|
المؤلف : القاضي أبو بكر عتيق بن الفراء الغساني الأندلسي (698 هـ)
المحقق : عبد الرزاق بن محمد مرزوق
الناشر : أضواء السلف
الطبعة : الأولى 1425 هـ - 2004 م
عدد الأجزاء : 1
ملاحظات : [موافق للمطبوع - مقابل على المطبوع- إمكانية الإنتقال للصفحة]
مصدر الكتاب : [مكتبة يا باغي الخير أقبل - ملتقى أهل الحديث]
نزهة الأبصار
في فضائل الأنصار
للقاضي أبي بكر عتيق بن الفراء الغساني الأندلسي
(625 - 698 هـ)
دراسة وتحقيق
عبد الرزاق بن محمد مرزوق
أضواء السلف
الطبعة الأولى
1425 هـ - 2004 م
(/)
مقدمة المصنف
الحمد لله الذي لا يفتح كل أمر ذي بال إلا بحمده الكريم، الذي لا تستمنح النعم إلا من لدنه، ولا ترتجى إلا من عنده، أحمده حمداً أستوهب [به] جميل صنعه وجزيل رفده، وأشكره شكراً ينجز من زيادة خيره كريم وعده. وأصلي على سيدنا محمد نبيه ورسوله وعبده وعلى آله وأصحابه الأئمة الخلفاء من بعده، وعلى أزواجه وذرياته وكافة أصحابه المهتدين بهديه، الموفين بعهده.
ورضي الله على المتقدمين كتاباً وسنة، المتبوئين بما لهم من الأثر الكريمة أعلى المنازل في الجنة، المشهود لهم بسابق الفضل الذي لا يدرك مداه، ولا يبلغ منتهاه، ولا ينتهي لحده المنظوم، ذكرهم الكريم واسطة في سلك البيان، وعقده المعلوم عجز الخطباء وقصور بلاغة البلغاء عن إحصاء مالهم من أثر في الصالحات، وعدة المهاجرين أشرف العرب نسباً، وأقواهم بما اختصوا به من السابقة والهجرة والنصرة [والهداية] والصهر والخلافة والشورى حبلاً وأمتنهم سبباً، فلدرجتهم رضي الله عنهم المزية والسبق، ولهم على غيرهم الواجب والحق.
وأرض اللهم عمن سبقت لهم السعادة من جلالك، المتفئيين من سابق عنايتك مديد ظلالك، السابقين بشهودهم بيعة العقبة رجالاً عدة
(1/93)
الذين تبوءوا الدار والإيمان، وآثروا على أنفسهم في معظم الشدة، الفائزين بسابقتي النصر والإيواء، المجتمعين على إعلاء كلمتك باتفاق القلوب واجتماع الأهواء، أنصارك وأنصار رسولك صلى الله عليه وسلم ، الذين اصطفيتهم له أصحاباً وإخواناً، وجعلتهم أنصاراً على إظهار دينك وأعواناً، فقر الإسلام بهم عيناً، واحتل من ذراهم الرفيع وحماهم المنيع حرماً وأمناً.
وأستوهب من الله جل جلاله لوارث شرفهم اليمني وقسيمهم في النسب الأنصاري المدني، مولانا الغالب بالله، المجاهد في سبيله، أمير المسلمين وناصر الدين، أبي عبد الله محمد بن يوسف ابن نصر، تمهيداً يمد على البسيطة ظلاله، وتأييداً يبلغه في حياطة الإسلام وأهله وآماله.
وأسأله عز وجل لولي عهده وسليل مجده، مقتفي آثاره الواضحة، الجاري [في الكفاية والحياطة] والحماية على الأخذ بتلك الأفعال الناجحة والأعمال الصالحة، مولانا الأمير الأجل الهمام الأوحد
(1/94)
الأسعد [الأعلى] أبي عبد الله [محمد] دوام الشرف الذي أحرز كنهه وحقيقته، وزيادة الخير الذي يسره الله تعالى للعمل به، فأنتهج سبيله وسلك طريقه، واستدامة الفضل الذي فتح مقفله، وأوضح مبهمه ومشكله، ونهج بصالح الأعمال سبله، حين لم يثن عناناً، ولا أعمل خاطراً ولا جناناً إلا لمصلحة جر نفعها للإسلام [وتذليل صعاب تلقته بالخضوع والاستكانة والانقياد والاستسلام]. إعزازاً له وإكراماً وإشعاراً بسعده الثاقب ويمنه المتعاقب وإعلاماً، فأعلى الله يده، وفسح للإسلام وأهله أمره وكافأ مذهبه الجميل في نظم الشتات والعمل الذي عاد بإحياء الأرض الموات ومقصده.
(1/95)
أما بعد: فإن من أنجح الوسائل وأنفع مما تقرب به الراغب والسائل، التوسل إلى الله تعالى بمن سبقت لهم العناية والحظوة من هذه الأمة، والاستشفاع لجلاله جل وعز بأوليائه المخلصين
(1/96)
وخاصته المقربين، أولي المكنة والكرامة والعز والوجاهة والحرمة، ولا أحد بعد أنبياء الله ورسله صلوات الله عليهم أفضل ممن أثنى الله عليه ورسوله، وثبت بالكتاب والسنة تزكيته وتعديله وإيثاره وتفضيله، وهم الصفوة الأخيار والأتقياء السادة الأبرار، الرحماء بينهم، الأشداء على الكفار، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، المهاجرون ثم الأنصار [رضي الله عنهم].
فحق على كل من علم مكان عزهم وقربه، أن يتوسل إلى الله تعالى بهم، ويتقرب إليه جل جلاله [وعظم سلطانه] بما ينطوي عليه الضمير من حبهم، ولا خفاء بانتظام هذا الجزء في سلك
(1/97)
الديانة وإن من شروط صحة إسلام المرء أداء هذه الأمانة لأن حبهم إنما يرجع إلى حب الله ورسوله، وإلى ذلك ينتهي بناهج طريقه وسالك سبيله.
وبحسب ما يقرع الأسماع من نشر مآثرهم ومفاخرهم، وتسمعه الآذان من حسن مواردهم في أحوالهم الكريمة ومصادرهم، ويرد عليها من ذكر فضائلهم ومناقبهم، تبصر أعين البصائر علو درجاتهم في الفضل وأقدارهم، وتتضاعف أسباب المحبة بالوقوف على حميد سيرهم وجميل آثارهم.
وقد قام الناس بهذه الوظيفة الجليلة، وانتهزوا الفرصة في اغتنام هذه الغنيمة، وإحراز هذه الفضيلة، فنشروا من ذلك ما لا يتغير بطول المدة، ولا يزيد مع تعاقب الأيام إلا جمالاً وبهاء وجدة.
(1/98)
غير أني رأيت بعض من: تعرض لذلك من المتأخرين، نقصه ذكر الأنصار بعد ذكر المهاجرين، فقصدت تتميم ذلك القصد، واستدراك ما أغفله في ذلك الحد، ثم إني لما عجزت عن معارضته في حسن مساقه، والوقوع على ما غاص من تفسير درره وفاخر أعلاقه، لم أتعرض لإدراك مداه، ولا تعاطيته أن أحل نفسي بعلي منتداه، فانتزعت خلاف منزعه، ومشيت على غير منهجه المسلوك ومهيعه.
وإذا حصل المقصود والحمد لله، فلا مبالاة بارتكاب الطرق المسلوكة ولا عبرة بالسبل المأخوذة في ذلك أو المتروكة.
وقد أوردت ما أثبت من ذلك بمن الله تعالى، معتمداً فيه على تجريد الصحيح من الأثر وانتقائه، مضموماً فيه الشكل إلى شكله، مجعولاً بإزائه مسوقاً بحذائه.
وضمنته نبذاً من النسب والتفسير والأثر والفضائل والمناقب، موصولاً ذلك ببيان المشكل وشرح الغريب، نظمت ذلك كله عقوداً، وأقمت عليه من انتقاء المتخير بينة عادلة وشهوداً، فجاء بفضل الله تعالى مرهف الحد، محكم العقد، لا يلين عن غمز
(1/99)
النقد، ولا يقف بموقف من مواقف الرد.
وحصرت الكلام فيه في خمسة أبواب:
الباب الأول: في ذكر نسبهم.
الباب الثاني: في ثناء الله تعالى عليهم.
الباب الثالث: في ثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً عليهم.
الباب الرابع: في مناقب آحاد منهم رضي الله على جميعهم
الباب الخامس: في فضل بلدهم.
وسميته ((نزهة الأبصار في فضائل الأنصار))، تسمية استحقها وصفه، واستوجبها نظمه وجمعه، ومن الله تعالى أسأل أن يجعل ذلك من العمل المرفوع إليه، المقرب منه، المزلف لديه بمنه وفضله.
(1/100)
الباب الأول في ذكر نسبهم رضي الله عنهم
(1/101)
لا خلاف بين أهل العلم بالأنساب أن العرب [كلها] يجمعها أصلان: عدنان وقحطان، فإلى هذين الأصلين ينتمي كل عربي في الأرض.
ولا خلاف أيضاً بين جماعة أهل العلم بالنسب وأيام العرب أن عدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم صلى الله عليهما.
وإنما الخلاف في قحطان، فمنهم من ينسبه إلى إرم بن سام بن نوح عليه السلام، ومنهم من ينسبه إلى إسماعيل صلوات الله عليه.
قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: ((يشهد لقول من
(1/103)
قال قحطان وسائر العرب من ولد إسماعيل عليه السلام قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوم من أسلم والأنصار: ((ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً ..)) وأسلم هو [ابن] أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((العرب كلها من ولد إسماعيل إلا جرهم فإنهم من [عاد] [وثقيف فإنهم من ثمود] وقبائل من حمير فإنهم من تبع))، لكنه ضعف إسناده.
[وفي ثقيف الخلاف المشهور عند النسابين، فبعضهم ينسبهم إلى
(1/104)
إياد، وبعضهم إلى قيس، وقد نسبوا إلى ثمود على ما جاء في الأثر].
وهذا الذي أشار إليه الحافظ أبو عمر رحمه الله، قد تقدمه فيه البخاري رضي الله عنه بترجمة نصها ((باب نسبة اليمن إلى إسماعيل صلى الله عليه وسلم ))، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على قوم يتناضلون بالسوق، فقال: ((ارموا بني إسماعيل فإن أباك كان رامياً)).
(1/105)
[قال أبو العباس محمد بن يزيد في كامله: ((النسب الصحيح في قحطان الرجوع إلى إسماعيل، وهو الحق وقول المبرزين من العلماء، وهو ابن الهميسع بن تيم بن نبت بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم صلوات الله عليهما، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوم من خزاعة، وقيل من الأنصار: ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً].
وإلى هذا النحو أشار القاضي [أبو الفضل عياض] رحمه الله في إكمال المعلم حيث انتهى به الكلام على حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة إبراهيم عليه السلام وسارة حين قدما على أرض الجبار، وفيه أنه دعا الذي جاء بها، فقال: أخرجها وأعطها هاجر، قال:
(1/106)
فأقبلت تمشي، فلما رآها إبراهيم صلوات الله عليه: قال: مهيم! فقالت: خيراً، كف الله يد الفاجر وأخدم خادماً.
قال: أبو هريرة: فتلك أمكم يا بني ماء السماء، يعني هاجر أم إسماعيل صلوات الله عليه.
قال: الأظهر عندي أن المراد بذلك الأنصار، نسبهم إلى جدهم عامر بن حارثة ابن امرئ القيس، وكان يعرف بماء السماء، والأنصار كلهم بنو حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر المذكور، ويكون ذلك على قول من جعل العرب كلها من ولد إسماعيل، قال: وهذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: ((ارموا يا بني إسماعيل))، وكلها حجة لمن يجعل العرب كلها من ولد إسماعيل عليه الصلاة والسلام.
(1/107)
[وقد تأول غير القاضي أبي الفضل هذا الأثر على غير هذا] وقوله في الحديث ((مهيم)): قال الخليل [رحمه الله] هي كلمة لأهل اليمن خاصة معناها ما هذا؟
وقال الطبري معناها: ما شأنك وما أمرك؟
[وذكر ابن أبي زيد في نوادره ((أن هاجر أول امرأة ثقبت أذناها
(1/108)
وأول من جرت ذيلها، وذلك أن سارة غضبت عليها، فحلفت أن تقطع ثلاث أعضاء من أعضائها فأمرها إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن تبر يمينها بثقب أذنيها، وخفاضها فصارت سنة].
[قال أبو القاسم السهيلي رحمه الله في كتاب الأعلام له: ((والقول في العرب العدنانية والقحطانية بانتسابهم إلى إسماعيل صلوات الله عليه أظهر وأصح لما تقدم من قول أبي هريرة رضي الله عنه. قال: وهذا خلاف قول ابن إسحاق وجماعة فإنهم زعموا أن قحطان هو ابن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح. قال: وقد قيل هو هود عليه السلام وقيل هو أخو هود صلى الله عليه وسلم ، والأصح أن هوداً هو ابن عبد الله بن رباح لا ابن عابر))].
فالأنصار إذاً [من ولد الأزد، و] هم بنو الأوس والخزرج ابني حارثة بن ثعلبة العنقاء، ابن عمرو مزيقياء، ابن عامر ماء
(1/109)
السماء بن حارثة الغضريف بن امرئ القيس البهلول ابن ثعلبة بن مازن بن الأسد، وكلهم ملوك متوجون، (والملوك المتوجون في آل قحطان).
قال أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء: ((ولم يتوج من العرب إلا قحطاني، قيل له قد تتوج هوذة بن علي الحنفي، فقال: لم يكن تاجاً وإنما كانت خرزات تنظم له. وكان سبب تتوج هوذة أنه أجار لطيمة لكسرى، ومنعها عمن أرادها، فلما وفد عليه توجه لذلك وملكه، وسأله عن بنيه، فذكر هوذة عدداً فقال: أيهما أحب إليك؟ قال: ((الصغير حتى يكبر والغائب حتى يقدم، والمريض حتى يصح)).
(1/110)
وقال خلف الأحمر رحمه الله: المتوجون من ملوك العرب في ثلاثة قبائل: قضاعة ومتوجوها في بني القيس، وكندة ومتوجوها في بني آكل المرار، وبنو عمرو بن عامر ومتوجوها في الخزرج.
وخلف الأحمر يكنى أبا محرز مولى أبي بردة بن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. قال أبو العباس: وكان خلف مولداً ظريفاً شاعراً. والأصمعي يروي عنه.
(1/111)
ووقع في كتاب أبي الفرج الأصبهاني رحمه الله أن ثعلبة سمي بالعنقاء لطول عنقه، والغطريف السيد الشريف والبهلول الوضيء الوجه.
ووقع لابن قتيبة رحمه الله] أن عمرو قيل له مزيقياء لأنه كان يمزق كل يوم حلتين يلبسهما، ويكره أن يعود فيهما، ويأنف أن يلبسهما غيره، ويقال إنه ملك ثلاثاً وستين سنة.
وأما أبوه عامر ماء السماء، فيذكر أنه [إنما] سمي لأنه كان إذا أصاب الناس القحط وامتنع القطر جاء بما له وأقامه مقام القطر. فسمي بذلك ماء السماء.
وماء السماء في غير هذا الموضع [إسم] امرأة، وهي أم المنذر ملك الحيرة، سميت بذلك لحسنها وجمالها.
(1/112)
ويقال له المنذر بن ماء السماء، منسوباً لأمه. وابنه [عمرو] بن هند [نسب] كذلك أيضاً لأمه. [ووقع في كتاب النزهة لابن وكيع رحمه الله: ما سمعت للعرب أحسن موقعاً في الأدب من كلام المنذر بن ماء السماء لابنه النعمان. قال له يوماً ومن [ ] الاستحقاق لوصيته: إن لي فيك رأياً دون غيرك من ولدي، وأنا موصيك بالذي أوصاني به أبي: أوصيك بالذل في عرضك والاقراع في مالك، وأحب لك خلوة الليل ومسره، وأنهاك عن ملاحاة الرجال، ومزاح السفهاء فإن لك عقلاً وجمالاً، فالبس من البشر ما يزيد في جمالك، ودع الكلام وأنت تقدر، وليكن لك من عقلك حب تنصرف إليه.
فقال له النعمان: إن كان لك يا أبت في هذا إيجاز كان أوقع لعنايتي. قال: عليك بالحياء فإنه جماع لما أوصيك به.
ووقع في كتاب أبي الفرج رحمه الله أن المنذر هذا هو الذي كان له
(1/113)
في السنة يومان يوم نعيم يعطي فيه أول من يطلع عليه مائة من الإبل، ويوم بؤس يقتل فيه أول من يطلع عليه، وهو الذي طلع عليه عبيد بن الأبرص الشاعر يوم بؤسه فقتله.
ونسب ابن قتيبة ذلك للنعمان صاحب النابغة، والأشهر ما ذكره أبو الفرج رحمه الله والله أعلم.
والنعمان صاحب النابغة هو آخر ملوك آل المنذر، ثم انتقل الأمر بعده لإياس بن قبيصة الطائي ثمانية أشهر. ثم اضطرب أمر كسرى، وجاء الله تعالى بالإسلام.
وعمرو بن هند هو صاحب طرفة والمتلمس وقصتهما في
(1/114)
صحيفتهما مشهورة، وهند هي بنت الحارث آكل المرار جد امرئ القيس الشاعر].
والأسد يقال بالسين والزاي، [والأصل السين، قال أبو عبيد يعقوب بن السكيت: ((الأسد أفصح))، وقال يحيى بن معين: ((هما سواء)).
قال ابن الكلبي: ((كان الأزد بن الغوث، واسمه دراء -بكسر
(1/115)
الدال والمد- رجلاً كثير المعروف، وكان يلقى الرجل فيقول: أسدي إلى دراء يداً وأزدى يداً مبدلا، فكثر حتى سمي به].
ويقال إنما سمي بذلك لكثرة ما أسدى إلى الناس من الأيادي.
[والأوس والخزرج أخوان لأم وأب]، وأمهما قيلة بنت كاهل بن عذرة [حي] من قضاعة وفي [انتسابه] قضاعة الخلاف المشهور، والأكثر أنها من معد بن عدنان، وأن قضاعة بكر معد.
(1/116)
وروي من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((قضاعة بن معد كان بكر ولده وأكبرهم وبه كان يكنى)).
والبكر [هو] أول ولد الرجل، ويقال للثاني ثني وللثالث ثلث، ولا يقال فيما بعد ذلك شيء قاله الخطابي [رحمه الله].
(1/117)
وروي عن ابن عمرو ابن عباس رضي الله عنهما أن قضاعة بن معد. وعن بعضهم: ((أن العرب نزار واليمن وقضاعة، قيل له: فنزار أكثر أم اليمن؟ قال: ما شاءت قضاعة، إن تمعددت فنزار أكثر، وإن تيمنت فاليمن أكثر)).
وقد نسبت قيلة في جفنة، فقيل: قيلة بنت جفنة بن عامر ونسبها الزبير ابن بكار في كتاب أخبار المدينة له في خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر.
فالأنصار من ولد الأزد، [والأزد من سبأ بن يعرب بن يشجب بن
(1/118)
قحطان] وقد افترقت على نحو سبع وعشرين قبيلة، وأكثرها لا تكتفي بأسمائها في الانتساب.
ومنهم قبائل قعدت عن الأزد، واكتفت بأسمائها دون الأزد في النسبة وإن كانوا منهم. وهم الأنصار الذين غلب عليهم هذا الاسم، وهو جمع ناصر، [قال بعض النحاة: وهو على غير قياس في جمع فاعل، فهو على تقدير حذف الألف من ناصر لأنها زائدة فالاسم ثلاثي على تقدير حذفها، والثلاثي يجمع على أفعال، وقالوا في نحوه أصحاب وأشهاد، جمع صاحب وشاهد].
وخرج البخاري رحمه الله في صحيحه عن غيلان بن جرير قال: قلت لأنس أرأيت إسم الأنصار كنتم تسمون به أم
(1/119)
سماكم الله تبارك وتعالى؟ قال: ((بل سمانا الله عز وجل به وفي ذلك يقول حسان بن ثابت رحمه الله:
سماهم الله أنصاراً بنصرهم ... دين الهدى وعوان الحرب تستعر
يقال: حرب عوان أي قوتل فيها مرة. وامرأة عوان أي كان لها زوج، ومن أمثالهم القديمة:
((العوان لا تعلم الخمرة)) أي هي قد عرفت كيف تختمر، يضرب للرجل الذي قد حنكته [السير].
ويقال أرض عوان أي أصابها المطر، والعوان في الآية الكريمة: النصف والفارض: المسنة، والبكر: الفتية.
وتستعر مأخوذ من استعرت النار.
وفي الموطأ قول مالك في أحيحة بن
(1/120)
الجلاح أنه رجل من الأنصار.
[قال أبو عمر: ((أراد من القبيلة التي صارت بعد أنصاراً، لأنه
(1/121)
اسم سمي الله به الأوس والخزرج، وأحيحة جاهلي قديم لم يدرك الإسلام ولا قاربه في سن هاشم بن عبد مناف، وهو الذي خلف على سلمى بنت عمرو بن زيد من بني عدي بن النجار بعد موت هاشم، وولدت له عمرو بن أحيحة وهو أخو عبد المطلب بن هاشم لأبيه جد النبي صلى الله عليه وسلم ))].
قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله: ((إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم ، فأعطاه إسماً شريفاً وهو نبي ورسول إلى سائر أسمائه الكريمة، وأعطى لمن آثر دينه على أهله وماله اسم الهجرة. وأعطى من آوى ونصر اسم النصرة، وعمهم بإسم كريم شريف الوضع وهو اسم الصحبة، وأعطى من لم يره ممن يأتي بعد إسم الأخوة فمن دخل في الهجرة وترسم بالنصرة، فقد كمل له شرف الصحبة.
وحكى ابن إسحاق [رحمه الله] أن العرب في الجاهلية
(1/122)
كانت تدعو الأنصار أوسها وخزرجها بالخزرج، (ويقال الأنصار ابنا قيلة منسوبين لأمهم.
وفي الخبر أن عامر بن الطفيل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أبشر فإنا بخيل أولها عندك وآخرها عندي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يأبى الله ذلك وابنا قيلة.
وروى بعضهم أنه قال: لأغزونك على ألف أشقر وألف شقراء، فقام إليه محمد بن مسلمة الأنصاري رضي الله عنه فقال: والله لئن أتيتنا لتأتين سماً زعافاً يقطع نياط قلبك، فلا تحسب أنا تميم، نحن سيوف الله وسيوف نبيه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم أكذب عامراً. فأهلكه الله تعالى.
(1/123)
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: ما اشتملت السيوف ولا رجفت الرجوف ولا أقيمت الصفوف حتى أتتنا إبنا قيلة، يعني الأنصار].
[فصل]
وخزاعة وغسان من القبائل التي اكتفت بأسمائها في
(1/124)
الانتساب إلى الأزد مع أنهم أزديون، ولما انتقلت الأزد عن اليمن عند خروج عمرو بن عامر منها للخبر المشهور تفرقوا في البلاد، فنزلت الأوس والخزرج المدينة، وبها توفي حارثة بن ثعلبة بعد ظهورهم على الروم بالشام، ومصالحة غسان لملك الروم. قال بعض الأنصار:
وسرنا إلى أن قد نزلنا بيثرب ... بلا وهن منا وغير تشاجر
(1/125)
وسارت لنا سيارة ذات منظر ... [بكوم] المطايا [والخيول] الجماهر
يؤمون أهل الشام حين تمكنوا ... ملوكاً بأرض الشام فرق المنابر
أولاك بنو ماء السماء توارثوا ... دمشقاً بملك كابراً بعد كابر
دمشق سميت باسم الرجل الذي هاجر إليها وهو دا مشق بن النمرود بن كنعان، وأبوه هو عدو إبراهيم عليه السلام، [وكان ابنه قد آمن بإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه وهاجر معه إلى الشام.
ودمشق أيضاً في اللغة الناقة المسنة، وكان يقال لدمشق أيضاً جيرون، وكان جيرون هو الذي بناها، وبه عرفت. وهو من عاد بن إرم، وبناها على عمد من رخام، ذكروا أنه وجد فيها أربعمائة ألف وأربعين ألف عمود.
(1/126)
وفي التفسير أن الإشارة بقوله تعالى: {إرم ذات العماد} إليها، وبقوله تعالى: {وءاويناهما إلى ربوةٍ ذات قرارٍ ومعين}.
وكرم جمع كرماء، وهي الناقة العظيمة السنام].
وبعد موت حارثة كان ما كان من نكث يهود للعهود فوفد
(1/127)
مالك بن العجلان الخزرجي على أبي جبيلة ويقال جميلة دون كناية، وقيل وهو الأصح، ابن عمرو بن جبلة بن عمرو بن عامر الغساني جد جبلة بن الأيهم وهو يومئذ ملك غسان فجاء وقتل وجوهاً من يهود في خبر يطول ذكره. [وفي] ذلك تقول [امرأة من] قريظة:
[كهول] من قريظة أتلفتها سيوف الخزرجية والرماح وبعد إيقاع جبيلة بهم قتل مالك بن العجلان جماعة أخرى منهم، فعند ذلك استقام الأمر للأوس والخزرج بالمدينة، فكان كل بطن من يهود قد لجئوا إلى بطن من بطون الأنصار. [هكذا وقع في داخل كتاب أبي الفرج رحمه الله.
(1/128)
ووقع في أول فصله أن الذي وفد عليه مالك هو تبع، وأن مالكاً ساقه إلى المدينة وبذلك رأس مالك قومه].
[وتعقب بعض المتأخرين هذا النقل فقال: إن الصحيح هو مرور تبع بها وقصده لقتالها في تاريخ أقدم من ذلك بكثير لبعد زمن تبع من زمان مالك].
فيذكرون أن الأنصار جمعوا له، ورئيسهم إذ ذاك عمرو بن طلة الخزرجي الذي يقول فيه القائل:
سيد سام الملوك ومن ... رام عمرو لم يكن قدره
(1/129)
ويروى: لا يكن قدره على معنى الدعاء.
