كتاب التوحيد
الذي هو حق الله على العبيد
الإمام محمد بن عبدالوهاب(1/1)
كتاب التوحيد وقول الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(1) وقوله: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ) (2) الآية. وقوله: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) (3) الآية. وقوله: (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا) (4) الآية. وقوله: (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا) (5) الآيات.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمة فليقرأ قوله تعالى: (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) - إلى قوله - (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا..) (6) الآية.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي: "يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟" فقلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً" فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: "لا تبشرهم فيتكلوا" أخرجاه في الصحيحين.
فيه مسائل:
الأولى: الحكمة في خلق الجن والإنس.
الثانية: أن العبادة هي التوحيد؛ لأن الخصومة فيه.
الثالثة: أن من لم يأت به لم يعبد الله، ففيه معنى قوله? ولا أنتم عابدون ما أعبد)(7).
الرابعة: الحكمة في إرسال الرسل.
الخامسة: أن الرسالة عمَّت كل أمة.
السادسة: أن دين الأنبياء واحد.السابعة: المسألة الكبيرة أن عبادة الله لا تحصل إلا بالكفر بالطاغوت؛ ففيه معنى قوله: ( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله000 ) (8) الآية.
الثامنة: أن الطاغوت عام في كل ما عُبِد من دون الله.
التاسعة: عظم شأن ثلاث الآيات المحكمات في سورة الأنعام عند السلف. وفيها عشر مسائل، أولها النهي عن الشرك.
العاشرة: الآيات المحكمات في سورة الإسراء، وفيها ثماني عشرة مسألة، بدأها الله بقوله: (لا تجعل مع الله إلهاً ءاخر فتقعد مذموماً مخذولاً)(9)؛ وختمها بقوله: (ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراً)(10)، ونبهنا الله سبحانه على عظم شأن هذه المسائل بقوله: (ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة) (11).
الحادية عشرة: آية سورة النساء التي تسمى آية الحقوق العشرة، بدأها الله تعالى بقوله: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً) (12).
الثانية عشرة:التنبيه على وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته.
الثالثة عشرة: معرفة حق الله تعالى علينا.
الرابعة عشرة: معرفة حق العباد عليه إذا أدوا حقه.
الخامسة عشرة: أن هذه المسألة لا يعرفها أكثر الصحابة.
السادسة عشرة: جواز كتمان العلم للمصلحة.
السابعة عشرة: استحباب بشارة المسلم بما يسره.
الثامنة عشرة: الخوف من الاتكال على سعة رحمة الله.
التاسعة عشرة: قول المسؤول عما لا يعلم: الله ورسوله أعلم.
العشرون: جواز تخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض.
الحادية والعشرون: تواضعه صلى الله عليه وسلم لركوب الحمار مع الإرداف عليه.
الثانية والعشرون: جواز الإرداف على الدابة.
الثالثة والعشرون: فضيلة معاذ بن جبل.
الرابعة والعشرون: عظم شأن هذه المسألة.(1/9)
باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب وقول الله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) (13) الآية.
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل). أخرجاه. ولهما في حديث عتبان: (فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (قال موسى: يا رب، علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به. قال: يا موسى: قل لا إله إلا الله. قال: يا رب كل عبادك يقولون هذا. قال: يا موسى، لو أن السموات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة، ولا إله الله في كفة، مالت بهن لا إله الله) [رواه ابن حبان، والحاكم وصححه].
وللترمذي وحسنه عن أنس رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله تعالى: يا ابن آدم؛ لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة).
فيه مسائل:
الأولى: سعة فضل الله.
الثانية: كثرة ثواب التوحيد عند الله.
الثالثة: تكفيره مع ذلك للذنوب.
الرابعة: تفسير الآية (82) التي في سورة الأنعام.
الخامسة: تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة.
السادسة: أنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان وما بعده تبين لك معنى قول: (لا إله إلا الله) وتبين لك خطأ المغرورين.
السابعة: التنبيه للشرط الذي في حديث عتبان.
الثامنة: كون الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله.
التاسعة: التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أن كثيراً ممن يقولها يخف ميزانه.
العاشرة: النص على أن الأرضين سبع كالسموات.
الحادية عشرة: أن لهن عماراً.
الثانية عشرة: إثبات الصفات، خلافاً للأشعرية.
(1/10)
الثالثة عشرة: أنك إذا عرفت حديث أنس، عرفت أن قوله في حديث عتبان: (فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله) أنه ترك الشرك، ليس قولها باللسان.
الرابعة عشرة: تأمل الجمع بين كون عيسى ومحمد عبدي الله ورسوليه.
الخامسة عشرة: معرفة اختصاص عيسى بكونه كلمة الله.
السادسة عشرة: معرفة كونه روحاً منه.
السابعة عشرة: معرفة فضل الإيمان بالجنة والنار.
الثامنة عشرة: معرفة قوله: (على ما كان من العمل).
التاسعة عشرة: معرفة أن الميزان له كفتان.
العشرون: معرفة ذكر الوجه.(1/11)
باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب وقول الله تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (14). وقال: (وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ) (15).عن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لُدِغت، قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي، قال وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حمة. قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع. ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم نهض فدخل منزله. فخاض الناس في أولئك، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه فأخبروه، فقال: (هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون) فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: (أنت منهم) ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: (سبقك بها عكاشة).
فيه مسائل:
الأولى: معرفة مراتب الناس في التوحيد.
الثانية: ما معنى تحقيقه.
الثالثة: ثناؤه سبحانه على إبراهيم بكونه لم يكن من المشركين.
الرابعة: ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك.
الخامسة: كون ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد.
السادسة: كون الجامع لتلك الخصال هو التوكل.
السابعة: عمق علم الصحابة لمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل.
الثامنة: حرصهم على الخير.
التاسعة: فضيلة هذه الأمة بالكمية والكيفية.
العاشرة: فضيلة أصحاب موسى.
الحادية عشرة: عرض الأمم عليه، عليه الصلاة والسلام.
الثانية عشرة: أن كل أمة تحشر وحدها مع نبيها.
(1/12)
الثالثة عشرة: قلة من استجاب للأنبياء.
الرابعة عشرة: أن من لم يجبه أحد يأتي وحده.
الخامسة عشرة: ثمرة هذا العلم، وهو عدم الاغترار بالكثرة، وعدم الزهد في القلة.
السادسة عشرة: الرخصة في الرقية من العين والحمة.
السابعة عشرة: عمق علم السلف لقوله: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن كذا وكذا. فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني.
الثامنة عشرة: بعد السلف عن مدح الإنسان بما ليس فيه.
التاسعة عشرة: قوله: (أنت منهم) علم من أعلام النبوة.
العشرون: فضيلة عكاشة.
الحادية والعشرون: استعمال المعاريض.
الثانية والعشرون: حسن خلقه صلى الله عليه وسلم.
باب الخوف من الشرك وقول الله عز وجل: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء) (16)
وقال الخليل عليه السلام: (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) (17) وفي حديث: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)، فسئل عنه فقال: (الرياء) وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار) [رواه البخاري]. ولمسلم عن جابر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار).
فيه مسائل:
الأولى: الخوف من الشرك.
الثانية: أن الرياء من الشرك.
الثالثة: أنه من الشرك الأصغر.
الرابعة: أنه أخوف ما يخاف منه على الصالحين.
الخامسة: قرب الجنة والنار.
السادسة: الجمع بين قربهما في حديث واحد.
السابعة: أنه من لقيه لا يشرك به شيئاً دخل الجنة. ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار ولو كان من أعبد الناس.
الثامنة: المسألة العظيمة: سؤال الخليل له ولبنيه وقاية عبادة الأصنام.
التاسعة: اعتباره بحال الأكثر، لقوله: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ) (18).
العاشرة: فيه تفسير (لا إله إلا الله) كما ذكره البخاري.(1/13)
الحادية عشرة: فضيلة من سلم من الشرك.
باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله الله وقوله الله تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (19) الآية.
عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله ـ وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله ـ فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك: فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) أخرجاه.
ولهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه. فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها. فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها. فقال: (أين علي بن أبي طالب؟) فقيل: هو يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه، فأتى به فبصق في عينيه، ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً، خير لك من حمر النعم). يدوكون: يخوضون.
فيه مسائل:
الأولى: أن الدعوة إلى الله طريق من اتبعه صلى الله عليه وسلم.
الثانية: التنبيه على الإخلاص، لأن كثيراً لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه.
الثالثة: أن البصيرة من الفرائض.
الرابعة: من دلائل حسن التوحيد: كونه تنزيهاً لله تعالى عن المسبة.
الخامسة: أن من قبح الشرك كونه مسبة لله.(1/14)
السادسة: وهي من أهمها – إبعاد المسلم عن المشركين لئلا يصير منهم ولو لم يشرك.
السابعة: كون التوحيد أول واجب.
الثامنة: أن يبدأ به قبل كل شيء، حتى الصلاة.
التاسعة: أن معنى: (أن يوحدوا الله)، معنى شهادة: أن لا إله إلا الله.
العاشرة: أن الإنسان قد يكون من أهل الكتاب، وهو لا يعرفها، أو يعرفها ولا يعمل بها.
الحادية عشرة: التنبيه على التعليم بالتدريج.
الثانية عشرة: البداءة بالأهم فالأهم.
الثالثة عشرة: مصرف الزكاة.
الرابعة عشرة: كشف العالم الشبهة عن المتعلم.
الخامسة عشرة: النهي عن كرائم الأموال.
السادسة عشرة: اتقاء دعوة المظلوم.
السابعة عشرة: الإخبار بأنها لا تحجب.
الثامنة عشرة: من أدلة التوحيد ما جرى على سيد المرسلين وسادات الأولياء من المشقة والجوع والوباء.
التاسعة عشرة: قوله: (لأعطين الراية) إلخ. علم من أعلام النبوة.
العشرون: تفله في عينيه علم من أعلامها أيضاً.
الحادية والعشرون: فضيلة علي رضي الله عنه.
الثانية والعشرون: فضل الصحابة في دوكهم تلك الليلة وشغلهم عن بشارة الفتح.
الثالثة والعشرون: الإيمان بالقدر، لحصولها لمن لم يسع لها ومنعها عمن سعى.
الرابعة والعشرون: الأدب في قوله: (على رسلك).
الخامسة والعشرون: الدعوة إلى الإسلام قبل القتال.
السادسة والعشرون: أنه مشروع لمن دعوا قبل ذلك وقوتلوا.
السابعة والعشرون: الدعوة بالحكمة، لقوله: (أخبرهم بما يجب عليهم).
