رسالة في شرح قاعدة
كل إحداث في الدين فهو رد
( والمسماة )
نصر الشرعة
بقمع البدعة
تأليف
الفقير إلى عفو ربه العلي القدير
وليد بن راشد السعيدان
غفر الله له ولوالديه ولجميع المسلمين
القسم الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ثم أما بعد ، فأنني كنت ولازلت حريصا على تخصيص القواعد المهمة في الشريعة بشروح خاصة مع الإكثار من الاستدلال لها والتفريع عليها حتى تفهم فهما سليما وقد شرحت قاعدة التفريق بين أصل العبادة ووصفها ، وشرحت أيضا قاعدة افتقار الأحكام الشرعية للأدلة الصحيحة الصريحة وقاعدة وجوب البقاء على الأصل حتى يرد الناقل ، وقاعدة وجوب الجمع بين الأدلة .(1/1)
وإتمام لهذه السلسلة أحببت أن أشرح هذه القاعدة أعني قاعدة ( كل أحداث في الدين فهو رد ) فإنها أصل من أصل هذه الشريعة المباركة زادها الله شرفا ورفعة ، وسوف يكون الشرح على الطريقة المعتادة في شروحنا للقواعد نذكر نص القاعدة أولا ، ثم نشرحها شرحا إفراديا ثم نشرحها شرحا إجماليا ثم نذكر ما حضرنا مما يؤيدها من الأدلة من الكتاب والسنة وكلام السلف ثم نستطرد بعد ذلك في ذكر فروعها ، وقد جمعت من فروعها ، قرابة مائتين وخمسة وأربعين فرعا وقد تزيد إن شاء الله تعالى لتكون جامعة لكل مسائل هذا الباب بحول الله تعالى وقوته ، وأسأله جل وعلا أن ينفع بها النفع العام و الخاص وأن ينزل فيها البركة تلو البركة وأن يشرح لها الصدور ويفتح فيها الأفهام ، وأن يجعلها رسالة خالصة لوجهه الكريم ، وأشهد الله تعالى ومن حضرني من الملائكة ومن يقرأ ها من المسلمين أنها وقف لله تعالى لا أرجو ثوابها من أحد من خلقه البتة ، وإنما أرجو ثوابها منه جل وعلا ، وقد أجزت لكل مسلم طباعتها وتوزيعها مجانا من غير احتفاظ بحقوق الطبع ، فإن هذا من العلم المبذول بلا أجر في مقابل بذله لأنه حق للجميع وقد خصنا الله تعالى به لنبذله لعباده المحتاجين له بلا ثمن ، لا نتأكل به نعوذ بالله من ذلك ، والمقصود أنها وقف لله تعالى وقد أجزت طباعتها ولو بغير اسم مؤلفها ، لأن المهم عندي هو وصول هذا الحق لإخواني المسلمين ، وهلم معي الآن إلى مقصود الرسالة فأقول وبالله التوفيق ومنه استمد الفضل والعون :
يقول العبد الفقير الحقير الذليل لربه جل وعلا : اعلم أيها الطالب رحمك الله تعالى أن الكلام على هذه القاعدة مفصل في مسائل :(1/2)
المسألة الأولى : في معناها الإفرادي , فقوله " كل " هذه من أقوى صيغ العموم وقد اتفق عامة الأصوليين فيما نعلم أنها من جملة صيغ العموم , وقد تقرر في الأصول أن الأصل هو البقاء على العموم حتى يرد الناقل , فالمحكوم عليه في هذه القاعدة كلية عامة لا يشذ عنها شيء أي أنه يدخل تحتها كل إحداث في الدين فلا تجد أبدا الإحداث في الدين إلا وهو محكوم عليه بمقتضى هذه القاعدة ومن خصص عمومها فإنه مطالب بالدليل الشرعي الصحيح الصريح لأنه قد تقرر في الأصول أن الأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل , وسيأتي مزيد بيان وتفصيل لهذا الأمر إن شاء الله تعالى في ثنايا الكلام على هذه القاعدة إجمالا , والمهم أن تعرف هنا أن قولنا " كل " يدخل تحته كل إحداث لأنها من صيغ العموم .
قوله " إحداث " : اعلم أن للإحداث معاني ولكن الذي نقصده هنا هو الابتداء مقيد بقولنا " في الدين " أي أمور التعبدات إيجابا أو استحبابا , وهذا القيد أخرج ما كان من قبيل أمور الدنيا , فإن الإحداث ليس مذموما , بل الإسلام قد فتح الباب في أمور الدنيا لقبول جميع المخترعات وغيرها من أمور التقدم ما لم تكن تتعارض مع شيء من النصوص , وإلا فالأصل في الإحداث في أمور الدنيا الجواز إلا فيما خالف الدليل , والكلام هنا على الإحداث في أمور الدين أي المسائل التي لها تعلق بالعبادة , أي التي يقصد بها فاعلها المبالغة في التعبد , فهما أمران :(1/3)
أمور الدين , وأمور الدنيا , فالأصل في الإحداث في أمور الدين المنع إلا فيما ورد به النص , والأصل في الإحداث في أمور الدنيا الجواز إلا فيما خالف النص فالكلام هنا في هذه القاعدة إنما هو على الإحداث في أمور الدين , فالإسلام لا يمنع المخترعات الحديثة والاستفادة منها , ولا من استعمال التقنية الحديثة بمختلف مجالاتها وأشكالها لكن فيما لم يخالف الدليل , وهذه حقيقة الوسطية وهذه الوسطية مبدؤها قوله جل وعلا " وكذلك جعلناكم أمة وسطا " فإن من الناس من يفتح باب الإحداث على مصراعيه سواء في أمور الدنيا أو الدين ولا فرق عنده بين الأمرين , ومن الناس من يقفل باب الإحداث في الدنيا والدين , فلا يقبل شيئا من محدثات الأمور مطلقا وهذان المذهبان على طرفي نقيض وكلا طرفي قصد الأمور ذميم والحق في ذلك هو الوسط والاعتدال فلا إفراط ولا تفريط وهو المذهب الثالث وهو مذهب السلف والأئمة وخلاصته أن الأحداث في أمور الدين مرفوض مردود غير مقبول ، وأما الأحداث في أمور الدنيا فهو مقبول إلا فيما خالف الدليل ، وهذا جار على وسطية أهل السنة وجار على وسطية هذه الأمة المرحومة زادها الله شرفاً ورفعه كما قال تعالى " وكذلك جعلناكم أمة وسطاً " وقد شرحنا قاعدة الوسطية في رسالة مستقلة ، والمقصود هنا أن تقييد هذا الإحداث بقولنا ( في الدين ) يخرج الإحداث فيما كان من قبيل أمور الدنيا ، وقولنا ( فهو رد ) هذا فيه بيان حكم هذا الإحداث أي أن هذا الإحداث في الدين مردود على صاحبه غير مقبول أي باطل غير مقبول كما وردت بذلك النصوص في الكتاب والسنة وشهد بذلك الاعتبار الصحيح وأقوال الأئمة رحم الله أمواتهم وثبت أحياءهم ، فهذا ما قصدناه من شرح القاعدة من باب الكلام على معنى مفرداتها والله ربنا أعلى وأعلم .(1/4)
المسألة الثانية : اعلم وفقك الله تعالى للهدى ودين الحق وجعلك مباركاً حيثما كنت ونفع الله بعلمك المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن هذه القاعدة العظيمة التي نحن بصدد شرحها يتضح معناها بالنظر في عدة قواعد أسوقها لك قاعدة قاعدة مع الكلام على معانيها باختصار شديد ليكمل العقد وتكون هذه الرسالة جامعة مانعة في بابها فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد الفضل والعون وحسن التحقيق :(1/5)
القاعدة الأولى : الدين مبني على ركنين على أن لا يعبد إلا الله ، وأن لا يعبد إلا بما شرعه رسوله صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى " فاعبد الله مخلصاً له الدين ألا لله الدين الخالص " وقال تعالى " وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء " وقال تعالى " قل الله أعبد مخلصاً له ديني " والأدلة في هذا المعنى كثيرة ، وقال تعالى " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " وقال تعالى " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " وقال تعالى " قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون " وقال تعالى " وإن تطيعوه تهتدوا " وقال تعالى " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم " وقال تعالى " الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة عندهم في التوراة والإنجيل " وقال تعالى " وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً " وفي الحديث " كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى ، قالوا : ومن يأبى ، قال : " من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى " وهذا فيه دليل على أن العبادات وأمور الدين لا تصح إلا إذا توفر شرطان : الإخلاص لله تعالى بأن لا يكون الباعث على التعبد إلا وجه الله والدار الآخرة ، وكذلك المتابعة ، بأن يقع منك العمل على وفق ما بلغه النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم وبه تعلم أن كل عبادة تخلف عنها شرط الإخلاص فإنها لا تقبل ، وكذلك كل عبادة تخلف عنها شرط المتابعة فإنها لا تقبل أيضا ، فهذه القاعدة هي قطب رحا الشريعة الإسلامية وعليها يدور فلك الرسالة ، وهي محط السؤال يوم القيامة والله المستعان ، قال بعض السلف : ما من فعلة وإن دقت إلا وينشر لها ديوانان ، لم ، وكيف ، فلأول سؤال عن(1/6)
الإخلاص والثاني سؤال عن المتابعة ، فكل تعبد قولي أو فعلي تخلف عنه شرط المتابعة فإنه غير مقبول ، لأنه محدثة في الدين وكل إحداث في الدين فهو رد .
القاعدة الثانية : الأصل في العبادات الوقف على الدليل ، أي أن باب العبادات ليس مفتوحا لكل أحد يثبت منه ما يشاء على ما تهواه نفسه ويستحسنه عقله ، لا ، بل هو باب توقيفي على إثبات النصوص ، فما أثبته النص من العبادات فهو العبادة وما لا فلا ، لأن العقول لا تستقل بإدراك الشرع على وجه التفصيل ولذلك احتاجت البشرية لإرسال الرسل وإنزال الكتب لتعرفهم ما يحبه الله ويرضاه من العبادات القولية والعملية فالعبادة لابد فيها من الدليل الذي يأذن بها كما قال تعالى " أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به " فمن قال إن هذا الشيء عبادة فإنه مطالب على هذه الدعوى بدليل شرعي صحيح صريح فإن جاء به قبلناها وعلى العين والرأس وإن لم يأت به فقوله مردود عليه مضروب به في وجهه ، لأن الأصل وقف العبادات على النص ، فعندنا باب العبادات وباب العادات فالأصل في العبادات المنع إلا ما ورد الدليل بجوازه والأصل في العادات الجواز إلا ما ورد الدليل بمنعه .(1/7)
القاعدة الثالثة : الأصل في العبادات الإطلاق عن الصفة والزمان والمكان والمقدار والشرط ، فمن قيد عبادة بصفة معينة يرى عين هذه الصفة من التعبدات والقربات فإن هذا التقييد الوصفي يتوقف قبوله على الدليل لأن الأصل في صفة العبادة التوقيف على النص ، ومن قيد العبادة بوقت معين يرى أن عين فعلها في هذا الزمن المخصوص أفضل منه في غيره من سائر الأزمنة فإن هذا التقييد الزماني يتوقف قبوله على الدليل المؤيد لذلك لأن الأصل في زمن العبادة الوقف على النص ، ومن قيدها بمكان معين يرى أن فعلها في هذا المكان المخصوص أفضل منه في غيره فإن هذا التقييد المكاني بتوقف قبوله على الدليل المؤيد لذلك ، فإن جاء به صريحا صحيحا قبلناه وإن لم يأت بذلك فلا قبول ومن قيد العبادة بقدر معين يرى أنها بهذا المقدار أفضل فإنه مطالب على التقييد بالنص المصحح له لأن الأصل في العبادة الإطلاق عن هذا المقدار والأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل , وكون هذه العبادة بهذا المقدار أفضل عند الله تعالى هو من باب الغيب وباب الغيب وقف على النص الصحيح الصريح . ومن قيدها بشرط معين وقال إنها لا تصح أو لا تكون كاملة إلا به فإنه مطالب بالنص المثبت لهذا الشرط لأن الأصل في شرط العبادة الوقف على الدليل , فبان لك بذلك أن الأصل في أصل العبادة الوقف , والأصل في صفة العبادة الوقف , ولأصل في توقيت العبادة الوقف , والأصل في مكان العبادة الوقف , والأصل في مقدار العبادة الوقف , والأصل في شرط العبادة الوقف والأصل في ربط العبادة بسبب الوقف , وهذه الأشياء هي جهات التعبد الست , التي لا يتحقق شرط المتابعة إلا بتحقيقها , وهي : الجنس والسبب والصفة والزمان والمكان والمقدار . وبه تعلم أن العبادة وكل ما يتعلق بها مبناه على التوقيف والله يحفظنا وإياك .(1/8)
القاعدة الرابعة : لا يستدل على شرعية الوصف بشرعية الأصل وقد شرحنا هذه القاعدة في رسالة مستقلة , أي أنه لا بد للوصف الزائد على الأصل من دليل خاص ولا يحق لأحد أن يعمل العبادات على الوصف المخترع الذي لا دليل عليه , بل هذا الوصف يتطلب دليلا زائدا على مجرد دليل الأصل , فالدليل الذي يثبته الأصل شيء , والوصف الزائد شيء آخر والعبادة لا بد أن تكون مشروعة بأصلها وبوصفها والله أعلم .
القاعدة الخامسة : الأحكام الشرعية تفتقر بثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة وذلك لأنه لا يحق لأحد أن يحكم على شيء من الأقوال أو الأفعال بشيء من الأحكام الشرعية إلا وعلى ذلك الحكم دليل من الشارع ومن شرط قبوله أن يكون صريحا صحيحا ,فإذا قلت : هذا واجب أو هذا مستحب أو هذه من الشرع فقولك هذا موقوف على الدليل ولنا رسالة مستقلة في شرح هذه القاعدة ذكرنا عليها خمسين فرعا فارجع إليه إن شئت الاستزادة من معرفة تفاصيلها . والله أعلم .
القاعدة السادسة : كل فهم في مسائل الاعتقاد يخالف فهم السلف فهو باطل وذلك أن الحق في مسائل الاعتقاد إنما هو ما قرره السلف رحمهم الله تعالى فأي مذهب يخالف مذهبهم فهو باطل مردود على صاحبه , وذلك لأن السلف في مسائل الاعتقاد ساروا على ما سار عليه الدليل وقالوا بمقتضاه , ومن خالفهم فإنما قال بغير مقتضى الدليل فقوله مردود عليه فالحق في باب الصفات هو بعينه ما قاله السلف الصالح وأما مذهب الممثلة والمعطلة والمفوضة فهو باطل والحق في باب القدر هو بعينه ما قاله السلف الصالح وأما مذهب القدرية والجبرية فباطل , والحق في باب مرتكب الكبيرة هو بعينه ما قاله السلف وأما مذهب المرجئة والوعيدية فهو باطل , والحق في باب الصحابة وآل البيت هو بعينه ما قاله السلف وأما مذهب الرافضة والخوارج فباطل وهكذا في مسائل الاعتقاد , فأي فهم يخالف فهم السلف فإنه بدعة ومحدثة في الدين وكل إحداث في الدين فهو رد .(1/9)
القاعدة السابعة : كل تعبد قولي أو فعلي لا يعرف عن السلف فهو بدعة , وسيأتي أن سائر البدع والمحدثات إنما هي مما لا يعرف عن السلف وسيكون من أجوبتنا على فاعليها أن هذا فعل لا يعرف عن أحد من السلف ونعني بهم الصحابة والتابعين وتابعيهم وأئمة الدين المعتد بأقوالهم في الأمة .
القاعدة الثامنة : كل فعل توفر سببه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله فإن المشروع تركه , وهي من الردود القوية على أهل البدع .
القاعدة التاسعة : لا مدخل للعادات والتقاليد والرؤى والمنامات والاستحسانات وآراء الرجال في التشريع لأن التشريع وقف على النص ولا شأن لهذه الأشياء في إثباته فانتبه لهذا .
القاعدة العاشرة : الشريعة كاملة , وهذا مأخوذ من قوله تعالى " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " .
القاعدة الحادية عشرة : الدين مبناه على الهدى والإتباع , لا على الهوى والابتداع وهذا واضح ومسلم به ولا أظن مسلما ينازع فيه .
القاعدة الثانية عشرة : كل بدعة ضلالة , وهذا مأخوذ من قوله صلى الله عليه وسلم " وكل بدعة ضلالة " كما سيأتي سياقه إن شاء الله تعالى والله المستعان على توضيح ذلك .
القاعدة الثالثة عشرة : الابتداع تنقص في الدين , أي أن المبتدع المحدث في الدين قولا أو فعلا هو في حقيقته يدعي أن الدين كان ناقصا حتى أكمله ببدعته هذه , وهذا وإن لم يقله بلسان مقاله لكن قاله بلسان حاله .(1/10)
القاعدة الرابعة عشرة : اقتصاد في سبيل وسنة خير من اجتهاد في مخالفة وبدعة , وقد نص السلف على هذا , فهو من جملة أصولهم , أي أن مشروعية الأعمال لا تعرف بكثرتها ولا باجتهاد أصحابها ولا بمشقتها على النفوس وإنما تعرف مشروعيتها بموافقتها للنص الصحيح الصريح . فلأن يقتصر الإنسان على ما هو مشروع له وإن كان قليلا خير له من أن يتعب نفسه ويشق عليها بفعل أمور لا خطام لها ولا زمام , ولا برهان عليها وإنما هو التخرص والهوى , نعوذ بالله من ذلك .
القاعدة الخامسة عشرة : الدين مبناه على الوسطية فلا إفراط ولا تفريط , وذلك لأن الحق وسط بين طرفين وهدى بين ضلالتين كما قال السلف رضي الله عنهم , فالبدعة لا تأتي إلا بمخالفة منهج الوسطية إما إلى إفراط وإما إلى تفريط وأما الحق فهو طريق الوسطية , الذي هو طريق (الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) , جعلنا الله وإياك منهم بمنه وكرمه .
القاعدة السادسة عشرة : الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك , هكذا قال السلف رضوان الله عليهم , فالحق لا يعرف بكثرة ولا قلة وإنما يعرف بموافقة الدليل فما وافق الدليل فهو الحق ولربما يكون الواحد أمة كاملة لأنه موافق للحق كما قال تعالى " إن إبراهيم كان أمة " فلأنه صاحب الحق في زمانه صار هو الأمة وحده , فلا تغتر بكثرة المحدثين وإنما العبرة بموافقة عملهم لمقتضى النص من الكتاب أو السنة الصحيحة .
القاعدة السابعة عشرة : ما لا دليل عليه من التعبدات فهو باطل وهو مضمون القواعد السابقة ولكن صغناها بعبارة أخرى من باب التوسع في التقعيد والتأصيل , أي أنه يستدل على بطلان ما يدعى أنه عبادة بأنه لا دليل عليه .(1/11)
القاعدة الثامنة عشرة : الإحداث في الدين مبني على إتباع الهوى والمتشابهات وموروثات الآباء والأسلاف . على غرار قوله تعالى " إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون " وقوله " وأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله " .
القاعدة التاسعة عشرة : الإحداث في الدين يتضمن القدح في النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو تفكر المبدع في هذا لوجد أنه صحيح وحق .
القاعدة العشرون : كلما ازداد نور النبوة وأشرق كلما قل الإحداث واحترق والعكس بالعكس ولذلك لا تجد كثرة المحدثات إلا حينما يضعف العلم بالدليل .
فهذه عشرون قاعدة توضح لك ما أردنا من بيان هذه القاعدة العظيمة فأرجو منك إعادة قراءتها والتفكر في تفاصيلها لعلنا أن نكون ممن أراد الله بهم الهداية والله يحفظنا وإياك من زلل البنان واللسان والجنان وهو أعلى وأعلم .
فصل
المسألة الثالثة : في سياق الأدلة الدالة على صحة هذه القاعدة وهي كثيرة ونذكر لك بعضها فأقول :-
منها : قوله تعالى " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " وهذا فيه بيان أن الله تعالى قد أكمل هذا الدين , وهذا الإكمال ورد مطلقا والأصل بقاء المطلق على إطلاقه ولا يقيد إلا بدليل ، فهذا الدين كامل الكمال المطلق والمكمل له هو الله تعالى ، فكلياته كاملة وجزئياته كاملة وعقائده كاملة وشرائعه كاملة وأدلته كاملة وكل ما يتعلق به فهو كامل الكمال المطلق ، فما لم يكن من الدين في عهده صلى الله عليه وسلم فليس من الدين بعد عهده بل هو محدثة وبدعة وكل إحداث في الدين فهو رد ، لأن هذا الإحداث معارض لهذا التكميل وهذا التكميل حق من الله تعالى وما عارض الحق فهو باطل فدل ذلك على أن كل إحداث في الدين فهو باطل .(1/12)
ومنها : قول الله تعالى " أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله " وهذا فيه دليل على أن الدين لابد فيه من الإذن أي أن يرد بكونه من الدين دليل من الله تعالى إما من الكتاب وإما من السنة فما لا دليل عليه فلا يجوز أن يوصف بأنه من الدين ، بل هو بدعة ومحدثة ، فالدين لا يؤخذ إلا من الله فما قرره الدليل أنه من الدين فهو من الدين ، وما لا دليل عليه فهو من تشريع شياطين الإنس والجن ، فمن فعل شيئا يري أنه من الدين وهو مما لا دليل عليه فقد فعل شيئا لم يأذن به الله تعالى ، فهو رد على صاحبه لأن الله تعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما أذن به ، لأن ما لم يأذن به يوصف بأنه محدث وكل إحداث في الدين فهو رد .
ومنها : قوله تعالى " ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون " وهذا تحذير من الله تعالى أن يتكلم العبد في التحريم والتحليل والإيجاب والندب والكراهية بلا علم ولا برهان من الله تعالى ووصف من فعل ذلك بأنه ممن يفتري على الله الكذب وأخبر أن فاعل ذلك لا يفلح وهذا فيه دليل على أن هذه الأحكام إنما تؤخذ عن الشارع وأن من تكلم في ذلك بلا علم وحلل أو حرم أو جاء بحكم شرعي بلا برهان فإنه محدث ومتبع طريق ضلالة وخسارة وإحداث مردود عليه غير مقبول لأن كل إحداث في الدين فهو رد .(1/13)
ومنها : قوله تعالى " ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون ، الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل .... إلى قوله ... فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون " ومثلها قوله تعالى في سورة الأعراف " واتبعوه لعلكم تهتدون " وهذا أمر بالاتباع وهو متضمن للنبي عن الإحداث والابتداع ، فإن المحدث ليس بمتبع ، وإحداثه رد عليه غير مقبول لأن الأمر بالشيء نهي عنه وكل أحداث في الدين فهو رد على صاحبه .
ومنها : قوله تعالى " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم " وهذا فيه الفيصل بين المتبع والمبتدع فمن زعم أنه يحب الله تعالى فإن علامة هذه المحبة إتباع هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم فعلى قدر الإتباع تكون المحبة , فالمحبة مصداقها وبرهانها الإتباع فدل ذلك على أن المحدث والمبتدع كاذب في دعواه أنه يحب الله ويحب رسوله صلى الله عليه وسلم وإتباعه يكون في طاعته فيما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر وتصديقه فيما أخبر وأن لا يعبد الله إلا بما شرع , والمحدث مخالف في ذلك كله لأنه لو كان صادقا في المحبة والإتباع لاجتنب الإحداث والابتداع , وهذا كله يفيد النهي عن الإحداث لأن الإحداث في الدين مجانب لطريق سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ومخالف للمنهج القويم وما خالف ذلك فهو رد , فأفاد ذلك أن كل إحداث في الدين فهو رد .(1/14)
ومنها : قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول " في آيات كثيرة وهذا أمر بالطاعة وقد تقرر في الأصول أن الأمر بالشيء منهي عن ضده , وضد الطاعة المخالفة ومن المخالفة الإحداث والابتداع في الدين , وحيث ورد الأمر بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو نهي عن الإحداث فأفاد ذلك أن الإحداث مجانب لطريق الطاعة ومخالف لما هو الواجب على العبد في دينه , وما خالف الحق فهو باطل فالإحداث في الدين باطل وكل باطل فهو رد .
ومنها : قوله تعالى " فماذا بعد الحق إلا الضلال " والحق كل ما وافق الكتاب والسنة , فما وافق النص في منطوقه أو مفهومه فهو حق وصدق وعدل وحكمة , وما خالفهما فهو الضلال والإحداث في الدين مخالف لمقتضى الدليل من لزوم الإتباع والنهي عن الابتداع وحيث كان مخالفا للحق فهو إذا ضلال فالإحداث من الضلال , والضلال رد فأفاد ذلك أن كل إحداث في الدين فهو رد لأنه ضلال وكل ضلال فهو رد .(1/15)
ومنها : قوله تعالى " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم سبيله " وهذا أمر بإتباع صراط سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم لأن صراطه هو الهدى والخير لأنه الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه ولا ضلال , وهذا أمر بالإتباع وقد تقرر في الأصول أن الأمر بالشيء نهي عن ضده من جهة المعنى فأفاد هذا الأمر النهي عن الإحداث والابتداع وقد تقرر في الأصول أن النهي يفيد الفساد , فالإحداث فاسد وما كان فاسدا فهو مردود وغير مقبول فأنتج ذلك أن الإحداث في الدين رد لأنه من الفساد والإفساد ، ونقول أيضا : لقد وصف الله تعالى صراط محمد صلى الله عليه وسلم بأنه الصراط المستقيم فأفاد ذالك أن ما عداه من الصراط المعوج الفاسد التالف الضال ، والإحداث في الدين مخالف للصراط المستقيم ، فهو من الصراط المعوج الضال الفاسد التالف وما كان كذلك فهو رد على صاحبه ، ونقول أيضا : لقد نهى الله تعالى عن أتباع السبل المعوجة لأنها سبب للفرقة والاختلاف وسبب للضياع والانحراف ، والإحداث في الدين داخل في هذا النهي لأنه من السبل المعوجة عن طريق الهدى، والنهي يقتضي الفساد فأفاد ذلك أن الإحداث فاسد وما كان فاسداً فهو رد على صاحبه الذي أحدثه .
ومنها : قوله تعالى " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " ومما آتانا به الأمر بالإتباع ، فالواجب علينا أن نكون متبعين له فيما شرعه وقرره ، ومما نهانا عنه الإحداث والابتداع فالواجب علينا أن لا نكون محدثين ولا مبتدعين ، فالمحدث في الدين لم يأخذ ما آتاه الرسول ولم ينزجر عما نهاه عنه فهو متقحم في مهاوي الردا وغارق في مستنقعات الجهل والضلالة والخرافة والانحراف والشهوات والشبهات ، ومن كانت هذه حالته فهو إلى النار أقرب منه إلى الجنة ، نسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا وأن يخلص المسلمين من كل محدثة .(1/16)
ومنها : قوله تعالى " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً " والمحدث مشاق للرسول صلى الله عليه وسلم ومتبع غير سبيل لمؤمنين ، ذلك أن المبتدع يرى أن بدعته هذه من جملة الدين والقربات ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأت بها ولا أمر بها ولا شرعها فهذا المبتدع متهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لم يبلغ البلاغ المبين وأن دينه ناقص ولا يكمل إلا بهذه البدعة وأي مشاقة أعظم من هذه المشاقة ولأن هذا المبتدع جاء بشيء مخالف لسبيل الصحابة والسلف الصالح وأئمة الحق والهدى ، فهو مجانب لسبيل المؤمنين في هذه البدعة فأفاد ذلك أن الإحداث في الدين مشاقة للنبي صلى الله عليه وسلم وإتباع لغير سبيل المؤمنين ومن فعل ذلك فإنه يستحق هذه العقوبة البليغة التي لا يقوم لها شيء نعوذ بالله من ذلك . فهذه عشر آيات من القرآن الكريم تفيدك أن الإحداث ممنوع وأن كل إحداث في الدين فهو رد وأن الواجب على العبد في دينه هو سلوك طريق الحق الموافقة والإتباع وترك سبل المخالفة والابتداع وأنه ما أفلح في دنياه وأخراه إلا من كان متبعا لا مبتدعا , فإن كنت ذا عقل فكن متبعا لا مبتدعا , ومقتفيا لا مبتدءا , وسالكا انهج السلف الأوائل شبرا بشبر وذراعا بذراع , وأن تحذر من سبل الغواية والضلال وأن تتفقه في دينك حتى لا تزل بك القدم ولا تعصف بك الأهواء المضلة والأفكار المعتلة والمذاهب المختلة , جعلنا الله وإياك موفقين حيث ما كنا وعصمنا وإياك من زلل الجنان واللسان والبنان إنه ولي ذلك والقادر وهو أعلى وأعلم .
فصل
المسألة الرابعة : واعلم رحمك الله تعالى أن السنة الصحيحة قد دلت على ما قرره القرآن ووردت أحاديث كثيرة تنهى عن الإحداث في الدين بمنطوقها ومفهومها ولوازمها فدونك بعضها وفقنا الله وإياك للهدى ودين الحق ورزقنا الثبات عليه إلى الممات فأقول :(1/17)
من ذلك : ما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " ولمسلم " من عمل عملا ليس عليه عملنا فهو رد " وهذا الحديث أصل في هذه القاعدة المباركة وألفاظه هي ألفاظها تقريبا وهو ميزان للأعمال الظاهرة كما نص عليه كثير من أهل العلم .(1/18)
ويدخل في قوله " أحدث" كل أنواع الإحداث لأن قوله ( ما ) في الحديث بمعنى الذي فهي اسم موصول وقد تقرر في الأصول أن الأسماء الموصولة من صيغ العموم , أي ما ليس منه جنسا وما ليس منه سببا وما ليس منه شرطا وما ليس منه زمانا وما ليس منه صفة وما ليس منه مكانا وما ليس منه مقدارا , كل من أحدث في الدين شيئا من ذلك فإن محدثته هذه ردا عليه ومن ذلك : ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم , ويقول : إن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة " فقد حكم الرسول صلى الله عليه وسلم بأن المحدثات هي شر الأمور , فمن أحدث شيئا في الدين قوليا كان أو فعليا فإنما أحدث شرا وبلاء وفسادا وفتنة وضلالا بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ووصف محدثته هذه بأنها بدعة ثم أعطى حكما عاما وكلية مستغرقة لجميع أفرادها على هذه المحدثات والبدع بأنها ضلالة , وهذا فيه دليل على محاربة الشرع لكل المحدثات والبدع وأنه ليس في الدين شيء من البدع يوصف بأنه حسن , وأن من قرر من أهل العلم وجود البدعة الحسنة في الدين فقد أخطأ والله يعفو عنه ويغفر له هذا الزلل , فأن لفظة ( كل ) من أقوى صيغ العموم وقد تقرر في الأصول أن الأصل هو البقاء على العموم حتى يرد المخصص ولا نعلم مخصصا لهذه الكلية البتة , وعدم علمنا هنا أنتجه الاستقراء الكلي لكل ما يدعيه الفريق الآخر من مخصص كقول عمر " نعمت البدعة هذه " فإن هذا ليس من المخصصات لأن المقصود بها البدعة اللغوية لا الشرعية , من أجل ذلك فإنني سوف أعقد فصلا خاصا إن شاء الله تعالى في بيان هذه المسألة , ولم يكن هذا الفصل في أصل خطة الرسالة ولكن رأيت الآن أن أوضح هذه المسألة للقراء الكرام حتى يكمل العقد ويزول الإشكال والله(1/19)
يعيننا على تفهيم الناس هذه المسألة العويصة إنه ولي ذلك والقادر عليه والمهم هنا أن تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعطى حكمين وهما من الأحكام الكلية التي لا مخصص لها وهما : أن كل محدثة فهي شر , بل هي شر الأمور , وأن كل بدعة في الدين فهي ضلالة , من أجل ذلك جعلنا هذه الكليتين من قواعد الشريعة كما قدمناه لك في مسألة سرد القواعد والله المستعان وحده لا شريك له .
ومن ذلك : ما رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنا فرطكم على الحوض وليختلجن رجال دوني فأقول يا رب أصحابي , فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك " وهذا فيه بيان شيء من عقوبة الإحداث في الدين وهو أنه يذاد عن الشرب من الحوض والعياذ بالله , ذلك لأن الشرب منه وقف على أهل الموافقة و الإتباع , وأما أصحاب المخالفة والابتداع فإنهم يذادون عنه كما يذاد البعير الضال وهذه العقوبة دليل على تحريم الإحداث في الدين , لأن مما يعرف التحريم به ترتيب العقوبة على الفعل كما شرحناه في كتاب أصول الفقه فاحذروا يا من أحدثتم في الدين أقوالا وأفعالا لا دليل عليها ولا برهان يستندها , احذروا فإن الأمر خطير والعاقبة وخيمة ومن ذلك : ما رواه الطيالسي في المسند واللالكائي في شرح أصول السنة وأحمد في المسند وابن عاصم في السنة والنسائي في الكبرى وابن حبان والبغوي في شرح السنة والحاكم في المستدرك والدارمي في السنن , وغيرهم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال : هذا سبيل الله , ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله وقال : هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه وقرأ " وأن هذا صراطي مستقيما " وهذا حديث صحيح , ومن صححه الحاكم والذهبي والبغوي وغيرهم رحم الله الجميع رحمة واسعة .(1/20)
ومن ذلك : ما رواه أحمد والترمذي وأبو داوود وابن ماجه وابن جرير والدارمي والبغوي وابن أبي عاصم والحاكم وغيرهم عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا بوجهه فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب , فقال رجل : يا رسول الله كأنها موعظة مودع , فماذا تعهد إلينا ؟ فقال : أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبدا حبشيا , فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا , فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " وهو حديث صحيح , وممن صححه الترمذي والحاكم والبزار وابن عبد البر والألباني رحم الله الجميع رحمة واسعة . ومن ذلك : ما في الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله قال صلى الله عليه وسلم " لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال " فمن " وهذا فيه تحذير من الإحداث في الدين لأن الإحداث في الدين من جملة ما فعلته اليهود والنصارى في دينها ، فإنهم حرفوا وبدلوا واخترعوا أقوالا وأفعالا ليست هي من أصل دينهم , فحيث فعلوا ذلك فإن هذه الأمة لابد وأن تحدث في دينها كما أحدث اليهود والنصارى في دينهم فورد هذا التحذير من النبي صلى الله عليه وسلم لعموم الأمة أن يفعلوا في دينهم كما فعلت اليهود والنصارى في دينها , فهذا نص في النهي عن الإحداث في الدين , فهذا الإتباع وإن كان سيقع قدرا لكننا مأمورين شرعا أن ندافعه بنشر السنة وتعليم الناس تفاصيل دينهم ومحاربة المحدثات والبدع وهذا من باب دفع القدر بالقدر .(1/21)
ومن ذلك : قوله صلى الله عليه وسلم في أحاديث من طرق كثيرة "افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة ,وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة , كلها في النار إلا واحدة قالوا من هي يا رسول الله , قال " هي الجماعة " وفي لفظ " من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي " وهو حديث يصح بمجموع طرقه وشواهده , وهذا تنبيه وتحذير من مخالفة منهج السلف الصالح , لأن النجاة قد حصرت في إتباع سبيلهم واقتفاء آثارهم في العقيدة والعمل ظاهرا وباطنا , وأن من زاغ وحاد عن هذا السبيل السليم والصراط المستقيم فإنه من الهالكين , ومن المعلوم أن من سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان الإتباع وترك الإحداث والابتداع , فكان لزاما على من أراد النجاة أن يوافقهم في الإتباع وعدم الابتداع , وفيه دليل على أن من أحدث وابتدع فإنه مجانب لطريقهم ومخالف لمنهجهم ومن خالفه فهو من الهالكين وأي تحذير أبلغ من هذا التحذير , فنشهد بالله تعالى أنه صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ المبين والله على ما نقول شهيد .
ومن ذلك : حديث ابن عمر أن عمر رضي الله عنه خطب بالجابية فقال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال " من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين ابعد " رواه الترمذي وأحمد وأبو يعلى وغيرهم وهو حديث صحيح بمجموع طرقه . وحيث ورد الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق وإتباعه وإن كان المتمسك به قليلا والمخالف له كثيرا لأن الحق هو ما كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا نظر إلى كثرة أهل البدع بعدهم , قاله العلماء رحمهم الله رحمة واسعة .(1/22)
ومن ذلك : حديث " يد الله على الجماعة والشيطان مع من يخالف الجماعة " رواه النسائي والطبراني ورجال ثقات قال الترمذي : وتفسير الجماعة عند أهل العلم هم أهل الفقه والعلم والحديث ومن ذلك : حديث " يد الله على الجماعة فإذا شذ الشاذ منهم اختطفه الشيطان كما يختطف الذئب الشاة من الغنم " أخرجه الطبراني وابن أبي عاصم في السنة وهو حديث صحيح بمجموع طرقه . ويقال فيه كما قيل في الأحاديث قبله . أي أن الجماعة اسم لا يصدق إلا على من لزم طريق الحق واتبع , ولم يكن ممن سلك سبل الغواية وابتدع , فالأمر بلزوم الجماعة يتضمن التحذير من الإحداث لأنه لا جماعة إلا بالسنة والإتباع , ذلك لأن الفرقة إنما هي في طريق الإحداث والابتداع , فلا جماعة إلا بسنة ولا فرقة إلا ببدعة ومخالفة عصمنا الله وإياك من طريق الضلال .
ومن ذلك : حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ونحن حدثاء عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط , فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال : " قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى " اجعل لنا آله كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون " لتتبعن سنن من كان قبلكم " رواه الترمذي وهو حديث صحيح . فانظر كيف رد النبي صلى الله عليه وسلم هذا القول الذي هو محدثة في الدين – لكنها كانت عن جهل – وانظر كيف خرج هذا الإحداث على أنه من جملة إتباع الأمم الماضية وأمر المحدثات أعظم من ذلك والأحاديث في التحذير منها أكثر من ذلك ولكن قد التزمنا الاختصار في الاستدلال ليصغر حجم الرسالة وتسهل قراءتها , وقد ذكرنا لها من القرآن عشرة أدلة وكذلك ذكرنا لها من السنة عشرة أدلة , وبه يتضح لك صحتها وسلامتها من كل اعتراض إلا على مذهب أهل البدع لأن هذه القاعدة تنسف أصولهم وبدعهم من أساسها والله ربنا أعلى وأعلم .(1/23)
فصل
المسألة الخامسة : واعلم رحمك الله تعالى أنه كما دل الكتاب والسنة على الأمر بالإتباع والنهي عن الإحداث والابتداع فكذلك دل عليه أيضا كلام سلفنا الصالح رضي الله عنهم , والنقول عنهم كثيرة ودونك بعضها فأقول وبالله التوفيق ومنه أستلهم الفضل وحسن التحقيق : قال ابن مسعود رضي الله عنه " الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة )" وهو أثر صحيح . وقال أبي بن كعب رضي الله عنه : " عليكم بالسبيل والسنة فإنه ليس من عبد على سبيل وسنة ذكر الرحمان ففاضة عيناه من خشية الله فتمسه النار أبدا , وإن اقتصادا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة " وهو أثر صحيح , وقال أبو العالية رحمه الله تعالى " عليكم بالأمر الأول الذي كانوا عليه – أي الصحابة – قبل أن يتفرقوا " وهو أثر صحيح وقال الأوزاعي رحمه الله تعالى " اصبر نفسك على السنة وقف حيث وقف القوم وقل بما قالوا وكف عما كفوا عنه واسلك سبيل سلفك الصالح فإنه يسعك ما وسعهم " رواه اللالكائي في شرح السنة .
وقال سفيان رحمه الله تعالى " لا يستقيم قول وعمل إلا بموافقة السنة "
وقال عبد الله بن محيريز "يذهب الدين سنة سنة كما يذهب الحبل قوة قوة "(1/24)
وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه " يفتح القرآن على الناس حتى تقرأه المرأة والصبي والرجل فيقول الرجل : قد قرأت القرآن فلم أتبع , والله لأقومن به فيهم , لعلي أتبع , فيقوم به فيهم فلا يتبع ,فيقول قد قرأت القرآن فلم أتبع وقمت به فيهم فلم أتبع , لاحتضرن في بيتي مسجدا فيحتضر في بيته مسجدا فلا يتبع , فيقول : لقد قرأت القرآن فلم أتبع , وقمت به فيهم فلم أتبع وقد احتضرت في بيتي مسجدا فلم أتبع والله لآتينهم بحديث لا يجدونه في كتاب الله ولم يسمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي أتبع , فإياكم وما جاء به فإنما جاء به ضلالة " وفي لفظ " إن من ورائكم فتنا يكثر فيها المال ويفتح فيها القرآن حتى يأخذه المؤمن والمنافق والرجل والمرأة والصغير والكبير والعبد والحر فيوشك أن يقول قائل : ما للناس لا يتبعوني وقد قرأت القرآن ؟ ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره ,فإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدعه ضلالة وأحذركم زيغة الحكيم فإن الشيطان قد سيقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم وقد يقول المنافق كلمة الحق " . وهو عند أبي داوود وسنده صحيح .(1/25)
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه " تعلموا العلم قبل أن يقبض وقبضه ذهاب أهله ألا وإياكم والتنطع والتعمق والبدع وعليكم بالعتيق " . أخرجه البيهقي في الدلائل والدارمي وسنده جيد . وفي رواية قال : " أيها الناس إنكم ستحدثون ويحدث لكم فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالأمر الأول " وصححه الحافظ بن حجر في الفتح . وكذلك ابن رجب وقال أبو داوود في سننه : حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا سفيان قال حدثنا أبو يحيى القتات عن مجاهد قال : كنت مع ابن عمر رضي الله عنه فثوب رجل في الظهر أو العصر فقال : اخرج بنا فإن هذه بدعة .(1/26)
وروى في سننه أيضا من حديث رجاء عن أبي الصلت قال : كتب رجل إلى عمر بن عبد العزيز يسأله عن القدر فكتب له : أما بعد : أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره وإتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وترك ما أحدثه المحدثون بعد ما جرت به سنته وكفوا مؤنته فعليك بلزوم السنة فإنها لك بإذن الله عصمة ثم اعلم أنه لم يبتدع الناس بدعة إلا قد مضى قبلها ما هو دليل عليها أو عبرة فيها فإن السنة إنما سنها من قد علم ما خلافها , فارض لنفسك ما رضي به القوم فإنهم على علم وقفوا وببصر نافذ كفوا , وهم على كشفها كانوا أقوى وبفضل الله ما كانوا فيه أولى , فإن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه , ولئن قلتم إنما حدث بعدهم , فما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم , فإنهم هم السابقون فقد تكلموا فيه بما يكفي ووصفوا منه ما يشفي فما دونهم مقصر وما فوقهم محسر وقد قصر قوم دونهم فجفوا وطمح عنهم آخرون فغلوا وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم – إلخ " وقال ابن ماجة في سننه : حدثنا داوود بن سليمان العسكري قال حدثنا محمد بن علي أبو هاشم بن أبي خداش الموصلي , قال حدثنا محمد بن محصن عن إبراهيم بن أبي عبلة عن عبد الله الديلمي عن حذيفة أنه قال : لا يقبل الله لصاحب بدعة صوما ولا صلاة ولا صدقة ولا حجا ولا عمرة ولا جهادا ولا صرفا ولا عدلا يخرج من الإسلام كما تخرج الشعرة من العجين " أهـ . وروى الترمذي في سننه من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحرث " اعلم , قال ما أعلم يا رسول الله , قال : اعلم يا بلال , قال ما أعلم يا رسول الله , قال : أعلم أنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي فإنه له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا " .(1/27)
قال الترمذي : هذا حديث حسن وقال الدارمي في سننه أخبرنا أبو المغيرة قال حدثنا الأوزاعي عن حسان قال : ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها ثم لا يعيدها إليهم إلا يوم القيامة وقال أيضا : أخبرنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا وهيب قال حدثنا أيوب عن أبي قلابة قال : ما ابتدع رجل بدعة إلا استحل السيف " أ هـ
وقال النسائي في الصغرى : أخبرنا عمرو بن يحيى , قال حدثنا محبوب يعني ابن موسى قال أنبأنا أبو إسحاق وهو الفزاري عن الأوزاعي قال : كتب عمر بن عبد العزيز إلى عمر بن الوليد كتابا فيه : وقسم أبيك لك الخمس كله , وإنما سهم أبيك كسهم رجل من المسلمين : وفيه حق الله وحق الرسول وذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل , فما أكثر خصماء أبيك يوم القيامة فكيف ينجو من كثرت خصماؤه , وإظهارك المعازف والمزامر بدعة في الإسلام ولقد هممت أن أبعث إليك من يجز جمتك جمة السوء . أ هـ
وروى أبو عوانة في مسنده زائدة بن قدامة الثقفي أنه كان لا يحدث قدريا ولا صاحب بدعه يعرفه , وفي الحديث المتفق عليه " فمن رغب عن سنتي فليس مني " وقال محمد بن النضر الحارثي :من أصغى سمعه إلى صاحب بدعة وهو يعلم أنه صاحب بدعة نزعت منه العصمة ووكل إلى نفسه أهـ
وقال يونس بن عبيد : لا تجالس سلطانا ولا صاحب بدعة
وقال سفيان : المسلمون كلهم عندنا على حالة حسنة إلا رجلين , صاحب بدعة أو صاحب سلطان .(1/28)
وقال قتادة : إن الرجل إذا ابتدع بدعة ينبغي لها أن تذكر حتى تحذر وقال يحيى بن أبي كثير : إذا لقيت صاحب بدعة في طريق فخذ في غيره وقال أبن المبارك : ليكن مجلسك مع المساكين وإياك أن تجالس صاحب بدعة ، وقال الفضيل بن عياض : لا تجلس مع صاحب بدعة فإني أخاف أن تنزل عليك اللعنة . وقال الفضيل أيضا : من أتاه رجل فشاوره فدله على مبتدع فقد غش الإسلام واحذروا الدخول على أصاحب البدع فإنهم يصدون عن الحق ، وقال أيضا : لا تجلس مع صاحب بدعة فإنه قد أحبط الله عمله وأخرج نور الإسلام من قلبه وإذا أحب الله عبدا طيب له مطعمه . وقال أيضا : صاحب البدعة لا تأمنه على دينك ولا تشاوره في أمرك ولا تجلس إليه ، فمن جلس إلى صاحب بدعة ورثه الله العمى . وقال أيضا : إن علامة النفاق أن يقعد الرجل مع صاحب بدعة . وقال الحسن : صاحب البدعة لا يقبل الله له صلاة ولا صياما ولا حجا ولا عمرة ولا جهادا ولا صرفا ولا عدلا . وقال أبن المبارك : لم أر مالا أمحق من مال صاحب البدعة ، وقال : اللهم لا تجعل لصاحب البدعة عندي يدا فيحبه قلبي . وقال إبراهيم النخعي : ليس لصاحب البدعة غيبة ، وقال الحسن : ثلاثة ليس لهم حرمة في الغيبة أحدهم : صاحب بدعة الغالي ببدعته . وقال الفضيل : المؤمن يقف عن الشبهة ومن دخل على صاحب بدعة فليست له حرمة . وقال عطاء الخراساني : ما يكاد الله أن يأذن لصاحب بدعة بتوبة . وقال ابن المبارك : صاحب البدعة على وجهه الظلمة وإن أدهن كل يوم ثلاثين مرة . وكان السلف يحذرون من الجلوس عند أصحاب البدع وعند أصحاب الدنيا الذين أترفوا فيها .(1/29)
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى : أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله والاقتداء بهم وترك البدع وكل بدع فهي ضلالة وترك الخصومات والجلوس مع أصحاب الأهواء وترك المراء والجدال والخصومات في الدين أه وقال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى : من جلس مع صاحب بدعة فاحذروه ، ومن جلس مع صاحب البدعة لم يعط الحكمة ، وأحب أن يكون بيني وبين صاحب البدعة حصن من حديد ، آكل عند اليهودي والنصراني أحب إلي من أن آكل عند صاحب بدعة أهـ , وسئل عبد الله بن سهل عن القدر فقال : الإيمان بالقدر فرض والتكذيب به كفر والكلام فيه بدعة والسكوت عنه سنه أهـ , وروى الأثرم عن أحمد أنه قيل له : رجل قدري أأعوده ؟ قال : إذا كان داعية إلى الهوى فلا ، فقيل له : أصلي عليه ؟ فلم يجب ، فقال له إبراهيم بن الحارث العبادي وأبو عبد الله يسمع : إذا كان صاحب بدعة فلا تسلم عليه ولا تصلي خلفه ولا تصلي عليه ، قال أبو عبد الله : كافأك الله يا أبا إسحاق وجزاك خيرا أهـ , وقال أبن سيدين : أكره ذبيحة القدرية .(1/30)
وقال الإمام المروزي رحمه الله تعالى في السنة : ومدحهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( خير الناس ) وأمر بإتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين المهدين بعده وحذر أمته المحدثات التي أحدثت بعدهم وأخبر أنها بدعة وذم من أحدث الأمم الماضية في دين الله ما لم يأذن به الله فحذرنا أن نكون مثلهم أهـ , وقال حذيفة رضي الله عنه : يا معشر القراء خذوا طريق من كان قبلكم فو الله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقاً بعيداً ولنن تركتموهم شمالا ويمينا ضللتم ضلالا بعيدا ) أهـ , وقال السلف رحمهم الله تعالى : ما من أمة تحدث في دينها بدعة إلا أضاعت مثلها من السنة فالتمسك بالسنة أحب الناس من إحداث البدعة أه وقال ابن مسعود رضي الله عنه : كيف أنتم إذا ظهرت فيهم البدع وعمل بها حتى يربو فيها الصغير ويهرم فيها الكبير ويسلم فيها الأعاجم حتى يعمل فيها الرجل بالسنة فيقال بدعة ، قالوا: متى ذلك يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : إذا كثرت أمراؤكم وقلت أمناؤكم وكثرت قراؤكم وقلت فقهاؤكم ، وتفقه لغير الدين وابتغيت الدنيا بعمل الآخرة أهـ , ويروى في الخبر : أن الله تعالى يمثل لكم قوم ما كانوا يعبدون في الدنيا من حجر أو شجر أو شمس أو قمر أو غير ذلك ثم يقول : أليس عدلا مني أن أولي كل إنسان ما يتولاه في الدنيا ، ثم يقول : لتتبع كل أمة ما كانت تعبد في الدنيا فيتبعونهم حتى يهوونهم في النار ، قال السلف : فكذلك كل من اتبع إماماً في الدنيا في سنة أو بدعة أو خيراً أو شر كان معه في الآخرة فمن أحب الكون مع السلف في الآخرة وأن يكون موعوداً بما وعدوا من الجنات والرضوان فليتبعهم بإحسان ومن اتبع غير سبيلهم دخل في عموم قوله تعالى " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً " وكلام الأوائل في ذلك كثير جداً لا يكاد يحصر ولعل ما قدمناه كاف بالأمر بالإتباع والنهي عن الإحداث والابتداع والله ربنا(1/31)
أعلى وأعلم .
فصل
المسألة السادسة : فإن قلت وما أسباب نشأة المحدثات والبدع ؟
فأقول : الأسباب كثيرة ونجمل أهمها فيما يلي :
الأول : الجهل بحقيقة الشرع ، وهذا واضح جلي ، فإن الشرع جاء بذم المحدثات والبدع على وجه الإجمال والتفصيل ، فالمحدث جاهل بذلك ويرى أن بدعته هذه ليست داخلة تحت عموم هذا الذم، وعلاج ذلك يكون بنشر السنة وتعليم الناس والسعي في رفع الأسباب الموجبه لهذا الجهل ، فإنه ما انتشرت المحدثات إلا في الأزمنة والأمكنة التي يضعف فيها نور النبوة , فالواجب على أهل العلم أن يبينوا للناس شريعة الله بكل الوسائل المتاحة مشافهة وتأليفا , وهذا مما أخذ عليهم العهد فيه , كما قال تعالى " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبينه للناس ولا تكتمونه " فليتق الله أهل العلم في ذلك , وفي الحديث " بلغوا عني ولو آية " فلا يجوز التقصير في ذلك مطلقا ولا يدخرا العالم وسعه وجهده في بيان حقيقة السنة وحقيقة البدعة , وكم من البدع التي زال أثرها بالتعليم والتنبيه , فلا يجوز للعالم أن يشغله عن التعليم الناس تحصيل مال ولا دنيا زائلة ولا مناصب ولا خوف سلطان ولا منعه من البلاغ فمن لا يخافون الله تعالى ولا حق لأحد أصلا أن يمنع العالم من تعليم الناس وتفقيههم في دينهم فإذا منع العالم من ذلك منعا جزئيا معينا أي في بلاد دون بلاد فليقف عند حدود المنع فقط , وأما أن يمنع العالم من البلاغ منعا عاما فهذا لا يسوغ له الامتناع , لاسيما أهل العلم الراسخين , ولاسيما في مثل المسائل الكبار في الدين كمسألة التوحيد والسنة ومحاربة البدع والخرافات وليصبر على ما يصيبه في ذات الله تعالى , فإنه لن يصيبه إلا ما كتب الله عليه , والمقصود أنه لابد من رفع الجهل في هذه المسألة عن الناس وأن تبين لهم الأصول العامة في الشريعة وأن تشرح لهم المقاصد العامة لهذا الدين حتى تكون لهم حزام أمان من الوقوع في مثل هذه المحدثات والخرافات ويجب(1/32)
كذلك على العامة أن يلتزموا بعلماء أهل السنة وأن يسألوا عن ما أشكل عليهم في هذه المسائل وغيرها , كما قال تعالى " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " فلا يجوز للعامي أن يتقحم في مخالفة السنة بحجة أنه كان جاهلا مع وجود أهل العلم المقدور على سؤالهم , فلابد من الحرص من الطرفين , فيحرص العالم على البلاغ بكل الوسائل المتاحة ويحرص العامي على سؤال العالم وتفهم ما يقول , وفق الله الجميع للهدى ودين الحق والثبات عليه إنه ولي ذلك والقادر عليه .(1/33)
الثاني : إتباع المتشابهات وترك المحكم , فإن المبتدعة لم يعتمدوا المحكمات من النصوص من الكتاب والسنة , وإنما اعتمدوا إتباع المتشابه منها , وهذا لأن في قلوبهم زيغا ومرض كما قال تعالى " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ... الآية " وفي الحديث " فإذا رأيتم الذين يتبعون المتشابه فأولئك الذين سمى الله تعالى فاحذروهم " وهذا سبب عظيم من أسباب نشوء البدع والخرافات والمحدثات وما لا أصل له , وهو سبب واضح في علماء أهل البدع الذين يذكرون على بدعهم أدلة من الكتاب والسنة ويحملونها على ما يؤيد بدعهم ليغروا أتباعهم بشرعيتها , وهذه البلية العظيمة تسدها عنا قاعدة أصولية تقول : المتشابه يرد إلى المحكم , فالواجب على علماء أهل السنة أن يتصلوا بهؤلاء العلماء الذين نصبوا أنفسهم للدفاع عن البدع وتأصيلها في قلوب الناس ويخوفونهم بالله ويحذرونهم من مغبة الوقوع في ذلك لأنهم بذلك يسنون سنة سيئة فيكون عليهم وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة , وأن يبينوا لهم وجه الدلالة الصحيحة مما ضل فهمهم عنه , وأن يتواصلوا معهم بالمناصحة والتوجيه والتذكير ليرجع إلى الحق من أراد الله هدايته وتقوم الحجة على من عارض وعاند , فالواجب على من اشتبهت عليه دلالة شيء من الأدلة أن يراجع أهل العلم والراسخين في كشف هذه الشبهة ليتضح وجه الحق فيها والله المستعان .(1/34)
الثالث : الوقوف عند مورثات الآباء والأسلاف وعادات القوم وكراهية مخالفة المألوف , وهو حجة المشركين الأوائل في قولهم : إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون , والنفوس مجبولة على محبة البقاء على الأمر المألوف وكراهية تغيره , وهذا أمر له حظه الكبير من وجود البدع والخرافات , ويكشف هذا الأمر قاعدة أصولية وهي التي تقول : الأحكام الشرعية لا تثبت إلا بما اعتبره الشرع طريقا لإثبات الأحكام . فالأحكام الشرعية وقف على الكتاب والسنة وما تفرع عنهما من الإجماع الثابت والقياس الصحيح , فلا مدخل للعادات والتقاليد وموروثات الآباء والأسلاف في إثبات شيء منها . فلا حق لأحد أن يحتج على مخالفة الشرع بكونه قد وجد على ذلك قومه فهذا السبب إنما أنتجه الجهل بطريق الاستدلال ولا نقول إلا كما قال الله تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم " قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم " وقد تقرر عند الأصوليين أن العادات المخالفة للدليل غير معتبرة , بل الواجب تركها والرجوع إلى الحق الموافق للكتاب والسنة .
الرابع : الغلو في الصالحين , وقد شرحنا هذا في كتاب مستقل أسميناه تنوير الصدور في التحذير من فتنة القبر . وسيأتينا إنشاء الله تعالى في سياق البدع أنواع كثيرة من بدع الغلو من الصالحين والله المستعان .
الخامس : إتباع الهوى , فغالب ما يصرف الناس عن مقتضى الشريعة إتباع الهوى , قال تعالى " ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون ..." فالركون إلى الهوى انحراف عن الصراط المستقيم , وقال تعالى " إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى " , وقال تعالى " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون " فصاحب الهوى معرض عن الهدى والحق , والأدلة في التحذير من إتباع الهوى كثيرة جدا في الكتاب والسنة .(1/35)
السادس : مشاركة علماء السوء في هذه البدع والسكوت عنها .
السابع : حماية بعض الدول لمظاهر هذه البدع وتشجيع القائمين عليها .
الثامن : إتباع الأحاديث الموضوعة وشديدة الضعف واعتمادها .
التاسع : معاداة أهل الحق وإساءة الظن بهم والقدح في نواياهم , كما قال تعالى " وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد " وإننا لنسمع كثيرا ما يوصف أصحاب الحق بالأوصاف القبيحة المستهجنة وذلك للتنفير عن الحق , فانتشرت البدع مع تحذير أهل الحق منها , لكن قد شوهت صورة أهل الحق فلم يقبل أهل البدع نصحهم ولم يلتفتوا إلى تحذيرهم لوجود المعاداة السابقة .
العاشر : تولية المبتدعة للمناصب المؤثرة في الأمة , كأن يكونوا مفتين للبلاد مثلا أو وزراء للشؤون الإسلامية ونحو ذلك , وهذا واضح وضوح لا خفاء فيه في بعض البلاد .
الحادي عشر : الرجوع إلى استحسان النفوس والعقول واعتماد ما استحسنته بلا رجوع إلا الأدلة , وإنما اعتماد هذا الاستحسان من غير نظر في موافقة الشرع أو مخالفته .
الثاني عشر : فتح باب الابتداع باعتماد القول بوجود البدعة الحسنة فكل من استحسن شيئا اعتمده وجعله من باب البدعة الحسنة .
الثالث عشر : اشتغال كثير من أهل الخير في مسائل الحكم والسياسة وترك مسائل الاعتقاد وعدم الاهتمام بها وهذا ظاهر في كثير من الجماعات التي تنتسب إلى الإسلام فإنها تعتمد في أوائل اهتماماتها مسائل السياسة والحاكميه والدخول في البرلمانات وأما مسائل الاعتقاد فهي من أواخر اهتماماتها إن كانت تهتم بها أصلا , فيرى أفرادها المخالفات العقدية على أشدها في بلادهم ولا يهتمون بتغير ذلك فضلا عن مشاركة بعضهم فيها .(1/36)
ويزداد الأمر سوء أن هذه الجماعات تحارب أهل السنة وتجعلهم من جملت أعدائها , فلا هي أنكرت على أهل الباطل باطلهم ولا هي تركت أهل الحق يبلغون الحق . فضلا عن أن كثيرا من الجماعات هي أصلا من أنشأ كثيرا من البدع العقدية والعملية ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
الرابع عشر : أتباع سنن اليهود والنصارى ، قال تعالى " يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم " وفي الحديث " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن " وهو في الصحيح ، وفي الحديث الآخر لتركبن سنن من كان قبلكم " رواه الترمذي وصححه من حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه، فإنك لو سبرت كثيرا من البدع لوجدتها مأخوذة مما عند اليهود والنصارى ، لأن غالب البدع ، بل كل البدع تدور على حافتي الإفراط كما هو عادة اليهود أو التفريط كما هو عادة النصارى ، ونترك زيادة التفاصيل في ذلك إلى سبر الفروع إن شاء الله تعالى .
الخامس عشر : إحسان الظن بأهل البدع وخاصة علماء البدعة ، فإن العامة يحسنون الظن بهم ويقبلون فتاواهم فيما خالف الحق والسنة ومبدأ ذلك إحسان الظن بهم ، فإنك لو جمعت هذا السبب مع ما قد مناه سابقا من معاداة أهل الحق وأساءه الظن بهم لتبين لك كيف نشأت البدع وفشت .
السادس عشر : تسلط الولاة الظالمين على أهل السنة ومنهم ومنع فتاويهم ومنع نشر كتبهم مع السماح لأهل البدع بنشر مذهبهم وعدم معارضة نشر كتبهم وفتح الأبواب أمامهم في مخاطبة العامة بكل الوسائل المتاحة .
السابع عشر : ترجمة الكتب اليونانية في عهد المأمون ، وأنت خبير بما تنطوي عليه هذه الكتب من القواعد والآراء المنطقية الفلسفية المخالفة للمنقول المناقضة للمعقول ، وهي التي بسببها أنتشر علم الكلام الذي هو الوقود لكل بدع الاعتقاد ، عافانا الله وإياك من كل بلاء وفتنة.(1/37)
الثامن عشر : دعوى حرية الأديان والمذاهب ، فكل يختار ما يريده من المذاهب البدعية المخالفة للكتاب والسنة ، والسكوت عن مخالفته بهذه الحجة الخبيثة .
التاسع عشر : الاطلاع على كتب أهل البدع قبل التضلع من علوم أهل السنة ، وهذا داء كثير ممن اشتهروا في العالم الإسلامي كالغزالي والرازي والشهرستاني والجويني وابن رشد الحفيد وابن سينا والفارابي ونحو هؤلاء ، ولذلك فقد قرر أهل السنة أن الناظر في كتب المبتدعة لا بد فيه من أمرين : أن يكون متضلعا راسخا في علم الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة ، وأن يكون قصده معرفة ما عند المؤلف من الأخطاء للرد عليها وكشف عوراها وكسرها على حجج الكتاب والسنة .
... العشرون : تلبيس الشيطان وزخرفته . فهذه أبرز الأسباب التي حضرتني حال الكتابة والعفو أيها القارئ الكريم إن كان هناك من الأسباب ما يحسن تسطيره هنا ، فلعلك تنبهني عليه لاحقاً إن شاء الله تعالى .
فصل
المسألة السابعة : وهي أطول مسائل شرح هذه القاعدة ، وهي مسألة التفريع والتطبيق ، وقد جمعت لك تحت هذه المسألة فروعاً كثير فلا تستطل التفريع ، وإني أقصد أن تكون هذه الرسالة جامعة لغالب الفروع البدعية فقول وبالله التوفيق ومنه أستمد الفضل والعون وحسن التحقيق :(1/38)
الأول : بدعة إنكار القدر ، نعوذ بالله من هذه البدعة ومفادها أن الأمر أنف لم يقدره الله تعالى لا بعلم ولا بكتابة ولا بمشيئة ولا بخلق وهذه بدعة القدرية الغلاة الأوائل ، وأما القدرية المتأخرون فإنهم وإن أثبتوا العلم إلا أنهم ينكرون الخلق فيقولون إن العبد هو الذي يخلق فعله ، وكلا البدعتين كفر في ذاتها ، وبدعة الأوائل أشد كفراً وهي التي قال فيها عبد الله ابن عمر لما عرضت عليه " فإذا لقيت هؤلاء فأخبرهم أني بريء منه وهم براءى مني والذي يحلف به ابن عمر لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهباً ما قبل الله منه ذلك حتى يؤمن بالقدر " رواه مسلم ، وقد تقرر عند أهل السنة أن الإيمان بالقدر يشتمل الإيمان بعلم الله الشامل الكامل بكل ما كان وما يكون وما لم يكن أن لو كان كيف يكون وأنه لا يكون حركة ولا سكون ولا موت ولا حياة ولا غنى ولا فقر ولا إعزاز ولا إذلال ولا هزيمة ولا نصر ولا أي شيء في هذا الكون إلا والله تعالى يعلمه بكل التفاصيله ، ويشمل الإيمان في هذا الكون بأنه لا يكون في هذا الكون من شيء إلا والله تعالى قد كتبه في اللوح المحفوظ ، ويشمل الإيمان بمشيئة الله العامة وقدرته الشاملة ، ويشمل عموم خلق الله تعالى لكل شيء فلا خالق إلا الله تعالى ، فالله هو خالق هذا الكون علويه وسفليه وما بينهما ، وهو خالق العباد وخالق أفعالهم ، ففعل العبد ينسب لله تعالى خلقاً وإيجاداً وتقديراً وينسب للعبد نسبة تحصيل واكتساب قال تعالى " وكان أمر الله قدراً مقدورا " وقال تعالى " إن كل شيء خلقناه بقدر " وقال تعالى " ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير " وقال تعالى ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين " وقال تعالى " وكل شيء أحصيناه في إمام مبين " وقال تعالى " الله خالق كل شيء " وقال(1/39)
تعالى " وخلق كل شيء فقدره تقديرا ... " والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا وفي حديث جبريل عند مسلم وغيره " الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره " وقال عليه الصلاة والسلام " واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك , ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك طويت الصحف وجفت الأقلام " وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال لابنه : يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطئك لم يكن ليصيبك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن أول ما خلق الله القلم قال له أكتب قال : رب وماذا أكتب ؟ قال : أكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة " يا بني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من مات على غير هذا فليس مني " وفي رواية لأحمد " إن أول ما خلق الله تعالى القلم فقال له أكتب فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة " وفي رواية لأبن وهب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار " ولأحمد في المسند وأبي داود في السنن وكذلك لابن ماجه والحاكم عن ابن الديلمي قال : أتيت أبي بن كعب فقلت : في نفسي شيء من القدر فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي فقال : لو أنفقت مثل أحد ذهبا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر وتقلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار , قال : فأتيت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت فكلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم , حديث صحيح . وفي الحديث " كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة " والأدلة في هذه المسألة أكثر من أن تحصر .(1/40)
وهي قضية متواترة قطعية لا يدخلها مطلق الريب , فبان بذلك أن الإيمان بالقدر وإثباته ووجب التصديق به مما أتى به الشرع كتابا وسنة فإنكاره وجحده أو إنكار شيء من مراتبه إحداث في الدين شيئا ليس منه , وكل إحداث في الدين فهو رد فإنكار القدر من أعظم المحدثات وأخطر البدع الرديات لأنه تكذيب وجحد لما تواتر من الأدلة النقليات , وإنكار لإجماع العلم على اختلاف الفترات , وتعطيل لحكمة وعلم وقدرة رب الأرض والسماوات إلى غير ذلك من سائر أنواع المهلكات وأصناف البليات فإنكار مما أحدثه الشيطان وأوحاه إلى أوليائه وزينه في قلوبهم , فأقحموا عقولهم في كشف تفاصيل القدر وأوروا عليه من الإشكالات ما حارت فيه أفهام البقر ، فضلوا وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل ، فاحذر رحمك الله تعالى من إنكار القدر أو الخوض فيه بلا علم فإنه من بلايا الأمور على مر العصور وتصرم الدهور ، فإنكاره محدثة وبدعة ومن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ، وليس إنكار القدر محدثة فقط ، بل هو مصادم للمتواتر المنصوص عليه في المنقول ومناقض للمتقرر عند أصحاب العقول فمنكر القدر لا نقل معه ولا عقل ، وإنما هو التحكم والشهوة والهوى وقد ضل فيه طائفتان ، طائفة القدرية وطائفة الجبرية ، وصور إنكار القدر كثيرة ، فمنها : إنكار حكمة الله تعالى في فعله ومنها : سلب العبد قدرته واختياره ومنها : اعتقاد أن العبد هو الذي يخلق فعله ومنها : نفي الأسباب ومنها : الاعتماد المطلق على السبب ومنها : اعتقاد أن العبد مسير مطلقا أو مخير مطلقا لأن كلا هذين المذهبين مبنيان على المخالفة في مرتبة من مراتب القدر ، ومنها : الاحتجاج بالقدر على ارتكاب الموبقات والآثام ، وقد تكلمنا عن هذه التفاصيل في مواضع أخرى والمقصود هنا هو أن إنكار القدر محدثة وبدعة في الشرع فهو رد على أصاحبه لأن المتقرر أن كل إحداث في الدين فهو رد .(1/41)
الفرع الثاني : بدعة الدعوة إلى الخروج على حكام الزمان بمجرد ارتكابهم للكبائر وهذه من البدع التي ورثت في الأمة الاستهانة بالدماء وهلاك الدهماء وفساد نظام الأمة وعدم استقرار أمنها وضعفها أمام عدوها وتفرق صفها وشتات كلمتها وغير ذلك من البلايا ، فهلكت بهذه البدعة الأنفس المعصومة واضطرب بسببها أمر الأمة المرحومة ، وهي من أوائل البدع في الأمة فقتل بسببها الخليفة الثاني والثالث ودبرت المحاولات الآثمة من الأبدي المجرمة لقتل الخليفة الرابع ، ولا تزال محاولات اغتيال الأئمة على أشدها على مر العصور ، وهي من البدع التي أصلها الخوارج المارقة ، والمعتزلة الخارقة لصحيح الاعتقاد والمخالفة لسبيل الهدى والرشاد ، فهي من المحدثات الكبار التي تواترت الأدلة في التحذير منها وبيان آثارها والزجر عنها فمن أصول الخوارج والمعتزلة الخروج على الحكام بلا قيد ولا شرط وإنما هو التأويل الفاسد والفهم العاطل الكاسد ، وهي أثر من آثار التكفير بلا عدل ولا برهان ، وإنما متابعة لما أملاه عليهم الشيطان ، فكم وكم من الأنفس والأموال والديار التي هلكت بسبب هذه البدعة الملعونة البغيضة ، ولذلك فقد حرص أهل السنة رحمهم الله تعالى أن يقرروا حرمة الخروج على الحاكم وإن ظلم وفجر واعتدى وأخذ المال وجلد الظهر ، إلا أن نرى كفر بواحا عندنا فيه من الله برهان مع غلبة الظن بالانتصار عليه بلا دماء , وهذا من باب دفع أعلا المفسدتين بارتكاب أدناهما , وكم من الدول التي خرجت على حاكمها لظلمه وبعيه وسفكه للدم الحرام , فلما ابعد عن الحكم ازداد الظلم والقتل , وذهب الأمن واضطربت الديار واختلط الحابل بالنابل , حتى بكوا الدم على أيام حاكمهم الأول وتمنوا أنهم ما فعلوا , ولات حين مناص , ولذلك قال أهل السنة رحمهم الله تعالى : ولا نرى الخروج على الأئمة وإن فجروا وظلموا وبغوا وطغوا إلا بالكفر البواح الظاهر مع غلبة الضن بالنصر عليهم بلا مفاسد أعظم ،(1/42)
ونرى وجوب السمع والطاعة إلا أن يأمروا بمعصية فلا سمع ولا طاعة ونرى وجوب إقامة الصلاة خلفهم ولا يتخلف عنها وراءهم إلا مبتدع مبتغ في الإسلام سنة ضلالة ، ونرى الدعاء للسلطان بالصلاح والمعافاة فإن بصلاحه صلاح غالب من تحته ، وليوم تحت سلطان فاجر خير من سبعين سنة بلا إمام ، ونرى الحج والجهاد وإقامة الجمع والجماعات وراءهم أبرارا كانوا أو فجارا ، ونرى وجوب الصبر على ما يصدر منهم من أخذ المال والحبس ظلما وبغيا ، والاستئثار بملاذ الدنيا دون الرعية ، ولا ننزع يدا من طاعة ، هكذا قال أهل السنة ، ولا يقصدون بذلك الرضا بالظلم والبغي والإثم ، حاشا وكلا ولكنهم راعوا المصالح والمفاسد واعتمدوا ما ورد به النقل وسار عليه سلف الأمة ، ونظروا في وجوب المحافظة على ضرورات الدين الخمس ، فالسلطان يتحقق به الأمن والمحافظة على الاستقرار وإقامة الحدود والسلامة من الفتن ، ولا تقوم مصالح البلد إلا بسلطان ولو كان فاجرا في نفسه ، والمقصود أن الخروج على الحكام لمجرد ظلمهم وارتكابهم للكبائر من البدع والمحدثات المخالفة لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأدلة المتواترات تواترا معنويا ، قال تعالى " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة " متفق عليه وللبخاري " السمع والطاعة حق " وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعصى الأمير فقد عصاني وإنما الإمام جنة ، يقاتل من ورائه ، ويتقى به فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجرا ، وإن قال بغيره فإن عليه منه " متفق عليه ، وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنهما قال : دعانا النبي صلى(1/43)
الله عليه وسلم فبايعناه فقال فيما أخذ علينا :أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان " متفق عليه وفي لفظ " وأن نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم " وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل حبشي كأن رأسه زبيبة " رواه البخاري ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك " رواه مسلم وعن أبي ذر رضي الله عنه قال : إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبدا مجدع الأطراف " رواه مسلم ، وعن يحيى بن الحصين عن جدته أم الحصين قال : سمعتها تقول : حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع ، قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أمر عليكم عبد مجدع ، ويقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا " رواه مسلم ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من كره من أميره شيئا فليصبر فإنه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية " متفق عليه ، وفي رواية لهما " فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية " وعن أبي حازم قال : قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء ، كلما هلك نبي خلفه نبي ، وإنه لا نبي بعدي ، وسيكون خلفاء فيكثرون " قالوا : فما تأمرنا ؟ قال : " فوا ببيعة الأول فالأول ، أعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم " متفق عليه ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ستكون أثرة تنكرونها " قالوا : يا رسول الله فما تأمرنا ؟ قال : " تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم " متفق عليه ، وعن الزبير بن عدي قال : أتينا(1/44)
أنس بن مالك رضي الله عنه فشكونا إليه ما يلقون من الحجاج ، فقال : أصبروا ، فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه ، حتى تلقوا ربكم ، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ومن بايع إماما ، فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع ، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر وعن الأشعث بن قيس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم " رواهما مسلم . عن حذيفة رضي الله عنه قال : كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني . فقلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال " نعم " فقلت : وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال " نعم " وفيه دخن " قلت : وما دخنه ؟ قال " قوم يهدون بغير هديي , تعرف منهم وتنكر " قلت : هل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال : " نعم دعاة إلى جهنم من أجابها إليهم قذفوه فيها " قلت يا رسول الله صفهم لنا ؟ فقال " هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا " قلت : فما تأمرني إن أدركني ذلك , قال " تلزم جماعة المسلمين وإمامهم " قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال " فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك " متفق عليه ولمسلم " يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس " قال قلت : فكيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك ؟ قال " تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع .(1/45)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فمات , مات ميتة جاهلية , ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لغضبها أو يدعوا إلى عصبية أو ينصر عصبية , فقتل , فقتلة جاهلية , ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاش من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده , فليس مني ولست منه " رواه مسلم , وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من خلع يدا من طاعة , لقي الله يوم القيامة لا حجة له , ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة الجاهلية " رواه مسلم وعن عرفجة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد , يريد أن يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فاقتلوه " رواه مسلم .(1/46)
وفي رواية " إنه ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان " وعن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إنه يستعمل عليكم أمراء , فتعرفون وتنكرون , فمن كره فقد برئ , ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع " قالوا يا رسول الله ألا نقاتلهم ؟ قال " لا ما صلوا " وعن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنوهم ويلعنونكم " قالوا : يا رسول الله ، أفلا ننابذهم عند ذلك ؟ قال : " لا ما أقاموا فيكم الصلاة ، لاما أقاموا فيكم الصلاة ، ألا من ولي عليه وآل فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يدا من طاعة "رواه مسلم وفي رواية ( وإذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه فكرهوا عمله ولا تنزعوا يدا من طاعة ) والأحاديث في هذا المعنى كثيرة واقتصرنا على أحاديث الصحيحين لنمنع تكدير صفو الاستدلال على هذه المسألة بكثرة المناقشة في أسانيدها ، فهذه الأدلة تفيدك إفادة صريحة صحة ما قاله أهل السنة في هذه المسألة وأنه الحق الذي لا يجوز العدول عنه ، وأن المذاهب المخالفة لذلك كلها باطلة ، وبهذا يتبين لك إن الدعوة إلى الخروج على الحكام من المحدثات في الشرع ومن المخالفات لهذه الأدلة القواطع في دلالتها فهي رد على أصحابها لأنها إحداث في الدين والمتقرر أن كل إحداث في الدين فهو رد ، فأوصيكم رحمكم الله تعالى أين كنتم وفي أي زمن كنتم بالسمع والطاعة بالمعروف لأمير البلد الذي أنتم فيه وأن لا تنزعوا يدا من طاعة وأن تكونا مهم على الخير والحق يدا واحدة وسفا واحدا وأن لا تسمحوا لهذه المذاهب الفكرية الفاسدة والمعتقدات البغيضة الكاسدة أن تفرق صفكم ولا أن تشتت شملكم ، وناصحوا ولاتكم بالضوابط الشرعية(1/47)
وادعوا لهم بالصلاح والرشاد والتوفيق ، واصبروا على ما يصدر منهم تجاهكم من التقصير في حقوقكم فإن الأمر يسير والدنيا زائلة والأعمار قصيرة ، وإن المصلحة في بقائهم مع اتحاد الكلمة ووفور الأمن أعظم مما ترجونه من متاع الدنيا وادرسوا مذهب السلف في كيفية التعامل مع الأمراء ، وانشروه في بلادكم وعلموه لأولادكم وهم صغار حتى يرسخ في قلوب العامة والخاصة فإن الخروج على الحكام من محدثات الأمور التي لا نزال نعايش آثارها إلى هذا الزمان ، فالفرق والقصد تبلغوا والله يرحمكم ويصلح قلوبنا وقلوبكم وأسأل الله جل وعلا بسمه الأعظم إن يهدي قادة المسلمين وأن يصلح أعمالهم ويشرح صدورهم للحق ويرزقهم العدل في لقضية والحكم بالشريعة بين الرعية والقسمة بالسوية ، وأن يوفقهم لما فيه صلاح البلاد والعباد إنه خير مسئول وهو حسبنا ونعم الوكيل .(1/48)
الفرع الثالث : بدعة تكفير المسلم بعينه بلا قيد ولا شرط ولا برهان حاكما كان أو محكوما ,وهي من المحدثات القديمة في الأمة والتي بسببها خرج الخوارج على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعملوا فيهم السيف وجعلوا ديار المسلمين ديار كفر واستحلوا الأنفس المعصومة وانتهكوا الأموال والأعراض المحترمة وهي من بث روح التحريش بين أفراد الأمة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم " وقد زينها الشيطان في قلوب الكثير حتى صارت من أصول بعض الفرق كالخوارج والمعتزلة والرافضة المرفوضة عقلا وشرعا وفطرة وقد ازداد شرر هذه المحدثة وتطايرت ألسنة لهيبها حتى أكلت الأخضر واليابس ولا تزال الأمة تعاني من آثارها السيئة ومن أعظم آثارها هذه التفجيرات التي تحصل من التكفيريين بين الفينة والأخرى فكفروا بالكبائر وبالتهمة وبمجرد المظنة وبلا ترو ولا قواعد ولا برهان حتى أصبح الغالب منهم يكفر عموم الأمة إلا أفراد قلائل هم من كانوا على شاكلته وبنوا على ذلك استحلال الدماء والأموال والأعراض وهذا كله بسبب الفهم الفاسد والتأويل الباطل والأخذ ممن لا يعرفون بفقه ولا ديانة, والقدح في أهل العلم الراسخين وعدم سماع النصح والغرور والكبر وابتغاء الفتنة ولا خلاص من هذه المحدثة إلا بأخذ كلياتها وتفاصيلها عن علماء أهل السنة , أهل العلم والتقى والديانة والأمانة , حفظ الله أحياءهم وغفر لأمواتهم وجزاهم الله خير ما جزى عالما عن أمته , فإنهم قد رسموا الخطوط العريضة وأصلوا القواعد وقرروا الضوابط في مسألة تكفير معين بما لايدع مجالا للآخذ عنهم أن يضل السبيل فمن سلك ما سلكه أهل السنة في هذه المسألة بل وفي كل مسألة فهو المهتدي , ومن يهدي الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأما أن تؤخذ هذه المسألة من الأغرار الأحداث سفهاء الأحلام ممن لا يرقبون مصلحة ولا مفسدة فناهيك حينئذ من(1/49)
الفساد والبلاء الذي سيحل بالأمة أفرادا وجماعات والعجيب أن كبارهم في الفتوى صارت عندهم نزعة شيطانية في تلبيس الحق بالباطل وتزويق الألفاظ وزخرفتها وإخراجها في قالب النصح لله ورسوله وللأمة وأن هذه الاغتيالات والتفجيرات هي عين الجهاد المأمور به شرعا , وكانوا قبل ذلك قد نزعوا هيبة العلماء من قلوب أتباعهم بأنهم علماء مناصب وأتباع دنيا , ذلك لعلم هؤلاء السفلة أن أهل العلم لن يسكتوا وسيردون وينصحون ويكشفون الشبه , فحذرا من توبة أحد أتباعهم قالوا : لا بد أن نشككه أولا في مصداقية هؤلاء العلماء , ولذلك فإنك ترى أن الأتباع لا يرجع منهم إلا النادر , لأن أذانهم وقولبهم قد ملئت من القدح في أهل العلم , وهذه الخدع في التنفير عن الحق ليست جديدة , بل هي مدرسة شيطانية يتعلم فيها أحباب إبليس كيفية ترويج هذه العقائد الفاسدة , فمن عوامل نفاذها القدح في ذات الحق , فإن نجحت وإلا فينقلون إلى القدح في حامل الحق , فإن نجحت وإلا فينتقلون لمرتبة إيذاء حامل الحق لمنعه من بلاغ الحق إما بالوشاية به إلى السلطان وتلفيق التهم الكاذبة والدعاوى الباطلة به , وإما بقتله أو بنفيه من البلد أو سجنه ومنعه من مخاطبة الناس , ولقد صدق القائل إن الناس بخير ما احترموا جناب العلماء والأمراء , فإن القدح في العلماء يوجب ذهاب هيبة العلم , والقدح في جناب الأمراء يوجب ذهاب هيبة الأمن , وأي بلد بالله عليك تقوم مصالحها في العاجل والآجل بلا علم ولا أمن , والمقصود أن هذه المحدثة العظيمة والطامة الوخيمة والبدعة الأثيمة قد ضربت بأطنابها في الأمة من القدم , ولقد وردت الأدلة المحذرة من إطلاق حكم التكفير على أحد من المسلمين بلا علم ولا قيد , فالحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في دائرة الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار , ففي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما(1/50)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أيما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما " ولمسلم " أيما امرئ قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه " وروى البخاري في الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول " لا يرمي رجلا رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك " وللبخاري أيضا في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء أحدهما " ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير , فلتنق الله تعالى في هذا اللسان فإن آفاته كثيرة وآثارها خطيرة , وبالجملة فإن هنا أصولا لابد من فهمها حتى تتحدد معالم هذه المسألة وهي كما يلي :
الأصل الأول : التكفير حكم شرعي وقد تقرر أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة ، فالتكفير لا يؤخذ إلا من النص ، فليس تكفير المسلم حكما مرجعه الهوى والتشهي والتشفي ودرك الغيظ وإطفاء نار الغضب ، نعوذ بالله من ذلك ، فإن هذه الكلمة عظيمة ولها آثارها المعروفة عند أهل العلم فلا تؤخذ إلا من الكتاب والسنة فلا نكفر عينا إلا من كفرهم الله كفرهم رسوله صلى الله عليه وسلم أو أرتكب ما نصت الأدلة على كفر مرتكبه بعد التأكد التام من تحقق شرط التكفير وانتفاء موانعه ، وهذا أصل عظيم في هذه المسألة لا بد من الاعتماد عليه ولذلك ففي الحديث " إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان " فلا بد من إقامة البرهان على هذا التكفير ولا بد من فهم هذا البرهان على ما فهمه السلف الصالح والمقصود من هذا الأصل أن تعلم أن التكفير حكم شرعي والأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة .(1/51)
الأصل الثاني : أن التكفير نوعان : تكفير عام وهو تكفير الأقوال والأفعال التي ثبت الدليل بأنها كفر ، وتكفير للمعين ، فأما التكفير العام فيشترط فيه شرط واحد وهو ثبوت النص بأن هذا القول أو هذا الفعل كفر ، وهو جائز باتفاق أهل السنة ، وهذا التكفير ينصب على ذات القول وذات الفعل بغض النظر عن قائله وهو الذي يسميه أهل العلم : التكفير بالوصف الأعم كقولهم : من شبه الله بخلقه كفر ، ومن جحد ما وصف الله به نفسه كفر ومن قال بخلق القرآن فقد كفر ونحو ذلك وإطلاق هذا التكفير لابد أن يكون مضبوطا بالأصل الثالث وهو :(1/52)
الأصل الثالث : أن التكفير بالوصف العام لا يستلزم تكفير المعين إلا بعد ثبوت الشروط وانتفاء الموانع ، أي أنك إذا أردت أن تعدي حكم التكفير من القول أو الفعل إلى قائله أو فاعله فلا بد من النظر من توفر شروط انطباق تكفير المعين مع التأكد من انتفاء الموانع ، فإذا ثبتت كل الشروط وانتفت كل الموانع ثبت حكم تكفير المعين ، وبه تعلم أنه لا يجوز التسرع في تكفير أحد من أهل القبلة بمجرد قول الكفر أو فعله قبل النظر في ثبوت الشروط وانتفاء الموانع ، وقد نص عليها أهل السنة فأولها العقل أي أن يكون قائل الكفر أو فاعله ذا عقل تكليفي وبناء عليه فلو كان القائل أو الفاعل لذلك مجنونا فإن حكم التكفير لا يتعدى إليه لأن التكليف مرفوع عن المجنون ، فالعقل شرط والجنون مانع ، وفي الحديث " رفع القلم عن ثلاثة ...(1/53)
وذكر منهم " وعن المجنون حتى يفيق وهو حديث جيد وثانيها : البلوغ ، إي أن يصدر القول والفعل الكفري ممن تحققت فيه علامة من علامات البلوغ ضد الصغر ، فالبلوغ شرط والصغر مانع , وفي الحديث السابق " وعن الصغير حتى يحتلم " وثالثها : العلم بالتحريم أي أن يكون القائل أو الفاعل للكفر عالما بالتحريم , قال تعالى " لأنذركم به ومن بلغ " وقال تعالى " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " والأدلة من السنة على اشتراط العلم كثيرة قد ذكرتها في كتابي قواعد في الحكم على الآخرين , وذكرت طرفا منها في كتاب تحرير القواعد ومجمع الفرائد وكتاب تلقيح الأفهام العلمية بشرح القواعد الفقهية قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى " فإن خالف بعد ذلك , بعد ثبوت الحجة فهو كافر , فأما قبل ثبوت الحجة عليه فمعذور بالجهل " أهـ , وقال أبو العباس رحمه الله تعالى " إن تكفير المعين وجواز قتله موقوف على أن تبلغه الحجة النبوية التي يكفر من خالفها وإلا فليس من جهل شيئا من الدين يكفر " وقال أيضا عند كلامه عن بعض المكفرات " لكن من الناس من يكون جاهلا ببعض هذه الأحكام جهلا يعذر به فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة " وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى " وأما ما ذكره الأعداء عني أني أكفر بالظن والموالاة أو أكفر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة فهذا بهتان عظيم " أهـ(1/54)
قلت : لكن لابد أن يقيد هذا الجهل بالجهل الذي يعذر به صاحبه , وهو الجهل الذي تعذرت أسباب رفعه وعجز المكلف عن كشفه لعذر من الأعذار كمن نشأ في بادية بعيدة عن العلم والعلماء أو أسلم حربي في دار حرب مثلا ولا يستطيع الهجرة إلى ديار الإسلام ونحو ذلك , فأما الجهل الذي يستطيع المكلف كشفه متى شاء لكن اشتغل عن رفعه بالدنيا وشهواتها فهذا الجهل لا يعذر به صاحبه , فالعبد مأمور برفع الجهل عن نفسه وهذا الأمر مناط بالقدرة لحديث " إذا أمرتكم بأمر فأتوا من ما استطعتم " وقد تقرر في القواعد أن الواجبات تسقط بالعجز عنها , وكذلك لا يكون الجهل عذرا في مسائل الدين الكبار كما نص على ذلك أهل العلم رحمهم الله تعالى , فمسائل التوحيد الكبار كوحدانية الله تعالى وصدق الرسالة ونحوها , هذه لا يعذر بالجهل فيها لأنها من المسائل التي انتشرت براهينها في الأمة وصار العلم بها من الضروريات التي لا يدعي بالجهل بها إلا معاند مكابر , وبالجملة فالعلم بالتحريم شرط والجهل بالشروط السابقة مانع .