واقتتلوا فتزعم الأنصار أنهم كانوا يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليل، فيعجبه ذلك منهم يقول: والله إن قومنا لكرام فينا.
فبينا تبع على ذلك من حربهم جاء خبر أن عالمان راسخان حين سمعا بما يريد من إهلاك المدينة فقال له أحدهما -وكان له فيما يذكر مائتان وخمسون سنة-: الملك أجل من أن يطير به نزق أو يستخفه غضب، وأمره أعظم من أن يضيق بنا حلمه أو نحرم صفحه مع أن هذه البلدة مهاجر نبي يبعث بدين إبراهيم.
فعند ذلك انصرف عن المدينة، ويذكر أنه لما أخبر بمحمد صلى الله عليه وسلم قال:
شهدت على أحمد أنه ... نبي من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره ... لكنت وزيراً له وابن عم
وجاهدت بالسيف أعداءه ... وفرجت عن صدره كل هم
[وكانت بنو النضير وقريظة وبنو قينقاع في وسط أرض العرب من الحجاز والسبب في ذلك أن بني إسرائيل كانت تغير عليهم
(1/130)
العماليق من أرض الحجاز، والعماليق منسوبون لعملاق بن لاوز بن إرم، وكانت منازلهم بيثرب والجحفة إلى مكة فتشكت بنو إسرائيل ذلك إلى موسى عليه الصلاة والسلام، فوجه إليهم جيشاً وأمرهم أن يقتلوهم ولا يبقوا منهم أحداً، ففعلوا وتركوا منهم ابن ملك لهم كان غلاماً حسناً فرقوا له، ثم رجعوا إلى الشام وموسى قد مات، فقالت بنو إسرائيل لهم: قد خالفتم وعصيتم فلا نؤويكم: فقالوا نرجع إلى البلاد التي غلبنا عليها فرجعوا إلى يثرب فاستوطنوها، وتناسلوا بها إلى أن نزلت عليهم الأوس والخزرج، فكانوا معهم إلى الإسلام. ذكر ذلك أبو الفرج الأصبهاني رحمه الله].
(1/131)
ونزل آل جفنة بن عمرو بن عامر الشام، وهم بنو الأنصار فغلب عليهم [غسان هذا الاسم] وإن كانوا جميعاً غسانيين، ولهذه الوصلة القريبة يخاطبونهم في أشعارهم.
قال كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه في بعض أشعاره في يوم بدر:
ألا هل أتى غسان في نأي دارها ... وأخبر شيء بالأمور عليمها
بأن قد رمتنا عن قسي عداوة ... معد معاً جهالها وحليمها
وله في أشعار أحد نحوه.
وغسان اسم ماء سمي به من شرب منه من ولد مازن بن الأسد، وذلك عند ارتحالهم عن اليمن.
(1/132)
واشتقاقه من الغس وهو الضعيف.
وحكى ابن قتيبة رحمه الله أن أول من نزل بالشام منهم الحارث بن عمرو بن محرق.
وسمي محرقاً لأنه أول من حرق العرب في ديارهم، فهم مدعوون آل محروق.
ومحرق أيضاً في غير هذا الموضع [هو] عمرو بن هند سمي بذلك لأنه محرق مدينة عند اليمامة، وقيل لأنه حرق مائة من بني تميم، قال: والحارث الأكبر يكني أبا شمر ثم ملك بعده الحارث ابن أبي شمر، وهو الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر وأمه مارية ذات القرطين، وفي هذه الجملة التي ذكر ابن قتيبة خلاف، [قال]: وكان خير ملوكهم وأيمنهم طائراً وأشدهم مكيدة، وكان غزا خيبر، وسبي أهلها ثم أعتقهم بعدما قدم الشام،
(1/133)
وكان [توجه] إليه المنذر بن ماء السماء في مائة ألف رجل، وأظهر أنه بعث بهم لمصالحته فأحاطوا برواقه فقتلوه، وقتلوا من معه في الرواق وحملت خير الغسانيين على عسكر المنذر فهزموهم [فذلك يوم حليمة الذي ذكره النابغة الذبياني في القصيدة التي يمدح بها عمرو بن الحارث الأعرج بن الحارث الأكبر:
تورثن من أزمان يوم حليمة ... إلى اليوم قد جربن كل التجارب
تقد السلوقي المضاعف نسجه ... وتوقدن بالصفاح نار الحباحب
وكانت حليمة بنت الحارث فأمرها أن تطيبهم وهو يصف السيوف بأنها تقطع الدروع المضاعفة، وكل شيء حتى تصل إلى الأرض فتقدح النار في الحجارة. وقد قيل في يوم حليمة غير هذا. ومن أمثالهم: ((ما يوم حليمة بسر، يضرب في الرجل النبيه الذكر الرفيع القدر.
(1/134)
بيان وتقييد
والنابغة الذبياني اسمه زياد منسوباً لذبيان بن بغيض، يقال بالكسر والضم والكسر أفصح.
وذبيان في أربعة أحياء من العرب: ذبيان بن بغيض في قسي، وذبيان بن ثعلبة في بجيلة، وذبيان في قضاعة، وذبيان في الأزد.
وذكر ابن دريد في كتاب الاشتقاق أن ذبيان فعلان من ذبي العود بمعنى ذوي.
(1/135)
البغدادي من روايته عن أبي عبيدة رحمهما الله قال: ((كان أبو قيس رفاعة يفد سنة إلى النعمان بالعراق وسنة إلى الحارث بن أبي شمر، فقال له الحارث يوماً بلغني أنك تفضل النعمان علي!، قال له كيف أفضله، فوالله لقفاك أحسن من وجهه، وغلامك أشرف من أبيه ولأبوك أشرف من جميع قومه وشمالك أجود من يمينه، ولقليلك أكثر من كثيره ولجدولك، أغزر من غديره، ولكرسيك أرفع من سريره ولجدولك أغمر من بحره وليومك أفضل من شهوره، ولشهرك أمد من حوله، ولحولك خير من حقبه، ولزندك أورى من زنده، ولجندك أعز من جنده، وإنك لمن غسان أرباب الملوك وإنه لمن لخم الكثير النوك، فكيف أفضل عليك، وقد روي نحو من هذا الكلام عن حسان بن ثابت رحمه الله قاله لجبلة].
(1/136)
قال الزبيري [رحمه الله تعالى]: ((ملوك غسان كلهم من بني الحارث الأكبر، قال: وقد ملك منهم ثلاثون ملكاً، وفي آل جفنة يقول حسان بن ثابت رحمه الله:
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل
يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شم الأنوف من الطراز الأول
قوله ((حول قبر أبيهم)) يريد أنهم لعزهم لم يخلوا عن منازلهم قط ولا فارقوا قبر أبيهم.
وقال الحطيئة:
أبلغوا الأنصار أن شاعرهم، أشعر العرب حيث يقول:
يغشون حتى ما تهر كلابهم ...
(1/137)
وقال عبد الملك بن مروان [رحمه الله]: أمدح بيت قالته العرب بيت حسان هذا. [وكأنه ينظر إليه قول داود بن مسلم يمدح حرب بن خالد بن يزيد بن معاوية:
ولما دفعنا لأبوابهم ... ولاقيت حرباً لقيت النجاحا
وجدناه يمدحه المعتفون ... ويأبى على العسر إلا سماحا
ويغشون حتى نرى كلبهم ... يهاب الهرير وينسى النباحا]
وقوله: ((بيض الوجوه .. البيت)): يعني أن آل جفنة كانوا من اليمن [حتى] استوطنوا الشام فلم تخالطهم السودان كما خالطوا من بقي من اليمن، فهم من الطراز الأول الذي كانوا عليه في ألوانهم وأخلاقهم، [ومارية اسم منقول. وحكى أبو عبيدة في الغريب: ((قطاة مارية بالتشديد أي ملساء)).
(1/138)
وعن غيره المارية بالتخفيف الناقة المسنة] وجبلة بن الأيهم آخر ملوك غسان، وله الخبر المشهور.
[قال ابن الكلبي رحمه الله: ((مازن غسان أرباب الملوك وكندة
(1/139)
أرداف الملوك ومذحج مذجح الطعان والأزد أزد الناس] وأما خزاعة [وهم من ولد حارثة بن عمرو بن عامر على الخلاف إذ قد نسبها ابن إسحاق ومصعب ابن الزبير في مصر، ونسبها أبو عبيدة وابن الكلبي في الأزد وفي ولد عمرو بن عامر ولكل
(1/140)
حجته] فإنهم انخزعوا عن قومهم أي تخلفوا وبذلك سموا خزاعة فنزلوا مكة وتولوا حجابة البيت دهراً بعد جرهم.
وذلك أن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر نزل هو وقومه بأرض مكة عند خروجهم من اليمن فاستأذنوا جرهم وكانوا ولاة البيت أن يقيموا بها أياماً حتى يرسلوا الرواد يرتادوا لهم منزلاً حيث رأوا من البلاد، فأبت عليهم جرهم [حتى أغضبوهم] فأقسم حارثة أن لا يبرح من مكة إلا عن قتال، فحاربتهم جرهم فكانت الدولة لبني حارثة عليهم، فعند ذلك [تملكت] خزاعة مكة وصارت ولاية البيت لهم إلى أن حاربهم قصي فصارت ولاية البيت له [ولولده] وجمع قريشاً من الجوانب فسمي مجمعاً.
ويقال لخزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم حلفاء بني هاشم وهم
(1/141)
الذين أدخلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب القضية عام الحديبية حين قاضى مشركي قريش فأدخل خزاعة معه وأدخلت قريش بني بكر بن عبد مناة معهم. فوقعت حرب بين خزاعة وبين بني بكر فأعان مشركوا قريش حلفاءهم بني بكر ونقضوا بذلك العهد فكان ذلك سبب فتح مكة فنصر رسول الله صلى الله عليه وسلم خزاعة وأعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم منزلة لم يعطها أحداً غيرهم وجعلهم مهاجرين بأرضهم وكتب لهم بذلك كتاباً.
تقييد
قال القاضي أبو الفضل رحمه الله، ((أكثر رواة الحديث يشددون الياء من الحديبية، والحذاق يخففونها وكذا قرأناها بالوجهين، وبالتخفيف سمعناها من متقنيهم وحفاظهم. وذكر عن بعض شيوخه حكاية عن الأصمعي أنه يخففها والكسائي يشددها.
(1/142)
وحكى إسماعيل القاضي رضي الله عنه أن أهل المدينة يشددونها وأهل العراق يخففونها وأهل المدينة يكسرون العين ويشددون الراء من الجعرانة وأهل العراق يخففون وكذلك حكى في ابن المسيب أن أهل المدينة يكسرون الياء وأهل العراق يفتحونها.
رجع الكلام إلى حيث انتهى من خزاعة .. .. ] [فمنهم] عمران بن حصين رضي الله عنه أحد فضلاء الصحابة
(1/143)
رضي الله عنهم وهو الذي كان يرى الملائكة، وكانت تكمله، ومنهم أبو شريح الخزاعي أحد عقلاء المدينة، ويؤثر، عنه كلام حسن.
ومنهم عبد الله بن خلف الخزاعي المقتول يوم الجمل. [استعمله عمر رضي الله عنه كاتباً بالعراق] وهو والد طلحة الطلحات. أحد أجواد أهل البصرة وكان والي سجستان
(1/144)
استعمله عليها يزيد بن معاوية، وبها توفي وفيه يقول القائل:
رحم الله أعظماً دفنوها ... بسجستان طلحة الطلحات
ومنهم قبيصة بن ذؤيب الخزاعي. قال يحيى بن معين: ذؤيب والد قبيصة له صحبة ورواية. وكان ابن شهاب إذا ذكر قبيصة ابن ذؤيب قال: كان من علماء هذه الأمة، وكان على
(1/145)
خاتم عبد الملك بن مروان. ومن خزاعة كثير الشاعر.
ومن القبائل التي اكتفت [بأسمائها] عن الانتساب إلى الأزد دوس رهط أبي هريرة رضي الله عنه واختلف في اسمه اختلافاً كثيراً، [وذكر أبو أحمد الحاكم في كتابه في الكنى في اسم أبي هريرة رضي الله عنه عبد الرحمن بن صخر.
قال الحافظ أبو عمر رحمه الله بعد ما ذكر الاختلاف في اسمه أن الذي
(1/146)
تسكن إليه النفس في اسمه عبد الله أبو عبد الرحمان، وكنيته أولى به على ما كناه رسول الله صلى الله عليه وسلم .].
ومنهم سواد بن قارب، دوسي في قول بعضهم، وكان يتكهن في الجاهلية، ورئيه هو الذي أخبره برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه قد بعث، وله في ذلك خبر حسن، [وشعر حسن].
(1/147)
ومنهم ذو النور الطفيل بن عمرو الدوسي، له من قدومه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجوعه إلى قومه خبر عجيب، [ذكر ابن إسحاق في السيرة مستوفي.
(1/148)
وعن غير ابن إسحاق أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم هل لك في حصن حصين ومنعة، يشير، إلى الاستنصار بالأنصار بدوس إذ كان قدومه على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك للخير الذي ذكره الله تعالى للأنصار]، ومن دوس ملك بن فهم أول ملوك الحيرة، وكان خرج من اليمن مع عمرو بن عامر، فلما صارت الأزد إلى مكة وغلبوا جرهم على ولاية البيت أقاموا زماناً ثم خرجوا إلى خزاعة، فإنها أقامت على ولاية البيت فصار ملك بن فهم إلى
(1/149)
العراق فأقام ملك على العرب عشرين سنة.
وتولى الملك بعده ابنه جذيمة ستين سنة.
[وأخوه هو سليمة الذي قتل أباه مالكاً بسهم قتل خطأ وجذيمة] [هو] جذيمة الأبرش ويعرف بالوضاح، (ويذكر أنه كان أبرص فكنوا عنه بالأبرش لأن البرص أبغض شيء إلى العرب، ولنفورهم عنه تركوا ذكره لفظاً فكنوا عنه.
ومن هذا النحو قوله عز من قائل {تخرج بيضاء من غير سوءٍ} وهذا من الألوان المرضية كما أن مما يكرهونه من الألوان الصحية في العين الزرق، فهو أبغض شيء من ألوان العيون إلى العرب، وذلك أن الروم أعداءهم زرق العيون.
(1/150)
ولذلك قالوا في صفة العدو: أسود الكبد أزرق العين أصهب السبال.
رجع الحديث .. .. ] ويقال [لجذيمة] منا دم الفرقدين لأنه كان لا ينادم أحداً ذهاباً بنفسه وإعجاباً، وينادم الفرقدين، ونادم بعد [ذلك] ملكاً وعقيلاً [رجلين من بني القين، وكان ابن أخت جذيمة عمرو بن عدي قد غاب، وهو الذي يذكر أن الجن اختطفته فغاب دهراً فوجده ملك وعقيل، وكان من حديثهما قبل أن يعرفاه أنه كانت لهما جارية يقال لها أم عمرو، فجلس إليها فناولاه شيئاً من الطعام فطلب أكثر منه فقالت جاريتهما أم عمرو: أعطي العبد كراعاً فطلب ذراعاً، فسار مثلاً، ثم صاروا إلى
(1/151)
الشرب فجعلت أم عمرو تسقي صاحبيها وتدع عمروا، فعند ذلك يقول عمرو بن عدي ابن أخت جذيمة:
تصد الكأس عنا أم عمرو ... وكان الكأس مجراها اليمين
فذهب كلامه وكلامهما مثلا. وكان هذا كله قبل أن يعرف، فلما انتسب عرفاه، فقدما به على خاله جذيمة فعظم موقعه منه، وقال: سلاماً شئتما فسألاه أن يكونا نديميه ما عاش وعاشا، فأجابهما إلى ذلك]، فيقال: إنهما نادماه أربعين سنة وحاداثاه فما أعادا عليه حديثاً.
[وفي ذلك قال أبو خراش الهدلي، أنشده له الأخفش، قال محمد بن يزيد: وهو من حكماء العرب:
(1/152)
ألم تعلمي أن قد تفرق قبلنا ... خليلا صفاء ملك وعقيل]
[وقال] متمم [بن نويرة التيمي اليربوعي].
وكنا كند ماني جذيمة حقبة ... من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
[فلما تفرقنا كأني ومالكاً ... لقول اجتمع لم نبت ليلة معا
كأنا خلقنا للنوى وكأنما ... حرام على الأيام أن نتجمعا
ومتمم هذا أسلم هو أخوه مالك، وقتل مالك، فقتله ضرار بن
(1/153)
الأزور بأمر خالد بن الوليد رضي الله عنه، سنة ثلاثة عشر في خلافة الصديق رضي الله عنه، واختلف في مالك هل قتل مرتداً أو مسلماً
(1/154)
وأما أخوه متمم فلم يختلف في إسلامه، والبيت من كلمة يرثي بها أخاه، ويضرب مثلاً في الرجلين المتآخيين.
وروي أن عائشة رضي الله عنها لما سمعت بموت أخيها
(1/155)
عبد الرحمن، وكانت شقيقته، ذهبت إلى مكة ووقفت على قبره فتمثلت بقول متمم: وكنا كند ماني. البيت، وبالبيت بعده:
فلما تفرقنا كأني ومالكا ... لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
وعبد الرحمان أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم وابناه أبو عتيق محمد وأخوه عبد الله، فيقال إنه لم يدركه صلى الله عليه وسلم أربعة في ولاء إلا أبو قحافة وابنة الصديق وابنه عبد الرحمان وابناه محمد وعبد الله
(1/156)
رضي الله عن جميعهم، وابن محمد هو عبد بن أبي عتيق صاحب الدعابة، وروي أن عمر رضي الله عنه تمثل بذلك في نفسه في [وفاة] أخيه زيد رضي الله عنه.
(1/157)
رجع الحديث إلى حيث انتهي من خبر جذيمة] ثم انتقل ملكه لابن أخيه عمرو بن عدي اللخمي [في الأشهر] وهو الذي اختطفته الجن [كما تقدم]، وفيه جرى المثل: ((شب عمرو عن الطوق))، [ويقال: كبر عمرو عن الطوق يضرب مثلاً في تزيين الكبير بزينة الصغير، وصاحب هذا المثل خاله جذيمة، قاله لابن أخته عمرو، وكان له طوق فلبسه في الصغر، فاستهوته الجن دهراً إلى أن وجد فأرادت أمه أن تعيد الطوق عليه فقال جذيمة المثل، وله قال قصير أطلب الأمر وخلاك ذم حين أشار إليه
(1/158)
بطلب الزباء بثأر خاله فقال: افعل كذا وخلاك ذم، أي إنما عليك أن تجتهد بطلبها وقتلها. ولعمرو هذا المثل المذكور في عناية الرجل بأخيه وإيثاره على نفسه وهو: هذا جناي وخياره فيه. وكل جان يده إلى فيه.
وكان أصل هذا المثل أن جذيمة كان قد نزل منزلاً وأمر الناس أن يجتنوا له الكمأة، وكان بعضهم إذا وجد منها ما يعجبه آثر بها نفسه، وكان عمرو يأتيه بخيار ما يجد، فمعناه: إني أوثرك على
(1/159)
نفسي بخياره، إذ كان غيري يأكله دونك. وتمثل هذا المثل علي ابن أبي طالب رضي الله عنه لما جيبت له العراق فنظر إلى ذهبها وفضتها فقال: يا حمراء يا بيضاء أحمري وابيضي وغري غيري هذا جناي وكل جان يده إلى فيه. والذي أراد رضوان الله عليه أن يعطي المال غيره ويمنعه نفسه].
ومن ولد عمرو وهو النعمان الأكبر [وهو] الذي لبس المسوح، وساح في الأرض، وهو الذي بنى الخورنق، واسم
(1/160)
الذي بناه سنمار وهو الذي ردي من أعلاه حتى قالت العرب: جزاك جزاء سنمار، وذلك أنه لما تم الخورنق وعجب الناس من حسنه، قال سنمار: أما والله لو شئت حين بنيته لجعلته يدور مع الشمس حيث دارت، فقال له الملك، إنك لتحسن أن تبني أجمل من هذا، وغارت نفسه أن يبني لغيره مثله، فأمر به فطرح من أعلاه، وكان بناه في عشرين سنة، وفي ذلك يقول القائل:
جزاني جزاه الله شر جزائه ... جزاء سنمار وما كان ذا ذنب
رمى بسنمار على حقو رأسه ... وذاك لعمر الله من أعظم الخطب
(1/161)
وبسبب ما [أنجر من القول] على قبائل الأزد خرج الكلام عما كنت بسبيله، فأرجع إلى حيث كنت .. .. فأقول: إن الأنصار وخزاعة وغسان ودوسا كلها من الأزد، وفي خزاعة الخلاف المشهور [وقد تقدم].
قال حسان بن ثابت [رضي الله عنه] في انتسابه إلى الأزد:
يا أخت آل فراس إنني رجل ... من معشر لهم في المجد بنيان
إما سألت فإنا معشر نجب ... الأزد نسبتنا والماء غسان
[هذا منه افتخار بالنسبة الأزدية، وكفى شرفاً للأزد ما ورد في الخبر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((نعم القوم الأزد طيبة أفواههم برة أعيانهم نقية قلوبهم].
(1/162)
وقال كعب بن مالك الأنصاري رحمه الله في انتسابه [في] غسان:
وغسان أصلي وهم معقلي ... فنعم الأرومة والمعقل
وفي [نحوه] قال قيس بن الخطيم الأنصاري.
ويوم بعاث أسلمتنا سيوفنا ... إلى نسب في جذع غسان ثابت
(1/163)
يريد يوم بعاث [بالعين وهو الأشهر، يريد به] الحرب التي وقعت بين الأوس والخزرج، ولهم فيها أيام مشهورة هلك فيها كثير من صناديدهم وأشرافهم. وبعاث اسم أرض وبها عرفت تلك الحرب.
[ووقعت هذه الحرب بينهم]، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قد بعث، وذلك قبل العقبة الأولى، [وقد كانت بينهم وقعة أخرى
(1/164)
ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث وذلك قبل وقعة بعاث على ما نقله الحافظ أبو عمر رحمه الله، قتل فيها سويد الأوسي، قتله الخزرج، وكان قد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة [حجها] على ما كانوا يحجون في الجاهلية، وكان سيداً شريفاً في قومه، وكان قومه يدعونه بالكامل. وكان شاعراً، وهو القائل:
إلا رب من تدعو صديقاً ولو ترى ... مقالته بالغيب ساءك ما يفري
(1/165)
وأم سويد هذه هي ليلى بنت عمرو النجارية أخت سلمى أم عبد المطلب، فهما ابنا خالة، وبنته هي أم عاتكة وعاتكة هذه أخت سعيد بن زيد امرأة عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فهو جدها للأم. هكذا رأيت لبعضهم: ورأيت للحافظ أبي عمر خلافه.
ووقع في كتاب أبي الفرج رحمه الله أن أول حرب وقعت بين الأوس والخزرج كانت على حليف لملك بن العجلان، قتله سمير بن يزيد
(1/166)
الأوسي، وكان سيداً في زمانه، وكانت دية الحليف عندهم خمساً من الأبل، ودية الصريح عشراً، فبعث ملك إلى بني عمرو بن عوف رهط سمير أن يسلموا إليه سميراً حتى يقتله، قال فإني أكره أن يكون بيني وبينهم بيننا - حرب فأشاروا عليه بأن يأخذ دية الحليف، فأبى إلا أن يعطوه في حليفه دية الصريح فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم إن رجلاً من الأوس نادى يا ملك أنشدك الله حق الرحم، وكانت أم مالك من نساء الأوس، فحكموا بينهم رجلاً من الخزرج. فلم يرض بحكمه، فاقتتلوا ثم تداعوا إلى الصلح فحكموا ثابت بن المنذر أبا حسان.
فحكم بينهم أن يردوا حليف ملك بدية الصريح فرضى ملك وسلم الآخرون].
وقال حسان رحمه الله في انتسابه في الأزد:
فمن يكن عنا معشر الأزد سائلاً ... فإنا بنو [الغوث] بن زيد بن مالك
(1/167)
وزيد بن كهلان الذي نال عزة ... قديماً دراري النجوم الشوابك
إذا القوم عدوا مجدهم وفعالهم ... وأيامهم عند التقاء المناسك
وجدنا لنا فضلاً يقر لنا به ... إذا ما فخرنا كل باق وهالك
[و] زيد بن كهلان إليه يرتفع نسب الأزد وهو كهلان [بن سبأ]
(1/168)
ابن يشجب بن يعرب من قحطان وكهلان كان ملكاً، ويذكر أنه عاش ثلاثمائة سنة. وسبأ إسمه عبد شمس، [وكان أول من توج من ملوك العرب] و[هو] أول من سبأ فسمي سبأ، قال بعضهم: ((ولست من هذا الاشتقاق على يقين لأن سبأ مهموز والسبي غير مهموز)).
ويعرب بن قحطان هو الذي نزل بأرض اليمن، فهو أبو اليمن كلها. ويقال: إنه أول من حيي ((بعم صباحاً))، و((أبيت اللعن))، حياه بذلك بنوه، وهو الذي أسس غمدان، وأكمله بعد ذلك من
(1/169)
احتل فيه من بنيه كما ذكر.