الثامنة والعشرون: المعرفة بحق الله تعالى في الإسلام.
التاسعة والعشرون: ثواب من اهتدى على يده رجل واحد.
الثلاثون: الحلف على الفتيا.(1/15)
باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله وقول الله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ)(20) الآيه وقوله: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) (21) الآية. وقوله: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ)(22) الآية. وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ) (23) الآية.
وفي (الصحيح) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل).
وشرح هذا الترجمة: ما بعدها من الأبواب.
فيه أكبر المسائل وأهمها: وهي تفسير التوحيد، وتفسير الشهادة، وبيَّنَها بأمور واضحة.
منها: آية الإسراء، بيَّن فيها الرد على المشركين الذين يدعون الصالحين، ففيها بيان أن هذا هو الشرك الأكبر.
ومنها: آية براءة، بيَّن فيها أن أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، وبين أنهم لم يؤمروا إلا بأن يعبدوا إلهاً واحداً، مع أن تفسيرها الذي لا إشكال فيه: طاعة العلماء والعباد في المعصية، لادعائهم إياهم.
ومنها قول الخليل (عليه السلام) للكفار: (إنني برآء مما تعبدون * إلا الذي فطرني) (24) فاستثنى من المعبودين ربه، وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة: هي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله. فقال: (وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون) (25).
ومنها: آية البقرة: في الكفار الذين قال الله فيهم: (وما هم بخارجين من النار)(26) ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله، فدل على أنهم يحبون الله حباً عظيماً، ولم يدخلهم في الإسلام، فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله؟! فكيف لمن لم يحب إلا الند وحده، ولم يحب الله؟!.(1/16)
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله) وهذا من أعظم ما يبيِّن معنى (لا إله إلا الله) فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصماً للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه. فيالها من مسألة ما أعظمها وأجلها، وياله من بيان ما أوضحه، وحجة ما أقطعها للمنازع.
باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه وقول الله تعالى: (قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ)(27) الآية.
عن عمران بن حصين رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في يده حلقة من صفر، فقال: (ما هذه)؟ قال: من الواهنة. فقال: (انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً، فإنك لو مت وهي عليك، ما أفلحت أبداً) رواه أحمد بسند لا بأس به. وله عن عقبة بن عامر رضي الله عنه مرفوعاً: (من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له) وفي رواية: (من تعلق تميمة فقد أشرك). ولابن أبي حاتم عن حذيفة أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى فقطعه، وتلا قوله: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) (28).
فيه مسائل:
الأولى: التغليظ في لبس الحلقة والخيط ونحوهما لمثل ذلك.
الثانية: أن الصحابي لو مات وهي عليه ما أفلح. فيه شاهد لكلام الصحابة: أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر(3).
الثالثة: أنه لم يعذر بالجهالة.
الرابعة: أنها لا تنفع في العاجلة بل تضر، لقوله: (لا تزيدك إلا وهناً).
الخامسة: الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك.
السادسة: التصريح بأن من تعلق شيئاً وكل إليه.
السابعة : التصريح بأن من تعلق تميمة فقد أشرك.(1/17)
الثامنة : أن تعليق الخيط من الحمى من ذلك.
التاسعة: تلاوة حذيفة الآية دليل على أن الصحابة يستدلون بالآيات التي في الشرك الأكبر على الأصغر، كما ذكر بن عباس في آية البقرة.
العاشرة: أن تعليق الودع عن العين من ذلك.
الحادية عشرة: الدعاء على من تعلق تميمة، أن الله لا يتم له، ومن تعلق ودعة، فلا ودع الله له، أي لا ترك الله له.
باب ما جاء في الرقي والتمائم
في (الصحيح) عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فأرسل رسولاً أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك) [رواه أحمد وأبو داود]. وعن عبد الله بن عكيم مرفوعاً: (من تعلق شيئاً وكل إليه). [رواه أحمد والترمذي].
(التمائم): شيء يعلق على الأولاد من العين، لكن إذا كان المعلق من القرآن، فرخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه، ويجعله من المنهي عنه، منهم ابن مسعود رضي الله عنه.
و(الرقى): هي التي تسمى العزائم، وخص منه الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمة.
و(التولة): شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته.
وروى أحمد عن رويفع قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رويفع! لعل الحياة تطول بك، فأخبر الناس أن من عقد لحيته، أو تقلد وتراً، أو استنجى برجيع دابة أو عظم، فإن محمداً بريء منه).
وعن سعيد بن جبير رضي الله عنه، قال: (من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة) [رواه وكيع]. وله عن إبراهيم (1) قال: كانوا يكرهون التمائم كلها، من القرآن وغير القرآن.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الرقي والتمائم.
الثانية: تفسير التولة.
الثالثة: أن هذه الثلاثة كلها من الشرك من غير استثناء.(1/18)
الرابعة: أن الرقية بالكلام الحق من العين والحمة ليس من ذلك.
الخامسة: أن التميمة إذا كانت من القرآن فقد اختلف العلماء هل هي من ذلك أم لا؟.
السادسة: أن تعليق الأوتار على الدواب عن العين، من ذلك.
السابعة: الوعيد الشديد على من تعلق وتراً.
الثامنة: فضل ثواب من قطع تميمة من إنسان.
التاسعة: أن كلام إبراهيم لا يخالف ما تقدم من الاختلاف، لأن مراده أصحاب عبد الله بن مسعود.
باب من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما وقول الله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) (29) الآيات.
عن أبي واقد الليثي، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله أجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر! إنها السنن، قلتم ـ والذي نفسي بيده ـ كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون) (30) (لتركبن سنن من كان قبلكم). [رواه الترمذي وصححه].
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النجم.
الثانية: معرفة صورة الأمر الذي طلبوا.
الثالثة: كونهم لم يفعلوا.
الرابعة: كونهم قصدوا التقرب إلى الله بذلك، لظنهم أنه يحبه.
الخامسة: أنهم إذا جهلوا هذا فغيرهم أولى بالجهل.
السادسة: أن لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة ما ليس لغيرهم.
السابعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعذرهم، بل رد عليهم بقوله: (الله أكبر إنها السنن، لتتبعن سنن من كان قبلكم) فغلظ الأمر بهذه الثلاث.
الثامنة: الأمر الكبير، وهو المقصود: أنه أخبر أن طلبتهم كطلبة بني إسرائيل لما قالوا لموسى: (اجْعَل لَّنَا إِلَهًا) (31).
التاسعة: أن نفي هذا معنى (لا إله إلا الله)، مع دقته وخفائه على أولئك.
العاشرة: أنه حلف على الفتيا، وهو لا يحلف إلا لمصلحة.(1/19)
الحادية عشرة: أن الشرك فيه أكبر وأصغر، لأنهم لم يرتدوا بهذا.
الثانية عشرة: قولهم: (ونحن حدثاء عهد بكفر) فيه أن غيرهم لا يجهل ذلك.
الثالثة عشرة: التكبير عند التعجب، خلافاً لمن كرهه.
الرابعة عشرة: سد الذرائع.
الخامسة عشرة: النهي عن التشبه بأهل الجاهلية.
السادسة عشرة: الغضب عند التعليم.
السابعة عشرة: القاعدة الكلية، لقوله (إنها السنن).
الثامنة عشرة: أن هذا عَلم من أعلام النبوة، لكونه وقع كما أخبر.
التاسعة عشرة: أن كل ما ذم الله به اليهود والنصارى في القرآن أنه لنا.
العشرون: أنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر، فصار فيه التنبيه على مسائل القبر. أما (من ربك)؟ فواضح، وأما (من نبيك)؟ فمن إخباره بأنباء الغيب، وأما (ما دينك)؟ فمن قولهم: (اجعل لنا إلهاً) إلخ.
الحادية والعشرون: أن سنة أهل الكتاب مذمومة كسنة المشركين.
الثانية والعشرون: أن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يُؤمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة لقولهم: ونحن حدثاء عهد بكفر.
باب ما جاء في الذبح لغير الله وقول الله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ) (32) الآية، وقوله: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (33).
عن علي رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: (لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن ووالديه. لعن الله من آوى محدثاً، لعن الله من غير منار الأرض) [رواه مسلم].(1/20)
وعن طارق بن شهاب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب) قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟! قال: (مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئاً، فقالوا لأحدهما قرب قال: ليس عندي شيء أقرب قالوا له: قرب ولو ذباباً، فقرب ذباباً، فخلوا سبيله، فدخل النار، وقالوا للآخر: قرب، فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئاً دون الله عز وجل، فضربوا عنقه فدخل الجنة) [رواه أحمد].
فيه مسائل:
الأولى: تفسير (إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي).
الثانية: تفسير (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ).
الثالثة: البداءة بلعنة من ذبح لغير الله.
الرابعة: لعن من لعن والديه، ومنه أن تلعن والدي الرجل فيلعن والديك.
الخامسة: لعن من آوى محدثاً وهو الرجل يحدث شيئاً يجب فيه حق لله فيلتجيء إلى من يجيره من ذلك.
السادسة: لعن من غير منار الأرض، وهي المراسيم التي تفرق بين حقك في الأرض وحق جارك، فتغيرها بتقديم أو تأخير.
السابعة: الفرق بين لعن المعيّن، ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم.
الثامنة: هذه القصة العظيمة، وهي قصة الذباب.
التاسعة: كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده، بل فعله تخلصاً من شرهم.
العاشرة: معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين، كيف صبر ذلك على القتل، ولم يوافقهم على طلبتهم، مع كونهم لم يطلبوا منه إلا العمل الظاهر.
الحادية عشرة: أن الذي دخل النار مسلم، لأنه لو كان كافراً لم يقل: (دخل النار في ذباب).
الثانية عشرة: فيه شاهد للحديث الصحيح (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك).
الثالثة عشرة: معرفة أن عمل القلب هو المقصود الأعظم حتى عند عبدة الأوثان.
باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله وقول الله تعالى: (لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا) (34) الآية.(1/21)
عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه، قال: نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد)؟ قالوا: لا. قال: (فهل كان فيها عيد من أعيادهم)؟ قالوا: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم) [رواه أبو داود، وإسنادها على شرطهما].
فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله: (لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا) (35).
الثانية: أن المعصية قد تؤثر في الأرض، وكذلك الطاعة.
الثالثة: رد المسألة المشكلة إلى المسألة البيِّنة ليزول الإشكال.
الرابعة: استفصال المفتي إذا احتاج إلى ذلك.
الخامسة: أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع.
