ابن عباس: أن أول شيء خلقه الله القلم، فقال له: اكتب قال: وما أكتب؟ قال: القدر، فجرى بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة ثم قرأ:
{ن. والقلم وما يسطرون}.
وروى أبو الضحى عن ابن عباس نحوه أيضاً. وروي حديث أبي الضحى مرفوعاً ولا يثبت رفعه. وروى ابن بطة بإسناد ضعيف عن أبي هريرة مرفوعاً: ((أول شيءٍ خلقه الله القلم ثم خلق النون، وهي الدواة ثم قال: اكتب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائنٌ إلى يوم القيامة. فذلك قوله عز وجل:
{ن. والقلم وما يسطرون}.(1/99)
ثم ختم على القلم فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة)).
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي من حيث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أول ما خلق الله القلم ثم قال: اكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة)).
وفي ((صحيح مسلم)) عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنةٍ)).
وخرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي من حديث عبد الله بن عمرو قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان فقال: ((أتدرون ما هذان الكتابان؟)) فقلنا: لا يا رسول الله، إلا أن تخبرنا، فقال: للذي في يده اليمنى: ((هذا كتابٌ من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء أبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً)) ثم قال للذي في شماله: ((هذا كتابٌ من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء(1/100)
أبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً)). فقال أصحابه: ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمرٌ قد فرغ منه؟ فقال: ((سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عملٍ، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل)). ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه فنبذهما ثم قال: ((فرغ ربكم من العباد، فريقٌ في الجنة، وفريقٌ في السعير)).
وخرج الإمام أحمد من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((فرغ الله إلى كل عبدٍ من خمسٍ من أجله ورزقه وأثره ومضجعه وشقيٌ أو سعيدٍ)).
وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خلق الله كل نفسٍ وكتب حياتها ورزقها ومصائبها)).(1/101)
وخرج مسلم من حديث جابر أن رجلاً قال: يا رسول الله فيم العمل اليوم أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما نستقبل؟ قال: ((لا. بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير)) قال: ففيم العمل؟ قال: ((اعملوا فكل ميسرٌ)).
وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة جداً، وكذلك الآثار الموقوفة. وقال بعضهم:
سلم الأمر كله جف بالكائن القلم ... إن للناس خالقاً لا مرد لما حكم(1/102)
وقوله صلى الله عليه وسلم بعد هذا: ((فلو أن الخلق جميعاً أرادوا أن ينفعوك بشيءٍ لم يقضه الله لم يقدروا عليه، وإن أرادوا أن يضروك بشيءٍ لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه))
يريد بذلك أن ما يصيب العبد مما يضره أو ينفعه في دنياه فكله مقدر عليه، ولا يمكن أن يصيبه ما لم يكتب له ولم يقدر عليه ولو اجتهد على ذلك الخلق كلهم جميعاً، وقد دل القرآن أيضاً على مثل هذا في قوله تعالى:
{قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا}.
وقوله:
{ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتابٍ}.
وقوله:
{قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم}.
وخرج الإمام أحمد من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم(1/103)
قال: ((إن لكل شيءٍ حقيقةً وما بلغ عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن لصيبه)). وخرج أبو داود وابن ماجة من حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه أيضاً.
واعلم أن مدار جميع هذه الوصية من النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس على هذا الأصل، وما بعده وما قبله متفرع عليه وراجع إليه، فإنه إذا علم العبد أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له من خير أو شر أو نفع أو ضر، وأن اجتهاد الخلق كلهم جميعاً على خلاف المقدور غير مفيد شيئاً البتة، علم حينئذ ٍأن الله تعالى وحده هو الضار والنافع والمعطي المانع، فأوجب ذلك للعبد توحيد ربه -عز وجل- وإفراده بالاستعانة والسؤال والتضرع والابتهال، وإفراده أيضاً بالعبادة والطاعة. لأن المعبود إنما يقصد بعبادته جلب المنافع ودفع المضار، ولهذا ذم الله سبحانه من يعبد ما لا ينفع ولا يضر ولا يغني عن عابده شيئاً، وأيضاً فكثير ممن لا يحقق الإيمان في قلبه يقدم طاعة مخلوق على طاعة الله رجاء نفعه أو دفعاً لضره. فإذا تحقق العبد تفرد الله وحده بالنفع والضر وبالعطاء والمنع، أوجب ذلك إفراده بالطاعة والعبادة، ويقدم طاعته على طاعة الخلق كلهم(1/104)
جميعاً كما يوجب ذلك أيضاً إفراده سبحانه بالاستعانة به، والطلب منه.
وقد اشتملت هذه الوصية العظيمة الجامعة على هذه الأمور المهمة كلها.
فإن حفظ العبد لله عز وجل هو حفظ حدوده ومراعاة حقوقه وهو حقيقة عبادته، وهو أول ما صدرت به هذه الوصية. ورتب على ذلك حفظ الله لعبده، وهو نهاية ما يطلبه العبد من ربه ويريده منه. ثم عقب ذلك بذكر التعرف إلى الله في الرخاء، وأنه مقتض لمعرفة الله لعبده في الشدة وهذا هو من تمام حفظ الله لعبده وداخل فيه، إلا أن حالة الشدة لما كان العباد مضطرين فيها إلى من يعرفهم ويفرج عنهم خصت بالذكر لهذا المعنى. وفي هذه الحالة يخلص المشركون الدعاء لله وحده ،ويفردونه بالسؤال والطلب لعلمهم أنه لا يكشف الضر سواه سبحانه، ثم يعودون عند كشف الضر عنهم إلى الشرك كما ذكر سبحانه ذلك عنهم في مواضع من كتابه وذمهم عليه. فأمر صلى الله عليه وسلم بمخالفتهم في ذلك بالتعرف إلى الله في حال الرخاء بإخلاص الدين له وحده وبطاعته والتقرب إليه، ليوجب ذلك معرفته لهم في الشدة وكشفها عنهم.
ثم عقب ذلك بذكر إفراد الله بالسؤال، وإفراده بالاستعانة وذلك يشتمل حال الشدة وحال الرخاء. ثم ذكر بعد هذا كله الأصل الجامع الذي تنبني عليه هذه المطالب، وهو: تفرد الله(1/105)
سبحانه وتعالى بالضر والنفع والعطاء والمنع، وأنه لا يصيب العبد ذلك كله إلا ما سبق تقديره وقضاه له، وأن الخلق كلهم عاجزون عن إيصال نفع أو ضر غير مقدر في الكتاب السابق.
وتحقيق هذا يقتضي انقطاع العبد عن التعلق بالخلق، وعن سؤالهم واستعانتهم ورجائهم بجلب نفع أو ضر، وخوفهم من إيصال ضر أو منع نفع، وذلك يستلزم إفراد الله سبحانه بالطاعة والعبادة أيضاً، وأن تقدم طاعته على طاعة الخلق جميعاً، وإن يتقى سخطه ولو كان فيه سخط الخلق جميعاً. وقد جاء في حديث أبي سعيد مرفوعاً: ((إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجده حرص حريصٍ ولا يرده كراهة كارهٍ)).
وما أحسن قول بعضهم:
فليتك تحلو والحياة مريرةٌ ... وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامرٌ ... وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هينٌ ... وكل الذي فوق التراب تراب
فمن تحقق أن كل مخلوق فوق التراب فهو تراب، فكيف(1/106)
يقدم طاعة شيء من التراب على طاعة رب الأرباب؟ أم كيف يرضي التراب بسخط الملك الوهاب إن هذا لشيء عجاب! وقد دل القرآن على هذا الأصل وهو تفرد الله سبحانه بالعطاء والمنع في مواضع كثيرة جداً كقوله تعالى:
{ما يفتح الله للناس من رحمةٍ فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده}.
وقوله تعالى:
{وإن يمسسك الله بضرٍ فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخيرٍ فلا راد لفضله}.
وقوله تعالى:
{قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضرٍ هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمةٍ هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون}.
وقوله تعالى حاكياً عن نبيه نوح -عليه السلام- لقومه:
{إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم .. .. } الآية.