وقال حسان أيضاً رحمه الله يفتخر:
ألم ترنا أبناء عمرو بن عامر ... لنا شرف يربي على كل مرتق
رساقي قرار الأرض ثم سمت له ... فروع تسامى كل نجم محلق
ملوك وأبناء الملوك كأنهم ... سواري نجوم تاليات ونفق
كجفنة والقمقام عمرو بن عامر ... وأبناء ماء المزن وابني محرق
(1/170)
وحارثة الغطريف أو كابن منذر ... ومثل أبي قابوس رب الخورنق
جفنة قد تقدم نسبه في غسان، وماء المزن يعني به عامراً ماء السماء، وقد تقدم ذكر محرق في آل جفنة ولم سمي بذلك، وحارثة الغطريف والد عامر ماء السماء، [والقمقام الكثير الخير والقابوس الجميل الوجه في أسماء معلومة عند أهل اللغة أتت على هذا المثال]. ورب الخورنق تقدم ذكره في ملوك الحيرة وجد ملوكها هو ربيعة بن نصر [أبو نصر بن ربيعة على اختلاف أهل النسب في ذلك] الذي هو جد عمرو بن عدي واختلف في نسبه اختلافاً كثيراً، وبعضهم ينسبه لأبي حارثة بن عمرو بن عامر، فهو على هذا أزدي، ولعله يريد بابن المنذر النعمان بن المنذر صاحب
(1/171)
النابغة الذبياني، ورب الخورنق هو النعمان الأكبر الذي [بناه] وذكر حسان للنعمان هنا يقتضي انتسابه في الأزد [على أن الأكثر أنه من لخم أخو جذام، وهما يرتفع نسبهما إلى عدي بن عمرو بن سبأ، وعساه قال ذلك لأن الأزد أخوال ملوك الحيرة من آل المنذر، أو قال ذلك بسبب اليمنية، وبالجملة ففي هذا البيت بيت حسان نظر.
وقال النعمان بن بشير رضي الله عنه:
أنا من بني قحطان سبعون تبعاً ... طاعت لها بالخرج منها الأعاجم
يقول أنه لهم من اليمنية سبعون ملكاً].
(1/172)
وقال أوس بن الصامت [الأنصاري] أخو عبادة بن الصامت رضي الله عنهما:
أنا ابن مزيقيا عمرو وجدي ... أبوه عامر ماء السماء
وقال آخر:
ومنا ابن ماء السماء الذي ... بنا الملك في الشرق والغرب
وقال: ومنا بنو العنقاء وابنا محرق ملوك ملوك الناس في ساعة الذعر. وقال المنذر بن حرام جد حسان بن ثابت:
(1/173)
ورثنا من البهلول عمرو بن عامر ... وحارثة الغطريف مجداً مؤثلاً
[ومما يؤثر من شعر حسان رحمه الله في الفخر قوله يخاطب أربد بن ربيعة وعامر بن الطفيل:
ألسنا ملوك الناس في جاهلية ... مضت وأولى الأفضال من آل عامر
فلما أتى الإسلام أصبح فخرنا ... ينير ويسري في النجوم الزواهر
ألسنا من الأنصار أصبح مجدنا ... يتيه ويستعلي على كل فاخر
ورثنا عن البهلول عمرو بن عامر ... مفاخر جما تزدهي بمفاخر
ونحن بنو النضر المبين وديننا ... يدين المعبود إلى خير ناصر
عناصرنا صدق وحق ومفخر ... فأكرم بها من خطة لعناصر]
وفي كل واحد من الأوس والخزرج بطون كثيرة، [ووقع في
(1/174)
أخبار الأوس بن حارثة أنه عاش دهراً، وليس له ولد إلا ملك وكان لأخيه الخزرج خمسة: عمرو، وعوف، وجشم والحارث، وكعباً، فلما حضره الموت قال له قومه: قد كنا نأمرك بالتزوج في شبابك فلم تتزوج حتى حضرك الموت فقال له الأوس: ((لم يهلك هالك ترك مثل مالك. وإن كان الخزرج ذا عدد وليس لملك ولد، فلعل الذي استخرج العذق من الجريمة، والنار من الوثيمة أن يجعل لك نسلاً ورجالاً بسلاً. يا ملك المنية ولا الدنية، والعتاب قبل العقاب، والتجلد لا التبلد، وأعلم أن القبر خير من الفقر وشر شارب المشتف، وأقبح طاعم المقتف، وذهاب البصر خير من كثير النظر، ومن كرم الكريم الدفاع عن الحريم،
(1/175)
ومن قل ذل، ومن أمر قل، وخير الغنى القناعة، وشر الفقر الضراعة. والدهر يومان يوم لك ويوم عليك، فإذا كان لك لا تبطر، وإذا كان عليك فأصبر، وكلاهما سيحضر، فإنما تعز من ترى ويعزك من لا ترى، ولو كان الموت يشترى لسلم منه أهل الدنيا، ولكن الناس فيه مستوون، الشريف الأبلج واللئيم المعلهج، والموت المبيت خير من أن يقال لك هيت، وكيف بالسلامة لمن ليس له إقامة، وشر المصيبة سوء الخلق، وكل مجموع إلى تلف، حياك إلا هك)).
بيان وتفسير
قوله: ((لم يهلك هالك ترك مثل مالك)) كأنه مثل ونظمه بعض المتأخرين فقال:
فلم يمض من أبقى من المجد إرثه ... ولم يلق هلكاً تارك مثل مالك
والعذق النخلة نفسها، والوثيمة بمعنى الموثومة أي الموطوءة، يريد قدح حوافر الخيل النار من الحجارة والعرب تقسم بهذا فتقول:
(1/176)
لا والذي أخرج العذق من الجريمة والنار من الوثيمة، ولا والذي شق خمساً من واحد يعنون الأصابع، والبسل جمع باسل من البسالة وهي الشجاعة. والمستشف المستقصي: يقال استشف باقي أيامه واشتف إذا شرب الشفافة، وهي البقية تبقي في الأناء، والمقتف الأخذ بعجلة، وأمر كثر عدده.
وتذكرت بهذه الوصية ما أورده أبو علي البغدادي أيضاً من كلام الأحنف -رحمه الله- في بعض مجالسه أن الكرم منع الحرم، وما أقرب النعمة من أهل البغي. لا خير في لذة تعقب ندماً، لن يهلك من قصد، لن يفتقر من زهد، رب هزل بعد عاد جدا، من أمن الزمان خانه. من يعظم قلبه أهانه. دعوا المزاح فإنه يورث الضغائن. خير القول ما صدقه الفعل. احملوا لمن أدل عليكم.
واقبلوا عذر من اعتذر إليكم. أطع أخاك وإن عصاك وصله وإن جفاك، انصف من نفسك قبل أن ينتصف منك، وإياك ومشاورة النساء. وكفر النعمة لؤم، وصحبة الجاهل شؤم. ما أقبح القطيعة بعد الصلة، والجفاء بعد النصف، والعداوة بعد الود. لا تكونن
(1/177)
على الإساءة أقوى منك على الإحسان، ولا إلى البخل أسرع منك إلى البذل. واعلم أن لك من دنياك ما أصلحت به مثواك. وأنفق في حق ولا تكن خازناً لغيرك. اعرف الحق لمن عرفه لك. وقطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل.
ومما تذكرته: وصية عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي رضي الله عنهم لأحد ابنيه محمد وإبراهيم: إني مؤد حق الله في تأديبك فأد حق الله في الاستماع مني، أي بني، كف الأذى وأفض الندى واستعن على الكلام بطول الفكر في المواطن التي تدعوك فيها نفسك إلى الكلام فإن للقول ساعات يضر فيها الخطأ ولا ينفع فيها الصواب، وأحذر مشورة الجاهل وإن كان ناصحاً كما تحذر
(1/178)
مشورة العاقل إذا كان غاشاً، وإذا احتجت إلى رأيك ووجدته نائماً وسواك يقظان فلا تستبد برأيك فإنه حينئذ هواك، ولا تفعل فعلاً إلا وأنت على يقين إن عاجلته لا يرديك، وإن تنتحيه لا يجني عليك، وإياك ومعادات الرجال، فإنك لن تعدم مكر حليم أو مفاجأة لئيم.
وقال بعض الحكماء لابنه: ((اقبل وصيتي: إن شرعة ائتلاف قلوب الأبرار كشرعة اختلاط قطر الماء بالأنهار، وبعد الفجار من الائتلاف كبعد البهائم من التعاطف وإن طال اختلافها على رأي واحد، كن بصالح الأعمال أعنى منك بكثرة عدتهم، فإن اللؤلؤة خفيف حملها كثير ثمنها والحجر فادح حمله قليل عناؤه.
وعن الأحنف: الحسود لا راحة له، والبخيل لا مروءة له، والملول لا وفاء له ولا يسود سيء الخلق)). وقيل له: بم بلغت ما بلغت؟ قال: ((لو عاف الناس الماء ما شربته)). وقال: من لم يسخ نفسه عن الحظ الجسيم للعيب الصغير لم يعد شفيقاً على نفسه ولا صائناً لها)).
رجع الحديث إلى بطون الأوس والخزرج، وهم كثيرون كما تقدم] منها بنو النجار بطن من بطون الخزرج فيهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم خؤولة لأن أم عبد المطلب هي منهم وهي سلمى بنت عمرو بن
(1/179)
زيد بن أسد النجاري] ولذلك قالت الأنصار حين أسروا العباس رضي الله عنه لا نطالب ابن أختنا بالفداء. [وإلى ذلك أشار حسان رحمه الله بقوله:
ونحن ولدنا من قريش عظيمها ... ولدنا نبي الخير من آل هاشم]
(1/180)
والنجار اسمه تيم الله، واختلف في سبب تسميته بالنجار [ووقع في كتاب أبي الفرج أن اسم النجار كان تيم اللات وإنما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم تيم الله لأن الأنصار كانت تنتسب إليه فكره أن يكون في انتسابها اسم الات.
وعن ابن سيرين رضي الله عنه أن النجار سمي بذلك لأنه اختتن بقدوم، وقال غيره: بل نجر وجه غيره فقيل له النجار لذلك].
[ويروي] أن عبد الله بن عبد المطلب والد رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي عند أخواله بني النجار بالمدينة.
وحكى ابن إسحاق أن أمه آمنة توفيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم
(1/181)
بالأبواء، موضع بين مكة والمدينة [كرمها الله] وهو أقرب إلى المدينة [شرفها الله] كانت قدمت به صلى الله عليه وسلم على أخواله بني النجار تزيره إياهم فماتت وهي راجعة به على مكة.
[وفي الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قبض وأرادوا غسله حضرت الأنصار فنادت على الباب الله الله فإنا أخواله فيحضره بعضنا فقيل لهم: اجتمعوا على واحد منكم فاجتمعوا على أوس بن خولي فدخل، فحضر غسله صلى الله عليه وسلم مع أهل بيته. وفي بعض الأخبار أن الأنصار أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال جمعوه، فقالوا: يا رسول الله قد هدانا الله بك وأنت ابن أختنا، وتعروك نوائب وحقوق ومالك سعة، فاستعن بهذا على ما ينوبك، فنزلت:
(1/182)
{قل لا أسئلكم عليه أجراً إلا المودة في القربى}.
ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم المال].
[قال الحافظ أبو عمر: ((و] في كل قبائل الأنصار من له صحبة، وروى أكثرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومنهم من مات وليست له رواية)).
(1/183)
الباب الثاني في ثناء الله عليهم
(1/185)
قال الله [تبارك] وتعالى: {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون}.
نزلت في حيين من الأنصار: بني سلمة من الخزرج، وبني حارثة ابن الأوس.
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد في ألف، وقيل تسع مائة وخمسين، والمشركون في ثلاثة آلاف، فانخزل رأس المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول بثلث الناس، فهم الحيان باتباع عبد الله، فعصمهم الله، فمضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
(1/187)
تقييد وتتميم
بنو سلمة -بكسر اللام- على أنه لا يعرف في الأزد سلمة إلا في الأنصار وسلمة أيضاً في جهينة من قضاعة وفي جحبى بن مذحج - والمعروف في قبائل قيس بفتح اللام.
وعبد الله بن أبي هو ابن أبي مالك المعروف بابن سلول اسم أم أبيه.
بيان وتفسير .. .. ]
قال بعضهم: والظاهر أن ذلك ما كان إلا هماً وحديث نفس، وكما لا تخلو النفس عند الشدة من بعض الهلع، ثم يردها صاحبها إلى الثبات والصبر، ويوطنها على احتمال المكروه، ولو كانت عزيمة لما ثبتت معها الولاية، والله تعالى يقول: {والله وليهما} وعن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه أنه قال:
(1/188)
فينا نزلت [الآية] بنو سلمة وبنو حارثة، وما نحب أنها لم تنزل لقول الله: {والله وليهما} ومعنى ذلك [على ما قال] بعضهم [فرط] الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله تعالى عليهم، وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية، وأن ذلك الهم غير مأخوذ به لأنه لم يكن عن عزيمة وتصميم. والفشل الجبن و[الخور].
[فصل .. ..
وقد بقي في الموضع تتميم إشارة إلى شرح الهم: واختلف العلماء رضي الله عنهم في ذلك، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل وتتكلم به))، وفي
(1/189)
الحديث الآخر عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما حكاه عن ربه جل وعز: ((إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإن هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشراً إلى سبعمائة ضعف))، وفي حديث آخر في ذكر السيئة: فإن تركها فاكتبوها له حسنة إنما تركها من جراي.
وحكى الإمام أبو عبد الله رحمه الله عن القاضي أبو بكر بن
(1/190)
الطيب رضي الله عنه أن من عزم على المعصية بقلبه، ووطن عليها مأثوم في اعتقاده وعزمه.
قال الإمام: وقد يحمل ما ثبت في هذه الأحاديث وأمثالها على أن ذلك فيما لم توطن النفس فيه على المعصية، وإنما ذلك بالفكر من غير استقرار. ويسمى مثل هذا الهم، ويفرق بين الهم والعزم فيكون معنى الحديث: إن من هم لم يكتب عليه على هذا القسم الذي هو خاطب غير مستقر، قال: وخالفه كثير من الفقهاء والمحدثين أخذاً بظاهر الأحاديث. ويحتج للقاضي بقوله صلى الله عليه وسلم : ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ فقال صلى الله عليه وسلم : لأنه كان حريصاً على قتل صاحبه))، فهو جعله مأثوماً بالحرص على القتل، قال: وهذا قد يتأولونه على خلاف هذا التأويل ويقولون: قد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما)) فالإثم إنما يتعلق بالفعل والمقاتلة وهو الذي وقع عليه إثم الحرص هنا. ويتعلق بالكلام في الهم ما في قصة يوسف
(1/191)
عليه السلام، وهو قوله تعالى: {وقد همت به وهم بها}. فيحمل ذلك إما على طريقة الفقهاء فبين إذا كان شرعه كشرعنا، وإما على طريقة القاضي فيحمل ذلك على الهم الذي ليس بتوطين النفس.
ووصل القاضي أبو الفضل رحمه الله هذا الكلام بنا ظاهره الخلاف، قال: ((إن عامة السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين على ما ذهب إليه القاضي أبو بكر)).
وقد قال ابن المبارك: سئل سفيان عن الهمة أيواخذ بها؟
(1/192)
قال: إن كان عزماً أخذ بها ولكنهم قالوا إن هذا الهم يكتب سيئة وليست بالسيئة التي هم بها ونواها لأنه لم يعملها بعد، وقطعه عنها غير خوف الله تعالى، ولكن نفس الإصرار والعزم معصية فكتبت سيئة، فإذا عملها كتبت معصية تامة، وإن تركها خشية الله تعالى كتبت حسنة على ما جاء في الحديث الآخر عنه صلى الله عليه وسلم ، وأما الهم الذي لا يكتب فهي الخواطر التي لا توطن النفس عليها ولا يصحبها عقد ولا عزم.
وقد قال بعض المتكلمين أنه يختلف إذا تركها لغير خوف الله تعالى بل لخوف الناس، هل تكتب حسنة؟ قال: لأنه حمله على تركها الحياء، قال: وهذا ضعيف لا وجه له، قال: وأما قصة يوسف عليه السلام فالكلام فيها كثير، وأحسنه قول من قال: إنه ما هم لأنه رأى برهان ربه وإنما همت هي والكلام فيه تقديم، والتقدير: ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها.
(1/193)
فإلى هذا النحو من التفصيل مما يؤاخذ به العبد من أعمال القلب مال الإمام أبو حامد رحمه الله فقال: إن ما لا يدخل من ذلك تحت الاختيار كالخواطر وميل النفس وهيجان الرغبة غير مؤاخذ به لأن في المؤاخذة به تكليفاً بما لا يطاق. ولذلك لما نزل قوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم}. شق ذلك على الصحابة رضي الله عنهم فأنزل الله تعالى: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}.
فظهر أن كل ما لا يدخل تحت الوسع من أعمال القلب غير مؤاخذ به. ويحمل قوله تعالى: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً}.
أي ما يدخل تحت الاختيار من ذلك فهو مأخوذ به كمن عزم ليلاً
(1/194)
على أن يصبح ويقتل مسلماً أو يزني بامرأة، ومات في تلك الليلة، فإنه يموت مصراً، ويحشر على نيته، قال: وكيف يظن أن الله تعالى لا يؤاخذ بالنية والهم مع أن كل ما دخل تحت اختيار العبد فهو مأخوذ به إلا أن يكفره بحسنه، وكيف لا يؤاخذ بأعمال القلوب والكبر والعجب والرياء والنفاق والحسد وجملة الخبائث من أعمال القلوب بل {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً} مما لا يدخل تحت الاختيار، فلو رفع بصره بغير اختيار على غير ذي محرم لم يؤاخذ به، فإن اتبع ثانية كان مأخوذاً بها، لأنه مختار، فكذلك خواطر القلب تجري هذا المجرى، بل القلب أولى بالمؤاخذة لأنه الأصل، قال صلى الله عليه وسلم : ((التقوى ها هنا، وأشار إلى القلب، قال: فإن كان منه عزم على الفعل نظر، فإن تركه خوفاً من الله تعالى كتبت له سيئة، فإن فعله هم من القلب اختياري].
قوله عز من قائل: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسانٍ رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جناتٍ تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم}.
والسابقون الأولون من المهاجرين هم الذين صلوا إلى القبلتين،
(1/195)
وهو اختيار سعيد بن المسيب وابن سيرين [رحمهما الله].
وعن سعيد [بن المسيب] قال: ((صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، وذلك عند مقدمه المدينة، ثم حول إلى الكعبة قبل بدر بشهرين.
وقيل: كان ذلك في رجب بعد زوال الشمس ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد بني سلمة، وقد صلى بأصحابه ركعتي، فتحول في الصلاة، فسمي المسجد مسجد القبلتين.
[وفي حديث البراء رضي الله عنه من حديث
(1/196)
مسلم: ((صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهراً)).
قال القاضي أبو الفضل: وهو الأصح، وهو قول مالك وابن إسحاق وسعيد.
وقيل حولت القبلة بعد ثمانية عشر شهراً، وقيل بعد سنتين، وروي بعد تسعة أشهر أو عشرة. قال: وهذان شاذان]، فعلى هذا يكون في القبلة نسخان نسخ سنة [بسنة] أولاً، ونسخ السنة بالقرآن ثانياً.
(1/197)
[قال القاضي أبو بكر ابن العربي رحمه الله: ((مسألة القبلة طرأ عليها النسخ مرتين ثم استقرت، وهي كمسألة نكاح المتعة، فإنه نسخ مرتين، كان مباحاً في صدر الإسلام، ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه يوم خيبر، ثم أباحه في غزوة حنين، ثم حرمه بعد ذلك، وليس لها أخت في الشريعة إلا مسألة القبلة].
وعن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة، فيتحرى أن يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس، وظاهر هذا أن يقتضي أن لم يكن في القبلة سوى نسخ واحد: نسخ السنة بالقرآن خاصة.
(1/198)
وقيل: السابقون [الأولون] من بايع بيعة الرضوان، وهو اختيار الشعبي.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: ((كنا يوم الحديبية ألفاً وأربع مائة، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنتم اليوم خير أهل الأرض)).
وأما السابقون من الأنصار فهم أهل العقبة الأولى وأهل العقبة الثانية ومن آمن منهم بالمدينة حين قدم عليهم مصعب بن عمير رضي الله
(1/199)
عنه، وذلك قبل العقبة الثانية، فأقرأهم القرآن، وعلمهم الإسلام، وفقههم في الدين، وعلى يديه أسلم أسيد بن حضير وسعد بن معاذ رضي الله عنهما سيدا بني [عبد] الأشهل من الأوس، فما بقي في دار قومهما عند إسلامهما رجل ولا امرأة إلا مسلماً ومسلمة، وهناك اشتهر الإسلام في المدينة وانتشر في أكثر دور الأنصار.
ومصعب بن عمير رضي الله عنه، أحد مهاجري قريش، كان يدعى بالمقرئ، وهو أول من سمي بهذا الاسم [كما غلب اسم
(1/200)
القارئ على معاذ بن الحارث الأنصاري.
وهو الذي أقامه عمر رضي الله عنه فيمن أقامه في رمضان ليصلي بالناس التراويح، وقتل يوم الحرة سنة ثلاث وستين رضي الله عنه.
ومصعب أيضاً رضي الله عنه] أول من جمع الجمعة في المدينة بالأنصار في قول بعضهم، وهو كان صاحب اللواء يوم أحد حتى استشهد [رضي الله عنه]، وكان قبل الإسلام من أنعم قريشاً عيشاً، وكان فتى مكة شباباً وجمالاً، وكان أبواه يحبانه، وكانت أمنه تكسوه أحسن ما يكون من الثياب، فلما هاجر أصابه من الشدة ما غير لونه وأذهب لحمه ونهك جسمه، حتى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر
(1/201)
إليه وعليه فروة، قد رفعها، فيبكي لما كان يعرف من نعمته.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكره فيقول: ما رأيت بمكة أحسن لمة ولا أرق حلة ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير.
قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله: السابقون الأولون على مراتب في السبق. الأولى: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسعيد بن زيد، وبلال، وغيرهم رضي الله عنهم، والمهاجرون إلى أرض الحبشة وأصحاب العقبتين، وهذه الأنصار خاصة، وأهل بدر، وأهل الحديبية، وبهم انقطعت الأولوية.
قوله عز وجل: {لمسجد أسس على التقوى من أول يومٍ أحق أن تقوم فيه فيه رجالٌ يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين}.
في بعض ما قيل أنه مسجد قباء، وقباء سكن بني عمرو بن
(1/202)
عوف بطن من بطون الأنصار، وهو على [فرسخ من المدينة، والفرسخ] ثلاثة أميال من المدينة، أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصلى فيه أيام مقامه بقباء من أول يوم، أي من أيام وجوده.
وقال بعض [المحققين] في قوله عز من قائل: {من أول يومٍ} وقد علم أنه ليس أول الأيام كلها ولا أضافه إلى شيء في اللفظ أن الظاهر فيه من الفقه صحة ما اتفق عليه الصحابة رضي الله عنهم مع عمرو رضي الله عنه حين شاورهم في التاريخ من عام الهجرة، لأنه الوقت الذي [عز] فيه الإسلام والخير الذي آمن فيه المسلمون، وأسست فيه المساجد.
(1/203)
{فيه رجالٌ يحبون أن يتطهروا}، وروي أنها لما نزلت مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء، [وإذا الأنصار جلوس]، فقال: أمؤمنون أنتم؟ فسكت القوم، ثم أعادها، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أترضون بالقضاء؟ قالوا: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((مؤمنون ورب الكعبة، فجلس.
ثم قال [رسول الله صلى الله عليه وسلم ]: ((يا معشر الأنصار: إن الله عز وجل قد أثنى عليكم، فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط؟ قالوا: نتبع الغائط الأحجار الثلاثة، ثم نتبع الأحجار الماء. فتلى [النبي صلى الله عليه وسلم الآية.
(1/204)
وقيل: كانوا لا ينامون الليل على الجنابة، وعن الحسن رضي الله عنه هو التطهر من الذنوب بالتوبة.
(1/205)
قوله عم فضله: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم}.
روي إن الأنصار حين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة، قال عبد الله ابن رواحة للنبي صلى الله عليه وسلم : اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً؛ واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم: قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال الجنة. قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل، فنزلت: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم [وأموالهم]} الآية.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب ليلة العقبة وذهب مع العباس بن
(1/206)
عبد المطلب [رضي الله عنه]، فقال العباس [رضي الله عنه]: تكلموا يا معشر الأنصار وأوجزوا فإن علينا عيوناً، فخطب أسعد بن زرارة خطبة ما خطب مثلها قط، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : اشترط لنفسك واشترط لربك واشترط لأصحابك [ما شئت]، فقال [ صلى الله عليه وسلم ]: تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأهليكم، وأشترط لأصحابي المواساة في ذات أيديكم، قالوا: هذا لكم، فما لنا؟ قال: الجنة. قال: ابسط يدك)).
(1/207)
و[روي عن عمر] رضي الله عنه أنه قال في الآية: تاجرهم فجعل لهم الصفقتين جميعاً، وعن الحسن رحمه الله: أنفساً هو خلقها، وأموالاً هو رزقها.
[ويروي] أن أعرابياً مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرؤها، فقال كلام من؟، فقال: كلام الله. فقال: بيع والله مربح، لا نقيله ولا نستقيله، فخرج إلى الغزو واستشهد.
قوله عز وجل: {وقل رب أدخلني مدخل صدقٍ وأخرجني مخرج صدقٍ واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً}.
في بعض الأقوال أن ((مدخل صدقٍ)) هو المدينة و((مخرج صدقٍ)) [هي] مكة، و((سلطاناً نصيراً)) هم الأنصار.
قوله عز من قائل: {رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى
(1/208)
نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً} في بعض الأقوال أنها نزلت في السبعين رجلاً الذين بايعوا بيعة العقبة على أن يمنعوه ويحموه، فوفوا بذلك، وقيل نزلت في أنس بن النضر [الأنصاري] عم أنس بن مالك رضي الله عنهما وكان قد غاب عن بدر، فقال: يا رسول الله: غبت عن أول قتال قاتلت فيه المشركين، [والله لئن أشهدني الله قتال المشركين] ليرين الله ما أصنع. فلما كان يوم أحد وانكشف الناس، قال اللهم إني أعتذر مما يصنع هؤلاء. وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، يعني المشركين، ومشى بسيفه فاستقبله سعد بن معاذ [رضي الله عنه] فقال: أي سعد. هذه ريح الجنة ورب أنس أجد ريحها، قال سعد: فما قدرت على ما صنع، فاستشهد رضي الله عنه، فوجد به بضع وثمانون ضربة بين ضربة بسيف
(1/209)
وطعنة برمح ورمية بسهم.
قوله عز وجل: {إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيءٍ أحصيناه في إمامٍ مبينٍ}، نزلت في بني سلمة من الأنصار.
