…
نقض
المَوْسُوعَة اليُوسُِفيَّة
في
بَيَان أدِلَّة الصُّوفِيَّة
ليوسف خطار محمد الطبعة الرابعة 1423 طبعة نضر
المجلَّد الأول
القسم الثالث (3)
كتبه أبو ماجد أحمد بن عبد القادر تركستاني1426- 1427هـ
غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين
حقوق الطبع للكل وللشبكة العلمية لخدمة الطالب (المدينة النبوية، دوار القبلتين)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْم
الحمد لله الذي هدى حقَّ الهُدى، والصلاة والسلام على نبينا محمد الهادي بهدي ربه جل وعلا، وعلى آله وصحبه الذين بهدي خليلهم اقتدوا، وعلى من اتبعهم وبهم اهتدوا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله..
فهذا القسم الثالث من المجلد الأول لنقضنا لـ "الموسوعة اليوسفية في بيان أدلة الصوفية" لمؤلفها الصوفي يوسف خطار محمد..وأنا أقدِّمه للقراء الكرام، لينهلوا منه الفوائد السنية، وجميل التوجيهات السلفيَّة، والتحذيرات من كل الدخيلات البِدْعِيَّة، ليعمّ النفع به - وبِقِسْمَيْهِ الأَوَّلَيْن - المسلمين مشارق الأرض ومغاربها، وأسأل الله العليّ العظيم أن يخلص لي به العمل، وأنْ يبارك لي فيه الجهد، وأن يكشف به الرين عن قلوب المغفلين، والكَمْه عن عيون المُضَلَّلِين؛ ليبصروا ويروا الحقائق على وجهها الصحيح.. آمين.
تمهيد
فما زلنا في التعليق على كُتِبِ الشَّيخ القرضاوي عفا الله عنا وعنه، والرد على بعض مخالفاته للكتاب والسنة، وكان الغرض من الرد عليه - وعلى غيره الذين خالفوا الكتاب والسنة - إنما هو لتصفية الدين من كل ما يعكِّر صَفْوه من أفكار دخيلة عليه، كمثل هؤلاء الآفة الدخلاء الذين يحشرون أنفسهم بين أهل العلم المحققين الربانيين؛ بإطلاق ألسنتهم، وتدوين أقلامهم بمجرد ما يُلْقى في إلهاماتهم! ويسنح في خيالاتهم، ليظن المسلم العامي أنهم يقولون الحق وبه يعدلون، وهم في الحقيقة يخوضون بأكاذيبهم وترهاتهم..(1/1)
وبقيت في خُلْفٍ يزكِّ بعضهم بعضاً ليدفع معورٌ عن معورٍ
وإنه مما يلفت نظر القارئ أنني في مَعرض الرد على المخالفات؛ فإني قد أطيل في الرد على الموضوع الواحد فأُكثر فيه على حسب الحاجة؛ وما هذا إلا لزيادة في الفائدة، ولِلتَّثَبُّتِ من المغالطات المضادة للكتاب والسنة، وكشف التخليط في القواعد الإسلامية والتعدي فيها، فالموضوعات متشابهة ومترادفة ومتشابكة؛ وفي هذا يلزم إدراج ما تيسر الظفر به من الحجج التي تُسْنِدُ الأدلة التي فيها ننقض ما في كتب المخالفين، مع تصوير الدلائل التي لا تجعل للمعترض وقع اعتراض، وإنما تدفع عنه الشُّبه والاضطراب ومظَّنتهما، لعل الله سبحانه وتعالى أن يبصِّر كل من قرأ؛ ليفضح كل من خالف باتجاهاته وأفكاره المتنوعة، فقد انقشعت الغيمة، وذاب الجليد، وظهرت الخيبة، فيا حسرة!
قد يقول قائل: إن في هذا الرد: تجميع وتكثير!
فأقول: نعم! في هذا الرَّد والنقض تجميع كثير، وتقْميش ليس بقليل، ولكن فيه البحث والتفتيش، لتكثير العساكر والجيوش، التي لها الأثر الكبير في قناعة النفوس، وهو ما درج عليه أهل العلم في تصنيفاتهم التي لم نجمع معشار جمعهم..
فمثلا في معرض الرد على اليهود والنصارى؛ نجد الإطالة في الرد عليهم؛ لكونهم أهل كتاب، فيُظن أنهم من أهل الدِّيانات التي يجوز للناس أن يتديَّنوا بها، أو يقول أنه يجوز مخالطتهم وتهنئتهم في أعيادهم ومناسبات طقوسهم الدينية بزعم أن الله قد أجاز لنا الزواج من نسائهم وأكل ذبائحهم، فيُلتبس على الناس مثل هذه المسائل، والأدهى من ذلك والأمر عندما ترى أن من الدعاة من يدلس على الناس فيفتي في شأنهم فتاوى مخالفة للكتاب والسنة ومنهج السلف من الأمة كما رأيت وسوف تراه قريباً في هذا الجزء من نقضنا لموسوعة يوسف خطار المليئة بالأخطار..(1/2)
لهذا كان من اللازم عَلَيَّ عرض أفكار اليهود والنصارى، والإلمام بتاريخهم، ومواقفهم من أنبياء الله، ونظرتهم إلى غيرهم، وعرض ما بدَّلوه من كتبهم السماوية التي لم يبق فيها من الحقيقة السماوية إلا النَّزر اليسير، وحتى يتبين للناس أن دينهم الذي يدينون به الآن ليس ديناً سماوياً، ولا شرعاً ربانياً، وإنما هو - كما سنبينه إن شاء الله – دين مبدل ومحرف، يحوي توراة وأناجيل متعددة الأسفار والإصحاحات، والتي بلغت العشرات، وليس فيها عين التوراة المنزلة على موسى، ولا عين الإنجيل المنزل على عيسى عليهما الصلاة السلام، وهي متناقضة وملعوب فيها من قبل رهبانهم وبطارقتهم وبتاركتهم وقساوستهم وحكامهم، واحتوائها على كثير من التحريف والتبديل والأغاليط والاختلاف فيها، واختلاف أهلها عليها، واضطرابهم فيها، فضلا عن انقطاع أسانيدها، أما ما كان فيها صحيحاً؛ فهو منسوخ بالإسلام، وما عداه فهو محرف مبدل، أي أنها كتب دائرة بين النسخ والتحريف، وهذا يلزم منا البيان بالدليل من مراجعهم المعتمدة لديهم، حتى لا يقول أحد من الناس أننا نفتري عليهم، أو ندَّعي بقولنا دون دليل، فحاشا لله أن تكون تلك الكتب المحرفة المبدلة، والتي فيها الافتراءات على الله، وعلى رُسِلِ الله هي عين التوراة والإنجيل المنزلة على موسى وعيسى عليهما الصلاة السلام..
ونحن في هذا المنبر القَلَمِيّ ما أردنا الافتراء على الدعاة الذين أرادوا التقريب بين الأديان كالقرضاوي وغيره من الدعاة الذين تولّوا كبر هذه البدعة والتي تُعتبر أكبر ضلالة يمر فيها الدعاة أمثال هؤلاء، ولكنَّا أردنا التحذير من الموافقة أو المطابقة، حتى لا يصير الدعاة في زماننا مع الطوائف المخذولة، والفرق المرذولة، فاللهم سلمنا من تياراتهم، واهدهم إلى الحق وإلى الطريق المستقيم..(1/3)
ثم نحن إن تكلمنا عن اليهود والنصارى؛ فمن باب أنهم هم الذين وافقتهم الصوفية في القبورية، وأن أصولهم كلهم - سواء كانوا يهوداً أو نصارى أو صوفية- متفقة مع الوثنيين شبراً بشر، وباعاً بباع، وحافراً بحافر، فكان لزاماً منا في هذا النقض أن نهتبل الفرصة في بيان هذا الأمر الفظيع الجسيم في حالهم، وإثبات عقائدهم القبوريَّة، وما ورد عنهم في الأحاديث الصحيحة من لعنتهم لاتخاذهم القبور مساجد.. وكذا الشيعة؛ فهم وافقوهم حذو القذة بالقذة، وسنبين - إن شاء الله- في القسم الرابع من المجلد الأول تساهل القرضاوي معهم
بل هم ليسوا قبوريين فقط؛ ولكنهم أيضا ميالون إلى عبادة غير الله بشكل أوضح وأصرح، فهم لهم نفوس دنيئة؛ بحث أنهم لا يعبدون ربهم الأعلى سبحانه وتعالى، وإنما يعبدون من كان أدنى، من الرمم التي تحت التراب، فاتخذوهم آلهة من دون الله، ووافقتهم الصوفية كما سوف نبينه في موضعه، إن شاء الله تعالى..
وإذا أهمل أي كاتب هذه القضايا؛ فستكون نتائج بحثه تافهة عند الكثير من عامة المسلمين، ولا قيمة لها.. وهذا السبب الرئيس في الإطالة والله المستعان وعليه التكلان
فاليهودية والنصرانية أُمَّتان غاليتان فيمن تعظمه من الأنبياء والصالحين، حتى حملهم هذا الغلو على تَأْلِيه مَنْ غَلَوْا فيه، وهذا الغلو هو في الحقيقة تقليداً لسلفهم الغابر من اليونانيين وغيرهم من الوثنيين، فقد كانت اليونان أمة وثنية قبورية تُأَلِّه كل ما أعجبت به من مظاهر الكون، وعباقرة البشر، بل وجميلات النساء، حتى صارت آلهتهم – وخاصة البشرية منهم- عبارة عن أرواح قادرة على أن تفعل للناس الخير والشر، وتُسْتَرْضى بالقرابين والصلاة، فهي عندهم: لا موجود إلا هم، فليس غيرهم في هذا الكون، وأنَّ كل الظواهر التي يرونها؛ ما هي إلا مظاهر لحقيقة واحدة، وهي الحقيقة الإلهية! وما هم فيه؛ إنما هو حقيقة فناؤهم في هذه الحقيقة!.(1/4)
وهذا عند قبورية المسلمين في هذا الزمان بِأُسِّهِ وفِصِّهِ، وهو نفس ما يعتقده أشياخ مؤلف "الموسوعة اليوسفية الصوفية": كالسّلمي، والقشيري، والسَّهْرَوَرْدي، واليافعي، والحلاج، والغزالي، وابن عربي، وابن سبعين، وابن الفارض، وابن العفيف، والنجم الإسرائيلي، وغيرهم الكثير ممن استدل بهم المؤلف في موسوعته الصوفية، من الذين حاموا في الطَّوام والبلايا، حول أصول واحدة؛ بِتَلَوُّنِ فروعها..
ولهذا ولغيره قدمنا هذا الكتاب ليكون موسوعة بإذن الله في أذهان القرَّاء وهم يتابعون معنا هذه الدراسة..
ونحن لا نستغرب من أقوام هم من جلتنا، ويتكلمون بألسنتنا؛ يقدسون ما تقدسه وثنية اليونان، وتجعله هو الحاكم على الشريعة، وليست الشريعة الحاكمة عليه؛ وهو العقل، فصاروا كالوثنيين؛ يتخبطون في ظلمات الجهل ومسالك الضَّلال، فكان هذا التخبط بسبب بحثهم عن حقيقة الأمور بعقولهم القاصرة عن إدراكها، فلا يؤمنون بحديث عن الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - إلا بشرط موافقة العقل عليه، فوضعوا النظريات القاصرة المتناقضة، التي تاهوا بها في أودية الضلال والاضمحلال، فما يوجههم إلا ما استحوذت به عليهم نظرياتهم الفجَّة، وطقوسهم المعوجَّة، وعقولهم المظلمة المسودة..
ذهب الرجال المُقتدى بفعالهم والمنكرون لكل فعل منكر انظر رسالتي "لماذا نحارب البدع والمتدعة على مر العصور"
وستجد في هذا القسم نقض اتجاه القرضاوي نحو الديمقراطية، وتلخيصاً لرأيه تجاهها، وكيف يرى أنها البديل للطاغوت، فينافح عنها وكأنها الإسلام، بل ودعواه أنها هي عين الشورى في الإسلام!
قد يقول قائل: إن القرضاوي لا يستحق الرد عليه، أو حتى كتابة الرد عليه على كاغد؛ لتفاهة أفكاره، ووضوح تلبيساته، وظهور تدليساته ومغالطاته وملابساته، فلا يلزم تتبع سقطاته، وتعداد فرطاته، وتبيين ورطاته..(1/5)
فأقول: بل يجب التنبيه على المغالطات والتدليسات والتلبيسات؛ حتى لا تكون ملابَسات وإشكالات، وحتى لا يغتر من لا يحسن الفهم، ومن لا يبصر لَجْلَجَ الباطل، وحتى يكون أيضاً التنبيه إبراءً للذمة، وذباً عن السنة، ونصراً للأَئِمَّة الحاملين لها، لهذا قال ابن تيمية رحمه الله لأبي حيان عندما غضب لشيخه سيبويه: (ما كان سيبَويه نبيَّ النحو، ولا كان معصوماً..) "الدر الكامنة" لابن حجر 1/144
والذي ينبغي لكل طالب علم في هذا الزمان - الذي كثرت فيه المغالطات والتدليسات والتَّشْغيبات والتَّمْويهات والتَّلْبيسات - أن يقف حاجزاً منيعاً ضد كل من بَغَى وجَنَى وخالف منهج أهل السنة والجماعة، وينبغي عليه أيضاً أن يُنبه بنقد علمي على قدر استطاعته وطاقته، وأن يفزع لتوضيح المبهم، وتعيين المجمل، والتوفيق بين ما ظاهره التعارض أو التناقض، بالجمع المستقصي الذي فيه الاستيعاب لما في الدواوين على تنوعها، بدون حظ لهوى، أو انتصار للنفس، فيكون النظر للحق بدلائله الواضحات النيرات، لا بقائله، وأن يكون النَّقد بَنَّاءً، مدعماً بجلاميد الأدلة، المتحررة من شوائب التعصب، والنقية من كرد التحزب، وسبيلاً موصلاً لتحسس مواضع الغلطِ؛ لاجتنابها، والبعد عنها، حماية وتعظيماً للكتاب والسنة، لا تقديساً لأي فرد من أفراد الأمة، ولا سبباً للنفرة والتفريق، الذي يسبقه الغضب والتَّشَدُّد والتَّعَصُّب والتَّعْنِيف والمقاطعة والتَّشهير..(1/6)
ومن المعلوم لدى الكثير والجم الغفير أن القرضاوي هو من بعض معاصرينا؛ ممن عَلِمَ وأخطأ، ولا نقول: أنه علم وعمد إلى عداء السنة، أو جهل وتجرَّأ، ولكننا في هذا الرد؛ نريد إدانته من كلامه الذي غلا فيه، وبثَّ فيه الكثير من الشبه التي يلزم نقدها؛ فأفلتت منه كلمات، بل جمل وعبارات، بل وفصول وأجزاء تسمو على ما عنده من علم واسع وإطلاع عريض – فنحن لا نغفل الفضل والخير والصواب الذي وافقه، ولا نهدره - ولكنه غفل أو تغافل عن أشياء معلومة ضرورة مقابل تياره الذي سماه بغير اسمه: (وسطي) فآمن بتياره المبتدع أكثر من إيمانه بمنهج السلف الصالح، والمُبْطِل لا بد أن يتناقض شاء أم أبى، ومن صَنَّفَ فقد استُهدف، ومن صنف فقد وضع عقله في طبق!
حتى أنه قد ينكر حقائق معلومة في الإسلام بحجة أنها تخالف القواعد العامة لتياره الواسع المدار والذي ليس حوله إطار؛ فيخرج النصوص عن حدها المراد إمعاناً منه وغلواً، وستراه قريباً إن شاء الله تعالى، وقد قيل: علماء الدين يا ملح البلد من يُصلِح الملحَ إذا الملح فسد
فأنا لا أقول أنه صرَّح بهذا! ولكنه – ومن كتاباته أدَنَّاه- اختطَّ لنفسه خِطَطَ عجيبة! فهو يقدم تياره القرضاويّ – الوسطي- على كل شيء، فيخرج معاني النصوص عن مبانيها، فإذا خالف نصٌّ من نصوص الكتاب والسنة نصاً من نصوصِ تيَّاره؛ رَدَّهُ بما يظن أنه يخالف حقائق الفكر حباً لتياره الجديد الذي سماه أتباعه: (التَّجْدِيد)!
فيُربَّى الجيل الصاعد على هذا التيار على التسليم، وعدم المعارضة، فالمعارضة عندهم سبيل الحرمان، وما أفلح عندهم من اعترض، فالتسليم لقادة التيار وأئمته، فهم لا يمكن عندهم إقامة الحجة عليهم، فلا كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا عقل يمكن أن يدل عليهم، فالتسليم واجب، وإلغاء العقل محتم حتى لا يُحرم...(1/7)
وما علم أهل التجديد أنهم – لسان حالهم- لم يرضوا بالقرآن ولا بالسنة إلا على مضض، حتى أن منهم من صرح بهذا، ومنهم من تأوَّل القرآن والسنة ليرضي عقله الملتوي، وفكره المنْزوي، اللذَيْن اجترؤوا بهما – وبسخافة - على نصوص الوحيين الشريفين المشرقين، وافتروا على الدين بمنهج وتيار ظنوا أنه وسطي، مما يحاسبون عليه بين يدي الله حساباً عسيراً، ولن يجدوا معهم معاذيره...
ففي هذا القسم من الرد على صاحب "الموسوعة اليوسفية" لا أزعم أني أستطيع إقناع القرضاوي أو إقناع من قرأ الرد من أتباعه ممن قلدوه، أو أني أرضى إحراجهم بالإقلاع عما هم فيه، ولكن معذرة إلى ربي، وكما قيل: العلم فضَّاح للأدعياء، ولا أمير في العلم إلا العلم، والعجب لا حدّ له عند من يقرأ بتأمل، فهم قد استقر في قلوبهم حب التيار - إلا من رحم الله- فلهذا أفضت في الرد وأطلت خشية الحساب يوم العرض على الله، وقد نصحت، وما ألوْتُ، فلله الحمد على كل حال..
إذا ذو الرأي خاصم عن قياس وجاء ببدعة منه سخيفة
أتيناهم بقول الله فيها وآثار مبرزة شريفة
وإن كان الرد قد طال على مثل هؤلاء، والعمر في الانشغال في هذه الأمور قصير، والزمن غالٍ ونفيس، ولكنني أقول: إن للضرورة أحكام، وقد عشنا رَجَباً، ورأينا عجباً، ولا ضير؛ فالله ناصر من نصر دينه وأعلى كلمته، فالإسلام قد وقف يوم توفي النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فمشى بسبب أبي بكر الصديق الحبيب - رضي الله عنه -، ووقف ثانياً في محنة القول بخلق القرآن؛ فدرج بسبب إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله، وأهل السنة على مر العصور يدرجون درجاً سرمدياً على مر العصور وانقضاء الدهور بحسن طوية وجزم نية، فالموج لم ينتهِ بعد، ولم نصل إلى حالة الجزر، فنحن في هذا الزمان نرى الموج في أشد حالةٍ في مدَّه، فنريد إظهار الحقائق بِعِدَّةٍ فيها ميزان الشرع الصحيح الذي مشى ودرج به سلفنا الصالح، من صحابة، ومن اتبعهم بإحسان..(1/8)
والضد يظهر حسنه الضد وبضدها تتميَّز الأشياء
وأنا أثق أن المستشرقين فعلوا بعض ما فعله تيار القرضاوي أو كله أو أكثر، فما ضارَّ الوحيين الشريفين شيء مما فعلوا، بل ما زادت القرآن والسنة إلا ثبوتاً كثبوت الجبال الرواسي، وأتعب المنافحون عنهما رؤوسَ المخالفين والمجترئين وأوْهَوْها..
ونحن من خلال نقضنا لموسوعة يوسف خطار؛ أردنا أن نحذر من خطر بعض الذين استدل بهم المؤلف؛ وخاصة أن منهم فيه خطر عظيم، وبلاء عريض على الإسلام، والأخص من ذلك؛ أننا نجد من يهوِّن من هذا الخطر والبلاء، ويدعي أنه مجرد طنين ذباب، وصرير باب، بحجة أننا ندخل في مسائل منقرضة كادت أن تندثر في ظل رقي وحضارة الإنسان المعاصرة، حتى أنك تراهم متعلقين بمعطيات وتقلبات الحضارة الغربية المادية المعاصرة، فيقولون أن أهل الكتاب مسلمين بالحضارة والثقافة، وإلى ما غير ذلك من الأمور التي نقضناها في جملة نقضنا لموسوعة الصوفي يوسف خطار..
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
فأسأل الله تعالى أن يكون عملي خالصاً لوجهه الكريم، لا يميلني ترغيب، ولا يزعجني ترهيب، وأرجوه سبحانه وتعالى أن ينفع به الخلائق جميعاً؛ الأحباء والأباعد، وأن يجعله ذخيرة لي في الدين والدنيا والآخرة، والحمد لله أولاً وآخراً..
فإن أحسنت في عرضي للرد والنقض، وأفلحت في وضعي للأدلة في نصابها، وصوبت المرمى، وأصبت الهدف؛ فمن الله وحده ذي الجلال والإكرام، وإن كانت الأخرى؛ فمن نفسي المقصرة ومن الشيطان، وأستغفره سبحانه ذو الجلال والكمال وأتوب إليه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هديهم وسلم.
وكتب أبو ماجد أحمد بن عبد القادر تركستاني المدينة النبوية ربيع أول 1426هـ
أموتُ ويبقى كل ما كتبته فيا ليت من يقرأ كتابي دعَا لِيَا
لعلَّ إلهِي أنْ يمنَّ بلطفه ويرحم تَقصيري وسُوء فِعاليَا
بين يدي القسم الثالث:(1/9)
قبل أن ندخل في فصل: من أين استقى النصارى عقيدة التثليث، فأريد أن أُلَخِّص ما ذكرناه عن النصارى، وما سنذكره عن اليهود في صفحات فيما يلي:
رسول الله موسى ومن بعده من الأنبياء، إلى عيسى عليهم الصلاة والسلام قد أُرسلوا إلى بني إسرائيل، وكتاب اليهود هو "التوراة"، وسُمِّيَ بعد تحريفه: "العهد القديم"، وكتاب النصارى "الإنجيل" وسُمِّيَ بعد تحريفه: "العهد الجديد" وقولهم: "الكتاب المقدس" يعنون به العهدين..
وتسميتهم للكتابين بالعهدين، هي بدعة بولس بعد عيسى عليه الصلاة والسلام بأربعين سنة؛ لكي يؤكد الحد الفاصل بين أتباع موسى، وأتباع عيسى عليهما السلام.. انظر "محاضرات في الصرانية" لأبي زهرة رحمه الله
وقصة بني إسرائيل أيام يوسف عليه السلام وبعده: أن الله أعطاهم مكانة عليَّة، وكانوا قوماً صالحين، وحين فُتِنُوا بالمال والنِّساء، ورَكَنُوا إلى الدُّنيا؛ نسوا الله فأنساهم أنفسهم، فسلَّط عليهم فرعون، وانتزع منهم مُلْكَ مصر وأذلَّهم، وكان اليهود يتنبَّئون في كتبهم؛ أنَّ نبياً سوف يأتي ويُسْقِط حكم فرعون على يديه، وعَلِمَ فرعونُ بذلك، فأخذ يقتِّل أبناء بني إسرائيل، ويستحييِ نساءهم..
ولكن الله غالب على أمره، فوُلِد موسى - عليه السلام - ونجَّاه الله من فرعون وعمله، بل ورُبِّيَ في قصر فرعون، بل وفي حجر امرأته آسيا المبشرة بالجنة.. انظر سورة "القصص" إلى أربعين آية
وكان هلاك فرعون يوم عاشوراء العاشر من شهر الله الحرام "محرم"، وهو اليوم الذي نصومه شكراً لله على نجاة موسى، وهلاك فرعون.. قال أبو ماجد: والشيعة في هذا اليوم يأكلون ويشربون ويضربون فيه أنفسهم بالحديد، ويلطمون صدورهم ورؤوسهم ووجوههم بأيديهم؛ حزناً على مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.. وسنذكر عقائدهم وخطرهم في القسم الرابع من المجلد الأول إن شاء الله(1/10)
وبعد هلاك فرعون ومن معه؛ سار موسى بقومه إلى بيت المقدس؛ حيث كان فيها قوم جبَّارين، فنكص اليهود على أعقابهم، كما جاء في سورة "المائدة"، فعاقبهم الله في التيه أربعين سنة..
ثم مرَّت أحداث كثيرة أرهقوا فيها موسى - عليه السلام -؛ إما بكثرة السؤال، أو التعنُّت، أو العناد، مما جعلوا نبيهم - عليه السلام - لا يأمنهم على تعاليم الله؛ مخافة أن يضيعوها، فجعلها في أسرته، وكانوا يُسَمَّوْن بـ"الهارونيين" وهم بنوا هارون وقضاة اليهود وأئمتهم وحكامهم، وهؤلاء لم يكونوا يعتقدون أن حفظها واجب أو سُنَّة، حتى جاء "بختنصر" أو (نبوخذ نصر) ملك بابل في فلسطين؛ فحرق هيكلهم في القدس، وسبا ذراريهم وساقهم عبيداً إليه، بعد أن قضى على دولتهم، وحرَّق كتبهم..
ثم بعد 700 سنة تقريباً رجع اليهود إلى القدس مرة أخرى، وفي ذلك الزمان كتب (عزرا) كتابه من محفوظاته وتوهماته وتلفيقاته، وسمُّوا كتابه "التوراة" وعظموا عزرا هذا غاية التعظيم، وهم الآن يدَّعون أن التوراةَ تَنْزِلُ على قبر عزرا إلى الآن. فالكتاب إذن هو كتاب عزرا باعترافهم أنفسهم، وليس كتاب الله.. قلت: وسيأتي الكلام في هذا إن شاء الله
ثم بعد ذلك افترقت اليهود إلى 71 فرقة، ومن أشهرهم السَّامريُّون، والعبرانيون، وكلا هاتين الفرقتين تعترفان أن الذي كتب التوراة والتي في أيديهم هو عزرا..
أما "التوراة" التي أُنزلت على موسى - عليه السلام -فكانت صغيرة جداً، بحيث كُتبت على اثني عشر لوحاً..
أما "التلمود" فكان من وضع اليهود بأيديهم، ومن تحريف كهنتهم الذين اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً..(1/11)
وعند اليهود عدة أسفار – أي كتب- منها: سفر "التكوين" و"الخروج" و"اللاوين" و"العدد" و"التثنية" وغيرها؛ مثل: سفر "يشوع" و"القضاة" و"عزرا" و"نحميا" و"استير" و"أيوب" و"المزامير" و"الأمثال" و"الجامعة" و"نشيد الإنشاد" و"أشعياء" و"أرمياء" و"دانيال" و"حزقيال"، وهناك أسفار صغار غير هذه الأسفار، منها قد ضاع، ومنها غير معترف بها عند اليهود.. وسفر "المزامير" هذا؛ فيه نبؤات عن النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يصرح باسمه..
و"حزقيال" هو الذي تحدى فيه الشيخ أحمد ديدات النصراني سويجارت أن يقرأ فصلاً منه مقابل 100دولار؛ لما فيه من سوء الأدب من الرب جل وعلا، وقرأه سويجارت أمام الناس دون حياء..
واليهود والنصارى ينتظرون خروج أو قدوم ملكهم المنتظر، وفي الحقيقة هو المسيح الدجال الذي يخرج في آخر الزمان من خلة بين العراق والشام، يتبعه 70000 من يهود أصبهان، عليهم الطَّيالسة؛ كما جاء مصرح به في صحيح مسلم وغيره.. قلت: ونحن هنا سنكون مضطرين في نقل قصة المسيح الدجال في فصل..
والحاصل؛ أن الأنبياء في بني إسرائيل كانوا على شريعة موسى عليه الصلاة والسلام، ولم يغيروا، ولم يبدلوا، فمنهم طالوت، وداود، وسليمان، ويونس، وإلياس، واليسع، وزكرياء، ويحيى، وعيسى الذي قال: (لا تظنوا أني جئت لأنقُضْ، يل جئت لأكمل)"متى" أي جئت لأعمل بشريعة موسى وأكملها..
ولكن اليهود! كانوا يكذِّبون الأنبياء ويقتلونهم، حتى أنهم قتلوا في يوم واحد سبعين نبياً، لأنهم كانوا أصحاب السلطة الدينة في الدولة الرومانية..
ثم بُعث عيسى عليه السلام، لبني إسرائيل فقط بعد إذلال البابليين لهم، وفي ذلك الوقت كان الحاكم هو الإمبراطورية الرومانية..(1/12)
واتبع عيسى عليه السلام كثيرٌ من بني إسرائيل، ونفر منه بعض اليهود، وضايقوا عيسى وأتباعه، ووشوا بهم إلى حكام اليونان وأمرائهم؛ ليقضوا على هذه الدعوة التي تحطم آمال ونفوذ كبار أحبارهم ممن كان لهم نفوذ كبير بين الناس؛ التي كانت أموال الحج إلى بيت المقدس كلها تصب في جيوبهم، وكانت حجتهم أن عيسى عليه الصلاة والسلام وأتباعه يريدون أن ينقضوا الحكم، ويقلبوا نظامه..
وكانت الحكومة الوثنية في ذلك الوقت قد أطلقت لليهود يد العنان في عيسى وأتباعه، وعند ذلك بدأ اضطهاد اليهود لعيسى عليه السلام وأتباعه جهاراً نهاراً، حتى حاولوا قتله..
أما عن قضية الفداء وقصة الصلب: فيعتقد النصارى أن المسيح صلى الله عليه وسلم جاء إلى العالم ليكفِّر عن خطيئة أبيه آدم عليه الصلاة السلام، بسبب طرده من الجنة، وكان لا بد من موته على خشبة الصلب، وهذا كله هراء وبهتان نفاه القرآن الكريم، مع العلم أن الإصحاحات الأربع: "متى" و"مُرقص" و"لوقا" و"يوحنا" جاءت مختلفة في السرد عن قصة الصلب والفداء والمزعومة، إلا إصحاح "برنابا" الذي هو محرم قراءته على النصارى؛ فهو يثبت وحدانية الله تبارك وتعالى، وبشرية عيسى المسيح - عليه السلام - وأمه، وقد تُرجم هذا الإصحاح إلى اللغة العربية وغيرها.. مع أننا نحن المسلمون نعتقد أن هذا الإصحاح أيضاً كباقي كتبهم، أي لم يسلم من التحريف، فشرعنا ولله الحمد مستمد نقيَّا من القرآن والسنة الصحيحة فقط..
وفي هذا الإصحاح "برنابا" - الغير معترف عند أهل الكتاب- قصة محاولة الصلب؛ كما رواها برنابا أحد الحواريين؛ حيث قال أنه رأى المسيح وهو يُرفع إلى السماء، وأن الذي صُلِب شخص آخر ألقى الله عليه شَبَهَ عيسى عليه السلام، والذي صُلِب وشُبِّه عليهم هو (يهوذا الاسخريوطي) وهذه القصة هي أقرب ما تكون إلى ما جاء به القرآن العظيم.(1/13)
وبعد الصلب افترق الناس أتباع عيسى - عليه السلام - إلى ثلاث فرق؛ منهم من قال: كان الله فينا ما شاء، ثم صعد إلى السماء، وهم يُسَمَّون (النسطورية) وهم (الأرثوذكس) حالياً.
ومنهم من قال: كان ابن الله فينا، ثم رفعه الله إليه، وهم (اليعقوبية) وهم حالياً (الكاثوليك).
ومنهم من قال: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله، ثم رفعه إليه، وهم (المسلمون).
ثم تظاهرت اليعقوبية والنسطورية على حرب الفرقة الثالثة الموحدة، فقُتِل أكثرهم، ولم يزل الإسلام طامساً إلى أن بعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم -..
وفي تلك الأزمنة افترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة؛ لا يعلمون ما هي الديانة المسيحية، ولا حقيقتها، وذلك بسبب الضلال والعدوان واتِّباع الهوى..
وبعد عام 325م أي بعد نحو من 300 سنة من رفع المسيح - عليه السلام -؛ دعا إمبراطور الرومان (قسطنطين) بعد أن رأى الحلاف الشديد في ألوهية عيسى، ووشاية بعضهم ببعض، وخوفاً على إمبراطوريته؛ دعا كل أساقفة النصارى للاجتماع، وفرض عليهم عقيدة التثليث، وإحراق جميع الكتب، ما عدا التي تؤيد ما فرضه هو، وحرم على النصارى الإطلاع على الكتب التي تثبت وحدانية الله عز وجل، ونبوَّية عيسى المسيح عليه السلام، وكتب غيرها بولس (شاؤول اليهودي).
فبولس هذا فعل مثل ما فعل ابن سبأ اليهودي المجوسي صاحب بدعة الباطنية، فنخر بولس الدعوة المسيحية من الداخل دون أن يشعر به أحد، فهو أول من ابتدع أن المسيح ابن الله، وأن الإيمان بعيسى يكفي، ولا داعي لتطبيق الشرائع..
وأُسس عقيدة بولس ترتكز على تكفير الخطيئة، والصلب، وألغى الختان، وأباح شرب الخمر، وأكل الخنزير، وغيرها من العقائد التي نراها رأي العين في عالم النصارى اليوم..
أما عن أقسام النصارى فهم:(1/14)
أولاً: الكاثوليك: وهي الكنيسة الغربية، ومركزها (روما) التي سوف يفتحها المسلمون بإذن الله. وهي الكنيسة المسئولة عن نشر النصرانية في العالم، وهذه الكنيسة عندها الباباوات الذين عندهم صلاحيات الحذف والتعديل في الإنجيل على حسب المصالح، مما جعل فئة منهم ينشقوا عنهم وسموا (البروتستانت). وعند الكاثوليك 73كتاباً..
ثانياً: الأرثوذكس: وهي الكنيسة الشرقية، ومركزها (مصر) وتُسمى كنيسة الروم، وقد انفصلت عن الكاثوليك بعد أسباب سياسية ودينية متشددة عام 1054م، وهؤلاء الأرثوذكس متشددون، ومتمسكون بباطلهم وضلالهم أكثر من غيرهم..
ثالثاً: البروتستانت: وهم كما قلنا المعارضون للباباوات الكاثوليك، وهم في أوربا وأمريكا الشمالية، وقد ألفوا 7 كتب من الكاثوليك، حتى صارت 66كتاباً..
وهذه الثلاثة المعتقدات بينهم حروب طاحنة بسبب اختلاف المعتقدات، فقد أُفنيت دماء ملايين منهم من جَرَّاء ذلك الضلال المبين، ومنها الحربين العالميتين الأولى والثانية..
أما عن عقائدهم:
أولا: التثليث: فيقولون أن الله له أُسر مؤلفة من أقانيم ثلاثة، فيقولون أنه هو أب الخلق، وأنه هو الإبن الذي خلقه من روحه، وأدخله في مريم لتحمل به، ويخرج لفداء العالم..
ويقولون: أن الله هو روح المسيح المقدسة التي ظهرت وخرجت من جسده بعد عملية صلبه حسب زعمهم..
والأقانيم: هي الأجزاء الثلاثة المقدسة عندهم؛ لأنهم يعتقدون أن الله لا بد أن يكون ثالث ثلاثة، ولا يمكن أن يكون في السماء منعزلاً نائياً تائها في الفضاء، فيقولون: الله ربُّ العالمين أنجب ابنه من مريم، وروحه روح القدس أقنوم منفصل عنها، وبعضهم يقول: أن الله نزل في بطن مريم، وتجسَّد في يسوع – تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً-(1/15)
ثانياً: ومن عقائدهم صلب المسيح بسبب الخطيئة؛ وهي أكل آدم - عليه السلام - من شجرة التفاح التي نُهي عن الأكل منها في الجنة، فسبب أكله الخروج من الجنة.. فكان لا بد من عقاب، فأرسل ابنه ليعاقَب في الدنيا، ويموت، ويدفع الثمن؛ فداءً للعالم..
ثالثاً: ومن عقائدهم أن المسيح هو الذي يحاسب الناس، ومع ذلك فهم:
رابعاً: من عقائدهم أن العبادات باختيارهم، وعلى حسب أهوائهم، فكل واحد يتعبد بالإنجيل الذي يؤمن به، أو يوافق هواه.
أما عن شعائرهم:
التعميد: ويكون باسم الأب والإبن وروح القدس، ويُشار إليها بالصليب على الرأس والكتفين، وهو بمنزلة الشهادتين عند المسلمين.
العشاء الرباني: وهو الخبز والخمر مع قراءة بعض الترانيم في الكنيسة.
حمل الصليب وتقديسه.
الحج وتقديس التراب، حيث يحجون إلى بيت المقدس، ويشترون أواني تذكارية فيها شيء من تراب فلسطين للتبرُّك، ولكن الأرثوذكس منعوا الحج في السنوات الأخيرة، بعد فتوى البابا (شنودة) أما الكاثوليك؛ فيحجون إلى كنيسة البابا في روما. قلت: وهذه نفس الوثنية التي عند الشيعة الرافضة مع حجارة كربلاء والتبرك بها والحج إلى بقعتها، فهم كثيراً ما تتشابه طقوسهم
الغفران: وهو عند باباواتهم في كنائسهم، حيث يعطيهم سكوك الغفران!
أداء القسم: كحلف الجندي عند انخراطه في الجيش، وتخرج من الجامعات، وغيرها..
الصوم: وهو اختياري عندهم؛ فصيامهم عن الطعام من الصباح حتى بعد منتصف النهار، ثم يأكلون طعاماً خالياً من الدسم.
الصلاة: فهي من ثمانِ إلى ثلاث صلوات في اليوم والليلة، يتجهون بها إلى الشرق، وليس لها ترتيب خاص، وهي أدعية فقط، لا ركوع ولا سجود فيها، وهي تختلف من مكان إلى مكان آخر.
الأعياد: فهي كثيرة جداً! منها: عيد الفصح، وعيد الشكر، وعيد القديس، وعيد الهالوين، وعيد رأس السنة؛ وهو النيروز المجوسي الوثني، وغيرها الكثير؛ لسبب كثرة الطوائف النصرانية.(1/16)
وأهم تلك الأعياد؛ هو عيد الصليب (الكريسماس) وهو ما يُسمى بعيد مولد المسيح في 25ديسمبر، وهذا اليوم لم يُحدد إلا من بعد عدة قرون، وهذا اليوم يوافق الاحتفال السنوي بـ(بوذا) و(متراس)، ومتراس هو إله الشمس عند الرومان، وهو رأس السنة عند الرومان، وهو عيد الرومان الوثني..
أما الأقباط فهم يحتفلون بعيد الميلاد والصليب في بداية شهر يناير، وبعضهم في نهاية شهر ديسمبر، فالخلاف قائم، مما يدل على التناقض الواضح بينهم، فهم في خلاف في حقيقة ربهم ونبيهم، وحتى في تطبيق شرائعهم كالصلاة والصوم والزواج، وما هذا إلا بسبب جرأتهم على تحريف شريعة عيسى - عليه السلام -.. قلت: سيأتي تفصيل ذلك في هذا القسم كما سوف تراه إن شاء الله
أما شجرة عيد الميلاد: فأصلها عادة ألمانية قديمة؛ اعتقدوا أنها تطرد الأرواح الشريرة..
أما قولهم: ميري كريسماس في التهنئة؛ فهو تهنئة على ضلالهم وكفرهم وشركهم، فهم عندما يقولونها؛ يهنئون بعضهم البعض على إيمانهم بأن الله ثالث ثلاثة، وأن عيسى هو الله وأنه ابنٌ لله..
أما عن تعليقهم للصليب: فهو عبارة عن تذكار يعتزون به؛ لأن يعتقدون أن اليهود قتلوا نبيهم. الذي هو الله، وابن الله، وثالث ثلاثة.. بزعمهم
أما بابا نويل (سانتا كلوز): فهي عادة جاءت من روسيا..(1/17)
أما أسماء الأشهر الإفرنجية: فهي أسماء لآلهة تُقدس عند الوثنيين، أو حكاماً قد حكموا قديماً، وكذلك الأيام SUNDAY- MONDAY-.. الخ. فهي آلهة كانت لها معابد وهياكل مبنية أيام الدولة (البابلية) في شمال العراق، وهي أسماء الكواكب التي كانت تُعبد من دون الله ومع الله، وكذلك أسماء السيارات مثل "مازدا" فهو أسم إله النور عند (الزرادشتية)، وكذلك اسم سيارة "دايو" في كلمة إيطالية تعني الإله، ولم نكن نغفل عن سيارات وضع عليه الصليب؛ مثل سيارة فورد لينكون، والكابرس.. والتي من الواجب علينا كسر هذه الصلبان، وإزالتها من سياراتنا؛ فقد جاء الأمر من النبي - صلى الله عليه وسلم - تجاه الصلبان..
قال أبو ماجد: هذا باختصار شديد عن هاتين الطائفتين، اليهود المغضوب عليهم، والأخرى النصارى الضالين، والتي يظن الناس أنهما على شيء، أو أنهما مسلمين بالثقافة والحضارة، أو نحوها من الكلمات التي ما تزيد إلاَّ بعداً من الله..أنظر "كيف تدعو نصرانياً إلى الإسلام"
فالعقيدة اليهودية والنصرانية قد حُرِّفتا منذ عهد بعيد، فاستبدل اليهود بالتلمود بدلاً من التوراة، والنصارى بالإنجيل ببضع عشر إنجيلاً اتفقوا على أربعة منها وطرحوا الباقي، وكلها محرفة ومغيرة تصادم بعضها البعض، فالعقيدة السليمة لن توجد عند أي أحد من أصحاب الديانات؛ سواء كانت الديانات فلسفية أو يهودية أو نصرانية، وإنما توجد في الإسلام في أصليه اللذين لم يتغيرا، ولم يتناقضا، ولم يُحرفا، فهما اللذان يقنعان العقل والفطرة، بالحجة والبرهان ويملآن القلب إيماناً ويقيناً ونوراً وحياة { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } الحجر
وصلى الله على المبعوث رحمة للعالمين, وعلى آله وصبه وسلم.
اااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااا
المسيح الدجال(1/18)
فقد بَيَّنَّا في القسم الثاني من المجلد الأول بشارة المسيح - عليه السلام - بخاتم النبيين المختار محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأنه أقرب الأنبياء إليه، وأَوْلاهُم به، وأنه ليس بينه وبينه نبي، وأنَّ أمة هذا النبي لا تزال فوق النصارى إلى يوم القيامة، لكونهم هم أتباع المرسلين جميعاً، وهم الذين لم يرضوا بإله مصفوع مصلوب مقتول قد شُبِّه لهم، بل يؤمنون بالمسيح الصادق الذي جاء من عند الله بالهدى ودين الحق، وأنه عبد الله ورسوله، لا كما ادعته النصارى بأنه دعا إلى عبادة نفسه وأمه، وأنه ثالث ثلاثة، وأنه الله وابن الله.
فهم وإن آمنوا بأنه - عليه السلام - سوف ينْزل في آخر الزمان، فإيمانهم هذا إنما هو إيمانٌ بمسيح آخر؛ وهو المسيح الكذاب الدَّجَّال الذي سوف يخرج في آخر الزَّمان، فهم ينتظرون خروجه لكونه يقول بأنه الله، وهو نفس المسيح – المسيخ – الذي تنتظر اليهود خروجه في آخر الزمان، وهم يبشرون به، ويدَّعون أنه النبي المنتظر، وكذا الرافضة تنتظره، ويدعون أنه المهدي المنتظر.. وسوف ننقض عقيدة الرافضة قريباً إن شاء الله.. فصبر جميل والله المستعان..
قال يوحنا في كتاب أخبار الحواريين وهو يسمونه اقراكيس:
( أحبائي! إياكم أن تؤمنوا بكل روح، ولكن ميِّزوا الأرواح التي مِن عند الله من غيرها، واعلموا أن كلَّ روح تؤمن بأن يسوع المسيح قد جاء وكان جسدانياً؛ فهي من عند الله، وكل روح لا تؤمن بأن المسيح قد جاء وكان جسدانياً؛ فليست من عند الله، بل المسيح الكذاب الذي هو الآن في العالم.) "العهد الجديد" رسالة يوحنا الرسول الأَولى، الإصحاح الرابع، الفقرة (1- 4) هداية الحيارى 133(1/19)
وجاء في "رؤيا يوحنا اللاهوتي": (ثم متى تمت الألف سنة يحل الشيطان من السجن، ويخرج ليضل الأمم الذين في أربع زوايا الأرض جوج وماجوج ليجمعهم للحرب الذين عددهم مثل رمال البحر، فصعدوا على عرض الأرض وأحاطا بمعسكر القديسين (عيسى وأصحابه) وبالمدينة المحبوبة (القدس) فنزلت نار من عند الله من السماء وأكلتهم (النغف) وإبليس الذي كان يضلهم طرح في بحيرة النار والكبريت حيث الوحش والنبي الكذاب (الدجال) وسيعذبون نهاراً وليلاً إلى أبد الآبدين) 20/7-10
قال أبو ماجد: في هذا المرجع: بيان الحكم عندهم بإيمان من آمن بأن المسيح رسول من عند الله لكونه جسداً خلقه الله من تراب، وبكلمته التي ألقاها إلى مريم العذراء البتول وروح منه، ومن لم يؤمن به بهذه الصفات؛ فليس بمؤمن إلا بمسيح آخر دجَّال يخرج في آخر الزمان، يضل الناس بِجَنَّة وهي في الحقيقة نار، ونار حقيقتها جنَّة، ويقاتل معه اليهود ومن هاودهم، فيُقتل فيها مسيحهم الممسوخ على يد المسيح الرسول عيسى ابن مريم - عليه السلام -، ويبقى الناس على ما يأتي من الكلام حتى يخرج يأجوج ومأجوج بأعداد الملاين ينسلون، يرعبون القرى والمدن، حتى ينحاز الناس ومعهم المسيح - عليه السلام - إلى الحصون في معسكر الطور، ويحصل ما سيأتي بيانه قريباً إن شاء الله... وهذا كله موجود عندنا في نصوص الوحيين الشريفين..(1/20)
فالنصارى في الحقيقة أنهم عكسوا وعاكسوا الحقيقة في المسيح - عليه السلام -، واعتقدوا أن المسيح ليس جسداً خلقه الله من تراب –كما صرح به اقراكيس – فأعطوه كل الحقوق الخاصة لله غلواً وباطلاً، ونسبوا لله الصاحبة والولد، وأَنِفُوا أن يكون للبطاركة والرهبان زوجات وأولاد، ولم يرضوا بعبادة الله وحده لا شريك له، ولم يطيعوا نبيهم المسيح - عليه السلام -، وإنما رضوا بعبادة الصليب المصنوع من الخشب، والمعلق على الأعناق والحيطان بلعبٍ على عقولهم من الشيطان، فهم ينتظرون مسيحاً ممسوخاً ليس له صلة بالمسيح الحق - عليه السلام -، فهم ينتظرون المسيح الدَّجال المُضِل الضَّال؛ الذي يقول أنه الله، وأن له كل الصفات الخاصة بالله.. فمن هو المسيح الدجال؟؟!
وهنا لنا وقفة عاجلة نمعن فيها النظر عن الدجال الأكبر لعنه الله تعالى الذي حذَّرَ من فتنته جميع الأنبياء عليهم السلام؛ فقال نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ((ما من نبيٍّ إلاَّ وقد حذَّر أمَّته الدَّجال، وإني أُحَذِّرُكُمُوهُ: إنه أعور، وإنَّ الله ليس بأعورَ، إنه يمشي في الأرض، وإنَّ الأرضَ والسماءَ للهِ، ألاَ أن المسيحَ عينه اليمنى كأنَّها عنبة طافيةٌ.)) رواه ابن خُزَيْمَة عن أم سلمة والبخاري ومسلم عن أنس بلفظ: (( ما من نبيٍّ إلاَّ وأنذر قومه الأعور الدجال، ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، ومكتوب بين عينيه ك ف ر)) وهو الذي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاستعاذة من شر فتنته في الصلاة، وفي خارج الصلاة..(1/21)
وقد وردت الأحاديث أنه لا يسكن مكة ولا المدينة ولا بيت المقدس ولا الطور، فجعل الله تعالى هذه الأماكن عصمة لمن سكنها بإيمان والتزام بشرع الله تعالى، وإلاَّ فإن الأرض المقدسة لا تقدس سكانها بدون إيمان والتزام، فكما ورد في الحديث أن الدجال إذا وصل أطراف المدينة النبوية؛ تمنعه الملائكة من دخولها، فترجف المدينة ثلاث رجفات، فلا يبقى فيها منافق ولا منافقة إلا خرج إلى الدَّجال، فالعبرة في بالإيمان والعمل الصالح.. فتأمَّل..
وقد جمع الأحاديث الواردة في الدجال بطرقها وألفاظها الشيخ محمد خليل هراس رحمه الله في كتابه "فصل المقال في رفع عيسى - صلى الله عليه وسلم - حياً ونزوله وقتله الدجال" والعلامة الألباني رحمه الله في كتابه "قصة المسيح الدجال ونزولِ عيسى عليه الصلاة والسلام وقتله إياه على سياق رواية أبي أمامةَ - رضي الله عنه - مضافاً إليه ما صحَّ عن غيره من الصحابة - رضي الله عنهم -"(1/22)
فَبَيَّنَا رحمهما الله تعالى أنَّ الأحاديث الواردة في هذا اللعين الدَّجَّال مسيح الضلالة كثيرة جداً تصل إلى حدِّ التواتر المقطوعة الثبوت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي وصفه وصفاً لم يصفه إياه نبيٌّ قبله؛ فهي أحاديث أوسع من الغبراء، وأكبر من أن تظلها الخضراء، فشُرَّاح الأحاديث والتفاسير وكُتَّاب السير والخصائص والملاحم، وكُتَّاب الترغيب والترهيب متفقون على قبولها والاستنباط منها، وعَدُّوْها من أعلام نبوة الهادي البشير - صلى الله عليه وسلم -، مما يقطع الطريق عن كل من أنكر أو شك في نزول الرسول الحق عيسى - عليه السلام - وقتله للدجال الفاجر في آخر الزَّمان، فمن الناس من عطَّل أو أوَّل النصوص التي وردت في الدجال، فادَّعوا أنها ليست على ظاهرها، وإنما هي رموز على الشر واستعلائه، واستشراء الفتن، ونزول عيسى - عليه السلام - إنما هو رمز لانتصار الخير وانتشاره، وما هذا الهراء الذي هم فيه إلا بسبب تلاعب الأهواء، وتنازع الآراء، وتبايُن وتصادُم وتناقُض وتعاكُس الأقوال التي عندهم، فخلت كلها عن الحق...
ولا شك أن هذا المذهب في التأويل أو التعطيل لمثل هذه النصوص هو مذهب الباطنية الملحدة، التي تجيز نكاح الأمهات والأخوات، وترك الصلوات، واستحلال المحرمات، والطعن في سلف الأمة والانتقاص من قدرهم وشأنهم، ليخرجوا من التشريع، وينْحَلُّوا من كل الأوامر والنواهي الشرعية.(1/23)
وقد أخذ منهم بعض الخوارج والمعتزلة والجهمية هذا المعتقد – في المسيح - عليه السلام - والدجال الطاغية الأفَّاك – بعد ظهور الفلسفات الاعتزالية اليونانية التي اعتمدت على العقل وإدخاله في مجال العقيدة ليحكم على النصوص بالقبول والرفض؛ فأنكروا الدجال وردُّوا الأحاديث الواردة فيه، وادَّعوا أن عيسى عليه السلام قد مات، وقد قلدهم في هذا بعض من استهوتهم زخارف الأقوال، وغرهم لوامع الأسماء والألقاب؛ كمحمد عبده – وقد تقدم الكلام عنه ص11من المجلد الأول القسم الثاني- وتبعه محمود شلتوت في بعض مقالاته؛ ظناً منهم أنهم بجموحهم الفكري وغرورهم العقلي يحيون المفاهيم الدينية في نفوس المسلمين..
ومع الأسف قد استَخْدَمت فتاويهم الفرقة القاديانية الكافرة، فنشرت أن الأزهر يفتي ويعترف بوفاة عيسى المسيح - عليه السلام -..
وما وقع من الشيخ رشيد رضا رحمه الله في مجلته المِعطاة "المنار" إنما هو زلة عالم، فلا يسارع الناس إلى تَبَنِّيها، فضلا من تصديقها، فليس كل ما يُقال يُنال، فالذي خالف النصوص الصحيحة بالتبديل والهدم فلا يُؤخذ منه كائناً من كان..
فالشيخ رضا رجل لا نشك أنه حمل لواء الدفاع عن الدين، ومحاربة الخصوم الطاعنين؛ سواء كانوا من الداخل أو من الخارج، فهو رجل قد نافح عن مذهب السلف وعقيدتهم، وأحيا علوماً تكاد تندرس وتنمحي، ولكن زلته في هذه القضية وغيرها من القضايا الأخرى لا تُقبل، بل واجب العمل في نقضها، وخاصة أن السلف من أصحاب الأخبار والتفسير يؤمنون أن المسيح - عليه السلام - قد رفعه الله بروحه وجسده كما قاله الحافظ ابن حجر في "التلخيص" 319، وفي "الفتح" 6/267 عند باب ذكر إدريس.
وقد رد على الشيخ رشيد رضا جمعٌ من العلماء، منهم الشيخ محمد خليل هراس في كتابه المذكور أعلاه، وكذا نقل الشيخ هراس الرد على فتوى شلتوت في نفس الكتاب، وهو رد العلامة حامد الفقي رحمة الله عليه..(1/24)
والذي يعتقده أهل السنة ويجمعون عليه بصريح الدلالة من كتاب الله وسنة نبيه أن عيسى المسيح - عليه السلام - لم يمت بعد، وأن الله قد طهَّره من أيدي اليهود الأثيمة، ورفعه الله إليه بروحه وجسده، وهي خاصية له - عليه السلام - يمتن الله عليه بها من دون الأنبياء الذين رفع الله أرواحهم دون أجسادهم، وهي معجزة من معجزات عيسى - عليه السلام - التي خرق الله بها سننه الكونية، كما خرق بمعجزته معراج نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بروحه وجسده المعبر بقوله تعالى: { أسرى بعبده }
فإن كنت قد خَرَجْتُ عن الموضوع المُعَنْوَن بـ من أين استقى النصارى عقيدة التثليث؟؟؟ ولكني قد رأيت أن الحاجة في الكلام عن المسيح الدجال في غاية الضرورة؛ لكون الكثير من الناس قد خف دينهم، وساء ذات بينهم، لهذا أهملوا الحديث عن هذا اللعين وكأنهم قد عُصِمُوا من فتنته التي ربما قد قرب خروجها، فقد جاء أَشْراطُها بأشواطها، فقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (( لا يخرج الدجال حتى يذهل الناس عن ذكره، وحتى تترك الأئمة ذكره على المنابر.)) أنظر مجمع الزوائد 7/335
ونحن هنا نحذِّر من فتنته، فهو لا يبقى شيء من الأرض إلا وطئه وظهر عليه، إلا ما استُثني من الأربعة مواطن، فهذه المواطن لا تقدس أحداً إلا بعمله، فتلك المواطن سوف تنفي خبثها في يوم الخلاص عند ظهور الدجال كما ينفي الكير خبث الحديد، وأكثر ما يخرج إليه النساء، فنحن ندعو الناس عن الابتعاد عن فتنته إذا ما حضر، فلا نتعرَّض له، كما قال - صلى الله عليه وسلم - (( من سمع بالدجَّال فَلْيَنْأَ منه، فوالله؛ إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فَيَتَّبِعه؛ مما يبعث به من الشبهات.)) رواه أبو داود بإسناد صحيح(1/25)
فشيعة الدجال أكثرهم من اليهود ومن هاودهم –كما في الأحاديث الواردة في الدجال – فهم من أتباعه، وما يخرج الدجال إلا بعد غَضْبَةٍ يغضبها، وفي زمان مختلفة الناس فيه ومفترقة ومُبْتَغِضَة، وفي خفَّة في الدين، وسوء ذات البين..
ويكون قبل خروجه ثلاث سنوات شداد، يصيب الناس فيها جوع شديد، يعيش الناس فيه بالتهليل والتكبير والتسبيح والتَّحميد، ويجري عليهم هذا مجرى الطعام، ولا يخرج حتى تنْزل الروم بالأعماق أو بدابق، وهما موضعان يقربان من مدينة حلب في الشام، فيخرج لهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فتكون ثلاث ملاحم عظيمة كلٌ غير غالب، حتى إذا كانت الرابعة يفتح الله، ويجعل الدَّبَرَة على الروم بعد مَقْتَلَةٍ لم يُرَ مثلها، حتى يبلغ المسلمون قسطنطينية؛ فيغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق، ليس بالسلاح، ولكن بقولهم لا إله إلا الله، والله أكبر، فتسقط جوانبها؛ فيُفرج لهم، فيدخلوها ويغنموا، فبينا هم يقتسمون الغنائم؛ صاح فيهم الشيطان:
إن المسيح الدَّجال قد خلفكم في أهليكم، فيرفضون ما بأيديهم، فيخرجون ويبعثون عشرة فوارس طليعة من خير فوارس على وجه الأرض يومئذ، فيخرج الدجال من أرض قِبَلَ المشرق يُقال لها خُرسان في يهودية أصبهان كأن وجوههم المجان المطرقة، ومن خَلَّة بين الشام والعراق.. فتح القسطنطينة له تفصيل رواية ودراية ليس هنا مكانه
فيبدأ بادِّعاء النبوة، ثم يُثَنِّيَ فيدعي الربوبية، وهو أعور العين اليمنى حتى كأنها عنبة طافية – أي بارزة، ليس بناتئة ولا حجراء، وممسوح العين اليُسرى، عليها ظفرة غليظة – أي لحمة – جفال الشعر جعد شعث، شاب قصير أفحج، مكتوب بين عينيه كافر؛ يقرؤه من كره عمله، وكل مؤمن كاتب أو غير كاتب، فيجيء معه مثل الجنة والنار، وجبال من خبز ولحم ونهران يجريان؛ أحدهما أبيض والآخر نار تأجج، فناره جنَّة وجنته نار، وفواتح سورة الكهف جوار من فتنته..(1/26)
فَمِنْ فتنته أنه يدعي ببعث الأموات، فيعينه الشيطان؛ فيتمثل بصور الأموات؛ فيؤمن به ناس ويكذِّب به آخرون، فمن كذبه؛ فيُفتنوا بهلاك سائمتهم، ومن يصدقه؛ فيُفتنون بأمره للسماء فتمطر، والأرض فتنبت، وتسمن مواشيهم، ويأمر بالخربة بإخراج كنوزها، فتخرج كأنها يعاسيب النخل، وليس من بلد إلا يبلغها رعب الطاغية الدجال، فإذا وصل مكة والمدينة؛ فليس من نقب من نقابها إلا ملائكة يذبون عنها رعبه..
أما المدينة؛ فينْزل عند سبخة الجرف دبر أحد، فيضرب رواقه، فترجف المدينة، فتنفي خبثها، ويُدْعى ذلك اليوم؛ يوم الخلاص، وأكثر من يخرج إليه النساء..
ويتوجه إلى الدجال رجل شاب مؤمن بالله، كافر بالدَّجال، وهو من خير الناس يومئذ؛ فتلقاه أعوان الدجال، فيأتون به الدجال، فإذا رأى المؤمن الدجال قال: يا أيها الناس! أشهد أن هذا الدّجال الذي ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثه، فيأمر الدجال به، فيُضرب ضرباً مبرحاً، فيقول الدجال: أو تؤمن بي؟! فيقول: أنت المسيح الكذاب، فيؤمر به، فيؤشر بالمئشار من مفرقه حتى يفرق بين رجليه فيقطعه قطعتين، ويمشي الدجال بين القطعتين، ثم يقول له قم! فيستوي قائماً، ثم يدعوه، فيقبل المؤمن وهو يتهلل وجهه يضحك، فيقول الدجال: أتؤمن بي؟ فيقول: أنت عدو الله الدَّجال، والله ما ازددت فيك إلا بصيرة، يا أيها الناس! إنه لا يفعل بعدي بأحد من الناس، فيأخذه الدجال ليذبحه، فيُجعل بين رقبته إلى ترقوته نحاساً؛ فلا يستطيع إليه سبيلاً، فيأخذ بيديه ورجليه فيقذف به، فيحسب الناس أنما قذفه إلى النار، وإنما ألقي في الجنة، وهو من أعظم الناس شهادة عند رب العالمين، ثم تصرف الملائكة وجهه قِبَل الشام..(1/27)
ثم يأتيَ جبل إيليا، فيحاصر عصابة من المسلمين، فيلقى المؤمنون شدة شديدة، ويفر الناس من الدجال إلى الجبال، وإمامهم في ذلك الوقت رجل صالح من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو المهدي يصلحه الله ويوفقه ويرشده في ليلة، اسمه محمد بن عبد الله من ذرية فاطمة رضي الله عنها؛ أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً؛ كما مُلئت ظلماً وجوراً، يملك سبع سنين..
وفي ذلك الحصار يستعد المسلمون لقتال الدجال إذا أصبحوا، فبينما هم يعدُّون للقتال، ويسوُّون الصفوف؛ إذ بالصلاة أقيمت؛ فيتقدم إمامهم يصلي بهم الصبح؛ إذ نزل عليهم من السماء عيسى ابن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، بين مهرودتين، واضعاً كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسه قطر أو كأنه يقطر، وإن لم يصبه بلل، وإذا رفعه تحدَّر منه جمان كاللؤلؤ، رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، بين ممصرتين، فيرجع الإمام ليتقدَّم عيسى - عليه السلام - ويقول له: تعالَ صل لنا، فيضع عيسى يده بين كتفيه، ويقول له: لا؛ إن بعضكم على بعض أمراء؛ تكرمة الله هذه الأمة، تقدَّم فصلِّ، فيصلي بهم إمامهم.. وسيأتي الكلام عن المهدي في هذا القسم فصبر جميل
فعيسى ابن مريم عليهما السلام هو الذي سوف يقتل الدجال بعد نزوله من السماء، لأن الله قد رفعه حياًَ إلى السماء، فَبِنُزُولِهِ تزول شبهة – أو زعم – اليهود بأنهم قتلوه وصلبوه، فيفتضح كذبهم، { وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه } النساء(1/28)
فبينما يصلي المسيح - عليه السلام - بالناس؛ فلما انصرف قال: افتحوا الباب، فيُفتح، ووراءه الدجال معه سبعون ألف يهودي، كلهم ذو سيف محلى وساج، والساج هو الطيلسان، فيذهب المسيح - عليه السلام - بحربته نحو الدجال، فإذا نظر إليه الدجال؛ ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لانذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده، فيضع حربته بين ثندوتيه، فيريه دمه في حربته، فيدركه عند باب اللد الشرقي فيقتله، فيهلكه الله عز وجل عند عقبة أفيق قرب الغور، فيهزم الله اليهود، فيقتلهم المسلمون، فلا يبقى شيء مما خلق الله يتوارى به اليهود إلا أنطق الله ذلك الشيء؛ فلا حجر، ولا شجر، ولا حائط، ولا دابة إلا قال: يا عبد الله! هذا يهودي ورائي؛ فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود..
ويلبث الناس بعد هلاك الدجال وزمرته سنين سبعاً ليس بين اثنين عداوة.. فيخرج يأجوج ومأجوج كما سيأتي..
ويحج عيسى - عليه السلام - البيت ويعتمر مرة أو مرتين، ويمكث في الأرض أربعين سنة، أما الدجال فيمكث أربعين يوماً أو ليلة، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وأيام كسائر الأيام، وما إسراعه في الأرض إلا كالغيث استدبرته الريح.(1/29)
فيكون عيسى - عليه السلام - حكماً عدلاً مقسطاً يحكم بشريعة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - التي لا تُنْسَخ إلى يوم القيامة، ويكسر الصليب النصراني الوثني ويمحوه ويدقه، فيبطل ما تزعمه النصرانية فيه، ويدحر الكافرين الذين يزعمون أنه إله من دون الله، أو ثالث ثلاثة، ويقتل الخنزير – الذي استحله النصارى في هذا الزمان وهم يدَّعون أنهم على طريق عيسى - عليه السلام - - ويضع الجزية لكون الناس يسلموا ويدخلوا الإسلام، فلا يحل لكافر يجد ريح نَفَسِهِ إلا مات، ونَفَسُهُ ينتهي حيث ينتهي طرفه، وعندها تضع الحرب أوزارها بهلاك الملل كلها إلا الإسلام، فتكون الدعوة واحدة، وتقوم الكلمة لله رب العالمين، وتُرفع الشحناء والعداوة والتحاسد والبغضاء، فيكثر المال بسبب نزول البركات وتوالي الخيرات، بسبب العدل وبُعد الظلم، وتقع الأمنة على الأرض حتى بين الحيوانات، حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنّمار مع البقر، والذّئاب مع الغنم وكأنها كلبها، ويلعب الصبيان مع الحيَّات لا تضرهم وتنْزل السماء رزقها، وتخرج الأرض كنوزها وبركتها، وتقل رغبات الناس في اقتناء المال لعلمهم بقرب القيامة، فتكون السَّجْدة الواحدةُ خير من الدنيا وما فيها، وتكون الدعوة واحدة لرب العالمين..(1/30)
ويمكث عيسى - عليه السلام - في الأرض أربعين سنة، فبعد مواجهته الدجال؛ سوف يواجه يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، لا يدان لأحد بقتالهم، فيطئون البلاد والأوطان، فلا يأتون عل شيء إلا أهلكوه، ولا يمرون على ماء إلا شربوه، فيتحرز المسلمون إلى الطور، فيأتي يأجوج ومأجوج جبل بيت المقدس يقال له جبل الخَمر، فيقولون: لقد قتلنا من في الأرض، هلمّ فلنقتل أهل السماء، فيرمون بنشابهم إلى السماء، فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة دماً، ويحاصرون عيسى - عليه السلام - وأصحابه، فيرسل الله عليهم النَّغف في رقابهم، فيصبحون فرسى، ويموتون موتة واحدة فينتنون، فيغسل الله الأرض من زهمهم ونتنهم، فيكونون كالسماد للأرض، حتى تأكل العصابة من الرمانة، ويستظلون بقحفها، ويبارك الله في الرَّسْل، حتى لتمنَّى السامع العيش بعد المسيح - عليه السلام -..
وبعد الأربعين سنة يتوفى المسيح - عليه السلام - فيصلي عليه المسلمون، ثم يرسل الله ريحاً باردة من قبل الشام، فتأخذهم تحت آباطهم، فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته، فما يبقى في الأرض إلا شرار الناس؛ في خفة الطير، وأحلام السباع، لا يعرفون معروفاً، ولا ينكرون منكراً، فيأمرهم الشيطان بعبادة الأوثان فيعبدونها، وهم في ذلك دارَّة أرزاقهم، حسن عيشهم، يتهارجون تهارج الحُمر، فعليْهم تقوم الساعة..
فكان نزول عيسى - عليه السلام - علمٌ للساعة وآية لها وبِقُرْبِها، فقال الله تعالى بعد ذكره عيسى - عليه السلام - في سورة الزُّخْرُف: { وإنه لَعِلْمٌ للساعة فلا تَمْتَرُنَّ بها واتبعونِ هذا صراط مستقيم }
فالمسلمون يؤمنون بالمسيح - عليه السلام - وبنزوله بجسده وروحه في آخر الزمان، وأنه عبد لله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه..(1/31)
والنصارى إنما تؤمن بمسيح دعا إلى عبادة نفسه وأمه وأنه ثالث ثلاثة، وأنه الله وابن الله، وهو عين المسيح الدجال الكذاب الذي يأتي في آخر الزمان، فهم ينتظرونه، ولم يعملوا بوصية أقراكيس المتقدمة في رسالة يوحنا، وهكذا يُعَوَّضُ كل من اليهود والنصارى بالدجال؛ لإعراضهم عن الحق، وتبنيهم الباطل..
فهل للقرضاوي بعدها من قول بقوله، فلقد سمعناه وهو يترحَّم على بابا الفاتيكان الهالك، ويقول رحمه الله، ولم يستح؛ فيقول ما شاء، أين شاء..
لا شك أنها عبودية الفكر والتيار الذي يقول به، وهو التيار نفسه الذي أوصله إلى أعظم الظلم والضيق والقهر أمام اليهود والنصارى، فيدعو إلى تقريب دينهم المحرف إلى دين الإسلام الذي لا يقبل الباطل، ولا القول العاطل، فأخذ القرضاوي بتياره يحرِّم ما شاء، ويحلل ما شاء، ويشرع للناس ما شاء من تِلْقاء نفسه.. فلا حول ولا قوة إلا بالله..
نعود إلى أصل الموضوع في فصل:
من أين استقى النصارى عقيدة التثليث؟؟؟
من أين استقى النصارى عقيدة التثليث؟؟؟
كما تقدم الكلام في القسم الثاني من نقض "الموسوعة اليوسفية" في أن الإخبار بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - في الكتب السماوية المتقدمة كثيرة جداً، والذي ذكرناه هناك غيض من فيض، حتى أن اليهود عرفوه وتيقنوا أنه هُو هوَ المذكور عندهم في كتبهم، أما النصارى فقد ترددوا، فمنهم من آمن به، ومنهم من كفر..(1/32)
فمع أن عيسى - عليه السلام - قد أتى بإنجيل واحد! إلا أن النصارى يتداولون أربعة أناجيل، وهذه الأناجيل هي في الحقيقة مختارة من بين حوالي مائة إنجيل كانت منتشرة بين النصارى في القرن الرابع الميلادي، وهذه الأناجيل الأربعة قد ألفها أربعة رجال: "يوحنَّا"، و"متَّى"، وهما قد رأيا المسيح - عليه السلام -، و"مرقس"، و"لوقا"، فلم يرياه البتة، وهذه الأناجيل فيها التناقض الواضح الصريح الذي هم يعترفون به..فكل منهم يزيد وينقص ويخالف في أشياء، مما يدل على اضطرابه واختلافه وتبديله، على العكس من الذي هو من عند الله؛ فلا اختلاف فيه ولا اضطراب؛ فالقرآن هو الكتاب الوحيد الذي حفظه الله وتعهَّد سبحانه وتعالى بحفظه..
فالتوراة التي بأيدي النصارى تختلف عن التوراة التي بأيدي اليهود، وكذا الأناجيل.. فمن ادعى أنها متفقة شرقاً وغرباً، بُعْداً وقرباً؛ فهو كذاب يريد أن يروج بضاعته على أشباه الأنعام..
فالإنجيل الأصلي والتوراة الأصلية قد فُقِدا، واختفت غالب الحقائق التي نزلت على موسى وعيسى عليهما السلام، فالموجودة الآن عبارة عن كتابين جمعا كلاماً عن السير فيها الصحيح وفيها الضعيف وفيها الكذب الصريح، وإلاَّ فكيف يكون في الأناجيل قصة صلب المسيح المُدَّعاة؟! وأين الصلاة التي نسمعها من النصارى في الإنجيل، فصلاتهم بألحان الأغاني، ونوح الثَّكالى، فيقولون عنها أنها من قُدَّاس فلان، وألحان علان، وهذا كله ليس في الإنجيل الذي جاء به عيسى - عليه السلام -!
ثم نقول: أن عيسى - عليه السلام - قد اختتن وأمر بالختان، وحرَّم أكل الخنزير، ولعن آكله كما في الإنجيل، فلماذا يأكله النصارى، وتتقرب إلى المسيح بأكله؟! انظر "إنجيل لوقا" الإصحاح الثامن الفقرات 2و3، و22و33 في الحكم على نجاسة الخنزير
أليس هذا دليلاً كافياً على أن الأناجيل من تأليف شيوخ النصارى:(1/33)
( فإنجيل ألفه متَّى تلميذ المسيح بعد تسع سنين من رفع المسيح، وكُتب بالعبرانية في بلد يهود بالشام.
وإنجيل ألفه مرقس الهاروني تلميذ شمعون بعد ثلاث وعشرين سنة من رفع المسيح، وكتبه باليونانية في بلاد إنطاكية من بلاد الروم، ويقولون أن شمعون المذكور هو ألفه ثم محا اسمه من أوله، ونُسب إلى تلميذه مرقس.
وإنجيل ألفه لوقا الطبيب الأنطاكي تلميذ شمعون بعد تأليف مرقس.
وإنجيل ألفه يوحنا تلميذ المسيح بعدما رُفع المسيح ببضع وستين سنة، كتبه باليونانية.) "هداية الحيارى" 100، وقد شكك بعضهم بأن يوحنا كان تلميذا للمسيح واستقر الأمر آخراً على هذا، فهو ليس تلميذا للمسيح بشهادتهم، ولكنه مع هذا فهو أكبر مستمسك للنصارى على الإطلاق..
فهذه الكتب المؤلفة من البشر ليست هي الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى ابن مريم - عليه السلام -، ولم يكن عيسى - عليه السلام - قد أملاها على الكتبة، ولم تكن الوحي الذي أوحي إليه، وإنما هي عبارة عن أخبار المسيح وصلواته ،وأقواله وعجائبه، ومن بدايته إلى نهايته في هذا العالم، وفيه النواة الأولى لألوهية المسيح، وعقيدتهم الوثنية فيه، فليس واجبنا فيه التسليم، فهي كغيرها من الكتب؛ فإن صدَّق القرآن شيئاً؛ صدَّقناه وقبلناه، وإن كذبها؛ كذبناه ورددناه، وإنْ سكت عنها؛ سكتنا، فلا نصدِّق ولا نكذب،كما وَصَّانا بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -..
فالأناجيل الأربعة يُطلق عليها "العهد الجديد" ويلحق بها رسائل لبعض تلامذة المسيح أو تلامذتهم، منها أربع عشرة رسالة لبولس؛ اعتبرت إلهامية مقدسة، وأما "العهد القديم"؛ فهو الاسم الذي أطلقوه على أسفار التوراة وما أُلحق بها من كتب سماوية تالية؛ كالمزامير (أي الزبور) وحكمة سليمان، وأسفار نبوية، أو تاريخية أخرى اعتبرها اليهود إلهامية مقدسة، عددها جميعاً 46 سفراً - وسيأتي قريباً الكلام عنها-(1/34)
والنصارى يؤمنون بكلا العهدين على أنهما وحي من الله، ويجعلونهما في كتاب واحد يسمونه "الكتاب المقدَّس" وفي حين يؤمن اليهود بالعهد القديم فقط..انظر ما كتبه سعد رستم في رسائل بولس ويوحنا في كتابه "الأناجيل الأربعة ورسائل بولس ويوحنا تنفي ألوهية المسيح كما ينفيها القرآن" وسنذكر بعض ألفاظه إن شاء الله
مع العلم أن التاريخ يروي لنا أنه كانت في العصور الغابرة أناجيل أخرى، قد أخذت بها فرق وطوائف قديمة راجت عندها ويتدينون على مقتضاها، ولم تعتنق كل فرقة إلا إنجيلها، ولم تنهل إلاَّ من منهاله، حتى أنه قد كثرت الأناجيل كثرة عظيمة، لدرجة أن الأناجيل الأربعة لم تكن معروفة مقابل الكثرة الكاثرة في ذلك الوقت، ففي نهاية القرن الثاني الميلادي وبداية الثالث؛ قررت الكنيسة المحافظة على الأناجيل الأربعة، وهي التي ذكرها أرينيوس سنة 209م، ومصادرة جميع الأناجيل الأخرى، حتى جاء كليمنس اسكندريانوس في سنة 216م وأظهر وجوب التسليم لهذه الأناجيل الأربعة، واعتقاد صحتها، ورفض غيرها، وجعلها هي المعتبرة دون سواها، بحيث جعل من المستحيل البحث عن ما اشتملت عليه الأناجيل المفقودة من مخالفات للأربعة الموجودة المتداولة..!
فهذه الأناجيل الأربعة لم تُعرف إلا من ناحية عالمين من علمائهم، ولم يذكر التاريخ أي أسانيد تصلها إلى السيد المسيح - عليه السلام -، بحيث أن الإسناد هو الذي يصون المتون ويحتاط لها، فيصونها من الاختلاط، ويميط عنها كل ما يخالط جوهرها، حتى تصير المتون ذات بريق وصفاء ينهل منها القاصي والداني..(1/35)
فمن الأناجيل الغير معترف بها عند النصارى: إنجيل "برنابا"، وقد كان موجوداً قبل الإسلام، وحرمت الكنيسة تداوله في آخر القرن الخامس الميلادي، وقد أيدته المخطوطات التي عُثر عليها في منطقة البحر الميت حديثاً، وقد جاء في هذا الإنجيل عبارات مصرحة باسم النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ فجاء في الإصحاح الحادي والأربعين نص هذه العبارة: (29فاحتجب الله وطردهما الملاك ميخائيل من الفردوس 30 فلما التفت آدم رأى مكتوباً فوق الباب: لا إله إلا الله محمد رسول الله.) وفي مموضع آخر: (136:7 أجاب التلاميذ يا معلم من عسى أن يكون ذلك الرجل الذي تتكلم عنه الذي سيأتي إلى العالم، أجاب يسوع بابتهاج قلبٍ: إنه محمد رسول الله.) وقد تكررت هذه العبارة في إنجيل "برنابا" في مواضع كثيرة، وهو مطبوع.
ولم ننسَ ما قاله هرقل ملك الروم عندما استلم رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم.) البخاري في بدء الوحي، ومسلم في كتاب الجهاد والسير باب كتاب النبي إلى هرقل.
ولكننا إذا نظرنا إلى إنجيل "لوقا" الذي هو ضمن الأناجيل المقررة لدى النصارى؛ نجد أنه قد صرح باسم النبي - صلى الله عليه وسلم -: فجاء في 2:14: (الحمد لله في الأعالي، وعلى الأرض إسلام، وللناس أحمد.) ولكن مترجميه إلى العربية لم يَتَوَفَّقُوا إلىالترجمة الصحيحة عن السريانية، كما حقق ذلك الأستاذ عبدالأحد داود..
وفي إنجيل "يوحنا": (إن لم أنطلق لا يأتيكم الفارقليط.) والفارقليط هو الحامد أو الحمَّاد أو أحمد ونحوها كما حقق ذلك ابن القيم في كتابه هداية الحيارى، فانظره تزدد علماً..
إنجيل "يوحنا" هو الإنجيل الذي يقرر ألوهية المسيح(1/36)
وإنه لما يلفت الانتباه! أن إنجيل "يوحنا" بالذات هو الإنجيل الذي تضمنت فقراته ذكراً صريحاً لألوهية المسيح - عليه السلام -، وهذه الألوهية هي قطب الرحى وشعار النصارى التثليثي - وهو وأساس التباين بين التوحيد والشرك- حتى أن بعض فرق النصارى في آخر القرن الثاني الميلادي تنكر أن يوحنا الحواري هو الذي كتبه، وإنما كتبه يوحنا آخر لا يمت للحواري بأي صلة روحية، فما كتبه إلا لغرض خاص؛ وهو أن بعض الناس قد سادت عندهم فكرة أن المسيح ليس بإله، وأن كثيرين من فرق الشرق كانت تقرر تلك الحقيقة، فَطُلِبَ إلى يوحنا أن يكتب إنجيلاً يتضمن بيان هذه الألوهية، وذكر ما أهمله "متَّى" و"مرقس" و"لوقا" في أناجيلهم فكتب هذا الإنجيل؛ ليقرر، أو ليرسِّخ الاعتقاد بحقانية لاهوت وناسوت ربهم وفاديهم ومخلصهم..
حتى جاء في "دائرة المعارف البريطانية" التي اشترك في تأليفها خمسمائة من علماء النصارى ما نصه: (أما إنجيل "يوحنا" فإنه لا مرية ولا شك كتاب مزور أراد صاحبه مضادة اثنين من الحواريين بعضهما لبعض، وهما القديسان (يوحنا) و(متَّى)، وقد ادعى هذا المكاتب المزور في متن الكتاب انه هو الحواري الذي يحبه المسيح، فأخذت الكنيسة هذه الجملة على عِلاَّتها، وجزمت أن الكاتب هو يوحنا الحواري، ووضعت اسمه على الكتاب نصاً، مع أن صاحبه غير يوحنا يقيناً، ولا يخرج هذا الكتاب عن كونه مثل بعض كتب التوراة التي لا رابطة بينها وبين من نسبت إليه، وإنَّا لنرأف ونشفق على الذين يبذلون منتهى جهدهم ليربطوا، ولو بأوهى رابطة، ذلك الرجل الفلسفي الذي ألف هذا الكتاب في الجيل الثاني بالحواري يوحنا الصياد الجليل، فإن أعمالهم تضيع عليهم سدى لخبطهم على غير هدى.) اهـ
المجامع النصرانية التي تلقى النصارى منها أصول دينهم(1/37)
إنَّ المجامع النصرانية كان لها الأثر المدمِّر على ديانة المسيح - عليه السلام - وعلى تعاليمه السمحة الكريمة، ففي المجمع الأول ألَّهوا عيسى - عليه السلام -، وفي الثاني ألَّهوا الروح القدُس - عليه السلام -، وفي الثالث ألَّهوا مريم أمّ المسيح عليهما السلام، وفي المجمع الثاني عشر منحوا الكنيسة حق الغفران والحرمان، ومنْح هذا الحق من تشاء من القساوسة ورجال الكهنوت، وفي العشرين قرروا عصمة البابا، والإقرار بعصمته يعطيه حق النسخ والتشريع، وللقس والراهب عندهم منح المغفرة والتَّطْييب لكل من عصى أو حتى لو قتل أو زنى أو لاوط أو سكر..
مع أن النصارى من قبل المجمع الجائر كانوا على التوحيد، ولكن المجمع قد فرض نفسه، وسلط حكومته وكهنوته على الناس، وعلى الناس أن يطيعوهم في تحريمهم الحلال، وتحليلهم الحرام، وليس لأحد من الناس الحق في أن يقول لرجل الكنيسة: كيف، ولماذا، وأين الدليل؟؟؟ انظر "هداية الحيارى" لابن القيم 265 و"إنهم كافرون" لأحمد بن عبد العزيز الحصين وقد نقلت من تفسير ابن كثير في تفسير سورة النساء آية 171 في القسم الثاني من نقض الموسوعة اليوسفية ص221، 222 عن هذا المجمع الكافر الفاجر، وانظر كذلك أول تفسير سورة الروم وما يُسمى الأمانة الكبيرة وفي الحقيقة أنها الخيانة الحقيرة(1/38)
فقبل هذه المجامع الكافرة الجائرة؛ كان الناس على دين الإسلام الذي بُعث به عيسى عليه السلام، وهو إسلام الوجه لله تعالى، وطاعته، وعبادته وحده، والبراءة من الشرك، والإيمان بالنبوات، والمبدأ والمعاد، فكلهم على الإسلام والتوحيد والإخلاص، والفطرة، والسداد، والاستقامة: الأمة واحدة, الدين واحد، والمعبود واحد، وكانت هذه هي دعوة الأنبياء والمرسلين جميعاً، بل هو ملتهم، فصراطه واحد، وسبيله واحد، والتشريع واحد من عند الله، لا يتغير ولا يتبدَّل، ولا يدخله النسخ، بل هو محكم، لا يقبل الاجتهاد، ولا التخصيص.. – غير الشرائع؛ فهي مختلفة، ومتنوعة، ومتعددة، ويعترضها النسخ، والكلام في هذا ليس هذا محله -
قال الله تعالى: { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أَنِ اعْبُدوا الله واجتنبوا الطاغوت } النحل
وقال تعالى: { وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلاَّ نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدونِ } الأنبياء
فالإسلام هو محل بعثة الأنبياء لأممهم، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد حققوا الغرض من بعثتهم، والذين اتبعوهم وكانوا على ملتهم وسنتهم هم أولى الناس بهم، على العكس من الذين جنحوا إلى دعوى أنهم على ملة الأنبياء، وهم أبعد ما يكونون منها، فهم كذبة قد حرفوا الكلم عن مواضعه، فدمروا تعاليم دينهم بمجامعهم الكافرة التي تلقوا أصول دينهم منها..(1/39)
فأهل الكتاب كانوا قبل تبديل دينهم وتنسيخه، مسلمون حنفاء، وعيسى - عليه السلام - كان يعلمهم أنه عبداً مخلوقاً لله عز وجل، ورسولاً نبياً كسائر الأنبياء من قبله، فلما غيروا واتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل؛ صاروا كفاراً، وليسوا بمسلمين، بأن جعلوا من أهم عقائدهم ترتكز بإلهية المسيح - عليه السلام -، وأن المسيح هو الله نفسه، وبتعبير أكبر: هو شخص الابن من الذَّات الإلهية الواحدة التي تتألف من ثلاثة أشخاص: الذي تجسَّد وصار بشراً، وجاء إلى هذا العالم بصورة إنسان لتخليصهم من الخطايا، فيعيش ويكبر ويلاعب الأطفال، ثم يكبر ويُصلب، حتى تكون آلامه ودمه المسكوب على الصليب وموته وسيلة لتكفير خطيئة البشر الأصلية التي ورثوها جميعاً بالولادة عن أبيهم آدم، وهذه العقيدة تشكل الاختلاف الأساسي بينهم وبين الإسلام.
فإنه لمن المعلوم أن أهم عقائد النصارى - التي لا يستسيغها العقل- ترتكز على إلهية السيد المسيح، مع أن المسيح - عليه السلام - كان بشراً عبداً مخلوقاً ورسولاً نبياً، ففي هذا الفصل أردنا إثبات أن في أناجيلهم نصوصاً يؤكد فيها المسيح - عليه السلام - بشريته وإنسانيته، وعبادته لخالقه سبحانه وتعالى، ونصوصاً أخرى تنفي القول بألوهيته، أو أنه الله المتجسد، فتنفي ألوهيته بنفيها مستلزماتها، ونصوصاً تفيد في إبطال ما يتمسك به النصارى من الأدلة من الأناجيل على تأليه المسيح - عليه السلام -.(1/40)
فمن قرأ الأناجيل وتمعن في قراءتها، فلن يجد عبارة واحدة من المسيح - عليه السلام - يدعو فيه أتباعه للإيمان بألوهيته، أو بلزوم عبادته، حتى أنه لا يوجد عبارة يصرِّح بها بأنه رب العالمين، أو أنه إله الخلائق أجمعين، أو يصرح بها بعقيدة التثليث التي هي الركيزة الأساسية للنصرانية، فما عليه النصارى من عقائد منحرفة إنما هو من تفسيرات دخيلة دخلت في دين النصارى، وهذا الذي نريد أن نثبته في هذا الفصل، والله المستعان.. انظر ما كتبه سعد رستم في كتابه: "الأناجيل الأربعة ورسائل بولس ويوحنا تنفي ألوهية المسيح كما ينفيها القرآن"
فكما بينا في أعلاه؛ أن دستور الإيمان النصراني الذي أقرته كنيسة روما، إنما هو مبني على قرار المجامع النصرانية، وهي التي استقى النصارى منها دينهم، فقد قرر الأساقفة في مجمع نيقية المسكوني عام 325م: أن المسيح هو ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل الدهور، نور من نور، إله من إله حق، مولود غير مخلوق، مساو للآب في الجوهر، الذي به كان كل شيء، الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسَّد من الروح القدس، ومن مريم العذراء، وتأنَّس وصلب عنَّا على عهد بيلاطس البنطي، وتألم وقُبر وقام في اليوم الثالث.. انظر "سوسنة سليمان في أصول العقائد والأديان" للنصراني نوفل أفندي نوفل ص137 ط.1922م المطبعة الأمريكية بيروت
فهذه هي عقيدة النصارى التي قررها المجمع المتقدم ذكره، بحيث جعلوا إلههم اثنان: الآب؛ وهو الله، والابن؛ وهو المسيح، وهما إلهان متساويان في الألوهية، تعالى الله عن قولهم وشركهم.. مع أن المسيح - عليه السلام - كان يقر عبوديته لربه تعالى، ويثبت أن ربه أعظم منه، فقال: (سمعتم أني قلت لكم أنا أذهب ثم آتي إليكم، لو كنتم تحبونني؛ لكنتم تفرحون، لأني أمضي إلى الآب – أي الرب سبحانه وتعالى- لأن أبي أعظم مني.) إنجيل يوحنا 14/28(1/41)
وهم مع ذلك يقولون أن الله واحد، ولكنه ذو أقانيم – أي أشخاص- ثلاث، فهو الله الأقنوم الأول، وابنه المسيح الأقنوم الثاني المولود منه أزلاً، والمساوي لأبيه في الألوهية والربوبية، لكونه منه، وروح القدس الأقنوم الثالث؛ وهو منبثق من الآب والابن، كما يقره الكاثوليك (الكنيسة الغربية في روما اللاتين)، في حين يعتبره الروم الأرثوذكس (الشرقية اليونانية) منبثقاً من الآب فقط، أما البروتستانت بفصائلهم المنفصلة عن الكنيستين السابقتين في القرن السادس عشر الميلادي؛ فلا يتعرضون لشيء من ذلك، وإنما يكتفون بالقول بألوهية الروح القدس، وأنه أقنوم الذات الإلهية الثالث، وهناك طائفتين قديمتين لم يعترفا بقرار مجمع خلقيدونية الذي نص على أن المسيح شخص واحد في طبيعتين، وهما النساطرة أتباع نسطوريوس، واليعاقبة أتباع يعقوب البرادعي...
فالحاصل أن كل واحد من هذه الأقانيم (الأشخاص) إله كامل في ذاته غير الآخر، ولكن الثلاث أقانيم لا تشكل ثلاثة آلهة بمقتضى الحساب، بل كلها إله واحد، لا تفهمه أو تدكه العقول، ويسمون هذه العقيدة: (سر التثليث)! وكنت قد ناقشت أحد دعاتهم عن هذا التثليث، فقال لي: إنه كالماء؛ له ثلاث حالات: صلبة، وسائلة، وغازية، فتعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، فقد قالوا شيئاً إداً تخر منه الشامخات هداً..
أما اعتقادهم بالمسيح؛ فيقولون أنه الأقنوم الثاني لله، وهو الذي تجسَّد وصار إنساناً، ولدته مريم العذراء، فهو إله إنسان؛ تتعرض فيه كل ما للإنسانية من مرض وضعف وخوف وأكل وشرب، ويسمون هذه العقيدة: (سر التجسيد)!
فالذي تقرر في مجمع خلقيدونية سنة 451م أن المسيح هو شخص واحد ذو طبيعتين؛ طبيعة إنسانية (ناسوت) وطبيعة إلهية (لاهوت) فهو إله بشر! فهو عندهم إله متناقض يحمل شخصيتين: خالق ومخلوق، وعابد ومعبود، قديم وحادث، كامل العلم وناقصه...الخ يسمونه سر التجسيد! الذي لا مجال لأحد فهمه أو إدراكه!!(1/42)
أما النساطرة وهم متواجدون في شمال غرب إيران، وجنوب شرق تركيا، وشمال العراق، وهم أقلية يسمون بالآشوريين، فهم يميزون في المسيح بين شخصين: شخص عيسى البشر المولود من مريم العذراء، فهو إنسان بشر محض، وشخص الله الابن، أو ابن الله الذي هو إله كامل، المتحد بعيسى الإنسان، فالذي وُلد من مريم هو عيسى الإنسان وليس الله، فرفضوا كلمة مريم والدة الله، كما أن الذي صُلب وتألم ومات لم يكن الله الابن، بل هو عيسى الإنسان البشر، والحاصل أن عيسى في اعتقادهم شخصيتان متمايزتان، لكل شخصية طبيعتها الخاصة: البشرية المحضة لعيسى الناصري المولود من مريم العذراء، والإلهية لابن الله المتحد بعيسى في اعتقادهم.
أما اليعاقبة؛ فهم علىالنقيض من ذلك تماماً، فهم يرون أن عيسى المسيح شخص واحد فقط، لا اثنان، وليس هذا فحسب، بل هو الشخص الواحد ذو طبيعة واحدة أيضاً، فيقولون: أن أقنوم الابن من الله تجسَّد من روح القدس ومريم العذراء، فصيَّر هذا الجسد معه واحداً؛ وحدة ذاتية جوهرية، أي صار الله (الابن) المتجسد طبيعة واحدة من أصل طبيعتين، ومشيئة واحدة وشخصاً واحداً، وبعبارة أخرى: المركز المسير، والطبيعة الحقيقية لعيسى المسيح الذي ولد من مريم هي الألوهية المحضة، فهو الله عينه، أما بشريته فهي مجرد لباس فانٍ في إلهيته، فلذلك الله تعالى عندهم هو بذاته الذي وُلِد من مريم العذراء، لذا فهي والدة الله، والله نفسه هو الذي عُذّب وتألم وصُلب ومات! ثم قام بعد ثلاثة أيام من قبره حياً، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
فعقيدة اليعاقبة (اليعقوبي) تدين بها الكنيسة القبطية في مصر، وكنيسة الحبشة التابعة لها، كما هو مذهب السريان الأرثوذكس في بلاد الشام، ومذهب الكنيسة الأرمنية الغريغورية.(1/43)
فالحاصل أن جميع الفرق النَّصرانية تتفق على أن المسيح بشرٌ وإلهٌ بنفس الوقت! وإنما تختلف عن بعضها في مدى تأكيدها وإبرازها لأحد الجانبين؛ الإلهية أو البشرية في المسيح، فاليعاقبة يؤكدون الجانب الإلهي أكثر، وعلى عكسهم النساطرة الذين يبرزون أكثر الجانب البشري، فيما يطرح الجمهور الأعظم رؤية متوازنة ومتعادلة للجانبين؛ الإلهي والبشري دون ترجيح أي منهما على الآخر. سعد رستم
هذا و من المفيد ذكره هنا أن إقرار هذه العقيدة ـ أعني عقيدة المسيح الأقنوم (الشخص) الواحد في طبيعتين ناسوتية و لاهوتية ـ الذي تم، كما قلنا، في مجمع خلقيدونية عام 451 م.، إنما كان على أثر جدل واسع بين آباء و أساقفة النصارى حول هذه النقطة، وكان قرار ذلك المجمع هو السبب في انشقاق الكنائس الشرقية عن كنيسة روما، أعني الكنيسة القبطية التي رفضت قراره وقالت بالمسيح الشخص الواحد ذي الطبيعة الواحدة فقط [الناشئة في الأصل من طبيعيتن] واتفق مع الأقباط في ذلك اليعاقبةُ في بلاد الشام والجزيرة (الذين يعرفون بالسريان الأورثوذوكس) وطائفة من الأرمن هم أتباع الكنيسة الغريغورية الأرمنية.(1/44)
يضاف إلى ذلك، انشقاق النساطرة قبل ذلك أيضا إثر انعقاد المجمع الأفسسي قبل عشرين عاما من المجمع الخلقيدوني، أي سنة 431م.، ذاك الذي كان قد حكم بوجود: "اتحاد جوهري بين الطبيعتين في المسيح وأن الإله والإنسان في المسيح هما واحد وبأن مريم والدة الإله"، فقد رفض البطريرك الكبير نسطوريوس، بطريرك القسطنطينية، هذه العقيدة لأنه كان يؤكد على التمايز بين أقنوم (شخصية) الإله و أقنوم (شخصية) الإنسان في السيد المسيح وقال ما مؤدَّاه أنهما أقنومان اتحدا في المسيح، حيث أكد أن مريم لم تلد الله، ولا يجوز أن يولد الله بل ولدت يسوع الإنسان، وكذلك لم يكن الله هو الذي صُلِب ـ في اعتقاده ـ وتألم ومات، إذ كيف يتألم الله ويموت؟! بل كان هو يسوع الإنسان. وبالتالي فقد ميَّزَ نسطوريوس في الحقيقة بين أقنومين (شخصيتين) في السيد المسيح وليس فقط بين طبيعتين، ولذلك فمذهبه على الطرف النقيض تماما من مذهب الأقباط واليعاقبة، ولذلك كل من المذهبين يكفِّر الآخر و يلعنه و يتبرأ منه، هذا وقد كان مع نسطوريوس في عقيدته هذه كثير من مسيحيي المشرق الذين عرفوا بالنساطرة أو بطائفة الآشوريين أو الكلدان.
وإنما ذكرت ذلك ليتبين أن هذه العقيدة بالمسيح الشخص الواحد ذي الطبيعتين، عقيدةٌ انقسم في شأنها المسيحيون أنفسهم، ورفضها قسم كبير منهم، مما يدل على أنها صياغة وتفسير اجتهادي للإنجيل وليست من الأمور الواضحة القطعية فيه، وإلاَّ لما حصل حولها كل هذا الخلاف.(1/45)
والحقيقة أن كثيراً من أساقفة وكهنة الكنيسة العامة لم يخف عليهم مدى غموض وانغلاق هذه العقيدة، وكونها غير معقولة ولا مفهومة إذا ما أراد الإنسان التعمق فيها وفهمها حق الفهم. لذا نجد أن عديداً منهم يجهدون أنفسهم لتوجيه هذه العقيدة المبهمة وتبريرها عقليا بمحاولة ضرب أمثلة مشابهة لها من عالم الواقع، وقد نشأ من هذه الأبحاث علم قائم بذاته عرف باسم: Christology أي: علم (طبيعة) المسيح! والحق أن كل ما ذكروه من أدلة عقلية أو أمثلة لتوجيه تلك العقيدة أو الدفاع عنها لا يخلو من تهافت وضعف وثغرات كبيرة وقابلية للنقد والنقض، ولولا خشية الإسهاب و الإطالة لذكرت أمثلتهم مع بيان تهافتها وعدم انطباقها على المسألة..
هذا ولشعور الكثيرين منهم بضعف الأمثلة والبراهين التي يطرحونها، رجَّحوا عدم البرهنة والاستدلال العقلي على تلك العقيدة، واكتفوا بالقول بأنها سر من أسرار الله هو "سرّ التجسُّد" معترفين بأنه طلسم غيبي لا سبيل للعقل البشري المحدود أن يدركه أو يفهمه، لأنه ـ على حد زعمهم ـ من أسرار الربوبية وصفات الباري تقدس وتعالى التي يعجز البشر عن الإحاطة بكنهها وعجائب أفعالها وقدرتها!، وقالوا: إنها مسألة إيمان، ونحن نؤمن بما قاله آباؤنا العظام القدامى لأنهم معصومون مؤيدون من الله، أو بما نصت عليه النصوص المقدسة الإلهامية - بزعمهم- ولا يضرنا بعد ذلك أن لا يستوعب فهمنا هذا السر أو لا يدركه عقلنا!.(1/46)
ولكن الحقيقة أن هذا لا يحل المشكلة لأن المسألة ليست مسألة أمر "لا يدركه العقل" بل هي مسألة أمر: "يناقض بديهيات العقل"، وفرق كبير شاسع بين الأمرين، ففي حين يمكن قبول الأول، ويوجد عقائد من ذلك النموذج في كل دين، لا يمكن قبول الثاني بحال من الأحوال، لأن القول بالمسيح الشخص الواحد بعينه إلهاً كاملاَ وبشراً حقيقياً، أي له طبيعتين، أو لنقل صفتين: اللاهوتية (أي الإلهية) الكاملة والناسوتية (أي البشرية) الحقيقية بنفس الوقت، بمثابة قولهم أن زيداً نفسه عالم وجاهل بنفس الوقت، أي له صفتي الجهل والعلم بنفس الوقت! أو قادر وعاجز، ومستغن ومحتاج بنفس الوقت! أو بمثابة قولنا أن الشكل الفلاني دائري ومربع بنفس الوقت، أو أن هذا الشيء بعينه موجود ومعدوم بنفس الوقت...! وكل هذا مما يحكم صريح العقل ببطلانه واستحالته لأنه جمع بين المتناقضات ونقض لأبسط البديهيات العقلية التي بدون احترامها والاعتماد عليها لا يقوم برهان على أي شيء في الدنيا.
فشتان شتان بين أمر لا يناقض العقل ولا يتضمن أي استحالة عقلية، لكن العقل لا يتمكن من الإحاطة به أو اكتناه حقيقته مثل كنه ذات الله عز وجل، أو أزليته أو الأبدية اللانهائية وغير ذلك من مغيبات يؤمن بها كل دين، وبين أمر يتضمن استحالة عقلية ومناقضة لبديهيات العقل ومسلمات المنطق والوجدان، كالقول بشخص وذات واحدة بعينها لها صفتي الألوهية الكاملة والبشرية الناقصة؟! أي القول بالمسيح الإله ـ الإنسان. سعد رستم(1/47)
قال الحصين في كتابه "إنهم كافرون" (... أما عقيدة التثليث؛ فإنها لم تفرد إلا في المجمع القسطنطيني المنعقد في عام 381م... فقد ذكرت المؤرخة الشهيرة (آني بيزانث) في كتابها "المسيحية" أن الأناجيل الأربعة مطابقة نصاً وروحاً لما في كتب الهندوس والبوذيين والسيخ، وقد أوْرَدَتْ مقارنات كثيرة بين كل سفر وسفر بين كل رسالة ورسالة، وذكرت أيضاً أن فكرة التجسد الإلهي كانت منسوبة قبل عيسى (لأبولو- وميتراس- ودونيوس) كما جاء في دائرة المعارف الفرنسية: (أن إنجيل مرقس ويوحنا من وضع بولس اليهودي)
وقد ذكرت مجلة "نور الحياة" التي يصدرها (جرمانوس لطفي) في العدد (1-3 يناير 1961م) ذكرت مقالات بعنوان: "الصهيونية تحرف الأناجيل" تناولت فيه مقررات المؤتمر المسيحي اليهودي الذي عقد في (سليزبرغ) والذي وافق فيه المؤتمرون من النصارى على أن يحذفوا من الأناجيل كل الآيات والفقرات التي تعلن غضب الله على شعب اليهود، وسقوط عهده معهم ورفضهم نهائياً، وعدم إعطائهم فلسطين، وحكم الله عليهم بالذل والمسكنة والتشريد نظير وعد من الحاخامات بأن يحذفوا كل ما يحرض اليهود على المسيحيين، و يحط من كرامة المسيح في كتب اليهود.) اهـ
فالأناجيل كلها محرفة بشهادة النصارى أنفسهم، فالإنجيل الواحد الذي سلمه عيسى - عليه السلام - إلى تلامذته لا يوجد الآن، والذي يوجد منه؛ لَمْ يسلم من التحريف والزيادة والنقص والحشو..الخ(1/48)
(يعترف جُلُّ المؤرخين المسيحيين، أن هذا الاعتقاد بإلهية المسيح لم يصبح عقيدة مستقرة وسائدة بين المسيحيين إلا بعد انقضاء عهد الحواريين وعهد التلاميذ الأوائل للمسيح عليه السلام، أي بعد انقضاء قرن على الأقل على انتقال المسيح ورفعه، أما قبل ذلك، أي في القرن الأول لبعثة المسيح، فكانت مذاهب الناس في المسيح لا تزال متشعبة، فغالبية اليهود المعاصرين له أبغضوه وأنكروا رسالته من الأساس، واعتبروه ساحراً ودجَّالا ـ حاشاه من ذلك ـ وصرفوا جهودهم لمحاربة أتباعه والقضاء على دعوته، وفي المقابل آمن به عدد من يهود فلسطين ممن تجرد لله تعالى وكان تقيا مخلصا، ورأوا فيه المسيح المبشر به في الكتب المقدسة السابقة، ومن هؤلاء الحواريون، الذين تدل كتاباتهم ورسائلهم أنهم كانوا يرون في المسيح نبيا بشراً، ورجلا أيده الله تعالى بالمعجزات الباهرة ليرد الناس إلى صراط الله الذي ضلوا عنه وابتعدوا عنه، وليعلن بشارة الله تعالى بالرحمة والغفران والرضوان للمؤمنين التائبين... كما وجد في ذلك القرن الأول وما بعده يهود تشبعوا بأفكار الفلسفة اليونانية سيِّما الأفلاطونية الحديثة منها وتشربت بها قلوبهم، فنظروا للمسيح ولارتباطه بالله عز وجل بمنظار ما كانوا مشبعين به من تلك الفلسفة حول الإلهيات، وما تعلمه حول "اللوجوس" أي العقل الكلي الذي ترى فيه أول ما فاض عن المبدأ الأول ـ أي الله ـ فاللوجوس هو الوسيط بين الله في وحدته و بساطته المتناهية، وبين العالم المتكثر، وبه وفيه خلق الله العالم والكائنات.... فطابقوا بين المسيح واللوجوس، وكل هؤلاء كانوا يرون المسيح مخلوقاً لِلَّه، فلم يقولوا بإلهية المسيح ولا ساووه مع الآب في الجوهر.) سعد رستم
قال الشيخ محمد رشيد رضا في تفسيره "المنار" بعنوان "ثالوث":(1/49)
( كلمة تُطلق عند النصارى على وجود ثلاثة أقانيم معاً في اللاهوت تُعرف بالأب والابن والروح القدس، وهذا التعليم هو من تعاليم الكنيسة الكاثوليكية والشرقية وعموم البروتستانت إلا ما ندر، والذين يتمسكون بهذا التعليم يذهبون إلى أنه مطابق لنصوص الكتاب المقدس، وقد أضاف اللاهوتيون إليه شروحاً وإيضاحات اتخذوها من تعاليم المجامع القديمة وكتابات آباء الكنيسة العظام. وهي تبحث عن طريقة ولادة الأقنوم الثاني وانبثاق الأقنوم الثالث، وما بين الأقانيم الثلاثة من النسبة، وصفاتهم المميزة وألقابهم. ومع أن لفظة ثالوث لا توجد في الكتاب المقدس، ولا يمكن أن يؤتى بآية من العهد القديم تصرح بتعليم الثالوث، وقد اقتبس المؤلفون المسيحيون القدماء آيات كثيرة تشير إلى وجود صورة جمعية في اللاهوت؛ ولكن إذا كانت تلك الآيات قابلة لتفاسير مختلفة كانت لا يؤتى بها كبرهان قاطع على تعليم الثالوث بل كرموز إلى الوحي الواضح الصريح الذي يعتقدونه أنه مذكور في العهد الجديد. وقد اقتبس منه مجموعان كبيران من الآيات كحجج لإثبات هذا التعليم ( أحدهما ) الآيات التي ذُكر فيها الأب والابن والروح القدس معاً (والآخر) التي ذُكر فيها كل منهم على حدة، والتي تحتوي على نوع أخص صفاتهم ونسبة أحدهم إلى الآخر.(1/50)
(والجدال عن الأقانيم في اللاهوت ابتدأ في العصر الرسولي. وقد نشأ على الأكثر عن تعاليم الفلاسفة الهيلانيين والغنوسطيين فإن ثيوفيلوس أسقف إنطاكية في القرن الثاني استعمل كلمة "ترياس" باليونانية، ثم كان "ترتليانوس" أول من استعمل كلمة "ترينيتاس" المرادفة لها ومعناها الثالوث، وفي الأيام السابقة للمجمع النيقاوي حصل جدال مستمر في هذا التعليم وعلى الخصوص في الشرق؛ وحكمت الكنيسة على كثير من الآراء لأنها أراتيكية – أي أرتقية – ومن جملتها آراء الأبيونيين الذين كانوا يعتقدون أن المسيح إنسان محض "والسابيليين" الذين كانوا يعتقدون أن الأب والابن والروح القدس إنما هي صورة مختلفة أعلن بها الله نفسه للناس "والأريوسيين" الذين كانوا يعتقدون أن الابن ليس أزلياً كالأب بل هو مخلوق منه قبل العالم، ولذلك هو دون الأب وخاضع له، "والمكدونيين" الذين أنكروا كون الروح القدس أقنوماً.