السادسة: المنع منه إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية ولو بعد زواله.
السابعة: المنع منه إذا كان فيه عيد من أعيادهم ولو بعد زواله.
الثامنة: أنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة، لأنه نذر معصية.
التاسعة: الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ولو لم يقصده.
العاشرة: لا نذر في معصية.
الحادية عشرة: لا نذر لابن آدم فيما لا يملك.
باب من الشرك النذر لغير الله وقول الله تعالى: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) (36) وقوله: (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللّهَ يَعْلَمُهُ) (37).
وفي (الصحيح) عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه).
فيه مسائل:
الأولى: وجوب الوفاء بالنذر.
الثانية: إذا ثبت كونه عبادة لله فصرفه إلى غيره شرك.
الثالثة: أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به.
باب من الشرك الاستعاذة بغير الله وقول الله تعالى: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) (38).(1/22)
وعن خولة بنت حكيم رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك) [رواه مسلم].
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الجن.
الثانية: كونه من الشرك.
الثالثة: الاستدلال على ذلك بالحديث، لأن العلماء استدلوا به على أن كلمات الله غير مخلوقة، قالوا: لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك.
الرابعة: فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره.
الخامسة: أن كون الشيء يحصل به مصلحة دنيوية من كف شر أو جلب نفع – لا يدل على أنه ليس من شرك.
باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره وقوله تعالى: (وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ * وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ) (39) الآية. وقوله: (فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ)(40) الآية. وقوله: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ) (41) الآيتان. وقوله: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) (43).
وروي الطبراني بإسناده أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله عز وجل).
فيه مسائل:
الأولى: أن عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص.
الثانية: تفسير قوله: (ولا تدع من دون ا لله ما لا ينفعك ولا يضرك) (44)
الثالثة: أن هذا هو الشرك الأكبر.
الرابعة: أن أصلح الناس لو يفعله إرضاء لغيره صار من الظالمين.
الخامسة: تفسير الآية التي بعدها.
السادسة: كون ذلك لا ينفع في الدنيا مع كونه كفراً.(1/23)
السابعة: تفسير الآية الثالثة.
الثامنة: أن طلب الرزق لا ينبغي إلا من الله، كما أن الجنة لا تطلب إلا منه.
التاسعة: تفسير الآية الرابعة.
العاشرة: أنه لا أضل ممن دعا غير الله.
الحادية عشرة: أنه غافل عن دعاء الداعي لا يدري عنه.
الثانية عشرة: أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي وعداوته له.
الثالثة عشرة: تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو.
الرابعة عشرة: كفر المدعو بتلك العبادة.
الخامسة عشرة: أن هذه الأمور سبب كونه أضل الناس.
السادسة عشرة: تفسير الآية الخامسة.
السابعة عشرة: الأمر العجيب وهو إقرار عبدة الأوثان أنه لا يجيب المضطر إلا الله، ولأجل هذا يدعونه في الشدائد مخلصين له الدين.
الثامنة عشرة: حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد والتأدب مع الله عز وجل.
باب قول الله تعالى: (أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا) (45) الآية. وقوله: (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ) (46) الآية.(1/24)
وفي (الصحيح) عن أنس قال: شُجَّ النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكسرت رباعيته، فقال: (كيف يفلح قوم شَجُّوا نبيهم)؟ فنزلت: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) (47) وفيه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر: (اللهم العن فلاناً وفلاناً) بعدما يقول: (سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد) فأنزل الله تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) (47) الآية وفي رواية: يدعو على صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام، فنزلت (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) قال: (يا معشر قريش ـ أو كلمة نحوها ـ اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً).
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيتين.
الثانية: قصة أحد.
الثالثة: قنوت سيد المرسلين وخلفه سادات الأولياء يؤمنون في الصلاة.
الرابعة: أن المدعو عليهم كفار.
الخامسة: أنهم فعلوا أشياء ما فعلها غالب الكفار. منها: شجهم نبيهم وحرصهم على قتله، ومنها: التمثيل بالقتلى مع أنهم بنو عمهم.
السادسة: أنزل الله عليه في ذلك (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ) (48).
السابعة: قوله: (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) (49) فتاب عليهم فآمنوا.
الثامنة: القنوت في النوازل.
التاسعة: تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم.
العاشرة: لعنه المعين في القنوت.
الحادية عشرة: قصته صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)(50).(1/25)
الثانية عشرة: جدّه صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، بحيث فعل ما نسب بسببه إلى الجنون، وكذلك لو يفعله مسلم الآن.
الثالثة عشرة: قوله للأبعد والأقرب: (لا أغني عنك من الله شيئاً) حتى قال: (يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً) فإذا صرح صلى الله عليه وسلم وهو سيد المرسلين بأنه لا يغني شيئاً عن سيدة نساء العالمين، وآمن الإنسان أنه صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، ثم نظر فيما وقع في قلوب خواص الناس الآن ـ تبين له التوحيد وغربة الدين.
باب قول الله تعالى: (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ )(51).
وفي (الصحيح) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك. حتى إذا فُزِّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترق السمع ـ ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض ـ وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه ـ فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها عن لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء).(1/26)
وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة ـ أو قال رعدة ـ شديدة خوفاً من الله عز وجل. فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا سجداً. فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: قال الحق وهو العلي الكبير فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل. فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل).
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآية.
الثانية: ما فيها من الحجة على إبطال الشرك، خصوصاً من تعلق على الصالحين، وهي الآية التي قيل: إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب.
الثالثة: تفسير قوله: (رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (52).
الرابعة: سبب سؤالهم عن ذلك.
الخامسة: أن جبريل هو الذي يجيبهم بعد ذلك بقوله: (قال كذا وكذا).
السادسة: ذكر أن أول من يرفع رأسه جبريل.
السابعة: أن يقول لأهل السماوات كلهم، لأنهم يسألونه.
الثامنة: أن الغشي يعم أهل السماوات كلهم.
التاسعة: ارتجاف السماوات لكلام الله.
العاشرة: أن جبريل هو الذي ينتهي بالوحي إلى حيث أمره الله.
الحادية عشرة: ذكر استراق الشياطين.
الثانية عشرة: صفة ركوب بعضهم بعضاً.
الثالثة عشرة: إرسال الشهب.
الرابعة عشرة: أنه تارة يدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وتارة يلقيها في أذن وليه من الإنس قبل أن يدركه.
الخامسة عشرة: كون الكاهن يصدق بعض الأحيان.
السادسة عشرة: كونه يكذب معها مائة كذبة.
السابعة عشرة: أنه لم يصدق كذبه إلا بتلك الكلمة التي سمعت من السماء.
الثامنة عشرة: قبول النفوس للباطل، كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة؟!.
التاسعة عشرة: كونهم يلقي بعضهم إلى بعض تلك الكلمة ويحفظونها ويستدلون بها.(1/27)
العشرون: إثبات الصفات خلافاً للأشعرية المعطلة.
الحادية والعشرون: التصريح بأن تلك الرجفة والغشي كانا خوفاً من الله عز وجل.
الثانية والعشرون: أنهم يخرون لله سجداً.
باب الشفاعة وقول الله تعالى: (وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ)(53) وقوله: (قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا) (54) وقوله: (مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ)(55) وقوله: (وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى) (56) وقوله: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ )(57) الآيتين.
قال أبو العباس: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عوناً لله، ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، كما قال تعالى: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) (58) فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون، هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده، لا يبدأ بالشفاعة أولاً، ثم يقال له: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تُعط، واشفع تُشفع.
وقال له أبو هريرة: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: (من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله.(1/28)
وحقيقته: أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع، ليكرمه وينال المقام المحمود. فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص. انتهى كلامه.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيات.
الثانية: صفة الشفاعة المنفية.
الثالثة: صفة الشفاعة المثبتة.
الرابعة: ذكر الشفاعة الكبرى، وهي المقام المحمود.
الخامسة: صفة ما يفعله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يبدأ بالشفاعة أولاً، بل يسجد، فإذا أذن الله له شفع.
السادسة: من أسعد الناس بها؟.
السابعة: أنها لا تكون لمن أشرك بالله.
الثامنة: بيان حقيقتها.
باب قول الله تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) (59) الآية.
وفي (الصحيح) عن ابن المسيب عن أبيه قال: (لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل، فقال له: (يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله) فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فأعادا فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لأستغفرن لك ما لم أنه عنك) فأنزل الله عز وجل(مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ) (60) الآية. وأنزل الله في أبي طالب: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء) (61).
فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله: : (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء) (62).
الثانية: تفسير قوله: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ) (63) الآية.(1/29)
الثالثة: وهي المسألة الكبرى – تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: (قل: لا إله إلا الله) بخلاف ما عليه من يدعي العلم.
الرابعة: أن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال للرجل: (قل لا إله إلا الله). فقبح الله من أبو جهل أعلم منه بأصل الإسلام.
الخامسة: جدّه صلى الله عليه وسلم ومبالغته في إسلام عمه.
السادسة: الرد على من زعم إسلام عبد المطلب وأسلافه.
السابعة: كونه صلى الله عليه وسلم استغفر له فلم يغفر له، بل نهي عن ذلك.
الثامنة: مضرة أصحاب السوء على الإنسان.
التاسعة: مضرة تعظيم الأسلاف والأكابر.
العاشرة: الشبهة للمبطلين في ذلك، لاستدلال أبي جهل بذلك.
الحادية عشرة: الشاهد لكون الأعمال بالخواتيم، لأنه لو قالها لنفعته.
الثانية عشرة: التأمل في كبر هذه الشبهة في قلوب الضالين، لأن في القصة أنهم لم يجادلوه إلا بها، مع مبالغته صلى الله عليه وسلم وتكريره، فلأجل عظمتها ووضوحها عندهم، اقتصروا عليها.
باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين وقول الله عز وجل: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ) (64).
وفي (الصحيح) عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: (وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا) (65) قال: (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم، عبدت).
وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم.
وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) [أخرجاه].(1/30)
وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو).
ولمسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هلك المتنطعون) قالها ثلاثاً.
فيه مسائل:
الأولى: أن من فهم هذا الباب وبابين بعده، تبين له غربة الإسلام، ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب.
الثانية: معرفة أول شرك حدث على وجه الأرض أنه بشبهة الصالحين.
الثالثة: أول شيء غيّر به دين الأنبياء، وما سبب ذلك مع معرفة أن الله أرسلهم.
الرابعة: قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تردها.