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه أنه قال: أردنا النقلة على المسجد والبقاع حوله خالية، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتانا في ديارنا، فقال: يا بني سلمة بلغني أنكم تريدون النقلة. فقلنا: نعم، بعد علينا المسجد والبقاع حوله خالية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((عليكم دياركم فإنما يكتب آثاركم، قال: فما وددنا حضرة المسجد لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وعن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: لو كان الله مغفلاً شيئاً
(1/210)
لأغفل هذه الآثار التي تعفيها الرياح.
رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بوب البخاري رضي الله عنه في صحيحه، باب في احتساب الآثار، وفيه عن أنس رضي الله عنه: قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم)).
وروى ابن أبي شيبة عن أبي هريرة رضي الله عنه [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الأبعد فالأبعد من المسجد أكثر أجراً))، وروي عن أنس رضي الله عنه]أنه كان يتجاوز.
(1/211)
سئل الحسن رضي الله عنه: أيدع الرجل مسجد قومه ويأتي غيره، قال: كانوا يحبون أن يكثر الرجل قومه.
وسئل ابن لبابة عن الذي يدع مسجده ويصلي في المسجد الجامع للفضل الذي في كثرة الناس، قال: لا يدع مسجده.
[قوله عز وجل: {والذين ءامنوا وعملوا الصالحات وءامنوا بما نزل على محمدٍ وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم}. نزلت في الأنصار في قول ابن عباس رضي الله عنهم، وعملهم المواساة بمساكنهم وأموالهم، {وهو الحق} أي القرآن، وقيل إيمانهم، {بالهم} أي شأنهم، وقيل: نزلت في المهاجرين من قريش.
قوله عز من قائل: {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا
(1/212)
أمثالكم}. جاء عن ابن عباس رضي الله عنهم أنهم الأنصار.
قوله عز وجل: {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله} نزلت في خولة بنت ثعلبة، وقيل بنت حكيم، وقيل اسمها جميلة، وخولة أصح ما قيل في ذلك. وهي خزرجية أنصارية،
(1/213)
وزوجها أوس بن الصامت، أخو عبادة بن الصامت رضي الله عنهما.
وفي الخبر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بها في خلافته، فاستوقفته طويلاً ووعظته، وقالت له: ((يا عمر. قد كنت عميراً، ثم قيل لك عمر، فإنه من اتقى الله بالموت خاف الفوت، ومن أيقن الحساب خاف العذاب، وهو رضي الله عنه واقف يستمع كلامها، وقيل له: أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف، فقال: والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره، لا زلت إلا للصلاة المكتوبة، أتدرون من العجوز؟، هي التي سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، أيسمع رب العالمين ولا يسمع عمر؟!.].
(1/214)
قوله جل جلاله: {والذين تبوءو الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجةً مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم .. .. }].
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قسم أموال بني النضير، ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة نفر محتاجين، وقال للأنصار: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم، وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لك دياركم وأموالكم، ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة، فقال الأنصار: بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا، ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم [فيها]، فنزلت الآية.
(1/215)
وقوله [تعالى: {ولا يجدون في صدورهم حاجةً مما أوتوا} [يعني الأنصار]، أي [لا يجدون في صدورهم حاجةً] مما أوتيه المهاجرون.
وقال الحسن [رحمه الله]: أي لا يجدون في صدورهم من ذلك حسداً. والدار دار الهجرة، وهي المدينة [كرمها الله تعالى].
ومعنى تبؤوا الدار والإيمان: أي تبؤوا الدار وأخلصوا الإيمان.
وفي بعض الأخبار في قدوم عمرو بن معدي كرب على عمر رضي الله عنه وأنه سأله عن أحياء العرب، إلى أن قال له: فما تقول في الأوس والخزرج، قال: هم الأنصار أعزنا داراً وأمنعنا جاراً، وقد كفانا الله تعالى مدحهم، فقال: {والذين تبوءو الدار والإيمان .. .. } الآية.
(1/216)
وقوله عز من قائل: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصةٌ}، بوب البخاري [رحمه الله] [على هذه الآية في كتابه]: [باب قول الله عز وجل: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان به خصاصةٌ}].
وذلك عند ذكره مناقب الأنصار، وفيه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فبعث إلى نسائه رضي الله عنهن، فقلن: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من يضم أو يضيف هذا؟ فقال رجل من الأنصار: أنا. فانطلق به، وقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت: ما عندنا إلا قوت الصبيان. فقال: هيئي طعامك وأصلحي سراجك ونومي صبيانك، [إذا أرادوا عشاء فهيأت طعامها، وأصلحت سراجها، ونومت صبيانها]، (ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفته فجعلا يريانه كأنهما يأكلان، فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصةٌ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}.
والخصاصة الخلة، والشح الحرص على المنع، والبخل هو
(1/217)
المنع نفسه، [ .. .. ] قال بعض المفسرين: والمراد بالآية الشح بالزكاة وبما ليس بفرض من صلة ذوي الأرحام والضيافة وما شاكل ذلك، فليس بشحيح ولا بخيل من أنفق في ذلك وإن أمسك عن نفسه، ومن وسع على نفسه ولم ينفق فيما ذكر من الزكوات والطاعات فلم يوق شح نفسه.
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله} الآية، روي عن قتادة رحمه الله أنه قال في قوله تعالى {كونوا أنصار الله}: قد كان ذلك بحمد الله، جاء سبعون رجلاً فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة، فنصروه، وآووه حتى أظهر الله دينه، قال: ولم يسمع حي من الناس باسم لم يكن لهم إلا هم.
قوله جل وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة}. الآية.
(1/218)
يروى عن ابن سيرين رضي الله عنه أن الأنصار أول من جمع الجمعة، وأنهم سموها بهذا الاسم، وذلك قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وقبل أن تنزل الجمعة، فقالوا: لليهود يوم يجتمعون فيه، وكذلك للنصارى، فهلم نجعل يوماً نذكر الله فيه ونصلي ونشكر أو كما قالوا، فاجعلوه يوم العروبة، وكانوا يسمون يوم الجمعة يوم العروبة، فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة، فصلى بهم يومئذ ركعتين، فسموا اليوم يوم الجمعة حين اجتمعوا إليه، فأنزل الله عز وجل في ذلك: {يا أيها الذي آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة}. فهداهم الله إلى التسمية، وهداهم إلى اختيار اليوم وموافقة الحكمة، لأن الله تعالى لما بدأ فيه خلق أبينا عليه السلام، وجعل فيه بدء هذا الجنس، وهو البشر، وجعل أيضاً فيه فناءهم وفيه تقوم الساعة، وجب أن يكون يوم ذكر وعبادة، لأنه تذكرة بالمبدأ وتذكرة بالمعاد.
قال بعض العلماء: ومع هذا التوفيق والهداية فيبعد أن يكون ذلك منهم عن غير إذن من النبي صلى الله عليه وسلم ، وروى الدارقطني رحمه الله
(1/219)
عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى مصعب بن عمير أن يجمع بالمدينة، فهو أول من جمع بها حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة.
ولفظ الجمعة مأخوذ من الاجتماع، وكان على وزن فعلة وفعلة لأنه في معنى قربة وقربة، والعرب تأتي بالكلمة على وزن ما هو في معناها كعمرة المبنية على وصلة وقربة لأنها من المعنى، وقالوا من الجمعة فجمع، كما قالوا:] عيد من العيد، وعرف إذا شهد عرفة.
ويذكر أن كعب بن لؤي أول من سماها العروبة، [ومعنى العروبة الرحمة] فيما ذكر، فكانت قريش [في الجاهلية] تجتمع إليه فيخطبهم [ويذكرهم] فيقول [لهم فيما يقول]: أيها الناس اسمعوا وعوا وأقيموا وتعلموا، ليل ساح، ونهار ضاح، والسماء بناء والأرض مهاد والنجوم أعلام، لم تخلق عبثاً فتضربوا عنها صفحاً، الآخرون كالأولين، والدار أمامكم، واليقين غير ظنكم، صلوا أرحامكم، واحفظوا أصهاركم، وأوفوا بعهودكم، وثمروا أموالكم فإنها قوام مرواتكم، ولا تصونوها عما يجب
(1/220)
عليكم، واعظموا هذا الحرم وتمسكوا به، فسيكون له نباً عظيم، وسيخرج به نبي كريم، ثم ينشد أبياتاً منها:
صروفٌ وأنباءٌ تقلب أهلها ... لها عقدٌ ما يستحيل مريرها
على غفلةٍ يأتي النبي محمدٌ ... فيخبر أخباراً صدوقٌ خبيرها
ثم يقول:
يا ليتني شاهدٌ فحواء دعوته ... حين العشيرة تنفي الحق خذلانا
أما والله لو كنت ذا سمع وبصر ويد ورجل لانتصبت فيها تنصب الفحل ولأرقلت فيها إرقال الجمل فرحاً بدعوته جذلاً بصرخته.
(1/221)
الباب الثالث في ثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم [أيضاً] عليهم
(1/223)
من ذلك ما خرجه البخاري رحمه الله في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((آية الإيمان حب الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار.
قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله: ((الكلام على هذا الحديث في ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في تفسير غريبه.
الثاني: في حفظ الأصول منه.
الثالث: في معانيه.
الفصل الأول: فيه لفظ آية ولفظ النفاق:
وأما الآية فهي العلامة في لسان العرب، وهو كل معنى دل على غيره، وأرشد إليه، ومنه آي القرآن لأنها ترشد إليه وتدل على أنها منه بتميزه عن غيره من الكلام، وتحيزه بأسلوب في الفصاحة لا يسلكه قول، كما أن البيت الواحد من الشعر يدل على أنه منفرد بذاته لتميزه عن سائر أنواع الكلام بصفاته.
وأما النفاق فاختلف الناس في المنافق من أي شيء هو مأخوذ فقيل هو مأخوذ من النفق، وهو السرب في الأرض، وذلك عبارة عما دخل فيه من خفي الكفر، وقيل هو مأخوذ من النافقاء
(1/225)
أحد جحري اليربوع إذا طلب من النافقاء خرج من القاصعاء، والنافقاء والقاصعاء حجران يدخل منهما ويخرج، كذلك المنافق إذا طلبته في الإيمان خرج إلى الكفر.
الفصل الثاني: في حفظ الأصول منه:
إن قال قائل: إذا جعلتم حبهم إيماناً وبغضهم نفاقاً، فهل يكون الرجل بحب الأنصار مؤمناً حقيقة كما يكون ببغضهم كافراً حقيقة أم لا؟ وهل ذلك أمر متفق عليه أم هو مختلف فيه؟
الجواب: أن هذه الحالة تنقسم قسمين: الأول أن يحبهم لما وطدوه من الإسلام، والثاني أن يحبهم لأجل اليمنية مثلاً ونحو ذلك.
فإن أحبهم لما وطدوه من الإسلام ونصروه دون الأنام وآووا الرسول عليه السلام. وآثروا على أنفسهم بالمال والطعام، فهو مؤمن حقيقة واتفاقاً، وإن أبغضهم لأجل ذلك، فهو كافر حقيقة واتفاقاً.
ولذلك يروى عن عمر وعلي رضي الله عنهما -واللفظ لعلي- أنه
(1/226)
قال حين ذكر فضل الأنصار، فقال: أحلف بالله لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على العرب، فكلهم يرده بالإباية عن قبوله، ولا يجد عندهم إجابة إلى قوله، فاستجابوا لله ولرسوله، ونصروا الدين وآووا الرسول، ولقد كانوا يتشاحون فينا ويقترعون علينا، وفدوا النبي بأنفسهم وأهليهم.
قال القاضي أبو بكر رحمه الله: فيتعين على المرء أن يحب الأنصار، وترجع المحبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن السبب في محبة الأنصار إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ترجع إلى الله عز وجل، فالمحبوب الأول هو الله جل وتعالى، والمحبوب الثاني رسوله صلوات الله عليه، ومن نفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعضد دين الله هو المحبوب الثالث.
قال القاضي أبو بكر رحمه الله: وأما القسم الثاني من القسمين وهو أن يحبهم لأجل اليمنية مثلاً أو نحوه، فليس ذلك بإيمان كما لا يكون ضده كفراً.
تتميم
جرى في أثناء ما تقدم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعمد إلى العرب ويعرض عليهم الإيمان، فعمد صلى الله عليه وسلم إلى ثقيف وأتاهم في دراهم،
(1/227)
وأتى كنده في منازلهم، وأتى كلباً في منازلهم، وأتى بني حنيفة، وأتى بني عامر بن صعصعة، وكلهم يرده بالإباية، وذلك للعناية السابقة للأنصار من ربهم، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم كلما اجتمع الناس بالموسم يدعو القبائل إلى الله تعالى وإلى الإسلام.
قال ابن إسحاق رحمه الله: ((إلى أن أراد الله تعالى إظهار دينه وأعوان نبيه صلى الله عليه وسلم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار، وكانوا ستة من الخزرج)).
(1/228)
وعن غير ابن إسحاق في لقائه صلى الله عليه وسلم لذهل بن ثعلبة وفيه: ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار، فتقدم أبو بكر رضي الله عنه فسلم، قال علي رضي الله عنه: وكان أبو بكر في كل خير مقدماً، فقال: ممن القوم فقالوا: من شيبان بن ثعلبة. فالتفت أبو بكر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال، بأبي وأنت وأمي، هؤلاء عزز في قومهم، وفيهم مفروق بن عمرو، وهانئ بن قبيصة ومثنى ابن حارثة، والنعمان بن شريك، فقال أبو بكر رضي الله عنه: كيف العدد فيكم؟ قال له مفروق: إنا لنزيد على الألف، قال أبو بكر: وكيف المنعة فيكم؟ قالوا: علينا الجهد ولكل قوم جد. فقال أبو بكر: فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم؟ قال مفروق: وإنا أشد ما نكون غضباً لحين نلقي، وإنا لأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله، يديلنا مرة ويديل علينا. لعلك أخو قريش؟ فقال أبو
(1/229)
بكر: وقد بلغكم أنه رسول الله، ها هو ذا، فقال: إلى ما تدعونا أخا قريش؟ فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأني رسول الله وأن تؤوني وتنصروني.
فقال مفروق: إلى ما تدعو أيضاً؟ فتلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : {قل تعالوا اتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً}.
فقال: وإلى ما تدعونا أيضاً؟ فتلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : {إن الله يأمر بالعدل والإحسان}. الآية .. ..
فقال: دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك وظاهروا عليك.
فقال هانئ بن قبيصة: قد سمعت كلامك يا أخا قريش، وإني أرى أن تركنا ديننا، واتباعنا إياك لمجلس جلسته زلة في الرأي، وإنما تكون الزلة مع العجلة ومن ورائنا قوم نكره أن تعقد عليهم عقداً، لكن ترجع ونرجع حتى تنظر وننظر.
وقال المثنى: الجواب جواب هانئ، وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى وهذا الأمر الذي تدعونا إليه هو مما تكرهه الملوك،
(1/230)
فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يأتي العرب.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن دين الله لن ينصره إلا من أحاط به من جميع الجهات، قال: ثم دفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج فما نهضنا حتى بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانوا صدقاً صبراً. وفي هذا الخبر طول اختصرته.
رجع الكلام إلى حيث انتهى وهو الفصل الثالث في المعنى: قال القاضي أبو بكر رحمه الله: ((إن قيل هل يدخل أبناء الأنصار مدخل آبائهم في أن تكون محبتهم إيماناً وبغضهم نفاقاً أو لا الصحيح أنهم يدخلون في اسم آبائهم أو أن أبناءهم مثلهم في الاسم والحكم لقول النبي صلى الله عليه وسلم في عبد الله بن أبي طلحة، رضي الله عنه حين جنى به صبيحة مولده فحنكه بتمرة فجعل الصبي يتلمظ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((انظر إلى حب الأنصار التمر)) فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1/231)
ودعا له. قال أنس رضي الله عنه: ما كان في الأنصار ناشئ أفضل منه وله عشرة أولاد كلهم قراء رضي الله عنهم. أشهرهم إسحاق بن عبد الله شيخ مالك رحمة الله عليهما، فموضع الدليل من الأثر حيث جعله النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار. وقال صلى الله عليه وسلم : ((اللهم اغفر للأنصار وأبناء الأنصار ولأبناء أبناء الأنصار)).
قال القاضي أبو بكر رحمه الله: وأيضاً فإن الأنصار لقي النبي صلى الله عليه وسلم منهم عصبة أوفاها سبعون فشارطوه على الدين وعاقدوه على البيعة
(1/232)
وقالوا له اشترط لربك واشترط لنفسك واشترط لنا فلما انعقدت البيعة لزمت من حضر ودخل فيما من غاب ومن يأتي إلى يوم القيامة لأن حكم العهود والعقود في الإسلام أن تفني بفناء المدة وإذا عقدت مؤبدة دخل فيها الداني والقاصي والموجود والمعدوم. قال القاضي أبو بكر رحمه الله: ((والقاضي في هذا الباب الحاسم للأشكال قوله صلى الله عليه وسلم للأنصار: ((سترون بعدي أثرة فاصبروا))، وهذا عام في جميعهم. وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الأنصار كرشي وعيبتي وإن الناس سيكثرون ويقلون فاقبلوا من محسنهم واعفوا عن مسيئهم)). شرح: قال الإمام أبو عبد الله: معناه: جماعتي وخاصتي الذين أثق بهم وأعتمدهم في أموري. وقال الخطابي رحمه الله: ضرب المثل بالكرش لأنه مستمد غذاء الحيوان الذي يكون به بقاؤه، والعيبة هي التي يخزن فيها المرء جيد ثيابه ويصونه، ضرب المثل به، يريد صلى الله عليه وسلم أنهم موضع سره، قال: والكرش أيضاً عيال الرجل وأهله.
(1/233)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((قريش والأنصار ومزينة وجهينة وأسلم وغفار وأشجع موالي ليس لهم مولى دون الله ورسوله)). وعن أبي أيوب رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((الأنصار، ومزينة وجهينة وغفار وأشجع ومن كان من بني عبد الله موالي دون الناس والله ورسوله مولاهم)).
[شرح]
مولاهم أي وليهم والمتكفل بهم، والمولى يكون الولي [القائم] يأمر الرجل والناصر له ومن [هو أولى به وأخص.
(1/234)
وقوله صلى الله عليه وسلم : ومن] كان من بني عبد الله: يريد بني عبد العزي من غطفان سماهم النبي صلى الله عليه وسلم بني عبد الله.
وعن إسحاق بن عبد الله أن أباه حدثه، أن رسول الله استغفر للأنصار ولأبناء الأنصار ولأبناء أبناء الأنصار لا شك فيه.
وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار)).
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى صبياناً ونساءاً مقبلين من عرس [فقام نبي الله متمثلاً] [فقال صلى الله عليه وسلم ]: ((اللهم أنتم من أحب الناس إلي)) يعني الأنصار.
وعن [قتادة] عن أنس بن مالك عن أبي أسيد قال: قال رسول الله
(1/235)
صلى الله عليه وسلم: ((خير دور الأنصار بنو النجار ثم بنو عبد الأشهل ثم بنو الحارث بن الخزرج ثم بنو ساعدة وفي كل دور الأنصار خير)).
فقال سعد بن عبادة رضي الله عنه ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قد فضل علينا، فقيل قد فضلكم على كثير.
[شرح]
قال الهروي [رحمه الله]: الدور ها هنا: قبائل اجتمعت في محلة، فسميت المحلة داراً، ,[ويدل على أن المراد بذلك القبائل قوله في أكثر الروايات ثم بنو فلان].
(1/236)
وتفضيل النبي صلى الله عليه وسلم دور الأنصار هو على قدر سبقهم إلى الإسلام. وفي الحديث من الفقه جواز التفضيل وأنه ليس بغيبة. [وهذا كله مما خرجه مسلم وقد اجتمع مع البخاري في أكثر ذلك].
[فصل]
وسعد بن عبادة [كانت له في الأنصار ريادة وسيادة وهو] سيد الخزرج.
كما أن سعد بن معاذ سيد الأوس، (رضي الله عنهما) وفيهما جاء الخبر المأثور أن قريشاً سمعوا صائحاً يصيح [ليلاً] [بمكة] على جبل أبي قبيس:
فإن يسلم السعدان يصبح محمد ...
بمكة لا يخشى خلاف المخالف ...
[فظنت قريش أنه يعني غيرهما،] فلما كان في الليلة الثانية
(1/237)
سمعوا صوتاً آخر بجبل أبي قبيس:
أيا سعد سعد الأوس كن أنت ناصرا ...
ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف ...
أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا ...
على الله في الفردوس منية عارف ...
[فقالوا هذان والله سعد بن معاذ وسعد بن عبادة].
وسعد بن عبادة رضي الله عنه هو أبو قيس أحد الفضلاء الجلة من أهل السخاء والكرم، وأحد دهاة العرب، وهو [الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه] من بيت جود، [وذلك أنه كان هو وأبوه وجده عبادة ودليم أربعتهم موصوفين بالجود.
[وفي الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه: ((إن الجود من شيم أهل ذلك البيت لما بلغه من كرمه]، و[قيس] هو القائل: اللهم ارزقني حمداً ومجداً فإنه لا حمد إلا بفعال ولا مجد إلا بمال.
(1/238)
وكان من أصحاب علي رضي الله عنه وهو القائل في صفين:
هذا اللواء الذي كنا نحف به ...
مع النبيين وجبريل لنا مدد ...
ما ضر من كانت الأنصار عيبته ...
أن لا يكون له من غيرهم أحد ...
قوم إذا حاربوا طالت أكفهم ...
بالمشرفية حتى يفتح البلد ...
[وكان قيس مع ذلك موصوفاً بالدهاء والرأي والمكيدة في الحرب].
و[لما] حكى [الحافظ أبو عمر رحمه الله] عن الشعبي [رحمه الله]، والأصمعي: أن دهاة العرب أربعة: معاوية
(1/239)
ابن أبي سفيان وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وزياد ابن أبيه، فأما معاوية فللاناة والحلم، وأما المغيرة فللبديهة وأما عمرو فللمعضلات وأما زياد فللصغيرة والكبيرة].
قال [الحافظ] أبو عمر رحمه الله: ويقولون إن قيس بن سعد بن عبادة لم يكن في الدهاء بدون هؤلاء مع كرم كان فيه
(1/240)
[وفضل] [وله في ذلك حكايات مشهورة].
وخرج البخاري رحمه الله عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق فمن أحبهم أحب الله ومن أبغضهم أبغضه الله)).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاءت امرأة من الأنصار ومعها صبي لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((والذي نفسي بيده إنكم من أحب الناس إلي مرتين)). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مر أبو بكر والعباس رضي الله عنهما بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون فقال وما يبكيكم، قالوا ذكرنا مجلس [النبي] صلى الله عليه وسلم [منا] فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد عصب على رأسه حاشية برد، قال فصعد المنبر ولم يصعده بعد ذلك اليوم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم وبقى الذي
(1/241)
لهم فأقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم)).
وخرج الترمذي -رحمه الله- عن زيد بن أرقم [رضي الله عنه] أنه كتب إلى أنس بن مالك [رضي الله عنهما] يعزيه [فيمن] أصيب من أهله وبني عمه يوم الحرة، وكتب إليه: [أنا أخبرك] ببشرى من الله، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اللهم اغفر للأنصار ولذراري الأنصار ذراريهم))، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.
وخرج عن أنس [رضي الله عنه] عن أبي طلحة [رضوان الله عليه] قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أقرئ قومك السلام فإنهم
(1/242)
ما علمت أعفة صبر))، هذا حديث حسن صحيح.
[وفي بعض الأخبار. عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من أحد من المهاجرين إلا وللأنصار عليه شكراً، لقد آووا خائفنا وأطعموا جائعنا ومرضوا مريضنا، استوصوا بالأنصار خيراً، فإنهم ربوا الإسلام كما يربى الفرخ، وبهم جوهد العدو وأمنت السبل ودر الفيء].
[وعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر))، هذا حديث حسن صحيح.
ومن مشكل الحديث قوله صلى الله عليه وسلم ((إني لأجد نفس ربكم هو قبل اليمن. قال أبو بكر بن فورك رحمه الله: معناه إني لأجد تفريج الله وتنفيسه عني بنصرته إياي من قبل أهل اليمن، وذلك لما كف الله من أذى المشركين على أيدي الأنصار ومن هاجر من أهل اليمن، ولا خفاء أن الأنصار يمنيون، فبحق ما ساغ التأويل في حمله على أن المراد به الأنصار لأنهم يمنيون وغيرهم ممن هاجر من أرض اليمن.
وكان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما كان يمدح أهل اليمن، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(1/243)
((الإيمان يمان والحكمة يمانية)).
وقوله صلى الله عليه وسلم في كلام جرى: ((إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع. ((افتتح به أبو العباس أحمد بن يزيد رحمه الله كتابه الكامل، والمعنى: أنتم إذا استغيث بكم أغثتم، وإذا استنجدتم على النصرة أعنتم].
و[خرج البخاري عن ثابت البناني] عن أنس بن مالك (قال: خرجت مع جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنهما في سفر فكان يخدمني، فقلت له لا تفعل! فقال: إني قد رأيت الأنصار تصنع برسول الله صلى الله عليه وسلم آليت أن لا أصحب أحداً منهم إلا خدمته.
(1/244)
وفي رواية: وكان جرير أسن من أنس.]
وجرير رضي الله عنه هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل وافداً من اليمن: يطلع عليكم من هذا الفج خير ذي يمن، عليه مسحة ملك، فطلع جرير. وكان يقول فيه عمر رضي الله عنه: جرير بن عبد الله يوسف هذه الأمة، يعني في حسنه، وفيما روي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه، ويروى أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك في غيره.