ورابعها : القصد , وضده الخطأ فالقصد شرط والخطأ مانع , فإن بعض المكفرات قد تجري على ألسنة البعض وهم لا يقصدون بها معناها وإنما جرت على لسانهم خطأ فهؤلاء لا ينطبق عليهم حكم هذه الكلمات كحديث ذاك الرجل الذي قال " اللهم أنت عبدي وأنا ربك " فقال عليه الصلاة والسلام " أخطأ من شدة الفرح " فلم يرتب عليه الحكم لفوات شرط وهو القصد ووجود مانع وهو الخطأ
وخامسها : الاختيار وضده الإكراه , فالاختيار شرط والإكراه مانع فمن قال الكفر أو فعله مكرها فلا شيء عليه إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان قال تعالى " من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان " وفي الحديث " إن الله تبارك وتعالى تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " وإسناده جيد وقد تلقته الأمة بالقبول .(1/55)
وسادسها : عدم التأويل فهذا شرط ووجود التأويل مانع , والمراد به أن يرتكب المسلم أمرا كفريا معتقدا مشروعيته أو إباحته له بدليل يرى صحته أو لأمر يراه عذرا له في ذلك وهو مخطئ في ذلك كله . فإذا اعتقد المسلم أو فعل أو قال أمرا مخرجا عن الملة وكان عنده شبهة تأويل في ذلك وهو ممن يمكن وجود هذه الشبهة لديه , وكانت في مسألة يحتمل التأويل فيها فإنه يعذر بذلك ولو كانت هذه الشبهة ضعيفة , وقد حكى بعض أهل العلم إجماع أهل السنة على ذلك المانع قال أبو العباس رحمه الله تعالى " إن المتأول الذي قصد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكفر بل ولا يفسق إذا اجتهد فأخطأ وهذا مشهور عند الناس في المسائل العملية , وأما مسائل العقائد فكثير من الناس كفر المخطئين فيها وهذا القول لا يعرف عن أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ولا عن أحد من أئمة المسلمين وإنما هو في الأصل من أقوال أهل البدع" أ هـ , فلهذا ينبغي للمسلم أن لا يتعجل في الحكم على الشخص المعين أو الجماعة المعينة بالكفر حتى يتأكد من وجود جميع الشروط وانتفاء الموانع , فالتجاسر على تكفير من ظاهره الإسلام من غير مستند شرعي ولا برهان مرضي يخالف ما عليه أئمة العلم من أهل السنة والجماعة وهي طريقة أهل البدع والضلال , وهي محدثة في الدين فتكون مردودة على أصحابها لأن كل إحداث في الدين فهو رد , فالتسرع في التكفير بلا برهان ولا مراعاة للضوابط المقررة بالأدلة في ذلك خروج عن مقتضى الشرع وولوج في دائرة الابتداع والإحداث ومن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد . وبالجملة فتكفير المعين يفتقر إلى أمرين :
أحدهما : قيام الدليل على أن ما قاله أو فعله كفر , والثاني : التأكد من قيام شروط التكفير وانتفاء الموانع , فاحفظ لسانك عن هذا الزلل فإنه عظيم , عصمنا الله وإياك من محدثات الأمور إنه خير مسئول والله أعلم .(1/56)
الفرع الرابع : الحكم بغير ما أنزل الله تعالى , وهذه من المحدثات العظيمة التي صادموا بها شريعة الله تعالى , فقرر أصحابها في تفاصيل القضايا أحكاما تخالف ما أنزل في الكتاب والسنة قد استوردوها من الغرب الكافر فجاؤا بقوانينه وحكموها في المسلمين وعينوا لها القضاة وفتحوا لتقريرها المحاكم القانونية وهذه من البدع الوخيمة الكفرية في كثير من صورها كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى وقد وردت أدلة الكتاب والسنة بلزوم الحكم بما أنزل الله تعالى فلا حاكم شرعا وقدرا إلا هو جل وعلا , قال تعالى " إن الحكم إلا لله " وقال تعالى " فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا " وقد أجمع أهل العلم على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه وأن الرد إلى الرسول هو الرد إليه بنفسه في حياته والرد إلى سنته بعد مماته , وقال تعالى " وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله " وقال تعالى " وأن أحكم بينهم بما أنزل الله " في آياتين متواليتين وقال تعالى " أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون " وقال تعالى " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " وقال في الآية الثانية " الظالمون " وقال في الثالثة " الفاسقون " وقال تعالى " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا , وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا " وقال تعالى " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما " وقال تعالى " له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون " وقال تعالى في بيان صفات المؤمنين " إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا " ومن(1/57)
المتقرر عند أهل العلم أن عبادة الله تعالى تقتضي إفراده بالتحليل والتحريم , كما قال تعالى ذاما اليهود والنصارى " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم " ولما قال عدي بن حاتم : يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم , قال : " أليسوا يحلون ما حرم الله فتحلونه ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه " قال : نعم , قال : " فتلك عبادتهم " رواه الترمذي , وقال تعالى " أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا " وقال " فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين " وقال تعالى " أليس الله بأحكم الحاكمين " وقد تقرر في الفطر السليمة والعقول المستقيمة أن من له الحكم لا بد أن يتصف بصفات ينفرد بها عن غيره وذلك ليس إلا الله وحده لا شريك له , فمن ذلك أن يكون هو الذي فطر السموات والأرض وهو الذي خلق الخلق وبرأهم كما قال تعال بعد قوله " وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب , فاطر السموات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " وكذلك يكون له مقاليد السموات والأرض كما قال " له مقاليد السموات والأرض " فهل في الكفرة المشركين للنظم الشيطانية من يستحق أن يوصف بأنه الرب الذي تفوض له الأمور وتتوكل عليه وأنه فاطر السموات والأرض وخالق البشر وأن له مقاليد السموات والأرض ؟ بالطبع لا وألف لا , فلما تخلفت فهم صفات من له الحكم بطل تشريعهم إذ لا حق لهم فيه ,ومن صفات من له الحكم أيضا أن له غيب السموات والأرض كما قال تعالى " له غيب السموات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا " فهل بالله عليك في الكفرة المشرعين من له غيب السموات والأرض , ومن صفاته أيضا أنه الإله الواحد المستحق لكل أنواع العبادة وأنه الباقي بعد هلاك كل شيء كما قال تعالى " ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو له(1/58)
الحكم وإليه ترجعون " فهل في الكفرة والفجرة المشرعين لهذه القوانين من يستحق أن يكون إلها باقيا لا نهاية له , ومن صفاته أيضا أنه يقص الحق وأنه خير الفاصلين كما قال تعالى " إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين " فهل في الكفرة الملاحدة المعارضين لشريعة الله تعالى من يقص الحق وأنه خير الفاصلين ؟ نعم فيهم من يستحق قص لسانه وفصل رقبته عن عنقه , أما قص الحق والحكم الفصل فإنما هو لله وحده لا شريك له , ومن صفاته أيضا إنزال الرزق كما قال تعالى " قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون " فهل في هؤلاء القردة والخنازير من يستحق أن يوصف بأنه هو الذي ينزل الرزق ؟ سبحانه جل وعلا أن يكون له شريك في حكمه , وفي الحديث " إن الله هو الحكم وإليه الحكم " فالحاكم على الحقيقة من يتصف بهذه الصفات , فليس من قرر حكما أو قانونا يخالف الشرع يقبل حكمه فتحكيم هذه القوانين محدث في الشرع وكل إحداث في الدين فهو رد , واسمعي أيتها الدنيا إلى قول الله جل وعلا " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " فإذا كان التسليم والرضا وعدم وجود الحرج في النفس بما حكم الله تعالى شرط في الإيمان فكيف بمن نسف الشرع جملة وتفصيلا وقرر القوانين الطاغوتيه في بلاده وفتح لها المحاكم ولم يأل جهدا في محاربة الداعين إلى تطبيق الشريعة في بلاده وغير بلاده ؟ إن الأمر عظيم والمصيبة وخيمة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم , فيا ولاة الأمر في سائر بلاد الإسلام أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في أنفسكم وفي رعاياكم , اتقوا الله فيهم ولا تحكموا فيهم غير شرع الله , احذروا رحمكم الله تعالى من هذه القوانين الوضعية وارفضوها الرفض الكامل , وقرروا في بلادكم الحكم بما أنزل الله , ولا يحملنكم حب المناصب على مخالفة مرضاة الله تعالى(1/59)
فإنها لو بقيت لغيركم ما وصلت لكم , وأنتم عن قريب مفارقوها , وبين يدي الله واقفون وعن أعمالكم ورعيتكم محاسبون وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته , وإن من استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصحه ومات وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة وأي غش أعظم من الحكم بينهم بقوانين الشرق والغرب التي تخالف شريعة الله , والله يا ولاة الأمر إني لكم ناصح , ومن عذاب الله عليكم لمشفق , فاتقوا الله ولا تحكموا بين رعاياكم إلا بشريعته فإنها البر والصلاح والخير والفلاح في العاجل والآجل وهي سبب لمرضاة الله عليكم وازدهار اقتصادكم وثبات أمر ولايتكم واندحار عدوكم ودفاع الله عنكم وعن بلادكم , أسأل الله تعالى أن يوفق الولاة للحكم بشريعته والفقه في دينه وأن يقيهم الشرور والفتن ما ظهر منها وما بطن , والمقصود من ذلك أن تعلم بارك الله فيك أن الأدلة الشرعية جاءت بوجوب الحكم بما أنزل الله تعالى وأن تحكيم القوانين الوضعية محدثة في الشرع فهي رد على أصحابها لأن كل إحداث في الدين فهو رد .(1/60)
فإن قلت : ومتى تكون هذه المحدثة موجبة لكفر صاحبها ؟ فأقول : إن الحكم بغير ما أنزل لنا فيه نظران : نظر باعتبار الحاكم ونظر باعتبار المحكوم له , فأما باعتبار الحاكم فلا يخلو : أما واضع هذا القانون الأول والذي إنما وضعه من باب التشريع ليعارض به حكم الله تعالى فهذا كافر الكفر الأكبر ولا يشترط في تكفيره النظر إلى هو مستحل أولا وهو من جملة طواغيت هذه الأمة , وأما الحاكم بهذا القانون الحكم المطلق أي أنه قد قرر في بلاده الحكم بهذا القانون الحكم المطلق فلا يحكم بالشريعة مطلقا , بل لا يحكم إلا بهذا القانون في كل مصادره وموارده وزاد على ذلك تقرير تدريس تفاصيل هذا القانون في مناهج بلاده ووظف الحكام به وفتح لهم المحاكم ورفض أن يحكموا بغيره وأخذ عليهم العهود والمواثيق أن لا يحكموا إلا به , وحارب الدعاة إلى تطبيق الشريعة في بلاده , فهذا أيضا كافر الكفر الأكبر من غير نظر هل مستحل أولا فإن الفعل و دلالة الحال أقوى في هذه الحالة من ألف مقال , وأما الجاحد لأحقية الحكم بما أنزل الله , أعني أن يجحد أو ينكر الحاكم بغير ما أنزل الله أحقية حكم الله تعالى فهذا أيضا كافر الكفر الأكبر لأنه جاحد ومكذب لهذه النصوص القرآنية الكثيرة ولإجماع الأمة المعلوم من الدين بالضرورة , وكذلك أيضا من يحكم بغير ما أنزل اله تعالى مفضلا حكم الطواغيت على حكم الله تعالى سواء كان هذا التفضيل مطلقا أو بعض المسائل , فمن اعتقد أن حكم غير الله تعالى أفضل من حكمه ولو في مسألة واحدة فإنه كافر الكفر الأكبر المخرج عن الملة , وكذلك من يعتقد جواز الحكم بغير ما أنزل الله وأن الحكم بغير ما أنزل الله تعالى ليس بواجب وأنه بالخيار بين أن يحكم بما أنزل الله أو يحكم بغير ما أنزل الله تعالى فهذا أيضا كافر الكفر الأكبر المخرج عن ملة الإسلام , وذلك لتجويز ما قد علم بالنصوص بالصحيحة الصريحة تحريمه ,وكذلك من ترك الحكم بما أنزل الله إباء(1/61)
وامتناعا عن الحكم به فهو أيضا كافر الكفر الأكبر وكل هذه المسائل السابقة لا ننظر فيها هل هو مستحل لذلك أو لا , فإن النظر في مثل ذلك في هذه المسائل كأنه نوع إرجاء , وأما الذي يحكم بغير ما أنزل الله في مسألة أو مسألتين أو أكثر بحيث لا يبلغ وصف الكثرة والديمومة وهو مقر بوجوب الحكم بما أنزل الله تعالى ومعتقد حرمة ما حكم به وعالم بأنه عاصي في هذا الحكم ولكن دفعه له رشوة أو غرض من عصبية أو حمية أو شهوة ونحوها فهذا لا يصل إلى حد الكفر الأكبر بل هو باق في دائرة الكفر الأصغر فهو من أصحاب الكبائر وكأن تكفير هذه النوع من نزعة التكفيريين وبالجملة فهذا ما قرره علماء أهل السنة فصارت الحالات في الحاكم بغير ما أنزل الله تعالى كما يلي :
الأولى : واضع النظام أولا فهذا كافر .
الثانية : الحكم بهذا القانون الحكم الكلي الدائم فهذا كافر .
الثالثة : الجاحد لأحقية الحكم بما أنزل الله تعالى فهذا كافر .
الرابعة : المفضل لأحكام الطواغيت على حكم الله تعالى فهذا كافر .
الخامسة : المساوي بين حكم الطواغيت وحكم الله تعالى فهذا كافر .
السادسة : المعتقد بجواز الحكم بغير ما أنزل الله تعالى وأنه مخير في ذلك فهذا كافر .
السابعة : من لا يحكم بما أنزل الله تعالى إباء وامتناعا فهذا كافر .
الثامنة : من حكم بغير ما أنزل الله تعالى في بعض المسائل بحيث لا تصل إلى وصف الكثرة والديمومة وهو مقر بوجوب الحكم بما أنزل الله تعالى ومقر بأنه عاصي وظالم في هذا الحكم فهذا لا يكفر بل هو من أصحاب الكبائر .(1/62)
وأما بالنسبة للمحكوم بهذه القوانين فإن كفره يتعلق بقبوله لغير شريعة الله ورضاه بها , فإن تحاكم إلى هذه القوانين راض بها ومعتقدا جواز التحاكم إليها أو مفضلا لها على حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أو معتقدا أنها هي وحكم الله ورسوله سواء فيذهب لهذه القوانين وهو مريد لها إرادة رضا وقبول فهذا كافر الكفر الأكبر المخرج عن الملة , وأما من ألجيء إلى التحاكم إليها وهو لا يظهر حقه إلا بذلك وهو كاره لها ومعتقد عدم جواز التحاكم إليها ولو لم تدفعه الحاجة والضرورة لاستخراج حقوقه للتحاكم إليها لما تحاكم إليها ولكن ليس في بلاده إلا هذه المحاكم فأقدم على ذلك وهو كاره ومبغض فهذا لا نحكم عليه بأنه كافر بل ولا فاسق لأنه قد ألجأته الضرورة لها ولأنه كافر بها ومبغض لها ولأن قلبه مطمئن بالإيمان بما أنزل الله تعالى لاسيما وأن أنظمة الهجرة من بلد إلى بلد باتت معقدة والمقصود من إثبات هذا الفرع تحت هذه القاعدة هو أن تعلم أن هذه الأحكام المخالفة في الشريعة هي مما أحدثه الفجار في الدين فهي رد عليهم لأن كل إحداث في الدين فهو رد والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .(1/63)
الفرع الخامس : تكفير أصحاب الكبائر كما هو مذهب الخوارج والمعتزلة فأما الخوارج فقد صرحوا بأنه كافر وأما المعتزلة فإنهم قالوا لا مؤمن ولا كافر بل هو في منزلة بين المنزلتين وحقيقة قولهم هذا أنه كافر وبيان هذه الحقيقة تتضح إذا فهمت أمرين : أحدهما : أن تقابل الإيمان مع الكفر الأكبر تقابل نقيض والنقيضان هما اللذان لا يرتفعان ولا يجتمعان في وقت واحد , وهم قد نفوا الإيمان عن مرتكب الكبائر وحيث نفوا الإيمان عنه فإنه يثبت نقيضه وهو الكفر شاؤا أم أبوا إذ ليس هناك مكلف في الدنيا لا يكون مؤمنا ولا كافرا بل إما مؤمن وإما كافر فإذا ثبت الإيمان ارتفع الكفر الأكبر وإذا ثبت الكفر الأكبر ارتفع الإيمان وقيدت ذلك بالكفر الأكبر لأن الأصغر يجتمع مع الإيمان ويتضح هذا بالوجه الثاني : وهو أن المعتزلة ذهبوا إلى أن مرتكب الكبيرة إن مات مصرا عليها فإنه خالد مخلد في النار أبدا لا يخرج منها أبد الآباد وهذا هو شأن الكافر في الآخرة والمهم أن تعلم أن من البدع والمحدثات في العقيدة تكفير أصحاب الكبائر كما هو حال هذه الطوائف المبتدعة وهذا المذهب باطل مبتدع محدث في الدين وكل إحداث في الدين فإنه رد كما تقرر في قاعدتنا وبيان وجه كونه محدثة عدة أمور :(1/64)
الأول : أنه مخالف لما جرى عليه سلف الأمة وأئمتها فإن السلف رفع الله قدرهم ومنازلهم في الآخرة يعتقدون أن مرتكب الكبيرة في الدنيا مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته أي أنهم لا يعطونه الإيمان المطلق الكامل ولا يسلبونه مطلق الإيمان وهذا أمر متفق عليه بينهم على مر التاريخ ولم يخالف في ذلك منهم أحد هذا هو سبيل المؤمنين وقد تقرر أن الإجماع حجة شرعية يجب قبولها واعتمادها والمصير إليها وتحرم مخالفتها والعبرة هنا هو إجماع أهل السنة لأن هذه المسألة عقدية فحيث تقرر أن هذا هو سبيلهم فالواجب إتباعه وتحرم مخالفته بدليل قوله تعالى " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا " وقد تقرر أيضا أن كل فهم في مسائل الاعتقاد ويخالف منهج السلف فإنه باطل وحيث كان مذهب الخوارج والمعتزلة مخالف لفهم السلف فإنه يكون باطلا .
الثاني : قوله تعالى " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين , إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون " فهنا طائفتان قد قتل بعضهم بعضا ومعلوم أن قتل المؤمن من عظائم الأمور والذنوب والجرائم ومع ذلك فقد سماهم الله تعالى " المؤمنين " ووصفهم بأنهم إخوة وهذا يفيد أن من ارتكب هذه الكبيرة لا يخرج عن مسمى الإيمان فإذا كان ذلك في قتل المسلم الذي هو من أعظم الذنوب فلأن يدخل ما دونه تحت حكمه من باب أولى كالزنا والسرقة ونحوها , والقياس الأولوي حجة .(1/65)
الثالث : قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فإتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ... الآية " والشاهد أن الله تعالى قد سمى القاتل أخا للمقتول مع أنه قد قتله والقتل عظيمة من عظائم الذنوب والآثام ومع ذلك فقد وصف الله تعالى القاتل بأنه أخ للمقتول وهذا يفيدك أن هذا القتل لم يقطع أخوة الإيمان مع أنه كبيرة من الكبائر فلو كان ارتكاب الكبيرة يخرج العبد من مطلق الإيمان لما كان هناك مطلق الأخوة بين القاتل والمقتول فلما وصفهما بالأخوة دل ذلك على أن الإيمان لا يزال باقيا في حق القاتل فأفاد ذلك أن ارتكاب الكبيرة لا يخرج من الإيمان ولكنه ينقص الإيمان فقط
الرابع : اتفاق الفقهاء رحمهم الله تعالى على أن من زنى فعليه جلد مائة إن كان بكرا وعليه الرجم إن كان محصنا وأن من سرق فعليه القطع وأن من شرب الخمر فعليه الجلد وهذا صار من المعلوم من الدين بالضرورة ولكن قد اتفقوا جميعا أن من وقع في هذه الأشياء يستتاب فإن تاب وإلا قتل , هذا لم يقله أحد منهم فلو كان مرتدا كافرا لوجب استتابته لكن الفقهاء رحمهم الله تعالى اكتفوا بإقامة الحد عليه من غير استتابة ولا قتل فدل ذلك على أنهم يعتقدون أنه لا يزال مؤمنا وهذا إجماع منهم ولا عبرة بالطوائف المبتدعة في هذه المسألة ويوضح هذا الذي بعده(1/66)
الخامس : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر حاطب بن أبي بلتعة بتجديد إسلامه لما فعل ما فعل رضي الله عنه من إخبار المشركين بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحربهم وهذا كبيرة من الكبائر وقد يصل في بعض صوره إلى الكفر ولكن عفا عنه لما أخبره بسبب فعل ذلك ولم يتعرض له بشيء بل نهى الصحابة أن يتعرضوا له بشيء وقال : " وما أدراك لعل الله أطلع على أهل بدر فقال " اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " فدل ذلك على أن مجرد الوقوع في الكبيرة لا يخرج من الإيمان فلو كان ما فعله حاطب رضي الله عنه كفرا لما كانت حسنة شهوده بدرا مكفرة لذلك وهذا دليل على أن هذه الفعلة كانت من الكبائر في حقه ومع ذلك فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما يفيد أنه لا يزال على الإيمان , وهو رد صريح على مذهب هؤلاء السقطة ويبين أن ما اعتقدوه محدثة وبدعة في الشرع وكل إحداث في الدين فهو رد
السادس : في حديث زيد بن خالد وأبي هريرة رضي الله عنهما في حديث العسيف الذي زنى بامرأة سيده وأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بينهما بأن على العسيف جلد مائة جلدة وتغريب عام وأن على زوجة السيد الرجم وهذا هو قضاء الشريعة مع أنهما قد وقعا في جريمة الزنا وهو بالاتفاق من الكبائر ومع ذلك فلم يقل : قد كفرا وعليهما التوبة أو القتل ردة وكفرا وإنما قضى عليهما بالحد المقرر شرعا مما يدل على أنهما لا يزالان في دائرة الإيمان فلو كان ارتكاب الكبيرة مخرج من الملة لما كان هذا هو القضاء الحق لأن القضاء في المرتد أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل , وانظر كيف قال عليه الصلاة والسلام " والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله " أي بشرعه وحكمه , فأفاد ذلك أن كتاب الله وحكمه عدم تكفير مرتكب الكبيرة فتدبر هذا فإنه واضح الدلالة في أن مرتكب الكبيرة لا يزال مؤمنا لكنه ناقص الإيمان .(1/67)
السابع : حديث أبي هريرة في الصحيح في عقوبة مانع زكاة المال مع الإقرار بوجوبها وفيه " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا صفحت له يوم القيامة صفائح من نار فيكوى بها جلده وجنبه وظهره وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر ... الحديث" وفيه " ثم يرى مآله بعد ذلك إما إلى جنة وإما إلى نار " ووجه الاستشهاد به أنه من المعلوم أن منع الزكاة من كبائر الذنوب لأنه إخلال بركن من أركان الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم قضى على المانع بأن عليه هذه العقوبة يوم القيامة لكنه قال " ثم يرى ماله إما إلى الجنة وإما إلى النار " فدل ذلك على أنه لم يكفر بارتكاب هذه الكبيرة إذ لو كان كافر لكان مصيره إلى النار حتما لأن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة ، فلما قال " إما إلى الجنة " علمنا علمنا أن مانع الزكاة مع ارتكابه لهذه الكبيرة موته عليها لم يخرج عن دائرة الإيمان وهذا فيه أوضح دلالة على أن مرتكب الكبيرة لا يزال مسلما لكنه ناقص الإيمان .(1/68)
الثامن : حديث عبادة بن الصامت قال ، قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله عصابة من أصحابه " بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه " متفق عليه ووجه الاستشهاد به أن يقال : إن السرقة والزنا والقتل والإتيان بالبهتان والمعصية في المعروف كلها من الذنوب الكبيرة فمن فعل من ذلك شيئا فهو دائر بين حالتين : إما أن يأخذ عقوبته في الدنيا وإما أن يستره الله فلا يدري عنه أحد ويكون تحت المشيئة ، فإن عوقب على فعلته في الدنيا فهي مكفرة لجرمه ، ومن ستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه إن شاء عذبه، فقوله " عفا عنه "دليل على أنه مع ارتكابه لهذه الكبيرة لم يكفر إذ لو كان كافر لما دخل في دائرة العفو لقوله تعالى " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء " والشرك إذا أطلق عن الكفر دخل معه الكفر تبعا ، فهذا الحديث دليل على أن مرتكب الكبيرة وإن عوقب على كبيرته إلا أنه ليس بكافر بحيث تجب له النار مطلقا فهو دليل واضح بين في أن مركب الكبيرة لا يكفر بل هو مؤمن ناقص الإيمان .(1/69)
التاسع : حديث معمر عن ثابت عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي " رواه الترمذي والحاكم وابن حبان وإسناده صحيح على شرط مسلم ، وهو نص فاصل في هذه القضية التي طال حولها الجدل ، وهو دليل على أن أصحاب الكبائر من حملة الذين يدخلون تحت شفاعته صلى الله عليه وسلم بإذن الله ورضاه ، فلو كان أصحاب الكبائر كفار لما حلت فيهم الشفاعة لعموم قوله تعالى " فما تنفعهم شفاعة الشافعين " وقد اتفق أهل السنة على أن الكافر لا يؤذن فيه بالشفاعة من أحد إلا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب خاصة وهي شفاعة تخفيف لا إخراج ، وأما سائر الكفار فلا يشفع فيهم البتة فلما نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن شفاعته في أهل الكبائر من أمته دل ذلك على أنه بقي معهم شيء من الإيمان أي أنهم لم يخرجوا من دائرة الإيمان بالكلية ومن قال غير ذلك فقد رد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله ، فهذا يفيدك أن ما ذهب إليه الخوارج والمعتزلة إنما هو اعتقاد من عند أنفسهم وإملاء شياطينهم من الإنس والجن فهو اعتقاد محدث في الدين وكل إحداث في الدين عقيدة وشريعة فهو رد .(1/70)
العاشر : حديث أم حبيبة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " أريد ما تلقى أمتي بعدي ، وسفك بعضهم دماء بعض ، وسبق ذلك من الله كما سبق على الأمم قبلهم ، فسألته أن يوليني شفاعة يوم القيامة فيهم ففعل " رواه الحاكم وابن أبي عاصم في السنة والطبراني في الأوسط وإسناده صحيح ، وسفك الدم الحرام من الكبائر ومع ذلك فقد أعطى ربنا جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم الشفاعة فيهم تفضلاً منه جل وعلا وامتناناً فلو كانوا يكفرون بهذه الكبيرة لما أذن له بالشفاعة فيهم ، فأي دليل أصرح وأوضح من هذه الأدلة الطيبة المباركة ، والحمد لله على هذه الهداية والتوفيق وأسأل الله باسمه الأعظم أن يهدي كل المسلين لهذه المعتقدات الصحيحة وأن يثبتهم عليها إنه ولي ذلك والقادر عليه .
الحادي عشر : في حديث الأعمى عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته ، واختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ، فهي نائلة إن شاء الله تعالى من مات منكم لا يشرك بالله شيئاً " حديث صحيح ، وأهل الكبائر بالاتفاق من أهل السنة لم يصلوا إلى درجة الشرك فهم داخلون في عموم هذه الشفاعة إن شاء الله تعالى فدل ذلك على أنه قد بقي معهم شيء من الإيمان .(1/71)
الثاني عشر : حديث " يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن بره من خير ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير " ونقص إيمان هؤلاء جاء بتفويت بعض الواجبات وارتكاب بعض الموبقات ومع ذلك فالدليل نص على أنهم يخرجون من النار ولا يخلدون فيها فأفاد ذلك أنهم لا يزال معهم شيء من الإيمان مع ارتكابهم لهذه الكبائر . وبالجملة فإن أحاديث الشفاعة قد بلغت مبلغ التواتر وكلها قاضية بأن أصحاب الكبائر لا يخلدون في النار خلود الكفار مما يفيد أنهم لا يزالون في دائرة الإيمان وهذا هو الحق الذي ندين الله جل وعلا به , ونبرأ إلى الله تعالى من منهج الخوارج والمعتزلة فيما خالفوا به الكتاب والسنة . فبان لك بذلك أن تكفير أصحاب الكبائر من المحدثات والبدع في الدين فهو مردود على أصحابه لأن المتقرر في قاعدتنا إحداث في الدين فهو رد فانظر كيف بركة هذه القاعدة العظيمة والتي هي أصل من أصول الإسلام والله ربنا أعلى وأعلم .
فصل(1/72)
الفرع السادس : بدعة الإرجاء وهي بدعة خسيسة لا خير فيها وهي مقابلة لبدعة تكفير أصحاب الكبائر ومفادها أن من قال لا إله لا إله إلا الله فهو ذو إيمان كامل مهما عمل من الذنوب والآثام ما عدا الشرك , فارتكاب المعاصي والذنوب عند هؤلاء لا ينقص الإيمان , فهم يعتقدون أن مرتكب الكبيرة كامل الإيمان وأن ارتكابه للكبائر لا يؤثر مطلقا في مؤشر إيمانه , وأقذر إرجاء عرفته الدنيا إرجاء الجهمية الذين يجعلون الإيمان هو المعرفة فمن عرف الله بقلبه فهو مؤمن كامل الإيمان فالإيمان عندهم هو المعرفة القلبية , والمرجئة فرق شتى فمنهم من يجعل الإيمان هو الاعتقاد والإقرار فقط ويخرون العمل ومنهم من يجعل الإيمان مجرد الاعتقاد القلبي فقط ويخرجون القول والعمل , ومنهم من يجعل الإيمان قولا فقط ويخرج الاعتقاد والعمل ومنهم من يجعله مجرد المعرفة وكل هؤلاء قد ضلوا في هذا الباب كما ضل الخوارج والمعتزلة , فهؤلاء ضلوا في تكفير أصحاب الكبائر باعتقادهم أنه ليس معه مطلق الإيمان , والمرجئة ضلوا فيه حيث أعطوه الإيمان المطلق وكلاهما مذهبان فاسدان نبرأ إلى الله تعالى منهما ,وهذا المذهب أعني مذهب المرجئة مذهب محدث مبتدع في الدين مخالف لقواطع النصوص في هذه المسألة فهو رد على أهله لأن كل إحداث في الدين فهو رد , وبيان وجه كونه محدث وبدعة من عدة وجوه :
الأول : قوله تعالى " ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما " وقتل النفس ظلما وعدوانا من كبائر الذنوب والآثام وقد توعده الله تعالى بهذا الوعيد العظيم مما يدل على أن قتله هذا أثر في إيمانه وأنقصه عن كماله الواجب وإلا فبالله عليك لو كان قتله لم يؤثر في إيمانه ولا يزال إيمانه على حالته لم ينقص فلماذا يتوعده الله تعالى بهذا الوعيد العظيم وهو مؤمن كامل الإيمان ؟ سبحان من أعمى عيون الخفافيش عن إبصار نور الحق وشمس الهدى .(1/73)
الثاني : حديث أبي هريرة في الصحيحين قال , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يغل حين يغل وهو مؤمن ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع المؤمنون إليه أعينهم حين ينتهبها وهو مؤمن فإياكم إياكم " وهذا نص قاطع في أن مرتكب هذه الكبائر قد تأثر إيمانه ونقص فكيف يأتينا من يقول بل هو مؤمن كامل الإيمان , لكن انظر من جاءنا من بعيد يضحك فرحا مسرورا ؟ إنهم الوعيدية من الخوارج والمعتزلة جاؤا وقالوا : هذا الدليل لنا لا لكم , فقلنا وكيف ذلك ؟ قالوا : إن النبي صلى الله عليه وسلم قد نفى الإيمان عن فاعل هذه الكبائر فهو دليل على مذهبنا بأن مرتكب الكبيرة كافر خارج عن الإيمان فقال أهل السنة : إن المتقرر في القواعد أننا لا نأخذ معتقدنا إلا من الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة والسلف رحمهم الله تعالى لم يفهموا من هذا النص أن فاعل هذه الأشياء خراج عن دائرة الإيمان وإنما فهموا أنه لا يكون معه كمال الإيمان الواجب كما قال البخاري رحمه الله تعالى : هذا لا يكون مؤمنا كاملا ولا يكون معه نور الإيمان وبعض السلف فهم أن الإيمان حال مزاولة هذه الكبائر يكون فوق رأس صاحبه كالظلة فإذا نزع عن هذه الأشياء عاد إليه الإيمان ويروى في ذلك بعض المرويات المرفوعة والموقوفة وبعضهم – وهم الأكثر – قال : هذا من نصوص الوعيد التي نمرها كما جاءت على ظاهرها ولا نتعرض لها بتأويل لأن المقصود منها التهديد والتخويف والوعيد لكن الجميع اتفقوا على أنه لا يزال مؤمنا فهذا فهم سلفنا الصالح , وقد تقرر في القواعد أن كل فهم يخالف فهم السلف في مسائل الاعتقاد فإنه باطل , وسوف أفرد هذه القاعدة بشرح خاص إن شاء الله تعالى , والمقصود أن الحديث المذكور يفيد أن مرتكب الكبيرة قد نقص إيمانه الواجب الذي لا تحصل النجاة إلا به , وهذا يفيدك أن ما فهمه المرجئة(1/74)
إنما هو محدث وبدعة فهي رد عليهم لأن المتقرر أن كل إحداث في الدين فهو رد والله أعلم .
الثالث : حديث " لا يدخل الجنة قتات " أي نمام , ومن المعلوم أن النميمة كبيرة والنبي صلى الله عليه وسلم هنا يثبت أن من فعل هذه الكبيرة فإنه لا يدخل الجنة وهذا دليل على نقص إيمانه النقص الذي لا يؤهله لدخول الجنة , فهو دليل على أن مرتكب الكبيرة ناقص الإيمان إذا لو كان لا يزال إيمانه كاملا كما يقوله المرجئة لدخل الجنة مباشرة وهذا مضاد لدلالة هذا النص الذي اتفق الأئمة على صحته , ولا مخلص من ذلك إلا أن نقول إن النميمة أنقصت إيمانه عن كماله الواجب فإن قلت :أوليس هذا النص يؤيد مذهب الوعيدية ؟ فأقول : لا , ولا بوجه من الوجوه , فإن قلت : وكيف ذلك ؟ فأقول :إن الحديث أثبت أن هذا النمام لا يدخل الجنة ما دامت هذه الكبيرة في صحيفته لكن إذا محيت عنه بالمغفرة أو بالتعذيب فإنه يزول أثرها فلا يوصف بعد المغفرة أو التعذيب عليها بأنه نمام فيدخل الجنة بعد ذلك فهو لا يدخلها ما دام يوصف بذلك , وقد زال أثرها ووصفها إما بالمغفرة ابتداء أو بالتعذيب في النار بقدرها وقد تقرر في القواعد أن الحكم يدور مع علته وجودا أو عدما فالوصف المانع هو النميمة فإذا زالت العلة بالمغفرة أو بالتعذيب فقد انتفى المانع فيدخل بعد ذلك الجنة وهذا واضح , وقال بعض السلف إن الحرمان من الجنة نوعان : الحرمان المطلق أي المستمر الدائم وهو خاص بالكفار الكفر الأكبر والمشركين الشرك الأكبر والمنافقين النفاق الأكبر فهؤلاء محرومون من الجنة الحرمان المطلق أي لا يدخلونها أبدا .(1/75)
الثاني : مطلق الحرمان , أي الحرمان من دخولها في الزمن دون زمن وهذا هو حال أصحاب الكبائر كالنمام ونحوه ، فإن النص الذي فيه إثبات حرمان النمام من دخول الجنة لا يقصد به الحرمان المطلق وإنما يقصد مطلق الحرمان ، ومن السلف من قال : بل هذا من نصوص الوعيد الذي يجرى على ظاهره بلا تأويل مع الاعتقاد الجازم بأن صاحب الكبيرة لن يخلد في النار إن عذب فيها ، لأن نصوص الوعيد أن أولت فقد تخرج عن مقصودها وهو الزجر والتخويف والتهديد ، لكن اتفق السلف جميعهم على أنه لا يفهم منه الخلود الأبدي في النار كخلود الكفار ، والمقصود أن حرمان النمام من دخول الجنة نص قاطع الدلال في أن إيمانه قد نقص أي أن النمام لا يعطى الإيمان المطلق ولا يسلب عنه مطلق الإيمان ، الرابع : حديث ابن مسعود مرفوعا " لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر .... الحديث " وهو عند مسلم فيما أظن ، بل هو عند مسلم جزما ، وهذا نص واضح في أن وجود هذا المقدار ينقص الإيمان لأن الكبر من كبائر الذنوب والآثام ، ومنعه من دخول الجنة دليل على بطلان مذهب المرجئة الذين يقولون لا يضر مع الإيمان كبيرة ، فهذا الحديث ينص أن وجود هذه الكبيرة في القلب قد ضرت الإيمان وأنقصته عن كماله الواجب ، وما قلناه في تفسير السلف لحديث النمام هو بعينه ما نقوله فلا داعي للإ طالة بإعادته ، فيا رب يا رب يا رب أعوذ بك من الكبر كبيره وصغيره , أعوذ بك من الكبر كبيره وصغيره أعوذ بك من الكبر كبيره وصغيره , اللهم إني أسألك باسمك الأعظم أن تجعلني من عبادك المتواضعين , ولكن تأبى نفوسنا إلا الكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وإنا لله وإنا إليه راجعون .(1/76)
الخامس : حديث ابن مسعود في الصحيح " من حلف على يمين صبر يقتطع بها حق امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان " وهذه كبيرة من الكبائر توجب لصاحبها غضب الله تعالى , وأي مخلوق يقوى على غضب الله جل وعلا , فلو كان الحالف لهذه اليمين لم ينقص إيمانه فلماذا يغضب جل وعلا على عبد كامل الإيمان ؟ يا رجل ألهؤلاء عقول ؟ بالله عليك كيف يفكر هؤلاء ؟ لكنها الأهواء المضلة والمذاهب المختلة المعتلة المبنية على القواعد اليونانية المخالفة للمنقول والمناقضة للمعقول . والمهم أن هذا النص يثبت أن مرتكب هذه الكبيرة ناقص الإيمان وبه تعلم أن مذهب المرجئة إنما هو وسوسة من عند أنفسهم وشياطينهم وأنه ليس من الحق في صدر ولا ورد .
السادس : حديث " ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب " وهو في الصحيح , فالإسبال كبيرة والمن بالعطاء كبيرة وتنفيق السلعة بالحلف الكاذب كبيرة , فارتكاب هؤلاء لهذه الكبائر أنقص إيمانهم عن كماله الواجب بحيث استحقوا هذه العقوبات البليغة التي لا تقوم الدنيا لواحدة منها فكيف بها مجتمعة , فكيف يقول قائل إن ارتكاب هذه الكبائر وغيرها لا يؤثر في الإيمان , بل إيمان فاعلها وتاركها سواء لا يزيد بتركها ولا ينقص بفعلها ؟ نعوذ بالله من هذا المذهب الضال .
السابع : أحاديث الشفاعة كلها دليل على أن الموحد ذا الكبائر إذا لم تغفر له فإنه يدخل النار فيخرج منها بأسباب , منها شفاعة الشافعين فهذه الأدلة المتواترة في الشفاعة تفيد أن الموحد المذنب قد يدخل النار ودخوله هذا دليل على نقص إيمانه بسبب ارتكابه للذنوب والآثام , وإلا فلما ذا يدخل النار لو كان إيمانه كاملا بعد ارتكاب الكبيرة ؟ وهذا واضح في بطلان مذهب المرجئة .(1/77)
الثامن : حديث " يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير ... الحديث " وهذا دليل على أن قائل هذه الكلمة قد يدخل النار بسبب تفويت واجب أو ارتكاب محرم إذا لم يغفر له ذلك , وهذا الدخول دليل على نقص في كمال إيمانه الواجب الذي لا تحصل النجاة في الآخرة إلا به , فبطل بذلك مذهب المرجئة البطلان الكامل .
التاسع : يجمع ذلك حتى لا نطيل كل فعل رتب الشرع عليه عقوبة في الآخرة فإنه دليل على تأثيره في الإيمان بالنقص , ذلك لأن صاحب الإيمان الكامل لا عذاب عليه في الآخرة فلما توعدوا بالعذاب في الآخرة على ارتكابهم لهذه الكبيرة أفاد ذلك تأثيرها في نقص إيمانهم وهذا واضح إن شاء الله تعالى , وهي من الكثرة بما لا مزيد عليه في الاستدلال – أعني الأدلة المبطلة لمذهب المرجئة .(1/78)
العاشر : اتفاق السلف رحمهم الله تعالى على أن ارتكاب المعصية مؤثر في الإيمان بالنقص , فهذا منهجهم وهذا فهمهم لأدلة الكتاب والسنة وقد تقرر أن الإجماع حجة , والمقصود هنا إجماع أهل السنة إذ لا اعتداد بالمذاهب البدعية , تقرر أيضا أن كل فهم يخالف فهم السلف في مسائل الاعتقاد فإنه باطل , وبهذه الأدلة تعرف إن شاء الله إن ما ذهب إليه المرجئة إنما هو محدثة في الدين وبدعة فهو رد عليهم لأن كل إحداث في الدين فهو رد . وتذكر دائما عند دراسة هذا الباب قوله تعالى " أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون " وقوله تعالى " أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون " وقوله تعالى " وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء قليلا ما تتذكرون " فإن قلت : وما السبب الذي أوقع الوعيدية والمرجئة في هذه المخالفة ؟ فأقول : هي أسباب كثيرة , منها عدم الأخذ بالكتاب والسنة ومنها : اختلاط النبع , ومنها : القدح في مذاهب السلف ومنها إحسان الظن بفلاسفة اليونان ومنها : القواعد المخالفة للكتاب والسنة, ومنها : تحكيم العقل وتقديمه على النقل ومنها : التعصب للرأي ومنها : اعتقادهم أن الإيمان جزء واحد لا يزيد ولا ينقص وغير ذلك ويزداد الأمر وضوحا بتخصيص هذا السبب الأخير بفصل خاص والمهم عندي الآن أن تعلم أن تكفير أصحاب الكبائر من البدع المحدثة فهي رد لأن كل إحداث في الدين فهو رد , وأن الإرجاء بكل أنواعه بدعة محدثة فهي رد لأن كل إحداث في الدين فهو رد , وأن الحق في مرتكب الكبيرة هو ما جرى عليه السلف من أنه مؤمن ناقص الإيمان في الدنيا وأنه تحت المشيئة في الآخرة فإن شاء الله عفا عنه وأدخله الجنة ابتداء وإن شاء عذبه في النار بقدر ذنوبه ثم يخرجه إلى الجنة انتقالا وأنه لا يخلد أحد في النار من أهل التوحيد .(1/79)
فأرجو منك أن تحفظ هذا فإنه قد زلت فيه أقدام كثيرة والله المستعان .
فصل
الفرع السابع : بدعة الاعتقاد في الإيمان بأنه لا يزيد ولا ينقص وأنه جزء واحد لا يتجزأ وهو مذهب المرجئة والوعيدية من الخوارج والمعتزلة فكل هؤلاء يرون أن الإيمان جزء واحد لا يزيد ولا ينقص وهذا محدث في الدين وبدعة فهو رد على أصحابه لأن كل إحداث في الدين فهو رد , وذلك لأن الأدلة من الكتاب والسنة قد وردت بزيادة الإيمان وبنقصه , وهي كثيرة جدا فمذهب هؤلاء في هذه القضية محدث في الشرع وبدعة فهو مردود عليهم لأن كل بدعة في الدين ضلالة . وبيان كونها محدثة من وجوه :
الأول : أنها مخالفة للمتقرر في منهج السلف وما وقع عليه اتفاقهم فإن السلف رحمهم الله تعالى قد اتفقوا على أن الإيمان اعتقاد وقول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية , وقد استقرت كلمة المتأخرين من أهل السنة على أنه ينقص , والواجب إتباع سبيل السابقين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان من أصحاب القرون المفضلة
الثاني : قوله تعالى : ويزداد الذين آمنوا إيمانا هذا نص في هذه المسألة .
الثالث : قوله تعالى " ويزيد الله الذين اهتدوا هدى ".
الرابع : قوله تعالى " ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم " وكل شيء يقبل الزيادة فإنه يقبل النقص .
الخامس : حديث " ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الجازم من إحداكن " قلن وما نقصان عقلنا وديننا , قال " أليس شهادة امرأتين بشهادة رجل ؟ قلن بلى فقال : فذلك من نقصان عقلها , أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم ؟ قلن بلى قال : فذلك من نقصان دينها " وهو نص في النقص وهو متفق عليه .
السادس : حديث " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان " رواه مسلم .
فقوله " أضعف " دليل على أن الإيمان مراتب ودرجات ففيه أقوى الإيمان وأكمله وفيه المتوسط وفيه الضعيف وفيه الأضعف هكذا يفهم العرب من هذا الحديث .(1/80)
السابع : حديث " ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له حواريون يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " رواه مسلم وهو نص في أن الإيمان يزيد وينقص .
الثامن : حديث : " أكمل الأمة إيمانا أحاسنهم أخلاقا " وهو واضح الدلالة على المطلوب .
التاسع : حديث " يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله و في قلبه وزن بره من خير ويخرج من النار مثقال لا إله إلا الله و في قلبه وزن ذرة من خير " رواه البخاري " وفي روايه من إيمان " وفي رواية " أدنى أدنى أدنى ذرة من إيمان وهو واضح الدلالة على أن الإيمان يتفاوت في القلب .
العاشر : قوله تعالى : " إذ قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل .
الحادي عشر : في الصحيحين " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ... الحديث بتمامه .... وقد سبق سياقه كاملا . أي لا يكون هذا مؤمنا كاملا ولا يكون له نور الإيمان .(1/81)
الثاني عشر " في الصحيحين " الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة فأفضلها أو قال :فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان " وهذا دليل على أن الإيمان شعبا فمن استجمعها فقد استكمل الإيمان ومن نقص منها فقد نقص من إيمانه بقدرها فهذه الأدلة تفيدك إفادة قطعية أن الإيمان يزيد وينقص , فيزيد إذا فعل العبد موجبات زيادته من فعل الطاعات وترك المحرمات والتفكر في الآيات الكونية والشرعية ومعرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته . وينقص إذا غفل عن ذلك فترك الطاعة وارتكب المعصية وبه تعلم أنما يعتقده المبتدع من أن الإيمان لا يزيد و لا ينقص إنما هو شيء ابتدعوه واخترعوه من عند أنفسهم فهو محدثة وبدعة فيكون ردا عليهم لأن كل إحداث في الدين عقيدة و شريعة فهو رد .
فصل(1/82)
الفرع الثامن : بدعة رد خبر الآحاد في المسائل الاعتقاد أن المبتدعة على مختلف أصنافهم يقولون : إن خبر الآحاد لا يقبل في باب الاعتقاد لأن القاعدة عندهم أن الإعتقادات لا يقبل فيها إلا المتواترات , وهذه بدعة سمجة ومحدثة باطلة بالأدلة من الكتاب والسنة , وأقسم بالله تعالى على بطلانها , وأباهل على ذلك , والقوم يتسترون ورائها وإلا فالحق أنهم لا يريدون إثبات الصفات أصلا وبرهان ذلك أن الأدلة المتواترة لم يقبلوها معنا بل حرفوها وساموها تعطيلا وتحريفا وإلحادا ، فهم إذا كانت العقيدة قد ثبتت بالدليل المتواتر قبلوها ظاهرا وحرفوها في الدلالة ، وإن كانت بخبر آحاد قالوا : لا نقبل أخبار الآحاد في باب العقائد ، فهل بالله عليك قد قبلوا عقيدة إثبات الوجه واليدين والرضى والعلو والرحمة والغضب وغيرها مما ثبت بالأدلة المتواترة ؟ وهل قبلوا عقيدة إثبات الرؤية والحوض مع أن أحاديثها قد بلغت مبلغ التواتر ؟ وهل قبلوا عقيدة إثبات النزول في ثلث الليل الآخر مع أن أحاديثها قد بلغت مبلغ التواتر ؟ فالقوم أصلا لا يريدون إثبات شيء من العقائد ، لكنهم قدروا على خبر الآحاد مبنى ومعنى وأما المتواترات فإنهم لوردوها مبنى لا فتضحوا ، فاجلبوا بخيلهم ورجلهم على رد دلالاتها الصحيحة بالمعاني الغربية والتأويلات المستكرهه ، ألا فشاهت وجوه أهل البدع وخابوا وخسروا وما هذه المحدثة بأول محدثاتهم ولا هذه البدعة بأول جناياتهم على الشريعة الإسلامية زادها الله شرفا ورفعة ، والمهم أن رد خبر الآحاد في أبواب الاعتقاد من المحدثات والبدع ، فاحذره بارك الله فيك وأعلم رعاك الله تعالى أن القاعدة المتقررة عند أهل السنة أن خبر الآحاد الصحيح حجة مطلقا ، أي سواء كان في العلميات أو في العمليات أي في العقائد أو الشرائع ، والمهم عندنا معاشر أهل السنة هو صحة النص فإذا رآه الصيرفيون من فحول أهل الحديث العارفون بطرق التصحيح والتضعيف وحكموا عليه بالصحة(1/83)
فالواجب على الأمة قبوله والإذعان له وأن لا يعارض لا بقول ولا مذهب ولا رأي ولا أي شيء وإنما نقول سمعنا وأطعنا وصدقنا وسلمنا ، فخبر الآحاد الصحيح حجة في باب العقائد ، وعلى ذلك دلت الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة والإجماع وبيان ذلك من وجوه :
الأول : قوله تعالى " وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " والطائفة أسم يصدق على الرجل فما فوقه كما قاله ابن عباس ومجاهد والإمام أحمد وغيرهم من العلماء ، فأوجب الله تعالى على الطائفة المجاهدة إذا رجعوا أن يقبلوا إخبار الطائفة الباقية مما يحصل بخبرهم البشارة والنذارة ومما سمعوه من القرآن والسنة ، ولم يشترط التواتر ، وهذا نص في أن خبر الواحد حجة ، وهذا واضح .
الثاني : قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين " فلما أمر بالتثبت في خبر الفاسق ، دل ذلك على أن خبر العدل بخلافة فيقبل ولا يرد وإلا لم يكن لتخصيص الفاسق معنى ولما كان فيه فرق بين العدل والفاسق ، وخبر الآحاد كل رجاله ثقات أهل أمانة وعدل أهل ضبط وحفظ ، فما الموجب لرد خبرهم ؟ إن هو إلا الهوى وأتباع الشهوات .
الثالث : قوله تعالى فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " فأمر من لا يعلم بسؤال أهل الذكر ، وهم أولو الكتاب والعلم ولولا أنه يجب قبول خبرهم لما أمر بسؤالهم وهو سبحانه لم يقل : سلوا عدد التواتر ، بل أمر بسؤال أهل الذكر مطلقا فيدخل فيه سؤال الواحد والاثنين والثلاثة لأن الأصل بقاء المطلق على إطلاقه ولا يقيد إلا بدليل فدل ذلك على الواحد من أهل الذكر إذا سئل فأفتى وجب على العامي السائل قبول خبره وفتياه سواء في المسائل العلمية أو العملية وهذا نص في وجوب قبول خبر الآحاد .(1/84)
الرابع : قوله تعالى " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ، إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا ... الآية " فقد أوجب الله تعالى بيان ما أنزل من البينات والهدى وحذر من كتمه وهذا تحذير من كتم شيء من هذه البينات والهدى وهي مطلقة عامة يدخل فيها بيان الآحاد وبيان التواتر ، فلما أمر الله تعالى كل أحد ببيان هذه الأشياء وحذره من كتمانها دل ذلك على وجوب العمل بخبر الآحاد لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب قبول قوله ، ولذلك قال " وبينوا " فحكم بوقوع البيان بخبرهم ، أفاده القرطبي رحمه الله تعالى .
الخامس : قوله تعالى " واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة " وهذا أمر من الله تعالى لنساء النبي صلى الله عليه وسلم أن يذكرن للناس ما نزل في بيتهن من القرآن وما يسمعنه أو يرينه من النبي صلى الله عليه وسلم مما له تعلق بالتشريع وهذا أمر مطلق فيدخل فيه خبر الواحدة على انفرادها وخبرهن مجتمعات ويدخل فيه الخبر في العقائد وفي الشرائع والأصل بقاء المطلق على إطلاقه ولا يقيد إلا بدليل .
السادس قوله تعالى " ولا تقف ما ليس لك به علم " قال ابن القيم رحمه الله أي لا تتبعه ولا تعمل به ، ولم يزل المسلمون في عهد الصحابة يقفون أخبار الآحاد يعملون بها ، ويثبتون لله تعالى بها الصفات فلو كانت لا تفيد علما لكان الصحابة والتابعون وتابعوهم وأئمة الإسلام كلهم قد قفوا ما ليس لهم به علم ) أهـ(1/85)
السابع : في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقال له : إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله – وفي رواية إلى أن يوحدوا الله – فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله تعالى قد افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله تعالى قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقراهم فإنهم أطاعوك لذلك فخذ منهم وتوق كرائم أموال الناس واتق دعوة المظلوم منهم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب " فالنبي صلى الله عليه وسلم هنا قد بعث بهذه الأصول واحدا فقط ، فلو كان خبر الواحد لا يقبل في أبواب العقيدة لما كان صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ المبين ، ولما كانت الحجة قد قامت على أهل اليمن بمجرد خبر معاذ لأنه خبر آحاد ،لكن لما بعثه إلى اليمن وهو واحد بهذه الأصول الكبار أفاد ذلك وجوب العمل بخبر الآحاد .
الثامن : ما رواه البخاري في صحيحه من أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا بكتابه إلى كسرى وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى فلما قرأه مزقه فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يمزق ملكه " والشاهد هو أنه صلى الله عليه وسلم اكتفى بإقامة الحجة بالبلاغ بإرسال الواحد بهذا الكتاب إلى كسرى مما يفيد أن كسرى كان يجب عليه قبول خبر هذا الواحد وأن الحجة قد قامت عليه بخبر الواحد ولذلك استحق أن يدعو عليه النبي صلى الله عليه وسلم فلو كانت أخبار الآحاد لا تفيد العلم ولا تقبل في أبواب العقائد لما كانت الحجة مامت على كسرى ، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ المبين ، فتأمل هذا الدليل وانظر كيف دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فذلك يفيدك أن الحجة قد قامت عليه وسيلة البلاغ خبر الواحد فدل ذلك على وجوب قبول خبر الآحاد الصحيح .(1/86)
التاسع : ما رواه البخاري أيضا من حديث ابن عباس من أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث دحية الكلبي بكتابه إلى عظيم بصرى أن يدفعه إلى قيصر ، ووجه الشاهد منه هو بعينه ما ذكرناه في الذي قبله .
فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سراياه وعلى كل سرية واحد وبعث رسله إلى الملوك، إلى كل ملك واحد ، ولم تزل كتبه تنفذ إلى الولاة بالأمر والنهي ، فلم يكن أحد من ولاته يترك تنفيذ أمره وكذا كان الخلفاء بعده ، قاله الشافعي رحمه الله تعالى .
العاشر : عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نضر الله إمرءا سمع منا حديثا فبلغه كما سمعه فرب مبلغ أوعى من سامع " رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان ، ووجه الاستدلال به أن قوله " سمع منا حديثا " هو مطلق يدخل فيه أحاديث العقيدة وكذا أحاديث الشرائع ، وقوله " إمرءا " الخطاب هنا متجه لكل واحد بعينه إذا سمع الحديث أن يبلغه ، وتبليغ المرء الواحد للحديث هو الذي نسميه خبراً حاد ، وقد دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالنضارة وما ذلك إلا لوجوب قبول خبره لأن المقصود بهذا الحث على نشر الشريعة فلو كان خبر الواحد بالحديث لا يقبل لما كان في ذلك فائدة ، فلما حث ودعا علمنا أن خبر الآحاد الصحيح مقبول يجب العمل به وهذا واضح .(1/87)
الحادي عشر : ما في الصحيحين من حدث ابن عمر رضي الله عنهما قال : بينما الناس بقباء يصلون صلاة الصبح إذ جاءهم آتٍ فقال : إني قد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها فاستداروا كماهم إلى الكعبة " ووجه الشاهد منه أن هؤلاء قد قبلوا خبر هذا الواحد في تحويل القبلة ، وهذا من أعظم وأروع صور الامتثال ومثل ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وأمرهم على قبول خبر هذا الواحد ولم ينكر عليهم ، بل وأعظم من ذلك أن قبولهم لخبر هذا الواحد لو كان خطأ لنزل الوحي من الله تعالى بتصحيح مسار الأمور إلى وجهتها الشرعية ، فالصحابة في مسجد قباء قبلوا خبر الواحد في تحويل القبلة فاستداروا بناء على خبره إلى الكعبة ، وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم وسكت الوحي عن ذلك فكل ذلك يفيد أن خبر الآحاد الصحيح يجب قبوله واعتماده والعمل به والإذعان له .
الثاني عشر : عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه " رواه أبو داوود وصححه ابن حبان والحاكم ، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد قبل خبر الواحد في إثبات هذا الأمر الديني مما يفيد أن خبر الآحاد الصحيح مقبول .
الثالث عشر : أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يخابرون أربعين سنة فلما جاء رافع رضي الله عنه وأخبرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة ، تركوها لقول رافع والحديث في الصحيح ، ووجه الاستشهاد به أن الذي يخابرون من الصحابة تركوها مع أنها كانت مصدر عيشهم بسبب خبر رافع وهو خبر آحاد مما يفيد أن المتقرر في أذهانهم وقلوبهم هو وجوب قبول خبر الآحاد إذا جاء من وجه يصح .(1/88)
الرابع عشر : في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة العسيف ، قال " واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فاعترفت فرجمها " فقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم خبر أنيس وهو واحد في إقامة الحد وإزهاق الروح فأفاد ذلك أن خبر الآحاد الصحيح يجب قبوله واعتماده .
الخامس عشر : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر لوحده إلى مكة سنة تسع أن يبلغ الناس : ألا لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان وبإبلاغ سورة التوبة ثم أردفه بعلي رضي الله عنه ، والحديث في الصحيح من هؤلاء عبد القيوم بن زيد الله الرحماني وهو يروي عن جماعة أجلهم أحمد الله بن أمير الله القرشي عن نذير حسين الدهلوي وحسين بن محسن الأنصاري .
فالأول عن محمد إسحاق الدهلوي عن عبد العزيز بن أحمد الدهلوي عن والده ولي الله الدهلوي بما في إثباته كالإرشاد إلى مهمات الإسناد والقول الجميل .
والثاني عن محمد بن ناصر الحازمي وأحمد بن أحمد الشوكاني والحسن عبد الباري الأهدل ثلاثتهم عن عبد الرحمن بن سليمان الأهدل بما في النفس اليماني وروى محمد بن ناصر الحازمي وأحمد بن محمد الشوكاني عن والد الثاني محمد بن علي الشوكاني بما في إتحاف الأكابر .
ومنهم محمد إسرائيل السلفي عن عبد الحكيم الجيوري عن نذير حسين الدهلوي بالإسناد المتقدم.
وروى عبد الحكيم الجيوري عن شمس الحق العظيم أبادي بما في معجم الشيوخ وغيره
ومنهم محمد بن سعد بن بدران الدمياطي عن أبي النصر بهاء الدين بن محمد القاوقجي عن والده بما في إثباته المتعدة وهو عن محمد عابد السندي بما في حصر الشارد .
ومنهم محمد بن عبد الرحمن بن إسحاق آل الشيخ عن أبيه عن جده عن والده عبد الرحمن بن حسن عن إمام الدعوة .
وروى محمد بن عبد الرحمن آل الشيخ عن حمد بن فارس عن عبد الرحمن بن حسن .(1/89)
ووجه الشاهد منه أن خبر أبا بكر خبر آحاد , وحتى مع إرداف علي رضي الله عنه فإنه خبر اثنين فهو خبر آحاد أيضا ومع ذلك فقد اكتفى النبي صلى الله عليه وسلم في البلاغ بخبرهما مما يفيد أن خبر الآحاد الصحيح حجة يجب قبوله واعتماده والعمل به .
السادس عشر : في الصحيح أن المهاجرين والأنصار اختلفوا فقال المهاجرون يجب على المجامع الغسل وإن لم ينزل وقال الأنصار بل لا بد من الإنزال فبعثوا أبا موسى إلى عائشة رضي الله عنها فقالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختانُ الختانَ فقد وجب الغسل " فانتهت الخصومة بقبولهم لخبرها وهو خبر آحاد مما يفيد أن المتقرر في قلوبهم وعقولهم هو وجوب قبول خبر الآحاد .
السابع عشر : في الصحيح أن ضمام بن ثعلبة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله عن الإسلام فأخبره بالصلاة والزكاة والصوم , وفي آخره قال ضمام : وأنا رسول من ورائي من قومي ..... الحديث " وهذا هو الشاهد , أي أن ضماما صار كالمرسل من النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومه ليعلمهم أصول الإسلام , ويدعوهم إلى الله تعالى , وهو واحد فالأخبار التي سينقلها إلى قومه إنما هي أخبار آحاد ومع ذلك أقره النبي صلى الله عليه وسلم وإقراره دليل على قبول إرساله إلى قومه وهذا يفيد أن البيان البلاغ لقوم ضمام يحصل بخبره , وهو خبر آحاد فأفاد ذلك أن خبر الواحد الصحيح حجة يجب قبوله والعمل به .(1/90)
الثامن عشر : إجماع الصحابة رضوان الله عليهم فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقبلون خبر الواحد منهم إذا حدثهم به عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا في صور كثير , وما ورد عنهم في رد خبر الواحد بعد تحديه به إنما هو لطروء جهة من جهات الضعف على هذا الخبر فكانوا يطلبون أحيانا من المحدث به أن يحلف على صدقه وأحيانا كانوا يطلبون من يشهد له ولكن حتى لو طلبوا شاهدا آخر أو يمينا فإن الخبر مع الشاهد واليمين لا يزال في دائرة خبر الآحاد وهذا معروف باستقراء الصور وهو إجماع صحيح لا مطعن فيه البتة , وقد سار على هذا الإجماع سادات الأمة بعدهم من التابعين وتابعيهم وأئمة أهل السنة والجماعة حتى نبغت رؤوس الضلال من المعتزلة وغيرهم ففرقوا بين المتواتر والآحاد في العقائد والشرائع ,وهذا التفريق باطل بإجماع أهل السنة , والمقصود أن الصحابة قد أجمعوا على قبول خبر الآحاد قال ابن القيم رحمه الله تعالى : وأما المقام الثامن : وهو انعقاد الإجماع المعلوم المتيقن على قبول هذه الأحاديث وإثبات صفات الرب بها , فهذا لا يشك فيه من له أقل خبرة بالمنقول ’ فإن الصحابة هم الذين رووا هذه الأحاديث وتلقاها بعضهم عن بعض بالقبول ولم ينكرها أحد منهم على من رواها ثم تلقاها عنهم جميع التابعين من أولهم إلى آخرهم ومن سمعها منهم تلقاها بالقبول والتصديق لهم, ومن لم يسمعها منهم تلقاها عن التابعين كذلك وكذلك تابع التابعين مع التابعين وهذا أمر يعلمه ضرورة أهل الدين ) أ. هـ.(1/91)
أيضا غيره من المحققين فهو إجماع صحيح ثابت وقد تقرر عند أهل العلم أن الإجماع حجه يجب قبولها والمصير إليها ويحرم مخالفتها, فإن قبول أخبار الآحاد في العقائد والشرائع من سبيل المؤمنين فالحذر الحذر من إتباع غير سبيلهم فإن الله تعالى يقول " ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا " ولله در الإمام ابن القيم لما قال : ( إن هذه الأخبار ـ أي أخبار الآحاد ـ لو لم تفد اليقين فإن الظن الغالب حاصل منها ولا يمتنع إثبات الأسماء والصفات بها , كما لا يمتنع إثبات الأحكام الطلبية بها, فما الفرق بين باب الطلب وباب الخبر , بحيث يحتج بها في أحدهما دون الآخر وهذا التفريق باطل بإجماع الأمة ) وقال أيضا ( فتقسيم الدين إلى ما يثبت بخبر الواحد وما لا يثبت به تقسيم غير مطرد ولا منعكس ولا عليه دليل صحيح )
التاسع عشر : أن المتقرر عند أهل العلم أن إعمال الكلام أولى من إهماله وهذه الأخبار قد وردت عن المعصوم صلى الله عليه وسلم من وجه صحيح وطريق ثابت فالأصل إعمالها ولا يتم ذلك إلا بالقول بأنها حجة وأما على القول بأنها ليست بحجة فإن هذا إبطال لهذه النقول وإهمال لها والحق فيها الإعمال لا الإهمال .
العشرون : أن المتقرر عند أهل العلم أن غلبة الظن كافية في التعبد والعمل وأخبار الآحاد إن سلمنا أنها لا تفيد اليقين فإنها لا تنزل عن إفادة غلبة الظن فيعمل بها ويتعبد لله تعالى بما دلت عليه أنها تفيد غلبة الظن وغلبة الظن كافية في العمل .(1/92)
الحادي والعشرون : أن المتقرر شرعا أن الشريعة لا تفرق بين متماثلين كما أنها لا تجمع بين مختلفين فحيث ثبت الاحتجاج بأخبار الآحاد في باب العمليات فكذلك هي في باب العلميات لأن الكل يندرج تحت باب الإثبات بالوحي , ومن فرق بين هذا وهذا فقد تناقض وفرق بين متماثلين , وبالجملة فالأدلة على هذه المسألة كثيرة ولعل هذا كاف إن شاء الله تعالى وبه تعلم أن الحق الحقيق بالقبول هو القول بحجية خبر الآحاد مطلقا سواء في العقائد أو الشرائع وأن رد خبر الآحاد في باب العقائد إنما هو محدثة وبدعة فهو رد على أصحابه لأن كل إحداث في الدين عقيدة أو شريعة فهو رد , فالزم جادة المذهب الحق المتوافق مع الكتاب والسنة وإن رفضك الناس فالحق أحق أن يتبع ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فبان لك أن رد خبر الآحاد في باب العقائد إنما هو هلوسة وخرافات لا برهان عليها ، فاستعذ بالله تعالى من زيغ القلوب بعد هدايتها ، ومن انتكاستها بعد استقامتها والله يحفظنا وإياك.
فصل(1/93)
الفرع التاسع : بدعة تمثيل صفات الله تعالى بصفات خلقه ، أعوذ بالله من هذه البدعة ثم أعوذ به منها ثم أعوذ به منها ، يا رب أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وأنبياءك وجميع خلقك أني بريء منها ومن القائلين بها ، وأشهد أني في هذه المسألة جار على ما جرى عليه أهل السنة رفع الله قدرهم ومنازلهم في الدنيا والآخرة فأثبت لك من الأسماء والصفات ما أثبته لنفسك في كتابك أو أثبته لك رسولك صلى الله عليه وسلم في صحيح سنته من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكيف ولا تمثيل وأنفي عنك ما نفيته عن نفسك في كتابك أو نفاه عنك رسولك صلى الله عليه وسلم في صحيح سنته مع إثباتي لكمال ضد الصفة المنفية ، وهذا هو الحق الذي لا يجوز القول بغيره ولكن أبت عقول المبتدعة إلا الوقوع في حفرة التمثيل والارتواء من بالوعات التشبيه ، أكرمك الله ، فقالوا : نحن نثبت لله الصفات لكن على وجه يماثل صفات المحدثات فأثبتوا لله الوجه لكن اعتقدوا أنه كوجوهنا وأثبتوا اليدين ولكن اعتقدوا أنها كأيدينا وأثبتوا الاستواء والعين والرحمة والغضب والرضا ولكن قالوا : إنها كاستوائنا وأعيننا ورحمتنا وغضبنا ورضانا وهلم جرا في سائر الصفات وحجتهم في ذلك أن الاتفاق في الأسماء يستلزم الاتفاق في المسمى ، وأن الله تعالى أخبرنا عن الغائب بأسماء لها حقائق في الشاهد فوجب علينا حمل ما غاب على ما هو مشاهد وتخبطوا في ذلك خبط عشواء ورويت عنهم عبارات في ذلك لا يكاد يصدق العقل صدورها من عاقل ، لكن هؤلاء لا عقول لهم ، وحقهم أن يوضعوا في المصحات العقلية ويمنعوا من الاختلاط بالناس من باب سد باب الفتنة ، ومن باب الحجر الصحي لسلامة الاعتقاد ، فاحذر يا أخي من هذه البدعة الملعونة المذمومة الرديئة السخيفة التافهة الشيطانية ، واعلم أنه لا سلامة من هذه البلية إلا بالالتزام الكامل بمنهج أهل السنة في باب الأسماء والصفات ، والله يا أخي إني لك لناصح وعليك لمشفق من هذه البدعة(1/94)
الوخيمة والمحدثة العظيمة وأقسم بالله إنها محدثة وأقسم بالله إنها بدعة فهي رد على أصحابها لأن كل إحداث في الدين عقيدة أو شريعة فهو رد . والدليل على كونها محدثة وبدعة عدة أمور :
الأول : قوله تعالى : " ليس كمثله شيء " والكاف هنا زيدت لتأكيد نفي المثل , وقوله : ( ليس ) نفي وقوله ( شيء ) نكرة فهو نكرة في سياق النفي وقد تقرر في القواعد أن النكرة في سياق النفي تعم فيدخل في ذلك كل شيء , فيدخل الملائكة والسماوات والإنس والجن وكل شيء فإن الله تعالى لا يماثله شيء , وهذا النفي ورد مطلقا وقد تقرر في القواعد أن الأصل هو بقاء المطلق على إطلاقه ولا يقيد إلا بدليل فيدخل في ذلك الذات والأسماء والصفات والأفعال , فليس كمثل الله تعالى شيء في ذاته ولا في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله جل وعلا فبالله عليك أي وضوح غير هذا الوضوح ولكن عميت عيون الخفافيش عن إبصار نور الحق والهدى.
الثاني : قوله تعالى : " فلا تضربوا لله الأمثال " فقوله ( فلا تضربوا ) هذا نهي وقد تقرر في القواعد أن النهي المطلق عن القرينة يفيد التحريم , وقوله ( الأمثال ) جمع دخلت عليه الألف واللام الاستغراقية وقد تقرر في القواعد أن الألف واللام الاستغراقية إذا دخلت على الجمع أفادت العموم , وهذا يفيد النهي الأكيد القاطع عن ضرب الأمثال لله تعالى فمن قال : وجه الله كوجه الخلق فقد ضرب لله الأمثال ومن قال : يد الله كيد الخلق فقد ضرب لله الأمثال , ومن قال : استواء الله تعالى كاستواء الخلق فقد ضرب لله الأمثال وهكذا , فيكون متقحما في النهي , فضرب الأمثال لله تعالى لا يجوز البتة لأنه جل وعلا ليس له مثيل في ذاته ولا صفاته ولا أسمائه ولا أفعاله .(1/95)
الثالث : قوله تعالى " فلا تجعلوا لله أندادا " وهذا نهي قاطع في أن نجعل له جل وعلا أنداد ( أي أشباه ونظراء ) , لأنه جل وعلا هو الأحد في ربوبيته فلا معين ولا ظهير له , وهو الأحد في ألوهيته فلا شريك له وهو الأحد في أسمائه وصفاته فلا مثيل له , فمن قال : عين الله كعين خلقه فقد جعل لله ندا في هذه الصفة , ومن قال رحمة الله كرحمة خلقه قد جعل لله ندا في هذه الصفة , ومن قال غضب الله كغضب خلقه فقد جعل لله ندا في هذه الصفة , وهكذا , ولا خلاص من ذلك إلا بأن تثبت لله تعالى الأسماء والصفات وتنفي مماثلتها لصفات المحدثات , بل هي أوصاف كاملة من كل وجه , قد بلغت في الكمال نهايته وحده ولا يعتريها نقص بوجه من الوجوه وهي على ما يليق بجلال الله تعالى وعظمته , فلا تماثل شيئا من صفات المخلوقات لأن الله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .
الرابع : قوله تعالى " ولم يكن له كفواً أحد " فقوله " ولم " هذا نفي وقوله " أحد " نكرة ، وقد تقرر في القواعد أن النكرة في سياق النفي تعم أي أن الله تعالى لا مكافئ له في ذاته ولا في صفاته ولا في أسمائه وأفعاله ، فمن قال : إن نزول الله كنزول خلقه فقد جعل لله مكافئاً ومن قال إن ساق الله كساق خلقه قد جعل لله مكافئاً ، ومن قال أن رضا الله كرضا خلقه فقد جعل لله مكافئاً ، وهذا لا يجوز البتة .(1/96)
الخامس : قوله تعالى " هل تعلم له سميا " والسمي من تفسيراته المثيل أي هل هناك أحد يستحق أن يساوي الله تعالى في أسمائه وصفاته والجواب : لا ، لأنه جل وعلا هو المنفرد بكل معاني الربوبية والألوهية والكمال المطلق في أسمائه وصفاته ، فلا سمي لله جل وعلا في ذاته ولا سمي له في أسمائه ولا سمي له في صفاته وأفعاله فوالله لو أن الممثلة تدبروا هذه الآيات العظيمة لما قالوا بالتمثيل فإنها تقطع دابر المماثلة بين صفات الله تعالى وصفات خلقه فالواجب المقطوع به هو اعتقاد أن الله تعالى ليس كمثله شيء في ذاته ولا أسمائه ولا صفاته ولا أفعاله جل وعلا وتالله إن هذا هو الحق الذي لا نجاة للعبد إلا باعتقاده ، ووالله إن تمثيل بصفات الباري لصفات خلقه هو الباطل بعينه والكفر الصراح لأنه تكذيب للنقول المتواترة القاطعة وإنكار لما هو معلوم من الدين بالضرورة .
السادس : لقد تقرر عند عامة أهل السنة رحم الله أمواتهم وثبت أحياءهم أن الاتفاق في الأسماء لا يستلزم الاتفاق في المسمى أي ليس كل شيئين اتفقا في الاسم اتفقا في الصفة ، هذا باطل والحق خلافه فالاتفاق في الأسماء لا يستلزم الاتفاق في المسمى وهذا بإجماع أهل السنة ، فصفات الباري جل وعلا وإن اتفقت مع صفاتنا في مجرد الاسم فإن هذا الاتفاق لا يستلزم الاتفاق في كيفية الصفة ويوضح هذا الوجه الذي بعده .(1/97)
السابع : لقد تقرر عند أهل السنة رحمهم الله تعالى باتفاق المتأخرين منهم أن الاتفاق في الاسم الكلي المطلق لا يستلزم الاتفاق بعد التقييد والتخصيص والإضافة ، فلفظة يد ، من غير إضافة شيء هي اسم مطلق كلي ، لكن إذا قلت : يد الله ، أو قلت ، يد المخلوق فقد خرجت عن كونها اسماً مطلقاً ، وصارت اسماً مضافاً والصفة المضافة تختص بمن أضيفت إليه ، فليس قولنا : يد الله هو بعينه قولنا : يد المخلوق ، وإنما بينهما اتفاق في الاسم الكلي ، أي الاسم قبل الإضافة أي قولنا : يد ، هكذا بدون أي إضافة ، والاتفاق في الاسم الكلي المطلق لا يستلزم الاتفاق بعد التقييد والتخصيص والإضافة فاحفظ هاتين القاعدتين فإنها تقض قضاءً كليا على هذه البدعة القبيحة الخبيثة الشيطانية . ويوضح هذا الوجه ما يأتي بعد .(1/98)
الثامن : لقد تقرر عند عامة عقلاء بني آدم أن اختلاف الإضافات يؤدي إلى اختلاف المضافات، فإذا قلنا إضاءة الشمس ، وإضاءة الشمعة ، فقد أضفناه الإضاءة الأولى إلى الشمس، وأضفنا الإضافة الثانية إلى الشمعة فاتفقت الشمس والشمعة في أن كل منهما مضيء فهل هناك عاقل في الدنيا يقول : إن إضاءة الشمس هي بعينها إضاءة الشمعة ؟ بالطبع لا ، ذلك لأن الإضافة اختلفت فلما اختلفت الإضافات اختلفت المضافات ولو قلنا : فلو قلنا جناح الصقر وجناح البعوض ، فاتفق الصقر والبعوض أن كلاً منهما له جناح فهل الجناح المضاف للبعوض هو بعينه الجناح المضاف للصقر ؟ بالطبع لا ، ذلك لأن الجناح اختلفت إضافته ففي الأولى أضفناه للصقر وفي الثانية أضفناه للبعوض ،فلما اختلفت الإضافات اختلفت المضافات ، وهكذا نقول : يد الفيل ويد الإنسان فاتفق الفيل والإنسان أن كل منهما له يد ، فهل يد الفيل كيد الإنسان لا شك أن الجواب لا ، ذلك لأن اليد الأولى قد أضيفت للفيل ، وأما اليد فقد اختلفت إضافتها لأننا أضفناها للإنسان فاختلفت الإضافات لاختلاف المضافات ، وهذا واضح ، فيد الله ليست هي يد المخلوق لاختلاف الإضافات ، ووجه الله تعالى ليس كمثل وجه المخلوق لاختلاف الإضافات ، وعين الله تعالى ليست كمثل عين المخلوق لاختلاف الإضافات ، وساق الله ليست كساق المخلوق لاختلاف الإضافات ، واستواء الله تعالى ونزوله في ثلث الليل ليس كاستواء المخلوق ونزوله لاختلاف الإضافات ، وهكذا في سائر صفاته جل وعلا ذلك لأن الصفات المذكورة لله في القرآن لم تذكر مطلقة وإنما ذكرت مضافة إلى الله تعالى وكذلك صفات المخلوق المذكورة في القرآن أيضاً هي لم تذكر مطلقاً وإنما ذكرت مضافة إلى المخلوق ، فتكون صفة كل موصوف على ما يليق به ويناسبه ، فإذا أضيفت الصفة لله تعالى صارت لائقة به جل وعلا وإذا أضيفت للمخلوق صارت مناسبة لحاله ، ولا يمكن البتة أن تتفق الصفات مع اختلاف الإضافات ، وهذا(1/99)
واضح عند من أراد الحق متجرداً عن الهوى والتعصب . فإذا كان اختلاف الإضافات بين المخلوقات يوجب اختلاف الصفات المضافة إليهم فلأن يكون اختلاف ذلك يوجب اختلاف الصفات بين الخالق والمخلوق من باب أولى ، بل من باب أوجب .
التاسع : لقد تقرر باتفاق أهل السنة أن القول في الصفات فرع عن القول في الذات ، فالكلام فيهما واحد لا يختلف ، أي أن الذي نقوله في الذات هو ما نقوله في الصفات والعكس بالعكس وإثباتنا بالذات إثبات وجود لا تكييف فذلك أيضاً إثباتنا للصفات هو إثبات وجود لا تكييف ، وكذلك أيضاً نحن نثبت لله تعالى ذاتاً ليست كالذوات فكذلك أيضاً نقول : نثبت لله تعالى صفات ليست كالصفات ، وكذلك أيضاً فإننا نقول : إن ذات الله تعالى من باب الغيب فلا يمكن إدراك كيفيتها ولا مدخل للعقل في معرفة كنه حقيقتها فكذلك نقول : في الصفات أيضاً هي من باب الغيب ولا يمكن إدراك كيفيتها ولا مدخل للعقل في معرفة كنه حقيقتها ، فالكلام فيهما واحد ، وهؤلاء الممثلة يؤمنون بأن الله تعالى ذاتاً وكذلك يؤمنون بأنها ليست كالذوات وإنما الخلاف معهم في تكييف الصفات ، فيقال لهم ، إن ما تعتقدونه في الذات يجب عليكم أن تعتقدوه في الصفات لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات ومن فرق بينهما فهو متناقض مخالف للإجماع متنكب طريق ضلالة مجانب للحق ليس معه إلا القرمطة في النقليات والسفسطة في العقليات فهذه القاعدة المتفق عليها بين أهل السنة توجب وجوباً قطعيا الإيمان الجازم بأن الله تعالى ليس كمثله شيء في جميع صفاته . كما أنه تعالى ليس كمثله شيء في ذاته وهذا واضح عند أصحاب العقول السليمة ، وأما العقول المتلوثة بعفن علم الكلام اليوناني فلا أخالها تقبل هذا الكلام ، لكنه الحق وإن تقبله عقولهم ، وتمثيلهم للصفات باطل وإن رضيته عقولهم والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .(1/100)
العاشر : إن المتقرر عند العقلاء أن باب الغيب مبناه على التوقيف فلا مدخل للعقول فيه ، ذلك لأن الله تعالى لما خلق العقل جعل له طاقة وقدرة فلا يزال تفكير العقل سليماً مادام في هذه الحدود لكن متى ما خرج عن حدوده وطاقاته فإنه لن يرجع إلا بالضلال والحيرة والشكوك والتوهمات الباطلة ، وباب الصفات من أبواب الغيب وحيث كان الأمر كذلك فإنه يكون من الأبواب التوقيفية على النص الصحيح ، ومن المعلوم المتقرر عند من له أدنى معرفة بالكتاب والسنة أنه لم يرد في الكتاب ولا في السنة الصحيحة تفسير كيفيات الصفات المضافة لله جل وعلا ، فالخوض في كيفية الصفات من التقول على الله تعالى بلا علم ، ومن قفو مالا برهان عليه، فباب الغيب لا مدخل للعقول فيه فلا سلامة إلا بالتسليم وإمساك اللسان عن الخوض فيما لا علم لك به ، وبهذه الأوجه المختصرة يتبين لك أن تمثيل صفات الله تعالى بصفات خلقه محدثة في الدين وبدعة في الشرع وغلو في الإثبات فهو رد على أهله لأن المتقرر أن كل إحداث في الدين عقيدة أو شريعة فهو رد .
فصل
الفرع العاشر : بدعة تعطيل الرب جل وعلا عن أسمائه وصفاته .(1/101)
وهي لا تقصر في شرها عما قبلها ، فبئس البدعتين هما ، وإنا نبرأ إلى الله تعالى منهما ونعوذ به جل وعلا من شرهما ، وهذه المحدثة فقد تقحم فيها كثير من أهل البدع ، وقد عرف أهل العلم التعطيل لغة بالتفريع والإخلاء ومنه قوله تعالى " وبئر معطلة " أي تركها أهلها لحلول العذاب بهم ، ومنه قولهم : جيد معطل ، أي خال من الحلية ، وأما شرعاً فهو إنكار ما يجب لله تعالى من الأسماء والصفات ، إنكارً كلياً أو جزئياً ، وهذا التعطيل يختلف باختلاف فرق المبتدعة ، فأما غلاة الغلاة من الملاحدة الإسماعيلية القرامطة الباطنية فإنهم يسلبون عن الله تعالى النقيضين ، فيقولون : لا حي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل ولا يتكلم وليس بأبكم ولا يسمع وليس بأصم ولا يتحرك وليس بساكن ولا فوق ولا تحت وهكذا وهؤلاء من أكفر خلق الله تعالى ، وأما الفلاسفة الغلاة فإنهم يعطلون الله تعالى صفات الإثبات ، فيقولون : إملأ الدنيا نفياً ولا تثبت صفة واحدة ، وأما الجهمية أتباع الجهم صفوان الملحد الكافر فإنهم يعطلون الله تعالى عن أسمائه وصفاته ، فينفون الأسماء وينفون الصفات ، وأما المعتزلة أتباع واصل بن عطاء فإنهم يثبتون الأسماء فقط وأما الصفات فيعطلونها كلها ، وأما الأشاعرة أتباع أبي الحسن الأشعري فإنهم يثبتون الأسماء والصفات السبع فقط وأما باقي الصفات فيعطلونها ، وكذلك الكلابية معطلة وكذلك الماتريدية معطلة وكذلك الشيعة الرافضة معطلة وكذلك الزيدية معطلة ، فغالب فرق الأمة في باب الأسماء والصفات هم من المعطلة ، فبدعة التعطيل محدثة قد ضربت بأطنابها في غالب فرق الأمة ، وأقسم بالله تعالى أنها محدثة وبدعة وأنها باطل محض ، والذي أوجبها هو إتباع الأهواء وتعظيم قواعد اليونان وتقديم العقل على النقل والأخذ من زبالات أذهان الفلاسفة ، وبيان كونها محدثة وبدعة من وجوه :(1/102)
الأول : أنه مخالف لإجماع السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم والأئمة المقتدى بهم ممن لهم لسان صدق في الأمة ، فإن السلف رحمهم الله تعالى كانوا يثبتون ما أثبته الله لنفسه في كتابه وما أثبته له رسول الله صلى الله عليه وسلم في صحيح سنته ، ولا يعرف عنهم كلمة واحدة في تعطيل الرب جل وعلا عما يجب له من الأسماء الحسنى والصفات ، بل حفظ عنهم بالاتفاق الإنكار الشديد المتكرر على معطلة الأسماء والصفات ، بل وثبت عن بعضهم أنه كفر من جحد ما وصف الله به نفسه ، فإثبات الأسماء والصفات هو سبيل المؤمنين عليه ، وتعطيلها مخالف لهذا السبيل وقد قال تعالى " ومن يشاقق الله ورسوله ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا " فقد اتفقوا على إثبات ما يجب لله تعالى من الأسماء والصفات ، واتفقوا على حرمة التعطيل والإنكار على من أنكر شيئا مما سمى ووصف الله به نفسه ، وقد تقرر في القواعد أن الإجماع حجة شرعية يجب قبولها واعتمادها والمصير إليها وتحرم مخالفتها وأنت خبير بارك الله فيك وزادك الله علما وشرفا ورفعة أن الإجماع المعتبر في مسائل العقيدة هو ما عليه السلف الصالح ولا عبرة بخلاف غيرهم من المبتدعة ، فبان لك بهذا الإجماع أن تعطيل الأسماء والصفات كلاً أو بعضاً من البدع المحدثات فهو رد على أصحابه لأن كل إحداث في الدين فهو رد .
الثاني : أنه – أي مذهب التعطيل – مخالف ومناقض لطريقه الكتاب والسنة ، لأنهما مملوءان بإثبات الأسماء والصفات لله تعالى ومن المعلوم المتقرر أن ما جاء به الوحيان هو الحق وما خالفهما فهو الباطل فدل ذلك على بطلان مذهب التعطيل لأنه مخالف للحق ، فهو باطل وضلال قال تعالى " فماذا بعد الحق إلا الضلال " .(1/103)
الثالث : أن مذهب التعطيل مخالف لطريقة الرسل ، فإن الرسل عليهم الصلاة والسلام قد عرفوا الرب الذي أرسلهم بأسمائه وصفاته ، ولذلك فقد جاؤا بالإثبات المفصل ، والنفي المجمل كما قال تعالى عن إبراهيم أنه قال لأبيه " يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا " وهذا إثبات للسمع والبصر ، وقال تعالى " قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض " وقال تعالى " هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم ، هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى ... . الآية " وهذا إثبات مفصل في التعريف بالرب جل وعلا وتبارك وتقدس . وقال الله تعالى عن صالح " اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من ألأرض واستعمركم فيها فاستغفروه إن ربي قريب مجيب " والآيات في هذا المعنى كثيرة ، وهي تفيد أن الرسل صلوات الله وسلامه عيهم عرفوا الخلق بربهم بمقتضى أسمائه وصفاته فمذهب التعطيل مخالف لطريقة الرسل ، وما خالف طريقة الرسل فهو باطل فأفاد ذلك بطلان مذهب التعطيل لمخالفته لطريقة الرسل ومنهجهم .
الرابع : أن مذهب التعطيل مخالف للعقل الصريح ، فإن العقل الصريح يفرض فرضا قطيعا أن من سلبت عنه صفاته الكمال وعطل عنها ثبتت في حقه صفات النقص ، فإذا عطل الله تعالى عن علوه واستوائه ورضاه ورحمته وقدرته وحياته وسمعه وبصره ووجهه وعينه وكلامه وغير ذلك فإن هذا سلب للكمال ، والله تعالى لا يجوز في حقه إلا أن يكون متصفا بصفات الكمال ومنعوتا بنعوت الجلال والجمال من كل وجه وهذا لا يتفق مع مذهب التعطيل لأن تعطيل الكمال وصف بالنقص فبان بذلك بطلان مذهب التعطيل لمخالفته للعقل الصريح لأن ما خالف العقل الصريح فهو باطل .(1/104)
الخامس : أن مذهب التعطيل مخالف للفطرة السليمة الصافية فإنه من الأمور المتقررة في الفطر السليمة وجوب اتصاف الخالق بصفات الكمال والجلال والجمال ، وهذا أمر راسخ في الفطرة التي لم تتلوث بعلوم اليونان التافهة الساقطة المخالفة للمنقول والمناقضة للمعقول ، فلو تركت الفطرة على حالها وأبعدت عن المؤثرات لنشأت وهي معترفة بأسماء ربها وصفات كماله ، فالفطرة السليمة تقر إقرارا قطعيا أن ربها وخالقها الذي لا يستحق العبادة إلا هو ، هو ذلك الرب العظيم العلي الحي القيوم السميع البصير السبوح القدوس السلام المهيمن ذو الأسماء الحسنى والصفات العليا فأفاد ذلك أن مذهب التعطيل مخالف للفطرة السليمة الصافية التي فطر الله الناس عليها ، وما خالف الفطرة السليمة فهو باطل .
السادس : أن مذهب التعطيل يلزم عليه تشبيه الله بالمعدومات والممتنعات ، فإننا إذا أردنا أن نعرف المعدوم قلنا : هو ما لا صفات له ، فإذا عطل الرب عن أسمائه وصفاته لزم من ذلك تشبيهه بالمعدومات ، وإذا سلبنا عنه النقيضين فقلنا : لاحي ولا ميت ولا عالم ولا جاهل لزم من ذلك تشبيهه بالممتنعات لأن المتقرر عند العقلاء أن رفع النقيضين كجمع النقيضين كلاهما من الممتنعات ، فنظر كيف فروا من تشبيهه بالمخلوقات ووقعوا في تشبيهه بالمعدومات والممتنعات وهذا يفيدك أن مذهب التعطيل مذهب فاسد متناقض مبناه على التقول على الله بلا علم .(1/105)
السابع : أن المعطلة يؤمنون أن لله ذاتا ، ومن المعلوم المتقرر عند عامة العقلاء أنه ما من ذات في الخارج – أي خارج الذهن – إلا ولا بد أن يكون لها صفات ، إذ ما من ذات ولها صفات ، فإذا سلبت هذه الصفات عن الذات صار ذلك تعطيلا لهذه الذات فتعطيل الصفات يلزم منه تعطيل الذات ، وهذا إنكار لوجود الرب جل وعلا ، فإنهم إذا قالوا ليس له اسم ولا صفة ، فكأنهم قالوا : لا ذات له ، فانظر كيف يفضي هذا المذهب الخبيث الباطل الفاسد إلى تعطيل الله تعالى عن ذاته ، وإفضاؤه إلى النتيجة الباطلة الفاسدة دليل على بطلانه وفساده لأن ما أفضى إلى الباطل والفساد فهو باطل فاسد : وأقسم بالله العظيم أن مذهب التعطيل مذهب باطل فاسد .
الثامن : أن مذهب التعطيل حقيقته الجحد والإنكار لآيات الصفات وأحاديثها سواء جحد مبناها أو جحد معناها ، فمبناه على معارضة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في خبرهما وإنكار تكذيب وجحد لمدلولات آيات الصفات وأحاديثها وهذا كفرو إلحاد وزندقة ومعارض لحقيقة الإيمان بالله والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم لأن من مقتضيات الإيمان بالله تصديق خبره ، ومن مقتضيات الإيمان بأن محمدا رسول الله تصديقه فيما أخبر ، فتعطيل الله تعالى عن أسمائه وصفاته يفضي إلى تكذيب الله ورسوله وجحد أخبارهما ومعارضتهما فيها ، وهذا هو الكفر بعينه والضلال برمته .
التاسع : أن المتقرر عند أهل العلم أن ما بني على الفاسد فهو فاسد ومذهب التعطيل مبني على أصول فاسدة ، فقد بني على أن إثبات الأسماء والصفات يستلزم تمثيل الله بالمخلوقات وهذا الأصل فاسد كل الفساد ، ومبني أيضا على أن إثبات الصفات يستلزم تعدد القدماء ، وهذا أصل أفسد من الفاسد ، ومبني أيضا على أن إثبات الصفات يستلزم القول بالتركيب وهو أصل فاسد أيضا ، فهذه الأصول هي التي انبثق منها مذهب التعطيل وهي فاسدة كل الفساد وما بني على الفاسد فهو فاسد .(1/106)
العاشر : أن المتقرر عند أهل العلم أن الأصل في الكلام الحقيقة فلا يجوز العدول عنها إلى المجاز إلا بقرينة ، وآيات الأسماء والصفات المضافة إلى الله تعالى يجب حملها على حقائقها ، وهذا باتفاق أهل الحق رحم الله أمواتهم وثبت أحياءهم ، ومذهب التعطيل يحملون نصوص الصفات والأسماء على مجازها ولا قرينة تقتضي ذلك فحيث لا قرينة توجب ذلك فالأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل ، فبان لك بهذه الأوجه أن مذهب التعطيل مخالف لمنهج السلف ومخالف لطريقة الوحيين كتابا وسنة ومخالف لمنهج الرسل ومخالف العقل الصريح ومخالف للفطرة السليمة وهو في ذاته مبني على أصول فاسدة ويلزم عليه لوازم باطلة فكل ذلك يفيدك أن مذهب التعطيل محدث في الشرع وبدعة فهو رد على أصحابه لأن كل إحداث في الدين عقيدة وشريعة فهو رد .
فصل
الفرع الحادي عشر : بدعة الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم وأول من أحدث هذه البدعة بنو عبيد القداح الذين يسمون أنفسهم بالفاطميين وهم الباطنية القبوريون الملاحدة وهم من أفسق الناس ومن أكفر الناس كما حكاه أبو العباس بن يتمية ، وليست هي بأول بدهم الباطل، فإنهم أرادوا إشغال الناس بالبدع لقصد إماتة السنة والبعد عن الشريعة السمحة ، والاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم محدثة وبدعة كما حكم على ذلك علماء أهل السنة والجماعة وبيان ذلك من وجوه :
الأول : أن المتقرر عند عامة علماء الإسلام أن الأصل في العبادات التوقيف فلا يشرع منها إلا ما عليه نص من الكتاب وصحيح السنة ، ولا دليل على ذلك لا من الكتاب ولا من السنة الصحيحة وحيث لا دليل عليه فالأصل منعه لأن التعبدات مبناها على التوقيف والأتباع لا على الهوى والشهوة والابتداع .(1/107)
الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عاش بعد مولده ثلاثا وستين سنة وعاش بعد نبوته ثلاثا وعشرين سنة ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم في حديث واحد أنه احتفل في سنة من السنوات بمولده فلو كان الاحتفال في الدين لا احتفل بمولده ولو مرة واحدة لبيان أنه من الشرع فلما لم يفعل ذلك على طول سني حياته دل على أن الاحتفال بمولده من المحدثات في شريعته ومن البدع في دين الله ، وقد تقرر في القواعد بالإجماع أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، وتقرر أيضا أن كل إحداث في الدين عقيدة وشريعة فهو رد لقوله صلى الله عليه وسلم " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " متفق عليه وفي رواية " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " وفي الحديث " وشر الأمور محدثاتها " .
الثالث : أن أعظم الناس حبا له هم صحابته الكرام ، فإنه ليس ثمة فرد من أفراد الأمة أعظم حبا له من صحابته الكرام رضوان الله عليهم ومع ذلك فإنه لم يثبت عن صحابي واحد أنه احتفل بمولده صلى الله عليه وسلم ، فلو كان الاحتفال بمولده من الشرع لكان الصحابة من أحرص الناس على تطبيقه ، لكن الصحابة أجمعوا على الترك ، أي ترك هذا الاحتفال ، بل لم يخطر ببال واحد منهم أن يحتفل بمولده صلى الله عليه وسلم فدل ذلك الاتفاق على أن الاحتفال ليس من الشرع بإجماع صحابة رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا يفيدك أنه محدث وبدعة وكل إحداث في الدين فهو رد .(1/108)
الرابع أنه لم يثبت عن تابعي واحد ولا عن أتباعهم ولا عن أئمة أهل السنة ولا إمام يقتدى به أنه احتفل بمولده صلى الله عليه وسلم فلو كان مما عرفوه من الشرع لفعلوه ولو مرة واحدة لبيان الجواز لكنهم لم يفعلوه البتة فدل ذلك على أنه محدث في الدين وكل إحداث في الدين فهو رد ، فبان لك بذلك أن الاحتفال بالمولد النبوي شيء لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة ولا أحد من التابعين ولا أحد من سلف الأمة وأئمتها ، بل لا يزال أهل العلم المقتدى بهم ينكرونه ويحكمون عليه بأنه من البدع المحدثة .