الخامسة: أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل، فالأول: محبة الصالحين، والثاني: فعل أناس من أهل العلم والدين شيئاً أرادوا به خيراً، فظن من بعدهم أنهم أرادوا به غيره.
السادسة: تفسير الآية التي في سورة نوح.
السابعة: جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه، والباطل يزيد.
الثامنة: فيه شاهد لما نقل عن السلف أن البدعة سبب الكفر.
التاسعة: معرفة الشيطان بما تؤول إليه البدعة ولو حسن قصد الفاعل.
العاشرة: معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو، ومعرفة ما يؤول إليه.
الحادية عشرة: مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح.
الثانية عشرة: معرفة: النهي عن التماثيل، والحكمة في إزالتها.
الثالثة عشرة: معرفة عظم شأن هذه القصة، وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها.
الرابعة عشرة: وهي أعجب وأعجب: قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث، ومعرفتهم بمعنى الكلام، وكون الله حال بينهم وبين قلوبهم حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح هو أفضل العبادات، واعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه، فهو الكفر المبيح للدم والمال.
الخامسة عشرة: التصريح أنهم لم يريدوا إلا الشفاعة.
السادسة عشرة: ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك.
السابعة عشرة: البيان العظيم في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم) فصلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين.(1/31)
الثامنة عشرة: نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين.
التاسعة عشرة: التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم، ففيها بيان معرفة قدر وجوده ومضرة فقده.
العشرون: أن سبب فقد العلم موت العلماء.
باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده
في (الصحيح) عن عائشة رضي الله عنها أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها في أرض الحبشة وما فيها من الصور. فقال: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله) فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين، فتنة القبور، وفتنة التماثيل.
ولهما عنها قالت: (لما نُزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها، فقال ـ وهو كذلك ـ : ((لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً، [أخرجاه].
ولمسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك).(1/32)
فقد نهى عنه في آخر حياته، ثم إنه لعن ـ وهو في السياق ـ من فعله، والصلاة عندها من ذلك، وإن لم يُبْنَ مسجد، وهو معنى قولها: خشي أن يتخذ مسجداً، فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجداً، وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجداً، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجداً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً). ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد) [رواه أبو حاتم في صحيحه].
فيه مسائل:
الأولى: ما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فيمن بنى مسجداً يعبد الله فيه عند قبر رجل صالح، ولو صحت نية الفاعل.
الثانية: النهي عن التماثيل، وغلظ الأمر في ذلك.
الثالثة: العبرة في مبالغته صلى الله عليه وسلم في ذلك. كيف بيّن لهم هذا أولاً، ثم قبل موته بخمس قال ما قال، ثم لما كان في السياق لم يكتف بما تقدم.
الرابعة: نهيه عن فعله عند قبره قبل أن يوجد القبر.
الخامسة: أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم.
السادسة: لعنه إياهم على ذلك.
السابعة: أن مراده صلى الله عليه وسلم تحذيره إيانا عن قبره.
الثامنة: العلة في عدم إبراز قبره.
التاسعة: في معنى اتخاذها مسجداً.
العاشرة: أنه قرن بين من اتخذها مسجداً وبين من تقوم عليهم الساعة، فذكر الذريعة إلى الشرك قبل وقوعه مع خاتمته.
الحادية عشرة: ذكره في خطبته قبل موته بخمس: الرد على الطائفتين اللتين هما شر أهل البدع، بل أخرجهم بعض السلف من الثنتين والسبعين فرقة، وهم الرافضة والجهمية. وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد.
الثانية عشرة: ما بلي به صلى الله عليه وسلم من شدة النزع.
الثالثة عشرة: ما أكرم به من الخلّة.
الرابعة عشرة: التصريح بأنها أعلى من المحبة.
الخامسة عشرة: التصريح بأن الصديق أفضل الصحابة.
السادسة عشرة: الإشارة إلى خلافته.(1/33)
باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله
روى مالك في (الموطأ): أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ولابن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى )(66) قال: كان يلت لهم السويق فمات فعكفوا على قبره، وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: كان يلت السويق للحاج.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج. [رواه أهل السنن].
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الأوثان.
الثانية: تفسير العبادة.
الثالثة: أنه صلى الله عليه وسلم لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه.
الرابعة: قرنه بهذا اتخاذ قبور الأنبياء مساجد.
الخامسة: ذكر شدة الغضب من الله.
السادسة: وهي من أهمها – معرفة صفة عبادة اللات التي هي من أكبر الأوثان.
السابعة: معرفة أنه قبر رجل صالح.
الثامنة: أنه اسم صاحب القبر، وذكر معنى التسمية.
التاسعة: لعنه زَوَّارَات القبور.
العاشرة: لعنه من أسرجها.
باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك وقول الله تعالى: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم) (67) الآية.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم) رواه أبو داود بإسناد حسن، ورواته ثقات.(1/34)
وعن علي بن الحسين: أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيدخل فيها فيدعو، فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا عليّ فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم). [رواه في المختارة].
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية براءة.
الثانية: إبعاده أمته عن هذا الحمى غاية البعد.
الثالثة: ذكر حرصه علينا ورأفته ورحمته.
الرابعة: نهيه عن زيارة قبره على وجه مخصوص، مع أن زيارته من أفضل الأعمال.
الخامسة: نهيه عن الإكثار من الزيارة.
السادسة: حثه على النافلة في البيت.
السابعة: أنه متقرر عندهم أنه لا يصلى في المقبرة.
الثامنة: تعليله ذلك بأن صلاة الرجل وسلامه عليه يبلغه وإن بعد، فلا حاجة إلى ما يتوهمه من أراد القرب.
التاسعة: كونه صلى الله عليه وسلم في البرزخ تعرض أعمال أمته في الصلاة والسلام عليه.
باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان وقول الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) (68) وقوله تعالى: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ )(69) وقوله تعالى: (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا)(70).(1/35)
عن أبي سعيد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذّة بالقذّة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: (فمن)؟ أخرجاه، ولمسلم عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة بعامة وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضًا)، ورواه البرقاني في صحيحه، وزاد: (وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئة من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذَّابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي. ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى).
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النساء.
الثانية: تفسير آية المائدة.
الثالثة: تفسير آية الكهف.
الرابعة: وهي أهمها: ما معنى الإيمان بالجبت والطاغوت في هذا الموضع؟: هل هو اعتقاد قلب، أو هو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟.
الخامسة: قولهم إن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدى سبيلاً من المؤمنين.
السادسة: وهي المقصود بالترجمة – أن هذا لا بد أن يوجد في هذه الأمة، كما تقرر في حديث أبي سعيد.
السابعة: التصريح بوقوعها، أعني عبادة الأوثان في هذه الأمة في جموع كثيرة.(1/36)
الثامنة: العجب العجاب خروج من يدّعي النبوة، مثل المختار، مع تكلمه بالشهادتين وتصريحه بأنه من هذه الأمة، وأن الرسول حق، وأن القرآن حق وفيه أن محمداً خاتم النبيين، ومع هذا يصدق في هذا كله مع التضاد الواضح. وقد خرج المختار في آخر عصر الصحابة، وتبعه فئام كثيرة.
التاسعة: البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة.
العاشرة: الآية العظمى أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم.
الحادية عشرة: أن ذلك الشرط إلى قيام الساعة.
الثانية عشرة: ما فيه من الآيات العظيمة، منها: إخباره بأن الله زوى له المشارق والمغارب، وأخبر بمعنى ذلك فوقع كما أخبر، بخلاف الجنوب والشمال، وإخباره بأنه أعطي الكنزين، وإخباره بإجابة دعوته لأمته في الاثنتين، وإخباره بأنه منع الثالثة، وإخباره بوقوع السيف، وأنه لا يرفع إذا وقع، وإخباره بإهلاك بعضهم بعضاً وسبي بعضهم بعضاً، وخوفه على أمته من الأئمة المضلين، وإخباره بظهور المتنبئين في هذه الأمة، وإخباره ببقاء الطائفة المنصورة. وكل هذا وقع كما أخبر، مع أن كل واحدة منها أبعد ما يكون من العقول.
الثالثة عشرة: حصر الخوف على أمته من الأئمة المضلين.
الرابعة عشرة: التنبيه على معنى عبادة الأوثان.
باب ما جاء في السحر
وقول الله تعالى: (وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ)(71) وقوله: (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ)(72).
قال عمر: (الجبت): السحر، (والطاغوت): الشيطان. وقال جابر: الطواغيت: كهان كان ينزل عليهم الشيطان في كل حي واحد.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات) قالوا: يا رسول الله: وما هن؟ قال: (الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات).(1/37)
وعن جندب مرفوعاً: (حد الساحر ضربه بالسيف) رواه الترمذي، وقال: الصحيح أنه موقوف.
وفي (صحيح البخاري) عن بجالة بن عبدة قال: كتب عمر بن الخطاب: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، قال: فقتلنا ثلاث سواحر.
وصح عن حفصة رضي الله عنها: أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها، فقتلت، وكذلك صح عن جندب. قال أحمد: عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية البقرة.
الثانية: تفسير آية النساء.
الثالثة: تفسير الجبت والطاغوت، والفرق بينهما.
الرابعة: أن الطاغوت قد يكون من الجن، وقد يكون من الإنس.
الخامسة: معرفة السبع الموبقات المخصوصات بالنهي.
السادسة: أن الساحر يكفر.
السابعة: أنه يقتل ولا يستتاب.
الثامنة: وجود هذا في المسلمين على عهد عمر، فكيف بعده؟
باب بيان شيء من أنواع السحر
قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف عن حيان بن العلاء، حدثنا قطن بن قبيصة عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت).
قال عوف: العيافة: زجر الطير، والطرق: الخط يخط بالأرض والجبت، قال: الحسن: رنة الشيطان. إسناده جيد ولأبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه، المسند منه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من اقتبس شعبة من النجوم، فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد) [رواه أبو داود] وإسناده صحيح.
وللنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً وكل إليه).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا هل أنبئكم ما الغضة؟ هي النميمة، القالة بين الناس) [رواه مسلم]. ولهما عن ابن عمر رضي الله عنهما، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن من البيان لسحراً).
فيه مسائل:
الأولى: أن العيافة والطرق والطيرة من الجبت.
الثانية: تفسير العيافة والطرق.(1/38)
الثالثة: أن علم النجوم نوع من السحر.
الرابعة: أن العقد مع النفث من ذلك.
الخامسة: أن النميمة من ذلك.
السادسة: أن من ذلك بعض الفصاحة.