( وأما تعليم الكنيسة فقد قرره المجمع النيقاوي سنة 325 للميلاد، ومجمع القسطنطينية سنة 381 وقد حكما أن الابن وروح القدس مساويان للأب في وحدة اللاهوت، وأن الابن وُلد منذ الأزل من الأب، وأن الروح القدس منبثق من الأب، ومجمع طليطلة المنعقد سنة 589 حكم بأن الروح القدس منبثق من الابن أيضاً، وقد قبلت الكنيسة اللاتينية بأسرها هذه الزيادة وتمسكت بها، وأما الكنيسة اليونانية فمع أنها كانت في أول الأمر ساكتة لا تقاوم قد أقامت الحجة فيما بعد على تغيير القانون حاسبة ذلك بدعة.(1/51)
( وعبارة (ومن الابن أيضاً) لا تزال من جملة الموانع الكبرى للاتحاد بين الكنيسة اليونانية والكاثوليكية، وكتب اللوثيريين والكنائس المصلحة أثبت تعليم الكنيسة الكاثوليكية للثالوث على ما كان عليه من دون تغيير، ولكن قد ضاد ذلك منذ القرن الثالث عشر جمهور كبير من اللاهوتيين وعدة طوائف جديدة كالسوسينيانيين والجرمانيين والموحدين والعموميين وغيرهم حاسبين ذلك مضاداً للكتاب المقدس والعقل، وقد أطلق "سويدتيراغ" الثالوث على أقنوم المسيح معلماً بثالوث. ولكن لا ثالوث الأقانيم بل ثالوث الأقنوم. وكان يفهم بذلك أن ما هو إلهي في طبيعة المسيح هو الأب، وأن الإلهي الذي اتحد بناسوت المسيح هو الابن، وأن الإلهي الذي انبثق منه هو الروح القدس، وانتشار مذهب العقليين في الكنائس اللوثيرية والمصلحة أضعف مدة من الزمان اعتقاد الثالوث بين عدد كبير من اللاهوتيين والجرمانيين.
( وقد ذهب ( كنت ) إلى أن الأب والابن والروح القدس إنما تدل على ثلاث صفات أساسية في اللاهوت، وهي القدرة والحكمة والمحبة، أو على ثلاثة فواعل عُليا؛ وهي الخلق والحفظ والضبط، وقد حاول كل من هيجين وشلنغ أن يجعلا لتعليم الثالوث أساساً تخيلياً وقد اقتدى بهما اللاهوتيون والجرمانيون المتأخرون، وحاولوا المحاماة على تعليم الثالوث بطرق مبنية على أسس تخيلية ولاهوتية؛ وبعض اللاهوتيين الذين يعتمدون على الوحي لا يتمسكون بتعليم استقامة الرأي الكنائسية بالتدقيق كما هي مقررة في مجمعي نيقية والقسطنطينية المسكونيين، وقد قام محامون كثيرون في الأيام المتأخرة بعضد آراء السابيليين على الخصوص) اهـ من كتاب "الظلال" لسيد قطب 1639(1/52)
فالنصارى قد تلقوا دينهم المحرف عن مجامعهم المختلفة فيما بينها، فهي مجامع حائرة وتائهة، لاعنة لبعضها البعض، ومكفرة لبعضها البعض، لا يتحصل لها القول في معرفة معبودها، فمنهم من يقول أن المسيح هو الله، ومنهم من يقول هو ابن الله، ومنهم من يقول ثالث ثلاثة، أو أنه أقنوم.. الخ
فكلٌ منهم اتخذه على ما يهواه، وما يمليه عليه مجمعه وهواه، مع التبرؤ ممن اتبع سواه، فدينهم قام – وهو قائم الآن – على اللعنة، فالكل لاعن وملعون.. قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.)) متفق عليه
والصوفية اتخذوا القبور مساجد كما اتخذها اليهود والنصارى مساجد.. فدخلوا في اللعنة التي دخلوا فيها..(1/53)
( و أخيرا كان هناك المؤمنون الجدد من الأمميين (الوثنيين) وغالبهم آمن بدعوة التلاميذ بعد رحلة المسيح، وهؤلاء كانوا متشبعين بثقافة عصرهم الوثنيَّة الهيلينيَّة التي تنظر للعظماء من أباطرة أو قادة فاتحين أو فلاسفة عظام، على أنهم أنصاف آلهة أو أبناء آلهة هبطت لعالم الدنيا وتجسدت لخلاص بني الإنسان و هدايتهم.... فصار كثير منهم ينظرون لشخصية المسيح بنفس المنظار، خاصة أنه كان يعبر عن المسيح في لغة الأناجيل بابن الله، فأخذوا البنوة على معناها الحرفي لوجود نظير لذلك في ثقافتهم الوثنية، ورأوا فيه ابن الله الحقيقي الذي كان إلها فتجسد ونزل لعالم البشر لخلاصهم... ولاقت هذه العقيدة رواجا لدى العوام الذين يعجبون بالغلو في رفع مقام من يقدسونه ويؤمنون به ويرون ذلك من كمال الإيمان به والمحبة له، وقد لعبت عدة عوامل سياسية وثقافية واجتماعية وحتى لغوية ـ ليس هنا موضع بسطها ـ لصالح الاتجاه الوثني الأخير في النظر لشخصية المسيح، فساد وانتشر، وشيئا فشيئا صار هو الأصل وصارت مخالفته هرطقة و خيانة لحقيقة المسيح، وصار الموحدون، أي الأتباع الحقيقيون للمسيح، فئات ضئيلة عرضة للاضطهاد، يُنْظَر إليها على أنها مبتدعة ضالة!(1/54)
لكن هذا لا يعني أن الموحدين انتهوا تماما، بل إن التاريخ والوثائق تثبت أنه وجدت ولا تزال في كل عصر من عصور تاريخ المسيحية وحتى يومنا هذا، أعداد غير قليلة من علماء النصارى وعامتهم ممن أنكر تأليه المسيح ورفض عقيدة التجسد والتثليث مؤكدا تفرد الله الآب لوحده بالألوهية والربوبية والأزلية، وأن المسيح مهما علا شأنه يبقى حادثا مخلوقا، هذا وقد حظي أولئك الأساقفة أو البطارقة الموحدون بآلاف بل عشرات آلاف الأتباع والمقلدين، وليس ههنا مجال لذكر واستقصاء أسماء كل من نقله التاريخ لنا من أولئك الموحدين الأعلام، ومن رام الاطلاع المفصَّل على ذلك فعليه بالكتاب القيِّم المسمى: "عيسى يبشِّر بالإسلام" للبروفيسور الهندي الدكتور محمد عطاء الرحيم، والذي ترجمه إلى العربية الدكتور (الأردني) فهمي الشما، فقد ذكر فيه مؤلفه الفرق النصرانية الموحدة القديمة وتحدث في فصل كامل عن أعلام الموحدين في النصرانية، استوعب فيها أسماءهم وتراجمهم وكتاباتهم ودلائلهم على التوحيد وأحوالهم وما لاقوه من اضطهاد ومحاربة في سبيل عقيدتهم، ونكتفي هنا بإشارة سريعة لأسماء أشهر الفرق والشخصيات النصرانية الموحدة البارزة عبر التاريخ:
فقد ذكرت المراجع التاريخية النصرانية، التي تتحدث عن تاريخ الكنيسة، أسماء عدة فرق في القرون المسيحية الثلاثة الأولى كانت تنكر التثليث والتجسد وتأليه المسيح وهي: فرقة الأبيونيين، وفرقة الكارينثيانيين، وفرقة الباسيليديين، وفرقة الكاربوقراطيين، فرقة الهيبسيستاريين، وفرقة الغنوصيين.
و أما أشهر القساوسة و الشخصيات المسيحية الموحدة القديمة التي تذكرها تلك المصادر فهي :
¨ديودوروس أسقف طرطوس.
¨بولس الشمشاطي، وكان بطريركا في أنطاكية ووافقه على مذهبه التوحيدي الخالص كثيرون وعرفوا بالفرقة البوليقانية.
¨الأسقف لوسيان الأنطاكي أستاذ آريوس (توفي سنة 312 م.)(1/55)
¨آريوس أسقف كنيسة بوكاليس في الإسكندرية (250 ـ 336 م.) و قد صار له ألوف الأتباع عرفوا بالآريوسيين وبقي مذهبهم التوحيدي حيا لفترات زمنية طويلة وصار آريوس علما للتوحيد حتى أن كل من جاء بعده إلى يومنا هذا وأنكر التثليث وإلهية المسيح، يصمه رجال الكنيسة الرسميون بأنه آريوسي!!.
¨يوزيبيوس النيقوميدي أسقف بيروت ثم نقل لنيقوميديا عاصمة الإمبراطورية الشرقية، وكان من أتباع لوسيان الأنطاكي ومن أصدقاء آريوس.
أما أشهر الموحدين من رجال الدين و المفكرين المسيحيين المتأخرين فهم :
1) المصلح المجاهد الطبيب الأسباني ميخائيل سيرفيتوسMichael Servitus (1151 ـ 1553): تأثر بحركة الإصلاح البروتستانتية لكنه خَطَا في الإصلاح خطوات جذرية وجريئة أكثر، فأعلن بطلان عقيدة التثليث ورفض ألوهية المسيح بشدة وكان يسمي الثالوث بـ"الوحش الشيطاني ذي الرؤوس الثلاثة!" وقام بحركة نشطة جداً في الدعوة إلى التوحيد الخالص، وقد اتهمته الكنيسة بالهرطقة واعتقلته ثم أعدمته حرقاً. لكنها لم تستطع إعدام أفكاره وكتاباته التي انتشرت في وسط وشرق أوربا انتشار النار في الهشيم و صار لها عشرات الألوف من الأتباع و المؤيدين.
2) القسيس الروماني فرانسيس ديفيد Francis David (1510 ـ 1579): صار أسقفا كاثوليكيا أولا ثم اعتنق البروتستانتية ثم وصل في النهاية للتوحيد الخالص فأبطل التثليث ونفى ألوهية المسيح، وقد أوجدت أفكاره فرقة من الموحدين في بولونيا والمجر (هنغاريا) وأثرت أفكاره حتى في ملك هنغاريا الذي أصدر بيانا أمر فيه بإعطاء الموحدين حرية العقيدة.(1/56)
3) اللاهوتي الإيطالي فاوستو باولو سوزيني Fausto Paolo Sozini (1539 ـ 1604): اشتهر باسم سوسيانوس Socianus، نشر كتابا إصلاحيا ينقد عقائد الكنيسة الأساسية من تثليث وتجسد وكفارة وغيرها، ثم توصل للتوحيد الخالص وأخذ يؤكد عليه في كتاباته ورسائله وانتشرت تعاليمه في كل مكان وعرفت مدرسته أو مذهبه اللاهوتي باسم "السوسيانية"، أما مخالفوه فسموا أتباعه بـ "الآريانيين الجدد"(أي أتباع مذهب آريوس القديم). وبعد وفاته جمعت رسائله وكتاباته في كتاب واحد نشر في مدينة "روكوف" Rokow في بولندا، ولذلك أخذ اسم "كتاب العقيدة الراكوفية"، وقد تعرض أتباع السوسيانية لاضطهاد وحشي منظم منذ عام 1638 وحرق الكثير منهم أحياء أو حرموا حقوقهم المدنية وحرقت كتبهم، وفي سنة 1658 خُيِّرَ الناس بين قبول الكاثوليكية أو الذهاب للمنفى، فتوزَّع التوحيديون في أطراف أوربا وظلوا فئات منفصلة لفترات طويلة، وقد لقيت السوسيانية رواجا عميقا في هنغاريا (المجر) ثم بولندا وترانسلفانيا (إقليم في رومانيا) وانتشرت منها إلى هولندا ثم بريطانيا وأخيرا سرت للولايات المتحدة الأمريكية وكانت وراء نشوء الفرقة الشهيرة التي تسمت باسم التوحيديين Unitarians The(1/57)
4) الأستاذ المحقق البريطاني جون بيدل John Biddle (1615 ـ 1662): يعتبر أبا مذهب التوحيد في إنجلترا، حيث قام بنشاط إصلاحي قوي ورائع في بريطانيا ونشر رسائله التوحيدية المدللة بأقوى البراهين المنطقية على بطلان إلهية المسيح وبطلان إلهية الروح القدس، وتفرد الله (الآب) وحده بالإلهية والربوبية، وقد تعرض هو وأتباعه لاضطهاد شديد وحوكم وسجن عدة مرات وتوفي أخيراً وهو سجين بسبب سوء ظروف السجن وسوء المعاملة فيه وقد أثرت أفكاره في الكثيرين من متحرري الفكر في بريطانيا فآمنوا بها ومن أشهرهم: السيد ميلتون Milton (1608 ـ 1674) والسيد إسحاق نيوتن Sir Issac Newton (1642 ـ 1727) العالم الفيزيائي الشهير، وأستاذ علم الاجتماع جون لوك John Lock (1632 ـ 1704)، وكلهم ساهم بدوره في نقد عقائد وتعاليم الكنيسة المعقدة غير المفهومة كالتثليث والتجسد وإلهامية كل ما في الكتاب المقدس و... الخ بما كتبوه و نشروه من كتب و أبحاث و رسائل قيمة.
5) القسيس البريطاني توماس إيملين Thomas Emlyn (1663 ـ 1741): وكان من القساوسة البروتستانت المشايخية Presbyterian ونشر كتابا بعنوان: "بحث متواضع حول رواية الكتاب المقدس عن يسوع المسيح" بيَّن فيه بطلان القول بإلهية المسيح وبطلان القول بتساويه مع الآب، فقبض عليه واتهم بالهرطقة ونفي من بريطانيا، لكنه رغم ذلك لم يتوقف عن دعوته للتوحيد التام، ونشر رسائله المدللة بالبراهين القوية من الكتاب المقدس، على نفي إلهية المسيح أو إلهية الروح القدس، ووجوب إفراد الله تعالى وحده بالعبادة و الصلوات، و تعتبر رسائله من أقوى وأحسن ما كتب في هذا الباب، وكان عدد القساوسة البريسبيتاريين Presbyterians الذين انضموا إليه و آمنوا بآراء آريوس وغيره من الموحدين في بداية القرن الثامن عشر الميلادي عددا لا يستهان به.(1/58)
6) القسيس البريطاني ثيوفيلوس ليندسيTheophilos Lindsy (1723 ـ 1808): وكان منظم أول جماعة مصلين موحدة في إنجلترا، وكان يؤكد أنه ليست الكنائس فقط مكان عبادة الله، بل للإنسان أن يختار أي مكان لأداء الأدعية والصلوات لله وحده فقط.
7) القسيس و العالم البريطاني جوزيف بريستلي Joseph Priestly (1733 ـ 1804): وكانت أبعد كتاباته أثراً؛ كتاب "تاريخ ما لحق بالنصرانية من تحريفات"وجاء في مجلدين. وقد أثار هذا الكتاب ثائرة أتباع الكنيسة الرسمية وأمروا بإحراقه فيما بعد، كما ألف كتابا رائعا آخر في دحض التثليث وإبطال ألوهية المسيح سماه "تاريخ يسوع المسيح". هذا و قد اهتم بريستلي كذلك بالكيمياء واكتشف الأوكسجين الأمر الذي أكسبه شهرة عالمية. وقد هاجر بريستلي في آخر عمره إلى أمريكا وأنشأ هناك الكنيسة التوحيدية Unitarian Church، وتوفي في بوسطن.
8) القسيس الأمريكي ويليام إيليري تشانينغ William Ellery Channing (1780 ـ 1842): كان له الفضل في تطوير وإرساء دعائم الكنيسة التوحيدية في أمريكا وبريطانيا والتي يربو عدد أتباعها اليوم على المائة والخمسين ألفا على الأقل، وذلك بفضل مواعظه المؤثرة البليغة وخطبه القوية ومحاضراته القيمة، هو ومساعده القسيس رالف والدو أيميرسن Ralph Waldo Emerson. ومن الجدير بالذكر أن أفكار فرقة الموحدين Unitarians هذه تسربت إلى قادة الحركة التي قامت بتأسيس مدرسة اللاهوت العصرية في جامعة هارفورد الشهيرة في سنة 1861.
9) البروفيسور البريطاني المعاصر جون هيك John Hick أستاذ اللاهوت في جامعة برمنجهام وصاحب الكتاب الممتاز “The Myth of God Incarnate” أي: أسطورة الله المتجسد، الذي ترجم للعربية ولعدة لغات عالمية، ويضم مقالات له وللفيف من كبار الأساتذة والدكاترة في اللاهوت ومقارنة الأديان في جامعات بريطانيا، محورها جميعا ما أشار إليه البروفيسور هيك نفسه في مقدمة كتابه ذاك حيث قال ما نصه:(1/59)
[ The writers of this book are convinced that another major theological development is called for in this last part of the Twentieth Century. The need arises from growing knowledge of Christian origins and involves a recognition that Jesus was (as he is presented in Acts 2.21) “A man approved by God “ for a special role within the Divine purpose, and that the later conception of him as God Incarnate, The Second Person of the Holy Trinity living a human life, is a mythological or poetic way of expressing his significance for us. ].
وترجمته: [ إن كُتَّاب هذا الكتاب مقتنعين بأن هناك، في هذا الجزء الأخير من القرن العشرين، حاجة ماسة لتطور عقائدي كبير آخر. هذه الحاجة أوجدتها المعرفة المتزايدة لأصول المسيحية، تلك المعرفة التي أصبحت تستلزم الاعتراف بعيسى أنه كان (كما يصفه سفر أعمال الرسل: 2/21): "رجل أيده الله" لأداء دور خاص ضمن الهدف الإلهي، وأن المفهوم المتأخر عن عيسى والذي صار يعتبره "الله المتجسد والشخص الثاني من الثالوث المقدس الذي عاش حياة إنسانية" ليس في الواقع إلا طريقة تعبير أسطورية و شعرية عما يعنيه عيسى المسيح بالنسبة إلينا ].(1/60)
وأخيراً فإن المتتبع لمؤلفات المحققين الغربيين المعاصرين حول تاريخ المسيحية وتاريخ الأديان والمطالع لما تذكره دوائر المعارف البريطانية والأمريكية الشهيرة حول المسيح وتاريخ تطور العقيدة النصرانية والأناجيل، يجد أن الغالبية العظمى من هؤلاء المفكرين والكتَّاب العصريين لا تماري ولا ترتاب في كون غالب العقائد المعقَّدة للكنيسة النصرانية، لا سيما التثليث والتجسد والكفارة والأقانيم... ما هي إلا تعبيرات فلسفية بعدية عن رسالة المسيح التي لم تكن إلا رسالة توحيدية أخلاقية بسيطة. ولم يبق إلا القليل جدا من المفكرين ودكاترة اللاهوت وأساتذة علم الأديان الغربيين ممن لا يزال يرى أن عقائد الكنيسة الرسمية تلك تمثل بالضبط نفس تعاليم المسيح وتعكس حقيقة رسالته.
وفي الختام أشير إلى أن كثيرا من الفرق النصرانية الجديدة، التي انشقَّت عن الكنيسة في قرننا هذا والذي سبقه، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، تتفق على إنكار إلهية المسيح وإنكار التثليث ورفض فكرة: الله ـ الإنسان، و تنظر لبنوَّة المسيح لله على معنى مجازي لا حرفي، ومن أشهر هذه الفرق الجديدة التي قالت بذلك :
¨ فرقة الموحدين أو التوحيديين The Unitarians
¨ فرقة شهود يهْوَه s Witnesses’ Jehovah
¨ فرقة الروحيين The Spiritualist
¨ فرقة العلم المسيحي The Christian Science
مع العلم أن لكل واحدة من هذه الفرق عشرات الكنائس وعشرات آلاف الأتباع من مختلف الطبقات، لاسيما الطبقات المثقفة العصرية، في الولايات المتحدة الأمريكية وكثير من بلدان العالم الأخرى.) سعد رستم(1/61)
أما ما ذكره الشيخ محمد رشيد رضا وسعد رستم عن الموحدين من النصارى، فهم وإن يقرون بأن المسيح ليس أزلياً، وينفون التثليث، فهم يقرون في نفس الوقت بأنه ابن الله، وأنه مخلوق من الأب قبل خلق العالم، وهذا ليس من التوحيد في شيء، كما أنهم لا يقرون بنبوة سيد المرسلين محمد عليه الصلاة والسلام، وهذا لا ينجيهم من النار، كما أخبر بذلك عليه الصلاة السلام.. عدا الناس الذين هم من قبل البعثة النبوية المباركة؛ من الذين لم ينسلخوا من دين المسيح عليه السلام؛ فهم لهم أحكام تخصهم
وقد ذكر هذه المجامع الإمام الرباني ابن القيم رحمه الله في كتابه "هداية الحيارى" في فصل المجامع النصرانية العشرة من ص311 إلى ص345 فراجعه تزدد علماً، فقد ذكرها وكيف ابتدأت وتوسطت وانتهت كأنك تراها عياناً.. فقال ص347:
(..فلو أنَّ قوماً لم يعرفوا لهم إلهاً ثم عُرض عليهم دين النصرانية هكذا؛ لتوقفوا عنه وامتنعوا من قبوله. فوازن بين هذا وبين ما جاء به خاتم الأنبياء والرسل صلوات الله عليه وسلامه؛ تعلم علماً يضارع المحسوسات أو يزيد عليها { إنَّ الدِّين عِنْدَ الله الإسْلام } ) اهـ
فماذا يقول القرضاوي عفا الله عنَّا وعنه بعد هذا المقال من هذا الإمام؟! فهل هم فعلاً مسلمون بالحضارة والثقافة، وإنْ كانوا مسيحيين بالعقيدة والطقوس...؟! وهل نرضى بهم وبعقائدهم ونقول أنهم أهل دين سماوي؟! أو نقول بمقولته: أن اختلافهم في الدين واقع بمشيئة الله، وأن الله منح الخلق الحرية والاختيار فيما يفعل ويدع، فنخلط بخلطه بين المشيئة الكونية والقدرية؟!
فلماذا كل هذا التساهل والتسامح مع قوم قال الله عن مجامعهم الضالة المضلة المضللة:
{ يا أهلَ الكتاب لا تَغْلُوا في دينكم غَيْرَ الحَقِّ ولا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كثيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ } المائدة(1/62)
قال ابن القيم رحمه الله عن سبب انحراف النصارى 256: (.. وهم يقرون أن المسيح قال: (إنما جئتكم لأعمل بالتوراة وبوصايا الأنبياء قبلي، وما جئت ناقضاً بل متمماً، ولئن تقع السماء على الأرض أيسر عند الله من أنقض شيئاً من شريعة موسى، ومن نقض شيئاً من ذلك؛ يُدْعَى ناقضاً في ملكوت السماء) الإصحاح الخامس من إنجيل متى الفقرات 17-20
وقال لأصحابه: ( اعملوا بما رأيتموني أعمل، وارضوا من الناس بما أرضيتكم به، ووصوا الناس بما وصيتكم به، وكونوا معهم كما كنتُ معكم، وكونوا لهم كما كنت لكم.) الإصحاح الثالث والعشرون من إنجيل متى الفقرة 3 وما بعدها
ثم قال ابن القيم: وما زال أصحاب المسيح بعده على ذلك قريباً من ثلاثمائة سنة، ثم أخذ القوم في التغيير والتبديل والتقرب إلى الناس بما يهوون، ومكايدة اليهود ومناقضتهم بما فيه ترك دين المسيح والانسلاخ منه جملة.
ثم قال: فرأوا اليهود قد قالوا في المسيح: إنه ساحر مجنون ممخرق ولد زنية، فقالوا: هو إله تام وهو ابن الله!! ورأوا اليهود يختتنون؛ فتركوا الختان!! ورأوهم يبالغون في الطهارة؛ فتركوها جملة!! ورأوهم يتجنبون مؤاكلة الحائض وملامستها ومخالطتها جملة؛ فجامعوها! ورأوهم يحرمون الخنزير؛ فأباحوه وجعلوه شعار دينهم، ورأوهم يحرمون كثيراً من الذبائح والحيوان؛ فأباحوا ما دون الفيل إلى البعوضة وقالوا: كل ما شئت ودع ما شئت ولا حرج، ورأوهم يستقبلون بيت المقدس في الصلاة؛ فاستقبلوا هم المشرق، ورأوهم يحرمون على الله نسخ شريعة شرعها؛ فجوزوا هم لأساقفتهم وبتاركتهم أن ينسخوا ما شاءوا ويحللوا ما شاءوا ويحرموا ما شاءوا، ورأوهم يحرمون السبت ويحفظونه؛ فحرموا هم الأحد، وأحلوا السبت مع إقرارهم بأن المسيح كان يعظم السبت ويحفظه، ورأوهم ينفرون من الصليب، فإن في التوراة (ملعون من تعلق بالصليب) -[الإصحاح الحادي والعشرون من سفر التثنية الفقرة 23]- والنصارى تقر بهذا، فعبدوا هم الصليب.(1/63)
كما أن في التوراة تحريم الخنزير نصاً؛ فتعبَّدوا هم بأكله، وفيها الأمر بالختان؛ فتعبدوا هم بتركه، مع الإقرار بأن المسيح قال لأصحابه: (إنما جئتكم لأعمل بالتوراة ووصايا الأنبياء قبلي، وما جئت ناقضاً بل متمماً، ولئن تقع السماء على الأرض أيسر عند الله من أن أنقض شيئاً من شريعة موسى.) العهد الجديد، إنجيل متى، الإصحاح الخامس، الفقرة 17 وما بعدها
ثم قال: فذهبت النصارى تنقضها شريعةً شَريعة في مكايدة اليهود ومغايظتهم، وانضاف إلى هذا السبب ما في كتابهم المعروف عندهم "بافر كسيس" – [يقصد بذلك رسالة "أعمال الرسل" ويُقال له أيضاً "يانا وفيلس] انظر العهد الجديد، أعمال الرسل، الإصحاح الأول.- أن قوماً من النصارى خرجوا من بيت المقدس وأتوا إنطاكية وغيرها من الشام فدعوا الناس إلى دين المسيح الصحيح، فدعوهم إلى العمل بالتوراة وتحريم ذبائح من ليس من أهلها، وإلى الختان وإقامة السبت، وتحريم الخنزير، وتحريم ما حرمته التوراة، فشق ذلك على الأمم واستثقلوه، فأجتمع النصارى ببيت المقدس، وتشاوروا فيما يحتالون به على الأمم ليجلبوهم إلى دين المسيح، ويدخلوا فيه، فاتفق رأيهم على مداخلة الأمم والترخيص لهم والاختلاط بهم، وأكل ذبائحهم، والانحطاط في أهوائهم، والتخلق بأخلاقهم، وإنشاء شريعة تكون بين شريعة الإنجيل وما عليه الأمم، وأنشئوا في ذلك كتاباً -.[الكتاب الذي أنشئوه مذكور في الإصحاح الخامس عشر من أعمال الرسل الفقرات 23-29]-
فهذا أحد مجامعهم الكبار.(1/64)
ثم قال: وكانوا كلما أرادوا إحداث شيء؛ اجتمعوا مجمعاً وافترقوا فيه على ما يريدون إحداثه، إلى أن اجتمعوا المجمع الذي لم يجتمع لهم أكبر منه في عهد قسطنيطين الرومي ابن هيلانة الحرانية الفندقية، وفي زمنه بُدّل دين المسيح، وهو الذي أشاد دين النصارى المبتدع وقام به وقعد، وكان عدتهم زهاء ألفي رجل، فقرروا تقريراً، ثم رفضوه ولم يرضوه –[كان هذا المجمع في مدينة (نيقية) في 20/5/325م، وكان الداعي لهذا المجمع مقالة (أريوس): أن يسوع المسيح ليس أزلياً، وإنما هو مخلوق من الأب، وأن الابن ليس مساوياً للأب في الجوهر، وقرر هذا المجمع رفض مقالة أريوس وحرَّق كتبه]-
ثم قال ابن القيم: ثم اجتمع ثلاثمائة وثمانية عشر رجلاً منهم – والنصارى يسمونهم الآباء – فقرروا هذا التقرير الذي هم عليه اليوم، وهو أصل الأصول عند جميع طوائفهم، لا يتم لأحد منهم نصرانية إلا به، ويسمونه "سنهودس" وهي "الأمانة"!! ولفظها: (نؤمن بالله الأب الواحد خالق ما يرى وما لا يرى، والرب الواحد اليسوع المسيح ابن الله بِكْر أبيه وليس بمصنوع، إلهٌ حق من إلهٍ حق، من جوهر أبيه، الذي بيده أتقنت العوالم، وخلق كل شيء، الذي من أجلنا معشر الناس، ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسَّد من روح القدس، ومن مريم البتول، وحبلت به مريم البتول وولدته، وأُخِذ وصُلِب، وقُتِل أيام فيلاطس الرومي، ومات ودُفن، وقام في اليوم الثالث، كما هو مكتوب، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء، ونؤمن بالرب الواحد روح القدس روح الحق الذي يخرج من أبيه روح محبته، وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قديسية سليحية جاثليقية، وبقيام أبداننا وبالحياة الدائمة إلى أبد الآبدين.).(1/65)
ثم قال بن القيم: فصرَّحوا بأن المسيح رب وأنه ابن الله، وأنه بِكْره ليس له ولد غيره، وأنه ليس بمصنوع: أي ليس بعبد مخلوق، بل هو ربٌ خالق، وأنه إله حق اسْتُلَّ وَوُلِد من إله حق، وأنه مساوٍ لأبيه في الجوهر، وأنه بيده أتقنت العوالم، وهذه اليد التي أتقنت العوالم بها عندهم هي التي ذاقت حر المسامير كما صرَّحوا به في كتبهم.
ثم قال: وهذه ألفاظهم قالو: (وقد قال القدوة عندنا: إن اليد التي سمرها اليهود في الخشبة هي اليد التي عجنت طين آدم وخلقته، وهي اليد التي شبَّرت السماء، وهي اليد التي كتبت التوراة لموسى)!
قالوا وقد وصفوا صنيع اليهود به وهذه ألفاظهم: (وإنهم لطموا الإله وضربوه على رأسه)
قالوا: (وفي بشارة الأنبياء به أن الإله تحبل به امرأة عذراء وتلد، ويؤخذ ويُصلب ويُقتل!)
قالوا وأما "سنهودس" دون الأمم، وقد اجتمع عليه سبعمائة من الآباء وهم القدوة فيه: (إن مريم حبلت بالإله وولدته وأرضعته وسقته وأطعمته.)
ثم قال ابن القيم: قالوا: (وعندنا أن المسيح ابن آدم وهو ربه وخالقه ورازقه، وابن ولده إبراهيم وربه وخالقه ورازقه، وابن إسرائيل وربه وخالقه ورازقه، وابن مريم وربها وخالقها ورازقها)
وقالوا: وقد قال علماؤنا ومن هو القدوة عند جميع طوائفنا: (اليسوع في البدء ولم يزل كلمة، والكلمة لم تزل الله، والله هو الكلمة، فذاك الذي ولدته مريم وعاينه الناس، وكان بينهم هو الله وهو ابن الله وهو كلمة الله.) أنظر الإصحاح الأول من إنجيل يوحنا الفقرات 1-5(1/66)
ثم قال بن القيم رحمه الله: هذه ألفاظهم، قالوا: (فالقديم الأزلي خالق السموات والأرض هو الذي عاينه الناس بأبصارهم ولمسوه بأيديهم، وهو الذي حبلت به مريم وخاطب الناس من بطنها حيث قال للأعمى: أنت مؤمن بالله؟ قال الأعمى: ومن هو حتى أومن به؟ قال: هو المخاطب لك، ابن مريم، فقال: آمنت بك، وخر ساجداً) وقالوا: (فالذي حبلت به مريم هو الله وابن الله وكلمة الله.) الإصحاح التاسع من إنجيل يوحنا الفقرات 35-38
ثم قال ابن القيم:
وقالوا: (وهو الذي وُلد ورَضع وفطم وأُخذ وصُلب وصفع وكتِّفت يداه وسمِّر وبُصِق على وجهه ومات ودُفن وذاق أَلَمَ الصَّلب والتَّسْمير والقتل لأجل خلاص النصارى من خطاياهم.)
ثم قال: وقالوا: وليس المسيح عند طوائفنا الثلاثة بنبي ولا عبد صالح، بل هو رب الأنبياء وخالقهم وباعثهم ومرسلهم وناصرهم ومؤيدهم ورب الملائكة...) هداية الحيارى بتعليق مصطفى أبو النصر الشلبي265
قال أبو ماجد: هل دين النصارى المحرف دين سماوي كما زعم القرضاوي؟! وهل المسيح - عليه السلام - إله، وابن إله، وثالث ثلاثة، كما تدعي الطوائف النصرانية؟!
فهل كان أصحاب عقيدة الصلب مؤمنين بالله وهم يعترفون بأن اليهود أخذوا إلههم وصلبوه وتركوه حياً على خشبة الصلب، ومزقوا أضلاعه، وسمَّروا أطرافه، و.. و.. وقد كان قبل أخْذه يحتال في الهروب منهم والاختفاء عن أعينهم جزعا وخوفاً؟!
أيُّ إلهٍ هذا وهو يُعامل مثل هذه المعاملات وأكثر، وهو لا يستطيع دفع الضر عن نفسه ولا تحويله؟! قال أبو العلاء المصري:
عجباً للمسيح بين النصارى وإلى الله والداً نسبوه
أسلموه إلى اليهود وقالوا إنهم بعد قتله صلبوه
فلئن كان ما يقولون حقاً فسلوهم فأين كان أبوه
فإذا كان راضياً بأذاهم فاشكروهم لأجل ما صنعوه
وإذا كان ساخطاً غير راض فاعبدوهم لأنهم غلبوه(1/67)
فوالله لقد جاء هؤلاء الكفرة الكذبة شيئاً إداً، تخر منه الشامخات هداً! وكذا القرضاوي لما أباح تهنئتهم ببطاقات التهنئة مجاملةً لهم في عيد الصليب (الكريسماس) "فتاوى معاصرة"2/617
آلله حبلت به امرأة، وأرضعته وفطمته، ثم يُصفع ويُصلب ويُهان بالبصاق على وجهه، والشوك على رأسه، والمسامير الحامية تمزق جسده..
فوالله الذي لا إله غيره؛ لقد كفر هؤلاء، وكفر من لم يكفرهم، كما قال الله تعالى:
{ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } وقال: { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة }
نعم! لقد كفروا ورب الكعبة، لقد كفرهم عيسى - عليه السلام - لما قال لهم: (إن الله ربي وربكم، وإلهي وإلهكم) الإصحاح العشرون من إنجيل يوحنا الفقرة 18
وقال: (إني لم أجيء لأعمل بمشيئة نفسي، ولكن بمشيئة من أرسلني.) إنجيل يوحنا الإصحاح السابع الفقرات 16-19
وقال: (إن الكلام الذي تسمعونه مني ليس من تلقاء نفسي، ولكن من الذي أرسلني، والويل لي إن قلت شيئاً من تلقاء نفسي، ولكن بمشيئة هو من أرسلني.) يوحنا الإصحاح الخامس الفقرة 30
وسأل أحد اليهود المسيحَ - عليه السلام - فقال: (أيةُ وصية هي أول الكلّ؟ فأجابه يسوع: إنَّ أوَّل كل الوصايا هي: اسمع يا إسرائيل! الرب إلهنا رب واحد، وتحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل فكرك، ومن كل قدرتك، وهذه هي الوصية الأولى، والثانية مثلها وهي: تحب قريبك كنفسك، ليس وصية أعظم من هاتين، فقال له الكاتب: جيداً يا معلم قلت: لأن الله واحد، وليس آخر سواه.) إنجيل مرقس 12/28-32، إنجيل متى 22/40، وإنجيل القدِّيس لوقا10/25-28، وفي العهد القديم في سفر التثنية من التوراة 6/4، ثم 14-16
(وتكلم يسوع بهذا ورفع عينيه نحو السماء وقال: أيها الآب قد أتت الساعة... وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع: الميسح الذي أرسلته.) إنجيل يوحنا 17/1-3(1/68)
والمعروف أنه في لغة الإنجيل؛ كثيراً ما يُعَبَّر عن الله بالآب، مثل قول عيسى - عليه السلام - (أما أنتم فلا تدعوا سيدي، لأن معلمكم واحد المسيح وأنتم جميعاً إخوة، ولا تدعوا لكم أباً على الأرض، لأن أباكم واحد الذي في السماوات" إنجيل متى 23/8-10، ومتى هو أحد الحواريين الإثني عشر
(فحسب لغة الإنجيل نفسه؛ لم يكن عيسى - عليه السلام - يعتبر الله تعالى أباه لوحده فقط، بل كان يعتبره أيضاً أبَ جميع المؤمنين، فإذا أطلق على الله تعالى عبارة "أبي" فقد أطلق مراراً كذلك عبارة "وأبيكم" بلا أي فرق، بل علَّم المؤمنين بأن يبدؤوا بصلاتهم اليومية بقولهم: (أبانا الذي في السماوات ليتقدَّس اسمك.) متى 6/9 فإذا كانت أبوة الله لعيسى تدل على إلهيته؛ فإذن أبوة الله لنا تدل على إلهيتنا نحن كذلك، وهذا أمر باطل باتفاق الجميع، فثبت أن هذه الأبوة أبوة معنوية، أي أبوة بالمعنى المجازي، بمعنى أن الله تعالى بالنسبة للمسيح - عليه السلام - وللمؤمنين بمنزلة الأب العطوف في رحمته ورأفته وعنايته الفائقة وشفقته على أبنائه وإرادته الخير لهم، يماماً كما هو المراد من بنوَّة عيسى والأبرار الصالحين لله تعالى..) سعد رستم
فلو كانت أبوة الله لشخص تفيد إلهيته للزم – حسب النصوص الإنجيلية- أن يكون كل المؤمنين آلهة! فإذا بطل هذا اللازم؛ بطل ملزومه.فتأمل
وقال وهو ينفي إلهية نفسه، ويصرفها لله وحده: (ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلونني، وأنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله.) إنجيل يوحنا 8/40
وكلام المسيح - عليه السلام - المتقدم في أعلاه مُصَدَّقاً بقوله تعالى: { يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزَّلنا مصدقاً لما معكم من قبل أن نَطْمِسَ وجوهاً فنردّها على أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنهم كَمَا لعنَّا أصْحاب السَّبت } النساء(1/69)
فالذي أنزل الله في القرآن مصدقاً لما معهم في الوصية التي هي أعظم من كل شيء، بل وهي الناموس والأساس لجميع دعوات الأنبياء والرسل عليهم الصلاة السلام: الرب إلهنا رب واحد، وليس آخر سواه.. كما قال الله جل وعلا في القرآن الكريم:
{ وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } الأنبياء
فهذه الكلمة الطيبة: لا إله إلا الله فيها النجاة في الآخرة الأبدية كما تقدم من قول المسيح - عليه السلام -، وهذا ما صدَّقه القرآن في قوله تعالى:
{ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال لمسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } المائدة
فالمسيح - عليه السلام - حينما قال: (.. وهذه الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك)؛ صريح قاطع في انفراد الرب بالألوهية، وقوله: (ويسوع المسيح الذي أرسلته) صريح في عدم مشاركة أي أحد آخر مع الله في ألوهيته، لهذا عطف المسيح نفسه كرسول لله تعالى.. لهذا قال الله تعالى في القرآن العظيم:
{ لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم }
وفي قول المسيح - عليه السلام - (.. ولا تدعوا لكم أباً على الأرض، لأن أباكم واحد الذي في السماء.) فيه دليل على أن الله في السماء، وهو الذي ينفي ألوهية كل أحد ممن على الأرض، سواء كان ملك مقرب أو نبي مرسل أو ولياً مؤيداً.. فهل فهم الصوفية معنى علو الله تعالى، فها هم النصارى يؤمنون بأن الله في السماء كما آمن عيسى - عليه السلام - فقال: (إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم.) يوحنا 20/17، فالله سبحانه وتعالى يُصعد إليه؛ لكونه أعلى، فلم يؤمن بعلوه إلا من كان نبياً أو تابع الأنبياء(1/70)
وقول المسيح - عليه السلام - أنه إنسان قد تكلم بالحق الذي سمعه من الله؛ دليل على تعريف المسيح بنفسه وإنسانيته، وبشريته، وأنه من نسل البشر لا كما عرفه الدستور النصراني الذي تقرر عقب مجمع نيقية المتقدم، فأي القولين نختار: أقول المسيح المختار، أم قول الأحبار؟؟!
وقال المسيح - عليه السلام - في قصة امتحان الشيطان له: (ثم أخذه أيضاً إبليس إلى جبل عالٍ جداً وأراه ممالك العالم ومجدها، وقال له: أعطيك هذه جميعها إن سجدت لي! حينئذ قال له يسوع: اذهب يا شيطان. إنه مكتوب: للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد.) إنجيل متى 4/8-10، إنجيل لوقا 4/5-8
فيصرح عيسى - عليه السلام - أن السجود والعبادة لا يكونان إلا لله وحده لا شريك له، فلا يجوزان لا للصلبان، ولا للرسومات المزوق بها الحيطان، ولا لأضرحة الأولياء، ولا الأشقياء، ولا لأي شيء آخر، سوى الله تعالى وحده..
بل يُثْبِتُ الذين آمنوا بالمسيح أنه نبي مرسل من الله، فقالوا لما رأوا بعض معجزاته: (فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا: إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم.) يوحنا 6/14
ولما رأت امرأة آية من آيات نبوته قالت: (يا سيد! أرى أنك نبيّ.) يوحنا 4/19(1/71)
فمعجزات النبي عيسى - عليه السلام - لم يكن يفعلها بقوته الذاتية المستقلة، بل كان يستمدها من الله تعالى، وبإذن منه جل وعلا، فكانت كما أخبر الله في القرآن شاهداً على نبوته، ففي الإنجيل: (فرفعوا الحجر حيث كان الميت موضوعاً، ورفع يسوع عينيه إلى فوق وقال: أيها الآب! أشكرك لأنك سمعت لي، وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي، ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت، ليؤمنوا أنك أرسلتني، ولما قال هذا، صرخ بصوت عظيم: "عزرا"! هلمَّ خارجاً، فخرج الميت ويداه ورجلاه مربوطات بأقمطة ووجهه ملفوف بمنديل، فقال يسوع: حلُّوه ودعوه يذهب.) وقالت مرثا أخت عازر للمسيح - عليه السلام - بعد موت أخيها وقبل أن يُحْيِيَه المسيح بإذن الله: (يا سيد! لو كنت هاهنا لم يمت أخي، لكني الآن أيضاً أعلم ما تطلب من الله يعطيك الله إياه.) إنجيل يوحنا 11/41-44، 11/12
فهاهي بعض شهادات من حضر المسيح من تلامذة وحواريين وأقرب الناس إلى المسيح - عليه السلام -، فهل بالله عليكم؟! يُقَدَّم كلامهم، أم كلام الأساقفة اليونان أو الروم الذين أداروا مجمع نيقية أو مجمع أفسس أو مجمع خلقيدونية والذين تفصلهم عن المسيح ثلاثة أو أربعة قرون!؟.(1/72)
إذن المسيح - عليه السلام - نبي مرسل بشهادة الإنجيل الذي بأيدي النصارى، والأدلة في هذا كثيرة جَمَعها العلماء كابن تيمية في "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح"، وابن القيم في كتابه "هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى" وغيرهما الكثير من الذين ردوا على اليهود والنصارى وفكوا شبههم بالدليل؛ كالشيخ سعد رستم في رسالته "الأناجيل الأربعة ورسائل بولس ويوحنا تنفي ألوهية المسيح كما ينفيها القرآن"، والشيخ رحمة الله بن خليل الرحمن الهندي في بحثه "في إبطال التثليث" في كتابه "إظهار الحق" بتحقيق الدكتور محمد ملكاوي، وكتاب "ما هي النصرانية" للشيخ محمد تقي عثماني (الباكستاني) طبع ونشر رابطة العالم الإسلامي، وغيرهم الكثير والجم الغفير..
معنى ابن الله وأولاد الله والأب والآب(1/73)
وقد فنَّد الأستاذ سعد رستم شُبَهَ النصارى في إطلاقهم عبارات قد شُبِّهت عليهم، كعبارة: ابن الله، أو أبناء الله، أو أولاد الله، أو ابني البكر، أو الأب، أو الآب ونحوها من الكلمات في فصلٍ أقام فيه الأدلة والشواهد من كتبهم، وأنها يراد منا المعنى المجازي الذي تستخدمه كل اللغات وتشيع فيها، وأن هذه العبارات كانت معروفة وليست غريبة لمن كانوا قبل المسيح - عليه السلام -، فنقل نصوصاً من أسفار يهود؛ كسفر داود - عليه السلام - المسمى بسفر المزامير، وسفر صموئيل الثاني، وسفر إشعيا، واستخدمت بمعنى الصالح البار، المربي المعلم، الوثيق الصلة بالله، المقرب منه، الذي يحبه الله ويتولاه، ويجعله من خاصته وأحبابه، وهي عبارات أطلقتها كتبهم حتى في الأنبياء والملائكة والعباد الصالحين قبل عيسى - عليه السلام - وبعده؛ مما لا يترك مجالاً للشك أو الإيهام، وكما أن عيسى النبي - عليه السلام - كان قد درج ونشأ على تعاليم ولغة الكتاب المقدس، وكان يخاطب اليهود القارئين لذلك الكتاب مستخدما هذه العبارات بالتعبير نفسه وبعينه، حتى أن الله تعالى أنكر على اليهود والنصارى لما اغتروا بالباطل أنهم أبناء الله وأحباؤه، أي أنهم أهل الله وخاصته والمقربون منه والصلحاء البارين، فرد زعمهم الباطل بقوله: { وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم الله بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير } المائدة
فالله سبحانه وتعالى لم يناقشهم في موضوع عبارة أبناء الله، لأنه من الواضح أن مقصودهم منها المعنى المجازي..(1/74)
ولكن النصارى قد أضلهم الشيطان؛ فقبلوا كل تلك العبارات، والمعاني المجازية في كل مكان من كتبهم، إلا في عيسى - عليه السلام -، فأخذوها على المعنى الحَرْفِيّ، ونسبوا لله تعالى الولادة الحقيقية، وجاعلين المسيح ابن الله الذي خرج منه حقيقة، فغشوا وغالطوا وحرَّفوا العقيدة التي يؤدي الجهل بها إلى سخط الله وغضبه، فتعالى الله عن التولّد والولادة وأن يكون له ولد أو نظير أو معين أو شريك.
قال ابن القيم رحمه الله:
( فيا معشر المُثَلِّثَة وعباد الصليب! أخبرونا من كان الممسك للسموات والأرض حين كان ربها وخالقها مربوطاً على خشبة الصليب وقد شُدَّت يداه ورجلاه بالحبال، وسُمِّرت اليد التي أتقنت العوالم، فهل بقيت السموات والأرض خلواً من إلهها وفاطرها وقد جرى عليه هذا الأمر العظيم؟!
أم تقولون استخلف على تدبيرها غيره، وهبط عن عرشه لربط نفسه على خشبة الصليب، وليذوق حر المسامير، وليوجب اللعنة على نفسه حيث قال في التوراة: (ملعون من تعلق بالصليب) أم تقولون: كان هو المدبر لها في تلك الحال، فكيف وقد مات ودُفن؟!
أم تقولون – وهو حقيقة قولكم- لا ندري ولكن هذا في الكتب وقد قاله الآباء وهم القدوة والجواب عليهم؟!) اهـ
ثم أخذ ابن القيم يناظر النصارى ويحتج عليهم من واقع عقيدتهم في المسيح - عليه السلام - بكلام إن فهموه ولم يعاندوه؛ لأسلموا ودخلوا الإسلام، ولكن الغلو هو الذي سوف يقف حاجزاً بيننا وبينهم، إلا من رحم الله منهم؛ وقليل ما هم..
مناقشة القرضاوي في محاولة تقريبه
ثم نقول للشيخ القرضاوي: هل تستطيع الجمع بين النقيضين: عقيدة التوحيد وعقيدة التثليث؟!(1/75)
فإذا أردت الجمع؛ فلا بد لك من تمييع عقيدة المسلمين في نفوس العامة، بل والتراجع عنها، وهذا الذي جعلك تقول أن اليهود والنصارى إخوان لك، وأنهم مسلمون بالحضارة والثقافة، فجعلت الإسلام الذي هو دين الله: إسلام حضارة وإسلام ثقافة، بحجة أن اليهود والنصارى قد ذابوا في الأمة العربية، وتكلموا بلغة القرآن، وإن كانوا مسيحيين بالعقيدة والطقوس، كما في كتابك "فتاوى معاصرة" 2/671 بحيث سَرْبَلْتَ كتابك هذا وغيره من باقي كتبك بإسْمان النصوص وضَمْرها في نفس الوقت، فتارة بتحريف النصوص وتهريبها، وتارة بتصديرها، وتارة بتحريفها عن مواضعها؛ كل ذلك لتخريبها وتطويعها للآراء والعصبيات، ولمنهجك الذي سَمَّيْتَه وسطي والله بالمرصاد..
وإلاَّ فماذا نقول عن غرضٍ ميَّع عقيدة المسلين إلى هذا الحد، وإلى هذا المد؟!
هل المطلوب من هذا التمييع أن يرجع النصارى عن عقيدتهم ويدخلوا الإسلام؟!
فإن كان ذلك كذلك؛ فأقول لك:
لن يدخل اليهود ولا النصارى الإسلام بهذا الطريق القميء الذي فيه التلاعب بنصوص الكتاب والسنة، ولن نستطيع أن نغير أحكام الله ونتنازل عنها بحجة اللقاء والالتقاء مع عقائد اليهود والنصارى الكفرية، بل الشغل في هذا وبهذه الطريقة مجرد لعب ولهو وتضييع وقت، و.. و.. الخ
فعقيدتنا لا تلاعب فيها ولا مداهنة ولا تنازل ولا نفاق، بل من نقض حرفاً من القرآن أو زاد فهو كافر، ومن كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد تبوأ مقعده من النار..
هذه عقيدتنا التي لم ولن نتنازل عنها قيد أنملة..(1/76)
أما النصارى! فهم أيضاً لن يتنازلوا عن عقيدتهم مهما ميَّعْنا لهم عقيدتنا، فالحروب الصليبية ما زالت مشتعلة ولم تنتهِ، ولن تنتهي حتى يعترف النصارى برسالة آخر الرسل وسيد الخلق والبشر محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، فعقيدة النصارى مبنيَّة على الحقد والكراهية للمسلمين منذ بدايتها، بل ولم تنشأ هذه الحروب إلا بعد ظهور الإسلام، فبدأت بالوحشية التي لا مثيل لها باعترافهم هم بأنفسهم، فقد اقترفوا الفظائع التي دُوِّنت بها مجلدات من التعذيب والقتل والتشريد والغزو الفكري الذي لم يكن له مثيل مدى العصور..
ونحن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - نعترف أن الذي أصابنا إما ابتلاء، وإما جزاء، فأكثر ما أصابنا من السيئات؛ فهو من عند أنفسنا، وما نقول إلاَّ: الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه سبحانه وتعالى، والحمد لله على كل حال.. فاللهم لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا..
وهنا لنا وقفة قصيرة في ذِكْر ما فعله الصليبيون وأعوانهم في المسلمين، ولكن قبل هذه الوقفة أريد أن أعرج على ما وقع من الصوفية من كفر يُشاكِل كفر النصارى في فصل:
عقيدة الصوفية والشيعة تشاكل العقائد اليهودية والنصرانية وأكثر
فنحن هنا لا نتهم القرضاوي بعقيد القول بالحلول والاتحاد الصوفية، فهو يحاربها في كتبه؛ فقال: (.. والتصوف ليس كله شراً، كما يتصور بعض الناس، والمتصوفة ليسوا كلهم ضُلاَّلاً... ولا شك أننا نرفض أباطيل التصوف الفلسفي القائل بالحلول والاتحاد، وشطحات التصوف البدعي، وانحرافات التصوف الارتزاقي، ونريد لباب التصوف الذي عليه الزهاد الأوائل... إننا نريد التصوف السني الملتزم بالمنهج القرآني النبوي المتوازن...) اهـ(1/77)
فأقول: إن جميع المتصوفة في العالم يدَّعون بأنهم يلتزمون بالمنهج القرآني النبوي المتوازن، وصاحب "الموسوعة اليوسفية" يُعتبر مثالاً كبيراً في هذا الادِّعاء، فكان ينبغي للقرضاوي ومن شاكله أن يبتعد عن قوله تصوف سني وتصوف بدعي فلسفي أو نحوها من الكلمات التي لم تأتِ الشريعة بذكر هذه المسميات التي تحمل معها لَبْسٌ في المعاني وفي المباني...
فصاحب "الموسوعة اليوسفية" قد جعل أشياخه الزنادقة مصدراً لأدلته الصوفية، وقد ذكرنا منهم الكثير، كابن عربي الزنديق، والحلاج المقتول لكفره وردته، وغيرهما من الذين يترشح الشرك منهم، فهم عند صاحب "الموسوعة اليوسفية" أولياء الله، وإمداد الله؛ يأخذ أدلة الصوفية منهم، كما صرحه باسم كتابه/ "الموسوعة اليوسفية في بيان أدلة الصوفية"!!
قال الحلاج: ما في الجبة إلا الله..
وقال ابن عربي: الربُّ عبدٌ والعبد رب يا ليت شعري من المكلف
إن قلت عبدٌ فذاك حق أو قلت رب أنَّى يكلف
وقال علي ابن وفا: أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا
فهذه عقيدة الصوفية التي ينافح عنها الصوفيون، فيعتقدون أنَّ الوجود واحد؛ فالحق هو الخلق، والخلق هو الحق..
فالصوفية تعدَّت على الله أكثر من تعدي النصارى، فالنصارى جعلوا المسيح إلههم وخالقهم، الصوفية جعلوا المخلوقات كلها آلهة، فظاهر الخلق عندهم عباد، وباطنهم حق، يعنى إله..
فالشيعة وكثير من الصوفية يعتقدون أن ذات الله تحل في الصورة البشرية وتتحد وتمتزج بها، فتعالى الله أن يحل في شيء من مخلوقاته، أو يحل في ذاته شيء منها، بل هو سبحانه بائنٌ عن خلقه بذاته، والخلق بائنون عنه، فهو سبحانه وتعالى أعظم من كل شيء، وأكبر من كل شيء، وفوق كل شيء، وعالٍ على كل شيء، وليس فوقه شيء سبحانه وتعالى..(1/78)
فالصوفيَّة والشِّيعة يخلطون بين الدين والفلسفة اليونانية كاليهود والنصارى حذو القذة بالقذة، ويبالغون مبالغات بحق المخلوقين لا دليل عليها في الكتاب والسنة، فتراهم يقولون: إنَّ أول ما فاض عن الله: النور المحمدي، أو الحقيقة المحمَّدية، وأنه به وفيه ولأجله خلق الله سائر الكائنات، فهو أول خلق الله، والسر الساري في كل الوجود، وواسطة وجود كل المخلوقات، كما قرره دستور الإيمان النصراني الذي قرره في مجمع نيقية، فالتشابه بين هذه الفِرَق ناتج عن محاولة المطابقة بين العقائد الدينية، والفلسفة اليونانية، ولاسيما الأفلوطينية الحديثة.. وسيأتي قريباً الكلام عن الشيعة الرافضةِ الرافضةُ للدين وحامليه من حواري النبي الأمين - صلى الله عليه وسلم -..
وكثير من الصوفية – منهم جماعة التبليغ – يحاربون العلم وطلبه، ويدَّعون أن كثرة طلب العلم مجلبة للهم والحزن والفرقة بين المسلمين! ففي التوراة الحالية المحرفة تنقل كلاماً عن سليمان - عليه السلام - كذباً عليه وزوراً: (وقد رأى قلبي كثيراً من الحكمة والمعرفة،... ووجهت قلبي لمعرفة الحكمة، ولمعرفة الحماقة والجهل... فعرفت أنَّ هذا أيضاً قبض الريح، لأن في كثرة الحكمة كثرة الغَمّ، والذي يزيد علماً يزيد حزناً.) سفر الجامعة عدد صحائفه 15وإصحاحاته 12
ومعنى قبض الريح هو الحكمة والمعرفة والعلم، فلو طلب التبليغيُّ العلمَ؛ فهو سوف يرى المخالفات التي هو فيها، وكان قد حسبها من قبل موافقات، وسوف يرى الاتجاه الذي يسير عليه، وكان قد حسبه من قبل إلى الجنات، وسوف يرى الاهتمام الذي هو فيه، وقد كان من قبل قد حسبه التزام، وسوف يرى ويرى ويرَى... الخ..(1/79)
لهذا كان عندهم هجر العلم أولى من طلبه، والجهالة والحماقة أولى من طلبه، فالعلم – عندهم – يأتي من المنامات والقصص الخرافية والخزعبلات، وفي النهاية إلى الطرق الصوفية مجتمعات، وعلى طريقة أبي نواس متفقات: دَاوِهَا بالدَّاء الذي في أعلاه من التَّخَبُّطات والهذيانات التي قدَّمت البدع على الدين، وتقديم البدع على الدين هو كتقديم الشر على الخير، والهدم على البناء، والإجرام على الفضيلة!! فما أصاب المسلمين من قتل وتشريد وذل وهوان إلا بسبب البدع التي ما قامت واحدة منها إلا وهدمت معها سننا، وما قامت بدعة في الإسلام إلا ولها منافحون عنها ومدافعون يردون على كل من حذر منها وحاربها..
هكذا هو المنهج عند الكثير من الصوفية – وتعرفهم في لحن أقوالهم- أن زيادة العلم؛ زيادة في الهم والحزن، ومعنى هذا – وإن عارضوا- أنه ما دامت الحكمة والعلم مجلبة للهم والغم؛ فالحماقة الجهالة خير من العلم؛ لأنهما يجلبان الأفراح والمسرات، في حين نقض الحماقة والجهالة؛ مجلبة للحزن والهم!(1/80)
وقد تقدم الكلام عن الصوفية في هذه الأبواب، بحيث لا يمكن لأحد المكابرة في قبول الحق، فالمكابرة فيها غاية الوقاحة والبُهْت، كالذي يكابر في وجود ما يشاهده الناس بعد الاحتجاج عليه بما يقره أشياخه وحب الانتماء إليهم واستدلاله بهم، إلا أن يكون شخص لا يعرف الصوفية، ولا يعرف انتماءاتهم، ولم يسمع بنداءاتهم، ولم يعرف مراجعهم، فلو عرف أو سمع؛ لما أنكر الحقائق والمشاهد التي عند الصوفية، وإلاَّ أن يكون شخص آخر قد سلبه الله إدراك الحقائق، فلم يدرك الحق؛ فاتبع الباطل.. ومن لم يعرف الحق والباطل؛ فهو أجدر أن لا يعرف حقيقة شيء كما ينبغي البتة، أو شخص غير الآخر اقتصد في الشر، واقتصد في الخير، زعماً بأن الحكمة والعلم لا بد من التقليل منهما لغرض الإصلاح والجمع بين الناس باسم الوحدة، وأن كل مجتهد في الأمة مصيب، فهو مصيب وإن خالف عقيدة الإسلام ومنهاجه السامي، كما تقول التوراة المحرفة على لسان سليمان - عليه السلام -: (لا تكن باراً كثيراً، ولا حليماً بزيادة، لماذا تخرِّب نفسك! لا تكن شريراً كثيراً، ولا تكن جاهلاً.) سفر الجامعة/7/16-17
الصليبيون وأعوانهم
ونستطيع هنا – بإيجاز- أن نتتبع الصليبيين في تصفيتهم الدموية للمسلمين؛ حتى نستطيع أن نحكم على من هم الذين سماهم القرضاوي إخواننا ومسلمون – عنده – بالحضارة والثقافة، وإن كانوا مسيحيين بالعقيدة الطقوس!!(1/81)
فبدون إدراك هدف اليهود والنصارى عبر الأزمان؛ سوف نقع في الذي وقع فيه القرضاوي في هذا الزمان، فأسرار الحروب الصليبية والوثنية – التي لم تَفْتَرْ قط طوال الأربعة عشر قرناً الماضية – ليست بغائبة عن العلماء مر العصور، بل أقول: إن إدراك الأسرار في تلك الحروب يعطي المسلم الفهم الصحيح للجهاد في الإسلام، ويعطي حقيقة البواعث التي انبعث خلالها المجاهدون الأوائل، وفتوحاتهم للبلدان؛ فكانت فتوحاً ليست قاصدة الإكراه على الإسلام، وإنما لكسر شوكة من وقف في وجه الإسلام، واستسلامه لسلطانه؛ ليتحرر الفرد والمجتمع في ظل هذا الاستسلام باختيار الدين الحق من غير إكراه.. { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي } البقرة
ولكن لسوء حظ المتأخرين في هذه الأمة في هذا الزمان؛ ظهر أناس أوضعوا الشُّبه في شباب المسلمين، فأغمضوا أعينهم عن المد الصليبي واليهودي الوثني في أرض المسلمين، فجاء مثل القرضاوي – ومن شيعته كثير – يفسِّر القرآن والسنة على غير مراد الله ورسوله، وإنما على منهجيته وأصول حزبه – الذي سماه وسطي – فحرف الكلام عن مواضعه، والإسلام عن أصوله ومبانيه، فقال في قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } أن هذه الآية ليس على إطلاقها، ولا تشمل كل يهودي أو نصراني أو كافر... إنما جاءت تلك الآيات في قوم معادين للإسلام، محاربين للمسلمين.. "الحلال والحرام في الإسلام" للقرضاوي307ط.14
فأخذ يحترم أديانهم الفاسدة، ويهنئهم بأعيادهم الكفرية؛ كعيد الصليب – الكريسماس- وغيره وإرسال بطاقات المعايدة لهم كما في "فتاوى معاصرة" 2/617 وكأنَّ الشيخ لم يبق عنده من الإسلام إلا العنوان، بتخلِّيه عن حقيقته ومراده..(انظر رسالتي "الكريسماس المزعوم"(1/82)
فانطلى هذا الفكر القرضاوي على كثير من المجتمعات الإسلامية من ضعاف القلوب المترددين بين الحيرة والشك، وعلى أناس آخرين قد تألفت قلوبهم للدين، ولكنهم قد اختلطوا مع أناس منافقين أو علمانيين أو نحوهم من الحزبيين.. فكانوا – أي المتألفة قلوبهم – لم ينطبعوا بعد بالطابع الإسلامي الذي يفرق بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، وما تخلله من الأمور المشتبهات التي لا يعلمونها، ولا يُقدَِّرُونها؛ فهم قوم حديثو عهد بالالتزام وتكاليف الإسلام، قد اختلطت عليهم رواسب في النفوس، وخلخلة في الصفوف، وحيرة في الثبات على الالتزام، أسأل الله لهم الثبات على الحق بعد توفيقهم له..
ولكننا نحن في هذا المقام – من منبر الأقلام – نريد أن نوفِّق بين المشاعر والمصالح، ليس بميزان مبتدع، ولا بمنهج مخترع، ولكن بكتاب وسنة وفهم صواب من سلف الأمة، وبتوكيدات وتقريرات واستثارت وإيحاءات منوعة من هذه المصادر المُوَثَّقَة والموثوقة، وكلها تُحدد العلاقات النهائية بين المجتمع المسلم وبين المشركين في جميع أنحاء العالم…
قال الله تعالى { بشِّر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً* الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العِزَّة فإن العزة لله جميعاً } النساء
وقال تعالى { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون من حادَّ الله َورسولَه ولو كانوا آباءَهم أو أبناءَهم أو إخوانَهم أو عشيرتَهم } المجادلة
وقال سبحانه { يا أيها الذين آمنوا لا تَتَّخِذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطاناً مبيناً } النساء
وقال جل شأنه { يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم } الممتحنة
وقال جل جلاله { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوَّكم أولياء تلقون إليهم بالمودَّة } الممتحنة(1/83)
فهاهي المعسكرات الصليبية واضحة حتى للأعمى كيف هي متعاونة مع المعسكرات الشيوعية والشيعية والوثنية كلها؛ سواء كانت في روسيا والصين وفي أوربا والهند وكشمير، وفي أفريقيا وجنوبها وأمريكا، وغيرها الكثير التي قامت بالعمليات الوحشيَّة البشعة على المسلمين في كل مكان – كما سنبينه باختصار – والذي يراجع التأريخ وواقعه؛ يرى أهداف الكافرين ضد المسلمين، ويرى بوضوح أن الخطوات بين الكافرين – وإن اختلفت دياناتهم – خطوات مشتركة ضد دين واحد وهو الإسلام..
نعم! إنها خطوات مشتركة بلا ريب؛ ويتضح هذا القول:
( بعد دراسة عقائد الوثنيين في الهند ومصر والإغريق، مما يتضح معه أصل العقائد المحرفة عند أهل الكتاب – وبخاصة النصارى – وتسربها من هذه الوثنيات إلى تعاليم "بولس الرسول" أولاً؛ ثم إلى تعاليم المجامع المقدسة أخيراً..
إن الثالوث المصري المؤلف من أوزوريس وإيزيس وحوريس هو قاعدة الوثنية الفرعونية. وأوزوريس يمثل (الأب) وحوريس يمثل (الابن) في هذا الثالوث. هناك قناة تلفزيونية تسمى "حورس" فتنبَّه من الخلط المصري!
وفي علم اللاهوت الإسكندري الذي كان يدرس قبل المسيح بسنوات كثيرة "الكلمة هي الإله الثاني" ويدعى أيضاً "ابن الله البكر"
والهنود كانوا يقولون بثلاثة أقانيم أو ثلاث حالات يتجلى فيها الإله: "بَرْهَما" في حالة الخلق والتكوين. و"فشنو" في حالة الحفظ والقوامة، و"سيفا" في حالة الإهلاك والإبادة.. وفي هذه العقيدة أن "فشنو" هو (الابن) المنبثق والمتحول عن اللاهوتية في "برهما"
وكان الآشوريون يؤمنون بالكلمة، ويسمونها (مردوخ) ويعتقدون أن مردوخ هذا ابن الله الأكبر!(1/84)
وكان الإغريق يقولون بالإله المثلث الأقانيم. وإذا شرع كهنتهم في تقديم الذبائح يرشُّون المذبح بالماء المقدَّس ثلاث مرات ويأخذون البخور من المبخرة بثلاث أصابع، ويرشون المجتمعين حول المذبح بالماء المقدس ثلاث مرات.. إشارة إلى التثليث.. وهذه الشعائر هي التي أخذتها الكنيسة بما وراءها من العقائد الوثنية وضمتها للنصرانية تضاهئ بها قول الذين كفروا من قبل!.) في ظلال القرآن 1640
وهذه الخطوات المشتركة إنما هي قاعدة عند الكفار لرد المسلمين عن دينهم الذي خالف كل العقائد الوثنية، ففضحهم الله تعالى بقوله: { ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا } البقرة وقال سبحانه { ودَّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردُّونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبيَّن لهم الحق } وقال تعالى { ولن ترضى عنْك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } البقرة
فالهدف واحد، والمراحل متشابهة على مر العصور تجاه الإسلام والمسلمين، فحقيقة الكفار ونواياهم – بجميع أصنافهم ومعتقداتهم- تجاه الإسلام أنهم لا يرعون فيهم العهود، وإنما مستعدون على الاعتداء متى قدروا عليه، لكونهم لا يدينون لله بالعبودية الخالصة من الشرك والوثنية كما بينا حالهم من مقالهم في أعلاه، ولا يؤمنون بمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولاً إلى الناس جميعاً، لهذا قال الله تعالى { كيف يكون للمشركين عهدٌ عند الله وعند رسوله } المائدة
وإن كان هناك عهود، فهي موقوتة، فيها يستعد المسلمون ويعدُّوا القوة، لأن المشركين لا بد من نقضهم عهدهم ذات يوم، فلهذا قال الله تعالى { ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا }(1/85)
فهم إن ظهروا على المسلمين لفعلوا الأفاعيل من غير مراعاة للعهود القائمة، وفي غير ذمة يرعونها، لهذا أخبر الله عنهم بقوله: { كيف وإنْ يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاً ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم } فلو قدروا علينا لنكَّلوا بنا..
وهذا هو الذي حصل على مدار القرون؛ حيث وجهوا حقدهم وانتقامهم لكل من قال أنا مسلم مؤمن بالله العزيز الحميد { وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد } ، { قل يا أهل الكتاب هل تنقمون مِنَّا إلا أن آمَنَّا بالله }
فالاعتداء قد بدأ من هذه النقطة، وهي نقطة الكراهة لدين الإسلام، فهم يفعلون كل الأفاعيل دون مراعاة للعهود، ولا مراعاة ذِمَّة ولا حقوق، وإن سموها إنسانية؛ فيفتكون بالمسلمين بلا شفقة ولا رحمة ولا إنسانية، ولا تحرُّج من مذمة { لا يَرْقُبون في مُؤمن إلاَّ ولا ذِمَّة }
فماذا فعل المشركون أيام الغزو التتاري والتصفية الدموية للمسلمين في ذلك الزمان؟!
ذكر ابن كثير في "البداية والنهاية"13 في أحداث 656هـ تلك الحادثة التي قُتِلَ فيها الرجال والنساء والأطفال المشايخ والكهول والشبان، حتى جرت الأزقة والميازيب بالدماء، حتى المساجد والجوامع والرُّبط، ولم ينج منهم أحد إلا أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي، حتى بلغ القتلى من المسلمين قرابة الألفي ألف أو يزيدون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.. وسوف نذكر – إن شاء الله – موقف القرضاوي من الرافضة والله المستعان..
فهل هذا الماضي اختص به التتار دون غيرهم؟!
كلا! بل تكررت المذابح في صور شتى مهولة لا تعرف البشرية مثلها، فما وقع من الوثنيين الهنود عند انفصال باكستان عن الهند أكبر؛ فقد قتَّلوا المسلمين على صورة أبشع من تقتيل التتار لهم، فقد قتلوا أكثر من خمسة ملايين مسلم مهاجر، غير الذين قتلوا في أول الانفصال..
وهل هذا الإرث التتاري اختص بالهنود الوثنيين فقط؟!(1/86)
كلا! بل ورثه آخرون في الصين وروسيا الشيوعيَّتَيْن؛ فقد أبادوا خلال ربع قرن من الزمان ستة وعشرون مليونا من المسلمين التركستانيين، ناهيك عن الوسائل التعذيبية التي لا تصدقها الآذان، ولم تَرَ مثلها العيان..
وكذلك في يوغسلافيا حيث أباد الشيوعيون نحو مليون مسلم في الفترة التي صارت فيها يوغسلافيا شيوعية، وما جرى في يوغسلافيا جرى في جميع الدول الشيوعية الوثنية حتى الآن، فهو تاريخ كله نكث للأَيْمان، ونقض للعهود عند أي فرصة سنحت لهم.. { ودَّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة } النساء
وبما أن أهل الكتاب من المشركين – بحكم الله عليهم – فهم أصحاب أهداف واحدة مع باقي الوثنيين تجاه المسلمين، وقد تكون الأهداف متفقة باللفظ مع المعنى، وبتاريخ يشبه التأريخ العدائي العنيد الذي لا يفتر ولن يفتر على مدار الزمان، لهذا لم يقتل التَّتارُ ولا الشيوعيُّون اليهودَ ولا النصارى، بل كانوا يداً واحدة معهم ضدَّ المسلين، وانضاف إليهم الرافضة لكونهم أحفاد الفرس، ونتاج الوثنية التي حاربت المسلمين بالكيد على الإسلام وأهله؛ بِدْءاً بقتلهم الخليفة الراشد عمر الفاروق - رضي الله عنه - على يد مجوسي وثني، وكان عمر باباً لا يستطيع أحد فتحه إلا بالقتل؛ فقُتل - رضي الله عنه -، فثارت بعده الفتن الكبرى، التي قُتل فيها الخليفة الراشد الحَيِيّ عثمان ذي النورين - رضي الله عنه -، وبفتنة هذا القتل المدبر من أصل مجوسي؛ شملت الفتن جل الناس إلاَّ من رحم الله.. فكان على رأس الفتن كلها؛ فتنة علي - رضي الله عنه - مع معاوية - رضي الله عنه -، وكانت هذه الفتنة بالذات ممهدة لحملات التتار على بغداد...
أما العصر الحديث؛ فهو امتداد موروث غايته سحق الإسلام والمسلمين..
نعم! قد يقول قائل: وأين العداوة التي بين الروم والفرس التي استمرَّت قرورن؟!!(1/87)
فأقول: نعم! لقد استمرت قروناً، ولكنهم لما رأوا ظهور الإسلام، نسوا ما بينهم من نزاع، ورأوا أن الإسلام يشكل خطراً على عقيدتهم الوثنية المشتركة – فالنصرانية كما أسلفنا في أعلاه عبارة عن ركام من الوثنيات الفارسية والسِّيخيَّة والفرعونية الوثنية..- فاجتمعوا ليواجهوا الدين الإسلامي الجديد، فكان أول فعل لهم أن قتلوا رسولَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الحارث بن عُمَيْر الأزْدِيّ، مما جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعث إليهم جيشاً لقتالهم في "مُؤْتَة" فوجدوا نحواً من مائتي ألف لقتالهم، وكان جيش المسلمين نحوا من ثلاثة ألاف مقاتل، فلم ينهزم المسلمون بإذن الله، ثم كانت غزوة تبوك.. وبعدها تجهيز جيش أسامة - رضي الله عنه - وإنفاذه من قبل الخليفة الراشد الحق الأول أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - قبل أي عمل ينفذه في خلافته الراشدة المؤيدة المباركة...
قال سيد قطب رحمه الله في "الظلال": ويكفي لتصوير نظرة الصليبيين إلى الإسلام أن ننقل فقرة من كتاب لمؤلف أوربي صدر سنة 1944م يقول فيه: نقلاً عن كتاب "التبشير والاستعمار في البلاد العربية" لمصطفى خالدي وعمر فروخ
(لقد كنا نُخوَّف من شعوب مختلفة، ولكننا بعد اختبار، لم نجد مبرراً لمثل هذا الخوف..لقد كنا نُخوَّف من قَبْلُ بالخطر اليهودي، والخطر الأصفر، وبالخطر البلشفي، إلاَّ أن هذا التخويف كله لم يتفق كما تخيلناه، إننا وجدنا اليهود أصدقاء لنا، وعلى هذا يكون كل مضطهد لهم عدونا الألد! ثم رأينا أن البلاشفة حلفاء لنا، أما الشعوب الصفراء فهنالك دول ديمقراطية كبرى تقاومها، ولكن الخطر الحقيقي كَامِنٌ في نظام الإسلام، وفي قوته على التوسع والإخضاع، وفي حيويته.. إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوربي.) الظلال سورة التوبة ص1630(1/88)
ونحن هنا لا ندري كيف خالف القرضاوي شيخه في "الظِّلال" ولم يلتفت ما قاله هذا الشيخ في قاعدة التعامل مع أهل الكتاب!ولكن التلميذ كان باراً لشيخه الأول حسن البنا الذي قال: (والناحية التي سأتحدَّث عنها نقطة بسيطة من الوجهة الدِّينيَّة، لأن هذه النقطة قد لا تكون مفهومة في العالم الغربي، ولهذا فإني أحب أن أوضحها باختصار؛ فأقرر أن خصومتنا لليهود ليست دينية لأن القرآن الكريم حض على مصافاتهم ومصادقتهم..) اهـ "الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ" 1/410لمحمود عبد الحليم
فقال القرضاوي البار لشيخه كالمريد لمريده الصوفي: (إننا لم نحاربهم من أجل عقيدتهم اليهودية، ولا عنصريتهم الساميَّة.) اهـ مجلة البيان 124 القرضاوي في الميزان 218 وسنأتي في تساهل القرضاوي مع اليهود قريباً إن شاء الله
فأقول: لقد صدر الحكم الإلهي من فوق سبع سماوات بالتصريح بالكفر على من قال: أن عُزَيْراً ابن الله، ومن قال: أن المسيح هو الله، أو قال: أنه ابن الله، أو قال: أنه ثالث ثلاثة، فلم يجمع الله صفة الكفر وصفة الإيمان في عقيدة ولا في قلب، بل جعلهما أمران متضادان مختلفان لا يجتمعان، لا كما زعم القرضاوي أن بين المسلمين وأهل الكتاب أصول مشتركة، دون النظر إلى التحريف الذي افتروا على الله به، والله يقول عنهم: { ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله } آل عمران فأين الأصول المشتركة التي بيننا؟!(1/89)
لهذا لم ينسَ الصليبيون ولا اليهود عَبَدَة الأوثان ما قام به المسلمون بنشر الدين الإسلامي الحنيف؛ وإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، فقامت المعارك بينهم وبين المسلمين، فكانت معركة اليرموك الظافرة، التي ملأت قلوب الصليبيين الحقد على الإسلام والمسلمين، فقاموا بالحرب على المسلمين دون معايير إسلامية ولا إنسانية، بانت ضراوتها ووحشيتها في الأندلس المنسيَّة هذا الزمان، فارتكبت جميع أنواع الوحشية من تعذيب وتقتيل ملايين المسلمين في أوربا، والتي كانت الشيوعية واللادينية والصليبية امتداداً لها في المشرق.. والصليبية التي قالها بصريح فمه رئيس الولايات المتحدة بوش الابن قبيل غزوه واحتلاله لأفغانستان والعراق..
ونحن لا ننسى ولن ننسى الحالة التي فيها العالم الإسلامي في العصر الحديث، وأنه بين مخلبي المادية الأمريكية والروسية، والتي تنهش المسلمين من الخارج إلى الداخل، فتجعل العالم الإسلامي لقيمات لليهود، ولقيمات لأعوانهم من حفدة التتار والمجوس، ولهما – أي روسيا وأمريكا- اللقمة الكبرى، التي ما انهارت الشيوعية في روسيا؛ إلا وأخذت أمريكا الجزء الأكبر من اللقمة، وتركت لإخوانها الشيوعيين الجزء اليسير المقسوم..
وإن وراء أمريكا الفاتيكان التي يحيط بها السياج الشيوعي هي التي جعلت أمريكا تطوق العالم الإسلامي في محاولة تصفية المسلمين جسدياً من جميع العالم..
فهذه هي حقيقة الفاتيكان التي ترحم القرضاوي على إمامهم إمام الضلالة والوثنية البابا بولس الثاني لما هلك! فتأمل كيف فعل ميزان القرضاوي بالقرضاوي نفسه!! فاللهم غفراً...
إنَّ التمييع القرضاوي بمنهاجه الذي سماه وسطي لهو من أخطر ما يعانيه الدين على مر العصور، وهذا التمييع يُعتبر أفتك سلاح يحارب به أعداء الإسلام الإسلامَ! وبمن؟!(1/90)
مع الأسف بأشخاص عَدُّوهم الناس علماء الأمة الذين لا تًنقض لهم حُجَّة، ولا تُخاض لهم لُجَّة..
ولكن الحق والحق أقول:
إنَّ التصفية الدموية للمسلمين ما قام بها إلا الصليبيون، ولكن وقف الشيوعيون وراء هذه التصفية ظاهراً، كالشرطي الذي يعمل بأجر، ولكن أمريكا هي التي حمت هذه الأنظمة كما حمت إسرائيل، ولكن عندما خشيت على نفسها بقاعدة "كبِّر كلبك ياكلك" أخذت بالتعاون مع المجاهدين الأفغان بالإطاحة بالشيوعية الروسية على حساب الجهاد، واستُعمل المجاهدون في هذا الغرض، وفي نفس الوقت كان الصرب يقتلون المسلمين ويصفُّونهم في أوربا، ولم تتدخل إلا بعد ما قُتِّلوا تقتيلاً، وفي نفس الوقت والتاريخ أقامت الحرب بين العراق وإيران؛ للغرض نفسه، واستعملوا الجيش العراقي وبدعمه منهم وبأصدقائه للقضاء أو لإضعاف القوى المتمركزة في تلك المنطقة، وبنفس القاعدة الأولى "كبِّر كلبك ياكلك" أطاحت بالأفغان، وبالعراق بالتصفية الدموية على الطريقة الصليبية، وحتى تبقى الساحة العالمية تحت قيادة الصليبيين، وتحت الراية الكفرية الديمقراطية الأمريكية...
هذه أمريكا التي تدعي أنها ترعى حقوق الإنسان، فهي لم تلمِّح ولو بالإشارة إلى حقوق عشرات الملايين من المسلمين الذي أبيدوا في العالم الإسلامي جسدياً، أو حتى فكرياً..
الرؤوس البشرية التي انفصلت عن أجسادها بلا حرب ولا ثمن
ففي آسيا حيث ابتلعت الجزء الأكبر من عالم المسلمين، فكان ضحايا الثورة الشيوعية أكثر من ثلاثين مليون مسلم في روسيا والصين، غير الذين أبيدوا في أقليات تعرضوا لأبشع المجازر..
فقد استولى الروس على بلادهم عام (1944م) إثر خديعة سياسية من ستالين اللعين، وكانت هذه الخديعة أن المسلمين يريدون التعاون مع الألمان ضد الروس، فكانت الباقعة الكبرى والملحمة العُظمى التي ضمت تركستان وأذربيجان وقازكستان وأوزبكستان وغيرها إلى الروس والصين..(1/91)
والغريب في هذا أن الصحافة العالمية لم تُشِرْ ولا بأدنى إشارة إلى هذه الباقعة والواقعة العظيمة! ولكن الذي حصل أن أمريكا قد تعاونت مع الروس والصين في قهر كل صوت يحاول أن يبرر قضية هذه الشعوب في المحافل الدولية، وبالتالي فلم تدرج قضيتهم قط في الأمم المتحدة، ولا في محكمة العدل الدولية، ولا في غيرهما من محافل حقوق الإنسان. انظر "المسلمون في معركة البقاء" ولما سيأتي من هذا الفصل بتصرف يسير
والأغرب من ذلك أن المسلمين أنفسهم لا يذكرون إخوانهم في تلك الديار كما يذكرون الكونغو وأنغولا وجنوب أفريقيا وغيرها ويدافعون عنها.. انظر كفاح تركستان ضد الاستعمار الروسي والصين البغيض لمحمد أسد شهاب
وقد قالها لينين بصراحة: (يا رفاق الثورة!...خلال الأشهر القليلة القادمة، سنغرق أعداءنا في روسيا بنهر من الدم، وسنفجِّر الثورات متلاحقة في كل من ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وإنجلترا، وبعد عشر سنوات ربما سيتحرر العالم، ويمتلك الشغب اليهودي الأرض.) "اليهود" 101 من كتاب هربرت فيتش (خونة من الداخل) 18
وفي الهند يتعاون الهندوس عبدة البقر مع الإنجليز عبدة الصليب على تصفية الدم الإسلامي، وفي اليمن الجنوبي الأحمر، وفي سوريا على يد البعثيين، وفي العراق في عهد صدام العميل البعثي المنهزم والمطرود من مربيه ومكبِّريه الأمريكان، وفي تايلاند والفلبين حيث بلغت الضحايا أكثر من المليونين مسلم، وفي فلسطين المحتلة، وجنوب لبنان حيث تتعاون الطائرات السورية والمارونية والإسرائيلية على تعميق قنوات الدم الإسلامي..
وفي أفريقيا يتعاون الصليبيون مع عملائهم الشيوعيين بالتنكيل الدموي والإرهابي على المسلمين، ففي نيجيريا التي تُعتبر أكبر بلد أفريقي سالت الدماء الإسلامية بعنف وقسوة..
أما تنزانيا فقد أقيمت المشانق للمسلمين التي حصدت أكثر من عشرين ألف مسلم في بضعة أسابيع، وكان من جملة القتلى خيرة العلماء الزنجباريين..(1/92)
أما في كينيا وتشاد والصومال، فالدم الإسلامي يتأرجح بين السفك لأمور داخلية، ولاعتبارات خارجية..
وتأتي (حبشة) هيلاسيلاسى، ومانجستو، لتري العالم أبشع صورة للعداء للإسلام..
وفي لبنان لا يخفى على العالم ما حصل في تل الزَّعْتَر والكرنتينا ومخيمات الفلسطينيين ومخيم صبرا وشاتيلا وما جرى فيها من قتل الألوف من المسلمين وهتك أعراضهم، ففي هذه الأماكن لم يُمس الفلسطيني النصراني بسوء أبداً باعترافهم، فالمذابح قد شملت أيضاً جميع من كان مسلماً وإن لم يكن فلسطينياً، فالحرب في لبنان حرب صليبية بكل ما تحتويه الصليبية من معانٍ ومقاييس..
ولا يتسع المجال في نقضنا لـ "موسوعة يوسف خطار محمد الصوفية" لاستعراض الخط الطويل للحروب الصليبية على مدار التأريخ، وإنما كان الذي استعرضناه تصويراً بسيطاً في نظرة الوثنيين من يهود ونصارى وغيرهم إلى الإسلام، وأنَّ هذه النظرة ليست محددة بزمان أو مكان، أو مقيدة بحال، بل إن وضع هؤلاء عبدة الأوثان حقيقة دائمة ومستمرة للانقضاض على الإسلام وأهله، فحربهم لا تزال وسوف تبقى معلنة؛ كما أعلنها رئيسهم (بوش الثاني) بلسانه وصرح بها ببيانه بعد حادثة الحادي عشر من سبتمبر..
فنقول للقرضاوي ومن على شاكلته: إنَّ عقيدة أهل الكتاب تضاهئ عقيدة المشركين والوثنيين القدامى، من رومان وغيرهم، فهم لم يستقيموا على عقيدتهم التي جاءت بها كتبهم، فهم قد حرفوها ونسجوا لها أحكاماً من عند أنفسهم –كما ذكرناه في أعلاه- فَلَمْ يدينوا دين الحق..(1/93)
وعليه فلا عبرة بأنهم أهل كتاب؛ وهم يخالفون في الاعتقاد الذي تقوم عليه كتبهم قبل تحريفهم لها، كما ذكرنا التحريف الذي قام على أيدي المجامع المقدسة عندهم؛ والتي لا يتفق معها أن تكون مجامع مقدسة مؤمنة بالله، أو تدين بدين الحق.. فهي مجامع قال الله عنها: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيحَ ابن مريم وما أمروا إلاَّ ليعبدوا إلهاً واحداً لا إِله إلا هو سُبْحانه عمَّا يشركون } التوبة
فبتحريفهم لدينهم هم ليسوا على شيء من دين الله كما قال الله تعالى: { قُلْ يَا أَهْلَ الكِتاب لَسْتُمْ على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أُنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيراً منهم ما أُنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً فلا تأْسَ على القوم الكافرين } المائدة فهم كافرون بتقرير القرآن الحاسم..
أما مناداة الله تعالى لهم بـ { يا أهل الكتاب } ليس على أساس أنهم على شيء من دين الله الحق، بل على أساس أن لهم أصل يرجعون إليه؛ وهو التوراة والإنجيل، على العكس من الوثنيين الذين لا كتاب لهم، فالله يناديهم بهذه المناداة ليرجعوا إلى أصل مراجعهم للتَّحاكم إليها، كما قال الله سبحانه وتعالى: { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون... الظالمون... الفاسقون } المائدة
وقال تعالى: { ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أُنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم } المائدة
فهم أهل كتاب لا يقيمونه، فهم ليسوا على شيء من دين الله، بل هم كافرون ظالمون فاسقون بعد تحريفهم لكتبهم، واتخاذهم مجامعهم الكافرة أرباباً من دون الله؛ شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله، كما تقدم عنهم الكلام في أعلاه، وما سيأتي في أدناه..(1/94)
فلو قلنا أنه لم يُوَاجِه الدين الإسلامي الحنيف اليهود والنصارى مواجهة مادية وروحية واقعية؛ لكان هذا كاف لتكذيب ما جاء في القرآن والسنة، فتأمل خطورة هذا الفكر الذي يقوم على المنهاج القرضاوي الوسطي الساذج الذي انخدع به أناس يَتَتَرَّسُ بهم الأعداء باسم الإسلام، وهم يرمون الإسلام من وراء هذا الترس الساذج باسم اللافتة الوسطية المُخَادِعَة التي رضيت بالحياة الدنيا من الآخرة.
طريق النصر على أعداء الله
في الذي تبين في أعلاه: أن المعارك التي شَنَّها أعداء الإسلام على المسلمين في كل العالم هي معارك من أجل العقيدة الإسلامية، فكان الكفار على مرِّ العصور يخافون من حماس المسلمين تجاه عقيدتهم ونشرها بين الناس، فقاموا بتقتيل المسلمين من غير رحمة ولا ملامة، فهم وإن كانوا في زماننا هذا يعلنونها حرباً باسم الأرض والاقتصاد والسياسة والديمقراطية الكافرة؛ فهم يبطنون الحقد والكراهية والبغضاء لأمة آمنت بأن لازم حبها لله تعالى هو اتباع رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - والدفاع عن رسالته العظيمة الشاملة بالحجة والبرهان...
وعليه؛ فإذا أردنا النصر؛ فعلينا أن ننصر ديننا كما أمرنا ربنا عز وجل في قوله:
{ يا أيها الذين آمنوا إِنْ تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } محمد
فهذا وعد وعهد من الله، { ومن أوفى بعهده من الله } التوبة، { فلن يخلف اللهُ عهدَه } البقرة فوعده حقٌ سبحانه، { ومن أصدق من الله حديثاً } النساء، { ومن أصدق من الله قيلا } النساء
فإذا نصرْنا دين الله؛ فلا نشك أن الله ناصِرُنا، { والموفون بعهدهم إذا عاهدوا } البقرة
فالجزاء من جنس العمل { وأَوْفوا بعهدي أُوفِ بعهدكم } البقرة(1/95)
فإذا نبذنا هذا العهد؛ فلا ناصر لنا، { والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار } الرعد { وتَمَّت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مُبَدِّل لكلماتهِ وهُوَ السَّمِيعُ العليم } الأنعام
فإذا علمنا هذا المطلب، فعلينا العمل بجد واجتهاد للوصول بالناس إلى هذا المطلب، وخاصة أننا في زمان – والله المستعان – بحاجة كبيرة جداً إلى معرفة وسائل الوصول إلى هذا المطلب، ثم الثبات عليه، فهو ديننا القيِّم، وخاصة أننا في زمان نَدَرَ فيه الإخوان، وضعف المعين، وقلَّ الناصر، حتى وإن وجدنا أنفسنا بين العاملين للإسلام!!
فعلينا جميعاً أن نحرص على أن نسلك الطريق الصحيح للوصول إلى الله وبالذي يرضيه سبحانه وتعالى، فنسلك طريق أهل السنة والجماعة الذي عليه السلف الصالح من أهل العقيدة الصافية والمنهج السليم، وهو طريق الفرقة الناجية والطائفة المنصورة التي كانت على مثل ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام ومن اتبعهم بإحسان، فنتبع الكتاب والسنة، ونجعل هذا الإتباع تمييزاً لنا عن غيرنا من أهل الأهواء والبدع الشنعاء...(1/96)
وعلينا إذا سلكنا هذا الطريق أن نثق به، لأنه طريق سار عليه النبيون والصدِّيقون والشهداء والصالحون، فهم نِعْمَ الرُّفقاء في نفس الطريق، ونِعْمَ العناصر المربية بالخوف والرجاء والمحبة الموزونة بالدليل، ونِعْمَ العوامل المثبِّتة في الفهم الصحيح، ونِعْمَ الجماعة الواثقة بنصر الله إذا ما نصرت دينه بطاعة وتوجيهات نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فالذي يعلم أجر الإتباع؛ هانت عليه مشقة الثبات على المنهج السلفي دون تنازل في العقيدة، ولا في المنهاج، ولا في السياسة، ولا في التربية، بل نجعل مجتمعنا مجتمع دين ودولة، وأمن وأمان، وسياسة واقتصاد، وتربية واجتماع، سلم وحرب، ومصحف وسيف، على نفس المنوال الذي كان عليه الرجال الأوائل الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه ولم يبدِّلوا تبديلاً..
فنالوا الرفعة في الدنيا والآخرة جميعاً، فكانت مبادئهم الرحمة والسماحة والعدالة والمساواة والصدق والأمانة والإخلاص والوفاء، كل ذلك في صالح حماية الفرد والجماعة والأمة بأسرها..
فكان من صالح الحماية استئصال كل جريمة تمس العقيدة أو المنهاج، فتوضع الحدود الربانية لاستئصالها؛ كما فعل عمر - رضي الله عنه - مع صَبِيغ ابن عسل، وخالد القسري مع الجَعْد بن درهم، وهارون الرشيد مع الوضاعين للحديث، وغيرهم من الذين استأصلوا الدخيل قبل انتشاره.. فهذا الباب من أعظم أبواب الحدود التي تُطَهِّر المجتمع المسلم والحياة الإسلامية من كل جريمة منكرة..
فهذا الاستئصال إنما هو جَمْع وليس تفريق للأمة، بل هو جمعٌ لها تحت راية واحدة على منهج النبوة، فهي تحمي المجتمع المسلم من الخلاف والتفرق في الدين.. فما أضعف الأمة في هذا الزمان إلى التفرق إلى شيع وأحزاب متناحرة.. أنظر رسالتي "لماذا يجب عليا محاربة البدع والمبتدعة عل مر العصور"(1/97)
أما الاختلاف في الفهم؛ فيجب تقويمه على الكتاب والسنة وعلى فهم سلف الأمة الصالح، لا على الآراء والأقوال المخالفة لهذا المنهج الرباني الموثق بالنصوص والأدلة.. أنظر رفع الملام عن الأئمة الأعلام" لابن تيمية
فديننا الإسلامي السمح لا يعتدَّ بالعصبيات، ولا بالألوان والجنسيات، ولا بالأمصار والأوطان، بل هو دين قويم؛ أساسه توحيد الله عز وجل ونشره في أمم الأرض كلهم، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله، يربط الأمة بعضها ببعض برباط قوي جداً، لا ينحلّ أبداً، يشد بعضه بعضاً، فلا تحل رباطه الهزات ولا الصدمات، بل تزيده الهزات والصدمات الترابط بالتعاطف والتراحم والتواد، فيقف الأخ بجانب أخيه المسلم، بِدئاً من ولي الأمر إلى الأدْنى فالأدْنى..
فيكون مجتمعاً غير متصدع، ملتفٌ حول ولاة أمره بالسمع والطاعة، وعدم التفكير لحظة واحدة في الخروج عليه أو الدعوة إلى الخروج عليه، وإن رأى أثرة، أو فجوة، أو هوى مطاع، أو شح متبع، أو.. أو.. الخ. أنظر رسالتي "المسلمون وولاة أمرهم على ضوء الكتاب والسنة"
وزيادة في التماسك والترابط؛ وجب استئصال كل من يريد تفريق جَمْع المسلمين، سواء كان التفريق في العقيدة والمنهج، أو كان التفريق في غير ذلك، كما وصى به النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((إنه ستكون هَنَاتٌ، فمن أراد أن يفرق الأمة وهي جميع؛ فاضربوه كائناً من كان.)) رواه مسلم
فالضرب تارة يكون باللسان، وتارة بالأقلام، وتارة بالسنان، وكل على حسبه ومكانه في مجتمعه.. فالأمة الإسلامية هي الأمة التي تسير مجتمعاً وأفراداً مساراً واحداً لا عِوَج فيه، فهي أمة ذات شخصية فريدة عن غيرها من الأمم، فلها وزنها عند الله تعالى..(1/98)
فالواجب على المسلمين أن يسْعوا سعياً جاداً في جمع الكلمة، وجمع الكلمة لن يكون إلاَّ بالانقياد للكتاب والسنة بفهم سلفها الصالح وعدم التنازل بأي شيء منها، وهذا ما يكون أيضاً إلاَّ بالرضا بهذا الانقياد والخضوع له، فالله سبحانه وتعالى إذا عَلِمَ صدقنا؛ فهو الذي سوف يؤلف بين قلوبنا إذا كنا فعلاً صادقين { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرَّقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذْ كنتم أعداءً فأَلف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } آل عمران
أما الدعوة إلى الفرقة والتحزب فيجب عدم الاستجابة لدعاتها مهما بلغوا مبلغاً من العلم، ومهما كانوا من كانوا، فإذا أتى أحد يدعو إلى جماعة ما، أوإلى فرقة ما، أو إلى طريقة ما، أو إلى حزب ما، أو.. أو.. فيجب أن لا يجاب، بل يجب التحذير منه، والتشهير به، والرد عليه؛ كلٌ بحسبه، وكلٌ بمنصبه، وكل باستطاعته.. أنظر رسالتي "ملاحظات على كتاب الرسائل الشمولية للحميدي"
أما دعاة الفرقة؛ فهم الذين أحيوا الفتن وأيقظوها، فقاموا بالثورات وبالمحاولة في الانقلابات، فزعزعوا الأمن، ونشروا الفساد في الأرض، وسببوا أكبر ضرر على الدعوة الإسلامية باسم الدين، فقتلوا الأبرياء، ورملوا النساء، ويتَّموا الأطفال، وعطَّلوا المصالح، ونشروا الفضائح ولم يستروها، فقوتلوا وقُتلوا؛ فكانوا شر قتلى تحت أديم السماء.. أنظر رسالتي "منهج الثوار والتكفير والتفجير في الميزان الإسلامي"(1/99)
فهم قوم لم يأتوا بخير، ولم يُعَلِّموا مجتمعاتهم الخير المرسوم بالتوجيهات المرسومة من المنهاج النبوي، ولم ينقادوا إلى التوجهات من الوحيين الشريفين، بل أخذوا بتأويلها على سبيل التحريف، والبتر على سبيل الغش والتدليس والتلبيس، ولم يدْعوا إلى الخير بنصح حكامهم والدعاء لهم بالصلاح، ولم يعملوا بالسبيل الذي يجمع الكلمة لكونهم يجهلونها – والجاهل عدو نفسه – فما علموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ البيعة على النصح لكل مسلم، فكان من قوله وتوجيهه: ((الدِّين النصيحة))
فالبدع دائماً وأبداً مزاحمة للسنن، بل والقاضية عليها، فكلما قامت بدعة في الدين – وإن كانت في أعين أصحابها حسنة – فهي معاول لهدم الدين تقر أعين الشياطين أكثر من المعاصي، فالمبتدعة لا ينصرون الدين وإن زعموا أنهم ينصرونه، فهم ينصرون دينهم الذي ابتدعوه بغير إذن من الله، لهذا لم ينصرهم الله، لأنهم نصروا دينهم ولم ينصروا دين الله تعالى..
فحرام على المسلم أن يأتي أهل البدع، أو يستمع إليهم، أو يقرأ كتبهم، أو ينشر ضلالهم، فهم غرقى تشبثوا بالطحالب، فظنوا أنهم ناجون، وفي الحقيقة أنهم هالكون!! قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله احتجز التوبة على صاحب كل بدعة.)) الصحيحة 1620 إلا إذا تشبثوا وتمسكوا بحبل الله المتين الذي { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد } فُصِّلت(1/100)
فالمبتدعة ضُلاّل يكذبون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيدلسون ويغشون ويدسون ويلبسون، ويقولون أن الله قد أبدلهم بالسنن البدع الحسنة، فليس كل بدعة عندهم ضلالة، وليس كل الأمور المحدثة في الدين قد حذر منها سيد النبيين، بل عندهم البدع في الدين من السنن المؤكدة للفاعلين، وبعضهم قال أنها من الواجبات والمفروضات في الدين... وقد رد عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وحذر منهم فقال: ((إن الذي يكذب عَلَيَّ يُبْنى له بيت في النار.)) أخرجه أحمد على شرط الشيخين، أنظر رسالتي "المولد ولماذا هو بدعة" و"الرد على الجفري" في عدة ردود
فيا أخي المسلم! لا تغترّ بمقولة من قال: الآن ليس وقت نشر السنة، وإنما هو وقت الوقوف في وجه الكفار، فنجمع الكلمة، ونرص الصفوف ضد الأعداء...الخ
فهذه كلمة قالوها وهم يستميتون بها دون باطلهم، ويستميتون بها دون بدعهم، فلم ينصروا دين ربهم، فلهذا لم يستحقوا النصر على أعدائهم...