الخامس : أن الله تعالى قال " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت نعمتي " قال بعض السلف : فما لم يكن يومئذ دينا فليس من الدين ، والاحتفال بمولده ليس من الدين بنص هذه الآية ، لأنه لا دليل عليه ، فالذي يزعم أنه من الدين وأنه عبادة وقربة يلزم عليه أن النبي صلى الله عيه وسلم كتم شيئا من الشرع وهذا بلية أو أن أنه صلى الله عليه وسلم لم يبلغ البلاغ المبين ، أو أن الدين كان ناقصا حتى تمموه بهذه المحدثة في القرون المتأخرة ، وكل هذه لوازم فاسدة وباطلة ، ولا مخرج منها إلا أن نعتقد أن الاحتفال بالمولد ليس من الدين في صدر ولا ورد وأنه من المحدثات والبدع .(1/109)
السادس : أن المتقرر عند أهل العلم أن شرعية الأصل لا تستلزم شريعة الوصف ، فحبه صلى الله عليه وسلم فرض عين على كل أحد ، فيجب على كل مسلم أن يقدم محبة الله ورسوله على نفسه وولده ووالده والناس أجمعين ، إلا أن التعبير عن هذه المحبة ليس مفتوحا أمام الأهواء والشهوات والاستحسانات وما تهواه العقول وتمليه الشياطين بل التعبير عن هذه المحبة إنما هو بالإتباع لا بالابتداع قال تعالى " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله .... الآية " فعلامة محبته هي إتباعه ، ويا لله العجب إن الذين يحتفلون بمولده تجدهم من أبعد الناس عن سنته وشريعته ، فالدول التي تحتفل بمولده هي أصلا قد رفضت تحكيم شريعته التي جاء بها واستبدلتها بقوانين الشرق والغرب وتجد في الاحتفال بمولده الاختلاط والسفور والتبرج وتضييع الصلوات وآلات الملاهي ورقص النساء مع الرجال والقصائد الشركية وغير ذلك من المخالفات لشريعته صلى الله عليه وسلم , فلو كانوا صادقين في دعوى محبته لاتبعوه لو كانوا يعقلون ويفقهون , إذا فليس كل واحد يجوز له أن يعبر عن محبته بما يريد , بل التعبير عن هذه المحبة توقيفي على النص وقد ورد النص بأن محبته تقتضي الإيمان به وطاعته فيما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر وتصديقه فيما أخبر وأن لا يعبد لله تعالى إلا بما شرع وتقديم قوله على قول كل أحد وكثرة الصلاة والسلام عليه وتقديم محبته على محبة كل أحد , والاعتقاد بأنه أفضل الخلق وأنه صاحب المقام المحمود والحوض المورود وتحكيم شريعته ورفض ما خالفها من القوانين الأرضية , والجهاد في نشر دينه ونصر سنته وتعليمها للعامة والخاصة , وموالاته ونصرته وغير ذلك من مقتضيات محبته , وأما ما يفعل في ليلة المولد فإنه إعلان صريح على بغضه ومحاربته ولو زعم المحتفلون أنهم يحبونه , والمقصود أن محبته صلى الله عليه وسلم مبناها على الهدى والإتباع لا على الهوى والابتداع .(1/110)
قال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى : ( لا شك أن الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم من البدع المحدثة في الدين , بعد أن انتشر الجهل في العالم الإسلامي وصار للتضليل والإضلال والوهم والإيهام مجال عميت فيه البصائر وقوي فيه سلطان التقليد الأعمى وأصبح الناس في الغالب لا يرجعون إلى ما قام الدليل على مشروعيته وإنما يرجعون إلى ما قاله فلان وارتضاه علان , فلم يكن لهذه البدعة المنكرة أثر يذكر لدى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لدى التابعين وتابعيهم , وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " وقال عليه الصلاة والسلام : " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " وفي رواية : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " وإذا كان مقصدهم من الاحتفال بالمولد النبوي تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإحياء ذكره فلا شك أن تعزيره وتوقيره يحصل بغير هذه الموالد المنكرة وما يصاحبها من مفاسد وفواحش ومنكرات , قال تعالى : " ورفعنا ك ذكرك " فذكره مرفوع في الأذان والإقامة والخطب والصلوات والتشهد والصلاة علي في الدعاء وعند ذكره فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي " وتعظيمه يحصل بطاعته فيما أمر وصديقه فيما أخبر واجتناب ما نهى عنه وزجر وألا يعبد الله إلا بما شرع فهو أجل من أن تكون ذكراه سنوية فقط ولو كانت هذه الاحتفالات خيرا محضا أو راجحا لكان السلف الصالح رضي الله عنه أحق بها منا فإنهم كانوا اشد منا محبة وتعظيما لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهم على الخير أحرص ولكن قد لا يتجاوز أمر هذه الموالد ما ذكره بض أهل العلم من أن الناس إذا اعترتهم عوامل الضعف والتخاذل والوهن راحوا يعظمون أئمتهم بالاحتفالات الدورية دون ترسم مسالكهم(1/111)
المستقيمة لأن تعظيمهم هذا لا مشقة فيه عل النفس الضعيفة ولا شك أن التعظيم الحقيقي هو طاعة المعظم والنصح له والقيام بالأعمال التي يقوم بها أمره ويعتز بها دينه إن كان رسولا وملكه إن كان ملكا , وقد كان السلف الصالح أشد ممن بعدهم تعظيما للنبي صلى الله عليه وسلم ثم للخلفاء الراشدين من بعده , وناهيك ببذل أموالهم وأنفسهم في هذا السبيل إلا أن تعظيمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدين لم يكن كتعظيم أهل هذه القرون المتأخر ممن ضاعت منهم طريقة السلف الصالح في الاهتداء والاقتداء وسلكوا طريق الغواية والضلال في مظاهر التعظيم الأجوف ولا ريب أن الرسول صلى الله عليه وسلم أحق الخلق بكل تعظيم يناسبهم إلا أنه ليس من تعظيمه أن نبتع في دينه بزيادة أو نقص أو تبديل أو تغيير لأجل تعظيمه به كما أنه ليس من تعظيمه عليه الصلاة والسلام أن نصرف له شيئا مما لا يصلح لغير الله من التعظيم والعبادة ـ إلى أن قال ـ والخلاصة أن الاحتفال بالمولد من البدع المنكرة ) اهـ كلامه رحمه الله تعالى .
السابع : الإجماع , فقد اتفق علماء السلف الصالح رحمهم الله تعالى على أن الاحتفال بالمولد النبوي أمر محدث مبتدع في الدين ولم يؤثر ذلك عن أحد ، بل اتفقت كلمتهم على إنكاره ووصفه بأنه محدث وبدعة قال أبو العباس رحمه الله تعالى : " وأما اتخاذ مواسم غير المواسم الشرعية كبعض ليالي شهر ربيع الأول والتي يقال إنها ليلة المولد أو بعض ليالي رجب أو ثامن عشر من ذي الحجة أول جمعة من رجب , أو ثامن من شوال الذي يسميه الجهال عيد الأبرار فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف ولم يفعلوها " اهـ وإجماع السلف على الترك والإنكار حجة شرعية على أن هذا الاحتفال من البدع والعوائد المحدثة في الشرع .(1/112)
الثامن : قوله تعالى " أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله " فدل ذلك على أن التشريع في الدين لا بد فيه من إذنه جل وعلا أي لا بد فيه من دليل يدل على أن إذنه عز وجل بجواز التعبد له بهذا القول أو هذا الفعل , و الاحتفال بالمولد النبوي ليس عليه دليل لا من الكتاب ولا من السنة الصحيحة فهو مما لم يأذن به الله , فيكون مذموما ومحدثة وبدعة وتشريع ما لم يأذن به الله تعالى باطل بالاتفاق .
قال أبو العباس رحمه الله تعالى : ( فمن ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله أو أوجبه بقوله أو بفعله من غير أن يشرعه الله فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذه شريكا لله ) اهـ واعلم رحمك الله تعالى أن البدعة مهما عمل الناس بها ومهما مرت عليها الأزمنة والعصور ومهما عمل بها أو رضي بها من يدعي العلم لا يمكن أن تكون في يوم من الأيام سنة يؤجر على فعلها فانتبه لهذا .
فإن قالوا : إن غالب المسلمين يحتفلون بالمولد فهل كلهم على الخطأ وأنتم على صواب فقل : إن الحق لا يعرف بالكثرة ولا بالقلة وإنما يعرف بموافقة الدليل فما وافق النص فهو الحق وما خالفه فهو الباطل , ونحن نجد أن الكثرة مذمومة في مواضع كثيرة كقوله تعالى : " وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين " وقال تعالى " وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون " وقال تعالى " وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله " وقال تعالى " فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون " والقلة ممدوحة كقوله تعالى " وما آمن معه إلا قليل " وقال تعالى " وقليل من عبادي الشكور " والمقصود أن الكثرة والقلة لا بها يعرف الحق من الباطل وإنما يعرف الحق بموافقة الوحي فانتبه لهذا .(1/113)
فإن قالوا : أوليس النبي صلى الله عليه وسلم قال عن يوم الاثنين لما سئل عن صومه " ذاك يوم ولدت فيه وبعثت فيه " فهذا دليل على تعظيمه ليوم مولده ونحن نحتفل به كذلك تعظيما ليوم مولده ؟ فقل : إنه صلى الله عليه وسلم لم يصم يوم ولادته وهو الثاني عشر من ربيع الأول – إن صح أنه كذلك – وإنما صام يوم الاثنين الذي يتكرر مجيئه في كل شهر أربع مرات وبناء عليه فتخصيص يوم الثاني عشر من ربيع الأول بعمل ما دون يوم الاثنين من كل أسبوع يعتبر استدراكا على الشارع وتصحيحا لعمله وهذا من عظائم الأمور ، ويقال أيضا : إن تعظيم يوم الاثنين إنما يكون بصيامه فلو سلمنا جدلا جواز تعظيم ذلك اليوم بعينه لما جاز تعظيمه إلا بالصيام لأنه الشكر الذي أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم ، فلنصم كما صام، غير أن أرباب الموالد لا يصومونه لأن الصيام مقاومة لشهوات النفوس بحرمانها من لذة الطعام والشراب وهم يريدون ذلك الطعام والشراب فتعارض الغرضان فآثروا ما يحبون على ما يحبها لله تعالى وهذا بعينه أعظم الزلل عند أهل البصيرة ويقال أيضا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يضف إلى الصيام احتفالا كاحتفال أرباب الموالد من تجمعات ومدائح وأنغام وطعام وشراب أفلا يكفي الأمة ما كفى نبيها ، ويسعها ما وسعه ؟ ويقال أيضا : أن الأدلة لا تفهم إلا على ما فهمه سلفنا الصالح ، فلو كان قوله عن يوم الاثنين " ذاك يوم ولدت فيه يفيد جواز الاحتفال بيوم مولده لكان فهمه الصحابة على وجهه الصحيح ولامتثلوا ذلك الترغيب ولقاوموا يما يجب عليهم تجاهه صلى الله عليه وسلم لكنهم لم يفعلوا ذلك باتفاقهم فهذا الترك دليل على ما فهمه المحتفلون من هذا الدليل ليس هو الفهم الصحيح بل هو فهم أجنبي عن النص , وقد تقرر في القواعد عند الراسخين في العلم أن الشرع مبني على الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح , وقد تقرر أيضا أن كل فهم يخالف فهم السلف في مسائل الشرع فهو باطل .(1/114)
وبالجملة فكل ما يتمسك به المحتفلون بمولده لا حجة فيه وإنما هو من توسيع دلالة النص وتحميلها ما لا تحتمل والتكلف في لي أعناق الأدلة إلى ما يتوافق مع الرغبة والهوى .
فإن قالوا : إن الاحتفال بمولده صار شعارا للدول ؟ فقل : إن الحاكمية والتشريع وقف على الرب جل وعلا ولا يعرف بما تقره الدولة مما ترفضه بل الدين هو ما جاء به النص , وإن رفضته الدول كلها , والباطل هو ما خالف النص وإن أقرته الدول كلها , فالجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك , وكم عند الدول من شعارات هي في ذاتها مخالفة للشرع فانتبه لهذا .
فإن قالوا : هذا شيء جرى عليه أسلافنا ؟ فقل : قلتم والذي نفسي بيده كما قال الكفار لرسلهم لما أمروهم بالتوحيد ونبذ الشرك " إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون " وما أسمجها من مقالة قد عورض بها الحق وحوربت بها الرسل وكذبت , فالحق لا يعرف بما عليه الآباء والأسلاف وإنما يعرف بما جاءت به النصوص فلو احتفلت الدنيا كلها بمولده لما كان مشروعا لعدم النص .
فإن قالوا : إن الاحتفال بمولده وإن سلمنا أنه بدعة فهو بدعة حسنة ؟ فقل : لقد تقرر بالدليل أن البدعة في الشرع كلها ضلالة وشر لقوله صلى الله عليه وسلم " وشر الأمور محدثاتها " وقال " وكل بدعة ضلالة " فلا يجوز لأحد أن يخترع في الدين شيئا يستحسنه بعقله وهواه ويقول بدعة حسنة , لأن الشرع قد حكم على البدع كلها بأنها ضلالة , والضلال خلاف الهوى و وأما قول عمر ( نعمت البدعة هذه ) فإنما يقصد به البدعة اللغوية فالبدعة في اللغة قد تكون حسنة وأما البدعة في الدين فليس فيها شيء حسن بل كلها ضلالة وسيأتينا مزيد بيان إن شاء الله تعالى في مسألة خاصة إن شاء المولى جل وعلا .(1/115)
التاسع : أن المتقرر عند أهل العلم أن كل فعل توفر سببه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله اختيارا فإن المشروع تركه , والاحتفال بمولده من الأشياء المقدور عليها والتي توفر سببها ومع ذلك لم يفعله صلى الله عليه وسلم ولا مرة في حياته ، فأفاد ذلك أن المشروع تركه.
ولعل الأمر اتضح إن شاء الله تعالى فبان لك بذلك أن الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم من المحدثات والبدع فهو رد على أصحابه لأن كل إحداث في الدين فهو رد .
فصل
الفرع الثاني عشر : بدعة إنكار علو الله جل وعلا ، ونحن معاشر أهل السنة نؤمن إيمانا جازما ونصدق تصديقا قطعيا بأن الله تعالى عال بذاته على خلقه العلو المطلق الذي لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه على ما يليق بجلاله وعظمته فله جل وعلا علو الذات وعلو القدر وعلو القهر، كل ذلك نؤمن به على وجهه الصحيح كما دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة ، وأما المبتدعة على مختلف طوائفهم فقد أنكروه وحصروه في علو القدر فقط ، وسبب ذلك أنهم ما أخذوا عقيدتهم في العلو من الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة فجاؤا بهذه المحدثة القبيحة التي خالفوا بها الكتاب والسنة وسلف الأمة ، فإنكار علوه جل وعلا من البدع الظالمة المخالفة للمنقول والمناقضة للمعقول وبيان ذلك من وجوه :
الأول : أن إنكار العلو مخالف لإجماع السلف فإن السلف رحمهم الله تعالى قد أجمعوا إجماعا قطيعا معلوما بالتواتر على إثبات علو الله تعالى بذاته على خلقه والنقول عنهم في ذلك أكثر من أن تحصروا أشهر من أن تذكر ، وإجماعهم هذا هو الحق المبني على الكتاب والسنة ، وماذا بعد الحق إلا الضلال فإنكار علوه جل وعلا ضلال ومحدثة وبدعة لأنه مخالف لإجماع الصحابة والتابعين وتابعيهم وسلف الأمة وأئمتها .(1/116)
الثاني : أن القرآن صرح تصريحا قطعيا بإثبات علوه جل وعلا وذلك في آيات كثيرة كقوله تعالى " وهو العلي العظيم " فالعلي اسمه والعلو صفته ، وقال تعالى " سبح اسم ربك الأعلى " وقال تعالى " وهو الكبير المتعال " وقال تعالى " إنه علي حكيم " وهذا التصريح بلفظ العلو كاف في بطلان مذهب منكري العلو وإثبات أنه محدثة في الدين وبدعة .
الثالث : أن القرآن صرح بإثبات الفوقية لله تعالى وهي بمعنى العلو كما قال تعالى " يخافون ربهم من فوقهم " وقال تعالى " وهو القاهر فوق عباده " وقال تعالى " يد الله فوق أيديهم " وهذه الفوقية فيها إثبات أن الله تعالى في العلو .
الرابع : أن القرآن صرح بأن من الأشياء ما ينزل من عند الله تعالى كقوله تعالى " إنا نحن نزلنا الذكر " وقال تعالى قل نزله روح القدس من ربك " وقال تعالى " تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم " وقال تعالى " تبارك الذي نزل الفرقان على عبده " وقال تعالى " وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون " والآيات في هذا المعنى كثيرة ، ومن المعلوم أن الأشياء لا تنزل إلا ممن هو في العلو فأي آية فيها نسبة الإنزال من الله تعالى فإنها دليل على إثبات العلو ، ودليل على بطلان مذهب المنكرين له .
الخامس : أن القرآن صرح بأن هناك من الأشياء ما تصعد وترفع إلى الله تعالى كقوله تعالى " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " وقال تعالى " يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي" وقال تعالى " بل رفعه الله إليه " والصعود لا يكون إلا لمن هو في العلو وكذلك الرفع لا يكون إلا لمن هو في العلو .(1/117)
السادس : أن القرآن صرح بأن الله تعالى في السماء وكذلك السنة قال تعالى " أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصباً فستعلمون كيف نذير " وفي حديث الجارية المشهور " أين الله ؟ " قالت في السماء ، قال " أعتقها فإنها مؤمنة " والمراد بالسماء العلو ، أو يقال : إن ( في ) بمعنى ( على ) فعلى كلا الاحتمالين ففي هذه الأدلة وأشبهها إثبات علو الله تعالى .
السابع : أن القرآن صرح بأن الروح والملائكة تعرج إليه ، والعروج هو الصعود ، قال تعالى" تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة " والعروج لا يكون إلا لمن هو في العلو .
الثامن : أن القرآن صرح باستوائه جل وعلا على عرشه في سبع آيات من القرآن ، والعرش في العلو ، فهو سقف المخلوقات ، وأعلاها وأعظمها وأكبرها ، والله مستو عليه استواء يليق بجلاله وعظمته ، فالاستواء على العرش دليل على أن الله تعالى في العلو .
التاسع : الاستدلال بمعراج النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به وحديثها في الصحيحين ، وهو إنما عرج به إلى ربه جل وعلا ، فعروجه إلى ربه جل وعلا دليل على أنه عز وجل في العلو .
العاشر : الاستدلال برفع اليدين في الدعاء فإنه صلى الله عليه وسلم قد ثبت عنه في مناسبات كثيرة أنه دعا ربه جل وعلا ورفع يديه إلى جهة السماء في دعائه وهو إنما يرفعها إلى ربه جل وعلا فهذا دليل على أن الرب عز وجل في العلو ، بل ولا يزال المسلمون بإجماعهم سنيهم وبدعيهم في حال الدعاء لا يرفعون أيديهم إلا إلى جهة العلو .
الحادي عشر : الاستدلال بإشارته صلى الله عليه وسلم بالسبابة عند ما قال " ألا هل بلغت " فيقولون : نعم فيرفع سبابته إلى السماء وينكتها عليهم ويقول " الله أشهد " وهذا الرفع دليل على أن الله تعالى في العلو .(1/118)
الثاني عشر : قوله تعالى " يمددكم ربكم ثلاثة آلاف من الملائكة منزلين " أي منزلين مدداً من عنده فهو دليل على علو من أنزلهم " .
الثالث عشر : أن المتقرر فطرة هو إثبات العلو ، فلو تركت الفطرة على حالها لنشأت وهي عالمة بأن ربها وخالقها الذي تعبده موصوف بالعلو فالإيمان والإقرار بعلو الله جل وعلا من مقتضيات الفطرة ومن علومها الضرورية التي فطر الله الناس عليها ، ولا سيما في حالات الاضطرار فإنه ما قال مضطر للفرج قط ( يا الله ) إلا ووجد من نفسه ضرورة تطلب العلو ، فإنكار العلو وجحده مكابرة للفطرة السليمة .
الرابع عشر : أن العقل الصريح يفرض فرضا قطعيا إثبات العلو لله جل وعلا ، وذلك لأن العلو في ذاته كمال والله أحق بكل كمال ولأن العلو نقيضه السفل ، والسفل نقص يجب تنزيه الله تعالى عنه فحيث انتفى السفل وجب وصفه بالعلو .
الخامس عشر : أن نفي العلو مبني على أصل فاسد وهو أن إثبات العلو يستلزم أن يكون الله تعالى في جهة والجهة ممتنعة على الله تعالى ، وهذا كلام باطل ومجمل ، وهذا هو شأن أهل البدع أن يردوا ما صح من النصوص في باب الأسماء والصفات بالألفاظ المجملة فلما كان نفي العلو عندهم مبني على هذا الأصل الفاسد صار فاسدا لأن ما بني على الفاسد فهو فاسد . وبهذا يتبين لك إن شاء الله تعالى أن نفي العلو من البدع والمحدثات في الدين فهو رد على أصحابه لأن كل إحداث في الدين عقيدة أو شريعة فهو رد .
الفرع الثالث عشر : بدعة صلاة الرغائب وهي من البدع المحدثة في شهر رجب وتكون في أول جمعة من رجب بين صلاة المغرب والعشاء ، ويسبقها صيام الخميس الذي هو أول خميس في رجب ، وهي من المحدثات والبدع ، ولنا فيها نظران نظر باعتبار أصلها ونظر باعتبار صفتها ، فأما باعتبار أصلها فهي صلاة وأما باعتبار صفتها وتخصيصها بهذا الزمان المعين فهي لا شك من البدع والمحدثات وبيان ذلك من وجوه :(1/119)
الأول : أن المتقرر عند أهل العلم أن شرعية الأصل لا تستلزم شرعية الوصف فهي وإن كانت في أصلها صلاة إلا أننا نمنعها باعتبار صفتها المحدثة واعتقاد فضيلتها في هذا الزمان المعين دون سائر أيام العام , فمشروعية الشيء بأصله لا تستلزم مشروعيته بوصفه , فهي بدعة ومحدثة باعتبار صفتها وبدعة ومحدثة باعتبار تقييدها بزمان معين .(1/120)
الثاني : أنها ليست مما عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم , فإنه لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه فعلها ولو مرة في حياته لبيان الجواز وقد تقرر عند علماء الإسلام أن الأصل في العبادات التوقيف فحيث لا دليل عليها فالأصل أنها ليست من الشرع لقوله تعالى : " أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله " ولحديث " من أحدث من أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " ولحديث " وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة " وأما حديث أنس في إثباتها فإنه حديث موضوع فقد أورده ابن الجوزي في الموضوعات وقال : ( هذا حديث موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اتهموا به ابن جهيم ونسبوه إلى الكذب , وسمعت شيخنا عبد الوهاب الحافظ يقول : رجاله مجهولون وقد فتشت عليهم جميع الكتب فما وجدتهم وكذلك ذكره الشوكاني في الفوائد المجموعة وقال : ( موضوع ورجاله مجهولون وقد اتفق الحفاظ على أنها موضوعة ) وقال الفيروز آبادي في المختصر ( إنها موضوعة بالاتفاق ) وكذا قاله المقدسي , وقال أبو العباس رحمه الله تعالى : ( وأما صلاة الرغائب فلا أصل لها , بل هي محدثة فلا تستحب لا جماعة ولا فرادى والأثر الذي ذكر فيها كذب موضوع باتفاق العلماء ولم يذكره أحد من السلف والأئمة أصلا ) وقال أيضا : ( صلاة الرغائب بدعة باتفاق أئمة الدين لم يسنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه ولا استحبها أحد من الأئمة ) فقد اتفق أهل الحديث على أن حديث أنس في إثباتها كذب مختلق , وقد تقرر في القواعد أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة .
الثالث : أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة ولا عن أحد من التابعين ولا تابعيهم ولا عن أحد من أئمة الدين المقتدى بهم أنه فعلها , فهذا يفيدك أنها محدثة وبدعة لا أصل لها .(1/121)
الرابع : أنها مخالفة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم الثابت في الصحيح عن نهي اختصاص ليلة الجمعة بقيام من بين سائر الأيام , ففي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تختصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ولا تختصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون في يوم يصومه أحدكم " وهذه الصلاة تكون في ليلة أول جمعة من رجب , وهذا يفيدك أنها ليست مما سكت عنها الشارع , بل هي ما ثبت النهي عنه فبان بذلك أنها من المحدثات والبدع .
الخامس : أنها مخالفة لسنة السكون في الصلاة من جهة أن فيها تعديد لسورة الإخلاص وسورة القدر ولا يتأتى ذلك في الغالب إلا بتحريك بعض أعضائه .
السادس : أنها مشتملة على عدة مخالفات : منها : مخالفة المعهود من نظم الصلاة , ومنها : مخالفة السنة بالتكرار الكثير لسورة واحدة في ركعة واحدة ومنها : المخالفة في استحباب السجود المفرد بعد الفراغ منها فإن هذا لا مثيل له في الشرع بعد الفرائض والنوافل . ومنها أنها مخالفة لسنة الانفراد بالنوافل . ومنها : أنها مخالفة لسنة تعجيل الفطر لأنهم يستحبون فعل هذه الصلاة بعد المغرب وقبل الإفطار , ومنها : المخالفة في أذكار السجود , فإنهم يستبدلون الألفاظ الشرعية المشروعة في السجود بألفاظ أخرى لا دليل عليها . فهذه المخالفات وغيرها يدل على أنها ليست من الشرع وأنها محدثة في الدين وبدعة .(1/122)
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى لما سئل عن صلاة الرغائب وعن صلاة نصف شعبان ( هاتان الصلاتان لم يصلهما النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه رضي الله عنهم ولا أحد من الأئمة الأربعة ولا أشار أحد بصلاتها ولم يفعلها أحد ممن يقتدى بهم ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم منها شيء ولا عن أحد ممن يقتدى به , وإنما أحدثت في الأعصار المتأخرة وصلاتهما من البدع المنكرات والحوادث الباطلات وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة " وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " وفي صحيح مسلم أن رسول اله صلى الله عليه وسلم قال : من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد "ويشيع وينبغي لكل أحد أن يمتنع عن هذه الصلاة ويحذر منها وينفر عنها ويقبح فعلها ويشبع النهي عنها فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ك " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه " وعلى العلماء التحذير منها والإعراض عنها أكثر مما على غيرهم لأنه يقتدى بهم ولا يغترن أحد بكونها شائعة يفعلها العوام وشبههم فإن الإقتداء إنما يكون برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما أمر به , لا بما نهى عنه وحذر منه ) اهـ وقال أيضا رحمه الله تعالى ( هي ـ أي صلاة الرغائب ـ بدعة قبيحة منكرة أشد إنكار مشتملة على منكرات فيتعين تركها والإعراض عنها وإنكارها على فاعلها وعلى ولي الأمر وفقه الله تعالى منع الناس من فعلها فإنه راع وكل مسئول عن رعيته ) اهـ وقال أبو العباس رحمه الله تعالى لما سئل عنها : ( هذه الصلاة لم يصلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه ولا التابعين ولا أئمة المسلمين ولا رغب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من السلف ولا الأئمة ولا ذكروا لهذه الليلة فضيلة تخصها والحديث(1/123)
المروي في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كذب موضوع باتفاق أهل المعرفة بذلك ، ولهذا قال المحققون : إنها مكروهة غير مستحبة ) أهـ وقد أكد العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى أن صلاة الرغائب موضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذب عليه وأنها مخالفة من عدة وجوه فقال رحمه الله تعالى ( ومما يدل على ابتداع هذه الصلاة – أي صلاة الرغائب – أن العلماء الذين هم أعلام الدين وأئمة المسلمين من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وغيرهم ممن دون الكتب في الشريعة مع شدة حرصهم على تعليم الناس الفرائض والسنن لم ينقل عن أحد منهم أنه ذكر هذه الصلاة ولا دونها في كتابه ولا تعرض لها في مجالسه والعادة تحيل أن تكون مثل هذه سنة وتغيب عن هؤلاء الذين هم أعلام الدين وقدوة المؤمنين ، وهم الذين إليهم الرجوع في جميع الأحكام من الفرائض والسنن والحلال والحرام ) أهـ كلامه وهو كلام علمي رصين غاية في الرصانة .
فإن قالوا : ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة خير موضوع وهذه صلاة فأقول : إن هذا الحديث في سنده مقال ، وإن سلمنا أنه حديث يصل إلى درجة الحسن فإن ذلك مختص بصلاة لا تخالف الشرع بوجه من الوجوه وصلاة الرغائب مخالفة للشرع من وجوه كثيرة قد ذكرت لك بعضها وأي خير في مخالفة الشرع . وقال ابن القيم رحمه الله تعالى ( وكذلك أحاديث صلاة الرغائب ليلة أول جمعة من رجب كلها كذب مختلق على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد أفتى علماؤنا في البلاد النجدية بأن هذه الصلاة من جملة المحدثات والبدع ، فبان لك بذلك أن هذه الصلاة لا أصل لها في الشرع وأنها محدثة وبدعة فهي رد لأن المتقرر أن كل إحداث في الدين عقيدة وشريعة فهو رد .
فصل(1/124)
الفرع الرابع عشر : اتخاذ القبور مساجد ، وهذه من أعظم البدع وأقبحها وهي من أوسع أبواب الشرك والوثنية ، وهي محدثة وبدعة باتفاق المسلمين ، وقد وردت الأدلة الصحيحة الصريحة في النهي عن ذلك وسد أبوابه والتغليظ فيه ، فهو محرم التحريم القاطع ، فلا يجوز اتخاذ أي قبر كان في الدنيا مسجدا بغض النظر عن عظمة المدفون ، فالقبور لا يجوز أن تتخذ مساجد مهما كانت الأحوال ، يا أيها الناس اسمعوا وعوا ، إنه لا يجوز أن تتخذ القبور مساجد ، إنه محرم التحريم الشديد إنه باب واسع من أبواب الشرك ، إنه وسيلة من أعظم الوسائل للغلو في قبور الصالحين , فاحذروا رحمكم الله كل الحذر من هذه البلية الخطيرة والطامة الكبيرة , لا تغتروا بكثرة الهالكين في هذه المحدثة ولا بكثرة الغارقين في هذه البدعة , فالقبور لا يجوز أن تتخذ مساجد وأقسم بالله العلي العظيم إنه لا يجوز أن تتخذ مساجد فالأدلة على ذلك صارمة في الأمة مما يعلم من الدين من بالضرورة فلا عذر لجاهل بها لأنه مقصر في تعلمها , وأما المعاند المصر والمغرور المستكبر فالله له بالمرصاد , ويا ولاة الأمر في بلاد المسلمين إنه يجب عليكم هدم جميع المساجد التي قد بنيت على القبور , ولا يجوز لكم أن تبقوا في محل نفوذكم أي مسجد قد بني على قبر , وهذا من الأمانة و النصح لرعاياكم والله سائلكم يوم القيامة عن رعيتكم , ويا أيها العلماء ضاعفوا جهودكم في بيان خطر هذه البلية , ونفروا الناس عنها وحذروهم منها وانشروا أدلتها أكثروا من التأليف في بيان حكمها , ويا أيها العامة تفقهوا في أمور دينكم ولاسيما أمور التوحيد والعقيدة واحرصوا على سؤال أهل العلم عن ما يشكل عليكم , ويا أمة محمد صلى الله عليه وسلم اعلمي حكاما ومحكومين وذكورا وإناثا أن اتخاذ المساجد على القبور لا يجوز , وهذا التحريم والمنع مؤكد بالأدلة المتواترة والمنقول الصريحة الصحيحة العاطرة , فمن ذلك : ما في الصحيحين عن عائشة رضي(1/125)
الله عنها أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور فقال " أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصور فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله " ولهما عنها رضي الله عنها قالت لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة على وجهه فإذا اغتم بها كشفها فقال – وهو كذلك – : " لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا , ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ قبرا " ولمسلم عن جندب رضي الله عنه – في حديث له وفيه : " ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد , ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك " ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد " ورواه ابن خزيمة والطبراني في الكبير وابن حبان في صحيحه . ولأبي داود والترمذي وقال : حديث حسن عن أبي عباس رضي الله عنهما قال " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور والمتخذين عليها مساجد والسرج " وروى مالك في الموطأ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد , اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " وعن أبي عبيدة رضي الله عنه قال : آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وسلم " أخرجوا يهود أهل الحجاز و أهل نجران من جزيرة العرب , واعلموا أن شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد " رواه أحمد والطبراني في الأوسط وإسناده حسن .(1/126)
وقد اتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ترك اتخاذ القبور مساجد فلا يعلم في حياتهم أنه بني مسجد على قبر البتة , وقد ذكرنا في كتابنا تنوير الصدور في التحذير من فتنة القبور الشبه التي يستدل بها من يجوز اتخاذ القبور مساجد مع الإجابة عنها فراجعه إن شئت الازدياد من التعرف على تفاصيل هذه المسألة . فهذه النقول تفيدكم إفادة صريحة قطعية النهي الأكبر عن اتخاذ القبور مساجد وأنه لا يجوز مطلقا على أي قبر كان في الدنيا , سواء أكان قبر نبي أو صالح أو غير ذلك . واعلم رحمك الله تعالى أن صور اتخاذ القبور مساجد كثيرة : فمن ذلك : مباشرة السجود عليها والعياذ بالله تعالى . ومن ذلك : الطواف به . ومن ذلك : الركوع بين يديه . ومن ذلك : الصلاة إليه نعوذ بالله . ومن ذلك : بناء المسجد عليه أي أن يجعل القبر داخل بناء وذلك البناء هو المسجد .(1/127)
واعلم رحمك الله تعالى أن العلة في هذا النهي إنما هي لسد ذرائع الشرك بتعظيم الأموات قال أبو العباس رحمه الله تعالى " فأما بناء المساجد على القبور فقد صرح عامة علماء الطوائف بالنهي عنه متابعة للأحاديث , وصرح أصحابنا وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي وغيرهم بتحريمه – ثم قال – فهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين والملوك وغيرها يتعين إزالتها بهدم أو بغيره وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء المعروفين " أهـ وقد نقل إجماع العلماء على النهي عن اتخاذ القبور مساجد عدد كبير من المحققين كابن تيمية وابن القيم وغيرهما , وقال الشنقيطي رحمه الله تعالى " وبه تعلم أن من اتخذ المساجد على القبور ملعون في كتاب الله جل وعلا وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم " أهـ وقال القرطبي رحمه الله تعالى " فاتخاذ المساجد على القبور والصلاة فيها والبناء عليها إلى غير ذلك مما تضمنته السنة من النهي عنه ممنوع لا يجوز " أهـ وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى " قال العلماء : يحرم بناء المساجد على القبور ويجب هدم كل مسجد بني عليه قبر , وإن كان الميت قد قبر في مسجد وقد طال مكثه سوي القبر حتى لا تظهر صورته فإن الشرك إنما يحصل إذا ظهرت صورته " أهـ وقال صاحب عمدة القاري " وفيه منع بناء المساجد على القبور ومقتضاه التحريم كيف وقد ثبت اللعن عليه " أهـ وقال الموفق " ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لعن الله اليهود النصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر مثل ما صنعوا وقالت عائشة : إنما لم يبرز قبره صلى الله عليه وسلم لئلا يتخذ مسجدا ولأن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم ومسحها والصلاة عندها " أهـ وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى " وأما بناء المساجد على القبور وتسمى مشاهد(1/128)
فهذا غير سائغ بل جميع الأمة ينهون عن ذلك " أهـ وقال أيضا " وقد اتفق أئمة المسلمين على أن الصلاة في المشاهد ليس مأمورا بها لا أمر إيجاب ولا أمر استحباب ولا في الصلاة في المشاهد التي على القبور ونحوها فضيلة على سائر البقاع فضلا عن المساجد باتفاق أئمة المسلمين عمن اعتقد أن الصلاة عندها فيها فضل على الصلاة على غيرها أو أنها أفضل من الصلاة في بعض المساجد فقد فارق جماعة المسلمين ومرق من الدين الذي عليه الأمة " أهـ وقال أيضا " وقد ذكر الشافعي وغيره النهي عن اتخاذ المساجد على القبور وعلل ذلك بخشية التشبه وقد نص على النهي عن بناء المساجد على القبور غير واحد من علماء المذاهب من أصحاب مالك والشافعي وأحمد ومن فقهاء الكوفة أيضا وصرح غير واحد منهم بتحريم ذلك وهذا لا ريب فيه بعد لعن النبي صلى الله عليه وسلم ومبالغته في النهي عن ذلك , واتخاذها مساجد يتناول شيئين : أن يبنى عليها مسجدا أو يصلى عندها من غير بناء وهو الذي خافه هو خافته الصحابة إذا دفنوه بارزا , خافوا أن يصلى عنده فيتخذ قبره مسجدا " أهـ وقال أيضا " بل أهل المشاهد يدعون مع الله غيره ولهذا لم يكن بناء المساجد على القبور التي تسمى المشاهد .(1/129)
وتعظيمها من دين المسلمين بل من دين المشركين " أهـ وقال أيضا " فإن بناء المساجد على القبور ليس من دين المسلمين بل هو منهي عنه بالنصوص الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم واتفاق أئمة الدين , بل لا يجوز اتخاذ القبور مساجد سواء كان ذلك ببناء المسجد عليه أو بقصد الصلاة عندها , بل أئمة الدين متفقون على النهي عن ذلك " أهـ وقال أيضا " وأما بناء المشاهد على القبور والوقف عليها فبدعة لم يكن على عهد الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم ولا على عهد الأربعة " أهـ وقال أيضا " وأما بناء المساجد على القبور فهو محرم باتفاق الأئمة " أهـ وقال أيضا " وجعل المصحف عند القبر ليقرأ فيه بدعة منكرة لم يفعلها السلف بل يدخل في معنى اتخاذ المساجد على القبور ولا نزاع في النهي عن اتخاذها مساجد " أهـ وقال ابن القيم رحمه الله تعالى " الواجه الثالث عشر : أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بناء المساجد على القبور ولعن من فعل ذلك" أهـ وقد نص على النهي عن اتخاذ القبور مساجد جمع كثير من الأئمة يصعب حصرهم وقد ذكرنا في كتابنا تنوير الصدور في التحذير من فتنة القبور نقولا عن الأئمة كثيرة مما أغنى عن إعادته هنا طلبا للاختصار ، وبهذا تعلم أن بناء المساجد على القبور منهي عنه بالنقل الصحيح وبالإجماع القطعي الصريح ، فبناء المساجد على القبور محدثة وبدعة فهو رد على أصحابه لأن كل إحداث في الدين عقيدة أو شريعة فهو رد .
فصل(1/130)
الفرع الخامس عشر : بدعة الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج ، وأنا أنقل لك ما قاله صاحب كتاب البدع الحولية ، والذي أقسم بالله تعالى أنه من أجمل ما ألف في هذه الموضوع زاد الله مؤلفه توفيقا وسدادا ، فقال يحفظه الله تعالى " الاحتفال بالإسراء والمعراج من الأمور البدعية التي نسبها الجهال إلى الشرع وجعلوا ذلك سنة تقام في كل سنة ، وذلك في ليلة سبع وعشرين من رجب ، وتفننوا في ذلك بما يأتونه في هذه الليلة من المنكرات وأحدثوا فيها من أنواع البدع ضروباً كثيرة كالاجتماع في المساجد وإيقاد الشموع والمصابيح فيها وعلى المنارات والإشراف في ذلك واجتماعهم للذكر والقراءة ، وتلاوة قصة المعراج المنسوبة إلى ابن عباس والتي كلها أباطيل وأضاليل ولم يصح منها إلا أحرف قليلة ، وكذلك قصة ابن السلطان الرجل المسرف الذي لا يصلي إلا في رجب ، فلما مات ظهرت عليه علامات الصلاح ، فسئل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " إنه كان يجتهد ويدعو في رجب " وهذه قصة مكذوبة مفتراة ، تحرم قراءتها وروايتها إلا للبيان وكذلك ما يفرشونه من البسط والسجادات وغيرهما ، ومنها أطباق النحاس فيها الكيزان والأباريق وغيرهما ، كأن بيت الله تعالى بيتهم ، والجامع إما جعل للعبادة ، لا للفراش والرقاد والأكل والشرب ، وكذلك اجتماعهم في حلقات ، كل حلقة لها كبير يقتدون به في الذكر والقراءة وليت ذلك لو كان ذكرا أو قراءة ، لكنهم يلعبون في دين الله تعالى فالذاكر منهم في القالب لا يقول ( لا إله إلا الله ) بل يقول : لا يلاه يلله فيجعلون عوض الهمزة ياء ، وهي ألف قطع جعلوها وصلا وإذا قالوا : سبحان الله يمطونها ويرجعونها حتى لا تكاد تفهم ، والقارئ يقرأ القرآن فيزيد فيه ما ليس فيه وينقص منه ما هو فيه بحسب تلك النغمات والترجيعات التي تشبه الغناء الذي اصطلحوا عليه على ما قد علم من أحوالهم الذميمة ، ثم في تلك الليلة من الأمر العظيم أن القارئ يبتدئ بقراءة(1/131)
القرآن والآخر ينشد الشعر أو يريد أن ينشده فيسكتون القارئ أو يهمون بذلك ، أو يتركون هذا في شعره وهذا في قراءته لأجل تشوف بعضهم لسماع الشعر وتلك النغمات الموضوعة فهذه الأحوال من اللعب في الدين ، لو كانت خارج المسجد منعت فكيف بها في المسجد ؟ هم إنهم لم يقتصروا على ذلك بل ضموا إليه اجتماع النساء والرجال في الجامع مختلطين بالليل وخروج النساء من بيوتهن على ما يعلم من الزينة والكسوة والتحلي ، وعندما يحتاج بعضهم إلى قضاء الحاجة فإنه يفعل ذلك في مؤخرة الجامع ، وبعض النساء يستحين أن يخرجن لقضاء الحاجة فيدور عليهن إنسان بوعاء فيبلن فيه ويعطينه على ذلك شيئا ويخرجه من المسجد ، ثم يعود كذلك مرارا والبول في المسجد في وعاء الحرام ، مع ما فيه من القبح والشناعة ، وبعضهم يخرج إلى السكك القريبة من المسجد فيفعلون ذلك فيها ، ثم يأتي الناس إلى صلاة الصبح فيمشون إلى الجامع فتصيب أقدامهم النجاسة أو نعالهم ويدخلون بها في المسجد فيلوثونه و دخول النجاسة في المسجد فيها ما فيها من عظيم الإثم وقد ورد في النخامة في المسجد أنها خطيئة ، هذا وهي طاهرة بالإتفاق فكيف بالنجاسة المجمع عليها – إلى أن قال – : وهذه الاحتفالات في ليلة سبع وعشرين من رجب والتي يزعمون أنها ليلة الإسراء والمعراج باطلة من أساسها لأنه لم يثبت أنه أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذه الليلة بالذات ) أهـ كلامه قلت : وكل هذه الإحتفالات في هذه الليلة وكل ما يفعل فيها من المحدثات والبدع وبيان ذلك من وجوه :(1/132)
الأول : أنه لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه احتفل بهذه الليلة مع أنها تكررت في حياته سنوات طويلة وكان صلى الله عليه وسلم يعلم عين هذه الليلة فلو كان الاحتفال بها من الدين لشرعة ولفعله لكن كل ذلك لم يحصل فهذا الاحتفال من المحدثات التي قال فيها صلى الله عليه وسلم " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " متفق عليه ولقوله " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " ولقوله " وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة " ومن زعم أنه صلى الله عليه وسلم قد احتفل بهذه الليلة أو أقر من احتفل بها فهو أجهل من بقرة أهله وأضل من حمار أهله .
الثاني : أنه لم ينقل عن صحابي واحد ولا عن تابعي واحد ولا عن أحد من أتباعهم ولا عن أحد من أئمة الدين المقتدى بهم فعل ذلك أو الإقرار عليه ، وهم أشد الناس حبا للنبي صلى الله عليه وسلم وأشد الخلق تعظيما له ، فلو كان الاحتفال بهذه الليلة من جملة الشرع ومن جملة محبته وتعظيمه وتوقيره صلى الله عليه وسلم لكانوا هم أولى الناس بفعله ، لكنه لم يثبت عن أحد منهم فعل ذلك فدل ذلك على أن هذه الاحتفالات ليست من الشرع ، بل هي محدثة وشر الأمور محدثاتها .
الثالث : أن المحتفلين بهذه الليلة يعتقدون أن الاحتفال بها من جملة الطاعات والعبادات وأجل القربات ، وما يفعلونه فيها من الذكر والقرآن يعتقدون أنه مشروع في هذه الليلة بخصوصها وكل ذلك اعتقاد منهم لاستحباب ذلك والاستحباب حكم شرعي وقد تقرر في القواعد أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الشرعية الصريحة الصحيحة وقد علمت أن هذه الأفعال والاحتفالات لا دليل عليها ، وحيث في الدين وكل إحداث في الدين فهو رد .(1/133)
الرابع : أن المحتفلين بهذه الليلة يعتقدون أنها من الدين ، والفرض أن الدين كامل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، وليس الاحتفال بهذه الليلة مما جاء به ، فالاحتفال بها استدراك على الله تعالى في قوله " اليوم أكملت لكم دينكم " ومثل هذا الاستدراك قلة أدب وسوء خلق لأنه يتضمن القدح في خبر الله تعالى في تكميله لها الدين ، وهو من سوء الظن بالله تعالى ومعارضة له جل وعلا في خبره ، ولا مخرج من ذلك إلا باعتقاد أن هذه الأفعال من الاحتفالات وغيرها مما يفعل في هذه الليلة أنه من المحدثات والبدع ومما لا أصل له .
الخامس : أنه لو كان يتعلق بهذه الليلة بخصوصها شيء من الأحكام الشرعية لكان يجب على النبي صلى الله عليه وسلم بيان ذلك بقوله أو بفعله أو بإقرار ، لأن المتقرر في القواعد أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، فلما لم يحصل من النبي صلى الله عليه وسلم بيان الشيء من ذلك دل على أنه ليس من الشرع بل محدثة في الدين وابتداع في شريعة رب العالمين وكل إحداث في الدين فهو رد .
السادس : أن المتقرر في القواعد أن، العبادات توقيفية على النص فلا يقال العبادات مشروعة إلا بدليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع ، فباب العبادات باب توقيفي فلا يجوز لتشريع شيء إلا بنص ، وإلا لكان ذلك من تشريع ما لم يأذن به الله ، وقد قال تعالى " أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله " وحيث لا دليل على هذه الأفعال في هذه الليلة فلا يقال : إنها عبادة، بل يقال هي محدثة وبدعة وكل إحداث في الدين فهو رد .(1/134)
السابع : الإجماع على عدم المشروعية ، فقد أجمع السلف رحمهم الله تعالى على أن اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية أنه من البدع والإحداث في الدين قال ابن تيمية رحمه الله تعالى : " ولا يعرف عن أحد من المسلمين أنه جعل لليلة الإسراء فضيلة على غيرها لاسيما على ليلة القدر ولا كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يقصدون تخصيص ليلة الإسراء بأمر من الأمور ولا يذكرونها ولهذا لا يعرف أي ليلة كانت وإن كان الإسراء من أعظم فضائله صلى الله عليه وسلم ومع هذا لم يشرع تخصيص ذلك الزمان ولا ذلك المكان بعبادة شرعية , بل غار حراء الذي ابتدئ فيه بنزول الوحي وكان يتحراه قبل النبوة لم يقصده هو ولا أحد من الصحابة بعد النبوة مدة مقامه بمكة ولا خص اليوم الذي أنزل فيه الوحي بعبادة ولا غيرها ولا خص المكان الذي ابتدئ فيه بالوحي ولا الزمان بشيء , ومن خص الأمكنة والأزمنة من عنده بعبادات لأجل هذا وأمثاله كان من جنس أهل الكتاب الذين جعلوا زمان أحوال المسيح مواسم وعبادات كيوم الميلاد ويوم التعميد وغير ذلك من أحواله " أهـ وقال ابن الحاج رحمه الله تعالى : " ومن البدع التي أحدثوها فيه – أعني شهر رجب ليلة السابع والعشرين منه التي هي ليلة المعراج ..... ثم ذكر كثيرا من البدع التي تفعل في هذه الليلة وأنكر ذلك وشدد فيه جدا رحمه الله تعالى فأجاد وأفاد .(1/135)
وقال ابن النحاس رحمه الله تعالى : " إن الاحتفال بهذه الليلة بدعة عظيمة في الدين ومحدثات أحدثها إخوان الشياطين " أهـ وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى : " إن الاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج أمر باطل وشيء مبتدع وهو تشبه باليهود والنصارى في تعظيم أيام لم يعظمها الشرع , وصاحب المقام الأسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي شرع الشرائع وهو الذي وضح ما يحل وما يحرم ثم إن خلفائه الراشدين وأئمة الهدى من الصحابة والتابعين لم يعرف عن أحد منهم أنه أحتفل بهذه الذكرى – ثم قال – : والمقصود أن الاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج بدعة , فلا يجوز , ولا تجوز المشاركة فيه " أه وقال الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى " وهذه الليلة التي حصل فيها الإسراء والمعراج لم يأت في الأحاديث الصحيحة تعينها وكل ما ورد في تعيينها فهو غير ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العلم بالحديث , ولله الحكمة البالغة في إنساء الناس لها , ولو ثبت تعيينها لم يجز للمسلمين أن يخصوها بشيء من العبادات ولم يجز أن يحتفلوا بها لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم لم يحتفلوا بها , ولم يخصوها بشيء ولو كان الاحتفال بها أمرا مشروعا لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة إما بالقول أو الفعل ولو وقع شيء من ذلك لعرف واشتهر ولنقله الصحابة رضي الله عنهم إلينا فإنهم قد نقلوا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم كل شيء تحتاجه الأمة ولم يفرطوا في شيء من الدين ، بل هم السابقون إلى كل خير ، فلو كان الاحتفال بهذه الليلة مشروعا لكانوا أسبق الناس إليه ، والنبي صلى الله عليه سلم هو أنصح الناس للناس وقد بلغ الرسالة غاية البلاغ وأدى الأمانة فلو كان تعظيم هذه الليلة والاحتفال بها من دين الإسلام لم يغفله النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكتمه فلما لم يقع شيء من ذلك علم أن الاحتفال بها وتعظيمها ليسا من الإسلام في شيء ، وقد أكمل الله لهذه(1/136)
الأمة دينها وأتم عليها النعمة وأنكر على من شرع في الدين ما لم يأذن به الله ، قال سبحانه وتعالى في كتابه المبين من سورة المائدة : " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لك الإسلام دينا " وقال عز وجل في صورة الشورى : " أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولو لا كلمة الفصل ليقضى بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم " وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة التحذير والتصريح – بأنها ضلالة تنبيها للأمة على عظم خطرها وتنفيرا لهم عن اقترافها " أهـ .(1/137)
الثامن : أن هذه الليلة لو كان يشرع فيها شيء من الأقوال أو الأفعال لكانت مما حفظه الله تعالى لنا ، قال تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " وحفظ القرآن حفظ للسنة ، وحفظهما حفظ للشرع ، فلو كان إحياؤها بالاحتفال من الشرع لحفظت لنا ، لكن الواقع أنه لم يحفظ الناس عن هذه الليلة فهي مما نسيه الناس ولم يحرصوا عليه بضبط ولا تقييد ، والقول بأنها سبع وعشرون من رجب قول لا دليل عليه ، فعدم حفظ الله تعالى دليل على أنها ليست من الشرع ، فإن الناس قد اختلفوا في تعيينها اختلافا كثيرا . فقيل إنها كانت قبل المبعث لكنه قول شاد وقيل إنها قبل الهجرة السنة وقيل قبل الهجرة بستة أشهر وقيل قبل الهجر بثمانية أشهر ، وقيل بأحد عشر شهرا ، وقيل قبل الهجرة باثني عشر شهرا وقيل غير ذلك في أقوال كثيرة ، ولا نستطيع أن نجزم بشيء منها البتة لعدم النقل الصحيح الصريح في ذلك فإذا كانت السنة والشهر الذي حصل فيه الإسراء مختلفا فيه فما بالك باليوم بعينه ، والمقصود أن إهمال الناس لضبط يومها من لدن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين إلى زماننا هذا دليل على أنه لا يتعلق بها حكم شرعي ، نعم هي ليلة عظيمة في ذاتها لكن مع عظمتها وعظمة ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم فيها إلا أنه لا يتعلق بها بها أي شيء من الأحكام الشرعية فبان لك بذلك أن إحياء هذه الليلة بالاحتفال وغيره إنما هو محدثة وبدعة في الشرع فهو رد على أصحابه لأن كل إحداث في الدين عقيدة وشريعة فهو رد .
فصل(1/138)
الفرع السادس عشر: البناء على القبور ورفع بنائها وتشييد أركانها ووضع الرخام في بنائها وزخرفة بنائها ، وهذا من البدع المحدثة ولاشك ومن البلايا الردية ومن الوسائل الموصلة للشرك فاحذروا منه أيها المسلمون رحمكم الله تعالى ، فإن القبور في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت مستوية بالأرض لا ترفع إلا بقدر شبر فقط، وجرى الحال على ذلك في عهد الصحابة رضوان الله عليهم وكذا جرى الحال في عهد التابعين ولا يعرف عن أئمة أنهم أجازوا رفع القبور والبناء عليهم بل المعلوم من حالهم بالاستعراء إنكار ذلك ، ففي حديث أبي الهياج الأسدي رحمه الله تعالى قال : قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته " وهذا من سد وسائل الشرك وإزهاق ذرائعة ، وهذا متفق عليه بين العلماء رحمهم الله تعالى قال الشوكاني رحمه الله تعالى : " اعلم انه قد اتفق الناس سابقهم ولاحقهم وأولهم وآخرهم من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى هذا الوقت أن رفع القبور والبناء عليها بدعة من البدع التي ثبت النهي عنها واشتد وعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاعلها كما يأتي بيانه ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين أجمعين " أهـ وقال أيضا : " والظاهر أن رفع القبور زيادة على القدر المأذون فيه محرم وقد صرح بذلك أصحاب أحمد وجماعة من أصحاب الشافعي ومالك " أهـ وروى مسلم في صحيحة عن جابر رضي الله عنه قال : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه " وقد تقرر في القواعد أن النهي المجرد عن القرينة يفيد التحريم وتحريم البناء على القبور من باب تحريم الوسائل ، وقد تقرر في القواعد أن سد الذرائع المفضية إلى الممنوع من أصول الإسلام ، والبناء على القبر من أعظ الذرائع المفضية إلى الغلو في صاحب القبر وإضفاء صفة القداسة عليه وقد يؤول(1/139)
الأمر في غالب الأحيان إلى عبادته بالدعاء والاستغاثة والذبح والنذر واعتقاد أنه ينفع ويضر ، ولذلك جاءت الشريعة بقطع هذه الذريعة وتحريمها ، فرفع القبور محدث في الدين فيدخل تحت قوله صلى الله قليه وسلم " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " متفق عليه ، وليس عليه عمل النبي صلى الله عليه وسلم ، فيدخل في قوله صلى الله عليه وسلم " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " وهو من محدثات الأمور فيدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم " وشر الأمور محدثاتها " فهو بدعة ولا شك وكل بدعة ضلالة , ولأن البناء عليها كان مقدوراً عليه من قبله صلى الله عليه وسلم ومع ذلك لم يفعله اختياراً فالمشروع إذاً تركه لأن المتقرر في القواعد أن كل فعل توفر سببه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله فإن المشروع تركه كيف وقد بثت نهيه الصحيح الصريح عنهم ؟ ولأنه إسراف للمال وتبذير فيه بلا فائدة ولا مصلحة شرعية , وإنما الميت يزينه عمله الصالح , وأما إن كان من أهل الذنوب والعصيان والبعد عن الله تعالى فلا والله حتى ولو بنوا عليه سبعين طابقا من الرخام فلن ينفعه ذلك البتة , لأن هذه الأبنية دخلت في حد المباهات بالقبور فصار كل طائفة أو عائلة تباهي في البناء على قبر قريبها لتظهر مكانته فيما بينهم , والقبور من أمور الآخرة ولكنها صارت بهذه الأبنية والمباهات من أمور الدنيا فصار الداخل لهذه القبور لا يتذكر الموت والبلى ولا يتذكر الآخرة والمآل وإنما يقف مشدوها متعجبا من روعة هذه الأبنية والزخارف , ولأن البناء عليها تشبه بأهل الكتاب ونحن منهيون عن التشبه بهم ففي الحديث " من تشبه بقوم فهو منهم " ونحن مأمورون بمخالفتهم حتى في الأشياء اليسيرة كحف الشارب وفرق الشعر فكيف الحال فيما هو من أعظم شعاراتهم وهو رفع القبور بالبناء والزخرفة , فلما كان رفع القبور البناء عليها هو هديهم الفاسد في القبور فالواجب علينا مخالفتهم في ذلك , وهكذا(1/140)
وردت الشريعة بالأمر بهدم البناء على القبور وتسويتها بالأرض إلا بمقدار شبر وعلى ذلك جرى عمل المسلمين إلا من فسدت عقيدته , فبان بذلك أن البناء على القبور فيه عدة مفاسد , منها : مخالفة الإجماع , ومنها : مخالفة النص الصريح الصحيح القاضي بالنهي عن ذلك , ومنها : التشبه بالنصارى ومنها : المباهات و المفاخرة في شيء من أمور الآخرة , ومنها : أنه إسراف وتبذير ووضع للمال في غير موضعه , ومنها : أنه ذريعة لتعظيم أصحاب القبور التعظيم المفضي إلى الشرك , وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبنى على القبور أو يجصص " رواه أحمد وسنده جيد , وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال " نهى نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يبنى على القبور " رواه ابن ماجه وهو حديث صحيح , وقد أوصى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه عند موته أن لا يبنى شيء على قبره فقال " لا تجعلوا في لحدي شيء يحول بيني وبين التراب ولا تجعلوا على قبري بناء " رواه أحمد البيهقي وسنده حسن , وأوصى أبو هريرة رضي الله عنه أن لا يضرب على قبره فسطاطاً , وقال الشنقيطي رحمه الله تعالى " والتحقيق الذي لا شك فيه أنه لا يجوز البناء على القبور ولا تجصيصها " أهـ وسئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى عن البناء على القبور فقال : " أما بناء القباب عليها فيجب هدمها ولا علمت أنه يصل إلى الشرك الأكبر " أهـ وقد صرح بعض أهل العلم أن البناء عليها مكروه , ولكن أجزم إن شاء الله تعالى أن المراد بهذه الكراهية كراهة التحريم , وقال الأمير الصنعاني في السبل " قال الشارح رحمه الله تعالى وهذه الأخبار المعبر فيها باللعن والتشبيه بقوله " لا تجعلوا قبري وثنا يعبد من غير الله " تفيد التحريم للعمارة والتزيين والتجصيص ووضع الصندوق المزخرف ووضع الستائر على القبر وعلى سمائه والتمسح بجدار القبر وأن ذلك قد يفضي مع بعد العهد وفشو الجهل إلى ما كان(1/141)
عليه الأمم السابقة من عبادة الأوثان فكان في المنع عن ذلك بالكلية قطع لهذه الذريعة المفضية إلى الفساد وهو المناسب للحكمة المعتبرة في شرع الأحكام من جلب المصالح ودفع المفاسد سواء كانت بأنفسها أو باعتبار ما تفضي إليه " أهـ وقال صاحب شرح كتاب التوحيد " وقد أجمع العلماء على النهي عن البناء على القبور وتحريمه ووجوب هدمه لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا مطعن فيها بوجه من الوجوه , ولا فرق في ذلك بين البناء في مقبرة مسبلة أو مملوكة إلا أنه في المملوكة أشد ولا عبرة بمن شذ من المتأخرين فأباح ذلك إما مطلقا وإما في المملوكة " أهـ وقال أيضا " واعلم أنه قد وقع بسبب البناء على القبور من المفاسد التي لا يحيط بها على التفصيل إلا الله ما يغضب لله من أحله كل من في قلبه رائحة إيمان كما نبه عليه ابن القيم وغيره , فمنها : اعتيادها للصلاة عندها وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك , ومنها : تحري الدعاء عندها ويقولون : من دعا الله عند قبر فلان استجاب له , وقبر فلان الترياق المجرب , وهذه بدعة منكرة , ومنها : ظنهم أن لها خصوصيات بأنفسها في دفع البلاء وجلب النعماء ويقولون : إن البلاء يدفع عن أهل البلدان بقبور من فيها من الصالحين , ولا ريب أن هذا مخالف للكتاب والسنة والإجماع فالبيت المقدس كان عنده من قبور الأنبياء والصالحين ما شاء الله , فلما عصوا الرسول وخالفوا ما أمرهم به سلط الله عليهم من أنتقم منهم وكذلك أهل المدينة لما تغيروا بعض التغير جرى عليهم عام الحرة من النهب والقتل وغير ذلك من المصائب ما لم يجر عليهم من قبل ذلك , وهذا أكثر من أن يحصر , ومنها : الدخول في لعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم باتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج عليها , ومنها : أن ذلك يتضمن عمارة المشاهد وخراب المساجد كما هو الواقع , ودين الله تعالى بضد ذلك , ومنها : اجتماعهم لزيارتها واختلاط النساء بالرجال , وما يتبع ضمن(1/142)
ذلك من الفواحش وترك الصلوات ويزعمون أن صاحب التربة تحملها عنهم , بل اشتهر أن البغايا يسقطن أجرتهن على البغاء في أيام زيارة المشايخ كالبدوي وغيره , تقربا إلى الله تعالى بذلك , فهل بعد هذا في الكفر غاية , ومنها : كسوتها بالثياب النفيسة المنسوجة بالحرير والذهب والفضة ونحو ذلك , ومنها : جعل الخزائن والأموال ووقف الوقوف لما يحتاج إليه من ترميمها ونحو ذلك , ومنها إهداء الأموال ونذر النذور لها ولسدنتها العاكفين عليها الذين هم أصل كل بلية وكفر , فإنهم الذين يكذبون على الجهال والطغام بأن فلان دعا صاحب التربة فأجابه واستغاثه فأغاثه , ومرادهم بذلك تكثير النذور والهدايا لهم , ومنها : جعل السدنة لها كسدنة عباد الأصنام , ومنها : الإقسام على الله في الدعاء بالمدفون فيها , ومنها : أن كثيرا من الزوار إذا رأى البناء على قبر صاحب التربة سجد له , ولا ريب أن هذا كفر بنص الكتاب السنة وإجماع الأمة , بل هذا هو عبادة الأوثان لأن السجود للقبة عبادة لها وهن من جنس عبادة النصارى للصور التي في كنائسهم على صور من يعبدونه بزعمهم الباطل ... إلى أن قال ... :(1/143)
ومنها : النذر للمدفون فيها وفرض نصيب من المال والولد وهذا هو الذي قال الله تعالى فيه " وجعلوا الله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا " ومنها : أن المدفون فيها أعظم في قلوب عباد الله من الله وأخوف ولهذا لو طلبت من أحدهم اليمين بالله تعالى أعطاك ما شئت من الأيمان كاذبا أو صادقا وإذا طلبت من أحدهم أن يحلف بصاحب التربة لم يقدم إن كان كاذبا ولا ريب أن عباد الأوثان ما بلغ شركهم إلى هذا الحد بل كانوا إذا أرادوا تغليظ اليمين غلظوها بالله كما في قصة القسامة وغيرها , ومنها : سؤال الميت قضاء الحاجات وتفريج الكربات والإخلاص له من دون الله في أكثر الحالات , ومنها : التضرع عند مصارع الأموات والبكاء بالهيبة والخشوع لمن فيها , أعظم مما يفعلونه مع الله في المساجد والصلوات , ومنها : تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله تعالى وهي المساجد فيعتقدون أن العبادة والعكوف فيها أفضل من العبادة والعكوف في المساجد , ومنها : أن الذي شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة القبور إنما هو تذكرة الآخرة كما قال " زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة " والإحسان إلى المزور بالترحم عليه والدعاء له والاستغفار وسؤال العافية له , فيكون الزائر محسنا إلى نفسه وإلى الميت فقلب عبادة القبور الأمر وعكسوا الدين وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت ودعاءه والدعاء به وسؤاله حوائجهم ونصرهم على الأعداء ونحو ذلك فصاروا مسيئين إلى نفوسهم وإلى الميت , ومنها : إيذاء أصحابها بما يفعله عباد القبور بها , فإنه يؤذيهم ما يفعلونه عند قبورهم ويكرهونه غاية الكراهة كما أن المسيح عليه السلام يكره ما يفعلونه النصارى وكذلك غيره من الأنبياء والأولياء يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم ويوم القيامة يتبرؤون منهم , ومنها : محادة الله ورسوله ومناقضة ما شرعه فيها , ومنها : التعب العظيم مع الوزر الكبير(1/144)
والإثم العظيم , وكل هذه المفاسد العظيمة وغيرها مما لم يذكر إنما حدثت بسبب البناء على القبور ولهذا تجد القبور التي ليس عليها قباب لا يأتيها أحد ولا يعتادها لشيء مما ذكر إلا ما شاء الله "أهـ كلامه وهو كلام طيب نافع كتبته مع طوله لعظم فائدته فجزى الله علمائنا خير الجزاء في الدنيا والآخرة وقال ابن حزم رحمه الله تعالى " ولا يحل أن يبنى على القبر ولا أن يجصص ولا أن يزاد ترابه شيء ويهدم كل ذلك "أهـ وقال الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله تعالى : " أما بناء القباب على القبور فهو من علامات الكفر وشعائره لأن الله أرسل محمد صلى الله عليه وسلم بهدم الأوثان ولو كانت على قبر رجل صالح لأن اللات رجل صالح فلما مات عكفوا على قبره وبنوا عليه بنية عظيمة فلما أسلم أهل الطائف وطلبوا منه أن يترك هدم اللات شهرا لئلا يروعوا نساءهم وصبيانهم حتى يدخلوا الدين فأبى ذلك عليهم وأرسل معهم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان بن حرب وأمرهما بهدمها , قال العلماء : وفي هذا أوضح دليل بأنه لا يجوز إبقاء شيء من هذه القباب التي بنيت على القبور واتخذت أوثانا ولا يوما واحدا , فإنها شعائر الكفر "أهـ وقال الشافعي رحمه الله تعالى " رأيت الأئمة بمكة يأمرون بهدم ما يبنى على القبور "أهـ وقال أصحاب الفضيلة في اللجنة الدائمة في المملكة العربية السعودية : " البناء على القبور بدعة منكرة فيها غلو في تعظيم من دفن في ذلك وهو ذريعة إلى الشرك فيجب على ولي أمر المسلمين أو نائبه الأمر بإزالة ما على القبور من ذلك وتسويتها بالأرض قضاء على هذه البدعة وسدا لذريعة الشرك "أهـ فبان لك بذلك أن البناء على القبور أمرا محدث وبدعة خطيرة منكرة لها آثارها السيئة فهي رد على أصحابها لأن كل إحداث في الدين عقيدة أو شريعة فهو رد .
فصل(1/145)
الفرع السابع عشر : الصلاة إلى القبور , وهو من المحدثات والبدع الموصلة إلى إحياء الشرك والوثنية , وقد اتفق الصحابة على النهي عن ذلك والتشديد فيه وهذا الإجماع مما يعلم من الدين بالضرورة , وفي صحيح مسلم من حديث أبي مرثد الغنوي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها " وكل حديث فيه النهي عن اتخاذ القبور فإنه نص في تحريم الصلاة عندها لأن الصلاة أعظم مقصود تتخذ له المساجد , وقال صلى الله عليه وسلم " اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبورا " فدل ذلك على أن القبور ليس فيها ولا عندها صلاة , وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بين القبور , ورجاله رجال الصحيح , وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الأرض كلها مسجدا إلا المقبرة والحمام " رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والبزار وغيرهم بأسانيد جيده وصححه الألباني وقال : وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين وصححه الحاكم والذهبي . وروي عن عمر رضي الله عنه أنه رأى أنس ابن مالك يصلي عند قبر فقال : القبر القبر , ذكره البخاري تعليقا , ولم يحفظ عنه طيلة حياته صلى الله عليه وسلم أنه صلى صلاة ذات ركوع وسجود إلى قبر أو عند قبر وكذلك لم يحفظ لم يحفظ عن أحد من صحابته الكرام , ولا عن أحد من تابعيهم ولا عن أحد من سلف الأمة وأئمتها .(1/146)
وثبت النهي نصاً عن عمر وعلي وابن عباس وكذلك ثبت النهي نصا عن نافع بن جبير بن مطعم وعطاء والنخعي وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأبي ثور وأحمد وغيرهم مما لا يحصى كثرة , وأما النقول عن أهل العلم المحققين فهي كثيرة جدا , قال أبو العباس رحمه الله تعالى " ولا تصح الصلاة في المقبرة ولا إليها والنهي عن ذلك إنما هو لسد ذريعة الشرك " أهـ وفي الحديث : " إن شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد " والصلاة عندها وإليها من اتخاذها مساجد , وقال ابن القيم رحمه الله تعالى " و أما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركا بالصلاة في هذه البقعة فهذا عين المحادة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم والمخالفة لدينه وابتداع دين لم يأذن به الله " وقال أيضا " واشتد نهيه في ذلك حتى لعن فاعله , ونهى عن الصلاة إلى القبور ونهى أمته أن يتخذوا قبره عيدا ولعن زوارات القبور وكان هدية أن لا تهان القبور وتوطأ وألا يجلس عليها ولا يتكأ عليها, ولا تعظم بحيث تتخذ مساجد فيصلى عندها وإليها وتتخذ أعيادا وأوثانا " أهـ وقال صاحب الزواجر رحمه الله تعالى " الكبيرة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتاسعة والتسعون : اتخاذ القبور مساجد وإيقاد السرج عليها واتخاذها أوثانا والطواف بها واستلامها والصلاة إليها , أخرج الطبراني بسند لا بأس به عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال : عهدي بنبيكم صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بخمس ليال فسمعته يقول : " إنه لم يكن نبي إلا وله خليل من أمته وإن خليلي أبو بكر بن أبي قحافة وإن الله اتخذ صاحبكم خليلا ألا وإن الأمم قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد وإني أنهاكم عن ذلك , اللهم بلغت – ثلاث مرات – ثم قال : اللهم اشهد ثلاث مرات – الحديث – والطبراني " لا تصلوا إلى قبر ولا تصلوا على قبر " وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان عن ابن عباس رضي الله عنهما(1/147)
لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج " ومسلم " ألا وأن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك " وأحمد " إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد " وابن حبان عن أنس : " نهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور " ... إلخ كلامه الطيب المتين جزاه الله خير .(1/148)
وقال ابن المنذر " الذي عليه الأكثر من أهل العلم كراهية الصلاة في المقبرة وكذلك نقول " وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى " قال أصحابنا : وكل ما دخل في اسم المقبرة مما حول القبور لا يصلى فيه فهذا يعين أن المنع يكون متناولا تحريم القبر المنفرد وفنائه المضاف إليه , وذكر الآمدي وغيره : إنه لا تجوز الصلاة فيه – أي المسجد الذي فيه قبر – حتى يكون بين الحائط وبين المقبرة حائل آخر وذكر بعضهم أن هذا منصوص لأحمد " أهـ وقال ابن حزم رحمه الله تعالى : " ولا تحل الصلاة في حمام – إلى أن قال – ولا إلى قبر ولا عليه وأنه قبر نبي أو غيره , فإن لم يجد إلا موضع قبر أو مقبرة أو حماما أو عطنا أو مزبلة أو موضعا فيه شيء أمر باجتنابه فليرجع ولا يصلي هناك جمعة ولا عيدا " أهـ وقال ابن القيم رحمه الله تعالى " فقد رأيت أن سبب عبادة ود ويغوث ونسر واللات إنما كانت من تعظيم قبورهم ثم أتخذ لها التماثيل وعبدوها " أهـ قال أيضا " فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الصلاة عند القبور منهي عنها وأنه لعن من اتخذها مساجد فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد وبناء المساجد عليها وقد تواترت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه وقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك وطائفة أطلقت الكراهة والذي ينبغي أن تحمل على كراهية التحريم إحسانا للظن بالعلماء وأن لا يظن أن يجوزوا فعل ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن فاعله والنهي عنه " أهـ وقال سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى " الصلاة عند القبور من البدع ومن وسائل الشرك أيضا النبي صلى الله عليه وسلم قال ( اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا ) فدل ذلك(1/149)
على أن القبور لا يصلى فيها ولا يصلى عندها , إنما الصلاة في المساجد وفي البيوت , أما القبور فلا لأن الصلاة عنده من وسائل الشرك والعبادة لها من دون الله " أهـ وبذلك تعلم يا أخي المبارك أن الصلاة إلى القبور وعندها من المحدثات والبدع فهي رد على أصحابها لأن كل إحداث في الدين عقيدة أو شرعة فهو رد .
فصل(1/150)
الفرع الثامن عشر : تجصيص القبور , أو تلوينها بالبوية أو زخرفتها بالرخام أو الآجر أو البلاستيك ونحو ذلك , وهذا من المحدثات والبدع لأنه مخالف للهدي النبوي في صفة القبر الشرعية فإن القبور على عهده صلى الله عليه وسلم لم يكن يفعل بها شيء من الزخرفة , ولأن هذه الزخارف بالتجصيص ونحوه من المباهاة والمفاخرة في أمر هو من أمور الآخرة , ولأنه إسراف للمال وتبذير له ووضع له في غير موضعه , ولأنه موجب للغلو في أصحاب القبور ولأنه وسيلة من وسائل تعظيم صاحب التربة التعظيم المفضي إلى الشرك واتخاذه وثنا يعبد من دون الله تعالى , ولأنه ليس مما عليه عمل النبي صلى الله عليه وسلم ولا من عمل الصحابة ولا من عمل التابعين ولا من عمل أحد من أئمة الهدى المقتدى بهم في الأمة وفي الحديث " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " وفي رواية " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " ولأنه مخالف للنهي الصحيح الصريح الثابت عنه صلى الله عليه وسلم فقد روى مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور " وفي رواية " نهى عن تجصيص القبر " وقد تقرر في الأصول أن النهي المطلق عن القرينة يفيد التحريم , ولقد تتابع العلماء في التحذير من تجصيص القبور , فعنون له مسلم في صحيحه في باب " النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه " وكذلك فعل ابن ماجه , ولما سئل مالك رحمه الله عنها قال " أكره تجصيص القبور " أي كراهة تحريم ولا شك . وقال الشافعي : " أحب أن لا يجصص – أي قبر – ولم أر قبور المهاجرين والأنصار مجصصة " أهـ ونهى أبو حنيفة عن تجصيص القبور كما نقل ذلك تلامذته .(1/151)
وقال الإمام ابن حزم : ولا يحل أن يجصص القبور " ونهى عمر بن عبد العزيز أن يبنى على القبر بآجر , كذلك أوصى الأسود بن يزيد فقال : لا تجعلوا على قبري آجر , وقال ابن القيم : " ورد النهي عن تجصيص القبر " وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب " ولا يجوز تجصيصه " ولأنه لو كان تجصيص القبر من أكرام الميت بعد دفنه لكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام أولى بفعله إكراما لموتاهم , لكنهم لم يفعلوه فدل على أنه ليس بشيء , بل هو محدثة وبدعة فهو رد على فاعليه لأن المتقرر أن كل إحداث في الدين عقيدة أو شريعة فهو رد .
فصل(1/152)
الفرع التاسع عشر : قراء الفاتحة عند إرادة الخطوبة , فإذا وافق أهل المرأة على الرجل زوجا لابنتهم فإنهم يفتتحون هذا العقد بقراءة الفاتحة ولا شك أن سورة الفاتحة أعظم سورة في القرآن وأنها السبع المثاني والقرآن العظيم وقراءتها بحد ذاتها مشروعة ولا شك إلا أن اعتقاد فضيلة قراءتها في هذا الوقت وعند هذا الظرف بعينه بدعة محدثة فهذه بدعة وصفية لا أصلية , وقد تقرر عند هذا الراسخين في العلم بأن مشروعية الشيء بأصله لا تستلزم مشروعيته بوصفه , بل الوصف الخاص الزائد على الأصل يتطلب دليلا زائدا لأن دليل الأصل للأصل والوصف من الهيئة أو الزمان أو المكان لابد فيه من دليل خاص , فلما رجعنا إلى الكتاب والسنة وعمل السلف وجدنا أن هذا الفعل لا أصل له , فإنه لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا مرة واحدة في حياته فإنه تزوج عليه الصلاة والسلام كثيرا , وزوج بناته , وحضر عقد الزواج لبعض أصحابه , وعقد هو بنفسه لبعض أصحابه , وكان الصحابة على عهده يتزوجون ويصله خبر زواجهم ومع ذلك لم يؤثر عنه صلى الله عليه وسلم ولو مرة واحدة أنه قرأ الفاتحة عند بداية العقد ولا أمر بها ولا أقر عليها ولو كان مشروعا لفعله فلما لم يفعله دل على أنه ليس بمشروع لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز , بل هو محدث في دينه وليس عليه أمره وفي الحديث " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " وفي رواية " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " وفي الحديث " وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" ولأن قراءة الفاتحة في هذا الوقت المخصوص من الأفعال التي كان صلى الله عليه وسلم قادرا على فعلها وسببها كان متحققا , فدل ذلك الترك مع القدرة على الفعل على أن المشروع هو الترك لأنه قد تقرر في القواعد أن كل فعل توفر سببه على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله اختيارا فإن المشروع تركه , ولأن الذين يفعلونه يعتقدون أنه من الطاعات(1/153)
والعبادات والقربات فلابد فيها من دليل يثبت كونها عبادة لأن المتقرر في القواعد أن الأصل في العبادات المنع إلا ما ورد فيه دليل , ولأن من يفعلها يعتقد أنها واجبة أو مستحبة , والوجوب والاستحباب حكمان شرعيان وقد تقرر في القواعد أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة وحيث لا دليل عليها فلا تكون مشروعة لا شرع إيجاب ولا شرع استحباب , وأما الاستحسان والرغبات والأهواء وموافقة الأكثر وإتباع ما عليه الآباء والأسلاف فلا مدخل لذلك في باب معرفة المشروع من عدمه . ولأنه لا يعلم ذلك عن صحابي واحدا لا فعلا ولا إقرارا , ولا يعرف عن تابعي واحد لا فعلا ولا إقرارا , ولا يعرف عن أحد من أئمة الدين المقتدى بهم في الأمة لا فعلا ولا إقرارا , فبان لك بذلك أن قراءة الفاتحة عند ابتداء الخطوبة محدث في الدين وبدعة فهو رد على أصحابه لأن كل إحداث في الدين فهو رد . وقد سئل الشيخ محمد بن عثيمين عن ذلك فقال : " ليس هذا بمشروع , بل هذا بدعة وقراءة الفاتحة أو غيرها من السور المعينة لا تقرأ إلا في الأماكن التي شرعها الشرع فإن قرئت في غير الأماكن تعبدا فإنها تعتبر من البدع وقد رأينا كثيرا من الناس يقرؤون الفاتحة في كل المناسبات حتى إننا سمعنا من يقول : اقرؤوا الفاتحة على الميت , وعلى كذا وعلى كذا , وهذا كله من الأمور المبتدعة المنكرة , فالفاتحة وغيرها من السور لا تقرأ في أي حال وفي أي مكان وفي أي زمان إلا إذا كان ذلك مشروعا بكتاب الله أو بسنة رسول الله سلى الله عليه وسلم و إلا فهي بدعة ينكر على فاعلها " .
فصل(1/154)
الفرع العشرون : أعياد الميلاد ,وهي أعياد يفعلها بعض الناس في اليوم الذي ولدوا فيه , أي أنهم يحتفلون كل عام في يوم ميلادهم , وسميت هذه بأعياد لأنها تعود وتتكرر كل عام . وهذه الأعياد محدثة في الدين وبدعة وأكتفي هنا بنقل عن سماحة الوالد العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى فإنه قد استوفى الإجابة عن هذه المحدثة من كل جوانبها , فقد سئل سماحته عن حكم أعياد الميلاد في الإسلام فقال سماحته " لا ريب أن الله سبحانه وتعالى شرع للمسلمين عيدين يجتمعون فيهما لذكر والصلاة وهما عيد الفطر والأضحى بدلا من أعياد الجاهلية , وشرع أعيادا تشتمل على أنواع من الذكر والعبادة كيوم الجمعة ويوم عرفة وأيام التشريق ولم يشرع لنا سبحانه وتعالى عيدا للميلاد , لا ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره بل قد دلت الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة على أن الاحتفال بالموالد من البدع والمحدثة في الدين ومن التشبه بأعداء الله من اليهود والنصارى وغيرهم فالواجب على أهل الإسلام ترك ذلك والحذر منه وإنكاره على من فعله وعدم نشر أو بث ما يشجع على ذلك أو يوهم إباحته في إذاعة أو صحافة أو تلفاز لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " متفق عليه وقوله صلى الله عليه وسلم " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " أخرجه مسلم في صحيحه وعلقه البخاري جازما به , وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في خطبة الجمعة " أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة " والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وفي مسند أحمد بإسناد جيد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من تشبه بقوم فهو منهم " وفي الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لتتبعن(1/155)
سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة " وفي لفظ " شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه " قالوا يا رسول الله : اليهود والنصارى ؟ قال " فمن " وفي هذا المعنى أحاديث أخرى كلها تدل على وجوب الحذر من مشابهة أعداء الله في أعيادهم وغيرها وأشرف الخلق وأفضلهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لم يحتفل بولد في حياته ولم يحتفل به أصحابه بعده رضي الله عنهم ولا التابعون لهم بإحسان في القرون الثلاثة المفضلة ولو كان الاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم أو مولد غيره خيرا لسبقنا إليه أولئك الأخيار ولعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أمته وحثهم عليه أو فعله بنفسه فلما لم يقع شيء من ذلك علمنا أن الاحتفال بالمولد من البدع المحدثة في الدين التي يجب تركها والحذر منها امتثالا لأمر الله سبحانه وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم " أهـ وقد سئل عنها الشيخ محمد بن عثيمين فقال " الاحتفال بميلاد الطفل لا يخلوا من حالتين , إما أن يكون عبادة وإما أن يكون عادة فإن كان عبادة فهو من البدع في دين الله وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم التحذير من البدع وأنها من الضلال قال صلى الله عليه وسلم " وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار " وأما أن يكون من العادة , فإذا كان من العادة ففيه محذوران , أحدهما : اعتبار ما ليس بعيد عيدا , وهذا من التقدم بين يدي الله ورسوله حيث أثبتنا عيدا في الإسلام لم يجعله الله ورسوله عيدا , ولم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وجد للأنصار يومين يلعبون فيهما ويعتبرونهما عيداً فقال صلى الله عليه وسلم " إن الله أبدلكم بخير منهما عيد الفطر وعيد الأضحى ، وأما المحذور الثاني : فإن فيه تشبيهاً بأعداء الله فإن هذه العادة ليست من عادات المسلمين وإنما ورثت من غيرهم وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن من تشبه بقوم فهو منهم ، ثم إن كثرة السنين للمرء ليست محمودة إلا في(1/156)
مرضاة الله عز وجل وطاعته فخير الناس من طال عمره وحسن عمله وشر الناس من طال عمره وساء عمله .... " أهـ وقال فضيلته أيضاً : " ليس في الإسلام أعياد سوى يوم الجمعة عيد الأسبوع وأول يوم من شوال عيد الفطر من رمضان والعاشر من شهر ذي الحجة عيد الأضحى وقد يسمى يوم عرفة عيدًا لأهل عرفة وأيام التشريق أيام عيد تبعاً لعيد الأضحى وأما أعياد الميلاد للشخص وأولاده وأما مناسبة زواج ونحوها فكلها غير مشروعة وهي للبدعة أقرب من الإباحة " أهـ وقد سأل عنها الشيخ ابن جبرين فقال فضيلته " هذه عادة سيئة وبدعة منكرة ما أنزل الله بها من سلطان فالأعياد توقيفية كالعبادات وقد ورد في الحديث أن أهل المدينة كان لهم عيدان في الجاهلية يلعبون فيهما فأبدلهم الله بهما العيدين الشرعيين ، وحيث لم يرد في الشرع ما يسمى بعيد الميلاد ولم يفعله أحد من الصحابة ولا سلف الأمة فإنه لا يجوز شرعاً الاحتفال بهذه الأعياد ولا حضورها ولا تشجيع أهلها ولا تهنئتهم ونحو ذلك مما فيه إعانة على هذا المنكر أو إقرار عليه " أهـ فبان لك بذلك أن أعياد الميلاد من المحدثات والبدع لعدم النص على مشروعيتها ولأنها تشبه باليهود والنصارى ، ولأنها فرح بما لا دليل على جواز الفرح به شرعاً فإن من أسباب عذاب الله تعالى الفرح بغير الحق كما قال تعالى " ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون " ولأن فيها بذخاً وإسرافاً لا مبرر له شرعاً ، ولأن الأعياد توقيفية ، فهي بهذه الاعتبارات والمفاسد محدثة في الدين وبدعة فهي رد على فاعليها لأن كل إحداث في الدين عقيدة أو شريعة فهو رد .
فصل(1/157)
الفرع الحادي والعشرون : اعتقاد فضيلة خاصة لعمرة في رجب ، أقول : لقد تقرر في قواعد الشريعة أن الأصل في العبادات الإطلاق ، وتقرر أيضاً أن المطلق يجب بقاؤه على إطلاقه ولا يجوز تقييده إلا بدليل ، وبناء عليه فمن قيد فضيلة عبادة لصفة معينة أو بزمان معين أو بمكان معين أو بمقدار معين فإن مخالف للأصل الذي هو الإطلاق ، وقد تقرر في القواعد أن الدليل يطلب من الناقل عن الأصل لا من الثابت عليه ، أي أن تقييد العبادات بصفة أو زمان أو مكان أو مقدار لابد فيه من دليل , وقد وردت الأدلة المرغبة في العمرة على وجه الإطلاق ولم تقيد هذا الفضل بزمان معين إلا في رمضان فإنه قد ورد في ذلك دليل خاص وهو قوله صلى الله عليه وسلم " عمرة في رمضان تعدل حجة " وأما غيره من الأزمنة فإن الاعتمار فيها سواء في الفضل ومن خصص للعمرة زمانا يعتقد أنها في هذا الزمان بعينه أفضل من غيره فإنه يدعي قيدا زائدا على أصل الفضل العام وهذا القيد الزائد على الأصل لابد له من دليل خاص , فالمعتمر في رجب اعتقادا أن العمرة فيه أفضل من غيره عنده أمران هما :-
الأول : اعتقاد فضل العمرة على وجه العموم وهذا لا نزاع معه فيه معه فيه , فنحن نقر بذلك لثبوت الأحاديث الصحيحة الصريحة به , ونحن لا ننكر عليه ذلك البتة .(1/158)
الثاني : اعتقاد فضيلة زائدة في الاعتمار في رجب , وهذا هو الذي نطلب الدليل عليه ولا حق له أن يستدل بالأدلة الدالة على فضل العمرة لأن هذه الأدلة إنما تثبت الأمر الأول فقط ونحن لا نخالفه فيه , وإنما نطلب الدليل على اعتقاد الفضل الزائد في الاعتمار في شهر رجب بخصوصه وقد تقرر في القواعد أن شرعية الأصل لا تستلزم شرعية الوصف , فإن قلت : وهل لابد لجواز اعتقاد هذا الفضل الزائد من دليل ؟ فأقول : نعم لأن هذا الاعتقاد داخل في حد التعبد وقد تقرر في القواعد أن الأصل في العبادات التوقيف على الدليل , ولأن هذا الفضل الزائد زيادة في اعتقاد الاستحباب , والاستحباب حكم شرعي وقد تقرر في القواعد أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة , ولا يعلم أنه صلى الله عليه وسلم رغب في الاعتمار في رجب بخصوصه في دليل صحيح , فتخصيص شهر رجب بالعمرة ليس له أصل , ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم من وجه يصح أنه اعتمر في شهر رجب ,وقد ورد عن بعض الصحابة وبعض السلف أنه اعتمر في رجب , ولكن ليس عن اعتقاد منهم فضيلة العمرة في رجب بخصوصه وإنما حصل ذلك من باب الموافقة , أو من باب إفراد العمرة بسفرة خاصة , ليفرد الحج أيضا بسفرة خاصة , وهذا أكمل , ونحن أيها الأخ المبارك لا نمنع العمرة في رجب , وإنما الذي نناقش فيه هو اعتقاد فضيلة العمرة فيه بخصوصه على سائر الشهور , بل إن بعض هؤلاء يحرص على الاعتمار في شهر رجب أشد من حرصه على الاعتمار في رمضان , فيترك فعل ما ثبت به الدليل الصحيح الصريح ويفعل ما لا دليل عليه , وقد ذكر الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى : أن العلماء أنكروا تخصيص شهر رجب بكثرة الاعتمار , وقال ابن العطار رحمه الله تعالى : " ومما بلغني عن أهل مكة زادها الله شرفا اعتياد كثرة الاعتمار في رجب , وهذا مما لا أعلم له أصلا " أهـ والمهم هنا أيها الحبيب الفاضل أن تفرق بين أصل فضل العمرة على وجه العموم(1/159)
, وبين اعتقاد فضيلة خاصة لها في شهر رجب , فنحن لا نخالف في الأول وإنما نمنع الثاني لعدم النقل , وحيث لم يثبت به النقل فيكون محدثة وبدعة ولا أصل له فهو رد على أصحابه لأن كل أحداث في الدين فهو رد والله أعلم .
فصل
الفرع الثاني والعشرون : قراءة القرآن في المقبرة ووضع المصاحف في المقابر وهذا لنا فيه نظران : نظر باعتبار أصل القراءة ونظر باعتبار اعتقاد فضيلتها في هذا المكان المخصوص , فأما القراءة باعتبار الأصل فهي مشروعة , وأما تقييد فضيلتها بهذا المكان المخصوص فإنها محدثة وبدعة , الأدلة التي تثبت فضل القراءة إنما يستدل بها على فضل أصل القراءة ولا تعلق لها بتقييد هذا الفضل بزمان مخصوص أو مكان مخصوص , وبناء عليه فمن قيد القراءة بمكان مخصوص فإننا نطالبه بالدليل على هذا التقييد لأن الأصل وجوب بقاء المطلق على إطلاقه ولا يقيد إلا بدليل , ولأن الدليل يطلب من الناقل عن الأصل لا من الثابت عليه , ولأن شرعية الأصل لا تستلزم شرعية الوصف ولأن الأصل في العبادات الإطلاق , ولأن الأصل في العبادات التوقيف ولأن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة , ولأنه لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قرأ القرآن في المقبرة ولو مرة واحدة لبيان الجواز وقد تقرر في القواعد أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز , ولأنه صلى الله عليه وسلم قال " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " وفي رواية " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " وفي الحديث " وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " وسئل الشيخ بن باز عن ذلك فقال " القراءة على الأموات ليس لها أصل يعتمد عليه ولا تشريع وإنما المشروع القراءة بين الأحياء ليستفيدوا ويتدبروا كتاب الله ويتعقلوه , أما القراءة على الميت عند قبره أو بعد وفاته قبل أن يقبر أو القراءة له في أي مكان ثم تهدى له فهذا لا نعلم له أصلا وقد صنف العلماء في ذلك وكتبوا في(1/160)
هذا كتابات كثيرة , منهم من أجاز القراءة ورغب في أن يقرأ للميت ختمات وجعل ذلك من جنس الصدقة بالمال , ومن أهل العلم من قال " هذه أمور توقيفية , يعني أنها من العبادات فلا يجوز أن يفعل منها إلا ما أقره الشرع والنبي صلى الله عليه وسلم قال " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " وليس هناك دليل في هذا الباب فيما نعلمه يدل على مشروعية القراءة للموتى , فينبغي البقاء على الأصل وهو أنها عبادة توقيفية , فلا تفعل للأموات بخلاف الصدقة عنهم والدعاء لهم والحج والعمرة وقضاء الدين فإن هذه الأمور تنفعهم وقد جاءت بها النصوص , وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعوا له " وقال الله سبحانه وتعالى " والذين جاؤا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم " فقد أثنى الله سبحانه على هؤلاء المتأخرين بدعائهم لمن سبقهم وذلك يدل على شرعية الدعاء للأموات من المسلمين وأنه ينفعهم وهكذا الصدقة تنفعهم للحديث المذكور , وفي الإمكان أن يتصدق بالمال الذي يستأجر به من يقرأ للأموات على الفقراء والمحاويج بنية هذا الميت , فينتفع الميت بهذا المال ويسلم باذله من البدعة , وقد ثبت في الصحيح أن رجلا قال يا رسول الله إن أمي ماتت ولم توصي وأظنها لو تكلمت لتصدقت أفلها أجر أن تصدقت عنها , فقال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الصدقة عن الميت تنفعه " وهكذا الحج عنه وقد جاءت الأحاديث بذلك وهكذا قضاء الدين ينفعه , أما كونه يتلو له القرآن ويثوبه له أو يهديه أو يصلي له أو يصوم له تطوعا فهذا كله لا أصل له , والصواب أنه غير مشروع " أهـ وقد سئل الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى عن قراءة القرآن على القبور فقال : " قراءة القرآن على القبور بدعة لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن(1/161)
أصحابه , فإنه لا ينبغي لنا نحن أن نبتدعها من عند أنفسنا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما صح عنه : " كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " زاد النسائي " وكل ضلالة في النار " والواجب على المسلمين أن يقتدوا بمن سلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان حتى يكونوا على الخير والهدى لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم " أهـ وقال الشيخ الفوزان حفظه الله تعالى : " قراءة القرآن في المقابر بدعة محدثة وكل بدعة ضلالة والمشروع لمن زار مقابر المسلمين أن يسلم عليهم ويدعوا لهم كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل إذا مر بالقبور أو زارهم ولم يكن صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن عندها وقد قال عليه الصلاة والسلام ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) " أهـ وبهذا تعلم أن قراءة القرآن على الأموات ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم فهو رد لأن المتقرر في القواعد أن كل إحداث في الدين عقيدة أو شريعة فهو رد .