باب ما جاء في الكهان ونحوهم
روى مسلم في صحيحه، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتىعرَّافاً فسأله عن شيء فصدقه، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى كاهناً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" رواه أبو داود.
وللأربعة، والحاكم وقال: صحيح على شرطهما، عن (أبي هريرة من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم". ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود موقوفاً.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه مرفوعاً: "ليس منا من تَطير أو تُطير له أو تَكهن أو تُكهن له أو سَحر أو سُحر له، ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) رواه البراز بإسناد جيد، ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله: "ومن أتى.." الخ.
قال البغوي: العراف: الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك وقيل: هو الكاهن والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل وقيل: الذي يخبر عما في الضمير.
وقال أبو العباس ابن تيمية: العراف: اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق.
وقال ابن عباس –في قوم يكتبون (أبا جاد) وينظرون في النجوم -: ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق.
فيه مسائل:
الأولى: …لا يجتمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن.
الثانية: …التصريح بأنه كفر.
الثالثة: ذكر من تُكهن له.
الرابعة:…ذكر من تُطير له.
الخامسة:…ذكر من سحر له.
السادسة: ذكر من تعلم أبا جاد.
السابعة:…ذكر الفرق بين الكاهن والعراف.
باب ما جاء في النشرة(1/39)
عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة فقال: "هي من عمل الشيطان" رواه أحمد بسند جيد. وأبو داود، وقال: سئل أحمد عنها فقال: ابن مسعود يكره هذا كله.
وفي "البخاري" عن قتادة: قلت لابن المسيب: رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته، أيحل عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه. أ.هـ.
وروى عن الحسن أنه قال: لا يحل السحر إلا ساحر.
قال ابن القيم: النشرة: حل السحر عن المسحور، وهي نوعان:
إحداهما:…حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمل قول الحسن، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، ويبطل عمله عن المسحور.
والثاني:…النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة، فهذا جائز.…
فيه مسألتان:
الأولى:…النهي عن النشرة.
الثانية:…الفرق بين المنهي عنه والمرخص فيه مما يزيل الأشكال.
باب ما جاء في التطير وقول الله تعالى: (أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) (73) .وقوله: (قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ) (74).
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر) أخرجاه. زاد مسلم: (ولا نوء، ولا غول).
ولهما عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل) قالوا: وما الفأل؟ قال: (الكلمة الطيبة).
ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أحسنها الفأل، ولا ترد مسلماً فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك).(1/40)
وعن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: "الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا(3) ، ولكن الله يذهبه بالتوكل" رواه أبو داود، والترمذي وصححه، وجعل آخره من قول ابن مسعود.
ولأحمد من حديث ابن عمرو: (من ردته الطيرة عن حاجة فقد أشرك) قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: (أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك).
وله من حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما: إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك.
فيه مسائل:
الأولى: التنبيه على قوله: (أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ) (1) مع قوله: (طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ) (2).
الثانية: نفي العدوى.
الثالثة: نفي الطيرة.
الرابعة: نفي الهامة.
الخامسة: نفي الصفر.
السادسة: أن الفأل ليس من ذلك بل مستحب.
السابعة: تفسير الفأل.
الثامنة: أن الواقع في القلوب من ذلك مع كراهته لا يضر بل يذهبه الله بالتوكل.
التاسعة: ذكر ما يقوله من وجده.
العاشرة: التصريح بأن الطيرة شرك.
الحادية عشرة: تفسير الطيرة المذمومة.
باب ما جاء في التنجيم
قال البخاري في "صحيحه": قال قتادة: خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها. فمن تأول فيها غير ذلك اخطأ، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به. أ.هـ.
وكره قتادة تعلم منازل القمر، ولم يرخص ابن عيينة فيه، ذكره حرب عنهما، ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق.
وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر) رواه أحمد وابن حبان في صحيحه.
فيه مسائل:
الأولى: الحكمة في خلق النجوم.
الثانية: الرد على من زعم غير ذلك.
الثالثة: ذكر الخلاف في تعلم المنازل.
الرابعة: الوعيد فيمن صدق بشيء من السحر ولو عرف أنه باطل.
باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء وقول الله تعالى: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) (75) .(1/41)
عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أربعة في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركوهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة) وقال: (النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب). رواه مسلم.
ولهما عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: (هل تدرون ماذا قال ربكم؟ ) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب). ولهما من حديث ابن عباس بمعناه وفيه قال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا، فأنزل الله هذه الآيات: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) (76) إلى قوله: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) (77).
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الواقعة.
الثانية: ذكر الأربع من أمر الجاهلية.
الثالثة: ذكر الكفر في بعضها.
الرابعة: أن من الكفر ما لا يخرج عن الملة.
الخامسة: قوله: (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر) بسبب نزول النعمة.
السادسة: التفطن للإيمان في هذا الموضع.
السابعة: التفطن للكفر في هذا الموضع.
الثامنة: التفطن لقوله: (لقد صدق نوء كذا وكذا).
التاسعة: إخراج العالم للمتعلم المسألة بالاستفهام عنها، لقوله: (أتدرون ماذا قال ربكم؟).
العاشرة: وعيد النائحة.
باب قول الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ)(78) الآية. وقوله: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ). إلى قول تعالى: ( أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ) (79) الآية.(1/42)
عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ) أخرجاه.
ولهما عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله رسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)، وفي رواية: (لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى .. ) إلى آخره.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك. وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئا. رواه بن جرير، وقال ابن عباس في قوله تعالى: ( وتقطعت بهم الأسباب ) (80) قال: المودة.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية البقرة.
الثانية: تفسير آية براءة.
الثالثة: وجوب محبته صلى الله عليه وسلم على النفس والأهل والمال.
الرابعة: أن نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام.
الخامسة: أن للإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان وقد لا يجدها.
السادسة: أعمال القلب الأربعة التي لا تنال ولاية الله إلا بها، ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها.
السابعة: فهم الصحابي للواقع: أن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا.
الثامنة: تفسير: (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ) (80) .
التاسعة: أن من المشركين من يحب الله حباً شديداً.
العاشرة: الوعيد على من كانت الثمانية أحب إليه من دينه.
الحادية عشرة: أن من اتخذ نداً تساوي محبته محبة الله فهو الشرك الأكبر.(1/43)
باب قول الله تعالى: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)(81). وقوله: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ)(82) الآية.وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ) (83) الآية.
عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعا: (إن من ضعف اليقين: أن ترضى الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على مالم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره).
وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من التمس رضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس) رواه ابن حبان في صحيحه.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية آل عمران.
الثانية: تفسير آية براءة.
الثالثة: تفسير آية العنكبوت.
الرابعة: أن اليقين يضعف ويقوى.
الخامسة: علامة ضعفه، ومن ذلك هذه الثلاث.
السادسة: أن إخلاص الخوف لله من الفرائض.
السابعة: ذكر ثواب من فعله.
الثامنة: ذكر عقاب من تركه.
باب قول الله تعالى: (وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (84) . وقوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) (85) الآية وقوله (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (86) وقوله (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (87) .(1/44)
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) (88). قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(89) رواه البخاري والنسائي.
فيه مسائل:
الأولى: أن التوكل من الفرائض.
الثانية: أنه من شروط الإيمان.
الثالثة: تفسير آية الأنفال.
الرابعة: تفسير الآية في آخرها.
الخامسة: تفسير آية الطلاق.
السادسة: عظم شأن هذه الكلمة، وأنها قول إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم في الشدائد.
باب قول الله تعالى: (أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (90) وقوله: (قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ) (91).
عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر، فقال: ( الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله ).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله) رواه عبد الرزاق.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الأعراف.
الثانية: تفسير آية الحجر.
الثالثة: شدة الوعيد فيمن أمن مكر الله.
الرابعة: شدة الوعيد في القنوط.
باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله وقول الله تعالى: (وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) (92).
قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت).
ولهما عن ابن مسعود مرفوعاً: (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية).(1/45)
وعن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضي، ومن سخط فله السخط) حسنه الترمذي.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية التغابن.
الثانية: أن هذا من الإيمان بالله.
الثالثة: الطعن في النسب.
الرابعة: شدة الوعيد فيمن ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية.
الخامسة: علامة إرادة الله بعبده الخير.
السادسة: إرادة الله به الشر.
السابعة: علامة حب الله للعبد.
الثامنة: تحريم السخط.
التاسعة: ثواب الرضي بالبلاء.
باب ما جاء في الرياء وقول الله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) (93) الآية.
عن أبي هريرة مرفوعاً: (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه). رواه مسلم.
وعن أبي سعيد مرفوعاً: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟) قالوا: بلى يا رسول الله! قال: (الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي، فيزيّن صلاته، لما يرى من نظر رجل). رواه أحمد.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الكهف.
الثانية: الأمر العظيم في رد العمل الصالح إذا دخله شيء لغير الله.
الثالثة: ذكر السبب الموجب لذلك، وهو كمال الغنى.
الرابعة: أن من الأسباب، أنه تعالى خير الشركاء.
الخامسة: خوف النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه من الرياء.
السادسة: أنه فسر ذلك بأن يصلي المرء لله، لكن يزينها لما يرى من نظر رجل إليه.(1/46)
باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا وقول الله تعالى: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)(94) الآيتين.
وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع ).
فيه مسائل:
الأولى: إرادة الإنسان الدنيا بعمل الآخرة.
الثانية: تفسير آية هود.
الثالثة: تسمية الإنسان المسلم: عبد الدينار والدرهم والخميصة.
الرابعة: تفسير ذلك بأنه إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط.
الخامسة: قوله (تعس وانتكس).
السادسة: قوله: (وإذا شيك فلا انتقش).
السابعة: الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات.
باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أرباباً من دون الله
وقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟!
وقال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) (95) أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.(1/47)
عن عدي بن حاتم: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ) (96) الآية. فقلت له: إنا لسنا نعبدهم قال: (أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلّون ما حرم الله، فتحلونه؟) فقلت: بلى. قال فتلك: عبادتهم) رواه أحمد، والترمذي وحسنه.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النور.
الثانية: تفسير آية براءة.
الثالثة: التنبيه على معنى العبادة التي أنكرها عدي.
الرابعة: تمثيل ابن عباس بأبي بكر وعمر، وتمثيل أحمد بسفيان.
الخامسة: تغيّر الأحوال إلى هذه الغاية، حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال، وتسمى الولاية، وعبادة الأحبار هي العلم والفقه ثم تغيرت الحال إلى أن عبد من دون الله من ليس من الصالحين، وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين.