وقوله تعالى حاكياً عن نبيه هود -عليه السلام-:
{قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريءٌ مما تشركون. من دونه فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون. إني توكلت على الله ربي وربكم}.(1/107)
وقال بعضهم:
ما قدر الله لي لا بد يدركني ... من ذا الذي يدفع المقدور بالحذر
الله أولى بنا منا بأنفسنا ... إن نحن إلا مماليك المقتدر
وشكا رجل إلى فضيل الفاقة، فقال له فضيل: أمدبراً غير الله تريد؟!
وقال بعضهم:
دبر فليس بمغنٍ عنك تدبير ... وليس يعدوك بالتدبير تقدير
إن الأمور لها رب يدبرها ... فما قضى الرب ساقته المقادير(1/108)
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((واعلم أن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً))
وفي رواية عمر مولى غفرة ابن عباس زيادة قبل هذا الكلام وهي: ((فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا في اليقين فافعل، وإن لم تستطيع فإن الصبر على ما تكره خيراً كثيراً))، ومراده باليقين هاهنا تحقيق الإيمان بما سبق ذكره من التقدير السابق كما ورد ذلك صريحاً في رواية ابنه علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه لكن بإسناد ضعيف وفي روايته زيادة وهي: قلت: يا رسول الله كيف أصنع باليقين؟: ((أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك)).
فإذا أنت أحكمت باب اليقين فحصول اليقين للقلب بالقضاء السابق والتقدير الماضي يوجب رضا النفس بالقضاء والقدر وطمأنينتها به، وقد دل القرآن على هذا المعنى بعينه في قوله تعالى:
{لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم}.(1/109)
قال الضحاك في هذه الآية: عزاهم لكيلا تأسوا على ما فاتكم، لا تأسوا عل شيء من أمر الدنيا فإنا لم نقدره لكم، ولا تفرحوا بما آتاكم لا تفرحوا بشيءٍ من أمر الدنيا أعطيناكموه، فإنه لم يكن يزوي عنكم. خرجه ابن أبي الدنيا.
وقال سعيد بن جبير في هذه الآية: لكيلا تأسوا على ما فاتكم من العافية والخصب إذا علمتم أنه كان مكتوباً عليكم قبل أن يخلقكم. خرجه ابن أبي حاتم.
ومن هذا المعنى قول بعض السلف: الإيمان بالقدر يذهب الهم والحزن، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله في الحديث الصحيح عنه: ((احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)) فأشار في هذا الحديث إلى أن تذكير النفس بالقدر السابق عند المصائب يذهب وساوس الشيطان الموجبة للهم والحزن والندم على تعاطي الأسباب الدافعة لوقوعها.
وقال أنس: خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي لشيء فعلته لم فعلت كذا وكذا؟ ولا شيء لم أفعله: ألا فعلت كذا؟!. وقال: وكان إذا لامني بعض أهله، قال: ((دعوه فلو قدر شيءٌ كان)). خرجه الإمام أحمد بهذه الزيادة.(1/110)
وخرج ابن أبي الدنيا بإسناد فيه نظر عن عائشة قالت: كان أكثر كلام النبي صلى الله عليه وسلم في بيته إذا خلا: ((ما قضي من أمر يكن))، وخرج أيضاً حديثاً مرسلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن سعود: ((لا تكثر همك ما يقدر يكن، وما ترزق يأتيك))، وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( (لا حول ولا قوة إلا بالله). دواءٌ من تسعةٍ وتسعين داءً، أيسرها: الهم)). خرجه الطبراني والحاكم.
فإن تحقيق هذه الكلمة تقتضي تفويض الأمور إلى الله، وأنه لا يكون إلا ما شاء والإيمان بذلك يذهب الهم والغم. وقد وصى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً فقال: ((لا تتهم الله في شيءٍ قضاه لك)).
فإذا نظر المؤمن بالقضاء والقدر في حكمة الله ورحمته، وأنه(1/111)
غير متهم في قضائه دعاه ذلك إلى الرضا بالقضاء، وقال الله عز وجل:
{ما أصاب من مصيبةٍ إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه}.
قال علقمة في هذه الآية: هي المصيبة تصيب الرجل فيعلم أنها من عند الله فيسلم لها ويرضى. وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيراً له، إن أصابته سراء شكر كان خيراً له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن)).
وقد دل القرآن على مثل هذا المعنى في قوله تعالى:
{قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون. قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين}.
فأخبر أنه لن يصيبهم إلا ما كتب لهم، فدل على أنه لهم بكل حال سواء كان مما يلائم أو لا يلائم، وأخبر أنه تعالى مولاهم، ومن تولاه الله لم يخذله، بل هو يتولى مصالحه، قال تعالى:
{فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير}.
ثم عقب ذلك بقوله:(1/112)
{هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين}.
يعني إما النصر والظفر، وإما الشهادة، وأيهما كان فهو أحسن.
وخرج الترمذي من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط)).
قال أبو الدرداء: إن الله إذا قضى قضاءً أحب أن يرضى به، وقالت أم الدرداء: إن الراضين بقضاء الله الذين ما قضى لهم رضوا به، لهم في الجنة منازل يغبطهم بها الشهداء يوم القيامة.
وقال ابن مسعود: إن الله بقسطه وعلمه جعل الروح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط. وقد روي هذا مرفوعاً من وجه ضعيف.
وكان عمر بن عبد العزيز يقول: لقد تركتني هؤلاء الدعوات وما لي في شيء من الأمور إرب إلا في مواقع قدر الله عز وجل، وكان يدعو بها كثيراً: اللهم رضني بقضائك وبارك لي في قدرك،(1/113)
حتى لا أحب تعجيل شيء أخرته، ولا تأخير شيء قدمته.
وقال ابن عون: ارض بقضاء الله على ما كان من عسر ويسر فإن ذلك أقل لهمك، وأبلغ فيما تطلب من أمر آخرتك، واعلم أن العبد لن يصيب حقيقة الرضا حتى يكون رضاه عند الفقر والبلاء كرضاه عند الغنى والرخاء، كيف تستقضي الله في أمرك؟ ثم تسخط إن رأيت قضاءه مخالفاً لهواك! ولعل ما هويت من ذلك لو وفق لك لكان فيه هلاكك، وترضى قضاءه إذا وافق هواك وذلك لقلة علمك بالغيب! وكيف تستقضيه إن كنت كذلك؟ ما أنصفت من نفسك ولا أصبت باب الرضا!.
وهذا كلام حسن، ومعناه أن العبد إذا استخار الله -عز وجل- فينبغي له أن يرضى لما اختاره له من موافق لهواه أو مخالف له، لأنه لا يدري في أيهما الخيرة له والله سبحانه غير متهم في قضاءه لمن استخاره، ومن هاهنا كان طائفة من السلف كابن مسعود وغيره يأمرون من يخاف أو لا يصبر على ما يخالف هواه مما يختار له أن يقول في استخارته: في عافية فإنه قد يختار له البلاء ولا يصبر عليه، وقد روي هذا مرفوعاً من وجه ضعيف.(1/114)
عن بكر المزني أن رجلاً كان يكثر الاستخارة فابتلي فجزع ولم يصبر فأوحى الله إلى نبي من أنبيائهم أن قل لعبدي فلان: إذا لم تكن من أهل العزائم فهلا استخرتني في عافية!.
وفي حديث سعد المرفوع: ((إن من سعادة المرء استخارته ربه عز وجل ورضاه بما قضى، وإن شقاوته تركه الاستخارة وسخطه بما قضى)). خرجه الترمذي وغيره.
وللرضا بالقضاء أسباب:
منها: يقين العبد بالله وثقته به بأنه لا يقضي للمؤمن قضاء إلا وهو خير له، فيصير كالمريض المستسلم للطبيب الحاذق الناصح فإنه يرضى بما يفعله به من مؤلم وغيره لثقته به ويقينه أنه لا يريد له إلا الأصلح، وهذا هو الذي أشار إليه ابن عون في كلامه المتقدم ذكره.