فصل
الفرع الثالث والعشرون : غرس الأغصان الرطبة على القبور وهذا من الفروع التي ثبت خلاف أهل العلم فيه , ولكن الحق الحقيق بالقبول هو القول بأن ذلك الفعل محدثة وبدعة وبيان ذلك من وجوه :(1/162)
الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك إلا في قبرين فيما نعلم ففي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال " إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير , أما أحدهما فكان لا يستتر من البول أما الآخر فكان يمشي بالنميمة فدعا بجريدة رطبة فشقها باثنتين فغرز كل قبر واحدة , فقالوا : يا رسول الله لم فعلت هذا ؟ فقال " لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا " ولا نعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان يضع الجريد الرطب على كل قبر يمر عليه , ولو كان ذلك مما وقع لتوفرت الهمم والدواعي على نقله , لكنه لم ينقل شيء من ذلك , وهذا الوضع منه صلى الله عليه وسلم إنما كان من باب الخصوصية لأنه ليس من باب الفعل المطلق وإنما هو من باب الفعل المعلل , وهذه العلة من خصوصياته صلى الله عليه وسلم لأن سماع تعذيب الميت في قبره كان من جملة خصائصه صلى الله عليه وسلم , فلما كانت العلة خاصة به , فكذلك نقول في معلولها أنه من خصوصياته صلى الله عليه وسلم ويوضح ذلك .(1/163)
الوجه الثاني : وهو أن الصحابة قد شاهدوا ذلك الفعل منه صلى الله عليه وسلم وبعضهم نقل إليه ذلك الفعل ومع ذلك فإنه لم يثبت عن أحد من الخلفاء الأربعة أنه اقتدى به في ذلك ولا عن أحد من بقية العشرة المبشرين بالجنة ولا عن أحد من المشهورين من الصحابة بالفقه والفتوى كابن عباس وابن عباس وابن عمر ومعاذ وزيد ولا عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم , فلو كان ذلك الفعل من باب التشريع العام لكان الصحابة رضي الله عنه وأرضاهم أولى الناس بامتثاله فإنهم أحرص منا على الهدى وفعل الخير , فتركهم لفعل ذلك دليل على أنهم فهموا أن ذلك الفعل من خصوصياته صلى الله عليه وسلم وفهمه حجة رضي الله عنهم وأرضاهم لأن ديننا مبيني على الكتاب والسنة وفهم سلف الأمة , فإن قلت : أو لم يثبت عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه أنه أوصى أن يوضع في قبره جريدتان ؟ فأقول : نعم قد ثبت ذلك عنه ,ولكن أهل العلم رحمهم الله تعالى حملوا ذلك على أنه اجتهاد منه رضي الله عنه والاجتهاد يصيب ويخطئ , وفهم الخلفاء الراشدين والكبار الصحابة أولى بالتقديم من فهم بريدة رضي الله عنهم وأرضاهم وجمعنا بهم في الجنة , ولأن هذا الأثر لا يفيدهم شيئا لأن بريدة أوصى أن يوضع الجريد في قبره أي داخله ولو كان قصده الإقتداء لكان أوصى أن يوضع الجريد على القبر لا فيه , فأنه صلى الله عليه وسلم لم يضع الجريد في القبر , بل عليه , ويؤيد ذلك أن بريدة رضي الله عنه أوصى أن يوضع في قبره جريدتان , ولو كان يقصد الإقتداء لاكتفى بواحدة لأنه صلى الله عليه وسلم لم يضع جريدتين على كل قبر , وإنما وضع على كل قبر جريدة واحدة , بل إنه شق الجريدة الواحدة وغرز على هذا نصفها وعلى هذا نصفها , فهذا يبين أن وصيته هذه إنما هي اجتهاد منه رضي الله عنه وأرضاه ورأي له والحديث لا يدل عليه , حتى لو كان عاما فكيف وقد أثبتنا أنه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم , وكيف وقد فهم عامة أصحاب(1/164)
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذا من خصوصياته صلى الله عليه وسلم ولذلك لم يثبت عن أحد منهم مباشرة وضع الأغصان الرطبة ولا أقر عليه ولا أوصى به أن يوضع على قبره , فهذا كله يفيدك أن بريدة رضي الله عنه اجتهد وليس كل مجتهد مصيب باعتبار إصابة عين الحق , وله أجر على اجتهاده لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر واحد " فإن قلت : أوليس قد أوصى أبو برزة الأسلمي أيضا أن يوضع في قبره جريدتان ؟ فأقول : لا , إن هذا الأثر لم يثبت من وجه صحيح , فإن إسناده ضعيف لأن فيه رجلا يقال له النضر , ورجلا يقال له الشاه , وهما مجهولان ولأن فيه عنعنه قتادة فإنهم لم يذكروا له رواية عن أبي برزة , ثم هو مذكور بالتدليس فيخشى من عنعنته في مثل إسناده هذا , قاله إمام الحديث في زمانه المحدث الشيخ العلامة الألباني رحمه الله تعالى وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء , ويقال فيه أيضا ما قد قلناه في الإجابة عن أثر بريدة رضي الله عنه سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم " ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم " .(1/165)
الثالث " أن الذين أجازوا وضع الجريدة الرطبة على القبر إنما ظنوا أن التخفيف كان لمجرد النداوة التي في العسيب وهذا ظن خاطئ , وبيان ذلك أن سبب التخفيف إنما كان بفعل شفاعة رسول الله صلى الله عيه وسلم حيث قال كما عند مسلم من حديث جابر " إنني مررت بقبرين يعذبان فأحببت بشفاعتي أن يرفه عنهما ما دام الغصنان رطبين " وهذا الحديث كالتفسير لحديث ابن عباس فالتأثير في التخفيف ليس لنداوة الغصن وإنما لشفاعته صلى الله عليه وسلم لهما بأن يخفف عنهما وإنما رطوبة الغصن ذكرت لبيان مدة هذا التخفيف كما هو مصرح به في حديث جابر وقد تقرر في القواعد أن خير ما فسرت به السنة هي السنة , ويؤيد ذلك أنه لو كان السبب هو نداوة الغصنين لما شقه النبي صلى الله عليه وسلم طولا لأن هذا الشق يوجب ذهاب نداوتهما بسرعة . وهذه الشفاعة في هذا الموضوع من خصوصياته صلى الله عليه وسلم .(1/166)
الرابع : أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما وضع هذه الجريدة على هذين القبرين لأنه سمعهما يعذبان , وهذا مما أختص به النبي صلى الله عليه وسلم , وبناء على ذلك فوضع الجريد على القبر من قبلنا فيه إساءة ظن بالميت والواجب علينا إحسان الظن بأخينا المؤمن فحينما توضع الأشجار على القبور بقصد التخفيف , فلا شك أن هذا يعد رجما بالغيب لأنه يحكم على أن من في القبر يعذب , إذ كيف علم واضعها بأن صاحب هذا القبر بعينه يعذب فإن تعذيب الميت في قبره من أمور الغيب التي لا مدخل للعقول فيها , وبناء على ذلك فلا يجوز لنا نحن أن نضع شيئا من الأغصان الرطبة على القبور لعدم الدليل ,وعلى ذلك نص أهل العلم رحمهم الله تعالى قال سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى " وهكذا لا يشرع غرس الشجر على القبور لا الصبار ولا غيره , ولا زرعها بشعير ولا حنطة ولا غير ذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك في القبور ولا خلفاؤه الراشدون رضي الله عنهم , أما ما فعله مع القبرين اللذين أطلعه الله على عذابهما من غرس الجريدة فهذا خاص به صلى الله عليه وسلم وبالقبرين لأنه لم يفعل ذلك مع غيرهما وليس للمسلمين أن يحدثوا شيئا من القربات لم يشرعه الله للحديث المذكور ولقول الله سبحانه " أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله " أهـ وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى " وضع الشيء الرطب من أغصان أو غيرها على القبر ليس بسنة بل هو بدعة وسوء ظن بالميت لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يضع على كل قبر , وإنما وضع على هذين القبرين حيث علم عليه الصلاة والسلام أنهما يعذبان , فوضع الجريدة على القبر جناية عظيمة على الميت وسوء ظن به , ولا يجوز لأحد أن يسئ الظن بأخيه المسلم لأن هذا الذي يضع الجريدة على القبر يعني أنه يعتقد أن صاحب هذا القبر يعذب إذ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضعهما على القبرين إلا حين علم(1/167)
أنهما يعذبان وخلاصة الجواب : أن وضع الجريدة ونحوها على القبر بدعة وسوء ظن بالميت حيث يظن الواضع أنه يعذب فيريد التخفيف عليه , ثم ليس عندنا علم بأن الله تعالى يقبل فيه شفاعتنا فيه إذا فعلنا ذلك كما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم " أهـ فدل ذلك على أن هذا الفعل محدثة في الدين وبدعة فهو رد على أصحابه وكل إحداث في الدين فهو رد .
فصل
الفرع الرابع والعشرون : وهو قريب من الأول , وهي بدعة وضع الزهور على القبور , وهي من المحدثات التي لا أصل لها ولم يثبت فعلها عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة ولا عن أحد من سلف الأمة وأئمتها وهي من المحدثات المستوردة من الكفار , فإن هذا بعينه عادة النصارى وأنت خبير بأن من مقاصد شريعتنا مخالفة أهل الكتاب فيما هو من عبادتهم وعاداتهم لحديث " من تشبه بقوم فهو منهم " وقد سئل أصحاب الفضيلة في اللجنة الدائمة عن حكم ذلك فأجابوا بقولهم " هذا العمل بدعة وغلو في الأموات وهو شبيه بعمل أولئك أي النصارى في صالحيهم من جهة التعظيم واتخاذ شعار لهم ويخشى منه أن يكون ذريعة على مر الأيام إلى بناء القباب عليهم والتبرك بهم واتخاذهم آلهة مع الله سبحانه , فالواجب تركه سدا للذريعة " أهـ ولأن الأصل فيما يفعل بالميت وفيما يفعل معه التوقيف , فليس الباب مفتوحا أمام من هب ودب ليفعل مع الأموات ما يشاء بل الباب توقيفي على النص فلا يقبل أي فعل وأي قول إلا بالدليل فوضع الزهور على القبور وكذلك وضع الحناء مع الميت , أو تطييب القبر وتدخينه وكذلك وضع الفرش في القبر ونحو ذلك كل ذلك من البدع والمحدثات التي لا أصل لها في الشريعة فهي رد على أصحابها لأن كل إحداث في الدين عقيدة أو شريعة فهو رد.
فصل(1/168)
الفرع الخامس والعشرون : قراءة الفاتحة عند ورود ذكر اسم الميت , وهذا يفعله كثير من المسلمين وهو من المحدثات والبدع التي لا أصل لها , لأنه لا يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء من ذلك فقد كانت أسماء الموتى تطرق سمعه كثيرا ولم يك صلى الله عليه وسلم يقرأ الفاتحة فلو كان ذلك من الشرع الذي أمر ببلاغه لبينه النبي صلى الله عليه وسلم بفعله أو بقوله أو بإقراره ولما جاز له كتمه لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ولا يعرف عن أحد من صحابته مع مرور أسماء الأموات على مسامعهم فلو كان من الدين ومما ينتفع به الميت لكانوا أحرص الناس عليه , وكذلك لا يعرف هذا عن أحد من سلف الأمة وأئمتها وإنما هو استحسان من بعض الناس ظنا منه أنه ينفع الميت وهذا ظن خاطئ وعمل غير صائب , ولأنهم يفعلونه على أنه عبادة وقد تقرر في القواعد أن العبادات توقيفية على الدليل ولأنهم يعتقدون استحبابه في هذا الوقت بعينه الاستحباب حكم شرعي وقد تقرر في القواعد أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة ولأنهم يعتقدون أن قراءة الفاتحة عند ذكر اسم أحد الأموات مما يصل الميت ثوابه ومما ينتفع به , ووصول ثواب عمل الحي للميت من أمور الغيب ولا مدخل للعقل ولا للاستحسان فيه , وقد تقرر في القواعد أن أمور الغيب مبناها على النص ولأن الأصل في العبادات الإطلاق فمن قيد استحباب عبادة بزمان أو مكان أو صفة فإنه مطالب بالدليل لأنه مخالف للأصل وقد تقرر في القواعد أن الدليل يطلب من الناقل عن الأصل لا من الثابت عليه , وتقرر أيضا أن الأصل هو وجوب إجراء المطلق على إطلاقه ولا يقيد إلا بدليل , فيتقيد استحباب قراءة الفاتحة بهذا الوقت المعين وبهذا السبب المعين لا يقبل إلا بدليل وقد تقرر أن شرعية الأصل لا تستلزم شرعية الوصف ولأنهم يعتقدون أن ذكر اسم الميت من الأسباب الشرعية لقراءة الفاتحة وقد تقرر في القواعد أن الأصل في السبب الشرعي(1/169)
التوقيف على النص فاستحباب قراءة الفاتحة عند ذكر اسم الميت محدث في الشرع وبدعة وضلالة لحديث " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد " ولحديث " وكل بدعة ضلالة " وحيث لا دليل عليه فهو بدعة ومحدثة فهو رد على فاعليه لأن المتقرر أن كل إحداث في الدين عقيدة أو شريعة فهو رد .
فصل
الفرع السادس والعشرون : استئجار قارئ للقرآن يقرأ في العزاء وعند تشييع الجنازة وهو من المحدثات والبدع التي ليس عليها أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته ولا أحد من التابعين فيما نعلم , والعبادات توقيفية وقد مات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم جمع كثير من أصحابه رجالا ونساء ولم يعرف عنه صلى الله عليه وسلم أنه قرأ القرآن هو أو أمر أحدا من أصحابه أن يقرأ فلو كان ذلك مما يشرع لوجب عليه صلى الله عليه وسلم بيان ذلك لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز , ولأن الدين كامل , وهذا الفعل لا دليل عليه فليس هو من الدين , ولأنه ليس عليه عمل النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال صلى الله عليه وسلم " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " ولأنه محدث في الدين فهو شر وبدعة وضلالة لحديث " وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة " ولأنه من الأفعال التي لم يأذن بها الله فيكون من تشريع الشركاء فهو داخل في قوله تعالى " أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله " ولأنه قد تقرر أن من مقتضيات شهادة أن محمدا رسول الله أن لا يعبد الله إلا بما شرع , فالتعبد لله تعالى بعبادة ليس هي مما عليه شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم مخالف لهذا الواجب وقادح في كمال الإتباع وتقحم في مهاوي الابتداع ولأن من اعتقد زيادة أفضلية عبادة في زمان أو مكان معين لا بد أن يأتي بدليل يدل على هذه الزيادة ولا حق له أن يستدل على زيادة الأفضلية بالأدلة الدالة على أصل المشروعية لأن شرعية الأصل لا تستلزم شرعية الوصف , ولأن قراءة القرآن في العزاء من الأفعال التي قد(1/170)
توفر سبب فعلها على عهده صلى الله عليه وسلم ولم يفعلها وقد تقرر في القواعد أن الأشياء التي توفر سبب فعلها على عهده صلى الله عليه وسلم ولم يفعلها اختيارا فإن المشرع تركها فالواجب على من يفعل ذلك أن يدعه تعبدا لله تعالى لأن هذا الفعل محدثة وبدعة فهو رد على فاعليه غير مقبول لأن كل إحداث في الدين عقيدة أو شريعة فهر رد .
فصل
الفرع السابع والعشرون : إقامة المآتم ، وقد سئل الشيخ محمد رحمه الله تعالى فقال : " المآتم كلها بدعة سواء كانت ثلاثة أيام أو على أسبوع أو على أربعين يوما لأنها لم ترد عن فعل السلف الصالح رضي الله عنهم ولو كان خيرا لسبقونا إليه ولأنها إضاعة مال وإتلاف وقت وربما يحصل فيها شيء من المنكرات من الندب والنياحة ما يدخل في اللعن فإن النبي صلى الله عليه وسلم لعن النائحة والمستمعة , ثم إنه إن كان من مال الميت – أي من ثلثه أعني – فإنه جناية عليه لأنه صرف له في غير الطاعة , وإن كان من أموال الورثة فإن كان فيهم صغار أو سفهاء لا يحسنون التصرف فهو جناية عليهم أيضا لأن الإنسان مؤتمن في أموالهم فلا يصرفها إلا فيما ينفعهم وإن لعقلاء بالغين راشدين فهو أيضا بدعة لأن بذل الأموال فيما لا يقرب إلى الله أو لا ينتفع به المرء في دنياه من الأمور التي تعتبر سفها ويعتبر بذل المال فيها إضاعة له وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال " أهـ وقال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله تعالى : " ليس من الشرع إقامة المآتم بل هذا مما نهى عنه الله تعالى لأنه من الجزع والنياحة والابتداع الذي ليس له أصل في الشريعة , وأما المشروع في العزاء فهو إذا لقيت المصاب أن تدعو له وتدعو للميت فتقول : أحسن الله عزاك وجبر الله مصيبتك وغفر الله لميتك إذا كان الميت مسلما هذا هو العزاء المشروع " أهـ(1/171)
فهذه المآتم التي تقام في سرادقات كبيرة واسعة مضاءة ليست من عمل النبي صلى الله عليه وسلم ولا من عمل الصحابة ولا من عمل سلف هذه الأمة فهو محدث في الدين وبدعة وقد تقرر أن كل إحداث في الدين فهو رد وأسألك بالله هل أقامها النبي صلى الله عليه وسلم لما ماتت زوجه خديجة أو لما مات عمه حمزة أو أقامها لما مات ابن عمه جعفر بل إن أبناءه كلهم ماتوا رضي الله عنهم وهو لا يزال حيا , ومات كذلك بعض بناته في حياته , ومات جمع كبير من صحابته وهو حي فهل بالله عليك أقام النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته شيئا من المآتم ليوم أو يومين أو أكثر أو أقل ؟ هل تعلم في السنة الصحيحة شيئا من ذلك ؟ فهل بالله عليك لما ترك النبي صلى الله عليه وسلم إقامة المآتم لأحد من هؤلاء يكون موصوفا بالتقصير في حق ميته الذي مات ؟ هل يستطيع مسلم أن يقول بذلك ؟ لا والله , بل المقصر في حق ميته هو الذي يجعل جنازته من أولها إلى آخرها وحتى بعد دفنها محلا للمحدثات المنكرة وللبدع المستنكرة مما ليس عليه برهان ولا أثارة من علم , وما ظنك بالله عليك بالخلفاء الراشدين وسائر الصحابة لما مات أحب الخلف إليهم – أعني رسول الله صلى الله عليه وسلم – فهل بالله عليك أقاموا لموته مأتما ؟ هل تعرف عنهم شيئا من ذلك ؟ فهل تقول : إنهم قصروا في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ لا والله لا أظنك تقول ذلك لأنك مؤمن صادق مخلص تعرف قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعرف قدر صحابته الكرام الأطهار الأخيار الأبرار رضي الله عنهم وأرضاهم , فمالك إلا تقول بصوتك الرفيع : إن إقامة المآتم مما لا دليل عليه فهو محدثة في الدين وبدعة فهو رد على فاعليه لأن كل إحداث في الدين عقيدة أو شريعة فهو رد وهذا هو الحق الحقيق بالقبول والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
فصل(1/172)
الفرع الثامن والعشرون : تجزئة القرآن وقراءته للميت , وقد سئلت اللجنة الدائمة في المملكة العربية السعودية عن ذلك فقالوا : " لم يكن الصحابة يقسمون القرآن بينهم , كل منهم يقرأ جزءا يكون من مجموع قراءتهم ختمة يهبون ثوابها لروح الميت , إنما كان كل منهم يقرأ ما يتيسر له من القرآن أو يقرءوه كله في عدة ليالي أو أيام , حتى يختمه حرصا على الاستفادة منه ورجاء الثواب من الله لنفسه , ولم يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ القرآن على روح الأموات ولا أنه وهب ثواب قراءته للأموات والخير كل الخير في إتباعه والتمسك بسنته وهديه وهدي الخلفاء الراشدين " أهـ ولأن الأصل في العبادات التوقيف ولا دليل يثبت أن هذا عبادة , ولأن الأصل في وصول ثواب عمل الحي للميت وانتفاعه بها التوقيف على النص ولا دليل من الكتاب ولا من صحيح السنة ولا من عمل الصحابة فيما نعلم يفيد أن هذه القراءة بهذا التجزيء مما ينتفع به الميت وأمور الغيب توقيفية على النص الصحيح الصريح , ولا مدخل للأهواء ولا للإستحسانات ولا للمذاهب وأراء الرجال في إثبات شيء من ذلك ولأن استحباب الشيء ووصفه بأنه مشروع لا بد فيه من دليل لأن المتقرر أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة , وحيث كان الأمر كذلك فهو يوصف حينئذ بأنه محدث في الدين وبدعة فهو رد على فاعليه لأن كل إحداث في الدين عقيدة أو شريعة فهو رد .
فصل(1/173)
الفرع التاسع والعشرون : الأذكار الجماعية المطلقة أو التي تفعل في أدبار الصلوات وأعني به الذكر الذي تنفق فيه ألفاظ الذاكرين وأحيانا ما يكون مصحوبا بالدفوف والتمايل والترنح والتصفيق والصراخ والتطريب ، وهذا لا نشك في أنه محدثة وبدعة وأنه من تشريع شيء لم يأذن به الله وأنه من المنكرات القبيحة والبدع والمحدثات الشنيعة وأنه لا يجوز وصفه بالقربة والعبادة بل هو هوس شيطاني وتخبط إبليسي وتزيين من شياطين الإنس والجن ونحن لا نتكلم هنا عن ذات الأذكار وإنما نتكلم عن الصفات التي توقع عليها هذه الأذكار وشرعية الشيء بأصله لا تستلزم شرعيته بوصفه ولأن المتقرر في قواعد المسلمين أن الأصل في العبادات التوقيف على النص ونحن لا نعلم دليلا يفيد جواز التعبد لله تعالى بالذكر الجماعي على هذه الصفة المنكرة والهيئة المستنكرة ولأنه لا يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعل ذلك ولا مرة في حياته مع كثرة قوله للأذكار فسبب الفعل متوفر ومع ذلك لم يفعله فالمشروع حينئذ تركه لأنه قد تقرر أن كل فعل توفر سبب فعله على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله اختيارا فالمشروع تركه , ولأنه لو كانت هذه الأذكار على هذه الهيئات والصفات من الشرع لوجب عليه صلى الله عليه وسلم بيانها ولما جاز له كتمها فلما لم يفعل ذلك علمنا أنها ليست من الشرع لأن المتقرر باتفاق أهل العلم أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز , ولأنه بعد البحث العميق والتفحص الدقيق لم نجد لهذه الأذكار الجماعية حسا ولا خبرا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته الكرام فدل ذلك على أنها ليست مما عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم بل هي مما أحدثه المتأخرون فهي داخلة تحت قوله صلى الله عليه وسلم " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد " وفي رواية " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " وقوله صلى الله عليه وسلم " وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة " وفيما شرعه(1/174)
الله تعالى غنية وكفاية عن هذه المحدثات والبدع , فإن قلت : أولا تريدنا أن نذكر الله تعالى ؟ فأقول : لا , بل أذكر الله تعالى فإنه قد ورد للذكر من الفضائل العظيمة والأجور التي لا حد لها ما هو معلوم عند أهل العلم , لكن لا توقع هذا الذكر على صفات ما أنزل الله بها من سلطان , وإنما هي من اختراعك واختراع شياطينك . فالذكر في حد ذاته ليس بمنكر من القول , بل هو من أطيب القول , ولا نناقش في قوله ولا فضله ولكن الذي ننكره هنا هو إيقاعه على هذه الصفات المعينة وعلى هذه الهيئات المعلومة مما لا دليل عليه , فلا بد من التفريق بين الأصل والوصف , وإن أردت معرفة هذه القاعدة فارجع إلى كتابنا المسمى " رسالة التفريق بين أصل العبادة ووصفها " والمهم أنه لا بد من التفريق بينهما , فإن قالوا : وهل لا بد للصفة من دليل خاص ؟ فأقول نعم , فالعبادات مبناها كلها على التوقيف بكل متعلقاتها , فذات العبادة أصلا مبناها على التوقيف وسببها مبناه على التوقيف وشروطها مبناها على التوقيف , ومبطلاتها مبناها على التوقيف , وأركانها مبناها على التوقيف ، وواجباتها مبناها على التوقيف ، وما يسن فيها مبناها على التوقيف ، وربطها بالزمان مبناها على التوقيف، وربطها بالمكان مبناه على التوقيف ، وربطها بمقدار معين مبناه على التوقيف ، فقول أهل العلم " العبادة مبناها التوقيف " يعنون به كل ما يتعلق بها أصلا ووصفا وسببا وشرطا ومبطلا وزمانا ومكانا ومقدارا وغير ذلك مما ذكرناه سابقا ، فانتبه لهذا ، فألفاظ الذكر لا كلام لنا فيه ما لم يكن من الأذكار الشركية البدعية التي تكثر عند القوم ، وإنما الكلام على الصفة فإنه إذا كانت ذات الذكر مشروعية فلا بد أيضا أن تكون صفته مشروعية ولا يستدل على شرعية الصفة بالدليل المفيد لشرعية الأصل ، لأن شرعية الأصل لا تستلزم شرعية الوصف .(1/175)
وبالجملة فإن إيقاع الذكر على هذه الصفات المعينة عند الصوفية والرافضة وغيرهم محدث في الدين وبدعة ، ولا يعرف له أثارة من علم تفيد شرعيته ، ولم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من صحابته ولا أحد من سلف الأمة وأئمتها وإنما هو مما أحدثه المبدلون للشرع والمبتغون فيه سنن الضلالة فهو رد عليهم لأن كل إحداث في الدين فهو رد .(1/176)
وقد سئل أصحاب الفضيلة عن حكم الذكر مع التمايل يمينا وشمالا فقالوا : " لا يجوز لأنه بهذه الكيفية بدعة محدثة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " اهـ وقد سئلوا أيضا عن حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والدعاء جماعة بعد الصلاة؟ فأجابوا بقولهم : " الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أجرها عظيم وقد أمر الله تعالى بها في القرآن الكريم ورغب فيها النبي صلى الله عليه وسلم وحث عليها وبين أن أجرها مضاعف فقال عليه الصلاة والسلام " من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشرا " وقد شرعت عند ذكر اسمه ، وبعد التشهد في الصلاة ، وفي خطبة الجمعة والنكاح ونحوهما ، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم ولا عن الأئمة من السلف، مالك وأبو حنيفة والليث بن سعد ، والشافعي والأوزاعي وأحمد رحمهم الله تعالى أنهم كانوا يصلون عليه صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة جهرا " والخير كل الخير في إتباع هديه صلى الله عليه وسلم وهدي الخلفاء الراشدين ، وسائر الصحابة رضي الله عنهم وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد والدعاء عبادة ولكن لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الخلفاء الراشدين وسائر الصحابة رضي الله عنهم أنهم دعوا جماعة بعد الصلاة فكان اجتماع المصلين بعد السلام من الصلاة للدعاء جماعة بدعة محدثة وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " وفي رواية " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " ) أهـ وقال أصحاب الفضيلة في اللجنة الدائمة أيضاً : ( ذكر الله بصفة جماعية وختمه بالحضر وتلاوة كتاب الله بلسان واحد في المساجد وفي البيوت والحفلات والمآتم لا نعلم له أصلاً شرعيا يعتمد عليه لإثبات مشروعيته على هذه الصفة والصحابة رضي الله عنهم هم أولى الناس بإتباع الشرع ولم(1/177)
يعرف عنهم ذلك وكذلك بقية القرون المفضلة والخير في اتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من عمل عملاً ليس علينا أمره فهو رد " وقال صلى الله عليه وسلم " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " وبما أنه لم يثبت في ذلك سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعمله أحد من الصحابة فيما نعلم ، فإنه يكون بدعة ، يتناوله الدليل السابق فهو مردود على صاحبه وكذا أخذ الأجرة على مثل هذا العمل " اه وقالوا أيضا : " الأصل في الأذكار والعبادات التوقيف وألا يعبد الله إلا بما شرع وكذلك إطلاقها أو توقيتها وبيان كيفياتها وتحديد عددها فيما شرعه الله من الأذكار والأدعية وسائر العبادات مطلقا عن التقييد بوقت أو عدد أو مكان أو كيفية لا يجوز لنا أن نلتزم فيه بكيفيه أو وقت أو عدد ، بل نعبده به مطلقا كما ورد ، وما ثبت بالأدلة القولية أو العملية تقييده بوقت أو عدد أو تحديد مكان له أو كيفية عبدنا الله به على ما ثبت من الشرع له ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قولا أو فعلا أو تقريرا الدعاء الجماعي عقب الصلوات أقراءة القراءة مباشرة أو عقب كل درس سواء كان ذلك بدعاء الإمام وتأمين المأمومين على دعائه أم كان بدعائهم كلهم جماعة ولم يعرف ذلك أيضا عن الخلفاء الراشدين وسائر الصحابة رضي الله عنهم فمن التزم بالدعاء الجماعي عقب الصلوات أو بعد كل قراءة للقرآن أو بعد كل درس فقد ابتدع في الدين وأحدث فيه ما ليس منه وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " وقال عليه الصلاة والسلام " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " اه وقد وجه سؤال لسماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز هذا نصه : لنا جماعة هم أصحاب الطريقة التيجانية يجتمعون كل يوم جمعة ويوم أثنين ويذكرون الله لهذا الذكر ( لا إله إلا الله ) ويقولون في النهاية : ( الله , الله , الله(1/178)
) بصوت عال فما حكم عملهم هذا ؟ فأجاب سماحته بقوله هذه العقيدة التيجانية من العقائد المبتدعة والطرق المنكرة وفيها منكرات كثيرة وبدع كثيرة ومحرمات شركية يجب تركها ولا يؤخذ منها إلا ما وافق الشرع المطهر الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والاجتماع على الذكر بصوت جماعي لا أصل له في الشرع وهكذا الاجتماع بقول : الله ، الله ، أو : هو ، هو ، إنما الذكر الشرعي أن يقول : لا إله إلا الله ، فهذا هو الذكر الشرعي ، أو سبحان الله والحمد لله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ، أستغفر الله ، اللهم اغفر لي ، أما الاجتماع بصوت واحد بقول : لا إله إلا الله ، أو : الله ، الله ، أو : هو ، هو ، فهذا لا أصل له بل هو من البدع المحدثة ، فالواجب على المسلمين ترك البدع لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " يعني مردود ، ويقول : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " ويقول أيضا عليه الصلاة والسلام " وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " وكان يخطب في الجمعة صلى الله عليه وسلم فيقول : " أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة " فالواجب على المسلمين أن يحذروا البدع كلها سواء كانت تيجانية أو غيرها وأن يلتزموا بما شرعه الله تعالى على لسان نبيه ورسوله محمد عليه الصلاة والسلام " اهـ وسئل أصحاب الفضيلة في اللجنة الدائمة في المملكة العربية السعودية سؤالاً هذا نصه : إذا خرج بعض الإخوان لرحلة أو لعمرة أو نحوهما يأمرون أحدهم أو بعضهم يوميا صباحا ومساء بقراءة ورد الصباح والمساء الوارد عن الرسول صلى الله عليه وسلم وبقية الجماعة يستمعون إليه فما حكم ذلك ؟ فأجاب أصحاب الفضيلة بقولهم : " كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أذكار وأدعية يذكر الله ويدعوه بها ، صباحا ومساء في نفسه ، وسمعها(1/179)
منه أصحابه وتعلموها وذكروا الله ودعوه بها صباحا ومساء كل منهم في نفسه منفردا ، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم – فيما نعلم – أنهم كانوا يقولون تلك الأذكار والأدعية مجتمعين ، يقرؤونها جميعا أو يقرؤوها بعضهم ويستمع الآخرون ، فينبغي للمسلم أن يهتدي بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه رضي الله عنهم في ذكره ودعائه وكيفية ذلك وفي سائر ما شرعه عليه الصلاة والسلام فإن الخير في إتباعه ، والشر كل الشر في مخالفته ، والإجتماع لذلك واتخاذه طريقة وعادة من البدع المحدثة وقد قال صلى الله عليه وسلم " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " وقال صلى الله عليه وسلم " إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " اهـ فبان لك بذلك أن الذكر الجماعي في أدبار الصلوات أو غيرهم من المحدثات والبدع فهو رد على فاعليه لأن المتقرر شرعا أن كل إحداث في الدين عقيدة أو شريعة فهو رد .
فصل(1/180)
الفرع الثلاثون : الذبح لأصحاب القبور ، وهو من البدع الشركية ، وذلك لأن الذبح عبادة وقد تقرر في القواعد أنه لا يجوز صرف العبادة لغير الله تعالى ، فالعبادات كلها حق محض لله تعالى لا يجوز صرفه لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل ولا لولي صالح ، فضلا عن القبور والأحجار والأشجار والكهوف والعيون والجن وغير ذلك ، فالذبح لأصحاب القبور من الشرك الأكبر المخرج عن ملة الإسلام بالكلية لأنه صرف للعبادة لغير الله تعالى ، وقال تعالى " قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين " وقال تعالى " فصل لربك وأنحر " وعن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الله من ذبح لغير الله ، لعن الله من لعن والديه ، لعن الله من آوى محدثا لعن الله من غير منار الأرض " ولأحمد في الزهد عن طارق بن شهاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " دخل الجنة رجل في ذباب ودخل النار رجل في ذباب " قالوا وكيف ذلك يا رسول الله ؟ قال : " مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا فقالوا لأحدهما قرب قال : ليس عندي شيء أقرب ، قالوا : قرب ولو ذباب ، فقرب ذبابا فخلوا سبيله فدخل النار وقالوا للآخر : قرب ، فقال ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل فضربوا عنقه فدخل الجنة " ولأن ما ذبح لصاحب القبر تقربا وتعظيما له هو مما أهل لغير الله به ، وقد قال تعالى " حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ....(1/181)
الآية " ولأن ما ذبح على تربة القبر شبيه تماما بما ذبح على النصب وقد قال تعالى في سياق المحرمات في الآية السابقة " وما ذبح على نصب " قال القرطبي : " والنصب حجر كان ينصب فيعبد وتصب عليه دماء الذبائح " اهـ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم منع ثابت بن الضحاك من الذبح ببوانه إلا بعد استثباته صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن فيها عيد من أعياد المشركين لأن الذبح للأوثان من أعظم مراسم عيد المشركين والحديث رواه أبو داوود بسند صحيح على شرط مسلم فإذا كانت مجرد مشابهتهم في مكان الذبح ممنوعة فكيف حال الذابح للوثن أصلا ؟ فهذا يفيدك أن الذبح للقبور من أعظم المحرمات ومن أقبح وأشنع المنكرات ولأنه صلى الله عليه وسلم قال " لا عقر في الإسلام " رواه أبو داوود وابن ماجه وإسناده صحيح على شرط الشيخين والعقر هو قطع إحدى قوائم البعير أو الناقة أو الشاة بالسيف لأجل نحره ، يفعل به ذلك كيلا يشرد عند النحر ، والمراد من الحديث النهي عما كان يفعله أهل الجاهلية عند القبور فكان من سنتهم أنهم يعقرون الإبل على قبور الموتى أي ينحرونها ويقولون : إن صاحب القبر كان يكرم الأضياف في حياته فنكافئه بمثل صنيعه بعد وفاته ، فجاء الإسلام بتحريم ذلك والإخبار بأنه من الشرك وبأن فاعله ملعون أي مطرود ومبعد عن رحمة الله تعالى إلا أن يتوب ، وروى أبو داوود في سننه أن امرأة جاءت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت : إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا ، مكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية ، فقال : " لصنم " قالت : لا ، فقال : " لوثن " ؟ فقالت : لا ، فقل لها " أوفي بنذرك " وصححه الألباني ، فلم يجز لها رسول الله صلى الله عليه وسلم الوفاء بنذرها إلا بعد الإستيثاق بأنها لن تذبح لا لصنم ولا لوثن ، والقبر إذا ذبح عنده تقربا وتعظيما وتعبدا له فإنه يكون من الأوثان كما قال صلى الله عليه وسلم " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد " فدل ذلك على تحريم الذبح عند(1/182)
القبور مطلقا ، وهذه الذبيحة لها حكم الميتة فلا يجوز أكلها ولو ذكر عليها اسم الله تعالى ، ولأن القبور كانت موجودة في عهده صلى الله عليه وسلم ولم يكن صلى الله عليه وسلم يقصد قبرا من القبور بالذبح عنده فلو كان ذلك مشروعا لفعله فلما لم يفعله دل على أنه ليس من الشرع لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ولأن الذابح للقبر إنما فعل ذلك ولاعتقاده أنه بهذا الذبح يستجلب خيرا من صاحب القبر أو يستدفع به شرا وجلب الخير ودفع الضر من خصائصه جل وعلا ومن مقتضيات ربوبيته ، فمن اعتقد أن غير الله تعالى يتصرف في ملكه تصرفا استقلاليا بجلب خير أو دفع شر فقد أشرك في الربوبية والعياذ بالله تعالى ، ولأن الأصل في العبادات التوقيف على الدليل ولا دليل يثبت جواز الذبح عند القبور ، قال أبو العباس رحمه الله تعالى : " وتجوز الأضحية عن الميت كما يجوز الحج عنه والصدقة عنه ويضحي عنه في البيت ، ولا يذبح عند القبر أضحية ولا غيرها فإن في سنن أبي داوود عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه نهى عن العقر عند القبر " حتى كره أحمد الأكل مما يذبح عند القبر لأنه يشبه ما يذبح على النصب فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " يحذر ما فعلوا وثبت عنه في الصحيح أنه قال : " لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها " وقال " الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام " فنهى عن الصلاة عنده لئلا يشبه من يصلي لها ، وكذلك الذبح عندها يشبه من ذبح لها ، وكان المشركون يذبحون للقبور ويقربون لها القرابين وكانوا في الجاهلية إذا مات لهم عظيم ذبحوا عند قبره الخيل والإبل وغير ذلك تعظيما للميت ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك كله ، وقال صاحب تسلية أهل المصائب : " الباب الثاني عشر : في الذبح عند القبور وكراهة صنع الطعام من أهل المصيبة ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه(1/183)
وسلم " لا عقر في الإسلام " رواه الإمام أحمد في حديث طويل ، وأبو داوود والترمذي وقال حديث حسن صحيح غريب ، ورواه ابن حبان البستي وفي رواية عبد الرزاق : كانوا يعقرون عند القبر بقرة أو شيئا ، أما العقر عند القبور فهو الذبح عندها وهذا الفعل عندها هو بعينه فعل الجاهلية وهو فعل محرم على هذه الأمة ، وقوله عليه الصلاة والسلام " لا عقر في الإسلام " قال خطابي : هو ما كان عليه أهل الجاهلية من عقر الإبل على قبور الموتى كانوا إذا مات الشريف الجواد عقروا عند قبره وكانوا يقولون إن صاحب القبر كان يعقرها للأضياف يقريهم أيام حياته فيكافأ عليه بمثل صنيعه ، اه وقال قوم : كانوا يعقرون الإبل عند القبور لتطعمها السباع والطير عند قبر الميت فيدعى مطعما ، حيا وميتا ، وقيل : بل كان مذهبهم أن صدى الميت يصيب من ذلك الطعام فجاء الإسلام فمحا ذلك كله " اهـ كلامه رحمه الله تعالى .(1/184)
وقال أبو العباس رحمه الله تعالى : " لا يشرع لأحد أن يذبح الأضحية ولا غيرها عند القبور بل ولا يشرع شيء من العبادات الأصلية كالصلاة والصيام والصدقة عند القبور ، فمن ظن أن التضحية عند القبور مستحبة وأنها أفضل فهو جاهل ضال مخالف لإجماع المسلمين ، بل قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العقر عند القبر ، كما كان يفعل بعض أهل الجاهلية إذا مات لهم كبير ذبحوا عند قبره والنبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تتخذ القبور مساجد ، فلعن الذين يفعلون ذلك تحذيرا لأمته أن تتشبه بالمشركين الذين يعظمون القبور حتى عبدوهم ، فكيف يتخذ القبر منسكا يقصد النسك فيه فإن هذا أيضا من التشبه بالمشركين وقد قال الخليل صلاة الله وسلامه عليه " إن صلاتي ونسكي لله ، ومحياي ومماتي لله رب العلمين " فيجب الإخلاص والصلاة والنسك لله، وإن لم يقصد العبد الذبح عند القبر ، لكن الشريعة سدت الذريعة " اهـ وقال صاحب سبل السلام : " ومما يحرم بعد الموت العقر عند القبر لورود النهي عنه فإنه أخرج أبو داوود وأحمد من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا عقر في الإسلام " اهـ وقد عد الشيخ محمد به عبد الوهاب تحريم الذبح عند القبر من المسائل التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية فقال : " الخامسة والثمانون : الذبح عند القبور " اهـ أي أن هذا الفعل من أفعال الجاهلية التي حرمتها الشريعة وسدت أبوابها ومنعتها المنع المطلق .(1/185)
واعلم رحمك الله تعالى أن من السلف من صرح بالكراهة ، لكن اعلم أن المراد بالكراهة هنا كراهة التحريم إحسانا للظن بالعلماء ، ولأنه غالب إطلاق الكراهة عند السلف وقال في مواهب الجليل : " أما عقر البهائم وذبحها على القبر فمن أمر الجاهلية " وقال النووي رحمه الله تعالى : " وأما الذبح لغير الله فالمراد به أن يذبح باسم غير الله تعالى كمن ذبح للصنم أو للصليب أو لموسى أو لعيسى عليهما السلام أو للكعبة ونحو ذلك فكل هذا حرام ولا تحل هذه الذبيحة سواء كان الذابح مسلما أو نصرانيا أو يهوديا ، نص عليه الشافعي واتفق عليه أصحابنا فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله تعالى والعبادة له كان ذلك كفرا فإن كان الذابح مسلما قبل ذلك صار بالذبح مرتدا " اهـ وقال ابن كثير رحمه الله تعالى : " وقوله " وما أهل لغير الله به " أي ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله فهو حرام ، لأن الله أوجب أن تذبح مخلوقاته على اسمه العظيم ، فمتى عدل بها عن ذلك وذكر عليها اسم غيره من صنم أو طاغوت أو وثن أو غير ذلك من سائر المخلوقات فإنها حرام بالإجماع " اهـ وقال المحدث الألباني رحمه الله تعالى : " وأما إذا كان-إي الذبح – لصاحب القبر كما يفعله بعض الجهال فهو شرك صريح وأكله حرام وفسق كما قال تعالى " ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق " اهـ قلت : واعلم رحمك الله تعالى أن العلماء رحمهم الله تعالى قد أجمعوا أن من ذبح للقبر متقربا ومعظما له فإنه كافر الكفر الأكبر المخرج عن الملة ، وأما الذبح لله تعالى عند القبر لا من باب التقرب والتعظيم له فإنه من المحدثات الشنيعة والبدع القبيحة ومن وسائل الشرك وذرائعه ، نعوذ بالله تعالى ، فالذبح عند القبور محرم مطلقا ، لكنه يكون شركا أكبر إذا كان المقصود به التقرب والتعظيم لصاحب القبر، ويكون من البدع ووسائل الشرك إذا كان لله أصلا لكنه اعتقد فضيلة الذبح عند القبر ولم يخطر بباله تعظيم صاحب(1/186)
ذلك القبر بالذبح له ، وبالجملة فالواجب الحذر كل الحذر من الذبح عند القبور فإنه منهي عنه باتفاق أهل العلم . وقال أصحاب الفضيلة في اللجنة الدائمة في المملكة العربية السعودية : الذبح لله عند القبور تبركا بأهلها وتحري الدعاء عندها وإطالة المكث عندها رجاء بركة أهلها والتوصل بجاههم أو حقهم ونحو ذلك بدع محدثة بل ووسائل من وسائل الشرك الأكبر فيحرم فعلها ويجب نصح من يعمله ، أما الذبيحة عند القبور تحرياً لبركات أهلها فهو منكر عظيم وبدعة لا يجوز أكلها حسماً لمادة الشرك ووسائله وسداً لذرائعه وإن قصد بالذبيحة التقرب إلى صاحب القبر صار شركاً بالله أكبر ولو ذكر اسم الله عليها لأن عمل القلوب أبلغ من عمل اللسان وهو الأساس في العبادات ) اهـ ، وقد سئلوا أيضاً عن حكم السجود على المقابر والذبح عليها فقالوا : ( السجود على المقابر والذبح عليها وثنية جاهلية وشرك أكبر فإن كلاً منهما عبادة والعبادة لا تكون إلا لله تعالى وحده فمن صرفها لغير الله تعالى فهو مشرك قال الله تعالى : ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) وقال تعالى : ( إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر ) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن السجود والذبح عبادة وإن صرفها لغير الله شرك أكبر ولا شك أن قصد الإنسان للمقابر للسجود عليها أو الذبح عندها إنما هو لعظمها وإجلالها للسجود والقرابين التي تذبح أو تنحر عندها وثم ساقوا الأدلة التي ذكرناها في أول الفرع ) اهـ . وقالوا أيضاً : ( الذبح عند القبور محرم وإن قصد به التقرب إلى صاحب القبر فهو شرك أكبر ) اهـ .(1/187)
وقال سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله تعالى – : ( من المعلوم بالأدلة من الكتاب والسنة أن التقرب بالذبح لغير الله تعالى من الأولياء أو الجن أو الأصنام أو غير ذلك من المخلوقات شرك بالله ومن أعمال الجاهلية والمشركين ، قال الله عز وجل : ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) والنسك هو الذبح ، بين سبحانه في هذه الآية أن الذبح لغير الله شرك بالله كالصلاة لغير الله ، قال تعالى : ( إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر ) أمر الله سبحانه نبيه في هذه السورة الكريمة أن يصلي لربه وينحر له خلافاً لأهل الشرك الذين يسجدون لغير الله ويذبحون لغيره ) اهـ وكلام الشيخ عبدا لعزيز – رحمه الله تعالى – في هذه المسألة كثير جداً
وبذلك تعلم ويتقرر عندك إن شاء الله تعالى أن الذبح لأصحاب القبور محدثاً في الدين وبدعة شركية فهو رد على فاعليه لأن كل إحداث في الدين عقيدة أو شريعة فهو رد .
انتهى القسم الأول ولله الحمد والمنة
ويعقبه القسم الثاني إن شاء الله تعالى(1/188)
الفرع الحادي والثلاثون : الكتابة على القبور وقد توسع كثير من الناس في هذه البدعة توسعاً عظيماً وذلك ككتابة اسم الميت كاملاً وتاريخ وفاته وككاتبة آيات من القرآن على القبر ونحو ذلك وقلما تجد مقبرة من مقابر المسلمين في عامة بلاد الإسلام إلا وفيها هذه البدعة حاشا مقابر هذه البلاد السنية السلفية زادها الله شرفاً ورفعة وإن كان في بعض مقابرها شيء من ذلك كبعض مقابر الرافضة في القطيف ونجران وأسأل الله تعالى باسمه الأعظم أن يعين ولاة الأمر على طمس ذلك كما أعانهم على إزالة كثير من مظاهر البدع فالكتابة على القبور من البدع والمحدثات وذلك لثبوت النهي عن ذلك عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - ففي جامع الترمذي من حديث جابر - رضي الله عنه - قال (( نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبنى على القبر أو يزاد عليه أو يجصص أو يكتب عليه ))"وإسناده صحيح" فقوله (( أو يكتب عليه )) وارد في سياق المنهيات وقد تقرر في القواعد أن الأصل في النهي التحريم إلا لصارف ولا نعلم صارفاً لهذا النهي عن بابه فحيث لا صارف فالواجب هو البقاء على الأصل وهو التحريم لأنه قد تقرر في القواعد أن الأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل وأنت خبير بأن مخالفة بعض أهل العلم ليس من الصوارف لأن كلام العلماء يستدل له لا به والعبرة فيما صح سنده عن المعصوم - صلى الله عليه وسلم - وأنت خبير بأن القياسات والآراء التي أوردها من قال بجواز الكتابة هي في حقيقتها معارضة النص الصحيح الصريح، وقد تقرر في القواعد أن كل قياس صارم النص فإنه فاسد الاعتبار وأنت خبير بأن القول بالكراهة يحتاج إلى دليل يصرف النهي عن بابه الذي هو التحريم وقد عرفت أنه لا صارف لهذا النهي عن بابه فالحق الحقيق بالقبول في هذه المسألة هو التحريم وقوله (( أو يكتب عليه )) يدخل فيها كل ما يسمى كتابة لأنه لفظ مطلق وقد تقرر في القواعد أن المطلق يجري على إطلاقه ولا يجوز تقييده(2/1)
إلا بدليل وهذا يفيدك بطلان ما ذهب بعض الحنفية والهادوية من جواز كتابة الاسم فقط لأن هذا التقييد للمطلق وقد عرفت أنه لا يجوز إلا بدليل ولا نعلم دليلاً في الدنيا يدل على هذا الاستثناء ويمكن أن يعلم القبر بحجر أو حديدة توضع عليه ونحو ذلك لأن ذلك لا يدخل في مسمى الكتابة وأما الكتابة فإنها عندنا لا تجوز كلها على الإطلاق لا كتابة الاسم ولا غير ذلك ولأن القبور كانت موجودة على عهده - صلى الله عليه وسلم - وقد كان في القوم من يكتب ومع ذلك فإنه لا يعرف عنه - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من الصحابة أنه كتب شيئاً على قبر وهذا الترك دليل على عدم المشروعية وأما قول من قال: بأن التعليم بالحجر قد كثر وهي متشابهة فنحتاج إلى كتابة الاسم فهو قول عليل ساقط لأن علة كثرة الأحجار والتشابه بينها علة موجودة من أيام القرون المفضلة ولم تكن مسوغاً لإبدال الأحجار بالكتابة وخير الهدي هدي سلف الأمة الصالح ولأن قياس الكتابة على الحجر قياس في مورد النص أي المنع من الكتابة منصوص عليه فكيف يستفاد جوازها بالقياس على جواز التعليم بالحجر؟ هذا لا يصح لأنه قد تقرر في القواعد أنه لا اجتهاد مع النص ولأن القاعدة تقول: القياس المصادم للنص فاسد الاعتبار ولأن تعليم القبر من الأمور الجائزة أو نقول من الأمور المستحبة إن جاوزنا حد القنطرة والكتابة أمر محرم فإذا لم يمكن التعليم إلا بالكتابة فقد تعارض عندنا أمر جائز أو مستحب مع أمر محرم وقد تقرر أنه إذا تعارض محرم ومستحب قدم المحرم ولأن تعليم القبر هو من باب جلب المصلحة وأما منع الكتابة فإنه من باب درء المفسدة وقد تقرر في القواعد أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ولأن القاعدة المتقررة في الشريعة وجوب سد الذرائع فيمنع من كتابة الاسم على القبر سداً لذريعة استطالة الناس على مر الأزمنة بالغلو في هذا الأمر بكتابة غيره وأنت ترى الحال الآن فإذا كان حال أكثر المسلمين اليوم هو(2/2)
كتابة العبارات الكثيرة على قبور موتاهم مع سد الباب بالكلية فكيف الحال لو فتح لهم هذا الباب بتجويز كتابة الاسم فقط وبالجملة فالدليل واضح وهو مطلق في سائر أنواع الكتابة فمن قيد كتابة دون كتابة فإنه مطالب بالدليل لأنه مخالف للأصل فالكتابة على القبر أياً كانت هي من المحدثات والبدع فهي رد على فاعلها لأن المتقرر أن كل إحداث في الدين عقيدة أو شريعة فهو رد ولا اعتداد بترخيص بعض أهل العلم في ذلك غفر الله لهم وعفا عنهم ورحمهم الله تعالى رحمة واسعة وجزاهم الله خير ما جزا عالماً عن أمته وبارك في جهودهم وجمعنا بهم في الجنة إنه خير مسئول والله أعلى وأعلم .(2/3)
الفرع الثاني والثلاثون : دعاء الأموات والاستغاثة بهم وطلب المدد والعون منهم يا رب أعوذ بك من هذه البدعة الشركية يا رب أعوذ بك منها يا رب أعوذ بك منها وإني أشهدك أني بريء منها ومن أهلها إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى وقد عظمت البلية في الأزمان السالفة وازداد شررها وتطاير لهيبها في زمننا هذا فآه ثم آه ولو رأيت ما يفعله الرافضة عند عتبات قبور المعظمين فيهم وآه لو رأيت ما يفعله عشاق الوثنية عند قبر البدوي والحسين والست زينب والعيدروس وغيرها فإنك لا تملك إلا أن تقف مشدوهاً متعجباً كيف بلغ الشيطان هذا المبلغ من إبعاد الناس عن التوحيد وأعادهم إلى ضلال الشرك والوثنية وما يفعل عند قبور الصالحين كثير وكثير لكن أقبح ذلك وأشنعه الاستغاثة بهم ودعاؤهم في كشف الكربات والتوجه إليهم في تفريج الملمات وإغاثة اللهفات وقد جاوز مشركو زماننا حد الشرك عند الأوائل فإن كفار قريش كانوا يدعون غير الله في الرخاء وأما إذا حلت الشدائد فإنهم يدعون الله مخلصين له الدين كما قال تعالى { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } وأما هؤلاء فإنهم يدعون هؤلاء الأموات في السراء والضراء بل إن تعلقهم بهم يزداد في الضراء نعوذ بالله من ذلك وهذا منكر عظيم وشرك قبيح وهاوية في الاعتداء والطغيان وقد تقرر عند عامة المسلمين أن الدعاء من أعظم العبادات وأجل القربات وتقرر أن العبادة حق صرف محض لله تعالى لا يجوز صرفها لملكٍ مقرب ولا لنبيٍ مرسل فضلاً عمن دونهم في الرتبة قال تعالى { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } فسمى الدعاء عبادة وقال تعالى { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ(2/4)
الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } فوصف الله تعالى دعاء غيره بأنه عبادة لهذا الغير وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الدعاء هو العبادة فقال في حديث النعمان بن بشير (( الدعاء هو العبادة ))"حديث صحيح" وبناءً عليه فمن دعا غير الله تعالى فقد اتخذه شريكاً مع الله ومن استغاث بغير الله فقد اتخذه شريكاً مع الله أعني في الأمر الذي لا يقدر عليه إلا الله تعالى وقد أخبر الله تعالى بأن هؤلاء المدعوين من دونه لا يملكون شيئاً وأنهم لا يسمعون دعاء من يدعوهم وأنهم لو سمعوا لما استطاعوا الإجابة فقال تعالى { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } وأخبر تعالى عنهم أنهم أموات غير أحياء وأنهم لا يستطيعون خلق شيء وأنهم مخلوقون أصلاً فقال تعالى { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } وأخبر الله تعالى أن هؤلاء المدعوين عباد مثلنا فقال تعالى { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } وأخبر الله تعالى عنهم أنهم لا يملكون كشف ضر ولا جلب خير لداعيهم فقال تعالى { قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ } وقال تعالى { قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ(2/5)
أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } وقال تعالى { وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ } وأخبر الله تعالى أن كثيراً من هذه المدعوات لا تسمع ولا تبصر فقال تعالى حاكياً عن إبراهيم أنه قال لأبيه { يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا } وأخبر جل وعلا أن هؤلاء المدعوين لا يغنون شيئاً عن أنفسهم فكيف عن غيرهم فقال تعالى { وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ } وقد أمر الله تعالى بالإخلاص في دعائه أي بأن لا يدعى معه غيره فقال تعالى { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } وقد حرم التحريم القاطع بأن يدعى معه غيره فقال تعالى { وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ...الآية } وأخبر الله تعالى أن هو وحده مجيب دعوة المضطرين ومغيث لهفة المكروبين فقال تعالى { أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ } وأخبر تعالى أن هؤلاء المدعوين سيتبرؤون يوم القيامة ممن يدعوهم قال تعالى { وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } وقال تعالى { وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ } وقال تعالى { وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم(2/6)
بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ } وأخبر الله تعالى أن من دعا من دونه إلهاً آخر فإنه سيكون من المعذبين فقال تعالى { فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ } وأخبر الله تعالى أن هؤلاء المدعوين من دونه لا يستطيعون خلق الشيء الصغير الحقير ولو يستطيعون ولو سلبهم هذا المخلوق الحقير شيئاً لما استطاعوا استرداد ما سلبه منهم لضعفهم وعجزهم فقال تعالى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ } وأخبر الله تعالى أن بعض الناس يدعون الملائكة والأنبياء والصالحين، فأخبر سبحانه أن هؤلاء المدعوين يسارعون ويتسابقون في طاعة الله بفعل أوامره واجتناب مناهيه فقال تعالى { قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً، وبها تعلم حرمة دعاء الأموات والاستغاثة بهم من دون الله تعالى، أياً كان هذا الميت، وعلى ذلك جرى صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه كانت تمر بهم سنوات القحط والحروب وغير ذلك من الحوادث التي يجريها الله تعالى في الدهر، ولم يثبت عن واحد منهم أنه كان يأتي إلى قبره - صلى الله عليه وسلم - ويدعوه ويستغيث به من دون الله تعالى وأقسم بالله تعالى أن هذا لم يقع ولا مرة واحدة في حياة الصحابة من صحابي واحد وروى الطبراني بإسناده أنه كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -(2/7)
منافق يؤذي المؤمنين فقال بعضهم:- قوموا بنا لنستغيث برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله )) وقد اتفق أهل السنة على أن الاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى شرك أكبر وأنه من ألأبواب الشركية التي جاءت الشريعة بالتحذير من الولوج فيه، وأنه محدث في الدين وبدعة فهو رد على فاعليه لأن كل إحداث في الدين فهو رد، فمن لجأ إلى قبر ميتٍ ودعاه أن يكشف ضره أو يقضي حاجته فلا شك أن هذا شرك أكبر وكفر بالله تعالى ولقد حذر أهل العلم رحمهم الله تعالى من هذه القضية الشركية وبينوا حكمها وموقف الشرع منها وبينوها بياناً واضحاً شافياً لا مزيد عليه، قال أبوا العباس رحمه الله تعالى: ( أما من يأتي إلى قبر نبي أو صالح أو من يعتقد فيه أنه قبر نبي أو رجل صالح وليس كذلك ويسأله ويستنجده فهذا على ثلاث درجات :-(2/8)
إحداها:- أن يسأله حاجته مثل أن يزيل مرضه أو مرض دوابه أو يقضي دينه أو ينتقم له من عدوه أو يعافي نفسه وأهله ودوابه ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل فهذا شرك صريح يجب أن يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل )ا.هـ. ولأبي العباس كلام كثير في هذا الموضوع لعلنا نتفرغ لإفراغه في رسالة إن شاء الله تعالى، وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: ( ومن أنواعه - أي الشرك - طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم والتوجه إليهم وهذا أصل شرك العالم فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً فضلاً عمن استغاث به وسأله قضاء حاجته أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها, وهذا من جهله بالشافع والمشفوع له عنده )ا.هـ. وقال ابن عبد الهادي رحمه الله تعالى ( لو جاء إنسان إلى سرير الميت يدعوه من دون الله ويستغيث به كان هذا شركاً محرماً بإجماع المسلمين )ا.هـ. وقال الصنعاني ( ومن نادى الله ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً وخوفاً وطمعاً ثم نادى معه غيره فقد أشرك في العبادة فإن الدعاء من العبادة )ا.هـ. وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في كتاب التوحيد: ( باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره )ا.هـ. وقد سئلت اللجنة الدائمة في المملكة العربية السعودية عن حكم نداء النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعائه والاستغاثة به من القريب عند قبره؟ فأجابوا بقولهم ( دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ونداؤه والاستعانة به بعد موته في قضاء الحاجات وكشف الكربات شرك أكبر يخرج من ملة الإسلام سواء كان ذلك عند قبره أم بعيداً عنه كأن يقول: يا رسول الله اشفني, أورد غائبي أو نحو ذلك لعموم قوله تعالى { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } وقوله عز وجل { وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ }(2/9)
وقوله تعالى { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } )ا.هـ. وسئلوا أيضاً عن رجل يعيش في جماعة تستغيث بغير الله, هل يجوز له الصلاة خلفهم وهل تجب الهجرة عنهم وهل شركهم شرك غليظ وهل موالاتهم كموالاة الكفار الحقيقيين؟ فأجابوا بقولهم ( إذا كانت حال من تعيش بينهم كما ذكرت من استغاثتهم بغير الله كالاستغاثة بالأموات والغائبين عنهم من الأحياء أو بالأشجار أو بالأحجار أو الكواكب ونحو ذلك فهم مشركون شركاً أكبر يخرج عن ملة الإسلام لا تجوز موالاتهم كما لا تجوز موالاة الكفار ولا تصح الصلاة خلفهم ولا تجوز عشرتهم ولا الإقامة بين أظهرهم إلا لمن يدعوهم إلى الحق على البينة, ويرجو أن يستجيبوا له وأن تصلح حالهم دينياً على يديه وإلا وجب عليه هجرهم والانضمام إلى جماعة أخرى يتعاون معها على القيام بأصول الإسلام وفروعه )ا.هـ. وقال أصحاب الفضيلة في هذه اللجنة المباركة الطيبة ( ليس للأولياء تصرف في أحد وما آتاهم الله من الأسباب العادية التي يؤتيها الله لغيرهم من البشر فلا يملكون خرق العادات ولا يمكنهم أن يتمثلوا في غير صور البشر من ثعابين أو أسود أو قرود أو نحو ذلك من الحيوان )ا.هـ. وقالوا أيضاً ( إن الاستغاثة بالأموات ودعائهم من دون الله أو مع الله شرك أكبر يخرج من ملة الإسلام سواءً كان المستغاث به نبياً أم غير نبي وكذلك الاستغاثة بالغائبين شرك أكبر يخرج من ملة الإسلام والعياذ بالله )ا.هـ. وقالوا أيضاً ( من كان يصلي ويصوم ويأتي بأركان الإسلام إلا أنه يستغيث بأموات والغائبين وبالملائكة ونحو ذلك فهو مشرك وإذا نصح ولم يقبل وأصر على ذلك حتى مات فهو مشرك شركاً أكبر يخرجه من ملة(2/10)
الإسلام فلا يغسل ولا يصلى عليه صلاة الجنازة, ولا يدفن في مقابر المسلمين ولا يدعى له بالمغفرة ولا يرثه أولاده ولا أبواه ولا إخوته الموحدون ولا نحوهم ممن هو مسلم لاختلافهم في الدين لقوله - صلى الله عليه وسلم - (( لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم )) ) ولهم في ذلك كلام كثير جداً لاسيما في المجلدات الأولى من فتاوى اللجنة الدائمة والتي أوصي كل طالب علم أن يقتنيها، فالحذر الحذر أيها المسلمون من ولوج هذا الباب المحدث البدعي الشركي فإن الدعاء حق لله تعالى لا يجوز أن يدعى معه غيره, والاستعانة حق لله تعالى لا يجوز أن يستعان معه غيره والاستغاثة حق لله تعالى لا يجوز أن يستغاث معه غيره, ومن خالف في ذلك فقد جنا على نفسه وأحدث وابتدع فيكون فعله رداً عليه لأن كل إحداث في الدين عقيدة أو شريعة فهو رد .(2/11)
الفرع الثالث والثلاثون : أخذ شيء من تراب القبر للتبرك به, وهذا يعتقده من يعظم أصحاب القبور التعظيم الزائد على الحد المشروع, فيعتقدون أن الجسد الذي حل في هذا القبر جسد مبارك, وأن هذه البركة قد انتقلت إلى أجزاء التراب الذي عليه فتجدهم يأخذون شيئا من ترابه ليتبركوا به, أي يضعونه في بيوتهم رجاء لبركة أو يغسلون به مريضهم رجاء حلول الشفاء أو يسقون بمائه دوابهم رجاء حفظها وعافيتها إن كانت مريضة أو غير ذلك بل وربما تطاول بهم الغلو حده إلى بيعه بالأثمان الباهظة, كما يفعله بعض سدنة القبور المجاورين لها, فإنهم يأخذون شيئاً من تراب القبر أو مما جاوره ويبيعونه على الزائرين وذلك بعد سرد القصص المكذوبة المختلقة في منافع هذا التراب, وهذا كله من المحدثات والبدع التي ما أنزل الله بها من سلطان, بل هي من سخافة العقول والاستهزاء بها, وقد تصل في بعض صورها إلى الشرك الأكبر, وذلك فيما إذا اقترن معها اعتقاد أن الميت هو الذي يضفي البركة بذاته أو اقترن معها اعتقاد أن الميت يشفع لمن أخذ من تراب قبره فيأخذ هذا المسكين التراب ليشفع له الميت, وهذا هو الشرك الأكبر, وأما إذا اعتقد أن الله هو واضع البركة ولم يقترن مع الأخذ طلب الشفاعة من الأموات فهو شرك أصغر وبدعة قبيحة ومحدثة منكرة وذلك لأنه لم يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أخذ شيئاً من تراب القبور, ولا ثبت عن أحد من أصحابه أنهم كانوا يأخذون من تراب قبره أو قبر صاحبيه ولا ثبت عن أحد من أئمة الدين من التابعين وتابعيهم وسادات السلف من الأئمة الأربعة ومن عاصرهم أنهم كانوا يأخذون شيئاً من تراب القبور للتبرك بها, وهذا يفيدك أنه إحداث في الدين وبدعة وكل إحداث في الدين فهو رد, فاحذروا أيها المسلمون من ذلك فإنه قادح في التوحيد ومخل بعقيدة المسلم فإن قلت حتى ولو كان الميت أحد الصالحين الكبار فأقول: نعم حتى ولو كان نبياً من الأنبياء, فلا يجوز ذلك لأن(2/12)
ذلك لا أصل له, ولأنه ذريعة للاعتقادات الباطلة المفضية للشرك والوثنية ولو كان خيراً لسبقنا له من هم أحرص منا على العلم والهدى, ولو كان ذلك من الشرع لوجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - بيانه بقوله أو بفعله أو بإقراره بل إنه عدم جواز ذلك بالترك الدائم لأن المتقرر أن كل فعل توفر سببه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله اختياراً فإن المشروع تركه, وكذلك بين لنا عدم جوازه بالأدلة الناهية عن الغلو في القبور وأصحابها, ولأن بركة المسلم الواردة في حديث (( إن من الشجر شجرة لما بركته كبركة المسلم )) ونحو ذلك, إنما هي البركة المعنوية اللازمة أي بركة عمل, وهذه البركة لازمة لمحلها لا تنتقل عنه, فإذا مات الولي الصالح ودفن في قبره فإن بركته لا تنتقل إلى التراب لأنها من البركة المعنوية اللازمة, والذين يأخذون من تراب قبور الصالحين والأولياء ظنوا أن بركتهم بركة ذاتية منتقلة وهذا خطأ فادح, وهو الذي أوجب الوقوع في هذه المحدثات والبدع وبه تعلم أن السبب هو الجهل بالسنة والبعد عن الشرع, فالله الله يا طلاب العلم بنشر العلم الشرعي المؤصل, ولابد من الوصول إلى أهل هذه البدع أو الاتصال بهم بالوسائل الحديثة المتاحة لتصل لهم كلمة الحق ويرتفع عنهم الجهل ولا يجوز يا طلاب العلم أن يشغلنا عن ذلك تجارة ولا وظيفة ولا زوجة ولا أولاد والمقصود: أن أخذ تراب القبر للتبرك به, أو التبرك به وهو في مكانه كل ذلك من المحدثات والبدع ولقد خطأ العالم القاضي عياض رحمه الله تعالى لما قال: إن تربة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل من الكعبة, ورد عليه هذا القول كثير من أهل السنة كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره, فلا يجوز أيها المسلمون أن يؤخذ من تراب القبر شيء للتبرك به لعدم النقل, ولأن القاعدة المتقررة عند أهل السنة أن الأصل في التبرك بالأعيان أو الأزمان أو الأمكنة التوقيف, أي أنه لا يجوز لك أن تعتقد في شيء أنه(2/13)
مبارك إلا بدليل, ولا يجوز لك أن تتبرك بشيء إلا وعلى ذلك دليل شرعي صحيح صريح, ولا بد أن تفرق بين البركة الذاتية المتنقلة كبركة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين البركة المعنوية الملازمة كبركة المساجد الثلاثة, ولو نظرت في القرآن كله من أوله إلى آخره لما وجدت دليلاً يدل على جواز التبرك بتراب القبور ولا مطابقةً و لا تضمناً و لا التزاماً، ولو نظرت في السنة من أولها إلى آخرها - أعني السنة الصحيحة - لما وجدت دليلاً صحيحاً يدل على جواز التبرك بتراب القبر لا مطابقةً ولا تضمناً ولا التزاماً، ولو نظرت في عمل السلف الصالح من القرون المفضلة ومن جاء بعدهم من أئمة الدين المقتدى بهم لما وجدت أحداً أجاز التبرك بتراب القبور، فبالله عليك من أين جاءت هذه البدعة؟ أقول: لقد جاءت هذه المحدثة لما ضعف ميزان الإتباع وارتفع مؤشر الابتداع وازداد الجهل بالدين ومن تحسين شياطين الجن والإنس وذلك لما ضعف المصلحون في إبلاغ الشريعة على الوجه الصحيح ورضي بعضهم بالحياة الدنيا واطمأن بها وبالجملة فأخذ شيء من تراب القبور للتبرك به محدثة وبدعة فهو رد على فاعليه لأن كل إحداث في الدين عقيدة أو شريعة فهو رد وأنت خبير بأن إثبات جواز ذلك لابد فيه من نص من الشارع وأما الأهواء والآراء وعمل الآباء والأجداد أو أهل القرية أو عمل الأكثر أو الاستحسانات الباردة السامجة التي ما أنزل الله بها من سلطان فإن ذلك كله لا مدخل له في باب سن الأحكام وتشريعها نسأله جل وعلا أن يفقهنا في ديننا وأن يعيذنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن .(2/14)
الفرع الرابع والثلاثون : العكوف عند القبر الليالي ذوات العدد طلباً لبركة صاحب القبر وهو من البدع المستحدثة التي بليت بها الأمة فعباد القبور في الحقيقة أرادوا أن ينقلوا ما لله تعالى من عبادات وما لا يجوز إلا في بيوته مما لا يجوز صرفه إلا لله تعالى لغير الله تعالى فهم هواية قلب الأمور وتبديل الحقائق فهم يعمدون إلى العبادات الشرعية ويصرفونها لقبور من يعظمونها فالصلاة من أجل العبادات وأعظم القربات فأبى أصحاب القبور إلا فعلها عن قبور الصالحين والركوع والسجود من أعظم العبادات فأبى أصحاب القبور إلا فعلها عند قبور الصالحين والذبح والنذر من العبادات فأبى أصحاب القبور إلا فعلها عند قبور الصالحين والدعاء من أعظم العبادات فأبى أصحاب القبور إلا فعلها عند قبور الصالحين وهكذا في سائر العبادات وبقي عبادة الاعتكاف في مساجد الله تعالى تقرباً وتعبداً لله تعالى فقال أصحاب القبور وأين المفر لهذه العبادة فإنه لابد أن يجري عليها ما جرى على العبادات من قبلها فجعلوا من الشعائر التي يعظم صاحب القبر الاعتكاف عنده الليالي ذوات العدد ونبذوا من يمنع ذلك ويصفه بأنه بدعة بأنه وهابي حنبلي أخرق ليس عنده تقدير لأصحاب المقامات العالية والمراتب السامية ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وإنا لله وإنا إليه راجعون ومن الأمور المهمة التي لا بد أن تتقرر في ذهنك أن تعلم يا أخي بارك الله فيك أن الاعتكاف من جملة العبادات والدليل على ذلك الكتاب والسنة قال تعالى { وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ } وقال تعالى { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت (( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى ثم اعتكف أزواجه من بعده ))(2/15)
والأدلة في ذلك من السنة كثيرة وقد اتفق عامة أهل العلم على مشروعية الاعتكاف وإنما اختلفوا في بعض تفاصيله وحيث تقرر لك أن الاعتكاف عبادة فلا بد أن تقرن هذا مع ما تقرر عند أهل العلم بالإجماع أن العبادات حق لله تعالى لا يجوز صرفها لملكٍ مقرب ولا لنبيٍ مرسل ولا لوليٍ صالح ولا لقبرٍ ولا لغير ذلك فالعبادة حقه الصرف المحض الذي لا حق لأحد معه فيه فلا شريك له جل وعلا في العبادة البتة وبناءً عليه فلا يجوز مطلقاً الاعتكاف عند قبرٍ ولا شجرةٍ ولا حجرٍ ولا مغارةٍ ولا أي شيءٍ في الدنيا لأن هذا الاعتكاف من العبادات التي لا يجوز صرفه لغيره جل وعلا ولأن الاعتكاف من العبادات التي حددت الشريعة لها مكاناً معيناً وهو المساجد فهي عبادة مقيدة بمكانٍ معين وقد تقرر أن ما ورد مقيداً فإنه يجب بقاؤه مقيداً ولا يجوز إطلاقه إلا بدليل فكما أن المطلق لا يجوز تقييده إلا بنص فكذلك المقيد لا يجوز إطلاقه إلا بنص ولا نعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اعتكف في غير المسجد لا هو ولا أحد من أصحابه رضوان الله عليهم ولا نعلم عن أحد من سلف الأمة وأئمتها أنه اعتكف في غير مسجد بل إننا لا نعلم على مر التاريخ منذ بعثته - صلى الله عليه وسلم - إلى عصرنا هذا أن أحداً من أهل العلم المقتدى بهم قد فعل ذلك أو أجازه بل الثابت عن كثير من أهل العلم إنكار ذلك ووصفه بأنه من المحدثات والبدع ففي الحقيقة أن الاعتكاف عند القبور الليالي ذوات العدد إنما هو من سنة الجاهلية التي جاء الإسلام بإبطالها فقد كان أهل الجاهلية يعتكفون عند أصنامهم وأوثانهم قال الله تعالى حاكياً عن إبراهيم الخليل - عليه السلام - أنه قال لقومه { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } وقال تعالى { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ ...الآية } وقال تعالى عن قوم إبراهيم {(2/16)
قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ } فالاعتكاف عند القبور هو بعينه اعتكاف أهل الجاهلية عند أصنامهم وأوثانهم وليس هو من تعظيم الأموات، بل هو من إيذاء الميت لأن الميت يتأذى بما يفعل عند قبره من البدع والمحدثات، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام (( اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد )) فدل ذلك على أن القبر وإن كان قبر نبي إذا صرف له شيء من التعبد فقد اتخذ وثناً، ولأن هذا المعتكف عند القبر الليالي ذوات العدد لا بد وأن يفعل عند هذا القبر كثيراً من العبادات فلا بد وأن يصلي عند القبر لأنه ستمر عليه الليالي والأيام، ولا بد أن يدعو صاحب القبر من دون الله تعالى لأنه أصلاً ما اعتكف عند قبره إلا لطلب البركة والنفع، ولابد وأن يتمسح بالقبر ويتبرك به إلى غير ذلك من الأشياء التي سيفعلها عند القبر، وكل ذلك من المحدثات والبدع، بل هو في كثير من صوره شرك أكبر مخرج عن ملة الإسلام بالكلية ولأن مما جاء به الشرع سد باب الغلو في القبور وأصحابها وهذا الاعتكاف قرينة واضحة تكشف هذا الغلو الذي قد انطوى عليه قلب هذا المعتكف والخلاصة:- أن العكوف عند القبور هو منهج أهل الجاهلية أعداء الدين والملة وقد تقرر عندنا معاشر أهل السنة أن من اعتكف عند شيءٍ من القبور أو الأشجار أو الأحجار رجاء النفع والبركة فقد اتخذه آلهة مع الله تعالى والدليل على ذلك قول أبي واقد الليثي - رضي الله عنه - قال خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينطوون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال عليه الصلاة والسلام (( قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى { اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } لتركبن سنن من كان قبلكم ))"رواه الترمذي وهو حديث(2/17)
صحيح" وهذا اللفظ العام وإن ورد على سبب خاص، إلا أنه قد تقرر في الأصول أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالعكوف في غير المساجد هو منهج أهل الشرك واليهود والنصارى فهل بالله عليك بعد هذا يجوز لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعتكف عند قبر بحجة نفع الميت؟ والأخطر منه طلب النفع من الميت نفسه، ولذلك فالمعتكف عند القبر إن كان غرضه عبادة الله تعالى فهذا لا شك أنه جاء ببدعة عظيمة ومحدثة وخيمة، بل هو وسيلة من وسائل الشرك، لأنه فعل شيئاً لم يأذن به الشارع، وخالف صريح الأدلة في تعيين محل التعبد بالاعتكاف وأحدث في دين الله ما ليس منه وعمل عملاً ليس أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما إن كان اعتكافه للتقرب لصاحب القبر ودعاه، فهذا هو الشرك الأكبر المخرج عن الملة بالكلية وعلى كل حال فالاعتكاف عند القبور لا يجوز مطلقاً لأنه إحداث في الدين وبدعة وكل بدعة ضلالة وكل إحداث في الدين فهو رد، فإن قلت:- وما الحكم لو اعتكف الإنسان في مسجد فيه قبر؟ فأقول:- لا يجوز أيضاً لأن هذا المسجد لا تجوز فيه الصلاة، بل الصلاة فيه غير مقبولة أصلاً وقد تقرر في الضوابط أن كل موضع لا تصح الصلاة فيه فإنه لا يصح الاعتكاف فيه، ولأنه لا بد من سد ذريعة الشرك، ولأنه لم يختر هذا المسجد بعينه إلا لاعتقاده فضيلة الاعتكاف فيه لوجود هذا القبر فيه، وبالجملة فالاعتكاف عند القبر لا يجوز مطلقاً والاعتكاف في مسجد فيه قبر لا يجوز مطلقاً والله يتولانا وإياك قال أبو العباس رحمه الله تعالى:- ( فأما العكوف والمجاورة عند شجرة أو حجر تمثال أو غير تمثال، أو العكوف والمجاورة عند قبر نبي أو غير نبي أو مقام نبي أو غير نبي فليس هذا من دين المسلمين بل هو من جنس دين المشركين )ا.هـ. وصدق أبو العباس رحمه الله تعالى، وقال الشيخ علي محفوظ رحمه الله تعالى:- ( ومن هذه المفاسد المبيت فيها - أي في المقابر- )ا.هـ. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى(2/18)
في معرض مفاسد القبورية:- ( ومنها:- مشابهة عباد الأصنام بما يفعل عندها من العكوف عليها والمجاورة عندها وتعليق الستور عليها وسدانتها، وعبادها يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد )ا.هـ. وقال في فتح المجيد ( ومنها - أي مفاسد القبورية - تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله تعالى وهي المساجد فيعتقدون أن العبادة والعكوف فيها أفضل من العبادة والعكوف في المساجد وهذا أمر ما بلغ إليه شرك الأولين فإنهم يعظمون المسجد الحرام أعظم من بيوت الأصنام ويرون فضله عليها وهؤلاء يرون العكوف في المشاهد أفضل من العكوف في المساجد )ا.هـ. وقال ابن عبد البر رحمه الله تعالى ( فمما أجمع عليه العلماء من ذلك أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد )ا.هـ. وهذا يفيدك أن الاعتكاف عند القبور مخالف لإجماع المسلمين، وقال أبو العباس في شرح العمدة ( فأما القبور فإن الصلاة عندها تعظيم لها شبيه بعبادتها وتقرب بالصلاة عندها إلى الله سبحانه أما من يقصد هذا مظاهر مثل من يجيء إلى قبر نبي أو رجل صالح فيصلي عنده متقرباً بصلاته عنده إلى الله سبحانه وهذا نوع من الشرك وعبادة الأوثان بل هو أحد الأسباب التي عبدت بها الأوثان وقيل أنهم كانوا يصلون عند قبور صالحيهم ثم طال العهد حتى صوروا صورهم وصلوا عندها وعكفوا عليه وقالوا إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ولما كان النصارى قد اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم كان العكوف عند القبور والتماثيل أكثر )ا.هـ. وقال أيضاً في قوله تعالى { وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا } قال ( قالوا: هذه أسماء قوم صالحين كانوا من قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم طال عليهم الأمد فاتخذوا تماثيلهم أصناماً وكان العكوف على القبور والتمسح بها وتقبيلها(2/19)
والدعاء عندها هو أصل الشرك وعبادة الأوثان )ا.هـ. وقال أيضاً ( ولم يكن أحد من سلف الأمة في عصر الصحابة ولا التابعين ولا تابعي التابعين يتحرون الصلاة والدعاء عند قبور الأنبياء ويسألونهم ولا يستغيثون بهم لا في مغيبهم ولا عند قبورهم وكذلك العكوف ومن أعظم الشرك أن يستغيث الرجل بميت أو غائب )ا.هـ. وقال أيضاً ( وأما بناء المشاهد على القبور والوقف لها بدعة لم يكن على عهد الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم بل ولا على عهد الأربعة وقد اتفق الأئمة على أنه لا يشرع بناء هذه المشاهد على القبور ولا الإعانة على ذلك لا بوقف ولا غيره ولا النذر لها ولا العكوف عليها ولا فضيلة الصلاة والدعاء عندها )ا.هـ. وقال أيضاً ( فقوم نوح كان أصل شركهم العكوف على قبور الصالحين )ا.هـ. وقال الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ( ولهذا جاء الاعتكاف الشرعي في المساجد فأما العكوف والمجاورة عند قبر نبي أو غيره أو مقامه فليس من دين المسلمين )ا.هـ. وقال أبو العباس في الاقتضاء ( ومن المحرمات العكوف عند القبر والمجاورة عنده وسدانته وتعليق الستور عليه كأنه بيت الله الكعبة فإننا قد بينا أن نفس بناء المسجد عليه منهي عنه بإتفاق الأمة محرم بدلالة الكتاب والسنة فكيف إذا ضم إلى ذلك المجاورة في ذلك المسجد والعكوف فيه كأنه المسجد الحرام بل عند بعضهم العكوف فيه أحب إليه من العكوف في المسجد الحرام إذ من الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله )ا.هـ. وكلام أهل العلم في ذلك كثير لا حصر له ولعل ما مضى فيه كفاية إن شاء الله تعالى فاحذر يا أخي من هذه المحدثة والبدعة المنكرة فإنها من أبواب الشرك وذرائعه عافانا الله وإياك من كل سوءٍ وبلاء .(2/20)
الفرع الخامس والثلاثون : تسجية الميت بخرقة مكتوب عليها آيات من القرآن، وهذا يفعل في كثير من البلاد الإسلامية، بل ورأيته كثيراً على الأموات الذين يصلى عليهم في الحرم المكي، وهذا الفعل لا أصل له في الشرع لاسيما إذا صاحبه اعتقاد انتفاع الميت بوجود هذه الآيات عليه، وهو من المحدثات والبدع، بل إنه فعل مناف لتعظيم القرآن واحترامه، فإن القرآن نزل للقراءة والتدبر والعمل به، لا ليجعل على خرقة توضع على الأموات، فهذا الفعل خروج بالقرآن مقصود إنزاله، قال تعالى { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ } فالواجب إنكار هذا الفعل، ولأنه لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كان يصلي على الأموات ويحملون بين يديه ويشيع الأموات إلى المقبرة، ومع ذلك فلم يثبت عنه في مرة واحدة أنه وضع شيئاً من القرآن على أحد من الأموات، فلو كان هذا الوضع مما ينفع الميت لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يثبت عن أحد من صحابته أنه فعل ذلك أو أوصى أن يفعل به ذلك ولا نعلمه ثابتاً عن أحد من سلف الأمة ولا أئمتها، وهذا يفيدك أنه محدث في الدين وبدعة فهو رد على فاعليه لأنه كل إحداث في الدين فهو رد لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) ولمسلم (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) وحيث تقرر أنه محدثه فيكون داخلاً في تحذير النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله (( وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة )) فهذا العمل ممنوع لأنه ليس من عمل السلف، ولأنه لا دليل عليه ولأنه امتهان للقرآن، ولأنه خروج بالقرآن عن مقصود إنزاله ولأنه ذريعة للاعتقاد الفاسد وهو أن هذا الميت ينتفع بذلك، وقد سئل الشيخ محمد بن عثيمين عن حكم ذلك فأجاب بقوله:- ( ليس لهذا العمل أصل في الشرع أي ليس لكتابة الآيات القرآنية على(2/21)
ما يغطى به الميت فوق النعش أصل في الشرع، بل هو في الحقيقة امتهان لكلام الله عز وجل بجعله غطاء يتغطى به الميت، وهو ليس بنافعٍ الميت بشيء، وعلى هذا فالواجب تجنبه، أولاً:- لأنه ليس من عمل السلف، وثانياً:- لأنه فيه شيئاً من امتهان القرآن الكريم، وثالثاً:- لأنه فيه اعتقاداً فاسداً وهو أن هذا ينفع الميت وهو ليس بنافعة )ا.هـ. وأقول:- لا شك أيها الأخ المبارك أن القرآن له نفع عظيم وبركة لا تنكره إلا أن هذا النفع وهذه البركة لا تتحقق بالأفعال المحدثة التي ما أنزل الله بها من سلطان، فالانتفاع بالقرآن يكون بتلاوته وحفظه وتدبره وتعلمه وتعليمه والتحاكم إليه والاستشفاء به والعمل به بامتثال أوامره واجتناب زواجره وتصديق أخباره والاتعاظ والاعتبار بأمثاله وقصصه، وأما تسجية الميت به فإنه لا دليل على أن من أوجه الانتفاع بالقرآن أن يوضع على الأموات، فلا يستدل على جواز ذلك بمجرد أن القرآن كله منفعة وبركة لأنه كلام الله، فنحن نقر بذلك ولا نخالف فيه طرفة عين وإنما الذي ننكره هو عين هذا الفعل فقط، وقد تقرر في القواعد أن شرعية الأصل لا تستلزم شرعية الوصف، فلا تخلط بين هذا وهذا، وأقول:- هل الله جل وعلا أذن بوضع ذلك على الميت؟ إن قلت نعم فسأقول:- أسعفني بالدليل الشرعي المثبت لذلك، وإن قلت لا وهو الظن بك إن شاء الله تعالى فسأقول:- إذاً هذا من تشريع شيء لم يأذن به الله تعالى وقد قال تعالى { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } ولأن اعتقاد استحباب هذا الفعل يجعله في مصاف الأحكام الشرعية وقد تقرر في القواعد أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة، ولأن هذا الفعل من الأفعال المقدورة للنبي - صلى الله عليه وسلم - لتوفر سببها، وقد تقرر في القواعد أن كل فعلٍ توفر سبب فعله على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله اختياراً فالمشروع تركه وقد(2/22)
تقرر في القواعد أن الأصل في التعبد الإتباع والاقتداء لا الابتداع والابتداء، وأنت خبير بأنه لا يجوز للمسلم أن يتعبد له إلا بما شرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد علمت أن هذا الفعل ليس مما شرعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإياك ثم إياك أن تقول هذا من البدع الحسنة، لأن المتقرر في الشرع أن كل بدعة ضلالة لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - (( وكل بدعة ضلالة )) وقد تقرر أن لفظة (( كل )) من صيغ العموم، ولا مخصص للعموم، وقد تقرر في القواعد أن الأصل هو البقاء على العموم حتى يرد المخصص، فمن ادعى أن شيئاً من البدع في الشرع حسن فإنه مخالف للأصل فهو مطالب للدليل لأنه قد تقر في القواعد أن الدليل يطلب من الناقل عن الأصل لا من الثابت عليه، وبه تعلم إن شاء الله تعالى إن لم تكن متعصباً أن هذا الفعل محدث في الدين وبدعة فهو رد على فاعليه لأن كل إحداث في الدين فهو رد والله أعلى وأعلم .(2/23)
الفرع السادس والثلاثون :- رفع الصوت بالذكر مع الجنازة إذا ذهبوا بها إلى المقبرة، فإن بعض الناس تراهم يرفعون أصواتهم بالذكر وهم يشيعون الجنازة إلى المقبرة، وهذا لنا فيه نظران: نظر باعتبار أصل الذكر الذي يقال، ونظر باعتبار الصفة التي يوقع عليها هذا الذكر فأما الذكر باعتبار أصله فإنه مشروع وذلك إذا لم يكن في آحاد هذا الذكر مخالفة شرعية فإن الأدلة من الكتاب والسنة قد وردت بمشروعية عدد كبير من الأذكار وبينت فضائلها إلا أن المنكر هنا ليس هو الذكر بالنظر إلى أصله، وإنما نحن ننظر إلى هذا الفعل بالنظر الثاني وهو النظر باعتبار الوصف، أي إيقاع الذكر على هذه الصفة المعينة في هذا الوقت المعين فبالله عليك إني أخاطب فيك إنصافك وإيمانك أين الدليل على مشروعية إيقاع الذكر على هذه الصفة المعينة؟ لا أظن أنك تستدل على هذه الصفة المعينة بالأدلة العامة التي تثبت فضل الذكر، لأنك تعلم أن دليل الأصل إنما يثبت الأصل، ونحن لا نخالف في الأصل وإنما نحن نطلب دليلاً على هذه الصفة المعينة، لأنه قد تقرر في القواعد أن مشروعية الأصل لا تستلزم شرعية الوصف، لأن الوصف شيء زائد على الأصل فلا بد له من دليل خاص، وأقسم بالله إن هذا الفعل بهذا الوصف المعين لا دليل عليه لا من القرآن الكريم ولا من السنة النبوية الصحيحة، ولا من فعل الصحابة ولا من فعل أحد من سلف الأمة وأئمتها، وأتحدى أن يأتي أحد بدليل صحيح صريح يثبت ذلك، ولو كان خيراً لسبقنا إليه من هم أحرص منا على العلم والهدى، لكنه محدث في الدين ليس عليه عمل السلف الصالح، فيدخل في عموم قوله تعالى { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } وفي عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) وفي عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) وفي عموم قوله - صلى الله عليه(2/24)
وسلم - (( وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة )) وفي عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - (( وشر الأمور محدثاتها )) لكن لابد أن تعرف أن هذا الفعل بدعة باعتبار الوصف لا باعتبار الأصل، ولا تقل إنه ذكر، لأننا سنقول إنه ليس ذكراً مجرداً وإنما ذكر أوقع على صفة معينة والمنكر هو إيقاعه على هذه الصفة، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشيع الجنائز إلى المقبرة ولم يثبت عنه ولا عن أصحابه أنهم كانوا يرفعون أصواتهم بشيء من الذكر، بل إن هذا الذكر بهذه الصفة هو في الحقيقة نوع من النياحة والنعي المحرم وقد ثبت نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النياحة وعن النعي، وفي صحيح مسلم من حديث عمرو بن العاص أنه قال عن موته (( فإذا أنا مت فلا تتبعني نائحة ولا نار...الحديث )) ولأن هذا الذكر يوقع على صفة جماعية وقد سبق لنا أن الذكر الجماعي نوع من المحدثات والبدع، ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال نهى عن أن يتبع الميت بصوتٍ ولا نار، بل كان السلف يستحبون خفض الصوت مع الجنازة كما قال قيس ابن عباد وهو من كبار التابعين من أصحاب علي - رضي الله عنه - كانوا يستحبون خفض الصوت عند الجنائز وعند الذكر وعند القتال، وقد سئل أصحاب الفضيلة في اللجنة الدائمة عن ذلك وأفتوا بقولهم: ( هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا تبع الجنازة أنه لا يسمع له صوت بالتهليل أو القراءة ونحو ذلك ولم يأمر بالتهليل الجماعي في ما تعلم، بل قد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - (( أنه نهى أن يتبع الميت بصوت أو نار ))"رواه أبو داود" وقال قيس بن عباد وهو من أكابر التابعين من أصحاب علي - رضي الله عنه -:- كانوا يستحبون خفض الصوت عند الجنائز وعند الذكر وعند القتال وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:- لا يستحب رفع الصوت مع الجنازة لا بقراءة ولا ذكر ولا غير ذلك، هذا مذهب الأئمة الأربعة وهو المأثور عن السلف من الصحابة والتابعين ولا(2/25)
أعلم فيه مخالفاً، وقال أيضاً وقد اتفق أهل العلم بالحديث والآثار أن هذا لم يكن على عهد القرون المفضلة وبذلك يتضح لك أن رفع الصوت بالتهليل الجماعي مع الجنائز بدعة منكرة وهكذا ما شابه ذلك من قولهم " وحدوه " أو " أذكروا الله " أو قراءة بعض القصائد كالبردة )ا.هـ.كلامهم رحمهم الله تعالى، وقال فضيلة الشيخ علي محفوظ رحمه الله تعالى وأجزل له الأجر والمثوبة: ( ومن البدع السيئة الجهر بالذكر أو بقراءة القرآن أو البردة أو دلائل الخيرات ونحو ذلك وكل هذا مكروه للإجماع على أن السنة في تشييع الجنازة السكوت وجمع الفكر والتأمل في الموت وأحواله، وعليها عمل السلف رضوان الله عليهم ولا يقال أنه بدعة مستحسنة لأن محل استحسان البدعة إذا لم تكن مصادرة لفعل المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فضلاً عن كون الاستحسان لا يكون إلا من أهل الحل والعقد الذين لا يقدمون على ذلك إلا بعد إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم صريحاً كما نص عليه الإمام الشعراني وغيره من المحققين وأين هم؟ فالصواب عدم رفع الصوت بشيء وترك كل من خالف سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - اتباعاً لفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والسلف الصالح، إذاً الخير كله في الإتباع، وكل الشر في الابتداع، قال الله تعالى في كتابه العزيز { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } فقد جعل العلامة على محبة العبد لمولاه إتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأخرج ابن أبي حاتم أن الحسن البصري - رضي الله عنه - قال:- كان قوم يزعمون أن هم يحبون الله فأراد الله أن يجعل لقولهم تصديقاً من عمل فأنزل هذه الآية، فمن دعا محبة الله تعالى ولم يتبع هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو كذاب وكتاب الله تعالى يكذبه، وقال تعالى { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ(2/26)
جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا } وسبيل المؤمنين هو الكتاب والسنة قال - صلى الله عليه وسلم - (( ليس منا من عمل السنة غيرنا )) وقال - صلى الله عليه وسلم - (( إن الله تعالى يحب الصمت عند ثلاث، عند تلاوة القرآن وعند الزحف وعند الجنازة )) رواه الطبراني في الكبير عند زيد بن أرقم - رضي الله عنه - وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكره أن تتبع الجنازة بنياحة أو مجمرة أو راية ولكراهة النبي - صلى الله عليه وسلم - لرفع الصوت مع الجنازة ولو بذكر وقراءة قرآن شنعت الصحابة - رضي الله عنهم - على من رفع صوته بقوله (( استغفروا للميت )) حيث قالوا (( لا غفر الله لك )) مع أنه لفظ قليل دال على طلب الدعاء من الحاضرين للميت المحتاج إليه فما بالك باللفظ الواقع الآن، وقال في المدخل ما ملخصه ) العجب من أهل الميت يأتون بجماعة يسمونهم بالفقراء يذكرون أمام الجنازة وهو من الحدث في الدين، ومخالف لسنة سيد المرسلين وأصحابه والسلف الصالح، يجب منعه على من له قدرة مع الزجر والأدب ويزيد بعضهم زعقات النساء من خلفهم وكشف الوجوه واللطم على الخدود وما أشبه ذلك وكله ضد ما كانت عليه جنائز السلف، لأن جنائزهم كانت على التزام الأدب والسكون والخشوع حتى أن صاحب المصيبة كان لا يعرف من بينهم لكثرة حزن الجميع وما أخذهم من القلق والانزعاج بسبب الفكر فيما هم إليه صائرون وعليه قادمون، حتى لقد كان بعضهم يريد أن يقلى صاحبه لضرورات تقع له عنده فيلقاه في الجنازة فلا يزيد على السلام الشرعي شيئاً كما قال الحسن البصري - رضي الله عنه -:- ميت غد يشيع ميت اليوم، وانظر إلى قول ابن مسعود - رضي الله عنه - لمن قال في الجنازة (( استغفروا لأخيكم )) يعني الميت فقال له (( لا غفر الله لك )) فإذا كان هذا حالهم في تحفظهم من رفع الصوت بمثل هذا اللفظ فما بالك بما يفعله غالب أهل هذا الزمان من رفع الأصوات بنحو ما تقدم، وقال الإمام النووي رحمه الله(2/27)
تعالى:- ( الصواب ما كان عليه السلف من السكوت في حال السير مع الجنازة فلا يرفع صوت بقراءة ولا ذكر ولا غيرهما لأنه أسكن لخاطر وأجمع للفكر فيما يتعلق بالجنازة وهو المطلوب في هذا الحال، هذا هو الحق ولا تغتر بكثرة من يخالفه، وقد قال الفضيل بن عياض - رضي الله عنه -:- الزم طرق الهدي ولا يغرك قلة السالكين وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين وقد روينا في سنن البيهقي ما يقتضي ما قلته، وأما ما يفعله الجهلة من القراءة بالتمطيط وإخراج الكلام عن موضعه فحرام بإجماع العلماء وقد أوضحت قبحه وغلظ تحريمه وفسق من تمكن من إنكاره فلم ينكره في كتاب آداب القراء )ا.هـ. ونحوه لشيخ الإسلام في الروض، وقال الرملي في شرح المنهاج:- ( ويكره ارتفاع الأصوات في سيرة الجنازة لما رواه البيهقي أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كرهوا رفع الصوت عند الجنائز والقتال والذكر، وكره جماعة قول المنادي مع الجنازة:- استغفروا الله له، وقد سمع ابن عمر رجلاً يقول ذلك فقال (( لا غفر الله لك )) والصواب كما في المجموع ما كان عليه السلف من السكوت في حال السير فلا يرفع صوتاً بقراءةٍ ولا ذكرٍ ولا غيرهما، بل يشتغل بالتفكير في الموت، وما بعده وفناء الدنيا وأن هذا آخرها وما يفعله جهلة القرآء من القراءة بالتمطيط وإخراج الكلام عن موضعه فحرام يجب إنكاره )ا.هـ. ومثل هذا للعلامة ابن حجر في شرح المنهاج وقال في الفتاوى الهندية ما ملخصه ( وعلى متبع الجنازة الصمت ويكره لهم تحريماً رفع الصوت بالذكر وقراءة القرآن فإن أراد أن يذكر الله فليذكره في نفسه ) ا.هـ. ومثله في سائر كتب السادة الحنفية وقال في دليل الطالب وشرحه للسادة الحنبلية ( ويكره رفع الصوت والصيحة معها وعند رفعها يعني الجنازة ولو بالذكر والقرآن ويسن لمتبعها أن يكون متخشعاً متفكراً في مآله متعظاً بالموت وبما يصير إليه الميت، وقول القائل مع الجنازة:- استغفروا الله له ونحوه بدعة عند(2/28)
الإمام أحمد وكرهه وحرمه أبو حفص ويحرم ويكره أن يتبعها مع منكر وهو عاجز عن إزالته )ا.هـ. وجملة القول أن السنة في إتباع الجنائز الصمت والتفكر والاعتبار وبهذا كان عمل الصحابة ومن بعدهم وأن إتباعهم سنة ومخالفتهم بدعة وقد قال الإمام مالك - رضي الله عنه - ( لن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها ) هذا هو الذي ينبغي التعويل عليه حيث كان بإجماع المذاهب الأربعة ولا معتبر بمن يقول بندبية أو وجوب رفع الصوت بالذكر أو القراءة أمام الجنازة معللاً ذلك بأمور :
أحدها:- إنه صار شعاراً للموتى وفي تركه ازدراء بالميت وتعريض العرض للكلام فيه .