{ يَا أَيَّها الذِينَ آمنُوا إِنْ تَنْصُروا اللهَ يَنْصُركُم ويُثبِّتْ أَقْدَامَكُم }
تساهل القرضاوي مع اليهود
قال القرضاوي عن اليهود: ( إننا لم نحاربكم من أجل عقيدتكم اليهودية، ولا عنصريتكم السامية.) اهـ من مجلة البيان العدد 124
( ففضيلته! يرى أن قتال اليهود هو لأجل قطعة من الأرض إذا خرجوا منها فقد كفى الله المؤمنين القتال.) القرضاوي في الميزان 218
قلت: لقد تقدم ما ذكرناه في القسم الثاني من المجلد الأول عن البشارات التي جاءت في كتب اليهود والنصارى بنبوة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهي كثيرة ووفيرة مع ما طرأ عليها من التحريف والتزييف والتبديل، كما قال تعالى: { من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سَمِعْنا وعصينا } النساء(1/101)
ولكن هذه البشارات قد تركت لليهود والنصارى المعاصرين الحجة القوية والبراهين الجلية؛ لعلَّهم يرجون إلى الحق، ويهتدون إليه { ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيماناً } المدثر
وبما أن القرضاوي تساهل في قضية اليهود قتلة الأنبياء، وادَّعى أن الحرب التي بين المسلمين واليهود ليست من أجل العقيدة، فإني أريد أن أنقض كلامه، وإن كان هذا النقض يُعتبر من البديهيات التي لا يُعذر بالجهل بمعرفتها، فقضية اليهود لا تخفى على مسلم في هذا الزمان، فهي ليست قضية تنطلق من منطلق سياسي أو أرضي مصلحي، بل من منطلق عقائدي شرعي كما سنبينه قريباً إن شاء الله..
ونحن في خلال نقضنا لـ "موسوعة يوسف خطار محمد الصوفية"؛ نريد من هذا النقض أن نبين أن إسلامنا ليس نُسُكاً وعبادات محصورة في المساجد لا يخرج عن جدرانه، بل نعتقد أن إسلامنا شامل لكل المجالات الحياتية، لم يفرط في أي شيء منها، فهو دين قائم على العقيدة والمنهاج والجهاد في سبيل الله، لا كدين الصوفية الدخيل على الإسلام والذي لا أصل له عند السلف، ناهيك وما فيه من البدع وما فيها من المخالفات والشطحات والشركيات، فضلاً عن التطورات الإلحادية التي غررت بمن لم يعرفهم أو يعرف حقيقتهم...
فديننا الإسلامي ليس ديناً صوفياً يَتَقَعْقَعُ فيه المسلم في جبة، أو يتفاخر بسبحة، أو تَلْتَفَّ من حوله عمامة، أو تُعَلِّقُة منامة! بل هو دين ودولة، وسياسة واقتصاد واجتماع وتعليم وجهاد، سلم وحرب، و.. و.. الخ حتى إماطة الأذى عن الطريق من ديننا الإسلامي الحنيف { ما فَرَّطْنا في الكتاب من شيء } الأنعام
فاليهود كغيرهم من الأمم الكافرة في جحدهم نبوة خاتم الأنبياء والرسل، فلو أن القرضاوي قرأ القرآن بتمعن؛ لتردد كثيراً في دعواه، ولو قلَّب صفحات التأريخ؛ لعلم ما حقيقة اليهود..(1/102)
فكيف بالله عليكم يطمئن قلب القرضاوي وهو ينادي: بأن الحرب بيننا وبين اليهود ليست من أجل عقيدتهم؟! والله سبحانه وتعالى قد حسم أمر عدائهم الأبدي لدين الإسلام فقال جل شأنه: { لتجدن أشدَّ الناسِ عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا } المائدة
فكراهية اليهود للمسلمين كراهية شديدة، بل وحرصهم على إغواء المسلمين أشد، كما قال تعالى عنهم: { ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم } البقرة
وقال جل شأنه { ما يودُّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم } البقرة
وقال سبحانه { ودَّ كثيرٌ من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إسلامهم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق } البقرة
وقال تعالى { ودُّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء } النساء
فاليهود والنصارى – على مر العصور- يضمرون المكر والخديعة للمسلمين بكل ما يستطيعونه، فالصراع بيننا وبينهم أبدي، بل وسوف يستمر حتى يخرجوا على المسلمين ومعهم الدجال، فالصراع بيننا وبينهم دائم، فهو الصراع بين الإسلام والكفر حتى قال الله عنهم: { كُلَّمَا أَوْقَدُوا ناراً للحرب أطْفَأها الله ويسعون في الأرض فساداً } المائدة
ومع ذلك! فهم – خاصة اليهود- أصحاب نفوس مشحونة بالجبن والخوف والهلع، لا يجرؤون على القتال إلا على الضعفاء من الناس، ولا يقاتلون إلا كما قال الله تعالى { لأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى مُحَصَّنَة أو مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بينهم شديدٌ تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتَّى ذلك بأنهم قومٌ لا يعقلون } الحشر
أما العداء بين المسلمين واليهود فهو قائم من قبل بعثة آخر الأنبياء والمرسلين، فقد قتلوا من الأنبياء ما لا تُحصى أعدادهم، ولا تُعد أرقامهم.. { كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون } المائدة(1/103)
لقد قتلوا من أنبيائهم "حزقيال"، و"أشعيا"، و"آرميا"رجماً بالحجارة، وقدموا رأس يحيى هدية لفاجرة، ونُشر زكريا بالمنشار.. حتى ذكر أهل التفاسير أن بني إسرائيل تقتل في اليوم ثلاثمائة نبي ثم يقوم سوق بقلهم في آخر النهار، وما حملهم على هذا الكفر؛ إلا الكبر والبغي والحسد وكثرة العصيان لأوامر الله، والغشيان لمعاصي الله هو عين الاعتداء في شرع الله..
فكان أنبياء بني إسرائيل تسوس البلاد، كما في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((كانت بنوا إسرائيل تسوسهم الأنبياء.))
وكان القوم من بني إسرائيل لا تعجبهم سياستهم، لكون الأنبياء عليهم السلام يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فما كان ذلك يعجبهم، وإنما كان يخالف هواهم، فيقتلونهم وقلوبهم مع ذلك كالحجارة بل أشد قسوة، فهم يسمعون كلام الله، ثم يحرفونه عن مواضعه، ويلوون ألسنتهم بالكتاب ليحسبه الناس أنه من الكتاب وما هو من الكتاب، ويقولون مع كل هذا: سمعنا وعصينا..
فهم قوم يوصفون بالكذب والافتراء، ولا يقيمون للعهود وزناً ولا قيمة، { أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فريقٌ منهم بل أكثرهم لا يؤمنون } البقرة
"التلمود"
كيف نتساهل مع اليهود وهم يحقدون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حقداً لا مثل له، فقد جاء في التلمود:(1/104)
(يا أبناء إسرائيل! إعلموا أننا لن نفي محمداً حقه من اليعقوبية التي يستحقها حتى لو سلقناه في قِدْرٍ طافحة بالأقذار، وألقينا عظامه النخرة للكلاب المسعورة لتعود كما كانت نفايات كلاب، لأنه أهاننا وأرغم خيرة أبناءنا وأنصارنا على اعتناق بدعته الكاذبة، وقضى على أعز آمالنا في الوجود، ولهذا وجب عليكم أن تلعنوه في صلواتكم المباركة أيام السبت، وليكن مقره في جهنم وبئس المصير.) سفر "حازوحار" المطبوع بالفرنسية في باريس سنة 1957ميلادية الجزء الثاني ص88، ولا حظ كيف ذكر تلمودهم النبي محمداً - صلى الله عليه وسلم - وهو قديم عن البعثة بقرون كثيرة، وهذا يدل على جرأة اليهود في التحريف والتزييف والإضافة والبتر..(1/105)
فالتلمود عند اليهود يمثل الجهاز الأكبر في الحكم عندهم، كما أن الغالبية العظمى من يهود العالم تلموديون، وهو – أي التلمود- أخطر من التوراة الحالية المحرفة من ناحية التآمر على العالم، فهو يُعتبر عند اليهود الشريان النابض لليهود على مر عصورهم، فالتلمود كتاب قديم جداً عند اليهود، وفي طيلة عمره قابل الكثير من التحريف تبعاً لأهواء كهنة عصوره، فعمره يتجاوز 3250 عاماً! فهو مليء بالتناقض والتحريف، وبالخرافة والتحلل الخُلُقي، والهدم للبشرية خُلُقاً واقتصاداً، وإباحية ودعارة خسيسة يعف عنها حتى ابن الشارع، فهو كتاب جامع؛ يجمع بين المؤمنين والفاسقين، والمسالمين والمجرمين في كيان واحد؛ حتى يلبي جميع مصالح اليهود ورغباتهم، ومع هذا فهو الكتاب المقدس والدستور الشامل لدى اليهود، وهو الكتاب الذي يستمد اليهود جميع تعاليمهم وعقائدهم منه، ويخضعون شؤون حياتهم كلها لشريعته، فهو واجب التسليم عندهم؛ لكونه تفسير التوراة وشرحها بزعمهم، وبزعمهم أنه أسمى من كلام الله في التوراة، فكُتَّابُه قد ارتفعوا عندهم إلى مرتبة الألوهية لعنهم الله وغضب عليهم.. ففي التلمود 109: (كل الحاخامات هي بمنزلة الله، ومخافة الحاخامات هي مخافة الله.)
وقالوا: (من شتم أحداً من الأحبار يُقتل، ومن شتم أحد الأنبياء لا يُقتل.) انظر "فضيحة التلمود" للشيخ عابد توفيق الهاشمي
فقالوا: (إلتفت يا بُنَيَّ إلى أقوال الحاخامات أكثر من التفاتك إلى شريعة موسى.) "الكنز المرصود في قواعد التلمود"87 و" التلمود شريعة إسرائيل17
وقالوا في التلمود أيضاً: (إن شريعة موسى - عليه السلام - مثل الملح، والمشنا مثل الفلفل، والجمارا مثل البهارات، ولا يمكن الاستغناء عن واحد منها.) "التلمود"109 والمشنا والجمارا هي مكونات التلمود(1/106)
ويقولون: (إن الذي يخالف التوراة مخطئ، وقد يغفر الله له، والذي يخالف التلمود يُعاقب بالقتل.) "الكنز المرصود في قواعد التلمود" 87 و"التلمود شريعة إسرائيل" 18
وقالوا: (إهتم يا بنيّ بأمر الكتبة مفضلاً إياها على أوامر القانون – التوراة-) "الكنْز المرصود" و"التلمود شريعة إسرائيل"
فهذه عقيدة اليهود منذ المنشأ، وصُلْب اعتقادهم، بل إن الإله عندهم يدرس التلمود، فقالوا: (إن الله في الليل يدرس التلمود.) "الكنز المرصود" 87 و"التلمود شريعة إسرائيل" 17، 18
وقالوا: (ومن يصفع التلمود فكأنما قد صفع الحضرة الإلهية.) "التفلِّيم المقدس" 27 – أي التلمود المقدس-
وقالوا: (والتلموديين هم الذين يعلِّمون الملائكة التلمود في السماء.) "فضيحة التلمود" 40
وقالوا: (إن الله تعالى يستشير الحاخامات على الأرض، عندما توجد مسألة معضلة لا يمكن حلها في السماء.) "التفلّيم المقدس" 28
فلعنة الله والملائكة والخلق أجمعين على اليهود ومن هاودهم، وعلى النصارى ومن ناصرهم، وعلى الشيوعيين ومن شايعهم... آمين..
وجهات نظر اليهود والنصارى في التلمود
أما اليهود والنصارى؛ فلهم اتجاهات متباينة ومختلفة تجاه التلمود في الحاضر والماضي! "فضيحة التلمود" 43
أما اليهود فمنهم من يؤمن بالتوراة وحدها وينكرون التلمود، وهم "الصادوقيون"، فيعتقدون أن الحاخامات هم الذين اختلقوه بحجة تنظيم الحياة والمعاملات الداخلية اليهودية، ومقابل هذا أنكروا الآخرة إنكاراً كلياً..
ومنهم من الكتبة للتلمود؛ وهم "الربانيون"؛ فهم بلا شك المؤمنون به وبما فيه من المعاملات في الحياة اليهودية، وجميع اليهود اليوم على مذهبهم..(1/107)
أما المُوجِدُون للتلمود فهم "الفريسيون" المتبعون لعزرا المتوفى سنة 444ق.م فالفريسيون هم الكتبة اليهود الأقدمون، وعزرا هو أكبر معلم يهودي بعد موسى - عليه السلام -، وهم يؤمنون باليوم الآخر والبعث والنشور، مع أن من خصائص التلمود أنه لا يشير ولو بكلمة واحدة إلى العالم الآخر، وليس هناك كلمة صريحة عن الجنة والنار، ولأحبارهم آراء متناقضة في هذه المسألة العقدية..
وهناك طائفة أخرى تنكر التلمود، وتؤمن بالتوراة وحدها، وهم "القراؤون" وقد ظهرت حركتهم بعد ظهور الإسلام...
أما "المحافظون" و"الإصلاحيون" فلا يقبلون السلطة الإلزامية للتلمود، ولا يعترفون بقدسيته، مع اعترافهم بالدور الذي لعبه التلمود في تحديد وحسم عقائد اليهود ونظرياتهم...
وأما الأرثودوكس اليهود فهم المؤمنون بالتلمود ويعتبرون غيرهم ضالين لكونهم لا يؤمنون بالتلمود، وهذه الطائفة هي الحاكمة اليوم في دولتهم التي سموها إسرائيل، وهم الأغلبية العظمى في العالم اليوم، فهي الدولة الأرثودكسية الإسرائيلية..
فاليهود في تباينهم وتفاوتهم في نظرهم إلى التلمود يدل على تناقضهم في الالتزام بدينهم، فلو كان هذا الدين من عند الله لما وُجد فيه هذا التناقض والتباين والاختلاف، ولكنهم قوم قد غضب الله منهم، ولعنهم وجعل منه القردة والخنازير وعبد الطاغوت، فهم في هذا – في التباين والاختلاف والتفاوت- إنما يريدون به المصالح اليهودية التي متى رأوا مصلحة؛ أخذوا في تطوير قوانين التلمود والتوراة، حتى يلائم ظروفهم وعاداتهم، فَيَصُوغُون في كتبهم ما يشتهون ويهوون ويشاءون، فدينهم ليس فيه قناعة لساداتهم وكبراءهم وحاخاماتهم ورهبانهم، فكيف بمن دونهم؟!
فإذا كان دينهم غير لازم ولا مثبت لهم؛ فكيف يؤمن به غيرهم من البشر؟!
لهذا لا يقبل اليهود تسمية أحد باليهودي إلا إذا كان من أم وأب يهوديين! "فضيحة التلمود" 44(1/108)
أما النصارى؛ فمنهم من يعتبر التلمود مساوٍ للتوراة، وأَنَّهُما أصلان واجبا التسليم والإيمان بهما، وهم الكاثوليك النصارى، ومع ذلك فكانت الكاثوليكية عدوهم اللدود؛ فلليهود دور كبير في الحروب الدينية في أوربا في العصور الوسطى، وفي الثورة الفرنسية لتحطيم الكاثوليكية.."اليهود أعداء الله وقتلة الأنبياء"37
أما البروتستنت؛ فأنكروا التلمود كما أنكرها من أنكرها من اليهود.. "فضيحة التلمود"45
فما وجهة نظر القرضاوي في هذا الصراع العقائدي؟! هل يمكن الجمع بيننا وبينهم ونلتقي معهم بالمودة والمحبة والتقارب، فنقول مقولة الشؤم القرضاويَّة: (الواقع أنه توجد أصول مشتركة بين المسلمين وأهل الكتاب في الجملة، منها الإيمان بالله والإيمان بوجوب التعبد له، والإيمان بالنبوة والوحي، والإيمان بالآخرة، والإيمان بالقِيَم الأخلاقية.) من مجلة البيان العدد 124
قال سليمان بن صالح الخراشي في "القرضاوي في الميزان": قلت: ( هذه مبالغة ظاهرة من الدكتور، ولو طرَّدنا هذا القول لقلنا بأنه لا يكاد يوجد خلق من خلق الله إلا وبيننا وبينه أصول مشتركة، حتى الملحد الذي يظن الدكتور أن لا صلة بيننا وبينه، فهناك أصول مشتركة تجمعنا وإياه فنحن مخلوقون لرب واحد، ونعيش في عالم واحد، ونتبادل مصالح مادية مشتركة... الخ. بل لو قال قائل بأنه لا يكاد يوجد مخلوق إلا وبيننا وبينه أصول مشتركة لما جانب الصواب، فهل يكفي هذا لمودته، أو التعاون معه، أو التسامح معه.
وهذا لا يكفي إلا أن يأمرنا الله ورسوله به، فهما المرجع في علاقتنا مع البشر دون تحكيم لعقولنا أو لأصول مشتركة موهوبة في طبيعة هذه العلاقة.) اهـ ص220(1/109)
قال أبو ماجد تركستاني: وهل لَمَسَ القرضاوي دَوْرَ اليهود العالمي في الإفساد والانحلال الخُلُقي الذي تبع الانحلال العقائدي؟! فبيوت الدعارة وصالات القمار ودور الأزياء والأفلام والمجلات الجنسية الإباحية وأفلام السينما وغيرها الكثير معظم أصحابها من اليهود، بل إن الإعلام الأمريكي يسيطر اليهود على أغلبه..
بل أقول: أنه لا يخفى على من علم الواقع حوله أن خطط الصهاينة المشهورة مدونة في كتاب "بروتوكولات حكماء صهيون" المشهورة، ودَوْر الماسونِيَّة معروف لدى كل بصير في الواقع أن اليهود هم المسيطرون عليها..
ولكن لا ضير! { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون } الصف
و { يريدون أن يطفئوا نور الله فأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون } التوبة
ولا يضرنا شيء إذا ناقشتُ القرضاوي في زعمه أن الخلاف بيننا وبين اليهود لم يكن من أجل عقيدتهم، وإنما من أجل الأرض.. فأقول:
جاء في التوراة المحرفة: ( قطع الرب مع إبراهيم ميثاقاً قائلاً: لِنَسْلِكَ أعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات.) سِفْر "التكوين" فصل 15 عدد صحائفه 85، وعدد إصحاحاته 50
وفي سفر "حزقيال" في "العهد القديم": ( كل شريعة غير شريعة موسى فاسدة، وكل سلطة غير سلطة إسرائيل مغتصبة.) حزقيال عدد صحائفه 85، وعدد إصحاحاته 48
وفي سفر التثنية دعوى بأن الرب قد خصهم بالأرض المقدسة فلسطين من دون العالمين: ( فالآن يا إسرائيل اسمع الفرائض والأحكام التي أنا أعلمكم لتعلموها، لكي تحيوا، وتتملكوا الأرض التي الرب إله آبائكم يعطيكم، لا تزيدوا على الكلام الذي أنا أوصيكم بها.) سفر التثنية 4/1 عدد صحائفه 40 وإصحاحاته 34(1/110)
وفي سائر نصوص التوراة والتلمود أن اليهود هم الشعب الذي اختاره الله، وأنهم هم الشعب المفضل على العالمين، وأن لهم اغتصاب أي أرض في الشرق والغرب، فهم المستعلون على كل الخلق، ففي التلمود: (لولا اليهود لامتنعت البركة عن الأرض، وانقطع المطر وانحجبت الشمس، لذلك لا تستطيع شعوب الأرض الحياة دون إسرائيل.) التلمود/138
وفيه: (أينما حل اليهود عليهم أن يفرضوا أنفسهم أسياداً على من يعتبرون أنفسه أسياداً.) التلمود/165
وفيه: (نحن شعب الله في الأرض. سخر لنا الحيوان الإنساني، وكل الأمم والأجناس سخرها لنا، لأنه يعلم أننا نحتاج إلى نوعين من الحيوان: نوع أعجم كالدواب والأنعام والطير، ونوع كسائر الأمم من أهل الشرق والغرب... إن اليهود من عنصر الله، كالولد من عنصر أبيه،... يباح لإسرائيل اغتصاب مال أي كان، وإن أملاك غير اليهودي يحق لليهودي أن يمتلكه. كما أن بني الإنسان يَسْمُون على الحيوانات، فإن اليهود يسْمون على شعوب الأرض جميعاً...) "إسرائيل فكرة، حركة، دولة، ص21 عن التلمود..
وفي التلمود: (سوف تمتد حدود أرض إسرائيل، وتصعد في جميع الجهات، ومن المقدَّر لأبواب القدس أن تصل إلى دمشق..) "التلمود والصهيونية" 149 نقلاً عن سفر التلمود دياريم
وفي نص التلمود: (لأن السلطة على الشعوب غير اليهودية هي من نصيب اليهود فقط، وفي كل مكان يدخله اليهود؛ يجب أن يكونوا المتسلطين.) "همجية التعاليم الصهيونية" 148 لحنا سعد
وفي المزمور: (لأنه على البحار أسسها، وعلى الأنهار ثبتها.) مزمور 24/2
وخريطة إسرائيل المُرْتَقَبَة والتي في وعد بلفور تشمل بلاد الشام والعراق وبعضاً من تركيا وشمال الكويت وشمال السعودية، بحيث يدخل ضمنها خَيْبَر والمدينة النبوية وشرقي مصر حتى النيل..(1/111)
نعم! فلقد بدأ تَجْزِيء المنطقة وتفكيكها عملياً، فبدايته من فلسطين؛ حيث يكون هذا الجزء المطل على البحر المتوسط فاصلاً بين القارتين الآسيوية والأفريقية والذي يربط الوطن العربي بجناحيه، فتكون فلسطين نقطة التقاء يتحكم بها اليهود لتحقيق أهدافهم المستقبلية على الخريطة البلفورية.. وهم الآن قائمون في مدِّ هذا التوسع في ظل التمزق الإسلامي يوماً بعد يوم، ويأتوا بالمهاجرين اليهود الجدد من جميع أنحاء العالم إلى الأرض المباركة المقدسة؛ لتكون نهايتهم فيها، وهذا يصدق قول الله تعالى: { فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفاً } الإسراء والله أعلم.
فهل كان إصرار اليهود في طرد المسلمين من ديارهم وأرضهم عقيدة أم على غير ذلك؟
وهل كانت محاولات هدمهم للمسجد الأقصى وإقامة الهيكل ليس قائما على العقيدة اليهودية؟!
وهل استيلاء اليهود على الجدار الغربي للمسجد الأقصى وتسميته بعد ذلك حائط المبكى عقيدة يهودية أم غير ذلك؟!
فماذا نقول في اجتياح إسرائيل للبنان سنة 1978م والاجتياح الثاني الذي استهدف تقتيل المسلمين في صَبْرَا وشاتيلا في صيف 1982م والتقتيل الذي بلغ الآلاف في غير هذين الاجتياحين؛ في دير ياسين وبلدة الشيخ وكَفْر قاسم وقبية ورفح وخانيونس ومذبحة المسجد الأقصى والمسجد الإبراهيمي.. وغيرها الكثير، والكثير الكثير...
وماذا نقول عن مسلسل الإفساد المتكرر في اعتقال الرجال والشباب والنساء وحتى الأطفال وتعذيبهم في السجون بأشد فنون العذاب؟!
وماذا نقول باعتداء اليهود على كتاب الله وتمزيقه كما حصل في المدرسة اليعقوبية بالخليل، وجعلوه في أماكن أخرى أوراق تواليت يمسحون به أدبارهم قاتلهم الله؟! والآن تكرر هذه العملية في عدة أماكن وبمسمع ومرأى من المسلمين(1/112)
فهل نقول هذا الفعل عقيدة أم غير ذلك، وهم في كتبهم المقدسة يقولون: ( اهدم كل قائم، ولوِّث كل طاهر، واحرق كل أخضر؛ لكي ينتفع يهودي بفلس، أقتلوا جميع من في المدن من رجل وامرأة وطفل من قدرت عليه من غير اليهود، والعنوا رؤساء الأديان سوى اليهود ثلاث مرات في كل يوم، ومحرم إعطاء هبات إلى الجوييم غير اليهود؛ إنَّ حياة الجوي (غير اليهودي) وجميع قواه الجسدية هي ملك لليهود) وفي كتبهم المحرفة ( (سأل إسرائيل إلهه: لماذا خلقت خلقاً سوى شعبك المختار؟! فأجابه الله: لتركبوا ظهورهم وتمتصوا دماءهم، وتحرقوا أخضرهم وتلوثوا طاهرهم وتهدموا عامرهم.) لعنهم الله بافترائهم عليه وعلى رسله.) "اليهود أعداء الله وقتلة الأنبياء"33،46
فهل كان تصور القرضاوي تصوراً كتصور البسطاء من الناس وأصحاب الأفكار السطحية الذين لا يرون أبعد من أرنبة أنفهم، فلا يرون الأهداف اليهودية التي تُنَفَّذ بمراحلها وخططها التّدَرُّجِيَّة؟!
أم هو استسلام وهزيمة تتردد في النفس تخالف الوسطية القرضاوِيَّة؟
أم نرضَ بأن نكون أحد النوعين من الحيوانات التي يحتاج إليها اليهود؟!
إن الدعوة القرضاوِيَّة تجاه اليهود سوف تحاربُ – عُلِمَ أمْ لم يُعْلَم – تلاوة القرآن الخاصة بفضح اليهود والدعوة إلى محاربة أفكارهم وعقائدهم، وكذلك سوف تمنع الكتب التي تفضحهم وتبين عقائدهم ومتطلباتهم، بل لن تقف هذه المحاربة عند هذا القدر، بل سوف يكون كل من قال كلمة الحق في اليهود بأنه: داعية إرهابي، ومجرم حرب، ومثير فتنة، مما سيؤدي أولاً وآخراً إلى تجهيل الأمة الإسلامية والشعوب العالمية بحقيقة اليهود وفسادهم في جميع مجالات الدين والدنيا وانسلاخهم عن جميع أنواع الكرامة من فساد وفسق وفجور وفاحشة.(1/113)
فعلى الداعية القرضاوي ومن شاكله ووافقه وعانقه أن يصحوا جميعاً من غفلتهم، فليس الأمر كما تصوروا!! وإلاَّ سوف نقع في المصيدة اليهودية التي من أول وظائفها قتل نفسية الجهاد في الأمة الإسلامية؛ ليمضوا قُدُماً في مخططاتهم التوسعية المنصوصة في كتبهم المقدسة: كل شريعة غير شريعة موسى فاسدة، وكل سلطة غير سلطة إسرائيل مغتصبة..
فإذا توقف الجهاد الإسلامي المبارك؛ فسوف يكون بعد ذلك – ولا محالة – النفوذ اليهودي والصليبي والشيوعي في المنطقة الإسلامية المتمزقة، وعندها يكون المسلم يداً عاملة رخيصة في أيدي المُغتصِب، وفي بلاد المسلم المغتَصبة، وتحت رحمة الغاصب المستغِل لكل ما لديه من نفوذ هائلة اغتصبها من العالم الإسلامي الغني من كل الثروات التي لم يستغلها المغصوب نفسه! سيأتي الكلام عن الجهاد قريباً
فإذا ما حصل هذا – لا سمح الله – هل سوف يستيقظ أصحاب التيار الوسطي أم سوف يبرِّروا الخيانة والتبعية للغرب والشرق الكافر، وإرضاء الناس بالأمر الواقع؟! الذي ما له من دافع إلا الرجوع إلى الدين، وطرد منه الدخيل، كل دخيل سواء كان أشخاصاً أو أفكاراً أو تيَّارتاً..الخ
اليهود خطر مستمر غفل عنه المسلمون
إن إقامة دولة إسرائيل في القرن العشرين الميلادي كان في غفلة من المسلمين، وإلاَّ فقد حذَّر الله تعالى منهم ومن خطرهم المحدق بالبشرية، فقال سبحانه وتعالى: { أَلَمْ تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائكم.. } الآيات من سورة النساء
فاعتقاد اليهود قائم واضح في كتبهم كالتوراة المحرفة، والتلمود الشيطاني، وقرارات زعمائهم، وبروتوكولات أعداء البشرية العَلَنِيَّة، وتخطيطات سرية إرهابية يقوم بها اليهود والصليبية الصهيونية، فهي بمفردها أخطار تهدد البشرية، فكيف إذا اجتمعت!
لا شك أنها سوف تصور الخطر الأكبر المحدق بالبشرية، ولا سيِّما بالمسلمين..(1/114)
فعقيدتهم ترتكز على أن الإله لهم وحدهم، وعلى قداسة الشعب اليهودي وعلى قداسة الأرض التي يدَّعون أنها لهم، وهي فلسطين ويسمونها إسرائيل، وعلى ظهور المسيح المخلص (المسيا) آخر الزمان.. فإقامة دولة إسرائيل من صميم عقيدتهم، لا كما تصور القرضاوي أنها ليست كذلك، فأخذ يحاول التقريب بينهم وبيننا!
فاليهود قومٌ كفار منافقون يخفون الحق، ويدْعون إلى الباطل، وهذا بحكم الله عليهم، أما بحكم توراتهم عليهم؛ فهم زناة لا يعرفون الرب، ومنافقون مفسدون لا أمان لهم, ولا خير يُرجى منهم: (أفعالهم لا تدعهم يرجعون إلى الله، لأن روح الزنا في باطنهم، وهم لا يعرفون الرب.) سفر هوشع/7/6 عدد صحائف سفر هوشع 25، وعدد إصحاحاته 14
(أعمالهم إثم، وفعل الظلم في أيديهم، أرجلهم إلى الشر تجري، وتسرع إلى سفك الدم الزَّكي، أفكارهم أفكار إثم، في طريقهم اغتصاب وسحق، طريق السلام لم يعرفوه، وليس في ممالكهم عدل، جعلوا لأنفسهم سُبُلاً معوجة، كلٌ يسير فيها لا يعرف سلاماً.) سفر أشعياء/1ع/23-29 عدد صحائفه 80، وإصحاحاته 66
(كل واحد منهم منافق وفاعل شر.) سفر أرمياء/9/7-10
(كلهم قد زاغوا جميعاً، وليس من يعمل صالحاً.) سفر المزمور/53/3-4
(كلهم مفسدون، الرب قد رفضهم.) أرميا/5/27
أما ما حكم الإنجيل: (هكذا أنتم أيضاً، تظهرون للناس أبراراً، ولكنكم من الداخل مشحونون رياءً وإثماً.) إنجيل متَّى/23/27، 28
(يا أولاد الأفاعي! كيف تقدرون أن تتكلموا بالصالحات وأنتم أشرار؟!) إنجيل متى/12/34
فهل من أحد يقبل قوماً منافقين أشراراً زائغين مفسدين غير صُلاّح ولا مصلحين؛ قد رفضهم رب العالمين سبحانه وتعالى بشهادة أنفسهم على أنفسهم؟!
ولكن! لماذا أمريكا النصرانية مع اليهود؟؟!!(1/115)
المعروف عن اليهود أنهم قوم منافقون كذابون، فلما رأوا أنه لا أثر واضح للتوراة عند النصارى؛ (قامت أسرة يهودية ثريَّة في روما فَتَنَصَّرَتْ اسماً لا عقيدة لتحقق المصلحة اليهودية في التوراة المحرفة، وذلك في القرن الحادي عشر الميلادي، فتغلغلت هذه الأسرة في أوساط الفاتيكان، حتى كان منها أربعة باباوات حكموا الفاتيكان، وأثاروا الحروب الصليبية وأججوا لهيبها، وحمل اليهود المتنصرون النصارى بالتدريج بوسائلهم الملتوية، ومكرهم على تقديس الأسفار التوراتية، في كونها كلمة الله المعصومة الواجب اتباعها لدى النصارى، وأقنعوهم أن المسيحية هي امتداد اليهودية، وأن المجيء الثاني للسيد المسيح قد بدأ مع قيام إسرائيل عام 1948م، لذا فقد أوجبوا على كافة المؤمنين المسيحيين في العالم مؤازرة اليهود وجمع شملهم، استكمالاً للإيمان المسيحي..) انظر "الأصول اليهودية" لعبد الوهاب زيتون ص128- 13 بتصرف وإيجاز
( ولعل آخر تآمر يهودي على النصرانية كان في القرن السادس عشر على يد اليهودي المتنصِّر (مارتن لوثر) بشقِّها شقين – بروتستانت وكاثوليك – والشق الأول يتعاطف كلياً من اليهود في تقديسه للتوراة، ثم استطاع اليهود ضم الكاثوليك إلى صفوفهم بخطوات متتابعة، انتهت بفتوى البابا في 20/11/1964 بتبرئة اليهود من دم المسيح، واعتبار اليهود والنصارى أمة واحدة، وأنَّ عيسى - عليه السلام - عبراني.
وقد ظهر التعاطف النصراني إزاء اليهود منذ أوائل القرن السابع عشر من خلال عقيدة التوراة وتسربها إلى قلوب النصارى، ونما بسرعة، حتى انتهى المطاف بالشعوب المسيحية لتتبنى الصهيونية من خلال الجمعيات النصرانية في العالم، من أمثال (شهود يهوة) و(المورمن) و(السبتيين) و(القدرية) و(السفارة المسيحية)..(1/116)
ومن عقيدة (شهود يهوة): (لا سبيل لقيام ملكوت الله على الأرض بدون عودة شعب الله الخاص إلى وطنه الأصلي)، و(أن الصهيونية حركة إلهية، لأنها تنفذ عهداً قطعه الله على نفسه لليهود، بعودتهم إلى فلسطين، إقامة دولة إسرائيل)
ولهذه الجمعيات الخمسة هيمنتها الواسعة على العالم المسيحي دولاً وشعوباً، حتى اعتقدت الشعوب المسيحية ودولها في العالم اليوم – جميعها تقريباً – بقدسية التوراة والعمل المباشر الحثيث لتنفيذ نصوصها من خلال تسخير هذه الدول في خدمة اليهودية العالمية لاسيما في تسلط الجنس اليهودي على ركب البشرية.) "فضيحة التوراة" لعابد توفيق الهاشمي ص26 وقد نقلت المراجع منه في الغالب
أما من ناحية تبرئة اليهود من دم المسيح؛ فقد (اجتمع المجمع المسكوني في دورته الثانية – (أو المؤتمر الديني العالمي للكنيسة الكاثوليكية) الذي عُقد في عام 1962م في الفاتيكان إذ ضم 2851 مندوباً عن الكنائس الكاثوليكية في العالم، إضافة إلى ممثلي الطوائف المسيحية الأخرى من الأرثوذكس والبروتستانت، وقرر نص التبرئة بأغلبية عُظمى ضد 188 صوتاً فقط: (...وتضع الكنيسة نصب عينيها دائماً ما قاله بولس الرسول في شأن اليهود الذين هم إسرائيليون، ولهم التبني والمجد والعهود والاشتراع والعبادة والمواعيد) العهد الجديد الرسالة إلى أهل رومية/9/4.
ومن الواجب أيضاً أن نذكر أن اتحاد الشعب اليهودي مع الكنيسة هو جزء من الأمل المسيحي، والواقع أن الكنيسة حسب تعاليم بولس الرسول تفتح بعقيدة متينة ورغبة أكيدة في وجه ذلك الشعب باب الدخول في سلطان شعب الله كما وطده المسيح.
لذا يجب على الجميع أن يراعوا عند تلقين الدين المسيحي أو نشر كلمة الله أو في المحادثات اليومية عدم إظهار الشعب اليهودي كأنه ملعون، أو القيام بما يباعد بين الناس وبين اليهود، ويجب بالإضافة إلى ذلك أن نحرص أشد الحرص ألاّ نعزو إلى يهود عصرنا ما ارتكب من أعمال أيام المسيح.(1/117)
وضجت معارضة شديدة من قِبل 188 عضو فقط تعتمد على نصوص التوراة والإنجيل.
أما التوراة فتنص في الوصايا العشر التي أنزلها الله على موسى في جبل الطور (حوريب) على ما يلي: (أنا الرب إلهك إله غيور افتقد ذنوب الآباء في الأبناء) سفر الخروج/20/15 عدد صحائفه 50 وإصحاحاته 40
أما نص الإنجيل (العهد الجديد): (اليهود الذين قتلوا الرب يسوع وأنبياءهم واضطهدونا نحن، وهم غير مرضيين الله، وأضداد لجميع الناس، يمنعوننا عن أن نكلم الأمم لكي يخلصوا حتى يتمموا خطاياهم كل حين, ولكن قد أدركهم الغضب إلى النهاية.) العهد الجديد، بولس الرسول الأول إلى أهل تسالونيكي2/15-16.) فضيحة التوراة حاشية 26
وهنا نقول للشيخ القرضاوي: هل تريد الانضمام إلى التعاطف النصراني إزاء اليهود، وتقول أن الحرب التي بيننا وبينهم ليس من أجل العقيدة، وإنما هو من أجل قطعة أرض إذا خرجوا منها فقد كفى الله المؤمنين القتال؟!
وهل نستطيع أن نقول: أن اليهود أهل كتاب منزل من السماء يقوم على التوحيد؟!
أم نقولها صريحة دون خوف ودون تعاطف: إن اليهود أهل كتاب، ولكنه محرف!(1/118)
فلنقولها صريحة دون وجل كما قال مفكرهم اليهودي ( إسرائيل شاحاك في كتابه الشهير "التاريخ اليهودي، الديانة اليهودية: وطأة ثلاثة آلاف سنة": بأن الصوفيَّة اليهودية (القبالا) التي نشأت في القرنين الثاني والثالث الميلاديين والتي ما زالت منتشرة في وسط اليهود الأرثوذكس – وهي الطائفة الرسمية في (إسرائيل) وتخضع دار الحاخامِيَّة الكبرى لها – تدعو لتعدد الآلهة، فَوِفْق المعتقدات (القبالية) هناك إله ذكر ويُدعى (الحكمة) أو (الأب) وله زوجة تُدعى (المعرفة) أو (الأم) ومن زواجهما وُلِد إلهان صغيران إبن يُسمى (التقى المبارك) وابنه تُسمى (السيدة) التي تمكَّن الشيطان من اغتصابها، بينما يمارس الإله الصغير البغاء من إناث شيطانيات بدلاً من زوجته.) "اليهود أعداء الله وقتلة الأنبياء" ص14 وسيأتي قريباً فصل في عقيدة اليهود في الله تعالى
وهل غفل القرضاوي عن عقيدة اليهود، أم تغافلها كما تغافلها النصارى بتعاطفهم لليهود؟!
لقد تغافل النصارى، وتغافل القرضاوي ومن اتبعه في منهاجه الوسطي عن الحقد اليهودي على كل من لم يكن يهودياً، لقد تغافلوا قولهم: (اليهودي معادٍ بالضرورة للمسيحي، لأنه غير يهودي، تماماً كمعاداته للمسلم، ولكل من لا يدين باليهودية.) "همجية التعاليم الصهيونية" 131 لحنا سعد ط1 1969م من كلام اليهودي برنارد لازار
وتغافلوا عقيدتهم في المسلمين والنصارى: (إن جهنم هي أكبر من السماء بستين مرة، وهي سجن القلف، وفي مقدمتهم أتباع المسيح ابن مريم، لأن هؤلاء يحركون أيديهم كثيراً برسم إشارة الصليب على ذواتهم، ويأتي بعد النصارى المسلمون، لأنهم لا يغسلون سوى أيديهم وأرجلهم وأفخاذهم وعوراتهم،... كل من ذكرنا يحشرون حشراً في جهنم، ولا يغادرونها إلى الأبد.) كتاب "اليهود" لزهدي الفاتح 167 نقلاً عن نصوص التلمود(1/119)
وقالوا عن المسلمين: (أما أهل الختان من الإسلام فإنهم لا يشذون عن كونهم بدون ذمة ولا إيمان، لأنهم ليسوا أخياراً.) "اليهود" 66 نقلا عن كتاب زوهار في التلمود
وقالوا عن المسيح - عليه السلام - (إن اليهودي الذي ينتابه شعور نبيل تجاه المسيح؛ يفقد يهوديته..) فوصفوا المسيح - عليه السلام - بأوصاف متعددة: (المجنون، الساحر، النجس، الكلب، ابن الحرام، الوثني، ابن الشهوة..) "اليهود" 36عن المجلد الأول لكتاب "أسس القرن التاسع عشر" ص337 (فضيحة التلمود ص67)
بل ووصفوا الأناجيل بأنها (مجلدات شريرة، وكتب هرطقة، وكتب بيت الهلاك، وكذب مدونة في كتب، وكتب الخطيئة، وكتب مملوءة بالإثم..) "اليهود" 104-105 عن نصوص التلمود، وكتاب "التلمود تاريخه وتعاليمه" 63
والكثير في التلمود في وصاياه بقتل النصارى دون رحمة بأبشع صورة، وأن الذي يقتل نصرانياً قد قدَّم قرباناً إلى الله، وأضحية مقبولة، وأن الأضحية الضرورية الوحيدة بعد هدم الهيكل في القدس؛ هي إفناء النصارى، وأن من قتل نصرانياً جزاؤه الجنة.. "فضح التلمود" 137-150 ولا تنسى أيها المسلم أن عقيدة الرافضة في أهل السنة مثل عقيدة اليهود هذه حذو القذة بالقذة!
وقد نفذت كثير من وصايا التلمود في النصارى، فقد قتلوا الكثير والكثير منهم، حتى بلغ القتل الملايين.. انظر كتاب "همجية التعاليم الصهيونية" وكتاب "اليهود"
وقالوا: (وإن الكنائس النصرانية هي بمستوى القاذورات، وأن الواعظين فيها بنسبة الكلاب النابحة،.. وأن من الواجب دينياً أن يُلْعَنَ ثلاث مرات رؤساء المذهب النصراني، وجميع الملوك الذين يتظاهرون بالعداوة ضد بني إسرائيل.) "الكنز المرصود في قواعد التلمود"11(1/120)
ووصفوا النصارى بأنهم: (عبدة أوثان ونجوم وهراطقة – أي مشعوذون- وآكلوا لحم الخنزير والخونة والمرتدون عن عقائدهم، والبلهاء والزناة، والقتلة ومدمنو إراقة الدماء، والحيوانات القذرة والغائط، وأنهم بهائم كالبقر والحمير والكلاب والخنازير، بل وأسوأ، ويتناسلون بطريقة أردأ من البهائم، وأصلهم شيطاني بهيمي، وأرواحهم نجسة تولدت من الشياطين، ولا تختلف جثة النصراني عن الحيوان، وهم أسوأ من الأتراك المسلمين...) "اليهود" 77-86 عن نصوص التلمود، و"فضح التلمود" لزهدي الفاتح77-99
قال أبو ماجد عفا الله عنه: وإن كان في النصارى بعض ما وصفهم به اليهود؛ إلا أنهم تغافلوا عن كل هذا من أجل الإتحاد الذي ينادون به بين الشعب اليهودي والكنيسة، ولكن ماذا يقول المسلمون الذين يدعون إلى الإتحاد نفسه، ويدعون إلى التقارب بين المسلمين وأهل الكتاب بحجة أنهم كلهم أهل دين سماوي؟!
ثم ماذا يعنون بالأتراك المسلمين؟! أليسوا هم المسلمون الذين حكموا العالم الإسلامي قرابة السبعة قرون، فالتركي عندهم يعني المسلم! فهم في أمريكا يأكلون الديك الرومي وقولون أنهم أكلوا التركي إشعاراً منهم بالانتقام من المسلمين الذين حكموا أكثر من أي حكم على وجه الأرض، ويسمون يوم أكلهم للديك الرومي؛ يوم الشكر: ثانكس قفن Thanks Giving) )
فإذا غفل أصحاب المنهج الوسطي هذه المراجع في أعلاه، فما أظنهم قد غفلوا كتاب "بروتوكولات حكماء صهيون" المشهور المتداول؛ ففي البروتوكول الرابع عشر نصاً: (لن نبيح بقيام أي دين غير ديننا، لذا يجب تحطيم عقائد الإيمان، وبث الإلحاد بين الأميين، غير اليهود، وبذا نستطيع بتعاليم موسى الموكلة إلينا سحق جميع الأمم تحت أقدامنا.)
فأقول: أين القرضاوي من هذا الكلام وهو يدعو الآن بالتقريب بين الأديان، بدعوى أن الخلاف الذي بينناوبينهم ليس خلافاً دينياً؟!(1/121)
فها هم اليهود وهم يقولونها صريحة واضحة في هذا البروتوكول؛ وهي حجز المسلمين عن الإسلام وتعاليمه السمحة، وقد قاموا بالخطط التي وقع في شباكها الكثير من المسلمين، حتى صار المسلم بعيداً كل البعد عن تعاليم دينه في جل مجالات حياته، سواء في الحياة الاجتماعية الخاصة أو العامة، أو في المناهج الدراسية بجميع مراحلها، أو في الإعلامية على كثرتها، فأفسدوا الكثير من العقول، والكثير من الأفكار، بل والكثير من العقائد، كل هذا ليستبدلوا دين المسلمين بغير الإسلام..
نعم! لقد انتشرت الأفكار الهدامة التي أبعدت الكثير من المسلمين عن قضاياهم الحية ومثلهم العليا... ولقد نشروا ما أرادوا بالتخذيل.. وهذا التخذيل نزيل الشهوات، وترويج الموبقات، وإيقاد النزوات في الجنس والأموال، ونشر المخدرات والمسكرات والمفتِّرات...
إنه تخذيلٌ لبث السموم؛ لإنفاذ الحقد اليهودي الدفين، والوصول إلى الهدف الصهيوني في ولوج ديار المسلمين...
التوراة
فنحن المسلمون لا نشك أن التوراة التي كتبها الله بيده وأنزلها على موسى - عليه السلام - هي هدى ونور ورحمة وتماماً على الذي أحسن، وتفصيلاً لكل شيء، وحكماً حكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا، فكانت ضياءً وفرقاناً وموعظة وذكراً للذين يخشون ربهم، وبشارة بنبوة خير البشر محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ ففي سفر أشعيا في الإصحاح الحادي والعشرين: (13 وحي من جهة بلاد العرب في الوعر في بلاد العرب تبيتين يا قوافل الددانيين، 14 هاتوا ماء لملاقاة العطشان يا سكان أرض تيماء وافوا الهارب بخبره، 15 فإنهم من أمام السيوف قد هربوا. من أمام السيف المسلول ومن أمام سنة الأجير ينفي كل مجد قيدار وبقية عدد قسي أبطال بني قيدار تقل لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم.)(1/122)
وهذا تصريح بظهور الوحي في بلاد العرب، والهجرة النبوية إلى المدينة النبوية بعد اجتماع المشركين على قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم انتصاره على أبطال بني قيداروهم العرب في موقعة بدر الكبرى، وقيدار هو ابن إسماعيل جد العرب..
أما التوراة الحالية فهي مزيفة ومحرفة، وليست كلام الله، وليس لها أي صلة بدينٍ أرسل الله به أنبياءه، وإنما هي كلام باهت لا نفع فيه، ومتناقضة وغير علمية، بل مصاحبة للوثنية والإشراك بالله، وبعقيدة كافرة فاجرة في أعز أنبيائهم؛ فيقولون أن موسى - عليه السلام - كان كافراً بالله وخائناً له، وأن يشوع وداود كانا جزارين للبشرية في فلسطين، وأن سليمان كان زير نساء وانحرف عن الله إلى الشرك بسببين، واتهام أنبيائهم بجريمة الزنا بزواج الأخت، والجمع بين الأختين، وزواج العمة.. سيأتي قريباً إن شاء الله في فصل عقيدة اليهود في الأنبياء
فأكثر من نصف التوراة ضد بني إسرائيل واليهود، وقصص تاريخهم الأسود، وخرافات وخلط وخبط لا قيمة له، وفيه العنصرية اليهودية، والعهود الربانية المُفْتَراة في أرض الميعاد وصهيون وأورشليم وحدود إسرائيل، وفضائح كثيرة تقشعر منها الجلود والقلوب والأبدان الحيَّة... سيأتي قريباً
فهي توراة محرفة بشهادة أسفارهم: (إذ قد حرفتم كلام الإله الحيّ، رب الجنود إلهنا.) سفر إرمياء/23/36 عدد صحائفه 95 وإصحاحاته 52
ولما أوصى موسى - عليه السلام - بوضع التوراة بجانب التابوت قال لهم: (لأني عارف تمردكم ورقابكم الصلبة، هُوَذَا وأنا بعد حي معكم، واليوم صرتم تقاومون الرب، فكم بالحري بعد موتي)؟! التثنية 31/27
ولكن الأمة الغضبِيَّة رمت التحريف إلى أنبيائهم: (لأنهم من صغيرهم إلى كبيرهم، كل واحد مولع بالربح، ومن النبي إلى الكاهن، كل واحد يعمل بالكذب.) سفر إرميا 6/13(1/123)
(صار في الأرض دهشة وقشعريرة الأنبياء يتنبئون بالكذب، والكهنة تحكم على أيديهم، وشعبي - بنوا إسرائيل – هكذا أحب) إرميا 5/30-31
(لأنكما خنتماني – أي موسى وهارون- في وسط إسرائيل،.. إذ لم تقدساني..) التثنية 33/50-54
(فقال الرب لموسى وهارون: من أجل أنكما لم تؤمنا بي حتى تقدساني أمام أعين بني إسرائيل..) سفر العدد 20/12 عدد صحائفه 40 وعدد إصحاحاته 36
وبعقيدة النصارى أنهم: (جميع الذين أتوا قبلي هم سُرَّاق ولصوص، ولكن الخراف لم تسمع لهم.) إنجيل "يوحنا" 10/8
فالتوراة الحالية مع أنها محرفة بشهادة التوراة؛ فهي أيضاً متناقضة تناقضاً صريحاً واضحاً، حتى أنك ترى التناقض في التوراة الواحدة في محتواها وأسفارها، فكيف الاختلاف بتعددها؟!
فكل توراة لها أسفار متعددة ومختلفة ومخالفة ومناقضة ومتناقضة بآلاف المخالفات والمناقضات عن غيرها، حتى أن العلماء اليهود مختلفون مع بعضهم البعض في صحة توراتهم لما فيها من الاختلاف والتحريف..
فانظر إلى التناقض في اعترافهم أن رجال دينهم قاموا بالتحريف:
(ويل للبنين المتمردين، يقول الرب، حتى أنهم يجرون رأياً، وليس مني، ويسكبون سكيباً وليس بروحي، ليزيدوا خطيئة على خطيئة، لأنهم شعب متمرد، أولاد كذبة، يقولون: حيدوا عن الطريق، ميلوا عن السبيل، اعزلوا من أمامنا قدوس إسرائيل، أما شعبي فلم يعرف قضاء الرب! كيف يقولون: نحن حكماء، وشريعة الرب معنا،؟! حقاً إنه إلى الكذب حوَّلها قلم الكتبة الكاذب، خزي الحكماء، ارتاعوا وأخذوا.) إرميا8/7-10
بل هناك اعتراف أكبر، وهو إسهام جميع اليهود في التحريف (إذا سألك هذا الشعب أو نبي أو كاهن قائلاً: ما وحي الرب؟ فقل لهم: أي وحي؟! إني أرفضكم، وهو قول الرب! أما وحي الرب فلا تذكروه بعد الآن، لأن كلمة كل إنسان تكون وحيه، إذ قد حرفتم كلام الإله الحي، رب الجنود إلهنا.) تقدم المرجع(1/124)
( فتعترف التوراة أن كلام اليهود هو وحي الله المُفترى! فأين الوحي الصادق يا توراة اليهود؟! وقد رفضتم الرب بسوء كذبكم عليه- إذ (كلهم قد زاغوا جميعاً، وليس من يعمل صلاحاً، حتى ولا واحد.) سفر مزمور 53/3،4 صحائفه 100 وإصحاحاته 150فمن الذي يحدّث منهم عن الله وهديه بصدق.) فضيحة التوراة 43
ثم لا ننسى أن اليهود في هذا الزمان قد وصلوا إلى السيطرة التي نستطيع أن نقول أنها شبه كاملة على العالم؛ حتى أنه يمكن القول أنه لا يستطيع أي مسئول في العالم أن يبت في أمر دونهم! فهم الذين يتحكمون في أسواق الذهب والعملات، وهم الذين يسيطرون على الصحافة العالمية، والتحكم في كل صغير وكبير فيها...الخ
نعم! إن اليهود قد انتصروا، ولكن على العملاء والأغبياء!
وانتصروا على كل من انسلخ عن الإسلام بمناهج دخيلة ومبادئ مستوردة رخيصة خسيسة!
وانتصروا على الجُّهَّال الذين لم يعلموا مرامي اليهود؛ فقالوا أن الخلاف الذي بيننا وبينهم ليس خلافاً عقدياً، وأنهم أهل كتاب منزل من السماء!
وانتصروا على المبتدعة الذين رضوا بما رضيَ به اليهود من الانسلاخ عن السنة الربانية إلى السنن الدخيلة على الدين؛ فكانوا ببدعهم أحزاباً وفرقاً وشِيَعاً تحارب الدين باسم الدين!
وانتصروا على الفُسَّاق الذي أحبوا الربا الزنى واللهو والقمار وأكل أموال الناس بالباطل!
ولكنهم لم ولن ينتصروا على المسلمين أصحاب العقيدة والمنهاج الرباني..
ولم ينتصروا على من هم يداً واحدة ضد كل من خالف الدين؛ سواء كان المخالف يدين بدين آخر، أو يدين ببدعة دخيلة على الدين..
فكانوا – أصحاب العقيدة والنهج الرباني – هم الأعلون:
{ ولا تَهِنُوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } آل عمران(1/125)
فالمؤمنون على مر العصور؛ لم يَهِنوا؛ أي لمْ يضعفوا بسبب ما يجري من الأمور التي فعلها ويفعلها أعداء الله، بل أن العاقبة والنصرة لهم لكونهم مؤمنون بنصر الله لمن نصر دين الله.. { يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } محمد فالله قد ناداهم بالإيمان، وجعلهم الأعْلَوْن بنفس النداء، فاللهم انصرنا ولا تنصر علينا..
عقيدة اليهود في الله تعالى
بلغت الوقاحة الدَّناءة في اليهود تجاه ذات الله مدى لم تصله أمة من الأمم؛ فهي أمة كذَّابة سَمَّاعة للكذب، مرجفة ومزيفة ومحرفة، بل هم سادة التزييف والتحريف للحقائق وأهل الأباطيل وقُوَّادها..
قال الله تعالى عن قول اليهود: { وقالت اليهود يَدُ الله مغلولةٌ غُلَّت أيديهم ولُعِنوا بِمَا قالوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسوطَتان يُنْفِقُ كيف يشاء } المائدة
وقال الله عنهم: { لقد سَمِع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } آل عمران
فلعائن الله التَّامَّة على اليهود بوصفهم البخل والفقر لله تعالى – تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً- فاليهود هم أهل الحسد والبخل والحرص على الدنيا، وأهل الجبن والذِّلَّة والتحايل والجدل، كما قال الله عز وجل وعلا عنهم: { أم لهم نصيب من الملك فإذاً لا يأتون الناس نقيراً أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله } النساء
نعم! غُلَّت أيدي اليهود ولعنوا بما قالوا واختلقوا وائتفكوا وافتروا على الله الكذب وهم يعلمون، { بل يداه مبسوطتان } سبحانه وتعالى وذو الفضل الواسع والعطاء الجزيل، وخالق كل ما نحتاج إليه في كل أحوالنا؛ { وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدُّوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفَّار } إبراهيم
بل وصف اليهود ربهم بأكثر من ذلك:(1/126)
قال الشيخ عابد توفيق الهاشمي في فضيحة التوراة: ( وذاته في التوراة الحالية المحرفة – تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- هي عمود نار وعمود دخان، ونار آكلة، ولهيب نار، وعرشه لهيب نار، وهو كالإنسان – له رأس وعليه شعر، وله وجه وظهر وعينان كعين الإنسان، ولهما جفنان، وله أذنان وفم يقذف النار واللهب، ويتطاير من فمه الشرر، وله زفير، وله شفتان من جمر، ولسان هو نار آكلة، وله أسنان، وصوت مرعب كالرعد القاصف، ويصرخ ويزأر، ويتنفس ويعطس عطاساً من نور، وله أنف يصعد منه النار والدخان واللهب باستمرار، وله رقبة، وله يد وذراع هي لهيب نار، ورجلان وقدم لها نعال، وله أحشاء وبطن وقلب كالحجر، وله فرج،... وهو كالدُّب والأسد والنمر ضد أعدائه، وهو كالسوس والدودة لليهود! وله جناحان، ويحل باليهود فيصيرون آلهة، وهم أولاده،...
ومن صفاته كذلك في التوراة المحرفة الحالية، والتي لا تليق بجلاله عز وجل: أنه يغار من بقية الآلهة، كما غار من آدم وحواء حين عرفا الخير والشر بأكلهما من الشجرة، وكانا عمياوي البصر والبصيرة قبل أكلهما منها، وأنه ينام ويستيقظ كالمخمور، وهو ولع بالخمر، وقد تعب من خلقه للكون، فاستراح يوم السبت، وهو يأكل ويندم ويحزن لخلقه الإنسان بصفته الشريرة ولخلقه اليهود، وهو كالفلاَّح وهو تاجر وبناء وخزاف وخياط وحلاق، وهو يزأر كالأسد!
أما صفاته في توراتهم – تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- فهو كذاب في أمره لموسى - عليه السلام - بسرقة المصريين بحجة كاذبة!
وهو يضلل الأنبياء، وهو يستأصل جنس الحياة على الأرض- الإنسان والحيوان والطير والنبات- بإغراقهم جميعاً بالطوفان، وهو يأمر اليهود بالإبادات الجماعية للعرب في فلسطين، وهو يعد اليهود بهطول رحمته عليهم من خلال المجازر الجماعية والإحراق بالنار لأهل فلسطين العرب.(1/127)
ومن صفات إلههم المُفْتَراة في توراتهم، أنه يأمر بأكل برازهم وشرب بولهم، وبوضع برازهم على خبزهم فيأكلوه، تحقيراً لهم، وانتقاماً منهم، وهذا لا يليق بأمر الله.
ومن صفات إلههم المفتراة عليه فيها، أمر النبي هوشع بالزواج بالزانية، وأنه يعري عورات النساء، ويأمر الأنبياء أن يتعروا، ويمشوا عراة،... وأنه يعاقب الزانيات بزناهن، وأنه يأمر نبياً أن يتخذ له عشيقة لها عشيق آخر...
وأنه فطر اليهود على الزنى،... كما يأمر بخطف النساء ونهبهن،...
ثم قال الشيخ عابد الهاشمي: ولكل صفة من هذه، وغيرها كثير، نص بل نصوص من توراتهم تؤيّدها وتقرها، كذبا على الله تعالى.) اهـ "فضيحة التوراة" ص43، 44
بل وأكثر: ( فالإله باعتقادهم ينام في الليل ويعمل في النهار، ويدرس التوراة مع الأحبار، ويخطئ ويعترف بخطئه أمام كبير الأحبار، ويلعب مع الحوت في وقت فراغه، وهو يبكي ويدعو على نفسه بالويل ويلطم وجهه لأنه أذن بخراب الهيكل وشرَّد شعبه المختار (اليهود)..
وهو كما تصوره التوراة؛ يعشق المحارق واللحم المشوي من القرابين..
تقول التوراة: عندما شرد الله أبناءه اليهود من فلسطين وخرب الهيكل صار يقسم النهار إلى الآتي: في الثلاث ساعات الأولى يدرس التوراة من الأحبار، وفي الثلاث الثانية يحكم العالم ويدير شئونه، وفي الثلاث الثالثة يطعم العالم، وفي الثلاث الأخيرة يبكي على تشريد أبنائه اليهود ويزأر قائلاً: تباً لي لأني صرحت بخراب بيتي وإحراق هيكلي ونهب أولادي، ويسقط كل يوم منه دمعتان في البحر...).) "اليهود أعداء الله وقتلة الأنبياء" ص13(1/128)
ويقولون عن ذات الله جل جلاله وتقدَّس وتَنَزَّه: ((إن الله في الليل يدرس التلمود، وأنه في الساعات الثلاث الأخيرة من الليل يلعب مع اللافياتن ملك الأسماك، وأنه انقطع عن اللعب معه بعد تدمير الهيكل في أورشليم.)، و(أن أسمود سلطان الشياطين يقتبس العلم من المدرسة العالية التي ثقَّفت الرب وجميع الملائكة في السماء.)، و(أن الرب كان يرقص مع حواء بعد أن برجها وزينها وسرح شعرها بنفسه حتى تدمر الهيكل، ومنذ تدميره فإن الله لم ينقطع عن البكاء والنحيب، وهو يطوي ثلاثة أرباع الليل يزأر كالأسد الصريع ثم يصرخ: الويل لي، لأني تركت بيتي ينهب، وهيكلي يُحرق، وأولادي يتشتتون..)، (والرب يغضب عندما يرى تعاسة الشعب اليهودي فيضرب برجليه على عرشه، فيحصل الزلزال.).) تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.. "همجية التعاليم الصهيونية" نقلاً عن بعض أسفار التلمود المعتمدة في مراجعها الإنجليزية "فضيحة التلمود" 98 و"التفليم المقدس"85 عن براخوت/59 في التلمود
ويتهمون الله – تعالى الله عن قولهم – أنه علة الشَّر بخلق الإنسان الخلقة الشريرة، وأنه يرغمه على سلوكه الفاسد، فقالوا: (إن الله القدوس هو علة جميع الشرور التي تُقترف على الأرض، لأنه هو الذي خلق طبيعة الإنسان السافلة، وهو الذي يقود الإنسان إلى الخطيئة بقدره، وهو الذي أرغم اليهود على إقتبال الشريعة.) "نحن اليهود"/73 عن "اليهود في التاريخ" للقس بولس عبود
ويتهمون ويقولون: (لماذا أضللتنا يا رب عن طريقك، قَسَّيْتَ قلوبنا عن مخافتك.) سفر أشعياء 63/17
وقالوا وهم يخاطبون ربهم: (يا أبانا! إنتبه من رقدتك، كم تنام) العهد القديم المزمور الثامن والسبعون فقرة 65
هكذا اليهود الذين وصفوا الله تعالى بما لا يليق بجلاله من تمثيل وتشبيه، فعقائدهم أفسد العقائد، فهي تجمع ظلمات العقائد والأديان الوثنية الهزيلة في إناء واحد وتتغذى بها، وينبت منها لحمها..(1/129)
ولكنهم – كحال كل من خالف – تناقضوا بعد وصفهم الله بتلك الأوصاف المذكورة في أعلاه، فهم يقولون أنهم يعبدونه ويوحدونه، فقالوا: (ليعلم كل شعوب الأرض أن الرب هو الله، وليس إله آخر.) سفر الملوك الأول/8/60 عدد صحائفه 55، وعدد إصحاحاته 22
وقالوا وهم ينزهونه عن التشبيه: (إني أنا الله، وليس غيري إلهاً، وليس لي شبيه.) سفر أشعياء/46/9
وقالوا: (لا تقدر أن ترى وجهي، لأن الإنسان لا يراني ويعيش.) سفر الخروج/23/20-23
وقالوا وهم يحذرون من الشرك: (أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية، لا يكن لك آلهة أخرى أمامي، ولا تصنع لك تمثالاً منحوتاً، ولا صورة مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض. لا تسجد لهن ولا تعبدهم.) سفر الخروج/20/2-5
بل يقولون في المغير لدينه أن مصيره القتل والرجم بالحجارة: (وإذا أغواك سراً أخوك ابن أمك أو ابنك أو ابنتك أو امرأة حضنك أو صاحبك الذي مثل نفسك قائلاً: نذهب ونعبد آلهة أخرى لم تعرفها أنت ولا آباؤك من آلهة الشعوب الذين حولك، القريبين منك، أو البعيدين عنك من أقصى الأرض إلى أقصاها؛ فلا ترض منه، ولا تسمع له، ولا تشفق عليه، ولا ترق له ولا تستره، بل قتلاً تقتله حتى يموت، لأنه التمس أن يطوحك عن الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر، من بيت العبودية.) سفر التثنية/13/6-11
وفي رواية: (..وارجمه بالحجارة حتى يموت على فم شاهدين أو ثلاثة شهود..) التثنية 17/2-8
وقالوا وهم يناجون الله تعالى ويستنزلون الرحمة منه: (إرحمني يا رب لأني ضعيف، إشفني يا رب لأن عظامي قد رجفت، قد ارتاعت جداً..) مزمور/6/3(1/130)
وقالوا وهم يناجون الله ويحتمون به ويتوكلون عليه: (الرب لي فلا أخاف، الاحتماء بالرب خير من التوكل على الإنسان، الاحتماء بالرب خير من التوكل على الرؤساء، كل الأمم أحاطوا بي، باسم الرب أبيدهم.. آه يا رب خلِّص، آه يا رب أنقذ،.. الرب هو الله وقد أنار لنا، إلهي أنت فأحمدك، لأن إلى الأبد رحمتك.) مزمور/118/6- النهاية
وفي سفر الخروج: (ولا تذكروا اسم آلهة أخرى، ولا يُسمع من فمك) 23/13
وفي سفر التثنية: يوحي الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن يقول لبني إسرائيل: (اسمع يا إسرائيل! الرب إلهنا رب واحد، فتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك... الرب إلهك تتقي، وإياه تعبد، وباسمه تحلف، لا تسيروا وراء آلهة أخرى من آلهة الأمم التي حولكم، لأن الرب إلهكم إله غيور في وسطكم، لئلا يحمي غضب الرب إلهكم عليكم فيبيدكم عن وجه الأرض.) 6/4-5 ثم 14-16
وفي سفر أخبار الأيام الأول: (يا رب ليس مثلك، ولا إله غيرك، حسب كل ما سمعناه بآذننا)17/20
وفي سفر نحميا: (قوموا باركوا الرب إلهكم من الأزل إلى الأبد، وليبارك اسم جلالك المتعالي على كل بركة وتسبيح، أنت هو الرب وحدك، أنت صنعت السماوات، وسماء السماوات وكل جندها، والأرض وكل ما عليها، والبحار وكل ما فيها، وأنت تحيها كلها، وجند السماء لك يسجد) 9/5-7من العهد القديم
وفي سفر النبي إشعيا - عليه السلام -: (أنا الرب وليس من رب آخر، لا إله سواي...أليس أنا الرب ولا إله غيري؟ إله بارٌ ومخلِّصٌ ليس سواي، التفتوا إليّ وأخلصوا يا جميع أقاصي الأرض، لأنني أنا الله، وليس من إله آخر) 45/18و21-22
وفي سفر النبي يوئيل - عليه السلام -: (وتعلمون أني في وسط إسرائيل، وإني أنا الرب إلهكم، وليس هناك غيري.) 2/27
وفي سفر النبي زكريا - عليه السلام -: (ويكون الرب ملكاً على الأرض كلها، وفي ذلك اليوم يكون الرب واحد، واسمه واحد.) 14/9(1/131)
(وفي الإصحاح السادس من سفر النبي حزقيال - عليه السلام - يدور كله حول عاقبة بني إسرائيل الذين اتجهوا لعبادة أصنام وآلهة غير الله، ما سيحل بهم من عذاب الله وسخطه وانتقامه..
وفي سفر النبي أرميا - عليه السلام - - وهو سفر طويل يضم 52 إصحاحاً؛ فمحوره يدور حول توحيد الله تعالى ونبذ كل آلهة سواه، وعبادته وحده، وتقديم البخور والنذور الأضاحي له وحده، وعدم تقديمها لآلهة مزيفة غيره، والدعاء باسمه وحده، والتوكل عليه وحده، وعدم التوكل على غيره) سعد رستم
فالتوراة الحالية عبارة عن نسخ عديدة كلها محرفة تحريفاً كثيفاً، ومع ذلك فهي لم تخلو من بعض الصيغ التي ما زالت توافق دين الأنبياء الواحد وهو الإسلام، وهي بلا شك أنها من بقايا معان مأخوذة من عقيدة الأنبياء التي جاءت بها التوراة المنزلة على موسى - عليه السلام -.
أما التوراة الحالية المحرفة فإذا هي أقرت بعضُ الصيغ الإسلامَ – وهي قليلة جداً بمعرض المقارنة مع الكثرة الغالبة – فقد اعترفت بالكفر البواح والشرك الصراح والتجسيد والتشبيه الذي يوصف الله بما لا يليق بالبشر فضلا عن الخالق العظيم الكبير المتعال في المئات من نصوصها.(1/132)
فهم – أي اليهود- وإن جاؤوا بصيغ –كالتي نقلنا بعضها في أعلاه – فيها توحيد الله في المناجاة والتوكل؛ فهذا لا ينفع اليهود بشيء – وإن اغتر بها أصحاب الفكر الوسطي الساقط – لكونهم يعتقدون أن الله رب العالمين هو رب خاص لليهود، لهذا هم قد حُرموا حتى من الأثر الصحيح الباقي في توراتهم المحرفة المزيفة، فهم قد حُرموا من التوراة الحقيقية في عهد أنبيائهم عليهم الصلاة والسلام؛ فهم لم يعملوا بها، وتقاعسوا عنها، حتى أن الله تعالى رفع جبل الطور فوق رؤوسهم، وهددهم بإسقاطه عليهم إن لم يأخذوا بتعاليم دينهم بقوة وَجِدّ، كما قال الله عنهم { وإذْ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأُشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين } البقرة
وهكذا في كل زمان! اليهود هم اليهود وإلى يومنا هذا وإلى قيام الساعة، فهم قد أُشربوا في قلوبهم العجل، أي أشربوا محبة الشرك والتبديل والتحريف في دين الله حتى خلصت هذه المحبة إلى قلوبهم، فحب الشيء يُعمي ويُصِمّ، فبئسما يأمرهم به إيمانهم بدينهم المحرف المبدل المزور الذي قتلوا به الأنبياء، وفعلوا به الأفاعيل القبيحة والمستكرهة؛ من نقض العهود والمواثيق، وعدم الالتزام بعهد الله ولا بتعاليمه، وإشعالهم للفتن والحروب، وأكلهم السحت، وإلباسهم الحق بالباطل، وكتمهم الحق وهي رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به، وهم يعلمون، و.. و.. الخ
فقالوا بعقيدة الصوفية الحُلُولِيَّة سواءً بسواء: (الرب يحل باليهود فيكونون آلهة وهيكل الله.) مزامير/82/6
وشبهوا الله بالإنسان فقالوا: (قال الله: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا.) تكوين/1/26
وقالوا عن الله تعالى: (وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل وبارك الله اليوم السابع وقدسه.) تكوين/2/2-4(1/133)
وقالوا أن الرب سكن جبل صهيون: (لأن الرب اختار صهيون، اشتهاها مسكناً له، وهذه هي راحتي إلى الأبد، هنا أسكن، لأني أشتهيها.) مزمور/132/13، 14
قال الشيخ عابد توفيق الهاشمي: ( ومن أبشع ما جاء في التوراة عن الخالق سبحانه وتعالى عما يقول الكافرون علواً كبيراً، وأبرأ إليه جل وعلا من كل ما إفترته عليه التوراة من وصف لا يليق به، هذه الأوصاف المجسدة أن له رأساً عليه خوذة الحرب، ولباسه أبيض كالثلج، وشعر رأسه كالصوف النقي، وعرشه لهيب النار،... وأنه يسكن في الضباب والسحاب، كما يسكن في الزوبعة والأعاصير، ويسكن في خيمة الاجتماع التي صنعها موسى - عليه السلام -، وسكناه الدائم في الهيكل بعد بناء سليمان - عليه السلام - له...إلى غير ذلك من أوصاف مكذوبة في أسفار كثيرة كالتكوين وأشعياء والخروج والمزامير وأرميا وأيوب وصموئيل الثاني، وغيرها...) "التربية في التوراة العهد القديم عرض وتقويم بميزان الإسلام" ص73 وانظر سفر يوئيل/2/21عدد صحائفه 5 وإصحاحاته 3، سفر أرميا/4/19، وسفر أيوب/41/24 عدد صحائفه 40 وإصحاحاته42، ومزامير/2/7، وسفر أخبار الأيام الثاني/6/6 صحائفه 45 وإصحاحاته36
لهذا هم قوم –كما أخبر الله عنهم أنهم- مغضوب عليهم على مر العصور؛ لا يرغبون في خير، ولا يدرؤون الشر، فهم القوم الذين انفلتوا عن جميع الفضائل لضعف إدراكهم وعدم معرفتهم لربهم وعجزهم عن اتباع هديه، لهذا كانوا ما يزالوا دعاة الفجور والفساد، المثيرون للحرب والدمار، المتزعمون للإلحاد والعلمانية..(1/134)
فاليهوديان (كارل ماركس) و(انجلز) هما اللذان نشرا الفكر الشيوعي الإلحادي في العالم، و(دارون) حفيد القردة كان يهودياً، و(فرويد) ولد الزنى هو الذي نشر الفاحشة في العالم بحجة أن الزنى ليس بفاحشة باسم الحرية الشخصية، وغيرهم من اليهود الكثير الذين نادوا بسيادة الفكر الإنساني عبر العلمانية والليبرالية والإباحية والوجودية، ولهذا حكم الله عليهم بأنهم أقل مرتبة من الحيوانات! فقالوا في توراتهم عن أنفسهم:
(إسمعي أيتها السماوات، واصغي أيتها الأرض، لأن الرب يتكلم. ربيت بنين ونشَّأتهم. أما هم فقد عصوا عَلَيَّ، والثور يعرف قانيَه، والحمار معلَف صاحبه، أما إسرائيل فلا يعرف.) أشعياء/ 6/8-11
فهم قوم ليس لهم عقل ولا رأي سديد، فهم قوم أغبياء ليس عندهم حكمة ولا بصيرة تهديهم إلى سواء الصراط، فهم يعترفون بهذا في قولهم: (لأن شعبي أحمق، إياي لم يعرفوا، هم بنون جاهلون، وهم غير فاهمين، هم حكماء في عمل الشر، ولعمل الصالح ما يفهمون.) سفر أرميا/4/22
وقالوا عن أنفسهم: (جيل أعوج، يا شعباً غبياً غير حكيم.) التثنية/32/5
وقالوا: (إنهم أمة عديمة الرأي، ولا بصيرة فيهم.) التثنية/32/28
وقالوا: (اِسمع هذا أيها الشعب الجاهل العديم الفهم، الذين لهم أعين لا يبصرون. لهم آذان لا يسمعون. إياي لا تخشون. يقول الرب،... مثل قفص ملآن طيوراً، هكذا بيوتهم ملآنة مكراً.) أرميا/5/21-27
فهل يرجى من مثل هؤلاء شفاء، وهم قد قست قلوبهم وتعطلت مداركهم؟!(1/135)
قال الشيخ عابد الهاشمي: ( إن الأمة التي يحكم كتابها عليها بأنها عديمة الرأي ولا بصيرة فيها، ولا إدراك لها، لا ينبغي أن تدَّعي العقل والفهم، وقد عطلت السمع والبصر عن الوعي، وعطلت القلب عن الخشية، فهي أمة مكر وغدر... وبدهي أن شعباً هكذا صفاته، لا يليق انتسابه إلى الرب، لذا فإنه عز وجل قد رفضهم، وتبرأ منهم، وتناساهم، وأذلهم، كما جاء في سفر هوشع، إذ قد رفضوا المعرفة، كما رفضوا اتباع شريعة الله: (قد هلك شعبي من عدم المعرفة، لأنك أنت رفضت المعرفة. أرفضك أنا حتى لا تكون لي، ولأنك نسيت شريعة إلهك، أنسى أنا أيضاً بنيك، فأبدل كرامتهم بهوان.) هوشع/4/7،6 والرب بريء منهم، ولا وزن لهم عنده. (أنتم لستم شعبي، وأنا لا أكون لكم.) هوشع/1/9 فكيف يدَّعون بعد ذلك أنهم شعب الله المختار؟!.) اهـ "التربية في التوراة" 89-90
عقيدة اليهود في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
لا يشك مسلم أن من أصول اعتقاده – وهذا أصل معلوم من الدين بالضرورة-: الإيمان بالأنبياء والرسل الأخيار جميعاً؛ جملة وتفصيلاً، إيماناً جامعاً عاماً مؤتلفاً، لا تفريق فيه ولا تبعيض، ولا اختلاف، وهو يتضمن تصديقهم، وإجلالهم، وتعظيمهم كما أمر شرع الله تعالى في حقهم، وطاعتهم فيمن بعثوا به في الأمر والنهي والترغيب والترهيب، وما جاؤوا به عن الله كافة...(1/136)
فبلغ هؤلاء المصطفين الأخيار الأمانة، من التبشير والنذير؛ لتحقيق العبودية لله وتوحيده سبحانه، وقد أيدهم الله بالآيات الظاهرات، والمعجزات الباهرات، وهم متفقون على وحدة الملة والدين: في التوحيد، والنبوة، والبعث، وما يشمله ذلك من الإيمان الجامع بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وما في ذلك من وَحْدَة العبادة لله تعالى لا شريك له، فكل العبادات المأمور بها لا تصرف إلا لله وحده، فالدعاء، والخوف، والرجاء، والتوكل، والصلاة، والصيام، والركوع، والسجود، والاستغاثة، والاستعاذة، والتوبة.. وغيرها من العبادات الظاهرة والباطنة كلها لا تُصرف إلا لله وحده...
فمن كفر بنبيٍّ واحد، أو رسول واحد، أو آمن ببعض، وكفر ببعض، فهو كمن كفر بالله وجحده، وقد فرق بين الله ورسله، ولا ينفعه إيمانه ببقية الرسل، فالرسل كلهم حملة رسالة واحدة، ودعاة إلى دين واحد، ومرسلهم واحد، وإن اختلفت شرائعهم، فهم وَحْدَةٌ يبشر المتقدم منهم المتأخر، ويصدق المتأخر المتقدم، وآخرهم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب عليه الصلاة والسلام؛ صاحب الرسالة الخاتمة، والنبوة الخالدة، والمتفقة مع رسالة إخوانه في وحدة الملة والدين، وتحقيق التوحيد والعبودية لرب العالمين، إلا أنها رسالة نسخ الله بها جميع الشرائع، فلا يجوز لكائن من كان، – بشراً وجناً- أن يتعبد الله بشريعة غير شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومن تعبد الله بغير شريعته الخاتمة؛ فهو كافر، وعمله هباءً منثوراً، حتى لو أن أحداً من الأنبياء حياً؛ لما وسعه إلا اتباعه - صلى الله عليه وسلم -، وقد تقدم الكلام في نزول عيسى عليه السلام، وصلاته خلف المهدي محمد بن عبد الله، وائتمامه خلفه وبشريعة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -.. لبيان أن شريعته عليه الصلاة والسلام ناسخة لشريعة أخيه الذي ليس بينه وبينه نبيّ، وتكرمة لهذه الأمة..(1/137)
فاليهود لا يؤمنون بعيسى ولا بمحمد عليهما الصلاة والسلام، والنصارى لا يؤمنون برسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فضلاً بعمومها إلى جميع أهل الأرض، إنسهم وجنهم، وينسبون القبائح والكبائر إلى باقي أنبياء الله ورسله، فلهذا هم كفار مخلدون في النار، فكيف إذا زادوا على ذلك تحريف كتبهم، والطعن في رسل ربهم، وشركهم، وقولهم الإدَّ في ابن مريم ما تنفطر منه السماء وتنشق الأرض، وتخر الجبال هداً؟!
أليس كل هذا كفر بالله وجحد له؟!
فلننظر إلى عقيدة اليهود الفاسدة في الرسل عليهم الصلاة والسلام من مراجعهم المعتمدة، ومن كتبهم المحرفة:
( فهم يصفون أن عيسى - عليه السلام - بالملك الكذاب وغشاش بني إسرائيل وابن الزنى، ويتهمون يهوذا ابن يعقوب - عليه السلام - بأنه زنى بأرملة ابنه التي من هذا السفاح توأمين هما: فارص وزارح، ومن الأول تنحدر داود وسليمان عليها السلام وفق افترائهم، ويزعمون – قاتلهم الله – أن لوطاً - عليه السلام - سكر وثمل وزنى بابنتيه، كما يزعمون أن داود - عليه السلام - زنى بزوجة أحد قواده ثم قتله ليتزوجها، فولدت منه سليمان - عليه السلام - - قاتلهم الله بافترائهم- وهارون عَبَدَ العجل، ونوح سكر وتعرى من ملابسه من الثمالة، ودم الأنبياء رخيص عند اليهود لذلك قتلوا منهم عددا كبيراً.) "اليهود أعداء الله وقتلة الأنبياء" 15
ولو نظرنا في التلمود الذي طبع في أمستردام سنة 1645م؛ لوجدنا الشتائم واللعنات على السيد المسيح وأمه عليهما السلام، وكذا الرسل الأطهار عليهم السلام...(1/138)
وقالوا في ترجمة المسيح - عليه السلام - في التلمود: (الرجل الذي شُنِق عشية عيد الفصح اليهودي، والكلب الميت، وخلاصة حياته أنه ابن غير شرعي حملته أمه فترة الحيض، وكانت تتقمصه روح عيسو أخو يعقوب وتوأمه، وأنه أحمق ومجذوم، وغشاش بني إسرائيل، وأنه ابن الجندي يوسف النجار قبل زواجها منه – ابن زنى- نعوذ بالله من الخذلان.) "التلمود تاريخه وتعاليمه" لظفر الإسلام خان 60، 61
وعيد الفصح عند اليهود هو يوم البتر والمشنقة، وذلك أنه توافق مع وقت صلب المسيح المزعوم. نقلاً عن "همجية التعاليم الصهيونية" لحنا مسعد 155-174
وقالوا في ترجمة مريم العذراء - عليه السلام -: (تدعى (ستادا) بأنها كانت عاهرة، وهربت من زوجها، واقترفت الزنى – وهو نص ما قاله موسى بن ميمون الحاخام الأكبر في التلمود في سانهيدرين 67أ- وتُسمى كذلك (شاريا)، وتعني روث وغائط، وتُدعى القديسات (كيديشوت) أي مومسات.) "فضح التلمود"56-72 عن نصوص التلمود
وقالوا عن عيسى وأمه عليهما السلام: (وإن يسوع الناصري موجود في لَجَّات الجحيم، بين الزفت والنار، وأن أمه مريم أتت به من العسكري (الجندي) باندارا، بمباشرة الزنى..) "الكنز المرصود في قواعد التلمود" 11
وجاء في التلمود: (أن إبراهيم - عليه السلام - - وحاشاه – كان يعرف السحر، ويعلمه أولاده، وكان يعلق حول عنقه عقداً، يتوسطه حجر – تميمة – يشفي كل من رآه، وأنه أكل أربعة وسبعين رجلاً، وشرب دماءهم دفعة واحدة، ولذلك كانت له قوة أربعة وسبعين رجلا، فكان من الآكلين النهمين للحوم البشر!!..) "فضيحة التلمود"98
وقال الشيخ الهاشمي وفقه الله وهو ينقل عن التوراة المحرفة: ( وهذه الفضيحة الثانية التي تؤكد تحريف التوراة، بسبب أن الأنبياء هم الصفوة المختارة لتنفيذ هدي الله وإبلاغه الناس، فكيف يتصفون في توراتهم بصفات لا تليق بابن الشارع، بله الأنبياء، ومن صفاتهم المكذوبة عليهم بغاية من الإيجاز:(1/139)
• الإشراك بالله والكذب وخداع الناس، والافتراء على الله، والحماقة والجنون والمعصية والاتجار بالدين وإضلال الناس، والزِّنى والتعري، وذبح الشعوب وحرقها، والتَّرنُّح من كثرة السكر.
• نوح - عليه السلام - يتعرى وهو سكير، فيرى حام ولده عورته!
• ولوط - عليه السلام - يزني بابنتيه وهو سكير، فينجبان منه (موآب) و(بن عمي – عمون)! سفر التكوين الإصحاح/19/العدد30
• وإبراهيم وولده إسحاق عليهما السلام يتزوج كل منهما أخته مخالفة للتوراة، ويتاجران بزوجيهما هدايا من ذهب وفضة وإبل وغنم، وأن إبراهيم - عليه السلام - قدَّم امرأته سارة إلى فرعون لينال الخير بسببها. الإصحاح/12 العدد/14 قبل وبعد من سفر التكوين
• ويعقوب - عليه السلام - لم يعبد الله طيلة حياته، وقد أتعب الله بمعاصيه، وهو المنتصر على الله في مصارعته معه، وهو لعنة الله ولعنة الناس، وهو الذي تزوج بأختين، مخالفة للتوراة، وهو سارق كذاب خداع لأخيه، وقد زنى بابنته (دينة) (شكيم). كما زنى بجارية أبيه ولده (روابين) وزنى ولده (يهوذا) بكنَّته (ثامار)، فأنجبت منه توأمين: (فارص ورازح) وهو الذي تآمر على أخيه الصغير يوسف وألقاه في البئر، ثم باعه للمصريين. سفر التكوين/الإصحاح/31/ العدد17
• وموسى - عليه السلام - كليم الله في التوراة: خائن للرب وكافر به!، وهو جبان يخاف من شعبه أن يرجموه! وهو جزار يأمر بقتل الشعوب – الرجال والنساء والأطفال – حتى لا يبقى منها شارداً ولا منفلتاً!.
• وهارون - عليه السلام - يصنع العجل الذهبي لبني إسرائيل، ويأمرهم جميعاً أن يتعروا ويطوفوا حوله برقص ديني تعبداً له!! في أكبر تظاهرة راقصة عارية في عصر التاريخ! تشمل الملايين، وموسى - عليه السلام - على جبل الطور يتسلم التوراة من ربه في نفس الوقت! الإصحاح/32 عدد/1قبل وبعد(1/140)
• وداود - عليه السلام - يرقص عارياً أمام الرب، وأمام جميع إسرائيل، وهو يزني بزوجة جاره الجندي (يثشبع)، ويتآمر على قتل زوجها (أوريا الحثي)، وينجب منها ولد الزنى، وهو الذي أخذ نساء شاؤول – عمه أبي زوجه – وكان له حاضنة ملكة جمال إسرائيل تحضنه، ليدفأ!، وهو الذي زنى ولده (ابشالوم) بنسائه أمام جميع إسرائيل! وإن ولده (أمنون) زنى بأخته (ثامار)، ووسيط الزنى ابن عمها (يوناداب) الذي بكاه داود بعد وفاته ووصفه بأنه حكيم جداً، وكان داود جزاراً يسمى في التوراة (رجل الله – رجل دماء)، سلخ جلود شعوب وقتلها بالفؤوس ونشرها بالمناشير وأدخلها الأفران فأحرقها...! وهو كذلك جبان يهرب من ولده (أبشالوم) في قتله معه. سفر صموئيل الثاني الإصحاح/11العدد/11
• وسليمان - عليه السلام - انحرف عن عبادة الله إلى عبادة الأوثان، بسبب زوجاته بعدد (700) امرأة وجواريه (300)، فصار في عصمته ألف امرأة! سفر الملوك الأول الإصحاح/عدد/511قبل وبعد
ثم قال الشيخ عابد الهاشمي: وأما (نشيد الإنشاد) المنسوب إلى سليمان - عليه السلام - فهو غزل داعر، يصف كلا من الحبيبين العريانين وصفاً لو نشر في مجلة فاجرة لأغلقت وعوقبت!
• ويشوع - عليه السلام - فاتح فلسطين تصفه التوراة بأنه أكبر جزار في عمر البشرية!! كذباً عليه.
• وهوشع النبي - عليه السلام - له من الصلات بالزانيات والعشيقات ما ترتعد له الفرائص.
• وميخا النبي - عليه السلام - فيمشي عارياً أمام الناس.
• أما أشعياء النبي - عليه السلام - فيمشي عارياً ثلاث سنين...) اهـ "فضيحة التوراة" ص45، 46 وانظر "التربية في التوراة" 101، 125
فلا ننس أن عقيدة اليهود والنصارى في هذا الباب متشابهة ومتوافقة متعانقة؛ فقد نسبت النصارى – قبحهم الله- إلى جميع أنبياء بني إسرائيل أنهم سُرَّاق ولصوص، كما في شهادة يسوع عليهم. إنجيل يوحنا الإصحاح/10/العدد/8(1/141)
ونسبت جد سليمان وداود: فارض، من نسل يهوذا بن يعقوب، من نسل الزنى.إنجيل متى الإصحاح/1/العدد10
فهذه أمة الغضب والضلال؛ يرمون جمعا من أنبياء الله ورسله بقبائح الأمور التي تقشعر منها الأبدان والجلود، وينسبون هذا الكلام إلى الله، وإلى رسل الله!
فكيف بالله عليكم! كيف يدعو القرضاوي – ومن يسير على تياره- إلى وحدة المسلمين المعظمين لرسل الله وأنبيائه، مع أمم الكفر والضلال، الناقضة للإيمان، وبالكتب المنزلة على خير الأنام؟!
فوالله إن هذه الدعوى لمن أكبر المحرمات، وأنكى الجنايات، من اعتقد أنها صحيحة؛ فهو مرتد عن الإسلام..
كيف لا يكون مرتداً وهو يعلم أن الأصل العقدي الذي عليه جميع الأنبياء والرسل؛ لم يسلم إلا لأهل الإسلام مِن أمة محمد عليه الصلاة والسلام، وأن اليهود والنصارى ناقضون لهذا الأصل، ومتناقضون فيه، كافرون به...
عقيدة اليهود في النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -
أما عقيدتهم في النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - فهي عقيدة الطعن والحقد المتغطرس المتخلف الهمجي الذي وصل بهم في عهد نبوته - صلى الله عليه وسلم - إلى محاولة قتله كما قتلوا الأنبياء من قبله، والحقد والطعن اليهودي ما يزال إلى يومنا هذا، بل وسوف يبقى إلى أن يخرجوا على المسلمين مع المسيخ الدجال الفاجر، فهم لا يزالون يدبرون الحيل والمكائد ليطفئوا نور الله، والله متم نوره ولو كره الكافرون المجرمون..
فكان من أحقادهم أنهم لما وصل النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة؛ خرج اثنان من زعمائهم ينظرون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يحيى بن أخطب وأخوه أبو ياسر، فقال أبو ياسر ليحيى: أَهُوَ هو؟ فقال يحيى: نعم والله، فقال أبو ياسر: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، فقال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته ما بقيت..
هكذا قال بعد معرفته وتثبيته!(1/142)
وخلاصته الحقد المتغطرس، والاستعلاء على البشرية، حتى ولو كانوا أنبياء، وحتى لو كان الأنبياء منهم من بني إسرائيل، فهم لم يؤمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - - وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم- لكونه من نسل إسماعيل - عليه السلام -، ولم يكن من نسل أنبيائهم، لهذا حقدوا وكادوا عليه، وحتى لو كان النبي منهم؛ فهم سوف يكيدون له ويقتلونه، لكونهم لَمْ ولنْ يَهْوَوْهُ سياسياً ولا اقتصادياً ولا أخلاقياً ولا جنسياً.. فهم شعب حاقد متخلف متغطرس جمع بين الخرافة والتناقض الذي يرفضه حتى العقل المحايد! فهم على ما قال الله عنهم: { أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيراً } النساء
فلو كان في اليهود خيراً لاتبعوا النبي الذين عرفوه من كتبهم، وعرفوه كما عرفوا أبناءهم، فأحبار اليهود يعلمون علم اليقين بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - من خلال كتابهم التوراة الذي أخبر ببعثته - صلى الله عليه وسلم -، ولكنهم اختاروا طريق إبليس الذي انسلخ من جميع القيم بحقده الدفين على آدم وذريته، فحسده ومَكَرَ به وغدره، فاليهود كإبليس سواء بسواء؛ بحيث جعلوا الحقد والحسد والغدر ديناً لهم، فأخذوا بالتفنن بها، حتى صاروا على مر التأريخ والعصور رأساً لكل فتنة وحرب؛ فهم أهل فتنة مقتل عثمان الحَيِيّ - رضي الله عنه -، ولا أشك أن مقتل عمر الفاروق - رضي الله عنه - كان مكيدة من مكائدهم – أيضاً-، لأن الفتنتان منبعهما واحد، ومن أرض واحدة!! حتى فتنة الرافضة وما نفثوه من السموم كان من نفس المنبع ومن نفس الأرض وما يزال النبع يتمخض!!
ولو كان في اليهود خيراً لاستغفروا الله تعالى وتابوا إليه ورجعوا إلى الحق بدل انقلابهم على الله وعلى رسوله وعلى رسالته..(1/143)
ولو كان فيهم خيراً لما استباحوا الذي قدمنا في أعلاه من التحريف والافتراء على الله وعلى رسله وخلقه، ولما استباحوا كل مقدس وطاهر وطيب، بل هم كما أخبر الله تعالى عنهم: { قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة } البقرة
ولو كان فيهم خيراً لما غضب الله عليهم، وقضى عليهم الهوان والصغار والتشتت في الأرض والتفرق بين الأمم: { وقطعناهم في الأرض أُمَما } الأعراف
ولو كان فيهم خيراً لما جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت: { من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القِردةَ والخنازير وعبدَ الطاغوت أولئك شرٌّ مكاناً وأضل عن سواء السبيل } المائدة
ولو كان فيهم خيراً لما كتب عليهم الذلة والمسكنة وسوء العذاب في الدنيا قبل الآخرة بأنواع العذاب: { وإذ تأذَّن ربُّك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب } الأعراف
ولو كان في دينهم المحرف خيراً لنشروه في أوساط الأجناس الغير يهودية، فغيرهم لا يستحقون في نظرهم أن يرتبطوا بتعاليم دينهم، فهم – بزعمهم – مقدسين وأبناء الإله، الذين لهم الحق في التسلط والتعالي على البشر كافة، فديانتهم تتوارث عبر النسل اليهودي ومن أمٍ يهودية.. فقالوا: (إنكم قد خنتم، واتخذتم نساء غريبة، لتزيدوا على إثم إسرائيل، فاعترفوا الآن للرب إله آبائكم، واعملوا مرضاته، وانفصلوا عن شعوب الأرض، وعن النساء الغريبة.) سِفر عزرا عدد صحائفه 15 وإصحاحاته 10
فأي خير يريده القرضاوي من اليهود؟! وأي تقريب يقرب اليهود من المسلمين وهم يعتقدون بما في كتبهم المحرفة ويقدسون أحكامها، وأنها هي نظام الحياة والسلوك لديهم عبر الزمن، وأنها استمداد لكل فكر وكل تصرف وتصور وأخلاق وممارسات، بل هي الجسر الذي تقوم عليه دولة إسرائيل، وهي التي سوف تحفظ كيانهم وتنظم اتجاههم و... و... الخ.
النبي المنتظر عند اليهود(1/144)
اليهود عليهم من الله اللعنة الغضب لم يؤمنوا بعيسى ولا بمحمد عليهما الصلاة والسلام، مع أنهم كانوا بانتظار مقدمهما، ولكنهم قابلوا عنادهم بانتظار نبي آخر اسمه (المسّيا) – وهو المسيح المنتظر لديهم – الذي يعتقدون به أمل الخلاص، ومحررهم الذي ينتظرون ظهوره، والذي سوف يقيم مملكتهم الإسرائيلية في العالم، فقالوا: (إن الخلق لن تتحقق غايته إلا عند مجيء المسّيا، وإقامة المملكة المسائية.) "التلمود والصهيونية" 216 عن سفر سنهدرين في التلمود (98أ) سنهدرين/538/241
ويعتقدون أن المسّيا سوف يضطهد العالم وينزل فيهم النكبات والفواجع لصالح اليهود، وهم- أي اليهود- في صلواتهم وفي ليلة فصحهم يَتَلَهَّفُوْنَ لمجيء هذا الحقود.. "فضح التلمود" لزهير الفاتح ص149
ولا يشك أحداً من القراء الكرام أن المسّيا المنتظر عند اليهود هو المسيح الدجال، وقد ذكرنا شيئاً عنه في أول هذا القسم من هذا المجلد؛ فراجعه في أعلاه تزدد علماً..
قال ابن القيم رحمه الله: (ومن تلاعبه – يعني الشيطان- بهم – يعني اليهود- أنهم ينتظرون قائماً من ولد داود النبي، فإذا حرّك شفتيه بالدعاء مات جميع الأمم، وأن هذا المنتظر – بزعمهم- هو المسيح الذي وُعِدوا به، وهم في الحقيقة إنما ينتظرون مسيح الضلالة الدَّجَّال، فهم أكثر أتباعه، وإلا فمسيح الهدى عيسى ابن مريم - عليه السلام - يقتلهم، ولا يُبقي منهم أحداً.) "إغاثة اللهفان" 2/333
عقيدة اليهود في الخلق
في التوراة المحرفة والتلمود الشيطاني أكبر تدنيس لشرف للبشرية وعقلها الإنساني..
قال الشيخ عابد فاضح التوراة والتلمود:(1/145)
( وهو غباء المحرفين، أنَّ الله خلق آدم وحواء عمياوين البصر والبصيرة، وقد نهاهما الرب من أكل شجرة معرفة الخير والشر لئلا يموتا، فأكلا منها ولم يموتا! فكذب الله في التوراة! – أستغفِر الله – ولما أكلا منها تفتَّحت أعينهما وعرفا الخير والشر، فغار الله منهما، فطردهما من الجنة، وعاقب الحية، وليست الشيطان، التي أغرتهما، بالزحف على بطنها، بعد أن كانت تمشي منتصبة القامة، كذا! وعاقبها بأكل التراب! كما عاقب المرأة بالوجع بالوضع، وعاقبها بالشوق إلى زوجها! وعاقب الرجل بالتعب في الحياة وأكله الحسك والشوك!
وكذا فإن الإنسان خلقه الله منذ طفولته شريراً، وأجبره على الشر، ثم أغرقه باستثناء (ثمانية) نجوا من الطوفان، وهم نفس الجِبِلَّة التي فُطِر عليها الإنسان الأول آدم، فندم الله على خلقه الإنسان!!
فقال الشيخ عابد وفقه الله: أهكذا تكون حكمة الله في الخلق؟!... ) اهـ "فضيحة التوراة" 46، 47
وفي التلمود: (أن آدم عاشر (ليليت) 130 سنة عشرة زوجية، وهي شيطانة شريفة!! خُلقت منه شياطين أقزاماً، وقد وصل إلى العالم من صلب آدم عدد كثير من الشياطين، لا يزالون يتناسلون حتى الآن... وأن حواء عاشرها شيطاناً 130 سنة عِشرة زوجية، وكان لها منه ستة أولاد،... وأن حواء أظهرت العصيان والتمرد على آدم زوجها، فكان يموت كل يوم من أولاده مائتان، ثم صالحها،... وهي تزأر دائماً،... وتحت إمرتها 180 شيطاناً.) كتاب "التلمود" 118، 124 عن التلمود نصاً "فضيحة التلمود" 102(1/146)
فالناس في عقيدة اليهود عبيد وأنجاس ومنحدرون إلى الشيطان، ومنزلتهم دون الحيوان، بل هم حثالة الحيوانات وبرازها، ولهذا لا بد من قتلهم والتآمر عليهم وخداعهم وسفك دمائهم والزنى بمحارمهم وسرقتهم؛ تقرباً إلى الله، فغير اليهود وإن كانوا على شكل الإنسان؛ فهم في الحقيقة حيوانات نجسة وخدام لليهود، فقالوا: (إن الله خلق غير اليهود بالصورة البشرية إكراماً لليهود، لأن غير اليهود وُجِدوا لخدمة اليهود ليل نهار، بدون ملل، ولا يوافق أن يكون خادم الأمير حيواناً له الصورة الحيوانية، بل يجب أن يكون حيواناً له الصورة الإنسانية.) "التلمود" 141لزهدي الفاتح
قال الله تعالى رداً على اليهود والنصارى عليهم من الله ما يستحقون: { وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشرٌ ممن خلق يغفر لمن يشاء وعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير } المائدة
فهذا الرد من الله تعالى ليبين لهم أنهم كذبة، وأنهم بشر ممن خلق، وهم كغيرهم تحت حُكْمِه ومُلْكِهِ وقَهْرِه وسلطانه سبحانه وتعالى، فعَّال لما يريده بهم لا معقب لحكمه، وإليه المصير والمرجع والمآب، وهو سريع الحساب، فيحكم بين عباده بما يشاء بعدل وبدون جور..
وإذا قال اليهود والنصارى أنهم أبناء الله وأحباؤه، فلم يعذبهم الله إن كانوا كذلك، وهم يقولون { لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة } البقرة فإن مستهم النار ولو الأيام المعدودة المُدَّعاة؛ فلن يكونوا كما قالوا أنهم أبناء الله وأحباؤه، فهم كذبوا على الله، وعلى خلق الله؛ ففضحهم الله..
فقالوا: (إن الإسرائيليين الذين اقترفوا الذنوب؛ سيذهبون مع الأجانب إلى نار جهنم، وسيمكثون فيها اثني عشر شهراً، وسوف تحترق روحهم، وسوف تثير الرياح أجزاءهم تحت نعال الصالحين.) "فضيحة التلمود" 106(1/147)
وقالوا في التلمود عن تناسخ الأرواح – وهي عقيدة هندوسية- بحيث لو أن يهودياً ارتدَّ عن الدين اليهودي بقتله يهودياً آخر، لا يدخلون الجنة، إنما: (تدخل أرواحهم في الحيوانات والنباتات، ثم تذهب إلى الجحيم، وتعذب عذاباً أليماً مدة اثني عشر شهراً، ثم تعود ثانية لتدخل في الجمادات، ثم في الحيوانات، ثم في الوثنيين، حتى ترجع إلى جسد يهودي بعد تطهيرها.) "التلمود تاريخه وتعاليمه" 71 عن "الكنز المرصود في قواعد التلمود" مبحث: أرواح اليهود والمسيحيين
قال الحق سبحانه وتعالى: { قل فلم يعذبكم بذنوبكم }
وإذا أردت أن ترى نظرة اليهود إلى غير اليهود؛ فانظر إلى سفر عابودة زارة من التلمود..
فماذا يريد القرضاوي بعد كل هذا؟! هل يريد أن يصل إلى تحكيم الشريعة الإسلامية ونشر الدين الإسلامي برضىً من اليهود حفدة القردة والخنازير الذين أعطوا أنفسهم في توراتهم المحرفة وتلمودهم الشيطاني حق الظلم في أكل خيرات الأمم والتآمر على دولهم وأمجادهم بحجة أنهم أبناء الله وأحباؤه؟!
فلا تغتر أخي المسلم بقول القرضاوي الذي سماه وسطي، بل كن على حذر منه، فإنه مصيدة لكل غبي أبله قد استبلهه اليهود، وعَدُّوهُ من البُله الذين قالوا عنه: (ممنوع العطف على الإنسان الأبله.) "همجية التعاليم الصهيونية" 140-170 عن نصوص التلمود
فإذا كان القرضاوي يقول عنهم بأنهم إخوانه؛ فليقبل منهم كل ما هم عليه من خُلْفِ الوعد، والرياء في المعاملات مع غيرهم،... والكثير الكثير، فقالوا: (يجوز الرياء تجاه الأشرار.)، (وإن سلَّم فرياء، لدفع المشاحنات.) المرجع السابق
فلا تكونن أيها المسلم في اتِّباعك لمنهج القرضاوي الوسطي أبلهاً، فتصير على ما قاله اليهود فيك: أنك حثالة الحيوانات وبرازها، وأنك خُلقت لخدمتهم، ومع ذلك فإنك تستحق الموت: (حتى أفضل الأغيار – أي غير اليهود- يستحق الموت.) "اليهود" 170 من نصوص التلمود/أبو دان زوهار/526(1/148)
وأنَّك ومن معك بوسطيتك القرضاوية ومعك بقية الشعوب: (ملعونة هي جميع الشعوب، ومباركة هي أمة اليهود.) "اليهود" 167 من نصوص التلمود
فلا تكونن يوماً من الأيام فطيرة لليهود؛ فيذبحونك، ويعجنون دمك بالدقيق، يأكله أحبارهم..
ففي نص صاحب كتاب "فطير صهيون" أن طقوس هذه الجريمة مرتبطة بإعداد الفطير، وكانت شائعة في أوربا الشرقية، فيصنعون الفطير من أجل عيد الغفران في العصور الوسطى.. "فضيحة التلمود"81
ونحن لا ننسى ولن ننسى ما فعله ويفعله اليهود في اسْتِنْزَاف الدماء البشرية، فليراجع كتاب "خطر اليهودية العالمية على الإسلام والمسيحية" ففيه حوادث الاستنزاف الدم البشري من سجلات رسمية..