[وذكر ابن إسحاق وغيره في أخبار بدر] [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار في لقاء المشركين ببدر] [فـ]ـقام أبو بكر [الصديق،
(1/245)
فقال وأحسن، ثم قام عمر فقال وأحسن، ثم قام المقداد، فقال: يا رسول الله امض لما أراد الله، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إن ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا معكم مقاتلون، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له]، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أشيروا علي، وإنما يريد الأنصار لأنهم عدد الناس، وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا براء من دمائك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا، [نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا]، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى نصره إلى على من دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليه أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم، فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله! قال أجل! قال: [قد] آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك [عهودنا ومواثيقنا] على السمع
(1/246)
والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقي بنا عدونا غداً، إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله.
فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد [رضي الله عنه] [وبسطه] ذلك ثم قال: سيروا وأبشروا فإن الله [تعالى] قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم.
[تفسير]
الطائفتان: العير والنفير، والعير هي عير قريش التي أقبلت من الشام بالتجارة ومعها أربعون راكباً، فيهم أبو سفيان وعمرو بن العاص، والنفير هم الذين استنفرهم أبو جهل لحماية العير، وهم الذين قتل الله ببدر صناديدهم.
(1/247)
وذكر ابن إسحاق أيضاً قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة ودخلها [و] قام على الصفا يدعو [الله] وقد أحذقت به الأنصار فقالوا فيما بينهم: أترون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها، فلما فرغ صلى الله عليه وسلم من دعائه قال ماذا قلتم؟ قالوا: لا شيء يا رسول الله، فلم يزل بهم حتى أخبروه، فقال [النبي] صلى الله عليه وسلم ((المحيا محياكم والممات مماتكم)).
ونحوه: قوله صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الثانية حين قال له أبو الهيثم بن التيهان الأنصاري رضي الله عنه: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالاً، يعني اليهود، وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا، [قال:]
(1/248)
فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: بل الدم الدم والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم.
قال ابن هشام [رحمه الله]: معنى الهدم: الحرمة، يقول: حرمتي حرمتكم وذمتي ذمتكم.
وفي أخبار أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم : مر بدار من دور الأنصار، فسمع البكاء على قتلاهم، فذرفت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: لكن حمزة لا بواكي له، فلما رجع سعد بن معاذ وأسيد بن حضير إلى دار بني عبد الأشهل أمرا نساءهما أن يذهبن فيبكين على عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بكاءهن قال: رحم الله الأنصار فإن المؤاساة منهن ما علمت لقديمة، مروهن فلينصرفن، فبقيت الأنصار بعد ذلك لا تبكي امرأة لهم على ميت إلا بدأت بالبكاء على حمزة ثم بكت ميتها، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لكن حمزة لا بواكي له)).
(1/249)
[تتميم]
أسيد بن حضير وسعد بن معاذ وعباد بن بشر، من فضلاء الصحابة رضي الله عنهم، وكلهم من بني عبد الأشهل، وكان أسيد ابن حضير من أحسن الناس [صوتاً بالقرآن]، وهو الذي استمعت الملائكة قراءته، توفي في خلافة عمر رضي الله عنهما، وقيل حمله عمر بنفسه حتى وضعه بالبقيع وصلى عليه.
وعباد بن بشر هو الذي كانت تضيء له عصاه ليلاً إذ كان يخرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم [إلى بيته] وعرض له ذلك مرة مع أسيد بن حضير
(1/250)
فلما افترقا أضاءت لكل واحد منهما عصاه.
وكان عباد [رضي الله عنه]. فيمن قتل كعب بن الأشرف اليهودي وله في ذلك شعر حسن، واستشهد يوم اليمامة رضوان الله عليه.
[تنبيه
وفي الحديث من الفقه إباحة البكاء على الميت وإظهار التفجع عليه.
(1/251)
وفي بعض الآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بنسوة من الأنصار يبكين فزجرهن عمر رضي الله عنه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((دعهن يا عمر فإن النفس مصابة والعين دامعة والعهد قريب))، ولما استشهد زيد بن الخطاب، رضي الله عنه باليمامة وكان صحبة رجل من بني عدي بن كعب فرجع إلى المدينة فلما رآه عمر رضي الله عنه دمعت عيناه وقال: وخلفت زيداً ثاوياً وأتيتني، وقال رضي الله عنه ما هبت الصبا إلا وجدت نسيم زيد، وكان إذا أصابته مصيبة قال: قد فقدت زيداً فصبرت)).
(1/252)
ووقف معاوية رضي الله عنه على قبر أخيه عتبة رحمه الله فدعا له وترحم عليه ثم التفت إلى من معه فقال: لولا أن الدنيا بنيت على نسيان ما نسيت عتبة أبداً.
وتوفي خالد بن الوليد رضي الله عنه أيام عمر رضوان الله عليه فقال رضي الله عنه:
ما على نساء بني المغيرة أن يرقن من دموعهن على أبي سليمان.
وبالجملة فإن دمع العين وحزن القلب مباح بالسنة وعليه جماعة العلماء.
(1/253)
بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم عليه السلام وقال إنه رحمة وذلك من حديث جابر وأنس رضوان الله عليهما.
وبكى صلى الله عليه وسلم على ابنته زينب رضي الله عنها فقيل له تبكي فقال: إنما هي رحمة جعلها الله في قلوب عباده ((من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه.
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله لا يعذب بدمع العين ولا حزن القلب وإنما يعذب بهذا -وأشار إلى لسانه- أو يرحم)).
(1/254)
قال القاضي أبو بكر رحمه الله وهذا تفضل منه سبحانه حين علم عجز الخلق عن الصبر فأذن لهم في الدمع والحزن ولم يؤاخذهم فيه وخطم الفم بالزمام عن سوء الكلام فنهى عما نهى وأمر بالتسليم والرضى بنافذ القضاء وخاصة عند الصدمة الأولى.
ويروى عن سليمان بن عبد الملك رحمه الله قال عند موت ابنه أيوب لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وجابر بن حيدة رحمه الله إني لأجد في كبدي جمرة لا تطفيها إلا عبرة فقال عمر: إنا لله يا أمير المؤمنين وعليك الصبر فنظر إلى رجاء بن حيوة كالمستريح إلى مشورته، فقال رجاء: أفضها يا أمير المؤمنين وعليك الصبر، فما بذلك من بأس، فقد دمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنه إبراهيم وقال: العين تدمع والقلب يرجع ولا أقول ما يسخط الرب وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون. فأرسل سليمان عينيه فبكى حتى قضى أرباً، فقال: لو
(1/255)
لم أنزف هذه العبرة لانصدعت كبدي، وتمثل على قبره لما دفنه فقال:
وقفت على قبر مقيم بقفرةٍ ... متاعٌ قليلٌ من مذنبٍ مفارق
قال الإمام أبو بكر الطرطوشي: البكاء مباح إلى أن يخرج الروح فإذا خرج كره البكاء لما روى عبد الله بن عتيك، قال جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن ثابت يعوي فصاح به فلم يجبه فاسترجع النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ((غلبنا عليك يا أبا الربيع فصاح النسوة وبكين فجعل ابن عتيك يسكتهن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((دعهن،
(1/256)
فإذا وجب فلا تبكين في باكية، يعني مات].
وروى ابن إسحاق [رحمه الله] عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أعطى العطايا في قبائل العرب، يعني بعد الفتح وحنين والطائف، ولم يكن في الأنصار منها شيء، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال يا رسول الله: إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا في أنفسهم، قال فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال: [يا رسول الله] ما أنا إلا من قومي.
قال: فاجمع لي قومك في هذه الحضيرة، فلما اجتمعوا له أتاه سعد فقال: قد اجتمع هذا الحي من الأنصار، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: ((يا معشر الأنصار، مقالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها في أنفسكم، ألم آتكم ضلالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم؟
(1/257)
قالوا: بل الله ورسوله أمن وأفضل، ثم قال: ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟ فقالوا: بم نجيبك يا رسول الله، لله ولرسوله المن والفضل: فقال صلى الله عليه وسلم : ((أما والله لو شئتم لقلتم، فلصدقتم ولصدقتم أتيتنا مكذباً فصدقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك، ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار، ولو سلك الناس، شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار)).
قال: فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم وقالوا: رضينا برسول الله قسماً وحظاً، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقوا.
[بيان]
العالة: الفقراء، يقال عال الرجل إذا افتقر، وأعال إذا كثر عياله. وقرأ طاوس -رحمه الله- {ذلك أدنى ألا تعولوا} من أعال،
(1/258)
وقرأ الجمهور من عال أي مال عن الحق.
قال الخطابي رحمه الله في كلامه على هذا الحديث وفي بعض ما تأوله عليه: أن المدينة لما كانت دار الأنصار وكانت الهجرة إليها أمراً واجباً - يعني قبل الفتح، فقد يحتمل أن يكون مراده صلى الله عليه وسلم بهذا القول لولا أن الانتساب إلى الهجر سنة دينية، لا يتسع تركها لانتقلت عن هذا الاسم إليكم ولانتسبت إلى داركم فإن نزيل بلد من البلدان قد ينسب إليه إذا طال مقامه فيه.
وقوله صلى الله عليه وسلم : ((ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار)) وفي تخريج البخاري ((لو سلكت الأنصار وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار أو شعبهم)).
قال الخطابي رحمه الله وذلك أن العادة [جرت] أن يكون المرء مع قومه وقبيلته في رحيله وحلوله، وأرض الحجاز كثيرة الأودية والشعاب وإذا تفرقت الفرق سلك كل فريق منهم وادياً أو شعباً، كل واحد مع قومه إلى أن يفضي بهم إلى الجادة فيجتمعوا فيها قال: وفيه وجه آخر: وهو أن يكون المراد بقوله صلى الله عليه وسلم : الرأي والمذهب، كما يقال: ((فلان في واد وأنت في واد))، قال وعلى هذا يتأول قوله عز
(1/259)
وجل: {ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون}.
[وذكر أنه وصل إلى أبي بكر رضي الله عنه مال من البحرين، فغضبت الأنصار وقالوا لنا فضلنا وذلك لما ساوى فيه أبو بكر رضي الله عنه بين الناس، فقال أبو بكر رضوان الله عليه: صدقتم إن أردتم أن أفضلكم صارماً عملتم للدنيا، وإن كان ذلك لله عز وجل، فقالوا: والله ما عملنا إلا لله تعالى فانصرفوا، فرقي أبو بكر رضي الله عنه المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم ثم قال: ((يا معشر الأنصار لو شئتم أن تقولوا لنا آويناكم في أطلالنا وشاطرناكم في أموالنا ونصرناكم بأنفسنا لقلتم، وإن لكم من الله فضل لا يحصيه، العدد وإن طال له الأحد، فنحن وأنتم كما قال طفيل الغنوي:
جزى الله عنا جعفراً حين أزلقت ...
بنا نعلنا في الواطئين فزلت ...
أبوا أن يملونا ولو أن أمنا ...
(1/260)
تلاقي الذي يلقون منا لملت ...
هم اسكنونا في ظلال بيوتهم ...
ظلال بيوت أدفأت وأظلت] ...
(1/261)
الباب الرابع في مناقب آحاد منهم رضي الله على جميعهم
(1/263)
وأبتدئ هذا الباب بإشارة إلى المؤاخاة التي كانت بين المهاجرين والأنصار رضي الله عن [جميعهم] وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخا بين أصحابه المهاجرين والأنصار، فقال صلى الله عليه وسلم فيما روي: ((تآخوا في الله أخوين أخوين))، وكانت هذه المؤاخاة قبل بدر، فكان أبو بكر الصديق وخارجة بن زيد من بني الحارث بن الخزرج رضي الله عنهما أخوين، وكان صهراً له، وابنه زيد هو الذي تكلم بعد الموت، وذلك أنه توفي في زمن عثمان رضي الله عنهما، فسجى بثوبه، ثم إنهم سمعوا جلجلة في صدره، ثم تكلم فقال: أحمد أحمد في الكتاب الأول، صدق صدق أبو بكر الصديق [في صدره، ثم تكلم فقال: أحمد أحمد في الكتاب الأول، صدق
(1/265)
صدق أبو بكر الصديق] الضعيف في نفسه القوي في أمر الله، في الكتاب الأول صدق صدق عمر بن الخطاب القوي الأمين في الكتاب الأول، صدق صدق عثمان بن عفان على منهاجهم، مضت أربع وبقيت [سنتان] أتت الفتن وأكل الشديد الضعيف، وقامت الساعة.
قال سعيد بن المسيب: ثم هلك رجل من بني خطمة - بطن من بطون الأوس، فسجى بثوبه، فسمعوا جلجلة في صدره، ثم تكلم فقال: أخا بني الحارث بن الخزرج صدق صدق، وكانت وفاته في خلافة عثمان رضي الله عنه.
وروى أيوب السختياني وغيره عن ربعي بن حراش أنه قال: مات أخ لي كان أطولنا صلاة وأصومنا في اليوم الحار
(1/266)
فسجيناه وجلسنا عنده فبينما نحن كذلك إذ كشف عن وجهه فقلت سبحان الله أبعد الموت فقال: أنى لقيت ربي فتلقاني بروح وريحان وكساني ثياباً خضراً من سندس وإستبرق، أسرعوا بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه قد أقسم أن لا يبرح حتى أدركه، وأن الأمر أهون مما تذهبان إليه، فلا تغتروا، ثم والله كأنما نفسه حصاة، فألقيت في طست، [ولابن أبي الدنيا كتاب ((الآيات ومن تكلم بعد الموت))]. وكان عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك الخزرجي أخوين، وعثمان بن عفان وأوس
(1/267)
ابن ثابت بن المنذر أخو حسان بن ثابت أخوين، وطلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك أخوين، وكعب بن مالك هو أحد شعراء رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلاثة وهم عبد الله بن رواحة وكعب وحسان المؤيد بروح القدس، وهو أحد الثلاثة الذين أنزل الله [تعالى] فيهم: ((وعلى الثلاثة الذين خلفوا)) وهم كعب وهلال ابن أمية، ومرارة بن الربيع وكلهم من الأنصار [أيضاً]. توفي
(1/268)
في خلافة معاوية رضي الله عنه، وهو القائل يوم الدار: يا معشر الأنصار يا أنصار الله انصروا الله مرتين، وقد روى هذا الكلام عن غيره.
وكان سعيد بن زيد وأبي بن كعب أخوين، وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع أخوين، وأبو عبيدة عامر بن عبد الله ابن الجراح وسعد بن معاذ أخوين، وصهيب والحارث بن
(1/269)
الصمة أخوين، وسلمان وأبو الدرداء أخوين، ومصعب بن عمير وأبو أيوب الأنصاري أخوين، وأبو أيوب [رضي الله عنه] هو الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحفظ، فقال: ((اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني))، وكان قد بات متوشحاً سيفه يحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بنائه بصفية رضي الله عنها، وعليه
(1/270)
نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة، فلم يزل عنده حتى بنى مسجده، وكان مع علي رضي الله عنه في حروبه، واختلف في شهوده صفين، ومات بالروم غازياً مع يزيد في زمن أبيه معاوية رضي الله عنه.
روي أن أبا أيوب رضي الله عنه لما ثقل أتاه يزيد عائداً، فقال: حاجتك أبا أيوب؟ فقال أما دنياكم فلا حاجة لي بها، ولكن ادفني ما استطعت في بلاد العرب فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يدفن عند سور القسطنطينية رجل صالح، وقد رجوت أن أكونه. فلما مات [رحمه الله] أمر يزيد بتكفينه وحمله على السرير فرأى ذلك قيصر فأرسل إلى يزيد: ما هذا الذي أري؟ فقال هذا صاحب
(1/271)
نبينا، وقد سألنا أن ندفنه في بلادك ونحن منفذون وصيته أو تلحق أرواحنا بالله، فأرسل إليه، العجب كل العجب كيف تدهى العرب أباك وتعهد إلى صاحب نبيكم فتدفنه في بلادنا، فإذا وليت أخرجناه، فقال يزيد إني والله لما أردت أن أودعه بلادكم حتى أودع كلامي آذانكم وإني كافر بالذي أكرمت هذا له، لئن بلغني أنه نبش من قبره لا تركت بأرض العرب نصرانياً إلا قتلته ولا كنيسة إلا هدمتها، فبعث إليه قيصر: أبوك كان أعلم بك، فو حق المسيح لأحفظنه، فيذكر أنه بنى على قبره قبة [يسرج فيها] وهو معلوم هناك بقرب [سور] القسطنطينية.
قال ابن القاسم عن مالك [بن أنس] [رضي الله عنه] بلغني عن أبي أيوب أن الروم يستصحون به ويستسقون، فتولى الله تعالى حفظ أبي أيوب بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالحفظ.
بيان
وكانت هذه المؤاخاة للمهاجرين مع الأنصار عند مقدم المدينة لتذهب عنهم وحشة الغربة ويأنسوا من مفارقة الأهل والعشيرة وليشتد أزر بعضهم ببعض، فلما عز الإسلام وانتظم الشمل وذهبت
(1/272)
الوحشة، أنزل الله تعالى: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب الله} يعني في الميراث، ثم جعل المؤمنين كلهم إخوة يعني في التواد وشمول الدعوة. وقد كان المهاجرون والأنصار يتوارثون بهذه المؤاخاة.
قال ابن عباس رضي الله عنه: فنسخه قول الله عز وجل: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ} الآية ورد المواريث إلى القرابات.
فصل
روى قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: افتخر الحيان الأوس والخزرج، فقالت الأوس منا غسيل الملائكة حنظلة بن أبي عامر،
(1/273)
ومنا الذي حمت لحمه الدبر عامر بن ثابت بن أبي الأقلح، ومنا الذي اهتز العرش لموته سعد بن معاذ، ومنا من أجيزت شهادته شهادة رجلين: خزيمة بن ثابت، فقالت الخزرج: منا أربعة جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب معاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد.
(1/274)
[بيان وتتميم]
حنظلة الغسيل قتل يوم أحد شهيداً وكان قد ألم بأهله ثم هجم عليه من الخروج ما أنساه الغسل وعجله عنه، فلما قتل رضي الله عنه أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الملائكة غسلته.
وذكر غير ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رأيت الملائكة تغسله في صحاف الفضة بماء المزن بين السماء والأرض: قال ابن إسحاق: سئلت امرأته فقالت: كان جنباً. وامرأته هي جميلة بنت أبي بن سلول أخت عبد الله بن أبي، وكان قد بنى بها تلك الليلة فكانت عروساً عنده، فرأت في النوم تلك الليلة كأن باباً في السماء قد فتح له فدخل ثم أغلق دونه، فعلمت أنه ميت من غده.
ويذكر أنه التمس في القتلى فوجدوه يقطر رأسه ماء [وليس بقربه
(1/275)
ماء] تصديقاً لما أخبر به الصادق [صلوات الله عليه].
قال بعضهم وفي هذا الخبر متعلق لمن قال من الفقهاء: إن الشهيد يغسل إذا كان جنباً، ومنهم من قال لا يغسل كسائر الشهداء لأن التكليف ساقط عنه بالموت.
[قال الإمام أبو عبد الله اختلف أصحابنا في ذلك فقال أشهب وابن الماجشون: لا يغسل.
وقال سحنون: يغسل، وكذلك اختلف أصحاب الشافعي
(1/276)
فيه أكثرهم على أنه لا يغسل، واحتج من قال بغسله بهذا الأثر، ومن أنكر أجاب عنه بأن غسل الملائكة لا يسقط ما يثبت من الغسل، ولو كان غسله واجباً لأمر به ويعتل بأن الشهادة تغني عن الغسل جملة، فلا تثبت بمعنى آخر كما لا تغتسل الحائض إذا احتلمت، ولا يطهر الشهيد الطهارة الصغرى].
وابن حنظلة الغسيل هو عبد الله أمير الأنصار في وقعة الحرة، وأصيب هو وبنوه بها رحمهم الله. وأما عاصم المحمى فكان [قد] خرج في سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم أميراً [على السرية] [في قول] حتى إذا كانوا ببعض الطريق تبعتهم بنو لحيان -حي من هذيل- فلجؤوا إلى فدفد فأحاطوا بهم، فقالوا لكم
(1/277)
العهد والميثاق ألا نقتل منكم رجلاً، فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر فقاتلوهم حتى قتلوا عاصماً [رضي الله عنه].
وكان عاصم قد قتل ببدر أحد عظماء قريش فعلموا الخبر بمكة، فبعثوا ليؤتى بجسده، فبعث الله عليه مثل الظلة [-وهي السحابة-] من الدبر وهي ذكور النحل، فحمته من رسلهم، فلم يقدروا على شيء منه، فلما أعجزهم قالوا إن الدبر سيذهب إذا جاء الليل فما جاء الليل حتى بعث الله عز وجل مطراً جاء بسيل حمله فلم يوجد.
وكان عاصم رضي الله عنه قد أعطى الله عهداً أن لا يمسه مشرك وأن لا يمس مشركاً، فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول [حين بلغه أن الدبر حمته] يحفظ الله العبد المؤمن، كان عاصم نذر أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركاً أبداً في حياته فمنعه الله
(1/278)
بعد فاته كما امتنع منه في حياته.
وعاصم هذا هو جد عاصم بن عمر بن الخطاب، فعاصم ابن عمر أمه جميلة بنت عاصم بن جميلة بنت عاصم بن ثابت، وقيل: بل هي أخت عاصم، فهي بنت ثابت.
قال الحافظ أبو عمر رحمه الله: وعلى هذا الأكثر، وعاصم بن عمر هذا هو جد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، أبو أمه، وأمه هي أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] ومن ولد عاصم بن ثابت الأحوص الشاعر، واسمه عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عاصم بن ثابت، وهو القائل:
(1/279)
فخرت وانتمت فقلت ذريني ...
ليس جهل أتيته ببديع ...
غسلت خالي الملائكة الأبرار ...
ميتاً أكرم به من صريع ...
وأنا ابن الذي حمت لحمه الدبر ...
قتيل اللحيان يوم الرجيع ...
والأبيات يفاخر بها سكينة بنت الحسين بن علي رضي الله عنهم.
قال أبو زياد قد لعمري فخر بفخر لو على غير سكينة فخر به وبأبي سكينة صلى الله عليه وسلم حمت لحم أبيه الدبر وغسلت خاله الملائكة].
والرجيع: اسم [ماء لهذيل بناحية الحجاز] [الموضع الذي أصيبت فيه تلك السرية] وإلى ذلك أشار حسان رحمه الله بقوله [يرثي من قتل به من المسلمين].
(1/280)
[صلى الله على الذين تبايعوا ...
يوم الرجيع وأكرموا وأثيبوا ...
وقال أيضاً]:
إن سرك الغدر صرفاً لا مزاج له ...
فأت الرجيع فسل عن دار لحيان ...
[وقال الأحوص يخاطب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يشير إلى ما تقدم من قرابته منه.
أيا راكباً إما عرضت فبلغن ...
هديت أمير المسلمين وسائل ...
وقل لأبي حفص إذا ما لقيته ...
لقد كنت نفاعاً قليل الغوائل ...
وكيف تري العيش طيباً ولذة ...
وخالك أمسى موثقاً في الحبائل ...
وكان سليمان بن عبد الملك رحمه الله قد غربه عن المدينة إلى أن صار
(1/281)
الأمر لعمر رضي الله عنه فكلم فيه فذكر ما قاله في التشبب بنساء ذوات إحصان إلى أن قال: فمن الذي يقول:
سيبقى لها في مضمر القلب والحسن ...
سريرة حب يوم تبلى السرائر ...
قالوا: الأحوص، قال إنه عنها يومئذ لمشغول لا أرده ما دام لي سلطان فأبقاه بموضعه إلى أن سرحه يزيد بعده.
وعن الحسن رضي الله عنه سمع البيت فقال:
ما أغفله عما في السماء والطارق. ولما ولي عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الخلافة أدنى زيد بن أسلم رضي الله عنه وجفا الأحوص فقال:
ألست أبا حفص هديت مخبري ...
أفي الحق أن أقصى ويدنى ابن أسلما ...
فقال عمر رحمه الله ذلك هو الحق ...
(1/282)
رجع الحديث] وكان في هذه السرية خبيب بن عدي الأنصاري الأوسي رضي الله عنه فانطلق به إلى مكة أسيراً.
قال ابن إسحاق: فابتاعه حجير بن ابي إهاب وحكى عن مارية مولاة حجير وكانت قد أسلمت قالت كان خبيب يحبس في بيتي، فلقد اطلعت عليه يوماً وإن في يده لقطفاً من عنب مثل رأس الرجل يأكل منه، وما أعلم في الأرض عنباً يؤكل.
(1/283)
زاد غير ابن إسحاق: وكان موثقاً في الحديد، وما كان إلا رزقاً آتاه الله إياه.
ولما جاءوا به إلى القتل قال إن رأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا، قالوا دونك فاركع ركعتين، فركع ركعتين، أتمهما وأحسنهما ثم أقبل على القوم فقال أما والله لولا أن تظنوا بي أني [إنما] طولت [جزعاً] [من القتل] لاستكثرت من الصلاة، فكان خبيب أول من سن الركعتين عند القتل، وكذلك فعل حجر ابن عدي الكندي رحمه الله حين قتله معاوية رضي الله عنه، وذلك أن زياداً كتب إلى معاوية من البصرة [يذكر] أن
(1/284)
حجراً وأصحابه قد خرجوا على السلطان وشقوا عصا المسلمين ووجه مع الكتاب بصك فيه شهادة عليه من التابعين رضي الله عنهم بما قال زياد من خروج حجر ابن عدي، وكان قد أنكر على زياد أموراً فخرج عليه ولم يكن قصده الخروج على معاوية فلما حمل حجر إلى معاوية مع أصحابه قال السلام عليك يا أمير المؤمنين فقال معاوية أو أنا للمؤمنين أمير، [ثم أمر بقتله] فعند ذلك صلى حجر الركعتين، فصلاهما خفيفتين ثم قال لولا أن تظنوا بي غير الذي بي لأطلتهما، والله لئن كانت صلاتي لم تنفعني فيما مضى ما هما بنافعتي.