ومنها: النظر إلى ما وعد الله من ثواب الرضا، وقد يستغرق العبد في ذلك حتى ينسى ألم المقضي به كما روي عن بعض(1/115)
الصالحات من السلف أنها عثرت فانكسرت ظفرها، فضحكت وقالت: أنساني لذة ثوابه مرارة ألمه.
ومنها: وهو أعلى من ذلك كله الاستغراق في محبة المبتلي ودوام ملاحظة جلاله وجماله وعظمته وكماله الذي لا نهاية له، فإن قوة ملاحظة ذلك يوجب الاستغراق فيه، حتى لا يشعر بالألم كما غاب النسوة اللاتي شاهدن يوسف عن ألم تقطيع أيديهن بمشاهدته.
قال الجنيد سألت سرياً: هل يجد المحب ألم البلاء؟ فقال: لا. وهذا إشارة منه إلى هذا المقام، ومنه قول جماعة من أهل البلاء: يفعل بنا ما يشاء فلو قطعنا إرباً إرباً ما ازددنا له إلا حباً.
وفي هذا المعنى يقول بعضهم:
لو قطعني الغرام إرباً إرباٍ ... ما ازددت على الملام إلا حباً
لا زلت بكم أسير وجدٍ صبا ... حتى أقضي على هواكم نحباً
كان إبراهيم بن أدهم [قد] خرج عن ملكه وماله وولده وحشمه، فرأى ولده في الطواف فلم يكلمه، وقال:
هجرت الخلق طراً في هواكا ... وأيتمت العيال لكي أراكا
فلو قطعتني في الحب إرباً ... لما حن الفؤاد إلى سواكا
كان جماعة من المحبين كالفضيل وفتح الموصلي إذا باتوا ليلة بغير عشاء ولا سراج اشتد فرحهم، وبكوا من الفرح، وقالوا:(1/116)
مثلنا يترك بغير عشاء ولا سراج بأي يد كانت منا، وبأي وسيلة توسلنا بها، وكان فتح يجمع ولده في ليالي الشتاء، ويغطيهم بكسائه، ويقول: أجعتني وأجعت عيالي، وأغربتني وأغربت عيالي، وإنما تفعل ذلك بأوليائك وأحبابك فهل أنا منهم حتى أفرح؟.
ودخلوا على بعض السلف وهو مريض [فقالوا له: ما تحب؟] فقال: أحبه إلي أحبه إليه.
وفي هذا يقول بعضهم:
عذابه فيك عذب ... وبعده فيك قرب
وأنت عندي كروحي ... بل أنت منها أحب
حسبي من الحب أني ... لما تحب أحب
وأنشد أبو تراب:
لا تخدعن فللمحب دلائلٌ ... ولديه من تحف الحبيب وسائل
منها تنعمه بمر بلائه ... وسروره في كل ما هو فاعل
فالمنع منه عطيةٌ مقبولةٌ ... والفقر إكرامٌ وبر عاجل
دخلوا على رجل قد قتل ابنه في الجهاد يعزونه فبكى وقال: ما أبكي على قتله، إنما أبكي كيف كان رضاه عن الله حين أخذته السيوف؟.(1/117)
إن كان سكان الغضا ... رضوا بقتلي فرضى
والله لا كنت لما ... يهوى الحبيب مبغضا
صرت لهم عبداً وما ... للعبد أن يعترضا
هم قلبوا قلبي من الشوق ... على جمر الغضا
يا ليت أيام الحمى ... يعود منها ما مضى
من لمريضٍ لا يرى ... إلا الطبيب الممرضا
والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابن عباس بالعمل بالرضا إن استطاعه، ثم قال له: ((فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً)).
وهذا يدل على أن الرضا بالأقدار المؤلمة ليس بحتم واجب وأنما هو فضل مندوب إليه، فمن لم يستطع الرضا فليلزم الصبر، فإن الصبر واجب لا بد منه، وفيه خير كثير، فإن الله تعالى أمر بالصبر ووعد عليه جزيل الأجر قال تعالى:
{إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حسابٍ}.
وقال:
{وبشر الصابرين. الذين إذا أصابتهم مصيبةٌ قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. أولئك عليهم صلواتٌ من ربهم ورحمةٌ وأولئك هم المهتدون}.
وقال تعالى:
{وبشر المخبتين. الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم}.(1/118)
قال الحسن: الرضا عزيز ولكن الصبر معول المؤمن. قال سليمان الخواص: الصبر دون الرضا، والرضا: أن يكون الرجل قبل نزول المصيبة راض بأي ذلك كان، والصبر: أن يكون بعد نزول المصيبة يصبر.
وحقيقة الفرق بين الصبر والرضا: أن الصبر كف النفس وحبسها عن التسخط مع وجود الألم، والرضا يوجب انشراح الصدر وسعته، وإن وجد الإحساس بأصل الألم لكن الرضا يخفف الإحساس بالألم لما يباشر القلب من روح اليقين والمعرفة، وقد يزيل الإحساس به بالكلية على ما سبق تقريره.
ولهذا قال طائفة كثيرة من السلف منهم عمر بن عبد العزيز، والفضيل وأبو سليمان، وابن المبارك، وغيرهم: إن الراضي لا يتمنى غير حاله التي هو عليها بخلاف الصابر.
وقد روي عن طائفة من الصحابة هذا المعنى أيضاً وأنهم كانوا لا يتمنون غير ما هم عليه من الحال، منهم عمر وابن مسعود.
قال عبد العزيز بن أبي رواد: كان عابد يتعبد في بني إسرائيل، فرأى في منامه أن فلانة زوجتك في الجنة فاستضافها ثلاث ليال لينظر عملها، فكانت تنام وهو يقوم، وتفطر وهو يصوم، فلما فارقها سألها عن أوثق عملها عندها، قالت: هو ما رأيت، إلا خصلة واحدة، إن كنت في شدة لم أتمن أني في رخاء، وإن كنت في مرض لم أتمن أني في صحة وإن كنت جائعة لم أتمن أني شبعانة، وإن كنت في شمس لم أتمن أني في فيء.(1/119)
فقال العابد: هذه والله خصلة يعجز عنها العباد.
وكما أن الصبر إنما يكون عند الصدمة الأولى، كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فالرضا إنما يكون بعد نزول البلاء، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: ((وأسألك الرضا بعد القضاء)).
لأن العبد قد يعزم على الرضا بالقضاء قبل وقوعه، فإذا وقع انفسخت تلك العزيمة.
فمن رضي بعد وقوع القضاء، فهو الراضي حقيقة.
وفي الجملة: فالصبر واجب لا بد منه، وما بعده إلا السخط، ومن سخط أقدار الله فله السخط مع ما يتعجل له من الألم وشماتة الأعداء به أعظم من جزعه كما قال بعضهم:
لا تجزعن من كل خطبٍ عرا ... ولا ترى الأعداء ما يشمتوا
يا قوم بالصبر تنال المنى ... إذا لقيتم فئةً فاثبتوا
وقال النبي صلى الله عليه وسلم :(1/120)
((من يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحدٌ عطاءً خيراً ولا أوسع من الصبر)).
وقال عمر وجدنا خير عيشنا الصبر. وقال علي: إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له.
وقال الحسن: الصبر كنز من كنوز الجنة، لا يعطيه الله إلا لمن كرم عليه.
وقال ميمون بن مهران: ما نال أحد شيئاً من جسيم الخير،(1/121)
نبي فمن دونه إلا بالصبر، وقال إبراهيم التيمي: ما من عبد وهب الله له صبراً على الأذى، وصبراً على البلاء، وصبراً على المصائب، إلا وقد أوتي أفضل ما أوتيه أحد بعد الإيمان بالله عز وجل.
وهذا منتزع من قوله تعالى:
{ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر.. .. } إلى قوله:
{والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون}.
والمراد بالبأساء الفقر ونحوه، وبالضراء المرض ونحوه، وحين البأس حال الجهاد.