أو تكون يوماً في إباحية مطلقة مسموحاً لليهود – أو أقول مأموراً لهم – بالزِّنى واللواط بأقرب قريب لك، فإنهم وإن نهوا عن الزنى في وصاياهم العشر، بقولهم: ولا تزنِ، فيفسرونه في تلمودهم: (أنه المقصود بين يهودي ويهودية، أما مضاجعة اليهودي لغير اليهودية فليس هو المعنى المحرم قطعاً.) "التلمود" 169 عن نصوص التلمود زوهار 11/564
فتعاليم اليهود هو الفجور في أعراض الناس وانتهاكها، لهذا تجد دور الدعارة ونوادي العراة بشتى أنواعها؛ أصلها وأساسها وصُنَّاعها اليهود، بل إن جمعية الروتاري التي لها فروعها في بعض الدول العربية التي تتركز أهدافها وإنجازاتها على التحلل الجنسي في العالم هي من صنع اليهود وقيادتهم..
ولكن اليهود! عندما لم يستطيعوا التمسك بقوانين توراتهم المحرفة وتلمودهم الشيطاني في حرمانيَّة الزنى باليهودية؛ خالفوا أمرهم وما في كتبهم في هذه المسألة؛ فأباحوا الزنى حتى في الأمهات؛ فقالو: (عندما تسيطر الشهوة الشيطانية على حواس المرء، فليتوجه إلى بقعة من الأرض، لا يعرفه أحد، متشحاً بالسواد، ثم له أن يفعل ما يحلوا له ويشتهي.) "اليهود" 169 عن نصوص التلمود بنداريم/20ت(1/149)
وقالوا: (إنه من يحلم أنه ارتكب الفحشاء مع أُمِّة يمكنه أن يصير حكيماً. لأنه جاء في سفر الأمثال: دعوت الحكمة أماً، ومن يحلم أنه ارتكب الفحشاء مع خطيبته فله أمل كبير بإنارة نفسه، ومن يحلم أنه ارتكب الفحشاء مع امرأة قريبة يحصل على السعادة الخالدة) "التلمود" 175 عن نصوص التلمود
وقالوا: (إذا غازلت امرأة ابنها، فأثارت شهوته الجنسية فقضى منها وطراً،... فاختلف علماء اليهود في هذه المسألة الحيوانية، ولكنهم اتفقوا على أن العلاقة الجنسية بين الأم وابنها الذي تجاوز من العمر التسع سنوات واليوم الواحد؛ هي علاقة جنسية حقيقية، بينما العلاقة الجنسية بين الأم وابنها الذي لم يتجاوز الثماني سنوات؛ هي علاقة غير حقيقية!! فالهدف عندهم ينحصر فقط في مسألة عمر الابن.) "التلمود" 172عن نصوص التلمود ساندهرين/69ب
أما عن مضاجعة البنات الصغيرات، فقد قالوا: إن البنت التي لها من العمر ثلاث سنوات ويوم واحد؛ تكون خطبتها بالمضاجعة، ولكن إذا كان عمرها أقل من ثلاث سنوات؛ فيلزم خطيبها بإزالة بكارتها.) "التصور اليهودي للإله بميزان الإسلام112 عن كتاب التلمود175 للشيخ عابد توفيق الهاشمي، وهذا ما يجوزه الرافضة بالستمتاع بالر ضيعة
أما اللواط بالزوجة: فجائز عندهم شرعاً؛ لأن المرأة بالاستمتاع كقطعة لحمة اشتراها من جزار، يمكنه أكلها مسلوقة ومشوية على حسب رغبته! ويخاطب الحاخام المرأة التي جاءت تشكو زوجها: لا يمكنني أن أمنعه عن هذه المسألة يا ابنتي، لأن الشرع قدَّمك قوتاً لزوجك. كتاب "التفليم المقدَّس 67، 68 وفي سفر سنهدرين 58 مصرح لليهودي أن يلوط بزوجته، وليس مصرحاً للأجنبي أن يفعله إلا بامرأة أجنبية منهم وليست بيهودية.. "فضيحة التلمود" للهاشمي، وهذا ما يبيحة الرافضة، انظر رسالتي "من هم الشيعة"(1/150)
وعندما سموا اليهود البشر من غيرهم حيوانات؛ أحلوا مضاجعة الحيوانات، فقالو: (ومن تُضاجع حيواناً؛ يحل لها أن تتزوج قسيساً.) "اليهود" 173 عن نصوص التلمود بيباموت/59ب، فلا تستغرب بعدها مضاجعة الحيوانات لنساء اليهود
فهل يقترب الإسلام من دين اليهود الشيطاني؟! الذي يعتبر كل من الخطايا التالية مغفور لها في يوم الغفران: اقتراف الخطايا في سفاح القربى بفسق وفجور، واضطهاد الجار، وشهادة الزور والجحود والكذب والافتراء والغطرسة والتكبر والمشاكسة وحب إقامة الدعاوى، والقَسَم بأيمان كاذبة، والاجتماع لاقتراف الزنى الجماعي، ومنح الرشاوى وأخذها، والربا والابتزاز والاغتصاب، والوقاحة، وخيانة الجار، والسرقة والاختلاس... انظر كتاب "اليهود يجب أن يعيشوا" لصومائيل روث136
كل هذا مغفور لليهود يوم الغفران.. فهل بالله عليكم مع الإسلام يستويان، أم على المنهج الوسطي يقتربان أو يلتقيان؟!
عقيدة اليهود في أرض الميعاد
فلسطين هي أرض الميعاد في العقيدة اليهودية في التوراة والتلمود، فهي أرض العبادة والتقديس، فهو يقدسون تربة فلسطين حتى لو تعلقت على نعال الأقدام، فهم يحملون التربة فيتبرَّكون بها كتبرك الرافضة بتربة كربلاء، ويسجدون على أحجارها...
فاليهود عليهم لعائن الله التامة يتمرغون بتربة فلسطين، ويدَّعون أن غبارها يؤدي إلى التوبة، وأنه من يعيش هناك يمكن اعتباره أنه مؤمن بالله، ومن يقيم خارجها فهو إنسان لا إله له، ومن يُدفن داخلها؛ فكأنما يدفن تحت المذابح في الهيكل المقدَّس، فأرض فلسطين هي الميدان الأبدي والسرمدي لهم. سِفر كتوبوت 112ب/728 من التلمود، وانظر مزمور102/15
ففلسطين هو الميراث الأبدي لليهود بزعمهم؛ فقالوا عن أرض فلسطين: (إن جذع آدم جاء من بابل، ورأسه من أرض إسرائيل – أي فلسطين- وأطرافه من البلدان الأخرى.) "السندهرين/38ب/2411 في التلمود(1/151)
وقالوا: (الأرض التي أنت مضجع عليها؛ أعطيها لك ولنسلك- أي لنسل يعقوب - عليه السلام --.) سفر التكوين 28/13
وقالوا: (وسوف أعطيكم إياها لكي تمتلكوها.)، (بينما الكنعانيون من نسل حام يحرسون المكان إلى حين مجيء أبناء سام (اليهود).) من التلمود"سيفرا" من كتاب "التلمود والصهيونية"253
وقالوا: (وقف الرب وقاس الأرض.) سفر حبقوق 2/6 عدد صحائفه4 وعدد إصحاحاته3
وفسر الحاخام زاها هذا النص بقوله: (أن اليهودي وحده يستحق التوراة، وقاس جميع المدن، فوجد القدس وحدها جديرة باحتواء الهيكل، ثم قاس جميع البلدان، فرأى البلد الوحيد الذي يليق بأن يعطى إلى بني إسرائيل: هو أرض إسرائيل.) "التلمود والصهيونية"253
ولكنهم تناقضوا عندما اعترفوا بأن الرب هو الذي أخرجهم ودمرهم ودمر هيكلهم بمشيئته بسبب ذنوبهم من وثنية وظلم وتفسخ خلقي وجنسي؛ (لأنهم جميعاً زناة، جماعة خائنين.) سفر أرميا9/3، (وسكبتِ زناك على كل عابر سبيل فكان له.) سفر حزقيال16/15
قال الشيخ عابد الهاشمي: ( أرض الميعاد وهي أكبر خدعة للبشرية افترتها التوراة من خلال تحريفها، بادعائها أن فلسطين برمتها لبني إسرائيل، بعهود قطعها الله تعالى لخمسة عشر نبياً، في خمسين موضعاً في التوراة، ليملكهم فلسطين حتى قيام الساعة، وليس أولئك الأنبياء أهلا للعهود، كما أنهم ليسوا إسرائيليين، ولم يملكوا أرضاً من فلسطين، ما عدا (داود وسليمان) عليهما السلام، - وهما أولاد الزنى في التوراة – أولاد من فارص ولد زنى يهودا بِكِنّتِه، وهما الحفيد التاسع عشر تباعاً، وهما ملعونان في التوراة، فلا حق لهم في العهود أصلاً، إضافة إلى أن ألف عام تقريباً مضى على العقد مع إبراهيم، ولم يملك طيلة الألف أحد، إلا يشوع بمجازر، وليس بهداية ودعوة إلى دين الله، ثم لم يملك داود وسليمان جميع فلسطين، ثم انقطع حكمهم المشروط بموت سليمان حتى اليوم خلال ثلاثة آلاف سنة خلت!.) اهـ "فضيحة التوراة" ص 47، 48(1/152)
وقال وفقه الله في "فضيحة التلمود"121وما بعدها في معرضه لتناقض التلمود مع الصهاينة في تمليك أرض فلسطين: (يقول التلمود بالنص: (عندما بلغت ذنوب إسرائيل مبلغها، وفاقت حدود ما يطيقه الإله العظيم، وعندما رفضوا أن ينصتوا لكلمات وتحذيرات (إرمياه)، ترك النبي (إرمياه) أورشليم وسافر إلى بلاد بنيامين، وطالما كان النبي لا يزال في المدينة المقدسة، كان يدعو للرحمة عليها، فنجت، ولكنه عندما هجرها إلى بلاد بنيامين؛ دمَّر (نبوخذ نصر) – قبل أكثر من خمسة قرون قبل الميلاد- بلاد إسرائيل، وحطَّم الهيكل، ونهب مجوهراته، وتركه فريسة للنيران الملتهبة، وكان (نبوذر دان) – فارسي- قد أرسل نبوخذ نصر لتدمير أورشليم.).
وقبل أن يبدأ نبوخذ نصر حملته العسكرية، سعى لمعرفة نتائج الحملة بواسطة الإشارات، نظراً لذهوله من الموقف، فرمى بقوسه نحو الغرب، فسارت السهم في اتجاه أورشليم، ثم رمى مرة أخرى نحو الشرق، لكن السهم اتجهت نحو أورشليم، ثم رمى مرة أخرى، ليتأكَّد من محل وقوع المدينة المذنبة التي وجب تطهيرها من الأرض، وللمرة الثالثة اتجهت سهمه نحو أورشليم).
(وبعد أن استولى (نبوخذ نصر) على المدينة، توجَّه مع أُمرائه وضباط جيشه إلى داخل الهيكل، وصاح ساخراً وخاطباً إله إسرائيل: (وهل أنت الإله العظيم الذي يرتعد أمامه العالم؟) ها نحن في مدينتك ومعبدك)!
(ووجد (نبوخذ نصر) علامة لرأس سهم على أحد جدران الهيكل، وكأن أحداً قُتل أو أُصيب بها، فسأل: من قُتل هنا؟) فأجاب الشعب: (زكريا بن يهويا داه) كبير الكهنة. لقد كان يحذرنا في كل ساعة من حساب (عقاب) اعتداءاتنا (الوصايا). وقد سئمنا من كلماته! فانتهينا منه)!
فذبح جنود نبوخذ نصر سكان أورشليم؛ كَهَنَتَها وشعبها، وكهولها وشبابها، ونساءها وأطفالها، وعندما شاهد كبير الكهنة هذا المنظر؛ ألقى بنفسه في النار التي أشعلها نبوخذ نصر في الهيكل، وتبعه بقية الكهنة، مع عوده وآلاتهم الموسيقية الأخرى!(1/153)
(ثم ضرب جنود نبوخذ نصر السلاسل الحديدية في أيدي باقي الإسرائيليين، وساقوهم إلى السبي.)
(ورجع (أرمياه) النبي إلى أورشليم، وصحب إخوانه البؤساء الذين خرجوا عرايا تقريباً، وعندما همَّ نبوخذ نصر بقتل جميع الإسرائيليين، لأنهم رفضوا أن يغنُّوا أمامه تلك الأغاني التي طالما غنُّوها في الهيكل، جرت محادثة بين بيلاطها ابن يهويا داه(أخو النبي زكريا) قال فيها:
(لقد أعطى الله إسرائيل في يدك، وأنت الآن مسؤول عمن تقتلهم).
ذلك هو نص الشهادة التلمودية، دون أي تصرف في الترجمة. وخلاصته أنَّ طَرْدَ اليهود من فلسطين وتدمير الهيكل الأصلي الذي بناه سليمان - عليه السلام - كان بمشيئة الله، وانتقاماً من اليهود ) انتهى
ثم قال الشيخ عابد الهاشمي: ( وإضافة إلى ذلك؛ فإن حكم التلمود على تشتيت إسرائيل هو انتقام منهم، إضافة إلى أنه خير لهم (عمل الرب خيراً لإسرائيل، عندما شتت أبناء إسرائيل بين الأمم.)
غير إن من الإنصاف أن نضيف إلى عقيدة التلمود المناقضة للعقيدة الصهيونية، عقيدة التوراة التي تطابق التلمود في إبادتهم وسبيهم كان بقدر الله وانتقامه: (ويل لاشور، قضيب غضبي، والعصا في يدهم هي سخطي، على أمة منافقة أرسله، وعلى شعب سخطي أوصيه، ليغتنم غنيمة وينهب نهباً، ويجعلهم مدوسين كطين الأزقة.) أشعياء10/5-6
ذلك السبي الآشوري لمملكة إسرائيل، والسبي الأول ليهوذا.
أما تدمير البابليين – الكلدانيين- لأورشليم، وإزالة يهوذا من الوجود، فتقول فيها التوراة: (هكذا قال الرب: ها أنا ذا أدفع هذه المدينة – القدس- ليد ملك بابل، فيحرقها بالنار، وأجعل مدن يهوذا خربة بلا ساكن.) أرميا 37/8-9(1/154)
وأشباه هذه النصوص في انتقام الله من اليهود على أيدي الوثنيين الآشوريين والكلدانيين كثيرة، فهو عقاب إلهي على أعمالهم: (هكذا قال السيد الرب: هذه أورشليم،... فخالفت أحكامي، لأجل ذلك يأكل الآباء الأبناء في وسطك، والأبناء يأكلون آباءهم، وأجري أحكاماً، وأذري بقيتك كلها في كل ريح،...وأجعلك خراباً وعاراً بين الأمم التي حواليك، أمام عيني كل عابر فتكون عاراً وتأديباً ودهشاً للأمم التي حولك،... أنا الرب تكلمت.) حزقيال 5/5-16
بل إن إلههم يلعن في توراتهم أن تدميره لأورشليم بسبب خلوها من يهودي واحد يعبد الله ويستجيب له من سائر سكانها: (وطلبت من بينهم رجلاً يبني جداراً ويقف في الثغر أمامي على الأرض، لكيلا أخربها، فلم أجد، فسكبت سخطي عليهم، أفنيتهم بنار غضبي جلبت طريقهم على رؤوسهم، يقول السيد الرب.) حزقيال 22/30-31
بل (كل الرأس مريض، وكل القلب سقيم، من أسفل القدم إلى الرأس، ليس فيه صحة، بل جرح وإحباط.) أشعياء 1/6-7
(لذلك ها أنا ذا أنساكم نسياناً، وأرفعكم من أمام وجهي، أنتم والمدينة أورشليم التي أعطيتكم وآباؤكم إياها، وأجعل عليكم عاراً أبدياً وخراباً أبدياً لا يُنسى.) أرمياء 23/39-40
وكان الوعي اليهودي في العالم بهذه الفكرة والعقيدة، حتى القرن التاسع عشر، إلى ظهور بدعة الصهيونية، ولم يكن قادة اليهود في مؤتمراتهم الأولى في (بازل) متفقين على فلسطين لتكون دولة لهم، علماً بأن خريطة أوغندا كانت تزين منصة المؤتمرات الصهيونية حتى 1904م وكانت اقتراحات دولتهم في إحدى الدول: (أوغندا، والأرجنتين، والبرازيل، أو جنوب أفريقيا، أو الجزء الأوربي في تركيا، (تراكيا) أو العراق، أو سيناء، أو أستراليا)!
وكان هناك خلاف شديد بين قادة اليهود حول العمل لإقامة دولة يهودية، إذ كان اليهود المتدينون يؤمنون أن عودتهم إلى فلسطين ستحقق بمجيء المسيح.(1/155)
والذي أعان اليهود على إقامة دولتهم في فلسطين حرص بريطانيا وفرنسا أن تضع خنجراً في قلب الكيان العربي، لمصالحها، وحقدها في استمرار الحروب الصليبية، يمثل هذه النزعة الحاقدة سلوك القائد الفرنسي (الجنرال غورو) الذي فتح دمشق، وقد رفس برجله قبر صلاح الدين، قائلاً: (ها قد عدنا يا صلاح الدين)!
وذلك الجنرال اللّنبي، عند دخوله القدس، يقول أمام كنيسة القيامة: (اليوم قد انتهت الحروب الصليبية، ويسميها الزعيم الصهيوني إسرائيل زانجويل بأنها: الحروب الصليبية الثامنة.!) انتهى كلام الهاشمي
ما هو سر وحشية اليهود ؟
إن أهم أسباب وحشية اليهود وبَرْبَرِيَّتهم هو طبيعة الثقافة العنصرية التي يتلقاها اليهود منذ صغرهم وتصور لهم غير اليهود أنهم شر محض ينبغي إبادته.
كيف تدار الحرب في التوراة الموجودة الآن بين يدي اليهود، والتي نؤمن – نحن المسلمين – بأنها قد حرفت.
جاء في التوراة في سفر التثنية ما نصه: (حين تقرب من مدينة لكي تحاربها؛ استدعها إلى الصلح، فان أجابتك إلى الصلح، وفتحت لك؛ فكل الشعب الساكن فيها يصبح عبيدا لكم، وإن لم تسالمك، بل عملت معك حربا؛ فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك؛ فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا.) الإصحاح عشرون من الآية 10-14
هكذا ببساطة، إما يصيروا عبيدا لليهود بمعاهدة صلح أو يقتلون جميع الذكور ولو كانوا شيوخا أو أطفالا. هذا بالنسبة للبلاد المحظوظة النائية البعيدة، وأما بالنسبة للبلاد القريبة من أرض الميعاد - يعنى تقريبا منطقة الشرق الأوسط – فشأنها أفظع، فتستمر الآيات في نفس الإصحاح فتقول ما نصه:(1/156)
(وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تستبق منها نسمة ما، بل تحرمها تحريما الحثيين والاموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين، كما أمرك الرب إلهك لكي لا يعلموكم أن تعملوا حسب جميع أرجاسهم التي عملوا لآلهتهم فتخطئوا إلى الرب إلهكم). من الآية 15- 18
وهذا الكلام معناه الإبادة الكاملة (فلا تستبق منها نسمة ما..) رجالا ونساء وأطفالا، لا صلح ولا هدنة ولا تعايش، وإنما فقط القتل.
ولا يستحى مفسرو التوراة أمام هذه النصوص البشعة فيقول أحدهم تعليقا على هذه الآيات العنصرية (كيف يمكن لإله رحيم أن يأمر بإهلاك كل المراكز الآهلة بالسكان؟ لقد فعل ذلك لحماية بني إسرائيل من عبادة الأوثان، التي كانت، ولا بد، ستجلب الخراب عليهم. وفي الحقيقة، لأن بني إسرائيل لم يقضوا تماما على هذه الشعوب الشريرة كما أمرهم الله، تعرضوا باستمرار لاضطهادهم، وإلى الكثير من سفك الدماء والتخريب، أكثر مما لو كانوا أطاعوا توجيهات الله قبل كل شيء)
ويقول مفسر آخر:(هذه الآيات تشير لقطع الشر من القلب وإبادة كل عوامل الخطية) بمعنى أنهم يرون هذه الإبادة أوامر إلهية.
ثقافة عنصرية
إن هذه الثقافة العنصرية مترسخة في العقلية اليهودية فالصلح مع اليهود يعني الاسترقاء لهم والاستعباد، بينما الحرب تعني الإبادة للذكور والسبي أو التحريم بحسب بعد البلاد وقربها من أرض الميعاد.
وإن نظرة اليهود الدُّونِيَّة للآخر تحكم عقولهم وسياستهم ولو أخفوها لظروف مؤقتة. إن مئات الآيات في التوراة تحض على كراهية الآخر واستعباده والإيمان بأنه ما خلق إلا لخدمة اليهود. وهذه النصوص ليست أساطير وخيالات؛ وإنما هي مناهج تدرس في المدارس الدينية والعلمانية في إسرائيل على السواء.(1/157)
ثم لا يستحى هؤلاء المجرمون و مؤيدوهم في الغرب أن يشنوا الحملات الإعلامية المزورة على دين الإسلام ويربطون بينه وبين الإرهاب. افتح العهد القديم ( التوراة ) لترى جذور هذه العقلية اليهودية التي نتعامل معها الآن والتي ظن كثير من السذج أنه يمكن في يوم من الأيام أن نعيش معهم في سلام ووئام.
إن الذين خدعتهم عملية السلام مع إسرائيل عليهم أن يتذكروا أن أي صلح بين دولتين أو كيانين لابد أن يعتمد على اعتراف متبادل بالحقوق، وهذه بديهية للتعايش السلمي.
ونحن هنا نتساءل هل لإسرائيل الحد الأدنى من قبول الآخر والاعتراف بأن له حقوقا؟
إن هيمنة النص التَّوْراتي على العقلية الإسرائيلية يشطب الآخر ويلغيه ويؤمن أنه لا يستحق أي حقوق، وأن أي "تنازلات" يقدمها اليهود إنما هي تحت الضغوط المختلفة لا أكثر.
إن "الآخر" في العقلية اليهودية (أو الغوييم كما في نصوصهم المقدسة) تتسلط عليه عقيدة أن اليهود هم شعب الله المختار، وأن هذا الاختيار وهذا التمييز وهذه العنصرية هي اختيار إلهي صرف، "لأنك شعب مقدس للرب إلهك، وقد اختارك الرب لكي تكون له شعباً خاصاً فوق جميع الشعوب الذين على وجه الأرض" سفر التثنية (14/2).
هذا الاختيار يعطيهم هذه النظرة الدُّونِيَّة لكل من هو غير يهودى. بل أكثر من هذا فإن اليهود لا يعتبرون الشعوب الأخرى غير متميزين و حسب، بل يرونهم ضد معاني الشرف والإنسانية، فيرونهم خلقوا فقط ليكونوا عبيدا لبنى إسرائيل.
انتبه لهذه النصوص المروعة:
(وأعدك الرب اليوم أن تكون له شعباً خاصاً كما قال لك وتحفظ جميع وصاياه وأن يجعلك مستعلياً على جميع القبائل التي عملها في الثناء والاسم والبهاء وأن تكون شعباً مقدساً للرب إلهك كما قال) سفر التثنية (27/18-19).
(ولا تدخل رجساً إلى بيتك لئلا تكون محرماً مثله، تستقبحه وتكرهه لأنه محرم ) سفر التثنية (7/26)(1/158)
والمقصود بالرجس هنا غير اليهود – حتى إن بعض اليهود يسمون كل ذكر غير يهودي (شيكتس) ومعناها الرجس ويسمون كل أنثى غير يهودية (الشيكا) يعنى الحيوان المخيف القذر.
وها هو النبي أشعيا يتباهى بإذلال غير اليهود: (ويكون الملوك حاضنيك وسيداتهم مرضعاتك، بالوجه إلى الأرض يسجدون لك ويلحسون غبار رجليك فتعلمين أني أنا الرب الذي لا يخزي منتظروه ..... وأنا أُخاصم مُخَاصمكِ وأخلصُ أَولاَدك، وأَطْعِمُ ظَالِمِيك لَحمَ أَنفسهِمْ ويسْكَرونَ بِدمِهِمْ) "أشعيا" (49/23-26).
ويستمر بكلام طويل غاية في العنصرية و يختمه بقوله: (ويقف الأجانب ويرعون غنمكم ويكون بنوا الغريب حراثيكم وكراميكم، أما أنتم فتدعون كهنة الرب تسمون خدام إلهنا، تأكلون ثروة الأمم وعلى مجدهم تتأمرون) أشعيا (61/5-6).
فهذا استعباد وسخرة، و إذا كان القرآن يحدثنا كثيرا عن تسخير الله للكون ولمخلوقاته للانسان وكل الانسان؛ فإن النص التَّوراتي يتحدث عن تسخير كل الناس لبنى إسرائيل.(1/159)
ومن جوانب هذا الكبر وهذا الاستعلاء على باقي الشعوب أنه يحرم على اليهودي أن يتزوج بأي من أهل الديانات الأخرى، بل و يحرم عليه العيش والاختلاط مع الشعوب الأخرى: فها هو عزرا بعد انتهائه من بناء الهيكل و عودته يبكى و ينوح لأنه وجد بنى إسرائيل قد تزوجوا من بنات الشعوب المجاورة: (إِن الأَرْضَ التِي تَدْخلونَ لِتَمتَلكوهَا هِيَ أرض متنجِّسَة بِنَجَاسةِ شُعُوبِ الأَرَاضِي بِرجاسَاتِهِمِ الَتِي مَلأوهَا بِهَا مِن جهة إِلَى جهة بِنَجَاسَتِهِمْ. والآن فَلاَ تعطُوا بَنَاتِكُم لِبَنِيهِم وَلاَ تأخذوا بناتِهِم لِبَنِيكم ولاَ تَطلبُوا سَلاَمَتَهم وَخَيرَهم إِلَى الأَبد لِتَتَشدَّدُوا وتَأكلوا خَيْرَ الأَرْضِ وَتورِثوا بَنِيكمْ إِياهَا إِلَى الأَبَدِ. وبعد كل مَا جَاءَ عَلَيْنَا لأَجْلِ أَعْمَالِنَا الردِيئَة وَآثَامنا العَظِيمَةِ - لأَنكَ قَد جَازَيتَنا يَا إِلَهَنَا أَقَل مِنْ آثَامِنَا وأَعْطَيتَنا نَجاة كَهَذِهِ أَفَنَعُودُ وَنَتَعَدى وَصَايَاكَ وَنُصَاهِرُ شُعُوبَ هَذِهِ الرَّجَاسَاتِ؟ أَمَا تَسْخَطُ عَلَيْنَا حتى تفنينا فَلاَ تَكون بقية ولاَ نَجاة؟ ). عزرا ( 9/ 12-14 ).
ويسمى اليهود حالات الزواج من غير اليهود بالإبادة الصامتة ( الهولوكوست الصامت ).
الجذور الدموية اليهودية
أما طبيعة العنف اليهودي والوحشية في معاملة "الآخر" فهذه قصة أخرى.
إن العنف الوحشى والرغبة في القتل تنتشر بشكل عجيب في النصوص التَّوراتيَّة وهي تفسر البرود الذي يعلق به اليهود على المذابح التي تجرى الآن في فلسطين ولبنان.
انظر إلى مجزرة تحدثت عنها التوراة، أبطالها: يعقوب – عليه السلام و حاشاه من زعم و افتراء اليهود – وابناه شمعون ولاوي وهما من الأسباط الإثنى عشر رؤوس بنى إسرائيل.(1/160)
ها هى تفاصيل مجزرة نابلس ( شكيم ) وقد وقعت قبل استعباد بنى إسرائيل في مصر وخروجهم منها والتي يبرر بها اليهود هذا الشعور العدواني لليهود، فهذه المجزرة حدثت قبل كل هذه المبررات، هذه هي تفاصيل الغدر و الوحشية:
قصة بسيطة لشاب هو ابن حاكم نابلس (شكيم ابن حمور الحوي ) أعجبته دينة بنت يعقوب - عليه السلام - فغرر بها وجامعها ورجع إلى أبيه وطلب منه أن يسعى ليتزوج منها، فذهب أبوه إلى يعقوب - عليه السلام - معتذرا وطالبا يد البنت لابنه وأبدى استعداده لكل الشروط وأن يفتح بلاده لبنى إسرائيل يساكنوهم ويتاجروا معهم ويتصاهرون.. فتظاهر يعقوب - عليه السلام - وابناه بالموافقة واشترطوا أن يختتن أهل نابلس حتى يتم هذا الزواج، فقبلوا وفعلوا، إلا أن ابنيّ يعقوب فاجئا أهل القرية وأعملا فيها السيف وقتلا كل ذكر فيها ثم رجعوا ونهبوا القرية بالكامل وأخذوا جميع النساء والأطفال. أبادوا قرية بالكامل؛ مقابل خطأ لشاب مع فتاة إسرائيلية، وأراد أن يصححه بزواجه منها............... اقرءوا نصَّ القصة المؤلمة:
1 ـ (وخرجت دينة إبنة ليئة التي ولدتها ليعقوب لتنظر بنات الأرض. فرآها شكيم ابن حمور الحوي رئيس الأرض وأضجع معها وأذلَّها) سفر التكوين (34/1-2).
2 ـ ( فكلم شكيم حمور أباه قائلاً خذ لي هذه الصَّبِيَّة زوجة) سفر التكوين (34/4).
3 ـ ( فتكلم حمور معهم قائلاً شكيم ابني قد تعلقت نفسه بابنتكم، أعطوه إياها زوجة. وصاهرونا، تعطوننا بناتكم وتأخذون لكم بناتنا، وتسكنون معنا وتكون الأرض قدامكم، اسكنوا واتجروا فيها وتملكوا بها) التكوين (34/8-9-10). وأضاف (كثروا عليَّ جداً مهراً وأعطية، فأعطي كما تقولون لي. وأعطوني الفتاة زوجة) التكوين (34/12).
4 ـ (فأجاب بنو يعقوب شكيم وحمور أباه بمكر وتكلموا... إن صرتم مثلنا بختنكم كل ذكر نعطيكم بناتنا ونأخذ لنا بناتكم ونسكن معكم ونصير شعباً واحداً). التكوين (34/13.. 15-16)(1/161)
5 ـ وبعد أن اختتن جميع الذكور (فحدث في اليوم الثالث إذ كانوا متوجعين أن ابنيَّ يعقوب شمعون ولاوي أخوي دينه أخذ كل واحد سيفه وأتيا على المدينة بأمن وقتلا كل ذكر) التكوين (34/25).
(ثم أتى بنو يعقوب على القتلى ونهبوا المدينة، لأنهم نجسوا أختهم، غنمهم وبقرهم وحميرهم، وكل ما في المدينة وما في الحقل أخذوه. وسبوا ونهبوا كل ثروتهم وكل أطفالهم ونسائهم وكل ما في البيوت) تكوين (34/27-28-29).
و العجيب أن إله اليهود كافأ يعقوب على هذه الواقعة البشعة بما يلي:
وَقَال لَه الله: (أَنَا اللهُ الْقَدِيرُ. أثمر وأكثر. أمة وَجَمَاعَة أمَم تَكون مِنكَ. وَملوك سَيَخرُجونَ مِنْ صُلْبِكَ. وَالأَرْض الَتِي أَعطيت إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ لَكَ أُعْطِيهَا. وَلِنَسلِكَ مِن بَعدِكَ أعطِي الأَرْضَ). التكوين ( 35/12-13)
مجزرة أخرى
فهذه المجزرة تقصها التوراة، بطلها هذه المرة موسى– عليه السلام و حاشاه من زعم و افتراء اليهود – عند خروج بني إسرائيل من مصر ومرورهم بمدين. ومدين هي نفسها البلد التي استقبلت موسى - عليه السلام - وشعبه أثناء هروبهم من مصر بل وقام ملكها بتزويج ابنة كاهنه لموسى - عليه السلام -. يعنى بلد موادع وكريم ومضياف، هذه المرة عكست الآية، فقد تعلق شاب إسرائيلي ببغي من مدين، فقام كاهن يهودي بقتل الاثنين! فجاء أمر إلهي لموسى - عليه السلام - بالانتقام من أهل مدين، فقام قادته العسكريون بقتل ملك مدين وأمرائه وقتل جميع الرجال وسبي النساء والأطفال ونهبوا كل ما فيها ثم أحرقوا جميع البيوت والحصون. و هذا الانتقام الذي تقشعر له الأبدان لم يعجب موسى - عليه السلام - فقام بما هو أبشع..
اقرءوا نص التوراة:
1. (وكلم الرب موسى قائلاً: انتقم نقمة لبني إسرائيل من المديانيين ثم تضم إلى قومك) سفر العدد (31/1-2).(1/162)
2. فَقَال مُوسَى لِلشعب: (جَرِّدُوا مِنْكُمْ رِجَالاً لِلجُنْدِ فَيَكُونُوا عَلى مِدْيَانَ لِيَجْعَلُوا نَقْمَة الرب عَلى مِدْيَانَ. أَلفاً وَاحِداً مِنْ كُلِّ سِبْطٍ مِنْ جَمِيعِ أَسْبَاطِ إِسْرَائِيل تُرْسِلُونَ لِلحَرْبِ). فَاختِيرَ مِنْ ألوفِ إِسْرَائِيل أَلفٌ مِنْ كل سِبْطٍ. اثْنَا عَشَرَ أَلفاً مُجَرَّدُونَ لِلحَرْبِ. سفر العدد (31/3-5).
وتعجب من كل هذه القوات وهذا التجييش وهذا التصعيد من أجل هذه الواقعة الفردية التي ليس لأهل مدين المساكين يد فيها ..
3. (فتجندوا على مديان كما أمر الرب وقتلوا كل ذكر) العدد (31/7).
انظروا .. كل ذكر : يعنى حتى الشيوخ و الأطفال.
4. (وسبى بنو إسرائيل نساء مديان وأطفالهم ونهبوا جميع بهائمهم وجميع مواشيهم وكل أملاكهم. وأحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار) العدد (31/9/10).
ورجع هؤلاء المغاوير الأبطال بعد هذه المجزرة، ليستقبلهم موسى ولكن الاستقبال كان على غير ما توقعوا:
5. (وأَخذوا كل الغَنِيمَةِ وَكل النهبِ مِنَ الناسِ وَالبَهَائم، وأَتوا إِلى مُوسَى وَأَلِعَازَارَ الكَاهنِ وَإِلى جَمَاعَة بَنِي إِسرائِيل بِالسبي وَالنهبِ وَالغَنِيمَةِ إِلى المَحَلةِ إِلى عَرَبَاتِ مُوآبَ التِي عَلى أرْدُن أَرِيحَا.، فَخَرَجَ مُوسَى وَأَلِعَازَارُ الكَاهِنُ وَكل رُؤَسَاءِ الجَمَاعَةِ لاِستِقبالِهِمْ إِلى خَارِجِ المَحَلةِ.، فَسَخَطَ مُوسَى عَلى وُكَلاءِ الجَيْشِ رُؤسَاءِ الألوف وَرُؤسَاءِ المِئَاتِ القَادِمِينَ مِن جندِ الحَرْبِ.) العدد (31 / 12-14)
ُترى ما الذى أزعج موسى و أسخطه على قواده ؟! .. أمر لا يتوقعه بشر:
6. (وقال لهم موسى هل أبقيتم كل أنثى حية؟؟) العدد (31/15).
7. وأمرهم بقتل كل النساء وكل الذكور من الأطفال أيضاً، (فالآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال، وكل امرأة عرفت رجلاً بمضاجعة ذكر اقتلوها) العدد (31/17).(1/163)
و كأن موسى - عليه السلام - في نظر التوراة أكثر دموية من يعقوب وولديه وأكثر عنفا من قواده الذين أرتكبوا مجزرة مدين.
ولا تظن أن هذا ضربا من الجنون أو الهوس الدَّموي، إنها نصوص التوراة التي يتعبد بها اليهود ربهم. هذه الدموية، وهذه الوحشية تصل إلى أبعد من هذا؛ إذ تجدها في التوراة منسوبة للذات الإلهية، وإذا كان الأمر كذلك! فأي غضاضة يشعر بها الإسرائيليون وهم يرتكبون ما يرتكبون الآن في فلسطين ولبنان؟!
هذه النصوص ينسبونها إلى الله – تعالى الله عما يقولون علوا كبيراً-:
( كل من وجد يطعن بالسيف، وتحطم أطفالهم أمام عيونهم وتنهب بيوتهم وتفضح نساؤهم) أشعيا (13/15-16).
ويتابع الرب: (فأقوم عليهم؛ يقول رب الجنود، وأقطع من بابل اسماً وبقية ونسلاً وذرية يقول الرب) أشعيا (14/22).
نظرة اليهود للبلاد المجاورة
و تقرأ في النصوص التَّوراتيَّة جذور الغدر الإسرائيلي تحمل مشاعر الكراهية تجاه جميع البلاد التي آوتهم وعاشوا في ظلها وأكلوا من خيراتها، وهي نصوص تدعو للغثيان..
اقرأ كيف ينظرون إلى دمشق وعمان و القدس الشريف و فلسطين كلها ولبنان كله:
يقول أشعيا : (وحيٌّ من جهة دمشق. هو ذا دمشق تزال من بين المدن وتكون رجمة ردم) أشعيا (17/1).
(مد يده على البحر أرعد ممالك. أمر الرب عن جهة كنعان أن تخرب حصونها) أشعيا (23/11).
ويشاركه نبي آخر فيقول: (بسبب اليوم الآتي لهلاك كل الفلسطينيين لينقرض من صور وصيدا كل بقية تعين، لأن الرب يهلك الفلسطينيين بقية جزيرة كفتور) ارميا (47/4).
وعن بلدة مؤآب يقول (على كل سطوح موآب وفي شوارعها كلها نوح لأني قد حطمت موآب كإناء لا مسرة به يقول الرب) ارميا (48/28).
وعن عمان يقول: (لذلك ها أيام تأتي يقول الرب واسمع في ربة بني عمون جلبة حرب وتصير تلاً خرباً وتحرق بناتها بالنار فيرث إسرائيل الذين ورثوه يقول الرب) ارميا (49/2).(1/164)
و ... (عن دمشق. خزيت حماه وأرفاد قد ذابوا لأنهم قد سمعوا خبراً رديئاً، في البحر لا يستطيع الهدوء. ارتخت دمشق والتعنت للهرب...) ارميا (49/23-24).
وأما حزقيل فيوجه غارته على سكان القدس الشريف: (وقال لأولئك في سمعي اعبروا في المدينة وراءه واضربوا. لا تشفق أعينكم ولا تعفوا. الشيخ والشاب والعذراء والطفل والنساء اقتلوا للهلاك) حزفيال (9/5-6).
ويقول (لذلك هكذا قال السيد الرب وأمد يدي على أدوم وأقطع منها الإنسان والحيوان وأصيرها خراباً من التيمن وإلى "وإن يسقطون بالسيف") حزفيال (25/13).
و.... (فلذلك هكذا قال السيد الرب. ها أنذا أمد يدي على الفلسطينيين وأستأصل الكريتيين وأهلك بقية ساحل البحر) حزقيال (25/16).
وعشرات النصوص التي تشعل قلوب اليهود بالكراهية والدموية والإرهاب.
الدعم الأمريكى و المحافظون الجدد
إن كثيرين من المثقفين والساسة العرب يكتفون باعتبار الصراع العربي الإسرائيلي صراعا سياسيا لا علاقة له بالدين، كما هو الحال عند القرضاوي ومنهجه الذي سماه بغير اسمه، وهذه النظرة مردها إلى الجهل بالعدو، جهلا فاضحا.
إن روؤس الإدارة الإسرائيلية – والأمريكية إلى حد بعيد – تحركها الموروثات التوراتية العنصرية.
إن رئيس الوزراء الإسرائيلى إيهود أولمرت يردد فى لقاءات عديدة أنه شديد الإعجاب بيشوع النبي، وأنه يتخذه مثلا أعلى، والتوراة تصور يشوع على أنه من أسس تقاليد العسكرية الإسرائيلية المقدسة والتي تراعى حتى يومنا هذا. ويشوع النبى الذى يقول: (وكان لما انتهى إسرائيل من قتل جميع سكان عاي في الحقل في البرية حيث لحقوهم وسقطوا جميعا بحد السيف حتى فنوا، أن جميع إسرائيل رجع إلي عاي وضربوها بحد السيف) يشوع (10).
و يقول أيضا (جميع سكان الجبل من لبنان إلي مسرخوت هايم جميع الصيدونيين أنا أطردهم من أمام بني إسرائيل، إنما أقسمها بالقرعة لإسرائيل ملكا كما أمرتك).(1/165)
ويتابع: (وهؤلاء هم ملوك الأرض الذين ضربهم يشوع وبنو إسرائيل في عبر الأردن غربا من بعل جاد في بقعة لبنان إلي الجبل الأقرع الصاعد إلي سعير وأعطاها يشوع لأسباط إسرائيل ميراثا حسب فرقهم).
وإن الرئيس بوش لم يكتم معتقداته التَّوراتيَّة حين صرح مرارا أن حربه ضد العراق هي (حرب الرب) أو (الحرب المقدسة) و اختار لأهم معاركها تعبيرا توراتيا فسماها (الصدمة والرعب).
هناك ولا شك مصالح استراتيجية بين أمريكا وإسرائيل! ولكن حدود الدعم المطلق لإسرائيل لا يفسرها إلا معتقدات المحافظين الجدد في الولايات المتحدة والتي تصور لهم أن نصرة إسرائيل هي التزام ديني، وأن الله سيعاملهم بحسب نصرتهم لإسرائيل..
يقول القس الشهير جيري فالويل صاحب النفوذ (لا أعتقد أنَّ في وسع أمريكا أن تدير ظهرها لشعب إسرائيل وتبقي في عالم الوجود.. والرب يتعامل مع الشعوب بقدر ما تتعامل هذه الشعوب مع اليهودي). و هذا اللوبي يجتهد في إقناع الأمريكيين أنهم مسئولون عن حماية إسرائيل حتى تحقق الوعد الإلهي في إقامة إسرائيل الكبرى.
إن نصوص التوراة المحرفة الموجودة الآن بين يدي اليهود لها ركائز تحكم الفكر الإسرائيلي وهى:
• اسرائيل شعب الله المختار، وباقى الشعوب خلقت لخدمته ولتحقيق رغبة الله فيه.
• الشعوب المجاورة لإسرائيل يجب إبادتها ولا يجوز وصفها بأنها بريئة، والنصوص في هذا أكثر من أن تحصى، خذ مثلا النص التوراتى: (فالآن اذهب واضرب عماليق وحرموا كل ماله ولا تعف عنهم بل اقتل رجلاً وامرأة طفلاً ورضيعاً، بقراً وغنماً. جملاً وحماراً) سفر صموئيل الأول (15/3/4).
هل تلاحظون الأمر بقتل الرضع؟
وخذ هذا النص الصريح: (وإن لم تطردوا سكان الأرض من أمامكم يكون الذين تستبقون منهم أشواكاً في أعينكم ومناخيس في جوانبكم ويضايقونكم على الأرض التي أنتم ساكنون فيها) سفر العدد (33/55(1/166)
• لا صلح ولا سلام مع الشعوب المجاورة لشعب الله المختار. (احترز أن تقطع عهداً من سكان الأرض التي أنت آت إليها. لئلا يصيروا فخاً في وسطك) سفر الخروج (34/12).
وفى سفر اشعيا (لا سلام.. مع الأشرار.. يقول الرب).
وأي صلح تضطر له إسرائيل فهو خطوة تكتيكية فقط مناقضة لدينهم و معتقدهم.
• العنف والدموية والوحشية حلال على اليهود، بل وترضى الرب. (أعاقب المسكونة على شرها والمنافقين على إثمهم وأبطل تعاظم المستكبرين وأضع تجبر العتاة) أشعيا (13/10)
...(كل من وجد يطعن بالسيف، وتحطم أطفالهم أمام عيونهم وتنهب بيوتهم وتفضح نساؤهم) أشعيا (13/15-16).
• النظرة الدُّونِيَّة للآخر مهما كانت صفاته وأخلاقه وتاريخه. (ويكون الملوك حاضنيك وسيداتهم مرضعاتك، بالوجه إلى الأرض يسجدون لك ويلحسون غبار رجليك) أشعيا (49/23).
..... (ويقف الأجانب ويرعون غنمكم ويكون بنوا الغريب حراثيكم وكراميكم، أما أنتم فتدعون كهنة الرب تسمون خدام إلهنا، تأكلون ثروة الأمم وعلى مجدهم تتأمرون) أشعيا (61/5-6).
يا من تبحثون عن جذور المشكلة في الصراع (العربى) الإسرائيلي! هذه هي جذور الأزمة.
دين محرف متناقض لا فائدة فيه ولا عقل(1/167)
قلت: لو عُرِض دين اليهود والنصارى المُحَرَّف على العاقلين لامتنعوا عنه؛ لكثرة الخرافات والتناقضات التي في كتبهم وفي نسخهم؛ فأخبارهم غير موثوقة، وتفسيراتهم غير مأمونة، وعقائدهم مضطربةٌ تزيدها التأويلاتُ اضطراباً، واختلافاتٌ فيما بينهم في الأصول والفروع يستحيل معها الجمع بين الأقوال، فلو كانت التوراة والإنجيل الموجودة حالياً صحيحة وخالية من التحريف؛ لما تعددت واختلفت النسخ فيما بينها، بل تجد محتوى الاختلاف في النسخة الواحدة غزيراً لا مجال في الإحاطة به، هذا في التوراة والإنجيل الحاليين، فكيف إذا استطعنا جمع النسخ التي قضت وفُقدت على مر العصور! لا شك أننا سوف نرى الذي رأيناه في التوراة والأناجيل الحالية المحرفة من إزالة وإضافة وتقديم وتأخير وتبديل وتحريف؛ كل مؤلف على حسب هواه وما يهواه، وعلى حساب أحقاد ومصالح شخصية، { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون } البقرة.. انظر "فضيحة التوراة" ص52-54 عن الأسفار المفقودة
حتى أن كبار علماء اليهود والنصارى ومؤرخيهم يشهدون بالتحريف الذي في كتبهم!
(ففي "الانسيكلوبيديا" الفرنسية بتحقيق ميل، تذكر أن واقع التحريف في التوراة الحالية هو 30000، وفي "الموسوعة الأمريكية" بتحقيق كريسباخ 150000، وفي "الانسيكلوبيديا" البريطانية بتحقيق شولز ألف ألف أي مليون تحريف!!وذلك في المجلد التاسع عشر.) "إظهار الحق" 1/284 لرحمة الله بن خليل الرحمن الهندي ألفه في 1280 هـ بتحقيق الدسوقي في سنة 1384 هـ فضيحة التوراة 66(1/168)
(أما التحريف فيتهم كل من اليهود والنصارى بعضهم البعض فيه، كلٌ حرف كتابه، وأسهم في تحريف كتاب الآخر، تبعاً لأهوائهم ومصالحهم الخاصة وإساءة مقصودة، لا سيِّما لطمس معالم بشارة عيسى وبشارة محمد عليهما السلام في التوراة، وطمساً لبشارة محمد - صلى الله عليه وسلم - في الإنجيل، الذي بدَّلوه ثلاثاً أو أربع مرات أو أزْيَد.) المرجع السابق 1/285
( وتذكر "دائرة المعارف الأمريكية" أنه لم تصلنا أية نسخة بخط المؤلف الأصلي للتوراة، أما النصوص التي بين أيدينا، فقد نقلتها إلينا أجيال عديدة من الكتَّاب والنُّسَّاخ، ولدينا شواهد وافية تبين أن الكَتَبة قد غيروا، بقصد أو بدون قصد منهم في الوثائق والأسفار، التي كان عملهم الرئيس هو كتابتها ونقلها.) "إسرائيل حرفت الأناجيل والأسفار" ص76 لأحمد عبد الوهاب ط. 1972م
(أما "دائرة المعارف البريطانية" فتقول في حق أسفار التوراة: (لقد أصبح من الواضح أن هذه الأسفار لا تحتوي كل الحقيقة، وأن ليس كل ما تحتويه هذه الأسفار حق.).) المصدر السابق 87(1/169)
حتى أن التلمود؛ مع أنه كُتِب قبل بعثة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - بعقود من السنين، غير أن الزِّيادات عليه استمرت بعد ظهور الإسلام بقرون؛ لكونه عايش الإسلام، والإسلام قد ألغى دين اليهود المحرف، لهذا ترى في التلمود الحالي الطعن في الإسلام وفي نبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم - وفي المسلمين، وقد فضحهم من أسلم منهم ودخل دين الإسلام؛ منهم (السموأل بن يحي المغربي)، فذكر في كتابه "بذل المجهود في إفحام اليهود" ص52: (وأما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشرَّف وكرَّم وعظَّم، فله بينهم إسمان فقط، فعليهم لعنة الله والملائكة الناس أجمعين. أحدهما: (فاسور)، وتفسيره (الساقط)، الثاني: (موشكاع)، وتأويله (المجنون). وأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - سفاك، يقتل الناس ليجبرهم على اعتناق دينه والخضوع لحكمه، وهو زير نساء!... وأما القرآن فيسمونه (قالون) وهو اسم السوأة بلسانهم، ويعنون بذلك أنه عورة المسلمين وسوأتهم، وأما لإسلام فهو دين كذب وافتراء على الله بزعمهم، أتى به محمد الكذاب على الله من نفسه – حاشاه - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق - ) اهـ أنظر فضيحة التلمود 61، 63
قال الشيخ عابد موفق الهاشمي: ( وهذا هو مكتوب في كتب العلوم الاجتماعية اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية المسيحية، الخاضعة للتضليل اليهودي الصليبي.) اهـ ص61
ومع ذلك كله! فهم جعلوها مناراً يسيرون على ضوئه خلال أحقاب طويلة، فهم يضعون كل التصورات - وإن كانت محرفة - انطلاقاً في بذل الوسع من أجل الوصول إلى أهدافهم التسلطية على العالم..(1/170)
فنحن أولى بالتدين منهم، فلزم منا أن نفهم الروح المقصودة من التدين الحقيقي، الذي متى فهمناه؛ قُدْنا العالم بالعدل في جميع قضاياه، وتعاملنا مع الواقع من صميمه، وربطه بأسبابه، مع مراعاة أحداثه وأحكامه المترتبة عليه والمرافقة له، فنحن أهل دين صحيح، معصوم مأمون، لا اختلاف فيه، ولا نزاع، فلو كان من عند غير الله، لكان مثل دين اليهود والنصارى، وإن زعموا أنه من عند الله..
خرافات اليهود
أما من ناحية الخرافات التي في كتبهم؛ فإنها سخرية واضحة وأضحوكة عريضة، لو عُرِضت على الأطفال والمجانين؛ لم يصدقوها، ففيها الخرافات في ذات الله جل وعز وتقدس عنها، والخرافات في حق الأنبياء التي يرفضها صاحب كل إدراك وعقل، وخرافات في حق آدم وحواء وذرياتهما يرتابها أهل الفطن والفهوم العالية، وخرافات أخرى في الاتحاد والحلول والشَّعبذة التنجيم والسحر يرفضها حتى السحرة والمنجِّمون، بحيث جعلوا حياة الإنسان تخضع للتنجيم، فالذكاء والثراء بسببها!
فقالوا في التلمود: (إن تأثير النجوم يجعل الرجل ذكياً، وتأثيرها يجعله ثرياً، وبنو إسرائيل تحت تأثير النجوم.) "فضيحة التلمود" 104
وقالوا في التلمود أيضاً: (إن كسوف الشمس آية سوء للشعوب، وخسوف القمر آية سوء لبني إسرائيل، لأن إسرائيل تعتمد على بقائها على القمر، وشعوب الأرض تعتمد على الشمس.) المرجع السابق
ولكنهم تناقضوا وأنكروا ذلك؛ فقالوا: (لا تتعلم طريق الوثنيين، ولا تفزعك آيات السماء، لأن الوثنيين أفزعتهم آياتها.) سفر أرميا 10/2
حتى قالوا عن أنفسهم معترفين في توراتهم:
(شعب غبي غير حكيم.)، (جيل ملتو الرب تكافئون بهذا يا شعباً غبياً غير حكيم) سفر التثنية 32/6، 7(1/171)
أما عن السحر والشعوذة والأرواح؛ فيعتقدون أن العفاريت والجن من ذرية آدم، وأنهم يعلمون الغيب، وأن لهم حيل كثيرة، ويعتقدون أن الرواح تحلق على الجثة ثلاثة أيام، تنوي الرجوع إليها، وعندما ترى أن الوجه قد تغير؛ تتركها وتذهب بعيداً.. انظر "التلمود تاريخه وتعاليمه" لظفر الإسلام خان و"التلمود" للدكتور جوزيف باركلي 28-29
وهذه العقيدة قد تسربت لكثير من المسلمين في هذا الزمان؛ بحيث يعتقدون أن الروح تحوم حول الجثة، أو حول المكان التي ماتت فيه، أو حول أهل الميت ثلاثة أيام، فيصنعون العزاء ثلاثة أيام في بيت الميت، و عند أهله، ويقطعون العزاء بحفل يأكلون فيه ويشربون.. فإنا لله وإنا إليه راجعون..
أما عن أساطيرهم في خلقهم للمخلوقات، وأساطيرهم في الأفاعي والضفادع والإوز والطيور والأسماك؛ فهي لا نهاية لها في كتبهم المقدسة، حتى جعلوا قدرتهم كقدره الله – تعالى الله عما يقولون ويفترون علواً كبيراً- وقد تقدم الكثير من سرد بعض ما هم عليه من الخرافات والتناقضات والهذيانات، وفي أقدس كتب لديهم؛ التوراة والتلمود..
فصل: المبتدعة شاكلوا اليهود والنصارى في التحريف والتبديل
ونحن إذا نظرنا إلى ما فعله اليهود والنصارى؛ رأينا أن كل من ابتدع في دين الإسلام وأدخل فيه الدخيل؛ قد شاكل ووافق اليهود والنصارى في أسلوب ضياع دينهم الذي أُنزل على أنبيائهم!!
وذلك بمعارضتهم لنصوص الوحيين الشريفين تبعاً لمصالحهم التي توافق منهجيتهم، وهذا أولاً..
ثانياً: إخراج نصوص الوحيين الشريفين عن مدلولاتهما على حسب ما يوافق طرقهم وانتماءاتهم التي يرجعون إليها.(1/172)
ثالثاً: نتيجة ظهور أهل السنة بالردود عليهم؛ قاموا بإخفاء النصوص الشريفة، بحجة أنها لا توافق قدر عقول الناس، فهي نصوص – عندهم – على غير ظاهرها؛ فأخفوها لئلا يكون لأحد آخر من خارج حزبهم أو طريقتهم هيمنة عليهم وعلى بدعهم، ونحن في هذا الزمان أكثر ما نعانيه هو في هذا الجانب الذي ما يزال مستمراً، وخاصة بعد انتشار القنوات الفضائية الفضائحية الخزعبلاتية.
رابعاً: نفخ كبراؤهم بكير البدع، وتَوْهِيم الناس أن في البدع ما هو حسن؛ مجاراة لظروف الناس وأحوالهم، واستحباب جمع الناس تحت سقف واحد ولو بالعُجَر والبُجَر..
{ تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى } الحشر فالآية وإن نزلت في اليهود؛ فهي تقع في كل من شاكَلَهُم، ((ومن تشبه بقوم فهو منهم)) فتأمل!
خامساً: إستغلال هؤلاء الكبراء ظلام الجهل والأمية الدينية عند عوام المسلمين، وهذا الذي فسح المجال لهم في العبث بالنصوص الشريفة، وهذا هو نفس الاستغلال عند علماء اليهود والنصارى الكَذَبَة الأكَّالين للسحت.. وهذا في:
سادساً: إخفاء المبتدعة لكتب أهل السنة والجماعة؛ المعروفة بالاهتمام بنقل النصوص وإنقاذها من تحريف الغاليين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.. فهم – أي المبتدعة – مقابل هذا الإخفاء؛ يقومون – وبحرص شديد غالٍ – بنشر كتب الضلال والظلام؛ المليئة بالوثنيات، والمكدَّسة بالهوى الطاغي، والمقتبسة من كتب أهل الكتاب وغيرهم من الوثنيين التي يتصور كاتبوها أنه لا تصل إلى الله صرخات العباد واستغاثاتهم إلا بوسطاء، وهذا هو عين الذي ينتقص ذات الله جل وعلا الأحد الصمد الذي له كل الصفات الكمالية والنعوت الجلالية والجمالية..(1/173)
سابعاً: فإن كان للمبتدعة نُقولاً من كتب أهل السنة؛ فهم ينقلون نصوصها مبتورة، أو محرفة، أو مُؤَوَّلة، أو مزيفة، أو على غير المراد؛ لعلمهم أن الأَتْبَاعَ لن يرجعوا إلى إحالاتهم.. وهذا ما فعله اليهود والنصارى لما حرفوا وبدلوا وزيفوا ولفَّقوا في كتبهم..
ثامناً: إستغلال المبتدعة لكتب أهل السنة؛ فأخذوا بشرحها على غير مراد مؤلفيها، فخلطوا بين الحواشي والمتون، وهذا يسبب ضياعها، وهو نفس السبب الذي أضاع به اليهود والنصارى دينهم، وقد تقدم الكلام عن الحواشي الأزهرية في القسم الأول من المجلد الأول ص250، فراجعها..
تاسعاً: عداوة المبتدعة لأهل السنة – لغلوهم لبدعهم – وما نقموا منهم إلا أنهم ردُّوا عليهم ليسلكوا بهم طريق الهدى المستقيم، فاليهود عادوا النصارى، وقاتلوا عيسى - عليه السلام - وعادوه بأشد العداء، وكفروا به وكادوا له، وقذفوا أمه البتول بقبيح الأقوال، وسعوا إلى قتله عند الحاكم الروماني آنذاك بيلاطس، ولم يفلحوا؛ كل ذلك؛ لأن عيسى جاء بعد موسى، والنصارى واليهود عادوا المسلمين كما بينا في أعلاه الحروب الدامية التي راح فيها الملايين من المسلمين؛ كل ذلك؛ لأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - جاء بعد موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، مع أن في التوراة والإنجيل بشارات بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهذا العداء من المبتدعة لأهل السنة يشبه عداء اليهود والنصارى لدين الإسلام، وهو دين جاء ببشاراته كتبهم المقدَّسة..وهذا في:
عاشراً: عنصريتهم لمنهجهم وطرقهم وانتماءاتهم، فهم لا يقبلون إلا من انتسب إلى بدعتهم، وإن كان الغير مقبول من خير الناس، ويقبلون كل من انتسب إليهم وإلى بدعهم، وإن كان المقبول من شر الناس، وهذه العنصرية الاستعلائية هي منهج اليهود الذين اعتبروا أنفسهم الشعب المختار، وأن غيرهم لا يليق به أن يدخل مجالسهم وتجمعاتهم.. كما ذكرنا قبل قليل أنهم لا يقبلون إلا من كان ينحدر من أم يهودية..(1/174)
الحادي عشر: حُكَّام بعض الدول الإسلامية قد أعانوا وما زالوا يعاونون المبتدعة على ضلالهم، بإقامة الأضرحة الوثنية، وإقامة المحافل الصوفية وغيرها.. وهذا يشبه ويُشاكِل أحبار اليهود الذين تعاونوا مع مجامعهم الكافرة الفاجرة التي تلقوا منها دينهم؛ فنشر المبتدعة دينهم المبتدع بهذا الطريق الذي الإسلام منه براء براءة الشمس من اللمس..
الثاني عشر: السكوت عن الأخطاء وإن وردت من أهل السنة بغير قصد – فكل بني آدم خطاء، والعصمة لا تكون إلا للأنبياء – فقد يخطئ العالم في النقل؛ فينتقل بصره إلى مكان غير المكان المراد، أو تسقط منه كلمة أو عبارة أو سطر أو حتى صفحة وصفحات، أو غلط في فهم لفظ؛ فَكَتَبَ ما فهمه، أو يدخل حاشية في متن من غير قصد؛ سهواً منه أو ذهول، أو أملى عليه غيره فوقع الخطأ.. ونحو ذلك... فالسكوت بعد العلم حرام، والتصحيح واجب، وبيان الحق بعد علمه فرض، وإلاَّ يكون هذا مشاركة في ضياع الدين..
الثالث عشر: ترك الردود بحجة أنها تقسي القلوب؛ حجة يهودية، فالردود توضح دين الإسلام الحق، وتحذر من الدخيل فيه، وتوضح ما جاء به الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - من الدَّلالات البَيِّنَة والمقاصد الصحيحة والهدى النافع للقلوب، وترك الردود هو إخفاء حقيقة الدين وما جاء به من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة والهدى النافع للقلوب..
ولما قلت أن ترك الردود حجة يهودية؛ لأن اليهود كتموا الحق؛ الذي هو صفة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فلعنهم الله على صنيعهم ذلك، فقال تعالى: { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البيِّنات والهُدى من بعد ما بيَّناه للناس في الكتاب أولئك يَلْعَنُهُم اللهُ ويلعنهم اللاعنون إلاَّ الذين تابوا وأصْلحوا وبَيَّنُوا فأولئك أَتوبُ عليهم وأنا التَّواب الرحيم }(1/175)
فيجب علينا أن لا نكتم ما جاء به نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ولو كان المردود عليه من أهل السنة، فكيف إذا كان المردود عليه من أهل البدع والضلال؟!
{ إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا.. } البقرة فالتوبة يشاركها الإصلاح والبيان، لا السكوت والكتمان، فالرجوع إلى الحق فضيلة، والفضيلة هي الرجوع عن الخطأ الذي قد قارفه، والإصلاح بعد ما جره الخطأ من الدمار، مع تبيين مكمن الخطأ ومكانه..
وهذا الكلام ليس فيه إحباط! بل فيه بشارة لكل من حاد عن الصراط ثم تاب من قريب..
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: (وفي هذا دلالة على أن الداعية إلى كفر أو بدعة إذا تاب إلى الله؛ تاب الله عليه..) اهـ
فالمبتدعة على مر العصور تنكبوا طريق أهل السنة والجماعة بغير عذر؛ فأهل السنة متوافرون وبين أظهرهم، فلا حجة لهم بأن رسالة الله لم تصل إليهم، فهم مقصرون في البحث عن الحق بدليله، ومعاندون في الدخول إلى السبيل بعد بيانه..
الرد على شبهة ونقضها مع نفضها
رب قائل يقول: إن قول القرضاوي في فتاويه المعاصرة: (أن أهل الكتاب مسلمون بالحضارة والثقافة، وإن كانوا مسيحيين بالعقيدة والطقوس) له وجهة نظر صحيحة فيها؛ فهم رُوَّاد الاكتشافات العالمية الحديثة..
فأقول زيادة على ما تقدم من نقض هذه الكلمة القرضاويَّة وردها: أنه لا أحدَ من الناس ينكر ما قام به الكفار من أهل الكتاب وغيرهم من الوثنيين من اكتشافات بعض القوانين العلمية الهامة في مجال العلوم التَّطبيقية، من اختراعات وتطورات في مجال الحياة في الكرة الأرضية..
ولكن! هل كانت هذه المعرفة الدنيوية أوصلتهم إلى معرفة الله، أو إلى ما يرضي الله؟؟
أم هي مُتَّسِمَة بمادية فعاليَّة معتمدة على المادة المحسوسة، والتجربة والمشاهدة؛ لم تتصف بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله؟!(1/176)
( فأي شيء عرف من لم يعرف الله ورسله؟! وأي حقيقة أدرك من فاتته هذه الحقيقة؟! وأي علم أو عمل حصل لمن فاته العلم بالله، والعمل بمرضاته، ومعرفة الطريق الموصل إليه، ومآله بعد الوصول إليه؟!) "هداية الحيارى"363
ثم إن كل العلوم التطبيقية التي اكتشفها وطورها الإنسان إنما هي من هداية الله تعالى؛ فهو الذي أوصلهم إلى كل الاكتشافات والمخترعات؛ فالله هو الذي خلقها لخلقه تعالى لأعمالهم، كما قال الله سبحانه وتعالى:
{ والله خلقكم وما تعملون } الصافات وقال تعالى: { والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق مالا تعلمون } النحل
فالله خلق العباد، وخلق أفاعالَهم التي لم تكن لحظة واحد بمعزل عن إرادة الله التي أعانهم على تحقيق أهدافهم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((إن الله يصنعُ كلَّ صانعٍ وصَنْعَتَه)) أخرجه البخاري في "خلق أفعال العباد" والحاكم 1/31 وقال صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا
ومن أفعالهم أن خلق مالا يعلمون بعد خلق الله تعالى الخيل والبغال والحمير، فهم يرونها في زمانهم وفي وقت تنْزيل القرآن، ولكنهم لم يروا ما لا يعلمون من خلق الله بعد الخيل والبغال والحمير، فخلق أفعال العباد من سيارات وطائرات وصناعات إلى يوم القيامة، أمَّا خَلْق ذوات الأرواح؛ فَمِنْ خَلْقِ الله الخاص، وقد انتهى هذا النوع بخلق آدم - عليه السلام -، فكان الإنسان آخر ما خلق الله تعالى.. والله أعلم..
فلو اجتمع الخلق جميعاً على أن يخلقوا ذباباً لن يقدوا ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً..
ثم نقول: إن معرفة الكفار للمكتشفات الظاهرية بالكون وقوانينه، وتطوراتهم بها وتعاليهم على الناس بها؛ ليست في حد ذاتها معرفة كاملة توصل إلى مرضاة الله تعالى، بل هي معرفة مبتورة طالما انعزلت عن الدين.. قال تعالى: { يعلمون ظاهراً من الحياةِ الدُّنيا وَهُمْ عن الآخرة هُمْ غَافِلُون } الروم(1/177)
فإذا انعزل أي شيء عن الدين؛ فإنه لا بد له من الانعزال بمبادئ باطلة متوهَّمة، وهي الاعتقاد بالنفس وأنها هي التي اكتشفت واخترعت وصنعت من دون توفيقٍ من الله، وهذا ما يُسمى بعبادة المادة والنفس، فيتفكروا بالمصنوع، وينسوا الصانع لها وهو الله تعالى الذي أودع القوانين والسنن في هذا العالم المخلوق..
فالحضارات التي عند الكفار لا تجمع بين الروح والمادة، وإنما هي حضارة تعبد المادة المصنوعة، وتنسى صانعها؛ فهم ليس لهم علم إلاَّ بالدنيا ومظاهرها وعمرانها وأوجه التكسب فيها، فيستخدمون أفكارهم وذكاءهم في تحصيلها وعمرانها وإلى ما يرغبون به من تحقيق أهدافهم الدنيوية، ولكنهم غافلون في أمور الدين وما ينفعهم في الدار الآخرة، فلم يتفكروا في الحكمة من خلق أنفسهم، ومن خلق الكون العظيم الذي يدل على عظيم قدرة الله وجلاله وقدْره، فهم في هذا الباب جُهَّال غافلون لا تفكير ولا تشغيل للعقول فيه، كما قال الله تعالى بعد هذه الآية:
{ أَوَلَمْ يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماواتِ والأرضَ وما بينهما إلا بالحق وأجلٍ مسمًّى وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم كافرون }
وهذا تنبيه من الله للذين لا يعلمون إلاّ ظاهراً من الحياة الدنيا على التفكير في مخلوقاته الدالة على وجوده سبحانه، وأنه هو المنفرد بخلقها وبخلق أفعالها..
وقد ذم الله من كان حاله كحال الذين لا يعلمون إلا الدنيا وزخرفها، وهم لا يعلمون ما الدار الآخرة وما أعد الله فيها من نعيم مقيم، ومن عذاب دائم أليم، فقال في أعظم التنزيل:
{ فلمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّروا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الذين ظَلَمُواْ والحَمْدُ لله ربِّ العَالَمِيْن } الأنعام
فما الذي نسوه حتى يُقْطَع دابرهم؟! وما الذي فُتح عليهم أبوابه؟!(1/178)
إنَّ الذي نسوه هو ما أُرْسِل به الرسل إليهم؛ كما قال الله تعالى في الآيات التي قبلها: { ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك.. } لعلّ الأمم تدعوا الله وتضرع وتخشع إليه، وتتمسك بدين الله الذي أرسل به رسله، ولكنهم مرقوا وما خشعوا، وأعرضوا وعاندوا وعصوا، ونسوا ما ذُكِّروا به، وجعلوه وراءهم ظهرياً.. ففتح الله لهم أبواب كل شيء من الرزق والاكتشافات العلمية.. وقل ما شئت من كل ما يختارون.. ففتحها عليهم إملاءً لهم واستدراجاً؛ { حتى إذا فرحوا بما أوتوا } من هذا الفتوحات الدنيوية والمخترعات العلمية؛ { أخذناهم بغتة } أي على غفلة { فإذا هم مبلسون } آيسون من كل خير قد استدرجوه، لهذا قال الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - (( إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب؛ فإنما هو استدراج)) ثم تلا: { فلما نسوا ما ذُكِّروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون } حسنه الألباني في المشكاة 5201 وقال رواه أحمد بسند جيد
فما كان هذا الإياس إلا بسبب تعطيلهم عقولهم بالتحجير عليها، وجهلهم بخالِقِهم، وتمرّدهم على طاعته، وتعمدهم على اتباع الباطل، وتركهم الحق الواضح، فاختاروا الزيغ والضلال، والكفر والاضمحلال، فجازاهم الله بجنس أعمالهم؛ فختم على قلوبهم وعلى سمعهم، وأعمى أبصارهم.. { ولقد ذَرَأْنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوبٌ لا يفقهون بها ولهم أعينٌ لا يبصرون بها وله آذن لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضلّ أولئك هم الغافلون } الأعراف
ومع ذلك فهم سوف يشهدون على أنفسهم يوم القامة { وقالوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيْر فاعترفوا بذنبهم فَسُحْقاً لأَصْحابِ السَّعِير } الملك
نعم! سحقاً لأصحاب السَّعير! سحقاً لمن أعرض عن التزام ما فيه سعادة وفلاح، وأقبل إلى ما فيه غباوة وجهل وعدم فطانة...(1/179)
وسحقاً لمن اتبع أسلافه في الجهل المطبق، والغباوة الفاضحة؛ بأن اتخذوا من دون الله آلهة يعبدونهم ويدعونهم من دون الله أو مع الله..
وسحقاً لهم بتجاوزهم كل الحدود وهم قد شاهدوا أدلة عظمة الله جل جلاله في المخترعات والاكتشافات التي لم يرها – أولاً- في هذا العصر سواهم!
وسحقاً لهم! كيف عرفوا كثيراً من الحقائق الكونية، وشاهدوا الكثير من الآيات والعجائب الباهرات؛ ولم يعرفوا خالقها وموجدها حق المعرفة، ولم يعرفوا حقيقة أسمائه وصفاته ونعوته ودينه، فجعلوا لهم آلهة من المخلوقات المحتاجة لخالقها وموجدها.. فلا عرفوا الخالق، ولا عرفوا حقيقة المخلوقات.. ومن لم يعرف هذا؛ لم يعرف شيئاً.. ومن لم يعرف ذلك؛ فهو أجدر أن لا يعرف حقيقة شيء كما ينبغي البتة.. فلا لأنفسهم عرفوا، ولا لخالقهم نزَّهوا..
{ فَسُحْقاً لأصْحابِ السَّعير } الذين رأوا آيات الله وقدرته وعظيم سلطانه في مخترعاتهم؛ فنسبوها لغير الله، وقالوا: هذا من صنع عُزير، أو من صنع المسيح، أو من صنع الطبيعة، أو من تدبير القطب الفلاني، أو من تعليم الصوفي الرباني أو.. أو.. الخ
وسحقاً لهم! كيف هم بمخترعاتهم دمروا أنفسهم بحروبهم التي استخدموا فيها مخترعاتهم؛ من قنابل ذرية ونووية، مادونها من المدمرات التي في آخرها سوف يكون الخراب في الدنيا قبل الآخرة!!
فحسبك من جهالتهم أنهم لم يرفعوا بعلومهم الدنيوية رأس الأمر ولا عموده ولا ذروة سنامه، ولكنهم رفعوا بها أنفسهم مغترِّين بها، وظنوا أنهم قادرون على هذه الدنيا بمصالحهم ومعاشهم وسعادتهم دون توجيهات دينٍ، أو توجيهات شريعة، وهذا في غاية الجهل والغباوة التي تزخرفت الدنيا في أنفسهم وفي عقولهم وقلوبهم وازينت بأشكالها المختلفة؛ فظنوا أنهم قادرون عليها من دون الله تبارك وتعالى(1/180)
{ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وازَّيَنَتْ وظَن أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعْلْنَاهَا حَصِيْداً كَأَن لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لَقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } يونس
فالمعتبرون هم المؤمنون حقاً؛ الذين يعلمون أن الدنيا هي دار الآفات والنقائص والنَّكَبات، وهي مهما ازَّيَّنَتْ وتزخرفت وبلغ العلم فيها إلى ما لا حدود له؛ فإنها لا شك زائلة وكأنها بعد زوالها لم تَغْنَ ولم تنعمْ حيناً قبل زوالها، وهكذا كل الأمور الدنيوية بعد زوالها؛ كأنها لم تكن!
فَمِنْ طَبْعِ الدنيا أنها تَتَفَلَّت عن ساكنيها، وتزول عن أهلها، وتهرب من طالبها، وتطلب هاربها، على العكس من الآخرة تماماً، فهي دار الخلود، ودار السلام من كل الآفات والنقائص والنكبات للمؤمنين..
ودار الخلود أيضاً للأشقياء الذين تعتريهم الذلة والصغار بمخالفتهم للأنبياء الأخيار، فهي دار لا مانع ولا واق يمنعهم أو يقيهم من عذاب الله، جزاءً وفاقاً على نقضهم المواثيق، وقسوة قلوبهم، وغلافة عقولهم، وتكذيبهم وتبديلهم لدين أنبيائهم، وعدائهم لهم، ورميهم بالعظائم – التي لا يقبلونها لأنفسهم – وتحريفهم الكلم عن مواضعه، ويشارك هذا شدة تكالبهم على الدنيا وحرصهم عليها والتحاسد فيها.. وأضعاف ذلك من الجهل وفساد العقل...
السد الذي بيننا وبينهم سقط أو كاد
وهنا نقولها صريحة بعد تصريح القرضاوي لبعض قوانين تياره المسمى وسطي فأظهر اتجاهه نحو الكفار وغيرهم؛ فأدخل على المسلمين هذه الفكرة بشرورها وشروشها ومساوئها فجأةً!(1/181)
نعم! لقد فاجأنا بمنهجه وفكره المسمى بالوسطي فصدمنا فجأةً وبجرأةٍ، فَمِنَّا من أغمض عنه عينيه، وأغلق عنه بابه وتجاهل عن فساده، فلما قاموا بهذا الإغماض والتجاهل؛ لبثوا يعيشوا كما نراه من العامة في هذا الزمان من التعود على ما هم عليه من العيش في الطيش، وفَقْدِ الحس، وفقد التمييز بين الخير والشر، الذي جاء مع التيار القرضاوي الوسطي.. الذي سار الناس فيه مراحل قد يصعب الرجوع عنها..
ومِنَّا من أُعجب بهذا التيار واستجاب له، وقبله بِعِلاَّته وبِعُجراته وبُجراته وجرأته، فأخذ يدعو الناس إليه بكل ما يحتويه من المخالفات والمجازفات التي تَنَكَّرت لأصول الدين؛ بحجة أنه تيار يطوِّر في الدين، والتطور – بلا شك – هو سنة الحياة، وإن لم نأخذ هذا التطور سوف نوقف قافلة الحياة، فمن أعرض عن التيار القرضاوي سوف يوقف القافلة، ومن أوقف القافلة هلك!
وهذه هي عين العبادة للحضارة الغربية التي طغت على الكثير بأفكارها ومبادئها، وبعاداتها وسلوكها، وبنتائجها ومستحدثاتها، حتى قال القرضاوي عن أهلها: مسلمون بالحضارة والثقافة، وإن كانوا مسيحيين بالعقيدة والطقوس... فصار المسكين وكأنه أقرب إلى أهلها، وأكثر محبة لهم من أهل السنة الذي كان ينبغي عليه أن يكون واحداً منهم، يقول الذي يقولونه بما يرضي الله – ولو لم يرضِ جميع الناس – ويقف وقفة مراجعة وموازنة وتقرير؛ تُرجعه إلى سواء السبيل، وإلى الصواب الذي سوف يعرفه بعد المراجعات والموازنات والتقريرات، وسوف يعرف بعدها أن المنهج الذي سماه بغير اسمه فيه سفه للنفس، وظلم للعقل، وتجني على الحقيقة، وتنكر للواقع.. وسوف نرى كيف حمل القرضاوي حملاته الشنيعة على أهل السنة(1/182)
ولكن! مِنَّا نَفَرٌ من العلماء وطلبة العلم رفضوا تيار القرضاوي، وبيَّنوا بالتَّثبت والبصيرة أنَّ هذا التيار قارض للدين، ومُدْخِلٌ فيه الدخيل بالتَّخْييل، فنقضوا هذا التيار الجديد ونفضوه، ودلُّوا الناس على أحسن طريق، وأقوم منهاج، الذي من تركه ضل وهلك، ألا وهو الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة؛ خالص القلب والقالب والعقل والتصور والشعور، بل خالص التكوين من أي مؤثر آخر غيره، فلا يستطيع أحد الصمود إلا له، ولا الحكم إلا به، ولا التَّحاكم إلاَّ عليه..
وهنا أقول: إن السد الذي بيننا وبين الكفار قد يسقط وينهار بواسطة شعارات مبطَّنة مخالفة للإسلام، وقد تدخل علينا من كل جهة إذا لم نعرف مكمن الشر والخطر، وخاصة إذا كانت هذه الشعارات مغطاة بغطاء العلم وتُنْشر بواسطة وسائل الإعلام التي نجحت في أشواط كثيرة في زلزلة الإسلام الصافي في نفوس كثير من الناس، وشوهت صورته في الأعين باسم الإسلام..(1/183)
وعلى هذا؛ ينبغي على كل داعية أن يردَّ الانحراف؛ لِيَقِي الناس من أن يجرفهم هذا التيار، فالهجوم بهذا التيار في هذه الأيام عنيف، وقد يأتي في كثير من الأحيان خفياً، ويأتي أحياناً ظاهراً، ويُخطط له من قِبَل عقول شريرة، وتؤيده جماعات كبيرة، وتنفق عليه جهات بأموال كثيرة، ويحمل كل هذا ويروجه الإعلام الحقير الميسور الفاجر الخاسر باختلاف وسائله دوافعه ومشاربه ومقاصده؛ فمنها الملحد الذي يحارب الإسلام عن طريق مهاجمة القرآن السنة ويثير حوله الشكوك بسرد المتشابه الذي لا يستطيع فك مقاصده إلا أهل العلم – لا العامة من الناس- ومنها المنحرف الذي ينكر السنة ويتطاول على الصحابة الوزراء، وأمهات المؤمنين العفيفات الشريفات، فينقلون النقول عن أشياخهم بغير إسناد، وما يعترفون بدين إلا بهذا الاعتماد، وهم لا يعرفون فيها الحق من الباطل، ولا الحالي من العاطل، وقنواتهم في الفضائيات الفاضحات كثيرة منثورة، وبلاويهم فيها منشورة، وفضائحهم فيها للعاقلين معلومة..
ومنها – أي القنوات – الدجالون الذين يهاجمون السنة بأهوائهم ومصالحهم وعقلياتهم وأفكارهم في إثبات الأحاديث ونفيها..
ومنها القنوات المغفَّلة التي لُبِّس عليها الأمر؛ فاندفعوا يرددون ما سمعوا واستحسنوا من دعاة الغفلة وأعداء السنة دون علمٍ ووعيٍ ولا معرفة..
ومنها من يبث لبعض المنتسبين إلى العلم الذين انطلقوا يسيرون في اتجاهات هدامة دون معرفة ولا يقين؛ فكانوا أسوأ من جميع المنحرفين، فأرادوا أن يقرِّبوا بين كل المذاهب المخالفة للقرآن والسنة، حتى توسعوا فأرادوا أن يقربوا بن الإسلام والديانات الأخرى المحرفة بحجة أنها ديانات سماوية، وتغافلوا أنها محرفة ومزيفة شيطانية..(1/184)
ولكن! لا ضير.. فالمنهج الرباني ما زال علماً شامخاً حل بين هؤلاء الحاقدين وغيرهم من الموتورين وما يريدون، فالعاملون للإسلام لا يزالون في ساحة المعركة ولله الحمد؛ يقولون الحق وبه يعدلون، ويعاملون بالعدل وبه يوزنون، ويفكون الشبهات التي هي الأخطر بالنتاج، ويحذرون من الشهوات التي هي الأخطر للرغبات، يبتغون بذلك مرضاة الله، لا يخشون في الله لومة لائم، ولا طعنة طاعن، فبنوا دعوتهم على أساس متين من العلم، لا على العاطفة والتيارات والحركات الحمقاء التي جعلت دعامتها الاضطراب في الدعوة، والمواجهة للخصوم بغير فكر محدد أو واضح المعالم؛ مما أدى إلى تحصين أعداء الإسلام بإلقاء الشبهات في أمة الإسلام..
فأنا أدعو الدعاة إلى الله من هنا، من منبر القلم – المطبوع العام الشامل والدائم الباقي النافع بإذن الله – أن يقيموا سداً منيعاً في وجه التيار القرضاوي الوسطي المدمِّر المهلك للعباد، وأن لا يجعلوا على هذا السد أي باب أو منفذ يُفتح ويُغلق، فلو فُتح بابٌ للسد أو منفذ؛ فإنه بلا شك سوف يسقي بفساده قلوباً مغلَّفة، وينبت أجساماً كأنها خُشبٌ مسنَّدة، فلا يقولن أحد أننا في منجاة منه، أو يقولون نأوي إلى جبل يعصمنا من سيل تياره، فالفتن عمياء، والنفوس صماء، والعدو يدخل فينا من كل ثغرة، فإذا جُعل للسد باب أو منْفذ؛ فإنه بلا شك سوف يبدأ بِقَرْعِ الباب، ويهم بعدها بالدخول، وكل شيء بعدها يزول، وسوف تكون بعدها الهزيمة ساحقة، والمهزوم منا غير قادر على الخوض في معركة أخرى جديدة..
فوالله لقد نال منا هذا التيار نيلاً كالنِّيل، ورشقاً كالنَّبْل، ولم ينج منا إلا من عصمه الله، فالإصابات في الأمة على درجات متفاوتات، فمنَّا من استعلنت فيه ظاهراً، ومِنَّا ظاهراً وباطناً، ومِنَّا باقٍ على غفلة وإن لم تعم فيه الإصابة ولم تشمل، فوالله لقد اختلطت الأمور على الكثير وغلبت عليهم – شئنا أم أبينا – والله المستعان..
منهج متطرف(1/185)
فهذه أمتان يريد القرضاوي تقريبهما إلى الإسلام بمنهجه المتطرف؛ فاليهود أمة غضبِيَّة أهل كذب، وبهت، وغدر، ومكر، وحِيَل، وسحر، وقاتلة للأنبياء، وآكلة للسحت، وبعيدة عن الحق وعن الرحمة والشفقة، فهي قريبة للنقمة والمقت وضيق الصدر، ديدنها العداوة والبغضاء والشحناء بأخبث طويَّة، وأردى سجيَّة، أمة قبيحة، قبحها الله، فهم بيت الإلحاد والفساد، والتطاول الخطير على الله – تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً-
والنصارى المثلثة الضلاليَّة، عُبَّاد الصُّلبان، الذين سبوا الله مسبة ما سبها إياها أحد من البشر، فهم القائلين بمقولةٍ تكاد السموات يتفطرن منها، وتنشق الأرض، وتخر منها الجبال هداً، فيقولون أن الله ثالث ثلاثة، وأن مريم صاحبته، وأن المسيح ابنه، وأن ربهم قد نزل من كرسي عظمته والتحم ببطن الصاحبة، وجرى له ما جرى إلى أن قُتل على خشبة الصليب، وانسكب دمه لأجل أمته، فهم يصورون الصور ويدعونها من دون الله؛ فيقولون: يا والدة ابن الإله! أو: يا والدة الإله! ارزقينا وارحمينا، وهم يشربون الخمور، ويأكلون الخنزير، ويتركون الختان، ويستبيحون كل خبيث، ويتخذون رهبانهم وأحباهم أرباباً من دون الله، فالحلال ما حلَّلَه القس، والحرام ما حرمه، والدين ما شرَّعه، وهو الذي يوزع صكوك الغفران، وينجيهم من النيران..(1/186)
هؤلاء الذين يريد القرضاوي تقريب دينهم الوثني الشيطاني إلى الإسلام، والإسلام من تطرفه براء، فالله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفُواً أحد؛ قد تعالى وتقدَّس عن كل مبطلٍ كذاب، فالإسلام هو الإسلام الذي رضيه الله تعالى لجميع الأنبياء، ولن يقبل ديناً سواه، دينٌ يدعوا إلى الحكمة والموعظة الحسنة، ويتضمن الأمر بالعدل والإحسان، والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي والبهت والغدر والمكر والحِيَل وقتل الأنبياء وأكل السحت من رباً ورِشاً، وهو دين أبعد ما يكون من النقمة والمعاداة والبغضاء والشحناء بين أهله ومجتمعه، دين لم تمسه أيدي المحرفين والمبطلين والمتأولين، دين ظاهر الدلالة، حسن الشرعة، واضح الحجة، وبَيِّن البرهان إلى جميع العالمين، باختلاف الألسن والألوان والأوطان...
فهل بالله عليكم يجوز لأحد كائناً من كان أن يُجْرِيَ صَرِيفَ قلمه، وواسع فمه، وطول لهاته، وارتفاع منبره؛ ليذيب شخصية الإسلام، ويخلطه في أديان محرفة مبدَّلة متناقضة ممسوخة منسوخة، بدعوى فلسفية النَّزعة، سياسيَّة المنشأة، إلحاديَّة الغايَة؟!
وهل يجوز له أن يصهر الأمة الإسلامية وأديان المغضوب عليهم والضالين، فيضعها كلها في قالب واحد، يُحاك به ثوب جديد لأخذ ثأر المغضوب عليهم والضالين من المسلمين: عقيدة، ومُلْكاً، فينزع أوثق عرى الإسلام من جذوره، فلا ولاء، ولا براء، ولا معاداة في الله، ولا بغض في الله، ولا حب في الله، ولا تقسيم إلى مسلم وكافر، ولا تعبُّدات إلى حق وباطل؟!
ماذا نقول؟! هل سيبلغ بنا الحال أن نبني كنيسة ومعبد يقام فيها عبادة الأوثان بجوار مسجد يُعبد فيه الله وحده لا شريك له، فندمجها في محل واحد، يشوش به المغضوب عليهم والضالين على المسلمين دينهم الحق بسيل الشبهات والشهوات، وشحنهم بالبلبلة على قواعد الإسلام؟! وقد حصل هذا والله المستعان
وهل يجوز لنا إقرار مسجد بحاله هذه؛ قد دُمج بجانبه كنيسة ومعبد؟!(1/187)
وهل هذا إلا مضارة للإسلام، وبناء مساجد تشابه مسجد ضرارَ، بل وأشد ضِراراً بالإيمان من مساجد المنافقين في أول الزمان الذين قال عنهم الله في مُحكم التنْزيل: { والذين اتَّخذوا مسجداً ضِرَاراً وَكُفْراً وتفريقاً بَيْنَ الُمؤْمِنينَ وإِرْصاداً لمنْ حَارَبَ اللهَ ورَسُولَهُ مِنْ قَبْل وَلَيَحْلِفُنَّ إنْ أَرَدْنا إِلاَّ الحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُم لَكَاذِبُون لا تَقُمْ فيه أبداً لمسجدٌ أُسسَ على التَّقْوى مِنْ أوَّلِ يوْمٍ أَحَقّ أَنْ تَقُومَ فِيه فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّون أنْ يَتَطهَّروا واللهُ يُحِبُّ المُطَّهرين أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على تَقْوى مِنَ الله وَرِضْوانٍ خَيْر أَمْ مَنْ أسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفا جُرْفٍ هَار فَانْهارَ بِهِ في نَارِ جَهَنَّم والله لا يَهْدي القَومَ الظَّالِمين لا يَزَالُ بُنْيانهم الذي بَنَوْا رِيبَة في قُلوبِهم إلاَّ أَنْ تَقَطَّع قُلوبهم والله عَليم حَكِيْم } التوبة
وهل يجوز لنا أن نطبع القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه مع التوراة والإنجيل الدائر بين التحريف والنسخ، لنحل الرابط الإسلامي، ونربط المسلم المتميز بالأخوة اللعينة؛ أخوة اليهود والنصارى، فنقول المقولة القرضاوية الجائرة: هو إخاء بشري عام، أو هم مسلمون بالحضارة والثقافة؟! تقدم نقض كلام القرضاوي في هذا في أعلاه
هل سنصيغ لهذه الدعوة الجائرة الخاسرة الدعايات، ونعقد لها المؤتمرات، ونقيم لها الندوات، ونعمل لها المخططات، وننفذ فيها الضغوط؛ حتى تصير دعوة نشطة، فتنتشر وتشتهر، فيُكَفُّ عن تكفير اليهود، والنصارى وغيرهم ممن كفرهم الله ورسوله إن لم يؤمنوا بالإسلام، ونعترض على أحكام الإسلام على كل من لم يؤمن برسالة محمد الإمام - صلى الله عليه وسلم - حتى يصل بنا أن ننكر مسمى الجزية، ونعترض عليه؟! تقدم نقض كلام القرضاوي في هذا(1/188)
وهل سيستجيب لهذه الدعوة الفاجرة دعاة التنصير؛ فيوقفوا استنفاراتهم، ويضيقوا دوائرهم، ويوقفوا صَرْفِيَّاتَهم؟!
أم هي دعوة تولى كبرها دعاة متطرفين من المسلمين، ونزلت بساحتهم دون غيرهم، فبثُّوا لها النظريات، ورسموا لها الغايات، ونصبوا لها الشعارات، ومهَّدوا لها السبل لتسليكها بين المسلمين، ونشرها في ديارهم؟!
فما جوابكم أيها القراء الكرام، وما جواب طلبة العلم والعلماء في هذا المقام؛ الذي غايته كف المسلمين عن ذروة سنام الإسلام: الجهاد في سبيل الله، ووأده واغتياله بدعوى أنه إرهاب، يجب التنفير منه؟!
فالسؤال وارد، والجواب واجب، فالأمر قائم على قدم وساق، وتبصير المسلمين بأمر دينهم، وكشف الحقائق عما يحل بهم؛ أمر محتوم على كل من آتاه الله بصيرة، فوجب عليه حراسة الشريعة، ورد كل مكيدة على دين الإسلام، وحتى يبقى الإسلام ظاهراً على الدين كله، وليس هو على قدم التساوي بين الأديان الممسوخة المنسوخة، بل هو عزة للمسلمين، وصَغَار على الكافرين، يرفع المسلمون هذا العز بقاعدة الإسلام المنيعة المتينة الأصيلة: (الولاء والبراء) و(الحب في الله، والبغض في الله)، فتفصل كل كافر، وتبغضه، وتعاديه، ولا تواليه، ولا تولِّيه، وحتى يبقى جوهر الإسلام مستعلياً، متميزاً، مُحكماً، حاكماً...
فعلى جميع من آمن بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولاً؛ الكفر بنظرية وحدة كل دين محرف ممزق ممسوخ منسوخ مع دين الإسلام الحق المحكم المحفوظ من تحريف الغالين، انتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، الناسخ لما قبل، وهذا الاعتقاد من البَدَهِيَّات والمُسَلَّمَات في الإسلام..
وعلى الجميع! أن يعلموا أن نظرية الوحدة هذه؛ نظرية نفاق ومشاقة وشقاق، وعمل على إخراج المسلمين من حظيرة الإسلام، والتبرؤ من دين سيد الأنام عليه من الله أتم الصلاة والسلام..
الأمر ليس جديداً(1/189)
نعم! هذه القضية ليست جديدة، فهي نظرية يهودية ونصرانية في آن واحد، هي حيلة خبيثة، ومكيدة قديمة، وتدبير عدائي مرت بحقب زمانية تاريخية بعيدة، وهي محاولة دائبة لرد المسلمين إلى الكفر، فقال الله تعالى عن هذه المكيدة: { ودَّ كثيرٌ من أهل الكتاب لَوْ يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين له الحق } البقرة وقال سبحانه وتعالى:
{ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم عن كنتم صادقين } البقرة
وقال جل وعز: { وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهدوا } البقرة
فهذه كانت مرحلة في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم تنجح هذه المرحلة؛ لبصيرةٍ في دين من كان يقرأها، ولكن كانت مرحلة أخرى صنعت الأعاجيب في جُهَّال الأمة، فادعت أن الملل: اليهودية والنصرانية والإسلام هي بمنزلة المذاهب الفقهية عند المسلمين، فلكل منها طريق يوصِّل إلى الله. الفتاوى لابن تيمية 4/203
فدعاة التقريب بين الأديان في هذا الزمان يثيرون الشبه في هذه القضية، ويتبعون متشابه القول، ويُبَتِّرون في النصوص، ويتأولون في الأحكام؛ ليستدرجوا الناس، ويتصيدون الجُهَّال..
ومع الأسف! هم الذين لهم الألقاب الضخمة، والأسماء المُلَمَّعة المُعْلَنَة..
فدعاة التقريب المعاصرين لا شك أنهم أخذوها من قوم قبلهم قد انتسبوا إلى السلام، وهم دعاة وحدة الوجود، ووحدة الشهود، والاتحاد، والحلول، من ملاحدة المتصوفة في مصر، الشام، وأرض فارس، وأقاليم العجم، ومن غلاة الرافضة، وهي مواريثهم عن التتر، وغيرهم، حتى بلغ الحال أن بعضَ هؤلاء الملاحدة يجيزون التَّهود والتنصر؛ كابن سبعين ت: سنة669هـ، وابن هود ت: سنة669هـ، والتلمساني ت:690هـ، والحلاج المقتول على الردَّة سنة309هـ، وابن عربي ت:638هـ وقد تقدم ذكر الأخير منهم في القسم الأول من المجلد الأول، وهو القدوة للقائلين بوحدة الوجود..(1/190)
حتى أن منهم من كان يدخل مع النصارى في بيعهم، ويصلي معهم إلى المشرق، ويشربون معهم ومع اليهود الخمر، ويميلون إلى دين النصارى أكثر من دين المسلمين لما فيه من إباحة المحظورات، ولأنهم أقرب إلى الإتحاد والحلول.. انظر فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله 14/164 وما بعدها
وقد قُمعت هذه الدعوة الكفرية بمواجهة علماء الإسلام لها، وهي الآن ترفع رأسها مظهرة لسوأتها من جديد - بعد خمود حيناً من الدهر- بدعاة جدد، يلبسون العمائم، ويدعون أنهم من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبدؤوا بنشر تعاليم الصوفية، والدفاع عن رموزها المتقدمة الذكر بجهود جبارة، يقودها منظمة الماسونية اليهودية المسيطرة على العالم، فَتَبَنَّتْ فكرة وحدة الأديان الثلاثة، ونبذ التعصب بجامع الإيمان بالله، بدعوى أنهم يؤمنون ويعبدون الله بالطريقة التي هم مقتنعين بها، وقد تولى كبر هذه القضية جمال الدين الأفغاني ت: سنة1314هـ ، وتلميذه محمد عبده ت: سنة1323هـ، وشاركهم ميرزا محمد باقر الإيراني الذي تنصر ثم عاد إلى الإسلام، فألف هؤلاء ومعهم عدد من رجال الفكر في بيروت جمعية باسم (جمعية التأليف والتقريب) في التقريب بين الأديان الثلاثة، وقد دخل معهم في هذه الجمعية الخبيثة – الشبيهة بالمجامع النصرانية التي تلقى النصارى أصول دينهم المحرف المبدل- بعض الإيرانيين، وبعض الإنجليز، واليهود..حتى صارت مراسلات بين الدعاة إلى هذا من المسلمين وغيرهم من الكافرين تحت (ظل النظام العالمي الجديد) والتوحيد بين الموسَوِيَّة، والعِيسَوِيَّة، والمحمَّدية، كلها باسم: (الدعوة إلى التقريب بين الأديان)، (التقارب بين الأديان)، ثم باسم: (نبذ التعصب الديني)، وباسم: (الصداقة الإسلامية المسيحية)، وباسم: التضامن الإسلامي المسيحي ضد الشيوعية) ثم: (الإخاء الديني)، وفُتح له مركزاً بمصر بهذا الاسم الأخير، وفي سيناء: (مجمع الأديان) ومريم نور التي ظهرت في القنوات(1/191)
الفضائحية؛ تُعتبر صورة لهذه الجمعية الخبيثة
ثم أُخرجت للناس تحت عدة شعارات: (وحدة الأديان)، (توحيد الأديان)، (توحيد الأديان الثلاثة)، (الإبراهيمية)، (الملة الإبراهيمية)، (الوحدة الإبراهيمية)، (وحدة الدين الإلهي)، (المؤمنون)، (المؤمنون متحدون)، (الناس متحدون)، (الديانة العالمية)، (التعايش بين الأديان)، و(العالمية وتوحيد الأديان).
ثم لحقها شعار آخر، وهو: (وحدة الكتب السماوية)، ثم امتد أثر هذا الشعار إلى فكرة طبع: (القرآن الكريم، والتوراة، والإنجيل) في غلاف واحد. كل هذه الحقائق تدور في رحى نسف الإسلام وأهله.. انظر"الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان" للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد حفظه الله ووفقه
نعم هذا الذي حصل، فلا تستغرب أول إمامة قام بها البابا، بحيث أقام الصلاة المشتركة بممثلي الأديان الثلاثة، بقرية (أسيس) في إيطاليا، بتاريخ: 27/10/1986م، ثم تكررت الصلاة مرة أخرى باسم (صلاة روح القدس) وفي اليابان وعلى قمة جبل كيتو أقيمت نفس الصلاة المشتركة، والتي حضرها ممثلي بعض المؤسسات الإسلامية المرموقة.. المرجع السابق
فلا تستغرب بعد سماعك للقرضاوي في القنوات الفضائحية وهو يترحم على البابا لما مات، باعتباره القائد الروحي للأديان جميعاً، وأنه حامل رسالة السلام العالمي للبشرية، ورمز الإخاء الديني والسلام العالمي، والتي اتخذوا يوم صلاته بهم عيداً لكل الأديان، وهو يوم 27/10، أما يوم رأس السنة؛ فهو يوم التآخي! يرددون فيه نشيدهم: (الإله الواحد ربٌّ، وأبٌ)!(1/192)
وبعد التاريخ المظلم بثلاثة أشهر، أي في أول عام 1987م عقد (المؤتمر الإبراهيمي) في قرطبة، بمشاركة أعداد من اليهود النصارى، ومن المنتسبين للإسلام من القاديانيين والإسماعيليين، وكان انعقاده باسم (مؤتمر الحوار الدولي للوحدة الإبراهيمية) وافتتح لهذا الغرض معهد باسم (معهد قرطبة لوحدة الأديان في أوربا) أو (المركز الثقافي الإسلامي)، أو (مركز قرطبة للأبحاث الإسلامية).المرجع السابق
وهكذا توالت تأسيسات الجماعات التي تدعو إلى هذا الخلط الذي ركَّز على إذابة الفوارق بين الإسلام، واليهودية، والنصرانية، وتجريد الإسلام من شخصيته المتفوقة، وهويته المتميزة، وهيمنته على الكتب كلها، باسم: (وحدة الأديان)، و(المؤمنون متحدون)، و(نادي الشباب المتدين) والتي أسست بشكل سريع، وفي سنة واحدة من التاريخ المظلم، حتى كان منها مؤتمر شرم الشيخ بمصر في شوال عام 1416هـ الذي جمع لفيفاً من المسلمين، واليهود والنصارى والشيوعيين، وفيه أعلن إصدار كتاب يجمع بين دفتيه: القرآن الكريم، والتوراة، والإنجيل، وفي عام 1417هـ عُقد مؤتمر (الإسلام والحوار الحضاري بين الأديان) الذي يدعوا إلى الدراسات المقارنة بين الأديان الثلاثة، وتبادل الحضارات والثقافات، وبناء حضارة إنسانية موحدة؛ فيها المسجد والكنيسة والمعبد في محل واحد، في رحاب الجامعات وفي المطارات، كل ذلك لتذويب وحدة الدين الإسلامي وتميزه، وتسمين الشبه التي ما تستلمها إلا القلوب الضعيفة، والتي هي أكثر المجتمع..
أما رأس مال جماعة (المؤمنون متحدون) فهو يعود إلى الصليب الأحمر، ومؤسسات الصدقات الكَنَسِيَّة، وتعتبر الصليب الأحمر هو: رمز الإحسان، وداروين هو: رمز التطور، وكارل ماركس هو: رمز المساواة، ورمز السلام العالمي للبشرية، والإخاء الديني هو: البابا الذي ترحم عليه القرضاوي هداه الله..(1/193)
أما راياتهم؛ فعليها الشعارات الآتية: شعار الأمم المتحدة، وشعار قوس قزح، ورقم 7 رمز النصر، وهذا الرمز الأخير هو رمز السفينة التي اكتشفت القارة الأمريكية، وحملت رسالة النصرانية إلى هذه القارة، أما قوس قزح؛ فهو الرمز اليهودي الذي يدعي فيه اليهود أن الله جعله ليذكِّره بأن لا يعود إلى إهلاك أهل الأرض مرة أخرى كما وقع مع قوم نوح، فهو علامة ميثاق بين الله وبين أهل الأرض، فقوس قزح عند اليهود: أنه إذا رآه الله، تذكر! حتى لا يتورط مرة أخرى في طوفان آخر."الإصحاح التاسع من سفر التكوين".. وقد تقدم الكلام في هذا في فصل
قبح الله اليهود وما أكبر فريتهم على الله، وما أكبر كذبهم على العزيز الجبار.. قاتلهم الله أنى يؤفكون.
فلا تستغرب من دعاة التقريب بتجويز تهنئة المسلمين للكافرين في أفراحهم ومناسباتهم الدينية، وتتبع خطواتهم، وتقليدهم، وتطبيع العلاقات معهم.. انظر "فتاوى معاصرة" للقرضاوي2/617
ولا تستغرب من القرضاوي وهو يقول: (إننا لم نحاربهم من أجل عقيدتهم اليهودية، ولا عنصريتهم السامية.) "مجلة البيان"124
هكذا يعتقد، وما يريد الناس منا: أن لا ننتقد! فالحرب بيننا وبينهم من أجل الأرض، فإذا خرجوا منها، فهم إخواننا، وحاجز النُّفْرَةِ بيننا وبينهم مكسور، فهو مسلمون بالحضارة والثقافة، وإن كانوا يختلفون معنا في العقيدة والطقوس..(1/194)
ونحن لن ننسى، أو نتناسى عقيدة الفرق الباطنية – التي أُسِّسَت من قِبَلِ الاستعمار الروسي، والإنجليزي، واليهودية العالمية؛ لهدم الإسلام – المنسوبة إلى الإسلام ظُلماً وجوراً؛ من بابِيَّة، وبهائِيَّة، وقاديانيَّة، - المحكوم بكفرها جميعاً بإجماع المسلمين، وبقرارات شرعية دولية- أنها من دعاة نظرية الخلط، فيقول مؤسس الفرقة البهائية: البهاء حسين ابن الميرزا الهالك سنة 1309هـ: (يجب على الجميع ترك التعصبات، وأن يتبادلوا زيارة الجوامع والكنائس مع بعضهم البعض؛ لأن اسم الله في جميع هذه المعابد ما دام الكل يجتمعون بعبادة الله، فلا خلاف بين الجميع، فليس منهم أحد يعبد الشيطان، فيحق للمسلمين أن يذهبوا إلى كنائس النصارى، وصوامع اليهود، بالعكس؛ يذهب هؤلاء إلى المساجد الإسلامية) كتاب "أهمية الجهاد في الإسلام" للشيخ علي العلياني ص508-509، ولا تنسَ أيها القارئ ما تبثه مريم نور في ترسيخ هذه القعيدة الباطنية
وهذه هي نفس الدعوة التي سماها القرضاوي وسطية والتي ارْتَدَتْ مُسُوحَ الحوار بين الكفرة والشخصيات المتميعة من المسلمين، هذه الشخصيات المُتَسَنِّمَة للفُتْيا والمُتَسَمِّنَة بها – وليسوا من أهلها، فلا بصيرة عندهم، ولا علم، ولا استقامة- هم الذين جلبوا الذَّل والصغار والعار للمسلمين، بدعوة إخوان الشياطين المأجورين من الفرق الخارجة عن الإسلام، وعلى المسلمين..