ولما بلغ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ما صنع زياد في حق حجر
(1/285)
بعثت إلى معاوية عبد الرحمان بن الحارث بن هشام: الله الله في حجر وأصحابه فوجود عبد الرحمان قد قتل هو وخمسة من أصحابه فقال لمعاوية أين غرب عنك حلم أبي سفيان في حجر وأصحابه، ألا حبستهم في السجون وعرضته للطاعون؟ فقال له معاوية: حين غاب عني مثلك من قومي، قال والله لا تعد لك العرب حلماً بعد هذا أبداً، ثم قدم معاوية المدينة فدخل على عائشة رضوان الله عليها [فكان أول ما بدأته به قتل حجر في كلام طويل، ثم قال دعيني وحجراً حتى نلتقي عند ربنا.
وقد صلاهما زيد بن حارثة رضي الله عنه في خبر عجيب رواه الحافظ أبو عمر عن الليث بن سعد رحمهما الله: قال بلغني أن
(1/286)
زيد بن حارثة اكترى من رجل بغلاً اشترط عليه الكرى أن ينزل به حيث شاء، قال فمال به إلى خربة فقال له انزل فنزل فإذا في الخربة قتلى كثيرة، قال فلما أراد أن يقتله قال دعني أصلي ركعتين قال صل فقد صلى قبلك هؤلاء فلم تنفعهم صلاتهم شيئاً. قال فلما صليت أقامني ليقتلني فقلت يا أرحم الراحمين! قال فسمع صوتاً: لا تقتله، قال: فهابه ذلك، فخرج يطلب فلم ير شيئاً، فرجع إلي فناديت يا أرحم الراحمين! ففعل ذلك ثلاثاً فإذا أنا بفارس على فرس بيده حربة حديد في رأسها شعلة نار فصفعه بها فأنفذه من ظهره فوقع ميتاً، ثم قال: لما دعوت الأولى كنت في السماء السابعة فلما دعوت الثانية كنت في السماء الدنيا فلما دعوت الثالثة أتيتك.
رجع الكلام إلى خبر خبيب رضي الله عنه فمن مأثور كلامه عند القتل معهم دعاء دعا به قوله في أبيات منها:
ولست أبالي حين أقتل مسلما ...
على أي جنب كان في الله مصرع ...
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ...
يبارك على أوصال شلو ممزع ...
(1/287)
وفي تلك السرية أنزل الله تعالى فيما حكاه ابن إسحاق {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد} أي شروا أنفسهم من الله بالجهاد في سبيله والقيام بحقه حتى هلكوا، ويشري نفسه أي يبيع نفسه.
وحكى غيره أن الآية نزلت في صهيب بن سنان رضي الله عنه إذ كان أحد من عذب في الله بمكة عذب في الله بمكة عذبه المشركون فترك لهم ما له وخرج إلى المدينة.
وقيل نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين أرادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم [عند] الهجرة ونام على فراشه وقيل غير ذلك.
وفي بعض التفسير في قوله تعالى:
{يأيتها النفس المطمئنة. ارجعي إلى ربك راضيةً مرضيةً} الآية.
نزلت في خبيب بن عدي حين صلبه أهل مكة، وجعلوا وجهه رضي الله عنه إلى المدينة، فقال: ((اللهم إن كان لي عندك خير فحول وجهي نحو قبلتك)) فحول الله وجهه نحوها فلم يستطع أحد
(1/288)
أن يحوله، ومن شعر حسان في هذه السرية قوله:
لعمري لقد شانت هذيل بن مدرك ...
أحاديث كانت في خبيب وعاصم ...
وقال:
فليت خبيباً لم تخنه أمانة ...
وليت خبيباً كان بالقوم عالماً ...
رجع الكلام إلى الخبر المروي في افتخار الحيين: وذو الشهادتين خزيمة بن ثابت يعرف بذي الشهادتين لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل شهادته كشهادة رجلين، وكان مع علي رضي الله عنه بصفين وبها مات رحمه الله ورضي عنه.
(1/289)
قال أبو القاسم السهيلي: والإضافة بنو أشرف من الإضافة بصاحب لأن ذو تضاف إلى التابع وصاحب إلى المتبوع وبذلك تسميت الأقبال من حمير الأذواء، كذي رعين وذي عمرو وذي كلاع، وفي الإسلام: ذو العين وذو الشهادتين وذا الشمالين وذو اليدين، وفي العرب ذو الجدين كل ذلك تفخيم للمسمى، وسعد بن معاذ هو الذي اهتز العرش لموته.
خرج البخاري رحمه الله في صحيحه عن جابر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((اهتز العرش لموت سعد بن معاذ وفي رواية اهتز عرش الرحمان عز وجل لموت سعد بن معاذ. وفي ذلك قال حسان رحمه الله:
وما اهتز عرش الله من فقد هالك ...
سمعنا به إلا سعد أبي عمرو ...
وقال الإمام أبو عبد الله: ذهب بعض أهل العلم إلى إجراء الحديث على حقيقته وزعم أن العرش تحرك لموته. قال الإمام وهذا
(1/290)
لا يذكر من جهة العقل لأن العرش جسم من الأجسام يقبل الحركة] والسكون والمراد بذلك أن تكون حركته علامة على [فضله عند الله عز وجل] وأن الله [جل وتعالى] يحركه على عظمته إشعاراً للملائكة بفضل هذا الميت. وحمله بعض أهل العلم على أن المراد به حملة العرش فيكون على حذف مضاف كقوله عز من قائل: {وسئل القرية} ((أي أهل القرية، وقوله صلى الله عليه وسلم في أحد: ((جبل يحبنا ونحبه)). والمراد بذلك الأهل، ويكون الاهتزاز في ذلك بمعنى الاستبشار والقبول والعرب تقول فلان يهتز للمكارم، يعني ارتياحه إليها وقبوله عليها، وتأول بعضهم اهتزاز العرش على تعظيم شأن وفاته، والعرب تنسب الأمر إذا عظمته لا عظم الأشياء، فتقول: قامت لموت فلان القيامة، وأظلمت له الأرض.
(1/291)
ومات سعد بن معاذ رضي الله عنه من جرح أصابه يوم الخندق بعد أن أجاب الله تعالى دعوته وأقر عينه في بني قريظة، وحكم فيهم بحكم الله.
ومن كلامه المأثور عنه: [ما روى الزهري عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال: قال سعد بن معاذ] ثلاث أنا فيمن رجل [-يعني كما ينبغي-، وما سوى ذلك فأنا رجل من الناس]. ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً قط إلا علمت أنه حق من الله، ولا كنت في صلاة فشغلت نفسي بغيرها حتى أقضيها، ولا كنت في جنازة قط
(1/292)
فحدثت نفسي بغيرها، تقول: ويقال: حتى أنصرف [عنها - قال سعيد: هذه الخصال ما كنت أحسبها إلا في نبي].
وقول الخزرج: منا أربعة جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني أكملوه، وروى عن أنس في الصحيحين نحوه، وفيه تأويلات أقربها ما ذكره الحافظ أبو عمر رحمه الله من أن مراد الخزرج بذلك أن يقولوا: جمعه هؤلاء منا، ولم يجمعه أحد منكم يا معشر الأوس، وإلا ففي غيرهم من الصحابة المهاجرين من جمعه كثير.
قال الإمام أبو عبد الله: وقد نقل الرواة إكمال بعض النساء لقراءته.
قال القاضي أبو الفضل رحمه الله: وكفى بالبيان في ذلك ما نقل من أنه قتل يوم اليمامة في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه سبعون ممن جمع القرآن، وهي سنة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، فانظر من بقي ممن جمعه ولم يستشهد بها، وممن لم يحضرها، وبقي بمكة والمدينة وغيرهما من أرض الإسلام حينئذ.
وأبي بن كعب رضي الله عنه أحد فقهاء الصحابة وأقرؤهم لكتاب الله عز وجل.
خرج البخاري رحمه الله في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي: إن الله أمرني أن أقرأ عليك: ((لم يكن الذين كفروا .. .. ، قال: وسماني، قال: نعم، فبكى.
(1/293)
[شرح]
قال الإمام أبو عبد الله: يحمل الحديث على أن الله سبحانه أمره بالقراءة عليه ليعلمه لا ليتعلم عنه، وقد يعلم المعلم القرآن، ويروي المحدث الحديث إما بقراءته على المتعلم وتكرير ذلك عليه، وهو أصل التعليم، أو بقراءة المتعلم عليه، وهي الحالة الثانية، أو يكون المراد أن الله عز وجل أمره بالقراءة عليه ليعلم أمياً رتبة القراءة ومواضع المواقف، وصيغة الإيراد، فإن للقرآن إيراداً على أسلوب ونظام قد ألفه أهل الشرع، بخلاف ما سواه.
وجاء عن أنس رضي الله عنه أو رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأقواهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم علي بن أبي طالب وأقرؤهم أبي بن كعب وأفرضهم زيد بن ثابت، وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر، ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح.
وأبي أحد من كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكتب له من الأنصار أيضاً عبد الله بن رواحة وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل ومحمد بن مسلمة
(1/294)
رضي الله عنهم. [وكتب له أيضاً منهم عبد الله بن عبد الله بن أبي الأنصاري الخزرجي رضي الله عنه، وكان اسمه الحباب، وبه كان يكنى أبوه، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، ومات شهيداً رضوان الله عليه باليمامة.
وعبد الله بن عبد الله هذا هو الذي استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه في مقالة النفاق التي قالها في غزوة بني المصطلق.
قال بعضهم: وفي هذا العلم العظيم والبرهان النير من أعلام النبوة، فإن العرب كانت أشد خلق الله حمية وتعصباً، فبلغ الإيمان منهم ونور اليقين قلوبهم إلى أن رغب الرجل منهم في قتل أبيه وولده تقرباً إلى الله عز وجل وتزلفاً إليه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم أبعد الناس نسباً منهم، وما تأخر إسلام قومه وبني عمه وسبق إلى الإيمان به الأباعد إلا لحكمة عظيمة ومعجزة باهرة، إذ لو بادر أهله وأقاربه إلى الإيمان لقيل: قوم أرادوا الفخر بالرجل منهم، فلما بادر إليه الأباعد وتمالئوا على حبه وعداوة أهل الأرض في حقه علم أن
(1/295)
ذلك عن بصيرة صادقة ويقين قد تغلغل في قلوبهم، وموهبة من الله عز وجل أزالت صفة كانت قد عجت في النفوس من أخلاق الجاهلية لا يستطيع إزالتها إلا الذي فطر الفطرة الأولى، وهو القادر على ما يشاء.
ومن نحو هذا ما كان من خبر محيصة بن مسعود الأنصاري الخزرجي مع أخيه حويصة، وذلك أنه لما قتل كعب بن الأشرف اليهودي، وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحض العرب عليه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من ظفرتم به من اليهود فاقتلوه، فوثب محيصة على أحد تجار اليهود، وكان يلابسهم ويبايعهم، فقتله، وكان أخوه حويصة لم يسلم إذ ذاك، وكان أسن منه، فلما قتله جعل حويصة يضربه، ويقول: أي عدو الله قتلته، لرب شحم في بطنك من ماله، قال محيصة، فقلت له: أما والله لقد أمرني بقتله من لو أمرني بقتلك لقتلك، قال: أما والله إن دينا بلغ بك هذا لعجب، فأسلم حويصة، وكان ذلك أول إسلامه.
ومن هذا النحو ما روى عن عمر رضي الله عنه أنه قال لسعيد بن العاص،
(1/296)
وكان عمر رضي الله عنه قتل أباه يوم بدر كافراً، فقال عمر رضوان الله عليه: لم أقتل أباك، إنما قتلت خالي العاص بن هشام، وما بي أن أعتذر من قتل مشرك، فقال له سعيد: ولو قتلته كنت على الحق وكان على الباطل، فعجب عمر رضي الله عنه من قوله، وقال: قريش أفضل الناس أخلاقاً].
فصل
ترجم أبو العباس محمد بن يزيد رحمه الله في آخر كتابه: باب ذكر الأذواء من اليمن، فذكر رجالاً من الأنصار، منهم ذو الشهادتين، وقد تقدم ذكره رضي الله عنه. ومنهم ذو العين قتادة بن النعمان الأنصاري الأوسي، وأصيبت عينه بأحد حتى وقعت على
(1/297)
وجنته، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت أحسن عينيه وأحدهما نظراً، وكان تعتل عينه الصحيحة ولا تعتل المردودة معها، وقدم رجل من ولده على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فقال له: ممن الرجل؟ فقال:
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه ... فردت بكف المصطفى أحسن الرد
فعادت كما كانت لأول أمرها ... فيا حسن ما عين ويا حسن ماخذ
فقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه:
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيباً بماء فعادا بعد أبوال
وقتادة هو أخو أبي سعيد الخدري لأمه، وأبو سعيد الأنصاري من بني خدرة من الخزرج رضي الله عنه.
وقتادة بن النعمان هو الذي روى عنه أخوه أبو سعيد رضي الله
(1/298)
عنهما حديث قل هو الله أحد وأنها تعدل ثلث القرآن، وحديثه في الموطأ.
خرج مالك رحمه الله في موطئه عن أبي سعيد أنه سمع رجلاً يقرأ قل هو الله أحد يرددها، قلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، وكان الرجل يتقالها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن.
قال الحافظ: أبو عمر رحمه الله: رواه قوم من الثقات عن أبي سعيد عن أخيه لأمه قتادة، قال والرجل القارئ لها الذي كان يتقالها هو قتادة بن النعمان ومعنى يتقالها أي يراها قليلاً.
وقد اختلف الفقهاء في تأويل الحديث، فقال قوم: ذلك لما تضمنته من التوحيد والإخلاص عن الأنداد والأولاد، وقال آخرون: هي سورة خالصة ليس فيها شيء من أمر الدنيا والآخرة. وقالت طائفة: معاني القرآن ترجع إلى ثلاثة [معان]: أحدها: القصص والأخبار، والثاني: ما شرع فيه من الحلال والحرام، والثالث:
(1/299)
صفاته تبارك اسمه، وقل هو الله صفاته خاصة.
وحكى الحافظ أبو عمر [رحمه الله] عن إسحاق بن راهويه أنه قال في معنى الحديث أن الله عز وجل لما فضل كلامه على سائر الكلام جعل لبعضه فضلاً في الثوب لمن قرأه تحريضاً منه على تعلمه، لأن من قرأ [قل هو الله أحد ثلاث مرات كان كمن قرأ] القرآن كله، هذا لا يستقيم ولو قرأ قل هو الله أحد مائتي مرة.
وعلل الحافظ أبو عمر هذه الأقوال وكأنه ارتضى القول بأن ذلك [إنما] يرجع إلى الثواب، فهي تعدل ثلث القرآن في الثواب لمن تلاها، قال: وهذا هو الذي شهد له ظاهر الحديث، وهو الذي يفر إليه من خاف مواقعة تفضيل القرآن بعضه على بعض، وليس فيما يعطي الله عبده من الثواب على عمل يعمله ما يدل على فضل ذلك العمل في نفسه، بل هو فضله عز وجل يؤتيه من يشاء من عباده على ما يشاء من [عباداته].
قال الحافظ أبو عمر رحمه الله: ولسنا نقول أنها هي في ذاتها أفضل من غيرها لأن القرآن كلام الله وصفة من صفاته ولا يدخل التفاضل
(1/300)
في صفاته لدخول النقص في المفضول منها، هذا [كله] قد قاله أهل السنة من أهل الرأي والحديث.
وإلى هذا النحو أشار القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله حيث قال إن لله تعالى أن يفاضل بين الثواب في الفعلين وإن استويا، ثم قال: إن القرآن مشتمل على توحيد وأحكام ومواعظ، وقل هو الله أحد فيها التوحيد كله، ولذلك صارت تعدل ثلث القرآن.
قال الإمام أبو حامد رحمه الله: معناه تعدل ثلث المهمات، وهي معرفة الله تعالى ومعرفة الآخرة والصراط المستقيم فهذه المعارف هي المهمة، والباقي تبع وسورة الإخلاص تشتمل على واحدة من هذه الثلاثة وهي معرفة الله وتوحيده وتقدسيه عن مشاركة له في الجنس والنوع، وهو المراد بنفي الأصل والفرع والكفء والوصف بالصمد يشعر بأنه السيد الذي لا يقصد في الوجود للحوائج سواه.
وليس فيها معرفة الآخرة والصراط المستقيم بجميع طرفيه، أعني التزكية والتحلية، فلذا لا تعدل ثلث الأصول كما قال: ((الحج عرفة)) أي هو الأصل والباقي تبع.
قال الحافظ: أبو عمر رحمه الله: على أني أقول أن السكوت في مثل هذه المسألة وما كان مثلها أفضل من الكلام فيها وأسلم، وحكى عن مالك رضي الله عنه أنه قال: أهل بلدنا يكرهون الجدال والكلام البحث والنظر إلا فيما تحته عمل، يريد أن ما جاء من المتشابه فيما
(1/301)
سبيله الاعتقاد بالأفئدة أن يمر كما جاء ويؤمن به ويسلم له.
[رجع الكلام] ومنهم: ذو الرأي الحباب بن المنذر الأنصاري رضي الله عنه، وهو الذي أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل على ماء بدر للقاء القوم، قال ابن عباس رضي الله عنه: فنزل جبريل صلوات الله عليه [على النبي صلى الله عليه وسلم ] فقال: الرأي ما أشار به. الحباب.
وله في الجاهلية آراء مشهورة.
ومنهم: ذو المشتهرة أبو دجانة [الخزرجي الساعدي] قال الحافظ أبو عمر رحمه: وهو أحد الشجعان، له مقامات محمودةً في مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو من كبار الأنصار، استشهد يوم اليمامة وشارك في قتل مسيلمة.
وأبو دجانة هو الذي قاتل بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد،
(1/302)
[وحكى] ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عندما تعبأت قريش للحرب: من يأخذ هذا السيف بحقه؟، فقام رجال فأمسكه عنهم حتى قام إليه أبو دجانة فقال: وما حقه يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: أن تضرب به العدو حتى ينحني، قال: أنا آخذه يا رسول الله، أنا آخذه بحقه، فأعطاه إياه وكان أبو دجانة رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب، وكان إذا أعلم بعصابة حمراء فاعتصب بها علم الناس أنه سيقاتل، فلما أخذ السيف من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج عصابته تلك فعصب بها رأسه، ثم جعل يتبختر بين الصفين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنها لمشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن.
ومعنى: ((أعلم بعصابة)) أي صار معلماً، والمعلم هو الذي يشهر نفسه بعلامة في الحرب، قال ابن هشام: حدثني غير واحد من أهل العلم أن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: وجدت نفسي
(1/303)
حين سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف، فقلت: أنا ابن صفية عمته، ومن قريش، وقد قمت إليه فسألته إياه، فأعطاه إياه وتركني، والله لأنظرن ما يصنع، فأتبعته، فأخرج عصابة حمراء، وعصب بها رأسه، فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت، وهكذا كانت تقول إذا تعصب، فخرج وهو يقول:
إن الذي عاهدني خليلي ... ونحن بالسفح لدى النخيل
ألا أقوم الدهر في الكيول ... أضرب بسيف الله والرسول
[فجعل لا يلقى أحداً إلا قتله] [الكيول آخر الصفوف] [ومن حديث ابن هشام عن الزبير رضي الله عنه أنه قال: ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة، ثم حول السيف عنها، فقلت: الله ورسوله أعلم].
[قال ابن إسحاق: وقال أبو دجانة]: رأيت إنساناً يحمس
(1/304)
الناس حمساً شديداً، فصمدت إليه، فلما حملت عليه السيف ولول فإذا امرأة، فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أضرب به امرأة.
فقوله: يحمس [الناس حمساً]، يروى بالسين المهملة [والشين]، ومعناه على الأول يشدهم ويشجعهم، وعلى الثاني الإيقاد والإغضاب، كأنه يقول كلاماً يحتمون به.
قال أبو العباس رحمه الله: ومنهم: ذو السيفين أبو الهيتم بن التيهان الأنصاري، كان يتقلد سيفين في الحرب، [واختلف في وقت وفاته، قال بعضهم: والأصح انه شهد مع علي رضي الله عنه صفين، وأنه قتل بها رضي الله عنه، وقد اختلف هل هو أنصاري بالحلف أو بالنسب].
(1/305)
فصل
ترجم أبو العباس محمد بن يزيد رحمه الله بعد الترجمة المشار إليها ترجمة أخرى فيمن كان بينه وبين الملائكة سبب فذكر رجالاً من الأنصار أيضاً منهم سعد بن معاذ، روى من حديث سعد ابن أبي وقاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لقد نزل من الملائكة في جنازة سعد بن معاذ سبعون ألفاً ما وطئوا الأرض قبل. وروي من حديث أنس رضي الله عنه، قال: لما حملنا جنازة سعد ابن معاذ، قال المنافقون: ما أخف جنازته، وكان رجلاً طوالاً ضخماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الملائكة حملته.
وروى أن جبريل عليه السلام نزل في جنازته معتجراً بعمامة من استبرق، وقال: يا نبي الله، من هذا الذي فتحت له أبواب السماء واهتز له العرش، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعاً، فوجد سعداً قد قبض.
(1/306)
ومنهم: حارثة بن النعمان النجاري الأنصاري رضي الله عنه، وكان من فضلاء الصحابة [رضي الله عنهم]، وهو الذي رأى جبريل عليه السلام، وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته في الجنة.
ذكر عبد الرازق من روايته أن حارثة قال: مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعه جبريل، فسلمت عليه، وجزت، فلما رجعت وانصرف النبي صلى الله عليه وسلم : قال لي: هل رأيت الذي كان معي؟ قلت: نعم. قال: فإنه جبريل، وقد رد عليك السلام.
وذكر عبد الرازق أيضاً من روايته عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نمت فرأيتني في الجنة، فسمعت صوت قارئ، فقلت من هذا، قالوا: صوت حارثة بن النعمان،
(1/307)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كذلك البر كذلك البر.
وكان حارثة رضي الله عنه من أبر الناس بأمه، وتوفي في خلافة معاوية (رضي الله عنه)].
ومنهم: حسان بن ثابت رحمه الله المؤيد بروح القدس، النجاري الأنصاري، يكنى أبا الوليد، وقيل أبا عبد الرحمن، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اهجهم -يعني المشركين- وروح القدس معك.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن عمر رضوان الله عليه مر بحسان رحمه الله وهو ينشد الشعر في المسجد، فلحظ إليه، فقال: قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبي هريرة، فقال: أنشدك الله، هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أجب عني، اللهم أيده بروح القدس؟، قال: اللهم نعم.
(1/308)
وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان يوضع لحسان منبر في مؤخر المسجد، يقوم عليه، ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
[شرح وتتميم]
[المراد بـ]ـروح القدس: جبريل عليه السلام، ومعنى ينافح أي يدافع، وذلك مما كان يجاوب به شعراء أهل الشرك إذ ذاك ابن الزبعري وغيره.
وعبد الله بن الزبعري رضوان الله عليه أسلم وحسن إسلامه، وله أشعار يمدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعتذر ويستندم.
(1/309)
وكان يقال لحسان شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما أن ثابت بن قيس بن الشماس الأنصاري الخزرجي كان يقال له خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى عن عائشة رضي الله عنها أنها وصفت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: كان والله كما قال فيه شاعره حسان بن ثابت رحمه الله:
متى يبد في الداجي البهيم جبينه ... يلح مثل مصباح الدجي المتوقد
فمن كان أو من يكون كأحمد ... نظام لحق أو نكال لملحد
ولثابت وحسان مقامهما المشهور حين قدم وفد بني تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخطب خطيب وفد تميم عطارد بن حاجب خطبته المشهورة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس: قم
(1/310)
فأجب الرجل في خطبته، فقام ثابت فقال: الحمد لله الذي له السماوات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره، وسع كرسيه علمه، ولم يقض شيئاً إلا من فضله وقدرته، فكان من قدرته أن اصطفى لنا من خلقه رسولاً أكرمهم نسباً وأصدقهم حديثاً وأحسنهم رأياً، فأنزل عليه كتاباً وائتمنه على خلقه، وكان خيرة الله من العالمين، ثم دعى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان، فأجابه من قومه وذوي رحمه المهاجرون أكرم الناس أنساباً وأصبح الناس وجوهاً، وأفضل الناس أفعالاً، ثم كان أول من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب، واستجاب له نحن معشر الأنصار، فنحن أنصار الله ووزراء رسوله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا ويقولوا: لا إله إلا الله، فمن آمن بالله ورسوله منع من ماله ودمه، ومن كفر بالله ورسوله جاهدناه في الله حق جهاده، وكان جهاده علينا يسيراً، أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات.
وقام الزبرقان بن بدر [ينشد] فيما ذكر ابن إسحاق [قال]:
وكان حسان غائباً، فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال حسان: فجاءني رسوله، فأخبرني أنه إنما دعاني لأجيب شاعر بني تميم، فخرجت
(1/311)
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أقول:
منعنا رسول الله إذ حل وسطنا ... على أنف راض من معد وراغم
منعناه لما حل بين بيوتنا ... بأسيافنا من كل باغ وظالم
بيت حريد عزه وثراءه ... بجابية الجولان وسط الأعاجم
هل المجد إلا السؤدد العود والندى ... وجاه الملوك واحتمال العظائم
فلما فرغ الزبرقان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لحسان قم فأجب الرجل، فقام حسان بقصيدته المشهورة التي أولها:
إن الذوائب من فهم وإخوتهم ... قد بينوا سنة للناس تتبع
يرضى بهم كل من كانت سريرته ... تقوى الإله وكل الخير يصطنع
قوم إذا حاربوا ضروا عدوهم ... أو حاولوا النفع في أشياعهم نفع
سجية تلك منهم غير محدثة ... إن الخلائق فاعلم شرها البدع
(1/312)
إن كان في الناس سباقون بعدهم ... فكل سبق لأدنى سبقهم تبع
لا يرفع الناس ما أوهت أكفهم ... عند الدفاع ولا يوهون ما رفع
أعفة ذكرت في الوحي عفتهم ... لا يبخلون ولا يرويهم طمع
أكرم بقوم رسول الله شيعتهم ... إذا تفرقت الأهواء والشيع
أهدى لهم مدحتي قلب يوازره ... فيما أحب لسان حائك صنع
فلما فرغ حسان من قوله، قال الأقرع بن حابس: وأبي إن هذا الرجل لموتى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من
(1/313)
شاعرنا، [ولأصواتهم أعلى من أصواتنا]
ولحسان قصيدته المشهورة في يوم الفتح التي أولها:
عفت ذات الأصابع فالجواء ... إلى عذراء منزلها خلاء
ذات الأصابع: منزل بالشام، والجواء كذلك، وبالجواء كان منزل الحارث بن أبي شمر، وكان حسان [رحمه الله] كثيراً ما يرد على ملوك غسان بالشام يمدحهم، فلذلك يذكر هذه المنازل.