وقال عمر بن عبد العزيز: ما أنعم الله على عبد نعمة فانتزعها منه، فعاضه مكان ما انتزع منه الصبر إلا كان ما عوضه خيراً مما انتزع منه، ثم تلا:
{إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حسابٍ}.
وكان بعض الصالحين في جيبه ورقة يفتحها كل ساعة فينظر فيها، وفيها مكتوب:
{واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا}.
والصبر الجميل هو أن يكتم العبد المصيبة ولا يخبر بها. قال طائفة من السلف في قوله تعالى:
{فصبرٌ جميلٌ}.
قالوا: لا شكوى معه.
كان الأحنف بن قيس قد ذهبت عينه من أربعين سنة ولم يذكرها لأحد.(1/122)
وذهبت عين عبد العزيز بن أبي رواد من عشرين سنة، فتأمله ابنه يوماً فقاله له: يا أبت، قد ذهبت عينك! فقال: نعم يا بني، الرضا عن الله أذهب عين أبيك من عشرين سنة.
وكان الإمام أحمد لا يشتكي ما به من المرض إلى أحد، وذكر له أن مجاهداً كان يكره الأنين في المرض، فتركه فلم يئن حتى مات، وكان يقول لنفسه: يا نفس اصبري وإلا تندمي.
ودخل بعض العارفين على مريض يقول: آه، فقال له ذلك العارف: ممن؟.
وفي هذا المعنى يقول بعضهم:
تفيض النفوس بأوصابها ... وتكتم عوادها ما بها
وما أنصفت مهجةٌ تشتكي ... هواها إلى غير أحبابها
قال يحيى بن معاذ: لو أجببت ربك ثم جوعك وأعراك، لكان يجب أن تحتمله وتكتمه عن الخلق، فقد يحتمل الحبيب لحبيبه الأذى فكيف وأنت تشكوه فيما لم يصنعه بك؟.
ويقبح من سواك الفعل عندي ... وتفعله فيحسن منك ذاكا
كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يشدون على بطونهم الحجارة من الجوع.
كان أويس يلتقط الكسر من المزابل، والكلاب تزاحمه، فنبح عليه كلب يوماً فقال: يا كلب لا تؤذ من لا يؤذيك، كل مما(1/123)
يليك وآكل مما يليني، فإن دخلت الجنة فأنا خير منك، وإن دخلت النار فأنت خير مني.
وكان إبراهيم بن أدهم يلتقط السنبل مع المساكين، فرأى منهم كراهة لمزاحمته، فقال: أنا تركت ملك بلخ أفأزاحم المساكين على لقاط السنبل؟ فكان بعد ذلك لا يلتقط إلا مع الدواب التي ترعى فيه.
وكان الإمام أحمد يلتقط السنبل مع المساكين.
وآجر سفيان الثوري نفسه من جمالين في طريق مكة، فطبخ لهم طعاماً فأفسده فضربوه.
وكان فتح الموصلي يوقد النار للناس بالأجرة:
من أجلك قد تركت خدي أرضاً ... للشامت والحسود حتى ترضى
مولاي إلى متى بهذا أحظى ... عمري يفنى وحاجتي ما تقضى
[وقال غيره]:
كم أحمل في هواك ذلاً وعنا ... كم أصبر فيك تحت سقم وضنا
لا تطردني فليس عنك غنى ... خذ روحي إن أردت الثمنا
من أجل هواكم هويت العشقا ... قلبي كلفٌ ودمعتي ما ترقا
في حبكم يهون ما قد ألقى ... ما يسعد بالنعيم من لا يشقى(1/124)
كانت مصائب الدنيا عندهم نعماً، حتى قال بعضهم: ليس بفقيه من لم يعد البلاء نعمة والرخاء مصيبة.
ومن الإسرائيليات: إذا رأيت الغنى مقبلاً فقل: ذنب عجلت عقوبته، وإذا رأيت الفقر مقبلاً فقل: مرحباً بشعار الصالحين.
وقال بعض السلف: إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عليها أربع مرات: أحمد الله إذ لم تكن أعظم مما هي، وأحمد الله إذ رزقني الصبر عليها، وأحمده إذ وفقني للاسترجاع، وأحمده إذ لم يجعلها في ديني.
وانتظار الفرج بالصبر عبادة فإن البلاء لا يدوم:
اصبر لكل مصيبةٍ وتجلد ... واعلم بأن الضر غير مؤبد
واصبر كما صبر الكرام فإنها ... نوبٌ تنوب اليوم تكشف في غد
إذا غمس أعظم الناس بلاء كان في الدنيا في نعيم الجنة غمسة، قيل له: هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك بؤس قط؟ قال لا يا رب:(1/125)
يا نفس ما هي إلا صبر أيامٍ ... كأن مدتها أضغاث أحلام
يا نفس جوزي عن الدنيا مبادرةً ... وخل عنها فإن العيش قدام
وقال [غيره]:
وما هي إلا ساعةٌ ثم تنقضي ... ويذهب هذا كله ويزول(1/126)
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((واعلم أن النصر مع الصبر))
هذا موافق لقوله تعالى:
{يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئةً فاثبتوا واذكروا الله كثيراً.. .. } الآية.
وقوله تعالى: {فإن يكن منكم مائةٌ صابرةٌ يغلبوا مائتين.. .. } الآية.
وقوله تعالى في قصة طالوت:
{فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه.. .. } إلى قوله: {والله مع الصابرين}.
وقوله تعالى:
{بلى إن تصبروا وتتقوا.. .. } الآيات.
إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث في الأمر بالصبر عند لقاء العدو كثيرة جداً.
وقال عمر لأشياخ من بني عبس: بم قاتلتم الناس؟ قالوا: بالصبر، لم نلق قوماً إلا صبرنا لهم كما صبروا لنا.
قال بعض السلف: كلنا يكره الموت وألم الجراح، ولكن نتفاضل بالصبر.
وسئل البطال عن الشجاعة فقال: صبر ساعة.(1/127)
وهذا كله في جهاد العدو الظاهر وهو جهاد الكفار، وكذلك في جهاد العدو الباطن وهو جهاد النفس والهوى، فإن جهادهما من أعظم الجهاد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :
((المجاهد من جاهد نفسه في الله)).
وقال عبد الله بن عمرو لرجل سأله عن الجهاد: ابدأ بنفسك فجاهدها، وابدأ بنفسك فاغزها.
ويروى بإسناد ضعيف من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لقوم رجعوا من الغزو:
((قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، قيل: وما الجهاد الأكبر؟ قال: مجاهدة العبد لهواه)).
وقال أبو بكر الصديق في وصيته لعمر رضي الله عنه حين استخلفه: إن أول ما أحذرك نفسك التي بين جنبيك.(1/128)
ويروى من حديث سعد بن سنان عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن حديث أبي مالك الأشجعي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً قال: ((ليس عدوك الذي إذا قتلك أدخلك الجنة، وإذا قتلته كان لك نوراً، أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك)).
وأخذ هذا المعنى العباس بن الأحنف الشاعر فقال:
قلبي إلى ما ضرني داعي ... يكثر أحزاني وأوجاعي
لقل ما أبقى على ما أرى ... يوشك أن ينعاني الناعي
كيف احتراسي من عدوي إذا ... كان عدوي بين أضلاعي
فهذا الجهاد أيضاً يحتاج إلى صبر، فمن صبر على مجاهدة نفسه وهواه وشيطانه غلب وحصل له النصر، ومن جزع ولم يصبر على مجاهدة ذلك غلب وقهر وأسر، وصار ذليلاً أسيراً في يدي شيطانه وهواه، [كما قيل]:
إذا المرء لم يغلب هواه أقامه ... بمنزلة فيها العزيز ذليل
وقال [غيره]:
رب مستورٍ سبته صبوةٌ ... فترعى صبره فانهتكا
صاحب الشهوة عبدٌ فإذا ... غلب الشهوة صار الملكا(1/129)
قال ابن المبارك: من صبر فما أقل ما يصبر، ومن جزع فما أقل ما يتمتع.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم :
((ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)).
ووصف بعضهم الأحنف بن قيس فقال: كان أشد سلطاناً على نفسه. [عند الغضب].