باب قول الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا) (97) الآيات. وقوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) (98) وقوله: (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا )(99) الآية. وقوله: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ)(100) الآية.
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) قال النووي: حديث صحيح، رويناه في كتاب "الحجة" بإسناد صحيح.(1/48)
وقال الشعبي: كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة؛ فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد ـ لأنه عرف أنه لا يأخذ الرشوة ـ وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود ـ لعلمه أنهم يأخذون الرشوة – فاتفقا أن يأتيا كاهناً في جهينة فيتحاكما إليه، فنزلت: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ) (101) الآية.
وقيل: نزلت في رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: إلى كعببن الأشرف، ثم ترافعا إلى عمر، فذكر له أحدهما القصة. فقال للذي لم يرض برسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذلك؟ قال: نعم، فضربه بالسيف فقتله.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النساء وما فيها من الإعانة على فهم الطاغوت.
الثانية: تفسير آية البقرة: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ) (102) .
الثالثة: تفسير آية الأعراف (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا) (103) .
الرابعة: تفسير: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) (104) .
الخامسة: ما قاله الشعبي في سبب نزول الآية الأولى.
السادسة: تفسير الإيمان الصادق والكاذب.
السابعة: قصة عمر مع المنافق.
الثامنة: كون الإيمان لا يحصل لأحد حتى يكون هواه تبعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
باب من جحد شيئاً من الأسماء والصفات وقول الله تعالى: (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ) (105) الآية.
وفي صحيح البخاري قال علي: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟).
وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس: أنه رأى رجلاً انتفض ـ لما سمع حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات، استنكاراً لذلك ـ فقال: (ما فرق هؤلاء؟ يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه) انتهى.
ولما سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر: (الرحمن) أنكروا ذلك. فأنزل الله فيهم: (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ) (106) .
فيه مسائل:(1/49)
الأولى: عدم الإيمان بجحد شيء من الأسماء والصفات.
الثانية: تفسير آية الرعد.
الثالثة: ترك التحديث بما لا يفهم السامع.
الرابعة: ذكر العلة أنه يفضي إلى تكذيب الله ورسوله، ولو لم يتعمد المنكر.
الخامسة: كلام ابن عباس لمن استنكر شيئاً من ذلك، وأنه هلك.
باب قول الله تعالى: (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ) (107).
قال مجاهد ما معناه: هو قول الرجل: هذا مالي، ورثته عن آبائي.
وقال عون بن عبد الله: يقولون: لولا فلان لم يكن كذا.
وقال ابن قتيبة: يقولون: هذا بشفاعة آلهتنا.
وقال أبو العباس – بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه: (إن الله تعالى قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر.. ) الحديث، وقد تقدم ـ وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره، ويشرك به.
قال بعض السلف: هو كقولهم: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقاً، ونحو ذلك مما هو جارٍ على ألسنة كثير.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير معرفة النعمة وإنكارها.
الثانية: معرفة أن هذا جارٍ على ألسنة كثير.
الثالثة: تسمية هذا الكلام إنكاراً للنعمة.
الرابعة: اجتماع الضدين في القلب.
باب قول الله تعالى: (فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (108) .
قال ابن عباس في الآية: الأنداد: هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل؛ وهو أن تقول: والله، وحياتك يا فلان وحياتي، وتقول: لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتانا اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان. لا تجعل فيها فلاناً هذا كله به شرك) رواه ابن أبي حاتم.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) رواه الترمذي وحسنه، وصححه الحاكم.
وقال ابن مسعود: لأن أحلف بالله كاذباً أحب إليّ من أن أحلف بغيره صادقاً.(1/50)
وعن حذيفة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان) رواه أبو داود بسند صحيح.
وجاء عن إبراهيم النخعي، أنه يكره أن يقول: أعوذ بالله وبك، ويجوز أن يقول: بالله ثم بك. قال: ويقول: لولا الله ثم فلان، ولا تقولوا: لولا الله وفلان.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية البقرة في الأنداد.
الثانية: أن الصحابة رضي الله عنهم يفسرون الآية النازلة في الشرك الأكبر بأنها تعم الأصغر.
الثالثة: أن الحلف بغير الله شرك.
الرابعة: أنه إذا حلف بغير الله صادقاً، فهو أكبر من اليمين الغموس.
الخامسة: الفرق بين الواو وثم في اللفظ.
باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله
عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض. ومن لم يرض فليس من الله)، رواه ابن ماجه بسند حسن.
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن الحلف بالآباء.
الثانية: الأمر للمحلوف له بالله أن يرضى.
الثالثة: وعيد من لم يرض
باب قول: ما شاء الله وشئت
عن قتيلة، أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون، تقولون ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: (ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء ثم شئت) رواه النسائي وصححه.
وله أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، فقال: (أ جعلتني لله نداً؟ ما شاء الله وحده).(1/51)
ولابن ماجه عن الطفيل أخي عائشة لأمها قال: رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود، فقلت: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله. قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته. قال: (هل أخبرت بها أحداً؟) قلت: نعم. قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أما بعد؛ فإن طفيلاً رأى رؤيا، أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها. فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده).
فيه مسائل:
الأولى: معرفة اليهود بالشرك الأصغر.
الثانية: فهم الإنسان إذا كان له هوى.
الثالثة: قوله صلى الله عليه وسلم: (أ جعلتني لله نداً؟) فكيف بمن قال:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك . . . .
والبيتين بعده.
الرابعة: أن هذا ليس من الشرك الأكبر، لقوله: (يمنعني كذا وكذا).
الخامسة: أن الرؤيا الصالحة من أقسام الوحي.
السادسة: أنها قد تكون سبباً لشرع بعض الأحكام.
باب من سب الدهر فقد آذى الله وقول الله تعالى: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ)(109) الآية.
في الصحيح عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار) وفي رواية: (لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر).
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن سب الدهر.
الثانية: تسميته أذى لله.
الثالثة: التأمل في قوله: (فإن الله هو الدهر).
الرابعة: أنه قد يكون ساباً ولو لم يقصده بقلبه.
باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه(1/52)
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أخنع اسم عند الله: رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله).
قال سفيان: مثل (شاهان شاه).
وفي رواية: (أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه). قوله (أخنع) يعني أوضع.
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن التسمي بملك الأملاك.
الثانية: أن ما في معناه مثله، كما قال سفيان.
الثالثة: التفطن للتغليظ في هذا ونحوه، مع القطع بأن القلب لم يقصد معناه.
الرابعة: التفطن أن هذا لإجلال الله سبحانه.
باب احترام أسماء الله وتغيير الاسم لأجل ذلك
عن أبي شريح: أنه كان يكنى أبا الحكم؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله هو الحكم، وإليه الحكم) فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني، فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين فقال: (ما أحسن هذا فمالك من الولد؟) قلت: شريح، ومسلم، وعبد الله. قال: (فمن أكبرهم؟) قلت: شريح، قال: (فأنت أبو شريح)، رواه أبو داود وغيره.
فيه مسائل:
الأولى: احترام أسماء الله وصفاته ولو لم يقصد معناه.
الثانية: تغيير الاسم لأجل ذلك.
الثالثة: اختيار أكبر الأبناء للكنية.
باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول وقول الله تعالي: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) (110) الآية.(1/53)
عن ابن عمر، ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وقتادة – دخل حديث بعضهم في بعض - : أنه قال رجل في غزوة تبوك: ما رأينا مثل قرائناً هؤلاء، أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء ـ يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القرّاء ـ فقال له عوف بن مالك: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره فوجد القرآن قد سبقه. فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونتحدث حديث الركب، نقطع به عنا الطريق. فقال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقاً بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الحجارة تنكب رجليه – وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب – فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ) ما يتلفت إليه وما يزيده عليه.
فيه مسائل:
الأولى: وهي العظيمة: أن من هزل بهذا فهو كافر.
الثانية: أن هذا هو تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائناً من كان.
الثالثة: الفرق بين النميمة والنصيحة لله ولرسوله.
الرابعة: الفرق بين العفو الذي يحبه الله وبين الغلظة على أعداء الله.
الخامسة: أن من الأعذار ما لا ينبغي أن يقبل.
باب ما جاء في قول الله تعالى: (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي)(111) الآية.
قال مجاهد: هذا بعملي وأنا محقوق به. وقال ابن عباس: يريد من عندي.
وقوله: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) (112) قال قتادة: على علم مني بوجوه المكاسب. وقال آخرون: على علم من الله أني له أهل. وهذا معنى قول مجاهد: أوتيته على شرف.(1/54)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن ثلاثة من بني إسرائيل: أبرص، وأقرع، وأعمى. فأراد الله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكاً، فأتى الأبرص، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به قال: فمسحه، فذهب عنه قذره، وأعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإبل أو البقر ـ شك إسحاق ـ فأعطي ناقة عشراء، وقال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأقرع، فقال أي شيء أحب إليك قال: شعر حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به فمسحه، فذهب عنه، وأعطي شعراً حسناً، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: البقر، أو الإبل، فأعطي بقرة حاملاً، قال: بارك الله لك فيها. فأتى الأعمى، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إلي بصري؛ فأبصر به الناس، فمسحه، فرد الله إليه بصره، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطي شاة والداً؛ فأنتج هذان وولد هذا، فكان لهذا وادٍ من الإبل، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا وادٍ من الغنم، قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته. فقال: رجل مسكين، قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، والمال، بعيراً أتبلغ به في سفري، فقال: الحقوق كثيرة. فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيراً، فأعطاك الله عز وجل المال؟ فقال: إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر، فقال: إن كنت كاذباً فصيّرك الله إلى ما كنت. قال: وأتى الأقرع في صورته، فقال له مثل ما قال لهذا، وردّ عليه مثل ما ردّ عليه هذا، فقال: إن كنت كاذباً فصيّرك الله إلى ما كنت. وأتى الأعمى في صورته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل، قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك. أسألك بالذي ردّ عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: كنت أعمى فردّ الله إليَّ بصري، فخذ ما شئت ودع(1/55)
ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله. فقال: أمسك مالك، فإنما ابتليتم فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك) أخرجاه.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآية.
الثانية: ما معنى: (لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي)(113) .
الثالثة: ما معنى قوله: (أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي)(113).
الرابعة: ما في هذه القصة العجيبة من العبر العظيمة.
باب قول الله تعالى: (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا) (114) الآية.
قال ابن حزم: اتفقوا على تحريم كل اسم معبَّد لغير الله؛ كعبد عمر، وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك، حاشا عبد المطلب.