قال الله تعالى عن أشباههم: { وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الكذب وهم يعلمون } آل عمران(1/195)
لا يشك مسلم فاهم لدينه أن دعوة التقارب هذه توجد رِدَّة شاملة عند المسلمين عن الإسلام، بل وتوجبها، فهي أكبر مكيدة عُرفت لمواجهة الإسلام والمسلمين من داخل صفه، ومن بني جلدته، وبمن يتكلم بلسانه، فهي دعوة تصادم الشريعة، وتصادم بَدَهِيَّات الاعتقاد، وتنقض الإسلام أصلاً وفرعاً، اعتقاداً وعملاً، وتنتهك حرمة الرسل والرِّسالات السماوية، وجميع الشرائع الربانية، بل وتطعن وتبطل رسالة خير البشر محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتكفر بها: خاتمةً، ورسالةً، واستجابةً، بل وتنبذها، وتنفِّر منها، وتنفيها، وترفضها، وتطردها، وتعزلها، وتقضي عليها، وتبطل شرع الله المنزل الحق المؤبد بكل حذافيره، فالأمر جِدٌ، وما هو بالهزل..
فلا يجوز لأحدٍ كائنا من كان أن يقول بها، فضلا من أن يضمرها في نفسه، فهي دعوة تبسط جناح الكفرة من يهود ونصارى وشيوعيين على العالم بأسره، وعلى العالم الإسلامي بخاصة، ثم على الشرق الأوسط بوجه خاص، وعلى الجزيرة العربية بوجه أخص، ونحن في هذا الزمان نرى تكالب أمم الكفر على غزوٍ شامل ضد الإسلام بشتى أنواع النفوذ: فكرياً، وثقافياً، واقتصادياً، وسياسياً، فحروب الخليج الثلاثة لسنا عنها غافلين، فهم الذين خططوا لها، وهم الذين أقاموها، وهم الآن ينفذونها بمرأى جميع الناس، حتى وصلوا إلى يومنا هذا إلى مشارف الجزيرة، وحدودها بالتماس والتمام، بعد مخطط بدأ قبل عقود من الزمان..
أما نحن! فقوم مستعجلون، فلا إسلام يقودنا: { فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا } ، ولا منهج يجمعنا: { يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم } ولا فكر صحيح ينصرنا: { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني } .(1/196)
ومع الأسف! فنحن نرى ونسمع كثيراً من انتسب إلى الدعوة والإسلام يركض وراء هذه النظرية الجائرة، ويحضر مؤتمراتها، ومؤامراتها، ويسابق عليها، وكأنه لم يكن يوماً قد قرأ القرآن، ونظر إلى حقيقة الإسلام، لهذا لا تجده في صف من أعطى الإسلام حقه، ووفَّى بموجب علمه وإيمانه بدينه؛ فنفى عنه تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين، وتحريف الغالين، وصد العاديات عنه، بالنصح والإرشاد...
فوالله الذي لا إله غيره، ولا ربّ سواه؛ لن يدخل الجنة من أهل الكتابَيْنِ، ولا غيرهم من الأديان؛ إلاَّ بالشهادتين، والإيمان بما جاء في رسالة خاتم النَّبِيِّين الخالدة المهيمنة السالمة من الانحراف والتحريف جملة وتفصيلاً، العمل بها، واتباعها في عبادة الله وحده لا شريك له، وتوحيده سبحانه وتعالى بالعبادة، وترك ما سواه من الشرائع المحرفة، والكتب المنسوبة إليها، ومن لم يدخل الإسلام، وجعل بينه وبين الإسلام ونبي الإسلام مشاقة وشقاق؛ فليس هو على ملة إبراهيم المسلم الحنيف عليه الصلاة والسلام، ولا يجوز لنا أن نقول أنه مسلم، أو نصفه أنه مسلم بالثقافة والحضارة، أو نقول أنه على ملة إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، بل هو كافر بها، ومشرك من أهل النار وبئس القرار، نبغضه ونعاديه ولا نحبه ولا نواليه ولا نُوَلِّيه حتى يؤمن بالله وحده رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - رسولاً حقاً وصدقاً، ومن لم يكفِّر الكافر فهو كافر، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي نفسي بيده؛ لا يسمع بي أحد من هذه الأمة؛ يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به؛ إلا كان من أهل النار)) رواه مسلم، وهذا قسم من النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا تتورط بنقضه
هل نحاورهم؟؟(1/197)
نعم! نحاورهم وفق أصول ديننا، والتي نصت عليه آيات الحوار دون تنازل قيد شعرة: { قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سواءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنكُم أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ ولاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتِّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ الله فِإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولوا اشْهَدُوا بأنَّا مُسْلِمُون يا أهْلَ الكِتاب ِلمَ تحاجُّون في إبْراهيمَ وما أُنزلتِ التَّوراةُ والإنجيلُ إلاَّ منْ بَعْدِه أفَلا تعْقِلون هَا أنْتُم هَؤلاء حاجَجْتُمْ فيْما لَكُمْ بِه عِلْم فَلِمَ تحاجُّون فِيْما ليْس لكُم بِه عِلْم والله يَعْلَمُ وأنْتُم لا تعْلمون مَا كان إبراهيمُ يهودياً ولا نصْرانياً ولكِن كان حَنِيفاً مُسْلماً ومَا كانَ مِنَ المُشْركين إنَّ أَوْلى النَّاس بِإبْراهيم لَلَّذِينَ اتَّبَعوه وَهَذا النبيُّ والذين آمنوا واللهُ وَلِيُّ المؤمنين ودَّتْ طائِفَة منْ أهل الكتابِ لَوْ يُضِلُّونَكم ومَا يُضِلُّونَ إلاَّ أنفُسَهم ومَا يَشْعُرون يَا أَهْلَ الكِتاب لِمَ تَكْفرون بآيات الله وَأَنْتُم تَشْهَدون يَا أَهْلَ الكتَاب لِمَ تَلْبِسُون الحَقَ بالباطِل وأنْتُم تعْلمون } آل عمران
وغيرها من الآيات الكثيرات التي تحاور أهل الكتاب على أصول ربَّانِيَّة مُحْكمة، ليس فيها تشابه، أو تنازل، فهل يوافقونا، ويلتقوا معنا وفق هذه الآيات، وغيرها من آيات الحوار، وخاصة في هذه السورة بأكملها، والمائدة معها، وغيرها من السور التي حاورت أهل الكتاب؟!
وهل سوف يوحدون الله تعالى بعد الحوار، وينبذون الشرك به تعالى، ويطيعونه سبحانه وتعالى في الحكم والتشريع، واتباع خاتم الأنبياء والمرسلين - صلى الله عليه وسلم - الذي بشرت به التوراة والإنجيل؟!
{ فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولَّوْا فإنِّمَا هم في شقاق فَسَيَكْفِيْكَهُمُ الله والله سَميعٌ عليم } البقرة(1/198)
{ فمن يُرِدِ الله أنْ يَهْدِيَه يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّه يَجْعَلْ صدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ إلى السَّماء كذلك يَجْعَل اللهُ الرِّجْسَ على الذين لا يؤمِنُون وهَذا صِراطُ ربِّكَ مستقيماً قد فصَّلنا الآياتِ لقومٍ يذَّكَّرون } الأنعام
{ إنَّ الدِّينَ عندَ الله الإسلامُ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلاَّ من بَعْدِ ما جاءَهُمُ العلمُ بغياً بينهم ومن يكفر بآيات الله فإنَّ اللهَ سريعُ الحسابِ فإنْ حاجُّوك فقل أسلمتُ وجهيَ لله ومن اتبعنِ وقلْ للذين أوتوا الكتاب والأميين أَأَسْلَمْتُم فإنْ أسْلَموا فقدِ اهْتَدَوا وإن تولَّوْا فإنما عليكَ البلاغ والله بصير بالعباد } آل عمران
تجرؤ الكفار على دين الإسلام وخاتم الأنبياء
قال الله تعالى: { إنَّ الذين كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهم أَأنْذَرْتَهُم أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُون خَتَمَ اللهُ علىَ قُلوبِهِمْ وِعَلى سَمْعِهمْ وَعَلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيْمٌ } البقرة
هكذا يستكبر الكافرون المعاندون، وتبدوا البغضاء من أفواههم وأقلامهم، وما تخفي صدورهم أكبر، ففي هذه السنين التي نحن فيها يعلن الحاقدون النيل من خليلنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فأرادوا تشويه سيرته، بل وحتى صورته الخَلْقية، والكذب عليه، والتشنيع بدينه العظيم، فقاموا بنشر صور كاريكاتيرية تمثل حقدهم الدفين على دين الإسلام، ونبي الإسلام عليه الصلاة والسلام، وقبلها اتهام الإمبراطور الأمريكي (بوش الثاني) للمسلمين أنهم فاشيين، وبعدهما كلام البابا (بندكتُس السادس)، وقبلهم كلام رئيس الوزراء الإيطالي عن الحضارة الإسلامية، وغيرها الكثير من الحملات التشويهية النصرانية الحاقدة على الإسلام ونبي الإسلام والمسلمين..(1/199)
ولكننا نقول كما قال ربنا تبارك وتعالى: { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُم وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِيْنَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وإنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُور } وقوله: { قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُم أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُوْن }
فهؤلاء لن يفلحوا أبداً، بل ولن يستطيعوا تعكير الشريعة المحمدية بمحاولتهم النيل من خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -، بل سوف تبقى الشريعة حجة على الجميع إلى يوم الدين، وسوف تبقى شوكة في حلوقهم إلى يوم يُبعثون، فالنيل من النبي - صلى الله عليه وسلم - حلم به الحاقدون على مر العصور، حتى في زمن البعثة، ولكن الله تعالى قال: { إنا كفيناك المستهزئين } وقال: { إن شانئك هو الأبتر } وقال: { إن الله يدافع عن الذين آمنوا } وقال: { فسيكفيكهم الله } وقال: { أليس الله بكافٍ عبده }
فهيهات هيهات أن يُنال من النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو كما قيل:
لو رَجَمَ النجْمَ جميعُ الورى لم يصل الرَّجمُ إلى النَّجمِ
نعم! نحن مأمورون بمجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن إلى التي هي أقوم، وهذه المجادلة مستمرة على مر العصور وانقضاء الدهور، ولكن الحاقدين على ديننا ما زالت قلوبهم مليئة بالحقد والغيظ، فنحن نقول لهم كما قال الله: { قل موتوا بغيظكم }
فما ضر نهر الفرات يوماً أن خاضَ بعض الكلاب فيه
قال الكاتب النصراني: (إن ما قابله محمد وأتباعه في كل اتجاه لم يكن إلا خرافات منفِّرة ووثنية منحطة ومخجلة، ومذاهب كنسيَّة مغرورة، وطقوس دينية منحلَّة وصبيانية.) "مدخل إلى القرآن الكريم" ص173 نقلاً عن "المسيحية القديمة" 1/266 لتايلور
فما هو السِّر الحقيقي وراء هذه الحملات التشويهية؟!(1/200)
لا يشك أحد أن السر هو: الانتشار الواسع لدين الإسلام في معاقل النصرانية، وهذا هو الذي أقضَّ مضاجع الرؤساء الدينيين والسياسيين ومن تبعهم من همج الرعاع، مما حدا بعضهم للكلام الصريح، بل والتصريح عن ضرورة التصدي لانتشار دين الإسلام..
لقد انتشر الإسلام في قلب أوربا وأمريكا وآسيا وأفريقيا واستراليا، وصوت الأذان يُرفع في تلك القارات خمس مرات في اليوم والليلة، وتَجَمُّع الأعداد المتناهية لصلاة العيدين مُشَاهَدٌ في جميع بقاع الدنيا، حتى في نيويورك ولندن وباريس وروما ومدريد وطوكيو.. بل وكل يوم يمر؛ وإلاَّ أرضاً جديدة وأتباع جدد لدين الإسلام الحنيف..
ففي أمريكا بلغ عدد المساجد أكثر من ألفي مسجد والحمد لله، ففي نيويورك وحدها أكثر من مائة مسجد، وفي بريطانيا نحو ألف، وفي فرنسا أكثر من ألف وخمسمائة مسجد ولا يتسع للمصلين، وفي ألمانيا فتقدَّر المساجد بأكثر من ألفين ومائتين مسجد ومصلى، وفي بلجيكا فيوجد فيها ثلاثمائة مسجد ومصلى، وفي هولندا أكثر من أربعمائة مسجد، وفي إيطاليا أكثر من مائة وثلاثين مسجداً، وأبرزها مسجد روما الكبير، وفي النمسا حوالي ستة وسبعين مسجداً، أما أوربا الشرقية؛ فالإسلام ينتشر فيها بإقبال شديد، ويزداد يوماً بعد يوم، وأعداد المساجد أيضاً فيها في تزايد مستمر، حتى أننا نرى أن بعضاً من الكنائس تحولت إلى مساجد بعد أن اشتراها المسلمون!(1/201)
أما عن انتشار القرآن في العالم؛ فحدِّث عنه ولا حرج، فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي دبرها الغرب على الإسلام؛ كان لها الأثر الواسع في انتشار القرآن وترجمة معانيه إلى اللغات المختلفة الأجنبية، فأحداث الحادي عشر من ذلك العام ازداد إقبال الناس على التعرف على دين الإسلام بصورة أكبر وغير متوقعة، فصارت نسخ القرآن المترجمة من أكثر الكتب مبيعاً في الأسواق الغربية، فبيعت أكثر من أربعين ألف نسخة من كتاب ترجمة معاني القرآن باللغة الألمانية في ألمانيا وحدها، حتى نفذت من الأسواق، وفي فرنسا أعدوا طباعة ترجمة معاني القرآن في دار "لاروس" للنشر!
فنور الإسلام ينشر في جميع البقاع؛ حباً وإعجاباً لهذا الدين الشمولي الحنيف، فدخل فيه جميع الطبقات من مهندسين وجامعيين ورؤساء شركات ومدرسين وطلاب وعاطلين وممثلين وفنانين ولاعبي الكرة ومصممي أزياء والرقص، فكل هؤلاء؛ سواء كانوا متحفظين أم متدينين، كلهم دخل الدين بدافع البحث عن الدين الصحيح الذي لا يأتيه الباطل ولا القول العاطل، فصاروا وأصبحوا أشخاصاً يشكلون لبنة جديدة في المجتمع الإسلامي الجديد، حتى أن أكثرهم يفضل ممارسة الإسلام النقي الصافي كما أنزله الله على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ، مما أدى إلى انطلاق الصيحات التحذيرية من انتشار هذا الدين بين النصارى وغيرهم من الوثنيين..
وفي عام 2001م نشرت صحيفة (نيويورك تايمز) مقالاً ذكرت فيه أن بعض الخبراء الأمريكيين يقدرون عدد الأمريكيين الذين يعتنقون الإسلام سنوياً نحواً من خمس وعشرين ألف شخص، وأن عدد الذين يدخلون دين الإسلام يومياً تضاعف أربع مرات بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر حسب تقدير أوساط دينية..(1/202)
وفي فرنسا؛ قالت صحيفة "لاكسبرس" تقريراً عن انتشار الإسلام بين الفرنسيين: (على الرغم من كافة الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الفرنسية مؤخراً ضد الحجاب الإسلامي، وضد كل رمز ديني في البلاد، أشارت الأرقام الرسمية الفرنسية إلى أن أعداد الفرنسيين الذين يدخلون الإسلام بلغت عشرات الآلاف مؤخراً، وهو ما يعادل إسلام عشرة أشخاص يومياً من ذوي الأصول الفرنسية، هذا خلاف عدد المسلمين الفعلي من المهاجرين ومن المسلمين القدامى في البلاد.)
وقد أشار التقرير إلى أن أعداد المسلمين في ازدياد من كافة الطبقات والمهن في المجتمع الفرنسي، وكذلك في مختلف المذاهب الفكرية الأديان؛ من علمانيين إلى بوذيين وكاثوليك وغيرهم..
قالت مجلة "التايم" الأمريكية وهي تطلق التحذير من انتشار الإسلام: (وستشرق شمس الإسلام من جديد، ولكنها في هذه المرة تعكس كل حقائق الجغرافيا، فهي لا تشرق من المشرق كالعادة، وإنما ستشرق في هذه المرة من الغرب.)
أما جريدة "الصانداي تلغراف" البريطانية فقالت في نهاية القرن الماضي: (إن انتشار الإسلام مع نهاية هذا القرن ومطلع القرن الجديد؛ ليس له من سبب مباشر إلا أن سكان العالم من غير المسلمين بدؤوا يتطلعون إلى الإسلام، وبدؤوا يقرؤون عن الإسلام، فعرفوا من خلال اطلاعهم أن الإسلام هو الدين الوحيد الأسمى الذي يمكن أن يُتبع، وهو الدين الوحيد القادر على حل كل مشاكل البشرية.)
وفي مجلة (لودينا) الفرنسية قالت بعد دراسة قام بها متخصصون: (إن مستقبل نظام العالم سيكون دينياً، وسيسود النظام الإسلامي على الرغم من ضعفه الحالي؛ لأنه الدين الوحيد الذي يمتلك قوة شمولية هائلة.)
فهذا هو السبب الرئيس في تشدد أمريكا وأوربا ومن تبعهم في أمر هذا الدين الذي ما زال ينتشر في الناس انتشار النار على الهشيم، فلا غرابة حينئذ من تشديد هؤلاء على المساجد ومراقبة أهلها، والتضييق في إعطاء الرخص لبنائها..(1/203)
ونظراً لهذه الشواهد المؤكدة لإقبال الغربيين - بالذات- على الإسلام؛ بدأ الغرب يشدد على التضييق على النشاطات الإسلامية والمراكز والجمعيات الخيرية الإسلامية في كثير من الدول، فصيَّر النصارى الدين الإسلامي ديناً ينافس الأديان الأخرى، لا أنه هو الدين الحق الذي يجب على العالم اعتناقه، فجعلوا ينشرون الشبه التي بها يؤيدون مزاعمهم الباطلة، فهم بشبههم لا يريدون إظهار دينهم، وإنما يريدون إعطاء الناس صورة سيئة للإسلام، ولو بصورة أوضاع أهله السيئة؛ سواء كانت من الذين يزعمون أنهم متدينين؛ وهم الإرهابيين، أو من المتحزبين المتنافرين، أو حتى من الفاسقين والماجنين..
ومع ذلك! فالواقع الذي يعيشه العالم الآن؛ يعرفه كل العالم، والتاريخ القريب؛ يشهد بحوادثه، والإرهاب؛ يُعرف من هو مؤسسه، فالحربين العالميتين اللاعقلانيتين كان القتل فيها من أبناء الجلدة الواحدة من النصارى، والحروب الاستعمارية الغازية المُرتزقة كان القتل من النصارى للمسمين بالملايين، وقسِّيسي الهوتو في إفريقيا ساهموا في المذابح التي حدثت للتوتسي، ومذابح المسلمين في ليبيريا وسيراليون فما قام بها إلا النصارى، وما حدث في البوسنة والهرسك من مذابح واغتصاب للمسلمين على أيدي الصرب المتطرفين الغاشمين بمساندة من النصارى، وغزو أفغانستان والعراق واحتلالهما وقتل أبناءها العزل، وإحداث الفوضى العنيفة فيهما؛ كان من قِبَل النصارى الغازين المُرتزقة الفاشيين اللاعقلانيين، وأسلحة الدمار الشامل الشريرة من قنابل نووية وغيرها الكثير فهي من صنع النصارى أنفسهم، فهل نقول أن القتل والتدمير واحتلال البلدان الأخرى يُنسب إلى دين عيسى وموسى عليهما الصلاة والسلام؛ لكونه جاء في الإنجيل عن عيسى - عليه السلام -: (ما جئت لألقي سلاماً على الأرض..)؟! فيفهمون كتبهم على غير مرادها.. سيأتي قريباً تفصيل ذلك(1/204)
فلهذا كان لزاماً من بَابَا الفاتيكان (بندكتُس السادس عشر) الوثني المختوم على قلبه وعلى سمعة، والمعمي البصيرة التصريح - في حملة التشويه للإسلام ونبي الإسلام في محاضرة له في ألمانيا في هذا العام 1427هـ/ 2006م- بحقده الدفين وبغضه السقيم على الإسلام وأهله، ويدَّعي أن دين الإسلام دين تطرف وعنف وفاشيَّة، ويصفه باللاعقلانية، وأنه ما نُشر في العالم إلا بالسيف، وأن القرآن ما هو إلا تعاليم شريرة، وهو في محاضرته هذه يدعو الناس إلى استدعاء التاريخ لقراءته وفتح ملفاته، وهو يتجاهل تاريخ الدين الإسلامي الحنيف الذي نشر الخير والعدل والأمان في العالم.
أما دين الكنيسة الوثني الملوَّث الظالم المظلم الذي قَتَّل بغير ثمن، مستخدماً أعنف صور التدمير الحضاري، والإبادات الجماعية، واستغلال خيرات الشعوب، والسطو على مقدراتها؛ فالبابا يتجاهله، ولا يريد فتح أو استدعاء التاريخ لقراءته!!
وما الحروب الصليبية والعالمية القديمة والحديثة، ومحاكم التفتيش، وقتل المسلمين من أهل بيت المقدس حتى غاصت الخيل من دمائهم، وإبادة الهنود الحمر باسم الدين، واستعباد الزنوج، والاستعمار المستبد، وقرصنة الكشوفات الجغرافية للعالم الجديد، والشركات السارقة العابرة للقارات؛ إلا من أجل بناء مجدهم الحديث على دماء وأوطان الغير..(1/205)
فتجاهل أبا الفاتيكان الجهول تاريخ الكنيسة في عصر الظلمات؛ وكيف كانت القانون الكنسي يقتِّل العلماء، ويحارب العلم، ويحارب كل من خالف الكنيسة بالسحق بسبب استبدادهم وتمسكهم بوثنيَّاتهم، وبتحريفهم لكتابهم، وكذبهم على نبيهم، وانحطاط تصوراتهم ، بل وتحريف أصولهم الدينية، حتى قال الكاتب النصراني سيل (sale): (إذا قرأنا التأريخ الكنسي بعناية؛ فسنرى أن العالم المسيحي قد تعرَّض منذ القرن الثالث لمسخ صورته، بسبب أطماع رجال الدين والانشقاق بينهم، والخلافات على أتفه المسائل، والمشاجرات التي لا تنتهي، التي كان الانقسام يتزايد بشأنها، وكان المسيحيون في تحفّزهم لإرضاء شهواتهم واستخدام كل أنواع الخبث والحقد والقسوة قد انتهوا تقريباً إلى طرد المسيحية ذاتها من الوجود، بسبب جدالهم المستمر حول طريقة فهمها، وفي هذه العصور المظلمة بالذات ظهرت بل وثبتت أغلب أنواع الخرافات والفساد.) اهـ "مدخل إلى القرآن الكريم" ص136 لمحمد عبد الله دراز نقلاً عن المؤلف سيل "ملاحظات تاريخية ونقدية عن الإسلام" ص68-71
بل وتجاهل هذا الضال المضل بابا الفاتيكان الانحطاط الأخلاقي لرجال الكنيسة الذي لم يُعرف له مثيل عبر التاريخ، وتجاهل الوحشية والدموية المغروسة في نفوس رؤساء وأتباع كنيسته؛ حيث الصراع الباباواتي على كرسي الفاتيكان، فكانت الوحشية بين فرقهم النصرانية في فقئ العيون، وقطع الألسن، والقتل عطشاً، فتجاهل هذا الجهول كل هذه الاستبدادات؛ فنفث سمه بقوله: إن عقيدته منطقية على العكس من عقيدة الإسلام! فكان لزاماً عليه قبل أن يتحدَّث عن الإسلام، ونبي الإسلام؛ أن يُصلح حال كنائسه التي ما زالت تزكم فضائحها أنوف رجال دينهم أنفسهم، فإذا كان بيته من زجاج؛ فلا يرمي الناس بالحجارة.(1/206)
أما حروب الصليبية العالمية ليست عنا ببعيد، فهي الحروب التي ما عرف لها التاريخ مثيلاً في الوحشية والهمجية، حتى أن قواد الجيوش الصليبية لم يكونوا يتخيلون وحشية رؤساء الكنيسة تجاه المسلمين، والتي ما زالت هذه العنصرية المستبدة تنموا وتتسارع داخل أروقة الفاتيكان والبنتاغون..
فهم حاربوا المسلمين، وأخرجوهم من ديارهم في حروبهم الاستعمارية – الاستدمارية- لا لنشر فضيلة، ولا لإحقاق حق، وإنما حباً في سفك الدماء، وتلذذاً بإزهاق أرواح الملايين، وقد تقدم الكلام في هذا في أعلاه في فصل.
ونحن هنا لم ننسَ المطاحنة بين الصليبيين أنفسهم في الحربين العالميتين الأولى والثانية التي أهلكوا فيها الحرث والنسل، فأبادوا الملايين، ومحوا مدناً في أوربا شرقاً وغرباً بأكملها عن وجه الأرض..
فالبابا يحاضر في ألمانيا صاحبة الصليب المعقوف، وصاحبة الوحشية في أوربا، وقاتلة الملايين العزَّل دون رحمة ولا شفقة! ثم يقول بوقاحة وحقد، وبدون حياء أو خجل: أن دين الإسلام نُشر بالسيف واللاعقلانية! فضاق صدره بما يحتويه من سمٍّ في رأسه؛ فلم يستطع نفثه إلا في وجه الإسلام ونبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم -!(1/207)
فنحن هنا بدورنا لا نريد فضح الباباوات! فهم أدنى من أن يُرد عليهم، فقد رد عليهم وذكر حقائقهم من ترجم لهم - من أولهم إلى آخرهم- من كتبهم أنفسهم، وسجله التاريخ عليهم عبر القرون من مصادرهم النصرانية المطبوعة والمنشورة، وهي معروفة متداولة.. انظر "محافل الباباوات" تأليف يالي، و"تاريخ الباباوات" تأليف باور، و"جرائم النصرانية" تأليف فوت وهويلر، و"تاريخ الباباوات" تأليف الفرنسي برايس، و"تاريخ الباباويَّة" تأليف ريدل، و"الباباوات" تأليف ولك، و"ملحوظات على التاريخ الأكليركي" تأليف جوزت، و"كتاب الخوري والمرأة والاعتراف" تأليف الأب شينكوي، وكتاب "رحلتي من الكفر إلى الإيمان" للكاتبة الأمريكية مريم جميلة، وهي سيدة من أصل يهودي اعتنقت الإسلام، وهي خبيرة بالدين اليهودي والنصراني ط.المختار الإسلامي
فهم أهل جرائم ورذائل ومنكرات عظيمة، وأهل انحطاط أخلاقي لم يُعرف له مثيل عبر التاريخ، فكل نقيصة ورذيلة يمكن للعقول تصورها فقد انتهكها الذين زعموا أنهم نوَّاب المسيح، أو كما يعتقد النصارى أنهم نواب الله على هذه الأرض، فالسرقة والاضطهاد والقتل، وتولي المنصب بالقوة المسلحة، والزِّنى والفحش، والزنى بالمحارم، واللواطة، وما يخجل منه القلم؛ كل ذلك قد ارتكبه هؤلاء الباباوات المتعالون بالنصرانية، الذين جلسوا على مركز العصمة وادّعوا الشرعية، ومغفرة الذنوب!
فلا يُظَنّ أن الباباوات الحاليين في روما يختلفون عن الذين من قبلهم، أو أنهم أشرف من باباوات القرون المنصرمة، بل هم على نمط أسلافهم القدماء، لا فرق بينهم سوى أنهم في هذه الأيام يهتمون في إخفاء خلاعتهم خوفاً من العالم الذي أصبح اليوم بين أيدي الجميع - وفي غرفة واحدة، بل وفي جهاز واحد- فهم يخافون على وظائفهم، وتهييج الشعوب عليهم، فهم يخفون مصائبهم وجرائمهم وتهتكاتهم بظواهر الدين قدر ما أمكن..(1/208)
فكما قلت، فنحن لا نريد فضحهم، فهم قد عُرفوا وفُضِحوا من أقرب الناس إليهم، ولكننا هنا نريد أن نثبت لكل الناس أن خليلنا محمداً - صلى الله عليه وسلم - ما جاء إلا بدين الحق لظهره على الدين كله، ولو كره الكافرون والمشركون والمجرمون والحاسدون المبغضون، فدينه دين الحق الشامل لتفاصيل الحياة دقيقها وجليلها، فقد جاء به - صلى الله عليه وسلم - من عند ربه، وأبلغه للعالمين، وحمل رسالة السماء وأوصلها لكل بيت مدر ووبر وحجر، وتحمَّل في سبيل ذلك المشاق، وشرع ربه له الجهاد من أجل إيصال كلمة السماء إلى أمم الأرض، مهما مرق المارقون، وعاند المعاندون، فأوصاه ربه بدعوة من يحارب: فلو أسلم؛ فله ما للمسلمين، وعليه ما على المسلمين، ولو رفض الدخول إلى الإسلام، وقَبِلَ الجزية؛ مع سماحه للمسلمين بنشر دينهم الحق، وله منهم المنعة والحماية؛ فله ذلك، أما لو أصر على الكفر، ومنع قومه من سماع الحق والدخول فيه؛ فما بيننا وبينه إلا السيف، ليس حباً في الدماء، وإنما لنشر كلمة السماء؛ التي بها الخروج من دارٍ عذابها مقيم دائم، وحَرُّها يذيب الجبال القوائم..
فأين حب الدماء الذي قتل الملايين بدون ذنب، في تركستان والأندلس وفلسطين وأفغانستان والعراق ولبنان وغيرها الكثير، من حب نشر الحق والنور الذي من السماء؟!
أين أخلاق الفاتح الإسلامي من أخلاق الهمجي النصراني الذي هتك العرض، وسفَّك الدماء، وسرق الأموال، وجند العملاء، ونشر الفساد، وحرَّق الأخضر اليابس في البلاد؟!
أين أخلاقكم يا عبدة الأوثان والصلبان!؟
أين أخلاق شعوبكم التي انتشرت فيهم الرذيلة من عقوق الآباء وإهمالهم، وزنى المحارم وغيرهم، واغتصاب النساء والأطفال والشذوذ الجنسي في الرجال والنساء؟!(1/209)
إنه الفكر الماكر المخادع المطوَّر بوسائل الإعلام الغربي ذات المواد الشديدة لغسل الأدمغة البشرية! وإلاَّ فكيف بالله عليكم يكون القرآن الكريم الشامل الكامل لتفاصيل الحياة دقيقها وجليلها تعاليم شريرة عند الغرب، بينما صارت النصرانية المحرفة هي الدين الذي يخالف العقل والمنطق.. مع أن الدين النصراني الروحاني؛ هو الذي أسس العلمانية التي تجعل الدين منزوياً في الكنائس، لا يعرفون منه إلا قرع الأجراس، وتعميد الصبية، وأكل الخبز مع شرب الخمر، وما إلى ذلك من خواء التشريع وعدم الشمولية في تفاصيل الحياة، وإنما هو الهلامية التي لا ترى الروح ولا النفس، ولا يحل مشكلات الواقع، بل هو خرافة أقرب منه من العقل والمنطق..
كيف لا أقول هذا الكلام؛ ونحن نراهم يسبون الله أعظم مسبة؛ بقولهم أن الله هو المسيح ابن مريم، وأنه ثالث ثلاثة، أنه وُلد من صاحبة، { تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدَّا أن دعوا للرحمن ولداً وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً } مريم
فالذي يسب الله؛ فهو أهون عليه أن يسب رسول الله، ودين رسول الله، تعاليم دين الإسلام الذي جاء بها رسول الله من الله..
نقض شبهة أن الإسلام انتشر بالسيف ويُحبِّذ العنف
هذه شبهة من أكبر الشبه التي يحاول الخصوم نشرها في العالم، ليصدوا الناس عن الدخول في دين الإسلام الحق الذي فيه الرحمة للعالمين، كما قال رب العالمين: { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } الأنبياء(1/210)
فالإسلام هو دين الحق والرحمة، فأرسل اللهُ رسولَه محمداً بشريعة سمحة، ودين يتصف بالعدل واليسر والشمولية في جميع أحكامه وتشريعاته، مع إزالة الحرج والعنت والمشقة، فهذه الرحمة تشمل كل شيء، وتشمل كل الأزمان المختلفة، والأجيال المتعاقبة، مؤمنهم وكافرهم؛ باختلاف جنسياتهم وألوانهم وفئاتهم، فهذه الرحمة الشاملة والعامة تجلَّت مظاهرها في شخص النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي كل موقف تجاه الكون والناس من حوله، حتى مع الجن الذين كان - صلى الله عليه وسلم - قد أُرسل إليهم، وسمعوا منه القرآن، وآمنوا به، واتبعوه..
فدين كهذا لا بد أن تتوجه إليه سهام أعدائه على شرائعه وعقائده، وأكثر ما تُنال السهام إلى شرعة الجهاد في سبيل الله؛ الذي بدأ بهجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - بدينه من مكة إلى المدينة، وما انفك العقد الأول من السنين؛ حتى كانت جيوشه - صلى الله عليه وسلم - تقرع أبواب الروم..
ثم أفل القرن الأول و قد أضحت الأمة المسلمة في انتشارها على وجه الأرض كالنار سرى في الهشيم، فقد تحولت الأمم إلى الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجاً، و امتد الوجود الإسلامي في فترة وجيزة فملأ ما بين الصين و الأندلس.
وحار النصارى في فهم هذه الظاهرة إذ لا تفهم إلا بالاعتراف بأن هذا الدين حق وافق فطرة الناس وعقولهم فأذعنوا له.
هروباً من هذه الحقيقة التي نشرت الإسلام في ربوع كانت تُحْسَبُ قلاعاً للنصرانية قال النصارى بأن الإسلام دين قام على السيف، وبه انتشر، وأرادوا من خلاله طمس تلك الحقيقة الناصعة.
والواقع أنَّ كل شبهة تُثار حول الإسلام هي ضعيفة، بل وشديدة الضعف، بل إنَّ تهافتها الظاهر يغني عن اهتمام بها والعناية بالرَّدِّ عليها..(1/211)
ولكن كثرت الجهود مؤخراً بتنسيق دولي وديني؛ يسعى بنشر الشبه حول الإسلام، ويركز على الشباب، خاصة ممن حُرِمُوا قسطاً وافراً من العلم والعمل، فترى التركيز عليهم قد يؤثر على فطرهم، بعد ما طَنَّ في آذانهم..
وهناك شباب آخر عنده ثقافة دينية ضحلة، تعتمد على مصادر غير موثقة عند أهل السنة؛ لا تصمد أمام أي نقد أو شبهة، وقد تصل بهم أُمِّيَتُهُم الدينية إلى التعمُّد في إغفال الحقائق بدون أي نزاهة علمية، والتعمُّد في إقحام الصغير والضعيف الذي يقوي الشبهات، وييسر في تنصيب الفخاخ على الباقين المساكين المغرر بهم، نراهم يتصدون الشبهات بتصدُّر، ويناقشونها بثرثرة دون أدوات علوم الدين الأساسية، ويتحاورون مع مثيري الشبه بلا تمييز علمي ولا عمق ديني، ويقحمون أنفسهم في تفنيد الشبهات اعتماداً منهم على ثقافتهم المحدودة، وأميتهم المغرورة، ومصادرهم المشبوهة، فالنتيجة أنك تراهم يقعون فريسة سهلة في شِبَاك الشُّبهات بأوحال شهَواتهم، فتلتبس عليهم المشتبهات حتى يقتنعوا بها، ثم يستسلموا لها، ولرُبَّما أخذتهم العزة بالإثم فصاروا في النهاية من الداعين إليها، والتيار المسمى بغير اسمه - وسطي- أكبر شاهد على ما أقول في زعزعة ثقة المسلمين في دينهم، والله المستعان..(1/212)
ونحن نقول: إن تلبيس الدين بالشبه أمراً ليس جديداً، بل إن حملات إثارة الشبهات بدأت منذ زمن البعثة، فكان المشركون يشغبون على المسلمين، حتى أن الشبهات في ذلك الوقت قد تُبَثُّ من خارج الجزيرة العربية، فمن أمثلة ذلك ما ردَّدَهُ المشركون لما نزلت آية تحريم الأكل من الذبائح التي تُذبح لغير الله: { ولا تأكلوا مما لم يُذكر اسم الله عليه } الأنعام قال ابن عباس - رضي الله عنه -: أرسلت فارس إلى قريش أن خاصموا محمداً وقولوا له: فما تذبح أنت بيدك بسكين فهو حلال، وما ذبح الله عز وجل بشمشير من ذهب يعني الميتة فهو حرام، يعني كيف تزعمون أنكم تتبعون مرضاة الله، وتأكلون مما قتلتم ولا تأكلون مما قتل الله، فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء، فنزلت هذه الآية: { وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى لأوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } أي إن الشياطين من فارس ليوحون إلى أوليائهم من قريش بهذا، فإن أطعتموهم، وقدمتهم طاعتهم على طاعة الله، وعدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره فأنتم مشركون، بحيث أطعتم سادتكم وكبراءكم لما أحلوا الحرام وحرموا الحلال.. تفسير ابن كثير بتصرف يسير(1/213)
والشبه التي بثها المشركون في الأمم السالفة وفي عصر النبوي كثيرة جداً، فمثلاً قضية الجبر والاختيار، كما في قوله تعالى عن المشركين: { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذَّب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون قل فللّه الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين } الأنعام وقوله تعالى في سورة النحل: { وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم } فلو كانت حجتهم صحيحة، لما أذاقهم الله بأسه وتنكيله، لهذا قال الله تعالى في الآية { قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا } أي هل عندكم من علم بأن الله قد رضي عنكم فيما أنتم فيه فتخرجوه وتظهروه وتبينوه وتبرزوه؟! ولكنكم { إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون } أي أنكم ما تتبعون إلا الخيال والوهم والاعتقاد الفاسد، وتخرصون أي تكذبون على الله فيما ادعيتموه، فبنيْتم شبهكم المضللة على افتراض فاسد؛ وهو أن الله راض عنكم في حال شرككم، فافتراضكم الفاسد بَنَيْتُم عليه نتائج فاسدة خاطئة..
أما في العصور المتأخرة؛ فالمستشرقون - علماء الغرب- هم الذين تفرغوا لدراسة الإسلام واللغة العربية و لغات الشرق وأديانه وآدابه حتى يتعرفوا عن قرب على مهد الإسلام الذي ظل لقرون طويلة مرهوب ومجهول بالنسبة لهم، ووجدوا أن معرفة المسلمين ودينهم أسهل في نقض حضارتهم وأخبث في تلبيس الحق بالباطل، خاصة إذا احتمت بالسمعة العلمية المتميزة للغرب بعد نهضته الحديثة..
يقول أحدهم – و هو المستشرق الأمريكي (روبرت بين)- في مقدمه كتابه (السيف المقدس): (إن لدينا أسباباً قويةً لدراسة العرب، والتعرف على طريقتهم، فقد غزوا الدنيا كلها من قبل، وقد يفعلونها مرة ثانية، إن النار التي أشعلها محمد لا تزال تشتعل بقوة، وهناك ألف سبب للاعتقاد بأنها شعلة غير قابلة للانطفاء).اهـ(1/214)
وتوالى التعلق بهذه الفرية طوال قرون عديدة، ورددها المجادلون النصارى كثيراً، وتمسك بها المتأخرون منهم، يقول السيد المنسينور كولي في كتابه "البحث عن الدين الحقيقي": (الإسلام الذي أسس على القوة، وقام على أشد أنواع التعصب لقد وضع محمد السيف في أيدي الذين اتبعوه، وتساهل في أقدس قوانين الأخلاق، ثم سمح لأتباعه بالفجور والسلب).
و يقول القس أنيس شروش: (لقد كان محمد يزعم تلقي الوحي بواسطة جبريل…لتبرير سلوكه السياسي والأخلاقي إضافة إلى غير ذلك من شعاراته الدينية، وعند انتهاء المعركة تقترف عمليات الإعدام التي تشمل النساء، وكل ذلك تحت شعار الأمر الإلهي).
ويقول جيومان لوستير: (إن محمد مؤسس دين المسلمين قد أمر أتباعه بأن يخضعوا العالم، وأن يبدلوا جميع الأديان بدينه هو...) ويمضي فيقول: (ما أعظم الفرق بين هؤلاء الوثنين وبين النصارى، إن هؤلاء قد فرضوا دينهم بالقوة، وقالوا للناس: أسلموا أو تموتوا، بينما أتباع المسيح قد كسبوا النفوس برهم و إحسانهم).
ويستبشع "الآباء البيض"في أسبانيا فكرة الجهاد من أجل الدين، ويقولون: (أين نجد الترابط المنطقي لله الذي خلق البشر وأحبهم جميعاً، بينما نجد -كما في النصوص القرآنية - يحث على قتال الكفار).
ولعل أول من بدأ إثارة الشبهات في العصور الأولى وبشكل منظم ومخطط كان يوحنا الدمشقي (650 -750 م) والذي شنَّ هجومه بتوجيه عدة انتقادات على النسق العام للقرآن الكريم، ثم جاء هجوم مفصَّل شنيع على القرآن في أعمال ( نيكيتاس البيزنطي)..ثم شنَّ أقسى هجوم جدلي على القرآن على يد إمبراطور بيزنطة ( جان كنتاكوزين ). ولكن خمد هذا الهجوم البيزنطي بفتح المسلمين للقسطنطينية، ثم تولت أوروبا المسيحية الأمر من بعد ذلك، وكان من أبرزها ما كتبه (لورد مراش ) في كتاب من مجلدين؛ أولهما بعنوان "مقدمة في دحض القرآن" والمجلد الثاني "النص العربي للقرآن" مع ترجمة لاتينية له.(1/215)
ثم ظهرت بعد ذلك في العصور المتأخرة أجيال المستشرقين لتطرح شبهات وهمية، وكانوا يعرفون أنها لا تثبت أمام الفحص العلمي، فاصطنعوا لهم تلاميذ من المسلمين -كالسابق ذكرهم- تلقفوا أفكارهم وزادوا عليها من عندهم، وتصوروا أن هذا من التحرر الفكري اللازم للحاق بركب الحضارة الغربية.
وقد يرى البعض أن هذه الشبهات ينبغي استئصالها وبترها، ومصادرة كتبها ومهاجمة المواقع الإعلامية التي تنشرها، وتخريبها درءاٍ للفتنة وصيانة للشريعة وحفاظة على المسلمين، وأن الحكمة والإصلاح يقتضيان عدم الخوض في محاورة هؤلاء و أن هجرهم يحد من فتنتهم ويحجم من خطرهم. وإن النتائج التي نراها بعيوننا الآن من سقوط العديد من الشباب في حبائل الشبهات في واقع حياتنا، ليرد هذا الرأي ويراه فاشلا في قطع دابر الفتنة، ويحتم علينا مقارعة الحجة بالحجة حتى يظهر زيف هذه الشبهات و يفضح الباطل الذي يخطط لها ويكشف السخف العلمي الذي تستند إليه، ويجعل الناس يطمأنون لدينهم بعيداً عن لغة المصادرة والحجر الفكري.
هذا بالإضافة إلى أن المصادرة غير عملية الآن في عالم اختفت فيه الحدود السياسية بالنسبة للإعلام، ولم تعد للدول السيادة السياسية على ما يبث من مواد إعلامية تصل إلى مواطنيها.(1/216)
ومع هذا فإن نصيحتنا دائما تتوجه بشكل عام إلى الشباب بألاَّ يقحموا أنفسهم في أتون تلك المواقع التي تسعى لتشكيكهم في دينهم وبلبلة معتقداتهم، وأن لا يغتروا بأصحاب التيارات التي تبث خبثها كل حين بإذن قادتها، وعليهم بالذي كان عليه سلفنا الصالح، فإن ما يُصلح آخر هذه الأمة؛ هو نفسه الذي أصلح أولها، فالحق أبلج ومنصور من الله تبارك وتعالى، وقد وعد سبحانه بأن يحفظ هذا الدين { إنًّا نحنُ نزَّلْنَا الذِّكْرَ وإنَّا لهُ لحافظُونَ } ، { يُريدونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بأفْوَاهِهِمْ و اللهُ مُتِمُّ نُورِهِ ولوْ كَرِهَ الكافرونَ } ، { فأمَّا الزَّبَدُ فيذهبُ جُفَاءً و أمَّا ما يَنفعُ الناسَ فيَمْكُثُ في الأرضِ } .
و لقد تتبع المسلمون أنواع هذه الشبهات التي يدور حولها المستشرقون وأقسامها فوجدوها تدور تقريبا حول عشرة محاور:
1. شبهات حول مجمل أصول الإسلام و عقيدته.
2. شبهات حول لغة القرآن الكريم وطريقة جمعه.
3. شبهات حول زعمهم بتعارض بعض آيات القرآن.
4. شبهات حول الوقائع التاريخية المذكورة في القرآن الكريم.
5. شبهات حول اقتباس القرآن الكريم من الكتب السماوية السابقة.
6. شبهات حول شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسلوكه.
7. شبهات حول الأحاديث النبوية الشريفة وطريقة جمعها وحجيتها.
8. شبهات حول تعارض أحاديث نبوية مع القرآن الكريم.
9. شبهات حول تعارض القرآن مع النظريات العلمية الحديثة.
10. شبهات حول بعض أحكام الإسلام مثل الميراث وتعدد الزواج وقوامة الرجل والطلاق وقضايا المرأة والحكمة من العبادات كالصلاة والحج وغيرها.
ولقد أفردوا لكل قسم من هذه الأقسام موضوعا مستقلا أشهروا الشبهات التي يرددها أعداء الدين وردوا على كل شبهة منها. انظر ما كتب الأستاذ منقذ السقار في تفنيد بعض الشبه التي يدور حولها المستشرقون(1/217)
وهنا نريد أن نذكر بعض النماذج التي أثارها المستشرقون على عقائد الإسلام، والملامح التي اختطوها في إثارة الشبه حول هذا الدين العظيم الذي سطع فحجب الضلال بضيائه وحجته، فكانت فكرتهم في هذا الحق خليط من الغَبَشِ والحقد الذي تكنه صدورهم، وأهم ما يُذكر هنا الكذب والتحريف والمغالطة منهم..
الكذب و التلاعب في النصوص :
مارس النصارى الكذب في نقدهم لهذا الدين، ومن ذلك قول وهيب خليل في كتابه "استحالة تحريف الكتاب المقدس" في سياق حديثه عن معجزات المسيح المذكورة في القرآن، فيقول: (وإن كان بعض المفسرين يحاولون أن يقللوا من شأن السيد المسيح في المقدرة قائلين: إنه يصنع هذا بأمر الله، فنجد أن الإسلام يشهد بأن هذه المقدرة هي لله فقط).
ومن المعلوم عند كل مسلم أو مطلع على القرآن الكريم أن الذي أحال معجزات المسيح إلى قدرة الله وإذنه هو القرآن الكريم وليس مفسروه.
ومن الكذب أيضاً ما قاله صاحب كتاب "الحق" حين زعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما مات انتظر المسلمون قيامه كما قام المسيح، فلما لم يقم ارتدَّ المسلمون عن الإسلام.
ومن المعلوم أن القرآن صرح بمثلية رسول الله لسائر البشر في خاصية الموت، وقد صرح القرآن بموته، ولم يرد شيءٌ فيه أو عن رسولنا يفيد قيامته - صلى الله عليه وسلم - من الموت، وقد روي عن عمر أنه قال مثل هذا القول لحظة ذهوله عند فاجعته برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسرعان ما أفاق منه. ولم يكن يعتقد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لن يمت، وإنما ظن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لن يموت حتى يقتل المنافقين..
وأما حركة الردة فقد بدأت إبان حياته صلى الله عليه وسلم بظهور الأسود العِنسي، وفشت بعد وفاته، و لم يكن من دواعيها مثل هذا القول الذي ذكره النصراني.(1/218)
ومن الكذب أيضاً قول القس شروش وهو عربي فلسطيني في مناظرته لديدات أمام جمهور من الأعاجم الذين لا يعرفون العربية، فيقول مكذباً على القرآن في عربيته: (لكن محمداً استعمل كثيراً من الكلمات والجُمل الأجنبية في القرآن، وهذا يترك كثيراً من التساؤل عند الناس إن كانت لغة الله غير كافية بحيث تحتاج إلى عدة لغات أخرى… في كتاب ادعي أن الله أَوْحَاهُ بالعربية)اهـ
وبالطبع لا يوجد في القرآن جملة غير عربية، فقد نزل بلسان عربي مبين.
ومن الكذب أيضاً قوله: (المسلمون غير العرب يشعرون بأنهم مجبرون أن يحفظوا على الأقل أربعين سورة من القرآن بالعربية مع أنهم لا يتكلمونها ولا يتخاطبونها) وأي من العلماء يوجب مثل هذا؟!
ومن الكذب أيضاً قول صاحب كتاب "الحق" النصراني بأن رسول الله ما كان يدري من الذبيح إسماعيل أم إسحاق لذلك قال: (أنا ابن الذبيحين) وأراد إسماعيل وإسحاق، و يرد ابن الخطيب بذكر آيات سورة الصافات والتي ذكرت قصة الذبيح في سياق حديثها عن إسماعيل، ثم اتبعت ذلك بالحديث عن إسحاق وبشارة الله لإبراهيم به، وأما الحديث - لو سلمنا بصحته لصحة معناه - فلا خلاف في أن مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ابن الذبيحين: عبد الله أبوه وإسماعيل، وقصة نجاة أبيه من الذَّبح مبسوطة في كتب التواريخ .
تحريف النصوص:
ويلجأ النصارى أيضاً إلى تحريف ألفاظ النصوص الإسلامية، ومن ذلك قول القس شروش لمستمعيه الإنجليز: (أنتم معشر المسلمين تعتقدون أن المسيح ما زال على قيد الحياة)
يقول ديدات: نعم.(1/219)
فأكمل القس شروش (لكننا إذا قارنا هذا بما جاء في القرآن فإننا سنجد تناقضاً، فإن القرآن يقول { والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حياً } مريم قرأها في العربية صحيحة، ثم ترجمها : (وسلام علي يوم ولدت ويوم مت و يوم أبعث حياً) فحول الأفعال المضارعة والتي يراد منها المستقبل إلى أفعال ماضية مستغلاً جهل مستمعيه بلغة العرب، وظن أن حيلته وكذبه ينطلي على العلامة الأعجمي ديدات
ومن التحريف الذي مارسه النصارى تحريف المعاني ومن ذلك الخلط الذي وقعوا به ونسبوه للقرآن الكريم، فقد زعموا أن قوله تعالى في قصة موسى { فأرسلنا عليهم الطوفان } يتحدث عن الطوفان الذي وقع زمن نوح، فهو بذلك يخلط بين حديثين متباعدين في الزمان. والقرآن قد فصل في الحديث عن طوفان نوح، وأشار إلى الهلاك الذي أحدثه فيما ذكر طوفاناً صغيراً كان أحد ما عذب به الذين كفروا بموسى عليه السلام.
وكما ذكر القرآن طوفان نوح العظيم وطوفان موسى بمصر، كذا ذكرت التوراة الطوفانين، فطوفان نوح تحدث عنه سفر( التكوين 7/10-24) ثم تحدثت عن طوفان آخر أصاب مصر انتقاماً من فرعون الذي لم يؤمن بموسى، و لم يطلق بني إسرائيل، فقد قال موسى لفرعون: (أنت معاند بعد لشعبي حتى لا تطلقه. ها أنا غداً مثل الآن أمطر برداً عظيماً لم يكن مثله في مصر) فنزل المطر والبرد، فوعد فرعون موسى بإطلاق شعب بني إسرائيل) لكن فرعون لما رأى أن المطر والبرد والرعود،وقد انقطعت عاد يخطئ وأغاظ قلبه هو وعبيده…) (الخروج 9/17-34).(1/220)
ومن التحريف أيضاً ما قاله الحداد الخوري في تعقيبه على قوله تعالى { ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة } فيقول الحداد: (إن محمد يصرح نهائياً بما لا يقبل الشك بأن إمام القرآن هو كتاب موسى) والآية إنما تتحدث عن التوراة الصحيحة التي أنزلها الله على موسى فكانت لقومه إماماً ورحمة كما وصفت في آيات أخر بأنها هدًى ونور، و ليس في النص صريحاً -كما زعم الحداد- أن التوراة إمام للقرآن.
ويتحدث كتاب "الاستحالة" عن قضية صلب المسيح فيقول: (أما النص الوارد في سورة النساء، والذي قد يبدو فيه معنى إنكار المسيح وموته حيث جاء { وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم } فإن هذه الكلمات التي يراها البعض ضد الإيمان المسيحي بالصلب هي في الواقع دليل على الصلب، ولكنها تكذيب لليهود في قولهم { إنا قتلنا المسيح } لأن اليهود لم يقتلوه ولم يصلبوه، لأنهم لم يكونوا أصحاب السلطة والحكم أيام ظهور السيد المسيح بالجسد، وإنما كانت السلطة بيد الرومان، لذلك فالرومان هم الذين نفذوا الحكم بصلب السيد المسيح، وقد خيل لليهود، وشبه لهم بأنهم قتلوا السيد المسيح وصلبوه، لأنهم كانوا أصحاب شكاية، فعندما أجيبت شكواهم تخيلوا بذلك).
وهذا الإغراب في التفسير لم ينقل عن أحد من مفسري القرآن ولو على وجه ضعيف، وهل يعقل ألا ينسب القتل لليهود إلا إذا قاموا بأنفسهم بمباشرة القتل، وأما ذهابهم في جمع من الشيوخ ورؤساء الكهنة للقبض على المسيح، ثم محاكمته والحكم عليه بالموت، ودفعه للحاكم الروماني لينفذ الحكم، ثم إصرارهم على التنفيذ، ورفض إطلاقه بعد أن اقتنع الحاكم أنه بار وبريء، وعرض عليهم إطلاقه، فصرخوا وهاجوا: اصلبه. فخاف بيلاطس من الفتنة، فامتثل لأمرهم بعد أن اتهموه بأنه لا يحب القيصر….(1/221)
أفبعد ذلك كله يقال بأن اليهود ليسوا هم القتلة، بل الحاكم الروماني، ثم ماذا عن قوله تعالى { وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه } ثم على أي حال فإن الآيات لم تكن تناقش من القاتل اليهود أم الرومان، إنما كانت تؤكد نجاة المسيح مما ظنه اليهود من أنهم تمكنوا منه وقتلوه.
ومثله حرف القس أنيس شروش المعنى في قوله { حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة } فقال شروش: (لقد كان الخرافيون القدامى في عصر محمد يعتقدون أن الشمس تغرب في ينبوع، يقول القفال في تفسير هذه الآية (قال بعض العلماء: ليس المراد أنه انتهى إلى الشمس مغرباً ومشرقاً حتى وصل إلى جرمها ومسها، لأنها تدور مع السماء حول الأرض، من غير أن تلتصق بالأرض، وهي أعظم من أن تدخل في عين من عيون الأرض، بل هي أكبر من الأرض أضعافاً مضاعفة، بل المراد أنه انتهى إلى آخر العمارة من جهة المغرب ومن جهة المشرق، فوجدها في رأي العين تغرب في عين حمئة ، كما أنا نشاهدها في الأرض الملساء كأنها تدخل في الأرض).
و يقول سيد قطب غفر الله لنا وله في بيان معنى هذه الآية: (مغرب الشمس هو المكان الذي تغرب عنده وراء الأفق، وهو يختلف بالنسبة إلى المواضع، فبعض المواضع يرى الرائي فيها أن الشمس تغرب خلف الجبل، تغرب في الماء كما في المحيطات… والظاهر من النص أن ذا القرنين غرب حتى وصل إلى نقطة على شاطئ المحيط الأطلسي،… فرأى الشمس تغرب فيه.
و الأرجح أنه كان عند مصب أحد الأنهار حيث تكثر الأعشاب، و يجتمع حولها طين لزج هو الحمأ، وتوجد البرك، وكأنها عيون الماء…عند هذه الحمأة وجد ذو القرنين قوماً…) اهـ
و هكذا يكشف كل من له بصيرة هذا التحريف للنصراني، فالقرآن لم يقل بأن الشمس غربت في عين حمئة، بل ذكر ما رآه ذو القرنين { وجدها تغرب في عين حمئة } .(1/222)
ومن التحريف أيضاً أن النصارى حين استشهادهم بالنصوص الإسلامية كانوا يختارون ما يعجبهم من النص ويَدَعُونَ ما لا يوافق هواهم، ومن ذلك قول وهيب خليل في كتابه "استحالة تحريف الكتاب المقدس" في سياق حديثه عن أدلة ألوهية المسيح في القرآن والسنة فيقول: (روى البخاري في الجزء الثالث ص107 قائلاً: ((لا تقوم الساعة حتى ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً)) وفي هذا دليل قاطع على ألوهية السيد المسيح، لأن الدينونة لله وحده).
وقد غض النصراني طرفه عن بقية الحديث وفيه: ((..فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد)) فالأمور المذكورة في تتمة الحديث تدل على بطلان النصرانية، وأن المسيح سيحطم رمزها (الصليب)، وأنه سيحكم بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، كما أن الحديث يتحدث عن أحداث قبل القيامة، فالساعة لا تقوم حتى تحصل هذه الأمور، والدَّيْنُونَة الكبرى إنما تكون بعد قيام الساعة.
و نصوص القرآن صريحة في أن الله هو الذي سيدين الخلائق كما قال تعالى { ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألاَ له الحكم و هو أسْرَعُ الحاسبين }
مغالطات النصارى:
ويقع النصارى عند إثارتهم للشبهات في مغالطات في الاستدلال، ومن ذلك قول حبيب سعيد في كتابه "أديان العالم": (إن الله في القرآن تحدث عن نفسه بصيغة الجمع، والجمع يدل على التثليث) ويقول: (نسب القرآن الخلق للمسيح، فيكون مع الله الذي تحدث عن نفسه بصيغة الجمع:أي اثنان.. ومن يخلق حياً يكون إلهاً).اهـ
ومثله جاء في كتاب "الاستحالة" بعد أن ذكر أن القرآن يجعل من معجزات المسيح أنه يخلق من الطين كهيئة الطير فيكون طيراً.(1/223)
وذكر بأن المسيح يحيي الموتى ثم قال وهيب خليل: (فإذا كان الإسلام يشهد بأن الذي يحيي العظام وهي رميم هو الذي أنشأها أول مرة فقط، فمن يكون السيد المسيح الذي يشهد له الإسلام بأنه يحيي الموتى؟ أليس هو الله الحي القيوم المحيي المميت الذي أنشأها أول مرة؟) اهـ
والمغالطة تكمن في أن الآيات نصت في أن ذلك يكون بإذن الله. أي أنه تعالى هو الفاعل الحقيقي للإحياء والخلق.
كما أن معجزات المسيح في سياق النصوص التي وردت فيها بينت أن المسيح إنما هو رسول الله فحسب.
ومن المغالطة أيضاً ما قاله وهيب خليل في سياق استدلاله على وجود التثليث في الإسلام حيث قال: (عندما يقسم الشخص المسلم فبم يقسم؟ إنه يقول: والله العظيم ثلاثة. لماذا لم يقل: والله العظيم. ويكتفي ؟…إذا كان المقصود هو التوكيد فإن الأفضل في هذه الحال أن نردد وبدلاً من ثلاثة القول بأعداد أكثر كثيراً لضمان التوكيد. و لكن المعنى الصحيح في القول: والله العظيم ثلاثة هو: (والله الأب) و(والله الابن) و(والله الروح القدس).. ومعلوم أن الطلاق في الإسلام يتم في الثلاثة…لماذا يتم بالثلاثة؟..إن ذلك يرجع إلى أن زواجنا يتم باسم الآب والابن وروح القدس، وأن ذلك نقل إلى الإسلام مع بعض التعديلات) اهـ
ومن المعلوم أن المسلم حين يكرر البسملة أو أياً من كلامه ثلاثاً لا يخطر ببال تثليث النصارى، وإنما هو أسلوب في توكيد الكلام أو المعاني، والعرب تعتبر الرقم ثلاثة من الأرقام التي تفيد الكثرة كالسبعة والسبعين خلافاً للاثنين والأربعة والستة.كما أن "الثلاثة" هي أول الجمع المفيد للكثرة، لذا يكثر استخدامه في كلام الناس.
ويرد المطعني شبهة النصراني، ويبين بأن المسلم إنما يقول: والله العظيم ثلاثاً، وليس ثلاثة. فتمييز العدد تقديره: "مرة". أي أقسم ثلاث مرات، و من الممكن أن يقسم مرة أو عشرة، و ذلك كله لا علاقة له بالتثليث.(1/224)
ويسخر ابن الخطيب من هذا النوع من الاستدلال، ويرى أنه يمكن للنصارى أن يستدلوا أيضاً لصحة معتقد التثليث بكون المخلفين ثلاثة، وعدة المطلقة اليائس ثلاثة أشهر، ويفرض على المتمتع أن يصوم في الحج ثلاثة أيام…وهكذا فكل هذه تصلح دليلاً على التثليث؟!
ومن المغالطة أيضاً قول القس شروش أن في القرآن أسماء غير عربية كإبراهيم وفرعون وآدم… وأن هذا يتناقض مع عربية القرآن، وأسماء الأعلام لا علاقة لهم بلغة المقال.
ومن المغالطة احتجاجه على تسمية المسيح بعيسى بينما تسميه الأناجيل بالاسم العبري أو السرياني (يسوع) فيقول: (أدعو السيد ديدات لنرى إن كان يستطيع أن يشرح لكم من أين أتى بكلمة (عيسى) في القرآن في حين أن اسمه: يسوع بالعربية).
والمغالطة تكمن في أنه يتجاهل حقيقة معهودة في سائر اللغات، وهي أن الأسماء والألفاظ عندما تنتقل من لغاتها إلى لغات أخرى فليس بالضرورة أن تبقى الكلمة كما هي، بل يعاد صرفها بما يلائم اللسان الذي ترجمت إليه، وهو ما صنعه شروش نفسه بعد دقائق حين قال وهو ينقل نصاً إنجيلياً بأسلوب محاكٍ للقرآن: (فقال له عيسى أنا هو الصراط…)
فاستخدم الاسم العربي للمسيح، وفعل ذلك ثانية حين عرب اسم (مارية)، فاستخدم الاسم العربي (مريم)، وذلك في قوله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كذلك زوجته الثامنة (مريم) كانت عضواً في طائفة مسيحية في مصر).اهـ
ومن المغالطة أيضاً قول صاحب كتاب "الحق": (إشعياء قال قبل الميلاد بنحو 700عام: (الجالس على كرة الأرض) (إشعيا 40/22) بينما العلماء لم يجمعوا على كرويتها إلا في عام 1543م، وبينما يقول القرآن { والأرض مددناها } { والله جعل لكم الأرض بساطاً } { وهو الذي مد الأرض } .اهـ فاستنتج النصراني من هذه الآيات أن القرآن، يقول بعدم كروية الأرض.(1/225)
ويبين ابن الخطيب معنى هذه الآيات، وأنها تتحدث عن بسط الأرض ومهادها كما يراها الإنسان ويمشي عليها، فالمقصود بالأرض اليابسة التي يمشي عليها الناس، بينما حين تحدث القرآن عن الأرض ككوكب ذكر ما هو أدق من قول التوراة والنصراني فقال { والأرض بعد ذلك دحاها } أي جعلها كالدحية، وهي البيضة، وهذا ما ينطبق تماماً على الأرض، وهو أدق علمياً من القول بأنها كروية، فقد ثبت عند العلماء أنها منبعجة في طرفيها، فيلجأ النصارى في شبهاتهم إلى محاكمة القرآن إلى كتبهم التي لا سند لها، ولا اعتداد ولا ثقة بها، فيعرضها النصارى وكأنها سندات ووثائق تاريخية لا خلاف على صحتها.
ومن ذلك تكذيبهم القرآن في قوله بأن اسم والد إبراهيم عليه السلام هو آزر، لأنه قد جاء في التوراة أنه: تارح (انظر التكوين 11/27)
وكذا تكذيبهم أن يكون الذبيح إسماعيل، لأن التوراة تقول بأنه إسحاق، (انظر التكوين 22/9-12) وكذا تكذيبهم أن تكون زوجة فرعون قد كفلت موسى، وقالوا بأن الذي كفله هي ابنة فرعون لما جاء في التوراة (انظر الخروج 2/5-7)، و كذبوا أن يكون لون بقرة بني إسرائيل صفراء فاقع، لأن التوراة تقول بأنها كانت حمراء اللون (انظر العدد19/1-4).
ويعرض النصارى أقوال غريبة أو منكرة ويقدمونها على أنها أخبار إسلامية موثوق بها ومن ذلك قول القس أنيس شروش وهو يرد ويدفع عن مبالغة التوراة في قولها شمشون قتل ألفاً من الفلسطينيين بفك حمار (انظر القضاة 15/15) فيوهم شروش مستمعيه أن مثل ذلك منقول في تاريخ الإسلام وكتب المسلمين، فيقول: (المسعودي يخبرنا في كتابه مرادي (يقصد مروج الذهب) أن علياً قتل 525 رجلاً في يوم واحد بيديه المجردتين من غير سلاح ولا عصا ولا فك حمار، ولعلِّي أتساءل إن كانت هذه القصة أكثر قابلية للتصديق من قصة قتل شمشون لآلاف من الفلسطينيين بفك حمار كبير) اهـ(1/226)
والمسلمون لا يعتبرون كتاب المسعودي من كتب الاحتجاج، ومثل هذه الأخبار نطعن بها وبقائليها فكيف يحتج بها علينا؟ المسعودي: هو علي بن الحسين ت 346 هـ وهو شيعي معتزلي مصر على بدعته محتال، وهو مؤرخ لم يتجرد عن الهوى، وصاحب جهالة بحرمات الدين، وسيأتي الكلام عن الشيعة وما هم فيه من خروج عن مقاصد الدين، وما هم عليه من الاسترسال في أقوالهم القبيحة، وأفعالهم الباطلة..
وما نسبه القس للمسعودي لم يخل من التحريف فقد قال المسعودي في سياق ذكره لكثرة القتلى يوم صفين، فذكر (أن علياً قتل بكفه في يومه وليلته خمسمائة وثلاث وعشرون رجلاً.) وليس مراده أن هؤلاء قد قتلهم بيديه المجردتين، بل أراد كثرة من قتل على يديه.
لم يؤمر الناس اعتناق الإسلام قسراً
ولعلنا قد خرجنا عن بحثنا في شبهة أن الإسلام انتشر بالسيف، فنعود ونقول:
لقد أجاب علماؤنا عن هذه الشبهة، وأبانوا فرية النصارى فيها، فالمسلمون لم يأمروا أحداً باعتناق الإسلام قسراً، كما لم يُلْجِئُوا الناس للتظاهر به هروباً من الموت أو العذاب، إذ كيف يصنعون ذلك وهم يعلمون أن إسلام المكره لا قيمة له في أحكام الآخرة، وكيف يكرهون الناس على الإسلام والله تعالى يقول في القرآن: { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي } ويقول جل في علاه: { و قل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها } و يقول تعالى :{ قل الله أعبد مخلصاً له ديني * فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين }.
وعندما خرجت كتائب الجهاد الإسلامي، ما كان خروجها لقهر الناس وإجبارهم على اعتناق الإسلام، إنما كان لتحرير الإنسان وتحييد القوى الظالمة التي قد تحول بينه وبين الإسلام.(1/227)
وأوضح القرآن بجلاء مبررات الجهاد الإسلامي {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال و النساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً} النساء ويقول تعالى {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودا فقد مضت سنة الأولين * وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير * وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير}.الأنفال (والفتنة في هذه الآية تعني: أن يفتن أحد عن دينه بسبب إحجام المسلمين عن القتال وتوهّم أعدائهم ضعفهم، وحتى يكون الخضوع التام لله وحده دون غيره.).
قال منقذ السقار في "شبهات النصارى المتعلقة ببعض شرائع الإسلام": (لم يكن بد للإسلام أن ينطلق في الأرض لإزالة الواقع المخالف لذلك الإعلان العام، وبالبيان وبالحركة مجتمعين، وأن يوجه الضربات للقوى السياسية التي تعبد الناس لغير الله…والتي تحول بينهم وبين الاستماع إلى البيان واعتناق العقيدة بحرية لا يتعرض لها السلطان…إنه لم يكن من قصد الإسلام قط أن يكره الناس على اعتناق عقيدته، و لكن الإسلام ليس مجرد عقيدة.
إن الإسلام - كما قلنا - إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد، فهو يهدف ابتداءً إلى إزالة الأنظمة والحكومات التي تقوم على أساس حاكميَّة البشر للبشر، وعبودية الإنسان للإنسان، ثم يطلق الأفراد بعد ذلك أحراراً بالفعل في اختيار العقيدة التي يريدونها بمحض اختيارهم بعد رفع الضغط السياسي عنهم، وبعد البيان المنير لأرواحهم و عقولهم، وإيماناً بهذا المنهج خرج دعاة الإسلام يحملون البيان ويحمونه بسيوفهم، وكثيراً ما سبق بيانهم سيوفهم، فوصل الإسلام إلى أندنوسيا ونيجيريا وغيرها، ولمَّا يصل إليها جيش مسلم.(1/228)
وأما البلاد التي وقف حكامها في وجه بيان الإسلام فقد أوهنتها مطارق الإسلام وهي تدعو لإحدى ثلاث: الإسلام أو الجزية أو الحرب، فاختار الإسلام أهل سمرقند وغيرهم، فأضحوا إخواننا لهم ما لنا، و عليهم ما علينا، واختار أهل حمص الجزية، فقام المسلمون بحمايتهم وبإيصال البيان إليهم، فدخلوا في دين الله أفواجاً، ووقف آخرون يريدون حجب الحقيقة، فأتم الله دينه وأظهره عليهم، فاندكت جحافل الباطل، وغدا الناس أحراراً في اختيار العقيدة التي يريدونها، فدخل الناس في دين الله أفواجاً من غير إكراه ولا إجبار.
فالإسلام قاتل الدول التي تحول بين الإسلام وبين شعوبها، ولم يكره تلك الشعوب على اعتناق الإسلام، بل أقام العهود والمواثيق التي تكفل حرية التدين، ومن ذلك العهدة العمرية التي كتبها عمر بن الخطاب لأهل بيت المقدس، وفيها:
(هذا ما أعطى عبد الله عمر بن الخطاب - أمير المؤمنين - أهل إيليا من الأمان؛ أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها: ألاَّ تسكن كنائسهم ولا تُهدم، ولا ينتقض منها، ولا من خيرها، ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم…ومن أحب من أهل إيليا أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم (هكذا) فإنهم على بيعهم وصلبهم وأنفسهم حتى يبلغوا مأمنهم. ومن كان من أهل الأرض ( الروم و غيرهم من الأجناس ) فمن شاء منهم قعد، وعليه مثل ما على إيليا من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء يرجع إلى أهله، وإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله، وذمة رسوله، وذمة الخلفاء، وذمة المؤمنين.
فقد ضمن عمر في عهدته سلامة أماكن العبادة كما ضمن حرية المعتقد، وبمثل هذا النحو كانت سائر فتوح المسلمين.(1/229)
وأضحى أهل تلك البلاد أهل ذمة يوصي رسول الله بهم فيقول: (لعلكم تقاتلون قوماً فتظهرون عليهم فيتقوكم بأموالهم دون أنفسهم وذراريهم، فيصالحونكم على صلح، فلا تصيبوا منهم فوق ذلك، فإنه لا يصلح لكم) قال أبو ماجد: الحديث ضعيف كما قاله الألباني رحمه الله في الضعيفة 2947
و يقول أيضاً موصياً أصحابه: (انطلقوا باسم الله وبالله، وعلى ملة رسول الله، لا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً صغيراً، ولا امرأة، ولا تغلُوا، وضمنوا غنائمكم، وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين) قال أبو ماجد غفر الله له ولوالديه: الحديث ضعَّف سنده الألباني في ضعيف أبي داود، ولكنه صح متنه من طرق أخرى، فانظر المجلد الخامس من "إرواء الغليل" للألباني تخريج وتحقيق أحاديث كتاب الجهاد من "منار السبيل"
وقال صلى الله عليه وسلم ((من ظلم معاهداً أو انتقصه حقه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة)) قال أبو ماجد: الحديث صحيح في أبي داود أنظر "غاية المرام" للألباني 471
ويقول ((من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، و إن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً)) قال أبو ماجد: رواه البخاري 2/249، 4/326
ولما تدانى الأجل بعمر بن الخطاب قال: (أوصي الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيراً، وأن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتلوا من ورائهم، وألا يكلفوا فوق طاقتهم).
وقد وفَّى المسلمون بذمة نبيهم، فأعطوا أهل الذمة حقوقهم، وينقل ترتون في كتابه "أهل الذمة في الإسلام" شهادة بطريك (عيشو بابه) الذي تولى منصب البابوية حتى عام 657هـ: (إن العرب الذين مكنهم الرب من السيطرة على العالم يعاملوننا كما تعرفون. إنهم ليسو بأعداء للنصرانية، بل يمتدحون ملتنا، ويوقرون قديسينا وقسسنا، ويمدون يد العون إلى كنائسنا وأديرتنا).(1/230)
وبمثل هذا العدل عاشت الأمم المختلفة في ظل الإسلام ودولته، فبقي الهندوس أغلبية في الهند التي حكمها المسلمون قرابة ألف عام، وما يزال بين ظهراني المسلمين ما يقرب من 14مليون عربي مسيحي، فكل ذلك شهادة ببراءة المسلمين من إجبار الأمم على اعتناق الإسلام.
ويقول المؤرخ درايبر في كتابه "النمو الثقافي في أوربا": (إن العرب لم يحملوا معهم إلى أسبانيا لا الأحقاد الطائفية، ولا الدينية ولا محاكم التفتيش، وإنما حملوا معهم أنفس شيئين في العالم، هما أصل عظمة الأمم: السماحة و الفلاحة).
ويقول غوستان لوبون في كتابه "حضارة العرب": (إن القوة لم تكن عاملاً في نشر القرآن، وإن العرب تركوا المغلوبين أحراراً في أديانهم…والحق أن الأمم لم تعرف فاتحين رحماء متسامحين مثل العرب، ولا ديناً سمحاً مثل دينهم).
ويقول السير توماس أرنولد: (لقد عامل المسلمون الظافرون العرب المسيحيين بتسامح عظيم منذ القرن الأول للهجرة، واستمر هذا التسامح في القرون المتعاقبة، ونستطيع أن نحكم بحق أن القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام قد اعتنقته عن اختيار وإرادة حرة، وإن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات المسلمين لشاهد على هذا التسامح)
ويقول مفسر القرآن جورج سيل: (ومن قال إن الإسلام شاع بقوة السيف فقط، فقوله تهمة صرفة، لأن بلاداً كثيرة ما ذكر فيها اسم السيف، وشاع الإسلام).
شرعة القتال في الإسلام والنصرانية: ما يزال الكلام لمنقذ السقار
والقتال شريعة جعلها الله لإبطال الباطل وإحقاق الحق وحماية الدين {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً}
ولا يستغرب صدور الأمر بقتال الكفار ممن أعد لهم في الآخرة ناراً تلظى، وأمر بقتل كل من يذبح للأوثان ( انظر الخروج 22/20 )، وأمر بقتل 23 ألف رجل عبدوا العجل (انظر الخروج 32/ )، وأمر بقتل من عمل بالسبت ( انظر الخروج 35/2 )(1/231)
وقد أمر الله أنبياءه بحمل السلاح لمواجهة عدوهم، وتحكي التوراة عن مذابح يشيب لها الولدان ارتكبها بنو إسرائيل في حربهم المقدسة ضد أقوام من الوثنيين، فمما تنسبه التوراة لله عز وجل أنه قال لموسى (إذا دنوت من القرية لتقاتلهم ادعهم أولاً بالصلح…فأما القرى التي تُعطى أنت إياها فلا تستحي منها نفساً البتة، و لكن أهلكهم إهلاكاً كلهم بحد السيف الحيثي والأموري والكنعاني والفرزي… كما أوصاك الرب إلهك) (التثنية 20/10-17)
فالنص يتحدث عن أحكام القتال التي شرعت لبني إسرائيل، وفي نص آخر: (إذا أدخلك الرب إلهك الأرض التي تدخل لترثها وبيد الشعوب الكثيرة من قدامك الحيثي والجرجاني والأموراني والكنعاني والفرازي والحواي واليبوساني سبعة أمم أكثر منكم عدداً وأشد منكم، وأسلمهم الرب إلهك بيدك، فاضرب بهم حتى أنك لا تبقى منهم بقية، فلا تواثقهم ميثاقاً ولا ترحمهم، ولكن فافعلوا بهم هكذا: مذابحهم فاخربوها، واكسروا أصنامهم…) (التثنية7/1-5) فعلم من النص أن بني إسرائيل أمروا بقتل سبع أمم أكثر عدداً منهم.
يقول القسيس مريك في كتابه"كشف الآثار": (علم من الكتب القديمة أن البلاد اليهودية كان فيها…ثمانية كرورات (أي ثمانون مليوناً) من ذي حياة)، وقد أمر بنو إسرائيل بقتلهم، وعليه فلا يجوز للنصارى الاعتراض على جهاد المسلمين، فقد أذن للأنبياء قبله، ثم أذن له صلى الله عليه وسلم
وتتحدث التوراة أيضاً عن تنفيذ بني إسرائيل للأمر كما في سفر المجازر (يشوع) فقد قتلوا حتى النساء والأطفال والحيوان، وفي سفر القضاة أن شمشون أخذ فك حمار… وقتل به ألف رجل (القضاة 15/15 )
وتذكر التوراة أن داود لما سار إلى رابة، وانتصر على أهلها صنع فظائع (والشعب الذين كانوا فيها أخذهم ونشرهم بالمناشير وداسهم بنوارج حديد، وقطعهم بالسكاكين، وأمرّهم في أتون الآجر، كذلك صنع بجميع قرى بني عمون) (صموئيل(2) 12/31).(1/232)
ثم قال منقذ السقار: ومثل هذه الفظائع لم يقع في جهاد المسلمين لأعدائهم فما كانوا يقتلون النساء ولا الأطفال ولا الدهماء من الناس، ويجدر أن نذكر بوصية الصديق حيث قال لأسامة بن زيد وجنده: (لا تخونوا ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعزقوا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا للأكل. وإذا مررتم بقوم فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له ….) انتهى كلام منقذ السقار
الجهاد في الإسلام
فنحن إذا ما تكمنا عن الجهاد في الإسلام؛ فنقول: إنه حرب، ولكنه حرب من نوع خاص، ليس فيه اضطراب في هدف، بل هو نقي في الأهداف، وواضح في التطبيق والضوابط، وليس فيه لبس في الآثار، أو في النتائج، كما أنَّ أمر الجهاد واضح جداً في جانبي التنظير والتطبيق في دين الإسلام وعند المسلمين..
وبالرغم من وضوح كل ذلك؛ إلا أن التعصب والتجاهل بحقيقة ديننا الإسلامي الحنيف جعل لبساً عند الناس أن الإسلام انتشر بالسيف، وأنه يدعو إلى الشدة والحرب والعنف والجبروت..(1/233)
ونحن جميعاً نعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبث في مكة المكرمة بعدما أوحي إليه ثلاثة عشر عاماً يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن وأقوم، فدخل الإسلام خيار المسلمين؛ من أشرافهم وغيرهم من ضعفائهم وفقرائهم، ففي ذلك الوقت لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - صاحب ثروة ليغري الناس بها، ولا صاحب قوة ومنعة حتى يخاف الناس منه فيتخطفهم، فلم تكن إلا الدعوة إلى الله وحدها، حتى أن فقراء الصحابة والعبيد منهم قد لاقوا صنوف العذاب وألوان البلاء، حتى أن بعضاً منهم قد قتِّل، والبعض قد شُرِّد، فصبروا وتحملوا تحمل الجبال الرواسي، فما صرفهم ذلك عن دينهم الحق، وما تزعزعت عقيدتهم، بل زادتها صلابة في الحق مع قلَّتهم وفقرهم، فكانوا الذهب الإبريز؛ لا تزيده النار إلا صفاءً ونقاءً..
حتى أن المنصفين من الناس لم يكتموا حقيقة دين الإسلام، ولم يفتروا عليه، ولم يخلطوا الأوراق، فقال أحدهم: (إن اتهامه – أي النبي - صلى الله عليه وسلم -- بالتعويل على السيف في حمل الناس على الاستجابة لدعوته سخف غير مفهوم؛ إذ ليس مما يجوز في الفهم أن يشهر رجل فرد سيفه ليقتل به الناس، أو يستجيبوا له، فإذا آمن به من يقدرون على حرب خصومهم، فقد آمنوا به طائعين مصدِّقين، وتعرضوا للحرب من غيرهم قبل أن يقدروا عليها.) "الأبطال وعبادة البطولة" للكاتب الغربي توماس كارليل في "حقائق الإسلام وأباطيل خصومه" ص166 ط.الهيئة المصرية العامة للكتاب(1/234)
وقال المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون وهو يتحدَّث عن سر انتشار الإسلام في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي عصور الفتوحات من بعده: (قد أثبت التاريخ أن الأديان لا تُفرض بالقوة، ولم ينتشر الإسلام إذن بالسيف، بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخراً؛ كالترك والمغول، وبلغ القرآن من الانتشار في الهند – التي لم يكن العرب فيها غير عابري سبيل- ما زاد عدد المسلمين إلى خمسين مليون نفس فيها.. ولم يكن الإسلام أقل انتشاراً في الصين التي لم يفتح العرب أي جزء منه قط، وسترى في فصل آخر سرعة الدعوة فيها، ويزيد عدد مسلميها على عشرين مليوناً في الوقت الحاضر.) "حضارة العرب" ص128 ط.الهيئة المصرية للكتاب
المجاهد في سبيل الله
ولا يخفى على كل مسلم ما للجهاد في سبيل الله عز وجل من منزلة رفيعة، ومرتبة عالية، فالمسلم في جهاده له هدف سامي، وهو إعلاء كلمة الله تعالى على مراد الله، ونصرة الدين الحق، وليظهر على الدين كله، فالله تعالى يكرمه – أي المجاهد- من فضله الخالص، وإنعامه بمقام أعلى وأغلى من تضحيته بماله وولده ونفسه، فالمقام هو جنة عرضها السماوات والأرض..
فالمجاهد في سبيل الله هو الفارس النبيل المنضبط قبل المعركة وفي أثنائها وبعدها، فهو صاحب الأخلاق العالية، والخُلق النبيل، فإذا خرج إلى المعركة؛ فهو محرر من الأخلاق الرذيلة والطمع، فهو قد خرج في سبيل إعلاء كلمة الله، بنية خالصة، وبعقيدة متمكِّنة، لا لدنيا يصيبها، ولا لمصلحة شخصية يريدها، ولا لطمع دنيوي، ولا لنهب شهواني، ولا إلى من أجل طائفة ينتمي إليها، إلا طائفة واحدة، لها إمام واحد، له صفقة اليد، وله الشوكة والمكنة والولاية..(1/235)
فهو مجاهد قد خرج متقيداً بشروط الجهاد في سبيل الله، يبتغي وجه الله، ملتزم بأوامر الله، هدفه إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فهو جهاد إخراج من الضلال إلى رحاب الحق، وإخراج من الظلمات إلى نور الحق، فهو ليس من أجل السلطة والغلبة والملك، وإنما لإزالة الشرك والكفر والظلم، ونشر التوحيد والإيمان والعدل..
وهو أيضاً جهاد رد العدوان، والدفاع عن النفس، وقتال المقاتلين، ولا عدوان على المدنيين، ولا حتى على الحيوانات والأشجار، ولا حتى على المنازل وتلويث الآبار، بل المحافظة على البيئة، ومصلحة المخلوقات، حتى المحافظة على الحرية الدينية لأصحاب الصوامع والرهبان، وعدم التعرض عليهم..
وبعد أن تضع الحرب أوزارها؛ فالمجاهد هو الرجل الصالح في مجتمعه، المفيد والمستفيد من تجاربه، فهو ذلك الرجل صاحب الأجر العظيم، والمقام الكريم؛ كونه خرج بنفسه فألقاها في ميادين القتال، متحلياً بهذه النفس بلباس التقوى، وملتزماً بما ألزمه الله ورسوله من تحكيم القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة؛ في صحة المعتقد، وصحة المنهج، مع إخلاص النية، وصدق التوكل، ورافعاً بسلف أمته الصالحين رأساً..
القتال أمر متقدم في الأمم!
نعم! إن القتال أمر متقدم في الأمم، قال الله تعالى: { الذين أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِم بِغَيْرِ حَقّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وِلِوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لهُدِّمت صَوامِعُ وبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيها اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيْزٌ } الحج(1/236)
قال الإمام القرطبي في تفسيره لهذه الآية: { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض } أي لولا ما شرعه الله تعالى للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء؛ لاستولى أهل الشرك وعطلوا ما بينته أرباب الديانات من مواضع العبادات، ولكنه دفع بأن أوجب القتال ليتفرغ أهل الدين للعبادة، فالجهاد أمر متقدم في الأمم، وبه صلحت الشرائع، واجتمعت المتعبدات؛ فكأنه قال: أُذِن في القتال، فليقاتل المؤمنون، ثم قوي هذا الأمر في القتال بقوله: { ولولا دفع الله الناس } الآية؛ أي لولا القتال والجهاد لتُغِلِّبَ على الحق في كل أمة، فمن استبشع من النصارى والصابئين الجهاد؛ فهو مناقض لمذهبه؛ إذ لولا القتال لما بقي الدين الذي يُذب عنه، وأيضاً هذه المواضع التي اتخذت قبل تحريفهم وتبديلهم، وقبل نسخ تلك الملل بالإسلام إنما ذكرت لهذا المعنى؛ أي لولا هذا الدفع لهدِّمت في زمن موسى الكنائس، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع، وفي زمن محمد - صلى الله عليه وسلم - المساجد. { لهدِّمَت } من هدمت البناء أي نقضته فانهدم. قال ابن عطية: هذا أصوب ما قيل في تأويل الآية.. تفسير سورة الحج
فالحروب كانت ظاهرة قديمة، قال ابن خلدون في مقدمته: (اعلم أن الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة في الخليقة منذ برأها الله، وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض، ويتعصب لكل منها أهل عصبيته، فإذا تذامروا لذلك وتوافقت الطائفتان؛ إحداهما تتطلب الانتقام، والأخرى تدافع، كانت الحرب، وهو أمر طبيعي في البشر، إما غيرة ومنافسة، وإما غضب لله ولدينه، وإما غضب للملك وسعي في تمهيده.) اهـ 1/266 فصل في الحروب ومذاب الأمم في ترتيبها
فهل يريد مثيرو الشبه أن يقوم دين على غير السنن الطبيعية في عالم مبني على سنن التدافع والتنازع واستخدام القوة الحيوانية الشرسة لطمس معالم الحق ودك صروح العدل؟(1/237)
ففي كتب الأمم السابقة (التوراة والإنجيل) كانت دعوة الحرب إلى بذل النفس لإقامة العدل ونصرة المظلوم، ومحاربة كل من خرج عن مذهب الله، ودعوة الناس إلى التضحية من أجل المبادئ والمثل الإلهية، فلم يكن مفهوم القتال عندهم مفهوماً كريهاً، فهي حروب مستمدة من الشريعة التوراتية والإنجيلية الدينية، فهي كما سوف نرى أنها ما تتم إلا بمباركة الرب سبحانه وتعالى ومعونته.
ففي العهد القديم وردت فيها أسباب الحرب في مواضع عدة من أسفاره؛ ففي سفر العدد ورد ما يفيد أن موسى عليه السلام بعد خروجه بقومه من مصر؛ بعث رسلاً يتحسسون أمر أرض كنعان – فلسطين- ليستقروا فيها: (فساروا حتى أتوا موسى وهارون وكل جماعة بني إسرائيل إلى برية فاران إلى قادش، وردوا إليهما خبراً وإلى كل الجماعة، وأروهم ثمر الأرض وأخبروه، وقالوا: قد ذهبنا إلى الأرض التي أرسلتنا إليها، وحقاً إنها تفيض لبنا وعسلاً، وهذا ثمرها غير أن الشعب الساكن في الأرض معتز والمدن حصينة عظيمة جداً، وأيضاً قد رأينا بني عناق هناك.) الإصحاح الثالث عشر، 26-29
وفي سفر صومائيل الأول: (فأجاب نابال عبيد داود وقال: من هو داود ومن هو ابن يسى، قد كثر اليوم العبيد الذين يقحصون كل واحد من أمام سيده، أآخذ خبزي ومائي وذبيحي الذي ذبحت لجاري وأعطيه لقوم لا أعلم من أين هم؟ فتحول غلمان داود إلى طريقهم ورجعوا وجاءوا وأخبروه حسب كل هذا الكلام، فقال داود لرجاله: ليتقلد كل واحد منكم سيفه، وصعد وراء داود نحو أربعمائة رجلاً، ومكث مائتان مع الأمتعة.) الإصحاح الخامس والعشرون 10-14(1/238)
وفي سفر الملوك الثاني: (وكان ميشع ملك مو آب الثاني صاحب مواش، فأدى لملك إسرائيل مائة ألف خروف، ومائة ألف كبش بصوفها، وعند موت آخاب عصى ملك مو آب على ملك إسرائيل، وخرج الملك يهو رام في ذلك اليوم من السامرة، وعد كل إسرائيل وذهب وأرسل إلى يهو شافاط ملك يهوذا يقول: قد عصى على ملك مو آب، فهل تذهب معي إلى مو آب للحرب؟.)الإصحاح الثالث4-8
وفي حزقيال: (وكان إلى كلام الرب قائلا: يا ابن آدم اجعل وجهك نحو أورشليم، وتكلم على المقادس، وتنبأ على أرض إسرائيل، وقل لأرض إسرائيل: هكذا قال الرب هاأنذا عليك، واستل سيفي من غمده فأقطع من الصديق والشرير من حيث أني أقطع منك الصديق والشرير، فلذلك يخرج سيفي من غمده على كل بشر من الجنوب إلى الشمال، فيعلم كل البشر أني أنا الرب سَلَلْتُ سيفي من غمده لا يرجع أيضاً.) الإصحاح الواحد والعشرون 1-5
وفي سفر يوشع: (وأنتم قد رأيتم كل ما عمل الرب إلهكم هم المحارب عنكم انظروا: قد قسمت لكم بالقرعة هؤلاء الشعوب الباقين ملكاً حسب أسباطكم من الأردن وجميع الشعوب التي قرضتها والبحر العظيم نحو غروب الشمس والرب إلهكم هو ينفيهم من أمامكم ويطردهم من قدامكم فتملكون كما كلمكم الرب إلهكم.) الإصحاح الثالث والعشرون 3-5
وفي سفر القضاة: (وحارب بنوا يهوذا أورشليم، وأخذوها وضربوا بحد السيف وأشعلوا المدينة بالنار، وبعد ذلك نزل بنوا يهوذا لمحاربة الكنعانيين سكان الجبل وسكان الجنوب والسهل.) الإصحاح الأول
وفي سفر القضاة أيضاً: (فأما هم فقد أخذوا ما صنع ميخاً والكاهن الذي له، وجاءوا إلى لايش إلى شعب مستريح مطمئن؛ فضربوهم بحد السيف، وأحرقوا المدينة بالنار، ولم يكن مَنْ ينقذ، لأنهها بعيدة من صيدون، ولم يكن لهم أمر مع إنسان وهي في الوادي الذي لبيت رحوب، فبنوا المدينة وسكنوا بها ودعوا اسم المدينة دان باسم دان أبيهم الذي ولد لإسرائيل، ولكن اسم الدينة أولاً: لايش.) الإصحاح الثامن عشر27-30(1/239)
وفي صموئيل الأول: (وخرج إسرائيل للقاء الفلسطينيين للحرب، ونزلوا عند حجر المعونة، وأما الفلسطينيون فنزلوا في أفيق واصطف الفلسطينيون للقاء إسرائيل، واشتبكت الحرب؛ فانكسر إسرائيل أمام الفلسطينيين، وضربوا من الصف في الحقل أربعة آلاف رجل.) الإصحاح الرابع 1-4
وفي التكوين: (فحدث في اليوم الثالث؛ إذ كانوا متوجعين أن ابني يعقوب شمعون ولاوي أخوي دينة أخذ كل واحد منهما سيفه، وأتيا على المدينة بأمن؛ وقتلا كل ذكر، وقتلا حمور وشكيم ابنه بحد السيف؛ لأنهم بخسوا أختهم، غنمهم وبقرهم وكل ما في المدينة، وما في الحقل أخذوه، وسبوا ونهبوا كل ثروتهم وكل أطفالهم ونسائهم وكل ما في البيوت.) الإصحاح الرابع الثلاثون 25-29
وفي سفر التكوين أيضاً: (فلما سمع إبرام أن أخاه سبي؛ جر غلمانه المتمرنين ولدان بيته ثلاثمائة وثمانية عشر، وتبعهم إلى دان، وانقسم عليهم ليلاً هو وعبيده؛ فكسرهم وتبعهم إلى حوبة التي من شمال دمشق، استرجع كل الأملاك، واسترجع لوطاً أخاه أيضاً وأملاكه والنساء أيضاً والشعب.) الإصحاح الرابع عشر 14-16
وفي سفر العدد: (قال الرب لموسى: لا تخف منه لأني قد دفعته إلى يدك مع جميع قومه وأرضه فتفعل به كما فعلت بسيحون ملك الأموريين الساكن في حبشون، فضربوه وبنيه وجميع قومه، حتى لم يبق لهم شارد، وملكوا أرضه.) الإصحاح الواحد والعشرون 34-35
وفي سفر العدد أيضاً: (ثم كلَّم الرب موسى قائلاً: ضايقوا المديانيين واضربوهم؛ لأنهم ضايقوكم بمكايدهم التي كادوكم بها.) الإصحاح الخامس والعشرون 16
وفي سفر العدد أيضاً: (وكلَّم الرب موسى في عربات مو آب على أردن أريحا قائلاً: كلم بني إسرائيل وقل لهم: إنكم عابرون الأردن إلى أرض كنعان؛ فتطردون كل سكان الأرض من أمامكم، وتمحون جميع تصاويرهم، وتبيدون كل أصنامهم المسبوكة، وتخربون جميع مرتفعاتهم.) الإصحاح الثالث والثلاثون 50-53 فهذه حرب تُشن على أقوام عبدوا غير الله تعالى(1/240)
وفي سفر صموئيل: (فقال داود للفلسطيني: أنت تأتي إلي بسيف وبرمح وبترس، وأنا آتي إليك باسم رب الجنود إله صفوف إسرائيل الذين عيرتهم... فتعلم كل الأرض أنه يوجد إله إسرائيل.) الإصحاح السابع عشر45-47
وفي سفر صموئيل الأول: (فذهب داود ورجاله إلى قعيلة وحارب الفلسطينيين وساق مواشيهم، وضربهم ضربة عظيمة، وخلص داود سكان قعيلة.) الإصحاح الثالث والعشرون 6
وفي سفر المزامير: (الذي يعلم يدي القتال فتحنى بذراعي قوس من نحاس.. أتبع أعدائي فأدركهم ولا أرجع حتى أفنيهم أسحقهم فلا يستطيعون القيام، يسقطون تحت رجلي تمنطقني بقوة للقتال، تصرع تحتي القائمين علي، وتعطيني أقْفِيَة أعدائي ومبغضهم أفنيهم.) المزمور الثامن عشر 35-41وهذا دعاء من داود إلى ربه
أما في العهد الجديد، فكذلك نرى أن الإنجيل لم يهمل الكلام عن الحروب بالكلية، بل جاء في نص واضح وصريح يقرر فيه أن السيد المسيح عليه الصلاة والسلام قد يحمل السيف ويخوض غمار القتال إذا دعته الحاجة والظروف لذلك، فالإنجيل كتاب مصدق للتوراة، ومحيي لشريعته، ومؤيد الصحيح من أحكامه، وفي الإنجيل هدى ونور وموعظة للمتقين؛ فجاء في الإنجيل على لسان المسيح - عليه السلام -: (لا تظنوا أني جئت لأرسي سلاماً على الأرض، ما جئت لأرسي سلاماً، بل سيفاً، فإني جئت لأجعل الإنسان على خلاف مع أبيه، والبنت مع أمها، والكِنَّة مع حماتها، وهكذا يصير أعداء الإنسان أهل بيته.) إنجيل "متَّى" الإصحاح العاشر 34-36(1/241)
فكان دين المسيح - عليه السلام - يفرق بين كل هؤلاء من أجل إعلاء كلمة الله، ويقوم أساسه الصحيح: أن لا توسط بي الخالق والمخلوق، ولا توسط بين العابد والمعبود، ومبشر برسول يأتي من بعده اسمه أحمد، يفرق بين الناس، حتى صار سيفاً على كل من خالف أمر الله، فقال - صلى الله عليه وسلم - ((بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وجُعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصَّغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم.)) أخرج الإمام أحمد وغيره انظر الإرواء للألباني 1269
والذي في الإنجيل يشبه قوله تعالى: { قل إن كان آباؤكُم وأبناؤكُم وإخوانُكُم وأزواجُكُم وعشيرتُكُم وأموالٌ اقترفتموها وتجارةٌ تخشَوْنَ كسادها ومساكنُ ترضونَها أحبَّ إليكم من الله ورسولِهِ وجهادٍ في سبيلهِ فتربَّصُوا حتَّى يأتيَ اللهُ بأمره واللهُ لا يهدي القومَ الفاسقين } التوبة
وقوله تعالى: { لاَ تجدُ قوماً يؤْمِنُون باللهِ واليومِ الآخِر يُوَادُّون مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَه وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أوْ أبناءَهُم أوْ إِخْوانَهم أوْ عَشِيرتَهُم أُولئِك كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُم بروحٍ منه ويُدْخِلُهُم جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِها الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِك حِزْبُ اللهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ المُفْلِحُونَ } المجادلة(1/242)
ومَثَلُ الذي هم عليه في كتب أهل الكتاب، كما قال الله تعالى: { محمدٌ رسولُ اللهِ والذين مَعَهُ أشِدَّاءُ على الكُفَّار رُحَمَاءُ بَيْنَهُم تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُون فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُم فِي وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مثلُهُم في التَّوْراة ومَثَلُهُم في الإنجيل كزرعٍ أخرج شَطْئَهُ فآزره فاسْتَغْلَظَ فاسْتَوى عَلى سُوقِه يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الذين آمنوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وأَجْراً عَظِيماً } الفتح
حروب الجاهلية
أما حروب الجاهلية؛ فهي حروب تافهة، تُسفَّك فيها الدماء لأتفه الأسباب، ليس فيها تقرير لعدل، ولا تحقيق حق، ولا لإزالة باطل، وإنما هي حروب صماء عمياء تحمل معها العصبيات التي لم تكترث بعواقب الأمور، فكانت المجازر التي طالت الكثير من الأعمار، وقتلت وأزالت الكثير من الأنفس والثمرات، فخلفت الفناء والخراب وتيتيم الأطفال وترمّل النساء، فهي عبارة عن مجموعة من الملاحم القتالية التي نشبت في العرب، حتى سُمِّيت في كتب التأريخ والأدب: بأيام العرب، وكانت قبل مبعث النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، منها: حرب البسوس، وحرب داحس والغبراء، ويوم النسار، ويوم جفار، ويوم الفجَّار، ويوم ذي قار، ويوم شعب جبلة، ويوم رحرحان، وغيرها من الحروب الكثيرة التي استمر بعضها إلى عشرات السنين، مخلفة الدمار والشنار والعار واليأس والشؤم..
تشريع الجهاد في الإسلام(1/243)
كان الجهاد في الإسلام - ولا يزال- موضوع حماية حق، لا موضوع انتقام ولا شفاء حزازات في الصدور، فكان في أول الدعوة قد تحمَّل الأذى والعذاب في سبيل الدعوة إلى الله، وتثبيت التوحيد، ونبذ الشرك، فكانت الدعوة ناجحة، وراجت في المجتمع المكي، فثارت قريش وهاجت على هذا النجاح الذي ظنوا به تأخرهم عن الزعامة الوثنية الموروثة التي يقودونها في جزيرة العرب، فقصدوا عندها قتل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكانت الهجرات الثلاث؛ وكانت هذه الهجرات تعبيراً عن الدفاع عن النفس، وعن الدين الذي هو شامل للإنسانية كافة، بل وكانت الهجرات هي القوة التي بها حماية ما عند المسلمين من الحق والعدل..