قيل لبعضهم: إن فلاناً يمشي على الماء، فقال: من مكنه الله من مخالفة هواه فهو أقوى ممن يمشي على الماء.
واعلم أن نفسك بمنزلة دابتك، إن عرفت منك الجد جدت، وإن عرفت منك الكسل طمعت فيك، وطلبت منك حظوظها وشهواتها.
كان أبو سليمان الداراني يقول: كنت بالعراق، أمر على تلك القصور والمراكب والملابس والمطاعم التي للملوك فلا تلتفت نفسي إلى شيء من ذلك، وأمر على التمر، فتكاد نفسي(1/130)
تقع عليه، فذكر ذلك لبعض العارفين فقال: تلك الشهوات آيس نفسه منها فأيست والتمرة أطمعها فيه فطمعت، كما قيل:
صبرت على اللذات حتى تولت ... وألزمت نفسي هجرها فاستمرت
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى ... فإن طمعت تاقت وإلا تسلت
وكانت على الأيام نفسي عزيزة ... فلما رأت عزمي على الذل ذلت
فقوله صلى الله عليه وسلم : ((أن النصر مع الصبر))
يشمل الصبر على جهاد العبد لعدوه الظاهر، وجهاده لعدوه الباطن وهو نفسه وهواه، وكان السلف يفضلون هذا الصبر على الصبر على البلاء.
وقال ميمون بن مهران: الصبر صبران: الصبر على المصيبة حسن، وأفضل من ذلك الصبر عن المعاصي.
وقال سعيد بن جبير: الصبر على نحوين: أحدهما الصبر عما حرم الله، والصبر لما افترض الله من عبادته، فذلك أفضل الصبر، والصبر الآخر في المصائب.
وقد ورد في هذا حديث مرفوع من حديث علي لكنه لا يثبت.(1/131)
قوله صلى الله عليه وسلم : ((أن الفرج مع الكرب))
هذا يشهد له قوله تعالى:
{وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا.. .. } الآية.
وقوله تعالى: {الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً}.
إلى قوله: {يستبشرون.. .. } الآية.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي رزين العقيلي:
((ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره)) خرجه الإمام أحمد، وخرج ابنه عبد الله من حديث أبي رزين أيضاً في حديث طويل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((علم الله يوم الغيث إنه ليشرف عليكم أزلين قنطين، فيظل يضحك، قد علم أن غيركم إلى قربٍ)).
والمعنى أنه سبحانه يعجب من قنوط عباده عند احتباس المطر عنهم وخوفهم وإشفاقهم ويأسهم من الرحمة، وقد قدر الله تغيير هذه الحال عن قرب بإنزال المطر ولكنهم لا يشعرون.(1/132)
وهذا كما اشتكى ذلك الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم يخطب يوم الجمعة احتباس المطر وجهد الناس فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه فاستسقى لهم حتى نشأ السحاب ومطروا إلى الجمعة الأخرى حتى قاموا إليه صلى الله عليه وسلم فطلبوا منه أن يستصحي لهم ففعل فأقلعت السماء.
وقد قص الله في كتابه قصصاً كثيرة تتضمن وقوع الفرج بعد الكرب والشدة، كما قص نجاة نوح ومن معه في الفلك من الكرب العظيم، مع إغراق سائر أهل الأرض.
وكما قص نجاة إبراهيم -عليه السلام- من النار التي ألقاه المشركون فيها وأنه جعلها برداً وسلاماً، وكما قص قصة إبراهيم مع ولده الذي أمر بذبحه ثم فداه الله بذبح عظيم.
وكما قص قصة موسى -عليه السلام- مع أمه لما ألقته في اليم حتى التقطه آل فرعون، وقصته مع فرعون لما نجى الله موسى في البحر وأغرق عدوه.
وقصة أيوب ويونس ويعقوب ويوسف -عليه السلام- وقصة قوم يونس لما آمنوا.
وكان قص الله قصص محمد صلى الله عليه وسلم ونصره على أعدائه ونجاته منهم في عدة مواطن مثل قصته في الغار وقصته يوم بدر ويوم أحد ويوم حنين.(1/133)
وكما قص سبحانه قصة عائشة في حديث الإفك وبرأها مما رميت به. وقصة الثلاثة:
{الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا}.
وفي السنة من هذا المعنى شيء كثير أيضاً مثل قصة الثلاثة الذين دخلوا الغار فانطبقت عليهم الصخرة فدعوا الله بأعمالهم الصالحة ففرج عنهم.
ومثل قصة إبراهيم وسارة مع الجبار الذي طلبها من إبراهيم ورد الله كيد الفاجر.
والحكايات الواقعة في هذا المعنى في الإسلام وقبله كثيرة جداً لا يمكن استقصاؤها وكثير منها مذكور في الكتب المصنفة: ((في الفرج بعد الشدة)) لابن أبي الدنيا وغيره، وكتاب ((مجابي(1/134)
الدعوة)) لابن أيي الدنيا، وكتاب ((المستغيثين بالله والمستصرخين به))، وكتب كرامات الأولياء، وأخبار الصالحين، وفي كتب التواريخ وغيرها.
ونحن نذكر ههنا طرفاً يسيراً من أظرف ما حكي في هذا الباب ليعتبر به.
ذكر بعض العلماء في مصنف له -وأظنه من المغاربة- أنه سمع من أبي ذر الهروي الحافظ يحكي أنه كان ببغداد يقرأ على أبي حفص ابن شاهين في دكان عطار، وأنه شاهد رجلاً جاء إلى العطار فدفع إليه عشرة دراهم وأخذ منه حوائج، وجعلها في طبق ووضعه على رأسه، فزلق ووقع طبقه وتفرقت حوائجه، فبكى واشتد بكاؤه وقال: لقد ضاع مني في قافلة كذا وكذا هميان فيه أربعمائة دينار، أو قال: أربعة آلاف دينار، ومعها فصوص قيمتها مثل ذلك فما جزعت لضياعها، ولكن ولد لي الليلة ولد فاحتجنا في البيت إلى ما تحتاج إليه النفساء، ولم يكن عندي غير هذه العشرة دراهم فلما قدر الله ما قدر جزعت، وقلت: لا أنا عندي ما أرجع به اليوم إلى أهلي ولا ما أكتسب لهم غداً، ولم يبق لي حيلة إلا الفرار عنهم وتركهم على هذه الحال فيهلكون بعدي، فلم أملك نفسي أن جزعت هذا الجزع.
قال أبو ذر: ورجل من شيوخ الجند جالس على باب داره فسمع هذا كله، فسأل الجندي أبا حفص أن يدخل هو وأصحابه والرجل المصاب معه إلى بيته ففعل، وطلب من الرجل المصاب إعادة الحكاية في الهميان فأعاد ذلك عليه، وسأله عن من كان في(1/135)
تلك القافلة وعن المكان الذي ضاع منه الهميان، فأخبره، ثم سأله عن صفة الهميان وعلامته، فأخبره بذلك، فقال: لو رأيته كنت تعرفه؟ قال: نعم، قال: فأخرجه إليه فلما رآه، قال: هذا الهميان الذي سقط مني وفيه من الأحجار ما صفته كذا وكذا، ففتح الهميان فوجد الأحجار على ما وصف فدفعه إليه وخرج من عنده وقد صار من الأغنياء.
فلما خرج بكى الشيخ الجندي بكاءً شديداً فسئل عن سبب بكائه فقال: إنه لم يكن بقي لي في الدنيا أمل ولا أمنية أتمناها إلا أن يأتي الله بصاحب هذا المال فيأخذه، فلما قضى الله بذلك بفضله ولم يبق لي أمل علمت أنه قد حان أجلي.
قال أبو ذر: فما انقضى شهر حتى توفي وصلينا عليه.