وعن ابن عباس رضي الله عنه في الآية قال: لما تغشاها آدم حملت، فأتاهما إبليس فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة لتطيعاني أو لأجعلن له قرني أيل، فيخرج من بطنك فيشقه، ولأفعلن ولأفعلن ـ يخوفهما ـ سِّمياه عبد الحارث، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتاً، ثم حملت، فأتاهما، فقال مثل قوله، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتاً، ثم حملت، فأتاهما، فذكر لهما فأدركهما حب الولد، فسمياه عبد الحارث فذلك قوله تعالى: (جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا ) (115) رواه ابن أبي حاتم.
وله بسند صحيح عن قتادة قال: شركاء في طاعته، ولم يكن في عبادته. وله بسند صحيح عن مجاهد في قوله: ( لئن آتيتنا صالحاً ) (116) قال: أشفقا ألا يكون إنساناً، وذكر معناه عن الحسن وسعيد وغيرهما.
فيه مسائل:
الأولى: تحريم كل اسم معبّد لغير الله.
الثانية: تفسير الآية.
الثالثة: أن هذا الشرك في مجرد تسمية لم تقصد حقيقتها.
الرابعة: أن هبة الله للرجل البنت السوية من النعم.
الخامسة: ذكر السلف الفرق بين الشرك في الطاعة، والشرك في العبادة.
باب قول الله تعالى: (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ) (117) الآية(1/56)
ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما (يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ): يشركون. وعنه: سموا اللات من الإله، والعزى من العزيز. وعن الأعمش: يدخلون فيها ما ليس منها.
فيه مسائل:
الأولى: إثبات الأسماء.
الثانية: كونها حسنى.
الثالثة: الأمر بدعائه بها.
الرابعة: ترك من عارض من الجاهلين الملحدين.
الخامسة: تفسير الإلحاد فيها.
السادسة: وعيد من ألحد.
باب لا يقال: السلام على الله
في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقولوا السلام على الله، فإن الله هو السلام).
فيه مسائل:
الأولى: تفسير السلام.
الثانية: أنه تحية.
الثالثة: أنها لا تصلح لله.
الرابعة: العلة في ذلك.
الخامسة: تعليمهم التحية التي تصلح لله.
باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة، فإن الله لا مكره له).
ولمسلم: (وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه).
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن الاستثناء في الدعاء.
الثانية: بيان العلة في ذلك.
الثالثة: قوله: (ليعزم المسألة).
الرابعة: إعظام الرغبة.
الخامسة: التعليل لهذا الأمر.
باب لا يقول: عبدي وأمتي
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضىء ربك، وليقل: سيدي ومولاي، ولا يقل: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي، وغلامي).
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن قول: عبدي وأمتي.
الثانية: لا يقول العبد: ربي، ولا يقال له: أطعم ربك.
الثالثة: تعليم الأول قول: فتاي وفتاتي وغلامي.
الرابعة: تعليم الثاني قول: سيدي ومولاي.
الخامسة: التنبيه للمراد، وهو تحقيق التوحيد حتى في الألفاظ.(1/57)
باب لا يرد من سأل الله
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سأل بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى ترون أنكم قد كافأتموه). رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح.
فيه مسائل:
الأولى: إعاذة من استعاذ بالله.
الثانية: إعطاء من سأل بالله.
الثالثة: إجابة الدعوة.
الرابعة: المكافأة على الصنيعة.
الخامسة: أن الدعاء مكافأة لمن لم يقدر إلا عليه.
السادسة: قوله: (حتى ترون أنكم قد كافأتموه).
باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة
عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يسأل بوجه الله إلا الجنة). رواه أبو داود.
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن أن يسأل بوجه الله إلا غاية المطالب.
الثانية: إثبات صفة الوجه.
باب ما جاء في الّلو وقول الله تعالى: (يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا) (118). وقوله: (الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا)(119) الآية.
في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا؛ ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان).
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيتين في آل عمران.
الثانية: النهي الصريح عن قول: لو، إذا أصابك شيء.
الثالثة: تعليل المسألة بأن ذلك يفتح عمل الشيطان.
الرابعة: الإرشاد إلى الكلام الحسن.
الخامسة: الأمر بالحرص على ما ينفع مع الاستعانة بالله.
السادسة: النهي عن ضد ذلك وهو العجز.
باب النهي عن سب الريح(1/58)
عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح، وشر ما فيها، وشر ما أمرت به) صححه الترمذي.
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن سب الريح.
الثانية: الإرشاد إلى الكلام النافع إذا رأى الإنسان ما يكره.
الثالثة: الإرشاد إلى أنها مأمورة.
الرابعة: أنها قد تؤمر بخير وقد تؤمر بشر.
باب قول الله تعالى: (أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) (1) الآية. وقوله: (وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ) (120) الآية.
قال ابن القيم في الآية الأولى: فسّر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وفسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقدر الله وحكمته، ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله، وأن يظهره الله على الدين كله. وهذا هو الظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح، وإنما كان هذا ظن السوء؛ لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه، وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق، فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره أو أنكر أن يكون قدره بحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة، فذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار.
وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده.(1/59)
فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله ويستغفره من ظنه بربه ظن السوء، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتاً على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك: هل أنت سالم؟
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة……وإلا فإني لا إخالك ناجياً
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية آل عمران.
الثانية: تفسير آية الفتح.
الثالثة: الإخبار بأن ذلك أنواع لا تحصر.
الرابعة: أنه لا يسلم من ذلك إلا من عرف الأسماء والصفات وعرف نفسه.
باب ما جاء في منكري القدر
وقال ابن عمر: والذي نفس ابن عمر بيده، لو كان لأحدهم مثل أحد ذهباً، ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر. ثم استدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره). رواه مسلم.
وعن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه: (يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فقال: رب، وماذا أكتب؟ قال: أكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة) يا بني سمعت رسول الله صلى الله وسلم يقول: (من مات على غير هذا فليس مني).
وفي رواية لأحمد: (إن أول ما خلق الله تعالى القلم، فقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة).
وفي رواية لابن وهب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار).(1/60)
وفي المسند والسنن عن ابن الديلمي قال: أتيت أبي بن كعب، فقلت: في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي، فقال: (لو أنفقت مثل أحد ذهباً ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما اصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار). قال: فأتيت عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وزيدبن ثابت، فكلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. حديث صحيح رواه الحاكم في صحيحه.
فيه مسائل:
الأولى: بيان فرض الإيمان بالقدر.
الثانية: بيان كيفية الإيمان به.
الثالثة: إحباط عمل من لم يؤمن به.
الرابعة: الإخبار بأن أحداً لا يجد طعم الإيمان حتى يؤمن به.
الخامسة: ذكر أول ما خلق الله.
السادسة: أنه جرى بالمقادير في تلك الساعة إلى قيام الساعة.
السابعة: براءته صلى الله عليه وسلم ممن لم يؤمن به.
الثامنة: عادة السلف في إزالة الشبهة بسؤال العلماء.
التاسعة: أن العلماء أجابوه بما يزيل الشبهة، وذلك أنهم نسبوا الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط.
باب ما جاء في المصورين
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة). أخرجاه.
ولهما عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهؤون بخلق الله).
ولهما عن ابن عباس رضي الله عنهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم).
ولهما عنه مرفوعاً: (من صوّر صورة في الدنيا كلّف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ).
ولمسلم عن أبي الهياج قال: قال لي عليّ: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته).
فيه مسائل:(1/61)
الأولى: التغليظ الشديد في المصورين.
الثانية: التنبيه على العلة، وهو ترك الأدب مع الله لقوله: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي).
الثالثة: التنبيه على قدرته وعجزهم، لقوله: (فليخلقوا ذرة أو شعيرة).
الرابعة: التصريح بأنهم أشد الناس عذاباً.
الخامسة: أن الله يخلق بعدد كل صورة نفساً يعذب بها المصور في جهنم.
السادسة: أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح.
السابعة: الأمر بطمسها إذا وجدت.
باب ما جاء في كثرة الحلف وقول الله تعالى: (وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ) (121).
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب) أخرجاه.
عن سلمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى عليه وسلم قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته، لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه) رواه الطبراني بسند صحيح.
وفي الصحيح عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً؟ ثم إن بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن).
وفيه عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته).
قال إبراهيم: كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار.
فيه مسائل:
الأولى: الوصية بحفظ الأيمان.
الثانية: الإخبار بأن الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للبركة.
الثالثة: الوعيد الشديد فيمن لا يبيع ولا يشتري إلا بيمينه.
الرابعة: التنبيه على أن الذنب يعظم مع قلة الداعي.
الخامسة: ذم الذين يحلفون ولا يستحلفون.(1/62)
السادسة: ثناؤه صلى الله عليه وسلم على القرون الثلاثة، أو الأربعة، وذكر ما يحدث بعدهم.
السابعة: ذم الذين يشهدون ولا يستشهدون.
الثامنة: كون السلف يضربون الصغار على الشهادة والعهد.
باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه وقول الله تعالى: (وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) (122) الآية.
عن بريدة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، فقال: (اغزوا بسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال ـ أو خلال ـ فآيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن هم أجابوك فاقبل منهم، ثم ادعوهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله تعالى، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه.
وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك. فإنك لا تدري، أتصيب حكم الله فيهم أم لا) رواه مسلم.
فيه مسائل:
الأولى: الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه، وذمة المسلمين.
الثانية: الإرشاد إلى أقل الأمرين خطراً.
الثالثة: قوله: (اغزوا بسم الله في سبيل الله).(1/63)
الرابعة: قوله: (قاتلوا من كفر بالله).
الخامسة: قوله: (استعن بالله وقاتلهم).
السادسة: الفرق بين حكم الله وحكم العلماء.
السابعة: في كون الصحابي يحكم عند الحاجة بحكم لا يدري أيوافق حكم الله أم لا.
باب ما جاء في الإقسام على الله
عن جندب بن عبد الله رضي الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى عليّ أن لا اغفر لفلان؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك) رواه مسلم.
وفي حديث أبي هريرة أن القائل رجل عابد، قال أبو هريرة: تكلم بكلمة أو بقت دنياه وآخرته.
فيه مسائل:
الأولى: التحذير من التألي على الله.
الثانية: كون النار أقرب إلى أحدنا من شراك نعله.
الثالثة: أن الجنة مثل ذلك.
الرابعة: فيه شاهد لقوله (إن الرجل ليتكلم بالكلمة) الخ..