ثم بعد التمكين وصيرورة معقل دار الإسلام؛ فلا مناص بعده من السماح للمسلمين بحماية أنفسهم ودينهم بالسلاح الذي كان قد أَشْهَرَهُ خصومهم من قبل في وجوههم، كما قال الله تعالى: { إن الله يدافع عن الذين آمنوا } الحج فالله تعالى هو الذي سوف يدفع عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - وعن صحابته وعن من تبعهم إلى يوم الدين كيد الفجار، وشرَّ الأشرار، فيحفظ دينه ومقامه ويكلؤه وينصره { أليس الله بكاف عبده } الزمر(1/244)
فالآية الأولى أنزلها الله لما أخرج الناسُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - من مكة، وبعدها كان القتال والنصر والتمكين لأهل الدين الحق، فهلك كل من آذى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وآذى من تبعه وآمن به، وفي هذا قال الله تعالى: { أُذِنَ للذين يُقاتَلون بأنهم ظُلِموا وإنَّ اللهَ على نصرهم لقدير الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلاَّ أنْ يقولوا ربُّنا اللهُ ولولا دفعُ اللهِ الناسَ بعضَهم ببعضٍ لهُدِّمت صوامِعُ وبيعٌ وصلواتٌ ومساجدُ يُذْكَرُ فيها اسمُ اللهِ كثيراً ولَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } الحج. انظر رسالتي "ماذا ينقمون من خليلنا محمد - صلى الله عليه وسلم -" وقد تقدم تفسير القطبي لهذه الآية في أعلاه
فبعد إخراج المسلمين من أرضهم بغير حق إلا أن قالوا ربنا الله؛ مكنهم الله، فكانت لهم عاقبة الأمور ثواب ما صنعوا؛ فأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهو عن المنكر، لهذا قال الله تعالى بعد هذه الآية التي في سورة الحج: { الذينَ إنْ مكَّانهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور } وجماع ذلك كله: توحيد الله تعالى، والبراءة من الشرك والوثنيَّة، فقال تعالى: { وَعَدَ اللهُ الذينَ آمنُوا مِنْكُم وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرضِ كَمَا اسْتَخْلفَ الذينَ مِنْ قَبْلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُم الذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً؛ يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ } النور(1/245)
فلم يكن في الجهاد عدوان، وإنما صد لعدوان، ألم ترَ كيف تصدى خصوم الدين النصراني للمسيح عليه الصلاة والسلام؟! وما كان المسيح يدعو إلا للحق وإقامة العدل والسلام بين الناس، حتى أنهم استصدروا أمراً بصلبه، فنجاه الله تعالى ورفعه إليه، وما زالوا بالذين اتبعوه يضطهدونهم ويقتِّلونهم حتى مضت ثلاثة قرون وهم مشردون في الأرض لا تجمعهم جامعة، إلى أن أتى قسطنطين فحماهم، وأعمل السيف في أعدائهم الوثنيين. لم يكن قسطنطين موحداً لله تعالى، بل كان وثنياً يقول بمقولة ألوهية المسيح، وأنه من جوهر الله، وأنه قديم بقدمه، وأنه لا يعتريه تغيير ولا تحول، وفرضت هذه العقيد على النصارى قاطبة مؤيدة بسلطان قسطنطين التَّرهيبي والتَّرغيبي، وقصر الناس على هذه العقيدة بالسيف، مقررا عقيدة التثليث التي صدرت من مجمع نيقية.. انظر "محاضرات في النصرانية" لأبي زهرة
فهكذا كان الإسلام؛ دين يدعو إلى السلام وإقامة العدل بين الناس، ولم يكن يوماً مشرع للحرب لذاتها، وإنما هي – أي الحرب- لحماية حق الله تعالى، وهي كالجرَّاح الذي يضع مشرطه حيث يوجد الداء، مع عدم المساس بالأعضاء السليمة، فهو يقصد استبقاء حياة المريض، واستدامة وجوده معافىً سليماً قوياً، لا قتله، لهذا أمر الإسلام بعدم العدوان، والجنوح للسلم لمن جنح من الأعداء، فقال الله تعالى: { وإن جنحوا للسَّلْمِ فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم } الأنفال(1/246)
فلا يمكن لأي أحد أن يتهم الإسلام بأنه أكره الناس على دين لا يوافق العقل والفطرة، بل الدين الإسلامي هو دين التمازج بين الروح والمادة في تعاليمه، دين الشمولية من غير نقص، بل هو دين العقل والفطرة، دين العقل والنقل، وجعل للعقل مكانته الحقيقية دون إفراط ولا تفريط، وجعل للنقل مكانته في منهج المحدثين ونقدهم للمتون السنية، وتقعيدهم القواعد العقلية على مدار التاريخ، وحركتهم الكبيرة المباركة في الفقه، والاجتهاد في أبواب العلم والمعاملات، فهي أمة لم تعرف البشرية تراث حفظته مثلهم، فمدونات الفقه عندهم لم تترك واردة ولا شاردة إلا وذكرت لها حكماً، بل القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه قد دلل على قضايا الاعتقاد والغيب والنبوة والألوهية بأدلته العقلية، وأثنى على أهل العقول وأشاد بهم في مواضع كثيرة منه وكثيرة..
فالتاريخ يشهد أن الإسلام انتشر بالجهاد الذي يزيل الطواغيت التي تحول دون المسلمين ودون أن يُسْمِعُوا الناس هداية الله، وعلى كثرة معارك المسلمين عبر التاريخ؛ لم تكن تُكْرِه الناس حتى يكونوا مسلمين، بل انساب الإسلام إلى نفوس الناس كالماء الرقراق العذب، فوجدوا فيه اللذة التي لا يجدونها في دين غيره، بل إن النصارى قد أمنوا في بلاد المسلمين، وتعايشوا مع أهل الإسلام ما لم يأمنوا في بلادهم الأصلية؛ بلاد بني الأصفر، فأي سيف يتحدث عنه بابا الفاتيكان، وبوش الأمريكان؟!
فبابا الفاتيكان (رئيس كُهَّان العالم)، وإمبراطور الأمريكان (بوش الثاني) قد أخرجا خبيئة أنفسهم التي كانت مختبئة في كنائس وصوامع بين كتب لا تساوي خروج الحمير، يريدان القدح بأمة تربَّت حول البيت العتيق، ورضعت من لبان منهاج الإسلام..(1/247)
فنحن لا نطالب البابا ولا بوش بالاعتذار عن موقفهما من الإسلام! لكوننا نحن لن نعتذر إذا قلنا أن اليهود والنصارى مشركون وثنيون، مغضوب عليهم ضالون، ولن نستطيع الاعتذار إذا قلنا أن النصارى على دين بولس الذي يتربع البابا اليوم على كرسيه في الفاتيكان، ولن نقف عن قراءة سور القرآن الفاضحة لأهل الكتاب الذين حرفوا كتبهم وكتبوها بأيديهم، واشتروا بها ثمناً قليلاً.. بل نحن ما زلنا متمسكين بدعوتنا لهم، وهي قائمة بمناقشة الأمور التي يعدها النصارى من مسلماتهم، ونعدها نحن - بالدليل الواقع- من مكذوباتهم..
قتال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
إن القبائل التي غزاها النبي - صلى الله عليه وسلم - كثيرة كلها تنتسب إلى مضر ومن بطونها، ومُضر هو جد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانت هذه القبائل هي كالتالي:
قريش مكة: فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينتمي إليها، فكانت الغزوات والسَّرايا التي معهم: سيف البحر- الرابغ - ضرار - بواط- سفوان - ذو العشيرة – السويق - ذو قردة – أحد - حمراء الأسد - بدر الآخرة – الأحزاب - سرية العيص - سرية عمرو ابن أمية – الحديبية - سيف البحر الثانية 8هـ - فتح مكة.
قبيلة بنو غطفان وأنمار: وغطفان من مُضر، قال ابن حجر في :الفتح" 6/543 ط.دار المعرفة: (تميم وأسد وغطفان وهوازن جميعهم من مضر بالاتفاق.) أما أنمار فهم مشتكون في نفس النسب مع غطفان، قال ابن حجر 7/424 (وسيأتي باب أن أنمار في قبائل منهم بطن غطفان.) والغزوات والسرايا التي معهم: قرقرة الكدر – ذي أمر – دومة الجندل – بني المصطلق – الغابة – وادي القرى – سرية كرز بن جابر – ذات الرقاع – تربة – الميفعة – الخربة – سرية أبي قتادة – سرية عبد الله بن حذافة السهمي انظر "رحمة للعالمين" للمنصور فوري 462(1/248)
بنو سُليم: وهم من مُضر أيضاً – أنظر "تاريخ الأدب الجاهلي" 473 لعلي الجندي – والغزوات والسرايا التي معهم: بئر معونة – جموم – سرية أبي العوجاء – غزوة بني ملوح وبني سُليم. انظر "رحمة للعالمين" 462
بنو ثعلبة: وهم من مضر – انظر:سبائك الذهب" للسويدي و"تاريخ الدب الجاهلي" 470 – والغزوات التي معهم: غزوة ذي القصة – غزوة بني ثعلبة – غزوة طرف – سرية الحسمى - "رحمة للعالمين" 462
غزوة فزارة وعذرة: فأما فزارة فهم من مضر، وأما بنو عذرة فهم بطن من قضاعة، ولكنهم موالين لبني فزارة الذين هم من مُضر - "تاريخ الأدب الجاهلي" 466- وكان معهم الغزوات التالية: سرية أبي بكر الصديق – سرية فدك – سرية بشير بن سعد – غزوة ذات أطلح – "رحمة للعالمين" 463
بنو كلاب وبنو مرة: وهم من مُضر - "سبائك الذهب" 295، و"تاريخ الأدب الجاهلي" 467- والغزوات والسرايا التي معهم: غزوة قريظة – غزوة بني كلاب – غزوة بني مرة – سرية الضحاك – "رحمة للعالمين"463
عضل والقارة: فأما عضل فهي من مُضر – "سبائك الذهب" - وأما القارة فهي إلى خزيمة بن مدركة – تاريخ الدولة الأموية – لمحمد الخضري 156- فقد غزاها النبي - صلى الله عليه وسلم - غزوة واحدة؛ وهي: ذات الرجيع. "رحمة للعالمين"463
بنو أسد: وهم من مُضر – "سبائك الذهب" 256 و"تاريخ الأدب الجاهلي"267- والغزوات والسرايا التي معهم: سرية قطن – سرية عمر مرزوق – غزوة ذات السلاسل – "رحمة للعالمين"463
بنو ذكوان: وهم من مُضر – "سبائك الذهب" 127- وهم الذين دعا عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - شهراً هم ورعل، ولم يغزهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا في بئر معونه.
بنو لحيان: وهم من هذيل، وهذيل من مضر – "تاريخ الأدب الجاهلي"467- وغزاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - غزوة واحدة، وهي غزوة بني لحيان. "رحمة للعالمين" 463(1/249)
بنو سعد بن بكر: وهي من مُضر – سبائك الذهب 148، و"تاريخ الأدب الجاهلي" 473- وقد أرسل لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - سرية واحدة؛ وهي سرية فدك.
بنو هوازن: وهم من مضر – "سبائك الذهب" 124، و"تاريخ الأدب الجاهلي" 473- وقد غزاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - غزوة ذات عرق.
بنو تميم: وهم من مضر – "سبائك الذهب" 85، و"تاريخ الأدب الجاهلي" 470-
بنو ثقيف: وهم أيضاً من مضر – "سبائك الذهب" 147، و"تاريخ الأدب الجاهلي" 473- وقد غزاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - غزوتين: غزوة حنين، وغزوة الطائف..
فهذه القبائل كلها تنتسب إلى مضر ومن والاهم، أما يهود؛ فقد كانوا مع قريش حسب معاهداتهم معهم، ولهم حكم آخر بسبب خيانتهم، فهم قُتِّلوا بناء على حكم قضائي، بسبب الحرب.. فكانت غزوات وسرايا النبي - صلى الله عليه وسلم - موجهة في نطاق ضيق جداً؛ وهو نسل مضر، فلا يمكن أن يُقال حينئذ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أشعل نار الحرب ضد العرب جميعاً، أو أنه خاض الحروب لإكراه الناس على اعتناق الإسلام، فلو كان الأمر كما يقولون؛ لوقعت حرب عدوانية أو دفاعية ضد أي قبيلة من مئات القبائل العربية؛ مثل ربيعة، أو القبائل القحطانية، أو العدنانية، أو كلها مجتمعة، وهكذا..
ولكن ما هو السبب في قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - لإخوته من أجداده، مع أن المتوقع هو الألفة والمودة بين أفراد الجد الواحد، لا أن تشتعل الحروب والقتال بينهم؟! فما الذي عكس الأمر، وقلبه رأساً على عقب؟! والجواب على ذلك:(1/250)
أن هذه الحروب كانت نتيجة غضب إخوة النبي - صلى الله عليه وسلم - من أجداده وشدة غيرتهم حقدهم عليه، فقد كانت العرب في القديم؛ إذا تشعَّبت بطونها؛ نافست بعضها البعض في الشرف والثروة والرئاسة، لهذا نجد القبائل التي يجمعها أب واحد؛ كل واحدة منها وقفت لأختها بالمرصاد والعداء، وتنتهز أي فرصة للغض منها والاستيلاء على موارد رزقها؛ من مراعي ومناهل الماء.. وهذا العداء مفقود بين القبائل الأخرى المختلفة
(تنازع الشرف الرئاسة، وأكثر ما يكون ذلك إذا مات أكبر الإخوة وله ولد صالح لأن يكون موضع أبيه، فينازع أعمامه رياسة العشيرة، ولا يسلم أحد منها للآخر، وقد يفارق رئيس أحد البيتين الديار مضمراً في نفسه ما فيها من العداوة والبغضاء، وقد يبقيا متجاورين، وفي هذه الحالة يكون التنافر أشد؛ كما كان الحال بين الأوس والخزرج من الدينة، وبين هاشم وأمية من مكة، وبين عبس وذبيان من قيس، وبين بكر وتغلب من ربيعة، ومتى وجد النفور بين جماعتين أو بين شخصين لا يحتاج شبوب نار الحرب بينهما إلى أسباب قوية، بل أيسر النزاع كاف لنشوب نار الحرب تيتم الأطفال تأيم النساء؛ لذلك كانت الجزيرة العربية دائمة الحروب والمنازعات.) "تاريخ الدولة الأموية" لمحمد الخضري بك" ص32 ط.دار القلم، بيروت(1/251)
فهذه هي الحقيقة! فنار الحرب سريعة النشوب بين أبناء الأب أو الجد الواحد، وكان غضب أخوة النبي - صلى الله عليه وسلم - من أجداده هو الذي أجج نار الحرب بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبينهم، فهم خافوا على الشرف والسيادة إذا أذعنوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة والنبوة، فكان أول ما كان من أهل مكة أن أقاموا حصاراً على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى بني هاشم وبني عبد المطلب، فانحازوا إلى شعب أبي طالب ثلاث سنوات كاملة، حتى من كان غير مسلماً قد حوصروا حصاراً شديداً، فلا يجالسوهم ولا يخالطوهم ولا يبايعوهم، وجُوِّعوا فيه، وحُرموا أشياءً لا تخطر ببال، حتى سُمع فيه بكاء الأطفال، وأنين الشيوخ، فصبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ومن كان معهم من بني هاشم وبني عبد المطلب..(1/252)
ويؤيد ما نقوله ويقويه ذلك الحوار الذي دار بين الأخنس بن شريق، وبين أبي جهل؛ إذا قال له الأخنس: يا أبا الحكم! ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ - يعني القرآن - فقال: ما سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تَجَاثَيْنَا على الرُّكَب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نَبِيٌّ يأتيه الوحي من السماء! فمتى ندرك هذا؟! والله لا نؤمن به أبداً، ولا نصدِّقه..فليست الصدفة إذن ولا محض الاتفاق هما اللذان دفعا النبي عليه الصلاة والسلام لقتال أبناء أجداده من مضر دون ربيعه أو غيرها من العرب، بل الطبيعة العربية التي تعتمد على تنظيم القبيلة المتوثبة دائماً لمن ينازعها الشرف والسيادة من أبناء الأب الواحد، وخاصة أن بني هاشم كانت أعظم من بقية عشائر قريش وفروعها البضعة عشر، ثم إننا لا ننسى أن الإسلام قد انتشر في المرحلة المكيَّة في سائر الفروع القبلية، مما جعل قوة في الاستفادة من تكوين الحماية الدعوة الجديدة ونشرها في جميع العشائر القرشية العديدة دون تحفظات متصلة بالعصبية؛ فأبو بكر الصديق من تيم، وعثمان بن عفان من بني أمية، والزبير بن العوام من بني أسد، ومصعب بن عُمير من بني عبد الدار، وعلي بن أبي طالب من بني هاشم، وعمر بن الخطاب من بني عدي، وعبد الرحمن بن عوف من بني زهرة، وعثمان بن مظعون من بني جمح، بل إن عدداً من المسلمين في هذه المرحلة لم يكونوا من قريش؛ فعبد الله بن مسعود من هُذيل، وعتبة بن غزوان من مازن، وعبد الله بن قيس من الأشعريين، وعمار بن ياسر من عنس من مذجح، وزيد بن حارثة من كلب، والطفيل بن عمرو من دوس، وأبو ذر من غفار، وعمرو بن عبسة من سليم، وعامر بن ربيعة من عنْز بن وائل، وصهيب النَّمري من بني النمر بن قاسط، والذي يتقلد رئاسة الدعوة هو النبي - صلى الله عليه وسلم - الهاشمي القرشي، فكانت العصبية هي السبب الرئيسي لاشتعال هذه الحروب، ولولاها(1/253)
لما اضطر النبي - صلى الله عليه وسلم - للقتال بعد خمسة عشر عاماً من الدعوة والصبر، تخللها من المشاق والعنت ما الله به عليم، ومع ذلك فقد كان هجيراه بأبي هو وأمي: ((اللهم اهْدِ قومي فإنهم لا يعلمون)).
فكانت نتيجة هذه الدعوة المباركة؛ أن تحول الناس الملحدين الوثنيين إلى مسلمين موحدين، ومن أُناس ناهبين غاصبين إلى أناس آمنين مطمئنين، ومن العداوة والبغضاء إلى الأخوة الرحمة فيما بينهم..
فالإسلام المتمثل في شخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - أبعد ما يكون عن حمل الناس على اعتناقه بالسيف، فما كان السيف هو الذي حدد وظيفة الجهاد، وإنما الضابط هو قوله تعالى:
{ وإمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فانْبِذْ إِلَيْهمْ عَلى سَواء إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الخَائِنينَ } الأنفال
فإن كان بين المسلمين والكافرين عهد أو أمان؛ فلا يجوز للمسلمين الغدر حتى ينقضي الأمد، فإن خاف المسلمون من أعدائهم خيانة بأن ظهر من قرائن أحوالهم ما يدل على خيانتهم من غير تصريح منهم، فحينئذ يخبرهم المسلمون أنه لا عهد بيننا وبينكم حتى يستوي علم المسلمين وعلم أعدائهم بذلك. ودلت الآية أيضاً على أنه إذا لم يخف منهم خيانة بان يوجد ما يدل على عدم الخيانة؛ أنه لا يجوز نبذ العهد إليهم، بل يجب الوفاء إلى أن تتم مدَّته. تفسير ابن كثير
ولقد سبق الكلام في أعلاه أن ما كان عليه موقف المسلمين في مكة هو القلة والضعف، وقلة المنعة، فكانوا خائفين من تخطف الناس لهم، حتى كان يُبيَّت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ويُتآمر عليه وعلى أصحابه، فكانوا - أي المشركون- ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، بل من وقاحتهم كانوا يدَّعون بأنهم قادرون على أن يأتوا بمثل القرآن، حتى بل بلغ بهم أن تعجلوا العذاب إن كان الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الحق!(1/254)
وكان العالم في الخارج قد عرفوا طبيعة دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا قد علموا أن دعوته في الشهادتين تعني الخروج عن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، فرأوا أن هذه الدعوة سوف تكسر الصلبان، وتطفئ عبادة النيران، وتنحي الأوثان. فكانوا يرون الإسلام سوف يُخرج سلطانهم إلى سلطان هذا الدين وقيادته، وينتزعون ولاءهم وقيادتهم الكافرة إلى القيادة الجديدة المسلمة، فأحسوا خطره في كيانهم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والعقدي..
ولما رأوا أن الإسلام لا يعني اعتزال معتقدات الشرك فقط، ولكنهم وجدوه هو الانخلاع عن المجتمع الجاهلي وتصوراته وقيمه ومبادئه وسلطانه وشرائعه، ويصاحب هذا كله الولاء لقيادته وقادته الذين يريدون تحقيق الإسلام في الواقع. فهذا الذي قضَّ مضاجع الكفار من عباد الصلبان والنيران وكل الأوثان، فأرادوا مقاومته على مر العصور، وبشتى الأساليب، ولكنهم في كل الدهور يعجزون، ويعجزون، ويعجزون..
والتأريخ يعيد نفسه! فهم الآن يثيرون على الدين الشبه؛ فيقولون لجماهير العالم: إن الإسلام أساطير، قد اكتتبها محمد ممن يجمعونها، فجاء يتلوها عليكم، زاعماً أنها وحي السماء، وغيره من الكلام الذي تتطور بما يناسب كل الزمان..
ولكن! الذي انتهى إليه الأمر في أول الزمان وآخره؛ أن كل الأساليب لم تعش طويلا، ولم تمكث كثيراً، فالقرآن القاهر بسلطانه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه قد اكتسح كل أسلوب، وأبطل كل مناورة قام بها البابا ومن معه، ومن هو من قبله، فهو قرآن من عند الله، والله هو الذي تكفَّل بحفظه؛ فمهما طال الكيد وتعقد وتطور وترقى؛ فما زال القرآن يغلب، والدين ينوِّر الطريق للناس بسلطانه القاهر على الفطر، وما زال يدخل الناس أفواجاً في هذا الدين..(1/255)
فقد غلب الدين على كيد الأرض كلها، وكيد الشياطين من يهود ونصارى ومجوس، بل وعلى كل أجهزة الأرض التي اخترعها هم الكافرون به بما جاء به، بل وعلى أجهزة المتسترون تحت أسماء المسلمين..
نعم! لقد أبعد الكفار والمنافقون الدين على الكثير من المسلمين، وحولوه إلى مجرد أنغام وتراتيل، وتمائم وتعاويذ، حتى أبعدوه حتى من خاطر الناس، فأقاموا مصادر وضعية غير الإسلام للتوجيه في جميع الشؤون..
ولكن ما يزال عصبة من المسلمين يعملون من وراء كل كَيْدٍ كِيْدَ بالمسلمين، وتبيين هذا الدين في كل الأرض وفي كل حين ولو كره المجرمون..
ونحن نقول لبابا الفاتيكان ومن معه: إن الفرصة ما زالت سانحة أمامكم لتنتهوا عما أنتم عليه من الكفر، ومن التجمع لحرب الإسلام وأهله، فتوبوا إلى الله وارجعوا إليه، فالله يغفر لكم ما قد سلف، وإلاَّ سوف تمضي عليكم سنَّت الأولين ولن تتخلف عنكم، فالله سوف يعذب المكذبين بعد التبليغ والتبيين، وسوف يرزق أولياءه النصر والعز والتمكين، ولو بعد حين..
لقد حرر الإسلام الإنسان في الأرض من عبودية العباد، وأيضاً حرره من عبوديته لهواه، وكان من تحقيق هذا الهدف أمران مهمان؛ أولهما: دفع الأذى والفتنة عمن اعتنق هذا لدين، وثانيهما: تحطيم كل قوة في الأرض تقوم على أساس عبودية البشر للبشر، لهذا قام الجهاد في سبيل الله؛ لإعلاء كلمة الله، دون إكراه في الدين بعدما تبين الرشد من الغي، ويكون الدين كله لله..(1/256)
وهذا يتطلب إزالة الحواجز المادية المتمثلة في سلطان الكفر، وإقامة سلطان الله القاهر، فإذا أزيلت الحواجز؛ تُرك الناس أفراداً يختارون عقيدتهم أحراراً من كل ضغط، على ألا تتمثل العقائد المختلفة للإسلام في تجمع له قوة مادية يُضغط بها على الآخرين، ويحول بها دون اهتداء من يرغبون في الهدى، يعني: إن الناس أحراراً في اختيار عقيدتهم، على أن يعتنقوا عقائدهم أفراداً، فلا يكون سلطة قاهرة يدين لها العباد إلا لسلطان رب العباد.. { حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله } الأنفال
لهذه الغاية يقاتل المسلمون الكافرين، فمن قبل الإسلام ومبادئه وأعلن استسلامه لها؛ قُبل منه، ولم يُفتَّش عن نيته وقلبه، وتركوه لله، ومن تولَّى منهم وأصر على مقاومته للإسلام؛ قاتله المسلمون، وأوقفوا تمرده واستطالته على الإسلام، لكون الإسلام لله، وهو الأصل العالمي الذي على البشرية كلها أن تفيء إليه، أو أن تسالمه بجملتها، فلا تقف لدعوته بأي حائل من نظام سياسي، أو قوة مادية، وأن تخلي بينه وبين كل فرد يختاره بمطلق إرادته، ولكن لا يقومه ولا يحاربه، فإن فعل ذلك أحد؛ كان على الإسلام أن يقاتله؛ لكونه أراد أن ينتزع سلطان الله ويغتصبه، فالجهاد في سبيل الله يعني تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض؛ وهي توحيد الله تعالى الذي قال عن نفسه: { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } الزخرف وهي سيادة الشريعة الإلهية وحدها، وإلغاء القوانين البشرية، وهي دعوة الرسل جميعاً في إقرار دين الله في الأرض..
خلاصة كل ما سبق في نقاط هامة عدة :
1- أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير لا ينضب بتطاول الزمان وانصرام القرون.
2 - المسيحية دين نحله بولس ومن بعده عن الوثنيات القديمة، فاقتبسوا منها عقائد النصرانية المختلفة: تجسد الإله موت الإله كفارة للخطايا. واختصاص الصليب بهذا الموت عقيدة الثالوث الموحد. العشاء الرباني …..(1/257)
3 - النصرانية الحقة دين الله الذي أنزله على نبيه عيسى عليه السلام، وهو دين التوحيد الخالص الذي نؤمن به كما نؤمن بالتوراة والإنجيل اللذين أنزلهما الله عز وجل وملؤها الهدى والنور وهذا الهدي لم تندرس آثاره إلى اليوم من الكتب المقدسة عند النصارى، حيث يظهر التوحيد فيها جلياً كالشمس في رابعة النهار، في حين لا تكاد هذه الكتب تدل على التثليث إلا بالتحريف والتعسف والتمحل في الفهم والاستدلال..
4 - الأسفار المقدسة بين يدي النصارى اليوم كتب لا يعلم على وجه التحديد من كاتبها، وهي كتب سيرة وتاريخ لم يزعم كتابها المجهولون أنهم يقدمون من خلالها كلمة الله، وإن زعم النصارى أنها كتبت بإلهام. فإن التأمل بهذه الكتب يكشف زيف هذه الدعوى، ويثبت بشرية هذه الكتب وخلوها عن الوحي وهدي النبوات.
5 - هذه الأسفار ما قدَّسها إلا البشر، فمنحوها في مجامعهم صفة القدسية والعلوية، غير مجامع عدة رفضت بعض هذه الأسفار، ثم أقرتها، وما يزال بعضها مرفوضاً إلى يومنا هذا بعد أن كان مجمعاً على قداسته.
6 - الأسفار المقدسة عند النصارى لا تدل على الكثير من معتقدات النصارى، بل هي في كثير من المسائل تنقض معتقدات القوم وتكشف زيفها وعوارها. ويعود ذلك لصدور النصارى بهذه العقائد عن فكر بولس المرفوض عند سائر التلاميذ أو عن المجامع المتأخرة التي صاغت العقائد تبعاً للفلسفات المختلفة.
7 - في الأسفار التي يتناقلها النصارى أثارة من نور الأنبياء تشهد لله بالتوحيد ولنبيه محمد بالرسالة، ولليهود بالفسق والتحريف والتبديل.
8 - صلب المسيح أمر زعم النصارى وقوعه، وادعوا عليه التواتر بين الأمم، وقد أثبت علماؤنا وبعشرات النصوص الكتابية بطلان هذه القصة ونجاة المسيح من الصلب المزعوم.
9 - عقيدة الفداء والخلاص وهمٌ آخر تعلق به النصارى من غير ما دليل صريح عن المسيح عليه السلام، وقد أثبت علماؤنا بطلان هذا المعتقد بالأدلة الكتابية والعقلية.(1/258)
10 - شبهات النصارى عن الإسلام تنبع من الكذب الفاضح أو التلبيس الخادع أو الجهل المطبق بطبيعة وأصول هذا الدين.
11- جهود علماء القرن الرابع عشر خلاصة مباركة استثمرت جهود السابقين، وأضافت عليها من المعطيات الجديدة ما أثرى الجدل الإسلامي النصراني في هذا القرن.
12- الدافع الذي دفع علماءنا لخوض الجدل مع النصارى إيمانهم بواجب البيان والتبليغ، وإدراكهم للخطر الذي تشكله المؤسسات الاستعمارية النصرانية والهجمة التبشيرية الشرسة على بلاد المسلمين المختلفة.
13- جهود علمائنا المباركة تركزت في فني التأليف والمناظرة، وقد أبدى علماؤنا في كل من الفنين ما يليق بمن يحمل سلطان العلم والحق والدليل.والله ولي كل خير ويهدي إلى كل بر وهو وحده المستعان.
القرضاوي وطاغوت الديمقراطية
من المؤسف جداً؛ أن تكون الديمقراطية الكافرة شعاراً يُرفع، ونظاماً يُطَالِبُ به دعاة التيارات الإسلاميَّة للتحكيم في العديد من الدول! حتى أن أكثر الدول التي تقول أن دينها الرسمي هو الإسلام فهي دول ديمقراطية في أحكامها! وحتى الدول التي تُحارَب من الغرب والشرق تنادي بالديمقراطية!
وإن تعجب! فعجباً ما ترى وتسمع وتقرأ، أن من ينتسب إلى العلم الشرعي؛ يهتف وينادي بأعلى صوته بالديمقراطية، ويقول: إنها دعوة إسلامية!!وبظنه أن في الإسلام ديمقراطية تُسمى الشُّورى! فأضيفت هذه الكلمة إلى الإسلام، كما أضيفت كلمة الاشتراكية وغيرها للإسلام، والإسلام منها براء، براءة الشمس من اللمس! انظر القسم الثاني من هذا المجلد في تبني الغزالي شيخُ القرضاوي للاشتراكية والديمقراطية(1/259)
والأعجب من ذلك كله! أن ترى من الدعاة الإسلاميين من يقول أنها خير بديل للديكتاتورية ولحكم الطاغوت! فصارت الديمقراطية شعاراً فكرياً يغزو وينشط ويتحرك تحت الحزبية، وتياراً عاماً، ومذهباً شاملاً يتولد منه نظام السياسة الحزبيّ، وينادي به القرضاوي بتياره الذي سماه وسطي! فألَّف في ذلك ومدح وعظَّم ودافع لترسيخه، وبذل الغالي والنفيس في سبيله، ورد الرُّدُودَ على من خالفه من أجل الدفاع عنه؛ فهو تيار ديمقراطي جلد، سماه بغير اسمه وسطي!
ومع الأسف ترى مهرجانات ضخمة وواسعة تُرفع من أجل الإشادة بالديمقراطية وتقديس فكرتها، وتجد قنوات فضائية، وصحف محلية وخارجية، وإذاعات إعلامية تنفخ ببوق الديمقراطية في آذان الشعوب، وتمجِّد بالديمقراطية، حتى صار من المسلمين بتعدد الأبواق النافخة؛ يظن أن الديمقراطية أعظم من عدالة الإسلام، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله العليِّ العظيم.
قبل أن نبدأ بنقض تبني القرضاوي للديمقراطية؛ فواجب علينا أن نعلم ما هي الديمقراطية، ما هو هذا المصطلح؟! بل وقبل البدء في معرفة هذا المصطلح؛ ينبغي علينا أن نعلم ما هو الإسلام، وما هي سماته وخصائصه التي غفل عنها، أو أغفلها أصحاب التيارات التي سمَّت نفسها: إسلاميَّة سياسيَّة تجديديَّة وسطيَّة! ولتعلم كيف صار حال المسلمين في العالم لما نحُّوا الإسلام واستبدلوه بالديمقراطية، فاستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، فلا نعجب بعدها على حالنا، والله المستعان! فهو من عند أنفسنا، { قل هو من عند أنفسكم } فربنا ليس بظلام للعبيد...
سمات الإسلام وخصائصه(1/260)
لا يشك أحداً ممن وفقه الله تعالى علماً في الدين الإسلامي الحنيف؛ أن الإسلام دين كامل شامل لا يقبل الزيادة، ولا يجوز فيه النقص، فهو دين من عند الله تعالى، أكمله الله، وأتم به النعمة، ورضيه للعالم دينا، وجعله الصبغة التي صبغ الناس عليها، لا يقبل التبديل، ولا التحريف، ولا الغلو، فهو الميزان والضابط والحاكم لكل القضايا، فهو دين يَعلو ولا يُعْلَى عليه في كل الأزمان، وتفرق الأوطان..
فمن خصائص هذا الدين القويم:
أولاً: أنه من عند الله { نزل به الرُّوحُ الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين } الشعراء
فالقرآن الكريم نزل بأمر الله تعالى بلفظه ومعناه، والسنة المطهرة معناها من عند الله، واللفظ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى جميع المسلمين اتباع كتاب الله تعالى وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، { وهذا كتابٌ أنزلنا مباركٌ فاتبعوه لعلكم تُرحمون } الأنعام، { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى } النجم
أما النُّظُم الوضعيَّة، فهي نظم وضِيعة، لكون مصدرها الإنسان الذي خُلق ضعيفاً، وظلوماً جهولاً، فمهما كانت النظم والفلسفات؛ فهي لا تخرج عن العجز والظلم والجهل مهما ادعت رفع رايات العدل، وتحقيق المساواة؛ فإنها لن تستطيع – بضعفها- عن التمييز بين الناس على أساس اللون والجنس والموطن..
أما النظام الإسلامي فهو نظام ربَّاني، كما قال رسول الإسلام الأعظم محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا أيها الناس! ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا عجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولأحمر على أسود؛ إلا بالتقوى. ألا هل بلَّغت؟)) قالوا: نعم، قال: ((ليبلغ الشاهدُ الغائبَ)) رواه أحمد وخرجه الألباني في غاية المرام 313(1/261)
فالعقيدة الإسلامية هي الضابط والميزان والضَّمان لتطبيق الحكم والنِّظام، أما المبادئ والقوانين الوضعية الإنسانية التي شرعها الإنسان؛ فليس فيها الضَّمان، فهي تحت دائرة الزيادة والنقصان على حسب هوى وميل الإنسان، فلا يحكمها سنة ولا قرآن..
فإذا كانت العقيدة الإسلامية هي الضابط والميزان والضمان؛ فهي أيضاً تحريراً للإنسان من سلطان الخرافات والأساطير المرتبطة بالعقائد الوثنية، فقد وجه القرآن نظر الإنسان إلى الكون وما فيه، وأزال ما بينه وبين النظر المتبصر من حواجز نسجتها العقائد الوثنية، وما يتصل بها من أساطير وخرافات، وسلط عليه فكره وحواسه، حتى صارت العقيدة الإسلامية إعداداً كاملاً لنمو التفكير العلمي، فتقدَّم المسلمون بالعلوم الرياضية والطبيعية تقدماً كبيراً؛ فابتدعوا علم الجبر، وتوسعوا في الهندسة، وارتقوا في الطب، وابتدعوا الطريقة التجريبية في الكيمياء والفيزياء، وبنوا المراصد الفلكية، وتجاوزوا الثقافات الأجنبية التي من حولهم، وزادوا عليها الكثير والكثير، فلم يكن لديهم أي تعارض بين مخترعاتهم وبحوثهم العلمية والإيمان الديني، بل هو مرتبط به، ويسير معه جنباً إلى جنب، لكون ذلك كله من خلق الله تعالى، الذي يربط بين التقدم المادي، والرقي الخلقي، ليكون التقدم المادي الصناعي والعمراني له أهداف خلقية، وغايات مثالية..
فالمسلم الحق الواعي لدينه، لا شك أنه يخاف إن غيَّر الضوابط والموازين المضمونة؛ أن يخرج من دائرة الإسلام؛ بكفر أو ظلم أو فسق، فالتغيير فيه العذاب الأليم، كما أخبر الله تعالى بقوله: { قل إني أخافُ إن عصيتُ ربي عذاب يومٍ عظيم } الأنعام(1/262)
ثانياً: الإسلام شامل في حكمه في كل القضايا؛ سواء متعلقة بالفرد، أو الجماعة، في المسجد، أو في السوق، أو في السياسة الداخلية، أو الخارجية، أو في السلم والحرب، أو في الإقتصاد، ...الخ، قال الله تعالى: { اليومَ أكملتُ لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلامَ ديناً } المائدة وقال جل وعلا: { ما فرَّطنا في الكتاب من شيء } الأنعام
فالإسلام شامل في كل القضايا؛ إما إجمالاً، وإما تفصيلاً، حتى في الأقوال والأفعال التي تصدر عن الإنسان، بل وحتى الخلجات والأفكار التي تدور في النفوس أو القلوب، فكل شيء كبير وصغير مُسْتَطَر له حكمه عند الله في ديننا الإسلامي الحنيف، فكل هذه الأمور تأخذ حكماً من الأحكام الخمسة: واجب، ومندوب، ومباح، ومكروه، وحرام..
فلم يقتصر الإسلام على العقيدة وحدها؛ بل اشتمل على نظام كامل ينطلق من العقيدة، وتأتي العبادة وسيلة لتحريك هذه العقيدة في النفس وإيقاظها، وتنبثق منها تعاليم أخلاقية تنسجم معها وتنتج من مفاهيمها، ثم يأتي دور التشريع الذي يُنَظِّم العلاقات الاجتماعية في الأسرة وفي الحياة الاقتصادية وفي نظم الحكم والحياة السياسية؛ على أسس التعاون والتكافل الاجتماعي، ومن العدالة والمساواة والأخوة البر، وفي هذه النواحي كلها يتجلى الخضوع لحكم الله.
أما الإنسان الظلوم الجهول القاصر؛ فلا بد أن تتسم تشريعاته ونظمه ومناهجه وأفكاره بالظلم والجهل والقصور، فالنظم الوضعية تفصل فصلاً مريباً بين القواعد الأخلاقية والقواعد القانونية فصلاً بين العلم والعمل، وفصلاً بين الدين والدولة، وفصلاً بين العبادة والقيادة والسياسة، وفصلاً بين الأخلاق والحكم، وفصلاً بين الزكاة والاقتصاد... فالغاية عندهم تبرر الوسيلة، فدع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، فالدين لله والوطن للجميع، ففرق بين رجال الدين ورجال الدولة، وساعة لربك، وساعات لحبك، فاليوم خمر، وغداً أمر، و...، و...الخ.(1/263)
أما ديننا الحنيف؛ فهو لا يخفى على أحد عَبَدَ اللهَ حق عبادته أنه دينٌ واضح الشمول في كل ناحية من نواحيه.. { قل إن صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له } الأنعام
فكانت هذه الشمولية بمجموعها يتألف منها الإسلام، الذي كان السبب في الوصول إلى نتائج رائعة رآها المسلمون الأوائل في ازدهار الحياة الإنسانية، وارتقاء الإنسان في جميع النواحي..
فديننا قد كمل بجميع جوانبه وأجزائه قبل وفاة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ابتداءً من مبادئه الاعتقادية التي كانت أول ما أعلنه القرآن، ونشره ودعا إليه، حتى تنظيمه السياسي للمجتمع، وما بينهما من نظم العبادات والأخلاق، والعلاقات الحقوقية، فلسنا بحاجة إلى الزبالات التي تفتقت عنها عقول البشر؛ واعتبروها مناهج وفلسفات ونظريات؛ من بينها الديمقراطية هذه!
ثالثاً: عموم رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ قال الله تعالى: { وما أرسلناك إلاَّ كافَّة للنَّاس بشيراً ونذيراً } سبأ وقوله جل وعلا: { إن هو إلا ذكر للعالمين ولتعلمن نبأه بعد حين } ص
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك؛ عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله.)) متفق عليه، انظر ما كتبناه في أعلاه في فصل الجهاد وأن الإسلام لم ينتشر بالسف ولا بالعنف
فكانت الفتوحات الإسلامية لإعلاء كلمة الله في الأرض، وهذه الكلمة ما تكون إلا بالقواعد والأحكام والمبادئ التي جاء بها الإسلام، وهي المحققة لمصالح الناس في كل عصر، وفي كل مصر، وهي التي تدرأ عن أهل الأرض المفاسد والأضرار في العاجل والآجل، وهي التي تحفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال؛ التي تُسمى الضروريات الخمس..(1/264)
فالجهاد وزجر من يفسد الناس؛ شُرِع لحفظ الدين، وبالنكاح والقصاص؛ شُرِع لحفظ النفس، وتحريم الخمر والمخدرات والمفتِّرات؛ لحفظ العقل، وبالبيع الشراء المباح؛ شُرع لحفظ المال، ومع هذا! فالشريعة جاءت في غاية القدرة والاستعداد للبقاء والعموم، بحيث لا يحدث شيء جديد إلا وللشريعة حكم فيه بالنص الصريح، أو بالاجتهاد الصحيح، وهكذا كان الصحابة - رضي الله عنهم - إذا لم يجدوا نصاً؛ قاسوا الأشباه بالأشباه, النظائر بالنظائر..
رابعاً: خاصيَّة الجزاء تختلف عن عقيدة الفداء والخطيئة وصكوك الغفران التي هي عند النصارى، فالعقيدة الإسلامية فيها أن من أذنب ذنباً؛ فعليه أن يبادر بالتوبة إلى الله، وتأخيرها ذنب آخر يجب التوبة منه أيضاً، فالتوبة تجب ما قبلها وتمحوه؛ من الشرك وما دونه، قال الله تعالى: { نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم } الحِجْر
والحدود؛ تُدرأ بالشبهات، والندم؛ توبة، والهجرة؛ هجرة ما حرم الله تعالى ورسوله، فإذا كان جزاءً في الدنيا؛ فلا يمنع الجزاء في الآخرة إلا التوبة النصوح، فلا إصرار على الذنب، بل الندم على ما مضى، والعزم على عدم العودة فيه مرة أخرى، فيندم بقلبه، ويستغفر بلسانه، ويقلع بجوارحه، والعاصي لا يظن أنه إن أفلت من عذاب الدنيا والجزاء الدنيوي أنه يفلت من العذاب الأخروي! فالله هو مالك الدنيا والآخرة، فالخَلْقُ خَلْقُه، والعبد عبده، والأمر أمره، وليس يخرج من سلطانه إلى سلطان غيره، ولا من ملكه ومملكته إلى ملك ومملكة غيره...
فالجزاء نطاقه واسع وشامل في الإسلام، فمجتمع يُطَبَّق فيه حكم الله على الكل؛ غني وفقير، رئيس ومرؤوس، قوي وضعيف؛ لا بد أن يسعد في الدنيا قبل الآخرة..
خامساً: واقعية دين الإسلام ومثاليَّته؛ ففيه العدل والاعتدال والتوازن والاتزان في كل أنحائه، فليس تخلّف ولا رجعية ولا جمود، قال الله تعالى: { وما جعل عليكم في الدين من حرج } الحج(1/265)
فالدين لا يغفل طبيعة الإنسان وجبليّته، ولا تفاوت الناس وطاقاتهم { لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلاَّ وُسْعَهَا } البقرة فالواجبات قد تسقط لبعض الأعذار؛ كالعجز وعدم الاستطاعة، فمثلاً: إذا فعل العبد الواجبات، وانتهى عن المُحرَّمات؛ فهذا أصل التقوى، فإذا فعل المُستحبَّات، وترك المكروهات؛ فقد تمت تقواه لله جل وعلا، قال الله تعالى: { ثمَّ أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالِمٌ لنفسه ومنهم مقتصِدٌ ومنهم سابقٌ بالخيراتِ بإذن الله ذلك هو الفَضْل الكبير } فاطر
فالظالم لنفسه: هو الذي غلبت سيئاته على حسناته، وهذا قد يدخل النار، ولكن دخوله إليها ليس كدخول الكفار، ولا يُعذَّب كعذابهم، ولا يخلد كخلودهم، قال الله تعالى: { أفنجعلُ المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون } القلم
أما المقتصد: فهو الذي تساوت حسناته مع سيئاته؛ فهؤلاء يوقف بهم بين الجنة والنار ما شاء الله أن يوقف بهم، ثم يؤمرون فيدخلون الجنة..
أما السابق بالخيرات: فهم الذين غلبت حسناتهم سيئاتهم؛ فهؤلاء يدخلون الجنة لأول وهلة. فاللهم اجهلنا منهم ومعهم..
الديمقراطية
من المعلوم بديهياً أن الديمقراطية نظام علماني مبني على قواعد فكرية محددة، وينطلق من أسس ثابتة؛ تُعَدُّ شرطاً ضرورياً لقيام هذا النظام..
أما معنى الديمقراطية: فهي كلمة يونانية في المنشأ والتطبيق، وأفلاطونيَّة في التعبير، تعني: (حكم الشعب) أي حكم الشعب لنفسه، وبنفسه لنفسه؛ فالسلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية؛ منبثقة من الشعب، وتحكم باسم الشعب وتعبِّر بأن مصدر السيادة هي الإرادة المتحدة لا الموسعة.انظر "الإسلاميون وسراب الديمقراطية" لعبد الغني الرحال، و"مذاهب فكرية معاصرة" لمحمد قطب، و"الديمقراطية في الميزان" لسعيد عبد العظيم وغيرهم(1/266)
فإرادة الشعب هي الحاكمة على نظامها الديمقراطي، فالشعب بأفراده خيِّرون وعقلانيون بطبعهم، فهو - أي الشعب- الذي يختار وينصِّب حكامه وينتخبهم ويناقشهم، فهو المصدر للسلطة وصاحب السيادة والمصدر للقوانين، فهو السابق لوجود الدولة، بل ويستطيع أن يندفع الأفراد نحو المشاركة الشعبية في الحكم، وهذا يعني أن الشَّعب يُعْطَى حريته وسيادته في جميع أحواله؛ كحرية العقيدة والرأي والنَّشر والنقد والتملك والرفاهية والمساواة، فالحرية الشخصية له، بزعم أنه قادر على اختيار نظامه الحياتي وحده! فالحرية السياسية تعبر عن السيادة الشعبية، والسيادة الشعبية هي العقلانية التي حددت الإرادة الذاتية التي جعلته يشرع القوانين التي ألزم نفسه على الخضوع لها، وله الحق بعدها في حرية اقتراح البدائل، وحرية معارضة أي برنامج أو أي مرشَّح لا يراه مناسباً، وهذا من باب (التَّعَدُّدِيَّة السياسية) فالتعددية السياسية شرطاً لقيام مجتمع ديمقراطي، يعني مشروعية تعدد القوى والآراء السياسيَّة، وحقها في التعايش والتعبير عن نفسها، والمشاركة في التأثير على القرارات السياسية في المجتمع التي تعيش فيه، وهذا من باب الاعتراف بوجود التنوع الاجتماعي، فالتنوع يترتب وجود الخلاف والاختلاف في المصالح والاهتمامات والأولوِيَّات، كوجود الانتماءات والجماعات والأحزاب، فالاعتراف بها يُعتبر شرطاً لقيام مجتمعاً ديمقراطي يُعبِّر عن نفسه، ويتعايش مع مجتمعه التَّعَدُّدِيّ الذي يحترم بعضه البعض في المصالح والرُّؤى المتباينة، والتعبير كل عن نفسه بحرية، وبطرق سليمة تبيح له بالمشاركة في البرلمانات وفقاً للمنظور الديمقراطي...فلا شرع إلا للديمقراطية، ولا تشريع ولا قضاء إلا تشريع الدستور وقضائه، فلا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولا تنفيذ الأحكام إلا ما كان خاضعاً للدستور..(1/267)
أما حكم أحكم الحاكمين سبحانه وتعالى؛ الذي له الملك كله، والأمر كله، والقادر على كل شيء؛ فحكمه معطل عند الديمقراطيين، والذي يُنَفَّذ محصور ضمن المنصوص عليه في الدستور الذي لا يقبل التنازل عنه أو تغييره، فهو أحكام دولية ثابتة اتفقت عليها دول عُظمى كبرى، فصارت نظاماً عالمياً في منهج الحياة..فجوهر هذه الفكرة تتعلق بمفهوم الحرية التي تمثل غاية الوجود السياسي؛ فالحرية أساس الديمقراطية، والديمقراطية تتمركز بانعدام المعوقات الخارجية؛ على أساس حفظ الحرية الفردية، والمتمركز على أساسين: حرية الرأي، وحرية العقيدة، فلا يجوز لأحد التدخل في أهداف أحد، ولا في سلوكه وأفكاره، بل ولا حتى الدولة نفسها، فلا يحق لها التدخل الذي يعوق الفرد بالجبر أو الإكراه الذي يعيق حرية فكره وسلوكه واعتقاده، بل وعلى السلطة عرض الخيارات التي تناسب أفكار وسلوك وطراز العيش للفرد؛ ليتسنى له اختيار ما يراه مناسباً له من ضمن الأفكار المعروضة، دون الخضوع لأي ضغط خارجي، أو لتأثير قُوَى باطِنَة تؤثر أو تحد من القدرة على التصرف، فالفرد سيد نفسه، والمتحكم في مصيره، والقادر على اختيار ما يراه مناسباً، ورفض ما عدا ذلك، بحيث يمكن بعقلانيَّته أن يعلوا على نفسه الإنسانية..(1/268)
وقد سعى كثير من الكُتاب والمفكرين – من باب تقليد الثقافة الغربية، والمتمركزة على "عقدة الخواجة" المصاحبة للاستبداد السياسي القائم في دولهم- إلى المنادة بإقرار الحرية والتعددية كقواعد للعمل السياسي في بلاد المسلمين، فقاموا بالدفاع عن حرية الرأي، وشرعية الاختلاف التي تقوم عليها التعددية، ووجود تعددية حزبية، فجعلوا الإسلام تيارا فكرياً كباقي التيارات يتحرك ونشط ويتوقف ويوقف، مما أدى إلى إقصائهم المرجعية الدينية المستندة على القرآن والسنة وإهمالها للواقع في خضم اللهث وراء مفهومات الغرب ومعالجاته، مع إِغْفالهم في أنَّ المفهومات الغربية تنطلق في تحقيق غايات ترتبط بنظام الحياة لا يصلح تطبيقها في بلاد المسلمين.
أمَّا مَنْ كان منهم على علم بنصوص القرآن والسنة؛ فحاولوا تطويع هذه النصوص ومبادئها لتوافق التقاليد التي بُنيت عليها الديمقراطية، وسوَّغوا مفهومات الغرب وأحكامه، وقالوا:بما أن الإسلام دين ودولة، فإذن؛ الديمقراطية هي عين الشُّورى، ومزجها بعضهم فقالوا: (شوروقراطيَّة)، وادعوا أن الإسلام لم يأتِ بنظام سياسي مُحَدَّد، واكتفى في مجال الظاهرة السياسية بالتعميم؛ حيث أتى بقواعد عامة، ولم يبينها للناس، وأن التنظيم السياسي والتفصيلات متروكة للاجتهاد والعقل البشري، فحشروا مجموعة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأصول والفروع الفقهية وراء ذلك، وقطعت من سياقاتها لتصبح دليلاً على صحة التعددية بمفهومها السائد، والإفتاء بمشروعيتها، والموافقة على الأخذ بها، وأنَّ محاربتها والتحذير منها - أو حتى إنكارها- يُعتبر تخلفاً عن ركب الحضارة، وقصوراً في الفهم، حتى ولو كانت التعددية تقر وتعترف بوجود جماعات تحمل أفكاراً ومفهومات شيوعية أو علمانية أو إلحادية، فبلغ التأثر من هذا الغزو مبلغاً وصل إلى أقصى حدوده!
فإن كنت لا تعلم فتلك مصيبة وإن كنت تعلم فالمصيبة أعظم(1/269)
ولكن الواقع للديمقراطية لم يستطع تنفيذ نظامه! لكون التناقض فيه ملموس، فالشعب لا يستطيع بحال من الأحوال حكم نفسه بنفسه، والحرية فلسفة غير مُعِينَة للحياة، مما أدى إلى بروز التناقض في داخل الفكر الشوروقراطي، لكون الديمقراطية منعدمة القواعد العقيديَّة التي يعول عليها لمعرفة الحق من الباطل، لهذا نرى في الديمقراطية رأسمالية، وفي الديمقراطية اشتراكية، لمنطلق يعني أن الديمقراطية لها نسق سياسي واجتماعي واقتصادي - رغم البون الشاسع بين البناء الاشتراكي والرأسمالي- وهذا هو التناقض بعينه؛ فترى الانتخابات الدَّوْرِيَّة، والتعددية الحزبية السياسية المتنافسة، والتي تجعل التفاعل السياسي يخضع للقوِيّ، مع احترام رأي الأغلبية فيه، وبمراعاة القانون والدستور البشري، وبمعنى آخر: أن الديمقراطية ليست طريقة في الحكم بقدر ما هي طريقة لتحديد من الذي يكسب أصوات الناخبين فيحكم، ثم بعد مدة مقررة يتم تغييره بآلية تتيح الفرصة لاختيار آخر من المتنافسين وانتخابه على السُّلطة قد كسب من الأغلبية في الدَّعم والتصويت من أصحاب معتقدات أخرى مُعْتَنَقَة، فيُرشَّح بحرية مطلقة من قِبَلِ أتباعه من كل المواطنين.(1/270)
فالانتخابات هي إجراء قانوني يحدد نظامه ومكانه في دستور أو برنامج أو لائحة ليختار على مقتضاه شخص أو أكثر للحكم أو لرئاسة مجلس أو نقابة أو ندوة أو لعضويتها أو نحو ذلك، وهي المعيار لتحديد حق الشعب في اختيار الحكام والرؤساء وغيرهم، والتخلص منهم عند الحاجة، مهما كانت عقائدهم تجاه الله - فهذا لا يخرق جيوبهم، ولا يكسر أرجلهم- فالتعددية في العقائد، والحريات الشخصية هي من محتفظات الأشخاص، وحق الأفراد المطلق في تبني ما يشاءون من عقائد دون تدخلٍ من أحد، ودونما تأثير على مسار المجتمع والدولة، فالديمقراطية تكفل المعتقدات الدينية، والحريات الشخصية، لاندراج العقيدة ضمن الخيارات الفردية التي لا يجوز للدولة التدخل فيها بحال من الأحوال، فالمجتمع الذي لا يقر بحق الحريات الشخصية، أو حرية العبادة للجميع كيفما شاءوا؛ لا يصلح أن يكون ديمقراطياً! فالصحيح عندهم في العقائد والعادات والحريات والأخلاقيات إنما يكون في القوانين القرارات التي تقرها الأغلبية، والذي لا يقره الأغلبية؛ فَيُعْتَبَر لا أخلاقياً، مهما كان مصدره، فالسمع والطاعة تحدد بطاعة الأغلبية..(1/271)
لهذا نرى الديمقراطية قد ارتبطت بمبدأ سياسي واقتصادي؛ وهو الليبرالي والرأسمالي، فالليبراليَّة: هي الفكر الحر – الأحرار- وهو الاَّدِينِيَّة؛ أي العلمانية ودولة الحرية، فتفصل بين الدين والدولة، فالدين لله، والوطن للجميع، فالحرية تتمثل عندهم في غياب القيود الخارجية أو التدخل من قبل الآخرين في شئون الفرد الذاتية، ويدعو هذا المذهب إلى إطلاق الحرية الفردية والحد من تدخل الدولة في النشاطات الإبداعية للفرد، فالفرد في المذهب الليبرالي يشكل القاعدة التي يقوم عليه المجتمع، وهو لبنة البناء الاجتماعي - أي بمجموع أفراده- فإذا كان هو اللبنة؛ فحقوقه وحرياته الأساسية تسبق وجود الدولة، مما يجعل لحقوقه قدسية تعمل الدولة على حمايتها وعدم التعرض لها بحال من الأحوال، بل وتعمل على الاستجابة لرغباتهم ومصالحهم وتنفيذها! فتبيح كل الحريات الشخصية بدون تعرض الأفراد على مصالح بعضهم البعض، ويتحمل الأفراد ما يترتب عليهم من نتائج، والليبرالية الديمقراطية تتشابه مع الفكر الديمقراطي الجمهوري؛ بحيث يقوم الجمهوري على الربط بين الحرية والحكومة الديمقراطية، وترتبط مع الليبرالية في منطلق النظرة إلى الفرد على أنه هو المرجعية العليا في المجتمع، وأن سيادته لنفسه ترتبط بحريته، فلا علاقة للديمقراطية بالدين، فالدين مسألة فردية لا علاقة لها بالتنظيم السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فهو من المسائل والخيارات الشخصية البحتة، فوجود الله في شؤون البشر ملغي سواء كان في التنظيم السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي! (فحرية العقيدة) تعني حق كل امرئ في تبني ما شاء من عقائد، و(حرية الرأي) التي تعني حق كل امرئ في تبني ما شاء من أفكار..(1/272)
فالديمقراطية محايدة لكل المعتقدات العلمانية الصِّرفة، فالديمقراطي لا يقبل ولا يرفض أي تعاليم دينية، فالدولة القائمة لها الحق في نشر العقيدة العلمانية من أجل دعم الوحدة الوطنية. فالوحدة الوطنية تريد جمع الأديان بفرقها - حتى الإلحاديَّة- مع التقاليد والأعراف والعادات الاجتماعية المختلفة مع الاستمتاع الجماعي المشترك، بغض النظر عن الكيفية التي تتحقق بهذا الاستمتاع أو تُصان، والتي بدون جمعها يعوق بنظرهم تقدم الإنسان..
وهذه كلها تناقض الإسلام القائم على خضوع الفرد لأحكام الشرع المهيمن على واقع الحياة في الدولة الإسلامية، فالمجتمع المسلم محكوم بعقيدة لا تجيز تعدد دوائر الانتماء القائم على إعطاء كل الناس - مهما كانت أفكارهم ومعتقداتهم- الحق ذاته في الدعوة إلى ما يدعون إليه؛ وذلك لأن الدولة الإسلامية قائمة على سيادة الشرع..
ورغم كل ذلك! فترى أن كثيراً من أهل الانتماءات الحزبية يشيد بالديمقراطية ويتبناها وينادي بها، ويراها هي الفرصة لبناء الدولة الإسلامية؛ بحجة أن الإسلام ترك مجال الأنظمة مفتوحاً للاجتهاد البشري، والديمقراطية – في رأيهم- أقرب الأنظمة المعاصرة للإسلام. فلا حول ولا قوة إلا بالله!(1/273)
أما الرأسمالية: فهو نظام لا ديني اقتصادي علماني، يقوم على الفراغ الديني، وعلى إطلاق الحريات بلا حدود، ويُسمى: إمبريالي؛ أي: استعماري، وأصحاب رؤوس الأموال يُطلق عليهم اسم: الطبقة البرجوازية. وهو نظام وطني رابطه تجمع الأفراد وما تتفاعل فيه عقولهم المنطلقة بلا حد ولا قيد في منافعهم ومصالحهم المختلفة وجميع ضروب نشاطاتهم، أي يقوم أساسها على الفرد في مجال التفكير وفي مجال العمل والسلوك، فنشأ في نطاق الوطنية المذهب العقلي في التفكير، المذهب الحر الفردي في الاقتصاد، وهو الذي أُطلق عليه فيما بعد: المذهب الرأسمالي الديمقراطي، وهو يقوم على الحرية السياسية الفردية المطلقة التي تنسقها الأحزاب السياسية والمجالس النيابية، كما نشأت فيها الإباحية في المجال الأخلاقي القائمة على الحرية التي لا تحدها حدود..وبما أن الرأسمالية قد قامت على الحرية في المجال الأخلاقي والسياسي والاقتصادي والتربوي؛ فقد انتهت إلى الفوضى المطلقة في الاقتصاد، وظلم الفقراء، وتهديم الحقائق الدينية التي تجاوز بهم إلى الصراع الاستعماري والظلم للدول الفقيرة، واحتلال أراضيها بغير حق، وهذا هو الواقع المرير الذي مر في العالم كله، وما زال العالم يتجرع من سم ناره بصور شتى، وبأساليب متغايرة، فالاحتلال الحاصل الآن هو من هذا الباب، لمن عقل والواقع بهذا اللباب..(1/274)
أما الاشتراكية: فهي وجهان لعملة واحدة، وكلاهما وليدة اليهودية العالمية، وهو عبارة عن تيار يعبِّر عن ردة فعل للرأسمالية من الوجهة الاقتصادية، ويشترك معه في التفكير العقلي المادي نفسه، ودُعِمَ هذا التيار في بدايته بالجماهير الشعبية الجاهلة الغير واعية، تحركه فئة من المثقفين المفكرين الذي استطاعوا أن يقلبوا حقد الطبقات المظلومة وعواطف الثأر والانتقام إلى فلسفة تنقلب إلى عقيدة تدفع الجماهير والعمال والصعاليك لقلب الأنظمة التي يَشْكُون منها والثورة عليها. انظر "المجتمع الإسلامي المعاصر" لمحمد المبارك، ورسالتي "المسلمون وولاة أمرهم" تحت عنوان البروتوكول الخامس لحكماء صهيون
والبروليتاريا: هي الطبقة الكادحة من العمال والفلاحين الذين يقولون عنها أنها تناضل من انتزاع حقها من البرجوازية والإمبريالية، وهذا يعني أن البروليتاريا تطالب بحقوق الأفراد الأساسية، والتي يحددها هم الأفراد وفقاً لرأيهم، من واقع كون الأفراد هم الذين يقررون ما يصلح وما لا يصلح لهم، ولكنهم يفاجئون بأنهم مرتبطون بما تراه الأغلبية حقاً، فما تراه الأغلبية لا يمثل حقاً فردياً أساسياً، فالفرد يفقد حقه من اعتباره حقاً، فمصالح الأفراد الحقيقية تتحقق بطاعة القوانين التي تتخذها الهيئة التشريعية التي تحظى بثقة الجماعة، ولكن! بما أن الأغلبية تتصرف باسم الجماعة؛ فإن دور الفرد يصبح الطاعة العمياء لإرادة الأغلبية.. انظر رسالتي "لماذا يجب علينا محاربة البدع والمبتدعة على مر العصور"(1/275)
فالديمقراطية الليبرالية تعمل ضمن إطار الرأسمالية التي تعني أن السُّلطة لا ترتبط فقط بالانتخابات، إنما برجال الأموال والأعمال المسيطرين على الواقع السياسي والاقتصادي في الدولة، وهم الذين يمتلكون القوة في حق التصويت وتوجيه دفة المجتمع، والتحكم في الانتخابات ونتائجها، ولو بأنظمة استبدادية قمعية تعسفية، وهذا من التناقض أيضاً؛ فشعار الديمقراطية هو التساوي بين شرائح المجتمع في حق التصويت، وتقبل الرأي الآخر مهما كان مصدره ونوعه! فالنظرة إلى المجتمع غائبة في الفكر الليبرالي! بحيث أن القاعدة الأساسية لأي نظام ديمقراطي تعني سيادة الشعب كما قلنا! وهنا التسلط السياسي يفقد الآخرين على المشاركة في صناعة القرارات، فتقبل القرارات من الليبراليين كما هي اضطراراً!(1/276)
فالْقَوْل: بأن الديمقراطية ما تقره الأغلبية يمثل الحق والعدل لمجرد صدوره من الأغلبية؛ أمر مرفوض في واقع الديمقراطية نفسها، لكون العقل هو المسيطر على الحكم على الأشياء في واقع الممارسات السياسية؛ فما يراه العقل حسناً؛ فهو حسن، وما يراه قبيحاً؛ فهو قبيح، وهذا معتمد على ما يراه الأفراد في واقعهم، فالأفراد متغيرة ظروفهم المحيطة بهم، وهذا ما رأيناه في مسألة الشذوذ الجنسي الذي اعتبره طبقة من الأفراد حرية شخصية، فأقرته الديمقراطية كممارسة، ولما اتضح أنه من أهم مسببات الإيدز، انتقلت هذه الحرية الشخصية إلى رأي الأغلبية؛ فتعاملوا على الحد من هذه الظاهرة الاجتماعية، فأصدروا تشريعات قيدوا بها الممارسات الجنسية المنحرفة، فربطوا تشريعاتهم في مثل هذه القضايا بالمصلحة العقلية للأمة، أو الأغلبية الممثلة لها، فتنازل الأفراد للأغلبية المسيطرة، لكونهم وجدوا أنفسهم مضطرين للخضوع لقانون آخر اتفقت عليه الأغلبية رغم مناقضة هذا القانون لمعتقداتهم الحرية، فكونت الصراع فيما بينهم على المصالح والمبادئ، فكل منهم يرى صحة حريته ومبدئه دون توجيه ديني، ولكنه بما أنه ديمقراطي؛ فيجب عليه مخالفة نفسه إذا رأى الأغلبية تعاكس رأيه..
ومثله مثل من تمسك بمعتقداته؛ قد يكون عاجزاً عن تحقيق أي شيء منها، مما يجعله مزدوج في أخلاقه وتصرفاته، فتراه يحترم آراء الآخرين ووجهات نظرهم، ويعطيها نفس الوزن الأخلاقي الذي يعتقده مهما اختلفت آراءه مع الآخرين، لهذا رأيت القرضاوي يقول عن الكفار في وسطيَّته: (فهم مسلمون بالحضارة والثقافة، وإن كانوا مسيحيين في العقيدة الطقوس.) "فتاوى معاصرة" 2/671(1/277)
ويقول: (نحن متفقون – أي مع العلمانيين- على ضرورة النهوض بأوطاننا... ومتفقون على الاعتزاز بالإسلام باعتباره دين الأغلبية، واحترام الأديان السماوية لغير المسلمين، وأن الإسلام للمواطنين منهم ثقافة وحضارة، وإن لم يكن ديناً وعقيدة.) "الإسلام والعلمانية" 101
ومقولة القرضاوي هذه هي عين الديمقراطية التي تتمثل في إرضاء الأطراف المتنازعة عن طريق التَّنَازُلات المتبادلة، والتي تقوم على أن لا يفرض أحد وجهة نظره على الآخرين من منطلق حرية إبداء الرأي المكفولة للجميع مهما كانت الآراء؛ فإن الالتزام العقدي لا يتفق والديمقراطية مطلقاً، وهذا ما التزم به القرضاوي في وسطيَّته، وهذه الفكرة التي قام عليها الحل الوسط، لهذا تجد الديمقراطية قد فصلت العقيدة عن الممارسات السياسية، وانتهت إلى أنه لا يصح إخضاع الممارسات السياسية لمقياس الحلال والحرام؛ فلا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين..
وهذه الوسطية فكرة باطلة شرعاً، وذلك لأنه في الدولة الشرعية لا يصح جعل الحل الوسط قاعدة لحل المشكلات، فالنزاع لا يُسَوَّى بالحل إلا بالرجوع إلى الشرع المطهر صاحب السيادة. قال الله تعالى: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً } النساء ففي هذه الآية دليل على أن من لم يتحاكم في حال النزاع إلى كتاب الله وسنة رسوله، ولا يرجع إليهما في ذلك؛ فليس مؤمناً بالله واليوم الآخر، فأمَر الله تعالى بالرجوع إليه في كل النزاعات؛ سواء كانت في العقائد والأحكام، أو كانت في السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع، أو في غيرها، فحكم الله شمولي قطعي، وهو صاحب السيادة في الدولة الإسلامية، فلا يجوز استثناء الظاهرة السياسية من حكم الله الشمولي بحجة أن الممارسات السياسية لا علاقة لها بالحلال والحرام، أو تبني الربا بحجة المصلحة الاقتصادية، وبيع المشروبات المحرمة بحجة أنها روحية، وهكذا..(1/278)
ونحن وإن قلنا كلمة "الأغلبية" فهي ليست كذلك حقيقة؛ فالسيطرة على شؤون الدولة في حقيقتها بيد الأقلية وليست الأغلبية التي تفرضها النظرية الديمقراطية، فالذي يحكم هم أصحاب الموارد الطبيعية ومصادر الثورة والقوة وغيرها، فهم الذين يرسخون مصالحهم ومزاياهم لِيُكَوِّنُوا نظاماً يألفه الناس، ثم يعتقدونه مع مرور الأيام، فيصيرون هم المسيطرون في الحكم.. وهذا عين التناقض في النظام الديمقراطي الذي لا تجد فيه فقرة إلا وفيه التناقض، فهو نظام ليس من عند الله، لهذا ترى فيه الاختلاف الكثير!! وترى المسلمون في دول العالم الإسلامي هم الأكثر، ولكن النظام غير إسلامي، إلا عند من رحم الله منهم وقليل ما هم.
فهذه هي حضارات العصر الحديث التي اتخذت لنفسها أصناماً وآلهة جديدة؛ لا تصلح أي واحدة منها أن تكوِّن القيم العُلْيَا، أو الغاية النهائية؛ فهي أنظمة لا دينية منبثقة عن تصور عن الحياة قائمة على فصل الدين عن الدنيا، وتسعى إلى بناء النظام السياسي على قاعدتين: قاعدة حيادية الدولة تجاه العقيدة، وقاعدة سيادة الأمة المترتبة عليها، والتي تعني حق الأمة المطلق في تَبَنِّي نظام الحياة الذي تراه مناسباً في وجهة نظرها..(1/279)
فالمتأمل في حال الديمقراطية؛ يجد أن مفهومها غير قابل للتطبيق في مجتمع يحب دينه، فالمجتمع الإسلامي الواعي يحمل ديناً وعقيدة ترسَّخت في قلوبهم يستحيل عليهم التنازل عنها، لهذا يرفض المسلم الواعي الفاهم لدينه تطبيق الديمقراطية، لكونه يعتنق ديناً عملياً مسطراً على جميع نواحي حياته، ما فرط في قيد أنملة في جميع نواحي الكون، فلو اتفق مجلس الأمة أو الشورى على تبني رأي مخالف للشَّرع؛ فإن هذا الرأي يعد باطلاً؛ حيث أن العبرة في الدين ليست في عدد المصوِّتين للقانون، بل العبرة بانبثاق التشريع من الشرع الإسلامي واتفاقه معه. فالدين لا يقبل الربا وإن سموه بالفوائد البنكية، ولا بالزَّنَى وإن سموه بالحرية الشخصية، ولا بالخمور وإن سموها بالمشروبات الروحية..وهكذا نقول: فلا نقبل بالديمقراطية وإن سموها بالعقلانية، فأنظمة الديمقراطية العقلانية وأنظمة الإسلام الحنيف على طرفي نقيض، فالإسلام قائم على سيادة الشرع الإلهي في واقع الحياة، وليس الشعب، فمن اتخذ الشعب المرجع الأعلى له لأنظمة حياته؛ يعد معطلاً لسيادة الدين وهيمنته، وهذا يحوِّل الدول إلى دار كفر والعياذ بالله.. قال الله تعالى: { فاحْكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق } المائدة48 وقال جل وعز: { وأَنِ احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } المائدة49 وقال سبحانه وتعالى: { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أَحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } المائدة50(1/280)
قال ابن جرير في تفسيره: (وهذا أمر الله – تعالى ذكره- لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يحكم بين المتحاكمين إليه من أهل الكتاب وسائر الملل بكتابه الذي أنزله إليه، وهو القرآن الذي خصَّه بشريعته. يقول تعالى ذكره: احكم يا محمد بين أهل الكتاب والمشركين بما أُنزل إليك من كتابي وأحكامي في كل ما احتكموا فيه إليك من الحدود والجروح والقَود والنفوس.) "جامع البيان عن تأويل القرآن"
وقال ابن كثير: (ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، والناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات بما يضعونها بآرائهم وأهوائهم. كما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكزخان الذي وضع لهم الياسق؛ وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها.وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بَنِيه شرعاً متبعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله؛ فلا يُحَكَّم سواه في قليل ولا كثير.) اهـ(1/281)
قال أبو ماجد: وما الديمقراطية إلا كالياسق في المعنى حذو القذة بالقذة، والحافر بالحافر، فكلها أنظمة وضعية تتناقض تناقضاً جذرياً مع الإسلام الذي يقوم على قاعدة الاستسلام لله وحده، ولا تُسمى الدول إسلاميَّة إسلامية إلاَّ إذا ظهرت أحكام الإسلام فيها، فالدولة الإسلامية دار عقيدة، وتحمل مفهومات شرعية عن الحياة وتطبيقها في الواقع، وإذا ظهرت أحكام غير الإسلام فيها فهي غير إسلامية، وهي دار كفر، تخالف ما تدعو دار الإيمان إليه، قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله في فتاويه: (البلد التي يُحكم فيها بالقانون ليست بلد إسلام، تجب الهجرة منها.. وإذا قدر على الهجرة من بلاد تقام فيها القوانين؛ وجب ذلك.) 6/188 مطبعة الحكومة ,لزاماً انظر رسالتيَّ "منهج التكفير والتفجير والرد على رسالة ابن لادن" و"المسلمون وولاة أمرهم على ضوء الكتاب والسنة"
أما عن وجود جماعات في الدولة الإسلامية تدعو إلى الزندقة أو الفكر الباطني، أو الشيوعي؛ فهذا لا يعني إقرار شرعية وجودها أو الإذن لها بالدعوة إلى ما تدعو إليه، فهناك فَرْقٌ بين أن توجد في الدولة جماعة لا تحمل الإسلام عقيدة وشريعة، وبين الإقرار بوجودها وإعطائها شرعية من قِبَل الدولة؛ إما بالوقوف منها موقف المحايد، أو بالسماح لها بالدعوة إلى المنكرات الفكرية التي تحملها؛ وذلك لأن هذه الحيادية المزعومة لا تتفق أصلاً مع الدولة الشرعية القائمة على كتاب الله وسنة رسوله المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. أنظر "نقض الجذور الفكرية للديمقراطية الغربية" لمحمد أحمد علي مفتي ص94 بتصرف يسير(1/282)
فالأمة ليست مشرعة لأنظمة الحياة، وليست صاحبة السيادة في تشريع القوانين لعلاج الواقع، أي ليست مصدر السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، فهذا يعني أن الديمقراطية هي الطاغوت بعينه، فالشعب هو الوثن العصري الذي جعل الكلمة العليا المهيمنة لغير الله تعالى، وهذا هو الكفر والظلم والفسق بأسه وفصه، لهذا نرى أنه لما تمكنت الديمقراطية من السيطرة الفكرية والمادية والسياسية على جميع مقومات الخير والإصلاح، وصرفتها كما تشاء؛ انبثق عن ذلك الصراع الفكري والعقائدي والسياسي، فقامت بسيطرتها على تقوية الجوانب الموالية لها، وأمدتها بالأموال والأسلحة المصاحبة لها بالدعايات المجندة بالإعلام بشتى طرقه، وبالدعايات البراقة، والكتبة المأجورين، حتى استطاعت أن تتمركز في المجتمعات، وتسيطر على الحكم والحكام، ثم لا نسأل عما حدث وسوف يحدث بعد ذلك من التقتيل والتشريد والاحتلال وكبت الحريات، وسجن كل من هو محافظ على القيم والمثل العليا السامية، والتعاليم الإسلامية ذات الخُلُق القويم، فهؤلاء النفر عند الديمقراطيين رجعيين متأخرين سطحيين متعجلين..
موقف الإسلام من الديمقراطية
ويهمنا هنا أن نعرف موقف الإسلام من الديمقراطية وواقعها، وموقفنا الواجب تجاهها، وكيف غرت الدعاة والعامة من المسلمين، وإلى أي حد تأثروا بها؟(1/283)
لا يشك من يعلم الواقع أن الديمقراطية وغيرها من التيارات العالمية نشأت كلها – أو جلها- من الغرب، ولا علاقة تربطها بالإسلام البتة، ولا تزال تريد نشر تياراتها الغربية في العالم كله، ولو بالقوة المادية إذا لم تنجح بالقوة الفكرية، ونحن لا نشك أن سبب انتشار هذا الفكر بين المسلمين وتمكن الغرب بنشره فيهم؛ هو بعدهم عن فهم دينهم ووعي أهدافه السامية ومقاصده العالية، فكان الإسلام غائباً عن ساحة المسلمين في جل مجالاته، سواء كان المجالات الفكرية أو الثقافية، أو السياسية، مع أن الإسلام هو الحاضر دائماً في كل هذه المجالات وغيرها، لا يتغيب عنها لحظة، بل ولا لُحَيْظَة، فكان الإبداع الفكري العلمي قد عُرِف به المسلمون في القرون الأولى للإسلام في شتى مجالات العلوم النظرية والعلمية والدينية والدنيوية، ولكن مع الأسف! فقد حصره الكثير من شعوبه في بعض الشعائر والمناسك، وحصروه أيضا في بعض العادات والتقاليد، وقد تكون عادات وتقاليد دخيلة، فصار مجتمعاً مختلفاً في صفاته، ومتخلفاً عن خصائص المجتمع الإسلامي الذي رضيه الله، حتى أنه صار مفتقداً للحيوية والنشاط، ومستسلماً في جميع نواحي الحياة، فانتشرت الأمية فيه، وانتشرت الخرافات والأساطير في جسمه وعقيدته، حتى صارت هي حسه ونفسه - إلا من رحم الله منهم-(1/284)
حتى أننا إذا نظرنا إلى العقيدة عند الخاصة في المجتمع الإسلامي؛ نجدها عند كثير منهم متلبسة بالفلسفة، وفي قضايا لم يكن الجيل الأول من المسلمين يعرفها، فصارت المناقشات الفلسفية، والمناظرات الكلامية، والخلافات المذهبية، والترهات الصوفية، عندهم بلا حدود، فشُغِلوا عن أصل العقيدة المحرِّرة للإنسانية التي لا تقبل الخلاف ولا النقاش، وشغلوا العامة في قضايا لا تدلهم على طريق الجنان، فصُرِفوا عن تعلمهم العقيدة؛ فصاروا أسرى في عقائد أخرى غريبة دخيلة؛ كالاعتقاد بالقبور وقصدها لقضاء الحاجات وكشف الملمات، والتصرف بالكون والماديات، فدخلت من خلال هذه الترهات الأوراد الخاصة المبتدعة لأغراض تعطل الأخذ بالأسباب؛ بعقيدة أن بتوليد الأسباب لنتائجها يناقض ويعارض الاعتقاد بأن الله هو الخالق للحوادث، وهوَّنوا من شأنها تهويناً أدى إلى تعطيل التفكير بربط الأسباب بالنتائج، ومن خلال هذه العقيدة؛ روج الصوفية: أنَّ الأخذ بالأسباب للوصول إلى نتائجها ينافي حقيقة التوكل عل الله، حتى جعلوا المثل الأعلى للإنسان الكامل: الإنسان المستسلم بلا حركة ولا إرادة، فاستسلموا للواقع المرير باعتباره نتيجة تقدير الله وقضائه المنفذ وفق إرادته، فصار المسلمون مستسلمون أمام طوارئ الحياة؛ من مرض أو فقر أو استيلاء عدو، مما أدى ذلك كله أو جله إلى فرض الغرب هيمنته عليهم! { قل هو من عند أنفسكم } انظر ما تكلمنا فيه عن القدر والقدرية في المقسم الثاني من "نقض الموسوعة اليوسفية"، فهو مهم للغاية..(1/285)
(ولقد أدت السيطرة الاستعمارية على بلاد المسلمين إلى فرض الهيمنة الفكرية على المسلمين، وإلى ربطهم بعجلة التبعية الفكرية التي مكنت الغرب المستعمر من فرض الرأسمالية العلمانية والديمقراطية كأفكار ومفهومات يسعى إليها المسلم للتصدي للشيوعية، ولمعالجة المشكلات في جميع جوانب الحياة. ولقد أدى هذا إلى تبني (الحل الوسط) كمفهوم عن الحياة في معالجة الظواهر السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية. فالتنازل عن فلسطين لليهود يمثل حلاً وسطاً للمشكلة الفلسطينية يقوم على منح اليهود المغتصبين لأرض فلسطين شرعية في أراضي المسلمين مقابل تنازل اليهود عن جزء من الأرض المحتلة، وما لا يُدْرك كله لا يُترك جله. وتبني أحكام الكفر الوضعية كان يمثل الحل الوسط بين المناداة بإلغاء الشريعة والتغريب الكامل للمجتمعات؛ وبين فتح باب الاجتهاد لاستنباط الأحكام الشرعية، حتى قامت المحاكم الوضعية جنباً إلى جنب مع المحاكم الشرعية، وحتى تم تدريجياً إحلال المحاكم الوضعية محل المحاكم الشرعية؛ فصار القانون المهيمن هو القانون الوضعي.
وفي النظام الاقتصادي تبنى المسلمون النظام الرأسمالي الغربي القائم على الربا. وكحلٍ وسط أقيمت مع البنوك الرِّبَوِيَّة بنوك إسلامية، أو سُمِحَ للبنوك الربويَّة بممارسة أنشطة ذات طابع إسلامي؛ لإرضاء مشاعر المسلمين أو استرضاء التيارات الإسلامية إن وُجدت. وقد أدى هذا وغيره من الممارسات المبنيَّة على (الحل الوسط) إلى خلق ازدواجية في المفهومات والمشاعر والسلوك عند كثير من المسلمين؛ فصار بعض الناس يعلن أنه يدين بالإسلام ويتبنى العلمانية في وقت واحد، وصار الإسلام اشتراكيا عند الاشتراكيين، وديمقراطياً عند المنادين بالديمقراطية؛ حتى غُيِّبت أحكام الإسلام ومفهوماته المعالجة للواقع.) "نقض الجذور الفكرية للديمقراطية الغربية"51 لمحمد أحمد علي مفتي(1/286)
ونحن في هذا الزمان، قد رأينا الحل الوسط الذي ينادي به العالم الديمقراطي أنه ما استفاد منه إلا الكفرة الفجرة أعداء الإسلام والمسلمين! فبعد تفجر حروب الخليج الثلاثة - التي ما استفاد منها إلا اليهود والصليبيون والشيوعيون والرَّافضة أصحاب ثورة إيران - صارت أمريكا وأعوانها يلوحون بإقامة نظام عالمي ديمقراطي موحد – أوحد- وسيلته الاستيلاء على منابع البترول في دول الخليج، والتحكم في اقتصاد العالم، والتي غايته: إقامة البوليس الدولي الأمريكي الذي يكون هو القبلة التي يتوجه إليها البشر لإقامة الحق والعدل بينهم - زعموا- حتى أنَّ مِنَ الدول الشيوعية تريد تحول نظامها إلى ديمقراطي، بل وقد تحول الكثير منها إلى هذا السراب بدخوله السِّرداب، وحتى الدول الإسلامية أصبح حكامها ينادون بصراحة وبتصريحات واضحة بالديمقراطية، بل وحتى من الدعاة مَنْ طالب بالديمقراطية، لكونها من سمات النظام التعدد الحزبي، والمعارضة ركيزة من ركائزها الأساسية.. كما سوف تراه قريباً مقيداً بتوقيعات أقلامهم في مؤلفاتهم
ومع الأسف كان القرضاوي واحدٌ منهم! - علم أم يعلم، فَهِمَ أم لم يفهم - فيريد إضفاء صفة شرعية للديمقراطية، أو إضفاء الشرعية على بعض الممارسات السياسية لهذا النظام، بزعم أن الديمقراطية هي التطبيق الفعلي للإسلام! ويحقق القبول الجماهيري لها! { أَفَحُكْمَ الْجَّاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } المائدة(1/287)
وأنا لا أدري كيف يفاجئ القرضاوي - وغيره من الأحزاب- المسلمين بقول أن الانتخابات الديمقراطية هي الشورى الإسلامية؟! فجعل للديمقراطية اسماً شرعياً يتضمن أموراً إسلامية بعيدة عن مضمون الإسلام، فأخذ يسرد أدلةً وردت في الشورى الشرعية فيطبقها على الانتخابات الديمقراطية المحرمة، فيضع الأسماء الشرعية للأنظمة المحرمة، ففعل كاليهود الذين يستبيحون ويرتكبون محارم الله بأدنى الحيل، وهذا الفعل لم يغفل عنه من أشرق الله قلبه بمنهاج النبوة الغالي، فالحرام يبقى حراماً وإن تراكمت الشبهات من حوله، أو سُمِّيَ بغير اسمه، فالخمر يبقى خمراً وإن سُمِّيَ مشروباً روحياً، والربا ربا وإن سُمِّيَ فوائد مالية، والحزبية تبقى حزبية وإن سُمِّيت إسلامية تسعى لمصلحة الحزب وانحرافه، والدخول في الانتخابات حرام وإن سموها شورى.. وهكذا..
فهذه الفكرة والتيار من أخبث الدَّعوات والدعايات التي كانت على حساب مصلحة الإسلام والمسلمين، ولا أدري كيف غفل عنها من يدعي انه يعمل لمصالح الدين، وكيف انهزم وأُسِر أمام هذا التيار والفكرة، فالحيل ربما يقع فيها من طاش لبه من الحكام الظلمة الأشرار والدعاة الطائشين الذين قل علمهم وفسد يقينهم، فكيف يقع من يُشار إليهم بالبنان، ومن تنتظر الأمة نصحهم والحرص على مصالحهم؟!(1/288)
فبدلاً من إنابتهم إلى الله والتوبة إليه، وطلب تحكيم شريعة الله التي يرفع الله بها المقت والكرب عن الأمة؛ إذا هم يتسابقون وينادون بشيء نادت به أمريكا وحلفاؤها في أيامنا هذه، وغفلوا أن أساس هذه المطالبة يقوم إلى الدعوة لعودة الحروب الصليبية، ودعوة إلى الخروج على الدين باسم الدين، والخروج منه بإقرار قواعد للحكم على مرجعية غير الشريعة الإسلامية، ومن ثم العمل على عزل المسلمين عن الأحكام الشرعية المعالجة للظواهر السياسية، التي تؤول أولا وآخراً إلى صرف أنظار المسلمين عن دراسة نظام الحكم الشرعي - الذي هو الأساس في ترسيخ نظام الحياة في نفوس المسلمين وتطبيقه في واقع حياتهم- باسم "كل إنسان حر" يفعل ما يشاء ويقول ما يريد دو رادع، واسم "حرية النشر والتعبير" بنشر الجرائم والفواحش والآثام والقاذورات والتعبير عنها، واسم "أعطني حريتي أطلق يدايَ" من قيود الدين، واسم "أصحاب الفكر الحر المستنير" التَّحْريري والتَّحَرُّرِي المنفلت المتفلِّت من شرع الله إلى شرع الكفرة الفجرة القذرة أعداء الإسلام.
ومع الأسف! فقد قامت هذه الحروب الصليبية في زماننا بطريقة أخرى؛ فهي الآن تحاول بجولات نجحت فيها بمصادمة الدين بدعاة الدين! بحيث لا عبرة للدين أمام قرارات الهيئات المشبوهة الجائرة مثل هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن.. وهي هيئات لن ترضى عنا حتى نتبع ملتها..
نقطة بداية(1/289)
لقد كانت حقيقة ونقطة البداية في نشوء الديمقراطية - وغيرها من المذاهب الفكرية- هي اتصال أهل أوربا بالنهضة والحضارة الإسلامية عن طريق الأندلس وصقلية، وترجمة كتب العلوم والفلسفة إليها مقابل الهزيمة التي منيت بها الكنيسة هناك، فانفصل الدين عن الدولة، لكون دين النصارى المحرَّف كان من مبدئه أن يُقصى العلم وينبذه، ويُحارب أهله، بل يعذبهم ويُقَتِّلُهُم، فكان هذا هو منهج الكنيسة في عصور الظلمات؛ خنق لحركة العلم، وفرض الأكاذيب والخرافات باسم كلمة السماء، على العكس تماماً من العصر الحديث الذي كان من ردة فعله أنْ أنكر القوانين الإلهية في تنظيم الحقوق، وجعل الأمم هي مصدر السلطات وتبني القوانين المنظمة للحياة، وألغوا وجود الله في شؤون البشر- لظنهم أنه هو الذي أخرهم- فالأمة هي التي تختار النظام الذي يطبق عليها وترفض النظام الذي لا تريده، ولها الحق في استئجار حاكم لتطبيق النظام الذي اختارته، فالنُّظم والقوانين المطبقة تعبر عن الإرادة العامة في الدولة؛ ومن ثم فلا بد أن تصدر من الشعب صاحب السيادة ومصدر السلطات.. (فالديمقراطية كمذهب؛ يُراد به إرجاع أصل السُّلطة السياسية أو مصدرها إلى الإرادة العامة للأمة. أمَّا الديمقراطية كنظام للحكم؛ فيُراد به النظام الذي يرجع أصل السلطة السياسية أو مصدرها إلى الإرادة العامة للأمة) "نقض الجذور الفكرية للديمقراطية الغربية" للدكتور محمد أحمد علي مفتي(1/290)
فالغرب لما أخذوا العلوم الإسلامية؛ فأخذوا منها الجانب المادي والعقلي، ولم يأخذوا ويضمُّوا الجانب العقائدي والروحي الخلقي، لكونهم لا يؤمنون بدين الإسلام الحنيف؛ الذي سخر الله فيه الكون ليأخذ منه العباد التَّطور الذي يقيمون به الحضارات التي تطابق السنن الشرعية مع السنن الكونية، فقامت النهضة الأوربية على أساس العقل وحده، فالعقل المارق هو المتحكِّم على كل الحقائق الحسية والغيبية والقيم الخُلقية، فالتجربة الحسية هي الأساس والطريقة للوصول إلى الحقائق، فصار العقل محرراً لا يضبطه ضابط، ولا يردعه رادع، وبالمقابل أهملت الجانب الذي تتمثل فيه التعاليم الإلهية، وما تضمنته من الخُلق العُليا العظيمة، والقيم الخلقية الرفيعة، مما أدى هذا الاتجاه الفكري إلى نهضة علمية عقلية لا تصاحبها نهضة خُلقية روحية، وإنما هي انعكاس لرغبات الفرد ومصالحه الذاتية، والذي أعقب في النهاية إلى اتخاذ الصناعات والمخترعات هو الغاية في الترفيه المادي للإنسان وقتله في آن واحد.. انظر "المجتمع الإسلامي المعاصر" لمحمد المبارك
ومعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام دولة الإسلام هو صحابته وتابعيهم، فأقاموها دولة إسلامية متَّسعة الرقعة، يُحْكَم فيها بالإسلام، ولا شيء سوى الإسلام، فحكم الله كان يُطبَّق في جميع نواحي الحياة المختلفة، فلا ألوهية لفرعون لسلطانه السياسي، ولا لقارون لسلطانه المالي، ولا للرهبان لسلطانهم الديني الخرافي، وإنما ربطوا حضارتهم في المجالين المادي والخُلقي، وأقاموا أساس عقيدتهم على الغاية العليا التي تربط كل الغايات؛ وهي الحضارة المبنية على الإسلام المستوعب لكل الحياة المادية سواء من جهة التقدم الفكري، وفي مجال معرفة الكون، أو في مجال الصناعة والعمل، والتنظيم، العمران، وغيرها من الأهداف التي يجمعها ويضعها في موضعها اللائق بها من غير مغالاة ولا تفريط.(1/291)
وبهذا المعنى فَهِمَ الصحابةُ الكرام معنى إخضاع الناس لحكم الإسلام، فكانت العقيدة الإسلاميَّة متصلة أشد الاتصال بحياة الفرد المسلم النفسيَّة والخلقيَّة، وبالحياة الاجتماعية وأنظمتها، فهي الموجِّه الأساسي للحياة السياسية، وللفتوحات الإسلامية، وكذلك للحياة العلمية والثقافية، وللحياة الاقتصادية، وكانت العقيدة الإسلامية تحريراً للإنسان والشعوب الإنسانية في مجال السياسي والاقتصادي والديني تحريراً من كل نوع من أنواع الاستعباد أو العبودية، لأن خضوع الإنسان المطلق لا يكون إلا لله وحده لا شريك له، وكانت مقولة الصحابي الجليل ربعي بن عامر ملخَّصة لهذا المعنى أحسن تلخيص، فقال لقائد الفرس وهو يفاوضه: إنما جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها..
ولكن في العصور التي بعدت عن عصر النبوة؛ قَلَّ فيها معاني الخيرية جيلاً بعد جيل، إلاَّ أنَّ حكام المسلمين كانوا يحرصون على الحكم بالكتاب والسنة، وإن وجدت أخطاء في التطبيق، وظلم وجهل في بعض الأحيان؛ فالعيب ليس الشرع، وإنما فيهم.. فالفارق بين الإسلام والديمقراطية أو العلمانية؛ فيظهر ذلك في المنشأ والطريق والغاية، قال الله تعالى: { أفَمَن يَمْشِي مُكِباً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أمَّن يَمْشِي سَوِياً على صِرَاطٍ مُسْتَقِيم } الملك(1/292)
أما في العصر الحاضر؛ فالمجتمع الإسلامي قد أصابه انحراف وتشويه وتمزق، فتردى وتخلف، وعاد في حال لا يحقق المثالية الإسلامية، فقد خُدِعوا، وصاروا ينادون بالعلمانية، وأكبر خدعة خُدِعوا بها؛ أن صار يروج للعلمانية بكل الوسائل! منها الإعلامية؛ بالأقلام واللسان، وهي أشدها، وقام بها المفكرون من الطبقة المثقفة، وقادة السياسة في جميع البلدان الإسلامية، منهم: أحمد لطفي السيد، وإسماعيل مظهر، وقاسم أمين، وطه حسين، وعبد العزيز فهمي، وميشيل عفلق، وأنطون سعادة، وسوكارنو، ومصطفى كمال أتاتورك، وجمال عبد الناصر، غيرهم الكثير، فجعلوا ينفثون سمومهم في جسم الأمة الإسلامية، ويشوهون المفاهيم الدينية، وخلطها بغيرها، فانتقصوها من أطرافها، وفككوا نظامها المترابط، حتى لكأن الإسلام إسلام آخر، فلم يعد يؤتي ثمراته المرجوة.. لاحظ أن بعض هؤلاء غير مسلمين
ويذكِّرنا هؤلاء بأثر رواه الإمام أحمد (عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قلت لعمر - رضي الله عنه -: لي كاتب نصراني! قال عمر: ما لك قاتلك الله؟! أما سمعت قول الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض } ألا اتخذت حنيفاً؟ قلت: يا أمير المؤمنين! لِيَ كتابته، وله دينه، قال: لا أُكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم وقد أقصاهم الله.)
وهنا أذكر مقولة كاسترو رئيس كوبا الكافر القريب هلاكه الذي يستوي كفره مع قوى الكفر الأخرى، حيث يقول للسفير الإسرائيلي في بلاده: (على إسرائيل ألا تترك الحركة الفدائية تتخذ طابعاً إسلامياً دينياً؛ حتى لا تجعل من حركتهم شعلة من نار الحماس الديني؛ مما يجعل من المستحيل على إسرائيل أن تصون كيانها؛ لأن الفداء إذا تملكته عقيدة دينية، وبخاصة في المجتمعات الإسلامية؛ تلاشت أمامه كل العقائد الأخرى، بما فيها الماركسية.) "الإسلام والحضارة الإنسانية" لمحمد خفاجي(1/293)
وهؤلاء عبارة عن امتداد للعلمانية العالمية في أوربا، حيث بدأت فيها عام 1789م في فرنسا، والتي عمَّت أوربا في القرن العشرين ميلادي، ثم انتقلت لتشمل معظم دول العالم في السياسة والحكم في القرن العشرين بتأثير الاستعمار والتنصير الذي يُطلق عليه اسم التبشير..
قال أبو نصر محمد بن عبد الله الرِّيمي اليمني الملقب بالإمام: (قامت الثورة الفرنسية، وكان شعارها "الحرية، الإخاء، المساواة" ثم أدخلت فرنسا "الديمقراطية" في دستورها بعنوان حقوق الإنسان في المادة الثالثة "الأمة مصدر السيادة ومستودعها وكل هيئة وكل شخص يتولى الحكم إنما يستمد الحكم منها" ثم أدخلت ذلك في دستورها الصادر عام 1791م فنص على أن السيادة ملك للأمة، ولا تقبل التجزئة، ولا التنازل عنها، ولا التملك بالتقادم. وصارت "الديمقراطية" يُنَصُّ عليها في دساتير بعض الدول العربية والإسلامية، وعلى سبيل المثال: مصر في دستورها الأول عام 1923م وفي عام 1956م وفي عام 1971م فيه المادة تنص على "أن السيادة للشعب، وهو مصدر السلطات، وتكون على الوجه المبين في الدستور" وهذه المادة موجودة في دساتير الدول العربية والإسلامية إلا القليل، وهذه المادة نفسها موجودة في دستور بلادنا اليمن، ففي المادة الرابعة: "الشعب مالك السلطة ومصدرها، ويمارسها بشكل مباشر عن طريق الاستفتاء والانتخابات العامة، كما يزاولها بطريقة غير مباشرة عن طريق الهيئات التشريعية والتنفيذية والقضائية وعن طريق المجالس المحلية المنتخبة") اهـ "تنوير الظلمات بكشف مفاسد وشبهات الانتخابات"16
قلت: ففي تركيا كان أكبر تشويه تصل فيها الأمة الإسلامية، ومحاولة إبعادها عن دينها، فكان العميل للإنجليز الماسوني مصطفى كمال أتاتورك هو الذي ألغى الخلافة، وألغى اللغة العربية حتى في الأذان، وألغى الحجاب والمحاكم الشرعية، وفرض مكانها الديمقراطية العلمانية اللادينيَّة..(1/294)
أما في مصر؛ فقد أدخل الخديوي إسماعيل القانون الفرنسي سنة 1883م وكان هذا الرجل مفتوناً بالغرب، وكان يحب أن يجعل من مصر قطعة من أوربا..
فالتيار الديمقراطي صار مسيطراً على جميع النواحي الفكرية والعقائدية العالمية، وذلك عن طريق انتقال الثقافة الفرنسية إلى الدولة العثمانية وإلى المغرب وإلى مصر في عهد محمد علي، وعن طريق الثقافة الإنجليزية في الهند ومصر والسودان، وقد غزا هذا التيار الشعوب الإسلامية التي كانت قد تردَّت في دَرَكَاتِ التخلف بسبب تشويهها للإسلام، وابتعادها عن كثير من تعاليمه، وعن وعي أهدافه ومقاصده، فتسلل المذهب العقلاني العلماني والمادي التجريبي إلى عقول الطبقة المثقفة، والمهب الوطني الديمقراطي العلماني إلى الطبقة السياسية الحاكمة، وكانت النتيجة هي إقصاء الإسلام وعزله عن توجيه الحياة الفكرية والثقافية، وإقصائه كذلك عن توجيه الحياة السياسية في مفاهيمها وقيمها وفي اتجاهاتها ومواقفها في الأحداث الداخلية والدولية، وفي تشريعاتها ونُظمها، حتى أمسى الإسلام تقاليد وعادات في أوساط الجمهور والعامة، ومظاهر جوفاء لمجاملة الجمهور في الأعياد والمواسم، فنشأت تيارات كثيرة؛ منها التيار الذي ينادي به القرضاوي ويسميه بغير اسمه، يحاول به التقريب والتوفيق بين التيارات الأخرى، حتى تجاوز به تياره إلى محاولة تقريب دين اليهود والنصارى إلى دين الإسلام الحنيف، فيلتمس بتياره المسوغات والمخارج، فينشر به عبارات تشعر بالقرب والتوافق بينه وبين الآخرين - إلا السلفيين المتمسكين بأحكام الإسلام الصافي- فكان هذا التيار شعاراً من أسوأ الشعارات في تحريف الكلم عن مواضعه، وتغيير المفاهيم الإسلامية بطريق الإزاحة التدريجية، حتى أننا رأينا أن من أصحاب النية الطيبة والعقيدة المؤمنة من يحسن الظن بهذا التيار الخطير..(1/295)
وأنا لا أقول أن القرضاوي أراد السوء للإسلام! ولكنه هو لم يدرك خطورة فكر تياره، فكل منصف من هذه الأمة من علماء وطلبة علم يرى أن خطورة هذا الفكر المتطرف بدأ يتَّضِح إلى الناظرين إليه عن بعد، فهم قد تمكنوا من رؤية مفاسده دون التأثر بسحره، فرأوا أن هذا التيار أولا وآخراً سوف يُقْصِي الإسلام، أو على الأقل هو بداية حركة إقصاء الإسلام، ومرحلة اختلاط الأفكار الإسلامية بغير الإسلامية، ويكون أبطالها ورُوَّادُها مزيجاً وعجيناً عجيباً من الصالحين المخلصين، والمفسدين المدسوسين..
مناقشة القرضاوي(1/296)
فقال القرضاوي: [إن أفضل الجوانب الليبرالية الديمقراطية – في نظري- وهو جانبها السياسي، الذي يتمثل في إقامة حياة نيابية، يتمكن فيها الشعب من اختيار ممثليه الذين تتكون منهم "السلطة التشريعية" في البرلمان. وفي المجلس الواحد أو المجلسين. وهذا الانتخاب إنما يتم عن طريق الانتخاب الحرّ العام لمن ينال أغلب الأصوات من المرشحين، المنتمين إلى الأحزاب السياسية أو المستقلين عنها. وهذه "السلطة المنتخبة" هي التي تملك التشريع للأمة. كما تملك مراقبة السلطة التنفيذية "الحكومة" ومحاسبتها وإلزامها أو سحب الثقة عنها، فلا تستحق البقاء. وبهذه السُّلطة المنتخبة يكون أمر الشعب في يد نفسه. وتصبح "الأمة مصدر السلطات". إن هذه الصورة – من ناحية النظرية- طيبة ومقبولة من الوجهة الإسلامية – في جملتها- لو أمكن تنفيذها على الوجه الذي ينبغي. وأمكن كذلك تفادي ما يصاحبها من مساوئ وشرور، وإنما قلت "في جملتها" لأن للفكرة الإسلامية بعض التحفظات على أجزاء معينة من هذه الصورة. فالسلطة المنتخبة لا تملك التشريع فيما لم يأذن به الله. لا تملك أن تحل حراماً أو تحرم حلالاً أو تعطل فريضة. فالمشرِّع الأول هو الله جل شأنه. وإنما يشرع البشر لأنفسهم فيما أذن لهم فيه، أي فيما لا نص فيه من مصالح دنياهم، أو فيما يحتمل وجوهاً عدَّة، وأفهاماً شتى يرجحون أحدها مهتدين بقواعد الشرع، وفي هذا وذاك مجال رحب جداً للمقننين من البشر. ولهذا يجب أن يُقال: إن الأمة مصدر السلطات في حدود شريعة الإسلام. كما يجب أن تكون في المجالس التشريعية هيئة من"الفقهاء" القادرين على الاستنباط والاجتهاد. تعرض عليها القوانين، لترى مدى شرعيتها أو مخالفتها. بيد أن النظام الديمقراطي لم يشترط شيئاً من ذلك، رغم النص في الدستور على أن دين الدولة هو الإسلام. ثم إنَّ المرشحين لتمثيل الأمة يجب أن يتوافر فيهم الدين والخلق بجوار الصفات الأخرى؛ كالخبرة بالشئون العامة،(1/297)
ونحوها، فلا يجوز أن يرشح لتمثيل الأمة فاجر سكير أو تارك للصلاة أو مستخف بالدين. إن هناك صفتين يشترطهما الإسلام لكل من يلي عملاً: الأولى الكفاية للقيام بهذا العمل والخبرة به. والثانية الأمانة التي بها يُصان هذا العمل، ويتقي الله فيه. وهذا ما عبر عنه القرآن على لسان يوسف بقوله { اجعلني على خزائنِ الأرضِ إني حفيظ عليم } يوسف وفي قصة موسى على لسان ابنة الشيخ الكبير: { إن خير من استأجرت القويُّ الأمين } القصص فالقوة والعلم تمثل الجانب الذهني والعملي المشروط للعمل، والحفظ والأمانة تمثل الجانب الخلقي والنفسي المطلوب لنجاحه أيضاً.] اهـ "الحلول المستوردة" 77 القرضاوي في الميزان 257(1/298)
ويقول القرضاوي: [والغريب أن بعض الناس يحكم على الديمقراطية بأنها منكر صراح، أو كفر بواح، وهو لم يعرفها معرفة جيدة، تنفذ إلى جوهرها، وتخلص إلى لبابها، بغض النظر عن الصورة والعنوان. ومن القواعد المقررة لدى علمائنا السابقين: أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فمن حكم على شيء يجهله فحكمه خاطئ، وإن صادف الصواب اعتباطاً لأنها رمية من غير رام، لهذا ثبت في الحديث أن القاضي الذي يقضي على جهل في النار، كالذي عرف الحق وقضى بغيره. فهل الديمقراطية التي تتنادى بها شعوب العالم، والتي تكافح من أجلها جماهير غفيرة في الشرق والغرب، والتي وصلت إليها بعض الشعوب بعد صراع مرير مع الطغاة، وأريقت فيه دماء، وسقط فيه ضحايا بالألوف، بل بالملايين، كما في أوربا الشرقية وغيرها، والتي يرى فيها كثير من الإسلاميين الوسيلة المقبولة لكبح جماح الحكم الفردي، وتقليم أظافر التسلط السياسي، الذي ابتليت به شعوبنا المسلمة، هل هذه الديمقراطية منكر أو كفر كما يردد بعض السطحيين المتعجلين؟! إن جوهر الديمقراطية – بعيداً عن التعريفات والمصطلحات الأكاديمية- أن يختار الناس من يحكمهم ويسوس أمرهم، وألا يُفرض عليهم حاكم يكرهونه، أو نظام يطرحونه، وأن يكون لهم حق محاسبة الحاكم إذا أخطأ، وهو حق عزله إذا انحرف، وألاّ يُساق الناس إلى اتجاهات أو مناهج اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو سياسية لا يعرفونها، ولا يرضون عنها. فإذا عارضها بعضهم كان جزاؤه التشريد والتنكيل، بل التعذيب والتقتيل.] "فتاوى معاصرة" 2/637، القرضاوي في الميزان(1/299)
وقال أيضاً: [إن الإسلام قد سبق الديمقراطية بتقرير القواعد التي يقوم عليها جوهرها، ولكنه ترك التفصيلات لاجتهاد المسلمين، وفق أصول دينهم، ومصالح دنياهم، وتطور حياتهم بحسب الزمان والمكان، وتجدد أحوال الإنسان. وميزة الديمقراطية أنها اهتدت – خلال كفاحها الطويل مع الظلمة والمستبدين من الأباطرة والملوك والأمراء- إلى صيغ ووسائل، تعتبر – إلى اليوم- أمثل الضمانات لحماية الشعوب من تسلط المتجبرين. ولا حجر على البشرية وعلى مفكريها وقادتها، أن تفكر في صيغ وأساليب أخرى، لعلها تهتدي إلى ما هو أوفى وأمثل، ولكن إلى أن يتيسر ذلك ويتحقق في واقع الناس، نرى لزاماً علينا أن نقتبس من أساليب الديمقراطية ما لا بد منه لتحقيق العدل والشورى واحترام حقوق الإنسان، والوقوف في وجه طغيان السلاطين العالين في الأرض. ومن القواعد الشرعية المقررة: أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وأن المقاصد الشرعية المطلوبة إذا تعينت لها وسيلة لتحقيقها، أخذت هذه الوسيلة حكم ذلك المقصد. ولا يوجد شرعاً ما يمنع اقتباس فكرة نظرية أو حل عملي من غير المسلمين، فقد أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الأحزاب بفكرة "حفر الخندق" وهو من أساليب الفرس. واستفاد من أسرى المشركين في بدر "ممن يعرفون القراءة والكتابة" في تعليم أولاد المسلمين الكتابة، برغم شركهم، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها. وقد أشرت في بعض كتبي إلى أن من حقنا أن نقتبس من غيرنا من الأفكار والأساليب والأنظمة ما يفيدنا.. ما دام لا يعارض نصاً محكمًا، ولا قاعدة شرعية ثابتة. وعلينا أن نحور فيما نقتبسه، ونضيف إليه، ونضفي عليه من روحنا، وما يجعله جزءًا منا، ويفقده جنسيته الأولى.] "فتاوى معاصرة" 2/643 القرضاوي في الميزان(1/300)
وقال: [وقول القائل: إن الديمقراطية تعني حكم الشعب بالشعب، ويلزم منها رفض المبدأ القائل: إن الحاكمية لله، قول غير مسلَّم. فليس يلزم من المناداة بالديمقراطية رفض حاكميَّة الله للبشر، فأكثر الذين ينادون بالديمقراطية لا يخطر هذا ببالهم، وإنما الذي يعنونه ويحرصون عليه هو رفض الدكتاتورية المتسلطة، رفض حجم المستبدين بأمر الشعوب من سلاطين الجور والجبروت.