والثاني:- أن في الاشتغال بالذكر ونحوه ترك الكلام واللفظ في أمور الدنيا .(2/29)
الثالث:- أن فيه مخالفة اليهود والنصارى في جنائزهم حيث اعتادوا السكوت فيها فكل هذه الوجوه باطلة لا تسوغ مخالفة السنة فإن عادة الأغنياء وذوي الهيئات اليوم السكوت في جنائزهم حتى صار هذا من شعائرهم ولا ازدراء ولا تعريض العرض للطعن عليه، والواقع الآن أن المشتغل بالذكر جهراً طائفة مخصوصة يؤتى بها لهذا الغرض وبقية المشيعين لا يشتغلون به ويتكلمون بأمور الدنيا، فلم يكن الإتيان به مدعاة لترك اللفظ بأمور الدنيا، و المعروف في جنائز اليهود والنصارى عدم السكوت فإن لهم أنا شيد يرتلونها من البيت إلى الكنائس وأيضاً يكفينا في مخالفة جنائزهم حمل جنائزنا على الأعناق دونهم وهم يحملون الصلبان وبساط الرحمة ...إلى أن قال: وقد نشأ عن هذه البدعة كثير من المنكرات منها: الإتيان برجل حسن الصوت يغني لهم أمام الجنازة, وصارت مهنة لطائفة من جهلة الفساق له أصوات منكرة يحرفون الكلم عن مواضعه, وحولهم جماعة لهم زي مستبشع فإنه ليس هناك غرض صحيح في اشتراك هذه الطائفة المبتذلة المرذولة في تشييع الجنائز سوى مخالفة السنة وإضرار الورثة بأجورهم ولو أعطيت لهم الصدقات بدن تكليفهم السعي لكان غاية في الحسن)ا.هـ.كلام الشيخ علي محفوظ رحمه الله تعالى, وقد نقلته مبسوطاً لما فيه من تحرير لهذه المسألة من رجل عانى كثيراً في الإنكار على أهل البدع رحمه الله تعالى .(2/30)
الفرع السابع والثلاثون :- القول بخلق القرآن, وهذه من أعظم المصائب وأكبر البلايا التي حلت بالعالم الإسلامي, وقد قال به المعتزلة وتابعهم على ذلك كثير من الطوائف الضالة فنعوذ بالله تعالى من هذا القول ثم نعوذ به عز وجل من هذا القول, ثم نعوذ به من هذا القول ونشهد الله تعالى وملائكته وجميع خلقه أننا نقول بما أجمع عليه أهل السنة رحمهم الله تعالى ورضي الله عنهم من أن القرآن كلام الله تعالى منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود, فالقول بخلق القرآن جريمة كبرى ومصيبة عظمى, وطامة من أعظم الطوام, وقد انعقد إجماع السلف الصالح على بطلان القول بخلق القرآن وأنه كفر بالله تعالى وأنه من أعظم المفتريات على الله تعالى وكتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزل من حكيم حميد فالقرآن كلام الله تعالى حروفه ومعانيه, فالقرآن عند أهل الحق اسم للنظم والمعنى جميعاً وعلى ذلك سار الصحابة رضوان الله عليهم والتابعون وأتباعهم وعامة الأئمة الأربعة ومن قبلهم ومن بعدهم من أئمة الإسلام المقتدى بهم, وكيف يكون مخلوقاً وهو كلام الله وكلامه صفة من صفاته جل وعلا وهل شيء من صفاته جل وعلا يتصور أن يكون مخلوقا, فالقرآن وإن تلته الألسنة أو حفظ في الصدور أو كتب بالمداد في الأوراق فإنه كلام الله تعالى ولا يخرج بذلك عن كونه منزلاً غير مخلوق فالقول بأنه مخلوق محدثة في الإسلام وبدعة وضلالة لا يشك في ذلك من له أدنى إطلاع على الأدلة من الكتاب والسنة, وصار العلم بأنه منزل غير مخلوق من ضرورات الدين ومما يقطع به أهل الحق, ألا ترى أن الله تعالى يقول { أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ } والقرآن من الأمر وليس من الخلق وقد عطف هذا على هذا والعطف يقتضي المغايرة ألا ترى أن الله تعالى توعد من قال بأن القرآن قول البشر بسقر, فقال تعالى { إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ(2/31)
ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } ألا ترى أن الله تعالى يقول { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي } والقرآن من الله ولا يكون من الله تعالى شيء مخلوق كما قاله غير واحد من السلف . ألا ترى أن آيات القرآن في كثير من مواضعها تصف هذا القرآن بأنه منزل كقوله تعالى { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ } وقوله تعالى { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ } وقوله تعالى { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ } والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً, وقال محمد بن يحيى الذهلي: من قال إن القرآن مخلوق فقد كفر, ومن قال لفظي بالقرآن مخلوق فقد ابتدع .(2/32)
وقال وكيع بن الجراح رحمه الله تعالى: ( من زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر )ا.هـ. ولما سمع ابن عباس رضي الله عنهما رجلاً يقول: اللهم رب القرآن, قال له: ( مه, القرآن كلام الله ليس بمربوب منه خرج وإليه يعود ) وهذا الكلام معروف عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال في العقيدة الأصفهانية: ( وقال أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرخي الشافعي في كتابه الذي سماه: الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول, وذكر اثني عشر إماما, الشافعي ومالك وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وسفيان بن عيينة وابن المبارك وإسحاق بن راهويه والبخاري وأبو زعة وأبو حاتم, قال فيه: سمعت الإمام أبا منصور محمد بن أحمد يقول:- سمعت الإمام أبا بكرٍ عبيد الله بن أحمد يقول: سمعت الشيخ أبا حامد الإسفرائيني يقول: مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار أن القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال مخلوق فهو كافر, والقرآن حمله جبريل مسموعاً من الله تعالى والنبي - صلى الله عليه وسلم - سمعه من جبريل والصحابة رضوان الله عليهم سمعوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي نتلوه نحن بألسنتنا, فما بين الدفتين وما في صدورنا مسموعاً ومكتوباً ومحفوظاً ومنقوشاً كل حرف منه كالباء والتاء كله كلام الله غير مخلوق ومن قال مخلوق فهو كافر عليه لعائن الله وملائكته والناس أجمعين )ا.هـ. وقال أيضاً في العقيدة الأصفهانية: وقال البخاري حدثني الحكم بن محمد الطبري، كتبت عنه بمكة، قال حدثنا سفيان بن عيينة: أدركت مشيختنا منذ سبعين سنة منهم عمرو بن دينار يقولون: ( القرآن كلام الله وليس بمخلوق )ا.هـ. وقال معاوية بن عمار سمعت جعفر بن محمد يقول: ( القرآن كلام الله وليس بمخلوق ) وقال الطحاوي رحمه الله تعالى في عقيدته المختصرة: ( وأن القرآن كلام الله منه بدا بلا كيفية قولاً وأنزله على رسوله وحياً وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية فمن(2/33)
سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر, وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر حيث قال تعالى { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } فلما أوعد الله بسقر لمن قال { إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر ولا يشبه قول البشر )ا.هـ. وقال أبو العباس في الواسطية ( ومن الإيمان بالله وكتبه الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود وأن الله تكلم به حقيقة وأن هذا القرآن الذي أنزله على محمد - صلى الله عليه وسلم - هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره, ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله أو عبارة عنه, بل إذا قرأه الناس أو كتبوه في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله تعالى حقيقة, فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قال مبتدئاً لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً وهو كلام الله حروفه ومعانيه ليس كلام الله الحروف دون المعاني ولا المعاني دون الحروف )ا.هـ. وقال الحافظ رحمه الله تعالى: ( والذي استقر عليه قول الأشعري أن القرآن كلام الله غير مخلوق )ا.هـ. وقال ابن أبي داوود في حائيته :
( وقل غير مخلوق كلام مليكنا بذلك دان الاتقياء وأفصحوا )(2/34)
وروى البيهقي في شعب الإيمان بسنده إلى عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: ( القرآن كلام الله فمن قال فليعلم ما يقول فإنما يقول على الله عز وجل )ا.هـ. وروى اللالكائي الحافظ في شرح أصول اعتقاد أهل السنة عن البخاري صاحب الصحيح أنه قال: ( لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم, أهل الحجاز ومكة والمدينة والكوفة وواسط وبغداد والشام ومصر لقيتهم كرات, قرناً بعد قرن, ثم قرناً بعد قرن, أدركتهم وهم متوافرون منذ أكثر من ست وأربعين سنة ... ثم سمى خلقاً كثيراً من أهل السنة في هذه البلاد ... ثم قال: فما رأيت واحداً منهم يختلف في هذه الأشياء أن الدين قول وعمل وذلك لقوله تعالى { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } وأن القرآن كلام الله غير مخلوق )ا.هـ. وقال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: ( القرآن كلام الله غير مخلوق ) وقال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى ( القرآن كلام الله غير مخلوق كذلك بلغنا عن أيوب السختياني وسليمان التيمي ) وقال أبو بكر بن أبي شيبة: لما جاءت المحنة إلى الكوفة, قال أحمد بن يونس: الق أبا نعيم فقل له, فلقيت أبا نعيم فقال لي: إنما هو ضرب السياط, قال ابن أبي شيبة: ذهب حديثنا عن هذا الشيخ, فقال أبو نعيم أدركت ثلاثمائة شيخ كلهم يقولون القرآن كلام الله غير مخلوق، وقال أبو مصعب سمعت مالك ابن أنس يقول: ( القرآن كلام الله وليس بمخلوق ) وقال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: ( من قال القرآن مخلوق فهو زنديق ) ولما قال حفص الفرد في مناظرته للشافعي: القرآن مخلوق قال له الشافعي كفرت بالله العظيم، وقال الشافعي رحمه الله تعالى: ( من قال القرآن مخلوق فهو كافر ) وقال ابن المبارك رحمه الله تعالى: ( القرآن كلام الله ليس بخالق ولا مخلوق ) وقال أيضاً: ( من زعم أن هذا القرآن مخلوق(2/35)
فهو كافر ) وقال أبو خيثمة رحمه الله تعالى: ( من زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر, ومن شك في كفره فهو كافر )ا.هـ. وقال ابن مهدي رحمه الله تعالى: ( القرآن كلام الله ليس بخالق ولا مخلوق )ا.هـ. وقال شبابة بن سوار وعبدالعزيز القرشي ( القرآن كلام الله, من زعم أنه مخلوق فهو كافر ) وقال ابن أبي أويس: ( القرآن كلام الله عز وجل ومن الله, وما كان من الله فليس بمخلوق ) وقال يحيى بن يحيى النيسابوري ( من زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر )ا.هـ. وقال أبو الوليد إسماعيل بن عزرة: ( إن القرآن كلام الله وكلام الله عز وجل ليس بمخلوق ) وقال أحمد بن زهير: سمعت أبي ما لا أحصي كثرة يقول: ( القرآن كلام الله غير مخلوق ولا نعرف غير هذا )ا.هـ. وقال عثمان ابن أبي شيبة رحمه الله تعالى: ( القرآن كلام الله وليس بمخلوق ) وقال محمد ابن سليمان لوين: ( القرآن كلام الله غير مخلوق, وما رأيت أحداً يقول القرآن مخلوق أعوذ بالله )ا.هـ. وقال المزني رحمه الله تعالى: ( القرآن كلام الله غير مخلوق ) وقال مرة ( القرآن كلام الله غير مخلوق فمن قال القرآن مخلوق فهو كافر )ا.هـ. وقال الربيع بن سليمان والبخاري صاحب الصحيح: ( القرآن كلام الله غير مخلوق، فمن قال مخلوق فهو كافر )ا.هـ. وقال أبو محمد سهل بن عبد الله: ( من قال القرآن مخلوق فهو كافر بالربوبية لا كافر بالنعمة )ا.هـ. وقال محمد بن الحسن رحمه الله تعالى: ( القرآن كلام الله وليس من الله شيء مخلوق )ا.هـ. وقد حكى إسماعيل بن أبي أويس إجماع أهل المدينة, قال: كان مالك وعلماء أهل بلدنا يقولون: ( القرآن من الله وليس من الله شيء مخلوق )ا.هـ. وقال أبو سليمان الجوزجاني رحمه الله تعالى سمعت محمد بن الحسن رحمه الله تعالى يقول: ( من قال القرآن مخلوق فلا تصلوا خلفه )ا.هـ. وقال محمد بن عبدالرحمن بن أبي ذئب وعبدالعزيز ابن أبي سلمة الماجشون وأبو بكر بن سبرة وإبراهيم بن سعد الزهري وسعيد بن(2/36)
عبدالرحمن الجمحي وحاتم ابن إسماعيل وعبدالله بن عبدالعزيز العمري الزاهد وأبو ضمرة أنس بن عياض ومحمد ابن إسماعيل بن أبي فديك: ( القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال إنه مخلوق فقد كفر )ا.هـ.وأجمع على ذلك أهل مكة أيضاً وأهل البصرة وأهل الكوفة وأهل واسط وأهل بغداد وأهل الشام وأهل مصر وأهل الري, وأهل خراسان, فأهل السنة في هذه البلاد كلهم متفقون على أن القرآن كلام الله تعالى منزل غير مخلوق, وهم أعداد كثيرة وجموع غفيرة لا يحصيهم إلا الله تعالى. وبه تعلم أن السلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم وسائر أئمة أهل السنة في مختلف الأمصار وسائر الأعصار متفقون على هذه القضية وأنها من القضايا المسلمات عندهم ومتفقون أيضاً على أن من قال بخلق القرآن فإنه كافر بالله العظيم, وهذا إجماع قطعي متواتر ثابت لا ينازع فيه إلا ملحد زنديق كافر بالرب عز وجل، وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: ( وقد قال أئمة المسلمين وجمهورهم القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ )ا.هـ. وقال أيضاً: ( ولهذا قال الأئمة القرآن كلام الله غير مخلوق كيفما تصرف )ا.هـ. وقد قال تعالى { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } وقال تعالى { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ } أي القرآن فهو كلام الله وكلامه صفة من صفاته وليس في صفات الله تعالى شيء يوصف بأنه مخلوق، وقد نقل ابن القيم رحمه الله تعالى إجماع الصحابة والتابعين وجميع أهل السنة وأئمة الفقه على أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وقد ذكر ذلك أبو العباس رحمه الله تعالى في مواضع كثيرة من كتبه، وقال الإمام أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل التميمي الأصبهاني الشافعي في كتابه الحجة على تارك المحجة: ( أجمع المسلمون على أن القرآن وإذا صح أنه كلام الله صح أنه صفة الله تعالى وأنه موصوف به )ا.هـ. وكان الشيخ أبو حامد(2/37)
أحمد بن أبي طاهر الإسفرائيني إمام الأئمة الذي طبق الأرض علماً إذا سعى إلى الجمعة من قطعية الكرج إلى جامع المنصور يدخل الرباط المعروف بالزوزي, المحاذي للجامع ويقبل على من حضر ويقول ( اشهدوا علي بأن القرآن كلام الله غير مخلوق كما قاله الإمام بن حنبل لا كما يقوله الباقلاني, وتكرر ذلك منه جمعات ) وقال أبو العباس رحمه الله تعالى ( وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن القرآن كلام الله )ا.هـ. وقال أيضاً: ( فإنه قد اشتهر عند العامة والخاصة أن مذهب السلف وأهل السنة والحديث أن القرآن كلام الله غير مخلوق )ا.هـ. وقال ابن المديني رحمه الله تعالى: ( القرآن كلام الله غير مخلوق, من قال إنه مخلوق فهو كافر لا يصلى خلفه ) وقال أبو العباس رحمه الله تعالى:- ( والذي اتفق عليه السلف والأئمة أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق )ا.هـ. وقال رحمه الله تعالى:- ( ومذهب السلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين كالأئمة الأربعة وغيرهم ما دل عليه الكتاب والسنة وهو الذي يوافق الأدلة العقلية الصريحة أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود )ا.هـ. وقال أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ( نقول القرآن كلام الله غير مخلوق حيث تصرف )ا.هـ. قلت بل إنه لكثرة النقول عن أهل السنة في هذه المسألة صارت شعاراً لأهل السنة، ونحن لنشهد الله تعالى ومن حضرنا من الملائكة ومن يقرأ ذلك من طلاب العلم ويطلع عليه من عامة المسلمين أننا نقول بما قال سلف هذه الأمة - رضي الله عنهم - من أن القرآن كلام الله تعالى حقيقة حروفه ومعانيه وأنه منزل غير مخلوق وأن من الله بدأ وإليه يعود، هذا هو ما نعتقده بقلوبنا وننطقه بألسنتنا وندرسه لطلابنا وندونه في مؤلفاتنا حول هذه المسألة. وهذا هو قول السلف قاطبة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين أن القرآن كلام الله ليس بمخلوق والدليل على أنه كلام الله(2/38)
تعالى وليس بمخلوق الكتاب والسنة والعقل الصريح والإجماع القطعي المتواتر، فأما الكتاب فقوله تعالى { إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } ففرق تعالى بين الخلق والأمر وهما صفتان من صفاته، أضافهما إلى نفسه أما الخلق ففعله وأما الأمر فقوله والأصل في المتعاطفين التغاير إلا إذا قامت القرينة على عدم إرادة ذلك، وهنا قد قامت القرائن على توكيد الفرق بينهما، وهذا من الحجج التي احتج بها الإمام أحمد على الجهمية فيما ذهبوا إليه، فلما عطف الأمر على الخلق علمنا قطعاً أن الأمر غير مخلوق والقرآن من أمر الله تعالى لأنه قوله جل وعلا، فأفاد ذلك أن القرآن غير مخلوق ومن قال غير ذلك فقد ضرب كتاب الله بعضه ببعض، ومن ذلك:- قوله تعالى { الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنسَانَ } ففرق تعالى بين علمه وخلقه، فالقرآن علمه والإنسان خلقه، وعلمه تعالى غير مخلوق وقد سمى الله تعالى القرآن علما في آيات كثيرة كقوله تعالى { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } وكقوله تعالى { وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ } وكقوله تعالى { وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ } فسمى الله تعالى القرآن علماً، وعلم الله تعالى غير مخلوق، والقرآن من علمه جل وعلا فأفاد ذلك أن القرآن غير مخلوق فالقرآن من(2/39)
علمه عز وجل وليس من خلقه. ومن ذلك:- قوله تعالى { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ } وقد اتفق المفسرون والأئمة على أن المراد بكلام الله هنا أي القرآن فدل ذلك على أن القرآن غير مخلوق لأنه كلام الله وكلامه جل وعلا صفة من صفاته وليس شيء من صفاته جل وعلا مخلوقاً. ومن ذلك:- أن الله تعالى يصف هذا القرآن العظيم بأنه تزيل من عنده، كقوله تعالى { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } وقوله تعالى { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ } وقوله تعالى { تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } وقوله تعالى { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ } وقوله تعالى { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } ولم يصف شيئاً مما أنزله إلى نفسه غير كلامه، مما دل على الاختصاص، فليس هو كإنزال المطر والحديد فإن هذه الأشياء أخبر عن إنزالها لكنه لم يضفها إلى نفسه بخلاف كلامه تعالى فإنه أخبر عن إنزاله مضافاً إلى نفسه والكلام صفة للمتكلم، فكلامه صفته، والصفة إنما تضاف إلى موصوفها لا إلى غيره فلو كانت مخلوقة لفارقت الخالق ولم تصلح وصفاً له، لأنه تعالى غني عن خلقه لا يتصف بشيء منه. ومن ذلك:- حديث خوله بنت حكيم رضي الله عنها قالت:- سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول (( من نزل منزلا ثم قال:- أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل عن منزله ذلك ))"رواه مسلم" وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:- جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:- يا رسول الله ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة، فقال:- (( أما إنك لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله(2/40)
التامات من شر ما خلق لم تضرك ))"رواه مسلم" وفي سياقٍ آخر عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( من قال إذا أمسى ثلاث مرات أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم تضره حمة تلك الليلة ))"رواه أحمد والنسائي بسندٍ صحيح" وفي حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعوذ حسناً وحسيناً يقول (( أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة ))"أخرجه البخاري" وقد سبق لنا أن السلف رحمهم الله تعالى قد اتفقوا على أن القرآن كلام الله، فالقرآن من كلمات الله تعالى، فهو داخل في هذا العموم لأن قوله " كلمات الله " جمع مضاف فيعم، فيدخل في ذلك الكلمات الكونية والكلمات الشرعية، والقرآن من كلمات الله تعالى الشرعية وحيث تقرر لك ذلك فإننا نعلم جزماً من هذه الأحاديث أن القرآن ليس بمخلوق، لأن الاستعاذة لا تكون بمخلوق فلما ندبنا الشارع إلى الاستعاذة بكلمات الله علمنا أن القرآن ليس بمخلوق، لأن القرآن لو كان مخلوقاً لكانت الاستعاذة به شركاً، لأن الاستعاذة بمخلوق شرك، وهذا من واضح الاستدلال على أن القرآن ليس بمخلوق، وقد أطلنا في رد هذه البدعة وخرجنا عن مقصود الاختصار ولعل فيما ذكرنا كفاية وهداية لمن أراد الله هداه وخلاصة القول أن القول بخلق القرآن كفر وردة، لأن الأدلة قد دلت على أنه كلام الله تعالى منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود .(2/41)
الفرع الثامن والثلاثون : بدعة الاعتقاد بأن الخضر - عليه السلام - لا يزال حياً وأنه يجيب دعاء واستغاثة من استغاث به ودعاه وأن يحضر في بعض المواسم وأنه يلتقي مع كبار أهل التصوف وغير ذلك مما يعتقده أهل الباطل في الخضر - عليه السلام - ، وهذا كله مجانب للحق والهدى وليس عليه إثارة من علم وإنما هو التخرص والإفك والهوى وهو منكر من الاعتقاد وزور ولا شيء يستند عليه من ذلك إلى ذلك الاعتقاد إلا المرويات التافهة الساقطة العاطلة والحكايات الملفقة المكذوبة الباطلة فضلاً عن مخالفة الأدلة من الكتاب والسنة والعقل السليم والفطرة المستقيمة والعجب من وقوع بعض أهل العلم في حبال هذه السخافات وإثباتها ومحاولة الاستدلال عليها، ولا والله ما أصابوا وما أحسنوا لأنهم قد فتحوا بذلك باب دعاء الأموات والاستغاثة بالغائبين، وقد علمت أن ذلك كفر بالله تعالى، فهذا الاعتقاد محدثة في الدين وبدعة وضلالة لاشك في ذلك وبيان ذلك من وجوه :(2/42)
الأول : قوله تعالى { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ } فقوله { وَمَا } هذا نفي، وقوله { لبشر } نكرة، وقد تقرر في الأصول أن النكرة في سياق النفي تعم، فيدخل في ذلك كل من كان قبله عليه الصلاة والسلام وبين الخضر - عليه السلام - والنبي - صلى الله عليه وسلم - أزمنة طويلة ودهور مديدة تفنى دونها الأعمار، فالخضر بشر فهو داخل في عموم هذه الآية المثبتة لنفي خلود أحد من البشر، فلا خلود للبشر، بل كل بشري وإن طال عمره فإنه سيموت فلما كان الخضر - عليه السلام - من البشر فإنه يكون داخلاً في عموم هذه الآية التي تنص على أن الله تعالى لم يجعل لأحد من قبل محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - الخلد والأصل هو البقاء على العموم حتى يرد المخصص، فمن ادعى أن الخضر - عليه السلام - لا يزال حياً فإنه مطالب بالدليل المخصص له لأنه ناقل عن الأصل وقد تقرر في القواعد أن الأصل أن الدليل يطلب من الناقل عن الأصل لا من الثابت عليه، أي لا يحق لمن يعتقد حياته أن يطالبنا بالدليل المثبت لموته، بل الحق لمن يعتقد بأنه مات أن يطالب بالدليل المثبت لحياته، لأن المتقرر أن الأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل .(2/43)
الثاني : قوله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بدر وهو يدعو لربه ويبتهل له (( اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض )) فقد قال مسلم في صحيحه: حدثنا هناد السري، قال حدثنا ابن المبارك عن عكرمة بن عمار، قال حدثني سماك الحنفي، قال سمعت ابن عباس - رضي الله عنه - يقول:- حدثني عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - قال:- لما كان يوم بدر (ح) وحدثنا زهير بن حرب واللفظ له قال حدثنا عمر بن يونس الحنفي قال حدثنا عكرمة بن عمار قال:- حدثني أبو زميل هو زميل الحنفي حدثني عبدالله بن عباسٍ رضي الله عنهما قال حدثني عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال:- لما كان يوم بدر، نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً فاستقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه (( الله أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض )) فما زال يهتف بربه ماداً يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكرٍ فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك والشاهد منه (( لا تعبد في الأرض )) فإنه فعل في سياق النفي وهو مفيد للعموم عند الأصوليين. وهذا النفي بعمومه يشمل وجود الخضر حياً في الأرض لأنه على تقدير وجوده حياً في الأرض فإنه الله سيعبد في الأرض حتى لو هلكت هذه العصابة من أهل الإسلام لأن الخضر ما دام حياً فهو يعبد الله في الأرض وهذا واضح الدلالة على أن الخضر قد مات وليس موجوداً في الأرض حين هذه المقالة مع أننا نجزم جزماً أنه قد مات قبل هذه المقالة بأزمنة طويلة .(2/44)
الثالث :- قال مسلم بن الحجاج في صحيحة:- حدثنا محمد بن رافع وعبد بن حميد، قال محمد بن رافع:- حدثنا، وقال عبد:- أخبرنا عبدالرازق قال أخبرنا معمر عن الزهري قال أخبرني سالم بن عبدالله وأبو بكر بن سليمان أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال:- صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة صلاة العشاء في آخر حياته فلما سلم قال:- (( أرأيتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد )) يريد بذلك أن ينحزم ذلك القرن. فلو سلمنا جدلاً أن الخضر باق إلى زمن هذه المقولة لما تأخر بعد المئة بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن قوله (( لا يبقى )) نفي، وقوله (( أحد )) نكرة وقد تقرر في الأصول أن النكرة في سياق النفي تعم، فيدخل فيها الخضر لأن الأصل هو البقاء على العموم حتى يرد المخصص، فمن ادعى أن الخضر لا يدخل في هذا العموم وأنه قد عاش بعد المئة من قوله - صلى الله عليه وسلم - هذا، فإنه مطالب بالدليل لأنه مخالف للأصل والدليل يطلب من الناقل عن الأصل لا من الثابت عليه. ومثله حديث جابر عند مسلم أيضاً قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول قبل أن يموت بشهر (( تسألوني عن الساعة وإنما علمها عند الله، وأقسم الله ما على الأرض من نفسٍ منفوسة تأتي عليها مئة سنة )) وفي لفظ (( ما من نفسٍ منفوسة تأتي مئة سنة وهي حية يومئذٍ )) ومثله حديث أبي سعيد عند مسلم أيضاً:- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لا تأتي مئة سنة وعلى الأرض نفسٍ منفوسة اليوم )) فهذه الأحاديث الصحيحة فيها تصريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه لا تبقى نفسٍ منفوسة حية على وجه الأرض بعد مئة سنة لأن قوله (( نفسٍ منفوسة )) ونحوها من الألفاظ في روايات الحديث نكرة في سياق النفي فهي تعم كل نفسٍ مخلوقة على الأرض ولا شك أن ذلك العموم بمقتضى اللفظ يشمل الخضر - عليه السلام - لأنه نفسٍ منفوسة على(2/45)
الأرض وهذا واضح .
الرابع :- أن الخضر لو كان حياً إلى زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لكان من أتباعه ولنصره وقاتل معه لأنه - صلى الله عليه وسلم - مبعوث إلى جميع الثقلين الإنس والجن كما هو معلوم ومتفق عليه بين المسلمين لكن لم يحصل شيء من ذلك ولا نعلمه ثابتاً من وجه يصح ولا يعلم أن الصحابة قد نقلوا شيئاً من ذلك مما يفيد أنه ليس موجوداً زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
الخامس :- أن الصحيح أن الخضر نبي وقد قال تعالى { وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ } فقوله { النَّبِيِّيْنَ } جمع دخلت عليه الألف واللام وقد تقرر في الأصول أن الجمع إذا دخلت عليه الألف واللام الاستغراقية أفادته العموم فيدخل في ذلك كل نبي، والخضر نبي فيكون داخلاً في هذا العموم فيقضي هذا أنه لو كان حياً زمن بعثة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكان واجباً عليه أن يأتيه ويؤمن به وليتبعه ولقاتل تحت رايته - صلى الله عليه وسلم - ويضح هذا .(2/46)
الوجه السادس :- أن المتقرر بالدليل أنه لا يدرك زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - نبي إلا كان واجباً عليه إتباعه، أي لو قدر هذا الفرض، والدليل على ذلك الآية السابقة وكذلك ما رواه الإمام أحمد في المسند وابن أبي شيبة في المصنف والبزار في مسنده من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنهما أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابٍ أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه عليه فغضب وقال (( لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني )) قال ابن حجر:- رجاله موثوقون إلا أن في مجالد ضعفاً، فالخضر لو كان حياً زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكان أشرف أحواله أن يكون بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً بما أنزل عليه لأن موسى أفضل من الخضر فإذا كان موسى - عليه السلام - لو كان حياً لما وسعه إلا إتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - فالخضر من بابٍ أولى، وهذا واضح، بل هو معلوم عند العلماء من الدين بالضرورة .
السابع :- أن عيسى عليه الصلاة والسلام بعد نزوله من السماء لا يسعه أن يحكم بشريعته التي بعث بها في زمانه إذا كان في الأرض قبل أن يرفع حياً إلى السماء، بل لا يحكم إلا بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وعيسى أفضل من الخضر باتفاق أهل السنة، فلو كان الخضر حياً لما وسعه إلا ذلك أي إلا أن يحكم بشريعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن الحكم التكليفي إذا في حق الفاضل فثبوته في حق المفضول من باب أولى. فكل هذا يفيدك أن بقاء حياة الخضر إنما هي نفخة شيطانية وهمزة إبليسيه أراد بها تضليل المسلمين عن عقيدتهم الصحيحة وأن يكون متنفساً لأصحاب الأهواء من الصوفية لنشر خرافاتهم ويحيلونها على الخضر لعلمهم أن أحداً لا يستطيع أن يتثبت من صحتها ومن أحال على غائب فإنه لم ينصف .(2/47)
الثامن :- أن يقال:- لو كان الخضر حياً فما الحامل على هذا الاختفاء وقد كان ظهوره أعظم لأجره وأعلى في مرتبته وأظهر لمعجزته ثم لو كان باقياً بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - لكان تبليغه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأحاديث النبوية والآيات القرآنية وإنكاره لما وقع من الأحاديث المكذوبة والروايات المقلوبة والآراء البدعية والأهواء العصبية وقتاله مع المسلمين في غزواتهم وشهوده جمعهم وجماعاتهم ونفعه إياهم ودفعه الضرر عنهم مما سواهم وتسديده للعلماء والحكام وتقريره للأدلة والأحكام أفضل مما يقال فيه من كونه في الأمصار وفي الفيافي والقفار وأنه يجتمع مع فلان وفلان كل عام ولو تفكرت في هذا الوجه لبان لك بطلان دعوى حياة الخضر إلى الآن وأنها أكذوبة الدهر وخرافة العصر فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .(2/48)
التاسع :- أن كل حديث مرفوع ليثبت بقاء حياة الخضر فإنه كذب موضوع، وهو مع كذبه مخالف للمعلوم نقلاً وعقلاً من أنه مات وانتهى أمره، وقد ذكرها العلامة أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه عجلة المنتظر في بيان أحوال الخضر وبين أنها كلها من الموضوعات المكذوبات على خير البريات - صلى الله عليه وسلم - وقد ذكر في مؤلفات ابن تيمية كتاباً اسمه:- التحرير في مسألة الخضر وهو مجلد ولم تقع عليه يدي حال كتابة هذه الوريقات . فمن ذلك:- حديث الصوت الذي سمعوه في التعزية لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمعوا صوتاً من ناحية البيت يقول:- سلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفاً من كل هالك ودركاً من كل فائت، فبالله فثقوا وإياه فارجوا فإنما المصاب من حرم الثواب، فقال علي رضي الله عنه أتدرون من هذا؟ هو الخضر عليه السلام، وهذا حديث موضوع، كما قاله الألباني رحمه الله تعالى . ومن ذلك :- حديث إن الخضر في البحر واليسع في البر يجتمعان في كل ليلة عند الردم الذي بناه ذو القرنين بين الناس وبين يأجوج ومأجوج يحجان ويعتمران كل عام ويشربان من ماء زمزم شربة تكفيهما إلى قابل وهذا حديث موضوع أيضاً كما قاله الألباني رحمه الله تعالى .ومن ذلك :- حديث يا بني كل الكرفس فإنها بقلة الأنبياء وهي طعام الخضر و إلياس وهو حديث موضوع كما قال الألباني رحمه الله تعالى . ومن ذلك حديث يلتقي الخضر و إلياس عليهما السلام كل عام في الموسم فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه ويتفرقان بهذه الكلمات:- بسم الله ما شاء الله لا يسوق الخير إلا الله ...الخ، وهذا كذب مختلف ملفق مصنوع، قال الألباني رحمه الله ( موضوع ). ومن ذلك حديث إلياس والخضر أخوان أبوهما من الفرس وأمهما من الروم قال الألباني رحمه الله تعالى ( موضوع ) .(2/49)
وهكذا في سائر الأحاديث الواردة في شأن بقاء حياة الخضر، وحيث ثبت لك ذلك فاعلم أن إثبات حياته إلى الآن من الأمور الغيبية التي لا مدخل للعقول فيها وإنما مبنى إثباتها على الأدلة الشرعية الصحيحة الصريحة وقد عرفت أنه لم يصح منها شيء يصلح أن يكون معتمداً لإثبات هذه القضية الخطيرة وأنت إذا نظرت إلى الأدلة التي يستدل بها من أثبت حياته وجدتها أدلة لا حطام لها ولا زمام بل هي المتردية والنطيحة، فإما نقل موضوع كذب مختلق وإما منام رآه بعض الناس، وإما قصص من أصحاب الطرق طرحوها بين العامة فتناقلتها العامة بلا تمحيص ولا عرضٍ على أهل العلم الراسخين فيه، وإما بفتوى أصدرها بعض أهل العلم ممن يرى حياة الخضر، ولا تجد فيها شيئاً عليه نور النبوة ولا نور الحق، وأنت خبير بأنه لا مدخل للمرويات الضعيفة ولا للنقول الموضوعة الواهية ولا لموروثات الآباء والأجداد ولا لعادات القبائل ولا لقصص العوام وخزعبلات الصوفية وإنما باب الغيب وقف على ما صح من النصوص وقد عرفت أنه لم يصح شيء في مسألة بقاء حياة الخضر مع ما عرفته من الأدلة الكثيرة في أنه مات وأن حياته كانت كحياة الناس في زمانه ويوضح ذلك الوجه العاشر .
العاشر :- أن المتقرر عند أهل العلم أن الأصل بقاء ما كان على ما كان والأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل وقد جرت سنة الله الكونية أن أهل القرن الواحد تكون أعمارهم متقاربة يزيد بعضها قليلاً أو ينقص قليلاً، والخضر داخل تحت هذا الأصل فحياته هي بعينيها كحياة سائر الناس في زمانه وهذا الأصل المتقرر لم ينقض، أي لم يأتنا دليل شرعي صحيح صريح يخرج الخضر بعمرٍ مديد بآلاف السنين وحيث لا دليل يفيد ذلك فالأصل هو البقاء على الأصل وهو أن حياته كحياة سائر أهل زمانه وقد مات أهل زمانه جزماً ولم يبق منهم أحد فيحكم عليه هو بما حكم عليهم لأنه الأصل الذي عرف من سنة الله الكونية في هذا الأمر، فتدبر هذا الوجه .(2/50)
الحادي عشر :- أن البحث في بقاء حياة الخضر لا خير فيه لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصة وبيان ذلك أن نقول:- إن الخضر لو كان موجوداً فلا يخلو إما أن يحكم بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - وإما أن يحكم بشء آخر فإن قلنا إنه يحكم بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فلا نحتاج إلى وجوده أصلاً لأن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - قد علمناها في أصولها وفروعها فالقرآن كله عندنا والسنة كلها عندنا, قد بلغها النبي - صلى الله عليه وسلم - حق البلاغ وبلغها الصحابة - رضي الله عنهم - حق البلاغ وبلغها تابعوهم حق البلاغ ولا يزال العلماء يبلغونها الخالف عن السالف بكل تفاصيلها وجزئياتها فسواء وجد الخضر أو لو يوجد فلا نحتاج له في معرفة شيء من هذه الشريعة الطيبة المباركة زادها الله شرفاً ورفعة، وأما إن كان يحكم بغير ما جاء به الشرع فلا نحتاج إلى وجوده أصلاً لأننا مأمورون بالحكم بهذه الشريعة وبمحاربة من يدعو أو أيتحاكم بغيرها كما هو معلوم من النصوص الشرعية فبالله عليك لماذا تقتحم قضية حياة الخضر ولماذا يوصف بأوصاف السوء من ينكرها ويبين الأدلة على بطلانها؟ إن هي إلا شبهة يقصد بها الأفاكون الظالمون الخارجون عن هذه الشريعة لتبرير خروجهم كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى .(2/51)
الثاني عشر : أن المتقرر في عدل الله تعالى ورحمته أن من تعلقت به نجاة الناس لا بد أن يكون موجوداً بينهم يبلغهم الحق ويدلهم على طريق النجاة وهذا لا ينكره أحد، فلو قلنا إن النجاة متعلقة بما عند الخضر من المعارف فأين هو الآن؟ وكيف السبيل إلى وجوده؟ وما الطريق لمعرفة العلوم التي عنده لتحصل بها النجا ؟ كل هذه الأسئلة لا جواب عليها لأن من يعتقدون وجوده يقولون: إنه في عالم الاختفاء ولا يظهر إلا لآحاد الناس وهذا لا يفيد شيئاً فلما كان مختفياً لا يرى ولا يعرف بحاله إلا آحاد الناس علمنا أن ما عنده من المعارف لا تتعلق بها نجاة أحد من هذه الأمة، فلسنا بحاجة لوجوده ولا للمعارف التي عنده لو كان موجوداً، وهذا الوجه فرض تسليمي جدلي وإلا فالذي نقطع به أن الخضر صاحب موسى قد مات وأما من يظهر لهؤلاء الناس ويحدثهم ويقول إنه الخضر فإنه مجهول لا ندري عن حاله فضلاً عن أننا نجزم بأنه شيطان يظهر لهم في مسلاخ إنسان ليخدعهم ويصرفهم عن الشريعة التي أمروا بإتباعها .(2/52)
الثالث عشر : أن الشيطان حريص الحرص الكامل على أن يعتقد طائفة من الناس بقاء الخضر وذلك لأنه يريد أن تعتقد هذه الطائفة جواز الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - كما أن الخضر قد خرج عن شريعة موسى فأوهمهم انه لا يزال حياً وباقياً حتى إذا جاء أحد هؤلاء بأمر مخالف لهذه الشريعة نسبه للخضر أو لمن رأى الخضر، وهذه دسيسة يعرفها أهل العلم وبينوا زيفها بأن موسى لم يبعث إلى الناس عامة وإنما بعث إلى بني إسرائيل خاصة والخضر ليس من النفر الذين بعث لهم موسى - عليه السلام -، فالخضر نبي مستقل قد بعث لتحقيق أشياء أمره الله تعالى وقد قصت علينا في القرآن ولا ندري عن الأمر بعد ذلك لكننا نجزم أنه مات وإنما أعني بقولي " ولا ندري عن الأمر بعد ذلك " أي ما كان من أفراد نبوته التي بعث بتحقيقها، فليس ممن بعث إليهم موسى - عليه السلام - ، وأما محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنه قد بعث إلى الناس كافة كما قال تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا } وبيان ذلك أن الله تعالى قد أرسل موسى ليستفيد مما عند الخضر، وكان يقول له: { فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا } وهذا لا يتصور أن يقوله واحد من الأمة لنبيه الذي أمر بإتباعه، ولأن المتقرر عندنا وعند كل مسلم أن النبي لا يحتاج في معرفة أمر الغيب إلى فرد من أفراد أمته ولأنه قال { قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } ولو كان الخضر من أمة موسى لما جاز له أن يقول هذا الكلام إذا كان يلزمه ملازمته إلى موته وغير ذلك من الأوجه الكثيرة لمن تدبرها في سياق القرآن لقصة موسى من الخضر، بل وفي سياق السنة أيضاً, والمقصود من هذا الوجه أن نثبت إن إثبات بقاء حياة الخضر تحفها مفاسد كثيرة: منها تجويز الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - كما خرج الخضر عن شريعة موسى, ومنها: اعتقاد الحاجة في معرفة أمور(2/53)
التشريع إلى ما عند الخضر وهذا فيه اتهام للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعدم البلاغ المبين, ومنها: أن في ذلك اتهاماًُ للخضر ذاته وذلك لأنه لا يخرج إلا لدراويش الصوفية ولا يراه إلا المبتدعة، وأما أهل العلم من أهل السنة والجماعة فإنه لا يظهر لهم ولا يريد صحبتهم فأي اتهام له بعد ذلك؟ ومنها:- أن في ذلك بلية عظيمة وهو أننا رجحنا سابقاً أن الخضر نبي من جملة الأنبياء وقد تقرر باستقراء حال الأنبياء أن النبوة لا تنزع ممن ثبتت له فمن ثبت بالدليل الشرعي بنبوته فإنه نبي في حياته وبعد موته وفي يوم الحشر والنشر فلو قلنا إن الخضر نبي وقلنا إنه لا يزال حياً للزم من ذلك إثبات وجود نبي بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا كفر بحد ذاته لأن المتقرر شرعاً بالأدلة أنه لا نبي بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } وقال عليه الصلاة والسلام (( وختم بي النبيون )) وقال (( ولا نبي بعدي )) وأي مفسدة بعد هذه المفسدة، فإن قلت:- أليس عيسى سينزل في آخر الزمان؟ فأقول نعم ولكن لا على أنه نبي وإنما على أنه مجدد من جملة مجددي هذه الأمة، فإن قلت:- كيف يكون مجدداً لهذه الشريعة وهو سيلغي الجزية كما في قوله " ويضع الجزية " والجزية مما جاءت بها هذه الشريعة؟ فأقول:- لا، بل إن وضع الجزية بعد نزول عيسى - عليه السلام - من شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - حكاها مقراً لها في المدح لها المجدد فوضعها في هذا الزمن شريعة إقراريه أي ثبتت بالإقرار إذا لو كان وضعها في ذلك الزمن منكراً لنبيه - صلى الله عليه وسلم - لأنه قد تقرر أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وتقرر أيضاً أن إقراره - صلى الله عليه وسلم - حجة على الجواز والمقصود أن اعتقاد حياة الخضر تنفي إلى مفاسد كثيرة ولا(2/54)
مصلحة فيها والشريعة جاءت لتقرير المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها فاعتقاد حياة الخضر والاستدلال على ذلك بما هب ودب مخالف للمقصود الأول والأصل المتقرر في هذه الشريعة المباركة زادها الله شرفاً ورفعة والحمد لله رب العالمين على هدايته والشكر له على توفيقه وامتنانه وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم والله أعلى وأعلم . قال ابن تيمية رحمه الله تعالى:- ( وكذلك يأتي الشيطان كثيراً من الناس في مواضع ويقول:- إنه الخضر وإنما كان جنياً من الجن ولهذا لم يجترئ الشيطان على أن يقول لأحد من الصحابة إنه الخضر ولا قال أحد من الصحابة إني رأيت الخضر وإنما وقع هذا بعد الصحابة وكلما تأخر الأمر حتى كثر أنه يأتي اليهود والنصارى ويقول:- إنه الخضر، ولليهود كنيسة معروفة بكنيسة الخضر وكثير من كنائس النصارى يقصدها هذا الخضر الذي يأتي هذا الشخص غير الخضر الذي يأتي هذا ولهذا يقول من يقول:- لكل ولي خضر وإنما هو جني معه )ا.هـ. قال رحمه الله تعالى:- ( القول الفصل في الخضر - عليه السلام - والصواب الذي عليه المحققون أنه ميت وأنه لم يدرك الإسلام ولو كان موجوداً في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لوجب عليه أن يؤمن به ويجاهد معه كما أوجب الله ذلك عليه وعلى غيره ولكان يكون في مكة والمدينة ولكان يكون حضوره مع الصحابة للجهاد معهم وإعانتهم على الدين أولى من حضوره عند قوم كفار ليرقع لهم سفينتهم ولم يكن مختفياً عن خير أمة أخرجت للناس وهو قد كان بين المشركين ولم يحتجب عنهم، ثم ليس للمسلمين به وأمثاله حاجة لا في دينهم ولا في دنياهم، فإن دينهم أخذوه عن الرسول النبي الأمي - صلى الله عليه وسلم - )ا.هـ. وقال رحمه الله تعالى ( وإذا كان الخضر حياً دائماً فكيف لم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك قط ولا أخبر به أمته ولا خلفاءه الراشدين وقول القائل: إنه نقيب الأولياء فيقال له: من ولاه(2/55)
النقابة، وأفضل الأولياء هم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - وليس فيهم الخضر، وعامة ما يحكى في هذا الباب من الحكايات بعضها كذب وبعضها مبني على ظن رجل، مثل شخص رأى رجلاً ظن أنه الخضر وقال أنه الخضر كما أن الرافضة ترى شخصاً تظن أنه الإمام المنتظر المعصوم، أو تدعي ذلك وروي عن الإمام بن حنبل أنه قال وقد ذكر له الخضر من أحالك على غائب فما أنصفك وما ألقى هذا على ألسنة الناس إلا الشيطان )ا.هـ. وقال رحمه الله تعالى في الجواب الصحيح: ( وتارة يرى أحدهم شخصاً إما طائراً في الهواء وإما عظيم الخلقة وإما أن يخبره بأشياء غائبة ونحو ذلك ويقول له: أنا الخضر ويكون ذلك شيطاناً كذب على ذلك الشخص ) وسئل ابن تيمية رحمه الله تعالى عن إلياس والخضر هل هما معمران؟ فأجاب: ) إنهما ليسا في الأحياء ولا معمران )ا.هـ. وسئل البخاري رحمه الله تعالى عن الخضر و إلياس هل هما في الأحياء؟ فقال: ( كيف يكون هذا وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( لا يبقى على رأس مئة سنة من هو على وجه الأرض أحد )) )ا.هـ. وسئل أبو الفرج الجوزي عن ذلك فأجاب: ( قوله تعالى { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ } وليس هما - أي الخضر و إلياس - في الأحياء )ا.هـ. والنقول عن أهل العلم في هذه المسألة كثيرة ولكن يجمعها ما ذكرته لك من الأوجه، وبعد هذا التطواف في هذه المسألة أقول: أشهد الله تعالى ومن حضرني من الملائكة أن الخضر نبي وأنه قد مات - عليه السلام - ، وأن اعتقاد حياته محدث في الشرع وبدعة وكل إحداث في الدين فهو رد والله أعلم .(2/56)
الفرع التاسع والثلاثون: بدعة سب أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، نعوذ بالله تعالى من هذه البدعة ثم نعوذ به جل وعلا من هذه البدعة، ثم نعوذ به من هذه البدعة، وهي أبرز عقائد الرافضة وقد امتلأت بها كتبهم، ألا لعنة الله على الظالمين الذين يسبون أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن سب الصحابة جريمة كبرى وموبقة عظمى وردة عن دين الإسلام وبلية لا زالت الأمة تعاني من آثارها الوخيمة ومصائبها الجسيمة ومفاسدها الخطيرة التي لا عد لها ولا حصر، وإننا نبرأ إلى الله العلي العظيم من هذه البدعة ومن القائلين بها، ولا نقول إلا كما قال ربنا جل وعلا { وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } ونحن نشهد الله تعالى وملائكته وعباده الصالحين أننا نعتقد أن الصحابة كلهم عدول ثقات أثبات وأنهم خير الأمة بعد نبيها وأنه لا كان ولا يكون مثلهم ونشهد الله تعالى أننا نحبهم ولا نفرط في حب أحد منهم وأننا نبغض في الله من يبغضهم ونمسك ألسنتنا عما شجر بينهم ونعتقد أنهم مجتهدون فالمصيب منهم له أجران والمخطئ له أجر واحد ونعتد أن أفضلهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم بقية العشرة المبشرين ثم سائر المهاجرين وكل منهم له فضله وسابقته، ونؤمن ونعتقد أن الخلافة بعد موت النبي لأبي بكر ومن بعده لعمر ومن بعده لعثمان ومن بعده لعلي رضي الله عنهم وأرضاهم، ونعتقد أنهم كانوا على الهدى والصراط المستقيم وأنهم طلاب حق لا طلاب دنيا - حاشاهم وكلا - وأنهم الأحق بكل وصف جميل وأنهم سادات الأمة بعد نبيها، وأنهم بذلوا مهجهم وأموالهم في سبيل إعلاء الدين ونشر كلمة الحق وأنهم بلغوا جميع ما تعلموه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومع ذلك فإننا لا نعتقد العصمة في(2/57)
إجماعهم وأما آحادهم فيصيب ويخطئ، وندين لله جل وعلا بالترضي عنهم جملةً وتفصيلاً، وأن لهم من الفضائل الكثيرة الجمة ما تقضي على خطئهم وزلتهم إن صدر منهم شيء من ذلك بل عن لهم من المناقب والمدائح في الكتاب والسنة ما لا يجحده إلا زنديق أو كافر أو منافق مبغض حاقد على الإسلام وأهله كما هو حال الرافضة وأما سبهم وتنقصهم والقدح في عدالتهم فإنه منهج المبتدعة الأفاكين وهو محدثة في الدين وبدعة وكل إحداث في الدين فهو رد، بل هو مصادم للنصوص الكثيرة والقواطع التي يصعب حصرها وبيان خطأ هؤلاء وضلالهم وبعدهم عن الحق من وجوه:(2/58)
الأول : أن المتقرر في الكتاب العزيز مدح الصحابة - رضي الله عنهم - والثناء عليهم بصفات المدح والرضا والاستقامة على الدين وقد تقرر في قواعد أهل السنة أن كل من أثنى الله عليه خيراً في القرآن فإنه يموت على ذلك، قال تعالى { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } والوسط أي الخيار العدول وهي خطاب لصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المقام الأول وخطاب لسائر الأمة في المقام الثاني وهي تزكية ربانية بأنه خيار عدول ثقات أثبات وأنهم خير الأمم وأنهم شهداء على من سبق من الأمم، وقال تعالى { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } وهذا بيان أن هذه الأمة المرحومة هي خير الأمم وأفضلها وأزكاها عند مليكها وأرفعها شأناً وأعلاها مرتبة والصحابة يدخلون في هذه الخيرية دخولاً أولياً لأنهم أول من خوطبوا بهذه الآية، فهم بنص القرآن خير أمةٍ أخرجت للناس، فكيف مع ذلك يسبون أو يقدح في عدالتهم وقد زكاهم ربهم بهذه التزكية العظيمة الفاخرة التي لا مثيل لها في سائر الأمم، مع علمه جل وعلا بما كانت تكنه صدورهم وما تخفيه ضمائرهم وما ستئول إليه أحوالهم وما سيختم لهم به، هذا والله لا يكون أبداً، بل حقهم الترضي عنهم ونشر مناقبهم وإحياء فضائلهم في الأمة لأن آخر الأمة لن يصلح إلا بالاستمساك بغرزهم والتأدب بهديهم والسير على منهجهم باطناً وظاهراً في الاعتقادات والأقوال والأعمال، وقال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ(2/59)
فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } هذه الآية الكريمة، الخطاب فيها موجه لعباد الله المؤمنين إلى أن تقوم الساعة وهي تتضمن وعداً من الله عز وجل لهذه الأمة وهذا الوعد هو أن من ارتد عن دين الإسلام فإنه يأتي سبحانه بقوم ينصرون هذا الدين، وبين سبحانه أنهم يحبهم ويحبونه وأن فيهم رقة ولينا لإخوانهم المؤمنين كما أنهم متصفون بالغلظة والشدة على الكافرين وأنهم يجاهدون في سبيل الله من كفر بهذا الدين ولا يخافون في الحق لومة اللائم، وهذه الصفات الطيبة وإن كان متحققة في عامة المؤمنين، إلا أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقعد وأحق وأولى بهذه الصفات من كل مؤمن، فإن من نظر في سيرهم وسير أحوالهم تبين له - إن كان عادلاً منصفاً - بأنهم أحق من اتصف بهذه الصفات وأحقية اتصافهم بها لا تنفي اتصاف غيرهم به, لكنهم أولى وأحق ممن تصدق عليهم هذه الصفات، وقال تعالى { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } والموصوفون في الآية الأولى من هذه الآيات بالصفات الثلاث التي هي الإيمان والهجرة والجهاد هم المهاجرون الأولون(2/60)
الذين تركوا ديارهم وأموالهم وأولادهم إيثاراً لله ولرسوله من أجل إعلاء كلمة الله وإظهار الدين الإسلامي الحنيف على سائر الأديان سواه, لأنه الدين الحق الذي لا يقبل الله تعالى من أحد ديناً سواه والموصوفون بالإيواء والنصرة في الآية نفسها هم الأنصار الذين هم الأوس والخزرج فإنهم آووا الرسول وأصحابه المهاجرين في منازلهم, ونصروهم بمقاتلة عدوهم وقد وصفهم الله تعالى بأنهم أولياء بعض والموالاة هي المحبة والنصرة ووصفهم جل وعلا بأنهم هم المؤمنون حقاً, وهو وصف من الذي يعلم السر وأخفى وعدهم سبحانه بأنه سيجازيهم على ذلك بالرزق الواسع الكريم الحلال الطيب وبالجنة وبالمغفرة في الآخرة, فهذه صفات أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهل يجوز مع هذه التزكية والمدح والثناء والتعظيم أن تطولهم الألسنة بسب أو قدح أو ذم؟ لا والله هذا لا يكون أبداً ولكن الرافضة قوم بهت كذابون زنادقة نعوذ بالله من حالهم، وقال تعالى { لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } وهذا ثناء آخر على الصحابة الأطهار من المهاجرين والأنصار ألا وهو إخباره تعالى أنه من لطفه أن تاب عليهم فغفر لهم الزلات ووفر لهم الحسنات ورقاهم إلى أعلى الدرجات وذلك بسبب قيامهم بالأعمال الصعبة الشاقة خير قيام، وذلك في خروجهم معه - صلى الله عليه وسلم - لقتال الأعداء في غزوة تبوك وكانت كما هو معلوم في حر شديد وضيق من الزاد والركوب وكثرة عدد العدو فاستعانوا بالله تعالى وبذلوا مهجهم وأموالهم وأنفسهم في سبيل الله تعالى وإعلاء كلمة الحق وهذا الثناء العاطر دليل على صدق إيمانهم وسلامة نفوسهم ولذلك فقد تاب الله عليهم ومن أخبر الله تعالى أنه تاب عنه فقد تحققت سعادته في الدنيا(2/61)
والدار الآخرة وقال تعالى { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } وقال تعالى { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } وقال تعالى في حق أبي بكر { وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ } وقال تعالى { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } وقد نفى الله عنهم الخزي في قوله { يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ...الآية } والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً لا تكاد تحصر، فهذه المدائح وهذا الثناء من الله العلي الأعلى وردت مورد الأخبار فلا نسخ ولا خلف فيها كما هو مقرر عند أهل السنة في علم الأصول، ومن أثنى الله عليه خيراً في القرآن فإنه(2/62)
سيموت على ذلك ومن أثنى الله عليه شراً في القرآن فإنه سيموت على ذلك أيضاً، فالقرآن إذا تكلم عن الصحابة فإنه يذكر بأجمل الصفات ويثني عليهم بأعظم المدح والثناء والقرآن لا خلف في أخباره، وهذه المدائح هي التي جعلت الرافضة قبحها الله تشكك في مصداقية هذا الكتاب وتزعم أنه ليس هو القرآن المنزل، وأن الصحابة قد زادوا فيه ونقصوا منه، لأن هذه المدائح وهذا الثناء قد أخذ بحلوقهم ولم يدعهم ينشروا مذهبهم الباطل في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولك الحق ثابتٌ ثابت ثابتٌ ولو كره الكافرون وتهافت عليه الزنا دقة المشركون، فهذه النصوص القرآنية في مدح الصحابة والثناء عليهم دليل على أن ما جاء به الرافضة إنما هو محدثة في اعتقاد المسلمين وبدعة وكل إحداث في الدين فهو رد .(2/63)
الثاني :- أن المتقرر في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو مدح الصحابة والثناء عليهم على الإجمال والتفصيل فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي بردة عن أبيه - رضي الله عنه - قال صلينا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -...الحديث وفيه: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( النجوم أمنة السماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون )) وروى الشيخان في صحيحهما من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( يأتي على الناس زمان يغزو فئام من الناس فيقال لهم: هل فيكم من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقولون نعم فيفتح لهم ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم: هل فيكم من رأى من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقولون نعم فيفتح لهم, ثم يغزو فئام من أمتي فيقال لهم هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقولون نعم فيفتح لهم )) ولهما أيضاً من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الناس خير؟ قال: (( قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تبدر شهادة أحدهم يمينه وتبدر يمينه شهادته )) والحق هو قول الجمهور من أن الأفضلية والخيرية في قرن الصحابة إنما هي باعتبار الأفراد وليس باعتبار المجموع فقط لأن الصحبة لا يعدلها شيء من الفضائل وأما الأحاديث الدالة على فضل آحادهم فهي مما لا يكاد يحصر كثرة ونكتفي هنا في بعض الأحاديث والفضائل للخلفاء الأربعة ولبعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد الفضل والعون: فأما أبو بكر - رضي الله عنه - فقد روى الشيخان في صحيحهما من حديث أنس ابن مالك - رضي الله عنه - أن الصديق حدثه فقال:- نظرت إلى أقدام المشركين على(2/64)
رؤوسنا ونحن في الغار فقلت يا رسول الله: لو نظر أحدهم إلى قدميه أبصرنا فقال (( يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما )) وللبخاري من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - قال:- خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال (( إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده )) قال:- فبكى أبو بكر فعجبنا لبكائه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذاً غير ربي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن أخوة الإسلام ومودته لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر )) وله من حديث ابن عباس نحوه وفيه (( ولكن أخي وصاحبي )) وفي رواية (( ولكن أخوة الإسلام أفضل )) وللبخاري ومسلم من حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه على جيش ذات السلاسل فأتيته فقلت:- أي الناس أحب إليك؟ قال:- (( عائشة )) فقلت من الرجال؟ قال (( أبوها )) قلت ثم من؟ قال (( عمر )) فعد رجالاً، ولهما أيضاً من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( بينا راع في غنمه، فعدا عليه الذئب فأخذ شاة منها فطلبه الراعي فالتفت إليه الذئب فقال:- من لها يوم السبع، يوم ليس لها راع غيري وبينا رجل يسوق بقرة قد حمل عليها فالتفتت إليه فكلمته فقالت:- إني لم أخلق لهذا ولكني خلقت للحرث )) فقال الناس سبحان الله، فقال عليه السلام (( فإني أومن بذلك وأبو بكر وعمر ابن الخطاب )) وللبخاري أيضاً بسنده إلى أبي الدرداء - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حق أبي بكر - رضي الله عنه - (( إن الله بعثني إليكم فقلتم:- كذبت وقال أبو بكر صدقت وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركو لي صاحبي )) مرتين (( فما أوذي بعدها )) وفي الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( من أصبح منكم اليوم صائماً؟ )) قال أبو بكر:- أنا، فقال (( من تبع(2/65)
منكم اليوم جنازة؟ )) قال أبو بكر:- أنا، قال (( فمن عاد منكم اليوم مريضاً؟ )) قال أبو بكر:- أنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( ما اجتمعن في أمريء إلا دخل الجنة )) وقال عليه الصلاة والسلام لما اهتز بهم أحد ومعه أبو بكر وعمر وعثمان (( أثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان ))"رواه البخاري" وله في صحيح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( من أنفق زوجين من شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب - يعني الجنة - يا عبد الله هذا خير فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان )) فقال أبو بكرٍ - رضي الله عنه -:- ما على هذا الذي يدعي من تلك الأبواب من ضرورة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( نعم وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر )) واتفق أهل السنة على أنه أفضل هذه الأمة بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم - واتفقوا على أن الخليفة الأول لرسول الهدى عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم واتفقوا على أنه مات على الإسلام والإيمان واتفقوا على أنه أحب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتفقوا على إثبات فضيلته في حروب أهل الردة، وفضائله - رضي الله عنه - أشهر من أن تذكر وأكثر من أن تحصر فرضي الله عنه وأرضاه وجمعنا به في الجنة، وأما عمر الفاروق أبو حفص فاتفق أهل السنة على أنه الخليفة الثاني لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتفقوا على أنه أفضل هذه الأمة بعد أبي بكر واتفقوا على أن خلافته حق وأنها كانت بالعهد إليه من أبي بكر - رضي الله عنه -، واتفقوا على إن إسلامه كان فتحاً وهجرته نصراً وإمارته رحمة وأن إسلامه كان فرجاً من الله لعباده وفي الصحيحين من حديث جابر - رضي الله عنه - قال:- قال رسول الله -(2/66)
صلى الله عليه وسلم - (( رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة وسمعت خشفة فقلت من هذا؟ فقال هذا بلال ورأيت قصراً بفنائه جارية فقلت لمن هذه؟ فقال: لعمر فأردت أن أدخله فأنظر إليه فذكرت غيرتك )) فقال عمر: بأبي وأمي أنت يا رسول الله أعليك أغار، ولهما أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال:- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما دون ذلك ورأيت عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره )) قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال (( الدين )) ولهما أيضاًً من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( بينا أنا نائم رأيتني في الجنة فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر فقلت لمن هذا القصر؟ قالوا لعمر فذكرت غيرته فوليت مدبراً )) فبكى عمر وقال: أعليك أغار يا رسول الله، وللبخاري من حديث حمزة بن أسيد الأنصاري عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال (( بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت منه حتى إني لأرى الري يخرج من أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر )) قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال (( العلم )) وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له (( يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً آخر )) ولهما أيضاً من حديث عبدالله ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( أرأيت في المنام أني أنزع بدلو بكرة على قليب فجاء أبو بكر فنزع ذنوباً أو ذنوبين نزعاً ضعيفاً والله يغفر له )) ثم جاء عمر بن الخطاب فاستحالت غرباً فلم أر عبقرياً يفري فريه حتى روى الناس وضربوا بعطى، ولهما أيضاً من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون فإن يك محدث في أمتي فإنه عمر )) وللحاكم(2/67)
بسندٍ حسن عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول (( لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب )) وقد كان عمر - رضي الله عنه - يقول الرأي ويشير بالقول فينزل القرآن بموافقته كما في قوله:- يا رسول الله لو حجبت نساءك فنزلت آية الحجاب، وقال:- يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، وذلك في وقائع متعددة وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنه من الشهداء بقوله السابق (( اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان )) وقد بشره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة كما في حديث أبي موسى الأشعري عند البخاري (( افتح له وبشره بالجنة )) والأحاديث في فضائله ومناقبه كثيرة فرضي الله عنه وأرضاه وجمعنا به في الجنة، وأما عثمان بن عفان ذو النورين فقد انعقدت كلمة أهل السنة في آخر الأمر على أنه أفضل الأمة بعد نبيها وأبي بكر وعمر واتفقوا على أنه الخليفة الثالث وكانت خلافته باختيار أهل الشورى له واتفقوا على أنه أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ومن الخلفاء الراشدين الذين أمرنا بإتباع سنتهم وقد روى البخاري في صحيحة من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال (( كنا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نعدل بأبي بكر أحداً ثم عمر ثم عثمان ثم نترك أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نفاضل بينهم )) وفي حديث أبي موسى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حق عثمان - رضي الله عنه - (( افتح له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه )) وهو الذي حفر بئر رومه وجعل دلوه فيه كدلاء المسلمين وقد قال عليه الصلاة والسلام (( من حفر بئر رومه فله الجنة )) وهو الذي تولى تجهيز جيش العسرة فغالب نفقات الجيش كانت من ماله وقد قال عليه الصلاة والسلام (( من جهز جيش العسرة فله الجنة )) وفي حديث العشرة المبشرين بالجنة (( وعثمان في الجنة )) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حقه لما جاء(2/68)
بألف دينار حين جهز جيش العسرة (( ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم )) يرددها مراراً "رواه أحمد في المسند بسند حسن" وقال عليه الصلاة والسلام في حقه (( ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة ))"رواه مسلم في صحيحة" وهو من الشهداء بخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله (( اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان )) وكان عثمان - رضي الله عنه - معهم، وقد بايع عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بيده الشريفة في بيعة الرضوان لأنه كان مبعوثاً لمكة لإبلاغ أهل مكة أنه جاء معتمراً لا محارباً ومن مناقبه إجماع الصحابة على توليته، ومن مناقبه أنه جمع الناس على مصحف واحد بعد أن كادت الأمة أن تقع في الاختلاف في القرآن، ومن مناقبه إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه بأنه على الهدى في زمن الفتنة واختلاف الأمة في قوله (( هذا يومئذٍ على الهدى )) فنقسم بالله تعالى أنه على الهدى وأن خلافته حق وأنه مات على الإيمان وأنه من الشهداء عند الله تعالى فرضي الله عنه وأرضاه وجمعنا في الجنة، وأما علي - رضي الله عنه - فهو أبو السبطين الحسن والحسين، وهو رابع الخلفاء الراشدين والأئمة المهتدين وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد أصحاب الشورى، وتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنه راض، وفي الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله )) وكانت من نصيب علي - رضي الله عنه -، وقال عليه الصلاة والسلام في حقه (( أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ))"متفق عليه" وقد نفض النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه التراب بيده الشريفة وقال له (( قم أبا تراب قم أبا تراب ))"متفق عليه" ولمسلم في صحيحة من حديث علي - رضي الله عنه - أنه قال (( والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي إلي أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق )) وللبخاري في(2/69)
صحيحة من حديث البراء ابن عازب رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي (( أنت مني وأنا منك )) وثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - دعا له بقوله (( اللهم ثبت لسانه واهدي قلبه ))"رواه الحاكم" وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وللحاكم أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن بعض شكا علياً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال (( أيها الناس لا تشكوا علياً فو الله إنه لأخشن في ذات الله وفي سبيل الله ))"وهو حديث حسن" وقد شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه في الجنة بقوله في حديث العشرة (( وعلي في الجنة )) وفي المستدرك من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال:- مشيت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى امرأة فذبحت لنا شاة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( ليدخلن رجل من أهل الجنة )) فدخل أبو بكر - رضي الله عنه -، ثم قال (( ليدخلن رجل من أهل الجنة )) فدخل عمر - رضي الله عنه -، ثم قال (( ليدخلن رجل من أهل الجنة اللهم إن شئت فاجعله علياً )) فدخل علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وقال الحاكم:- صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وقال عليه الصلاة والسلام وقد دخل على علي وفاطمة (( إني وإياك وهذا النائم - يعني علياً - وهما - يعني الحسن والحسين - لفي مكانٍ واحد يوم القيامة ))"رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي" وروى أبو عمر بن عبدالبر في الاستيعاب بإسناده إلى سعيد بن المسيب قال (( كان عمر يتعوذ من معضلة ليس لها أبو حسن )) أي علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وذلك دليل على عظمة فهمه ووفور فقهه ودقة استنباطه - رضي الله عنه - وأرضاه، وانعقد إجماع أهل السنة على فضله وإثبات مناقبه وأن خلافته حق وصلاح وهدى، فهذه بعض الفضائل الصحيحة في فضل الخلفاء الأربعة ولو جمعت كل فضائلهم لصارت سفراً كبيراً، فرضي الله عنهم وأرضاهم وجزاهم الله تعالى خير الجزاء وجمعنا(2/70)
بهم في الجنة { َرَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } فنشهد الله تعالى على حبهم جميعاً ونتعبد لله تعالى بذلك وبالترضي عنهم جميعاً وأفراداً والله ربنا أعلى وأعلم .
} فصل {
وأما بقية الصحابة فلهم أيضاً من الفضائل ما ثبتت به الأدلة النيرات ونرى أنه من المناسب جداً أن نذكر بعض هذه الفضائل لجملة كبيرة من الصحابة ليستنير هذا الكتاب بذكرهم والترخي عنهم وإثبات فضائلهم ومناقبهم فأما عائشة رضي الله عنها فإنها أم المؤمنين والصديقة بنت الصديق وحبيبة رسول رب العالمين والمبرأة من فوق سبع سماوات، وقد سبق لنا حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الناس أحب إليك قال (( عائشة ...الحديث )) وفي البخاري من حديث عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم (( يا عائش هذا جبريل يقرئك السلام )) فقلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته ترى ما لا أرى، تريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي الصحيحين من حديث أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام )) ولما خبرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت (( فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة )) وقال عليه الصلاة والسلام (( أريتك في المنام ثلاث ليال، جاءني بك الملك في سرقة من حرير فيقول هذه امرأتك )) فأكشف عن وجهك فإذا أنت هي، فأقول: إن يك هذا من عند الله يمضه وقال عليه الصلاة والسلام (( يا أم سلمه لا تؤذيني في عائشة فإنه والله ما نزل على الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها ))"رواه البخاري" واتفق أهل العلم أنها من فقيهات الصحابة وقد كان الصحابة ربما يختلفون فيفصل بينهم قولها وذلك في وقائع متعددة واتفق(2/71)
أهل العلم أنها زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجنة واتفقوا على أنها بريئة مما نسبه إليها المنافقون أعداء الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - واتفقوا على أن من نسبها إلى ذلك بعد التبرئة فإنه مرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل لأنه مكذب للقرآن، ألا أبعد الله من قال ذلك وأقصاه وأهلكه، وأما خديجة بنت خويلد رضي الله عنها فهي حبيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأول أزواجه وأم أولاده، وقد واسته بمالها ونفسها وثبتته في أول دعوته، وحزن النبي - صلى الله عليه وسلم - لموتها حزناً شديداً ولم يتزوج عليها حتى ماتت وقد ثبت في الأحاديث أنها من سيدات نساء أهل الجنة كما سيأتي طرف منها عند ذكر فاطمة رضي الله عنها، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر من ذكرها والثناء عليها بالجميل حتى كان يذبح الشاة ويهديها إلى صويحباتها وفي الحديث (( أن جبريل أقرأها السلام وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب )) وفضائلها كثيرة ومناقبها شهيرة رضي الله عنها وأرضاها وجمعنا بها في الجنة وأما حفصة رضي الله عنها فهي ابنة الفاروق وزوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد روى الطبراني بسندٍ حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( أتاني جبريل عليه السلام فقال:- راجع حفصة فإنها صوامة قوامة وإنها زوجتك في الجنة )) وقد كانت على جانب عظيم من رفعة مكانتها وجلالة قدرها وهي أم المؤمنين باتفاق أهل السنة، وأما زينب بنت خزيمة فهي أم المؤمنين أيضاً، وأم المساكين بصفة خاصة لكثرة إطعامها لهم، وهي زوجة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الآخرة، وأما أم سلمة رضي الله عنها فإنها أم المؤمنين أيضاً باتفااق أهل السنة وقد تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موت أبي سلمه - رضي الله عنه -، وهي التي شرفت برؤية جبريل - عليه السلام - في صورة دحيه الكلبي فقد روى الشيخان في(2/72)
صحيحهما عن معتمر ابن سليمان التيمي قال سمعت أبي عن أبي عثمان قال:- أنبئت أن جبريل أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده أم سلمه فجعل يتحدث فقال عليه الصلاة والسلام لأم سلمه (( من هذا؟ )) أو كما قال، فقالت:- دحيه، فلما قام قالت:- والله ما حسبته إلا إياه حتى خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - يخبر خبر جبريل، وقد شهد لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنها على خير في حديث الكساء وقد حصل ذلك في بيت أم سلمه رضي الله عنها لما قالت له: وأنا معهم يا رسول الله؟ قال (( أنت على مكانك وأنت على خير ))"رواه الترمذي وسنده جيد" وقد كانت سديدة الرأي وذلك لما أشارت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عام الحديبية حينما أمر أصحابه أن يحلقوا رؤوسهم وينحروا هديهم فتثاقلوا ذلك طمعاً منهم في أن يدخلوا مكة ويطوفوا بالبيت رضي الله عنهم وأرضاهم والقصة عند البخاري في حديث طويل والشاهد منه أن أم سلمه رضي الله عنها أشارت عليه بأن يقوم ولا يكلم أحداً بكلمة حتى ينحر هديه ويحلق رأسه ففعل ما أشارت به ففعل الصحابة كلهم ذلك فانظر إلى سداد الرأي فرضي الله عنها وأرضاها وجمعنا بها في الجنة، وأما زينب بنت جحش فهي أم المؤمنين أيضاً، كما في قوله { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } أي في التحريم لا في المحرمية، وقد شهد لها الرب جل وعلا بالإيمان في قوله { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } فالمراد بالمؤمنة هنا زينب بنت جحش، وقد كانت تفتخر على سائر أزواجه - صلى الله عليه وسلم - بقولها:- زوجكن أهاليكن وأنا زوجني الله من فوق سبع سماواها، كما رواه البخاري في صحيحة وذلك في قوله جل وعلا { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا } وقد روى مسلم في صحيحة من حديث عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله - صلى الله(2/73)
عليه وسلم - (( أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً )) قالت:- فكن يتطاولن، أيتهن أطول يداً قالت:- فكانت أطولنا يداً زينب لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق، وله أيضاً عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:- فأرسل أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - زينب بنت جحش زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي التي كانت تساميني منهن في المنزلة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم أر امرأة قط خيراً في الدين من زينب وأتقى لله وأصدق حديثاً وأوصل للرحم وأعظم صدقة وأشد ابتذالاً لنفسها في العمل الذي تصدق به، وهذه شهادة من الصديقة عائشة رضي الله عنها وتزكية عظيمة لزينب بنت جحش، فرضي الله عنها وأرضاها وجمعنا بها في الجنة، وكل أزواجه لهن من الفضائل ما لا يحصى ومن المناقب ما لا يعد، وأما بناته - صلى الله عليه وسلم - فهن زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة رضي الله عنهن وأرضاهن ولكل واحدة منهن لها فضلها ومناقبها، وأكثرهن فضلاً فاطمة وهي أصغرهن فيما حققه ابن عبدالبر، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحبها حباً شديداً ويسر لسرورها ويغضب لغضبها، فقد روى الحاكم في المستدرك عن بريده - رضي الله عنه - قال:- (( كان أحب النساء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاطمة ومن الرجال علي )) "إسناده جيد" وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حقها (( فإنما ابنتي مني يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها )) ولهما أن علياً لما أراد أن ينكح ابنة أبي جهل قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( وإن فاطمة بنت محمد مضغة مني وإنما أكره أن يفتنوها وإنها والله لا تجتمع بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبنت عدو الله عند رجل واحد أبداً )) قال فترك علي الخطبة، وروى الطبراني بسند رجاله ثقات من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إن الله أمرني أن أزوج فاطمة من علي )) وروى الترمذي بسند صحيح عن أنس بن مالك -(2/74)
رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون )) وللحاكم في المستدرك بسندٍ صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( أفضل نساء الجنة خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وامرأة فرعون )) وقال عليه الصلاة والسلام (( فاطمة سيدة نساء أهل الجنة )) ذكره البخاري تعليقاً، وهي من آل البيت الذين جللهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكساء وقال (( اللهم هؤلاء هم أهل بيتي، أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً )) فرضي الله عن سائر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأرضاهم وجمعنا بهم في الجنة .
} فصل {(2/75)
وأما الحسن والحسين رضي الله عنهما فهما ريحانتا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسيدا شباب أهل الجنة فقد روى الحاكم في المستدرك عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وأبوها خير منهما ))"وصححه ووافقه الذهبي" وقال عليه الصلاة والسلام في حق الحسن (( إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين ))"رواه البخاري" وقد حصل ذلك لما تنازل عن الخلافة لمعاوية - رضي الله عنه - وحقنت دماء المسلمين وتم الصلح بين الفئات المتقاتلة، وقد روى الشيخان في صحيحهما عن البراء ابن عازب - رضي الله عنه - قال رأيت الحسن بن علي عانق النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول (( اللهم إني أحبه فأحبه )) وللبخاري بسنده عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال (( لم يكن أحد أشبه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من الحسن بن علي )) وروى الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه لقي الحسن بن علي فقال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل بطنك فاكشف الموضع الذي قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبله قال: وكشف له الحسن فقبله، وأما الحسين فقد كان أيضاً شديد الشبه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وقد قال عليه الصلاة والسلام (( حسين مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حسينا, حسين سبط من الأسباط )) "رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي" وروى أبو يعلى بسنده إلى جابر - رضي الله عنه - قال (( من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى الحسين بن علي فإني سمعت الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقوله )) "وسنده جيد" وروى البخاري في صحيحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حق الحسن والحسين (( هما ريحانتي من الدنيا )) وفي جامع الترمذي وصححه أنه عليه الصلاة والسلام قال لفاطمة رضي الله عنها (( ادعي لي ابني فيشمهما ويضمهما إليه )) وللحاكم وصححه ووافقه(2/76)
الذهبي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حقهما (( من أحبهما فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني )) ونحن نشهد الله تعالى - معاشر أهل السنة - أننا نحبهما ونتولاهما ونترضى عنهما ونعرف قدرهما ونؤمن بكل مناقبهما وفضائلهما ولكن لا نغلو فيهما كما غلت الرافضة، وبالجملة فإن فضائل الصحابة قد سارت بها الركبان ودونت في الصحاح والسند والمعاجم ومجامع الحديث ولا يزال أهل السنة ينشرونها في الأمة ويدونونها من جملة عقائدهم المباركة، كما سيأتي طرق من ذلك إنشاء الله تعالى .
} فصل {
فإن سألت وقلت: ما حكم ساب أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟ فأقول: هذه المسألة فيها تفصيل وذلك في أمور:(2/77)
الأول : اعلم أولاً أن سب أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - محرم تحريماً قاطعاً بدلالة الكتاب والسنة والإجماع والعقل السليم والفطرة الطاهرة التي لم تتلوث بعقيدة الرافضة، فأما الكتاب فقد سقنا لك آيات كثيرة تنص على تزكيتهم وعدالتهم والترضي عنهم وأنهم خير هذه الأمة وأن الله تعالى قد أعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار وأنه رضي الله عنهم ورضوا عنه وغير ذلك من المدائح الكثيرة الثابتة لهم في كتاب الله تعالى, وسبهم مناقض ومضاد لهذه الأخبار القطعية ومصادم لمقصود الرب جل وعلا ومحاربة لمن زكاه الله جل وعلا وما كان كذلك فهو محرم قطعاً, وكذلك قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا } ومما يؤذيه - صلى الله عليه وسلم - سب صحابته - رضي الله عنهم - فساب الصحابة داخل في هذا الوعيد والتهديد الشديد، ولأن الله تعالى قال { لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } وهذا دليل على أن الذي يقدح فيهم بسب أو تنقص إنما ذلك لما اشتمل عليه قلبه من الغيظ عليهم ولا يغتاظ بهم إلا الكفار فدل ذلك على تحريم سبهم، وأما السنة:- فقد روى الشيخان في صحيحهما من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )) ولأحمد في المسند بسندٍ صحيح (( دعوا لي أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد ذهباً أو مثل الجبال ذهباً لما بلغتم أعمالهم )) وللطبراني بسندٍ جيد (( لا تسبوا أصحابي لعن الله من سب أصحابي )) وقال عليه الصلاة والسلام (( من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين )) ذكره السيوطي في الجامع الصغير وحسنه الألباني رحمه الله تعالى وفي الصحيح (( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر )) فكيف بسباب(2/78)
سادات المسلمين من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال عليه الصلاة والسلام (( إذا ذكر أصحابي فأمسكوا ))"وصححه الألباني" وقال عليه الصلاة والسلام (( أحسنوا إلى أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ))"رواه أحمد في المسند وسنده جيد" وأما الإجماع فقد اتفق علماء أهل السنة على تحريم سب الصحابة والوقيعة فيهم إجماعاً قطعياً معلوماً عنهم بالتواتر ولا يزال ينقله الخالف عن السالف فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما ( لا تسبوا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فلمقام أحدهم ساعة يعني مع النبي - صلى الله عليه وسلم - خير من عمل أحدكم أربعين سنة ) رواه ابن بطة، ولما وقع رجل في عائشة رضي الله عنها قام له عمار فقال له:- اجلس مقبوحاً منبوحاً أنت تقع في حبيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فو الله إنها لزوجته في الدنيا والآخرة، وقال سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى:- قلت لأبي ما تقول في رجل سب أبا بكر؟ قال:- يقتل، قلت:- ومن سب عمر؟ قال يقتل، وقال عبد الله بن الحسن بن علي - رضي الله عنهم -:- ما أرى رجلاً يسب أبا بكر وعمر تيسر له توبة أبداً، وقال عبدالرحمن بن عمرو الأوزاعي:- من شتم أبا بكر - رضي الله عنه - فقد ارتد عن دينه وأباح دمه، وقال مالك بن أنس رحمه الله تعالى:- الذي يشتم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس له سهم، أو قال:- لا نصيب له في الإسلام، وقال المهدي لعبدالله بن مصعب:- ما تقول في الذين يشتمون أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال:- زنادقة، وقال أبو بكر بن عياش: لا أصلي على رافضي ولا حروري لأن الرافضي يجعل عمر كافراً والحروري يجعل علياً كافراً، وقال بشر بن الحارث:- من شتم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر وإن صام وصلى وزعم أنه من المسلمين، وقال أبو بكر المروزي:- سألت أبا عبدالله عمن شتم أبا بكر وعمر وعثمان وعائشة - رضي الله عنهم - فقال:- ما أراه على(2/79)
الإسلام، والآثار والنقول في ذلك كثيرة لا تكاد تحصى إلا بكلفة، وأما دلالة العقل فمن وجوه :-
أحدها :- أن القدح في الناقل قدح في المنقول، فإذا قدح في الصحابة فإن ذلك يتضمن القدح في القرآن والقدح في السنة وهذا قدح في الشريعة كلها ونسف لها وهذا باطل كل البطلان وما أدى إلى الباطل فهو باطل .
ثانيها :- أن القدح في الصحابة قدح في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ كيف لا يختار لصحبته إلا هؤلاء الذين حقهم السب والقدح، وأي قدح في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذا .
ثالثها :- أن القدح فيهم وسبهم تكذيب للقرآن الذي جاء بمدحهم والرضا عنهم والثناء عليه وهذا هو الكفر بعينه والضلال برمته وجذوره .
رابعها :- أن القدح فيهم إيذاء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتنقص له وهذا باطل وما أفضى إلى الباطل فهو باطل .
وأما الفطرة السليمة فإن كل ذي فطرة صافية نقية تجزم جزماً بأن الصحابة هم خير هذه الأمة وأفضلها بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم - وأن الحق هو حبهم لما لهم من الأثر الكبير في حفظ الشرع وبذل الغالي والنفيس والمهجة في نصرة الدين وجهاد أعدائه ونشر السنة والتفقه في الدين والحرص الكامل على من يأتي بعدهم بتصفية المعتقد من الشبهات والأعمال من الشهوات فهم خير قدوة وأكمل أسوة وإن من نظر في سيرهم وأحوالهم ومواقفهم الرجولية البطولية ليجد في فطرته تعظيمهم ومجتهم فرضاً لازماً لا يستطيع دفعه عن فطرته، وهذا يحسه كل ذي فطرة سليمة وأما من تلوثت فطرته بفاسد الاعتقاد وخبيث النوايا فمالنا عليه من سلطان والله يتولاه وهو الذي يجازيه بعمله يوم تجتمع الخصوم بين يديه والله ربنا أعلى وأعلم .(2/80)
الأمر الثاني :- اعلم رحمك الله تعالى أن السب إذا كان متوجهاً إلى الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فإن ذلك ردة وكفر في قول غالب أهل السنة رحمهم الله تعالى وذلك لأنه - أي السب - يتضمن تكذيب النصوص القاطعة المتواترة تواتراً معنوياً بفضلهما وعدالتهما وتزكيتهما وتكذيب النص القاطع كفر وردة، ولأن الأمة قد أجمعت على فضلهما وعدالتهما وأنهما خير أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا إجماع قطعي الثبوت قد ثبت بالتواتر وقد تقرر أن مخالف الإجماع القطعي كافر كما حققه أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى .
الأمر الثالث :- إذا كان سبه متوجهاً لعموم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو لجملتهم إلا نفراً قليلاً فإنه كذلك يكفر على القول الصحيح عند أهل السنة بل هو قول غالب أهل السنة رحمهم الله تعالى، واختاره الصحابي الجليل عبدالرحمن بن أبزى وعبدالرحمن بن عمرو الأوزاعي وأبو بكر بن عياش وسفيان بن عيينة ومحمد بن يوسف الفريابي وبشر بن الحارث المروزي ومحمد ابن بشار العبدي وابن تيمية وهو مذهب جماهير أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية رحمهم الله تعالى رحمة واسعة وذلك لتكذيب النصوص القرآنية والنبوية القاطعة بعدالتهم ومدحهم بالرضا عنهم والثناء عليهم بالتزكية والتوثيق ووصفهم بأحسن الصفات وتحريم سبهم كما ذكرنا لك طرفاً من ذلك في الأدلة السابقة من الكتاب والسنة ولا شك أن تكذيب ذلك وجحده كفر وردة .(2/81)
الأمر الرابع :- إذا كان السب متوجهاً لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالقدح في عدالتها وأمانتها أو رميها بما برأها الله تعالى منه فهذا كفر وردة أيضاً لأنه تكذيب للقرآن في تبرئتها ولأنه إيذاء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإيذاء للمؤمنين جميعاً في قذف أمهم بهذه العظائم التي برأها الله تعالى منها، وهذا كفر وردة، وقد نقل القاضي أبو يعلى والنووي وابن القيم وابن كثير على كفر قاذفها بالفاحشة، وهذا إجماع قطعي الثبوت، وقطعي الدلالة ومخالف مثل ذلك الإجماع كافر مرتد .
الأمر الخامس :- إذا كان القدح والشتم والسب متوجهاً إلى واحدة من أمهات المؤمنين من أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا أيضاً كفر وردة على القول الصحيح الذي لا ريب فيه واختاره ابن حزم والقاضي عياض وابن تيمية والحافظ ابن الكثير وغيرهم من أهل العلم رحم الله الجميع رحمة واسعة ويدل لذلك القول أن القدح فيهن قدح في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه طيب وقد قال تعالى { الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ } ولأن سبهن وشتمهن إيذاء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أهل بيته وقد قال تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا } ومن المعلوم أن العذاب المهين لم يصدر إلا في حق الكفار كما أفاده ابن تيمية رحمه الله تعالى، ولذلك فإنه لما حصلت حادثة الإفك قام النبي - صلى الله عليه وسلم - خطيباً في الناس فقال (( يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي فو الله ما علمت على أهلي إلا خيراً )) ولأن القدح فيهن تعييب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا هو الذي نقطع به ولا شأن لنا بمن تساهل في ذلك من أهل العلم، والله المستعان .(2/82)
الأمر السادس : إذا تضمن القدح في أحد من الصحابة دعوى أن علياً إله أو أنه هو النبي صدقاً وحقاً أو أنه يوحى إليه إيحاء نبوة أو أنه يعلم الغيب أو أن له تصرفاً في الكون من إجراء السحاب وإنزال المطر ونحو ذلك فهذا كفر صريح ومن شك في كفر مثل هذا فهو كافر وذلك لتكذيبه للقرآن والسنة وإجماع الأمة في أنه لا يستحق أحد العبادة إلا الله تعالى وأنه لا يعلم الغيب إلا الله وأن النبوة قد ختمت بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأن الله هو وحده مالك النفع والضر جل وعلا .
الأمر السابع : إذا كان السب متوجهاً لمن تواترت النقول على عدالته وفضله فإن ذلك كفر وردة أيضاً لأن تكذيب النصوص المتواترة كفر وردة وذلك كمن سب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن والحسين وسائر العشرة المبشرين بالجنة وسائر أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحو هؤلاء فإن سبهم والقدح فيهم كفر وردة .
الأمر الثامن : إذا كان السب متوجهاً إلى أحد من الصحابة لأمر يعود لصحبته - صلى الله عليه وسلم - ولأنه نصره وآزره وبذل ماله ونفسه في سبيل إعلاء دينه فهذا كفر وردة أيضاً لأنه يتضمن بغض النبي - صلى الله عليه وسلم - وبغض دينه وبغض إعلاء كلمة الله تعالى وبغض نصرته - صلى الله عليه وسلم - وهذا كفر ونفاق وردة .