وحكى هذا المصنف أيضاً في كتابه عن رجل حكى له بالموصل أن رجلاً كان عندهم تاجراً يسافر بتجارته إلى البلدان فسافر مرة بجميع ماله وما يملكه إلى الكوفة، فوافقه في تلك السفرة رجل فخدمه فأحسن خدمته، وأنس به حتى وثق به، ثم استغفله في بعض المنازل وأخذ دابته وما عليها من المال والمتاع، ولم يبق له شيئاً البتة، واجتهد في طلبه فلم يقع له على خبر، فرجع إلى بلده راجلاً جائعاً، فدخل المدينة ليلاً وهو على تلك الحال فطرق بابه، فلما علم أهله سروا وقالوا: الحمد لله الذي جاء بك في هذا الوقت، فإن أهلك قد ولدت اليوم ولداً وما وجدنا ما نشتري به ما تحتاج إليه النفساء، ولقد كانت هذه الليلة طاوية(1/136)
فاشتر لنا دقيقاً ودهناً نسرج به، فلما سمع ذلك زاد في غمه وكربه، وكره أن يخبرهم بما جرى له فيحزنهم، فخرج إلى حانوت رجل كان بالقرب من داره فسلم عليه، وأخذ منه دهناً وغيره مما يحتاج إليه، فبينما هو يخاطبه إذا التفت فرأى خرجه الذي هرب به خادمه مطروحاً في داخل الحانوت، فسأله عنه فقال: إن رجلاً ورد علي بعد العشاء واشترى مني عشاء واستضافني فأضفته، فجعلت خرجه في حانوتي ودابته في دار جارنا، والرجل بائت في المسجد، فنهض إلى المسجد ومعه الخرج فوجد الرجل نائماً، فرفسه فاستيقظ مذعوراً، فقال له: أين مالي يا خائن؟ قال: هو ذا على عنقك والله ما تفقد منه ذرة. واستخرج الدابة على موضعها، ووسع على أهله وأخبرهم حينئذ بخبره.
ويشبه هاتين الحكايتين ما حكاه التنوخي في كتابه، والحكاية طويلة، وملخصها: أن رجلاً كان ببغداد في زمن الرشيد، وكان صيرفياً، فابتاع جارية بخمسمائة دينار، وشغف بها حتى تعطل عن معاشه بسبب ملازمتها، وأنفق رأس ماله حتى لم يبق معه منه شيء، وحملت جاريته فصار ينقض داره ويبيع أنقاضها حتى فرغت ولم يبق له حيلة فضربها الطلق وهو على تلك الحال، وطلبت منه ما يصلح للنفساء، وشكت إليه أنها تموت إن لم يعجل عليها بذلك، فبكى، وخرج على وجهه، وهم أن يغرق نفسه في دجلة، ثم خاف عقاب الله فامتنع، وخرج ماشياً على قدميه من قرية إلى(1/137)
قرية حتى بلغ خراسان، فأقام بها واكتسب مالاً، وكتب إلى بلده ستة وستين كتاباً ليتعرف خبر الجارية فلم يعد إليه الجواب، فلم يشك أنها ماتت.
ثم رجع إلى بغداد بعد مدة طويلة، ومعه مال قيمته عشرون ألف دينار، فخرج على قافلته اللصوص فأخذوا ما معه كله، وعاد بثيابه فقيراً، ولم يزل يتوصل حتى دخل بغداد فقيراً كما خرج منها بعد أن غاب عنها قريباً من ثلاثين سنة، فقصد داره فوجدها عامرة، وبابها حسن، وعليه بواب وغلمان وبغال، فسأل عن الدار: لمن هي؟ فقيل: هي لابن فلان الصيرفي وسموا الرجل باسمه، قالوا: وهو ابن داية أمير المؤمنين، وهو جهبذه وصاحب بيت ماله، وأخبره الذي سأله أن أباه أخبره أن أبا هذا الرجل صاحب الدار كان صيرفياً جليلاً فافتقر، وإن أم هذا الصبي ضربها الطلق، فخرج أبوه يطلب لها شيئاً، ففقد وهلك، وأن أمه أرسلت إلى بعض الجيران تستغيث بهم فقاموا لها بحوائج الولادة، ثم أنه ولد لأمير المؤمنين ولد ذكر وذلك الولد هو المأمون، وأنه عرض عليه جميع الدايات فلم يقبل أثداهن، فأرشدوا إلى أم هذا الصبي فحملت إلى دار الرشيد، فحين وضع فم المولود على ثديها قبله وأرضعته ،وصارت عندهم في حال جليلة. ثم لما ولي المأمون الخلافة كانت المرأة وابنها معه، وبنى ابنها هذه الدار. وسأله عن أمه: أحية هي؟ قالوا: نعم، وهي تمضي إلى دار الخليفة أياماً وتكون عند ابنها أياماً، فجاء الرجل الصيرفي حتى دخل الدار مع الناس فرآها في غاية الحسن ورأى في صدرها شاباً يشبهه، وبين(1/138)
يديه الكتاب والأموال والموازين يقبضون ويقبضون، فجلس الرجل في غمار الناس حتى تفرقوا ولم يبق غيره فقال له الشاب: يا شيخ هل من حاجة؟ قال: نعم أنا أبوك. قال: فتغير وجهه ووثب مسرعاً، ثم استدعاه إلى داره وأجلسه على كرسي وهناك ستار فقال له الشيخ: لعلك تريد أن تختبر صدق قولي من جهة فلانة وذكر اسم جاريته أم الصبي، فسمعت الجارية صوته فرفعت الستارة وخرجت إلى مولاها وجعلت تقبله وتبكي، وأخبرها خبره من حين خروجه من عندها إلى أن رجع فقام ولده حينئذٍ واعتذر إليه من تقصيره وأصلح حاله، ثم أدخله على المأمون فحدثه بحديثه، فخلع عليه وصيره جهبذاً له على ما كان عليه ابنه، وأجرى له الرزق وقلد ابنه عملاً أجل من عمله.
وروى المعافى بن زكريا النهرواني بإسناده عن سوار القاضي أنه خرج يوماً من دار المهدي، فدخل داره فدعا بغدائه فجاشت نفسه، فرده ثم دعا بجارية له فلم تطب نفسه، فدخل للقائلة فلم يأخذه النوم، فنهض وركب بغلته فلقيه وكيل له معه ألفا درهم فقال له: أمسكها معك واتبعني. وخلى بغلته فذهبت به، فحضرت الصلاة وهو في بعض الشوارع فدخل فصلى في مسجد هناك، فلما قضى صلاته، إذا هو بأعمى يتلمس، فقال له: ما تريد؟ قال له: أريدك. قال: وحاجتك؟ قال: شممت منك ريح الطيب فظننت أنك من أهل النعيم فأردت أن ألقي إليك شيئاً. قال: قل(1/139)
قال: أترى هذا القصر؟ لقصرٍ هناك. قال: نعم، قال: فإنه كان لأبي فباعه، ثم خرج إلى خراسان فخرجت معه فزالت عنا النعم التي كنا فيها، فقدمت فأتيت صاحب الدار لأسأله شيئاً يصلني به وأصير إلى سوار فإنه كان صديقاً لأبي، قال سوار: قلت: فمن أبوك؟ قال: فلان بن فلان فإذا هو أصدق الناس لي، فقلت له: فإن الله قد أتاك بسوار منعه الطعام والشراب والنوم وجاء به بين يديك. ثم دعا سوار وكيله فأخذ منه الدراهم فدفعها إليه. وقال له: إذا كان غد فصر إلي. قال سوار: ثم دخلت على المهدي فحدثته بهذا الحديث فأعجبه وأمر للأعمى بألفي دينار وأمر لسوار بمائة ألف دينار، قال سوار: فجاءني الأعمى، فدفعت إليه الألفي دينار، وقلت له: قد رزق الله بكرمه بك خيراً كثيراً وأعطيته من مالي ألفي دينار أيضاً.