أجل، كل ما يعني هؤلاء من الديمقراطية أن يختار الشعب حكامه كما يريد، وأم يحاسبهم على تصرفاتهم، وأن يرفض أوامرهم إذا خالفوا دستور الأمة، وبعبارة إسلامية: إذا أمروا بمعصية، وأن يكون له الحق في عزلهم إذا انحرفوا وجاروا، ولم يستجيبوا لنصح أو تحذير.]"فتاوى معاصرة" 2/644 القرضاوي في الميزان
وقال أيضاً: [إن الدستور ينص – مع التمسك بالديمقراطية- على أن دين الدولة هو الإسلام، وأن الشريعة الإسلامية هي مصدر القوانين، وهذا تأكيد لحاكميَّة الله، أي حاكميَّة شريعته، وأن لها الكلمة العُليا. ويمكن إضافة مادة في الدستور صريحة وواضحة: أن كل قانون أو نظام يخالف قطعيَّات الشرع فهو باطل.] "فتاوى معاصرة" 2/646، "القرضاوي في الميزان"(1/301)
وقال: [لا مجال للتصويت في قطعيات الشرع، وأساسيات الدين، وما علم منه بالضرورة، وإنما يكون التصويت في الأمور الاجتهادية التي تحتمل أكثر من رأي، ومن شأن الناس أن يختلفوا فيها، مثل اختيار أحد المرشحين لمنصب ما، ولو كان هو منصب رئيس الدولة. ومثل إصدار قوانين لضبط حركة السير والمرور، أو لتنظيم بناء المحلات التجارية أو الصناعية أو المستشفيات، أو غير ذلك مما يدخل فيما يسميه الفقهاء: "المصلحة المرسلة" ومثل اتخاذ قرار بإعلان الحرب أو عدمها، وبفرض ضرائب معينة أو عدمها، وبإعلان حالة الطوارئ أو لا، وتحديد مدة رئيس الدولة، وجواز تحديد انتخابه أو لا، وإلى أي حد... الخ... الخ. فإذا اختلفت الآراء في هذه القضايا، لا بد من مرجح. والمرجح في حالة الاختلاف هو الكثرة العددية، فإن رأي الاثنين أقرب إلى الصواب من رأي الواحد، وفي الحديث: ((إن الشيطان مع الواحد، وهو الاثنين أبعد.)) رواه الترمذي في "الفتن" عن عمر (2166).(ق). "فتاوى معاصرة" 2/647، "القرضاوي في الميزان"
وقال ايضاً: [وقول من قال: عن الترجيح إنما يكون للصواب وإن لم يكن معه أحد، وأما الخطأ فيُرفض ولو كان معه (99من المائة)، إنما يصدق في الأمور التي نص عليها الشرع نصاً ثابتاً صريحاً يقطع النزاع، ولا يحتمل الخلاف، أو يقبل المعارضة، وهذا قليل جداً.. وهو الذي قيل فيه: الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك.] "فتاوى معاصرة" 2/649، "القرضاوي في الميزان"(1/302)
وقال: [إن أول ما أصاب الأمة الإسلامية في تاريخها هو التفريط في قاعدة الشورى، وتحول "الخلافة الراشدة" إلى "ملك عضوض" سماه بعض الصحابة "كِسْرَوِيَّة" أو "قيصرية" أي أن عدوى الاستبداد الإمبراطوري انتقلت إلى المسلمين من الممالك التي أورثهم الله إياها، وكان عليهم أن يتخذوا منهم عبرة، وأن يجتنبوا من المعاصي والرذائل ما كان سبباً في زوال دولتهم. وما أصاب الإسلام وأمته ودعوته في العصر الحديث إلا من جرَّاء الحكم الاستبدادي المتسلط على الناس بسيف المعز وذهبه، وما عطلت الشريعة ولا فرضت العلمانية، وألزم الناس بالتغريب إلا بالقهر والجبروت، واستخدام الحديد والنار، ولم تُضْرَب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية، ولم يُنَكَّل بدعاتها وأبنائها، ويشرَّد بهم كل مشرد، إلا تحت وطأة الحكم الاستبدادي السافر حيناً، والمقنَّع أحياناً بأغلفة من دعاوى الديمقراطية الزائفة، الذي تأمره القوى المعادية للإسلام جهراً، أو توجهه من وراء ستاره.] "فتاوى معاصرة"2/649، "القرضاوي في الميزان"
وقال: [ويهمني أن أؤكد أنني لست من المولعين باستخدام الكلمات الأجنبية الأصل "كالديمقراطية ونحوها" للتعبير عن معانٍ إسلامية. ولكن إذا شاع المصطلح واستخدمه الناس؛ فلن نُصِمَّ سمعنا عنه، بل علينا أن نعرف المراد منه إذا أُطلق، حتى لا نفهمه على غير حقيقته، أو نحمله ما لا يحتمله، أو ما لا يريده الناطقون به، والمتحدثون عنه، وهنا يكون حكمنا عليه حكماً سليماً مُتَّزِناً، ولا يضيرنا أن اللفظ جاء من عند غيرنا، فإن مدار الحكم ليس على الأسماء والعناوين، بل على المسميات والمضامين.] "فتاوى معاصرة" 2/650، "القرضاوي في الميزان"(1/303)
وقال: [أنا من المطالبين بالديمقراطية بوصفها الوسيلة الميسورة، والمنضبطة، لتحقيق هدفنا في الحياة الكريمة التي نستطيع فيها أن ندعو إلى الله وإلى الإسلام، كما نؤمن به، دون أن يزج بنا في ظلمات المعتقلات، أو تنصب لنا أعواد المشانق.] "فتاوى معاصرة" 2/650، "القرضاوي في الميزان"
وقال أيضاً: [أن تقف أبداً في وجه الحكم الفردي الديكتاتوري، الاستبداد السياسي، الطغيان على حقوق الشعوب، وأن تكون دائماً في صف الحرية السياسية المتمثلة في الديمقراطية.] "أوليات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة" 156
وقال في نفس المرجع: [إن الفكرة الإسلامية، والصحوة الإسلامية، لا تتفتح أزهارها، ولا تنبت بذورها، ولا تتعمق جذورها، ولا تمتد فروعها إلا في جو الحرية، ومناخ الديمقراطية.]
قال أبو ماجد: فالقرضاوي ينافح عن الديمقراطية والتي جوهرها أن يختار الناس حاكمهم، وكان بإمْكَان القرضاوي أن يدرس المجتمع الإسلامي وهو دكتور فقيه في قضايا مثل هذه، ولا تفوته أن هدف الدول المستعمرة هو السيطرة على النفوذ، وتفتيت الكتل البشرية الكبيرة المتجانسة والتي تصل بينها أنواع من الترابط المقربة، وهذا الهدف تتفق فيه مصالح أمريكا وبريطانيا وروسيا وفرنسا، والمصلحة في عصرنا هذا وفي أيامنا هذه واضحة للعيان؛ بحيث يكون توجيه العالم إلينا بطريق تفتيتنا أولاً، ثم إلى تجزئتنا إلى أجزاء لا تقف عند حد، وهذا لمن تأمل الواقع قديماً وحديثاً..
فالدكتور القرضاوي يريد أن يحلي ويجمل الديمقراطية الغربية على حساب الإسلام، بل ويدعي أنها وافقت الإسلام، فيلتبس على الناس معنى الإسلام والديمقراطية!!(1/304)
فهل كان من تيار القرضاوي الوسطي عدم بذل النصيحة للحكام والمسئولين، فبمنهجه يريد التشهير بهم وبتصرفاتهم وتكبير سيئاتهم وانتقاصهم بتجرئه عليهم أمام العامة على منهج الروافض الذي نفخوا بنفس الكير، وصرخوا بنفس البوق بمقاصدهم الباطلة التي لا يراد بها وجه الله ولا الخير ولا مصلحة الأمة؟!
وهل يريد بهذا التيار بيان أن رأيه في الأفكار والتصرفات أنها على الصواب، مأخوذة من علم السنة والكتاب، أم هو إحداث فتنة يراد بها مصلحة للتيار – الغير منضبط بأي ضابط شرعي- بحجة إبداء الرأي ولو بالقوة، وبدون عدل في الخصومة، أو بصيرة بالشَّرع والواقع؟!
فهنا أريد أن أنقل ما كتبتُه عن أحد الدعاة الذين أرادوا شيئاً من هذا الفكر القرضاوي الذي هو أصل دعوة حزب (الإخوان المسلمين) في رسالة لي بعنوان "ملاحظات على الرسائل الشمولية" لعبد العزيز بن عبد الله الحميدي عفا الله عنا وعنه؛ فقلت:
(أما من ناحية رسالته الثانية من رسائله الشمولية: "شمول العقيدة" فالرد عليها يحتاج إلى صفحات أكثر من السابقة، ولكن باختصار:
إن الذي يريده المؤلف في هذا الباب أن يسوغ الحكم بغير ما انزل الله بدون أن يشعر هو، لأنه هو نفسه يقول: أن الحكم بما انزل الله من أصول العقيدة، ولكنه هو يقرر القاعدة الكفرية "الغاية تبرر الوسيلة" دون أن يشعر، حيث يقرر في ص 135 بمشروعية المشاركة في الانتخابات السياسية، يعني المشاركة في البرلمانات السياسية، لغاية مصلحة المسلمين، فيقول:(1/305)
(وبعض الناس يستدلون على عدم مشروعية المشاركة في الانتخابات السياسية بالإخفاقات التي تحصل للمشاركين فيها من ممثلي المتقين، وهذا استدلال غير صحيح، لأن النجاح في أرض الواقع ليس دليلا للمشروعية، وكذلك الإخفاق ليس دليلا على عدم المشروعية، وإنما يلزم لذلك النوايا الصادقة في الإصلاح، واعتبار الأخذ بالضروريات كمسوغ لمشروعية هذا الأمر، وذلك للحفاظ على مصلحة الإسلام والمسلمين، وإذا كان الفرد المسلم يجوز له التفوُّه بالكفر عند الإكراه { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان } لا لشيء إلا للإبقاء على نفسه والخلاص من أذى الأعداء أفلا يجوز لممثلي المتقين من الأمة أن يقعوا في تلك المخالفة الشرعية من أجل أن يُبقوا على وجود الإسلام في بلادهم وأن يحفظوا مصالح المسلمين من الاجتياح على يد أعداء الإسلام ؟! ) انتهى.
قال أبو ماجد: فأقول والله المستعان: وهل هذا الفكر وهذا الاتجاه هو عين الحكم بغير ما أنزل الله؟! ثم هو يعترف بنفسه أن دخول البرلمان مخالفة شرعية لما يعرفه هو بنفسه أنه مخالفة شرعيَّة، يعني وسيلة غير شرعية، ولكن يبررها للغاية التي ينشدها، فهو يعلم أن البرلمان حكمٌ ما انزل الله به من سلطان، ويعلم أن فيه قوانين مخالفة للدين القويم، ويعلم أن الذي يدخل البرلمان يجب عليه أن يقسم به، ويحكم به، ثم هو يسوغه بشرط صلاح النية، وكأن النية الصادقة عنده تجعل الباطل صالحا يجوز العمل به!
وأقول أيضاً: ما تأخَّر المسلمون إلا بهذا الفكر المخالف للكتاب والسنة، وهو فكر الأحزاب التي خرجت عن منهج الإسلام الذي رسمه الله للناس، إلى حثالة أفكار القادة الحزبيين الذين رسموها للناس بأسلوب لم يأذن به الله، بل بأسلوب لا يرضي الله ويخالف أمر الله..(1/306)
والأدهى من ذلك والأمر أن ينسب المؤلف هذا الفكر لشيخ الإسلام ابن تيمية تزلفا وتمسحا به كما سبق بيانه عنده وعند غيره من المتزلفين لشيخ الإسلام.. انظر إلى هذا النوع من التمسح إلى كتاب "دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية وأثرها في الدعوات الإسلامية المعاصرة" لصلاح الدين مقبول.
وأما الذي نعرفه عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنه لم يمارس السياسة، ولكنه أفتى فيها كما أفتى في غيرها من الفنون الشرعية، وكان يقول هو رحمه الله: أنا رجل ملة لا رجل دولة.. كما في: "العقود الدرية" لابن عبد الهادي ص 177.
وأما استدلال المؤلف بهذا الفكر بيوسف - عليه السلام - فهو الضلال المبين، واتهام النبيين..
فيوسف - عليه السلام - لم يسوغ لنفسه استلام الوظائف السياسية كالبرلمانات الكافرة، ولم يقبل الدخول فيها، ولكن كما قال الله تعالى: { وقال الملك ائتوني به استخلصه لنفسي فلما كلَّمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم }
فيوسف - عليه السلام - لم يُمَيِّع دينه، ولم ينفذ قانون الملك الكافر باسم مصلحة الدَّعوة، ثم إن يوسف - عليه السلام - قد زكَّاه الله، ولا يعمل إلا بأمر الله، أما اليوم الداخل في البرلمان فلا بد له أن يحلف بالدستور، ويحترمه و.. و..الخ
ثم أين هؤلاء الذين دخلوا هذه البرلمانات، ماذا فعلوا للإسلام؟
نعم هم دخلوا البرلمانات، وحكموا بغير ما انزل الله، وكفَّروا من لم يحكم بما انزل الله بدون تفصيل أو تحقيق، فرمتني بدائها وانسلت.
والغريب من المؤلف أن يعقد باباً ص 148 فيقول:
أهمية الدعوة إلى الحكم بما أنزل الله..(1/307)
ولكنه سلك في هذا الباب مسلكاً لا يقره عليه عالم مسلم، حيث جعل الحكم بما انزل الله من أصول التوحيد، بدون حجة، وبدون التفات إلى تفاصيل العلماء في هذا الباب، بل يرسل الكلام في هذا الباب على عواهنه، ويزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا إلى الحاكميَّة، وكأنه دعا إلى دولة والى حكومة، مع أن هذه الدولة والحكومة الإسلامية التي يطالب بها الدعاة من أمثال المؤلف؛ لن تقوم إلا بالطريق الموصل إليها، وهو الانطلاق بالمنهج الذي سار عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -: وهو في البدء بالدعوة إلى محاربة الشرك العقائدي من عبادة الأوثان وغيرها... هذا هو الذي بدأ به النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن قبله من الأنبياء والرسل عليهم السلام..
ولكن من المستغرب من المؤلف انه يدقق على هذا الباب الذي عقده في رسائله وكأن المسلمين قد حققوا التوحيد الخالص في هذا الزمان، وهم في الحقيقة – الأغلبية منهم – واقعون في الانحراف في توحيد الألوهية، بالتعلق بالقبور دعاءً واستغاثةً وذبحاً ونذراً وما يتعلق من الأعمال المنكرة ذات الصلة بهذه القبور و... و.. الخ. انظر رسائلي "رسالة إلى القبوريين" و" الردود على الجفري المشرك" و"والتعليق على الموسوعة الكويتية في التوسل"
وهذا هو واقع الأمة الإسلامية في هذا الزمان - يا علماء الواقع!- لهذا لم يكتب لها النصر على الأعداء، لأنها لم تنصر الله، ولم تنصر ما جاء به الرسل من عند الله، لهذا لم يمكَّنوا في الأرض، ولم يُستخلفوا فيها، ولكنهم بُدِّلوا بالخوف بعد الأمن، وهذه هي سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا..(1/308)
فأهل السنة والجماعة يؤمنون بأن دعوة الأنبياء كلهم ركَّزت على محاربة عبادة الأوثان والأصنام، والدولة الإسلامية المنشودة ما قامت إلا بعد ما طهرت النفوس من الشرك الأكبر واستأصلته من القلوب، وعلقتهم بالله وحده لا شريك له ولا ند له ولا سمي له سبحانه وتعالى، كما قال الله تعالى: { وَعَدَ اللهُ الذين آمنوا مِنْكُم وعَمِلوا الصَّالِحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأرض كما اسْتخْلَفَ الذين من قَبْلهم ولَيُمَكِّنَنَّ لهم دينهم الذي ارْتَضى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِم أَمْناً يَعْبُدونَني لا يُشْركون َبِي شَيْئاً } (النور)
فالدعوة إلى التوحيد واستئصال الشرك كانا هدف بعثة الأنبياء عليهم السلام، وكانت دعوتهم وتعليمهم يقوم على هذا الأساس عبر التاريخ البشري، مهما حاول الناس تزييف هذا الهدف، أو يؤصلوا أصولا ليصلوا إلى مرادهم؛ بظروفهم وملابساتهم وانتماءاتهم وأفكارهم..
فالدولة الإسلامية لن تقوم ولا يمكن أن تقوم حتى تكون دعوة الدعاة كدعوة سيدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بتصحيح العقيدة أولا، وذلك بتصحيح الصِّلة بين العبد وربه، فهذه هي دعوة الأنبياء والمقصد من بعثتهم، وغاية جهادهم، بل هو قطب الرحى في حياتهم، فمنه يبدؤون واليها ينتهون قال الله سبحانه تعالى: { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } (الأنبياء)
فالدعوة إلى الحاكميَّة التي ينادي بها المؤلف ليست هي نقطة الانطلاق للدعوة إلى الله، فهذا لا يقوله إلا القطبية الآنفي الذكر، وهي دعوة مقلوبة، ومعاكسة لدعوة الأنبياء والرسل الذين قاموا بتأسيس القاعدة أولاً ثم القيادة ثانيا، لا العكس، فالتوحيد الخالص أولا ثم الحاكميَّة تبعاً.) انتهى التعليق على الرسائل الشمولية(1/309)
هكذا يري أصحاب هذا التيار، وينادون بالديمقراطية علناً وبوضوح، ويصوِّرون أن سبب المشاكل التي يعانون منها هو غياب الديمقراطية الحقيقية، ويدَّعون أن الدول الظالمة عندما منعتهم الديمقراطية عاشوا فيها في ظلام دكتاتوريتهم، وإذا منحتهم الديمقراطية؛ فسوف يعيشون في جنة الدنيا، فهم ما يزالون يهتفون بها طالما أن في الإسلام شورى، فالديمقراطية نظام إسلامي عندهم، لا مانع من إضافة هذه الكلمة إلى الإسلام، كما أضيفت من قبل الاشتراكية والقومية والوطنية والصوفية والحزبية والطرقية والشيعية.. و..الخ من السراب الذي { يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفَّاه حسابه والله سريع الحساب } النور والضياع { فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى } طه والنكد { قال ربِّ لِمَ حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال كذلك أتتك آيتنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنْسى } طه والحسرة { وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشدُّ وأبقى } طه لكونها باعت دينها، واتبعت كل شيطان مريد { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير } الحج
فما أدى إلى انتشار الديمقراطية والمطالبة بها في بلدان المسلمين إلاَّ بسبب مناداة بعض الدعاة والكتاب والمفكرين بتبنِّيها، وجعلوا لدعوتهم حججاً وشبهاً لتأييد تبنيهم لها، بزعم أنها تُعتبر ترتيباً إجرائياً لحل مشكلة الاستبداد السياسي، وتعميق الحرية والمشاركة السياسية، أو بربط بعض مظاهرها بالإسلام، أو أنها نظام حيادي ليس فيه خطر على حضارة الأمة وهويتها الفكرية والاجتماعية، أو أنها آلية للعمل السياسي فقط ولا تمثل مشروعاً أيديولوجياً مناهضاً للإسلام.(1/310)
فالقرضاوي ربط بين تبني الديمقراطية وتبني الوسائل الأساليب، وقارن بين أخذ الديمقراطية كنظام وبين أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - لفكرة حفر الخندق، أو الاستفادة من متعلمي المشركين في تعليمهم أبناء المسلمين، وأن هذا من الشُّورَى والعدل واحترام حقوق الإنسان، والوقوف في وجه السلاطين العالين في الأرض. وقال أن جوهر الديمقراطية من صميم الإسلام، وهذا الجوهر يتمركز باختيار الناس من يحكمهم في الانتخابات والاستفتاء العام، وترجيح حكم الأكثرية، وتعدد الأحزاب السياسية، وحق الأقلية في المعارضة، وحرية الصحافة، استقلال القضاء، وأنها – أي الديمقراطية- تسعى لاستيعاب الديانات الأخرى وخاصة الديانة النصرانية التي يسميها: مسيحية، وأنهم إخوان لنا، يعيش بعضهم معنا، لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، ونعترض على مسمى الجزية، والقرآن نزل مركِّزاً – بزعمه- على مواضع الاتفاق معهم، فهم عنده مسلمون بالحضارة والثقافة، وإن كانوا نصارى بالعقيدة والطقوس، فحربنا لهم ليست من أجل عقيدتهم ولا لعنصريتهم، فيجب احترام أديانهم، ونهنئهم بأعيادهم، كل ذلك بدعوى طمأنتهم إلى عدالة المشروع الإسلامي، وإلى إتاحة الفرصة لهم للمشاركة الفاعلة من منطلق كونهم مواطنين في الدولة المسلمة، كما قال ذلك وأكثر، ونقضناها في أعلاه..
وهذا الفكر ليس جديداً عند القرضاوي! فقد سبقه الكثيرون من قبله؛ فشيخه الغزالي كان من المنادين للديمقراطية -كما بينا ذلك في القسم الثاني من المجلد الأول- فقال الغزالي: (من خصائص الديمقراطية الحديثة أنا اعتبرت المعارضة جزءاً من النظام العام لدولة، وأن للمعارضة زعيماً يُعترف به، ويُتفاهم معه دون حرج... والواقع أن هذه النظرة تقترب كثيراً من تعاليم الخلافة الراشدة.) "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث"136(1/311)
بل وشيخ أشياخهم حسن البنا قال وهو يتبنى النظام البريطاني الدستوري: (فليس في قواعد هذا النظام النيابي ما يتنافى مع القواعد التي وضعها الإسلام لنظام الحكم، وهو بهذا الاعتبار ليس بعيداً عن النظام الإسلامي ولا غريباً عنه.) "مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا"366
وفي عام 1994م أصدر الإخوان المسلمون بياناً بعنوان: "الشورى وتعدد الأحزاب الديمقراطية، والتعددية، والعمل الحزبي، وانتهى إلى ما يلي:
أولا: إن الأمة هي مصدر السُّلطات.
ثانياً: إقرار وجود دستور مكتوب يفصل بين السُّلطات ويحفظ الحريات.
ثالثاً: قيام مجلس أمة منتخب.
رابعاً: الدعوة إلى تعدد الأحزاب والتعددية السياسية.
خامساً: إقرار تداول السلطة عن طريق انتخابات برلمانية دورية."تحديات سياسة تواجه الحركة الإسلامية"77 لمصطفى الطحان
فهذه هي الفكرة التي تبنتها العديد من الجماعات الإسلامية المعاصرة، وأقروها كمنهج عمل سياسي لن يتراجعوا عنه، بظنهم أن هذا النظام خيار أصيل لإصلاح المجتمع..(1/312)
أما عن المشاركة في البرلمانات والانتخابات التشريعية عند الإسلاميين؛ فمنبعها هو الرغبة في تغيير الواقع، والعمل على بناء مجتمع إسلامي باستغلال القنوات الرسمية في الدولة، حتى أن من الإسلاميين – وعددهم غير قليل- من رُشِّح في تولي مناصب برلمانية، وحقق بعض المكاسب الجزئية في الدعوة، ولكن في غياب الإسلام كنظام للحياة في الواقع، لِكَوْن السُّلطة في أغلب نظام الدول يقوم عليها العسكريون أو المدنيون العلمانيون الذين تشربوا لبان الغرب الفكري وخاصة في مجال الحكم والسياسة، فهم يعادون المنهج الإسلامي كمنهج للحياة، مما أدى من الإسلاميين التنازل عن الإسلام في كثير من جوانبه، على غاية أنهم يصلون إلى السلطة يوماً ما، ولو على حساب تعطيلهم شرع الله المنزل، فلا أقاموا دولة الإسلام، فضلاً من أن يصحِّحُوا الانحرافات القائمة فيها، ولم يُمكَّنوا من حمل الأمانة نحو ما أرادوا بزعمهم إقامة دولة إسلامية تحكم بما أنزل الله، وتحتكم في تشريعاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية إلى الشرع الذي سوف يُسألون عنه يوم الدين، فأسلموا أنفسهم إلى أسْلِمَة الدول التي يعملون فيها..(1/313)
وربما يقول قائل أنهم وصلوا! فنقول: هم كادوا! ولكن تدخل العسكر لتأكيد علمانية الدولة، وإخراج أعضاء البرلمان من الإسلاميين وحَلُّوا البرلمان، وقد حصل هذا في الجزائر وتركيا والأردن واليمن وإندونيسيا والباكستان وغيرهم، وهم الآن لم يعتبروا بهذه التجربة، بل والتجارب ظهر في كلها - بدون استثناء- أن الطريق لإقامة أحكام الإسلام عن طريق المجالس البرلمانية مسدود ومحاط بعقبات جِسام، فالسلطة التنفيذية ديمقراطية لا تقبل تسلط فكر واحد على باقي الأفكار، بل الواجب على كل من ضمَّ نفسه ليكون برلمانياً أن يوافق على شَرْعِيَّة السلطة القائمة، وأن يوافق على دستور الدولة ونظامها، والموافقة على تحكيم غير شرع الله، والقسم على الدستور القائم، وهذا الدستور يقوم على تقديم الأصوات الأغلبية الناخبة إلى رئيس الدولة للنظر فيها، وله الحق في قبولها أو رفضها - مهما بلغ عدد المؤيدين الإسلاميين والمصوِّتين من غيرهم- فتعاد إلى المجلس لمناقشتها ثانية، أو تجميدها، ولَرُبَّمَا كان التصويت والأغلبية لغير الإسلاميين في مجالسهم النيابية؛ فتقوم الدولة باختيار الأغلبية، فيكون موافقة الرئيس لهذا المجلس النيابي قانوناً ملزماً في الدولة، فيكون الإسلام بعدها سلعة رخيصة ساوم بها الإسلاميون فسقط الشرع الإسلامي من المجلس النيابي، وتعالى القانون الكافر، وأباح كل محرم في الإسلام؛ من ربا وزنى وشرب خمر، بحجة تشجيع السياحة الوطنية وغيرها، فصار القانون الإسلامي الإلهي مساوياً بغيره من القوانين العلمانية والاشتراكية والشيوعية، فهو خاضع كغيره من القوانين التي متى حصل لها أصوات الأغلبية؛ صارت قانوناً يجب على الكل احترامه، والسير عليه دون لَخْبَطَتِه أو محاربته، بل ولا حتى التحذير منه..(1/314)
وهنا أريد أن أنقل كلام جمال سلطان وهو يرد على القرضاوي عفا الله عنا وعنه في تبنيه للديمقراطية الغربية، في كتابه "الجهاد الثقافي" فقال: (لقد قرر الشيخ أن جوهر الديمقراطية هو أن يختار الناس من يحكمهم... الخ، وهذا هو ناتج أساسي من نواتج الديمقراطية، أو مظهر بارز من مظاهرها، ولكنه ليس جوهر الديمقراطية كما توهَّم الشيخ، وإنما الديمقراطية هي – في جوهرها- رفض "الثيوقراطية" أي سلطة الدين والحكم باسم الله في الأرض، والميلاد التاريخي للديمقراطية كان نتيجة صراع الدولة ضد الكنيسة، والحكم المدني ضد الحكم الديني، الحكم باسم الشعب والبَشَر ضد الحكم باسم الله والدين، بوجه آخر نقول؛ إن الديمقراطية هي وجه العملة الآخر للعلمانية، وكان من مترتبات ذلك أن ترفع وصاية أي بشر مهما كان جبروته وسلطانه، عن كاهل الشعب، لأننا إذا رفضنا وصايا الدين والإله من أجل الشعب، فكل وصاية دونها على الشعوب تكون مرفوضة بطريق الحتْم والمنطق. ومن هنا تولدت المسائل والنظم التي تحكم إدارة الشعوب لمجتمعاتها بحيث تحول دون ظهور القهر والتسلط والاستبداد بأي وجه يكون، وذلك بعد أن حققت الدولة المدنية بمفكريها ورجالاتها النصر النهائي على الكنيسة ورجال الدين، وانتزعت السيادة منهم، على النحو الذي يعرفه – ببساطة - أي دارس للتاريخ الأوربي الحديث.(1/315)
كان من مترتبات هذا النصر النهائي للحركة الديمقراطية؛ أن نزعت صفة القداسة من أي وضع وأية قضية وأي معنى، ما لم يقرر الشعب أنه مقدس، والحرام هو ما غلب رأي الناس على أنه حرام، والحلال هو ما غلب رأي الناس على أنه حلال، بغض النظر عن أية مرجعية أخرى؛ دينية أو غيرها، لأنك إذا قررت بأن ثمة مرجعية تشريعية هي فوق البشر أو قبل رأي الشعب؛ فأنت بذلك تكون قد نقضت أصل الديمقراطية، لأنك إذا قلت – مثلا- إن هذا الأمر لا يجوز للناس العمل به بنص القرآن، فأنت بذلك جعلت الحكم لله، وليس للشعب، وطالما سحب الحكم والتشريع من الشعب؛ فقد انتهت قصة الديمقراطية.
هذه هي قصة الديمقراطية – باختصار- وهذا هو جوهرها، الذي يعلمه علم اليقين الأستاذ فهمي هويدي وتياره الفكري، وهل يا ترى نستطيع أن نقول مع الشيخ: (إن الذي يتأمل جوهر الديمقراطية يجد أنه من صميم الإسلام؟، وأن نقول معه أيضاً: (إن الإسلام قد سبق الديمقراطية بتقرير القواعد التي يقوم عليها جوهرها، ولكنه ترك التفصيلات لاجتهادات المسلمين وفق أصول دينهم، ومصالح دنياهم، وتطور حياتهم.).
الواضح تماماً من فتوى الشيخ؛ أنه تصور الديمقراطية على صورة معينة يأملها ويتمناها ثم أصدر فتواه مفصلة على هذا "الخيال" الذي داعب أمانيه، لا على الحقيقة التاريخية والموضوعية التي صاغت مصطلح "الديمقراطية" في الفكر الإنساني الحديث.
ولعله من أبين ما يدلك على ذلك؛ قول الشيخ في فتواه: (وقول القائل: إن الديمقراطية تعني حكم الشعب بالشعب، ويلزم منها رفض المبدأ القائل: إن الحاكمية لله، قول غير مسلَّم، فليس يلزم من المناداة بالديمقراطية رفض الله للبشر، فأكثر الذين ينادون بالديمقراطية لا يخطر هذا ببالهم، وإنما الذي يعنونه ويحرصون عليه رفض الديكتاتورية المتسلطة، رفض حكم المستبدين بأمر الشعوب، ومن سلاطين الجور والجبروت.) اهـ(1/316)
وأنا - في الحقيقة- لم أستوعب قول الشيخ: (إن أكثر الذين ينادون بالديمقراطية لا يخطر هذا ببالهم، وإنما الذي يعنونه ويحرصون عليه هو...)، هل أجرى الشيخ إحصاءً أنتج له هذه الحقيقية؟ وإذا قال مخالفهُ: (إن أكثر الذين ينادون بالديمقراطية هذا ما يدور ببالهم)، ما الذي يرجح قول أحدهم على صاحبه؟
ثم قال جمال سلطان: إن الفتوى الشرعية تحتاج إلى ضبط في الكلام بصورة أكثر دقة وإحكاماً من مثل هذه العبارات العاطفية الفضفاضة، وإني لأعذر الشيخ في حماسته هذه في الدفاع عن قيم العدل والحرية وحفظ حقوق الإنسان وكرامته، فمثله ومثلي، يعرف كم هي قاسية سياط الجلادين، وكم هي موحشة سجون المستبدين، بيد أن حديث العدالة والحرية وحقوق الإنسان شيء، وضبط مصطلح فكري وسياسي لإجراء حكم شرعي عليه شيء آخر، كما أن الواقع يبقى دائماً ما كان، لا ما ينبغي في تقديري أن يكون، ولنتأمل قول الشيخ: [والمسلم الذي يدعو إلى الديمقراطية إنما يدعو إليها باعتبارها شكلاً للحكم، يجسد مبادئ الإسلام السياسية في اختيار الحاكم، وإقرار الشورى والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومقاومة الجور، ورفض المعصية، وخصوصاً إذا وصلت إلى (كفر بواح) فيه من الله برهان.] اهـ
فقال جمال سلطان: وأنا أوافق الشيخ تماماً على ما حدده من منهج للحكم الإسلامي، ولكن ما الذي يدعوك – يا سيدي- لكي تضع خاتم الديمقراطية على هذا الحديث وذاك المنهج؟! ما هي بالضبط القداسة التي يحملها مصطلح "غربي التكوين والنشأة والتاريخ والصراع والدلالة" لكي تستميت في الدفاع عنه وتحسين صورته أمام المسلمين، بالقدر الذي يذكرنا بالهوس الذي طاف بعقول بعض المسلمين في الخمسينات والستينات حول مصطلح "الاشتراكية" حتى جعلوها والإسلام وجهين لعملة واحدة!,وها هي التجربة تعود مرة أخرى مع مصطلح "الديمقراطية".(1/317)
إن الديمقراطية ليست ما تفصِّله أنت على مقاسك، أو يفصِّله غيرك، الديمقراطية منهج كامل لصيانة البناء الاجتماعي، إما أن تقبله، وإما أن ترفضه وتبحث لك عن منهج آخر يولِّد لك مصطلحات أخرى أصيلة تناسب عقيدتك ودينك وإنسانك.
وإذا جاز أن نقبل المصطلح مع إجراء بعض التعديل عليه ليناسب بيئتنا، فما قولك في مصطلح "الثيوقراطية"، وهو (الحكم الإلهي)، فقط نستبعد منه احتكار رجال الدين للحكم باسم وصايا السماء – على ما عرفه التاريخ الكنسي الأوربي- ويبقى لنا أنها تعني جعل حكم الله هو المهيمن على البشر والمحدد لشريعة المجتمع، وهل نستطيع أن نقول – حينئذ- إن جوهر الثيوقراطية (حكم الله) هو الإسلام؟!
إنه بالقدر الذي تقول فيه: إن الديمقراطية من الإسلام، يصح القول إن الثيوقراطية من الإسلام!!!
ثم قال جمال سلطان: أما نحن، فنقول: إن الديمقراطية والثيوقراطية كلاهما مصطلح أوربي النشأة والتكوين والتاريخ والدلالة، ولا يعنينا أمرهما كمسلمين، لأن الإسلام لم يعرف حكم طبقة رجال الدين، كما لم يعرف (صكوك الغفران)، كما لم يعرف الصراع بين الدولة المدنية والكنيسة، أو بين الدين والدولة، وإجمالاً لأن الإسلام كدين وتاريخ وحضارة يختلف عن المسيحية كدين وتاريخ وحضارة، مما يفرز لنا – بالبديهة المحضة- اختلاف المصطلحات الفكرية والسياسية والمنهجية بين كلا المنظومتين.
القضية هنا؛ أن بعض المسلمين يتخيل أن حقوق الإنسان والعدالة والحرية وحق تداول السلطة ومنع التجبر في الأرض هي أمور حكر على التنظيم الديمقراطي للمجتمع، بحيث لا يمكن لهم تصور هذه المبادئ تتحقق تحت أي مظلة أخرى مصطلحية في الإسلام، وهذا خلل خطير، إن هذه الحقوق والمبادئ الإنسانية مجرد ناتج لميلاد العلمانية/ الديمقراطية في المجتمع الأوربي، ولكنها أيضاً يمكن إنتاجها وحمايتها وفرضها في المجتمعات الأخرى عن غير طريق العلمانية/ الديمقراطية.(1/318)
ولكن الهيمنة الفكرية الغربية على تيارات الفكر والسياسة في المجتمع المعاصر، الجبروت الذي تمارسه المركزية الأوربية على عقول ونفوس أبناء العالم الثالث – منهم بعض المسلمين- لم تعُد تدع فرصة للعقل غير الأوربي أن يفكر بأصالة أو يتخيل نتاجاً فكرياً ونهجياً لا ينجذب إلى (القطب الأوربي) ومنهاجه ومصطلحاته، فكانت معظم الجهود (العَالَمْثَالِثِيَّة) في مجال الأفكار والمناهج والمصطلحات – ومنها هذه الفتوى- مجرد تذييلات وهوامش على المتن الأوربي، بيد أننا – في الحالة الإسلامية- يأبى الضمير الإسلامي إلا أن يسجل تحفظاته الخجلى على الديمقراطية، ويتجاهل أن هذه التحفظات تعني في الواقع الموضوعي رفض الديمقراطية، ولكننا نصر على الاحتفاظ بالمصطلح والدفاع عنه رغم أننا – موضوعياً- أبطلناه.
ثم قال جمال سلطان: إن حزب الفراشة الإيطالي – حزب المومسات- فرض نفسه على الساحة الحزبية ودخلت بعض أعضائه البرلمان الإيطالي لكي يكون (صوت المومس) كافياً لتشريع أي قانون جديد في المجتمع إذا تساوت الأصوات.
الذي لا يريد أن يعترف به الشيخ القرضاوي أن حزب الفراشة يمارس حقه الديمقراطي، وأنك إذا رفضت وجوده أو رفضت دخوله البرلمان أو رفضت الاعتداد بأصوات أعضائه فأنت غير ديمقراطي، وهذا فعل ضد الديمقراطية، هذه حقيقة موضوعية لا حيلة لك فيها، ولا مهرب لك من الإقرار بها.
صحيح أنك ترفض ذلك، وأنا كذلك أرفضه، ولكن معنى ذلك أننا نرفض الديمقراطية كإطار منهجي للحكم في بلاد الإسلام، ويبقى أن أبحث أنا وأنت عن مصطلح جديد ومنهج جديد، يربط بين الدين والدنيا، الشريعة والمجتمع، العدالة والأخلاق، الحرية والقِيَم، حق الله وحق العباد، وهي كلها جوانب لا صلة للديمقراطية بها ابتداءً.(1/319)
ولا يؤرقك يا سيدي أن يرفض الغرب الاعتراف بمصطلحك الجديد ومنهجك الجديد، فهو يرفض دينك من حيث الأصل، كما أن المنطلق الذاتي للديمقراطية التي تحكم حياته، يلزمه بقبول وضعية التعددية، هذا إذا أحسنا الظن بالتزام أي مبدأ لاسيما في العلاقات الدولية.
ثم قال جمال سلطان: في فتوى الشيخ يوسف القرضاوي عن الديمقراطية، هناك خلل آخر، في محاولته تحليل مشروعية بعض الجوانب الإجرائية في الممارسة الديمقراطية، حيث حمل على فهم بعض الإسلاميين لها، وأنا أترك نص الحديث له، ثم يكون تعقيباً.
يقول الشيخ – أي القرضاوي-: ومن الأدلة عند هذا الفريق من الإسلاميين، على الديمقراطية مبدأ مستورد، ولا صلة له بالإسلام: أنها تقوم على تحكيم الأكثرية، واعتبارها صاحب الحق في تنصيب الحكام، وفي تسيير الأمور، وفي ترجيح أحد الأمور المختلف فيها بالتصويت في الديمقراطية هو الحكم والمرجع، فأي رأي ظفر بالأغلبية المطلقة، أو المقيدة في بعض الأحيان، فهو الرأي النافذ، وربما كان خطأً أو باطلاً.
هذا مع أن الإسلام لا يعتد بهذه الوسيلة ولا يرجح الرأي على غيره، لموافقة الأكثرية عليه، بل ينظر إليه في ذاته: أهو صواب أم خطأ؟ فإن كان صواباً نُفِّذ، وإن لم يكن معه إلا صوت واحد، أو لم يكن معه أحد، وإن كان خطأً رُفض، وإن كان معه (99) من الـ (100)!!
بل إن نصوص القرآن تدل على أن الأكثرية دائماً في صف الباطل، وفي جانب الطاغوت، كما في مثل قوله تعالى: { وإنْ تُطِعْ أكثر من في الأرضِ يُضلُّوك عن سبيل الله } الأنعام { وما أكثرُ الناسِ ولو حرصتَ بمؤمنين } يوسف وتكرر في القرآن مثل هذه الفواصل القرآنية: { ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون } الأعراف
ثم قال جمال سلطان: ثم يضيف الشيخ – أي القرضاوي- معقِّباً على ذلك بقوله: وهذا الكلام مردود على قائله، وهو قائم على الغلط والمغالطة.(1/320)
فالمفروض أننا نتحدَّث عن الديمقراطية في مجتمع مسلم، أكثره ممن يعلمون ويعقلون ويؤمنون ويشكرون. ولسنا نتحدث عن مجتمع الجاحدين أو الضالين عن سبيل الله.
ثم إن هناك أموراً لا تدخل مجال التصويت، ولا تعرض لأخذ الأصوات عليها، لأنها من الثوابت التي لا تقبل التغيير، إلا إذا تغير المجتمع ذاته، ولم يعد مسلماً.
فلا مجال للتصويت في قَطْعِيَّات الشرع وأساسيات الدين، وما عُلِمَ منه بالضرورة، إنما يكون التصويت في الأمور (الاجتهادية) التي تحمل أكثر من رأي، ومن شأن الناس أن يختلفوا فيها، إذا اختلف الآراء في هذه القضايا، فهل تُتْرك معلقة أو تُحْسم؟ هل يكون ترجيح بلا مرجح؟ أو لا بد من مرجح؟ إن منطق العقل والشرع والواقع يقول: لا بد من مرجح. والمرجح في حالة الاختلاف هو الكثرة العددية، فإن رأْي الاثنين أقرب إلى الصواب من رأي الواحد، وفي الحديث: ((إن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد)) وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر وعمر: (لو اجتمعتما على مشورة ما خالفتكما) انتهى كلام الشيخ القرضاوي قال أبو ماجد عفا الله عنه وعن والديه: الحديث الأخير ضعيف رواه الإمام أحمد عن شهر بن حوشب عن عبد لرحمن بن غَنْم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فشهر ضعيف لسوء حفظه، وابن غَنْم لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، انظر السلسلة الضعيفة للألباني 1008 وفي السلسلة حديثان آخران عن البرء بن عازب، وعن أبي أروى الدوسي، ففي الأول حبيب بن أبي حبيب كذبه غير واحد، وفي الثاني فيه عاصم بن عمر واه الحديث، فلا يتقوى بهما الحديث(1/321)
فقال جمال سلطان: وهذا الكلام أنا أتعجب من كون الشيخ وضع رأي مخالفيه الذين يرى بطلان قولهم وصدره بأنهم يرون (أن الديمقراطية مبدأ مستورد، ولا صلة له بالإسلام)، فهل يا ترى رأي الشيخ القرضاوي أن الديمقراطية مبدأ غير مستورد؟ وأنه مبدأ أصيل نشأ وتولد وترعرع في حنايا التاريخ الإسلامي وتحولاته الحضارية والمنهجية والدينية والسياسية؟! فمتى إذن حدث ذلك؟ وفي أي زمن منذ بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى منتصف القرن التاسع عشر الميلادي؟! ومتى استوردت أوربا الديمقراطية من المسلمين؟! وما ملابسات ذلك الحدث التاريخي الفذ والمثير الذي خفي على العالمين هذه القرون الطويلة؟!
أظن ما كان يليق بالشيخ أن يصدر حديثه بتلك العبارة، وذلك أنه أو أي مسلم آخر لا يستطيع الادعاء بأن الديمقراطية مبدأ غير مستورد من المنظومة الأوربية. وإنما الخلاف هو في موقف الإسلام منها، هذه واحدة.
أما قول الشيخ في رده (المفروض أنَّا نتحدَّث عن الديمقراطية في مجتمع مسلم أكثر ممن يعلمون... ولسنا نتحدَّث عن مجتمع الجاحدين أو الضالين عن سبيل الله).
فهذا فساد موضوعي ظاهر، فالديمقراطية لا تعني بهوية الإنسان وإيمانه وكفره ونوعية القيم التي يحملها، فالكل سواء، عالم الدين والبغي والمسلم والنصراني، أما إذا قلت: بأن حق الممارسة الديمقراطية في المجتمع المسلم موقوفة على المسلم المتدين، ولا يدخل فيها غير المتدين، أو الشاذ جنسياً أو النصراني أو اليهودي أو الملحد، فأنت بذلك تتحدث عن نظام آخر، ومنهج آخر سمِّه ما شئت، إلا أنه – على وجه القطع- ليس الديمقراطية.
وكذلك قول الشيخ: (ثم إن هناك أموراً لا تدخل مجال التصويت، ولا تعرض لأخذ الأصوات عليها، لأنها من الثوابت التي لا تقبل التغيير، إلا إذا تغير المجتمع ذاته ولم يعد مسلماً.)(1/322)
فالمفارقة التي يستغربها الشيخ هنا أن المجتمع إذا تغير ولم يعد مسلماً أمكن له أن يكون ديمقراطياً، أما إذا ظل مجتمعاً مسلماً فقطعاً لن يكون ديمقراطياً لأنه يملك منظومة أخرى من الثوابت والعقائد والقيم التي يستحيل إخضاعها لرأي البشر.
وهنا نعود إلى أصل الخلل في تصور الشيخ لماهية الديمقراطية وجوهرها، ففي الديمقراطية الشعب هو المرجع وهو الحاكم وهو المشرِّع وهو الثابت الوحيد، فإذا قلت: بأن هناك أموراً لا تخضع للتصويت أو لا تدخل مجال التصويت، فأنت بذلك غير ديمقراطي قطعاً، وإذا قلت: بأن هناك ثوابت فكرية أو دينية أو خلقية أو اقتصادية أو سياسية لا تقبل التغيير فأنت بذلك غير ديمقراطي، وكذلك قول الشيخ: (فلا مجال للتصويت في قطعيات الشرع) قول غير ديمقراطي، لأن تقريرك أن هناك شرعاً يحكم فوق إرادة البشر، فهذا طعن في صلب الديمقراطية وجوهرها.
ثم قال جمال سلطان: هل اتضحت الصورة الآن أمام الشيخ القرضاوي والشيخ هويدي وتياره؟ إنني أوافقهم تماماً على كل الضوابط والحدود والأطر التي وضعها الشيخ لسياسة المجتمع المسلم، ولكن الخلل الأساسي أنهم يأبون – لا أدري لماذا- إلا أن يضعوا شعار الديمقراطية على منهج الله ونظام الإسلام السياسي، هل يظنون أنهم يجملون الإسلام ومنهجه بوضعهم هذه اللافتة المستوردة عليه؟! إن الإسلام - يا أصحابي- أجمل وأعلى وأطهر وأعدل من الديمقراطية ومن كل تصور بشري وُضِعَ لسياسة المجتمع، وحق الله لا أقول ذلك مجرد انتصار للدين، أو حماسة إيمانية مجردة، وإنما هي قناعة راسخة من تجوال البحث والنظر والتأمل في تحولات التاريخ الإنساني القديم والحديث، ومآلات الأوضاع في العالم الإنساني المعاصر.
يا إخواني! إنكم بذلك تثيرون الارتباك والحيرة والتشتت الذهني والنهوضي في عقول وضمائر شباب الصحوة الإسلامية، الذي تؤمل منه تحقيق نهضتها المرتجاة.(1/323)
لماذا لا تبحثون عن فكرة أصيلة بنَّاءة، تصوغون بها مشروعاً إسلامياً أصيلاً للنهضة ولتنظيم الفعل الاجتماعي الإسلامي الجديد؟ هل أصبح وظيفة الفقيه المسلم الآن أو الفكر أن ينتظر البضاعة الغربية – فكرية أو مادية- لكي يضع عليها الشعار التقليدي: (مذبوح على الطريقة الإسلامية)؟!
يا إخوتي! ألم يعرف الإسلام نظاماً ومجتمعاً وحضارة ونظريات سياسية وأنماطاً إدارية، قبل ظهور الديمقراطية؟ ألم يعرف الإسلام ومجتمعه عدلاً ورحمة وحرية واستنارة وتحضراً وشورى وتعددية فكرية ومذهبية وغير ذلك، قبل ظهور الديمقراطية؟! قال أبو ماجد:كل ذلك بضوابطه المنهجية الإسلامية انظر رسالتي "لماذا يجب علينا محاربة البدع والمبتدعة على مر العصور" ورسالتي الأخرى"ملاحظات على الرسائل الشمولية" ورسالة الشيخ عيد عباسي"بدعة التعصب المذهبي"
إذا كان الإسلام يعرف ذلك، فحدثونا عنه، وأعيدوا صياغته، ودققوا في تنظيماته ووسائل تحقيقه، وولِّدوا ما تحتاجون إليه من مصطلحات أصلية وشعارات مسلمة، وتعبر عن خصوصية منهج الإسلام في الحكم، بدلاً من هذا التسول الفكري والمذهبي والاصطلاحي المزري والمهيمن عند أعتاب الفكر الأوربي الحديث.(1/324)
يا شيخ يوسف! الديمقراطية والعلمانية وجهان لعملة أوربية واحدة، ومن قال لك غير ذلك فقد كذبك، وكلاهما مرفوض إسلامياً ولكن ليس معنى رفضها أننا – بالحتم- نرفض بعض النتاجات التي تولدت عنها والتي تتشابه مع بعض القيم الإسلامية، فحق الأمة في اختيار الحاكم وحق عزله إذا انجرف أو محاسبته إذا أخطأ، وحرية الرأي، وحق الاختلاف، وحفظ كرامة الإنسان وآدميته، وحق تداول السلطة، ونحو ذلك، كل هذه أركان أصيلة في منهج الإسلام في الحكم بنص كتاب الله وسنة رسول - صلى الله عليه وسلم -، ولكنها أركان تقوم على أسس تصورية وعقيدية، وتحكمها ضوابط وأُطر منهجية، تختلف تماماً عن الأسس والضوابط التي تمثلها (الديمقراطية) كمنهجية لسياسة المجتمع البشري. قال أبو ماجد: انظر رسالتي "منهج التكفير والتفجير في الميزان الإسلامي" ورسالتي "أذان الفجر الأول والتثويب فيه"
يا شيخ يوسف! ليس هذا دورك ولا تلك قضيتك، وإنما هذه تَهويمات أدعياء الاستنارة المترفين فكرياً، والذين لا يحملون هموم الأمة ونهضتها، ولا يعرفون قدر دينهم، ومعنى أنهم يحملون رسالة الإسلام للعالمين.
يا شيخ يوسف! لقد سارت فتواك في الناس، واطلع عليها الجمع الغفير من مثقفي الأمة، وإني أسألك بحق العهد والميثاق الذي تحملونه { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } أن تعيد النظر وتجليه فيما أثبته في الحوار، فإنِ استبان لك خطأ فتواك فبين ذلك للناس، وأنت أعدل من أن تعاند الحق إذا علمته، وإن كان فيما قلته أنا خطأ أو باطل، فاكشفه لي وللناس، لعل الله يهدينا لأقرب من هذا رشداً، والحمد لله أولاً وآخراً، ولا حول ولا قوة إلا بالله.) انتهى كلام جمال سلطان 54-65 القرضاوي في الميزان قلت: وقوله أسألك بحق العهد والميثاق فراجع رسالتي "الرد على الموسوعة الكويتية في التوسل"(1/325)
قال الشيخ سليمان بن صالح الخراشي صاحب كتاب القرضاوي في الميزان ص281: (ولأن الدكتور أي القرضاوي يؤمن بالديمقراطية فإنه لا شك سيؤمن بملحقاتها وهي قيام الأحزاب المتنافسة على الحكم!) اهـ
قلت: وهذه من قواعد الديمقراطية، وقد سبق أن قلنا أنها تتبنى التعددية السياسية، لكون المجتمع متباين ومختلف في شرائح آرائه، فالتعدد الحزبي والاشتراك في البرلمانات وخوض الانتخابات وإقرار تداول السلطة أمر طبيعي لكل من نادى بالديمقراطية، وإلاَّ لن يكون ديمقراطياً إذا لم يأخذ بهذه القاعدة التي يتمركز بها التيار الديمقراطي، حتى أن فهمي هويدي جعل شرعية الاختلاف من ركائز الدولة الإسلامية، فقال: (إن صدر الإسلام الذي لم يضقْ بأي دين آخر، لا يتصور له أن يضيق بالرأي الآخر؛ ومن ثم فإجازة التعدد في الدين، تجعل القبول بالتعدد في أمور الدنيا أجْوز حيث شرعية الاختلاف في العقيدة تفسح المجال بالضرورة للاختلاف في مناخ الإصلاح الاجتماعي والسياسي.) "الإسلام والديمقراطية"29، و"نقض الجذور الفكرية للديمقراطية الغربية 75
وقال: (لا يحسبن أحد أنه يمكن أن تقوم لنا قيامة بغير الإسلام، أو أن يستقيم لنا حال بغير الديمقراطية؛ إذ بغير الإسلام تزهق روح الأمة، وبغير الديمقراطية التي نرى فيها مقابلاً للشورى السياسية يحبط عملها.) "الإسلام والديمقراطية" لفهمي هويدي ص50
ويقول القرضاوي: [رأيي الذي أعلنه من سنين في محاضرات عامة، ولقاءات خاصة: أنه لا يوجد مانع شرعي من وجود أكثر من حزب سياسي داخل الدولة الإسلامية، إذ المنع الشرعي يحتاج إلى نص، ولا نص. بل إن هذا التعدد قد يكون ضرورة في هذا العصر؛ لأنه يمثل صمام أمان من استبداد فرد أو فئة معينة بالحكم، وتسلطها على سائر الناس، وتحكّمها في رقاب الآخرين، وفقدان أي قوة تستطيع أن تقول لها: لا، أو: لِمَ؟ كما دل على ذلك قراءة التاريخ، واستقراء الواقع.(1/326)
كل ما يشترط لتكتسب هذه الأحزاب شرعية وجودها أمران أساسيان:
أن تعترف بالإسلام – عقيدة وشريعة- ولا تعاديه أو تتنكر له، وإن كان لها اجتهاد خاص في فهمه، في ضوء الأصول العلمية المقررة.
ألا تعمل لحساب جهة معادية للإسلام ولأمته، أياً كان اسمها وموقعها.
فلا يجوز أن ينشأ حزب يدعو إلى الإلحاد أو الإباحية أو اللادينيَّة، أو يطعن في الأديان السماوية عامة، أو في الإسلام خاصة، أو يستخف بمقدسات الإسلام: عقيدة أو شريعة أو قرآنه، أو نبيه.] "فتاوى معاصرة" 2/652
فهذا اشتراطه في الأحزاب وإن كان أعضاؤها أهل الكتاب من يهود ونصارى، أو أهل الفرق الثلاث والسبعين، أو حتى الخارجين عنها؛ كالرافضة والبهائية والأحمدية القاديانية، وغيرها ممن لها اجتهاد خاص في فهمه.. ولكن يُشترط عليهم أمرين أساسين ليكتسبوا شرعية التحزب في الدولة الإسلامية: 1و2 في أعلاه، و1و2 في إقرار سيادة الأمة وحقها في تبني نظام الحياة الذي تراه مناسباً لها، وفي حيادية الدولة تجاه القيم الفردية أو ما يُسمى بالأخلاق الخاصة..
وذلك يعني أن المجال الخاص للأفراد لا بد أن يبقى بمنأى عن التدخل الخارجي من قِبَل أي سُلطة أخرى؛ وذلك من أجل الحفاظ على الحرية الفردية التي تمثل قاعدة البناء الاجتماعي في الدولة، يعني لا يوجد مرجعية موحدة للقيم أو الأخلاق، فلكل أخلاقه وقيمه الخاصة به، يعني بالطريقة الديمقراطية الليبرالية، التي لا علاقة لها (بهوية الإنسان وإيمانه وكفره ونوعية القيم التي يحملها؛ فالكل سواء: عالم الدين والبغي والمسلم والنصراني.) "حوار في الديمقراطية" لجمال سلطان ص39
هكذا هو العمل السياسي الذي ينادي به القرضاوي وصديقه الحميم فهمي هويدي، فهو عمل يتمثل في تعدد الأحزاب بتعدد اتجاهاتهم وانتماءاتهم واجتهاداتهم الفكرية، وإن كانت تظهر على شكل غير إسلامي، ولكنه يتحفظ على بعض جوانب الشريعة الإسلامية!(1/327)
لهذا كان من الضروري استيعاب التيارات المختلفة في الساحة والتي منها التيار العلماني في الدولة؛ حيث يُفرق بين مستويين من العلمانية: (العلمانية المتصالحة مع الدين، والعلمانية الرافضة للدين) فالمتصالحة لا تعارض العقيدة ولكنها تتحفظ من تطبيق الشريعة في الواقع، وأنها فقط تريد فصل الدين عن الدولة، وهذا عندهم خلاف في الفروع، فلا مانع من قبولها، وضمها وجذبها إلى الحركة الإسلامية، ونقلهم إلى صف الأصدقاء المتفاهمين، فهم قد قبلوا أهل الذمة، وقبلوا الماركسية الذين لهم تحفظات في تطبيق الشريعة، أما العلمانية الرافضة للدين، والتي تريد إلغائه في واقع الحياة، وربط الناس بعجلة الغرب؛ فهؤلاء الاختلاف معهم في الأصول، فلا يجوز ربطهم في الحركة، بل يلزم نقلهم إلى صف الأعداء، لا إلى صف الأصدقاء! وبهذا يكون تسليم السلطة لجميع التيارات المختلفة التي تتكيف بجميع ألوان أطيافها؛ سواء كانت الأطياف تتكون من القوميين أو الليبراليين أو الاشتراكيين من أبناء البلد الواحد لواجهوا التحديات الداخلية والخارجية..
وإذا كان هناك تياراً يقول: الإسلام هو الحل! فله فرصته في طرح برامجه السياسي كما أخذت الأخرى برامجها، وهذا إذا قبلت الجماهير، ورضيت بالحلول، فالجماهير هي التي تقرر بقبول المنهج الذي تريده، فهو من حقها المطلق في اختيار ما تراه مناسباً لها في رغبتها أو فكرها أو في حريتها في شهوتها، ونحن نعلم أن كثيراً من قطاعات المسلمين لا تريد تطبيق الشريعة الإسلامية في بلادها، فضلا من أن تراه هو الحل!(1/328)
أما إذا قُدِّر للحركة الإسلامية أن تفوز في الانتخابات وتعتلي سدة الحكم؛ فعليها احترام التعدد والاختلاف، وفي ذلك يقول القرضاوي: [وإذا قامت الدولة الإسلامية فعليها احترام الاتجاهات الأخرى في إطار قطعيات الشريعة؛ فقد كانت الحركة خارج الحكم واستطاعت أن تصل إليه عبر انتخاب حر مباشر تنافست فيه مع باقي الجماعات، وحين تصبح السلطة في أيديها فتحظر على هذه الجماعات العمل، فإنها تضيع من اختاروها وأيدوها... والأفكار المخالفة للإسلام لن يكون لها من السطوة ما كان لها في غيبة الدولة الإسلامية؛ فلماذا إذن نخشاها؟.. أنه إذا فرَّطت الدولة الإسلامية في التربية والعدل وإقناع الناس؛ فإنها تستحق ما يجري لها؛ لأنها حينئذٍ لا تستحق البقاء، وليأتِ غيرها إن كان حاز على ثقة الناخبين.] "التعددية السياسية رؤية إسلامية" تأليف مجموعة من الكُتاب ص61
فتجد ما ينطوي تحت التعددية الحزبية جواز حرية تكوين أحزاب سياسية غير إسلامية: علمانية وشيوعية ووطنية وليبرالية في الدولة الإسلامية، لارتباط ذلك بحرية الرأي والدعوة المكفولة للجميع، لهذا يقول محمد عمارة: (إن الموقف من الأحزاب ذات المرجعية غير الإسلامية أمر لا سابقة له في الفقه الإسلامي والاجتهاد الإسلامي القديم، فقديماً كانت التعددية في إطار المرجعية الإسلامية الواحدة، ولكن الاحتكاك بالحضارة الغربية في العصر الحديث أوجد في داخل المجتمعات الإسلامية مرجعيات غير إسلامية؛ مرجعيات علمانية، وأحياناً مرجعات مادية.. وأنه لا بد من التعامل مع هذه الطارئ الجديد باجتهاد جديد.. وأنا أميل إلى إعطاء الحرية للأحزاب التي مرجعيتها غير إسلامية؛ لأن هذه الأحزاب مرجعيتها إسلامية في منظومة القِيَم، وغير إسلامية فيما يتعلق بالسياسة وعلاقة الدين بالدولة.)(1/329)
وقال كمال أبو المجد أنه (لا غرابة في أن يوجد في المجتمع المسلم حزب يميني وحزب يساري، حزب ليبرالي وحزب اشتراكي؛ لأن هذه كلها تراكيب في صيغة الإصلاح السياسي والاجتماعي، والتعدد فيها هو علامة من الاجتهاد.. فلماذا قبلت في فقه الزواج والطلاق والعارية أن يكون هناك حنفي ومالكي وشافعي وحنبلي، ولا نقبل في الحياة السياسية أن يكون هناك توجه أدَّاه اجتهاده إلى أن الليبرالية واقتصاد السوق هي الطريق إلى النهضة بينما يرى آخرون غير هذا؟!)"الإسلاميون والحوار مع العلمانية والدولة الغربية" ص40 ندوة شارك فيها محمد عمارة وكمال أبو المجد وطارق البشري وجلال أمين، وراشد الغنوشي وسيد دسوقي انظر نقض الجذور الفكرية للديمقراطية الغربية" ص80
أما كمال أبو النصر فقال في "مجلة المجتمع" الإخوانية أن: (الحكم الإسلامي لا بد وأن يسمح بتعدد الأحزاب السياسية؛ لأنه كلما كثرت الآراء وتنوعت؛ كلما كثرت الفائدة، ونحن نعتقد أيضاً أنه لا بد من أن يمنح الحكم الإسلامي حرية تشكيل الأحزاب؛ حتى للتيارات التي قُلْتُ عنها أنها تصطدم بالإسلام كالشيوعية والعلمانية؛ وذلك حتى يكون من المتاح مواجهتها بالحجة والبرهان، وهذا أفضل من أن تنقلب هذه التيارات إلى مذاهب سرية، وعلى ذلك فلا مانع عندنا من إنشاء حزب شيوعي في دولة إسلامية.) "مجلة المجتمع" العدد777 ص20
وكذا الهضيبي فلا مانع لديه من أن يكون للشيوعيين حزب سياسي.. انظر "تحديات سياسية تواجه الحركة الإسلامية" لمصطفى الطحان ص82(1/330)
أما أحمد سيف الإسلام حسن البنا فقد أجاب عن سؤال في "مجلة المجتمع" حول موقف الإخوان من حق تكوين الأحزاب لجميع الاتجاهات الفكرية والانتماءات العقيديَّة ومن ضمنها الشيوعية بقوله: (لها الحق... والإسلام لا يجبر الإنسان على الالتزام بعقيدة. ثم أضاف: وأنا أرى شخصياً أنه في ظل مجتمع إسلامي من حق كل الناس أن تعلن آراءها ومعتقداتها.) "الحصاد المر"ص152 "نقض الجذور الفكرية للديمقراطية الغربية" 81
وقال أحمد ياسين رحمه الله قائد الحركة حماس الفلسطينية في مقابلة مع "صحيفة النهار المقدسية" بتاريخ 30/4/1989م: أنا أريد دولة ديمقراطية متعددة الأحزاب، والسُّلطة لمن يفوز في الانتخابات.) ورداً على سؤال: لو فاز الحزب الشيوعي فماذا سيكون موقفك؟ يجيب: (حتى لو فاز الحزب الشيوعي فسأحترم رغبة الشعب الفلسطيني.) "نقض جذور الفكرية للديمقراطية الغربية" 82
فهل بالله عليكم يمكن قيام دولة إسلامية وهي تجعل الحرية الفردية والتعددية السياسية قاعدة تُبنى عليها الحياة في الدولة؟! وهل هذه المطالب الحزبية توافق الشريعة الإسلامية السمحة وهي متناقضة بين الدعوة والتطبيق؟!(1/331)
فخذ مثلاً: إقامة الحدود الإسلامية على الأفراد سوف يعارضه الحكم الديمقراطي الذي يتطلب علمنة العقول والمؤسسات، والعلمنة تقوم على حرية العقيدة والرأي، والاعتراف بحرية العقائد والأيديولوجيات، والتعايش السلمي بينها، والسماح لها بالدعوة إلى ما تؤمن به؛ من منطلق حقها المطلق في الوجود، وفي الإيمان والدعوة إلى ما تؤمن به، فالدين بمنظور ديمقراطي مسألة شخصية فردية، فلا حد على الزاني والسارق وشارب الخمر، بل ولا حد على المرتد عن دينه من علماني وشيوعي من الذين ينكرون أحكام الدين، لهذا قال أحد الكتاب: (فأنا لست مع إقامة حد الردة على من يرتد عن الإسلام...أيضاً إذا بدا لإنسان أن يعتنق النصرانية مثلاً؛ فهذا لون من الاختيار يستوجب منا الحوار مع هذا الإنسان.) "الإسلاميون والحوار مع العلمانية والدولة والغرب" لهشام العوضي ص50
أما المؤسسات التي تقوم بمراقبة الشوارع – الحُسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- فإن وجودها واستمرارها يُعتبر إعاقة للديمقراطية، ومضايقة للمواطنين، ومُصادمة بالحريات الشخصية، وتَدَخُّل في شؤون الآخرين، وعَقَبَة في وجه بناء مجتمع ديمقراطي تعددي، حينئذ يجب إلغاؤها..
موقف الإسلام من التعددية الحزبية
قال الله تعالى: { إنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أمَّةً واحِدَةً وأنَا رَبُّكُمْ فاعْبُدُونِ وتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كلٌ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ } الأنبياء وقال: { قل إنما يوحَى إليّ أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدونَ } الأنبياء(1/332)
لا يشك مسلم واعي فاهم لدينه أن الديمقراطية لا تصلح في مجتمع إسلامي قائم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالتعددية الحزبية مرتبطة بالتعددية السياسية، بل ومقررة لها، بل وهي القاعدة الأساسية في العمل في الدولة، والدولة متكونة من جميع الأحزاب السياسية المتنافسة فيما بينها للوصول إلى السلطة، من علمانية واشتراكية وشيوعية وحزبية إسلامية، وغيرها، وكل منحرف منهم يريد أن يصحح مذهبه، وما عليه حزبه، فالذي يحصل على أغلبية الأصوات هو الذي يصبح حاكما في الدولة أو في أي قطاع فيها، بغض النظر عما يحمله من أفكار ومعتقدات، فالأفكار والمعتقدات هي متصالحة تحت الفكر الديمقراطي، فلو سمحنا – مثلا- للحزب الشيوعي بالدعوة إلى ما يدعو إليه من إلحاد في الله، بحيث يعتقدون أن الحياة مادة، فلا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار، فهل هذا جائزاً في الدولة الإسلامية، أو يصلح في مجتمع إسلامي يعوّل أحكامه على الشرع لا على أقوال الرجال؟!
فالحق واحد لا ريب أنه لا يتعدد، والباطل على العكس من الحق؛ فهو يتعدد لا ينحصر، فإذا كانت نُظم الديمقراطيَّة عادة تأخذ بنظام تعدد الأحزاب؛ فكل حزب له برنامجه وأفكاره وآراؤه وأنظمته المعبرة عنه، منها الإسلامي والشيوعي الماركسي والوطني والليبرالي العلماني، فلا يشك عاقل أنها بتعددها باطلة ومختلفة فيما بينها، حتى الخلاف تجده في أبناء الحزب الواحد لأسباب عديدة، وما يخلوا في أحوالها الحروب التي أدناها الكلامية والإعلامية، شأنهم شأن اليهود والنصارى الذين قال الله عنهم: { وقالت اليهودُ لَيْسِتِ النَّصَارَى على شَيءٍ وقالَتِ النَّصَارى لَيْسَتِ اليهودُ عَلى شيءٍ وهُم يَتْلُون الكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الذين لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُون } البقرة(1/333)
فالاجتماع لا يمكن أنْ يكون مع التفرق والتعدد، ولا يمكن الاجتماع إلا إذا صُبِغ بصبغة الإسلام، { قل يا أهل الكتاب تعالَوْا إلى كلمةٍ سواءٍ بيننا وبينكم ألاَّ نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولَّوْا فقولوا اشْهَدُوا بأنَّا مُسْلِمُون } آل عمران
ثم إن القول بأن الفقه الإسلامي لم يعالج ظاهرة التعددية الحزبية، وأن هذه الظاهرة تحتاج إلى اجتهاد جديد، فما هو الاجتهاد الذي يسميه دعاة الحزبية (جديد)؟ وهل الاجتهاد إلا بذل وسع علماء الدين في استنباط الأحكام الشرعية المستند إليها والمعالجة للواقع من أدلتها التفصيلية؟
فإذا احتاجت ظاهرة التعددية الحزبية إلى اجتهاد جديد؛ فلنقل أنها بدعة منكرة أحدثها الاستعمار والمستعمرون ليفرِّقوا بين أبناء الأمة الواحدة، فيجعلوا أبناء الوطن الواحد شيعاً وأحزاباً كل حزبٍ بما ليهم فرحون منافحون، وعليه يقاتلون بترويج مناهجهم والتعبير عن آرائهم، وينابذون ويرشقون غيرهم بالتهم التي بعضها مفسقة وربما مكفرة.. فالذي يقول أن الفقه الإسلامي لم يعالج ظاهرة التعددية الحزبية هو مَنْ جعل عقله القاصر حكماً على الأشياء، وليس الشرع!
ثم إن الاجتهاد في إجازة ما لم يجزه الشرع من تبني أحكاماً مخالفة للشريعة الإسلامية ليس اجتهاداً، بل هو عين الدعوة إلى مخالفة أحكام الإسلام باسم الإسلام، وهذا الدعوة من أكبر الأغراض التي مشى في ركابها الغرقى في ركاب الحزبية البغيضة، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، فمات؛ مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عُمِّيَّةٍ، يغضب لِعَصَبَةٍ، أو يدعو إلى عصبةٍ، أو ينصر عصبةً، فقتل، فقتلته جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني، ولست منه)) أخرجه مسلم والنسائي وأحمد (الصحيحة 983)(1/334)
فهذه التعددية الحزبية عبارة عن رايات ضمن رايات كثيرة مرقت وتكتلت بدل راية الإسلام الواحدة، فالراية الواحدة التي متى انضم الناس إليها؛ قاموا قومة الرجل الواحد المتماسك الأعضاء يدافع عن دينه الذي لا حياة للأمم والأفراد بدونه، فهو دين الحق المؤيد من رب السماوات والأرض، ذو العروة الوثقى واليد الطولى، الذي فيه المسلمون تتكافأ دمائهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم، يرد مُشِدهم على مضعفهم، ومسرعهم على قاعدهم، ولا يقتل مؤمن منهم بكافر، ولا ذو عهد في عهده، ومن أحدث منهم حدثاً فعلى نفسه، ومن أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.انظر "إرواء الغليل" للألباني رحمه الله 2208، 2209
فكيف يجوز القول أن الفقه الإسلامي لم يعالج التعددية الحزبية، والإسلام هو الميزان الذي توزن به الأقوال والأفعال، ونميّز به الغث والسمين؟!
وبناءً على ما تقدم من الكلام يتَّضِح لنا: أن الديمقراطية فكرة كافرة بعيدة عن مقاصد الإسلام، والولوج فيها لا يحقق المصلحة الشرعية المتمثلة في إقامة أحكام الله، فهي تيار يعمل على إعطاء شرعية أنظمة لا تحكم بما أنزل الله، وتعطي كل المصوتين حق التشريع والتنظيم، فإذا فاز حزب؛ فهو الذي سوف يستولي على سيطرة الواقع السياسي في الدولة، وهو الذي يصدر التشريعات التي تخدم أغراضه وتحقق أهدافه.(1/335)
وإنه مما لا يخفى على واقع المسلمين في هذا الزمان، فهو واقع يغيب فيه النظام الإسلامي في أكثر دوله، بل ويغيب فيه التدين الصحيح الذي يجب أن يكون على مراد الله تبارك وتعالى، ثم إن الخائضين في المجالس البرلمانية من الإسلاميين أكثرهم لا يعنون بهذا الأمر الذي من أجله بعث الله جميع الرسل وأنزل الكتب، فتراهم وتعرفهم بسيماهم؛ من الذين لم يُرزقوا علماً نافعاً ولا عملا صالحاً، ولا ثباتاً، ولا إخلاصاً، بل هم من الذين تواردت عليهم الشكوك والأوهام، لهذا تراهم يقبلون التعددية السياسية، وإقرارهم حق العلمانيين والشيوعيين والليبراليين في الوجود في الساحات السياسية، ويقرون حقهم في التنافس للوصول إلى مقاعد البرلمان؛ بظنهم أنهم على حجج وحقائق، حتى صاروا يتطاولون على العلماء الربانيين، ويناطحون بإفكهم كل داعٍ إلى الحق، واعترضوا على علماء السلف وفَهْمِهم، بل وتجاوزوا السلف إلى إمامهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: لو كان حياً لما حكم إلا بالديمقراطية، بزعم أنهم يدرؤون مفاسد العلمانيين والشيوعيين والليبراليين، ومع زعمهم ذلك؛ تراهم يسلِّمون قبولهم في التعددية لكونهم عضواً من الجمهور في الدولة، وهذا من أكبر الأسباب التي أفقدت الإسلاميين المصداقية أمام الجماهير التي يطمع الكل بضم أصواتهم إليه! لهذا تنازل السياسيون الإسلاميون عن القيم العقيدية والاجتماعية والأخلاقية في حل مشاكل المجتمع، لأنهم لو فرضوها على الناس؛ سوف يؤدي ذلك إلى خروجهم عن معنى الديمقراطية، والتي جوهرها – أي الديمقراطية- قائم على النظرة الفردية للإنسان، وجعله المرجعية العليا للدولة، بتحقيق حرية العقيدة – أي حيادية الدولة تجاه العقيدة، يعني (فصل الدين عن الدنيا)- وحرية الرأي– أي حق الأفراد في تبني ما يرغبون من أفكار ومفهومات ومعالجات، والذي يعني (علمانية النظام)- وهو المؤدي إلى الغرض الأساسي والجوهر الخرافي في التنافس للوصول(1/336)
للسُّلطة، انطلاقاً من إقرار قاعدة تداول السلطة بين الجماعات المختلفة التي تقوم على التعددية السياسية، وإنكار هيمنة الدين على شؤون الحياة، فالحرية في تبني الآراء والدعوة إليها – أياً كان مصدرها ونوعها- مكفولة للجميع في ظل النظام الديمقراطي، وإخضاع كل شؤون الدولة للمساومة.
فالديمقراطية والإسلام على طرفي نقيض، فلا يقبل أحدهما الآخر، ففي الإسلام: المُشَرِّع هو الله تعالى، حتى النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يوماً مشرعاً إلا بأمر الله – أي لا استقلالاً- فكيف من هو دونه - صلى الله عليه وسلم -؟! والديمقراطية: علمانية لا صلة لها بالله، فواجب الانتماء إليها: فصل الدين عن الحياة.. لهذا لا يمكن أن يقول أحد أن الديمقراطية تقارب الإسلام ولو في أمور جزئية، لأن الإسلام شامل كامل لكل القضايا، وهو خاتم الأديان السَّماويَّة، أُنزلت شرائعه من لدن حكيم خبير حميد، لإخراج الناس من الظلمات إلى النور بنظام كامل للدولة سياسياً واجتماعياً وثقافياً واقتصادياً، وهو المعول عليها بإذن الله للتخلص من جميع الشرور التي فرقت المسلمين وفتت وحدهم ومزقت شملهم..
أما الديمقراطية على العكس من ذلك، فهي منافية للإسلام، وهادمة للمثل الإنسانية والقيم الأخلاقية ومحللة للمجتمعات البشرية، فلو حاولنا أن نقارب بينها وبين الإسلام؛ لن ننجو من عذاب ربنا الذي قال في محكم التنزيل:
{ ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً } الجاثية فالديمقراطية لن تغنينا من عذاب الله وغضبه شيئاً..
ثم إنهم لن يرضوا عنا شيئاً ولو اتبعناهم في دستورهم الديمقراطي { ولن ترضى عنك اليهودُ ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعتَ أهواءَهم بعد الذي جاءك من العلم ما لَكَ من الله من ولي ولا نصير } البقرة(1/337)
ثم أنهم لو قبلونا؛ فسوف يحبط الله أعمالنا { إن الذين ارتدُّوا على أدْبارهم من بعد ما تبيَّن لهم الهُدى الشَّيطان سوَّل لهم وأمْلى لهم ذَلِكَ بأنَّهُم قالوا للذين كَرِهُوا ما نزَّل الله سنُطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارَهُم فكيف إذا توفَّتهم الملائكةُ يضربون وجوهَهُم وأدْبارَهم ذلك بأنَّهم اتَّبعوا ما أسْخط الله وكرِهُوا رِضْوانه فأحْبَط أعْمَالَهم } محمد.
فيا عباد الله! الاطمئنان والأمان والتمكين في الأماكن والأزمان لا يحدثون إلا بالرجوع لدين الله تعالى عقيدة وشريعة ومنهاجاً، مُنَوَّراً بفهم السلف الصالح؛ سياسة واقتصاداً خلقاً واجتماعاً، حرباً وسلماً، أفراداً وجماعات، فنحلّ ما أحلَّه اللهُ ورسولُه، ونحرم ما حرمه الله ورسوله، وندور بإسلامنا حيث دار، في كل زمان ودار، دون الكلام المِهذار. فالواجب علينا أن نستن بسنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - في إحجامنا وفي حركاتنا وسكناتنا وفي أقوالنا وأفعالنا وأعمالنا، فالعاقبة للمتقين المتبعين، والنصر والتمكين هو عقبى الصابرين الآخذون بالأسباب الشرعية، والمفوضون أمرهم كله لله..
هل في الديمقراطية شورى؟!(1/338)
هذه أكبر خدعة يعيشها المجتمع المسلم، فهم من باب ابتلاء الحكام لهم - الذين وُضِعُوا من قِبَل أعداء الإسلام- من ظلم واستبداد واستعباد، وعندما لم يجدوا الحل مع حكامهم بطرقهم الحزبية؛ قالوا: إن ما عند الغرب من الديمقراطية هو عندنا في الإسلام، فهي منهج يتناسب مع العصر، وحكم يقوم برعاية الحقوق، ويعطي كل ذي حق حقه، أو على الأقل أنها في نظرهم خير بديل للديكتاتورية ولحكم الطاغوت، فالمساكين! أرادوا تصحيح المسار ومعالجة قضاياهم دون معرفتهم بالله وشرعه، فإذا هم يصيرون الحراس لها، ويقولون أن الديمقراطية بكافة وسائلها ضرورة حتمية للتقدم والرقي، ورعاية حقوق الإنسان، ورحمة الأمم المستضعفة! حتى قال قائلهم: لو كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - حياً لما حكم إلا بالديمقراطية، ولو كان حياً لبارك لنا في هذه الحضارة!
فنقول: شتان بين الشورى والديمقراطية، فهل الشورى إلا نظاماً إسلامياً كاملاً لم يلحقه أي نظام وضعي أو يسبقه أي قانون بشري، والديمقراطية إلا تشريعاً كافراً لا يلتقي مع الشورى التي شرعها الله، لا في أصل ولا في فرع، لا في الكل ولا في الجزء، لا في المعنى ولا في المبنى؟!
هذا السؤال يكفي به الرد على كل من ادعى أن في الإسلام ديمقراطية بمعنى الشورى، بحيث يُسَمَّى الإسلام بغير اسمه، ورقمه بغير رسمه..(1/339)
فالإسلام حَقَّقَ الشورى وأمر بها، ولا غنى عنها، فهي من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، وهي تتعلق بسياسة الأمة، فلا غنى لولي الأمر عن مشاورة أهل الحل والعقد متى شاء من علماء وصالحين ومخلصين؛ لا يحلون حراماً، ولا يحرمون حلالاً، ولا يحقون باطلاً، ولا يبطلون حقاً، فولي الأمر محتاج إلى هذه الشورى لتطبيق الدين وسياسة الدنيا، فهي أقرب طريق للوصول إلى الحق، والله تعالى قد أمر بها نبيه محمداً - صلى الله عليه وسلم -، وكان عليه الصلاة والسلام كثير المشاورة لأصحابه في ما لم ينزل من الوحي، فقد شاورهم يوم بدر وأحد وشاور السَّعدين يوم الأحزاب، وأيضاً شاورهم بأمور الدنيا الأخرى ذات الأهمية في تنظيم المجتمع وفي الأمور التي لم يرد فيها نص لغرض الوصول إلى هدف الإصلاح والمصلحة والصلاح، حتى قال العلماء: (لم يكن أحد أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)
قال الله تعالى: { وشاورهم في الأمر } آل عمران { وأمرهم شورى بينهم } الشورى أي شورى بينهم بما لم ينزل فيه وحيٌّ..
أما إذا رأى وليُّ الأمر غير الذي رآه المستشارون - وإن كثروا- وكان الوالي للأمر معلوم عنه كثرة الصواب، وعدم تقديم هواه وشهوته، وكان مجتهداً، وأصرَّ على رأيه؛ فعلى الرعيَّة حينئذ السمع والطاعة له في غير معصية لله، لهذا قال الله في نفس الآية { وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكَّل على الله إن الله يحب المتوكلين }(1/340)
وكذلك إذا استفتى وليُّ الأمر العلماء في قضية ما، فأفتوه بفتاوى مختلفة متناقضة، فاختار واحدةً منها، فيجب على الآخرين السكوت وعدم المخالفة, لئلا يتصدع صف الأمة، وينشق الناس على ولي أمرهم، وتنشر الفوضى في الرعية، وهذه القاعدة يسمونها علماء الأصول: "الاستحسان" وهذه القاعدة عندما لم يرعها الدعاة في حرب الخليج الثانية؛ وقعوا في الخلاف والنُّفرة، فتشققت الصفوف وتناحرت، واختلفت الكلمة وتناثرت، حتى وصل الأمر بأن تُكُلِّم على العلماء وفي أعراضهم، واتُّهِمُوا بأنهم لا يعلمون الواقع، وأن علمهم لم يتجاوز خرقة امرأة، فعاملهم الله بما استحقوا، والواقع كان خير شاهد على هذه الأحداث.. انظر رسالتي"المسلمون وولاة أمرهم على ضوء الكتاب والسنة" عام 1411هـ
وكذلك الناس بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فكانت الشورى بينهم في الأمور التي لم يرد فيها نصوص، أو المشورة في الأمور التي خفيت النصوص عن بعضهم؛ فيستطلعوا النصوص، فعسى أن تكون هناك ثَمَّ نصوصاً قد خفيت على بعضهم دون بعض، أو تكون المشاورة في نصوص واردة يُراد بالمشورة فيها إلى الوصول إلى فهم صحيح صريح لنص معيَّن قد اختلفت فيه الأنظار عند الأولين والآخرين، فليس في الشورى حكم لم يكن له أصل في الشرع، وإنما فيها التعاون على فهم الحق، وردّ الجزئيَّات للكليات، والمستجدات للأمور العتيقة، أما إذا وضحت النصوص؛ فعندئذ فلا مجال للتشاور بعد التسليم الاستسلام المطلق، والانقياد المذعن لأمر الله ورسوله، فهم متبعون ومقتدون، لا يخالفون أمر الله وحكمه وتشريعه { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكِّموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلِّمُوا تسليماً } النساء { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } الشورى { ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون } المائدة(1/341)
بل ونقولها صريحة: أننا مأمورين بتبليغ رسالة الله هذه حتى إلى الكفار بما فيهم اليهود والنصارى، كما قال الله تعالى: { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنَّا مسلمون } آل عمران فالكفار الذين كفروا بالله ورسوله؛ فنحن لا نقبل شركهم وكفرهم وتشريعاتهم، فهي تشريعات تتنافى مع التوحيد، فنحن مطالبين أن ندعوهم إلى الإسلام بكليته وكافَّته..
فكيف بالله عليكم؟! كيف يجوز لأي مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتنازل عن حكم الله إلى حكم أكبر طاغوت عرفته الإنسانية صَادَرَ حكم الله، واستورد آلهة أخرى تشرِّع الأحكام؟! ونحن نعلم أن لا يستقر لنا إسلام ولا يستقر فينا صحة إيمان حتى نكفر بالطاغوت { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصال لها } البقرة
فالشورى في الديمقراطية لم تلتف إلى الشرع، بل إن أساس الديمقراطية هو فصل الدين عن الدولة، واستبداله بنظم وَضْعِيَّة وَضِيْعَة وضعها البشر بقوانينهم الطَّاغُوتيَّة، وهذه القوانين قوانين وثنية بشكل جديد، منهجها ومضمونها عبادة البشر بعضهم لبعض، لا عبادة الله وحده لا شريك له، فوسيلة الديمقراطية الأولى: فصل الدين عن الدنيا وواقع الحياة العملية كما بينا في أعلاه. ولا أعتقد أن أحداً من المسلمين يوافق على الديمقراطية وهو يعلم أنها دعوة إلى قوانين كفرية بعيدة عن أحكام الإسلامية التشريعية، وتنبذ التَّحاكم إلى القرآن والسنة الغنية بجميع الأحكام والتشريعات، ودعوة إلى التعديل في الشريعة، بحجة أنها هناك سنة تشريعية وسنة غير تشريعية، أدت إلى الدعوة إلى الحزبية والتعددية، بل ومحاولة التقريب بين الفرق الضالة كالروافض وغيرهم، بل ووحدة الأديان.. حتى صار الحق باطلاً والباطل حقاً..(1/342)
ومع الأسف! انطلت هذه الشبهات على الكثير من الناس والدعاة، حتى صاروا يدافعون عن هذه الأفكار والنظريات التي جاء بها الأعداء، وصاروا حريصين كل الحرص على إقناع الناس أنها لا تخرج المسلم عن تعاليم دينه، فسهَّلوا لأمور المحرمة، حتى قال قائلهم: المسلم بإمكانه أن يقبل الأنظمة الوضعية؛ وهو باقٍ على عقيدته الإسلامية!! كل ذلك بجدل ومراء في القرآن، وبث الشبهات، وأخذ المتشابه من النصوص ليضلوا الناس، ويلبسوا على المسلمين، ويبتغون الفرقة والفتنة – علموا أو لم يعلموا- قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أخوفُ ما أخاف على أمتي: الأئمة المضلون)) السلسلة الصحيحة للألباني 1582
أهل الحل والعقد
لا شك أن الحاكم ينبغي أن توفر فيه شروط حتى يكون رئيساً أو أميراً أو إماماً؛ ككونه مسلماً ذكراً سليم الأعضاء حراً بالغاً عاقلاً عادلاً ذو خبرة ورأي حصيف بأمور الدولة الداخلية والأمور الخارجية، وأيضاً أن يكون قرشياً مشروطاً به أقامة الدين وإطاعته لله ورسوله، فإن خالف أمر الله؛ فغيره ممن يطيع الله سبحانه وتعالى وينفذ أوامره أولى منه..(1/343)
أما انتخابه فهو حق لطبقة من الأمة - وليس كل الشعب- فيُباشر هذا الحق عن طريق أهل الحل والعقد الذين فيهم العدالة الجامعة بشروطها، والتي أعلى شروطها: الإسلام أولاً، ثم والعلم والرأي والحكمة التي يستطيعون به الوصول إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط المعتبرة في أعلاه، فيختاروا من هو للأمة أصلح، وبتدبير المصالح أقوم. لهذا اختار أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ستةً من أصحابه - رضي الله عنهم - فقط، وترك لهم الأمر شورى بينهم، فكان اختيار عمر - رضي الله عنه - صائباً؛ لكون الستة هم الحائزين على الثقة والرِّضى لما عُرفوا بالتقوى والعدالة والإخلاص والاستقامة وحسن الرأي ومعرفة الأمور وتدبيرها والحرص على مصالح الأمة، فكانوا هؤلاء الستة هم في الحقيقة جماعة أهل الحل والعقد، فهم الأمراء والحكماء والعقلاء والعلماء والقادة ورؤساء الجند المسلمين الذين يرجع إليهم الناس في الحاجات والمصالح العامة؛ فهؤلاء الستة – وإن كثروا- هم الذين كان اختيارهم لواحد منهم ملزماً لعموم المسلمين، فَبَقِيَّة الرعيَّة تبعاً لهم، يلزمهم السمع والطاعة بمبايعة هؤلاء وتنصيبهم حكاماً في الدولة، ولا يلزم كل الناس الحضور لبيعتهم، لكون المسلمين جماعة واحدة، ينوب عنهم قادتهم وعلماؤهم الصالحين الناصحين زُبدة المجتمع، ونخبة الأمة، المعروفون بجودة الرأي، والخبرة الكافية كلٌ في مجاله..
ومما يجدر التنبيه عليه؛ أنه ينبغي لأهل الحل والعقد أن يولوا من هو أنفع وأسرع انقياداً لهم، وإن لم يكن أفضل، فإن اجتمعت في واحد خصال عدة؛ فهو الكمال الذي لا يمكن توفره إلا في أقل من القليل من الناس، والله المستعان..(1/344)
وأيضاً مما تجدر الإشارة إليه؛ أن من أعمال أهل الحل والعقد مراقبة الولاة ومحاسبتهم بالضوابط الشرعية، وخلعهم إذا دعت الحاجة الشرعية الملحة لذلك، بشرط أن لا تحدث مفسدة أكبر. انظر رسالتي "منهج التكفير والتفجير في الميزان الإسلامي"
البيعة
البيعة في الاصطلاح: (هي العهد على الطاعة، كأن المبايِع يعاهد أميره على أن يسلِّم له النظر في أمر نفسه، وأمور المسلمين، ولا ينازعه في شيء من ذلك، ويعطيه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره، وكانوا إذا بايعوا الأمير، وعقدوا عهده، جعلوا أيديهم في يده تأكيداً للعهد..) "مقدمة ابن خلدون" 229
وعلى هذا فيحرم على كل المواطنين نكث بيعة من اختاره أهل الحل والعقد الذين عقدوا بيعة السمع الطاعة، فإن رأوا من أميرهم المُبايَع شيئاً يكرهونه؛ فليصبروا، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت؛ إلا مات ميتة جاهلية)) متفق عليه
كما أنه لا يجوز لكائن من كان أن يبايِع شخصاً آخر غير المبايَع الأول، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من بايع إماماً، فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه؛ فاضربوا عنق الآخر)) رواه مسلم وغيره ، وسيأتي قريباً في فصل "تنصيب الأئمة" فصبر جميل والله المستعان.
الانتخابات(1/345)
قلنا في السابق أن الانتخابات من الإجراءات القانونية الدستورية الوضعية، وهي اختيار شخص أو أكثر للرئاسة، وهي جزء من النظام الديمقراطي العلماني الذي يقوم على أصوات الأغلبية واعتماد ما قَبِلَتْهُ وإن كان باطلاً، وإن كان المنتَخَب المرشَّح مُصَادِراً لدين الله وحكمه دجالاً كذاباً مرابياً مرتشياً ظالماً أحمقاً جاهلاً، بل وإن كان منافقاً مشركاً بالله، بل وإن كان الناخبون حزبيين مشرئبة الحزبية في قلوبهم، أو أهل ذمة، وحتى لو كانوا علمانيين ومَلاَحِدَة وجواسيس وقتلة وقُطَّاع طرق، وإن كانوا من النساء، بل وإن كانوا من النساء المغنيات والعاهرات والسُّقَّط والضائعين والتافهين من الناس، دون تمييز الخبيث من الطيب من الناس، فالمهم الوصول إلى القمة دون النظر إلى الفساد العقدي والأخلاقي..(1/346)
فالذي يدَّعي أنه نظام إسلامي؛ فقد تجرأ وافترى على الله، فالانتخابات يعرفها كل الناس أنها نظام علماني يهودي نصراني ليس له من الإسلام نصيب، بل الذي يدخل الانتخابات يجب عليه القسم على إقامة الدستور وعدم خرمه، بل وإن كان القسم على القرآن بعدم خرم الدستور كما هو مشاهد لكل عينٍ حتى الكليلة، فالأساس الذي بُعث من أجله الرُّسل مفقود الاعتناء بنشره في الانتخابات، بل هي من تشريع الذين جعلوا أنفسهم شركاء مع الله في التشريع، والمسلمون يعلمون أنهم أشد عداوة للذين آمنوا، ثم ترى العجب العجاب والسم الزعاف أن من الدعاة من يعتقد أن هذا التشريع صحيح لا يجوز نقضه، حتى قال بعضهم: أن الانتخابات من الواجبات، ومن تركها أثم ولم يؤدِّ الأمانة، قال الله جل وعلا عن مثل هؤلاء: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } الشورى وقال تعالى: { وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } الأنعام أي إن أطعتم هؤلاء المشرعين، وعدلتم عن أمر الله، وقدَّمتم عليه غيره؛ فهذا هو الشرك بالله، والعياذ بالله. فالمرشِّح والمرشَّح قد ألقيا بنفسيهما إلى هذه المزالق الخطيرة بهذه العاذيرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.. فأين هؤلاء الدعاة من قول الله تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } المائدة فهل ديننا ناقص عاجز عن الإصلاح؟!
ونحن لا نقول أن الدعاة قالوها! ولكننا نقول لهم: وإن قلتم أن شريعتنا كاملة وافية.. فَلِمَ حكَّمتم غيرها، أليس زعمكم باطل، وادعاءكم ساقط عاطل؛ بادعائكم أن شريعة الله ديمقراطية، فجعلتم الأعداء ناصحين لكم، والناصحين لكم من الدعاة أعداء، فقال شيخكم القرضاوي: [..هل هذه الديمقراطية منكر أو كفر كما يردد بعض السطحيين المتعجلين..] "فتاوى معاصرة" 2/637(1/347)
أليس هذا القول كَسَرَ القرضاوي فيه حاجز الولاء والبراء، فضاعت بعده الأمانة، وَوُسِّدَ الأمر إلى غير أهله؛ بحيث جعل القادة المرشِّحين من الرؤوس الجاهلة لجماعته أصدقاء وأحبة وبطانة؛ من علمانيين وبعثيين واشتراكيين وليبراليين ورافضة وقبوريَّة وناصريَّة، وجعل الناصحين من السلفيين أعداءً متعجلين سطحيين؟! سوف يكون – إن شاء الله- فصل عن نقض موقف القرضاوي مع السلفيين
أين القرضاوي من قول الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودُّوا ما عَنِتُّمْ قد بَدَتِ البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون } آل عمران
فهل من تعليمات تيار القرضاوي أن يوادَّ الماكرين المخادعين المملوءة قلوبهم حقداً وعداوة وبغضاء على الإسلام والمسلمين، أم هو قد غرق وأغرق من تبعه في أفكار اليهود النصارى الذين قال عنهم مسلمون بالحضارة والثقافة، وإن كانوا يختلفون عن المسلمين في العبادات والطقوس؟!(1/348)
ما الذي يريده القرضاوي لما سمى المحاربين لتياره وفكره متعجلين سطحيين؟! لا شك أنه يريد أن يقول أننا أصحاب غفلة عن الواقع، ونعيش في خيال وأوهام، وأننا سطحيين لَمَّا حاربنا شرك القبور وتركنا شرك القصور، واشتغلنا في معارك لا خصم لنا فيها؛ مثل قضايا الأسماء والصفات وهي قشور الدين بزعمه، وأننا حاربنا الحزبيين وتركنا الكفار المعاندين، وأننا قُرَّاء كتب لا قُرَّاء واقع، وأننا نؤلف الكتب ولا نؤلف الصفوف، وأننا عملاء وأصحاب ذيل بغلة السلاطين..الخ. وإذا تأملت هذه الانتقادات علينا؛ وجدها مطابقة تماماً أُسَّا وفصَّا مع تياره الخيالي الغافل المتغافل عن الواقع وحقيقته التي تنذر بالشر الخذلان، وإذا تأملت أيضاً كيف وضع القرضاوي فاه على نفس البوق الذي وضع الكفار أفواههم عليه؛ فطعن في إخوانه من بني جلدته فقال عنهم: متعجلين سطحيين، فظهر ما يخفي في صدره تجاههم، وهذه إدانة من قلمه وقاله في محاضراته وجلساته ومقابلاته، والله المستعان.
لقد كُسِرَ حاجز الولاء والبراء عند تيار الفَوْضَوِيِّين أشباه القرضاوي وغيره من مؤيديه لما صاروا متحالفين مع العلمانية بحجة تنسيق البرامج، وكُسِر لما شاركوا دعاة التقريب بين الفرق والأديان بحجة المحاورة، والمنكر بأنواعه يدور على طاولة اجتماعاتهم، وأوهموا المسلمين أنهم بمنكركم ناجحين، فتعدوا حدود الله بمجرد الظن والتخمين. وما علموا – أو تغافلوا- أننا وهم مطالبون بمخالفة الكفار في عاداتهم وأعرافهم، فكيف قبلوهم في عباداتهم وعقائدهم، بل وتهنئتهم بأعيادهم الكافرة الفاجرة التي هي أعظم مسبة سبوا بها الله تعالى؟!.(1/349)
فكُسر هذا الحاجز العظيم لما افتقدوا شرع الله، الشرع الذي هو القوة التي يقوم عليها أساس كل حكم، وبدءوا بتنحية إصلاح عقائد الناس من استغاثة بغير الله والتمسح بأتربة الموتى والدعوة إلى الوثنية من جميع أبوابها ومداخلها وبيوتها، ولم يمنعوهم بالنصح على الأقل، بل جعلوا هذه من الأمور الفرعية السطحية، وادَّعوا أنها قشور تُرْمَى كغيرها من القشور في الزبالات، بل ورأينا وسمعنا أنَّ مِنْ قادة الأحزاب من يدعو إلى البدع من موالد وغيرها، بل ومن ممارسة الشركيات والدعوة إلى عبادة القبور!! فالغاية هي الوصول والظهور ولو على الظهور، والظهور ولو لغير المتأهِّلين بأن يحكموا بحكم الشريعة، ولو بالإغراءات المُبَطَّنَة، والأماني الباطلة، فالغاية هي البحث عن الحكم، وليست البحث عن الإمامة في الدين، فالغاية قد دُفع لها الثمن بالتنحِّي عن التوحيد وأصول العقيدة، وبتبديل منهج الأنبياء والرسل الشامل الذي وضعه الله جل وعلا، فهل بعد هذا الكسر كسر؟!(1/350)
وكُسِر لما غامروا ودخلوا الانتخابات والمجالس النيابية بالموافقة والتعاون على موادهم الدستورية المنكرة، وتنازلوا عن أصول الإسلام وتعاليمه ومميزاته، والتزموا بدستور ونظام وقانون مجلس النواب ولوائحه، والذي يحرم انتقاد المنكر الذي عند الآخرين من الزملاء الداخلين، فأفكار الداخلين قابلة للنقاش، والرأي للأغلبية. وهذا هو مراد أعداء الإسلام، فالترشيح لكل من هبَّ ودبَّ من الزملاء؛ الرجال والنساء؛ من الصالحين والطالحين، والمسلمين والكافرين، والعالمين والجاهلين، فالنصراني بجميع فرقه، والعلماني بجميع أنواعه، والبعثي بجميع أصنافه، والاشتراكي بشتى طرقه، والقومي بجميع غبنه وغلطه، والباطني بكل خفاياه، بل وكل من انتمى إلى أي حزب من الأحزاب المتصفة بصفاتها وقوانينها وقواعدها ودساتيرها؛ فهو يستحق الترشيح، ويجوز اختياره وانتخابه وتوليته أمر الناس أجمعين في الولاية والقيادة والوزارة والإدارة وجميع شؤون المسلمين العامة والخاصة، فكل هذه الأصناف يحميها قانون الانتخابات الذي قبل المرشَّح بدون شروط شرعية في الإمامة، فالعلم والعدالة والحلم والعفاف والقوة والأمانة ليست مهمة بقدر أهمية المرشِّحين الأغلبية الذين بميزانهم يوصلون من أرادوا بتوصيله وإرْقائه مقعد المجالس الرئاسية أو النيابية.. فهل بعد هذا الكسر كسر؟! { أَمْ حَسِبَ الذين اجْتَرحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالذِينَ آمنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَواءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُم سَاءَ مَا يَحْكُمُون } الجاثية(1/351)
وكُسِر الحاجز بقبولهم التعددية السياسية العقدية الفكرية، بقيامهم على الاهتمام بالكمّ لا بالكيف، ووقَّعُوا على "ميثاق الشرف" الذي يقوم على عدم تكفير الكافر وتفسيق الفاسق وتبديع المخالف لعقيدة السلف ومنهجهم؛ بحجة أنهم يريدون إقامة دولة الإسلام من جديد بثوب جديد يقول: نريد دولة إسلامية ديمقراطية صحيحة، فأين بالله عليكم الديمقراطية من الإسلام الصحيح؟ فلا نكن سذَّجاً أغراراً يُلَبِّسُ علينا أشباه العلماء، فأين أنتم من سورة المُفاصلة مع الكفار؛ { قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون.. } الكافرون
وكُسر لما داهنوا وخلطوا وميَّعوا ولبَّسوا على المسلمين ليصلوا إلى أغراضهم على تأصيل القاعدة اليهودية الصليبية: "الغاية تبرر الوسيلة" { ويقلون على الكذب وهم يعلمون } آل عمران انظر إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم رحمه الله في تحريم الوسائل التي تؤدي إلى الحرام في تسعٍ وتسعين وسيلة 3/134-159
فها هم قد استخدموا حتى الشيطان ليصلوا إلى أغراضهم، واستخدموا النصوص الشرعية في غير موضعها؛ دعاية للمرشَّح الذي قد رءوا أنه الرجل الصالح للانتخابات، وهذا الرجل الصالح عندهم في حقيقته مسكين! ما صار صالحاً إلا بميزان حزبهم الذي انتمى هو إليه، وبالتيار اللقيط الذي تبناه وسَمَّاه..(1/352)
نعم هو مسكين! فقد طلب منهم الإمارة التي من سألها وُكِل إليها، ومن وُكلت إليه؛ فقد صُرفت إليه، ونحن نعلم أن من وُكل إلى نفسه ولو طرفة عين؛ هلك، نعم يهلك المسكين هلاكاً لو اجتمع أهل السماء والأرض لحفظه لن يستطيعوا البتة، قال الله تعالى: { ومن يهن الله فما له من مكرم } الحج وقال - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن سَمُرَة: ((يا عبد الرحمن بن سمرة! لا تسأل الإمارة، فإنك إن أُوتيتَها عن مسألة وُكِلْتَ إليها، وإن أُوتيتَها عن غير مسألة أُعِنْتَ عليها)) (متفق عليه) فمن وُكل إلى نفسه وإمارته فيا ويله يوم القيامة، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنكم ستحرصون على الإمارة، وإنها ستكون ندامة وحسرةً يوم القيامة، فنعمَ المرضعة، وبئستِ الفاطمةُ)) رواه البخاري والنسائي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -
وقال عليه الصلاة والسلام لرجلين طلبا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يؤمِّرهما: ((إنا لا نولِّي هذا الأمر مَنْ سأله، ولا من حرص عليه)) متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - وهذا لخوفه - صلى الله عليه وسلم - على صحابته وأمته من بعده، لكون الإمارة أمانة في الدنيا، ومحاسبة يوم القيامة، فنعمت المرضعة في هذه الدار، وبئست الفاطمة يوم القرار، فقال - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر وهو يضرب على منكبه بيده عندما سأله- رضي الله عنه - في استعماله في منصب: ((يا أبا ذر! إنك رجل ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها.)) رواه مسلم وغيره
فالانتخابات فيها حرص على الوصول ولو بترك الأصول، والوصول ولو بترشيح الفاجر الجاهل، وترك الكفء البر التقي الصالح العالم الزاهد الورع، لهذا قال الحافظ ابن حجر في شرحه عن المهلب أنه قال: (الحرص على الولاية هو السبب في اقتتال الناس عليها، حتى سُفِّكت الدماء، واستبيحت الأموال والفروج، وعظم الفساد في الأرض بذلك.) اهـ(1/353)
فنحن لم نغفل في دعم المنظمات الكفرية اليهودية والصليبية للانتخابات، وهذا يدل على أنها من صالحهم، ومن تنفيذ مخططاتهم التي ربَّت أحزاباً إجرامية تعمل ضد الإسلام، فوسيلتها محرمة، وغايتها محرمة..