الأمر التاسع : من رمى غالب الصحابة بالكفر بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا نفراً قليلاً فإنه كافر الكفر الأكبر وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل لتكذيبه لثناء القرآن والسنة ومدحهما لصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأنه قدح في الشرع كله كتاباً وسنة لأن الصحابة هم طريقنا لمعرفة الشرع فإذا قدح في الناقل قدح في المنقول ولأنه قدح في النبي - صلى الله عليه وسلم - .(2/83)
الأمر العاشر : إذا قدح في بعض الصحابة قدحاً لا يرجع إلى صحبته ولا لنصرته للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يعود على أصل دينه بالإبطال ولا يقدح في إيمانه وعدالته وذلك كوصف بعضهم بالبخل أو الجبن فهذا لا يعد كفراً وإنما هو في مرتبة الفسق على ما حققه أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى ومع عدم تكفيره فإنه لا بد أن يعزر التعزير البليغ الذي يزجره وأمثاله عن الوقوع في مثل ذلك مرة أخرى ولا يجوز لولي الأمر أن يمكنه من منصب أو ولاية ولا أن يقره على هذا القدح وإن لم نقل بكفره بل لا بد أن يوقف عند حده ويضرب بالسوط حتى يتأدب عن الوقوع في مثل ذلك القول العظيم والبهتان الأثيم ولا يجوز أن يتساهل معه ويعتذر عنه ويدعى على موائد الحوار بل لا بد من زجره وتعزيره وعدم تمكينه من وسائل الإعلام حتى لا يبث سمومه ومعتقده الفاسد في أوساط العامة فإن الرافضة الزنادقة من أخطر الخطر على أمة الإسلام بعامة وأهل السنة بخاصة ودعك من دعاة التقريب بيننا وبينهم فإن الخلاف بيننا ليس خلافاً في فروع فقط، بل هو خلاف في الأصول الثابتة والعقائد المقررة ولا تغتر بتقيتهم فإنها نفاق بعينه، ألا فأبعدهم الله وأقصاهم وعافانا وإخواننا المسلمين من إفكهم وضلالهم وكفرهم، ولذلك يتبين لك أن ما جاء به الرافضة من سب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هو محدثة في عقيدة المسلمين وبدعة وضلالة وقد تقرر في قاعدتنا أن كل إحداث في الدين عقيدة أو شريعة فهو رد والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
} فصل {(2/84)
الفرع الأربعون : بدعة الطواف بقبور الأموات من الأولياء الصالحين أو من يعتقد فيهم أنهم صالحون، وهذه البدعة من طوام البدعة وعظائمها وهي باطلة باتفاق المسلمين ورد على أصحابها بإجماع الأمة ودليل بطلانها عدة أمور:- منها:- قوله تعالى { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللّهِ } وهذا نص في أن الدين لابد فيه من إذن الرب جل وعلا لأنه الحاكم كوناً وشرعاً فلا حاكم إلا الله تعالى ولا حكم إلا لله تعالى، والمراد بالإذن أي ورود الدليل بجواز التعبد بهذا القول أو هذا الفعل، والطواف حول القبور من الأفعال التي لم يرد بجوازها دليل لا من الكتاب ولا من السنة ولا من فعل الصحابة - رضي الله عنهم - ولا من الإجماع الثابت ولا من القياس الصحيح ولا من الاعتبار والنظر وحيث لا دليل عليها فالأصل إلغاؤها إذ لو كانت مشروعة لورد الدليل بالإذن بها كتاباً أو سنة لكن لا دليل عليها، وهذا يفيدك أن الله تعالى لم يأذن بها وما لم يأذن به الرب جل وعلا فليس من الشرع في صدر ولا ورد فإذا قيل لك:- أن الطواف بالقبور عبادة، فقل:- إن العبادة مبناها على الإذن الرباني الشرعي ولا إذن فيها فليست من العبادة فالذين يطوفون حول القبور قد اتخذوا شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله جل وعلا، ومنها:- قوله - صلى الله عليه وسلم - (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) وفي رواية (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) وإنه لا يعرف عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعل ذلك أو أمر به أو أشار إليه أو أقر عليه أو رغب فيه، لا يعرف ذلك البتة وحيث لم يثبت هذا الفعل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا قولاً ولا فعلاً ولا إقراراً فلا يكون من الدين أبداً بل هو محدث في الدين وقد حكم - صلى الله عليه وسلم - على كل المحدثات بأنها رد فيكون ذلك الفعل رد على أصحابه لأنه محدث في الدين وبدعة وكل إحداث(2/85)
في الدين فهو رد. ومنها:- أن المتقرر شرعاً هو التحذير الشديد والتأكيد البليغ والتخويف والتهديد من الافتتان بالقبور بتعظيمها التعظيم الزائد على هدي الكتاب والسنة وذلك في أحاديث كثيرة جداً قد تقدم في بعض الفروع طرف كبير منها، وهذا يفيدك أن كل فعل عند القبور لم يرد الشرع به فإنه ممنوع سداً لذريعة الافتتان بالقبور وأصحابها، ومن هذه الأفعال الطواف بالقبور فإنه من الأفعال الدالة على تعظيمها التعظيم المخالف للشرع، وهو ذريعة للاعتقادات الفاسدة في القبور و أصحابها، فلا يمكن البتة أن يكون جائزاً في الشرع، بل هو - جزماً - يعتبر من أفراد الأفعال المنهي عنها عند القبور، بل هو من أشد ما ينهى عنه عند القبور، فالأصل فيما يفعل عند القبور هو التوقيف على النص، فلا تفعل عندها إلا ما ورد به الدليل وأما ما لا دليل عليه فاحذر منه أشد الحذر حتى لا يكون ذريعة للوقوع في حفر الشرك والله المستعان. ومنها:- أن المتقرر في قواعد الشرع أن الأصل في العبادات التوقيف على النص، أي لا حق لأحد أن يشرع في الدين قولاً أو فعلاً إلا بدليل، فليس مرد التشريع إلا الأهواء والعقول والاستحسانات وما عليه أهل القرية أو الآباء والأسلاف أو فاعليه أكثر الناس أو ما تهواه النفوس، أو المنامات والرؤى أو المرويات الضعيفة والنقول الواهية الباطلة، كل ذلك لا مدخل له في التشريع، والطواف حول القبور إنما يفعله أصحابه من باب التعبد والقربة، أي أنه عبادة عند أصحابه والعبادات مبناها على التوقيف فأين الدليل الدال على ذلك؟ الجواب:- لا دليل وحيث لا دليل فالأصل المنع لأن المتقرر أن الأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل، ومنها:- أن من يطوف حول القبر إنما يطوف عليه لصلاح صاحب القبر في دينه وأنه صاحب كرامات، ولذلك فإنه لا يطاف على كل قبر وإنما يطاف على قبور الأولياء والصالحين، فسبب الطواف حول قبورهم هو اعتقاد صلاحهم وسلامة دينهم وأن لهم كرامات(2/86)
خارقة للعادة، وهذا لا أظن أن يخالفنا فيه أحد، إذا علم ذلك فليعلم أن أعظم الخلق صلاحاً وأشدهم تمسكاً بحبل الله هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لا تعرف الدنيا رجلاً تعبد كعبادته فهو صاحب المقام المحمود والحوض المورود، وهو سيد الأنبياء وخاتم المرسلين وإمام المتقين أزكى من صلى وصام وتصدق وجاهد وتعبد، خير البشرية على الإطلاق بل هو خير خلق الله أجمعين، ومع ذلك فإنه الصحابة - رضي الله عنهم -لم يثبت عنهم أنهم كانوا يأتون لقبره بقصد الطواف به، هذا لا يعرف عن أحد منهم البتة، فلو أنه كان يجوز الطواف بقبر أحد لصلاحه لكان قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أحق قبر يطاف به ولكان الصحابة أحق من فعل ذلك لشدة حبهم له - صلى الله عليه وسلم - ولعلمهم بما كان عليه من النبوة والعبادة، فلما لم يفعل أحد منهم شيئاً من ذلك دل على أنه من الأفعال الممنوعة في الشرع، وإذا كان الطواف بقبره - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز، فلأن لا يجوز الطواف بقبر غيره من باب أولى، أي إذا كان الطواف بقبر الفاضل لا يجوز، فعدم جوازه حول قبر المفضول من باب أولى، وقد تقرر في الأصول أن القياس الأولوي حجة، ومنها:- لقد تقرر في قواعد الشرع أن كل فعل توفر سببه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله اختياراً فالمشروع تركه ولقد كانت القبور موجودة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يزور القبور ولم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه فعل ذلك مرة واحدة في طيلة حياته بعد بعثته - صلى الله عليه وسلم - وهذا الترك الدائم الذي لم ينخرم ولا مرة واحدة في حياته دليل على عدم المشروعية لأنه بمنزلة البيان فإن البيان والتشريع يؤخذ من قوله وفعله وتقريره وتركه، فالطواف حول القبور فعل توفر سببه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله، فدل ذلك على أن المشروع تركه، ومنها:- أن المتقرر شرعاً أن(2/87)
الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة والطواف حول القبور فعل يعتقد أصحابه أنه من المستحبات والواجبات والاستحباب والوجوب حكم شرعي، فلا يثبت إلا بدليل شرعي صحيح صريح، ولا دليل يفيد مشروعية ذلك وحيث لا دليل فالأصل العدم، ومنها:- أن هذا الطواف مشعر بل هو قرينة ظاهرة جداً في أن الطائف يعتقد أن هذا الميت ينفع أو يضر أو أن له تصرفاً خفياً في الكون، أو أن بيده أن يشفع لمن يفعل ذلك عند قبره وهذا الاعتقاد بحد ذاته منكر في الشرع وبدعة كفرية، فلما كان الطواف بالقبر يفضي إلى ذلك وجب شرعاً منعه وتحريمه لأن المتقرر شرعاً أن ما أفضى إلى الممنوع فهو ممنوع وتقرر أن الوسائل لها أحكام المقاصد وتقرر أيضاً أن سد الذرائع أصل من أصول الشريعة، وتقرر أيضاً أن ما لا يتم الحرام إلا به فهو حرام، وتقرر أيضاً أن ما لا يتم ترك الحرام إلا به فتركه واجب. ومنها:- لقد أجمع أهل العلم رحمهم الله تعالى على أنه لا يطاف بشيءٍ من أجزاء الأرض إلا بالبيت العتيق، ونقل هذا الإجماع ابن تيمية وغيره من أهل العلم، فلا طواف إلا بالكعبة باتفاق العلماء، وهذا يفيدك أن الطواف حول القبور فعل مخالف لإجماع أهل العلم، وأن أهل العلم مجمعون على منعه وقد تقرر في قواعد الأصول أن الإجماع حجة شرعية يجب قبولها واعتمادها والمصير إليها وتحرم مخالفتها، ومنها:- لقد دل الاعتبار الصحيح على بطلان الطواف حول القبور وذلك لأن الطائف لابد وأن يقوم في قلبه رغباً لهذا المقبور أو رهباً منه وهذا لابد منه, وهذا الميت قد فني وأكل لحمه وتفتت عظامه ولا يستطيع لنفسه دفع ضر أو جلب خير, والمتقرر عقلاً وحساً وفطرة أن فاقد الشيء لا يعطيه, فإذا كان الميت قد انتهى عمله وانقطع, ولا يملك نفعاً ولا ضراً فكيف يجلب لغيره الخير المرغوب أو يدفع عنه الشر المرهوب؟ هذا لا يكون أبداً, بل إن هذا الميت بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد انقطع عمله كما في(2/88)
قوله (( إذا مات الإنسان انقطع عمله...الحديث )) أي أنه مرتهن بعمله محتاج إلى الأحياء لينفعوه بدعوة أو صدقة وغير ذلك, فمن كانت هذه حاله فكيف يخاف أو يرجى؟ لكنها العقول التي فرخت فيها البدع والخرافات وعشعشت عليها شياطين الإنس والجن من الذين يذكون نار البدعة ويتعشقون إحياءها, ألا فلعنهم الله وأبعدهم وأقصاهم، قال في حاشية قلبوبي ( يكره كراهة شديدة في حال الزيارة أو غيرها أن يلصق ظهره أو بطنه بجدار القبر الشريف - أي قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - - أو يمسحه باليد ويقبلها أو يقبله وليحذر من الطواف بالقبر والصلاة داخل الحجرة )ا.هـ. والمراد بالكراهية هنا كراهة التحريم ولا شك فإذا كان هذا هو حال أهل الإسلام مع قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - فكيف بقبر غيره، وقال صاحب الروض ( ويسلم عليه - أي على النبي - صلى الله عليه وسلم - - مستقبلاً له ثم يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره ويدعوا بما أحب ويحرم الطواف بها ويكره التمسح بالحجرة ورفع الصوت عندها )ا.هـ. وقال في شرح منتهى الإرادات ( ويحرم الطواف بها أي الحجرة النبوية, بل يحرم الطواف بغير البيت العتيق اتفاقاً قاله الشيخ تقي الدين )ا.هـ. وقال أبو العباس في حكم الطواف بالمساجد التي عند الجمرات قديماً وكذلك الطواف بالصخرة قال ( والطواف به من الكبائر وكذلك المساجد التي عند الجمرات لا يستحب دخول شيء منها ولا الصلاة فيها وأما الطواف بها أو بالصخرة أو بحجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وما كان غير البيت العتيق فهو من أعظم البدع المحرمة )ا.هـ. وقال أبو العباس رحمه الله تعالى أيضاً ( الطواف لا يشرع إلا بالبيت العتيق باتفاق المسلمين ولهذا اتفقوا على تضليل من يطوف بغير ذلك مثل من يطوف بالصخرة أو بحجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بالمساجد المبنية بعرفة أو منى أو غير ذلك أو بقبر بعض المشايخ أو بعض أهل البيت كما يفعله كثير من جهال المسلمين فإن(2/89)
الطواف بغير البيت العتيق لا يجوز باتفاق المسلمين بل من اعتقد ذلك ديناً وقربة عرف أن ذلك ليس بدين باتفاق المسلمين وأن ذلك معلوم بالضرورة من دين الإسلام فإن أصر على اتخاذه ديناً قتل )ا.هـ. وقال النووي رحمه الله تعالى ( لا يجوز أن يطاف بقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - )ا.هـ. وقال الشيخ علي محفوظ رحمه الله تعالى ( ومن البدع السيئة الطواف حول الأضرحة فإنه لم يعهد عبادة إلا بالبيت وكذا لم يشرع التقبيل والاستلام إلا للحجر الأسود )ا.هـ. وقال ابن الحاج رحمه الله تعالى ( فترى من لا علم عنده يطوف بالقبر الشريف كما يطوف بالكعبة الحرام ويتمسح به ويقبله ويلقون عليه مناديلهم وثيابهم يقصدون به التبرك وذلك كله من البدع )ا.هـ. وقال أبو شامة رحمه الله تعالى ( ولا يجوز أن يطاف بقبر )ا.هـ. وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى ( وأما الطواف بالقبر وطلب البركة منه فهو لا يشك عاقل في تحريمه وأنه من الشرك فإن الطواف من أنواع العبادات فصرفه لغير الله شرك وكذلك البركة لا تطلب إلا من الله تعالى وطلبها من غير الله تعالى شرك )ا.هـ. وقالت اللجنة الدائمة للإفتاء ( أما من استغاث بالله وسأله سبحانه وحده متوسلاً بجاههم أو طاف حول قبورهم دون أن يعتقد فيهم تأثيراً وإنما رجا أن تكون منزلتهم عند الله سبباً في استجابة الله له فهو مبتدع آثم مرتكب لوسيلة من وسائل الشرك ويخشى عليه أن يكون ذلك منه ذريعة إلى وقوعه في الشرك الأكبر )ا.هـ. والنقول عن أهل العلم في هذه المسائل كثيرة جداً ولعل فيما مضى كفاية إن شاء الله تعالى, وبه يتضح لك أن الطواف بالقبور من المحدثات والبدع وكل إحداث في الدين شريعة أو عقيدة فهو رد, فلا إله إلا الله ما أجمل هذه القاعدة وما أعظمها وأشد وقعها على أهل البدع والمحدثات وما لا أصل له والله ربنا أعلى وأعلم ونسبة العلم إليه أسلم .(2/90)
الفرع الحادي والأربعون : بدعة التعبد لله تعالى بلبس الصوف واعتقاد فضيلته بخصوصه وهذه البدعة قد اشتهرت بها الصوفية وبها سموا ونسبوا إليها على الصحيح كما حققه أبو العباس رحمه الله تعالى فتراهم يلبسون الصوف صيفاً وشتاءً ويجعلون ذلك من العبادات والقربات إلى الله تعالى, وهذا لا أصل له وليس هو من الزهد المحمود, بل هو من المحدثات والبدع وبيان ذلك من وجوه :
منها : أن الأصل في العبادات الوقف على النص ولا نعلم أنه قد ثبت النص بأن ليس ذلم على وجه الديمومة عبادة وحيث لا دليل فالأصل المنع ومنها المتقرر أن أكمل الهدي هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه أكمل العباد والزهاد وسيد أهل الورع وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه لبس الكتان والقطن, قال ابن القيم رحمه الله تعالى في زاد المعاد في الهدي في اللباس ( والصواب أن أفضل الطريق طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي سنها وأمر بها ورغب فيها وداوم عليها وهي أن هديه في اللباس أن يلبس ما تيسر من الصوف تارة والقطن تارة والكتان تارة, ولبس البرود اليمانية والبرد الأخضر ولبس الجبة والقباء والقميص والسراويل والإزار والرداء والخف والنعل وأرخى الذؤابة خلفه وتركها تارة )ا.هـ. فهديه - صلى الله عليه وسلم - هو التنويع في اللباس وأما الاستمرار على لبس الصوف فليس هو هديه ولا هو من سنته المنقولة عنه - صلى الله عليه وسلم - وفي صحيح مسلم من حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في خطبته (( أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها )) وفي الصحيحين عن قتادة قلنا لأنس - رضي الله عنه - أي اللباس كان أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:- الحبرة والحبرة برد من برود اليمن فإن غالب لباسهم كان من نسج اليمن لأنها قريبة منهم, وربما لبسوا ما يجلب من الشام ومصر كالقباطي المنسوجة من(2/91)
الكتان التي كانت تنسجها القبط وفي سنن النسائي عن عائشة رضي الله عنها أنها جعلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - بردة من صوف فلبسها فلما عرق فوجد ريح الصوف طرحها وكان يحب الريح الطيب، وفي سنن أبي داوود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لقد رأيت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسن ما يكون من الحلل، وفي سنن النسائي عن أبي رمثة قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب وعليه بردان أخضران والأحاديث في ذلك كثيرة يصعب حصرها وفي الصحيح من حديث أبي جحيفة أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه حلة حمراء...وغير ذلك كثير فأفاد مجموع ذلك أن هديه - صلى الله عليه وسلم - هو التنويع في اللباس وعدم استدامة لبس واحد تعبداً لله تعالى, ولو كان هذا هديه لنقل إلينا والله المستعان .
ومنها : أن المتقرر أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها إلى الأدلة الصحيحة الصريحة واستحباب لبس الصوف دائماً حكم شرعي يفتقر إلى دليل ولا نعلم دليلاً يفيد هذا وحيث لا دليل فلا يدخل ذلك في دائرة الأحكام الشرعية بل يكون بدعة ومحدثة والذي نعلمه أن كل حديث يرغب في لبس الصوف فإنه لا يحتج به كحديث (( سيد الأعمال الجوع وذل النفس لباس الصوف )) وهذا لا أصل له, وحديث (( عليكم بلباس الصوف تجدوا حلاوة الإيمان في قلوبكم وعليكم بلباس الصوف تجدوا قلة الأكل وعليكم بلباس الصوف تعرفون به في الآخرة وإن لباس الصوف يورث القلب التفكر...الخ )) وهذا حديث موضوع لعن الله واضعه، وحديث (( براءة من الكبر لبوس ومجالسة فقراء المسلمين وركوب الحمار )) وهذا ضعيف ضعيف جداً جداً, بل هو إلى الوضع أقرب، وحديث (( لا تطغوا على أهل الصوف والخرق فإن أخلاقهم أخلاق الأنبياء ولباسهم لباس الأغنياء )) وهو موضوع كذب مختلق .(2/92)
ومنها : أن الأصل المتقرر عند أهل العلم أن الأصل في التعبدات القولية والفعلية وقفها على الدليل فلا يجوز التعبد إلا بما ورد فيه نص إيجاباً أو استحباباً ولا نعلم دليلاً يدل بخصوصه على جواز التعبد لله تعالى بلبسة الصوف دائماً وحيث لا دليل فالأصل عدم التعبد به .
ومنها : أن المتقرر عند أهل الإسلام أن هذه الشريعة وسط بين شرائع الأمم وأن أهل السنة وسط بين مذاهب الفرق كوسطية الأمة بين الأمم فلا غلو ولا جفاء وإلزام النفس بلبس الصوف دائماً فيه مجانبة لهذه الوسطية وتقحم في دائرة الغلو والإفراط لأنه تعذيب للنفس وإهلاك للروح وتزهد فيما أباحه الله تعالى وأحله من الملابس وهذا ليس من الدين في شيء وتقشف مذموم لا يثاب عليه صاحبه ومجانبة لهدي خير القرون ويقابل هؤلاء طائفة فتحوا الباب ولبسوا المنهي عنه من الحرير والديباج وازدادوا في التنعم في فاخر الملابس والمراكب والحق وسط بين الغلو والتفريط وهدىً بين ضلالتين وهو الهدي الأكمل وهو التوسط في اللباس والحذر من الشهرتين فإن اعتياد لبس الصوف على وجه التعبد هو من نوع لباس الشهرة واعتياد لبس الفاخر من الثياب هو من نوع لباس الشهرة والحق هو الوسط بينهما فاعتياد لبس الصوف والتعبد به مجانب لمنهج الوسطية ومخالف لهدي خير البرية - صلى الله عليه وسلم -, وقد قال عليه الصلاة والسلام (( من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة ))"رواه أحمد وأبو داوود وابن ماجه" قال أبو العباس رحمه الله تعالى: ( ومعنى هذا أن اتخاذ لبس الصوف عبادة وطريقاً إلى الله تعالى بدعة, وأما لبسه للحاجة والانتفاع به للفقير لعدم غيره أو لبس غيره ونحو ذلك فهو حسن مشروع والامتناع من لبسه مطلقاً مذموم لاسيما من يدع لبسه كبراً وخيلاء )ا.هـ. وقال أيضاً ( وإن كان خالصاً في نيته لكنه يتعبد بغير العبادات المشروعة مثل الذي يصمت دائماً أو يقوم في الشمس أو على السطح دائماً أو يتعرى من(2/93)
الثياب دائماً ويلازم لبس الصوف أو لبس الليف ونحوه أو يغطي وجهه أو يمتنع من أكل الخبز أو اللحم أو شرب الماء ونحو ذلك كانت هذه العبادات باطلة ومردودة )ا.هـ. وقال مالك رحمه الله تعالى ( لا أكره لبس الصوف لمن لم يجد غيره وأكرهه لمن يجد غيره لأن غيره أبعد عن الشهرة منه )ا.هـ. وقال ابن القيم في الزاد ( وذكر الشيخ أبو إسحاق الأجهاني بإسنادٍ صحيح عن جابر بن أيوب قال: دخل الصلت بن راشد على محمد بن سيرين وعليه جبة صوف وإزار صوف وعمامة صوف فاشمأز منه محمد, وقال: أظن أن أقواماً يلبسون الصوف ويقولون قد لبسه عيسى بن مريم وقد حدثني من لا أتهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد لبس الكتان والصوف والقطن وسنة نبينا أحق أن تتبع ومقصود ابن سيرين بهذا أن أقواماً يرون أن لبس الصوف دائماً أفضل من غيره فيتحرونه ويمنعون أنفسهم من غيره وكذلك يتحرون زياً واحداً من الملابس ويتحرون رسوماً وأوضاعاً وهيئات يرون الخروج عنها منكراً وليس المنكر إلا التقيد بها والمحافظة عليها وترك الخروج عنها والصواب أن أفضل الطرق طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي سنها وأمر بها ورغب فيها وداوم عليها وهي أن هديه في اللباس أن يلبس ما تيسر من اللباس )ا.هـ.(2/94)
ومنها : أن المتقرر شرعاً أن الله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده فإذا وسع الله على العبد فإن من اعترافه بهذه النعمة أن يرى ربه جل وعلا أثر نعمته عليه وأعني أن يراها على الوجه المشروع بتوسط فلا غلو ولا جفاء فقد روى الترمذي في صحيحه قال: حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني قال حدثنا عفان بن مسلم قال: حدثنا همام عن قتادة عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ))"حديث حسن صحيح" وفي سند أبي داوود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد في المسند وغيرهم من حديث أبي الأحوص عن أبيه في حديث طويل وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( ألك مال؟ )) قال: نعم من كل المال قد أعطاني الله من الإبل والغنم قال (( فلير عليك )) وقد صرح أبو إسحاق بالسماع فالحديث صحيح، ولأحمد في المسند وابن سعد في الطبقات والطحاوي في المشكل والطبراني في الكبير والبيهقي في سننه من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إن الله إذا أنعم على عبده نعمة أحب أن يرى أثر نعمته عليه ))"وسنده جيد" وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( إذ آتاك الله خيراً أو مالاً فلير عليه )) وفي سده مقال لأن فيه إبراهيم الهجري وهو ضعيف، وبه تعلم أن إلزام النفس دائماً وأبداً يلبس الصوف يتضمن هجر ما يحبه الله تعالى، وهو مناف لمراد الشارع وتعذيب للنفس بلا وجه شرعي ولا مسوغ مرعي .(2/95)
ومنها :- أن الإنسان ينبغي له أن يبتعد عن كل ما قد يوجب له الرياء والشهرة وهذا متقرر شرعاً وهؤلاء يلبسون الصوف من باب التعبد في الظاهر، لكن الأمر قد أفضى بهم إلى الرياء والشهرة في الباطن، والعبد الحفي التقي يحب إخفاء تعبده إلا فيما شرع إظهاره أو كانت المصلحة في إظهاره فلباس الصوف على هذه الطريقة البدعية أوجب لهم الشهرة والرياء وحب الظهور ولذلك كره مالك رحمه الله تعالى لبس الصوف لمن يجد غيره وعلل ذلك بأنه أبعد عن الشهرة وشهرة الثوب قد تكون في لينه أو غلظه، وخشونته، أو طوله أو زيادة قصره والحق في السداد بين ذلك والاقتصاد، ففي الحديث (( من لبس ثوب شهرة أعرض الله عنه حتى يضعه )) وفي الحديث (( من لبس ثوباً مشهوراً أذله الله يوم القيامة )) وقال أبو الدرداء (( من ركب مشهوراً من الدواب أو لبس مشهوراً من الثياب أعرض الله عنه ما دام عليه )) وجاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( من لبس ثوب شهرة ألبسه الله ثوب مذلة )) ورأى ابن عمر رضي الله عنهما على ابنه ثوباً دوناً فقال (( لا تلبس هذا فإن هذا ثوب شهرة )) وقال سفيان رحمه الله تعالى ( كانوا يكرهون الشهرتين, الثياب الجياد التي يشتهر بها ويرفع الناس إليه فيها أبصارهم والثياب التي يحقر فيها ويستذل )ا.هـ. وقال السوطي رحمه الله تعالى ( والعدل في اللباس وغيره أن يلبس ملابس بني جنسه التي لا يتميز بها عنهم وتكون موافقة للسنة خالية من التزين والشهرة وإظهار الزهد والرياء )ا.هـ.(2/96)
ومنها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) وفي رواية (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) وفي الحديث (( وشر الأمور محدثاتها )) والتعبد لله بلبس الصوف أمر محدث لا دليل عليه وليس من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا من هدي أصحابه - رضي الله عنهم - ولا نعلمه ثابتاً عن من يقتدى به من أئمة الدين بل الثابت عنهم إنكاره على فاعليه ووصفهم بالمخالفة والبدعة, وهذا يفيدك أنه أمر محدث والمتقرر في الشرع أن كل إحداث في الدين عقيدة أو شريعة فهو رد, وانتبه يا أخي, فإننا لا نقصد ببدعية لبس الصوف أصل لبسه وإنما نعني بذلك التعبد لله تعالى بلبس الصوف واعتقاد أفضلية لبسه على وجه الخصوصية كما هو حال الصوفية والله يحفظنا وإياك من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن .(2/97)
الفرع الثاني والأربعون : بدعة تعليق التمائم, وهي معلقات من الخرز والخيوط والودع ونحو ذلك يعتقد معلقها فيها جلب الخير ودفع الضرر, فمنها ما يعلق على الأولاد يتقون به العين ومنها ما يعلق عند أبواب البيوت ليحموها من الجن والشياطين ومنها ما يعلق على الدواب وفي السيارات حتى لا يصيبها الأذى وغير ذلك وقد عمت بها البلوى وطمت في غالب بلاد العرب والمسلمين لاسيما البلاد التي قل فيها نور النبوة وحكمت فيها غير شريعة الله تعالى وقد تفنن العوام الجهال ودعاة البدعة في أشكال هذه التمائم وأسمائها فمنها ما يوضع في العضد أو على عنق الدابة أو في الخاتم أو الأرجل, وهي من المصائب الخطيرة على عقيدة المسلمين ونحن نبرأ إلى الله تعالى من الاعتقاد فيها أو تعليقها وبعض العامة يسميها الحجاب وبعضهم يسميها الحامية, وبعضهم يسميها الدافعة للشرور والجالبة للسرور, وقد كثرت في بلاد الحرمين بسبب الجهل بعقيدة التوحيد وبسبب كثرة الوافدين من بلاد البدعة وتعطيل الشرع, وبسبب كثرة المعالجين الجهلة وظهور نعيق الكهان والمشعوذين في القنوات الفضائية وهي نفخة شيطانية أراد بها إبليس الاستخفاف بعقول بني آدم وتعليق قلوبهم بغير الله جل وعلا, وهي من البدع التي لا نشك في حرمتها, بل هي من الشرك الأصغر والتي قد تكون شركاً أكبر في بعض صورها وبيان ذلك أن يقال: اعلم رحمك الله تعالى أن المتقرر في عقيدة الإسلام باتفاق المسلمين أن الله وحده جل وعلا هو الذي يجلب الخير ويدفع الشر, فلا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع وأن الأمور كلها صغيرها وكبيرها بيده جل وعلا وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن, وأنه إليه يرجع الأمر كله, قال تعالى { قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ(2/98)
يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } وقال تعالى { وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } وقال تعالى { وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } وقال تعالى { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وقال تعالى { وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } وقال تعالى { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } وقال تعالى { قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً } وقال تعالى { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } وقال تعالى { قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } والآيات في هذا المعنى كثيرة وكلها تقرر أن الله وحده هو الذي يدفع الضر الحاصل والمتوقع وهو الذي يجلب الخير الحاصل والمأمول وهذا من مقتضيات توحيده في ربوبيته جل وعلا فلا يأتي بالخير إلا الله ولا يدفع الضر إلا الله وحده لا شريك له ومن هذا المنطلق فقد نهت الشريعة عن التمائم لأنها تخل بهذا الأصل العظيم المتقرر بالنصوص القطعية وقد(2/99)
وردت الأحاديث تنهى عن تعليقها وترد على توهم معلقيها من أنها تدفع الضر وتجلب الخير لأن من مقاصد الشريعة أن لا تتعلق القلوب إلا بالله جل وعلا وحده لا شريك له في جلب الخيرات ودفع المضرات وكل ما من شأنه إن يصرف القلوب إلى غير الله تعالى فإن الشريعة تنهى عنه فالتمائم من شأنها أن يتعلق قلب صاحبها بها ولو مطلق التعلق إذ لا يتصور أن أحداً يعلقها ولا يعتقد فيها شيئاً هذا لا يكون أبداً ولو ادعاه أحد لكذبناه عقلاً وحساً, فلابد من أن يعتقد فيها شاء أم أبى, وحيث كان شأن التمائم كذلك وردت الشريعة بالنهي عنها, ففي صحيح مسلم عن أبي بشير الأنصاري أنه كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فأرسل رسولاً أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر, أو قلادة إلا قطعت وروى أبو داود وابن ماجه وابن حبان من طريق يحيى بن الجزار عن أبي أخي زينب امرأة عبدالله بن مسعود, عن زينب امرأة عبدالله بن مسعود عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول (( إن الرقى والتمائم والتولة شرك ))"وهو حديث صحيح" وروى ابن حبان في صحيحه والحاكم باختصار عنه وقال صحيح الإسناد ووافقه الذهبي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه دخل على امرأته وفي عنقها شيء معقود فجذبه فقطعه ثم قال: لقد أصبح آل عبدالله أغنياء أن يشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً ثم قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول (( إن الرقى والتمائم والتولة شرك )) قالوا: يا أبا عبدالرحمن هذه الرقى والتمائم قد عرفناها فما التوله؟ قال: شيء تصنعه النساء يتحببن إلى أزواجهن، وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه أحمد في المسند والحاكم في المستدرك عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبل إليه رهط فبايع تسعة وأمسك عن واحد فقالوا: يا رسول الله بايعت تسعة وتركت هذا؟ قال (( إن عليه تميمة )) فأدخل الرجل يده(2/100)
فقطعها فبايعه وقال (( من علق تميمة فقد أشرك )) وقال الإمام أحمد في المسند: حدثنا خلف بن الوليد قال حدثنا المبارك عن الحسن قال أخبرني عمران بن حصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبصر على عضد رجل حلقة, قال - أراها من صفر - فقال (( ويحك ما هذا؟ )) قال: من الواهنة, فقال (( أما إنها لا تزيدك إلا وهناً انبذها عنك فإنك لومت وهي عليك ما أفلحت أبداً )) ورواه ابن حبان في صحيحه فقال (( فإنك لومت وكلت إليها )) "ورواه الحاكم وقال صحيح الإسناد وأقره الذهبي" وقال الحاكم: أكثر مشايخنا على أن الحسن سمع من عمران وقوله في الإسناد: حدثني عمران يدل على ذلك, وقال إمام الدعوة: رواه أحمد بسند لا بأس به.ا.هـ. ولأحمد في المسند أيضاً عن عقبة بن عامر مرفوعاً (( من تعلق تميمة فلا أتم الله له ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له )) وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد ابن الحسين بن إبراهيم بن أشكاب قال حدثنا يونس بن محمد قال حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم الأحول عن عروة قال دخل حذيفة على مريضي فرأى في عضده سيراً فقطعه أو انتزعه ثم قال (( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون )) ولأحمد في مسنده والترمذي في جامعه عن عبدالله بن حكيم مرفوعاً (( من تعلق شيئاً وكل إليه )) وروى أحمد في المسند عن رويفع قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( يا رويفع لعل الحياة ستطول بك فأخبر الناس أن من عقد لحيته أو تقلد وتراً أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمداً بريء منه ))"وسنده جيد" وقال إبراهيم بن يزيد النخعي الكوفي رحمه الله تعالى: كانوا - أي أصحاب عبدالله ابن مسعود - يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن.ا.هـ. ومن أصحابه - رضي الله عنه - علقمة والأسود وأبو وائل والحارث بن سويد وعبيدة السلماني ومسروق والربيع بن خثيم وسويد ابن غفلة وغيرهم وهم من سادات التابعين رحمهم الله تعالى و - رضي الله عنهم -، فهذه النقول تفيد إفادة(2/101)
قطعية أن التمائم منهي عنها, فأما التمائم الشركية فقد أجمع أهل العلم على أنها محرمة التحريم الأكيد الشديد ولكن وقع خلاف بين السلف في التمائم من القرآن والصحيح حرمتها أيضاً وذلك لوجوه :-
الأول : أنه لم ينقل ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا فعلاً ولا إقراراً مع أنهم يقرؤون قوله تعالى { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء } وقوله { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء } وقوله { وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ } وكانت تصيبهم الأمراض المتنوعة مع ذلك فإنه لم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب آية أو سورة في شيء وعلقه لا عليه ولا على أحد من أزواجه ولا على أحد من أولاده ولا على أحد من رقيقه ولا على أحد من أصحابه ولا على شيء من دوابه, ولا نعلم أنه فعل ذلك في عهده أصلاً وأقر عليه بل الثابت عنه بالسند الصحيح النهي الأكيد عن مسمى التمائم فلو أن من أوجه الشفاء بالقرآن تعليقه على النحور والأيدي لبينه لنا النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو مرة واحدة, وهذا يفيدك أن تعليق هذه التمائم بقصد الشفاء من محدثات الأمور وكل إحداث في الدين شريعة أو عقيدة فهر رد .(2/102)
الثاني :- أنه - صلى الله عليه وسلم - قال (( والتمائم )) كما في حديث ابن مسعود السابق وهذا لفظ من ألفاظ العموم لأنه قد تقرر في الأصول أن الألف واللام الاستغراقية إذا دخلت على جمع أكسبته العموم، فيدخل في كل التمائم من غير تفصيل، وقد تقرر في الأصول أن الأصل هو البقاء على العموم حتى يرد المخصص، وتقرر أيضاً أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال منزل منزلة العموم في المقال، فهذا حكم عام على كل تميمة بأنها شرك، فمن أخرج تميمة من هذا العموم فإنه مطالب بالدليل لأنه ناقل عن الأصل وقد تقرر في القواعد أن الدليل يطلب من الناقل عن الأصل لا من الثابت عليه، وهذا واضح . الثالث :- أنه - صلى الله عليه وسلم - قال (( من تعلق تميمة فلا أتم الله له )) وهذا نكرة في سياق الشرط وقد تقرر في الأصول أن النكرة في سياق الشرط تعم، فيدخل فيها كل ما يسمى تميمة من غير تفصيل بين تميمة وتميمة، فإن قلت:- فإن بعض هذه الأحاديث قد وردت على تمائم ليست من القرآن؟ فأقول نعم يا أخي بارك الله فيك ورفع لك الدرجة ويسر لك الهدى حيثما كنت ولكن قد تقرر في الأصول:- أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فنحن - على القول الراجح عندنا في الأصول - لا ننظر إلى خصوص الأسباب وإنما المعتبر عندنا عموم اللفظ .
الرابع : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا على معلق التميمة بأن لا يتم الله أمره, معادلة له بنقيض قصده فإن معلقها كان قصده بتعليقها أن تتم أموره, فهذا الدعاء دليل على تحريم تعليق التميمة وقد ورد هذا الدعاء بعد العموم في قوله (( من تعلق تميمة )) وقد قلنا إن التمائم من القرآن داخلة في هذا العموم فيكون هذا الدعاء على معلق التمائم يراد بها العموم أيضاً سواء من القرآن أو من غير القرآن, ومن قال بأن هذا الدعاء على معلق التميمة الشركية فقط فإنه مطالب بالدليل المخصص ونحن لا نعلم دليلاً يخصص هذا العموم .(2/103)
الخامس : لقد تقرر في قواعد الشرع أن سد الذرائع أصل مطلوب وبيان ذلك أن يقال: إن النفوس لا تقف عند حد بل هي ميالة إلى ما تعتقد فيه جلب الخير لها ودفع الشر عنها فلو كان تعليق التمائم من القرآن جائزاً فعلقها بعض الناس ولم يقدر له انجلاب الخير ولا اندفاع الشر فإن الشيطان سيغويه ويملي له بأن العيب في ضعف تأثير هذه التميمة فيتوافق هذا الإغواء رغبة النفس الملحة العارمة في تحصيل الخيرات واندفاع المضرات فينصرف عنها إلى التمائم الشركية والطلاسم الإبليسية فسداً لذريعة إنفتاح باب التمائم الشركية قلنا بمنع التمائم من القرآن فإن أوائل الأمور يجر إلى نهايتها ووسائلها تجر إلى غاياتها فحماية لجناب التوحيد وسداً لأبواب الشرك نقول بمنع التمائم من القرآن استناداً إلى هذا الأصل العظيم - أعني قاعدة: سد الذرائع - .
السادس : أن الله تعالى أنزل كتابه ليتلى باللسان ويتدبر بالجنان ويعمل به بالجوارح والأركان ويتحاكم إليه ويستشفى به, ولم ينزل ليعلق على الصدور والأيدي أو على الدواب أو في البيوت, فإن فعل ذلك إخراجاً للقرآن عن مقصود إنزاله, وأنت خبير بأن صور الاستشفاء بالقرآن توقيفية ولا نعلم أنه قد صح أن من صور ذلك تعليق آياته .
السابع :- أن المتقرر شرعاً وجوب صيانة القرآن عن كل ما من شأنه امتهانه، وتعليق التمائم من القرآن قد يفضي إلى امتهان القرآن بالدخول بها في الخلاء أو النوم عليها, ولو كانت على طفل فلربما بال أو تغوط عليها أو سقطت منه في محل قذر ولو كانت على دابة فلربما وصل إليها شيء من أذى الدابة وقذرها, أو سقطت من رقبتها وبركت عليها, وهذا كله امتهان للقرآن وهو محرم شرعاً وقد تقرر أن ما أفضى إلى الممنوع فهو ممنوع, فسداً لذريعة امتهان القرآن نقول بمنع التميمة من القرآن .(2/104)
الثامن : أن من مقاصد الشريعة المعلومة بالأدلة سد أبواب انصراف القلوب لغير الله تعالى ومنع تعلقها بغيره, فلا يرجى إلا الله ولا يتعلق إلا به ولا يتوكل إلا عليه, وهذه المعلقات لابد أن تنصرف شعبة من تعلق القلب لها حتى وإن كانت من القرآن, فسداً لذريعة انصراف القلوب وتعلقاها بغير الله تعالى نقول بمنع التمائم من القرآن .
التاسع : أن المتقرر في القواعد أن كل فعل توفر سببه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله فالمشروع تركه, والقرآن كان موجوداً في عهده - صلى الله عليه وسلم - وكانت تعتريهم الأدواء ولم يثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - اتخذ شيئاً من ذلك أو أمر به أو أقر على فعله, مع توفر الأسباب والدواعي, فلما كانت الأسباب متوفرة والموانع منفية ولم يثبت فعله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا يدل على أن المشروع تركه وهذا واضح .(2/105)
العاشر : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ترك خيراً إلا دل الأمة عليه بقوله أو فعله أو إقراره, وتعليق التمائم من القرآن ليس مما دلنا عليه فليست من الخير, وبهذا يتضح لك إن شاء الله تعالى أن التمائم كلها بجميع أنواعها ومختلف صورها وتنوع أشكالها محرمة كلها لا يجوز منها شيء بل هي من الشرك بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, فإن قلت: هل هي من الشرك الأصغر أو الأكبر؟ فأقول: هذا يختلف باختلاف ما يقوم بقلب صاحبها من الاعتقاد فيها, فإن اعتقد أنها هي التي تجلب الخير بذاتها وتدفع الشر بذاتها فهذا شرك أكبر يخرج صاحبه من الملة بالكلية, وأما إذا اعتقد أن الله سبحانه هو الجالب للخير والدافع للشر وأن هذه التمائم إنما هي سبب من الأسباب فقط وأن كل شيء لا يكون إلا بقضاء الله وقدره فهذا شرك أصغر لأنه اتخذ سبباً لم يدل على سببيته شرع ولا قدر ولأنه وسيلة للشرك الأكبر, فيا أيها المسلمون أينما كنتم احذروا من هذه التمائم ولا ترضوا بها, بل حاربوها وأنكروها واعلموا رحمكم الله تعالى أنها لا تجلب خيراً ولا تدفع شراً, بل لا تزيد معلقها إلا وهناً والله يحفظكم ويرعاكم والله ربنا أعلم وأعلى، وقد سئل أصحاب الفضيلة في اللجنة الدائمة سؤالاً هذا نصه: ما حكم كتابة آية من القرآن وتعليقها على العضد مثلاً أو محو هذه الكتابة بالماء ونحوه ورش البدن أو غسله بهذا الماء هل هو شرك أو لا, وهل يجوز أو لا؟ فأجاب أصحاب الفضيلة بقولهم: ( كتابة آية من القرآن وتعليقها أو تعليق القرآن كله على العضد ونحوه تحصناً من ضر يخشى منه أو رغبة في كشف ضر نزل, من المسائل التي اختلف السلف في حكمها فمنهم من منع ذلك وجعله من التمائم المنهي عن تعليقها لدخوله في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - (( إن الرقى والتمائم والتولة شرك )) "رواه أحمد وأبو داود" قالوا: لا مخصص يخرج تعليق ما ليس من القرآن وقال أيضاً: إن تعليق تميمة من القرآن يفضي إلى(2/106)
تعليق ما ليس من القرآن, فمنع تعليقه سداً لذريعة تعليق ما ليس منه, وقالوا: إنه يغلب امتهان ما يعلق على الإنسان لأنه يحمله حين قضاء حاجته واستنجائه وجماعه ونحو ذلك، وممن قال بهذا القول عبدالله بن مسعود وتلاميذه وأحمد بن حنبل في رواية عنه واختارها كثير من أصحابه وجزم بها المتأخرون ومن العلماء من أجاز تعليق التمائم التي من القرآن وأسماء الله وصفاته ورخص في ذلك كعبدالله بن عمرو بن العاص وبه قال أبو جعفر الباقر وأحمد في رواية أخرى عنه وحملوا حديث المنع على التمائم التي فيها شرك والقول الأول أقوى حجة وأحفظ للعقيدة لما فيه من حماية حمى التوحيد والاحتياط له, وما روي عن أبن عمرو إنما هو في تحفيظ أولاده القرآن وكتابته في الألواح وتعليق هذه الألواح في رقاب الأولاد لا بقصد أن تكون تميمة يستدفع بها الضرر أو يجلب بها النفع )ا.هـ. وكلام أهل السنة في هذه المسألة كثير وفيما مضى كفاية لأنه كالخلاصة له والله يتولانا وإياك .(2/107)
الفرع الثالث والرابع بعد الأربعين : بدعة ضرب الطبول عند الذكر, وبدعة هز الجسد حال الذكر والتمايل بالرأس يميناً وشمالاً وهذه بدع ما أنزل الله بها من سلطان وهي من مقامات العارفين وأحوال الواصلين عند الصوفية أقصاهم الله وأبعدهم, فإن من يزيد في الاهتزاز عندهم حتى يسقط مغشياً عليه يكون قد غاب عقله وروحه في الحضرة القدسية وبلغت من كمالها ما لم يبلغه غيره, هكذا يقولون, وهي والله العظيم من محدثات الأمور ومنكرات الأقوال والأعمال, وهي دين لم يأذن به الله تعالى بل إنها غلو في المخالفة ومناقضة للصراط المستقيم والهدي القويم, وليس كل أحد يفعل في دينه ما يشتهي, بل الدين والتشريع وقف على النص الصحيح الصريح, ولم ترض نفوسهم بمجرد الاهتزاز والرقص حتى أدخلوا آلة من آلآت المعازف ليجعلوها من كمال الذكر, فيا سبحان الله, كيف وصل الشيطان منهم إلى ذلك المستوى, إنه انحطاط في الفهم وسقم في العقيدة, ومرض في العقل, وإنها لحالة مزرية ببني آدم ولا والله ما كنا نريد أن يكون هذا, ولكن إرادة الله فوق كل إرادة, فليفرح الشيطان بمثل هذه العقول وليرقص معهم طرباً وسخرية واستخفافاً, فالطيور على أشكالها تقع, يا رب أسألك باسمك الأعظم أن تهدي قلوبهم للحق والهدى, يا رب يا رب يا رب اهدهم للاعتصام بكتابك وسنة نبيك - صلى الله عليه وسلم -, يا رب أسألك بأنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الحي القيوم الأحد الصمد بديع السموات والأرض أن تشرح صدورهم للحق والهدى والمقصود أن ضرب الطبول وهز الأجساد عند الدعاء من البدع التي ما أنزل الله من سلطان وبيان بدعيتها من وجوه :
منها : أن تشريع الدين مشروط بالإذن الشرعي, قال تعالى { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } وهذه الأفعال لم يرد الإذن بجواز التعبد بها وحيث لا إذن فيها فليست من الشرع وما ليس من الشرع فلا يجوز التعبد لله تعالى به .(2/108)
ومنها : أن المتقرر في قواعد الشرع أن الأصل في العبادات التوقيف على الدليل ولا دليل على هذه الأفعال لا من الكتاب ولا من السنة ولا من الإجماع ولا من القياس الصحيح والنظر الرجيح وفضلاً عن الأدلة الناهية عن الإحداث على وجه العموم .
ومنها : أن الله تعالى قد بعث لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معلماً وهادياً ومبلغاً, ولم يثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك - حاشاه وكلا - ولا أمر به ولا أقر عليه ومن قال بغير هذا فهذا ميدان النقل فليسرج خيله ولينقب عن ذلك النقل, وليأت به إن كان من الصادقين, ووالله لن يجد له عيناً ولا أثر لأنه شيء محدث أصلاً .
ومنها : أن الصحابة عن بكرة أبيهم لم يثبت عن واحد منهم أنه فعل شيئاً من ذلك الهراء فبالله عليك هل كانت الطبول تضرب في حلقات ذكرهم؟ هل فعله أبو بكر؟ هل فعله عمر؟ هل فعله عثمان؟ هل فعله علي؟ هل فعله سائر العشرة المبشرين بالجنة؟ هل فعله المهاجرون؟ هل فعله الأنصار؟ لا والله لم يفعل أحد منهم شيء من ذلك، فهؤلاء سادات الأمة وعلماؤها وسلفها وهم القدوة ومنهم أخذنا ديننا نقلاً عن نبينا - صلى الله عليه وسلم -, وهذا يفيدك أن هذه الأفعال إنما هي وسوسة شيطانية وهلوسة إبليسية عافانا الله وإياك من فساد القلوب والعقائد والعقول .
ومنها : أن الأدلة قد وردت في تحريم المعازف بكل صورها ومختلف أشكالها, وضرب الطبول والدفوف يدخل تحت هذا النهي, ولم يرخص في الدف فيما أعلم إلا للنساء في الأعراس في حدود المشروع بلا غلو, فإذا كان ضرب الطبل أصلاً ممنوعاً فكيف يجعل ضربه جزءاً من أجزاء الذكر الذي يتقرب به إلى الله تعالى؟ بحيث لا يعتقد كمال الذكر منفرداً إلا إذا ضرب معه الطبل وحصل معه الهز والرقص وكأنهم في صالة أفراح, كيف يتقرب إلى الله بما هو حرام أصلاً فهؤلاء جمعوا بين بلية الإحداث وبلية ارتكاب المحرم بنية التعبد ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها .(2/109)
ومنها : أن الأدلة وردت في منع الإحداث في الدين, ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) ولمسلم (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) وله عن جابر مرفوعاً (( أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة )) وفي حديث العرباض بن سارية (( وإياكم ومحدثات الأمور )) وهذه الأفعال محدثات في الدين فهي بدع وضلال وكل إحداث في الدين فهو رد، قال الشيخ علي محفوظ رحمه الله تعالى: ( وقالوا: يجوز الرقص حالة الذكر بدليل فعل الحبشة في المسجد بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكر عليهم وكان رقصهم بالوثبات والوجه ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت (( لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون بالحراب والدرق في المسجد حتى أكون أنا التي أسأمه )) وكان ذلك يوم عيد الفطر, ونقول لهم: هذا قول باطل مناقض لقواعد الشرع الشريف لقوله - صلى الله عليه وسلم - (( شر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار )) وقائله كأنه ممن يحرفون الكلم عن مواضعه والاستدلال بفعل الحبشة في المسجد بحضرته - صلى الله عليه وسلم - استدلال باطل لأن ذلك كان تمايلاً بالحراب للتدريب على استعمال السلاح كما شرعت المسابقة وكما أبيح التبختر في الحرب وإن كان ممنوعاً في غيره كما قال عليه الصلاة والسلام (( إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن )) وأين هذا من الرقص الذي هو هز المعاطف والأكمام الذي لا يفعله إلا الفساق من العوام, قال في المدخل: وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلاً جسداً له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون فهو دين الكفار وعباد العجل وحاشا لله أن يقول هذا(2/110)
الشنيع حجة الإسلام وإمام العاملين الإمام ابن حجر أمطر الله على جدثه حبيب الرضوان والرضوان، ونقل القرطبي عن الإمام الطرسوي أنه سئل عن قوم في مكان يقرؤن شيئاً من القرآن ثم ينشد لهم منشد شيئاً من الشعر فيرقصون ويطربون ويضربون بالدف والشبابة هل الحضور معهم حلال أو لا؟ فأجاب: مذهب السادة الصوفية أن هذا بطالة وضلال وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلاً جسداً له خوار قاموا يرقصون حوله ويتواجدون وهي أي الرقص دين الكفار وعباد العجل وإنما كان مجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعوهم من الحضور في المساجد وغيرها ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم ولا أن يعينهم على باطلهم هذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم من أئمة المسلمين، وقال الإمام الكبير ابن قدامة جواباً عن مثل هذا السؤال: إن فاعل هذا مخطئ ساقط المروءة والدائم على هذا الفعل مردود الشهادة في الشرع غير مقبول القول فإن هذا معصية ولعب وكرهه أهل العلم وسموه بدعة ونهوا عن فعله ولا يتقرب إلى الله تعالى بمعاصيه ولا يطاع بارتكاب مناهيه ومن اتخذ اللهو واللعب ديناً كان كمن سعى في الأرض بالفساد ومن طلب الوصول إلى الله سبحانه من غير طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو بعيد عن الوصول إلى المطلوب )ا.هـ. كلام الشيخ علي محفوظ رحمه الله تعالى، وأوصي هنا بقراءة كتاب ( الاستقامة ) لشيخ الإسلام ابن تيمية وبقراءة كتاب ( الكلام على مسألة السماع ) وكتاب ( إغاثة اللهفان ) لتلميذه العلامة ابن القيم رحمهما الله تعالى رحمة واسعة فإنهما قد أشبعا هذه المسألة بحثاً وتفصيلاً ولا يكفي بعض النقول منها بل لابد من الاطلاع عليها، وسئلت اللجنة الدائمة عن ذلك فقال السائل: ما(2/111)
حكم الإسلام فيمن يذكرون الله وهم يتمايلون يميناً وشمالاً في حالة قفز وفي جماعة وفي صوت عال؟ فأجابوا بقولهم ( لا يجوز لأنه بهذه الكيفية بدعة محدثة وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) )ا.هـ. وبه تعلم أن ضرب الدفوف والاهتزاز والتمايل عند الذكر من البدع والمحدثات والأمور المنكرات وقد تقرر في قاعدتنا أن كل إحداث في الدين عقيدة أو شريعة فهو رد والله يتولانا وإياك .(2/112)
الفرع الخامس والأربعون : قراءة القرآن من واحد يوم الجمعة قبل خروج الخطيب والبقية يستمعون وهذا لنا فيه نظران, نظر باعتبار أصل القراءة مفردة عن هذا الوصف ونظر لها مقرونة بهذا الوصف, أما القراءة في ذاتها بدون النظر إلى وصفها فهي مشروعة كما دلت عليها الأدلة من الكتاب والسنة كقوله تعالى { فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } وقوله { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ } وقوله { وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا } والأحاديث في السنة كثيرة لكن هذا نظر باعتبار أصل القراءة وأما بالنظر الثاني فإن هذا الفعل بدعة ولا شك ومحدثة في الدين لأنه لم يكن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء من ذلك بل كان الصحابة يجتمعون للصلاة فمنهم المصلي ومنهم الذاكر ومنهم التالي للقرآن لنفسه بلا جهر فلم يكن في عهده - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك ولو كان مشروعاً لأمر به مع القدرة الكاملة وتوفر السبب وقد تقرر أن الأصل في العبادات التوقيف وتقرر أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة وتقرر أن كل فعل توفر سببه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله فإن المشروع تركه وتقرر أن الدين كامل الكمال المطلق في علمياته وعملياته وتقرر أن خير الهدي هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتقرر أن الأدلة من الكتاب والسنة لا تفهم إلا على فهم السلف وتقرر أن كل فهم في الأدلة يخالف فهم السلف فهو باطل فهذا الفعل لا دليل عليه بخصوصه مقرونة بصفته لا من القرآن ولا من السنة ولا من فعل الصحابة ولا من الاعتبار الصحيح ولا من فعل أحد من السلف بل هو استحسان عقلي من فاعله لا يستند إلى شيء من الأدلة وعادة قد جرى عليها عرف بعض البلاد وقد تقرر أن العادات والأعراف والاستحسانات لا مدخل لها في التشريع ولا حق لأحد أن يستدل بالأدلة التي تثبت أصل فضل القراءة لأنها أدلة تثبت أصل الفضل فقط والكلام(2/113)
هنا ليس على إثبات شرعية أصل الفضل لقراءة القرآن وإنما المطلوب هنا هو الدليل على شرعية هذه الصفة المخصوصة وقد عرفت أنه لا دليل عليها وقد تقرر في القواعد أن شرعية الأصل لا تستلزم شرعية الوصف فهذا الفعل محدث في الشرع ويدخل في عموم حديث (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) وحديث (( وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة )) فحيث كان محدثاً فيكون رداً على أصحابه لأن كل إحداث في الدين عقيدة أو شريعة فهو رد والله المستعان فالواجب على ولاة الأمر في تلك البلاد التي يفعل فيها ذلك إنكار ذلك وإبطاله وعدم إقراره في بلادهم, وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه وهو أعلى وأعلم، وقد سئلت اللجنة الدائمة في المملكة العربية السعودية عن ذلك فقال السائل: في بعض المساجد في أنحاء كثيرة من العالم الإسلامي تتلى آيات من القرآن الكريم بمكبرات الصوت وذلك قبل صلاة الجمعة فما الحكم؟ فأجابوا بقولهم ( لا نعلم لذلك أصلاً لا من الكتاب ولا من السنة ولا من عمل السلف الصالح رضي الله عن الجميع ويعتبر ذلك حسب الطريقة المذكورة من الأمور المحدثة التي ينبغي تركها لأنه أمر محدث ولأنه قد يشغل المصلين والقراء عن صلاتهم وقراءتهم )ا.هـ. وقال السائل أيضاً: ما حكم الإسلام في قراءة القرآن يوم الجمعة قبل صلاة الظهر بمكبرات الصوت؟ فإذا قلت له: هذا أمر غير وارد, يقول لك: تريد أن تمنع قراءة القرآن؟ فأجابوا بقولهم ( لا نعلم دليلاً يدل على وقوع ذلك في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا نعلم أحداً من الصحابة عمل به فكان بدعة وكل بدعة ضلالة )ا.هـ. قلت:- وقول السائل: تريد أن تمنع قراءة القرآن؟ هذا سؤال جاهل وإيراد معاند لأنه يريد التخليط بين مشروعية الشيء بأصله ومشروعيته بوصفه فنحن لم نمنع قراءة القرآن وإنما الذي نمنع هو قراءته بهذا الوصف المخصوص وشرعية الشيء بأصله لا تستلزم شرعيته بوصفه فالممنوع ليس القراءة باعتبار الأصل وإنما(2/114)
الممنوع هو إيقاعها على هذا الوصف الخاص فالممنوع هو الوصف لا الأصل فإنك لو قرأت يوم الجمعة أو غيرها بينك وبين نفسك لما منعك أحد ولكن الممنوع هو قراءة واحد في مكبر الصوت في هذا اليوم والبقية يستمعون فهذا الوصف الخاص هو الذي نمنعه فلا داعي للتلبيس على الناس بل هو بدعة ومحدثة ومنكر وإن غضب من غضب وكل إحداث في الدين فهو رد .
الفرع السادس والأربعون : استئجار قارئ للقرآن يقرأه أيام العزاء بصوت مرتفع والبقية يستمعون, وهذا أيضاً لنا فيه نظران:- نظر باعتبار أصل القراءة, ونظر باعتبار وصف القراءة أي إيقاعها على هذا الوصف الخاص، أما أصل القراءة فلا كلام لنا فيه فإنه مشروع بدلالة الكتاب والسنة والإجماع, والكلام الآن ليس على أصل القراءة, فاقرأ من القرآن ما شئت فلك بكل حرف حسنة ولك أجر التلاوة وثوابها فليس الكلام في هذا الفرع على أصل القراءة فانتبهوا حتى لا يأتينا أحمق مجادل يقول: أنتم تحاربون قراءة القرآن ولا تريدون من الناس استماع القرآن ومع هذا التنبيه فلا بد أن يوجد من الناس من ينظر بعين دبره وعنده تعشق لقلب الأمور وانعكاس المفاهيم, وتراه إذا طلعت عليه شمس الحق يعمى كأنه لا يرى كما قال تعالى { وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } وينزل بوابل الشتائم والسباب لا بد أن يوجد هذا الصنف من الناس لأن من سنن الله الكونية أن لكل حق معارضاً شئنا أم أبينا, ولكن هذا لا يمنعنا من بيان الحق بصفاء لإقامة الحجة وبيان المحجة ولهداية من أراد الله هدايته، والمقصود: أننا في هذا الفرع لا نتكلم على أصل القراءة وإنما الكلام على النظر الثاني وهو إيقاع القراءة على هذا الوصف المخصوص أعني قراءة القرآن من واحد في العزاء، فهذا الوصف هو البدعة وهو المحدث لأنه لا دليل عليه لا من الكتاب ولا من السنة ولا من الإجماع ولا من فعل السلف وليس عليه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بل هو إحداث في الدين(2/115)
وكل إحداث في الدين فهو رد، وفاعله يقصد التعبد لله بذلك والأصل في العبادات التوقيف والقائمون عليه يرون استحبابه والاستحباب حكم شرعي والأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها لدليل صحيح صريح، وفاعله يرى أنه من كمال إحترام الميت ومما ينفعه وهذا اعتقاد مفتقر إلى دليل لأنه غيب وأمور الغيب توقيفية على النص، وهل تظن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أهملوا إكرام أمواتهم لما لم يفعلوا ذلك بعد موتهم، فقد مات عمه حمزة وابن عمه جعفر وكل أبنائه وسائر بناته إلا فاطمة وماتت زوجه وحبيبته خديجة رضي الله عنهم وأرضاهم ومات جمع كبير من أصحابه فلم يفعل - صلى الله عليه وسلم - بعد موتهم شيئاً من ذلك فهل كان مقصراً بحق هؤلاء الأموات؟ وهل هؤلاء الذين يفعلون ذلك بأمواتهم أكمل هدياً وأحسن حالاً منه - صلى الله عليه وسلم -؟ لا والله، ثم لا والله، بل هديه - صلى الله عليه وسلم - أكمل الهدي وطريقته مع الأموات أفضل الطرق وأسلمها وأصفاها وأحسنها على الإطلاق، فهذا الفعل يدخل في حديث (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) وفي حديث (( وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة )) وحيث كان لا دليل عليه فهو محدث وضلالة وبدعة وقد تقرر أن كل إحداث في الدين عقيدة وشريعة فهو رد، وهو من البدع الإضافية، فهو بدعة باعتبار هذا الوصف المخصوص لا باعتبار الأصل، وقد تقرر أن شرعية الأصل لا تستلزم شرعية الوصف، ويزاد على ذلك أن هذا الفعل أيام العزاء يستلزم منه اجتماع الناس عند أهل الميت وهذا لا أصل له من عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا من عمل الصحابة ولا من عمل السلف الصالح، قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى ( وأما الاجتماع عند أهل الميت وقراءة القرآن وتوزيع التمر واللحم فكله من البدعة التي ينبغي للمرء تجنبها فإنه ربما يحدث مع ذلك نياحة وبكاء وحزن وتذكر للميت حتى تبقى المصيبة في قلوبهم لا تزول )ا.هـ.(2/116)
الفرع السابع والأربعون : بدعة قراءة سورة ( يس ) على قبر الميت, وهذا لا نشك أنه من البدع والمحدثات لأنه لم يثبت له دليل لا من القرآن ولا من السنة ولا من فعل الصحابة ولا من فعل أحد من السلف المعتد بأقوالهم في الأمة, وقد تقرر في القواعد أن الأصل في العبادات التوقيف على الدليل, وتقرر أيضاً أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة, وتقرر أيضاً أن كل فعل توفر سببه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله فالمشروع تركه وتقرر أيضاً أن الأصل فيما ينتفع به الميت التوقيف لأنه من الغيب وأمور الغيب مبناها على التوقيف, وتقرر أيضاً أن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة, وقد قال عليه والصلاة والسلام (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) وهذا الفعل ليس عليه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيكون محدثة وقد تقرر أن كل إحداث في الدين عقيدة أو شريعة فهر رد، وأما حديث معقل (( اقرؤوا على موتاكم يس )) فإنه حديث ضعيف أصلاً لا تقوم به الحجة, ولو صح فإن المراد به من حضرته الوفاة ليكون ذلك أيسر لخروج روحه, لكن الحديث لا يصح فلا يستدل به على شيء من الأحكام الشرعية, فقراءة سورة ( يس ) على قبر الميت ليست من الشرع في صدر ولا ورد لعدم الدليل, وكل بدعة في الدين فهي رد والله أعلم، قال فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى: ( قراءة سورة يس على قبر الميت بدعة لا أصل لها وكذلك قراءة القرآن بعد الدفن ليست بسنة, بل هي بدعة وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا افرغ من دفن الميت وقف عليه وقال (( استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل )) ولم يرد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقرأ على القبر ولا أمر به )ا.هـ. وقال الشيخ عبد العزيز رحمه الله تعالى: ( لا تشرع قراءة سورة يس ولا غيرها من القرآن على القبر بعد الدفن ولا عند الدفن ولا تشرع القراءة في القبور لأن النبي -(2/117)
صلى الله عليه وسلم - لم يفعل ذلك ولا خلفاؤه الراشدون )ا.هـ. والله ربنا أعلى وأعلم .
الفرع الثامن والأربعون : بدعة الأذان والإقامة في أذن الميت أو في قبره قبل إدخاله أو بعده وهذا لنا فيه نظران, نظر باعتبار التأذين والإقامة مجردة عن هذا الوصف, ونظر باعتبار قرنهما بهذا الوصف, فأما الأذان والإقامة باعتبار فهما عبادتان مشروعتان باتفاق أهل العلم, لكن الكلام هنا ليس بالنظر إلى أصل مشروعيتهما وإنما بالنظر إلى قرنهما بهذا الوصف المخصوص ففعلهما بهذا الوصف لا شك أنه محدثة في الدين وبدعة, فبالله عليك أيها الأخ العاقل المنصف, هل العقول تكفي لمعرفة ما يجوز مما لا يجوز لوحدها بدون هداية الدليل؟ بالطبع لا فإنه لو كان الأمر كذلك لما احتاجت البشرية إلى إرسال الرسل وإنزال الكتب, ولترك كل أحد وعقله يختار من الأقوال والأفعال ما شاء أن يتعبد به, لكن هذا باطل قطعاً, وبالله عليك هل مجرد وجود الفعل في بلادك وأطبق على فعله آلاف البشر يدل ذلك على مشروعيته؟ بالطبع لا, فإن الأفعال والأقوال إنما يعرفها حقها من باطلها بموافقة الدليل من الكتاب أو السنة الصحيحة, والكثرة لا يعرف بها الحق من الباطل, بل الحق ما وافق الشرع, فإذا علمت هذا فهل أنت تعرف نصاً من القرآن يفيد أن من جملة ما يفعل بالميت أن يؤذن ويقام في أذنه أو في قبره؟ إن كنت تعرف نقلاً صحيحاً بهذا فأسعفنا به حتى نعمل به, وأنا أريحك من عناء البحث وأقول: والله الذي لا إله غيره إنه لم يثبت هذا لا في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا في عمل أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا في عمل أحد من سلف الأمم وأئمتها, سبحان الله فمن أين أتانا هذا الفعل؟ أقول: إنه من العقل المجرد عن نور الدليل ومن الاستحسان النفسي الذي لم يستند إلى علمٍ ولا هدى, ومن التقليد الأعمى والجهل المطبق بحقيقة الشرع, ومن التعصب لما عليه الآباء(2/118)
والأسلاف وإغلاق الأذن عن سماع أهل الحق والتشكيك في صدق نواياهم, ولو نظر فاعل ذلك بعين العقل والعدل والإنصاف لعرف أن هذا الفعل من البدع, لكن أعيد التنبيه أننا إذا قلنا: هذا الفعل بدعة, فإنما نعني أنه بدعة باعتبار الوصف لا باعتبار الأصل, وقد تقرر في القواعد أن مشروعية الشيء بأصله لا تستلزم مشروعيته بوصفه, وفاعل ذلك يعتقد أنه من جملة التعبدات وقد تقرر أن الأصل في العبادات التوقيف, وفاعله يعتقد أنه مندوب, والندب حكم شرعي وقد تقرر أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة, والأذان والإقامة في أذن الميت من الأفعال التي توفر سبب فعلها على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعلها, وقد تقرر أن كل فعل توفر سببه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله فالمشروع تركه, فهذا الفعل محدث في دين الله تعالى فيدخل في عموم حديث (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) وقد تقرر في قاعدتنا أن كل إحداث في الدين عقيدة أو شريعة فهو رد, وقد سئل سماحة الوالد العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى عن ذلك فقال: ( لا ريب أن ذلك بدعة ما أنزل الله بها من سلطان لأن ذلك لم ينقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه - رضي الله عنهم - والخير كله في إتباعهم وسلوك سبيلهم كما قال الله سبحانه { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد ))"متفق على صحته" وفي لفظٍ آخر قال (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته يوم الجمعة (( أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلاله ))(2/119)
خرجه مسلم في صحيحه من حديث جابر - رضي الله عنه - )ا.هـ.
الفرع التاسع والأربعون : بدعة ختم الأدعية بقراءة الفاتحة, وهذه لنا فيه نظران: نظر باعتبار فضل قراءة الفاتحة مفرداً على أي وصف, ونظر باعتبار قراءتها بقصد استجابة الدعاء وأن قراءتها في هذا الموطن المخصوص أفضل وأن إجابة الدعاء مع قراءتها بعده أرجى من عدم قراءتها, فأما قراءة الفاتحة بالنظر الأول فهي أفضل سورة في القرآن وهي السبع المثاني والقرآن العظيم ولا نشك في فضل الفاتحة طرفة عين, ولكن البحث هنا ليس في فضلها باعتبار الأصل وإنما البحث هنا إنما هو في مشروعية قراءتها بعد كل دعاء هل هذا مشروع أولا؟ وهذا السؤال سؤال شرعي فيكون مرجع جوابه الشرع, فإياك أن تقحم عقلك ليحلل ويحرم في هذا النوع من المسائل, فنحن نسأل عن حكم الشارع في ذلك ولم نقل ما حكم هذه المسألة عقلاً, ولم نقل ما حكم هذه المسألة عند آبائك وأسلافك ولم نقل ما حكم هذه المسألة باعتبار ميل نفسك واستحسانك, نحن لم نقل شيئاً من ذلك, وإنما قلنا: ما حكم هذه المسألة شرعاً, والمتقرر أن الحكم الشرعي وقف على النص, فنقول: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو ربه سراً وجهراً, ولم ينقل عنه في مرة واحدة أنه قرأ الفاتحة بعد الدعاء, وقد تقرر أن الأصل في العبادات التوقيف, وتقرر أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة فلو كان قراءتها بعد الدعاء مشروعة لفعله ولو مرة لبيان الجواز وقد تقرر في الأصول أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز, وثبوت أصل الفضل في قراءتها لا يدل على فضل قراءتها في هذا الموطن المخصوص, لأن المتقرر أن شرعية الأصل لا تستلزم شرعية الوصف, فالذين يقرؤونها بعد الدعاء يوقعونها على وصف مخصوص فنحن نطلب الدليل على مشروعية هذا الوصف, والوصف شيء زائد على الأصل يتطلب دليلاً خاصاً، وقراءتها بعد الدعاء من الأفعال التي توفر سبب(2/120)
فعلها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد تقرر أن كل فعل توفر سببه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله اختياراً فإن المشروع تركه فقراءتها بعد الدعاء فعل لا دليل عليه لا من الكتاب العزيز ولا من السنة المطهرة ولا من الإجماع ولا من فعل الصحابة ولا من فعل سلف الأمة المقتدى بأقوالهم في الأمة, وإنما هو شيء قد استحسنه من فعله وإلا فلا يستند فعله هذا إلى نص صحيح صريح, فحيث لا دليل عليه فيكون من المحدثات والبدع فهو رد على فاعليه لأن المتقرر أن كل إحداث في الدين عقيدة أو شريعة فهو رد والله أعلم .(2/121)
الفرع الخمسون : بدعة قراءة القصائد أثناء حمل الجنائز، وهذا لا شك في بدعيته لأنه أمر محدث وقد قال عليه الصلاة والسلام (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) وفي رواية (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) وقراءة القصائد أثناء الجنائز لا دليل عليه لا من الكتاب ولا من السنة ولا من فعل الصحابة ولا من فعل سلف الأمة، ولأن قراءتها في هذا الموضع فعل يدعو إلى الفخر والمراآة بالميت وهذه الحالة لا تليق في هذا الموضع لأنه موضع تفكر وتدبر وتأمل في الموت ولذلك فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يتبعون الجنازة ويجلسون حول القبر وكأن على رؤوسهم الطير، ولا يعرف عنهم أنهم كانوا يقولون القصائد ولا غيرها، ولأن رفع الصوت في هذا الموضع نوع من النعي المحرم والنياحة على الفقدان وهو مثير للأحزان بتعداد محاسن الميت وذكرياته وبالجملة فهو من بدع الزمان ومن محدثات العصر فيدخل في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - (( وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة )) فحيث تقرر أنه من المحدثات فيكون رداً على أصحابه لأن القاعدة تنص على أن كل إحداث في الدين عقيدة أو شريعة فهو رد، قال النووي رحمه الله تعالى:- ( الصواب ما كان عليه السلف من السكوت في حال السير مع الجنازة فلا يرفع صوت بقراءة ولا ذكر ولا غيرهما لأنه أسكن للخاطر وأجمع للفكر فيما يتعلق بالجنازة وهو المطلوب في هذه الحال، هذا هو الحق ولا تغتر بكثرة من يخالفه )ا.هـ. وقال الرملي في المنهاج ( ويكره ارتفاع الأصوات في سير الجنازة )ا.هـ. وروى البيهقي أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يكرهون رفع الصوت عند الجنائز والقتال والذكر. وقال الشيخ علي محفوظ ( وجملة القول أن السنة في إتباع الجنائز الصمت والتفكر والاعتبار وبهذا كان عمل الصحابة فمن بعدهم )ا.هـ. وقد سئل أصحاب الفضيلة في اللجنة الدائمة في المملكة العربية السعودية عن حكم قراءة قصيدة البردة أو غيرها(2/122)
أثناء حمل الجنازة فأجابوا بقولهم ( قراءة قصيدة البردة أو غيرها من قرآن أو أناشيد أمام الجنازة بدعة محدثة فهي ممنوعة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه رد )) وفي رواية (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) )ا.هـ. والله أعلى وأعلم .
الفرع الحادي والخمسون : بدعة طلب تحليل الميت، وقد ورد للشيخ محمد رحمه الله تعالى سؤال هذا نصه:- هل يجوز للولي أن يطلب من المشيعين أن يحللوا الميت؟ فأجاب فضيلته رحمه الله تعالى بقوله ( هذا من البدع وليس من السنة أن تقول للناس ( حللوه ) لأن الإنسان إذا لم يكن بينه وبين الناس معاملة فليس في قلب أحد عليه شيء ومن كان بينه وبين الناس معاملة فإن كان قد أدى ما يجب عليه فليس في قلب صاحب المعاملة شيء وإن كان لم يؤد فربما لا يحلله وربما يحلله وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله )) )ا.هـ. قلت:- ولم يثبت طلب التحليل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حال دفنه للجنائز ولا ثبت ذلك أيضاً عن أحد من أصحابه فيما نعلم، وحيث لا دليل عليه فهو محدثة وبدعة والمتقرر أن كل إحداث في الدين فهو رد، والله أعلم .(2/123)
الفرع الثاني والخمسون : قول بعض المشيعين للجنازة ( وحدوه ) فيقولون:- لا إله إلا الله وقول بعضهم اذكروا الله فيذكرون الله، وهذا عمل لا أصل له، قال الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله تعالى لما سئل عن ذلك ( ليس لهذا العمل أصل، أي قول أحدهم:- اذكروا الله وحدوا الله، فهو من الأمور البدعية والذي ينبغي للمشيع أن يكون متفكراً في مآله وأن سوف يحمل كما حمل هذا الرجل ويفكر في أمر الدنيا وأن هذا الرجل الذي كان بالأمس على ظهر الأرض أصبح الآن رهين عمله، هذا هو المشروع، أما ( وحدوه ) و ( اذكروا الله ) فلم يرد عن السلف، وخير عمل يعمله الإنسان هو ما عمله السلف رحمهم الله تعالى )ا.هـ. قلت:- فهو عمل لا دليل عليه لا من الكتاب ولا من السنة ولا من عمل الصحابة فيما نعلم ولا فعله أحد من أئمة الهدى، ومثل هذا الأمر لا يثبت بمجرد العادات والتقاليد فإنه قد تقرر أن الأصل في العبادات الوقف على النص، وتقرر أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة، وتقرر أن كل فعل توفر سبب فعله على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فالمشروع تركه وتقرر أن خير الهدي هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن قلت:- هذا ذكر؟ فأقول:- نعم هو ذكر ولكن هذا الذكر يفعل على صفة معينة، ونحن نمنعه باعتبار هذا الوصف المخصوص ومشروعية الذكر بأصله لا تسوغ فعله بأي وصف لأن المتقرر أن مشروعية الأصل لا تستلزم شرعية الوصف، والله أعلم .(2/124)
الفرع الثالث والخمسون : بدعة التلفظ بالنية قبل الصلاة، وهذه من البدع التي ضربت بأطنابها في قلوب كثيرة من العامة وبعض الخاصة، وقد أنكرها أهل السنة إنكاراً لا مزيد عليه وخلاصته أن بعض الناس إذا أراد تكبيرة الإحرام يقول:- اللهم إني أردت - أو نويت - صلاة كذا في وقتها بعدد كذا بطهارة كاملة خلف هذا الإمام - ويسميه إن كان يعرفه - هذا غالب قولهم، وقد يقولون غير ذلك لكن كله يجمعه أنه تلفظ بالنية وهي من المحدثات والبدع التي لا أصل لها وبيان بدعيتها من وجوه :-
الأول :- إجماع العلماء على عدم مشروعيتها، فقد حكا ابن تيمية وجمع من أهل العلم أن العلماء اتفقوا على أن التلفظ بالنية جهراً ليس من الشرع، بل هو من البدع، وقد تقرر عند العلماء أن الإجماع حجة شرعية يجب قبولها والمصير إليها واعتمادها وتحرم مخالفتها والأمة لا يجتمع على ضلالة .(2/125)
الثاني :- أن فاعله يعتقد أنه من العبادات القولية التي لا بد من الإتيان بها قبل الدخول في الصلاة وقد تقرر في القواعد باتفاق أئمة الدين أن العبادات مبناها على التوقيف أي على الدليل الشرعي الصحيح من الكتاب والسنة ولا نعلم على مشروعية ذلك دليلاً لا من الكتاب ولا من السنة ولا من فعل الصحابة ولا من فعل أحد من السلف أهل العلم والهدى وقد غلط بعض الناس في فهم كلام الشافعي في قوله ( إذا نوى حجاً أو عمرة أجزأ وإن لم يتلفظ، وليس كالصلاة لا تصح إلا بالنطق ) فذهب بعض الناس إلى أن المقصود بالنطق هنا أي التلفظ بالنية، وتعقبه علماء الإسلام المحققون في مذهب الشافعي كالنووي وابن تيمية وابن القيم وغيرهم من أهل العلم، وبينوا أن المراد بقول الشافعي ( وليس كالصلاة لا تصح إلا بالنطق ) أن المراد به تكبيرة الإحرام، فالشافعي رحمه الله تعالى جرى على ما جرى عامة علماء السلف من أن التلفظ بالنية قبل الدخول في الصلاة من المحدثات والبدع التي ما أنزل الله بها من سلطان، فحيث لا دليل على مشروعيتها فلا تكون عبادة لأن الأصل في العبادات التوقيف على الدليل .
الثالث :- أن فاعله يعتقد استحبابه، بل وبعضهم يعتقد أنه من الواجبات المتحتمات التي يخل تركها بأصل الصلاة، والاستحباب والوجوب حكمان شرعيان وقد تقرر في قواعد الدين أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة، فنقول لمن يفعل ذلك:- هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، وقد علمت أنه لا دليل عليها البتة، فحيث لا دليل عليها فلا نثبت استحبابها فضلاً عن وجوبها لأنهما وقف على النص ولا نص .(2/126)
الرابع :- أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا حريصين الحرص الكامل على نقل كافة أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - القولية والعملية فقد كانوا يتتبعون كل أقواله وأفعاله حتى قال أنس - رضي الله عنه - (( كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الظهر والعصر )) فقيل له: كيف كنتم تعلمون قراءته؟ فقال (( باضطراب لحيته )) ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسكت بين التكبير والقراءة سأله أبو هريرة - رضي الله عنه - عن سكوته هذا ما يقول فيه فأخبره أنه يقول فيه دعاء الاستفتاح والحديث في الصحيحين والصور في ذلك كثيرة وقد كانوا يصلون خلفه - صلى الله عليه وسلم - الصلوات الخمس فلو كان يتلفظ بالنية قبل كل صلاة وهم صفوف وراءه لعلموا ذلك أتم العلم ولما كان يخفى عليهم ويعلمه من بعدهم بعد وفاته ولو علموا ذلك من حاله لتوفرت الهمم والدواعي على نقله كما نقلوا للأمة سائر شريعة مما هو دون ذلك لو كان مشروعاً فلما اتفقوا جميعاً على عدم النقل دل ذلك على أنه شيء لم يقع منه - صلى الله عليه وسلم - ولا مرة في حياته والشريعة لا تؤخذ إلا منه قولاً أو فعلاً أو إقراراً ولم يثبت عنه شيء يفيد مشروعية ذلك لا من قوله ولا من فعله ولا من إقراره فيبقى ذلك الفعل في دائرة المحدثات في دينه وقد تقرر في القواعد أن كل محدثة بدعة بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
الخامس :- أنه ثبت في الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - قال (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) ولمسلم (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) وقال عليه الصلاة والسلام (( وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة )) وهذا الفعل من محدثات الأمور وحيث كان محدثة فهو رد على فاعليه لأن المتقرر في القواعد أن كل إحداث في الدين فهو رد .(2/127)
السادس :- أن التلفظ بالنية تفسير خاطئ للنية المشترطة فإن الصلاة عبادة والعبادة لا تصح إلا بالنية وليس تفسير النية المشترطة أن يتلفظ بها هذا من الأخطاء ولاشك بل النية المشترطة هي العزم على الفعل وهذا العزم يتبع العلم فمن علم ماذا سيفعل فقد نواه ولا بد فالنية معناها انبعاث القلب للفعل وعزمه عليه وهذا الرجل قد تحققت منه النية بوضوئه وتوجهه للمسجد وقيامه للصلاة وهذا الفعل هو حقيقة النية المشترطة وأما هذه الأقوال التي يفعلونها قبل الصلاة فإنها تفسيرات خاطئة وباطلة كل البطلان بل إنه يصحبها في كثير من أحيانها إيذاء للمصلين من الجهر بالتلفظ وتكراره المرات العديدة وقد تفوت صاحبه تكبيرة الإحرام مع الإمام ويشرع الإمام في القراءة وأخونا هذا لا يزال يتلفظ بالنية ويبدي فيها ويعيد وكل ذلك سببه هذا التفسير الخاطئ للنية المشترطة ولذلك فأنا أطلب منك بارك فيك أن تحفظ هذه القاعدة التي تقول ( النية تتبع العلم ) وقد نبه عليها شيخ الإسلام أبو العباس في مواضع متعددة من الفتاوى فاحفظها يا أخي وكرر لفظها حتى ترسخ في عقلك وقلبك وعلمها من بجوارك حتى ينتشر العلم بها وتصبح مما يعلم من الدين بالضرورة حتى نقضي على هذه البدعة المذمومة .(2/128)
السابع :- أن التلفظ بالنية قبل الدخول في الصلاة مؤشر خطير على عقيدة قائله فإن قائل ذلك عنده خلل في الإيمان بكمال علم الله جل وعلا على مرادات الإنسان فهو يريد بهذا التلفظ تكميل ذلك النقص والعياذ بالله تعالى وإلا فلو أنه آمن بكمال علم الله جل وعلا بكل شيء لما تكلف قول ذلك فالله تعالى عليم بما تخفيه النفوس ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو الذي يعلم السر بل وأخفى, قال تعالى { إِنَّ اللّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء } وقال تعالى { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } وقال تعالى { إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى } وقال تعالى { أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى } وقال تعالى { وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } ولذلك قال تعالى { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } هذا في علمه جل وعلا وكمال اطلاعه على ما في النفوس بلا قرائن تظهر مقصودها فكيف وهذا قد بدت منه قرائن تحدد المراد بفعله وتبين مقصوده , فإن وضوءه وخروجه من بيته وقصده للمسجد وقيامه عند الإقامة وتوجهه للقبلة كلها قرائن تفيد أنه يريد الصلاة, بل لو اجتمع عقلاء الدنيا لأجمعوا على أن فاعل هذه الأشياء إنما يريد الصلاة, فكيف بعلم الله جل وعلا الذي يعلم السر وأخفى فأي معنى بعد ذلك للتلفظ والجهر بالنية؟ إنه كلام لغو لا فائدة منه ولا يقصد به إلا التوغل في المخالفة والبدعة, وبهذا تعلم أن التلفظ بالنية من المحدثات والبدع والمتقرر في قاعدتنا أن كل(2/129)
إحداث في الدين فهو رد .
الثامن :- أن المتقرر في القواعد أن كل فعل توفر سببه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله فالمشروع تركه, والتلفظ بالنية من داخل تحت ذلك فإنه من الأفعال التي توفر سببها على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -, ومع ذلك فلم يفعلها فلا يقال فيها إلا أن المشروع تركها .
التاسع :- أن المتقرر في قواعد الشريعة أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز, ولو كان الجهر بالنية مما هو داخل في حد المشروع لبينه - صلى الله عليه وسلم - بقوله أو بفعله أو بإقراره, لكن لم يحصل شيء من ذلك, فعدم بيانه بواحد من أوجه البيان دليل على عدم مشروعيته لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ولعل هذا كاف إن شاء الله تعالى في بيان بدعية التلفظ بالنية فاحذروه رحمكم الله تعالى والله ربنا أعلى وأعلم .
الفرع الرابع والخمسون : الأذان والإقامة لصلاة الاستسقاء, وقد سئل عنها سماحة الشيخ عبدالله الجبرين حفظه الله تعالى فقال ( الأذان والإقامة لصلاة الاستسقاء بدعة, وذلك لأن هذه الصلاة تشرع في وقت محدد وهو بعد الإشراق وعند طلوع الشمس, وهو وقت يعرفه الناس ولا يحتاجون إلى الإخبار بالأذان أو الإعلام العام وهكذا تقع هذا الصلاة في الصحراء والناس يرون الإمام إذا أقبل فيقومون ولا يحتاج إلى إقامة وهكذا لو أديت صلاة الاستسقاء في مساجد البلد الداخلة فلا تحتاج إلى أذان ولا إقامة, فمن أذن أو أقام أنكر عليه لأن ذلك لم يرد ولم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا صحابته فهو بدعة والله أعلم )ا.هـ. قلت فبان لك بذلك أن هذا الفعل بدعة وكلام الشيخ واضح ونزيده بياناً بأن نقول هذا الفعل لوجوه :
الأول :- أنه قياس في عبادة, والمتقرر عندنا معاشر أهل السنة أنه ممنوع .(2/130)
الثاني :- أن صلاة الاستسقاء قد أقيمت على عهده - صلى الله عليه وسلم - ولم يحصل فيها أذان ولا إقامة فلو كانا مشروعين لفعلهما - صلى الله عليه وسلم - لأن هذا هو وقت البيان وقد تقرر بالاتفاق أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز .
الثالث :- أن اعتقاد مشروعيتهما إيجاباً أو استحباباً حكم شرعي والمتقرر أن الأحكام الشريعة تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة .
الرابع :- أن الأذان والإقامة لصلاة الاستسقاء فعل توفر سببه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله وقد تقرر أن كل فعل توفر سببه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله فالمشروع تركه .
الخامس :- أنه محدث في الدين وقد قال - صلى الله عليه وسلم - (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) .
السادس :- أن الأذان والإقامة قبل صلاة الاستسقاء يفعلان على أنهما من جملة العبادات والمتقرر أن الأصل في العبادات التوقيف .
السابع :- أن قياسهما على سائر الصلوات الخمس قياس في مقابلة النص، لأن تركه - صلى الله عليه وسلم - لهما في صلاته للاستسقاء بالناس بمنزلة النص على الترك و المتقرر أن القياس في مقابلة النص باطل .
الثامن :- أن الصحابة لم يفعلوهما بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - ولم ينقل عنهم ذلك فلو كان مشروعاً لنقلوه لنا ولحفظوه للأمة كما حفظوا غيره، فاتفاقهم على عدم النقل دليل على عدم التشريع .
التاسع :- أن دعوة الإمام الناس إلى الخروج للمصلى قبل ذلك وتحديد يوم الخروج منزل منزلة الإعلام لها، فهذا هو الإعلام الذي فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ففي الحديث (( فوعد الناس يوماً يخرجون فيه...الحديث )) وما زاد على ذلك فليس من الشرع بل هو من المحدثات والبدع .(2/131)
العاشر :- أن خير الهدي هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهدي صحابته الكرام وشر الأمور محدثات وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة والمتقرر أن كل إحداث في الدين فهو رد فاحذروا ذلك أيها المسلمون وأنكروه على فاعليه والتزموا بالسنة فإنها النجاة والعصمة والله أعلم .
الفرع الخامس والخمسون : بدعة الأذان والإقامة لصلاة العيدين، وهذه لنا فيها نظران نظر باعتبار أصل مشروعية الأذان والإقامة بغض النظر عن وصف زائد، ونظر باعتبار قرنهما بصلاة العيدين، فأما الأذان والإقامة باعتبار أصلهما فهما مشروعان للصلوات الخمس باتفاق العلماء والأحاديث في ذلك معروفة، ونحن لا نناقش هل هما مشروعان أولاً، هذا لا نتكلم عليه، ولكن الكلام هنا على النظر الثاني وهو قرنهما بصلاة العيدين، فأين الدليل على مشروعيتهما لصلاة العيدين؟ فإنه لا دليل يدل على ذلك الوصف المخصوص لا من كتاب الله ولا من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا من عمل الصحابة ولا من فعل أحد من سلف الأمة وأئمتها، ولا حق لفاعلهما قبل صلاة العيدين أن يستدل بأدلة أصل مشروعيتهما لأن دليل الأصل للأصل ويبقى الوصف الزائد يفتقر إلى دليل خاص، وقد تقرر في القواعد أن مشروعية الأصل لا تدل على مشروعية الوصف، أرأيت لو قال أحد:- ويشرع الأذان والإقامة لصلاة النافلة ولقيام الليل فماذا ستقول له؟ لاشك أنك سترد ذلك بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله، فكذلك هنا نقول كقولك هناك ولا فرق، ولا قياس في عبادة وقد كانت العيد تقام في عهده - صلى الله عليه وسلم - مرتان في السنة ولم يكن يؤذن لها فلو كان ذلك مشروعاً لأمر بهما إذ لا مانع منه فلما لم يفعل ذلك دل على عدم مشروعيتهما هنا لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز والمتقرر أن كل فعل توفر سببه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله فالمشروع تركه، ونقول هنا كما قلنا تماماً في الفرع الذي قبله وقد سئل فضيلة(2/132)
الشيخ ابن جبرين عن ذلك فأجاب بقوله ( الأذان والإقامة لصلاة العيدين بدعة وذلك لأن هذه الصلاة تفعل في وقت معلوم مشهور، هو بعد الإشراق في هذين اليومين فلا يحتاج الناس إلى أذان لمعرفتهم بالوقت المحدد، وتفعل في الصحراء خارج البلد حيث لا بنايات ولا آكام ولا مرتفعات، بل في أرض مستوية فالناس يصفون صفوفاً ويبصرون الإمام متى أقبل فيقومون إذا رأوه ثم إذا احتيج على إقامتها في المساجد في داخل البلد لم يحتج فيها إلى الأذان لمعرفة الوقت ولا الإقامة لتحري الناس للإمام ورؤيتهم له عند وصوله ولذلك لم يفعل الأذان ولا الإقامة في العهد النبوي وعهد الخلفاء بعده )ا.هـ. وبذلك تعلم أن الأذان والإقامة لصلاة العيدين محدث في الدين وبدعة وقد تقرر أن كل إحداث في الدين عقيدة أو شريعة فهو رد والله أعلى وأعلم .(2/133)
الفرع السادس والخمسون :- بدعة استخدام الطبول قبل الأذان لإعلام الناس بقرب دخول وقت الصلاة كما يفعل في بعض مساجد الفلبين وقد سئلت اللجنة الدائمة في المملكة العربية السعودية عن ذلك فأجابوا بقولهم:- ( الطبول ونحوها من آلات اللهو فلا يجوز استعمالها في إعلام الناس عند دخول وقت الصلاة أو قرب دخول وقتها، بل ذلك بدعة محرمة، والواجب أن يكتفي بالأذان الشرعي وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ))"رواه البخاري ومسلم" وقال العرباض بن سارية - رضي الله عنه -:- وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا:- يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا فقال (( أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة ))"رواه أبو داوود والترمذي وقال حديث حسن صحيح" )ا.هـ. وبه يبين لك أن هذا الفعل محدث في الدين وبدعة والمتقرر عندنا أن كل إحداث في الدين عقيدة أو شريعة فهو رد . الفرع السابع والخمسون :- بدعة الاستمرار على البسملة والتعوذ قبل الأذان، وهذه المسألة لنا فيها نظران، نظر باعتبار أصل البسملة والاستعاذة ونظر باعتبار قولهما قبل الأذان أي اعتقاد فضيلة قولهما بخصوصهما قبل الأذان فأما البسملة والاستعاذة باعتبار أصلهما فمشروعتان اتفاقاً ولا نشك في مشروعيتهما، وليس البحث هنا بيننا وبين القوم في أصل مشروعيتهما وإنما البحث هنا في هذا التقييد، أعني في تقييد اعتقاد فضيلة قولهما بخصوصهما قبل الأذان، أي أن النقاش الآن إنما هو في الوصف لا في الأصل، فنحن نطالب بالدليل على مشروعية الوصف ولا كلام لنا في الأصل، فأين الدليل على مشروعية قولهما قبل الأذان؟ ولا حق لهم أبداً أن(2/134)
يستدلوا على وصفهم هذا بما ورد في مشروعية الأصل، لأن دليل الأصل للأصل ويبقى الوصف شيئاً زائداً على الأصل يحتاج إلى دليل آخر غير دليل إثبات الأصل لأن المتقرر عند الراسخين في العلم أن مشروعية الأصل لا تستلزم مشروعية الوصف والمتقرر أيضاً أن الأصل في العبادات الإطلاق عن الشرط الزمان والمكان والمقدار والصفة، فمن قيد عبادة بشيء من ذلك فإن تقييده هذا لا نقبله إلا بالدليل المثبت له، لأنه بهذا القيد خالف الأصل وهو الإطلاق وقد تقرر في القواعد أن الدليل يطلب من الناقل عن الأصل لا من الثابت عليه، وتقرر أيضاً أن الأصل وجوب بقاء المطلق على إطلاقه ولا يقيد إلا بدليل وتقرر أيضاً أن الأصل في العبادات التوقيف ونحن إلى ساعتنا هذه لا نعلم دليلاً على مشروعية البسملة والتعوذ قبل التأذين لا من الكتاب ولا من السنة الصحيحة ولا من الإجماع ولا من قول الصحابة أو فعل أحد من أئمة الدين المقتدى بهم، وقد ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم أبا محذوره الأذان فذكر فيه الترجيع، لم يأمره بالبسملة والاستعاذة قبل التأذين ولو كانت من مشروعات الأذان لبينها له فلما لم يذكرهما دل على عدم مشروعيتهما لأن المتقرر أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وكذلك فإن عبدالله بن زيد بن عبدربه لما رأى الأذان في المنام جاء وألقاه على النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس فيه البسملة والاستعاذة قبله, فلو كانا من مشروعات الأذان لبينت, مع أنه - صلى الله عليه وسلم - قال (( إنها لرؤيا حق )) أي أنها تعليم من الله لعباده السنة في الإعلام للصلاة, قد كان بلال يؤذن في المدينة على عهده - صلى الله عليه وسلم - للصلوات الخمس ولم يثبت عنه في مرة واحدة أنه بسمل أو استعاذ أنه - صلى الله عليه وسلم - أمره بذلك هذا ما لا يعرف في السنة الصحيحة, فأفاد ذلك أنه لا أصل لهما قبل الأذان, وقد تقرر في القواعد عندنا:- أن مشروعات الأذان إيجاباً(2/135)
واستحباباً توقيفية, وقد قال عليه الصلاة والسلام (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) وقال (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) وقال عليه الصلاة والسلام (( أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة )) وحيث تقرر أنه لا دليل على مشروعية البسملة والاستعاذة قبل التأذين فيكون اعتقاد فضيلة قولهما قبل الأذان من المحدثات والبدع وقد تقرر في قاعدتنا أن كل إحداث في الدين عقيدة أو شريعة فهو رد وبذلك أفتت اللجنة الدائمة في المملكة العربية السعودية، والله أعلم .