وخرج ابن أبي الدنيا في كتابه ((الفرج بعد الشدة)) بإسناده عن وضاح بن خيثمة قال: أمرني عمر بن عبد العزيز بإخراج من في السجن فأخرجتهم إلا يزيد بن أبي مسلم فنذر هدر دمي، فإني لبإفريقية إذ قيل لي: قدم يزيد بن أبي مسلم يعني أميراً على إفريقية فهربت منه، وأرسل في طلبي فأخذت، فأتي بي إليه، فقال لي: والله لطالما سألت الله أن يمكنني منك. فقلت: وأنا والله طالما استعذت بالله من شرك، فقال: والله ما أعاذك. والله لأقتلنك ثم والله لأقتلنك، ثم والله لأقتلنك، لو سابقني ملك الموت إلى قبض روحك لسبقته، علي بالسيف والنطع. قال: فجيء بالنطع فأقعدت فيه، وكتفت. وقام قائم على رأسي بسيفٍ(1/140)
وبإسناده عن عمر السرايا وكان يغزو في بلاد الروم وحده فبينما هو نائم ذات يوم إذ ورد عليه علجٌ منهم فحركه برجله فانتبه فقال: يا عربي اختر إن شئت مطاعنةً، وإن شئت مسايفةً، وإن شئت مصارعةً، فقلت: أما المطاعنة والمسايفة فلا بقيا لهما ولكن المصارعة، فنزل فصرعني وجلس على صدري وقال: أي قتلةٍ أقتلك؟ فرفعت رأسي وقلت: أشهد أن كل معبود ما دون عرشك إلى قرار الأرضين باطل غير وجهك الكريم، قد ترى ما أنا فيه ففرج عني قال: فأغمي عليه فأفقت فإذا الرومي قتيل إلى جنبي.
وروى أبو الحسن ابن الجهضم بإسناده عن حاتم الأصم قال: لقينا الترك فكان بيننا جولة فرماني تركي فقلبني عن فرسي ونزل فقعد على صدري وأخذ بلحيتي وأخرج من خفه سكيناً ليذبحني فما كان قلبي عنده ولا عند سكينه، وإنما كان عند سيدي فقلت: سيدي إن قضيت علي أن يذبحني هذا فعلى الرأس(1/141)
والعين إنما لك وملكك، فبينما أنا على هذه الحال إذ رماه بعض المسلمين بسهم فما أخطأ حلقه فسقط عني فقمت أنا إليه وأخذت السكين من يده فذبحته بها، فما هو إلا أن تكون قلوبكم عند السيد حتى تروا من عجائب لطفه ما لم تروا من الآباء والأمهات.
وهذا باب يطول ذكره جداً فليقتصر على ما ذكرناه ففيه كفاية.(1/142)
قوله صلى الله عليه وسلم : ((أن مع العسر يسراً))
هذا منتزع من قوله سبحانه وتعالى:
{سيجعل الله بعد عسرٍ يسراً}.
وقوله تعالى:
{فإن مع العسر يسراً. إن مع العسر يسراً}.
وروى حميد بن حماد بن أبي الخوار، ثنا عائذ بن شريح: سمعت أنس بن مالك يقول:
كان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً وحياله جحر، فقال: ((لو جاء العسر فدخل هذا الجحر لجاء اليسر حتى يدخل عليه فيخرجه)). فأنزل الله عز وجل:
{فإن مع العسر يسراً. إن مع العسر يسراً}.
خرجه ابن أبي حاتم في ((تفسيره)) وخرجه البزار في ((مسنده)) ولفظه:
((لو جاء العسر حتى يدخل هذا الجحر لجاء اليسر حتى يخرجه. ثم قال:
{إن مع العسر يسراً}.(1/143)
حميد بن حماد هذا ضعفوه.
وخرج ابن أبي حاتم من رواية مبارك بن فضالة عن الحسن قال: كانوا يقولون: لا يغلب عسر واحد يسرين اثنين.
وخرج ابن جرير من رواية معمر عن الحسن قال:
خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوماً مسروراً فرحاً وهو يقول: ((لن يغلب عسر يسرين، لن يغلب عسر يسرين.. .. {فإن مع العسر يسراً. إن مع العسر يسراً})).
وخرجه أيضاً من رواية عوف ويونس عن الحسن مرسلاً أيضاً.
ومن حديث قتادة قال:
ذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر أصحابه بهذه الآية فقال: ((لن يغلب عسرٌ يسرين)).(1/144)
وروى ابن أبي الدنيا من حديث معاوية بن قرة عن من حدثه عن ابن مسعود قال: لو أن العسر دخل في جحر لجاء اليسر حتى يدخل معه ثم قال: قال الله تعالى:
{فإن مع العسر يسراً. إن مع العسر يسراً}.
ومن حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن جده أن أبا عبيدة حصر فكتب إليه عمر يقول: مهما ينزل بامرئ من شدة إلا يجعل الله له بعدها فرجاً، إنه لن يغلب عسر يسرين، وإنه يقول:
{اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون}.
وكذا قال ابن عباس وغيره من المفسرين في هذه الآية: لن يغلب عسر يسرين.
كان بعض المتقدمين ليلة في البادية في غم شديد فألقي في روعه بيت من الشعر، فقال:
أرى الموت لمن أصبح ... مغموماً له أصلح
فلما جن عليه الليل سمع هاتفاً يهتف:
ألا يا أيها المرء ... الذي الهم به برح
وقد أنشد بيتاً لم ... يزل في ذكره يسنح
إذا اشتد بك العسر ... ففكر في ألم نشرح
فعسر بين يسرين ... إذا أبصرته فافرح(1/145)
قال: فحفظت الأبيات ففرج الله غمي.
وقد أكثر الشعراء في القول في هذا المعنى، ونحن نذكر قطعة منتخبة من محاسن ما قيل في ذلك، فمما قيل في هذا المعنى:
تصبر إن عقبى الصبر خيرٌ ... ولا تجزع لنائبةٍ تنوب
فإن اليسر بعد العسر يأتي ... وعند الضيق تنكشف الكروب
ولبعضهم:
وكم جزعت نفوسٌ عن أمورٍ ... أتى من دونها فرجٌ قريب
ولبعضهم:
عسى فرجٌ يكون عسا ... نعلل أنفسنا بعسى
وأقرب ما يكون المرء ... من فرجٍ إذا يئسا
ولغيره:
إذا تضايق أمرٌ فانتظر فرجا ... فأضيق الأمر أدناه من الفرج
ولبعضهم:
فلا تجزع وإن أعسرت يوماً ... فقد أيسرت في الزمن الطويل
ولا تظنن بربك ظن سوءٍ ... فإن الله أولى بالجميل
ولا تيأس فإن اليأس كفرٌ ... لعل الله يغني عن قليل
فإن العسر يتبعه يسارٌ ... وقيل: الله أصدق كل قيل
ولبعضهم:(1/146)
مفتاح باب الفرج الصبر ... وكل عسرٍ بعده يسر
والدهر لا يبقى على حالةٍ ... والأمر يأتي بعده الأمر
ولغيره:
إذا اشتملت على اليأس القلوب ... وضاق لما به الصدر الرحيب
وأوطأت المكاره واطمأنت ... وأرست في أماكنها الخطوب
ولم ترى لانكشاف الضر وجهاً ... ولا أغنى بحياته الأريب
أتاك على قنوطٍ منك غوثٌ ... يمنٌ به اللطيف المستجيب
وكل الحادثات وإن تناهت ... فموصولٌ بها الفرج القريب
ولبعضهم:
عسى ما ترى أن لا يدوم وأن ترى ... له فرجاً مما ألج به الدهر
عسى فرجٌ يأتي به الله إنه ... له كل يومٍ في خليقته أمر
إذا لاح عسرٌ فارج يسراً فإنه ... قضى الله أن العسر يتبعه اليسر
ولنختم الكتاب بذكر نبذة يسيرة من لطائف البلايا وفوائدها وحكمها.
فمنها: تكفير الخطايا بها، والثواب على الصبر عليها، وهل يثاب على البلايا بنفسه؟ فيه اختلاف بين العلماء.
ومنها: تذكر العبد بذنوبه فربما تاب ورجع منها إلى الله عز وجل.
ومنها: زوال قسوة القلوب وحدوث رقتها.
قال بعض السلف: إن العبد ليمرض فيذكر ذنوبه فيخرج منه مثل رأس الذباب من خشية الله فيغفر له.(1/147)
ومنها: انكسار العبد لله عز وجل وذله له، وذلك أحب إلى الله من كثير من طاعات الطائعين.