وعذراء قرية عند دمشق، وبها قتل حجر وأصحابه رحمهم الله، وقد تقدم خبرهم.
وقال مصعب الزبيري: إن حسان قال صدر هذه القصيدة في الجاهلية وآخرها في الإسلام، قال: وهجم حسان على فتية يشربون الخمر فعيرهم بذلك، فقالوا: يا أبا الوليد ما أخذنا هذا إلا منك، وإنا لنهم بتركها ثم يثبطنا عن ذلك قولك:
(1/314)
ونشربها فتتركنا ملوكاً ... وأسدا لا ينهنهنا اللقاء
قال: هذا شيء قلته في الجاهلية، والله ما شربتها منذ أسلمت.
وعن ابن سيرين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم؟ فقال حسان بن ثابت: أنا لها، وأخذ بطرف لسانه وقال:
لساني صارمٌ لا عيب فيه ... وبحري لا تكدره الدلاء
واختلف في وقت وفاته رحمه الله، فقيل: في خلافة علي رضي الله عنه، وقيل بعد ذلك. ولم يختلف أنه عاش مائة وعشرين سنة، ستون في الجاهلية وستون في الإسلام.
[ومما يؤثر من شعره يمدح أبا بكر الصديق رضي الله عنه:
إذا ذكرت شجوا من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البرية أتقاها وأعدلها ... بعد النبي وأوفاها بما حملا
والثاني التالي المحمود مشهده ... وأول الناس منهم صدق الرسلا
ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان: هل قلت في أبي بكر شيئاً؟، قال: نعم!، وأنشده هذه الأبيات، وفيها بيت رابع:
(1/315)
وثاني اثنين في الغار المنيف وقد ... طاف العدو به إذ صعدوا الجبلا
فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وقال: أحسنت يا حسان، ويروى فيها بيت خامس، وهو:
وكان حب رسول الله قد علموا ... خير البرية لم يعدل به رجلا
ومما يؤثر من كلام حسان رحمه الله خطبته حين قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربد بن ربيعة وعامر بن الطفيل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أسلم يا عامر! فقال: على أن تجعل لي نصف نخل المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : تحول بيننا وبين ذلك سيوف الأنصار، ولكن لك أعنة الخيل. فقال عامر: ومن يمنعها مني اليوم؟، ولكن إن شئت فلك المدر ولي الوبر أو لي المدر ولك والوبر. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: اجعل هذا الأمر من بعدك، فقال: ذلك غير كائن، فقام أربد فخطب ثم جلس، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حسان، فلما دخل عليه قال: يا أبا الوليد أجب خطيب قيس، فقال:
الحمد لله الذي ملك الأشياء وهو فرد صمد، والحمد لله الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولد، والحمد لله الذي استضاء نور السماوات والأرض من نوره، وأبدع الأشياء بقدرته، وعلم دقائق الخفيات بعلمه، العالم بغير تعليم، لم يكن صغيراً فيكبر، ولا ضعيفاً فيقوى، ولا جاهلاً فيتعلم، وأشهد له بما شهد به أنبياؤه ورسله وملائكته قائماً بالقسط، حاكماً بالعدل، لا إله إلا هو إليه المصير،
(1/316)
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المرتضى، وأمينه المجتبى، أرسله على حين فترة حين عبدت الأوثان، وكفر بالرحمن، فبلغ عن الله بإسلامه وضرب بالسيف في الله أعداءه، وتغمد بالرحمة أولياءه، فلما أكرم الله به دينه، وأظهر يقينه، وأتم أمره، أمره بالهجرة إلى قوم اصطفاهم بالإسلام وسماهم أنصاراً وأخياراً وأبراراً، وجعلهم ليوث دينه، وسيفاً على عدوه، وحرضهم على من جهل حقه عز وجل، فقال: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوةٍ}.
أما أنت يا أربد فمثلك كمثل حر الشمس إذ قالت للماء: أنا أجفك بحرارتي، فقال لها الماء: والله ما أنت عندي إلا كلا شيء، والله ما تقديرك عندي إلا كريح هبت فأذرت غباراً، وكيف أخافك وأنت أخس العرب أروما وأرذلهم جرثوماً، ومثل من يعتد بك كمن يعتد بالسراب، غير أن كلمة الكفر قد رسخت في صدرك، فمثلك كما قال الله تعالى: {كسرابٍ بقيعةٍ} الآية.
رجع الحديث]. قال ابن سيرين [رضي الله عنه]: وانتدب لهجو المشركين ثلاثة: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، فكان حسان وكعب يعارضانهم بمثل قولهم في
(1/317)
الوقائع والأيام، ويذكران مثالبهم، وكان عبد الله بن رواحة يعيرهم بالكفر وعبادة ما لا يسمع ولا ينفع، فكان قوله يومئذ أهون القول عليهم، وكان قول حسان وكعب أشد القول عليهم، فلما أسلموا وفقهوا كان أشد القول عليهم قول عبد الله بن رواحة.
وعبد الله بن رواحة [الأنصاري الخزرجي] رضي الله عنه أحد الشهداء بمؤتة من أرض الشام، وخبرها مشهور في السير.
وهو الذي بكى حين ودعه الناس عند خروجه إليها، فقالوا: ما يبكيك يا ابن رواحة؟ فقال: أما والله ما بي حب الدنيا، ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار:
فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود، فقال المسلمون صحبكم الله ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين. فقال عبد الله ابن رواحة رضي الله عنه:
لكنني أسأل الرحمن مغفرةً ... وضربةً ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزةً ... بحربةٍ تنفذ الأحشاء والكبدا
(1/318)
حتى يقال إذا مروا على جدثي ... أرشده الله من غازٍ وقد رشدا
[بيان وتفسير]
تكلم العلماء رضي الله عنهم في قوله عز من قائل: {وإن منكم إلا واردها} بأقوال. منها: أن الخطاب متوجه إلى الكفار على الخصوص، واحتج قائلوا هذه المقالة بقراءة ابن عباس رضي الله عنه {وإن منهم إلا واردها}.
وقالت طائفة: الورود هنا هو الإشراف عليها ومعاينتها، وحكوا عن العرب: وردت الماء فلم أشرب.
وقالت [طائفة] الورود هنا هو المرور على الصراط، لأنه على متن جهنم أعاذنا الله منها، وروي أن الله تبارك وتعالى يجمع الناس بها ثم ينادي مناد: خذي أصحابك [ودعي] أصحابي.
وقالت طائفة: الورود أن يأخذ العبد بحظ منها، وقد يكون ذلك في الدنيا [بالحميات]، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((الحمى كير من جهنم، وهي حظ كل مؤمن من النار)).
(1/319)
قال الواسطي في الآية: ما أحد إلا تورده النار ملاحظة أفعاله، ثم ينجي الله من أسقط ذلك عنه بملازمة التوفيق.
وقول عبد الله بن رواحة [رضي الله عنه]: لكنني أسأل من الرحمن مغفرة. الأبيات. فيها تمني الشهادة، وركب بعض الناس على ذلك سؤالاً، فقال: كيف يجوز تمني الشهادة، وفي تمنيها غلبة الكافر المسلم، قال: والجواب [عن ذلك] أن قصد تمني الشهادة إنما هو إلى لقاء كرامة الشهداء لا غير ولا يذهب وهمه إلى ذلك [الشيء] المتضمن، كما أن من يشرب دواء الطبيب النصراني إنما يشربه قاصداً إلى حصول [البرء] المأمول من الشفاء، ولا يخطر بباله أن [يكون منه] جر منفعة وإحسان إلى عدو الله وتنميق لصناعته.
وحكى ابن إسحاق عن زيد بن أرقم الأنصاري الخزرجي [رضي الله
(1/320)
عنه]، قال: كنت يتيماً لعبد الله بن رواحة في حجره، فخرج في سفره ذلك رد في على حقيبة رحله، فوالله إنه ليسير ليلة إذ سمعته وهو ينشد:
إذا بلغتني وحملت رجلي ... مسيرة أربع بعد الحساء
فشانك فأنعمي وخلاك ذم ولا ... أرجع إلى أهلي ورائي
وجاء المسلمون وغادروني ... بأرض الشام منتهى الثواء
قال: فلما سمعتهن بكيت، قال: فخفقني بالدرة وقال: ما عليك يا لكع أن يرزقني الله الشهادة وترجع بين شعبتي الرحل.
[شرح وبيان]
قوله: وخلاك ذم أي فارقك الذم، يريد: فلست إذ ذاك بأهل له، قال بعضهم: وقد أحسن في قوله: ((فشأنك فانعمي وخلاك ذم))
(1/321)
بعد قوله: ((إذا بلغتني))، وأحسن أيضاً من اتبعه في هذا المعنى كأبي نواس حيث يقول:
وإذا المطي بنا بلغن محمداً ... فظهورهن على الرجال حرام
وقال الآخر:
نجوت من رحل ومن رحلة ... يا ناق إن قربتي من قثم
وهذا لمعنى مما اختلفت فيه مقاصد الشعراء، فقد قال الشماخ في نقيضه:
إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين
[وعرابة هذا يعني به عرابة بن أوس الأنصاري الأوسي: أحد الذي استصغرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فرده، وكان سيداً من سادات قومه، كريماً فيهم.
(1/322)
خرج الشماخ يريد المدينة، فلقيه عرابة فأوقر له بعيرين تمراً وبراً وكساء وأكرمه، فخرج عن المدينة وامتدحه بالقصيدة التي يقول فيها:
رأيت عرابة الأوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين
إذا ما راية رفعت بمجد ... تلقاها عرابة باليمين
إذا بلغتني .. .. .. البيتان .. .. ..
ويذكر أنه قيل لعرابة: بم سدت قومك؟ قال: بأربع: انخدع لهم في مالي، وأذل لهم في عرضي، ولا أحقر صغيرهم، ولا أحسد كبيرهم.
قوله: أذل لهم في عرضي، كأنه أراد قول القائل:
لن يدرك المجد قوم وإن كرموا ... حتى يذلوا وإن عزوا لأقوام
ويشتموا فترى الألوان كاسفة ... لا ذلك عجز ولكن ذل أحلام
وقد تقدم في الباب الأول ما وقع في كتاب النزهة لابن وكيع وصية المنذر لابنه حيث قال: أوصيك بالذل في عرضك. ومن رواية البغدادي رحمه الله أن معاوية رضي الله عنه قال لعرابة رحمه الله: بأي شيء سدت قومك يا عرابة؟ فقال عرابة: أخبرك بأني كنت لهم كما كان حاتم لقومه. قال: وكيف؟ فأنشده:
وأصبحت في أمر العشيرة كلها ... كذي العلم يرضى ما يقول ويعرف
وإني لأعطي سائلي ولربما أكلف ما لا أستطيع فأكلف، والله إني لأعفو من عفيفهم، وأحلم عن جاهلهم، وأسعى في
(1/323)
حوائجهم، وأعطي سائلهم، فمن فعل فعلي فهو مثلي، ومن فعل أحسن من فعلي فهو الأفضل مني، ومن قصر عن فعلي فأنا خير منه. فقال معاوية رحمه الله: لقد صدق الشماخ حيث يقول فيك:
ريأت الأوسي .. .. .. البيتين.
[رجع الحديث].
[ونحو قول الشماخ] قول ذي الرمة، أنشده سيبويه رحمه الله:
إذا ابن أبي موسى بلالا بلغته ... فقام بفأس بين وصليك جازر
[يعني بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وكان قاضياً على البصرة، وهو وأبوه وجده ثلاثة قضاة في نسق].
لكن المعنى الأول والغرض المتقدم أحسن، ومما يشد ذلك
(1/324)
ويشهد لصحته قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة الغفاري التي نجت على ناقته صلى الله عليه وسلم حين قالت: يا رسول الله، إني نذرت لله أن أنحرها إن نجاني الله عليها، قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال: بئس ما جزيتها.
[وقول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه في البيت: ((منتهى الثواء)) ويروى: (مشتهى الثواء))، وعلى الأول هو مستفعل من النهاية والانتهاء، أي حيث ينهي مثواه. وعلى الثاني: معناه: أي لا أريد رجوعاً].
ومن كلامه المأثور رحمه الله الذي ارتجزه يوم استشهد حين قاتل قوله:
أقسمت يا نفس لتنزلنه ... لتنزلن أو لتكرهنه
إن أجلب الناس وشدو الرنة ... مالي أراك تكرهين الجنة
قد طال ما قد كنت مظنه ... هل أنت إلا نطفة في شنه
وقال [رحمه الله ورضي عنه]:
يا نفس إن لم [تقتلي] تموت ... هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنيت فقد أعطيت ... إن تفعلي فعلهما هديت
(1/325)
قوله رضي الله عنه: ((هل أنت إلا نطفة في شنة))، النطفة: القليل من الماء، والشنة: السقاء البالي، [المعنى]: فيوشك أن تراق النطفة أو ينخرق السقاء، ضرب ذلك مثلاً لنفسه في جسده.
وقوله في الرجز الآخر: ((إن تفعلي فعلهما هديت)) يعني صاحبيه زيداً وجعفراً رضي الله عنهما، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استعمل على بعثة إلى مؤتة زيد بن حارثة [رضي الله عنه]، قال: فإن أصيب فجعفر بن أبي طالب، قال: فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس، فلما التقوا بالروم قاتل زيد براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل، ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها ... علي إن لاقيتها ضرابها
فلما قتل أخذ عبد الله بن رواحة الراية فقاتل حتى قتل رضوان الله
(1/326)
عليهم، وفيهم يقول شاعر من المسلمين ممن رجع من غزوة مؤتة:
كفي حزناً إني رجعت وجعفر ... وزيد وعبد الله في مرس أقبر
قضوا نحبهم لما مضوا لسبيلهم ... وخلفت للبلوى مع المتعذر
[وأخت عبد الله بن رواحة هي عمرة بنت رواحة، وهي أم النعمان بن بشير الأنصاري رضي الله عنه، وهو أول مولود ولد للأنصار رضي الله عنهم بعد الهجرة، كما أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أول مولود ولد للمهاجرين رضي الله عنهم بالمدينة، ففرحوا به، وذلك لأنهم كانوا قد قيل لهم: إن اليهود سحرتكم فلا يولد لكم، وكانت سن النعمان وعبد الله تتقارب].
وقد تقدم أن كعب بن مالك رضي الله عنه أحد الثلاثة الأنصار الذين [قال] الله تعالى فيهم: {وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ
(1/327)
من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم}.
وقد تقدم ذكر الثلاثة، وهم مرارة بن الربيع الأنصاري العمري، من بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية الواقفي، من بني واقف، وكعب بن مالك.
[تفسير]
ومعنى ((خلفوا)) أي خلفوا عن الغزو. و((ضاقت عليهم الأرض بما رحبت)) أي برحبها، أي: بسعتها، كأنهم لا يجدون فيها مكاناً يستقرون فيه قلقاً وجزعاً.
و((ضاقت عليهم أنفسهم)) أي لا يسعها أنس ولا سرور. و((ظنوا)) معناه: أيقنوا وعلموا، ثم تاب الله عليهم. ((ثم تاب عليهم)): أنعم عليهم بالقبول والرحمة. ((ليتوبوا)) أي ليستقيموا على توبتهم وليثبتوا. وقيل: أي ليتوبوا أيضاً فيما يستقبل إن وقعت منهم خطيئة علماً منهم أن الله تواب على من تاب وإن عاد في اليوم مائة مرة.
وعن بعضهم أنهم سئل عن التوبة النصوح، فقال: أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت، وتضيق عليه نفسه كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه.
(1/328)
وكان هذا في تخلفهم عن غزوة تبوك. وروي عن كعب رضي الله عنه أنه قال: لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت عليه: فرد علي كالمغضب، ثم قال لي: ما خلفك؟، قال: قلت يا رسول الله والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني أخرج من سخطه بعذر، لقد أعطيت جدلاً، ولكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثاً كذباً لترضين عني، وليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديثاً صدقاً تجد علي فيه إني لأرجو عقابي من الله فيه، لا والله ما كان لي عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حيت تخلفت عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما هذا فقد صدقت فيه، فقم حتى يقضي الله فيك، وكان مرارة وهلال قد قالا مثل مقالة كعب، وقيل لهما مثل ما قيل له: قال كعب: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة، فتنكر لنا الناس ولم يكلمنا أحد. فلما مضت أربعون ليلة أمرنا أن نعتزل نساءنا [ولا نقربهن]، فلما تمت خمسون ليلة إذا أنا بنداء: أبشر يا كعب بن مالك، فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء الفرج، وكنت كما وصفني ربي ((وضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم))، وتتابعت البشارة، فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو جالس في المسجد وحوله
(1/329)
المسلمون، فقام إلى طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وقال: لتهنك توبة الله عليك، فلن أنساها لطلحة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يستنير استنارة القمر، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استبشر كان وجهه قطعة قمر، قال: وكنا نعرف ذلك منه، فقال: أبشر يا كعب بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك، ثم تلى الآية.
[فقه]
قال القاضي أبو بكر رحمه الله: وفي الحديث دليل على أن للإمام أن يعاقب المذنب بتحريم كلامه على الناس وتحريم كلام أهله عليه.
[وذكر] أبو القاسم السهيلي رحمها الله [في ذلك غريبة فقال]: إنما غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم [على من تخلف عنه]،
(1/330)
ونهى عن كلامهم ونزل فيمن تخلف ما نزل حتى تاب الله على الثلاثة منهم وإن كان الجهاد من فروض الكفاية لا من فروض الأعيان، [قال] [لكنه] في حق الأنصار خاصة كان فرض عين، ألا تراهم يقولون يوم الخندق وهم يرتجزون:
نحن الذين بايعوا محمداً ... على الجهاد ما بقينا أبدا
فلذلك كان تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة كبيرة، قال: وكذلك قال ابن بطال في هذه المسألة، ولا أعرف لها وجهاً غير الذي قال.
وروى الحافظ أبو عمر رحمه الله أن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: يا رسول الله ما ترى في الشعر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه.
وحكي عن ابن سيرين [رضي الله عنه] أنه قال:
بلغني أن دوساً إنما أسلمت فرقاً من قول كعب بن مالك:
قضينا من تهامة كل وتر ... وخيبر ثم أغمدنا السيوفا
(1/331)
نسائلها ولو نطقت لقالت ... قواطعهن دوساً أو ثقيفا
فقالت دوس: انطلقوا فخذوا لأنفسكم لا ينزل بكم ما نزل بثقيف.
وتوفي كعب رضي الله عنه في خلافة معاوية رضي الله عنه.
[وكان قد تخلف معهم من الأنصار أبو خيثمة الأنصاري الخزرجي، قال ابن إسحاق: ثم إنه دخل على أهله وذلك بعد أن سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أياماً فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه قد زينت كل واحدة عرشها، وبردت له فيه ماء، وهيأت طعاماً، فلما نظر رضي الله عنه إلى ذلك قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح والريح والحر وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام وامرأة حسناء، مقيم في ماله، ما هذا بالنصف، والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق بالنبي عليه السلام، ثم خرج حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الناس: هذا راكب في الطريق مقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كن أبا خيثمة، قالوا: يا رسول الله هو والله أبو خيثمة.
ومن شعراء الأنصار النعمان بن العجلان الأنصاري، وكان
(1/332)
النعمان لسان الأنصار وشاعرهم، وكان سيدهم، وهو القائل:
فقل لقريش نحن أصحاب مكة ... ويوم حنين والفوارس في بدر
وأصحاب أحد والنضير وخيبر ... ونحن رجعنا من قريظة بالذكر
نصرنا وآمينا النبي ولم نخف ... صروف الليالي والعظيم من الأمر
وقلنا لقوم هاجروا مرحباً بكم ... وأهلاً وسهلاً قد أمنتم من الفقر
فصل]
وممن قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير الأنصار ومدحه من شعراء العرب كعب بن زهير بن أبي سلمى المزني، قدم عليه صلى الله وسلم بعد انصرافه من الطائف، وأنشده قصيدته المشهورة التي أولها:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يجز مكبول
ومنها:
(1/333)
وقال كل صديق كنت آمله ... لا ألهينك إني عنك مشغول
فقلت خلوا طريقي لا أبا لكم ... فكل ما قدر الرحمن مفعول
نبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول
إن الرسول لسيفٌ يستضاء به ... مهندٌ من سيوف الله مسلول
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنشده كعب هذا البيت، نظر إلى أصحابه كالمعجب لهم من حسن القول وجودة الشعر.
ومنها في مدح المهاجرين [رضي الله عنهم]:
شم العرانين أبطالٌ لبوسهم ... من نسج داود في الهجا سرابيل
بيض سوابغ قد شكت لها حلق ... كأنها حلق القفعاء مجدول
ليسوا مفاريج إن نالت رماحهم ... قوماً وليسوا مجازيعا إذا نيلوا
(1/334)
ولما أثنى كعب في هذه القصيدة على المهاجرين وترك الأنصار كلموه في ذلك، فقال يمتدح الأنصار ويذكر موضعهم من اليمن:
من سره كرم الحياة فلا يزل ... في مقنب من صالحي الأنصار
ورثوا المكارم كابراً عن كابر ... إن الخيار هم بنو الأخيار
المكرهين السمهري بأذرع ... كسوالف الهندي غير قصار
والبائعين نفوسهم لنبيهم ... للموت يوم تعانق وكرار
يتطهرون يرونه نسكاً لهم ... بدماء من علقوا من الكفار
ضربوا علياً يوم بدر ضربة ... دانت لوقعتها جميع نزار
لو يعلم الأقوام علمي كله ... فيهم لصدقني الذين أماري
قوم إذا خوت النجوم فإنهم ... للطارقين النازلين مقاري
قال ابن هشام: ويقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له حين أنشده: ((بانت سعاد فقلبي اليوم متبول .. .. )): لولا ذكرت الأنصار بخير، فإن الأنصار لذلك أهل، فقال كعب هذه الأبيات في قصيدة له.
(1/335)
قوله في الأنصار: ((ضربوا علياً يوم بدر ضربة)): [يريد بني علي]، [بنو علي] هم بنو كنانة، [يقال لهم بنو علي] وأراد: ضربوا قريشاً لأنهم من بني كنانة.
قال أمية بن أبي الصلت: ذربني علي إنهم منهم وشائج .. .. في قصيدة يعني بني كنانة، نسبوا إلى علي بن مسعود الأزدي لأنه كان أخا عبد مناة بن كنانة، وكان حضنهم بعده، فنسبوا إليه.
ومما أجاد فيه كعب بن زهير [رحمه الله] قوله يمدح النبي صلى الله عليه وسلم :
تحذي به الناقة الأدماء معتجرا ... البرد كالبدر جلى ليلة الظلم
وفي عطا فيه أو أثناء بردته ... ما يعلم الله من دين ومن كرم
ومما يستجاد من شعره قوله:
لو كنت أعجب من شيء لأعجبني ... سعي الفتى وهو مخبو له الغدر
يسعى الفتى لأمور ليس يدركها ... فالنفس واحدة والهم منتشر
والمرء ما عاش ممدود له أمل ... لا تنتهي العين حتى ينتهي الأثر
[وممن بينه وبين الملائكة نسب من الأنصار، ولم يذكره أبو
(1/336)
العباس: عبد الله بن محمد الأنصاري والد جابر بن عبد الله، وبه كان يكنى.
جاء عن ابن المنكدر رضي الله عنه قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: لما جيء بأبي يوم أحد، وجاءت عمتي تبكي عليه، قال: فجعلت أبكي وجعل القوم ينهوني، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينهاني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابكوه أولا تبكوه، فوالله ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى دفنتموه].
(1/337)
الباب الثالث في فضل المدينة بلدهم
(1/339)
[بهذا الباب افتتح مالك كتاب الجامع في موطإه]، قال القاضي أبو بكر رحمه الله: المدينة أصل الإيمان ومعدن الدين ومستقر النبوة، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، فاختلف الناس أين يدفن، فقال قوم بمكة، وقال آخرون ببيت المقدس، يريد أن يحمل إليه بعد الفتح، وقال آخرون بالمدينة، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما دفن نبي قط إلا حيث يموت)).
وذلك دال على تشريف الله تعالى لها، وتقديس تلك البقعة المكرمة.
وهذا من مقامات الصديق رضي الله عنه، فإن له مقامات بعد وفاة المصطفى [صلوات الله عليه] دالة على قوة المعرفة ونفوذ القريحة ونور البصيرة وهي الشجاعة الممدوحة في الناس، ولم يكن فيها أحد أقوى من الصديق [رضي الله عنه]، فإنه كان أشجع الخليقة [بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمضاهم عزيمة وأنفذهم قريحة وأصدقهم فراسة وأثبتهم جأشاً وأصفاهم إيماناً وأشرحهم صدراً.
(1/341)
ومن تلك المقامات ما كان منه] بعد وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ولم تكن مصيبة أعظم منها، ولا تكون أبداً، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توفي أقعد علي وبهت عثمان واختلط عمر [رضي الله عنهم]، وقال عمر: ما مات رسول الله، وإنما واعده الله كما واعد موسى، فجاء الصديق رضي الله عنه وعيناه تهملان، وزفراته تتردد وغصصه ترتفع، وهو جلد العقل والمقالة حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكشف عن وجهه الكريم، وقبل جبينه وقال: بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً، أما الموتة التي كتبها الله عليك فقد [ذقتها]، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبداً، ثم خرج [وصعد] المنبر وخطب الناس وتلا: {وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبل الرسل}.