الفرع الثامن والخمسون :- بدعة زيادة قول ( حي على خير العمل ) في الأذان وهذه لا نشك في أنها من المحدثات والبدع المخالفة للدليل والتأصيل فأما مخالفتها للدليل فلأن الأدلة الواردة في شأن الأذان لم تذكر فيه هذه اللفظة, كحديث عبدالله بن زيد وحديث أبي محذورة وحديث عمر بن الخطاب عند مسلم وحميره, فإننا لا نعلمها قد وردت من وجه صحيح, ولو كانت من مشروعات الأذان لبينها أنصح الخلق وأفصحهم وأشفقهم وأكملهم بلاغاً - صلى الله عليه وسلم - فنقول لمن يقولونها: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، ونقول:- هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون، وأما مخالفتها للتأصيل فمن وجوه :
الأول : أن فاعلها يرى أنها من جملة العبادات وقد تقرر في قواعد الدين أن الأصل في العبادات الوقف على الدليل, وقد علمت قبل قليل أنه لا دليل يصح في إثبات هذه اللفظة .
الثاني : أن فاعلها يرى وجوبها أو استحباب قولها في الأذان والوجوب والاستحباب حكمان شرعيان وقد تقرر في القواعد أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة وقد علمت أنه لا دليل عليها .(2/136)
الثالث : أن فاعلها يرى أنها من جملة مشروعات الأذان, وقد تقرر في القواعد أن مشروعات الأذان والإقامة إيجاباً واستحباباً توقيفية وقد علمت أنه لا دليل على قولها في الأذان, وحيث لا دليل فلا تكون حينئذٍ من جملة مشروعات الأذان .
الرابع : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم بلال وأبا محذورة الأذان وكان يؤذن في عهده في الصلوات الخمس ويسمع هو ذلك الأذان ولم يأمر بقولها ولا مرة واحدة لبيان مشروعيتها, فلما لم يفعل دل على أنها ليست من الشرع لأن المتقرر في القواعد أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز .
الخامس : أن المتقرر في قواعد الدين, أن الشريعة مبناها على الهدى والإتباع لا على الهوى والابتداع .
السادس : أن المتقرر أن التشريع ليس مرده إلى الشركاء والأهواء والعقول والاستحسانات والمرويات الواهية والنقولات المنكرة الضعيفة والموضوعة, وإنما مبناه على الإذن الإلهي الشرعي كما قال تعالى { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } .
السابع : أن المتقرر في القواعد أن كل فعل توفر سببه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله اختياراً فالمشروع تركه, وقول هذه الكلمة في الأذان كان من الأفعال الممكنة على عهده - صلى الله عليه وسلم -, فإن الأذان كان موجوداً على عهده وكان هو أمير البلد وسيدها وعالمها ورسولها وكل من عنده من الصحابة كانوا سامعين مطيعين ومع ذلك فلم يأمر بقولها, أي أنه لم يشرع قولها لا بقوله ولا بفعله ولا بإقراره, بل بين مشروعية تركها بالترك الدائم إلى أن مات, وقد تقرر أن ما كان مقدوراً عليه من الأقوال والأفعال في عهده ولم يفعله فالمشروع تركه .(2/137)
الثامن : أن مذهب الصحابي إذا خالف المنصوص فليس بحجة بالاتفاق, وهذه اللفظة وإن صح قولها عن ابن عمر رضي الله عنهما فقد أخرج ابن أبي شيبة بسندٍ صحيح عن نافع قال:- كان ابن عمر زاد في أذانه ( حي على خير العمل ) إلا أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يقولها أحياناً وليس على وجه الاستمرار والديمومة, كما عند ابن أبي شيبة بسندٍ حسن أنه كان يقول في أذانه ( الصلاة خير من النوم, وربما قال: حي على خير العمل ) فظاهر اللفظ يدل على قلة وقوع ذلك منه, ولكن نقول: لا يشرع قولها مطلقاً في ثنايا الأذان على وجه يتوهم السامع أنها من جملة مشروعاته, وفعل ابن عمر مذهب له قد خالفه فيه غيره من الصحابة, ولأنه مخالف للمنصوص في تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - للأذان, لكن إن قيلت هذه اللفظة أحياناً بعد الفراغ من الأذان كله مع الفاصل الطويل عرفاً بها فلا بأس بها لأنها تقال حينئذٍ من باب التحضيض على الصلاة وحث الناس عليها, أما أن تقال في ثنايا الأذان فلا, فإن مذهب الصحابي المخالف للمنصوص الصحيح الصريح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مقبول .
قال الناظم :
قول الصحابي حجة فأضع لي ما لم يخالفه دليل معتلي
واستمرار الأذان في عهده - صلى الله عليه وسلم - طيلة حياته بدون هذه اللفظة دليل على أنها ليست من الأذان وتعليمه أبا محذورة الأذان بدون هذه اللفظة نص في أنها ليست منه وألفاظ الأذان توقيفية والنص مقدم على كل شيء فالصحيح المعتمد أن قولها في ثنايا الأذان أو بعده متصلة به من البدع المحدثة وقد قال عليه الصلاة والسلام (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) وقال (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) والمتقرر في الشرع أن كل إحداث في الدين عقيدة أو شريعة فهو رد والله أعلم .(2/138)
الفرع التاسع والخمسون والستون والحادي والستون : بدعة قول ( أشهد أن علياً ولي الله ) في الأذان, وبدعة قول ( علي خير العتر ) وبدعة قول ( عترة محمد ) أي في الأذان وهي بدع من الرافضة وما هي بأول بدعهم, وقد سئل سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز رحمه الله تعالى عن ذلك فأجاب بقوله: ( قد بين الله سبحانه تعالى على لسان نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ألفاظ الأذان والإقامة وقد رأى عبدالله بن زيد ابن عبدربه الأنصاري في النوم الأذان فعرضه على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: (( إنها لرؤيا حق )) وأمره أن يلقيه على بلال لكونه أندى صوتاً منه ليؤذن به, فكان بلال يؤذن بذلك بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى توفاه الله عز وجل, ولم يكن في أذانه شيئاً من الألفاظ المذكورة في السؤال, وهكذا عبدالله ابن أم مكتوم كان يؤذن للنبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأوقات ولم يكن في آذانه شيئاً من هذه الألفاظ, وأحاديث أذان بلال بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثابتة في الصحيحين وغيرهما من كتب أهل السنة, وهكذا أذان أبي محذورة بمكة ليس فيه شيئاً من هذه الألفاظ, وألفاظ أذانه ثابتة في صحيح مسلم وغيره من كتب أهل السنة وبذلك يعلم أن ذكر هذه الألفاظ بدعة يجب تركها لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ))"متفق على صحته" وفي روايةٍ أخرى (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ))"أخرجه مسلم في صحيحه" وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في خطبة الجمعة... (( أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة )) وقد درج خلفاؤه الراشدون ومنهم علي - رضي الله عنه - وهكذا بقية الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعين على ما درج عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صفة الأذان ولم يحدثوا هذه الألفاظ,(2/139)
وقد أقام علي - رضي الله عنه - في الكوفة وهو أمير المؤمنين قريباً من خمس سنين وكان يؤذن بين يديه بأذان بلال - رضي الله عنه - ولو كانت هذه الألفاظ المذكورة في السؤال موجودة في الأذان لم يخف عليه ذلك لكونه - رضي الله عنه - من أعلم الصحابة بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسيرته أما ما يرويه بعض الناس عن علي - رضي الله عنه - أنه كان يقول في الأذان ( حي على خير العمل ) فلا أساس له من الصحة, وأما ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما وعن علي ابن الحسين زين العابدين - رضي الله عنه - وعن أبيه أنهما كانا يقولان في الأذان ( حي على خير العمل ) فهذا في صحته نظر عنهما, وإن صححه بعض أهل العلم عنهما ولكن ما قد علم من علمهما وفقههما في الدين يوجب التوقف عن القول بصحة ذلك عنهما لأن مثلهما لا يخفى عليه أذان بلال ولا أذان أبي محذورة, وابن عمر رضي الله عنهما قد سمع ذلك وحضره, وعلي بن الحسين رحمه الله تعالى من أفقه الناس فلا ينبغي أن يظن بهما أن يخالفا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المعلومة المستفيضة في الأذان, ولو فرضنا صحة ذلك عنهما فهو موقوف عليهما ولا يجوز أن تعارض السنة الصحيحة بأقوالهما ولا أقوال غيرهما لأن السنة هي الحاكمة مع كتاب الله العزيز على جميع الناس كما قال الله عز وجل { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } وقد رددنا هذا اللفظ المنقول عنهما وهو عبارة ( حي على خير العمل ) في الأذان إلى السنة فلم نجدها فيما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ألفاظ الأذان, وأما قول علي بن الحسين - رضي الله عنه - فيما يروى عنه أنها في الأذان الأول, فهذا يحتمل أنه أراد به الأذان بين يدي الرسول - صلى(2/140)
الله عليه وسلم - أول ما شرع, فإن كان أراد ذلك فقد نسخ بما استقر عليه الأمر في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعدها من ألفاظ أذان بلال وابن أم مكتوم, وأبي محذورة, وليس فيها هذا اللفظ ولا غيره من الألفاظ المذكورة في السؤال ثم يقال: إن القول بأن هذه الجملة موجودة في الأذان الأول إذا حملناه على الأذان بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, غير مسلم به, لأن ألفاظ الأذان من حين شرع محفوظة في الأحاديث الصحيحة وليس فيها هذه الجملة فعلم بطلانها وأنها بدعة, ثم يقال أيضاً: علي بن الحسين - رضي الله عنه - من جملة التابعين فخبره هذا لو صرح فيه بالرفع فهو في حكم المرسل, والمرسل ليس بحجة عند جماهير أهل العلم كما نقل ذلك عنهم الإمام أبو عمر بن عبدالبر في كتاب التمهيد هذا لو لم يوجد في السنة الصحيحة ما يخالفه, فكيف وقد وجد في الأحاديث الصحيحة الواردة في صفة الأذان ما يدل على بطلان هذا المرسل وعدم اعتباره والله الموفق.ا.هـ. كلامه رحمه الله تعالى ولا مزيد عليه ففيه الكفاية والهداية والله أعلم .(2/141)
الفرع الثاني والستون :- بدعة تقبيل الإبهامين عند قول المؤذن أشهد أن محمداً رسول الله وقد سئلت اللجنة الدائمة عن ذلك فأجابوا بقولهم: ( لم يثبت في تقبيلهم عند قول المؤذن ( أشهد أن محمداً رسول الله ) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء فيما نعلم فتقبيلهما عند ذلك بدعة وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) )ا.هـ. قلت: ولعل الدافع لمن يفعل ذلك محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - فنقول له: إن التعبير عن محبته - صلى الله عليه وسلم - لا يكون بذلك وإنما يكون بإتباعه والإيمان به وتحكيم شرعه واقتفاء هديه وكثرة الصلاة والسلام عليه وتقديم محبته على محبة كل أحد وتقديم قوله على كل قول ونحو ذلك مما قرره أهل السنة وذلك كما قال تعالى { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ } فمصداق محبته - صلى الله عليه وسلم - لا يكون إلا في الإتباع لا في الابتداع, فإن كنت يا من تفعل ذلك تحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حباً حقيقياً صادقاً فاترك هذا الفعل فإن حبيبك - صلى الله عليه وسلم - لم يفعله والله أعلم .(2/142)
الفرع الثالث والرابع بعد الستين :- بدعة الاستمرار على الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الأذان, وكذلك بعده على وجه الجهر, فهاتان بدعتان داخلتان تحت قوله - صلى الله عليه وسلم - (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) فأما الأولى فلا تشرع مطلقاً أي أن الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - لا أصل لها قبل الأذان، نعم هي من الأذكار المطلقة المشروعة بأصلها ولكن من اعتقد فضيلتها في مكان أو زمان معين فإنه مطالب بالدليل المثبت لهذا التقيد لأن الأصل وجوب بقاء المطلق على إطلاقه ولا يقيد إلا بدليل، والمتقرر أن شرعية الأصل لا تستلزم شرعية الوصف، فقولها قبل الأذان لا يشرع لا سراً ولا جهراً أي لا تشرع باعتبار هذا الوصف المخصوص، ولأن الأصل في العبادات الوقف ولأن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة ولأنه لم يثبت في فضل قولها قبل الأذان دليل لا من الكتاب ولا من السنة الصحيحة فيكون قولها قبل الأذان من المحدثات والبدع، وكل إحداث في الدين فهو رد، وأما قولها بعد الأذان فقد قيدنا البدعة بقولنا ( على وجه الجهر ) أما قولها سراً بعد الأذان فإنه من السنة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشراً ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة ))"أخرجه مسلم في صحيحه" وروى البخاري في صحيحه عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (( من قال حين يسمع النداء:- اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمد الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته حلة له شفاعتي يوم القيامة )) فقولها سراً بعد الأذان سنة، وإما الذي ننكره هو الجهر بها وذلك(2/143)
لعدم النقل، ولأنه يوهم أنه من الأذان والزيادة فيه لا يجوز، ولو كان الجهر بها من الخير لسبقنا إليه من هم أحرص منا على كل خير، لكن الجهر بها لا يعرف لا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن الصحابة - رضي الله عنهم - فيدخل الجهر بها في حديث (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) وبناءً عليه فأقول:- أما قولها قبل الأذان فهو من المحدثات إذا كان جهراً فقط وكل إحداث في الدين فهو رد، وأما قولها بعد الأذان فإنه من المحدثات إذا كان جهراً فقط وكل إحداث في الدين فهو رد، وقد سئلت اللجنة الدائمة في المملكة عن حكم الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الأذان جهراً فأجابوا بقولهم:- ( الحكم في ذلك أنه بدعة محدثة لم تكن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا في عهد خلفائه الراشدين ولا سائر الصحابة - رضي الله عنهم -، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ))"رواه البخاري ومسلم" وفي رواية لمسلم (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) والمشروع أن يصلي المؤذن بعد الأذان على النبي - صلى الله عليه وسلم - سراً ولا يرفع بها صوته مع الأذان لأن ذلك بدعة والأذان ينتهي بقول المؤذن ( لا إله إلا الله ) بإجماع أهل العلم، ثم يسأل الله له الوسيلة وكذا من سمعه يسن له أن يقول مثل ما يقول إلا في حيعلة فيقول ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويسأل الله له الوسيلة كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة )ا.هـ. وكأني بأخرق يقول أيها الوهابيون أنتم لا تحبون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدليل أنكم تحاربون الصلاة والسلام عليه، وتجعلونها من البدع والمحدثات فنقول له: آجرك الله في عقلك وأخلف لك خيراً منه، فإن المحبة يا أحمق ليست بفتح باب الإحداث في الدين وإنما المحبة هي الإتباع والاقتفاء لو كنت ممن يعقل، ولكن لا شأن لنا بأحد،(2/144)
فالحق سيبين وإن رغمت أنوف أهل البدع وكشرت أفواههم ورمونا عن قوس واحدة فالله حسبنا ونعم الوكيل وهو أعلى وأعلم .
الفرع الخامس والستون :- بدعة زيادة لفظة ( سيدنا ) في الشهادة، أي عند قول المؤذن ( أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ) فيقول ( أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله ) وهذه من أشهر بدع الطرقيين والصوفية ويعتذرون في ذلك بوجوب محبته - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه وتسييده، فنقول: أما محبته - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه فلا تكون بمخالفة سنته كما يفعلون هم، وإنما تكون بإتباع سنته وعدم الزيادة أو التقدم عليها, وأما تسييدهم له فهذا لا يجوز فعن عبدالله ابن الشخير - رضي الله عنه - قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: أنت سيدنا فقال (( السيد الله تبارك وتعالى )) قلنا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً فقال (( قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان )) فأنكر عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن هذا الإطلال لا يجوز لأحد من البشر ولا له - صلى الله عليه وسلم - نفسه وهو أفضل خلق الله لأنهما من أسماء الله تعالى، قال ذلك صاحب السنن والمبتدعات في العبادات وكتابه هذا من أفخر الكتب في هذا الشأن فجزاه الله خير الجزاء وحفظه للأمة الإسلامية عزاً وذخراً هو وسائر علماء أهل السنة والجماعة ونزيد ذلك إيضاحاً فنقول:- إن هذه الزيادة ليس في شيء من الأدلة، وقد تقرر أن مشروعات الأذان والإقامة إيجاباً واستحباباً توقيفية، ولأن الأصل في العبادات التوقيف ولأن الزيادة في ألفاظ الأذان لا تجوز وإن كانت كلمة صحيحة في ذاتها، ولأن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة، فاعتقاد فضيلة هذه الكلمة في هذا الموضع محدث في الدين وبدعة فيدخل في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) والمتقرر في قاعدتنا أن كل إحداث في(2/145)
الدين عقيدة أو شريعة فهو رد والله أعلم .
الفرع السادس والستون :- بدعة اعتقاد فضيلة قراءة قوله جل ذكره { وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا } قبل الأذان كما هو معمول به في بعض بلاد الإسلام، ويتضح لك الأمر إذا عرفت أن من اعتقد فضيلة قراءة آية في زمان معين أو مكان معين فإنه مطالب بالدليل على هذا الاعتقاد نعم قراءة القرآن كلها خير، لكن بلا اعتقاد فضيلة شيء مخصوص منه بمكان مخصوص أو زمان مخصوص، لأن هذا الاعتقاد ربط مبناه على الدليل، فإن جاءنا من يعتقد ذلك بالدليل الشرعي الصحيح الصريح قبلناه وإلا فالأصل عند زيادة هذه الأفضلية، وأضرب لك عدة أمثلة فأقول:- لقد ورد الدليل الشرعي الصحيح الصريح في استحباب قراءة سورة البقرة في البيت فقال عليه الصلاة والسلام (( إن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة )) فهذا التخصيص لهذه السورة من بين سائر سور القرآن لورود الدليل بها، وهكذا يستحب قراءة آية الكرسي قبل النوم لورود الدليل بذلك الشأن ففي الحديث (( من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح )) فهذا استحباب مقبول لثبوت الدليل به، وكذلك يستحب قراءة المعوذتين دبر الصلوات الخمس وذلك لثبوت الدليل بذلك وهكذا في سائر ما ورد فيه فضل بخصوصه في هذا الزمان المعين أو المكان المعين والسؤال هنا: هل ورد دليل خاص يثبت فضيلة قراءة هذه الآية قبل الأذان؟ الجواب:- لا، فإنه لا دليل يفيد ذلك لا من الكتاب ولا من السنة الصحيحة ولا من الإجماع ولا يستفاد هذا الفضل الخاص بمجرد الاستدلال على فضل قراءة القرآن على وجه الإجمال لأن المتقرر أن مشروعية الأصل لا تستلزم مشروعية الوصف ولأن فاعله يرى أنه عبادة والمتقرر أن الأصل في العبادات التوقيف ولا نعلمه ثابتاً بسندٍ(2/146)
صحيح عن أحد من الصحابة أو السلف المقتدى بهم في العلم والدين، وإنما هو شيء استحسنه بعض الناس ورأى أنه من الخير، ونقول:- لو كان من الخير لسبقنا له من هم أحرص منا على الخير ولم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه علم بلالاً وأبا محذورة وأبي بن كعب شيئاً من ذلك والمتقرر أن كل فعل توفر سببه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله اختياراً فالمشروع تركه، وبناءً عليه فيدخل ذلك الفعل تحت قاعدتنا التي نحن بصدد شرحها والتي تقول:- كل إحداث في الدين عقيدة أو شريعة فهو رد لقوله - صلى الله عليه وسلم - (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) والله ربنا أعلى وأعلم .(2/147)
الفرع السابع والستون :- سئلت اللجنة الدائمة في المملكة السعودية عن حكم قول المؤذن بعد الأذان الشرعي هذه العبارة:- ( الصلاة والسلام عليك يا أول خلق الله وخاتم رسله )؟ فأجابوا بقولهم: ( لا نعلم دليلاً من الكتاب ولا من السنة يدل على مشروعية هذا الدعاء بعد الأذان والخير كله في إتباع هدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - والشر كله في مخالفة هديه - صلى الله عليه وسلم - وقد ثبت عن رسول لله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) ولكن يشرع بعد الأذان للمؤذن وغيره أن يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يقول: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (( إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً, ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلةً في الجنة لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله وأرجوا أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة ))"رواه مسلم" وقوله - صلى الله عليه وسلم - (( من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة ))"رواه البخاري في صحيحه" وزاد البيهقي في آخره بإسناد صحيح (( إنك لا تخلف الميعاد )) لكن يقولها المؤذن وغيره بصوت هادئ ولا يرفع صوته بذلك, لعدم نقل الجهر به كما تقدم )ا.هـ. فبان لك بذلك أن هذا القول من البدع والمحدثات, بل إنه خطأ ظاهر فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس هو أول خلق الله وحديث (( متى خلقت؟ )) فقال (( وآدم بين الماء والطين )) كذب مختلق وهو نفخة شيطانية يريد بها إفساد العقيدة والغلو في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, وأما قوله (( وخاتم رسله )) فهو قول صحيح كما قال(2/148)
تعالى { وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } لكن صحته لا تفيد مشروعية قوله بعد الأذان لأن شرعية الأصل لا تستلزم شرعية الوصف فاعتقاد فضيلة هذا القول بخصوصه بعد الأذان من المحدثات والبدع فيدخل في حديث (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) والمتقرر أن كل إحداث في الدين عقيدة أو شريعة فهو رد .
الفرع الثامن والستون :- قول ( أقامها الله وأدامها ) عند قول المقيم: قد قامت الصلاة وهذا من الأقوال التي لا دليل عليها في السنة الصحيحة إلا ما رواه أبو داود في سننه و من حديث بلال ولكنه حديث ضعيف لجهالة أحد رواته, ولأنه فيه شهرين حوشب وفيه مقال ولا نعلم أحداً رواه إلا أبا داود وحيث ثبت ضعفه فلا يستفاد منه شيء من الأحكام الشرعية لأن المتقرر أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة, وهذا القول وإن قال به بعض الأئمة إلا أن أقوال العلماء يستدل لها لا بها, فأقوالها وأقوال سائر الناس تقاس بموافقة الكتاب والسنة, ولا عبرة بكثرة قائليه فإن الكثرة لا يعرف بها حق ولا باطل, بل الحق ما وافق النص ولو لم يقل به إلا واحد وقد تقرر أن وجود الفرع في كتب الفقهاء ليس بدليل على مشروعيته ما لم يكن يستند إلى دليل مقبول معتمد، وقد عرفت أن هذا القول يستند إلى هذا الحديث الضعيف, والأحاديث الضعيفة لا يستفاد منها حكم شرعي فيدخل هذا القول في عموم قوله (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) ولكن على الداعي إلى الله تعالى أن يترفق بالناس عند المخالفة فيوجه بنبرة المشفق المحب المخلص الصادق, وليبين الحق بمأخذه ودليله ويصبر على ما يواجهه من النقد والأذى والله أعلم .(2/149)
الفرع التاسع والستون والسبعون :- بدعة التنويه قبل الأذان أي أن يقول المؤذن ( الصلاة الصلاة ) وبدعة التلحين والتطريب في الأذان بالمدود الزائدة والإيقاعات المدروسة حتى يكون كألحان الغناء, وبدعة الأذان الجماعي, وهو أن يقوم أربعة من المؤذنين بأذان واحد في وقت واحد وهذه الثلاث من البدع, ومن المحدثات في الدين, فأما التنويه فإنه زيادة في الأذان لم يأذن بها الله ولم يأذن فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يعلمها أحداً من مؤذنيه في عهده, ولم يكن ينادى للصلاة في عهده إلا بالأذان الشرعي المعروف اليوم, وأول لفظة فيه ( الله أكبر ) باتفاق أهل العلم فهي محدثة في الدين وبدعة وقد تقرر أن كل إحداث في الدين عقيدة أو شريعة فهو رد, قال الله تعالى { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ } وقال عليه الصلاة والسلام (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) وقال (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) وقد تقرر في القواعد أن كل فعل توفر سببه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله فالمشروع تركه, وتقرر أيضاً أن مشروعات الأذان إيجاباً واستحباباً توقيفية وأما تلحين الأذان وتطريبه أي التغني به وإيقاعه على نغم الألحان فهو محرم بالإجماع فالأذان سهل لين فلا يجوز التمطيط فيه, وإنك لتعجب من بعض المؤذنين من إيقاعه للأذان فإنك لا تكاد تفرق بينه وبين ألحان الغناء, ولربما يهتز بعض السامعين ترنماً من حلاوة اللحن, وبعضهم تكاد تخنقه العبرة لا من تأثر ألفاظ الأذان بل من الإعجاب باللحن وشدة وقعه في النفس ولربما تسمع في أحايين كثيرة من يذم بعض المؤذنين أو لا يكاد يسمع له بسبب عدم تلحينه للأذان, بل وقد يوصف بأنه لا يصلح للأذان ولا يجذب انتباه السامعين, كل ذلك بسبب أن التلحين والتطريب صار هو المقصود الأول من الأذان, فيأتي بـ ( الله أكبر, الله أكبر ) ولا يكاد(2/150)
يسكت من التكبيرة الثانية إلا وقد مدها عشر حركات أو أكثر, وكذلك ( حي على الفلاح ) فإن كلمة ( الفلاح ) تبقى في فمه يمدها ويمطط فيها أكثر من ثلاث عشرة حركة وهكذا في سائر ألفاظ الأذان, وكل ذلك من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان, بل نص الفقهاء على أن مد كلمة ( أكبر ) قد يقلب معناها إلى معنى آخر لأنها ستكون ( أكبار ) وهو الطبل, فاتقوا الله عباد الله وانتبهوا لهذه المحدثة, ونحن لا نعارض تحسين الصوت بالأذان ولكن الذي نعارضه هو التلحين والتطريب الزائد الذي ما أنزل الله به من سلطان, فهوا إحداث في الدين وبدعة وكل إحداث في الدين فهو رد, وأما الأذان الجماعي وهو الذي كان يسمى ( أذان الحوق ) أو ( الأذان السلطاني ) وهو أن يقوم أربعة من المؤذنين بأذان واحد و قال الشيخ بكر حفظه الله وعافاه وشفاه ( أحدث في خلافة هشام بن عبدالملك وقد أبطله فاروق الأول بمصر بفتوى الشيخ محمد مصطفى المراغي, وكان الأذان الجماعي في المسجد الحرام وفي المسجد النبوي الشريف حتى أبطل عام ( 1400 ) وقد أفردت في إنكاره جزءاً و الحمد لله رب العالمين )ا.هـ. ووجه كونه بدعة لأنه إحداث في صفة عبادة شرعية والمتقرر أن صفة العبادة مبناها على التوقيف, ولأنه شيء لم يكن على عهده - صلى الله عليه وسلم - ولا على عهد خلفائه الراشدين ولا نعلمه ثابتاً عن أحد من القرون المفضلة وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة, وكل إحداث في الدين فهو رد والمتقرر أن الأصل في العبادات التوقيف والأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة وتقرر أيضاً أن مشروعات الأذان إيجاباً واستحباباً توقيفية والله ربنا أعلى وأعلم .(2/151)
الفرع الواحد والسبعون :- بدعة التثويب في غير أذان الفجر, أي قول ( الصلاة خير من النوم ) وهذه من البدع القديمة, ووجه بدعيتها أنها لا تعرف في شيء من أحاديث الأذان وإنما وردت في أذان الفجر خاصة ولو كانت مشروعة لبينها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأمة ليعملوا بها في سائر الأذان وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز, ومشروعات الأذان إيجاباً واستحباباً توقيفية على الدليل, والأحكام الشرعية مبناها على الإذن الشرعي من الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ومحال أن تكون هذه اللفظة مشروعة في سائر الأذان ولا يفعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا مرة واحدة لبيان مشروعيتها فإنه - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ البلاغ المبين وأكمل الله به النعمة والدين وقد تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك, فهي محدثة وبدعة في غير أذان الفجر لثبوت النص بها في الفجر فقط والله أعلم .
الفرع الثاني والسبعون :- بدعة الترضي وهو قول المؤذن بعد أذان الفجر ( رضي الله عنك يا شيخ العرب ) أو ( يا حسين ) أو ( يا شافعي ) ونحن نقول رضي الله عن سائر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورحم الله سائر الأمة ولا نخالف في ذلك وأما أن تجعل كالورد بعد الأذان أو أنه يعتقد أنها من جملة ألفاظ الأذكار بعد الأذان فهذا لا يجوز لأن مشروعات الأذان إيجاباً واستحباباً توقيفية ولأن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة، ولا دليل على ذلك لا من الكتاب ولا من السنة ولا من فعل السلف الصالح فهو محدثة وبدعة والمتقرر أن كل إحداث في الدين فهو رد .(2/152)
الفرع الثالث والسبعون :- بدعة الاستمرار على قول ( أهلاً بذكر الله ) عند سماع الأذان ونحن نقول أهلاً وسهلاً وحياً هلاً بذكر الله ولكن الممنوع أن تجعل من الأذكار الملاصقة لسماع الأذان وكأنها من جملة الواردة فهذا القول بهذه الصفة لا نعلم له أصلاً لا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من صحابته ولا عن أحد من الأئمة فيما نعلم, وهم أشد فرحاً وأعظم شوقاًَ منا لذكر الله تعالى فترتيب هذا القول عند سماع الأذان لا شك أنه من البدع لأن مشروعات الأذان إيجاباً واستحباباً توقيفية ولأن الأصل في العبادات التوقيف ولأن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة ولأن كل ما توفر سببه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله فإن المشروع تركه, ولأنه - صلى الله عليه وسلم - قال (( من أحدث في أمرها هذا ما ليس منه فهو رد )) فهذا الفعل بهذا الوصف من المحدثات وقد تقرر أن كل إحداث في الدين فهو رد والله أعلم .(2/153)
الفرع الرابع والسبعون :- بدعة الاستمرار على قول ( مرحباً بالقائلين عدلاً وبالصلاة مرحباً وأهلاً ) عند سماع الأذان, وهذا القول في ذاته صحيح لا غبار عليه فإن قلب المؤمن يفرح بمجيء الصلاة والقلب يرقص طرباً عند حلول وقتها وألفاظ الأذان كلها حق وعدل فهذا القول في ذاته لا نقاش لنا فيه, ولكن المطلوب الآن هو: هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول هذا القول عند سماع الأذان؟ الجواب: لا, ولا نعلمه منقولاً بالسند الصحيح عن أحد من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأما ما يروى عن عثمان أنه كان يقوله فإن سنده ضعيف لا تقوم به الحجة فترتيب هذا القول بعد كل أذان لا أصل له يصح, ولكن قوله مرة أو مرتين لا على وجه الديمومة لا أظن أن فيه بأساً من غير اعتقاد فضيلة له بخصوصه فأنتبه يا أخي: إن الذي ننكره هو اعتقاد أفضلية هذا القول بعد سماع الأذان وأما ذات القول فلا كلام لنا فيه, وقد تقرر أن شرعية الأصل لا تستلزم شرعية الوصف, وأن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة وأن العبادات مبناه على التوقيف وأن مشروعات الأذان إيجاباً واستحباباًَ توقيفية, فاعتقاد فضيلة هذا القول بخصوصه عند سماع الأذان محدثة في الدين وبدعة وقد تقرر أن كل إحداث في الدين فهو رد والله أعلم .(2/154)
الفرع الخامس والسبعون :- بدعة الاستمرار على قول ( الله أعظم والعزة لله ) عند سماع الأذان, وهذا القول في ذاته صحيح فالله هو العظيم العظمة المطلقة وهو العزيز العزة المطلقة ولكن الذي نقول: إن الاستمرار على هذا القول عند سماع المؤذن لا أصل له لا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن صحابته, ولا تنظر إلى صحة القول في ذاته, بل أنظر كذلك إلى مشروعية قوله في هذا الزمان المخصوص أو المكان المخصوص, فالعبادة لا بد أن تكون مشروعة بذاتها وبصفتها وقد تقرر أن مشروعية الأصل لا تستلزم مشروعية الوصف, أي أنه ليس كل قول أو فعل مشروع بأصله يكون مشروعاً بوصفه بل الوصف شيء زائد على الأصل لا بد فيه من دليل آخر, ولعلي أحسنت في التفريق بين الأمرين ووالله العظيم ثم والله العظيم ثم والله العظيم إننا لا نناقش في هذا القول بذاته وإنما نناقش فيه باعتبار اعتقاد فضيلة قوله في هذا الوقت المخصوص, فلا كلام لنا في الأصل وإنما الكلام في الوصف, وإن عدم التفريق بين أصل العبادة ووصفها هو الذي قد أوجب الوقوع في كثير من هذه المزالق فانتبهوا رحمكم الله وغفر لكم, فالاستمرار على هذا القول عند سماع المؤذن واعتقاد فضيلة قوله في هذا الوقت المخصوص محدثة في الدين وبدعة والمتقرر أن كل إحداث في الدين فهو رد والله أعلم .
الفرع السادس السبعون :- بدعة الاستمرار على قول ( الله أكبر على كل من طغى وتجبر ) عند سماع الأذان وكلامنا ككلامنا في الفرع قبله سواءً بسواء مع التأكيد على التفريق بين أصل هذا القول ووصفه, فالمنكر هو الوصف لا الأصل ومشروعية الأصل لا تستلزم مشروعية الوصف وأن كل إحداث في الدين فهو رد .(2/155)
الفرع السابع والسبعون :- بدعة الاستمرار على قول ( الله أكبر على من ظلمنا ) عند سماع الأذان وكلامنا فيه ككلامنا في الفرع الحادي والسبعين سواءً بسواء مع التأكيد على أهمية التفريق بين أصل هذا القول ووصفه وأن المنكر هو الوصف فقط لا الأصل وقد تقرر أن مشروعية الأصل لا تستلزم مشروعية الوصف وكل إحداث في الدين فهو رد .
الفرع الثامن والسبعون :- بدعة الاستمرار على قول ( الله أكبر على أولاد الحرام ) عند سماع الأذان وكلامنا فيه ككلامنا في الفرع الحادي والسبعين سواءً بسواء مع التأكيد على أهمية التفريق بين أصل هذا القول ووصفه, وأن المنكر هو الوصف وليس الأصل وقد تقرر أن مشروعية الأصل لا تستلزم مشروعية الوصف وأن كل إحداث في الدين فهو رد .
الفرع التاسع والسبعون :- زيادة لفظ ( الدرجة العالية الرفيعة من الجنة ) في الدعاء الوارد بعد الأذان, فإنه بعد البحث في الأحاديث الواردة فيما يشرع للمسلم قوله بعد الأذان لم نجد ما يحتج به في إثبات هذه اللفظة, فالحق إلغاؤها, أي إن اعتقاد فضيلة قولها من جملة ما يقال بعد الأذان لا يصح والأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة, وانتبه أيها الأخ الكريم إن الذي ننكره هو اعتقاد فضيلة قولها بعد الأذان وأما هي في ذاتها فإنه لا نقاش لنا فيها ومشروعية الأصل لا تستلزم مشروعية الوصف ومشروعات الأذان وما يقال بعده توقيفية وكل إحداث في الدين فهو رد وقد أتحفنا بغالب هذه الفروع الخاصة بالأذان فضيلة الشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد في كتابه المهم المتين ( تصحيح الدعاء ) فجزاه الله خير الجزاء وشفاه الله وعافاه من كل بلاء وأدخله جنة عرضها السموات والأرض آمين .
الفرع الثمانون :- الأذان في أذن المهموم وهو بدعة لا أصل له، ولم يكن من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك وكل إحداث في الدين فهو رد .(2/156)
الفرع الواحد والثمانون :- الأذان خلف المسافر تبركاً بسلامته وهو بدعة لا أصل له لأنه لا دليل عليه في الشرع فهو محدث وكل إحداث في الدين فهو رد .
الفرع الثاني والثمانون :- الأذان وقت الحريق, وهو من المحدثات التي لا أصل لها ولا نعلمها تثبت من وجه يصح, والأذان عبادة توقيفية ولا نعلمه وارداً إلا في الإعلام بدخول أحد أوقات الصلوات الخمس, وقد قال عليه الصلاة والسلام (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) وإقرار بعض أهل العلم فعل ذلك لا يدل على مشروعيته, ووجوده في بعض كتب الفقه لا يدل على مشروعيته, إذ لا دليل عليه لا من القرآن ولا من السنة الصحيحة ومحاولة بعض أهل العلم تصحيح ذلك لا يقبل لأن المحدثات والبدع يجر بعضها بعضاً, فهو محدث لا شك في ذلك وكل إحداث في الدين فهو رد .
الفرع الثالث والثمانون :- الأذان عند الضلال في السفر وهذا مما لا يعلم له أصل فهو من محدثات الأمور وبدع الأقوال وكل إحداث في الدين فهو رد, ولا مناسبة بين الضلال في السفر وبين الأذان, بل المشروع للإنسان النظر في دلائل الاتجاه إن كان يعرفها ويتحرى من قرب منه من البشر إن كان ثمة أحد مع كمال ابتهاله وتضرعه ودعائه لله تعالى أن يهديه الطريق الصحيح, وأما الأذان فإنه لا مناسبة لقوله في هذه الحال, وقد تقرر أن الأذان عبادة توقيفية لا تقال إلا فيما ورد به الشرع, ولا مدخل للعقول ولا لأراء الرجال ولا لاستحسان النفوس في مسائل التعبد لأن التعبد وقف على الدليل من الكتاب وصحيح السنة، وكل إحداث في الدين عقيدة أو شريعة فهو رد.(2/157)
الفرع الرابع والثمانون :- الأذان في أذن المصروع, وهذا مما يشتهر فعله عن كثير من أصحاب الرقية بالقرآن, فتجد الواحد منهم يمسك المصروع ويأخذ بأذنه اليمنى ويؤذن فيها وهذا لا نعلم له أصلاً في السنة الصحيحة وإنما المشروع هو الرقية بالقرآن والأدعية الواردة الصحيحة وأما هذا الأذان فإنه مما لا أصل له, فأوصي أحبابنا من أهل الرقية الشرعية أن يتركوه, لأن الأذان عبادة توقيفية لا تقال إلا فيما ورد فيه الشرع, ولا نعلمه ثابتاً في شيء من رقية النبي - صلى الله عليه وسلم -, ولا ثابتاً عن أحد من صحابته - صلى الله عليه وسلم -, فلا يقال حتى وإن آذى الشيطان الملابس, حتى وإن ثبت في الشرع أنه يطرد الشيطان فإن المراد به الأذان للصلوات الخمس لأن النص ورد خاصاً به وما ورد خاصاً فالواجب بقاؤه على خصوصه ولا يعمم إلا بدليل فالأذان في أذن المصروع لا أصل له في الشرع فهو محدث وكل إحداث في الدين فهو رد وبالمناسبة فإنه قد توسع بعض إخواننا من أهل الرقية الشرعية في بعض المسائل لا نرضها لهم لمحبتنا له ورغبتنا لهم أن يكونوا في عالي رتب الكمال وقد نبهت عليها في كتابي المسائل الطبية والله ربنا أعلى وأعلم .
الفرع الخامس والثمانون :- الأذان بقصد تهدئة الغضبان وهذا لا أصل له والحق اجتنابه والمشروع في حال الغضب قطع أسبابه وتغيير الهيئة ومضادته بالاستعاذة والوضوء وأما الأذان فأين دليله؟ فإنه لا دليل عليه لا من الكتاب ولا من السنة ولا من عمل أحد من الصحابة فيما نعلم وحيث لا دليل عليه فهو محدث وبدعة وكل إحداث في الدين فهو رد .(2/158)
الفرع السادس والثمانون :- الأذان لمن ساء خلقه من إنسان أو بهيمة ونقول فيه كما قلناه سابقاً, وقد توسع بعض الشافعية في إثبات هذه الفروع وأدخلوها في كتب الهداية والحق إخراجها من هذه الكتب التي لم تؤلف أصلاً إلا لهداية الناس ودلالتهم على الصراط المستقيم والمنهج القويم, والأذان عبادة توقيفية في ألفاظها وزمانها, ولا دليل يثبت أن من جملة ما يشرع له الأذان سوء الخلق, وحيث لا دليل فيكون اعتقاد فضيلته من المحدثات والبدع وكل إحداث في الدين فهو رد, والله أعلم .(2/159)
الفرع السابع والثمانون :- الأذان في أذن المولود, وهذا الفرع له من الشهرة عندنا في الديار النجدية ما لا يخفيك, وساعدهم في ذلك إثبات ابن القيم له في كتابة تحفة المودود بل وسبقه في إثبات ذلك جمع كبير من أهل العلم, بل هو مذهب الجمهور وبه يفتي جمع كبير من أهل العلم في زماننا ولكن أنت خبير بأن أقوال العلماء يستدل لها لا بها, وليس مذهب الجمهور أو مذهب الأكثر هو الحق دائماً وبل الحق لا يعرف إلا بموافقة الدليل وليس وجود الفرع في كتاب فقيه يدل على مشروعيته, وهذا الفرع لا يثبت فيه دليل, ولا يصح فيه شيء نعم وردت بعض الأحاديث المرفوعة والآثار الموقوفة لكن لا يصح منها شيء, فأما حديث (( من ولد له ولد فأذن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى لم تضره أم الصبيان )) فهو واه جداً فيه يحي بن العلاء وقد رماه الإمام أحمد بالوضع, وفيه مروان بن سالم قال فيه الشيخان: منكر الحديث, وفيه طلحة بن عبيدالله العقيلي قال في التقريب ( مجهول ) فهو حديث لا يعول عليه ولا يستفاد منه شيء من الأحكام الشرعية لأن المتقرر أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة، وأما حديث تأذين النبي - صلى الله عليه وسلم - في أذن الحسن وإقامته في أذنه اليسرى فإنه حديث تالف لا يعول عليه في صدر ولا ورد فإن في سنده الكديمي محمد ابن يونس البصري وهو متهم بالوضع قاله ابن عدي, وفيه الحسن به عمر وبن سيف قال فيه البخاري: كذاب, وفيه القاسم بن مطيب العجلي البصري قال عنه ابن حبان: ( يخطئ عمن يروي وعلى قلة روايته فاستحق الترك لما كثر ذلك منه )ا.هـ. وأما حديث الأذان في أذن عبدالله بن الزبير فهو حديث ضعيف أيضاً لأن فيه الواقدي وهو ضعيف في الحديث, وفي المسألة بحث أطول من ذلك وخلاصته أنه لا يصح في هذا شيء, وكذلك أثر عمر ابن عبدالعزيز لا يصح وكذلك ما يروى عن الحسن البصري فإنه بلا إسناد, فالذي أراه أنه لا يشرع الأذان في أذن المولود, لعدم(2/160)
صحة شيء من المرويات في ذلك وقد تقرر في القواعد أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة, وتقرر في القواعد أن الأصل في العبادات التوقيف على الدليل, وتقرر أيضاً أن مشروعية الأصل لا تستلزم مشروعية الوصف وكثرة العاملين به ليسوا بحجة على ثبوته, والله أعلم بالقصد, والله يا إخواني إنني لا أقصد مخالفتكم في شيء وإنما أريد الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب والحق قصدنا والصواب ضالتنا فمن صح عنده شيء من المرويات بحسب ما يراه من المتابعات أو الشواهد وعمل به على مقتضى اجتهاده فالله يغفر له ونسأل الله تعالى أن يتجاوز عنا وعنه , ومن نظر في المسألة ولم يجد فيها ما يصلح الاعتماد عليه وحكم بالمنع فالله يغفر له ويتجاوز عنه وكل مجتهد لن يخلو من الأجرين أو الأجر يا رب أسألك باسمك الأعظم أن تغفر لأهل العلم في الدنيا والآخرة والله ربنا أعلى وأعلم .
الفرع الثامن والثمانون :- الإقامة في أذن المولود, وهو مما لا يصح فيه شيء أصلاً لا حديث ولا أثر وكلامنا فيه ككلامنا فيما قبله سواء بسواء وحيث لا يصح فيه شيء فهو رد على أصحابه لأن كل إحداث في الدين فهو رد والله أعلم .(2/161)
الفرع التاسع والثمانون :- قراءة سورة الإخلاص في أذن المولود, وهذا أيضاً مما لا أصل له ولا نعلمه ثابتاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من صحابته والأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة والعبادات توقيفية وكم من مولود جيء به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليحنكه ولم يثبت في حديث واحد أنه قرأ في أذن واحد منهم سورة الإخلاص ولو كان مشروعاً لفعله لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ولأن كل فعل توفر سببه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله فالمشروع تركه, ومشروعية الأصل لا تستلزم مشروعية الوصف, وقد تقرر عندنا أن من اعتقد فضيلة سورة أو آية في زمان معين أو مكان معين فإنه مطالب بالنص لأن الأصل في العبادات الإطلاق فمن قيدها بزمان أو مكان أو صفة أو مقدار معين فإنه مطالب بالنص المثبت لذلك, فإن جاء به صحيحاً صريحاً قبلناه وعلى العين والرأس وإلا فالأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل وخلاصة الأمر أن سورة الإخلاص لها فضلها ومزيتها وقراءتها تعدل ثلث القرآن لكن هذا على وجه الإطلاق من غير تقييد بزمان ولا مكان, وهؤلاء يعتقدون فضيلتها في هذا الزمان المخصوص وهذا مما لا أصل له, أي لا أصل له باعتبار وصفه لا باعتبار أصل القراءة والمتقرر عندنا أن كل إحداث في الدين فهو رد والله أعلم .(2/162)
الفرع التسعون :- ترتيب قراءة قوله تعالى { رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء } أي الاستمرار على قراءتها قبل تكبير الإحرام, وهذا لنا فيه نظران: نظر باعتبار أصل القراءة بغض النظر عن زمانها ومكانها, ونظر باعتبار اعتقاد فضيلة قراءتها في هذا الوقت المخصوص, فأما القراءة باعتبار النظر الأول فلا كلام لنا فيها البتة, فهذه الآية من آيات الكتاب العزيز وهي من سورة إبراهيم عليه السلام بالاتفاق, وأما باعتبار النظر الثاني فهو الذي نمنعه لأن قراءتها في الوقت المخصوص مع اعتقاد الفضيلة الخاصة شيء زائد على مجرد الأصل فلا يستدل على مشروعيته بدليل الأصل, وقد تقرر أن مشروعية الأصل لا تستلزم مشروعية الوصف وقارئها يعتقد فضلاً زائداً بقراءتها في هذا الوقت الخاص وهذا هو الذي نطالب بالدليل على ثبوته فإنه لم يثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قرأ هذه الآية أو غيرها قبل تكبيرة الإحرام وهذا نفي قطعي متيقن لا يداخلنا فيه ريب ولا أدنى شبهة, فقراءتها في هذا الوقت الخاص يفتقر إلى دليل خاص وهو مما لا وجود له في السنة الصحيحة ومجرد كونها قرآناً لا يدل على مشروعية قراءتها في هذا الوقت الخاص, لأن المتقرر عندنا في قواعدنا أن من اعتقد فضيلة قراءة آية أو سورة خاصة في زمان مخصوص أو مكان مخصوص فإنه مطالب بالبرهان المثبت لصحة هذه الدعوى, نعم لو قرأها على أنها من جملة الدعاء المطلق فلا بأس أما ترتيب قراءتها قبل الدخول في الصلاة دائماً باستمرار حتى تصف مصاف الأذكار الراتبة فهذا ممنوع فنحن إذاً هنا نمنع الوصف لا الأصل, ولأن فاعل ذلك يعتقد التعبد بفعله هذا والمتقرر أن الأصل في العبادات التوقيف على الدليل وقد علمت أنه لم يثبت في شأن قراءة هذه الآية دليل خاص ولأن قارئها يعتقد استحباب قراءتها في هذا الوقت الخاص والاستحباب حكم شرعي وقد تقرر أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها(2/163)
للأدلة الصحيح الصريحة, وقراءتها فعل توفر سببه على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يفعله اختياراً فالمشروع إذاً ترك قراءتها, ولأن قراءتها والاشتغال به قد يكون مشغلاً عن فعل ما هو مشروع في هذه الحال من المصافة وتسوية الصفوف وتعديلها وسد فرجها والمحاذاة بين المناكب والأكعب ولأن الحديث يقول (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) ويقول (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) فهذا الفعل محدث في الدين وبدعة أي أن اعتقاد قراءتها بعينها في هذا الوقت بعينه مما لا دليل عليه فهو محدث والمتقرر أن كل إحداث في الدين فهو رد .
الفرع الواحد والتسعون :- قراءة سورة الناس قبل الدخول في الصلاة لدفع الوسواس وهذا العمل لنا فيه نظران: نظر باعتبار الأصل ونظر باعتبار الوصف, ولا كلام لنا على هذه السورة باعتبار أصلها ولا نقاش لنا فيه – نعوذ بالله من ذلك – ولكن الذي نناقش فيه هو اعتقاد فضيلتها بخصوصها قبل الدخول في الصلاة فأين الدليل الدال على مشروعية قراءة هذه السورة في هذا الوقت الخاص؟ فإنه فعل لا دليل عليه من القرآن ولا من صحيح السنة ولا من فعل الصحابة ولا نعلمه ثابتاً عن أحد من أئمة الدين, نعم هي من جملة التعويذات المباركة ذات الأثر الفعال, لكن ترتيب قراءتها قبل الدخول في الصلاة يحتاج إلى دليل زائد على مجرد كونها من جملة التعويذات الحامية من وساوس الشيطان, وشرعية الأصل لا تستلزم شرعية الوصف, ونقول في هذا الفرع كما قلناه في الذي قبله سواء بسواء مع التنبيه على هذه القاعدة والتي تقول: ( من اعتقد فضل قراءة سورة أو آية مخصوصة في زمان مخصوص أو مكان مخصوص فإنه مطالب بالمثبت لذلك ) والله أعلم .
الفرع الثاني والتسعون :- قول بعضهم: بحق الحسن وأبيه وجده وأخيه تكفينا شر هذا اليوم قبل الدخول في صلاة الفجر, وهو دعاء مبتدع وتوسل بدعي, لا أصل له وسيأتي مزيد بيان لذلك في بدع التوسل إن شاء الله تعالى .(2/164)
الفرع الثالث والتسعون :- الدعاء بقولهم ( اللهم أحسن وقوفنا بين يديك ولا تخزنا يوم العرض عليك ) وهذا القول والدعاء صحيح في ذاته لا غبار عليه ولكن اعتقاد فضيلة الدعاء به قبل الدخول في الصلاة غير مقبول لأنه لا دليل عليه ومشروعية الأصل لا تستلزم مشروعية الوصف والضابط يقول ( ترتيب ذكر قبل الدخول في الصلاة يفتقر إلى الدليل ) فاعتقاد فضيلة الدعاء بذلك قبل الدخول في الصلاة محدث في الدين وبدعة وكل إحداث في الدين فهو رد .
الفرع الرابع والتسعون :- قول بعض المأمومين ( مستوين لله طائعين ) أو ( سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) أو ( استوينا ) كل ذلك مما لا أصل له ولا دليل يثبته ولا برهان يعضده فهو رد لأن كل إحداث في الدين فهو رد, ولأن ترتيب قول أو فعل قبل الدخول في الصلاة يفتقر إلى دليل .
الفرع الخامس والتسعون :- زيادة لفظ ( يا أرحم الراحمين ) بعد قوله ( آمين ) وهذه الكلمة لا دليل يفيد مشروعيتها في هذا الوقت المخصوص, وألفاظ الصلاة توقيفية فهي محدثة وكل إحداث في الدين فهو رد .
الفرع السادس والتسعون :- قول بعض المأمومين أو الإمام نفسه: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين, عند قراءة آخر آية من سورة التين وهي قوله تعالى { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ } وهذا لم يثبت فيه نقل صحيح, والحديث فيه ضعيف لا يثبت فتركها هو المتعين لأن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها لدليل صحيح صريح وكل إحداث في الدين فهو رد .
الفرع السابع والتسعون :- قول: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب, بعد قراءة قوله تعالى { فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } وهذا لا يصح فيه شيء, والحديث الوارد فيه من مناكير زهير ابن محمد فلا يثبت، والأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة وكل إحداث في الدين فهو رد .(2/165)
الفرع الثامن والتسعون :- التكبير بعد قراءة آخر كل سورة من سورة الضحى إلى آخر القرآن, لا يصح فيه شيء والحديث الوارد فيه ضعيف والأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة وكل إحداث في الدين فهو رد .
الفرع التاسع والتسعون :- تخصيص صلاة المغرب ليلة الجمعة بقراءة سورتي الإخلاص { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } و { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } دون سائر الليالي, لا يصح فيه شيء والحديث الوارد فيها حديث ضعيف جداً والأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة وكل إحداث في الدين فهو رد .
الفرع المائة :- تخصيص صلاة المغرب ليلة السبت بقراءة المعوذتين دون سائر الليالي وهذا لا أصل له وكل إحداث في الدين فهو رد .
الفرع الواحد بعد المائة :- تخصيص صلاة العشاء ليلة الجمعة بقراءة سورة الجمعة والمنافقون وهذا لا يصح فيه شيء والحديث فيها ضعيف جداً والأحكام الشرعية وقف على الدليل الصحيح الصريح وكل إحداث في الدين فهو رد .
الفرع الثاني بعد المائة :- تخصيص صلاة العشاء ليلة المولد بقراءة سورة المدثر والمزمل أو أول سورة الانشراح وهذا لا أصل له, وكل إحداث في الدين فهو رد .
الفرع الثالث بعد المائة :- زيادة لفظ ( والشكر ) بعد القيام من الركوع وقول ( ربنا لك الحمد ) وهذه اللفظة لا دليل على قولها هنا فهي رد لأن كل إحداث في الدين فهو رد .
الفرع الرابع بعد المائة :- جمع آيات الدعاء في القرآن وقراءتها في آخر ليلة من رمضان في صلاة التراويح وهذا لا أصل له فهو رد لأن كل إحداث في الدين فهو رد فهذه مائة فرع سقناها لك في شرح هذه القاعدة المباركة المهمة العظيمة وسنزيد في فروعها حتى نتيقن أننا أوصلنا لك شرحها تفصيلاً ولعلك الآن تأخذ قسطاً من الراحة قبل الدخول في قراءة المائة الثانية إن شاء الله تعالى والله ربنا أعلى وأعلم .
} فصل {(2/166)
أقول: وهذه المائة الثانية سنجعله عبارة عن نقول عن أهل العلم في إثبات بدعية بعض الأقوال والأفعال نأتي لك بنصوصهم في ذلك لعل الله ينفعنا بها ولتكون زينة للكتاب, وهذا من باب التنويع حتى لا تمل فأقول: النقول عن أهل العلم في هذا الباب كثيرة جداً ودونك بعضها :
الفرع الخامس بعد المائة :- قال أبو العباس رحمه الله تعالى: ( ولهذا قال الأئمة كأحمد ابن حنبل وغيره: أصول السنة هي التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, ومن تأمل هذا الباب وجد كثيراً من البدع أحدثت بآثار أصلها عنهم, مثل ما يروى في فضائل بقاع في الشام من الجبال والغيران ومقامات الأنبياء ونحو ذلك مثل ما يذكر في جبل قاسيون ومقامات الأنبياء التي فيه وما في إتيان ذلك من الفضيلة حتى إن بعض المفترين من الشيوخ جعل زيارة مغارة فيه ثلاث مرات تعدل حجة, ويسمونها مقامات الأنبياء, والآثار التي تروى في ذلك لا تصل إلى الصحابة وإنما هي عمن دونهم ممن أخذها عن أهل الكتاب وإلا فلو كان لهذا أصل لكان هذا عند أكابر الصحابة الذين قدموا الشام مثل بلال بن رباح ومعاذ ابن جبل وعبادة بن الصامت, بل ومثل أبي عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة وأمثالهم فقد دخل الشام من أكابر الصحابة أفضل ممن دخل بقية الأمصار غير الحجاز فلم ينقل عن أحد منهم إتباع شيء من آثار الأنبياء لا مقابرهم ولا مقاماتهم, فلم يتخذوها مساجد ولا كانوا يتحرون الصلاة فيها والدعاء عندها, بل قد ثبت عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه كان في سفر فرأى قوماً ينتابون مكاناً يصلون فيه فقال: ما هذا؟ قالوا: صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد إنما هلك من كان قبلكم بهذا من أدركته الصلاة فيه فليصل وإلا فليمض، ولما دخل بيت المقدس وأراد أن يبني مصلى المسلمين قال لكعب: أين أبنيه قال: ابنه خلف الصخرة فقال: خالطتك يهودية يا ابن اليهودية(2/167)
بل أبنيه أمامها ولهذا كان عبدالله بن عمر إذا دخل بيت المقدس صلى في قبليه ولم يذهب إلى الصخرة وكانوا يكذبون ما ينقله كعب في قوله: إن الله قال لها: أنت عرشي الأدنى, ويقولون: من وسع كرسيه السموات والأرض كيف تكون الصخرة عرشه الأدنى ولم تكن الصحابة يعظمونها وقالوا: إنما بنى القبلة عليها عبدالملك بن مروان لما كان محارباً لابن الزبير, وإلا فلا موجب في شريعتنا لتعظيم الصخرة ببناء القبة عليها وسترها بالأنطاع والجوخ ولو كان هذا من شريعتنا لكان عمر وعثمان ومعاوية - رضي الله عنهم - أحق بذلك ممن بعدهم فإن هؤلاء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأعلم بسنته وأتبع لها ممن بعدهم, وكذلك الصحابة لم يكونوا ينتابوا قبر الخليل, بل ولا فتحوه ولا بنوا على قبر أحد من الأنبياء مسجداً )ا.هـ. وبذلك نعلم أن صخرة بيت المقدس لا يتعلق بها شيء من الأحكام الشرعية وكل حديث فيها فهو كذب مختلق وأن تعظيمها بالتمسح أو بالصلاة إليها أو تطييبها أو كسوتها بثوب ونحوه أو أخذ شيء من الحصى المجاور لها كل ذلك من المحدثات والبدع التي ما أنزل الله بها سلطان وكل إحداث في الدين فهو رد .
الفرع السادس بعد المائة : وقال أبو العباس رحمه الله تعالى: ( وأما زيارة قبور الأنبياء والصالحين لأجل طلب الحاجات منهم أو دعائهم والإقسام بهم على الله أو ظن أن الدعاء أو الصلاة عند قبوهم أفضل منه في المساجد والبيوت فهذا ضلال وشرك وبدعة باتفاق أئمة المسلمين ولم يكن أحد من الصحابة يفعل ذلك ولا كانوا إذا سلموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - يقفون يدعون لأنفسهم ولهذا كره ذلك مالك وغيره من العلماء وقالوا: إنه من البدع التي لم يفعلها السلف واتفق العلماء الأربعة وغيرهم من السلف على أنه إذا أراد أن يدعو فإنه يستقبل القبلة ولا يستقبل قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - )ا.هـ. قلت: وكل إحداث في الدين فهو رد .(2/168)
الفرع السابع بعد المائة : وقال أبو العباس رحمه الله تعالى: ( وجميع ما أحدثه الناس من التلفظ بالنية قبل التكبير وقبل التلبية وفي الطهارة وسائر العبادات فهي من البدع التي لم يشرعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكل ما يحدث في العبادات المشروعة من الزيادات التي لم يشرعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهي بدعة بل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يداوم في العبادات على تركها ففعلها والمداومة عليها بدعة وضلالة من وجهين: من حيث اعتقاد المعتقد أن ذلك مشروع مستحب أي يكون فعله خير من تركه مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يفعله البتة, فيبقى حقيقة هذا القول أن ما فعلناه أكمل وأفضل مما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - )ا.هـ. وقال أيضاً: ( الجهر بالنية في الصلاة من البدع السيئة, ليس من البدع الحسنة وهذا متفق عليه بين المسلمين لم يقل أحد منهم إن الجهر بالنية مستحب ولا هو بدعة حسنة فمن قال ذلك فقد خالف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الأئمة الأربعة وقائل هذا يستتاب فإن تاب وإلا عوقب بما يستحقه )ا.هـ. وقال أيضاً: ( ومن أصر على فعل شيء من البدع وتحسينها فإنه ينبغي أن يعزر تعزيراً يردعه وأمثاله عن مثل ذلك, ومن نسب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الباطل خطأ فإنه يعرف فإن لم ينته عوقب ولا يحل لأحد أن يتكلم في الدين بلا علم ولا يعين من تكلم في الدين بلا علم أو أدخل في الدين ما ليس منه )ا.هـ.(2/169)
الفرع الثامن بعد المائة : قال أبو العباس رحمه الله تعالى: ( قد روي في قراءة آية الكرسي عقيب الصلاة حديث لكنه ضعيف ولهذا لم يروه أحد من أهل الكتب المعتمد عليها فلا يمكن أن يثبت به حكم شرعي ولم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وخلفاؤه يجهرون بعد الصلاة بقراءة آية الكرسي ولا غيرها من القرآن, فجهر الإمام والمأموم بذلك والمداومة عليه بدعة مكروهة بلا ريب فإن ذلك إحداث شعار بمنزلة أن يحدث آخر جهر الإمام والمأمومين بقراءة الفاتحة دائماً أو خواتيم البقرة أو أول الحديد أو آخر الحشر أو بمنزلة اجتماع الإمام والمأموم دائماً على صلاة ركعتين عقب الفريضة نحو ذلك مما لا ريب أنه من البدع وأما إذا قرأ الإمام آية الكرسي في نفسه أو قرأها أحد المأمومين في نفسه فهذا لا بأس به إذ قراءتها عمل صالح وليس في ذلك تغيير لشعائر الإسلام كما لو كان له ورد من القرآن والدعاء والذكر عقيب الصلاة )ا.هـ.
الفرع التاسع بعد المائة : قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: ( وأما التمسح بالقبر أو الصلاة عنده أو قصده لأجل الدعاء عنده معتقداً أن الدعاء هناك أفضل من الدعاء في غيره أو النذر له ونحو ذلك فليس هذا من دين المسلمين بل هو مما أحدث من البدع القبيحة التي هي من شعب الشرك )ا.هـ.
الفرع العاشر بعد المائة : قال أبو العباس رحمه الله تعالى: ( وقد أصاب المسلمين جدب وشدة وكانوا يدعون الله ويستسقون ويدعون على الأعداء ويستنصرون ويتوسلون بدعاء الصالحين كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم, بدعائهم واستنصارهم وإخلاصهم )) ولم يكونوا يقصدون الدعاء عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا صالح ولا الصلاة عنده ولا طلب الحوائج منه ولا الإقسام على الله به مثل أن يقول القائل: أسألك بحق فلان وفلان بل كل هذا من البدع المحدثة )ا.هـ.(2/170)
الفرع الحادي عشر بعد المائة : قال أبو العباس رحمه الله تعالى: ( فالزيارة البدعية مثل قصد قبر بعض الأنبياء والصالحين للصلاة عنده أو الدعاء عنده أو به أو طلب الحوائج منه أو من الله تعالى عند قبره أو الاستغاثة به أو الإقسام به على الله تعالى ونحو ذلك هم من البدع التي لم يفعله أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا سن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من خلفائه الراشدين بل قد نهى عن ذلك أئمة المسلمين الكبار, والحديث الذي يرويه بعض الناس (( إذا سألتم الله فاسألوه بجاهي )) هو من المكذوبات التي لم يروها أحد من علماء المسلمين ولا هو في شيء من كتب الحديث بمنزلة ما يروونه من قوله (( لو أحسن أحدكم ظنه بحجر نفعه )) فإن هذا أيضاً من المكذوبات )ا.هـ.
الفرع الثاني عشر بعد المائة : وقال أبو العباس رحمه الله تعالى: ( وأما اتخاذ مواسم غير المواسم الشرعية كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يقال إنها ليلة المولد أو بعض ليالي رجب أو الثامن عشر من ذي الحجة أو أول جمعة من رجب الذي يسميه الجهال عيد الأبرار, فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف ولم يفعلوها )ا.هـ .(2/171)
الفرع الثالث عشر بعد المائة : وقال أبو العباس رحمه الله تعالى: ( وقد تنازع العلماء هل كان صوم ذلك - أي عاشوراء - واجباً أو مستحباً على قولين مشهورين أصحهما أنه كان واجباً ثم إنه بعد ذلك كان يصومه من يصومه استحباباً ولم يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - العامة بصيامه بل كان يقول: هذا عاشوراء وأنا صائم فيه فمن شاء صام, وقال: صوم يوم عاشوراء يكفر سنة وصوم يوم عرفة يكفر سنتين, ولما كان آخر عمره بلغه أن اليهود كانوا يتخذونه عيداً فقال: (( لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع )) ليخالف اليهود ولا يشابههم في اتخاذه عيداً وكان من الصحابة والعلماء من لا يصومه ولا يستحب صومه بل يكره إفراده بالصوم كما نقل ذلك عن طائفة من الكوفيين, ومن العلماء من يستحب صومه, والصحيح أنه يستحب لمن صامه أن يصوم معه التاسع لأن هذا آخر أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله (( لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع مع العاشر )) كما جاء ذلك مفسراً في بعض طرق الحديث فهذا الذي سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأما سائر الأمور مثل اتخاذ طعام خارج عن العادة إما حبوب وإما غير حبوب أو تجديد لباس أو توسيع نفقة أو اشتراء حوائج العام ذلك اليوم أو فعل عبادة مختصة كصلاة مختصة به أو قصد الذبح أو ادخار لحوم الأضاحي ليطبخ بها الحبوب أو الاكتحال أو الإختضاب أو الاغتسال أو التصافح أو التزاور أو زيارة المساجد والمشاهد ونحو ذلك فهذا من البدع المنكرة التي لم يسنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا خلفاؤه الراشدون ولا استحبها أحد من أئمة المسلمين لا مالك ولا الثوري ولا الليث بن سعد ولا أبو حنيفة ولا الأوزاعي ولا الشافعي ولا أحمد ابن حنبل ولا إسحاق بن راهويه ولا أمثال هؤلاء من الأئمة المسلمين وعلماء المسلمين )ا.هـ.(2/172)
الفرع الرابع عشر بعد المائة : قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: ( فإن الشيطان قد سول لكثير ممن يدعي الإسلام فيما يفعلونه في أواخر صوم النصارى وهو الخميس الحقير من الهدايا والأفراح والنفقات وكسوة الأولاد وغير ذلك مما يصير به مثل عيد المسلمين, وهذا الخميس الذي يكون في آخر صوم النصارى, فجميع ما يحدثه الإنسان فيه من المنكرات, فمن ذلك خروج النساء وتبخير القبور ووضع الثياب على السطوح وكتابة الورق وإلصاقه بالأبواب واتخاذه موسماً لبيع الخور وشرائها ورقى البخور مطلقاً في ذلك الوقت أو غيره أو قصد شراء البخور المرقى, فإن رقى البخور واتخاذه قرباناً هو دين النصارى والصابئين وإنما البخور طيب يتطيب بدخانه كما يتطيب بسائر الطيب وكذلك تخصيصه بطبخ الأطعمة وغير ذلك من صبغ البيض, وأما القمار بالبيض وبيعه لمن يقامر به أو شراؤه من المقامرين فحكمه ظاهر ومن ذلك ما يفعله النساء من أخذ ورق الزيتون أو الاغتسال بمائه فإن أصل ذلك ماء المعمودية ومن ذلك أيضاً ترك الوظائف الراتبة من الصنائع والتجارات أو حلق العلم في أيام عيدهم واتخاذه يوم راحة وفرحة وغير ذلك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهاهم عن اليومين اللذين كانوا يلعبون فيهما في الجاهلية ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الذبح بالمكان إذا كان المشركون يعبدون فيه ويفعلون أموراً يقشعر منها قلب المؤمن الذي لم يمت قلبه, بل يعرف المعروف وينكر المنكر كما لا يتشبه بهم فلا يعان المسلم المتشبه بهم في ذلك بل ينهى عن ذلك, فمن صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم تجب دعوته, ومن أهدى من المسلمين هدية في هذه الأعياد مخالفة للعادة في سائر الأوقات لم تقبل هديته خصوصاً إذا كانت الهدية مما يستعان به على التشبه بهم مثل إهداء الشمع ونحوه في الميلاد وإهداء البيض واللبن والغنم في الخميس الحقير الذي آخر صومهم وهو الخميس الحقير, ولا يبايع المسلم ما يستعين به المسلمون على(2/173)
مشابهتهم في العيد من الطعام واللباس والبخور لأن في ذلك إعانة على المنكر )ا.هـ.
الفرع الخامس عشر بعد المائة : قال أبو العباس رحمه الله تعالى: ( ولهذا كان السلف يكثرون الصلاة والسلام عليه - صلى الله عليه وسلم - في كل مكان وزمان ولم يكونوا يجتمعون عند قبره لا لقراءة ختمة ولا إيقاد شمع ولا طعام وإسقاء ولا إنشاء قصائد ولا نحو ذلك, بل هذا من البدع, بل كانوا يفعلون في مسجده ما هو المشروع في سائر المساجد من الصلاة والقراءة والذكر والدعاء والاعتكاف وتعليم القرآن والعلم وتعلمه ونحو ذلك )ا.هـ.
الفرع السادس عشر بعد المائة : قال أبو العباس رحمه الله تعالى: ( وصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون إلى الكعبة وصارت هي القبلة وهي قبلة إبراهيم وغيره من الأنبياء, فمن اتخذ الصخرة اليوم قبلة يصلي إليها فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل مع أنها كانت قبلة لكن نسخ ذلك فكيف بمن يتخذها مكاناً يطاف به كما يطاف بالكعبة والطواف بغير الكعبة لم يشرعه الله بحالٍ وكذلك من قصد أن يسوق إليها غنما ً ليذبحها هناك ويعتقد أن الأضحية فيها أفضل وأن يحلق فيها شعره في العيد أو أن يسافر إليها ليُعَرِّف بها عشية عرفة فهذه الأمور التي يشبه بها بيت المقدس بالمشاعر في الوقوف والطواف والذبح والحلق من البدع وضلالات ومن فعل شيئاً من ذلك معتقداً أن هذا قربة إلى الله تعالى فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل )ا.هـ.(2/174)
الفرع السابع عشر بعد المائة : قال أبو العباس رحمه الله تعالى: ( وأما الأشجار والأحجار والعيون ونحوها مما ينذر له بعض العامة أو يعلقون بها خرقاً أو غير ذلك أو يأخذون ورقها يتبركون به أو يصلون عندها أو نحو ذلك فهذا كله من البدع المنكرة وهو من عمل أهل الجاهلية ومن أسباب الشرك بالله تعالى وقد كان للمشركين شجرة يعلقون بها أسلحتهم يسمونها ذات أنواط فقال بعض الناس يا رسول الله أجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال (( الله أكبر قلتم كما قال قوم موسى لموسى { اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } إنها السنن, لتركبن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع, حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضب لدخلتم, وحتى لو أن أحدهم جامع امرأته في الطريق لفعلتموه )) )ا.هـ.(2/175)
الفرع الثامن عشر بعد المائة : قال أبو العباس رحمه الله تعالى: ( وأصل هذا الباب أنه ليس في شريعة الإسلام بقعة تقصد لعبادة الله بالصلاة والدعاء والذكر والقراءة ونحو ذلك إلا مساجد المسلمين ومشاعر الحج وأما المشاهد التي على القبور سواءً جعلت مساجد أو لم تجعل أو المقامات التي تضاف إلى بعض الأنبياء أو الصالحين أو المغارات أو الكهوف أو غير ذلك مثل ( الطور ) الذي كلم الله عليه موسى ومثل ( غار حراء ) الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتحنث فيه قبل نزول الوحي عليه والغار الذي ذكره الله تعالى بقوله { ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ } والغار الذي بجبل قاسيون بدمشق الذي يقال له ( مغارة الدم ) والمقامان اللذان بجانبيه الشرقي والغربي يقال لأحدهما ( مقام إبراهيم ) ويقال للآخر ( مقام عيسى ) وما أشبه هذه البقاع والمشاهد في شرق الأرض وغربها فهذه لا يشرع السفر إليها لزيارتها, ولو نذر ناذر السفر إليها لم يجب عليه الوفاء بنذره باتفاق أئمة المسلمين )ا.هـ. قلت: ويجمع ذلك قاعدة وأصل جامع يقول: ( كل مكان أو زمان يقصد بالتعظيم لا دليل على تعظيمه فقصده بالتعظيم من محدثات الأمور وبدعها وضلالاتها ) ولعلنا نفرد فيها مؤلفاً مستقلاً إن شاء الله تعالى، وقال أبو العباس أيضاً: ( وقد تبين الجواب في سائر المسائل المذكورة بأن قصد الصلاة والدعاء عندما يقال إنه قدم نبي أو أثر نبي أو قبر نبي أو قبر بعض الصحابة أو بعض الشيوخ أو بعض أهل البيت أو الأبراج أو الغيرات فهو من البدع المحدثة المنكرة في الإسلام لم يشرع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا كان السابقون الأولون والتابعون لهم بإحسان يفعلونه ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين بل هو من أسباب الشرك وذرائع الإفك )ا.هـ.(2/176)
الفرع التاسع عشر بعد المائة : قال أبو العباس رحمه الله تعالى: ( وأما السفر إلى بقعة غير المساجد الثلاثة فلم يوجب أحد من العلماء السفر إليه إذا نذره حتى نص العلماء جمع أنه لا يسافر إلى مسجد قباء لأنه ليس من المساجد الثلاثة مع أن مسجد قباء يستحب زيارته لمن كان في المدينة لأن ذلك ليس بشد رحل كما في الحديث الصحيح (( من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء لا يريد إلا الصلاة فيه كان كعمرة )) قالوا: ولأن السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة لم يفعله أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أمر بها رسول الله ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين فمن اعتقد أن ذلك عبادة وفعله فهو مخالف للسنة ولإجماع الأئمة وهذا مما ذكره أبو عبدالله بن بطة في الإبانة الصغرى من البدع المخالفة للسنة والإجماع )ا.هـ. وبالجملة فكلام أبي العباس رحمه الله تعالى عن البدع والمحدثات أوسع بكثير من ذلك وقد لا يكاد يحصر إلا بكلفة, ولو أفرد في مؤلف لكان ذلك جهد طيب مشكور والله يتولانا وإياك .
الفرع العشرون بعد المائة : سئلت اللجنة الدائمة في المملكة العربية السعودية عن حكم جعل الولي وسيلة للشفاء من الأمراض فأجابوا بقولهم: ( جعل الولي وسيلة للشفاء من الأمراض بأن يقول الإنسان: اللهم اشف مريضي بجاه الولي فلان, ممنوع لأنه وسيلة إلى الشرك وتوسل مبتدع لا أصل له في الشرع المطهر وإن كان بدعائه مثل أن يقول: يا إمام يا شافعي أشف مريضي فهو شرك أكبر )ا.هـ.(2/177)
الفرع الواحد والعشرون بعد المائة : وقال أصحاب الفضيلة في اللجنة الدائمة: ( الطرق الصوفية جميعها يغلب عليها البدع ومخالفة الشرع فيجب الابتعاد عن تلك الطرق )ا.هـ. وقالوا أيضاً: ( يغلب على مشايخ الطرق الصوفية التزهد والتنسك والعبادة ولكن تكثر البدع والخرافات في نسكهم وعبادتهم كذكر الله باسم المفرد: ( الله - حي - قيوم ) أو ذكره بضمير الغائب مثل ( هو - هو - هو ) أو ذكره بما لم يسمع به نفسه مثل ( آه - آه ) مع الترنح والركوع والرفع منه والرقص وغير ذلك من الحركات المتكلفة ومع أصوات مختلفة مصطنعة ونشيد وتصفيق أو ضرب بما يسمى ( الباز ) أحياناً لضبط نغمات النشيد, ومع حركات وسكنات أصوات الذكر وكل ذلك لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قولاً ولا عملاً ولا عرف عن خلفائه الراشدين ولا سائر صحابته - رضي الله عنهم -, بل هو من محدثات الأمور )ا.هـ. وقالوا أيضاً: ( لا يتوقف ذكر العباد لربهم على إذن المشايخ لهم في أن يذكروه سبحانه بتلاوة كتابه وبالأذكار المأثورة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تسبيحاً وتحميداً وتهليلاً وتكبيراً بعد أن أمرنا الله بذلك وحثنا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن زعم من المشايخ المتصوفة أو مريديهم أن لكل اسم من أسماء الله خادماً أو أن على ذكر الله بما شرع حجراً حتى يأذن الشيخ للمريد فقد ابتدع في الدين وافترى على الله ورسوله فإنه لم يثبت في كتاب الله ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على شيء من ذلك فما يزعمه المتصوفة إنما هو من البدع المحدثة )ا.هـ. وقالوا: ( المعروف عن جميع طوائف الصوفية وفرقهم أنهم يذكرون الله أذكاراً بدعية فيرقصون ويترنحون ويتمايلون يمنة ويسرة وأعلى وأسفل ويسمون الله في ذكرهم بغير ما سمى به نفسه وبغير ما سماه رسوله - صلى الله عليه وسلم - مثل ( هو هو هو ) ومثل ( آه آه ) ويذكرونه بالاسم مثل ( الله الله الله ) وبما يسمونه:(2/178)
الذكر القلبي كما يفعله النقشبندية ويذكرونه بما ذكر جماعة بصوت واحد ويستغيثون في أذكارهم بالأموات والغائبين فيقولو: مدد يا أبا العباس, ومدد يا دسوقي, وذلك شرك يخرج من ملة الإسلام ويعتقدون في مشايخهم أن لديهم علماً لدنيا يطلعون به على الغيبات وأن لهم أسراراً يتصرفون بها وراء الأسباب العادية )ا.هـ.
الفرع الثاني والعشرون بعد المائة : ووجه للجنة سؤال هذا نصه: إن الناس يقرؤون المولد وسورة يس وسورة الفاتحة لشهداء بدر في سبعة عشر من شهر رمضان مجتمعين في المسجد الحنفي ثم يدعون لهم وكذلك يقرؤون المولد وسورة يس وسورة الفاتحة ثم يقرؤون بعدها الدعاء فهل هذا الأمر جائز في الشريعة أو لا؟ فأجابوا بقولهم: ( دلت نصوص الشريعة على سمو قدر نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلو منزلته, وأنه خليل الله وحبيبه وأنه خاتم رسله وخيرته من خلقه وأنه لا يؤمن أحد حتى يكون أحب إليه من نفسه ووالده وولده والناس أجمعين وإنه لا شرع إلا ما جاء به وبلغه الأمة وأنه ما توفاه الله إليه إلا بعد أن أكمل به دينه وأتم به على العباد نعمته ودلت نصوص الشريعة أيضاً على فضيلة الشهداء, شهداء غزوة بدر وغيرها وعاش بعد غزوة بدر سنوات ولم يعرف عنه أنه قرأ مولداً لنفسه يوم سبعة عشر من رمضان منفرداً أو مجتمعاً بغيره ولا أنه قرأ سورة يس وسورة الفاتحة على شهداء بدر ولا غيرهم لا في اليوم السابع عشر من رمضان ولا غيره, ولا منفرداً عن الناس ولا مجتمعاً بهم, ولم يثبت عنه شيء من ذلك ولا عن أحد من أصحابه ولو كان مشروعاً لنقل عنه وجرى العمل عليه في عهد أصحابه لأنه لا خير إلا دلنا عليه, والأصل في كل العبادات التوقيف من الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكان - صلى الله عليه وسلم - يزور القبور, ومنها قبور الشهداء ويدعو لهم ولم يثبت عنه أنه قرأ مولده وسورة يس أو سورة الفاتحة أو سورة أخرى أو آية أخرى من القرآن في زيارته للقبور, وحيث لم يثبت عنه(2/179)
شيء من ذلك ولا جرى عليه عمل الصحابة, دل ذلك على أن قراءة المولد وسورة يس وسورة الفاتحة لشهداء بدر في اليوم السابع عشر بدعة في نفسها وتحديد يوم لذلك بدعة أخرى والاجتماع من أجل عمل البدعة بدعة في بدع مجتمعة وكذلك فعل ذلك ثم الدعاء بعده بدعة فعلى المسلم أن يتحرى ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويعمل به فإنه لا شرع إلا ما شرعه وما سواه مما أحدثه الناس من العبادات التي لم يشرعها الله ورسوله كله بدعة وقد قال - صلى الله عليه وسلم - (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) )ا.هـ.(2/180)
الفرع الثالث والعشرين بعد المائة : وسئل أصحاب الفضيلة في اللجنة الدائمة عن نظرية أن الإنسان منذ زمن بعيد كان قرداً وتطور فهل هذا صحيح وهل من دليل؟ فأجابوا بقولهم: ( هذا القول ليس بصحيح والدليل على ذلك أن الله بين في القرآن أطوار خلق آدم فقال تعالى { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } ثم إن هذا التراب بل حتى صار طيناً لازباً يعلق بالأيدي فقال تعالى { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ } وقال تعالى { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ } ثم صار حمأ مسنون, قال تعالى { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } ثم لما يبس صار صلصالاً كالفخار قال تعالى { خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ } وصوره الله على الصورة التي أرادها ونفخ فيه روحه قال تعالى { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } هذه هي الأطوار التي مرت على خلق آدم من جهة القرآن وأما الأطوار التي مرت على ذرية آدم فقال تعالى { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } أما زوجة آدم ( حواء ) فقد بين الله تعالى أنه خلقها منه, فقال تعالى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء } ) .(2/181)
الفرع الرابع والعشرين بعد المائة : قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ( وقنت في الفجر بعد الركوع شهراً ثم ترك القنوت ولم يكن من هديه الراتب القنوت فيها دائماً ومن المحال أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان في كل غداة بعد اعتداله من الركوع يقول: اللهم أهدني فيمن هديت وتولني فيمن توليت الخ, ويرفع بذلك صوته ويؤمن عليه أصحابه دائماً إلى أن فارق الدنيا ثم لا يكون ذلك معلوماً عند الأمة بل يضيعه أكثر أمته, وجمهور أصحابه بل كلهم حتى يقول من يقول منهم إنه محدث, كما قال سعد بن طارق الأشجعي قلت لأبي: يا أبت إنك قد صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم - ها هنا بالكوفة منذ خمس سنين هل كانوا يقنتون في الفجر؟ فقال: أي بني محدث, رواه أهل السنن وأحمد والترمذي وقال: حديث حسن صحيح وذكر الدار قطني عن سعيد بن جبير قال: أشهد أني سمعت ابن عباس يقول: إن القنوت في صلاة الفجر بدعة, وذكر البيهقي عن أبي مجلز قال: صليت مع ابن عمر صلاة الصبح فلم يقنت فقلت له: لا أراك تقنت؟ فقال: لا أحفظه عن أحد من أصحابنا, ومن المعلوم بالضرورة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو كان يقنت كل غداة ويدعو بهذا الدعاء ويؤمن الصحابة لكل نقل الأمة لذلك كلهم كنقلهم لجهره بالقراءة فيها وعددها ووقتها, وإن جاز عليهم تضييع أمر القنوت منها جاز عليهم تضييع ذلك ولا فرق وبهذا الطريق علمنا أنه لم يكن من هديه الجهر بالبسملة كل يوم دليلة خمس مرات دائماً مستمراً ثم يضيع أكثر الأمة ذلك ويخفى عليها, هذا من أمحل المحال, بل لو كان ذلك واقعاً لكان نقله كنقل عدد الصلوات وعدد الركعات والجهر والإخفات وعدد السجدات ومواضع الأركان وترتيبها والله الموفق )ا.هـ.(2/182)
الفرع الخامس والعشرون بعد المائة : وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: ( وكان من هديه تعزية أهل الميت ولم يكن هديه أن يجتمع للعزاء ويقرأ له القرآن لا عند قبره ولا غيره وكل هذا بدعة حادثة مكروهة )ا.هـ. وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى: ( الاجتماعات في بيت الميت ليس له أصل من عمل السلف الصالح وليس بمشروع ولاسيما إذا اقترن بذلك إشعال الأضواء وصف الكراسي وإظهار البيت وكأنه في ليلة زفاف عرس, فإن هذا من البدع التي قال عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - (( كل بدعة ضلالة )) )ا.هـ. وقال أيضاً: ( الاجتماع في البيت لتلقي المعزين بدعة لم يكن في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه وإنما تغلق الأبواب, أي أبواب الذين مات ميتهم, ومن وجدهم في السوق أو في المسجد ورآهم مصابين عزاهم لأن المقصود بالتعزية ليست التهنئة وإنما المقصود بالتعزية تقوية الإنسان على الصبر ولهذا أرسل النبي عليه الصلاة والسلام رسول ابنته الذي أرسلته لتخبره عن ابن لها وكان في سياق الموت فرد النبي عليه الصلاة والسلام الرسول وقال له: (( مرها فلتصبر ولتحتسب فإن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى )) ولم يذهب يعزيها حتى ردته وألحت عليه أن يحضر, ليس من أجل العزاء ولكن من أجل حضور هذا الطفل أو هذا الغلام يحتضر ولم يكن معروفاً في عهد الصحابة أن يجتمع أهل الميت ليتلقوا العزاء من الناس بل كانوا يعدون صنعة الطعام في بيت الميت والاجتماع على ذلك من النياحة والنياحة من كبائر الذنوب فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن النائحة والمستمعة وقال (( النائحة إذا لم تتب تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب )) نعوذ بالله فلهذا ننصح إخواننا عن فعل هذه التجمعات التي ليست خيراً لهم, بل هي شرٌ لهم )ا.هـ.(2/183)
الفرع السادس والعشرين بعد المائة : قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ( فلما دخل المسجد عمد إلى البيت ولم يركع تحية المسجد فإن تحية المسجد الحرام الطواف فلما حاذى الحجر الأسود استلمه ولم يزاحم عليه ولم يتقدم عنه إلى جهة الركن اليماني ولم يرفع يديه ولم يقل نويت بطوافي هذا الأسبوع كذا وكذا ولا افتتحه بالتكبير كما يفعله من لا علم عنده بل هو من البدع المنكرات )ا.هـ.