فتأمل أيها العاقل! كم للانتخابات من تفريق كلمة المسلمين فُرْقَةً لا يمكن التلاقي بعدها، وشتَّتَت وحدتهم تشتتاً لا يمكن التجمع بعدها - إلا أن يشاء الله- فأورثت العصبيات الممقوتة، والتَّكَتُّلات الحزبية المشئومة، الحميات الجاهلية الباطلة، والانتصار كل لحزبه، والتي جمعت في طياتها الشرور العظيمة بثمرة تحزباتهم، وخلفت بعدها التمزق الداخلي والخصومة، وهدَّمت حاجز الإخوَّة الإسلامية بين أهل العقيدة الواحدة والمنهج الواحد بسبب المصالح الشخصية، والتزكية المصلحيَّة، والحرص على إرضاء الناخبين بكل الصور ولو بالتزوير والمغالطة والغش والخيانة والخداع والدَّجل والكذب والرياء وصرف الأموال لشراء الذمم، فأضاعوا أوقاتهم وأقواتهم في ترويج باطلهم، فسنوا سنن الشر، وحملوها حمولة ما لها نظير، هي أوزارهم وأوزار من تبعهم إلى يوم القيامة، ففشلوا في تحقيق التعاون على البر والتقوى وإصلاح الأحوال، فلا حمداً كسبوا، ولا جاهاً أخذوا، إلا من رحم الله، وقليل ما هم.(1/354)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي الهيثم: ((هل لك خادم؟)) قال: لا، قال: ((فإذا أتاني سبي فأتنا))، فأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - برأسين ليس معهما ثالث، فأتاه أبو الهيثم، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اختر منهما)) قال: يا رسول الله! اختر لي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن المستشار مُؤْتَمَنٌ، خذ هذا، فإني رأيته يُصلي، واستوصِ به خيراً)). فقالت امرأته: ما أنت ببالغ ما قاله فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أن تعتقه، قال: فهو عتيق، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله لم يبعث نبياً ولا خليفة، إلا وله بِطانتان: بطانةٌ تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالاً، ومن يوقَ بِطانةَ السوء فقد وُقي)) قال الألباني: السياق للبخاري – أي في الأدب المفرد- وسياقه عند الترمذي والحاكم أتم (الصحيحة 1641) والحديث في البخاري بلفظ: ((ما بعث الله من نبي، ولا استخلف من خليفةٍ، إلا كانت له بطانتان: بطانةٌ تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانةٌ يأمره بالشر وتحضُّه عليه، فالمعصوم من عصمه الله)) وفي أبي داود بلفظ: ((إذا أراد الله بالأمير خيراً: جعل له وزيرَ صدق؛ إن نسي ذَكَّره، وإن ذكَر أعانه، وإن أراد الله بالأمير غير ذلك، جعل له وزير سوء؛ إن نسي لم يذكره، وإن ذكر لم يُعِنْهُ))
فإذا قالت الأحزاب الإسلامية أنها ما شغلت نفسها إلا من أجل إقامة الإسلام، ونحن أكثر غيرة من غيرنا..الخ
فنقول لهم: فإذن! لِمَ كل هذا؟! وهل يُقام الإسلام إلا بالإسلام والمعتقد الصحيح الذي سار عليه الأوائل الذين حكموا الدنيا، ونالوا نعيمها ونعيم الآخرة دون أي تنازلات إلى عبادة العباد وأفكارهم ومنطلقاتهم وتشريعاتهم؟!
ثم لننظر من الذين رشَّحتم وأهدرتم جهودكم لتمكنوه التنصيب إلى كراسي الجهل، ومن هم بطانته؟!(1/355)
وهل تغافلتم عن التوجيهات الإلهية، وأخذتم بالوعود الخيالية؟!
فأين الغيرة هذه؟! وأنتم عندما وصلتم إلى غايتكم بوسائلكم؛ لم تحموا الإسلام ودعوته وإقامة شريعته، ولم تسيروا على منهج الرسول في تقرير التوحيد والتحذير من الشرك، ولم تحموا حقوق الإنسان ولا المال العام، بل نراها قد ضاعت وزيادة! ثم في النهاية.. زُحْزِحْتُم من مناصبكم، وما زحزحكم إلا بطانتكم وأصدقاؤكم الذين لم يذكِّروكم ولم يعينوكم يوماً على إقامة غايتكم..
ثم نقول: لما حيل بينكم وبين الوصول إلى الحكم، وانقطعت آمالكم؛ انتحيتم إلى التَّخطيطات السرية في غياهب الظلام، تخططون للوصول إلى الحكم عن طريق آخر؛ بالتكفير والتفجير والانقلابات، فلجأتم بتهييج العامة وصغار الأسنان من الشباب المتحير الأغرار الجاهلين، تُرَدِّدُون نغمات على أوتار حساسة، وخطب رنَّانة، وندوات عاطفية جيَّاشة تثيرون فيها الاندفاعات العاطفية، والأمور الاستعجالية؛ ترددون بدون قواعد ولا أسس: إلى متى سيبقى الذل والهوان الذي يعاني منه المسلمون، إلى متى يبقى هذا الوضع الذي نعيشه، إلى متى يبقى حكام المسلمين على ما هم عليه من الضلال المبين، ومتى سوف يحكم المسلمون الحقيقيون العالم.. ؟! وهكذا..
وهم في هذه التهييجات لم يذكروا فيها كيف قامت قائمة الإسلام في خلال فترة وجيزة سهلة بسيطة، حققت فيها العدل والخير والخلافة والنصر والتمكين والأمن والأمان..
فيا عَبْدَ الله! لا تكن من الذين ما رؤوا أبعد من أرنبة أنوفهم، فلا تكن من الجاهلين الذين ما أدركوا حتى الضئيل من العلم، فتراهم يتخبطون في باطلهم لنصرة أحزابهم بحق أو باطل، أو بظنهم أنهم يستطيعون نصر الدين مع الغفلة عن البحث عن الحق والأدلة والتاريخ والواقع..
ثم لا تغفل! فمنهم من خاض المخاضة من أجل أمور مادية بحتة لا ترفع بالآيات والأحاديث رأساً، فخاضوا في الصفوف لتفريقها، وتحكموا في القرارات لتوجيه دفة السفينة إلى مرادهم..(1/356)
قاعدة في الحسبة (وظيفة الحكومة الإسلامية)
إن مراقبة تنفيذ أحكام الله في شارع ومجتمع المسلمين - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- من الأمور الواجبة، وهي سبب بقاء الدول، وهذا التنفيذ يدور حول طبيعته وعن القدرات المسئولة عن تطبيقه، والصلاحيات المكفولة لمن يقوم به، وفي هذا التنفيذ تصورات لا يعلمها إلا أهل الاختصاص!
وعندما ذَهَبَت البشرية تلتمس الهدى من غير هذا التنفيذ الذي يرضي الله تعالى؛ ضلَّت ولم تجد السعادة التي تنشدها، ولا الراحة التي تلتمسها، فكانت في غاية التَّعاسة لكونها لم تُسَلِّم لله، ولكونها أسلمت رقبتها لبشر سماتهم النقص والقصور والظلم والجهل والفجور، وهذه هي طبيعة البشر، فهم لا يدركون كثيراً من مصالحهم الحقيقية فضلاً عن أن يقودوا البشرية إلى حياة الخير والبر والنجاة، فنظرة البشر غالباً ما تكون إلى المصالح المادية، فنظرتهم لا تتعدى أرنبة أنفهم، فظنوا أن أساس إصلاح المجتمع إنما يكون في الإصلاح الاقتصادي، فبصلاحه صلاح الدنيا بأسرها، وقام آخرون بنقض هذه النظرية بنظرية أخرى! فقالوا: إن إصلاح المجتمع لا يمكن أن يكون إلا بالدخول في السياسة، وهم علموا أم لم يعلموا؛ أن سياسة الواقع في هذا لزمان لا دين لها، فدخلوا فيها – والله المستعان- وطبقوا فيها النظريات والفلسفات الغربية المادية، فأرادوا أن يعالجوا الداء، ويصلحوا الاعوجاج؛ فإذا هم واقعون في داء واعوجاج أكبر منه!
فيا ليتهم شخصوا الداء وأقاموا الاعوجاج وعالجوا الانحراف على منهج الله! ولكنهم على منهج متستر بالمادية التي خضعت لأنفسهم، لا للعقل ولا للفطرة الربانية، وسموها بغير اسمها (وسطيَّة)(1/357)
فنحن لا نقول أخطئوا فقط! بل نقول: وإن حسنت نِيَّاتهم؛ فهي لا تشفع لهم، فالنية الحسنة لا تجعل الباطل حسناً، ومع ذلك! فهم أعلم الناس بالواقع من حيث هو واقع، فالبشرية المطبقة للديمقراطية يرونها منسلخة من الدين، فالجريمة والظلم والانحلال وانعدام الأخلاق منتشر بينهم بالرغم من تقدمهم المادي، بل والفضائح السياسية لا تخفى على عاميّ فضلاً من أتكون مخفية عليهم، وليس هذا فحسب! بل يرون ما تولد عن ديمقراطيتهم من مشكلات أثرت في تفشي موجة الإلحاد والكفر بالخالق تبارك وتعالى وطغيانها، حتى صارت هذه الموجة تؤثر على أبناء الدين الإسلامي نوعاً ما! فالإلحاد هو الدين الرسمي المعبر عنه العلمانية اللادينيَّة في كثير من بلدان الشرق والغرب على حد سواء، حتى بات المسلمون لا يعرفون التوحيد الخالص وما ينافيه من الشرك - إلا من رحم الله منهم، وقليل ما هم- حتى أصبح لا يعلم طريقة صحيحة للصلاة والصيام والحج وباق فرائض الإسلام، حتى صار ينادي بالشُّبه الخطافة ويضنها من الإسلام؛ كالديمقراطية والعلمانية والفرعونية وزمالة الأديان، فقد أصبحت هذه نظريات وفلسفات يموج بها الواقع، فالواقع يُمْلِي له أن الكفار مسلمون بالثقافة والحضارة، وإن كانوا يختلفون عنا في العبادات والطقوس!
ولا أشك أن هذه المقولة - تُعْتَبَر لكل ذي لبّ- سهم من سهام إبليس الذي يواصل الليل والنهار في سبيل إنفاذ وَعْده، ولو بأَتْباعه الذين أصبحوا من أوليائه الذين وافقوه في حيله من المكر والكيد للإسلام - علموا أم لم يعلموا- بشن الحروب بلا هوادة فيها، واستخدموا كل أنواع الأسلحة الفتاكة { يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متمُّ نورِه ولو كره الكافرون } الصف(1/358)
والناظر الآن في واقعا المعاصر؛ يرى أن الحروب قد بدأت عسكرية وسياسية واقتصادية، فهي لم تكن أشد من الحرب الفكرية - الغزو الفكري- فهذه أعنف حرب يمر بها الواقع الإسلامي، ففيها أطلقوا أسهماً كثيرة، وإِنْ قلنا أنَّ بعضها طاش ولم يصب الهدف، ولكن بعضها أصاب الهدف في مقتل، فكان الديمقراطية هو السهم الخبيث الذي أطلق مع سمومه نِحَل وفلسفات ونظريات تَرَكَّزَتْ في كل القطاعات من رجال ونساء وكبار وصغار، مستخدمة كل الوسائل الترويجية من إذاعات فضائية وأرضية ومجلات ومنشورات وجرائد، فحشدوها بهذه الجيوش الجرارة، وقادة فُجَّارَة، وبأناس كالجن بأجساد إنس، هم من جلدتنا يتكلمون بألسنتنا، قادة وزعماء ومفكرين حاولوا واستطاعوا فلسفة مذاهبهم، حتى أيدتها مجتمعاتهم، والله المستعان.
أما الناظر في واقع الإسلام؛ فهو شامل لجميع الولايات فيه، بحيث يكون الدين كله لله، وكلمته تعالى هي العليا، ولهذا خلق الله الخلق، وبعث الله الرسل، وأنزل الكتب، وعليه جاهد الرسل كلهم والمؤمنون، وكل ذلك لتحقيق طاعته سبحانه وتعالى، وهذا يكون بجهود المسلمين مجتمعين على التعاون والتَّناصر بينهم؛ على جلب المنافع والمصالح، ودفع المضار والمفاسد..
فالله تعالى بعث رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - بأفضل المنهاج وأكمل الشرائع، وأنزل عليه القرآن الكريم وهو أفضل الكتب، وأرسله على أمة هي خير أمة أخرت للناس، ووعد سبحانه وتعالى بحفظ كتابه وسنة رسوله برجال عدول زكاهم الله والرسول، وبكل هذا تمت على هذه الأمة النعمة بالإسلام، التي من لم يقبلها، وابتغى غيرها ديناً؛ فلن تُقبل منه، وهو في الآخرة لمن الخاسرين.
الآمر والناهي في الوظيفة الإسلاميَّة(1/359)
فبما أنَّ طبع البشر يميل إلى الاجتماع لجلب المصالح ودرء المفاسد، فإذن فلا بد لهم من آمر وناهي يطيعونه بتلك المقاصد (فالمسلمون جميعهم في صورة جسم واحد، وأعضاؤه المتلاصقة هم أفراده المتآخون، وقوام هذا الجسم بالإسلام: الكتاب والسنة، وهذه سياسته الدينية، ورعاية حُرُمَات هذا الدين وتماسك جماعته ما يكون إلا بإمام شرعي، ليكون سياسة ذلك الجسم الإدارية، فالإسلام هو الأصل في تكون الجسم النامي للأمة، والإمامة وسيلة لحراسة ذلك الجسم في أمر الدين والدنيا، والإسلام لا يقبل التجزئة، فالإسلام يدعو إلى كله، لا إلى بعضه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ثم الصحابة ومن تبعهم بإحسان كانت دعوتهم لتكون جماعة المسلمين حاملة راية التوحيد، لا جماعة من المسلمين، وعلى ذلك: فإنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة، وهذه متلازمة آخذ بعضها ببعض، والمفهوم الشرعي لجماعة المسلمين: متآخون على منهاج النبوة: الكتاب والسنة، ينظمهم إمام ذو شوكة ومنعة، فإذا انخزلت فرقة عنهم؛ فهذا انشقاق على المسلمين، وتفريق لجماعتهم، وهو عكس ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من اعتزال الفرق كلها.) انظر "حكم الانتماء" لبكر أبو زيد بتصرف يسير
لهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته بتولية ولاة أمور عليهم، يتقوا الله في رعاياهم، فيربطوا نظامهم من الله تعالى الذي ما فرط في دين الإسلام من شيء، فأمر ولاة الأمور أن يردوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بعدل الإسلام، وأمر الناس بطاعة من وَلاَّهُ الله أمرهم في طاعة الله..(1/360)
لهذا كان الإسلام كله أمر ونهي؛ أمر بمعروف، ونهي عن منكر، فالذي بعث الله به النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الأمر بالمعروف بدرجاته، والنهي عن المنكر بدركاته، فيقوم السلطان بهذه الوظيفة – وظيفة الحكومة الإسلامية- على مستوى المجتمع ككل، سواء كان ذلك في ولاية الشرطة، أو الحكم، أو المال، أو الحسبة، فهم المسئولون عن المجتمع وحمايته بالصدق والعدل في الأقوال والأعمال، والمحتسب يُعتبر هو المسئول عن مباشرة عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع في حدود صلاحيته المناطة له، فيأمر العامة بالصلاة، والجمعة والجماعات، ويأمر بصدق الحديث، وأداء الأمانات، وينهى عن المنكرات من الكذب والغش والخيانة، وما يدخل في ذلك من تطفيف المكيال والميزان، والغش في الصناعات والبياعات ونحو ذلك، ويعاقب عليها بالعقوبات الشرعية بالتنسيق مع ولاية القضاء، وولاية الحرب الصغرى (الشرطة)، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، يعني أن من يكف عن ارتكاب العظائم مخافة السلطان أكثر ممن تكفه مخافة القرآن والله تعالى، فمن يكفه السلطان عن المعاصي أكثر ممن يكفه القرآن بالأمر والنهي والإنذار.
ولا يجوز للشعب أن يأخذوا هذه الوظيفة، فوظيفتهم على مستوى أفرادهم وسلطانهم في ممتلكاتهم؛ فيدلُّون على المنكر للمسئولين، ويحثوهم على المعروف، أما إذا تتدخل الشعب في أمور السلطان سوف تقع مفاسد ولا بد، وأكبر مفسدة هي الفوضى بلا شك، وهذه وحدها فيها خراب الدنيا والدين..(1/361)
حتى ولو رأى الشعب أن في الولاة مفاسد ومخالفات، فلا يجوز دفع هذه المفاسد والمخالفات بمفاسد ومخالفات أكبر منها، ولكن للمتطوع من غير أهل الحسبة أمور لا تتجاوزه إلى المحتسب، فالمحتسب مهمته في المجتمع منصَّب عليه من قِبل ولاة الأمر من حيث تطبيقه للمهام والتعزير واللوم عليها، بعدم التجاوز بالتعزير واللوم إلى الحدود، وهذا ليس للمتطوع، وكذلك للمحتسب أن يبحث عن فعل منكر ظاهر، أو ترك معروف ظاهر، وليس على غيره من المتطوِّعة بحث ولا فحص. انظر "الأحكام السلطانية" للماوردي، ورسائلي "المسلمون وولاة أمرهم على ضوء الكتاب والسنة" و"منهج التكفير والتفجير في ميزان الإسلام"و"جواب على أسئلة في المنهج"
فالواجب فعل المقدور من كل على حسبه، فليس من الولاة ولا من الأفراد من هو كامل، فالكمال عزيز، وفعل الخير والعدل على ما قدر عليه الطرفان، ودعواهم للإيمان بحسب الإمْكان، لهذا كان أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - يشكو إلى الله جلد الفاجر وعجز الثقة، والله أعلم.
فهذه الأمور ليس للديمقراطية فيها حق، وإنما الحق فيها للإسلام؛ الكتاب والسنة وهما اللذان حفظهما الله وحده لا غيرهما، { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } الحجر فنحاسب أنفسنا على ميزان الإسلام وأساسه، فالمسلم يجري فيه الإسلام مجرى الدم في العروق، لا يدع أصلاً ولا مفصلاً إلا دخله، يعني لا حياة له بدونه { أَوَ مَنْ كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارجٍ منها } الأنعام { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراك مستقيم صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور } الشورى(1/362)
فالإسلام هو الواقع التطبيقي الذي تقوم عليه الحياة، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أقام دولة تحكم بدين الله: سياسة واقتصاداً واجتماعاً وأخلاقاً، وكان لهذه الدولة عهود وعقود ومعاملات وسياسة داخلية وخارجية، وعلى ذلك درج الخلفاء من بعد خليلهم وقدوتهم المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وهذا الأمر لا يخفى إلا على من أعمى الله بصيرته من الذين زعموا أن هذه الأنظمة ليست موجودة في الإسلام، وليس لها نظام واقعي في التطبيق، فيزعمون أن على البشر أن يجتهدوا فيها ويسيروا على تفاصيل أفكارهم، ثم لم يلبثوا أن تشبهوا بالكفار، وأخذوا منهم أنظمتهم بعجرها وبجرها، وقالوا أن هذه الأنظمة فيها الهدى والنور، وأنَّ لها أصول مشتركة بينها وبين الإسلام، وأنها هي الحكمة التي ضلت عن المسلمين، فإذا هم وجدوها ولو من عند الكفار، فهم أحق بها وأهلها، وأنه خير بديل لحكم الطاغوت..إلى آخره من الكلام الذي سطره أصحاب التيار المسمى بغير اسمه بعبارات فلسفية، وتصورات حزبية اعتمدوا بها على عقولهم القاصرة، وعلومهم الخاسرة، وآرائهم البائرة، وأهوائهم الفاجرة، وابتداعاتهم الضالة، والتي تشترك فيما بينها في الضلال والاضمحلال، وبُعد عن الطريق المستقيم الذي رسمه الله لعباده وأمرهم بسلوكه، وتناسوا ولا أقول نسوا! بل وتناسوا بظلامهم المتكاثف، وطرقهم المعوجة المتعرجة المتشابكة الواقع التطبيقي للإسلام في أزهى عصوره الذي هيمنت على سائر الشرائع: في الفقه والحديث والتفسير والسير { قد جاءكم من الله نورٌ وكتابٌ منيرٌ يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام } المائدة { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلك وصاكم به لعلكم تتقون } الأنعام { قلْ ما يَكُون لِي أَنْ أُبَدِّلْهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتِّبُعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيّ } يونس
تنصيب الأئمة(1/363)
فنحن عندما نكتب موضوعاً كهذا؛ نريد من الناس أن ينظروا إلى عِظم أمر الدين، ومدى عنايته بقضايا الأمة في كل شيء، حتى في قضايا الإمامة والولاية على المسلمين، فقلنا قريباً أنَّ البيعة لولي الأمر تكون بالسمع والطاعة عند تنصيبه إماماً للمسلمين على الكتاب والسنة، والذي يبايعون هم أهل الحل والعقد من العلماء والقادة، وبقية الرعية تبعٌ لهم، فأهل الحل والعقد -كما ذكرنا في أعلاه- هم الرجال المسلمون الأحرار العلماء العقلاء الأتقياء البعيدون عن الأهواء والانتماءات الحزبية، فهم أهل قدوة وشوكة ومن وجهاء الناس. قال الإمام الشوكاني في "السيل الجرار" 4/504: (من أعظم الأدلة على وجوب نصب الأئمة، وبذل البيعة لهم ما أخرجه أحمد والترمذي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه من حديث الحارث الأشعري بلفظ: ((من مات وليس عليه أمام جماعةٍ فإن موتَتَهُ مَوْتَةٌ جاهليَّة)) ورواه الحاكم من حديث ابن عمر، ومن حديث معاوية، ورواه البزار من حديث ابن عباس.) فتح الباري 7/13(1/364)
ثم قال – أي الشوكاني- (طريقها: - أي البيعة- أن يجتمع جماعة من أهل الحل والعقد، فَيَعْقِدُون له البيعة، ويقبل ذلك سواء تقدم منه الطلب لذلك أم لا لكنه إذا تقدم منه الطلب فقد وقع النهي الثابت عنه صلى الله عليه وآله وسلم عن طلب الإمارة، فإذا بويع بعد هذا الطلب؛ انعقدت ولايته وإنْ أثم بالطلب، هكذا ينبغي أن يُقال على مُقتضى ما تدل عليه السنة المطهرة، ومن طريقها أيضاً أن يعهد الخليفة الأول إلى الخليفة الآخر كما وقع من أبي بكر لعمر ولم ينكر ذلك الصحابة، من طُرِقها أيضاً أن ينص الإمام الأول على واحد من جماعة يتولون عليه ويبايعونه كما فعل عمر إلى أولئك النفر من الصحابة ولم يُنْكَر عليه. والحاصل أن المعتبر هو وقوع البيعة له من أهل الحل والعقد، فإنها هي الأمر الذي يجب بعده الطاعة، ويثبت به الوِلاية، وتَحرُم مع المخالفة، وقد قامت على ذلك الأدلة، وثبتت به الحجة.) 4/511(1/365)
ثم قال رحمه الله: (إذا كانت ألإمامة الإسلامية مختصة بواحد، والأمور راجعة إليه مربوطة به كما كان في أيام الصحابة والتابعين وتابعيهم؛ فحكم الشرع في الثاني الذي جاء بعد ثبوت ولاية الأول: أن يُقتل إذا لم يتب عن المنازعة، وأما إذا بايع كل واحد منهما جماعةٌ في وقت واحد؛ فليس أحدهما أولى من الآخر، بل يجب على أهل الحل والعقد أن يأخذوا على أيديهما؛ حتى يُجعل الأمر في أحدهما، فإن استمرَّا على الخلاف؛ كان على أهل الحل والعقد أن يختاروا منهما من هو أصلح للمسلمين، ولا تخفى وجوه الترجيح على المتأهلين لذلك. أما بعد انتشار الإسلام، واتِّساع رقعته، وتباعد أطرافه؛ فمعلوم أنه قد صار في كل قطر أو أقطار الولاية إلى إمام أو سلطان، وفي القُطر الآخر أو الأقطار كذلك، ولا ينفذ لبعضهم أمر ولا نهي في القُطر الآخر وأقطاره التي رجعت إلى ولايته، فلا بأس بتعدد الأئمة والسلاطين، ويجب الطاعة لكل واحد منهم بعد البيعة له على أهل القُطر الذي ينفذ فيه أوامره ونواهيه، وكذلك صاحب القُطر الآخر؛ فإذا قام من ينازعه في القُطر الذي قد ثبتت فيه ولايته، وبايعه أهله؛ كان الحكم فيه أن يُقتل إذا لم يتب، ولا تجب على أهل القُطر الآخر طاعته، ولا الدخول تحت ولايته لتباعد الأقطار، فإنه قد لا يبلغ إلى ما تباعد منها خبر إمامها أو سلطانها، ولا يُدْرَى من قام منهم أو مات، فالتكليف بالطاعة والحال هذه تكليف بما لا يُطاق، وهذا معلوم لكل من له إطِّلاع على أحوال العباد والبلاد، فإنَّ أهل الصين والهند لا يدرون بمن له الولاية في أرض المغرب فضلاً عن أن يتمكنوا من طاعته، وهكذا العكس، فاعرف هذا؛ فإنه من المناسب للقواعد الشرعية، والمطابق لما تدل عليه الأدلة، ودع عنك ما يُقال في مخالفته، فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في أول الإسلام وما هي عليه الآن أوضح من شمس النهار، ومن أنكر هذا؛ فهو مباهتٌ لا يستحق أن يُخاطب بالحجة لأنه لا(1/366)
يعقلها.) 4/512
ثم قال رحمة الله عليه: (وقد أغنى الله عن هذا النهوض وتَجَشّم السفر وقطع المفاوز بيعة من بايع الإمام من أهل الحل والعقد؛ فإنها قد ثبتت إمامته بذلك، ووجبت على المسلمين طاعته، وليس من شرط ثبوت الإمامة أن يبايعه كلُّ من يَصلح للمبايعة، ولا مِنْ شَرْط الطاعة على الرجل أن يكون من جملة المبايعين، فإنَّ هذا الاشتراط في الأمرين مردود بإجماع المسلمين أولهم وآخرهم، سابقهم ولاحقهم، ولكن التحكم في مسائل الدين، وإيقاعها على ما يُطابق الرأي المبني على غير أساس يفعل مثل هذا. وإذا تقرر لك ما ذكرناه؛ فهذا الذي بايعه أهل الحل والعقد قد وجبت على أهل القُطْر الذي تنفذ فيه أوامره ونواهيه طاعته بالأدلة المتواترة، ووجبت عليهم نصيحته كما صرَّحت به أحاديث النصيحة لله ولأئمة المسلمين وعامتهم.) 4/513
ثم قال رحمه الله: (..وعلى كل مسلم في ذلك القُطر أن يقبل إمامته بعد وقوع البيعة له، ويطيعه في الطاعة، ويعصيه في المعصية، ولا ينازعه، ولا ينصر من ينازعه، فإن لم يفعل هكذا؛ فقد خالف ما تواتر من الأدلة، وصار باغياً ذاهب العدالة، ومخالفاً لما شرعه الله، ووصى به عباده في كتابه من طاعة أولي الأمر، ومخالفاً لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من إيجاب الطاعة، وتحريم المخالفة كما عرفناك.) 4/514
وقد يقول قائل متحير: إن البيعة لا تنعقد إلا للإمام العام للمسلمين جميعاً، كما هو الشأن في زمن الخلافة الراشدة!
فالجواب قد تقدم في أعلاه من كلام الشوكاني رحمه الله في "سيله الجرار المتدفِّق على حدائق الأزهار" ولكن قد يقول آخر متحير أكثر من الأول: لا تكون الإمامة إلا بالاختيار والرضى من الرَّعِيَّة!(1/367)
فنقول: الإمامة إنما تنعقد باختيار الأولى والأفضل، كما اختار المسلمون أبا بكر - رضي الله عنه - مجمعين على إمامته وولايته للمسلمين، وإما بعهد الأول إلى الثاني؛ كما عهِد أبو بكر إلى عمر رضي الله عنهما، وهذا يُسمى استخلافاً أو عهداً، لكون الخليفة الأول رأى في المُسْتَخْلَف شروطاً مطلوبة شرعاً فيه، اتفق عليها هو وأهل الحل والعقد..
وإما تنعقد بالعهد إلى نفر معروفين معينين لاختيار واحد منهم؛ كما عهد عمر إلى الستة كما تقدم في أعلاه، فاختاروا عثمان - رضي الله عنه -، ثم لما اسْتُشْهِدَ شهيد الدار بايع الناسُ علياً - رضي الله عنه -، ولم يجتمع كل الناس على هذه البيعة، مع أن بيعته لازمة وإن لم تكن بالرضى، وكذا بيعة ابنه الحسن - رضي الله عنه -؛ فلم تكن مجمع عليها، مع أنها لازمة وإن لم تكن بالرضى..
ويمكن أن تنعقد الإمامة بالغلبة والسيف والقوة والانقلاب وما أشبهه، كما في عهد بني أمية وغيرهم؛ فقد حصلت الخلافة لبني أمية في الأندلس والخلافة قائمة في بغداد للعباسيين، وفي ذلك العهد العلماء متوافرون كابن المبارك وابن عياش وابن عيينة ويحيى بن سعيد القطان والليث بن سعد وغيرهم، فلم يقل أحد منهم بإبطال قيام خلافة الأندلس، أو بإبطال البيعة لخليفتها. وهذه الغلبة قد تكون محرمة شرعاً أو مباحة، على حسب واقعها شرعاً، ومهما تكون؛ فهي وإن تغلب من له القوة فصار إماماً؛ وجبت طاعته فيما لم يكن فيه معصية الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى المتغلب إثمه بما فعل من قهر الناس، وثوابه فيما إذا أخذها شرعاً، والله أعلم وأحكم..(1/368)
فالبيعة في الإسلام لا تقوم على منهج الانتخابات التي تقوم على المساومة والدعاوى الكاذبة، وإنما تقوم على الاجتماع والائتلاف الذي يحقق غاية الأمن والاستقرار في البلاد؛ فهي للمسلم الممكن في الأرض، الذي يقيم إمامته على نفس منهاج النبوة المباركة. قال إمام السنة أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: (أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والإقتداء بهم وترك البدع وكل بدعة فهي ضلالة، وترك الخصومات، والجلوس مع أصحاب الأهواء وترك المِراء والجدال، والخصومات في الدين... وخير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر الصديق ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان. نقدم هؤلاء الثلاثة كما قدمهم أصحاب رسول - صلى الله عليه وسلم - لم يختلفوا في ذلك. ثم بعد هؤلاء الثلاثة: أصحاب الشورى الخمسة: علي بن أبي طالب وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد كلهم يصلح للخلافة وكلهم إمام... ثم بعد من أصحاب الشورى: أهل بدر من المهاجرين، ثم من أهل بدر من الأنصار من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قدر الهجرة والسابقة أولاً فأولاً. ثم أفضل الناس بعد هؤلاء: أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرن الذي بعث فيهم... والسمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين البر والفاجر ومن ولي الخلافة فاجتمع الناس عليه ورضوا به، ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسُمي أمير المؤمنين. والغزو ماض مع الأمراء إلى يوم القيامة البر والفاجر لا يُتْرَك... ومن خرج على إمام المسلمين وقد كان الناس اجتمعوا عليه وأقروا له بالخلافة بأي وجه كان بالرضا أو بالغلبة فقد شق هذا الخارج عصا المسلمين، وخالف الآثار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن مات الخارج عليه؛ مات ميتة جاهلية. ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس، فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق ...) "شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب(1/369)
والسنة وإجماع الصحابة والتابعين من بعدهم" للإمام اللالكائي ت-418هـ وانظر باقي اعتقاد الأئمة في نفس المرجع فهو قيم جداً
وسُئِلَ – أي الإمام أحمد- عن إمام المسلمين فقال: (تدري ما الإمام؟ الذي يجتمع المسلمون عليه، كلُّهم يقولُ: هذا إمامٌ، فهذا معناه.) "مسائل الإمام أحمد رواية ابن هانئ 2/185 ويعني من كلامه رحمه الله، أن ما يُشترط في البيعة؛ أن يجتمع أهل الحل والعقد، ويعقدوا الإمامة لمن يستجمع شرائطها، فيُعطى المُبايَع العهد على السمع والطاعة في المنشط والمكره والعسر واليسر، وعدم منازعته الأمر، وتفويض الأمور إليه، وبهذا تبطل أي بيعة بعده لأي إنسان كائنا من كان، فلا تعددية، ولا تحزبية في الإسلام..
وقال الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (الأئمة مجمعون من كل مذهب على أن من تغلَّب على بلد أو بلدان؛ له حكم الإمام في جميع الأشياء، ولولا هذا ما استقامت الدنيا. لأن الناس من زمنٍ طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا ما اجتمعوا على إمام واحد، ولا يعرفون أحداً من العلماء ذكر أنّ شيئاً من الأحكام لا يصلح إلا بالإمام الأعظم.) "الدرر السنية"7/239
وقال شارح "الطحاوية" ابن أبي العز رحمه الله: (وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا: فلأنه يترتب على الخروج من طاعتهم – في غير معصية الله- من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم، بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات، ومضاعفة الأجور، فإن الله تعالى ما سلطهم علينا إلا لفساد أعمالنا، والجزاء من جنس العمل. فعلينا الاجتهاد في الاستغفار والتوبة وإصلاح العمل.) 381 تخريج الألباني رحمه الله(1/370)
وعلى هذا؛ فلا يجوز لكائن من كان أن ينشئ لجان أو مشاريع تتولى شيئاً من أمور الأمة من رفع مظالم أو شكاوى أو نحو ذلك إلا بإذن وليِّ الأمر، وإلاَّ كان هذا الفعل خروجاً عن طاعة ولاة الأمر، وافتئاتاً عليهم، واعتداءً على صلاحيتهم، بل ويمكن أن تنتشر الفوضى بضياع الصلاحية والمسؤولية المنوطة لهم، بل ويمكن أن تؤدي هذه الفوضى إلى الخروج على الولاة، فمبادئ الخروج تبدأ من هذا الفتيل الذي أَوْكَتَهُ الهمج السياسيون المثيرون للفتن، والعامة الثائرون..فتأمل! فالإسلام قد أعطى ولاة الأمر ونوابهم المسؤوليات والصلاحيات، ولم يعطها للعامة حتى يتنازعوا مع الولاة فيها! حتى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا بويع لخليفتين؛ فاقتلوا الآخِر منهما)) رواه مسلم عن أبي سعيد وقال عليه الصلاة والسلام: ((من بايع إماماً فأعطاه يده وثمرة قلبه، فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر يُنازعه؛ فاضربوا رقبة الآخر)) أخرجه مسلم وأبو داود عن ابن عمر
ولا يستطيع أحد أن يعترض علينا بما قلناه أعلاه، فالزواجر الشرعية التي وردت في شق عصا الطاعة ومفارقة الجماعة لا يمكن ردها، فالراد لها جاهل، يُخشى عليه بسوء الخاتمة بالموت بميتة جاهلية، فالقضية في هذا الباب قد حسمها السلف الصالح، وقضيتهم فيها جازمة حاسمة لا تقبل التمييع، فالأمر فيها جد صارم، مستمد حكمه من الكتاب والسنة وإجماع الأمة، فلا بيعات استثنائية مشتتة للشمل، ومكسرة للشوكة، ومفرقة إلى أحزاب وفرق وشيع تنخر في جسم الأمة الواحدة، فلا يجوز لأحد كائنا من كان أن يستغل بَلَهَ العوام، والبسطاء من المسلمين، فيؤثر على نفوسهم بالشعارات والألفاظ البراقة، والعبارات المنمَّقة، والكلمات المزخرفة، فيقول: إنَّ عَمَلَنَا الولاء والانتماء والتوبة، حتى أن بعضهم استغل الدين بنشر ونثر شُبهاته، فقال: إن بيعتي العقبة دليل على بيعتنا الحزبية، وانتماءاتنا الفكرية!(1/371)
فنقول له: إن هذا الدليل ضد ما تقولونه وتأوِّلونه، فإن بيعة الصحابة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هي من حقوقه التي أوتيها عليه الصلاة والسلام، وخصَّه الله بها، فقد كان عليه الصلاة والسلام هو المُهَيَّأ من رب العالمين ليكون إماماً وأميراً للمؤمنين، وليس لأحد بعده - صلى الله عليه وسلم - مثله في هذا الإعداد الرَّباني، ثم إن المتأمل لبيعتَيّ العقبة؛ يرى فيها السبيل والطريق المؤدي إلى وحدة للمسلمين، لا تفرقهم كما هو الحال في البيعات البدعيَّة الحالية، فكانت العقبتين توثيقاً لموقف أهل المدينة من دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - الحقَّة، وصفاء جو المدينة لها، وعلى هذا الأساس هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها هو وصحابته، فكانت بداية مشروع لمشاريع سوف تتم بعد الهجرة، والمفتاح الأول لباب المدخل الرئيس لقيام دولة الإسلام، فهي بيعة قامت وما زالت قائمة على الاتفاق والانتماء، لا تنقطع الصلة نهائياً بين المبايعين على مر العصور، فكل البيعات الشرعية للأئمة قائمة على تلك البيعتين، وهي بيعة على الإيمان بالله وحده، واستمساك بالذي جاء به - صلى الله عليه وسلم - من ربه من التشريعات والأحكام، وهذا هو الأساس الشامل الذي بناه - صلى الله عليه وسلم - في نفوس أتباعه، والمشتمل على المبادئ التي تم مشروعيتها خلال دعوته بعلم وبتثبت ودراية وبينة، لهذا هم لا يخرجون عنها، ولا يضيفون إليها، وإنما يسلِّمون قلوبهم على قبولها، والانقياد لها، لكونها أحكام قد أذن الله بشرعيتها، فهم على ميزان: من أحدث شيئاً فيها؛ فهو ردّ غير مقبول شرعاً ولا عقلاً مهما كان فيما يبدو للناس في ظاهرها الصدق والحق والعدل والحسن..(1/372)
والذي نراه الآن في ساحات المسلمين، وفي ظل الديمقراطية الكافرة، أن حدثت الفوضى؛ فبايعت الجماعات الإسلامية مرشديهم وقياداتهم المنبثقة عن أنظمتهم المعتمدة بالسمع والطاعة في المنشط والمكره، والعسر واليسر، حتى آلت البيعة بهم بتسمية المُبَايَع منهم "بالإمام"، مع أن من شروط الإمام أنه منفِّذ للأحكام، ومطبق للحدود، وهم لا يملكون ذلك، مما أدى إلى التَّدابر والتفرق والاختلاف والتراشق بين الجماعات أنفسها، مما أدى بهم جميعاً - دون استثناء- إلى ما أراده الغرب والشرق الكافر بديمقراطيته؛ فكان التعسُّف والتخبُّط منهم في التعامل مع الأحكام الشرعية، فوصل بهم إلى البعد عن رسالة الرسل، وأغلقوا منافذ الدعوة إلى الله، فصار بأس العاملين بينهم شديد، فخرجوا - كما أراد الكفار منهم- عن الخيرية التي كان عليها المسلمون في الصدر الأول من الإسلام، حتى رأينا في الدولة الواحدة جماعات تدعو إلى الإسلام، ولكنها تدعو إلى إسلام غير إسلام الجماعة الأخرى! ولا ننسى ما نحن في صَدَدِه من نقض الصوفية، فالصوفية على أشكال لا يستطيع إنسان حصر طرقها، فهي مختلفة فيما بينها في نشر باطلها وبيعاتها، حتى رأينا أنَّ من الصوفية من هم ليسوا بمسلمين، ولكنهم صوفيون!!
فعلى جميع المسلمين، وعلى رأسهم الدعاة! أن يُوقِفُوا مدَّ التحزب، ورد الحق لأهله، وليعيدوا النظر بشرف المهمة المناطة لهم، فهي مهمة من أبلغ المهام، وأنبل الغايات، فلا يبيعوا أنفسهم للمصالح الشخصية، ولا للانتماءات الحزبية، ولا يسلموها إلى السوق السياسية الخبيثة بطرائقها ومسمياتها، فينخرطوا في المنكر باسم الأمر بالمعروف، فالدعوة إلى الله ما تكون إلا بوضع الأمور في مواضعها بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن إلى الذي هو أقوم، وذلك بتحريك نفسه – إن صح التعبير- بالحركات الإسلامية التي شرعها الله، لا غيره تعالى..
إلى المُتََحيِّرة والمُتَشَكِّكَة(1/373)
لا شك أن الحيرة والشكك من أخطر المفاسد التي تدخل في الذهن، فتورث في نفس الشخص الضعف والوهن، فكان لزاماً التصدي لهذا الخطر، وندخله في الحضْر! فلا يستقيم الدين عند أحد إلا بتلقي العلم الشرعي من أهله الذين جعلوا الكتاب والسنة وفهم السلف لهما معياراً لكل الأمور لا العكس، فالدين ما يُؤخذ إلا عن الذين استقاموا على منهج الكتاب والسنة، لا عن الذين مالوا عنهما. قال ابن سيرين رحمه الله: إن هذا العلم دين، فانظروا عمَّن تأخذون دينكم.(1/374)
فنحن نرى كثيراً من الناس قد وضعوا أنفسهم في مهب ريح الشبهات، فلم يسلموا من نفخها على نارها، حتى صاروا في تبعةٍ لنافخيها، فتقلبت بهم الاضطرابات، وحاك بهم الغموض حتى في الذات! فقالوا: يبدو أن النظام الديمقراطي في الانتخابات يوافق الإسلام في الجملة، ففيه خير، وإن كان فيه شر، ويشبه الشورى من وجوه متعددة، والأخذ بها أخف من الأضرار الأخرى لو أخذنا بها، فنحن لو أخذنا بها فهو من باب الإكراه لا الرِّضى الكامل، فلو أخذنا بعض نُظمها الصحيحة في رعاية الحقوق الإنسانية وإصلاح الأحوال الاجتماعية فلا ضَيْر، لكونها مسألة اجتهادية خلافية لم يرد فيها نص، فالأدلة فيها متجاذبة غير متنافرة، ولعلها تكون من المصالح المرسلة التي ليست أصلاً من الأصول، فيعمل بهذه المصلحة، وخاصة أنها تندرج تحت الأصل العام في الشورى، فليس هناك دليل لإلغائها، فالانتخابات لا تعدو بكونها شكليَّة ليست جوهرية، ونحن ما دخلناها إلا بقصد الخير وصلاح القصد؛ نصرة للإسلام، ونشره في أوساط الناس باختلاف مللهم ونحلهم، فنقيم بها دولة الإسلام، التي نستطيع بها نشر شريعة الله بين الناس، وبدخولنا ساحة البرلمان نستطيع تغيير الدساتير العلمانية إلى دساتير إسلامية، ونعدِّلُها، فنحن لا نريد أن نترك الساحة لأعداء الإسلام.. فدعونا يا معاشر السلفيين، فهذه ضرورة نركبها لنحقق المصلحة المرجوة، وارتكاب المفسدة الصغرى لدفع الكبرى أمر لا ينكره الشرع... وغيرها من الشبه الكثيرة الخطافة التي خطفت العقول، وحيرت الحلماء، وأشغلت العلماء، وأشعلت العامة، وأنشأت الجدل والخصومة، فقست القلوب، وتنافرت الطباع، وزالت حرمة المؤمن، وتلاشت الأخلاق، وكثر الخلاف، واستغل أهل الشبهات بنشر المهاترات ونثرها، وخُدم عندها المخالف بمخالفاته، وضاعت الأوقات والأقوات، وشُغل الفكر والعقل، وكَثُرَ الشرود عن العبادات، وبَعُدَ العدل والقسط والإنصاف بعد سقوط التقوى، وتجاوزت الحدود(1/375)
بالشذوذ، وفُتِحت الثغور، وكَبُرَت الشقوق، وعَجَزَ الرَّاقع وفشل، وضاع الحق عند الكثير؛ فذهبت عندها الريح..
فأقول: فلنعد ولنبدأ بقراءة ما دوِّن في أعلاه؛ فإنه يجعل المسلم المتحير المتشكك في سلامة إذا قدَّم الحق والهُدى على الباطل والرَّدى، وإذا تأمَّلنا حديث الدجال الذي حذر منه النبي - صلى الله عليه وسلم - والأنبياء قبله، ففيه البعد عنه، لكونه يبعث بالشبهات وكأنها أصول متَّبَعات، حتى يظن الظَّان أنه إذا أتى الدجال لسوف يكون مؤمناً، فإذا هو يتبع مما يبعث به من الشبهات! وهذا الذي حصل لخائضين في شبه الانتخابات؛ فما لبثوا أن دافعوا عن شُبَهِهَا بهوىً حال بينهم وبين الحق؛ فصاروا غامضين محرفين مضطربين متغيرين متقلبين متحيرين متشككين.. فما استبرؤوا لدينهم ولا لعرضهم، فعصوا الله ورسوله، وانضموا إلى أصحاب البدع والأهواء، ونَفَرُوا ونَفَّرُوا من منهج السلف الصالح الذي ردَّ الشبهات إلى القواعد السلفية الصحيحة الواضحات النيِّرات؛ القائمة على الصبر بترك الشهوات، وعلى اليقين بترك الشبهات..
فالسلفيون جميعاً متفقون على أن الانتخابات ما جاءت إلا من قِبَل الأعداء، فهي جذر من جذور الديمقراطية الكافرة، فلا فيها قرآن ولا سنة ولا عن سلف الأمة، بل فيها الشر الذي سبق بيانه في أعلاه، من أوله إلى منتهاه؛ فمقدمة شرها التلبيس والتَّدسيس والتدليس..
فليس في الانتخابات الديمقراطية دليل في السنة حتى يكون حكمها محل نزاع، فمذهب هذا القانون الوضعي مذهب فاسد تداعت عليه سهام الأدلة السلفية؛ فأزهقته وأبطلته، وأرست الأدلةُ دعائمَ الحق الذي ما بعده إلا الضلال والاضمحلال، فللَّه الحمد والمنة، قال الله تعالى: { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً } النساء(1/376)
فلا يجوز لنا حينئذ القول بأن اختيار الولاة من قبل الأمة صحيح، لكون هذه الفكرة فكرة كافرة، ترتكز على تعبيد الناس لبعضهم البعض باتباع ما أحله النواب، وترك ما حرموه عليهم، فليس لها صلة بالدين، ولا متصلة بهدي المرسلين، بل هي خيانة يستلزم الاستغفار منها، لا الدعوة إلى الدخول فيها!
والقول أن الداخلين في الانتخابات مكرهين، أو أن مقارفتها بالأخذ لأخف! فهذا كلام باطل يفقد شروط الإكراه، ويفتقد الضوابط الشرعية المرعية، ويفارق النقل الصحيح، ويناقض العقل الصريح، فليس في الإسلام ولا في صدره انتخابات، فلم يكن من النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا من صحابته - رضي الله عنهم - إلا ما ذكرناه في أعلاه، ولم يكن من الصحابة ارتكاب مفسدة واحدة في الشورى، ولم يكونوا مكرهين يوماً، فالصدِّيق أبو بكر الخليفة الحق الأول قد بايعه الصحابة، ثم أوصى الخلافة لعمر، ثم الذي كان من عمر الفاروق أن جعل الأمر شورى في الستة الذين توفى عنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو راضٍ عنهم، ولم يكن يوماً أن استشير النساء في الخلافة، والذي جاء أنه استشير النساء فلم يصح منه شيئاً ولله الحمد.. انظر "فتح الباري" لابن حجر 7/61، و"تاريخ الإسلام" للذهبي 303، و"تاريخ الأمم والملوك" لابن جرير الطبري 4/231، و"التاريخ" لابن الأثير، وذكر ابن كثير قصة في هذا بدون سند في "البداية والنهاية" 4/151
أما القول أن من نظم الديمقراطية والانتخابات ما هو صحيحاً، فنقول: ومن قال أن الشرك بالله وتعبيد البشر يكونا صحيحاً؟! وهل في نظم الكفر ما يكون صحيحاً، وهل أغفل الإسلام النُّظم في رعاية الحقوق وإقامة العدل وإزالة الشر وإصلاح أحوال الناس؟! أين أنتم من قول الله تعالى: { ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون } المائدة وقوله: { ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً } الجاثية(1/377)
فيجب على المسلم أن يحذر اعتقاد الأقوال قبل النظر في الأدلة ومعرفتها، فهذا من أعظم الخطر الذي ينبغي عليه الحضْر، ومن أعظم الكبائر الجائرة المُفتراه! { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم } النحل
فيا حسرة على العباد! كيف اتخذوا النظم الكافرة فيتنازلوا بها عن الإسلام، ويرفعوا لواء الكفر بمفاسده ويقولون: هي جزئيات نافعة لا بأس بها، واجتهادات لم تكن معروفة في زمن النبي عليه الصلاة والسلام ولا الصحابة الكرام، فيا حسرة كيف يُسند العلم إلى غير أهله، فيجتهدون دون الرد إلى الأصول والكليات، ودون معرفة للأشباه والنظائر ويلحقون اجتهاداتهم بها، فهم جُهَّال لا يعلمون الأحكام إباحةً أو حضراً، ولا إيجاباً أو تحريماً، ثم يتجرؤون فيفتون، فالنتيجة الحتمية الضلال بعد التضليل، والمفسدة بعد التدليس والتلبيس، والانهيار قبل تمام البناء.. قال الفاروق - رضي الله عنه - لأمين الأمة - رضي الله عنه -: إنا كنا أذل قوم، فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله به؛ أذلنا الله.
لهذا كان الانهيار؛ لما خضعوا لغير الله وأخذوا غير منهجه في التَّحاكم، ولما عبَّدوا أنفسهم لغير الله في التوجيهات، ولما وجهوا أفكارهم للقوانين الكفرية، ولما بعثوا مشاعرهم وأحاسيسهم وعواطفهم ومواجيدهم وخلجاتهم لميزان يخالف القرآن والسنة وفهم سلف الأمة، كان استحقاق الانهيار في الجهود والديار..(1/378)
أما القول بأن الانتخابات الديمقراطية مصلحة مرسلة! فنقول: أين الشروط لهذه المصلحة التي نقول بجواز العمل بها؟! وأين المصلحة العامة والخاصة المرجوة بهذه الشبهة، ثم إن المصلحة المرسلة هي التي ليس هناك دليل باعتمادها أو إلغائها، أي لم يأتِ نص في المصلحة بعينه بتحريم ولا وجوب، مع اندراج المصلحة تحت أصل عام، فأين الشروط مثل هذه ونحن قد بينا أن مفاسد الديمقراطية لا تُحْصَى، ولا يشك أحد بإدراجها إلى المفاسد المحرمة، لا إلى المصالح المرسلة، فالله أكبر كيف يريد الحزبيون إدخال الفاسد إلى الصالح؟!! انظر "مفتاح دار السعادة" لابن القيم 2/23
أما القول بأن الانتخابات الديمقراطية الحزبية أشياء شكلية وليست جوهرية، فنقول: وهل يكون الحكم بما أنزل الله شكلي وليس جوهري؟! أليس هذا هو عين التناقض عندما كفَّرتم من لم يحكم بما أنزل الله بدون أي تفصيل أو تفسير، ثم أنتم بهذه الشبهة تحكمون بغير ما أنزل الله، وتروِّجون له، وتغيِّرون وتحرفون الكلم عن مواضعه بحجة أن الذي تفعلونه ليس جوهري وإنما هو شكلي، وإنْ كان الذي تريدونه أصل من أصولكم وهو الحاكمية؛ والتي هي تمكين حكم الله!!
أما علمتم أن جوهر الحكم بما أنزل الله؛ هو تمكين توحيده تعالى في الأرض، ومحاربة كل أنواع الشرك والوثنية فيها، وكذلك محاربة الطرق إليها من بدع ومحدثات وما لأصحابها من أغراض ومصلحات؟!
فهل كان الحكم بما أنزل الله إلاَّ لتمكين عبادة الله بإخلاص ورضى بحكمه، والتسليم لشرعه، والمراقبة لأمره ونهيه، والتوكل عليه، والثقة به، والأنس بكلامه، ويقوم على قوله تعالى: { إنَّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } الإسراء لا المصطلحات الحزبية التي ملأتم بها الأوقات, وصرفتم بها الأقوات، وشغلتم بها الجهود لتصرفوا إليها الناس، ووسمتم من خالفكم فيها بالرجعية والسطحية؟(1/379)
فكيف تكون الحزبية والانتخابات الديمقراطية شكلية وهي من إنشاء الكفرة ومن تبعهم من المنافقين الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون بما لا يؤمرون، والتي ترمي بأشكالها وشكلياتها إلى سواء الجحيم؟! فأين أنتم من قول ربعي بن عامر الذي كتب مقولته التاريخ بماء الذهب في عبارات تنطق بالنور، عبَّر فيها عن صورة الحرية الحقيقية في الإسلام الذي أخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد بخالص العبودية لربه عز وجل، التي أخرجتهم من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة بدون مظاهر الدنيا الجوفاء الزائفة التي يتشدق بها الناس، فخرج المسلمون بالمقولة النيرة من جور الأديان الباطلة المأسورة بالمناهج الفلسفية والفكرية، والمغالاة الحزبية، إلى عدل الإسلام الذي تحرر به العباد من الآلهة المزيفة والطواغيت الظالمة المظلمة، وتحرروا به بالتوكل على الله والتعلق بأوامره وحده، فكانت النتيجة قد رآها ربعي - رضي الله عنه - { فانقلبوا بنعمة من الله وفضلٍ لم يَمْسَسْهُم سوءٌ واتبعوا رضوان الله } آل عمران { وردَّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً } الأحزاب فانقلبوا من نصر إلى نصر، ومن عز إلى عز، يحبون الشهادة في سبيل الله كما يحب الأعداء الحياة في سبيل الطاغوت..
ومع الأسف! لقد دخل الحزبيون الانتخابات بأحكامكم التي ناسبت نظامهم وميزانكم، فالنظام يدمج الحق بالباطل، فهو نظام يخدم بميزان المصلحة الحزبية، ويتماشى مع نظرها وتنظيرها الذي ما فتئ باستمراره في مخالفة الشرع، والتبشيع بأهل الحق الذين يردون على الباطل المحمول، والعاطل المأمول، فهل هذا كله إلا دليلاً على تعبيد الأنفس التي لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع..(1/380)
أما قولكم أنكم ما أرتم إلا الخير في دخول الانتخابات الديمقراطية، وأردتم نصرة الإسلام.. فنقول لكم: ليس كل من يريد الخير بمصيبه أو مدركه، أو يصل إليه، وليست النِّيَّات الحسنة تجعل الباطل حسناً مراداً طيباً مباركاً بوجه من الوجوه، والغايات لا تبرر الوسائل مهما كانت، وكل عمل ليس من الإسلام فهو ردٌّ، إلا ما كان خالِصاً لله، صوابا على هدي رسول الله كماً وكيفاً وصفة وهيئة بداية ونهاية، أصلاً وفرعاً زماناً ومكاناً.
فلا يجوز لأحد كائناً من كان التعبد بنصرة الإسلام ببدعة ثم يقول: إن سريرتي حسنة، وما قصدت إلاَّ الخير، وما أريد بهذه البدعة إلا إقامة دولة الإسلام، فنحن نحمله على ظاهره، وليس على نيته وسريرته.. فالظاهر عنده أنه تنازل عن حكم الله إلى قانون دستوري مستورد من قبل الكفار والطواغيت، بحجة تحقيق مصلحة الدعوة، والتنازل عن شيء من الأصول بحجة التدرج في إقامة الشريعة، فما أعظم هذه المغالطة التي انخدع بها العامة، وعامة أتباع الحزبية، فما أدري أين هم من قول الله تعالى:
{ وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً } الإسراء(1/381)
فلم يتنازل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء باسم تحقيق المصلحة، ولم يتخذ أنظمة كافرة عُرضت عليه لإقناع الناس بحقيقة دعوته، ولم يدخل في الانتخابات التي عُرضت عليه بان يُعبد الله عاماً وآلهة الخصوم عاماً، ليثبت للأعضاء حقيقة دينه بالتدرج المزعوم، ولم يحكم قانون الكفرة بحجة تحقيق الهدف، وإنما هو - صلى الله عليه وسلم - كما أمره الله تعالى: { وأن احكم بينهم بما أنزل الله واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } المائدة
أما دعواكم في تغيير الدساتير العلمانية إلى إسلامية؛ فهذا من ذر الرماد على العيون، فنحن إلى الآن لم نر الكتاب والسنة وفهم السلف هو العالي الذي لا يُعلى عليه في الدستور الحالي القائم، ولا حتى في أصول الحزب المنخرط في البرلمان! بل الذي ينادي به القرضاوي هو هُوَ لم يتغير، فهو لم يتراجع عن قوله: إن أفضل الجوانب الليبرالية الديمقراطية في نظري هو جانبها السياسي، الذي يتمثل في إقامة حياة نيابية، يتمكن فيها الشعب من اختيار ممثليه الذين تتكون منهم "السلطة التشريعية" في البرلمان...الخ من الكلام الذي نقلناه عنه في أعلاه. راجعه للأهمية
يعني أن الشعب هو مالك السلطة ومصدرها، ويمارسها بشكل مباشر، أو غير مباشر؛ يعني عن طريق الاستفتاء والانتخابات العامة، أو عن طريق الهيئات التشريعية والتنفيذية والقضائية، لهذا قال القرضاوي: وهذه السلطة المنتخبة هي التي تملك التشريع للأمة... وبهذه السلطة المنتخبة يكون أمر الشعب في يد نفسه، وتصبح "الأمة مصدر السلطات"...(1/382)
ولكن القرضاوي تناقض لما قال: فالسلطة المنتخبة لا تملك التشريع فيما لم يأذن به الله.. ثم تناقض فقال: فهل الديمقراطية التي تتنادى بها شعوب العالم، والتي تكافح من أجلها جماهير غفيرة في الشرق والغرب... فأخذ القرضاوي يمدحها شرقياً وغرباً، ثم ينكر على من رد عليه بأنها كفر لا صلة لها بالإسلام، فقال عنهم سطحيين متعجلين! فمن هم السطحيون المتعجلون يا تُرى؟! هل هم الذين لم يتنازلوا عن الكتاب والسنة وفهم السلف لهما قيد أنملة، أم هم الذين وقفوا على أبواب الحكام صباح مساء، وحصلوا على النِّسب الكبيرة في المجالس النيابية؟! في مصر وفي الأردن وفي الكويت وفي اليمن وفي الجزائر وفي الباكستان وفي تركيا وغيرها
ومع ذلك فلم يحصل أنهم غيروا من مناهج الخصوم إلى مناهج إسلامية، بل ما زال القَسَم يدور في تلك المجالس على حفظ النظام واحترام القانون، بحجة الضرورة والإكراه، فبدل أن يغيروا، رأيناهم تغيروا وصاروا في الساحة مع الأعداء، بظنهم أنهم لا يريدوا ترك الساحة للأعداء، وأنهم مكرهون بما لا يطيقون، ومضطرون لارتكاب المحظور مع الرِّكاب للمصلحة العامة بزعمهم، فنبزوا وبهتوا كل من خالفهم، وكالوا لهم التهم بكل طاقاتهم ومصطلحاتهم وتلاعبهم بالقواعد الشرعية ووضعها في غير محلها، فقالوا بالتلبيس والتدليس والخداع: أنهم سطحيين متعجلين، وعملاء جواسيس مخابرات، لا يعلمون أبعد من خِرْقَةِ امرأة.. حتى صار من الرجعية عندهم: إعفاء اللحية، والتستر بالنقاب؟!(1/383)
فهم لم يغيروا، بل تغيروا، وأفسدوا، لم يصلحوا، بل وازداد الضرر بعد قولهم أنهم دخلوا ضرورة، فطاشت الأفكار المطروحة، واتضحت أنها ليست شورى، ولا مصلحة مرسلة، ولا فيها الأخذ بأخف الضررين لتحقيق مصالح كبرى، فكانت في واقعها وواقعهم مصالح غير مرجوة، وحقائق وهمية، ومفاسد مرتكبة، أعلاها: حكم الله ما يزال معطل حتى فيهم وفي مجتمعهم، والحكم ما زال يُدرك بما تراه الأغلبية، وشريعة الإسلام منسوخة، وعنصر الولاء والبراء الديني ضُيِّع، والوضوح العقدي مُيِّع، فالأدلة ضد ما يريدون، والعقل الصحيح خالف مواجيدهم وانتماءاتهم، فصاروا في انحدار، إلى ما ليس له قرار، بل وصاروا مثلهم بجلوسهم معهم في مجالسهم الوثنية لكسب أصواتهم وحراسة مقاعدهم البرلمانية، قال الله تعالى: { وقد نزَّل عليكم في الكتاب أنْ إذا سمعتم آيات الله يُكْفر بها ويُسْتَهزَأُ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم } النساء
هل نكفرهم؟؟!(1/384)
نحن هنا عندما عرضنا شيئاً من الديمقراطية، وظهر لنا مدى انحرافها عن الإسلام، وخطر المنادة بها بأجِنْدَة الإذاعات والصحف والدعايات، فلا يعني أننا نكفر كل من نادى بها بأي اصطلاح تمويهي انتهازي، سواء سماه بالحرية، أو بالتقدمية، أو بالديمقراطية، فالناس في هذا الزمان في واقع مأساوي خطير، فهم يعانون فراغاً فكرياً وعقائدياً، وهم مع ذلك متفاوتون فيما بينهم تفاوتاً عظيماً! فمنهم من ينادي بالديمقراطية كالببغاء ويظن أنه يحسن صنعاً، ويسدي جميلاً للإسلام وخدمة الدين، ويظن أنها والشورى واحد، وإن اختلفت الشكليات، ومنهم من هو من عتاة المجرمين المغرضين، فالناس مختلفة أحوالهم في الديمقراطية والمناداة بها وإليها، فنحن لا نكفر المُعَيَّن منهم إلا إذا توفرت فيه شروط التكفير، وانتفت موانعه، ونحن قد علمنا فيما سبق كتابته في أعلاه أن الديمقراطية منهج وثني كافر ملحد، غزا المسلمين في عقر دارهم على كل الأصعدة؛ سواء على صعيد كيان الدُّوَل، أو على صعيد نشأة الأفراد وعقائدهم، حتى صار المجتمع - إلا من رحم الله منهم- قد نفَذَ فيه الكثير من العقائد والأفكار المستوردة التي أحدثت الكثير من الخلل في العقائد والانحلال في التفكير والسلوك، بل والتحطيم في القيم الأخلاقية والإنسانية التي زعزعت الكثير من مقومات الخير في المجتمع، ومع ذلك فنحن لا نكفر أحداً إلا بالشرطين السابقين، ونقيم الحجة الرِّسالِيَّة على المخالف، وليس إقامة الحجة من كل أو أي أحد، فهي للعالِم الذي يستطيع أن يبين الحجة والبرهان للمخالف كبيان الشمس في رابعة النهار، فإذا لم يقبل المخالف الحجة، وشرح بالكفر صدراً، واطمأن قلبه بهذا الكفر، وسكنت نفسه إليه؛ فهذا هو الكافر الذي كفره العالِم بالبرهان والحجة..(1/385)
فنحن لما ذكرنا الديمقراطية! إنما ذكرناها على سبيل إبطالها ودحض مفتراياتها وشبهاتها، ليكون هَمّ الواحد منا محاربة الشرك والوثنية مهما كانت، وبأي لبس تحلَّت، وبأي صورة تجلَّت، فالديمقراطية وإن كانت وثنية جديدة! فهي لم تلهنا يوماً عن محاربة الوثنية القديمة، والتي ما زالت متوارثة عبر القرون تسري في عروق البشر جيلاً عن جيل، فهاهي الوثنية القديمة ظاهرة في عبادة القبور ودعاء من فيها مع الله ومن دون الله، والملايين في أمريكا وأوربا وأسيا وأفريقيا واستراليا ما زالوا يجثون على الرُّكَب أمام تماثيل المسيح والعذراء طالبين منهما البركة والمغفرة، وكذا آلهة الهند بالألوف، والشيوعيون يتخذون من قبر لينين مطافاً ومزاراً، وفي مصر ما زال يُذبح لأبي العباس، ويُنذر للسيد البدوي، ويُسجد لقبر الحسين الوهمي، ويُستغاث بإبراهيم الدسوقي، وفي اليمن لا يخفى لأحد ما يُصنع عند قبري العيدروس والهادي وغيرهما الكثير والكثير، وفي العراق يُستنجد بقبر علي والحسين الوهميين وغيرهما، وفي إيران فلا تذكر كم لهم من القبور والمشاهد والمزارات التي يُنادى بها ليل نهار، فنقول: هل تلاشت هذه الأوثان في عصر النهضة والتطور والديمقراطية، أم طال باعها، وعلا كعبها، بل والواقع يقول: لقد انحط الناس في العلوم الدينية مقابل علو الكعب في العلوم المادية؟! إنهم كما قال الله فيهم: { يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون } الروم(1/386)
أما نحن! فما علينا إلا بالسعي في توصيل الخلق إلى رحاب الحق، دون تنفير ولا تعسير، وما علينا إذا واصلنا الليل والنهار لهذا الباب واللباب، فالمخالف قد واصل أوقاته، وصرف أقواته، لنشر فلسفته وفتاته وعواره وبواره بجميع الوسائل واليافطات البراقة والمسميات الانتهازية، وبذل جهده ببذل الغالي بالنَّفْس والنَّفِيس، في سبيل مناهجه الخربة، سعياً بالجهد والجهيد في تمزيق شمل الدول الإسلامية عقائدياً وأخلاقياً ومادياً؛ خوفاً من امتدادها ويقظة أهلها، فنحن أولى منهم بالجهد، وأعلى منهم في القصد، وخاصة أننا في زمن ورث فيه المسلمون الشبهات، وأحاطت من حولهم الشهوات، وغرهم وساوس الشياطين الإنسية والجنية بأزياءَ برَّاقة مزخرفة كثيرة استُخدمت في الباطل والكفر، وانخدع بها من لا علم له ولا بصيرة، فانبثق عن ذلك الصراع الفكري والعقائدي والسياسي..
فنحن في غربة بين عامة الناس، وفي غربة داخل غربة بين الدعاة والمنتسبين للعلماء الذين فيهم ومنهم من لم يفهم الإسلام ومعانيه، فمدوا أيديهم وألسنتهم وسنان أقلامهم بتقوية الجوانب الموالية للديمقراطية بالدعاية الفكرية، ظناً منهم أنهم سوف يَصِلُون إلى الحكم يوماً، وفي هذه الحالة؛ علينا أن نعرِّف الحق، ونرحم الخلق، في وقت شرَّفنا الله تعالى بالانتساب لدينه، والمدافعة عن سنة نبيه، وبصَّرنا بالواجب الذي خلقنا من أجله..(1/387)
ولما نقول هذا الكلام! لا يعني أننا لا نعمل بالعلوم المادية، فالدين الإسلامي لا يمنع العباد في الإطِّلاع على قدرة الله في خلقه، فالله تعالى حثَّ على العلم بجميع أشكاله، ولكنه سبحانه نبه تنبيها يفقهه أولوا الألباب وأصحاب العقول التامة الزَّكِيَّة التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها، فنبَّه أن العلوم المادية لا تجلب الهداية بمفرها، فحث على استخدامها في تعميق روح الإيمان في نفوس طالبيها، لينفتح عليهم آيات دالة على قَدْرِه ووحدانيته، ويفهمون ما في العلوم المادية من الحِكم الدالة على عظمته وقدرته وحكمته، واختياره ورحمته، فما من شيء تقع عليه أبصارهم إلا رأوا لله عليهم فيه نعمة، ولهم فيه عبرة، فجعلوا من العلوم لقلوبهم نوراً ومرآةً يرون فيه حسناتهم وسيئاتهم، فكان العلم لهم تَذَكُّراً في أقوالهم، وتَفَكُّراً وعبراً في صمتهم، وفي كل شيء لهم آية تدل على أن الله واحد، لهذا قال الله سبحانه وتعالى: { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قاماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار } إلى آخر الآيات من سورة آل عمران
أي قنا عذاب النار بما قيضت لنا الأعمال التي تَفَكَّرْنا بها وعقلناها، وعملنا بها بما يرضيك لترضى بها عنا، هكذا يتفكرون وينطقون: ما خلق الله شيئاً عبثاً وباطلاً، بل { ليجزي الذين أساؤوا بما عمِلوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى } النجم أي بالعدل والحق، دون نقص فيه ولا عيب ولا عبث.. لهذا قال - صلى الله عليه وسلم - عن الآيات التي في آخر سورة آل عمران: ((ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها)) انظر تفسير ابن كثير(1/388)
الله أكبر! كم من العلماء في علم الفلك والرياضيات والفيزياء والكيمياء والطب والهندسة لا يعتبرون بمخلوقات الله الدالة على وحدانيته في ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته، فتراهم يعبدون غير الله، ويحكِّمون غير شرع الله، ولم يكتفوا بكل هذا؛ فتراهم يقولون إن الله ثالث ثلاثة، وعُزَيْر ابن الله، ومنهم من يعبد البقر والشجر والشمس والقمر، وهم من أكبر علماء الدنيا المادية، فهم وإن طالت أفكارهم؛ فهم لم يفهموا، وإن فهموا؛ فما علموا، لهذا لم تجد واحد منهم قد عمل، لكونهم نظروا إلى الدنيا بغير عبرة، فلم يعتبروا منها بها، فانطمست أبصار قلوبهم بقدر غفلاتهم وتغافلهم، فهم لم يهدموا الشرك، ولم يدحضوا مظاهر وأشكال وصور الباطل بعلومهم المادية، فهم كما قال الله تعالى عن أمثالهم: { وكَأَيِّن من آية في السَّموات والأرض يمرُّون عليها وهم عنها معرضون وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } يوسف
فاللهم وفِّقنا لما خلقتنا من أجله، إنك على ذلك قدير، وبالإجابة جدير..
محاربة التيار القرضاوي ونقضه
فأعود وأقول: بأن مقاومة مثل هذا التيار المستشري – المُسمى بغير اسمه – يكون سهلاً بأخذ لقاح يمنع عَدْوَاه، فنحن إن فقدنا شيئاً ما، فنحن إن وجدناه أخذناه! فبالعلم النافع والعمل الصالح (الذي هو الهدى ودين الحق) نستطيع أن نفرق بين الخير والشر، ونستطيع أن نحارب كل ما يفسد عقائدنا، أو يخالفها، ونستطيع أن نرفض كل ما يطلق الشهوات ويكشف العورات، ويدعوا إلى ارتكاب المحرمات، ونستطيع التخلص من كل ما يضيع العفاف ويهتك الأعراض، فالهداية الإلهية في العقيدة والشريعة والأخلاق والحكم؛ فتؤخذ من الإسلام وحده لا غير..(1/389)
فبالعلم النافع والعمل الصالح نستطيع أن ننأى عن كل فكر أو تيار مخالف لدين الإسلام، وإنْ تسربل بِسِرْبَالِ الإسلام وانتسب إليه. وهذا الكلام لمن أدرك أنَّ المنهج الإسلامي منهج رباني لا يأتيه الباطل من بين يده ولا من خلفه، لأنه شريعة الله العليم الخبير التي وضعها لعباده؛ فإذا ساروا عليها سعدوا وفازوا وأفلحوا وانتصروا، وإذا تركوها ذلوا وضعفوا وهانوا، ((.. وجُعل الذل الصغار لمن خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم.))
فهذا الكلام ليس فيه يأس أبداً، بل فيه تحقيق الثِّقة الكاملة بتحقيق وعد الله تعالى في هذه الحياة؛ بحيث جعل العلو لمن وافق أمره سبحانه، والذل والصغار لمن خالفه، فالذي يعمل لهذا الدين القويم؛ سوف يُيَسِّر الله له أسباب النصر، وبالدين وحده تقوم الخلافة الراشدة على منهج النبوة..(1/390)
فالأمم ما تداعت علينا إلا من أجل تغييب الإسلام من واقعنا، وهذا لم يجعل الثقة بالله تتراجع في نفوس الثابتين الملتزمين بشرع الله، فهم لم ولن يتقاعسوا عن خدمة دينهم الحق، وهم لا يزالون يعملون بحسب استطاعتهم، حتى يُنْشَرَ دين الله في كل بيت مدر ووبر، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعزِّ عزيز، أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر)) وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله زوى لِيَ الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوِيَ لي منها)) وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً، فيكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت)) السلسلة الصحيحة للألباني 3و2و5
قال الألباني رحمه الله: (ومما لا شك فيه أن تحقيق هذا الانتشار يستلزم أن يعود المسلمون أقوياء في معنوياتهم ومادياتهم وسلاحهم حتى يستطيعوا أن يتغلبوا على قوى الكفر والطغيان..) اهـ
والمقصود من هذا الكلام؛ أننا نريد أمة إسلامية عاملة نشيطة تؤمن بالنصر إذا ما نصرت دينها، وتقوم بتحقيق منهج العبودية لله عز وجل في أرضه، وإزالة كل طاغوت يُعبد من دونه، وتجعل المنطلق الأول في دعوتها إلى الله هو الولاء لكتاب ربها تبارك وتعالى وسنة نبيها - صلى الله عليه وسلم -، بعيدة كل البعد عن التأثر بالأوضاع السياسية القائمة، والتيارات الفكرية المعاصرة، والحضارات المادية الغازية، حتى يكون الدين كله لله..(1/391)
فالتأثر الحقيقي لكل هذه الأوضاع والتيارات والحضارات يقود مهامه: التوجيه من العلماء الربانيين الموهوبين المستلهمين للأمور الطارئة من المنبع الوحيد؛ منبع الوحيين الشريفين المشرقين، فيحددون منهما المبادئ والأهداف والوسائل والمناهج المبنية على العلم والمعرفة والتجربة والدراسة المستوعبة، فنعم المنبع، ونعم السقاية، ونعم الإرواء، ونعم التكيُّف والتخرُّج عليهما، والله ولي التوفيق..
فالأمة فيها طاقات كبيرة كاملة في كافة المستويات، ففيها الروح الجهادِيَّة المتهيِّئَة، وفيها الروح المعنوية المرتفعة، وفيها حب الاستشهاد في سبيل الله، بل وتعتبر الجهاد طريقاً إلى الشرف والكرامة، والموت في سبيل الله أمنية سامية تهفو إليها النفوس، فكل شيء في الأمة الإسلامية جاهز ما إنْ تمسكت بمنهاج الله الذي يُكَوِّن أمة جبارة تبذل ولا تطلب الثمن الدنيوي الرخيص، تطلب النصر بالجهاد، والجنة بالشهادة.. { وَمَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِنْدِ الله } آل عمران
وهذا المنهج الرباني هو الوحيد الذي يملك رصيد التجربة؛ لكونه رباني مرسوم ومقصود، فالمسلمون على مر العصور كلما تمسكوا بالمنهج الإلهي انتصروا وعزوا وتغلبوا على عدوهم مهما بلغت قوة العدو المادية، وكلَّما تركوا المنهج الرباني خسروا وذلوا مهما بلغت قوتهم وعدتهم وعددهم..
فالمتمسك بالمنهج الرباني هو جندي من الجنود الذين أعزهم الله بعونٍ منه سبحانه وتعالى، فهم شجعان بأخوَّتِهم العظيمة، التي تجلب لهم الغايات النبيلة الكريمة، وهم أعز مَنْ على الأرض؛ لكونهم لا يسجدون إلا لله، لا إلى صنم ولا إلى ضريح ولا إلى فرقة مُفَارِقَة، ولا يَنْحَنُون إلى بشر، ولا إلى جعجعة حزب من الأحزاب المختلفة المُخَالِفَة، ولا إلى تيار سموه أهله بغير اسمه، ولا.. ولا.. الخ.(1/392)
فالمطلوب من المسلمين أن يتوحَّدُوا تحت راية المنهج الرباني بميزانه وضوابطه، ويستعدُّوا بمضاعفة القوة البشرية الجهادِيَّة، ويضاعفوا الإمكانات المادية، ويَسْتَغِلُّوا الثروات المختلفة الهائلة باستغلال القدرات البشرية الإسلامية المبدعة الموجودة في العالم الإسلامي، وتُوَحَّد طاقاتهم في المعركة المقبلة مع الكفار وغيرهم من أعداء الإسلام، فالمسلمون أقوياء بدينهم الحقيقي الصافي الذي لا يقبل أي دخيل عليه، وهم لا شيء إذا تركوا هذا الدين وأخذوا بالدخيل عليه من بدع وتيارات مبتدعة..
فاستيقظوا أيها المسلمون! ولتستيقظ روح الإسلام الحقيقي في نفوسكم الذي يجري في عرقكم، فمتى استيقظت روح الإسلام في النفوس؛ فسوف ترون عياناً أن قوة الكفار في هذا الزمان ما بدأت إلا في غياب الإسلام الحقيقي وجنده..
فوالله ما انتعش الكفار وعربدوا في أرض الله إلا في غياب تطبيق منهج الله، وما نظر الكفار إلى مستقبلهم الذي هم يسيرون على تحقيقه اليوم إلا لما رأوا الروح الإسلامية خامدة، وما رفع الكفار رؤوسهم وتجرؤوا على دين الإسلام ونبي الإسلام إلا عندما انحنت رقابنا، وما انهزم المسلمون في المعارك إلاَّ من بعد إبعادهم الإسلام الحقيقي عن المعركة، وأخذوا رايات بشرية منحرفة عاجزة ضالة مبتعدة عن الله، ومخالفة عن منهج الله، ومعادية للدعاة إلى الله، وتدعي أنها على منهج الله ظلماً وزوراً..
فأقول: مهما جعجع الكفار، وأخافوا العالم من مخترعاتهم المدمِّرة؛ فلا نفوذ لهم لقوم جعلوا منهج الله هو الطريق إلى الفوز والنصر، وجعلوا الإسلام الصافي يأخذ دوره في الحكم والقيادة، فيكون الإسلام الذي بُعث به النبي الإمام - صلى الله عليه وسلم - هو القائد لدفة الأمور إلى الاتجاه الصحيح، فالله من وراء الكفار وما يجعجعون محيط، وهو سبحانه نعم المولى ونعم النصير..(1/393)
وأختم هذا الفصل بقولي: إن علينا معاشر المسلمين! أن نغرس في نفوسنا حب المنهج الإلهي الذي لا يقبل الزيادة، ولا يجوز فيه النقص، ونقوم بهذا المنهج كما قام به الأوائل المنتصرون؛ فنعد به الأجيال القادمة، فلا يجوز لنا أن نضيع أوقاتنا وأقواتنا على أعتاب تيارات لا تسمن ولا تغني من جوع، فالتيارات المخالفة للمنهج الرباني في ساحات المسلمين كثيرة لا تكاد تُحصى، وهي تيارات تَيْئِيسِيَّة تفرض نفسها على الكثير من المسلمين، وتُعَيِّش الأمة الإسلامية حياة الذل والهوان، وإن كان في ظاهرها تبدوا للعليل طيبة وحسنة. فلا تُتَصَوَّر سعادة ولا هناءة في البعد عن دين الله، ولذلك نرى الناس ينتقلون من كرب إلى شقاء، ومن تعاسة إلى نكد كلما ازدادوا بعداً عن منهج حياتهم وصلاحهم، فالأمة الإسلامية بهذه التيارات تعيش مرارة الهزيمة على أيدي أناس حقيقتهم أنهم من أجبن الأمم وأذلهم وأحقرهم وهم الوثنيون من يهود ونصارى وغيرهم من عَبَدَة النيران والأزلام..
فعلينا جميعاً أن نحقق توحيد الأمة تحت راية المنهج السلفي الرباني الجهادي، وهذا التوحيد لا يمكن أن يكون من خلال التَّحركات السياسية الحركية التي تستمد قوانينها من دساتير غير إسلامية مستوردة من الشرق والغرب، خالطها الكثير من الغفلات، وتغلب عليها الكثير من الأوهام، وإنما تستمد قوانينها السياسية والحركية من القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة والمدعمة من فهم السلف الصالح الذين بنوا علمهم على هذا الأساس القوي وعياً وفهماً وتطبيقاً لا يقبل الباطل ولا الرأي العاطل..(1/394)
وإلاَّ فالحركات السياسية قد تَحَرَّكَ بها أقوام كثيرون، وأحزاب متعددون، ولكنهم فشلوا ولم ينالوا شيئاً، فهم لا السياسة الإسلامية طبقوا، ولا القيادة تحصَّلوا، ولا الباطل كسروا، والواقع خير شاهد.. ومن أنكر الواقع؛ فهو إما أعمى البصر والبصيرة معاً، أو أنه يعيش في هزيمة نفسية أصداؤها تتردد في نفسه، فهو يحاول أن يخفيها عن أعين الناس ولو على استحياء..
فعلينا أن ننهج المنهج الرباني السلفي وننفذه فور معرفته، ونعمل به فور تلقيه، ولا يكون هذا المنهج زاداً لمجرد الثقافة والإطلاع، أو يكون إضافة إلى حصيلة من القضايا العلمية والفقهية لتملأ الجعبة لغرض الاستكثار أو لغرض التذوق بكثرة المتاع العقلي..
وإنما الخير في العمل به في حياة الواقع، والحركة به في تغيير سير الحياة، فهو منهج لا يقبل الإغلاق عليه في بطون الكتب، أو داخل الأذهان، بل فيه المعرفة المنشئة للعمل، فهو منهج إلهي معجز منزل على خير البشر، خالص مبارك ميسر صادق منقول بالتواتر جيلاً عن جيل، فيحل كل المشكلات في كل الأزمنة والأماكن، ويقيم محلها التوازن التام بين جميع جوانب الحياة المختلفة؛ في الجانب العقدي السليم الصحيح، والنظام الروحي المتصل بربه، والأخلاقي البارز، والاجتماعي المُصاغ المتكامل، والاقتصادي المتكامل المتكافل المتعاون، والسياسي المعتمد على الشورى والعدل والمساواة وإحقاق الحق والعدل وإبطال الباطل..(1/395)
وكل هذا لا تستطيع تجاهله طبيعة النفس الإنسانية، التي قبلت هذا الدين عندما أبرز الدعاة الأوائل هذا التوازن بإيجابية علمية اعتمدت وارتكزت على الوحيين الشريفين كمنهج يسيرون به، ويقومون عليه بكل أسسه وأصوله على يقين يظهر فيه للبصير الصدق من المَيْن، كما يظهر الصبح لذي عينين، فهم مجتمعون على المنقول، ويردون تنازعهم إلى الله وإلى الرسول، فعندئذ لا يمكن أن يكون كلامهم إلا حقاً، واجتماعهم إلا صدقاً، فصوابهم في أي قضية قد اعتمد على الأدلة الشرعية وبالقواعد المرعية، فأخذوا المأثور عن الرسول، واعتبروه من أعلى الأصول، لا تأخذهم في هذا الأخذ لومة لائم، ولا تصده صيحة متعالم، بل الكلام بالحق ولو في أحبِّ الناس إليه.
فمهما تغيرت الأماكن، وتقدمت الأزمان، فالمنهج الرباني لا يزال مناره يضيء لكل الأجيال نحو المجد والرفعة والقيادة في الدنيا، وحسن ثواب الآخرة، ومهما تقدمت الأيام وتغيرت الأحوال؛ فالمنهج الرباني هو الملاذ في الرخاء والأزمات؛ سواء كانت فكرية أو اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو روحية أو خلقية.. على نحو يثير الوجدان ويحقق الاقتناع واليقين بهذا المنهج الرباني، ويزيل بقوته الملزمة الخرافة والدجل والانحراف، ويصد بسوره الشامخ أفكار وتيارات الموتورين وما يريدون، ويفضح بإعجازه تلبيس وتدليس المبتدعة أهل التشكيك والزيادة والتنقيص..
وفي الحقيقة؛ أن هذا المنهج وتوضيحه للناس يحتاج إلى عناية وجهد من الدعاة المخلصين، فعليهم أولاً أن يقوموا بالاهتمام به وبموضوعه، لكونه هو الأساس الذي انطلق منه السلف الصالح على مر العصور، ثم من الجدير بهم أن يتعرَّفوا على أبعاد هذا المنهج، حتى تتضح حقيقته في أذهانهم، ويَصْفُوا في أفكارهم، لئلاَّ يبقى في تصورهم جوانب غامضة متداخلة باهتة أو سطحية تتجنى أو تضر بالدعوة ومآلها.. انظر رسالتي "ملاحظات على كتاب الرسائل الشمولية" للحميدي والأخرى "جواب على أسئلة في المنهج"(1/396)
ثم أنني أقول: إنه لا ينكر أو يجادل في منهج السلف الصالح – الصالح لكل مكان وزمان – إلا من سفه نفسه، وغبش بصره، وعميت بصيرته، وظلم عقله، وتجنى على الحقيقة، وتنكر للواقع.. بل والخوف عليه إن خالف أو جادل أو أنكر بأن لا يكون له حظ في الإسلام، فطاعة الله والرسول فرضٌ وحتمٌ ولزمٌ على الناس في كل عصر وفي كل مصر.. { قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين } آل عمران فمنهج السلف الصالح منهج أصيل، يقف على قواعد متينة، وهيكل حديدي، وصرح جلاميدي يرتكز على نور القرآن والسنة الصحيحة، مضمون البقاء، ومصون بالحفظ، ونقي من الدخيل والشوائب، { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } النساء
أما منهج المبتدعة، وأصحاب التيارات المخترعة؛ فلا خير فيهم، فهم أهل ضلالات لا يفرقون بين الصحيح والسقيم، ولا بين المعوج والقويم، فمنقولاتهم يأثرونها بغير إسناد، ومع ذلك فهي عندهم عليها الاعتماد، فلا يعرفون في مأثوراتهم حقاً ولا باطلاً، ولا حالياً من عاطلٍ، فهو هيكل من وَرَق لا يشك عاقل أنه سوف يتقوض بأقل من نسمة يطلقها سلفي من فمه بدليل فيه العصمة؛ من كتاب وسنة صحيحة، فمهما حاول أصحاب التيارات والمبتدعة التغيير بالتأويل، أو طمعوا التبديل بالتزييف، أو أرادوا النقص والازدياد ليضلوا العباد؛ فالله عليهم بالمرصاد، بأنْ أقام عليهم جهابذة ونقاد، أهل هدى وسداد، فدحروهم بالبيان، وفرقوا بين الحق والبهتان، وانتدبهم الله لحفظ السنة ومعاني القرآن، من الزيادة في ذلك والنقصان.. وللزيادة في البيان، انظر فتاوى شيخ الإسلام 1/7 الذي نقض هناك شبه المشككة، بالحجج الساطعة، وبالنقاش العلمي السليم، ففك الشبه عن المخدوعين، وبين زغلها للمغفلين، وفضح فئة المغرضين وضلل سعيهم وأفعالهم وأقوالهم بتوفيقٍ من رب العالمين..(1/397)
ونحن هنا نصفُّ بصفِّ شيخ الإسلام الإمام، فننقض شبه مثل هؤلاء الذين يلبسون العمائم، ويتزينون بزي الإسلام، ويتسربلون بسربال علمائه، ويقولون أنهم تخرجوا من معاهد أقيمت للدراسات الإسلامية، وأنهم أهل صحوة، وأهل علم بالواقع، وأهل تجميع للكلمة، وهم في الحقيقة أهل سوء مقصد، وسوء طوية، فهم لا يريدون للإسلام عزاً ولا كياناً ولا تقدماً، ولا لأحكامه تقريراً ولا تثبيتاً، وإنما يريدون لمنهجهم وانتمائهم وطرقهم العز والتمكين والكيان والتقدم والتقرير والثبات، فكانت وسيلتهم إلى غاية انحراف كبير ما الله به عليم، فهم بدلاً من أنْ ينقدوا تصرفات المبتدعة الخاطئة، فأخذوا يوجهون إليهم ضروب التَّبَعِيَّة والاحترام بحجة الحفاظ على الهوية الإسلامية، وتجميع المسلمين بفرقهم وبدعهم تحت سقف واحد بغير التوجيهات الإسلامية الرشيدة، والمعاني الإسلامية السليمة، حتى غدا الانحراف العقدي والمنهجي شيئاً مألوفاً، بل ومستحسناً على المبدأ الميكافيلي الكافر الهدام (الغاية تبرر الوسيلة)..
هذا المبدأ الهدام – الغاية تبرر الوسيلة – لا شك أنه يبلد الإحساس بالغلط، ويصم الآذان عن سماع الحق، ويعمي البصيرة عن رؤية الخطأ، بل ويشلّ التفكير، ويعطل العقل السليم، فيجعل متبعه معطل للعقل كأنه يتحرك حركة القطيع، فهو لا يسمع ولا ينظر ولا يرى ولا يفكر إلا من مسار واحد، ليس عنده قبول من أي مصدر يخالف مصدره الهدام، فهو لا يفرح بالنقد البناء، ولا يرتاح للمنهج الهادف الموضوعي: رحم الله من أهدى إلي عيوبي، فدلني إلى التقدم إلى الأمام..
هذا المبدأ الهدام – الغاية تبرر الوسيلة – مبدأ جعل المعارض يسد أذنيه عن سماع النقد، فصار الإصرار منه عمل عادي لا يؤاخذ عليه، ففسح له المجال ببث سمّه وشرّه، فانعطف الناس إلى طريقه وهو يدعوهم إلى تياره من خلف ستاره، وبإطلاقه شعارات براقة، وعناوين مقنعة محمّسة؛ يظن الناس أنها تصح شرعاً..(1/398)
فنحن هنا سوف نهدم قصورهم بحول الله، ونبيِّن قصور بيئتهم التي ما زالوا يحاولون تقرير وتثبيت أحكامهم بتفكيرهم السطحي، وميولهم الحزبي، وطريقهم الخرافي المنخلع عن جماعة المسلمين، والمنحل عن الإسلام، والبعيد كل البعد عن الذي أنزله الله رب العالمين من قرآن وسنة..
وسوف نصون برعاية الله وعنايته هذا الإسلام بقوة الإسلام؛ الذي به تُحطم كل العقبات، وبه نصمد أمام كل العاديات، فنبدد كل الظلمات والانحرافات والضلالات { والله غالبٌ على أمره } يوسف
وستبوء بفضل الله كل المحاولات بالإخفاق، وسوف تُكشف كل المخططات التي كيد بها الإسلام والمسلمين بحول الله وقوته..
وسوف يظهر الإسلام الحقيقي صافياً بإذن الله، وسوف يعم ويدوِّخ ويذل ويفضح جميع الطرق والفرق – حتى الغير إسلامية – وسوف يرون أنه لا سبيل إلى مناصبته مهما أنفقوا من الأموال، ومهما قدموا العيال.. { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يُغلبون } الأنفال
فيا دعاة الإسلام! لكي يتحقق التمكين في الأرض، والفوز يوم العرض؛ يجب علينا أن نوالي في عملنا بالمصدرين المشرقين؛ القرآن الكريم والسنة المطهرة، فلا يكون أحد منكم فريسة للمخادعين، فالإسلام مربي على الفهم والتبصير والحذر والوعي المرتبط برسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فلا يقبل ولا يتأثر عقله بالمبتدعة، ولا يقبل المسألة وأمور الدين إلا بالدليل، والله الهادي إلى سواء السبيل..
وعلينا أن نتعاون على ما يحقق الخير والاستقامة على طريق الله تعالى؛ فندعو الناس بالحسنى، ونجذبهم إلى الإسلام الصافي بالبيان، ونحذرهم من دعوات الضلال التي تسربت في صفوف المسلمين وهم غافلون، ونحذرهم من الوقوع في المنكرات؛ بدعوتهم إلى القيم الإسلامية، فعوامل الإغراء كثيرة ومثيرة، والنفس البشرية ضعيفة ومسكينة إلا من عصمه الله وأيده..(1/399)
وفي نهاية هذا القسم من المجلد الأول؛ أحمد الله تعالى الذي مَكَّن لي توضيح بعض الشيء للقراء الكرام، ثم أشكر كل من قرأ هذا البحث ثم أهدى لي خطأً، أو أخطاءً، أو نفعني بفائدة أو مرجع، وقد أحسن الراجز لما قال:
وإن تجدوا عيباً فسدوا الخللَ فَجَلَّ من لا عيب فيه وعلا
فأنا كغيري لا أعتقد أني قد بلغت الكمال في بحثي هذا؛ لقلة علمي، وقلة مراجعي، ولكني رجوت الله أن يتقبل مني عملي؛ الذي أردت فيه توضيح الحق للناس، وتفريغ بعض أوقاتي لما فيها رضا الله، وخدمة دينه، وأرجو من الله تعالى أن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم، وأن يثقل به ميزان حسناتي يوم الدين، وأن يهدي به من ضل من المسلمين، أو اغتر بمنهج غير منهج سيد المرسلين، وآخر دعوانا: أن الحمد لله رب العالمين..
وصلى الله على خير البشر خليلي محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه إلى يوم الدين..
كتبه أبو ماجد أحمد بن عبد القادر تركستاني
ويلي هذا القسم: القسم الرابع؛ وفيه موقف القرضاوي مع الرافضة
الفهارس
الصفحة الموضوع
تمهيد
بين يدي القسم الثالث
اليهود والنصارى في صفحات
المسيح الدجال الأعور الضال
من أين استقى النصارى عقيدة التثليث؟؟؟
الأناجيل من تأليف شيوخ النصارى
أناجيل غير مُعترف بها
التصريح باسم النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - في الأناجيل والتلميح
الإنجيل الذي يقرر ألوهية المسيح
المجامع النصرانية المدمرة لدين المسيح - عليه السلام - والاختلاف في الأقانيم
النصارى قبل المجامع الجائرة كانوا على التوحيد
الأناجيل لا تدعو إلى إلهية المسيح وإثبات ذلك عن مؤرخيهم
(ثالوث) في تفسير المنار وفي الظِّلال
من كان يُنكر التثليث من والتجسيد والتأليه من الفرق النصرانية
فِرَق جديدة في أمريكا انشقت عن الكنيسة ترفض التثليث
ما قاله الله تعالى عن المجامع النصرانية الجائرة
كلام ابن قيم الجوزيَّة أنَّ سبب انحراف النصارى هم اليهود(1/400)
كلام ابن القيم في المجامع النصرانية الجائرة
نقض كلام القرضاوي في أن اليهود والنصارى مسلمين بالحضارة والثقافة
نفي المسيح - عليه السلام - إلهية نفسه ومعنى الأب أو الآب في كتبهم
معنى ابن الله وأولاد الله والأب والآب من كتب اليهود والنصارى
مناقشة القرضاوي في محاولته التقريب بين النقيضين
عقيدة الصوفية تشاكل العقائد اليهودية والنصرانية وأكثر
الصليبيون وأعوانهم في تصفيتهم الدموية للمسلمين سماهم القرضاوي إخوانه
خطوات مشتركة ضد الإسلام من الوثنيين والوثنيات تعاليمها مشتركة
الغزو التتاري والتصفية الدموية في أحداث 656هـ والذين ورثوه من الشيوعيين
العداوة بين الفرس والروم تحولت بمجموعها على المسلمين والسبب في ذلك
الرؤوس البشرية التي انفصلت عن أجسادها بلا حرب ولا ثمن
لا عبرة بأن اليهود والنصارى أهل كتاب، فهم أهل كتاب محرف
طريق النصر على أعداء الله
تساهل القرضاوي مع اليهود أهل المكر والخديعة
التلمود هو الجهاز الأكبر في الحكم والشريان النابض عند اليهود في العالم
جهات نظر اليهود والنصارى المتباينة تجاه التلمود عبر العصور
الرد على القرضاوي وأصوله المشتركة بينه وبين اليهود والنصارى
مناقشة القرضاوي في زعمه أن الخلاف بيننا وبين اليهود لم يكن في العقيدة وإنما من أجل الأرض، والنقل من أسفارهم أنَّ اغتصاب الأرض من عقيدتهم وخطر هذه العقيدة
اليهود خطر مستمر غفل عنه المسلمون وذكر أعمالهم المشينة من أسفارهم
لماذا أمريكا مع اليهود واتحادها معها، وهل تغافل القرضاوي عن حقدهم المشترك كما تغافل النصارى عن حقد اليهود لهم في كتبهم في بروتوكولاتهم
التوراة
ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في التوراة، وحال التوراة الحالية وشهادة أسفارهم أنها محرفة
عقيدة اليهود في الله تعالى من أسفارهم وتلمودهم
في الأسفار كلمات لم تُحرف وتوافق عقيدة الأنبياء وتخالف عقيدتهم الحالية في الله(1/401)
عقيدة اليهود الفاسدة في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وسبهم في كتبهم
عقيدة اليهود في النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -
النبي المنتظر عند اليهود
عقيدة اليهود في الخلق
انتهاك اليهود لتعاليم توراتهم المحرفة في حرمانية الزنى واللواط بالمرأة
عقيدة اليهود في أرض الميعاد وأرض فلسطين
نبوخذ نصر والبابليين الآشوريين وتدمير بلاد إسرائيل
ما هو سر وحشية اليهود وبربريتهم وثقافتهم العنصرية
نصوص مروعة من كتبهم في العنصرية
الجذور الدموية والمجازر اليهودية
نظرة اليهود للبلاد المجاورة
الدعم الأمريكي والمحافظون الجدد
تصريح الرئيس الأمريكي عن حربه ضد العراق بأنها حرب الرب المقدسة
ركائز الفكر الإسرائيلي
دين محرف لا فائدة فيه ولا عقل وشهادة أهله بتحريفه
خرافات اليهود
المبتدعة شاكلوا اليهود والنصارى في التحريف والتبديل وضياع الدين
الرد على شبهة أن اليهود والنصارى رواد الحضارة والاكتشافات الحديثة
السد الذي بيننا وبينهم سقط أو كاد فأين قيمة التيار القرضاوي الوسطي
واجب الرد على هذا التيار المسمى بغير اسمه
منهج متطرف يضم اليهود والنصارى إليه
الأمر ليس جديداً في دمج الأديان والتقريب بينها
ليس جديداً ترحم القرضاوي على بابا الفاتيكان بل له أصول عند الجماعات
دعوة التقارب بين المسلمين والكفار توجب ردة وبيان ذلك
هل نحاور اليهود والنصارى
تجرؤ الكفار على دين الإسلام وخاتم الأنبياء في الدنمرك وأمريكا والفاتيكان وغيرها والسر الحقيقي وراء الحملات التشويهية
تجاهل أبا الفاتيكان (بندكتس السادس عشر)تاريخ الكنيسة في عصر الظلمات
فضح الباباوات وتراجمهم في كتب النصارى
نقض شبهة أن الإسلام انتشر بالسيف ويحبذ العنف
اللجوء إلى الكذب والتلاعب في النصوص وتحريفها لبث الشبه في الدين الإسلامي
لم يؤمر الناس اعتناق الإسلام قسراً ونقض هذه الفرية
شرعة القتال في الإسلام والنصرانية
الجهاد في الإسلام
المجاهد في سبيل الله(1/402)
الجهاد أمر متقدم في الأمم والحروب ظاهرة قديمة والأدلة في ذلك
حروب الجاهلية وتشريع الجهاد في الإسلام
قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمضر وبطونها وسبب ذلك
نقاط هامة في خلاصة البحث عن اليهود والنصارى
القرضاوي وطاغوت الديمقراطية
سمات الإسلام وخصائصه
معنى الديمقراطية
الانتخابات
الليبرالية والرأسمالية والبروليتاريا والبرجوازية
موقف الإسلام من الديمقراطية
نقطة بداية الديمقراطية
مناقشة القرضاوي في تبنيه للديمقراطية
نقض الفكر عند القرضاوي
القرضاوي متبع لفكر قادة الإخوان المسلمون في الديمقراطية
المشاركة في البرلمانات
جمال سلطان ورده على القرضاوي
التعددية الحزبية يقر بها القرضاوي ويشجعها
محمد عمارة وكمال أبو النصر وكمال أبو المجد والهضيبي وأحمد إسلام وأحمد ياسين وتبنيهم للديمقراطية
موقف الإسلام من التعددية الحزبية ومعالجته للظاهرة الحزبية
الديمقراطية فكرة كافرة بعيدة عن مقاصد الإسلام
هل في الديمقراطية شورى؟!
أهل الحل والعقد
البيعة
الانتخابات
نقض قول القرضاوي لمخالفيه: متعجلين سطحيين وكسره لحواجز الولاء والبراء
طلب الإمارة
لَمَّا حيل بينهم وبين الوصول إلى الإمارة
قاعدة في الحسبة (وظيفة الحكومة الإسلامية)
الآمر والناهي في الوظيفة الإسلامية
تنصيب الأئمة وعدم شق عصا الطاعة
الذي نراه في ساحات المسلمين تحت ظل الديمقراطية الكافرة
إلى المتحيرة وفك الشبه التي حامت حولهم تجاه الديمقراطية
هل نكفر الديمقراطيين؟؟!
محاربة التيار القرضاوي ونقضه في خاتمة البحث
ثم القسم الرابع وفيه: موقف القرضاوي من الرَّافضة(1/403)