ومقاماته في قتال أهل الردة وإنفاذ جيش أسامة، وفي سقيفة بني ساعدة، وفيما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: ((لا نورث ما تركناه صدقة .. .. )) حتى تذكر الصحابة رضوان الله عليهم لذلك، كل [هذا] منقول عنه ومشهور.
(1/342)
ثم [رجع] الكلام [بحول الله تعالى] إلى فضل المدينة، وبهذا الاسم سماها الله عز وجل في كتابه، فقال عز من قائل: {وما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب}.
وسماها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم طيبة، وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم تسميتها يثرب.
قال بعضهم: وذلك لما فيه من لفظ التثريب، فأما قوله جل وتعالى: {وإذ قالت طائفةٌ منهم يأهل يثرب}. فحكاية عمن عيب كلامه من المنافقين ولم يرض قوله.
ويثرب اسم رجل [من العماليق] [وكان قد نزل أرضها في سالف الدهر]، [فسميت به]، [وقد تقدمت إشارة إلى ذلك].
وفي الحديث: ((من قال للمدينة يثرب فليستغفر الله إنما هي طيبة))، ويروى طابة.
(1/343)
وفي الحديث أيضاً: ((يقولون يثرب وهي المدينة)).
وروي أن لها في التوراة أسماء منها المدينة والطيبة وطابة والجابرة والمجبورة والعاصمة والمرحومة.
والآثار الواردة في فضلها وتحريمها والدعاء لأهلها صحيحة كثيرة.
من ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان الناس إذا رأوا أول التمر جاءوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ] قال: اللهم بارك لنا في تمرنا وبارك لنا في صاعنا وبارك لنا في مدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك وإنه دعا لمكة وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعا به لمكة ومثله معه، ثم يدعو أصغر وليد يراه فيعطيه ذلك التمر صلى الله عليه وسلم .
بيان
دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للمدينة [بالبركة] يقتضي التفضيل لها والحرص على الرفق بمن يسكنها، وكانوا يأتونه بأول [تمر النخل] تبركاً بدعائه [ صلى الله عليه وسلم ] وإعلاماً بيدء صلاح الثمار.
(1/344)
وقوله صلى الله عليه وسلم : اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك وإني عبدك ونبيك، يريد إظهار وسيلته إلى الله تعالى وذكر نعمته عليه كما أنعم على أبيه إبراهيم، [ثم قال: إن إبراهيم دعاك لمكة، يريد صلى الله عليه وسلم قوله عز وجل: {وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلداً آمناً وارزق أهله من الثمرات}.
وقوله صلى الله عليه وسلم : وإني أدعو للمدينة بمثل ما دعا به لمكة ومثله معه، قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب رحمه الله: هذا دليل على فضل المدينة على مكة، [قال]: لأن تضعيف الدعاء إنما هو لفضلها على ما قصر عنها.
وقوله في الحديث: ثم يدعو أصغر وليد يراه فيعطيه ذلك التمر، قال القاضي أبو الوليد الباجي رحمه الله: يحتمل أن يريد بذلك عظم الأجر في إدخال المسرة على من لا ذنب له لصغره، فإن سرور ذلك به أعظم من سرور الكبير.
(1/345)
وعن نافع بن جبير أن مروان بن الحكم خطب الناس فذكر مكة وأهلها وحرمتها، فناداه رافع فقال: مالي أسمعك ذكرت مكة وأهلها وحرمتها ولم تذكر المدينة وأهلها وحرمتها وقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين لابتيها.
وعن جابر قال: قال [النبي] صلى الله عليه وسلم : ((إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها لا يقطع عضاهما ولا يصاد صيدها)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه [كان يقول]: لو رأيت
(1/346)
الظباء بالمدينة ما ذعرتها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ما بين لابتيها حرام)).
شرح
قال الأصمعي: اللابة: الأرض ذات الحجارة السود، وتبين من ذلك أن المدينة حرم خلافاً لأبي حنيفة للأحاديث الصحاح التي وردت في تحريمها، واختلف المذهب إذا صاد الصيد في حرم المدينة، فالمشهور أن لا جزاء عليه، قال الإمام أبو عبد الله: لأن إثبات الحرمة لا يوجب إثبات الجزاء، والأصل براءة الذمة، وشذ ابن نافع فأوجب الجزاء قياساً على حرم مكة. قال القاضي أبو بكر رحمه الله: وبوجوب الجزاء في حرم المدينة قال ابن أبي ذئب رضي الله عنه، وهي إحدى الروايتين عن مالك من طريق المدنيين.
وعن أبي حميد قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وفيه: ثم أقبلنا حتى قدمنا وادي القرى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني مسرع، فمن شاء منكم فليسرع معي، ومن شاء فليمكث، فخرجنا
(1/347)
حتى أشرفنا على المدينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذه طابة، وهذا أحد جبل يحبنا ونحبه.
فقال بعض العلماء: محبته صلى الله عليه وسلم للجبل يوجب له بركة يرغب في مجاورته لأجلها، وعلى هذا يكون محبته للجبل ومحبة الجبل له حقيقة لا مجازاً، وذلك بأن يحدث الله عز وجل في الجبل محبة، ويكون ذلك من آيات نبوته صلى الله عليه وسلم .
وحمله بعضهم على حذف مضاف، فجعله من باب المجاز، أي يحبنا أهله، كما قال عز من قائل: {وسئل القرية} أي أهل القرية، وكقوله جل وتعالى: {وأشربوا في قلوبهم العجل} أي حب العجل.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن مولاة له أتت تسلم عليه، وذلك في الفتنة، فقالت: إني أردت الخروج يا أبا عبد الرحمن، فقال لها عبد الله بن عمر رضي الله عنه: اقعدي لكاع فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شفيعاً أو شهيد يوم القيامة.
(1/348)
تفسير
قال عيسى بن دينار: اللاواء: الجوع والشدة وتعذر التكسب، وقوله صلى الله عليه وسلم : إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة، يحتمل أن يكون شكاً من ابن عمر رضي الله عنه، ويحتمل أن يكون ذلك من الراوي عنه.
والشفاعة على قسمين عند أهل السنة: الشفاعة في زيادة الدرجات لمن دخل الجنة، وشفاعة في الخروج من النار.
وقوله: أو شهيداً، قال القاضي أبو الوليد رحمه الله: يحتمل أن يريد أنه يشهد له بالمقام الذي فيه الأجر، ويقتضي ذلك أن لشهادته صلى الله عليه وسلم فضلاً في الأجر وإحباطاً للوزر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لما أشرف على القتلى يوم أحد: أنا شهيد على هؤلاء.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال.
(1/349)
قال الأخفش: أنقاب المدينة: طرقها وفجاجها.
وعن عبد الله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، قال الحافظ أبو عمر وغيره: اختلف العلماء في تأويل ذلك، فقال قوم: ترفع تلك البقعة يوم القيامة، فتجعل روضة في الجنة، وقال آخرون: المراد به أنه لما كان جلوسه صلى الله عليه وسلم وجلوس الناس إليه يتعلمون القرآن والدين والإيمان هناك شبه ذلك الموضع بالروضة لكريم ما يجتنى فيه وأضافها إلى الجنة لأنها مؤدية إلى الجنة كما قال صلى الله عليه وسلم : الجنة تحت ظلال السيوف، يعني أنه عمل يدخل المسلم الجنة، كما جاء في الحديث: الأم باب من أبواب الجنة، يريد أن برها يقود إلى الجنة، ومثل هذا معلوم من لسان العرب.
قال الحافظ أبو عمر رحمه الله: وقد استدلت طائفة من أصحابنا بهذا الحديث على أن المدينة أفضل من مكة.
(1/350)
قال القاضي أبو بكر رحمه الله: الكلام في المدينة في أربعة فصول.
الأول: في تحريمها.
الثاني: في بركتها.
الثالث: في إعمال المطي إليها.
الرابع: في فضلها.
الفصل الأول: في تحريمها. إن الله تعالى خلق الأرض وشرف بعضها على بعض بما أوجب لها من حرمة وركب فيها من فائدة. إما من منفعة دينية، وإما من منفعة بدنية، وتعلق الحرمة بها يكون من وجوه، منها تعلق علم الله تعالى بحرمتها، ومنها تعلق حرمتها بفعله جل وعز من عصمته إياها من الجبابرة، ومنها ما أوقع في قلوب الخلق من التعظيم لها، فإن قيل: فإذا كانت حرمتها كحرمة مكة، فيجب أن يكون فيها الجزاء والأجزاء فيها على المشهور، فالجواب أنه قد يكون الذنب والحرمة أعظم من أن تكون فيه كفارة، وتكون العقوبة مؤخرة عنه إلى الآخرة.
قال القاضي أبو بكر: فإن قيل: فأي حرمة لمكة وقد فعل الحجاج فيها ما فعل وقد كان في المدينة في يوم الحرة ما كان ودين الإسلام قائم، والمسلمون متوافرون؟ قلنا: كانت العصمة قبل الإسلام مقدمة للنبي صلى الله عليه وسلم في الإنذار به والإشادة بشرفه وشرف آياته، وكانت الهتكة في الإسلام ابتلاء من الله تعالى للخلق ليعلم صبرهم فلما ابتلاهم وعملهم فيما أعطاهم كما قال تعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عملاً}.
(1/351)
ثم قال: وهذا سؤال فاسد توجهه الملحدة تشويشاً لقلوب العامة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بحرمتها شرعاً، ولا جرم أن هذه الحرم الشرعية لا تنخرم شرعاً أبداً، وإلى هذا المعنى أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في مكة أنها حرام يعني ديناً لم تحلل قط ولا تحلل، فلا جرم أن هذا الخبر لا يوجد بخلاف ما أخبر به، وينظر هذا من كلام القاضي أبي بكر إلى كلامه في موضع آخر على قوله عز وجل من قائل: {لا يمسه إلا المطهرون}، وقوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروءٍ}.
فقال: إن ذلك خبر من الله تعالى، فلا يجوز أن يقع بخلاف ما أخبر به، ولكن ها هنا دقيقة يجب أن يتفطن لها اللبيب، وذلك أن قوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون} خبر عن حكم الشرع وما بين فيه، وكذلك قوله تعالى: {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروءٍ} خبر عن الشرع وما بين فيه، فإذا وجدنا محدثاً يمس المصحف ووجدنا مطلقة لا تلتزم التربص، فلا يكون ذلك من الشرع، كما قال: لا صلاة إلا بطهور، أي حكمها وشرعها، فإن وجدت بغير طهور فلا تكون من الشرع.
قال القاضي أبو بكر رحمه الله: وهذا تفسير مجتمع لك فيه سلامة الحقيقة من خلطها بغيرها، ويكون في تنزيه
(1/352)
خبر الله ويبقى اللفظ فيه على صيغته التي وضع لها.
الفصل الثاني: في بركتها. وهو أمر مدعو به للحرمين من النبيين الكريمين، فإن قيل: وأي بركة فيها، وهي بلاد الجوع، لا زرع بها ولا ضرع؟ فالجواب أن هذا سؤال توجهه المشككة، فنقول: أن البركة في اللغة هي الزيادة والنماء، فإذا وردت في الشريعة فإن المراد بها سلامة الدين وقلة الحساب وكثرة النماء في الأجر، هذا كقوله تعالى: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات}.
وأنت ترى الربا يتكاثر، وترى الصدقات تنقص المال وتفنيه ولكن المعنى عائد إلى ما بيناه.
الفصل الثالث: في إعمال المطي إليها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، فبدأ به، والمسجد الحرام ومسجد إيليا. قال القاضي أبو بكر: ولم يرد صلى الله عليه وسلم قطع النيات عن سائر المساجد في القربات والأغراض الشرعيات، وإنما أراد الوجوب عند النذر والإلزام عند التصريح بالالتزام.
الفصل الرابع: في فضلها. وقد اختلف الفقهاء في أي الحرمين أفضل فقال مالك وكثير من المدنيين: المدينة أفضل من مكة، وقال الشافعي: مكة خير البقع، وهو مذهب ابن أبي رباح والمكيين، وأهل الكوفة، واختلف أهل البصرة في ذلك، فمنهم
(1/353)
من قال مكة، ومنهم من قال المدينة.
قال القاضي أبو بكر رحمه الله: الكلام في ذلك يحتاج إلى تفصيل، فإن أراد السائل بذلك أنها أفضل في السكنى، فالمدينة أفضل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يصبر على ولائها وشدتها أحد إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة، ولم يرد في مكة شيء من ذلك.
وإن أراد أيهما أفضل في المحبة فالمدينة أحب إلينا اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: اللهم حب إلينا مكة أو أشد، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة قدمها وهو أوبأ أرض الله من الحمى فأصاب أصحابه رضي الله عنهم منها سقم وصرف الله ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم ، فكان أبو بكر وعامر بن فهيرة وبلال موليا أبي بكر رضي الله عنهم في بيت واحد فأصابتهم الحمى، قالت عائشة رضي الله عنها: فدخلت عليهم أعودهم، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب، وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدة الوعك، فدنوت من أبي بكر، فقلت: كيف تجدك يا أبة؟ فقال:
(1/354)
كل امرئ مصبح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
قالت قلت: والله ما يدري أبي ما يقول، ثم دنوت إلى عامر بن فهيرة، فقلت: كيف تجدك يا عامر فقال:
لقد وجدت الموت قبل ذوقه ... إن الجبان حتفه من فوقه
قالت: فقلت: والله ما يدري عامر ما يقول: قالت: وكان بلال إذا ركبته الحمى اضطجع بفناء البيت، ثم رفع عقيرته فقال:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بفج وحول إدخر وجليل
وهل أردن يوماً حياة مجنة ... وهل يبدون لي شامة وطفيل
قالت عائشة رضي الله عنها: فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعت منهم، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة أو أشد، وبارك لنا في مدها وصاعها وانقل وباءها على مهيعة ومهيعة.
عامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنهما، اشتراه أبو بكر وأعتقه، وهو رفيق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر في الهجرة إلى المدينة، قتل يوم بئر معونة، وكانت سنة أربع من الهجرة، قتله عامر بن الطفيل، فلما طعنه خرج من الطعنة نور، وكان عامر يقول: من رجل لما طعنته رفع حتى حالت السماء دونه، وفي رواية أن عامراً
(1/355)
سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه فقال: يا محمد من رجل من أصحابك لما طعنته رفع إلى السماء، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : هو عامر بن فهيرة.
وروى عن هاشم بن عروة عن أبيه أن عامراً التمس في القتلى يومئذ فلم يوجد، فكانوا يرون أن الملائكة رفعته أو دفنته.
وبلال رضي الله عنه أحد المهاجرين الأولين وأحد من عذب في الله، وكان أمية بن خلف الجمحي ممن يعذبه، فكان من قدر الله تعالى أن قتله بلال يوم بدر، فيروى أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال له في أبيات منها:
هنيئاً زادك الرحمن خيراً ... فقد أدركت ثأرك يا بلال
توفي رضي الله عنه بالشام، والبيت الذي أوله: لقد وجدت الموت قبل ذوقه، هو لعمرو بن مامة، والبيت مضروب به المثل في الجبن، قال أبو عبيد في معناه: أحسبه أنه يريد أن حذره ليس يدافع عنه المنية، قال أبو عمر أحمد بن عبد ربه رحمه الله: هذا غلط من أبي عبيد عندي، والمعنى فيه أنه وصف نفسه بالجبن وأنه وجد الموت قبل أن يذوقه، وهذا من الجبن.
(1/356)
ثم قال: إن الجبان حتفه من فوقه، يريد أنه يظن أن منيته تحوم على رأسه، كما قال الله عز وجل في المنافقين إذ وصفهم بالجبن: {يحسبون كل صيحةٍ عليهم هم العدو فاحذرهم}.
وقال جرير للأخطل يعيره بقيس:
حملت عليك رجال قيس خيلها ... شعثاً عوابس تحمل الأبطالا
ما زالت تحسب كل شيء بعدها ... خيلاً يكر عليكم ورجالا
قال: ولو كان الأمر على ما ذهب إليه أبو عبيد ما كان معناه يدخل في باب الجبن، وليس أخذ الحذر من الجبن في شيء لأن أخذ الحذر محمود وقد أمر الله تعالى به، وأما قول بلال رضي الله عنه: بفج وحولي إذخر وجليل، ففج موضع خارج مكة بعد موته، ومجنة سوق من أسواق العرب، وأما شامة وطفيل، فقال الخطابي: كنت أحسبهما جبلين حتى مررت بهما ووقفت عليهما، فإذا هما عينان وفي طفيل يقول كثير:
ولا أنس م للأشياء لا أنس موقفاً لنا ولها بالخبت خبت طفيل ...
والخبت منخفض الأرض، وفي هذا الخبر وما ذكر فيه من الحنين إلى مكة ليل على ما جبلت عليه النفوس من حب الوطن والحنين إليه، وفي حديث أصيل الهذلي، ويقال فيه الغفاري أنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فوصف مكة وغضارتها فاغرورقت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لا تشوقنا يا أصيل، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه
(1/357)
قال له: دع القلوب تقر.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : اللهم حبب إلينا المدينة وبارك لنا في صاعها ومدها، فالمراد به الطعام الذي يكال بالصاع والمد، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: ((كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه)).
وشكا إليه قوم سرعة فناء طعامهم فقال: أتكيلون أم تهيلون؟
فقالوا: بل نهيل، فقال: كيلوا ولا تهيلوا.
وذكر أبو عبيد المد -أعني مد المدينة- فقال هو رطل وثلث، والرطل مائة وثمانية وعشرون درهماً، والدرهم خمسون حبة وخمساً.
وقوله صلى الله عليه وسلم وانقل حماها واجعلها بمهيعة، وهي الجحفة، قال القاضي أبو بكر رحمه الله: وذلك إما لأنها كانت منزلاً لليهود أو للمشركين، قال أبو القاسم السهيلي رحمه الله: كأنه صلى الله عليه وسلم لم يرد إبعاد الحمى عن جميع أرض الإسلام، ولو أراد ذلك لقال: انقل حماها، ولم يخص موضعاً أو كان يخص بلاد الكفر، وذلك والله أعلم لأنه قد نهى عن سب الحمى ولعنها، وأخبر أنها طهور، وأنها حظ كل مؤمن من النار، فجمع بين الرفق بأصحابه، فدعا لهم
(1/358)
بالشفاء منها، وبين أن لا يحرموا أيضاً الأجر فيها يصيبهم منها، فلم يبعدها كل البعد.
وأما مهيعة فقد اشتد الوباء فيها بسبب هذه الدعوة حتى قيل إن الصابر يمر بغدير خم فيسقم، ويقال إن من شرب منه حم، ويقال أنه ما ولد فيها مولود فبلغ الحلم، وهي أرض لا تسكن ولا يقام فيها إقامة دائمة.
فالمدينة خصها الله تعالى بمعالم الدين وأنها دار الوحي ومهبط الهدى والرحمة وبأنها بقعة شرفها الله تعالى بسكنى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبأنها اشتملت على خير خلق الله، وأن فيها روضة من رياض الجنة، فأهل المدينة من المهاجرين والأنصار أفضل الناس لقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلمهم بأحواله وأحكامه وأيامه وسيره، وجب لكل من كان على مذهب أهل الدينة حيث كانوا من الأرض نصيب وافر من بركة المدينة، وقد أخذنا والحمد لله نحن معشر أهل الأندلس بهذا النصيب الوافر من البركة، فلم تزل الفتوى فيها جارية، والأحكام بها دائرة على مذهب عالمها مالك بن أنس رضي الله عنه من أيام الأمير هشام أو من أيام ابنه الحكم صاحب وقعة الربض على اختلاف النقل في ذلك، وبالجملة في بقية المائة الثانية، إذ كانت الفتوى بها قبل ذلك على مذهب عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي
(1/359)
رضي الله عنه، وعل مذهب أهل الشام من أول ملوك الإسلام بها، ثم انتقلوا إلى مذهب المدنيين، فشدوا اليد عليه وحذروا من تقليد غيره حتى لقد وقع الحكم بن عبد الرحمن رحمهما الله على كتاب لبعض فقهاء قرطبة يشير على سعادة هذا المذهب وبلغني أن قوماً يفتون بغير مذهب مالك بن أنس، وأنهم يرخصون في الطلاق وغيره بمناكير من الفتوى، وقد نظرت في أقاويل الفقهاء، ورأيت ما صنف من أخبارهم إلى يومنا هذا فلم أر مذهباً اتقى ولا أبعد من الزيغ من مذهبه، وكل من يعتقد مذهباً من مذاهب الفقهاء، فإن فيهم الجهمي والرافضي والخارجي إلا مذهب مالك، فإني ما سمعت أحداً تقلد مذهبه قال بشيء من هذه البدع، فالاستمساك به نجاة إن شاء الله.
(1/360)
الخاتمة
(1/361)
وإلى الله أتوسل بمن المدينة دار هجرته: وبلد إيوائه ونصرته، أن يبقينا متمسكين بسنته طاهرين من البدع والأحداث في الدين، مقتفين لآثار من مضى من السلف الصالحين ظاهرين على الحق كما أخبر به رسول رب العالمين، وقوله حق وإخباره صدق، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، نقل العدل عن العدل: ((لا تزال طائفة من أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله، والمرجو بفضل الله تعالى لنا معشر أهل الأندلس أن نكون من الطائفة التي ورد فيها الأثر وشملها عموم هذا الخبر، فعلى التمسك بالدين والانحراف عمن عدل عن الجادة من المبطلين والزائغين والملحدين درج من مضى من سلفها الغابرين، وحتى الآن والحمد لله، فالأمانات الدينية محفوظة مؤداة، والحقوق الشرعية مسترعاة كما يجب وموفقة، والنعائم السنية منتهجة مقتفاة، والمثارات البدعية دراسة معفاة، وذلك ببركة من أبقى الله بهم دماء الإسلام بهذه الجزيرة ورمقه، وأعاد على أيديهم إلى النضارة بعد الاستحالة منظره ورونقه، فكافأ الله مالهم في إغاثة الخلق والوقوف مع إقامة الحق من مذهب جميل ومقصد جليل مكافأة تتصل أسبابها، ويتضاعف أجرها وثوابها، اللهم كما شرفتهم نباتاً ونسباً وجعلتهم لصلاح هذه البقية المباركة داعية وسبباً، فهيئ لهم من أمرهم في هذه الجزيرة رشداً، وأرهم فيها من ألطافك
(1/363)
الخفية واعتناءاتك الباهرة الخفية آية عجباً برحمتك يا أرحم الراحمين.
وهنا انتهت هذه الأحرف التي قيدتها واللمع التي أوردتها مجتزئاً فيها باليسير منسوباً في اختصارها إلى الاقتصار على التقصير، وقد كان في الخاطر أن أتتبع الآيات التي نزلت فيهم وفي آحادهم، والآثار التي وردت في فضائلهم ومناقب أعلامهم، وأضم إلى ذلك من كلامهم وخطب خطبائهم وأشعار شعرائهم وتواريخهم في الجاهلية والإسلام وأخبارهم وذكر مغازيهم ووقائعهم، كل ذلك موصول بما يجب من تفسير اللغات وتبيين المشكلات، فعاقني عن ذلك ما أنا عليه في الوقت من ضعف المؤنة وعدم المعونة، فأحوالي يعلم الله عن معهودها حائلة، وفكرتي بتمون من لي قاطعة عن النظر وشاغلة، فكأن هذا الذي أثبت مدخل لما أردت أن أنموذج مما إليه ذهبت ولاجتلابه قصدت، على أن هذه اللمع المجتلبة والحروف المكتتبة لم تنتظم لذي فصاحة قليلة وقريحة تنظر بعين كليلة وذهن ينبوا عن الفهم وخاطر يكبوا في مهمه الوهم إلا بعد نصب وجهد واحتمال تعب وكد، فلذلك أرغب ممن طالعه أن ينظر فيه بعين الإغضاء ويلتمس له مهما قرر طريقاً إلى الأخذ بالمسامحة والإرضاء، فما أنا وإن نسب الناظر إلى تقريظه وتشنيفه، وحسب أني ابتدعت تصنيفه أو اخترعت تأليفه، إلا بمنزلة من كتب بالإملاء أو نسخ صحيفة، إذ علمي بنفسي والحمد لله لم يحملني على أن أغتر بفهمها السقيم أو أمشي على منهاج تفقهها غير القويم، فما أخذت ولا أعطيت ولا فصلت في قضية ولا أمضيت إلا بالوقوف مع نقل الأقوال
(1/364)
من قائلها، واجتلابها كما وردت في موضعها.
وقد اعتمدت في الأكثر على ما نقله ابن إسحاق والحافظ أبو عمر، وعلى كلام القاضي أبي بكر، إلى غير ذلك مما التقطته من كلام الإمام أبي عبد الله، والقاضي أبي بكر وابن بطال، وأبي القاسم السهيلي.
والآثار المجتلبة في فضلهم عموماً هي مستخرجة من الصحيحين، ومما شهد له أبو عيسى بالصحة، وكذلك الآثار التي أوردتها في فضل المدينة، وما عدا ذلك من الآثار فاعتمدت فيه على نقل الثقات والأثبات كابن إسحاق والحافظ أبي عمر.
فمن وقع لي على شيء من الإخلال، فله الفضل في إصلاحه من مظانه، ومن الله تعالى أسال أولاً وآخراً أن ينفع به عنده، ويجزل لي من ثوابه المضاعف لديه عطاءه ورفده.
ولأختم الكتاب بالصلاة على محمد نبيه المصطفى ورسوله المجتبى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذرياته وكافة أتباعه وأشياعه، صلاة تامة كاملة دائمة وسلم تسليماً كثيراً.
وكان الفراغ منه بالحضرة المعظمة سرها الله حضرة غرناطة في العشر الوسط لشوال عام سبعة وستين وستمائة.
انتهى، كذا وجدت بالأصل، وصلى الله على مولانا محمد وآله في ثامن المحرم عام خمس عشرة وألف.
(1/365)