الفرع السابع والعشرين بعد المائة : وسئل الشيخ محمد رحمه الله تعالى عن حكم إقامة أسابيع المساجد والشجرة فقال: ( هذه الأسابيع لا أعلم لها أصلاً من الشرع وإذا اتخذت على سبيل التعبد وخصصت بأيام معلومة تصير كالأعياد فإنها تلتحق بالبدعة لأن كل شي يتعبد به الإنسان لله عز وجل وهو غير وارد في كتاب الله ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فإنه من البدع, لكن الذين نظموها يقولون: إن المقصود بذلك هو تنشيط الناس على هذه الأعمال التي جعلوا لها هذه الأسابيع وتذكيرهم بأهميتها ويجب أن ينظر في هذا الأمر وهل هو مسوغ لهذه الأسابيع أوليس بمسوغ )ا.هـ. قلت: لا, هذا ليس بمسوغ والمخرج من ذلك استمرار التنبيه على أهمية الأشياء بين الفئة والأخرى من غير تحديد لأسبوع معين من كل سنة, وإن كان لابد من أسبوع فلا يكون معيناً بل ليكن متنقلاً بين أسابيع السنة, والله أعلم .(2/184)
الفرع الثامن والعشرون بعد المائة : وسئل الشيخ ابن جبرين حفظه الله وعافاه عن حكم تنوير المساجد وتزيينها في الأعياد, هل له أصل في الشرع؟ فأجاب بقوله: ( تنوير المساجد وتزيينها في الأعياد لا أصل له, لذلك حيث إن هذه الصلاة - أي صلاة العيدين - لا تؤدي في المساجد غالباً ولأن تخصيص المساجد بالإنارة في تلك الليلة لا مناسبة له لأن الصلاة تكون في الصحراء وقد جرت عادة بعض الجهلة بتنوير المساجد وتزيينها في بعض الليالي التي يعتقدون لها شرفاً, كليلة النصف من شعبان وليلة المولد النبوي وليلة الإسراء ونحوها, ولا أصل لذلك كله, فإنه من البدع ولم يرد تخصيص تلك الليالي بعبادة أو عمل والواجب عمارة المساجد في السنة كلها والحرص على نظافتها وصيانتها لأنها مواضع العبادة لله تعالى دون أن يخصص وقت أو ليلة في السنة بالإنارة ونحوها )ا.هـ.(2/185)
الفرع التاسع والعشرين بعد المائة : قال سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى: ( اطلعت على ما نشرته صحيفة الندوة في عددها الصادر بتاريخ 30 / 11 / 1384هـ تحت عنوان ( تكريم الأم وتكريم الأسرة ) فألفيت الكاتب قد حبذ من بعض الوجوه ما ابتدعه الغرب من تخصيص يوم في السنة يحتفل فيه بالأم وأورد عليه شيئاً غفل عنه المفكرون في إحداث هذا اليوم وهو ما ينال الأطفال الذين ابتلوا بفقد الأم من الكآبة والحزن حينما يرون زملاءهم يحتفلون بتكريم أمهاتهم واقترح أن يكون الاحتفال بالأسرة كلها واعتذر عن عدم مجيء الإسلام بهذا العيد لأن الشريعة الإسلامية قد أوجبت تكريم الأم وبرها في كل وقت فلم يبق هناك حاجة لتخصيص يوم من العام لتكريم الأم, ولقد أحسن الكاتب فيما اعتذر به عن الإسلام وفيما أورده من سيئة هذا العيد التي غفل عنها من أحدثه, ولكنه لم يشر إلى ما في البدع من مخالفة صريح النصوص الواردة عن رسول الإسلام عليه أفضل الصلاة والسلام, ولا إلى ما في ذلك من الأضرار ومشابهة المشركين والكفار فأردت بهذه الكلمة الوجيزة أن أنبه الكاتب وغيره على ما في هذه البدعة وغيرها مما أحدثه أعداء الإسلام والجاهلون به من البدع في الدين حتى شوهوا سمعته ونفروا الناس منه, وحصل بسبب ذلك من اللبس والفرقة ما لا يعلم مدى ضرره وفساده إلا الله سبحانه, وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التحذير من المحدثات في الدين وعن مشابهة أعداء الله من اليهود والنصارى وغيرهم من المشركين مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) متفق عليه وفي لفظ لمسلم (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) والمعنى: فهو مردود على من أحدثه وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته يوم الجمعة (( أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور(2/186)
محدثاتها وكل بدعة ضلالة ))"خرجه مسلم في صحيحه" ولا ريب أن تخصيص يوم في السنة للاحتفال بتكريم الأم أو الأسرة من محدثات الأمور التي لم يفعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا صحابته المرضيون فوجب تركه وتحذير الناس منه والاكتفاء بما شرعه الله تعالى ورسوله وقد سبق أن الكاتب أشار إلى أن الشريعة الإسلامية قد جاءت بتكريم الأم والتحريض على برها كل وقت, وقد صدق في ذلك فالواجب على المسلمين أن يكتفوا بما شرعه الله لهم من بر الوالدة وتعظيمها والإحسان إليها والسمع لها في المعروف كل وقت, وأن يحذروا من محدثات الأمور التي حذرهم الله منها والتي تقضي بهم إلى مشابهة أعداء الله والسير في ركابهم واستحسان ما استحسنوه من البدع, وليس ذلك خاصاً بالأم, بل قد شرع الله للمسلمين بر الوالدين جميعاً وتكريمهما والإحسان إليهما وصلة جميع القرابة وحذرهم سبحانه من العقوق والقطيعة وخص الأم بمزيد العناية والبر لأن عنايتها بالولد أكبر وما ينالها من المشقة في حمله وإرضاعه وتربيته أكثر, قال الله سبحانه { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } وقال تعالى { وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } وقال تعالى { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } وصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر )) قالوا: بلى يا رسول الله قال (( الإشراك بالله وعقوق الوالدين )) وكان متكئاً فجلس وقال (( ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور )) وسأله - صلى الله عليه وسلم - رجل فقال يا رسول الله: أي الناس أحق بحسن(2/187)
صحابتي؟ قال: (( أمك )) قال: ثم من؟ قال: (( أمك )) قال: ثم من؟ قال: (( أمك )) قال: ثم من؟ قال: (( أبوك ثم الأقرب فالأقرب )) وقال عليه الصلاة والسلام (( لا يدخل الجنة قاطع )) يعني قاطع رحم وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمه )) والآيات والأحاديث في بر الوالدين وصلة الرحم وبيان تأكيد حق الأم كثيرة مشهورة وفيما ذكرنا منها كفاية ودلالة على ما سواه وهي تدل من تأملها دلالة ظاهرة على وجوب إكرام الوالدين جميعاً واحترامهما والإحسان إليهما وإلى سائر الأقارب في جميع الأوقات وترشد إلى أن عقوق الوالدين وقطيعة الرحم من أقبح الصفات والكبائر التي توجب النار وغضب الجبار نسأل الله العافية من ذلك وهذا أبلغ وأعظم مما أحدثه الغرب من تخصيص الأم بالتكريم في يوم من السنة فقط ثم إهمالها في بقية العام من الإعراض عن حق الأب وسائر الأقارب ولا يخفى على اللبيب ما يترتب على هذا الإجراء من الفساد الكبير مع كونه مخالفاً لشرع أحكم الحاكمين وموجباً للوقوع فيما حذر منه رسوله الأمين ويلتحق بهذا التخصيص والابتداع ما يفعله كثير من الناس من الاحتفال بالمولد وذكرى استقلال البلاد أو الاعتلاء على عرش الملك وأشباه ذلك فإن هذه كلها من المحدثات التي قلد فيها كثير من المسلمين غيرهم من أعداء الله وغفلوا عما جاء به الشرع المطهر من التحذير من ذلك والنهي عنه )ا.هـ. وقال الشيخ محمد رحمه الله تعالى لما سئل عن عيد الأم : ( إن كل الأعياد التي تخالف الأعياد الشرعية كلها أعياد حادثة لم تكن معروفة في عهد السلف الصالح وربما يكون منشؤها من عند غير المسلمين أيضاً, فيكون فيها مع البدعة مشابه أعداء الله سبحانه وتعالى والأعياد الشرعية معروفة عند أهل الإسلام وهي عيد الفطر وعيد الأضحى وعيد الأسبوع ( يوم الجمعة ) وليس في الإسلام أعياد سوى هذه الأعياد الثلاثة وكل أعياد أحدثت سوى(2/188)
ذلك فإنها مردودة على محدثيها وباطلة في شريعة الله سبحانه وتعالى بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) أي مردود عليه غير مقبول عند الله, وفي لفظ (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) وإذا تبين ذلك فإنه لا يجوز في العيد الذي ذكر في السؤال والمسمى ( عيد الأم ) لا يجوز فيه إحداث شيء من شعائر العيد كإظهار الفرح والسرور وتقديم الهدايا وما أشبه ذلك والواجب على المسلم أن يعتز بدينه ويفتخر به وأن يقتصر على ما حده الله تعالى لعباده فلا يزيد فيه ولا ينقص منه والذي ينبغي للمسلم أيضاً ألا يكون إمعة يتبع كل ناعق بل ينبغي أن يكون شخصيته بمقتضى شريعة الله تعالى حتى يكون متبوعاً لا تابعاً, وحتى يكون أسوة لا متأسياً لأن شريعة الله والحمد لله كاملة من جميع الوجوه كما قال تعالى { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } والأم أحق من أن يعتنى بها يوم واحد في السنة, بل الأم لها الحق على أولادها أن يرعوها وأن يعتنوا بها وأن يقوموا بطاعتها في غير معصية الله عز وجل في كل زمان ومكان )ا.هـ.(2/189)
الفرع الثلاثون بعد المائة : وسئل الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى عن حكم الإنشاد الإسلامي وهل يجوز مع الإنشاد ضرب الدف فقال: ( الإنشاد الإسلامي إنشاد مبتدع يشبه ما ابتدعته الصوفية ولهذا ينبغي العدول عنه إلى مواعظ القرآن والسنة, اللهم إلا أن يكون في مواطن الحرب ليستعان به على الإقدام والجهاد في سبيل الله تعالى فهذا حسن وإذا اجتمع معه الدف كان أبعد عن الصواب )ا.هـ. قلت: وقد توسع كثير من أهل الإنشاد في الطرح بالطرق المخالفة للشرع فمن هذه المخالفات اختيار أصوات المردان الفاتنة لمن سمعها والآسرة لقلب من فيه قلبه مرض, ومنها: الاتفاق في الألحان مع بعض ألحان الأغاني مع تبديل الكلمات وبعض الإيقاعات وهذا واضح في بعض إنشاد المتأخرين ومنها: جعل الأذكار الشرعية والابتهالات الدينية على هيئة الإنشاد كما هو عند الصوفية, ومنها: المبالغة فإدخال المحسنات الصوتية والآلات الموسيقية كالأورج من حيث لا يشعر المستمع, ومنها: قيام بعضهم بإنشاد الذكر وترديد الفرقة بعده نفس الذكر وهذا نوع من الذكر الجماعي وقد تتابع أهل العلم في إنكاره, ومنها: التوسع في إصدار الأناشيد في كل مناسبة من موت عالم أو هزيمة بلد ونحوه, ومنها: إدخال الدفوف في بعضها, ومنها: بعث نفس الهزيمة والاستسلام عند المسلمين بكثرة الشكاوى والأخبار بالضعف العام وهذا نوع من الإرجاف والتضعيف وكسر الأمة, ومنها: العكوف على أشرطته والاستكثار منها حتى صارت هي ديدن الإنسان فتراه ضعيفاً في جانب الذكر وقراءة القرآن وتحصيل العلم الشرعي عند العلماء ومطالعة الكتب النافعة, ومنها: تفخيم جانب القصيد النبطي الذي لا تراعى فيه أساليب العرب في لسانها, ومنها: إنشاء مراكز لتعلم ألحانه واختراع إيقاعاته, ومنها: إنفاق المال الكثير الذي يصل إلى حد الإسراف في إنتاجه مع أنه لا نفع فيه إلا التلذذ بألحانه غالباً والدعوة إلى الله والفقراء والمحتاجين والمشاريع(2/190)
الخيرية النافعة الهادفة أحق بهذا المال, ومنها: جعله حرفة يعرف الشخص بها ومصدر رزق يحصل به المال, ومنها: أنه من الإغراق في المباح بالأصالة وقد ذم السلف الإغراق في المباحات السماعية إذ لا فرق بينه وبين الغناء إلا إظهار أصوات آلات الموسيقى وتبديل بعض الكلمات, ومنها: أنه ذريعة لتسويغ الإنشاد الوطني, ومفاسده ومخالفاته كثيرة فينبغي للعاقل الأريب أن يربأ بنفسه عن مثل هذه الترهات والله أعلم .
الفرع الواحد والثلاثون بعد المائة : وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى عن حكم ذبح الأبقار والأغنام بعد الانتهاء من بناء المسجد زعماً أنه لا يجوز إلقاء خطبة ولا صلاة فيه إلا بعد ذبح ذلك ودعوة الناس وإطعامهم اعتقاداً منهم أنه إذا لم يفعل ذلك فإن إمام المسجد يموت قبل أجله إذا صلى فيه فأجاب سماحته بقوله: ( هذا كله لا أصل له واعتقاده خطأ محض وينبغي الإنكار على من يعتقد ذلك أو يفعله لأن هذا بدعة في الدين وكل بدعة ضلالة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ))"رواه الإمام مسلم في صحيحه " )ا.هـ.(2/191)
الفرع الثاني والثلاثون بعد المائة : وسئل الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى أن بعض الناس يذبح عدة ذبائح في مراحل البناء فيذبح واحدة في حال تسقيف الدار والأخرى عند إقامة السوار والثالثة عندما يسكن في الدار لئلا تضرهم الجن في نفس ولا مال ولتكن مباركة عليهم فما الحكم في ذلك؟ فأجاب بقوله: ( كون هذا العمل مرتباً على هذا الترتيب لا أصل له, وأخشى أن يكون من البدع, لاسيما إذا كان مصحوباً بهذه العقيدة الباطلة أنه يحميهم من الجن, فإنه يكون من هذا الوجه من باب الشرك, لأنه اعتقاد سبب لم يجعله الله سبباً بغير دليل من الشرع, أو من الواقع, فإنه يكون شركاً لكنه شرك أصغر لإثباته ما لم يثبته الله عز وجل في شرعه ولا قدره, وأما لو فعلوا ذلك حين تمام البناء, فذبحوا ذبيحة أو ذبيحتين أو أكثر على حسب ما يتوقعونه من الضيوف ودعوا إليه الأقارب والجيران فإن هذا لا بأس به ولا حرج فيه, إذا لم يصحب بعقيدة فاسدة )ا.هـ. وقال الشيخ عبد العزيز رحمه الله تعالى ( إذا كان المقصود من الذبيحة اتقاء الجن أو مقصداً آخر يقصد به صاحب البيت أن هذا الذبح يحصل به كذا وكذا, كسلامته وسلامة ساكنيه فهذا لا يجوز فهو من البدع وإن كان للجن فهو شرك أكبر, لأنه عبادة لغير الله, أما إن كان من باب الشكر على ما أنعم به الله عليه من الوصول إلى السقف أو عند إكمال البيت فيجمع أقاربه وجيرانه ويدعوهم لهذه الوليمة فهذا لا بأس به, وهذا يفعله كثير من الناس من باب الشكر لنعم الله حيث منَّ عليهم بتعمير البيت والسكن فيه بدلاً من الاستئجار )ا.هـ. قلت: وقريب من هذا وضع شيء من الطعام أو بقاياه في سور المنزل أو سطحه بقصد أكل الجن له فتكف شرها عن أهل البيت وهذا من البدع الخطيرة الموصلة في بعض صورها للشرك, وتحصين البيوت لا يكون بذلك بل يكون بالطرق المشروعة كالصلاة النافلة فيه والذكر والإكثار من قراءة القرآن فيه لاسيما سورة البقرة, والحرص على ذكر(2/192)
الدخول وذكر الخروج منه وإخراج آلات الفساد المرئية والمسموعة وتنزيهه من الصور, مع قول الأوراد الشرعية في الصباح والمساء وكمال التوكل على الله تعالى مع تربية النفس على الثقة وإحسان الظن به جل وعلا, وأما هذه الأفعال المبتدعة والأقوال المخترعة فإنها باطلة فاسدة واعتقادات عاطلة كاسده لا يسندها نص صحيح ولا عقل صريح ولا نظر رجيح وإنما هي من التخرصات والظنون الكاذبة عافانا الله وإياك من كل بلاء .
الفرع الثالث والثلاثون بعد المائة : وسئلت اللجنة الدائمة في المملكة السعودية عن حكم الطواف حول المسجد إذا تم بناؤه في يوم الافتتاح؟ فأجابوا بقولهم: ( الطواف حول المسجد سبع مرات بدعة منكرة سواء كان ذلك يوم الافتتاح أم غيره لأن الطواف سبعاً قربة شرعت حول الكعبة دون غيرها, فجعل الطواف سبعاً حول غير الكعبة مضاهاة له بالكعبة وتشريع لم يأذن الله به, وقد بنى النبي - صلى الله عليه وسلم - مسجد والمسجد النبوي وبنى أصحابه - رضي الله عنهم - مساجد في بلاد كثيرة ولم يعرف عنه ولا عنهم أنهم طافوا حول المسجد سبع مرات أو أقل أو أكثر إنما كانوا يطوفون حول الكعبة في حج أو عمرة أو تطوعاً سبعة أشواط تقرباً إلى الله تعالى وعبادة له سبحانه والخير كل الخير في إتباعهم واقتفاء آثرهم )ا.هـ.(2/193)
الفرع الرابع والثلاثون بعد المائة : وسئلت اللجنة الدائمة في المملكة أيضاً عن حكم الوقوف تعظيماً للسلام الوطني أو للعلم؟ فأجابوا بقولهم: ( لا يجوز للمسلم القيام إعظاماً لأي علم وطني أو سلام وطني, بل هو من البدع المنكرة التي لم تكن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا في عهد خلفائه الراشدين - رضي الله عنهم - وهي منافية لكمال التوحيد الواجب وإخلاص التعظيم لله وحده وذريعة إلى الشرك وفيها مشابهة للكفار وتقليد لهم في عادتهم القبيحة ومجاراة لهم في غلوهم في رؤسائهم ومراسمهم وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مشابهتهم أو التشبه بهم وبالله التوفيق )ا.هـ. قلت: بل إن هذا السلام في ذاته من البدع والمنكرات التي تابعنا فيها الغرب الكافر الذي لا شريعة تحكمه ولا نصوص تهديه, فالسلام في الإسلام هو قول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, ورده معروف, وأما جعل الموسيقى عبارة عن سلام فإنه باطل كل البطلان ولا أصل له, بل عندنا في الكتاب والسنة ما يمنعه لأنه استعمال لآلات الطرب ولأنه تشبه بالكفار ولأنه إحداث في الدين وكل إحداث في الدين فهو رد, لكنها السنن والله المستعان فلا أدري متى سنفيق من هذه الغفلة, ونعتصم بديننا ونعض عليه بالنواجذ ونحكمه في كل مصادرنا ومواردنا ونفتخر به في كل المحافل, قل عسى أن يكون قريباً .(2/194)
الفرع الخامس والثلاثون بعد المائة : وسئل الشيخ ابن عثيمين عن حكم التبرك بآثار مكة وأشجارها وأحجارها وما فيها؟ فقال: ( ليس من خصائص مكة أن يتبرك الإنسان بأشجارها وأحجارها, بل من خصائص مكة ألا يعضد شجرها ولا يحش حشيشها لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك, إلا الإذخر فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - استثناه لأنه يكون للبيوت وقيون الحدادين وكذلك اللحد في القبر فإنه يسد به شقوق اللبنات وعلى هذا فنقول: إن حجارة الحرم أو مكة ليس فيها شيء يتبرك به بالتمسح به أو بنقله إلى البلاد أو ما أشبه ذلك )ا.هـ.(2/195)
الفرع السادس والثلاثون بعد المائة : وسئل الشيخ ابن باز عن حكم التمسح بجدران الكعبة وكسوتها والمقام وتقبيله والتمسك بأطراف الكعبة؟ فأجاب بقوله: ( التمسح بالمقام أو بجدران الكعبة أو بالكسوة كل هذا أمر لا يجوز ولا أصل له في الشريعة ولم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنما قبل الحجر الأسود واستلمه واستلم جدران الكعبة من الداخل لما دخل الكعبة ألصق صدره وذراعيه وخده في جدارها وكبر في نواحيها ودعا, أما في الخارج فلم يفعل - صلى الله عليه وسلم - شيئاً من ذلك فيما ثبت عنه وإن كانت هناك رواية أنه التزم الملتزم بين الركن والباب, ولكن في إسناده نظر وفعله بعض الصحابة, والملتزم لا بأس به, وهكذا تقبيل الحجر سنة, أما كونه يتعلق بكسوة الكعبة أو بجدرانها أو يلتصق بها شيء لا أصل له ولا ينبغي فعله لعدم نقله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن الصحابة - رضي الله عنهم - وكذلك التمسح بمقام إبراهيم أو تقبيله كل هذا لا أصل له ولا يجوز فعله لأنه من البدع التي أحدثها الناس أما سؤال الكعبة أو دعاؤها أو طلب البركة منها هذا لا يجوز وهو دعاء لغير الله فالذي يطلب من الكعبة أن تشفي مريضه أو يتمسح بالمقام, يرجو الشفاء منه هذا لا يجوز بل هو شرك نسأل الله السلامة )ا.هـ. وقال الشيخ محمد رحمه الله تعالى: ( ما يفعله بعض الجهلة من التمسح بالكعبة أو الركن اليماني أو الحجر الأسود طلباً للبركة فهذا من البدع فإن ما يمسح منه يمسح تعبداً لا تبركاً قال عمر - رضي الله عنه - عندما قبل الحجر الأسود (( إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك )) فالأمر مبني على الإتباع لا على الابتداع ولهذا لا يمسح من الكعبة إلا الركن اليماني والحجر الأسود فمن مسح شيئاً سواهما من الكعبة فقد ابتدع, ولهذا أنكر ابن عباس رضي الله عنهما معاوية - رضي الله عنه - استلام الركنيين الآخرين )ا.هـ. وقال الشيخ محمد(2/196)
أيضاً: ( التبرك بثوب الكعبة والتمسح به من البدع, لأن ذلك لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولما طاف معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - بالكعبة وجعل يمسح جميع أركان البيت, يمسح الحجر الأسود ويمسح الركن العراقي, والركن الشامي, والركن اليماني, أنكر عليه عبدالله ابن عباس, فأجاب معاوية ليس شيء من البيت مهجوراً, فأجابه ابن عباس ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنه ) وقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح الركنين يعني الحجر الأسود واليماني وهذا دليل على أنه يجب علينا أن نتوقف في مسح الكعبة وأركانها على ما جاءت به السنة, لأن هذه هي الأسوة الحسنة في رسول الله عليه الصلاة والسلام, وأما الملتزم الذي بين الحجر الأسود والباب فإن هذا قد ورد عن الصحابة - رضي الله عنهم - أنهم قاموا به فالتزموا ذلك والله أعلم، أما ما قاله السائل أن هذا قول شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله فنحن نعلم أنه رحمه الله من أشد الناس محاربة للبدع, وإذا قدر أنه ثبت عنه فليس قوله حجة على غيره, لأن ابن تيميه رحمه الله كغيره من أهل العلم يخطئ ويصيب, وإذا كان معاوية - رضي الله عنه - وهو من الصحابة أخطأ فيما أخطأ فيه من مسح الأركان الأربعة حتى نبهه عبدالله بن عباس في هذا فإن من دون معاوية يجوز عليه الخطأ فنحن أولاً نطالب هذا الرجل بإثبات ذلك عن شيخ الإسلام ابن تيميه وإذا ثبت عن شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه ليس بحجة لأن أقوال أهل العلم يحتج لها ولا يحتج بها. وهذه قاعدة ينبغي أن يعرفها ( كل أهل العلم أقوالهم يحتج لها ولا يحتج بها إلا إذا حصل إجماع المسلمين ) فإن الإجماع لا يمكن الخروج عنه بل لا يمكن الخروج عليه .(2/197)
الفرع السابع والثلاثون بعد المائة : وقال أصحاب الفضيلة في اللجنة الدائمة: ( لا يجوز الاحتفال بمن مات من الأنبياء والصالحين ولا إحياء ذكراهم بالموالد ورفع الأعلام ولا بوضع السرج والشموع على قبورهم ولا ببناء القباب والمساجد على أضرحتهم أو كسوتها أو نحو ذلك لأن جميع ما ذكر من البدع المحدثة في الدين ومن وسائل الشرك فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل ذلك بمن سبقه من الأنبياء والصالحين ولا فعله الصحابة - رضي الله عنهم - بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من أئمة المسلمين في القرون الثلاثة التي شهد لها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها خير القرون من بعده بأحد من الأولياء الصالحين أو الملوك أو الحكام وكل خير في إتباعه - صلى الله عليه وسلم - وإتباع خلفائه الراشدين المهديين ومن اهتدى بهديهم وسلك طريقهم وكل شر في إتباع المبتدعة والعمل بما أحدثوا من البدع في شؤون الدين, قال الله تعالى { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا } وثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )) متفق على صحته وثبت عنه أيضاً أنه قال عليه الصلاة والسلام (( ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا مساجد فإني أنهاكم عن ذلك )) وثبت عنه أيضاً أنه نهى عن تجصيص القبور والقعود عليها والبناء عليها وصح عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال (( خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ))"رواه مسلم في صحيحه" )ا.هـ. وعليه فإن الأسابيع التي تتكرر كل عام لإحياء ذكرى بعض العلماء أو الملوك لا تجوز لأنها من المحدثات والبدع وكل إحداث في الدين فهو رد .(2/198)
الفرع الثامن والثلاثون بعد المائة : وقال الشيخ صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله تعالى: ( لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بخصوص ليلة النصف من شعبان قيام بخصوصها ولا بصيام اليوم الخامس عشر من شعبان بخصوصه ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء يعتمد عليه, فليلة النصف من شعبان كغيرها من الليالي إن كان له عادة القيام في الليل فإنه يقوم فيها كما يقوم في غيرها دون أن يكون لها ميزة, لأن تخصيص وقت لعبادة من العبادات لابد له من دليل صحيح فإذا لم يكن هناك دليل صحيح فإن ذلك يكون بدعة وكل بدعة ضلالة وكذلك لم يرد في صيام الخامس عشر من شعبان أو النصف من شعبان بخصوصه دليل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقتضي مشروعية صيام ذلك اليوم, أما ما ورد من الأحاديث في هذا الموضوع فكلها ضعيفة كما نص على ذلك أهل العلم ولكن من كان من عادته أن يصوم الأيام البيض فإنه يصومها في شعبان كما يصومها في غيره, لا على أنه خاص بهذا اليوم كما كان عليه الصلاة والسلام يصوم ويكثر الصيام في هذا الشهر لكنه لم يخص هذا اليوم وإنما يدخل تبعاً )ا.هـ.
الفرع التاسع والثلاثون بعد المائة : وقالت اللجنة الدائمة: ( تخصيص الصدقة بالنصف من شعبان من كل سنة بدعة غير جائزة ) وقالوا أيضاً: ( لا يجوز تخصيص ما يسمى بليلة المعراج وليلة القدر بما ذكر من الاهتمام بطبخ الطعام ولا إرساله إلى المسجد ليدعو عليه الإمام رجاء وصول الثواب إلى الميت بل هذا بدعة فينبغي تركه وعدم التزام حالة معينة أو وقت معين للذبح إلا في الأضحى والهدي والخير كل الخير في إتباع هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - )ا.هـ.(2/199)
الفرع الأربعون بعد المائة : قال الشيخ ابن جبرين رحمه الله تعالى وقد سئل عن عادة قص الشريط في افتتاح المشاريع فأجاب بقوله: ( لا أعرف لهذه العادة أصلاً ولا فائدة فيها ولم تكن من عمل المسلمين في سابق الزمان وإنما هي مجرد تقليد للبلاد الأجنبية وإنما جاء الإسلام بالاستخارة في الأمور قبل البدء في العمل والدعاء بالبركة وكثرة الخير والتوفيق من الله تعالى في نجاح ذلك المشروع وفلاحه ثم بعد ذلك عليه أن ينصح فيه ويخلص في عمله, ويساوي بين القريب والبعيد ويتجنب الغش والظلم والمخادعة ويقوم بالأمانة وإنجاز الأعمال ويحتسب في ذلك الأجر من الله تعالى ونفع المسلمين ويقوم بحق الله عز وجل من أداء العبادات وفعل القربات وترك المحرمات )ا.هـ.
الفرع الواحد والأربعون بعد المائة : وقالت اللجنة الدائمة: ( قول صدق الله العظيم بعد الانتهاء من قراءة القرآن بدعة لأنه لم يفعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا الخلفاء الراشدون ولا سائر الصحابة - رضي الله عنهم - ولا أئمة السلف رحمهم الله مع كثرة قراءتهم للقرآن وعنايتهم ومعرفتهم بشأنه فكان قول ذلك والتزامه عقب القراءة بدعة محدثة وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ))"رواه البخاري ومسلم" وفي لفظ مسلم من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )ا.هـ. قلت: وبذلك أفتى الشيخان الفاضلان محمد بن عثيمين رحمه الله وبكر أبو زيد حفظه الله .(2/200)
الفرع الثاني والأربعون بعد المائة : وقال الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله تعالى: ( لم يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يرفع يديه بعد صلاة الفريضة ولم يصح ذلك أيضاً عن أصحابه - رضي الله عنهم - فيما نعلم وما يفعله بعض الناس من رفع أيديهم بعد صلاة الفريضة بدعة لا أصل لها لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ))"أخرجه مسلم في صحيحه" وقال عليه الصلاة والسلام (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) )ا.هـ.
الفرع الثالث والأربعون بعد المائة : وقال الشيخ عبدالعزيز رحمه الله تعالى في مسألة ذبح الأبقار لغرض الاستسقاء: ( هذا العمل لا أصل له في الشرع المطهر وهو بدعة منكرة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - لم يفعلوا ذلك وإنما السنة عند الجدب ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - من الاستغاثة في خطبة الجمعة أو غيرها كخطبة العيد أو الخروج إلى الصحراء وأداء صلاة الاستسقاء أو سؤال الله والضراعة إليه بطلب الغوث كما فعل ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - ويجب على المسلمين التوبة من جميع الذنوب لأن الذنوب سبب كل شر في الدنيا والآخرة والتوبة إلى الله سبحانه والاستقامة على الحق سبب كل خير في الدنيا والآخرة )ا.هـ.(2/201)
الفرع الرابع والأربعون بعد المائة : وقالت اللجنة الدائمة: ( يشرع للإمام رفع صوته في جميع التكبيرات حتى يسمع من خلفه وأما المأموم فالمشروع في حقه عدم رفع صوته في التكبيرة الأولى ولا غيرها وإنما يكبر بحيث يسمع نفسه فقط بل رفع الصوت بالتكبير من المأمومين من الإحداث في الدين المنهي عنه بقوله - صلى الله عليه وسلم - (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) )ا.هـ. وقال الشيخ عبدالله بن جبرين حفظه الله تعالى: ( رفع المأموم صوته بالتكبير خلف الإمام لا يجوز, بل الرفع يختص بالإمام حتى ينبه المأمومين ليتابعوه, وأما المأمومون فلا يجوز لهم الرفع بل هو بدعة, ولأنه يشوش على المأموم الآخر بحيث يرتج المسجد بالمكبرين ويحصل الارتباط والتشويش على الإمام وغيره )ا.هـ.
الفرع الخامس والأربعون بعد المائة : وقال الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله تعالى: ( لا يشرع رفع اليدين عند قول الإمام ( ولا الضالين ) في الصلاة, بل ذلك بدعة لأن ذلك لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه - رضي الله عنهم - فيما علمنا وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) )ا.هـ.(2/202)
الفرع السادس والأربعون بعد المائة : وقال الشيخ عبدالعزيز أيضاً: ( ليس هناك دليل صحيح صريح يدل على شرعية سكوت الإمام حتى يقرأ المأموم الفاتحة في الصلاة الجهرية أما المأموم فالمشروع له أن يقرأها في حال سكتات إمامه إن سكت, فإن لم يتيسر ذلك قرأها المأموم سراً ولو كان إمامه يقرأ ثم ينصت بعد ذلك لإمامه لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - (( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ))"متفق عليه" وقوله - صلى الله عليه وسلم - (( لعلكم تقرؤون خلف إمامكم؟ )) قالوا: نعم، قال: (( فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها ))"رواه أحمد وأبو داود وابن حبان بإسنادٍ حسن" وهذان الحديثان يخصصان قوله عز وجل { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (( إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا ))"الحديث رواه مسلم في صحيحه" )ا.هـ.
الفرع السابع والأربعون بعد المائة : وقال الشيخ صالح بن فوزان حفظه الله تعالى: ( المشروع أن يصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول الخطبة بعد الحمد والشهادتين, وأما الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر الخطبة وأمر الناس بذلك فلا أصل له, بل هو بدعة وكل بدعة ضلاله لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) )ا.هـ.(2/203)
الفرع الثامن والأربعون بعد المائة : وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى عن حكم القول بمشروعية صلاة الفائدة وهي عبارة عن مائة ركعة, وقيل أربع ركعات تصلى في آخر جمعة من رمضان, فأجاب الشيخ بقوله: ( هذا القول ليس بصحيح, وليس هناك صلاة تسمى صلاة الفائدة, وجميع الصلوات فوائد, وصلاة الفريضة أكبر الفوائد لأن جنس العبادة إذا كان فريضة فهو أفضل من نافلتها, لما ثبت في الحديث الصحيح أن الله تعالى يقول (( ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه )) ولأن الله أوجبها وهو دليل على محبته لها وعلى أنها أنفع للعبد من النافلة، ولهذا ألزم بها لمصلحته بمايكون فيها من الأجر، فكل الصلوات فوائد، وأما صلاة خاصة تسمى صلاة الفائدة, فهي بدعة لا أصل لها وليحذر المرء من أذكار وصلوات شاعت بين الناس وليس لها أصل من السنة, وليعلم أن الأصل في العبادات الحظر والمنع, فلا يجوز لأحد أن يتعبد لله بشيء لم يشرعه الله في كتابه أو في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -, ومتى شك الإنسان في شيء, أهو من أعمال العبادة أو لا؟ فالأصل أنه ليس بعبادة حتى يقوم دليل على ذلك, أي على أنه عبادة )ا.هـ.(2/204)
الفرع التاسع والأربعون بعد المائة : وسئلت اللجنة الدائمة عن حكم صلاة القضاء العمري وهو صلاة يصلونها بعد آخر جمعة في رمضان, فيصلون بعد صلاة الجمعة خمس صلوات أي الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء, دفعة واحدة ويزعمون أنها قضاء لما فات الإنسان من الصلاة فيما تقدم من عمره, فهل لهذا العمل أصل في الشرع, فأجاب أصحاب الفضيلة في اللجنة بقولهم: ( الصلاة عبادة, والأصل فيها التوقيف وطلب قضاها وبيانه تشريع وذلك لا يصح أن يرجع فيه إلا إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والإجماع المستند إليهما أو إلى أحدهما ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه - رضي الله عنهم - ولا عن أئمة الهدى رحمهم الله أنهم صلوا هذه الصلاة أو أمروا بها وحثوا عليها أو رغبوا فيها ولو كانت ثابتة لعرفها أصحابه - رضي الله عنهم - ونقلوها إلينا وأرشدنا إليها أئمة الهدى من بعدهم, لكن لم يثبت ذلك عن أحد منهم قولاً أو فعلاً, فدل ذلك على أن ما ذكر في السؤال من صلاة القضاء العمري بدعة في الشرع لم يأذن الله بها, وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) وإنما الذي أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقضي من الصلوات ما فات الإنسان لنوم أو نسيان حتى خرج وقته وبين لنا أن نصليها نفسها إذا استيقظنا أو تذكرناها, لا في آخر جمعة من رمضان )ا.هـ.
الفرع الخمسون بعد المائة : وسئلت اللجنة الدائمة أيضاً عن حكم ضرب الخطيب بالعصا على المنبر ثلاث مرات قبل الأذان فأجابوا بقولهم ( لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من خلفائه الراشدين ولا عن أحد من أصحابه - رضي الله عنهم - أجمعين أنه فعل ذلك, بل هو بدعة لقوله عليه الصلاة والسلام (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) وفي لفظ (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) )ا.هـ.(2/205)
الفرع الواحد والخمسون بعد المائة : وسئلت اللجنة أيضاً عن حكم قراءة الفاتحة بين خطبتي الجمعة فأجابوا بقولهم: ( لم تثبت قراءتها بين خطبتي الجمعة, لا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه - رضي الله عنهم - فيما نعلم فقراءتها بينهما بدعة )ا.هـ.
الفرع الخمسون بعد المائة : قال الشيخ محمد رحمه الله تعالى " وضع المصحف في السيارة دفعا للعين أو توقيا للخطر بدعة فإن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يحملون المصحف دفعا للخطر أو للعين وإذا كان بدعة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار " أهـ
الفرع الواحد والخمسون بعد المائة: سئل سماحة الشيخ الوالد عبدالعزيز بن باز رحمه الله تعالى عن تعليق بعض الناس آيات قرآنية وأحاديث نبوية في غرف المنازل أو في المطاعم أو المكاتب وكذلك في المستشفيات والمستوصفات يعلقون قوله تعالى { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } وغير ذلك, فهل تعليق ذلك يعتبر من التمائم المنهي عنها شرعاً، علماً بأن مقصودهم استنزال البركات وطرد الشياطين وقد يقصد من ذلك أيضاً تذكير الناس وتنبيه الغافل وهل من التمائم وضع المصحف في السيارة بحجة التبرك به؟ فأجاب سماحة الشيخ بقوله ( إذا كان المقصود بما ذكره السائل تذكرة الناس وتعليمهم ما ينفعهم فلا حرج في ذلك ، أما إذا كان المقصود اعتبارها حرزاً من الشياطين أو الجن فلا أعلم لهذا أصلاً ، وهكذا وضع المصحف في السيارة للتبرك بذلك ليس له أصل ، وليس بمشروع ، أما إذا وضعه في السيارة ليقرأ فيه بعض الأحيان أو ليقرأ فيه من يركب فهذا طيب ولا بأس )ا.هـ .(2/206)
الفرع الثاني والخمسون بعد المائة: قال سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى ( التوسل بجاه فلان أو ببركة فلان أو بحق فلان بدعة وليست من الشرك فإذا قال : اللهم إني أسألك بجاه أنبيائك أو بجاه وليك فلان أو بعبدك فلان أو بحق فلان أو بركة فلان فذلك لا يجوز وهو من البدع ومن وسائل الشرك ، لأنه لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن الصحابة فيكون بدعة ، والله سبحانه وتعالى يقول { وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } ولم يقل ببركة فلان أو جاه فلان ، وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) فالتوسل يكون بأسماء الله وبصفاته وبتوحيده كما جاء في الحديث الصحيح (( اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد )) ويكون أيضاً بالأعمال الصالحة كسؤال أهل الكهف لما انطبقت عليهم الصخرة ولم يستطيعوا الخروج سألوا ربهم ، أحدهم سأل ببر الوالدين ، والثاني سأل بغضته الزنا والثالث سأل بأدائه الأمانة ففرج الله عنهم ، فدل ذلك على أن التوسل بالأعمال الصالحة كأن يقول : اللهم إني أسألك بمحبتي لنبيك - - صلى الله عليه وسلم - - أو باتباعي لشرعك ، أو بعفتي عما حرمت علي أو نحو ذلك توسل شرعي وصحيح ) .(2/207)
الفرع الثالث والخمسون بعد المائة: قال الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله تعالى ( وأما الاجتماع عند أهل الميت وقراءة القرآن ، وتوزيع التمر واللحم فكله من البدع التي ينبغي للمرء تجنبها ، فإنه ربما يحدث مع ذلك نياحة ، وبكاء ، وحزن ، وتذكر للميت حتى تبقى المصيبة في قلوبهم لا تزول, وأنا أنصح هؤلاء الذين يفعلون مثل هذا أنصحهم أن يتوبوا إلى الله عز وجل ، وأن يسلكوا طريق السلف الصالح عند المصائب فيقول الإنسان إذا أصيب بمصيبة : (( إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها )) فإذا فعل ذلك آجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها، وليتذكروا قصة أم سلمة رضي الله عنها حين مات عنها زوجها - رضي الله عنه - فقالت (( اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها )) وكانت تقول في نفسها مَنْ خير مِنْ أبي سلمة ، فلما انقضت عدتها خطبها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتزوجها فكان خيراً لها من أبي سلمة, والذي ينبغي للمصاب ألا يجلس في انتظار من يأتون للعزاء لأن ذلك ليس من هدي الصحابة - رضي الله عنهم - بل ينصرف إلى عمله ، أو إلى دراسته ، أو إلى تجارته أو صناعته ، أو إلى أي عمل يكابده في هذه الدنيا حتى ينسى المصيبة ، وحق الميت علينا أن ندعو له بالمغفرة والرحمة )ا.هـ .(2/208)
الفرع الرابع والخمسون بعد المائة: قالت اللجنة الدائمة في المملكة العربية السعودية : (( لا يجوز إهداء الثواب للرسول - صلى الله عليه وسلم - لا ختم القرآن ولا غيره ، لأن السلف الصالح من الصحابة - رضي الله عنهم - ومن بعدهم لم يفعلوا ذلك والعبادات توقيفية ، وقد قال عليه الصلاة والسلام (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) وهو - صلى الله عليه وسلم - له مثل أجود أمته في كل عمل صالح تعمله لأنه هو الذي دعاها إلى ذلك ، وأرشدها إليه ، وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال :" من دل على خير فله مثل أجر فاعله ". أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه " .
* الفرع الخامس والخمسون بعد المائة :-
قال الشيخ محمد رحمه الله تعالى لما سئل عن تخصيص الجمعة والعيدين لزيارة المقابر :" ليس له أصل فتخصيص زيارة المقابر في يوم العيد واعتقاد أن ذلك مشروع يعتبر من البدع لأن ذلك لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أعلم أحدا من أهل العلم قال به - أما يوم الجمعة فقد ذكر بعض العلماء أنه ينبغي أن تكون الزيارة في يوم الجمعة ومع ذلك فلم يذكروا في هذا أثرا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " .
* الفرع السادس والخمسون بعد المائة :-
قال السيوخي رحمه الله تعالى في بيان بدعة معاشرة الأحداث :- " ومن ذلك معاشرة الأحداث وقد كان السلف يبالغون في الإعراض عن المرد وصحبة الأحداث أقوى حبائل الشيطان ، قال أبو بكر الرازي ، قال أبو يوسف بن الحسين :- نظرت في آفات الخلق فعرفت من أين أتوا ، ورأيت آفة الصوفية من صحبة الأحداث ومعاشرة الأضداد .(2/209)
وقال أبو عبد الله الجلاء :- كنت واقفا إلى غلام نصراني حسن الوجه كأنما أفرغ في قالب الجمال ، فمر بني عبد الله فقال :- إيش وقوفك هنا ؟ فقلت :- يا عم ، ترى هذه الصورة تعذب في النار ، مع ما أعطيت من الحسن والجمال فضرب بيده بين كتفي وقال :- لتجدث غبها ، ولو بعد حين ، قال فوجدت غبها بعد أربعين سنة ، أنسيت القرآن
وعن أبي الأديان قال :- كنت مع أستاذي أبي بكر الدقاق ، فمر بي حدث ، فنظرت إليه ، فقال :- لتجدن غب هذه النظرة ولو بعد حين فبقيت عشرين سنة وأنا أرعى ذلك ، فما أجد ذلك الغب ، فنمت ليلة وأنا مفكر فيما قال لي الأستاذ فأصبحت وأنا قد أنسيت القرآن . هذه عقوبة للمتهاونين بذلك في الدنيا والآخرة أدهى وأمر ، وأما أصحاب العزم والحزم فبالغوا في الإعراض عنهم ، كان سفيان الثوري لا يدع أمرد يجالسه ، وقال يحيى بن معين :- ما طمع أمرد بصحبتي . وكذا الإمام أحمد ، ودخل سفيان الحمام فدخل عليه غلام حسن الوجه فقال : أخرجوه ، أخرجوه ، فإني أرى مع كل امرأة شيطانا ومع كل صبي بضعة عشر شيطانا .
وقال محمد بن أحمد :- دخلنا على محمد بن الحسين وكان يقال عنه :- إنه ما رقع رأسه إلى السماء منذ أربعين سنة ، ومعنا غلام حسن فجلس بين يديه فقال :- قم من حذائي وأجلسه من خلفه . واعلم يا أخي أن كل من فاته العلم تخبط ، فإن حصل له العلم وفاته العمل كان أشد تخبطا ، ومن استعمل أدب الشرع مثل قوله تعالى " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم " فمن غض بصره في البداية مسلم مما يصعب أمره في النهاية فقد ورد النهي عن مجالسة المردان ، وأوحى العلماء بذلك فلا يغتر مغتر فيكون العطف عليه أمرع والهلاك أقرب من النهي والزجر " اهـ(2/210)
قلت :- وقد أعاننا الله تعالى بشدة في الطبع نفرت عنا المردان من أنفسهم بأنفسهم فإنهم يغلب عليهم حب الشهرة والتعظيم ورؤية الناس ، ونحن ما عندنا إلا الأدب والعلم والرجولة فيمن يحضر دروسنا ، وقد حصل أن طردنا بعضهم من حلقة التدريس لما رأينا عليه طبع الميوعة ، وهذا وإن كان فيه مفسدة عليه لكنها مفسدة خاصة ونحن ندفع بارتكابها مفسدة عامة والله المستعان فاحذروا رحمكم الله من التهاون بذلك وإياك أن تصحب الأحداث والمردان وخف على دينك الذي هو أعز شيء تملكه ، فإن النظرة سهم مسموح وعلاجها صعب للغاية فاحكم قلبك منها ، فإن النظرة المحرمة بريد الفكرة المثيرة ، والفكرة المثيرة بريد الهم والعزم ، وهذا بريد الوقوع في الفاحشة الكبرى وتفكر في عقوبة قوم لوط وما جمعه الله عليهم من أنواع النكال والتعذيب ، نعوذ بالله من فتنة القلوب ونسأله جل وعلا أن يحفظ علينا ديننا وأن يجنبنا مفضلان الفتن ما ظهر منها وما بطن وإن كنت وقعت في شيء من ذلك فأوصيك بقطع أسبابه والتأمل في حالك والإكثار من قراءة القرآن وتدبره والنظر في سير الصالحين وقراءة كتاب الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي للعلامة ابن القين رحم الله علماء المسلمين رحمة واسعة .
* الفرع السابع والخمسون بعد المائة :-(2/211)
وقال رحمه الله تعالى فيما يفعله بعض أهل الأمصار ليلة عرفة :- " ومن ذلك التعريف المحدث ، قال ابن وهب :- سمعت مالكا يسأل عن جلوس الناس في المسجد عشية عرفة بعد العصر واجتماعهم للدعاء فقال :- ليس هذا من أمر الناس وإنما مفتاح هذه الأشياء من البدع ، وقال مالك في العتبية :- وأكره أن يجلس أهل الآفاق يوم عرفة في المساجد للدعاء ، ومن اجتمع إليه الناس فلينصرف من مكانه ، ومقامه في بيته خير له وأحب إلي ، فإذا حضرت الصلاة رجع فصلى في المسجد ، وروى محمد بن وضاح أن الناس اجتمعوا بعد العصر من يوم عرفة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يدعون فخرج نافع - مولى ابن عمر - فقال :- يا أيها الناس إن الذي أنتم فيه بدعة وليست بسنة أدركت الناس ولا يصنعون هذا .
قال مالك بن أنس :- ولقد رأيت رجلا ممن يقتدي بهم يتخلفون في بيوتهم عشية عرفة ثم قال :- ولا أحب للرجل العالم أن يقعد في المسجد تلك العشية ، إذا أرادوا أن يقتدوا به وليقعد في بيته . وقال الحارث بن مسكين :- كنت أرى الليث ابن سعد ينصرف بعد العصر يوم عرفة فلا يرجع إلا قرب المغرب .
وقال إبراهيم النخعي :- الاجتماع يوم عرفة أمر محدث . وقال عطاء الخرساني :- إن استطعت أن تخلو عشية عرفة بنفسك فافعل . وكان أبو وائل لا يأتي المسجد عشية عرفة . قال الطرطوشي :- فاعلموا رحمكم الله أن هؤلاء الأئمة علموا فضل الدعاء يوم عرفة ولكن علموا أن ذلك بموطن عرفة لا في غيرها ، ولم يمنعوا من خلا بنفسه ، فحضرته نية صادقة أن يدعو الله تعالى وإنما كرهوا الحوادث في الدين وأن تظن العوام أن من السنة يوم عرفة الاجتماع بسائر الآفاق والدعاء ، فيتداعى الأمر إلى أن يدخل في الدين ما ليس منه .(2/212)
وقد وجد هذا الذي كرهوه فإنه قد حدث في بعض أهل المشرق والمغرب التعريف عند قبر من يحسن الظن به ، ويجتمعون الاجتماع العظيم عند قبره ، وهذا نوع من الحج المبتدع ، الذي لم يشرعه الله ، ومضاهاة للحج الذي شرعه الله ، واتخاذ القبور أعيادا ، وكذلك السفر إلى بيت المقدس لا خصوص له في هذا الوقت على غيره ، ثم فيه مضاهاة الحج إلى بيت الله الحرام وتشبيه له بالكعبة ولهذا قد أفضى الأمر ببعض الضلال للطواف بالضجرة تشبيها لها بالكعبة ، أو من حلق الرأس أو من النسك هناك ، وكذا الطواف بالقبة التي بجبل الرحمة بعرفة ، وكذلك اجتماعهم في المسجد الأقصى في الموسم لإنشاء الغناء والضرب بالدفوف ونحو هذا من أقبح المنكرات ، وها منهي عنه خارج المسجد فكيفي بالمسجد الأقصى . فقصد بقعة بعينها للتعريف فيها كقبر رجل صالح ، أو المسجد الأقصى لا يختلفون في النهي عنه لأن فيها تشبيها بعرفات " أهـ كلام السيوطي رحمه الله تعالى , ثم ذكر بعد ذلك خلاف أهل العلم في التعريف في الأمصار والحق أنه ليس من السنة بل هو بدعة لاسيما إذا اقترن رفع الأصوات الرفع الشديد بالدعاء أو قول الأذكار جماعة وقول الخطب والقصائد فكل ذلك من البدع والمحدثات التي ما أنزل الله بها من سلطان فهي رد على أصحابها وقد تقرر أن كل إحداث في الدين فهو رد .
* الفرع الثامن والخمسون بعد المائة :
وقال السيوطي رحمه الله تعالى " ومن الأمور التي يدخل الشيطان عليهم ترك المباحات وتعذيب النفس بقلة المطعم حتى ييبس البدن مع لبس الصوف ويمنعها الماء البارد وما هذه طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا طريقة أصحابه وأتباعهم كانوا يجوعون إذا لم يجدوا فإذا وجدوا أكلوا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رأس الزاهدين يأكل اللحم ويحبه ويأكل الدجاج ويحب الحلوى والعسل ويستعذب الماء ويختار الماء البارد فإن الماء الحار يؤذي المعدة ولا يروي .(2/213)
ويروى أن رجلا قال : أنا لا آكل الخبيص لأني لا أقوم بشكره , فقال الحسن : هذا الرجل أحمق أتراه يقوم بشكر الماء البارد وكان سفيان إذا سافر حمل معه الحمل المشوي والفالوذج وينبغي للإنسان أن يعلم نفسه مطية ولا بد من الرفق بها ليصل إلى المقصود وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " وإن لنفسك عليك حقا " وإذا كان لها حق فليأخذ لها ما يصلحها وليترك ما يؤذيها من الشبع والإفراط في تناول الشهوة فإن ذلك يؤذي البدن والدين وليأخذ قدر القوام من غير أن يؤذي النفس ومن كفها عن التصرف على مقتضى ما وضع في طبعها فيما يصلحها فقد آذاها إلا أنه إن كفها عن الشبع المفرط والشره وما يخاف عاقبته فإن ذلك يفسدها فأما الكف المطلق فخطأ ولا يلتفت إلى غير هذا فإن إتباع الشارع صلى الله عليه وسلم وصحابته أولى , ولم يكونوا يتكلفون شيئا إن حضر طعام شهي أكلوا وحمدوا الله تعالى وإن لم يحضر شيء صبروا " أهـ .
* الفرع التاسع والخمسون بعد المائة :
قال السيوطي رحمه الله تعالى " ومما أحدث قولهم : كيف أصبحت ؟ وكيف أمسيت ؟ قبل السلام وإنما السلام أولا
وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم فإن بدا له أن يجلس فليجلس ثم إذا قام فليسلم فليست الأولى بأحق من الثانية " .
وروى أبو داوود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه فإن حالت بينهما شجرة أو جدار أو حجر ثم لقيه فليسلم عليها أيضا "(2/214)
وروى أيضا أبي أمامة رضي الله عنه قال , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام " والسلام تحية الله لعباده المؤمنين فيما بينهم ولهم فيها أجر كثير فقد روى أبو داوود والترمذي عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل فقال : السلام عليكم , فرد النبي صلى الله عليه وسلم وقال " عشر " , ثم جاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله , فرد النبي صلى الله عليه وسلم وقال " عشرون " , ثم جاء آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته , فرد النبي صلى الله عليه وسلم وقال " ثلاثون " .
وروى أبو داوود أيضا عن معاذ بن أنس معناه , زاد : ثم أتى آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته , فرد النبي صلى الله عليه وسلم وقال " أربعون " ثم قال لنا " هكذا تكون الفضائل " فكان السلام شعارهم وكانوا بعد السلام وبعد الرد يستخرج بعضهم من بعض الحمد والثناء .
وفي الموطأ عن أنس رضي الله عنه أنه سلم عمر على رجل فقال : السلام عليكم فرد السلام , ثم قال له عمر : كيف أنت ؟ فقال الرجل أحمد الله إليك يا أمير المؤمنين , فقال عمر : ذلك الذي أردت منك .
وأما قول الرجل :- كيف أصبحت ؟ وكيف أمسيت ؟ بالإسلام ، فإنه يشبه تحية أهل الجاهلية وقد نهينا عن التشبه بهم فروى أبو داود عن عمران ابن حصين رضي الله عنهما قال :- كنا نقول في الجاهلية :- أنعم الله بك عينا ، وأنعم صبحا ، فلما كان الإسلام نهينا عن ذلك وأمرنا بالسلام " اهـ .
* الفرع الستون بعد المائة :-
وقال السيوطي رحمه الله تعالى :- " ومن البدع ستر الحيطان بستور الحرير ونحوها ، لأن ذلك سرف وخيلاء ، وروى الخلال عن علي بن أبي طالب قال " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستر الجدار " .(2/215)
وروى مسلم في الصحيح أن عائشة رضي الله عنها قالت :- خرج النبي صلى الله عليه وسلم في سفر ، فأخذت نمطا فسترته على الباب ، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم فرآه ، عرفت الكراهة في وجهه ، فجذبه حتى هتكه ثم قال " إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين " والنمط :- كالبسط والعباءة ونحوها ، فإذا كانت هذه كراهيته لذلك فكيف لو رأى ما يصنع اليوم من ستر الحيطان بالحرير ونحوه " أهـ .
* الفرع الحادي والستون بعد المائة :ـ
قال الشيخ على محفوظ رحمه الله تعالى :- " ومن البدع قراءة سورة الكهف يوم الجمعة بصوت مرتفع وترجيع كترجيع الغناء ، والناس ما بين راكع وساجد وذاكر وقارئ ومتفكر ، وناهيك ما يكون من العوام من رفع أصواتهم استحسانا لألحان القارئ من غير مبالاة بحرمة المكان والقرآن وهذا كله مذموم لا يحل لوجوه :
الأول :- أن فيه تهويشا على المتعبدين وهو حرام بالإجماع ، عن أبي سعيد الخدري قال :- اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر وقال " ألا كلكم مناجٍ لربه فلا يؤذ بعضكم بعضا و يرفع بعضكم على بعض في القراءة " رواه أبو داود . الثاني :- فيه رفع الأصوات في المسجد لغير حاجة شرعية وقد ورد النهي عنه ، روى مالك في الموطأ أن النبي صلى الله عليه خرج على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة فقال " إن المصلى يناجي ربه فلينظر بما يناجيه به ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن " وقال عليه الصلاة والسلام للإمام علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه " يا علي لا تجهر بقراءتك ولا بدعائك حيث يصلي الناس فإن ذلك يفسد عليه صلاتهم " رواه في المدخل ، وفي الدر المختار :- يحرم رفع الصوت في المسجد إلا للمتفقهة .(2/216)
وقال ابن العماد الشافعي رحمه الله تعالى :- تحرم القراءة جهرا على وجه يشوش على نحو مصل . وفي مختصر سيدي خليل وشروحه :- يكره رفع الصوت بقراءة القرآن في المسجد خوف التشويش على المصلين والذاكرين ، فإن شوش حرم اتفاقا .
الثالث :- كونه مخالفا لما كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن أصحابه فمن بعدهم .
وصح أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يكرهون رفع الصوت بالذكر والقرآن لاسيما في المساجد ، فإذا كان معه تهويش لا يشك في التحريم ، نعم ورد النص على فضل قراءة هذه السورة - أي سورة الكهف - ليلة الجمعة ويومها ، لكن ليس على هذا الوجه المعروف ، يقرأ لنفسه في بيته مطلقا أو في المسجد بدون رفع الصوت ، روى البيهقي وحسنه السيوطي " من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له النور ما بينه وبين البيت العتيق " وروى الحاكم والبيهقي من حديث ابن مسعود " من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين السماء والأرض " وفي قرة عين وشرحها فتح العين للعلامة زين الدين الشافعي ما نصه :- ويكره الجهر بقراءة الكهف وغيرها إن حصل به تأذ لمصل أو نائم كما صرح به النووي في كتبه ، وقال شيخنا في شرح العباب :- ينبغي حرمة الجهر بالقراءة في المسجد ، وحمل كلام النووي على ما إذا خيف التأذي وعلى كون القراءة في غير المسجد .(2/217)
وكتب الحنفية والحنابلية والمالكية صريحة في أن قراءة هذه السورة على هذه الكيفية المعتادة ممنوعة ، هذا ما يكون من إعراض عن استعمالها لاسيما إذا كان القارئ غير حسن الصوت ، فيقعون في حرج ويقع القارئ في جريمة تعريف القرآن للإهانة ، وعلوم أن احترام القرآن واجب، فلا يقرأ في الأسواق ومواضع الاشتغال ، فإذا قرأ فيها كان هو المضيع في حرمته ، وكان الإثم عليه دون أهل الاشتغال دفعاً للحرج ، وقد أصبحت هذه البدعة مألوفة للناس يعدونها من الشعائر الدينية والوظائف الشرعية فعلى المرشد إذا تعرض لها أن يكون حكيماً حتى لا يثير فتنة ، ولا يعزب عنك أنها من البدع الإضافية " أهـ .
* الفرع الثاني والستون بعد المائة :-
وقال الشيخ علي محفوظ أيضاً رحمة الله تعالى عليه وغفر له وحشره في زمرة العلماء الربانيين :- " ومن البدع المكروهة تسامر الناس في المساجد بحديث الدنيا وربما علت أصواتهم وارتفع ضحكهم وكثر تصفيقهم الحاد وتصفيرهم المزعج . وفي هذا هتك لحرمة بيوت الله تعالى التي أعدها لعبادته ، وإيذاء للمصلين ، ومنع للمتعبدين فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سيكون في آخر الزمان قوم يكون حديثهم في مساجدهم ليس لله فيهم حاجة " أهـ .
وقال الطرطوشي رحمه الله تعالى :- " قال الله تعالى :- " في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبه له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار " دلت الآية على أن المساجد إنما رفعت لأعمال الآخرة دون حرث الدنيا واكتسابها ، ولقد كره مالك التابوت الذي يجعل في المسجد للصدقات ورآه من حرث الدنيا ، وسئل مالك عن الأكل في المسجد فقال :- أما الشيء الخفيف مثل السويق ويسير الطعام فأرجو أن يكون خفيفاً ولو خرج إلى باب المسجد كان أعجب إلي ، وأما الكثير فلا يعجبني ولا في رحابه .(2/218)
قال مالك :- وأكره المراوح التي في مقدم المسجد التي يروج بها الناس . قال :- وما كان يفعل ذلك فيما مضى زلا أجيز للناس أن يأتوا بالمراوح يتروحون بها .
وقال في الذي يأكل اللحم في المسجد الجامع :- أليس يخرج لغسل يدين ؟ قالوا : بلى ، قال :- فليخرج ليأكل .
قال :- وأكره أن يتكلم بألسنة العجم في المسجد . قال :- وإنما ذلك لما قيل في ألسنة الأعاجم أنها خب ، قال :- فلا يفعل في المسجد شيئاً من الخب . قال :- هو لمن يحسن العربية أشد . قال :- وأكره أن يبني فوق المسجد مسكنا يسكن فيه هو وأهله ، ولا يقلم أظافر في المسجد ولا يقص شاربه وإن أخذه في ثوبه ، وأكره أن يتسوك في المسجد من أجل ما يخرج من السواك فيلقيه في المسجد ن قال :- ولا أحب أن يتمضمض في المسجد وليخرج وليفعل ذلك " أهـ .
* الفرع الثالث والستون بعد المائة :-
قال الشيخ علي محفوظ رحمه الله تعالى :- " ومن البدع المكروهة افتتاح خطبة العيد بالتكبير كما يفعله خطباء المساجد اليوم فإنه مخالف لهديه صلوات الله وسلامه عليه في خطبه .
قال الحافظ بن القيم في زاد المعاد ما نصه :- وكان صلوات الله وسلامه عليه لا يخطب خطبة إلا افتتحها بحمد الله ، وأما قول كثير من الفقهاء أنه يفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار وخطبة العيد بالتكبير فليس معهم في سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم البتة ، وسنته تقتضي خلافه وهو افتتاح جميع الخطب بالحمد لله " أهـ .
* الفرع الرابع والستون بعد المائة :-
قال الشيخ علي أيضاً :- " ومنها - أي ومن البدع المكروهة :- اجتماع الناس يوم العيد بالمساجد وانقسامهم إلى طائفتين كل واحدة منهما ترد على الأخرى بالتكبير المعروف ، فإن السنة أن يكبر المسلمون في البيوت والطرقات ومصلاهم كل على انفراد على ما هو معروف في كتب الفروع " أهـ .
* الفرع الخامس والستون بعد المائة :-(2/219)
قال الشيخ على رحمه الله تعالى :- ومن البدع الستور التي توضع على الأضرحة ويتنافس فيها ، والشيلان التي توضع كالعامة على تابوت الأولياء والعلماء فإن هذا مع ما فيه من صرف المال لغير غرض شرعي وفعل العبث وتضليل البسطاء من العامة على ما سيأتي قد ورد ما يفيد النهي عنه صريحا ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في غزاة فأخذت نمطا فسترته على الباب فلما قد رأى النمط فجذبه حتى هتكه ثم قال " إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين " .
فالتعليل في الحديث إيماء إلى أن هذه الستور خلقت لينتفع بها الأحياء فاستعمالها في ستر الجماد تعطيل وعبث ولكن خدمة الأضرحة رين لهم الشيطان ليفتح لهم بابا من الارتزاق الخبيث فتراهم إذا احتاجوا لتجديد ثوب التابوت لكل عام أو إذا بلي يوهمون العوام أن بها من البركة ما لا يحاط به ، وأنها نافعة في الشفاء من الأمراض ودفع الحساد وجلب الأرزاق والسلامة من كل المكاره والأمن من جميع المخاوف فتهافت عليها البسطاء ، وهان عليهم بذل الأموال في الحصول على اليسير منها ، وكيف تقع البركة وهذه الستور على ما عهدت وبناء القبور على ما علمت ورفعها وتزيينها على ما سمعت " أهـ .
* الفرع السادس والستون بعد المائة :-
قال الشيخ علي رحمه الله تعالى :- " ومن البدع ما يصنعه العامة من تقديم عرائض الشكوى وإلقائها داخل الضريح زاعمين أن صاحب الضريح يفصل فيها وربما كان المطلوب إلحاق الأذى بمسلم أو مسلمة ، فعلى رجال الدين أن يبينوا لهم شرع الله تعالى ومنازل أصحاب الأضرحة عنده وإلى من ينبغي أن ترفع هذه الشكاوى " أهـ .
* الفرع السابع والستون بعد المائة :-(2/220)
قال سماحة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى :- " تلاوة القرآن عند المصائب إن كانت تلاوة جماعية يجتمع الناس عليها ويقرؤون القرآن أو يأتون بقارئ يستأجرونه لقراءة القرآن فإن هذه بدعة وكل بدعة ضلالة . وأما إذا أصيب الإنسان بمصيبة سواء كانت موتا أم غير موت ثم أخذ كتاب الله يقرأ ليسكن أحزانه فإن هذا لا بأس به ولا حرج فيه . ويذكر أن أحد العلماء مات له ابن بالغ متوجه في طلب العلم فلما خرجوا به ليدفنوه وكان الدمع كثيرا قام أحد الحاضرين وقال بأعلى صوته : " قالوا يأيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين ". فضج الناس في البكاء فقام أبو الميت وهو أحد العلماء من الحنابلة وهو علي بن عقيل رحمه الله قام وقال : يا هذا إن القرآن إنما نزل لتسكين الأحزان والتسلي به عما سواه لا لتهيج أحزانهم . الخلاصة أن قراءة القرآن عند المصائب إن كانت جماعية كما يحصل في بعض البلاد الإسلامية عند موت الميت فهي بدعة ينهى عنها ويجب القضاء عليها . وإن كانت فردية مثل أن يقوم الرجل المصاب فيتلو كلام الله عز وجل ليتسلى به عند هذه المصيبة فهذا لا بأس به وقد أمر النبي عليه الصلاة والسلام من أصيب بموت أحدا وغيره أن يقول : " اللهم أجرني في مصيبتي واخلق لي خير منها " فإنه إذا قال ذلك آجره الله تعالى في مصيبته وأخلقه خيرا منها . فيقول المصاب : " إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم أجرني في مصيبتي واخلق لي خيرا منها " فإذا فعل ذلك آجره الله في مصيبته وأخلقه خيرا منها " أهـ .
* الفرع الثامن والستون بعد المائة :-(2/221)
سئل الشيخ محمد رحمه الله تعالى عن حكم دعاء ختم القرآن فقال " لا أعلم لدعاء ختم القرآن في الصلاة أصلا صحيحا يعتمد عليه من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا من عمل الصحابة رضي الله عنهم وغاية ما في ذلك ما كان أنس بن مالك رضي الله عنه يفعله إن أراد إنهاء القرآن من أنه كان يجمع أهله ويدعو لكنه لا يفعل هذا في صلاته .
والصلاة كما هو معلوم لا يشرع فيها إحداث دعاء في محل لم ترد السنة به لقول النبي صلى الله عليه وسلم " صلوا كما رأيتموني أصلي " .
وأما إطلاق البدعة على هذه الختمة في الصلاة فإني لا أحب إطلاق ذلك لأن العلماء – علماء السنة – مختلفون منها . فلا ينبغي أن نعنف هذا التعنيف على ما قال بعض أهل السنة إنه من الأمور المستحبة لكن حريصا على إتباع السنة
ثم إن هاهنا مسألة يفعلها بعض الأخوة الحريصين على تطبيق السنة وهي أنهم يصلون خلف أحد الأئمة فإذا جاءت الركعة الأخيرة انصرفوا وفارقوا الناس بحجة أن الختمة بدعة وهذا أمر لا ينبغي لما يحصل من ذلك من اختلاف القلوب والتنافر ولأن ذلك خلاف ما ذهبت إليه الأئمة فإن الإمام أحمد رحمه الله تعالى كان لا يرى استحباب القنوت في الفجر ومع ذلك يقول " إذا ائتم الإنسان بقانت في صلاة الفجر فليتابعه وليؤمن على دعائه " .
ونظير هذه المسألة أن بعض الأخوة الحريصين على إتباع السنة في عدد الركعات في صلاة التراويح إذا صلوا خلف إمام يصلي أكثر من إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة وهو خلاف عمل الصحابة رضي الله عنهم , فإن الصحابة رضي الله عنهم لما أتم عثمان بن عفان رضي الله عنه في منى أنكروا عليه ومع ذلك كانوا يصلون خلفه ويتمون .(2/222)
ومن المعلوم أن إتمام الصلاة في حال يشرع فيها القصر أشد مخالفة للسنة من الزيادة على ثلاث عشرة ركعة ومع هذا لم يكن الصحابة رضي الله عنهم يفارقون عثمان أو يدعون الصلاة معه , وهم بلا شك أحرص منا على إتباع السنة وأسد منا رأيا وأشد منا تمسكا فيما تقتضيه الشريعة الإسلامية أهـ .
* الفرع التاسع والستون بعد المائة :
وسئل الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى عما اعتاده بعض الأئمة في صلاة الفجر يوم الجمعة من قراءة سورة الكهف وعن تقسيم سورة السجدة في صلاة الفجر في الركعتين فأجاب رحمه الله تعالى بقوله " هذا عمل غير مشروع لأن السنة أن يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة سورة " ألم . تنزيل " السجدة كاملة في الركعة الأولى وسورة " هل أتى على الإنسان ... " كاملة في الركعة الثانية , أما قراءة سورة الجمعة والمنافقون فإنما يسن قراءتها في صلاة الجمعة , كما يسن أن يقرأ أحيانا في صلاة الجمعة سورة " سبح اسم ربك ... " في الركعة الأولى , وسورة " هل أتاك حديث الغاشية " في الركعة الثانية لورود السنة بذلك بهذا وبهذا .
وأما قراءة أول سورة الكهف في صلاة الفجر يوم الجمعة فلا أصل له في السنة ولا في كلام أهل العلم فيما أعلم " أهـ .
* الفرع السبعون بعد المائة :
وقال الشيخ محمد رحمه الله تعالى :- " بعض الناس إذا خرجوا في استراحة أو نزهة اجتمعوا جميعا ثم خطوا عليهم خطا ثم قرأ عليهم كبيرهم من أب أو أخ أو غيرهما آية الكرسي ، وهذا بدعة لم يكن معروفاً في عهد السلف الصالح والذي يشرع أن كل واحد منهم يقرأ آية الكرسي لأن من قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح فالسنة أن يعلموا ويقال كل واحد منكم يقرأ آية الكرسي " أهـ .
* الفرع الواحد والسبعون بعد المائة :(2/223)
وسئلت اللجنة الدائمة عن حكم اجتماع الطلاب أو الطالبات في الطابور الصباحي وقراءة سورة الفاتحة جماعة بصوت واحد فأجابوا بقولهم :- " لا يجوز اتخاذ ما ذكر من قراءة الطلاب أو الطالبات سورة الفاتحة عادة في طابور الصباح بالمدارس ، بل هو بدعة محدثة وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من أحدث في أرمنا هذا ما ليس منه فهو رد " رواه بخاري ومسلم ، ولا مانع من تنويع ما يلقى عند الطابور ، فمرة تقرأ آيات ومرة الفاتحة وتارة أحاديث صحيحة وتارة حكم وأمثال ليس فيها محظور شرعي وتارة أناشيد إسلامية " أهـ .
وقال أصحاب الفضيلة أيضاً :- " التزام قراءة القرآن جماعة بصوت واحد بعد كل من صلاة الصبح والمغرب أو غيرهما بدعة ، وكذا التزام الدعاء جماعة بعد الصلاة ، أما إذا قرأ كل واحد لنفسه أو تدارسوا القرآن جميعاً كلما فرغ واحد قرأ الآخر واستمعوا له فهذا من أفضل القرب لقول النبي صلى الله عليه وسلم " ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده " أهـ .
* الفرع الثاني والسبعون بعد المائة :
و سئل الشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله عن السلام بهذا اللفظ :- السلام التام بوجود مولانا الإمام ، فما الحكم في هذا القول فأجاب رحمه الله تعالى بقوله :- " هذه التحية مبتدعة وفيها تغيير للتحية المشروعة وفيها تعظيم لمولاهم واعتقاد أن تمام السلامة متوقف على وجوده مع أن السلام اسم من أسماء الله تعالى ، ومنه السلام وأيضاً وصفه بالمولى ، والله هو المولى كما قال تعالى " ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وان الكافرين لا مولى لهم " أهـ .
* الفرع الثالث والسبعون بعد المائة :(2/224)
وسئل الشيخ عبد العزيز رحمه الله تعالى عن ما اعتاد بعض الناس من تقبيل اليد بعد السلام أو وضعها على الصدر من باب زيادة التودد فهل ذلك جائز ؟ فأجاب بقوله :- " ليس لهذا العمل أصل فيما نعلم من الشريعة الإسلامية ولا يشرع تقبيل اليد أو وضعها على الصدر بعد المصافحة ، بل هو بدعة إذا اعتقد صاحبه التقرب إلى الله سبحانه " أهـ
* الفرع الرابع والسبعون بعد المائة :
وسئل الشيخ محمد رحمه الله تعالى عن مصافحة الداخل على الجالسين وهل له دليل من الكتاب أو السنة ؟ فأجاب بقوله :- " لا أعلم فيها شيئاً من السنة ولهذا لا ينبغي أن تفعل ، بعض الناس الآن إذا دخل المجلس بدأ بالمصافحة من أول واحد إلى آخر واحد وهذا ليس بمشروع فيما أعلم ، وإنما المصافحة عند التلاقي ، أما الدخول إلى المجالس فإنه ليس من منهج الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه أن يفعلوا ذلك ، وإنما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأتي ويجلس حيث انتهى به المجلس ، ولم نسمع أيضاً أنه إذا جلس حيث انتهى به المجلس أنهم يقومون ويصافحونه ، فالمصافحة على هذا الوجه ليست بمشروعة ، وقد سألت عنه من نعتمدهم من مشايخنا فقالها :- لا نعلم لها أصلاً في السنة " أهـ .
* الفرع الخامس والسبعون بعد المائة :
وسئل الشيخ محمد رحمه الله تعالى عن حكم الحلف على المصحف لتأكيد اليمين ؟ فأجاب بقوله :- " الحلف على المصحف لتأكيد اليمين لا أعلم لها أصلا من السنة ، فليست بمشروعة " أهـ .(2/225)
قلت :- ولا بد أن تفرق بارك الله فيك بين مسألة الحلف بالمصحف وبين الحلف على المصحف ، فأما الأولى فالصحيح جوازها باعتبار أن ما في المصحف كلام الله تعالى وكلامه صفة من صفاته والحلف بالصفة جائز ، وأما الحلف على المصحف فهي أن يجعل في يده أو على قلبه أو فوق رأسه ويقول :- أقسم بالله على كتاب الله أنه كذا وكذا ، وهذا لا أصل له في الشرع ولا نعلمه ثابتاً من عمل الصحابة ولا عن أحد من السلف الصالح ، وقد تقرر في ضوابط باب اليمين أن تأكيد اليمين توقيف أي لا يجوز تأكيدها والتغليظ فيها إلا بما ورد به الشرع وكل إحداث في الدين وهو رد .
* الفرع السادس والسبعون بعد المائة :
وسئل الشيخ محمد رحمه الله تعالى عن حكم ختم المجلس دائماً بسورة العصر فقال :- " ختم المجلس بسورة العصر فإن ذلك بدعة لا أصل له " أهـ .
قلت :- أما قراءة سورة العصر فإنه مشروع على وجه الإطلاق من غير تحديد أفضلية قراءتها بزمان ولا مكان ، ومن قيدها بزمان معين أو مكان معين فإنه مطالب بالدليل لأن شرعية الأصل لا تستلزم شرعية الوصف ولأن الأصل في التعبد الوقف ، فاعتقاد فضيلة قراءة السورة في خاتمة كل مجلس محدث في الدين في الدين وبدعة والمتقرر أن كل إحداث في الدين فهو رد .
* الفرع السابع والسبعون بعد المائة :(2/226)
وسئل الشيخ محمد رحمه الله تعالى عن حكم ما يفعله بعض القراء من فصلهم بين السورتين بالتكبير من سورة الضحى إلى آخر القرآن فأجاب بقوله :- " هذا خلاف ما فعل الصحابة رضي الله عنهم من فصلهم بين كل سورة وأخرى ببسم الله الرحمن الرحيم ، وخلاف ما كان عليه العلم من أنه لا يفصل بالتكبير في جميع سورة القرآن ، غاية ما هناك أن بعض القراء استحب أن يكبر الإنسان عند ختم كل سورة من الضحى إلى آخر القرآن مع البسملة بين كل سورتين ، والصواب أنه ليس بسنة لعدم ورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى هذا فالمشروع أن تفصل بين كل سورة وأخرى بالبسملة ، بسم الله الرحمن الرحيم ، غلا في سورة براءة فإنه ليس بينه وبين الأنفال بسملة " أهـ .
قلت :- وقد حكم ببدعية ذلك أبو العباس ابن تيمية وغيره من المحققين وأبطل أبو العباس المرويات في ذلك والله أعلم
* الفرع الثامن والسبعون بعد المائة :(2/227)
قال الشيخ علي محفوظ رحمه الله تعالى في بيان بعض البدع في يوم الجمعة :- " فمن البدع المكروهة اجتماع كثير من العامة ليلة الجمعة في بعض المساجد أو المساكن يذكرون الله تعالى وربما استغرقوا معظم الليل وقد نهى الشارع عن تخصيص ليلة الجمعة بقيام من بين سائر الليالي ، ومثل القيام غيره مما يتحقق به أحياء الليلة فقد أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين سائر الليالي ، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين سائر الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم وهذا صريح في النهي فإن عرض الشارع الاستعداد براحة الجسم في هذه الليلة إلى وظائف اليوم وكثيراً ما يؤدي ذلك إلى التكاسل عن صلاة الغداة ، وأفحش من هذا ما اعتاده غالب الناس من السهر المفرط في هذه الليلة بالاشتغال باللهو واللعب والمزاح وترويح النفس بما تهواه ، اعتماداً منهم على أنه يوم بطالة وراحة فليسوا مكلفين بشيء من أعمالهم ، وفاتهم أنه يوم شغب بالله يقوم العبد بوظائفه وهي أولى بالاهتمام والعناية .(2/228)
ومن البدع : ما اعتاده بعض العامة من إفراد يومها بصيام وهو بدعة مكروهة للحديث السابق ولأنه اعتبر يوم عيد والعيد لا يصام مخالفة لليهود فإنهم يفردون يوم عيدهم بالصوم فنهى عن التشبه بهم في ذلك وأذن فيه إذا وصل بصيام قبله أو بعده كما خولفوا في يوم عاشوراء بصيام يوم قبله أو بعده والله تعالى أعلم بأسرار ما شرع ومن البدع : المتعلقة بيوم الجمعة توهم كثير من العامة أنه إذا جاء فيه أحد العيدين كان شؤم على السلطان بموت أو غيره وهذا لا أصل له ولا تؤيده عادة معقولة - كيف وفي الحديث الشريف عن زيد بن أرقم قال " اجتمع عيدان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم واحد فصلى العيد في أول النهار وقال يا أيها الناس هذا يوم قد اجتمع لكم فيه عيدان من أحب أن يشهد معنا الجمعة فليفعل ومن أحب أن ينصرف فليفعل " – رواه أبوا داود والحاكم وصحيح إسناده – فاليوم الذي يجتمع فيه للناس عيدان كيف يكون شؤماً عليهم بشر يصل إلى سلطانهم . وأي مناسبة بين اجتماع العيدين وضرر بعض عباد الله تعالى .
ومن البدع : تهافت الناس على زيارة موتاهم يوم الجمعة فإن فيها من المخازي والمنكرات ما يبرأ من الدين وتتألم منه الإنسانية ويؤذي الموتى في قبورهم كما سبق في بدع المقابر والأضرحة "نعم" تكون سنة عن خلت عن المحظورات فقد أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة رضي الله عنه قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من زار قبر أبويه أو أحدهما في كل جمعة غفر له وكتب باراً " وعن محمد بن واسع قال :- بلغني بأن الموتى يعلمون زوارهم يوم الجمعة ويماً قبله ويماً بعده رواه البيهقي في الشعب .
ومن هنا اعتاد بعض الناس زيارة موتاهم يوم الخميس ، ولكن أنى تخلو عن المنكرات اليوم وقد ضجت منها الأرض والسموات .(2/229)
ومن المنكرات : تخطي الرقاب يوم الجمعة مع استكمال الصفوف وخلوها عن الفرج أصلاً فذلك منهي عنه حيث لا تقصير من القوم في تكميل الصفوف , عن عبد الله بن بسر رضي الله عنهما " جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال " اجلس فقد آذيت " رواه أبو داود والنسائي وزاد أحمد " وآنيت " أي تأخرت.
وعن الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه وكان من أصحاب النبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الذي يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة ويفرق بين الاثنين بعد خروج الإمام كجار قصبه في النار " رواه أحمد والطبراني في الكبير , والقصب بضم القاف وسكون الصاد المهملة واحد الأقصاب وهي الإمعاء كما في القاموس وغيره , وقد فرق الإمام النووي بين التخطي وبين التفريق بين الاثنين وجعل ابن قدامة في المغني التخطي هو التفريق , قال العراقي : والظاهر الأول لأن التفريق يحصل بالجلوس بينهما وإن لم يتخط .
ومنها : المرور بين يدي المصلي عند فراغ الإمام من الصلاة فهذا كالذي قبله كثيراً يقع من العامة فينبغي تحذيرهم منه بذكر الأحاديث الواردة فيه , فعن عبد الله بن الحارث الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيراً من أن يمر بين يديه " قال الراوي : لا أدري قال أربعين يوماً أو شهراًً أو سنة . متفق عليه , يعني لو علم المار مقدار الإثم الذي يلحقه من مروره بين يدي المصلي لاختار أن يقف المدة المذكورة حتى لا يلحقه ذلك الإثم والحديث يدل على أن المرور بين يدي المصلي من الكبائر الموجبة للنار وظاهره عدم الفرق بين صلاة الفريضة والنافلة , وفيه إبهام ما على المار من الإثم .(2/230)
ومنها : قول بعض العامة عقب الفراغ من صلاة الجمعة مع رفع الصوت : ( الفاتحة ) لسيدي أحمد البدوي أو سيدي إبراهيم الدسوقي مثلاً فهذا لا أصل له مع ما فيه من رفع الصوت في المسجد لغير حاجة شرعية .
ومن البدع : إهمال الناس تطييب المسجد بنحو البخور يوم الجمعة وأنه سنة ففي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم " جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم ورفع أصواتكم وسلاحكم وجمروها في كل جمعة " رواه ابن ماجه والطبراني والكبير ( وجمروها ) أي بخروها وزناً ومعنى وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه كان يجمر المسجد في كل جمعة . وبالله التوفيق )
قلت : ولي مؤاخذة على حديث " جنبوا مساجدكم " هذا الذي ذكره الشيخ فإنه حديث لا يثبت والله أعلم .
* الفرع التاسع والسبعون بعد المائة :
وسئل الشيخ ابن باز عن حكم التلفظ بالنية قبل الوضوء ؟ فأجاب بقوله : " حكم ذلك أنه بدعة لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه فوجب تركه , والنية محلها القلب فلا حاجة مطلقاً إلى التلفظ والله ولي التوفيق " أهـ .
* الفرع الثمانون بعد المائة :
وقالت اللجنة الدائمة " لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم دعاء أثناء الوضوء عند غسل الأعضاء أو مسحها , وما ذكر من الأدعية في ذلك مبتدع لا أصل له وإنما المعروف شرعاً التسمية في أوله والنطق بالشهادتين بعده وقول " اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المطهرين " بعد الشهادتين " أهـ .(2/231)
وقال الشيخ صالح الفواز لما سئل عن الدعاء في ثنايا الوضوء : " لا يقال هذا الدعاء عند غسل الوجه لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم يقول " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " ويقول " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عند غسل وجهه إنما كان يقول عند بداية الوضوء ( بسم الله ) وعند نهايته : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله , والحكمة في ذلك والله أعلم أنه يجمع بين الطهورين , الطهور بالماء من الحدث الأصغر والأكبر وهي الطهارة من الحدث الحسي وذلك بالماء ويأتي بالشهادتين للطهارة من الشرك فيجمع إذاً بين الطهارتين الطهارة من الحدث والطهارة من الشرك هذه هي الحكمة والله أعلم , أما ما عدا ذلك فلا يقال أدعية أثناء الوضوء لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم " أهـ .
* الفرع الحادي والثمانون بعد المائة :
وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى : " مسح الرقبة أثناء الوضوء بدعة ومسح أعضاء الوضوء أكثر من ثلاث مرات إسراف " أهـ .
* الفرع الثاني والثمانون بعد المائة :
سئل الشيخ ابن جبرين عن حكم وضع الحروز والتمائم للحيوانات ؟ فأجاب بقوله : " نعم بدعة ووسيلة إلى الشرك لقوله صلى الله عليه وسلم " لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر إلا قطعت " ولقوله " من تعلق تميمة فلا أتم الله له ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له " وقوله " من تعلق تميمة شيئاً وكل إليه " وقوله " من تعلق تميمة فقد أشرك " فهذه أدلة تدل على أن الحروز التي تعلق في الرقاب على الدواب لاعتقاد أنها تدفع الضرر أو ترفعه فهي حرام لأنها شرك أو وسيلة من وسائله " أهـ .
* الفرع الثالث والثمانون بعد المائة :(2/232)
قال الشيخ محمد بن عثيمين : " النطق بالنية عند إرادة الطواف , تجد الحاج يقف مستقبلاً الحجر إذا أراد الطواف فيقول : اللهم إني نويت أطوف سبعة أشواط للعمرة , أو اللهم إني نويت أن أطوف سبعة أشواط للحج , أو اللهم أني نويت أن أطوف سبعة أشواط تقرباً إليك . والتلفظ بالنية بدعة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولم يأمر أمته به , وكل من تعبد لله بأمر لم يتعبد به الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يأمر أمته به فقد ابتدع في دين الله ما ليس منه , فالتلفظ بالنية عند الطواف خطأ وبدعة , وكما أنه خطأ من ناحية الشرع فهو خطأ من ناحية العقل , فما الداعي إلى أن تتلفظ بالنية مع أن النية بينك وبين ربك , الله سبحانه وتعالى عالم بما في الصدور وعالم بأنك سوف تطوف هذا لطواف , وإذا كان الله سبحانه وتعالى عالماً بذلك فلا حاجة أن يظهر هذا لعباد الله , فإن قلت : أنا أقوله بلساني ليطابق ما في قلبي , قلنا : العبادات لا تثبت بالأقيسة والنبي صلى الله عليه وسلم قد طاف قبلك ولم يتكلم بالنية عند طوافه والصحابة رضي الله عنهم قد طافوا قبلك ولم يتكلموا بالنية عند طوافهم ولا عند غيره من العبادات فهذا خطأ " أهـ .
* الفرع الرابع والثمانون بعد المائة :(2/233)
سئلت اللجنة الدائمة أن بعض الناس في بعض البلاد إذا حج لهم حاج غسلوا سريره الذي ينام عليه وفرشوا عليه فراشاً وعطروه ووضعوا في جوانبه فلوساً وقوارير عطر ويمنعون من الجلوس عليه إلى أن يأتي الحاج فما حكم ذلك فأجابوا بقولهم : " ما ذكرته من عمل أهل الحاج لمن عزم الحج منهم من وضع سرير ونحوه وغسله وفرشه وتعطيره ثم منع الناس من الجلوس عليه حتى يرجع الحاج ويجلس عليه ثم الإذن بالجلوس عليه لمن شاء , هذا من البدع المحدثة والتشريع الذي لم يأمر به الله تعالى وقد قال الله تعالى " أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله " وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " متفق على صحته , وقال " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " رواه مسلم وعلى هذا فيجب على من يعمل ما ذكرت أن يتركه لأنه منكر وأن يتوب إلى الله مما سلف " أهـ .
* الفرع الخامس والثمانون بعد المائة :
وسئل الشيخ محمد رحمه الله تعالى عن وضع المصحف عند الرأس أثناء النوم بقصد الاطمئنان فيه فقال رحمه الله تعالى : " الخوف الحقيقي من الله تعالى لابد أن يثمر ثمرته وهو القيام بطاعة الله تعالى واجتناب معصيته كما أن الخائف من الأسد مثلاً يسعى بالوسائل التي تحميه من ذلك الأسد فالخائف من النار لابد أن يسعى إذا كان خوفه حقيقياً صادقاً في الأسباب التي تنجيه من النار , وتبعده عنها , وأما ما يصنعه هذا الملتزم من كونه يضع المصحف عند رأسه فهذا من البدع لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه فيما أعلم وإذا كان كذلك فلا يتخذ هذا وسيلة للاطمئنان , بل يمرن الإنسان نفسه على أن يطمئن بقراءة ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن أو من الدعاء عند نومه , وهذا أمر معروف مذكور بالكتب التي تعنى بهذه الأمور " أهـ
* الفرع السادس والثمانون بعد المائة :(2/234)
وسئلت اللجنة الدائمة عن حكم الوليمة والاحتفال بمناسبة ختم القرآن الكريم ؟ فقالوا : " تشرع الوليمة للزواج إذا دخل بزوجته لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف لما أعلمه بأنه بنى بزوجته " أولم ولو بشاة " ولفعله صلى الله عليه وسلم , أما الوليمة أو الاحتفال بمناسبة ختم القرآن فلم يعرف عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم , ولو فعلوه لنقل إلينا كسائر أحكام الشريعة فكانت الوليمة أو الاحتفال من أجل ختم القرآن بدعة محدثة وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " وقال " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " أهـ .
* الفرع السابع والثمانون بعد المائة :
وقالت اللجنة الدائمة : " ليس من السنة وضع اليد فوق الرأس بعد السلام من الصلاة , وإنما فعل ذلك من البدع المحدثة , وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " أهـ .
* الفرع الثامن والثمانون بعد المائة :
وقالت اللجنة الدائمة : " لم يثبت في الشرع نشيد قبل الأذان لصلاة الجمعة , بل هو بدعة ولا يختص يوم الجمعة بتلاوة القرآن في المكبر أو غيره , لا قبل الأذان لها ولا بعد الصلاة وليس تلاوته شعاراً إسلامياً ليوم الجمعة , بل تلاوته مشروعة كل يوم فتخصيصه بيوم الجمعة بدعة والسنة الثابتة الاقتصار على الأذان لها " أهـ .
* الفرع التاسع والثمانون بعد المائة :
وقالت اللجنة الدائمة : " ليست قراءة الصمدية أو غيرها من القرآن أو الأذكار قبل البدء في الخطبة للجمعة واجبة ولا مستحبة , بل هي بدعة , وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " رواه البخاري ومسلم " أهـ .
* الفرع التسعون بعد المائة :(2/235)
وقالت اللجنة الدائمة " المصافحة عقب الصلاة الفريضة بصفة دائمة لا نعلم لها أصلاً , بل هي بدعة , وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " وفي رواية " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " أهـ .
* الفرع الواحد والتسعون بعد المائة :
وقال الشيخ ابن جبرين حفظه الله تعالى : " اعتاد بعض الجهلة المصافحة بعد التسليم من صلاة الجمعة مباشرة وقبل الأذكار ثم يقول : ( تقبل الله ) فيرد عليه الثاني بقوله ( منا ومنك ) أو يقول الأول : ( حرماً ) ويرد الثاني بقوله : ( جمعاً ) وكل هذا لا أصل له , بل السنة عقب السلام البدء بالاستغفار ثم بالأذكار الواردة بعده , ثم التسبيح والتحميد والتكبير " أهـ .
* الفرع الثاني والتسعون بعد المائة :
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى : " لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول للناس عند تسوية الصفوف " صلوا صلاة مودع " بل كان يأمرهم أن يستووا وأن يقيموا صفوفهم ويبين لهم أن تسوية الصف من تمام الصلاة , وأما " صلوا صلاة مودع " فم ترد عن الني صلى الله عليه وسلم , لكن وردت عن بعض العلماء فيما كتبوا أنه ينبغي للإنسان أن يتقن صلاته حتى كأنه يصلي صلاة مودع لأن من يصلي صلاة مودع سوف يتقنها إذ أنه لا يدري هل يعود للصلاة مرة أخرى أو لا يعود , وأما أن يقولها الإمام فهذا من البدع وننصح الأئمة بعدم ذكر هذا القول لأنه من البدع " أهـ .
* الفرع الثالث والتسعون بعد المائة :
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى : " لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الصبح بصفة دائمة لا بالدعاء المشهور " اللهم أهدنا فيمن هديت ... الخ " ولا بغيره وإنما كان يقنت في النوازل أي إذا انزل بالمسلمين نازلة من أعداء الإسلام قنت مدة معينة يدعو عليهم ويدعو للمسلمين هكذا جاءت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .(2/236)
وثبت من حديث سعد بن طارق الأشجعي أنه قال لأبيه : " يا أبت إنك قد صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعثمان وعلي رضي الله عنهم , أفكانوا يقنتون في الفجر ؟ فقال : أي بني محدث " خرجه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وجماعة بإسناد صحيح , أما ما ورد من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت في الصبح حتى فارق الدنيا فهو حديث ضعيف عند أئمة الحديث " أهـ .
* الفرع الرابع والتسعون بعد المائة :
وسئل الشيخ صالح الفوزان حفظه الله تعالى عن حكم قول : إن الله مع الصابرين إذا دخل الإنسان والإمام راكع حتى يطيل الإمام الركعة ليدركها الداخل فأجاب بقوله : " هذا لا أصل له ولم يكن في عهد الصحابة رضي الله عنهم ولا من هديهم وفيه تشويش على المصلين الذين مع الإمام , والتشويش على المصلين منهي عنه لأنه يلهيهم " أهـ .
* الفرع الخامس والتسعون بعد المائة :
وقالت اللجنة الدائمة : " الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما كان يقرأ في صلاته لا في الفاتحة ولا في غيرها بكلمة من القرآن بقراءتين مختلفتين فيما نعلم , ولم ينقل ذلك عن خلفائه الراشدين ولا عن أحد من صحابته رضوان الله عليه أجمعين ولا ينبغي فعل ذلك , ومن فعله واستمر عليه فقد ابتدع في الدين ما لم يشرعه الله ولا رسوله وخالف بفعله هذا قوله عليه الصلاة والسلام " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " وفي رواية " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " أما الصلاة فصحيحة " أهـ .
* الفرع السادس والتسعون بعد المائة :(2/237)
وقال الشيخ الفوزان حفظه الله تعالى وقد سئل عن قراءة أسماء الله الحسنى بعد الصلوات وترديد ( يا لطيف ) مائة وتسعة وعشرين مرة فأجاب بقوله : " هذا من البدع , قراءة أسماء الله الحسنى بعد الصلوات واعتياد هذا وترديد كلمة يا لطيف بعدد معين وبصفة معينة كل هذا من البدع المحدثة في الإسلام وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وترديد كلمة يا لطيف بصوت مرتفع وما أشبه ذلك من الأوراد التي ليس لها دليل من الكتاب والسنة ولا من هدي السلف الصالح فهي بدع يجب تركها والابتعاد عنها والتحذير منها , أما أسماء الله الحسنى فالله سبحانه يقول " ولله الأسماء الحسنى " فدعاء الله بأسمائه وصفاته والتوسل إليه بذلك هذا شيء مشروع , لكن لا يجعل هذا في وقت معين أو بعد فريضة إلا بدليل يدل على ذلك ولا دليل يدل على التخصيص " أهـ .
* الفرع السابع والتسعون بعد المائة :
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى : " قراءة سورة ( يس ) على قبر الميت بدعة لا أصل لها وكذلك قراءة القرآن بعد الدفن ليست بسنة بل هي بدعة وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال " استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل " ولم يرد عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ على القبر ولا أمر به " أهـ .
وقال الشيخ ابن باز : " لا تشرع قراءة سورة ( يس ) ولا غيرها من القرآن على القبر بعد الدفن ولا عند الدفن ولا تشرع القراءة في القبور لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك ولا خلفاؤه الراشدون , بل كل ذلك بدعة " أهـ .
* الفرع الثامن والتسعون بعد المائة :
وقالت اللجنة الدائمة : " أما وضع الحناء مع الميت في القبر فلا نعلم له أصلاً في الشرع المطهر بل الواجب تركه " أهـ .
* الفرع التاسع والتسعون بعد المائة :(2/238)
وقالت اللجنة : " قراءة الفاتحة بعد الدعاء أو بعد قراءة القرآن أو قبل الزواج بدعة لأن ذلك لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من صحابته رضي الله عنهم " أهـ .
* الفرع الموفي للمائتين :
وسئلت اللجنة الدائمة عن حكم قراءة القرآن قبل صلاة الفجر والاجتماع على بعض الأدعية قبل الأذان فأجابوا بقولهم : " الاستمرار على ما ذكر من قراءة القرآن الكريم ثم بعض الأدعية قبل أذان صلاة الفجر ليس من السنة بل هو بدعة " أهـ , والله ربنا أعلى وأعلم .(2/239)
ولعل في هذه الفروع كفاية وهداية لمن أراد الحق والهدى , وكان في البال زيادتها ولكن أظن أني قد أطلت , والمقصود أن تعلم كيفية تخريج فروع باب البدعة على هذه القاعدة العظيمة , فالله الله بهذه القاعدة المهمة واجعلها أصلاً من أصولك المحفوظة , واهتم بها غاية الاهتمام , ورسخها في عقلك وقلبك وعلمها زوجتك وأولادك وأهلك والساكنين في حيك , وجميع من تستطيع أن تصل إليهم , واعقد في تعليمها المجالس وافتح في تدريسها الدروس وكررها دائماً أمام العامة ليحفظوها , وأقبل عليها بكليتك حتى تكون من العلم الذي يعلم من الدين بالضرورة فإنه ما ظهرت البدع إلا بسبب الجهل بها , فإن سائر البدع الاعتيادية والعملية كلها محدثات في الدين لا أصل لها وكل إحداث في الدين فهو رد , فالله الله يا إخواني بهذه القاعدة تعلماً واستشراحاً وتطبيقاً وتعليماً , فإني عليكم لمشفق ولكم ناصح ومحب , ووالله إني أتمنى لكم دوام الحياة الطيبة في ظل تحقيق كمال التعبد بالإخلاص والمتابعة , ولا تنسى أن هذه القاعدة العظيمة هي ميزان الأعمال الظاهرة كما أن قاعدة ( الأعمال بالنيات ) هي ميزان الأعمال الباطنة , فبفهم هاتين القاعدتين فهماً جيداً راسخاً تكون قد جمعت في مسيرتك العلمية بين معرفة ميزان الباطن والظاهر , فإن ميزان الباطن مبناه على تحقيق الإخلاص , وميزان الظاهر مبناه على تحقيق المتابعة فأسأله جل وعلا أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا إتباعه , ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه وأن يهدينا لصلاح الاعتقاد والعمل وأن يعيننا على تحقيق شرطي قبول العمل والإخلاص والمتابعة وأن تغفر لعلماء أهل السنة وترفع درجاتهم في الفردوس الأعلى وتجمعنا بهم في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر وأن تجزيهم عنا وعن المسلمين والإسلام خير ما جزيت عالماً عن أمته , وأن تبارك في جهودهم وأعمارهم وأعمالهم وأن تنشر تآليفهم وتطرح فيها البركة تلوا البركة إنك خير مسئول وآخر(2/240)
دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً وقد وقع الفراغ يوم الاثنين قبيل صلاة الظهر من شهر ربيع الأول من اليوم السابع والعشرين من سنة ثمان وعشرين وأربعمائة وألف وأستغفر الله تعالى وأتوب إليه ثم أستغفره وأتوب إليه ثم أستغفره وأتوب إليه وأشهد الله ومن حضرني من الملائكة ومن يطلع عليه من المسلمين أنه وقف لله جل وعلا على كل مسلم ومن أراد طباعته فله ذلك والله أعم .(2/241)