ومنها: أنها توجب للعبد الرجوع بقلبه إلى الله، والوقوف ببابه والتضرع له والاستكانة، وذلك من أعظم فوائد البلاء، وقد ذم الله من لا يستكين له عند الشدائد، قال الله تعالى:
{ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون}.
وقال:
{ولقد أرسلنا إلى أممٍ من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون}.
وفي بعض الكتب السابقة: إن الله ليبتلي العبد وهو يحبه ليسمع تضرعه.
وقال سعيد بن عبد العزيز: قال داود -عليه السلام-: سبحان مستخرج الدعاء بالبلاء، وسبحان مستخرج الشكر بالرخاء.
ومر أبو جعفر محمد بن علي بمحمد بن المنكدر وهو مغموم فسأل عن سبب غمه، فقيل له: الدين قد فدحه فقال أبو جعفر: أفتح له في الدعاء؟ قيل: نعم. قال: لقد بورك لعبد في حاجة أكثر فيها من دعاء ربه كائنة ما كانت.
وكان بعضهم إذا فتح له في الدعاء عند الشدائد لم يحب تعجيل إجابته خشية أن ينقطع عما فتح له.
وقال ثابت: إذا دعا الله المؤمن بدعوة وكل جبريل بحاجته(1/148)
يقول: لا تعجل بإجابته فإني أحب أن أسمع صوت عبدي المؤمن.
وروي مرفوعاً من وجوه ضعيفة.
رأى بعض السلف رب العزة في نومه فقال: يا رب، كم أدعوك ولا تجيبني؟
قال: إني أحب أن أسمع صوتك.
ومنها: أن البلاء يوصل إلى قلبه لذة الصبر عليه والرضا به، وذلك مقام عظيم جداً، وقد تقدمت الإشارة إلى فضل ذلك وشرفه.
ومنها: أن البلاء يقطع قلب المؤمن عن الالتفات إلى مخلوق ويوجب له الإقبال على الخالق وحده.
وقد حكى الله عن المشركين إخلاص الدعاء له عند الشدائد فكيف بالمؤمن؟!.
فالبلاء يوجب للعبد تحقيق التوحيد بقلبه وذلك أعلى المقامات وأشرف الدرجات.
وفي الإسرائيليات يقول الله عز وجل: البلاء يجمع بيني وبينك، والعافية تجمع بينك وبين نفسك.(1/149)
فصل
وإذا اشتد الكرب وعظم الخطب كان الفرج حينئذٍ قريباً في الغالب. قال تعالى:
{حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا}.
وقال: {حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه.. .. } الآية.
وأخبر عن يعقوب -عليه السلام- أنه لم ييأس من لقاء يوسف، وقال لإخوته:
{اذهبوا فتحسسوا من يوسف.. .. } الآية.
وقال:
{عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً}.
ومن لطائف أسرار اقتران الفرج باشتداد الكرب أن الكرب إذا اشتد وعظم وتناهى وجد الأياس من كشفه من جهة المخلوق ووقع التعلق بالخالق وحده، ومن انقطع عن التعلق بالخلائق وتعلق بالخالق، استجاب الله له وكشف عنه. فإن التوكل هو قطع(1/150)
الاستشراف باليأس من المخلوقين، كما قال الإمام أحمد، واستدل عليه بقول إبراهيم لما عرض له جبريل في الهواء وقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا.
والتوكل من أعظم الأسباب التي تطلب بها الحوائج، فإن الله يكفي من توكل عليه، كما قال:
{ومن يتوكل على الله فهو حسبه}.
قال الفضيل: والله لو يئست من الخلق حتى لا تريد منهم شيئاً لأعطاك مولاك كل ما تريد.
ومنها: أن العبد إذا اشتد عليه الكرب فإنه يحتاج حينئذٍ إلى مجاهدة الشيطان، لأنه يأتيه فيقنطه ويسخطه، فيحتاج العبد إلى مجاهدته ودفعه، فيكون ثواب مجاهدة عدوه ودفعه: دفع البلاء عنه ورفعه.
ولهذا في الحديث الصحيح:
((يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، فيقول: قد دعوت فلم يستجب لي، فيدع الدعاء)).
ومنها: أن المؤمن إذا استبطأ الفرج ويئس منه ولا سيما بعد كثرة الدعاء وتضرعه ولم يظهر له أثر الإجابة، رجع إلى نفسه باللائمة ويقول لها: إنما أتيت من قبلك ولو كان فيك خير لأجبت.
وهذا اللوم أحب إلى الله من كثير من الطاعات فإنه يوجب(1/151)
انكسار العبد لمولاه، واعترافه له بأنه ليس بأهل لإجابة دعائه فلذلك يسرع إليه حينئذٍ إجابة الدعاء وتفريج الكرب، فإنه تعالى عند المنكسرة قلوبهم من أجله، على قدر الكسر يكون الجبر.
قال وهب: تعبد رجل زماناً ثم بدت له إلى الله حاجة فصام سبعين سبتاً يأكل في كل سبت إحدى عشرة تمرة، ثم سأل الله حاجته فلم يعطها فرجع إلى نفسه فقال: منك أتيت، لو كان فيك خير أعطيت حاجتك. فنزل إليه عند ذلك ملك، فقال: يا ابن آدم ساعتك هذه خير من عبادتك التي مضت وقد قضى الله حاجتك.
أهين لهم نفسي لكي يكرمونها ... ولن تكرم النفس التي لا تهينها
فمن تحقق هذا وعرفه وشاهده بقلبه، علم أن نعم الله على عبده المؤمن بالبلاء أعظم من نعمه في الرخاء، وهذا تحقيق معنى الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم :
((لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له، إن أصابته سراء فشكر كان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر كان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن)).
ومن ههنا كان العارفون بالله لا يختارون إحدى الحالتين على الأخرى، بل أيهما قدر الله رضوا به وقاموا بعبوديته اللائقة به.
وفي ((المسند)) والترمذي عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً فقلت: لا يا رب،(1/152)
ولكن أشبع يوماً، وأجوع يوماً فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت شكرتك وحمدتك)).
وقال عمر: ما أبالي أصبحت على ما أحب أو على ما أكره لأني لا أدري الخير فيما أحب أو فيما أكره؟.
وقال عمر بن عبد العزيز: أصبحت يوماً وما لي سرور إلا في مواقع القضاء والقدر.
يا هذا لم نستدعيك إلينا وأنت تفر منا! نسبغ عليك النعم فتشتغل بها عنا وتنسانا! فنفرغ عليك البلاء لترد إلينا! وتقف على بابنا، ونسمع تضرعك! البلاء يجمع بيننا وبينك! والعافية تجمع بينك وبين نفسك!.
إن جرى بيننا وبينك عتبٌ ... أو تناءت منا ومنك الديار
فالوداد الذي عهدت مقيمٌ ... والأيادي التي عهدت غزار
كم لنا في طي البلايا من منحٍ ... وعطايا وفي الزوايا خبايا
يا هذا! إن شكرت نعمنا عليك فتوفيقك للشكر من جملة نعمنا فاشكره! وإن صبرت على بلائنا فالصبر من جملة فضلنا فاذكره! فكل ما تتقلب فيه فهو من نعمنا فلا تكفره!(1/153)
{وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلومٌ كفارٌ}.
إذا كان شكري نعمةً ... علي له في مثلها يجب الشكر
فكيف وقوع الشكر إلا بفضله ... وإن طالت الأيام واتصل العمر
إذا مس بالسراء عم سرورها ... وإن مس بالضراء أعقبها الأجر
وما منهما إلا له فيه منةٌ ... تضيق لها الأوهام والبر والبحر
[تم الكتاب بحمد الله ومنه وكرمه وحسن توفيقه]
بعونه تعالى تم التعليق على هذا الكتاب وتحقيقه في الثاني من جمادى الآخرة 1406هـ.
أفقر الورى أبو عبد الرحمن محمد بن ناصر العجمي غفر الله له أوزاره وأوضاره.(1/154)