الخامسة: أن الرجل قد يغفر له بسبب هو من أكره الأمور إليه.
باب لا يستشفع بالله على خلقه
عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: نهكت الأنفس، وجاع العيال، وهلكت الأموال، فاستسق لنا ربك، فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله! سبحان الله!) فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه؛ ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويحك، أتدري ما الله؟ إن شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه) وذكر الحديث. رواه أبو داود.
فيه مسائل:
الأولى: إنكاره على من قال: نستشفع بالله عليك.
الثانية: تغيره تغيراً عرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة.
الثالثة: أنه لم ينكر عليه قوله: (نستشفع بك على الله).
الرابعة: التنبيه على تفسير (سبحان الله).
الخامسة: أن المسلمين يسألونه الاستسقاء.
باب ما جاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد، وسده طرق الشرك(1/64)
عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه، قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا، فقال: (السيد الله تبارك وتعالى). قلنا: وأفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً؛ فقال: (قولوا بقولكم، أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان) رواه أبو داود بسند جيد.
وعن أنس رضي الله عنه، أن ناساً قالوا: يا رسول الله: يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، فقال: (يا أيها الناس، قولوا بقولكم، أو بعض قولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد، عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل). رواه النسائي بسند جيد.
فيه مسائل:
الأولى: تحذير الناس من الغلو.
الثانية: ما ينبغي أن يقول من قيل له: أنت سيدنا.
الثالثة: قوله: (ولا يستجرينكم الشيطان) مع أنهم لم يقولوا إلا الحق.
الرابعة: قوله: (ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي).
باب ما جاء في قول الله تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(123) الآية.
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (124) الآية.
وفي رواية لمسلم: والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، أنا الله. وفي رواية للبخاري: يجعل السماوات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع) أخرجاه.(1/65)
ولمسلم عن ابن عمر مرفوعاً: (يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين السبع ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون.
وروي عن ابن عباس، قال: (ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم).
وقال ابن جرير: حدثني يونس، أنبأنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: حدثني أبي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس) قال: وقال أبو ذر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض).
وعن ابن مسعود قال: (بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم). أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمه عن عاصم عن زر عن عبدالله ورواه بنحوه عن المسعودي عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله. قاله الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى، قال: وله طرق.
وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل تدرون كم بين السماء والأرض؟) قلنا: الله ورسوله أعلم قال: (بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة وكثف كل سماء خمسمائة سنة، وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله سبحانه وتعالى فوق ذلك، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم). أخرجه أبو داود وغيره.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله: (وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(125) .(1/66)
الثانية: أن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه صلى الله عليه وسلم لم ينكروها ولم يتأولوها.
الثالثة: أن الحبر لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم، صدقه، ونزل القرآن بتقرير ذلك.
الرابعة: وقوع الضحك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم.
الخامسة: التصريح بذكر اليدين، وأن السماوات في اليد اليمنى، والأرضين في الأخرى.
السادسة: التصريح بتسميتها الشمال.
السابعة: ذكر الجبارين والمتكبرين عند ذلك.
الثامنة: قوله: ( كخردلة في كف أحدكم ).
التاسعة: عظم الكرسي بالنسبة إلى السماوات.
العاشرة: عظم العرش بالنسبة إلى الكرسي.
الحادية عشرة: أن العرش غير الكرسي والماء.
الثانية عشر: كم بين كل سماء إلى سماء.
الثالثة عشر: كم بين السماء السابعة والكرسي.
الرابعة عشر: كم بين الكرسي والماء.
الخامسة عشر: أن العرش فوق الماء.
السادسة عشرة: أن الله فوق العرش.
السابعة عشر: كم بين السماء والأرض.
الثامنة عشر: كثف كل سماء خمسمائة عام.
التاسعة عشر: أن البحر الذي فوق السماوات بين أعلاه وأسفله مسيرة خمسمائة سنة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحواشي
سورة الذاريات، الآية: 56,
سورة النحل، الأية: 36.
سورة الإسراء، الآية: 23.
سورة النساء، الآية: 36.
سورة الأنعام، الآيات، 151 ـ 153.
سورة الأنعام، الآية: 153.
سورة الكافرون، الآيتان: 3 ، 5.
سورة البقرة، الآية: 256.
سورة الإسراء، الآية: 22.
سورة الإسراء، الآية: 39.
سورة النساء، الآية: 36.
سورة الأنعام، الآية: 82.
سورة النحل، الآية: 120.
سورة المؤمنون، الآية: 59.
سورة النساء، الآية: 48.
سورة إبراهيم، الآية: 35.
سورة إبراهيم، الآية: 36.
سورة يوسف، الآية: 108.
سورة الإسراء، الآية: 57.
سورة الزخرف، الآيتان: 26 ، 27.
سورة التوبة، الآية: 31.(1/67)
سورة البقرة، الآية: 165.
سورة الزخرف، الآيتان: 26 ، 27.
سورة الزخرف، الآية: 28.
سورة البقرة، الآية: 167.
سورة الزمر، الآية: 38.
سورة يوسف، الآية: 106.
من مجموعة التوحيد النجدية (ط مكة المكرمة 1391هـ): أكبر الكبائر.
في فتح المجيد (ص 133): هو الإمام إبراهيم بن يزيد النخعي.
سورة النجم، الآية: 19.
سورة الأعراف، الآية: 138.
سورة الأعراف، الآية: 138.
سورة الأنعام، الآيتان: 162 ، 163.
سورة الكوثر، الآية: 2.
سورة التوبة، الآية: 108.
سورة الدهر، الآية: 7.
سورة البقرة، الآية: 270.
سورة الجن، الآية: 6.
سورة يونس، الآيتان: 106 ، 107.
سورة العنكبوت، الآية: 17.
سورة الأحقاف، الآيبة: 5.
سورة النمل، الآية: 62.
سورة يونس، الآية: 106.
سورة الأعراف، الآيتان: 191 ، 192.
سورة فاطر، الآية: 13.
سورة آل عمران، الآية: 128.
سورة الشعراء، الآية: 214.
سورة آل عمران، الآية: 128.
سورة الشعراء، الآية: 214.
سورة سبأ، الآية: 23.
سورة سبأ، الآية: 23.
سورة الأنعام، الآية: 51.
سورة الزمر، الآية: 44.
سورة البقرة، الآية: 255.
سورة النجم، الآية: 26.
سورة سبأ، الآية: 22.
سورة الأنبياء، الآية: 28.
سورة القصص، الآية: 56.
سورة التوبة، الآية: 113.
سورة النساء، الآية: 171.
سورة نوح، الآية: 23.
سورة النجم، الآية: 19.
سورة التوبة، الآية: 128.
سورة النساء، الآية: 51.
سورة المائدة، الآية: 60.
سورة الكهف، الآية: 21.
سورة البقرة، الآية: 102.
سورة النساء، الآية: 51.
بياض في الأصل. والساقطة منه اسم الصحابي، وهو أبو هريرة رضي الله عنه. أ هـ من التعليق على مجموعة التوحيد النجدية (ط مكة المكرمة 1391هـ) ص 35.
سورة الأعراف، الآية: 131.
سورة يسن، الآية: 19.(1/68)
في الحديث حذف يعرف بالقرينة، أي إلا ويقع في نفسه شيء من التأثير بحسب العادة والوراثة، ولكن الله يذهبه من قلب المؤمن لإيمانه بأن حركة الطير لا تأثير لها في سير المقادير. أ هـ من مجموعة التوحيد النجدية (ط مكة المكرمة 1391هـ) ص 37.(1/69)
تعليم الصبيان التوحيد
لشيخ الإسلام
محمد بن عبد الوهاب رحمه الله
المتوفى 1206هـ
نبذة عن الكتاب
صاغ المؤلف رحمه الله مؤلفه على طريقة سؤال وجواب ليسهل على الصغار تناوله وحفظه ، وأنصح كل ولي أمر أن يعلمه ولده لما فيه من توحي صاف خال من شوائب البدع والعياذ بالله
اعتنى به
قسم التحقيق بدار الحرمين
كلمة الناشر
بسم الله ، والحمد لله ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المُشَرَّف بالشفاعة، المخصوص ببقاء شريعته إلى قيام الساعة، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأبرار وأتباعه الأخيار صلاة باقية ما تعاقب الليل والنهار.
وبعد: فإن من دواعي الشرف والسرور أن تكون دار الحرمين أداة نشر للنافع من العلوم وتراث الأمة المصون، وإننا في هذا المقام إذ نشكر الله تعالى ونشكر القراء الكرام أن أولونا ثقتهم باقتنائهم مطبوعات الدار؛ فإن هذا لمما يزيدنا تمسُّكاً بالخط الذي انتهجناه من تيسير اقتناء المطبوعات النافعة بأسعار مخفضةٍ علاوة على حسن الإخراج ودقة المراجعة وجودة الطباعة، وفوق هذا كله - وهو الأهم - عرض مطبوعات الدار قبل طبعها على المختصين والمؤهلين ممن يحسن النظر ليكون القارئ في مأمنٍ من خطإٍ لسنا نحن صانعوه، فكانت منشوراتنا - ولله الحمد والمنة - بديعة الإتقان صحيحة الأركان سليمة من لفظة ((لو كان))، فالحمد لله الذي جعلنا عن تراث هذه الأمة ذابين وعلى كتب أهل العلم محافظين، والله ولي التوفيق.
دار الحرمين(2/1)
تعليم الصبيان التوحيد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فهذه رسالة(1) نافعة. فيما يجب على الإنسان أن يعلم الصبيان قبل تعلمهم القرآن حتى يصير إنساناً كاملاً على فطرة الإسلام وموحداً جيداً على طريقة الإيمان ورتبته على طريقة سؤال وجواب:
س1: إذا قيل لك : من ربك؟
ج: فقل : ربي الله.
س2: وما معنى الرب؟
ج: فقل : المالك المعبود والمعين ... الله ... ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين.
س3: فإذا قيل لك : بما عرفت ربك؟
ج: فقل : أعرفه بآياته ومخلوقاته، ومن آياته: الليل والنهار، والشمس والقمر.
ومن مخلوقاته: السموات والأرض، وما فيهما، والدليل على ذلك قوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا } إلى قوله: { تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ الأعراف:54 ].
س4: فإن قيل لك: لأي شيء خلقك؟
ج: فقل : لعبادته وحده لا شريك له، وطاعته بمثال ما أمر به، وترك ما ينهى عنه، كما قال الله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات:56].
وكما قال تعالى: { إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ } [ المائدة:72 ].
والشرك : أن يجعل لله نداً يدعوه، ويرجوه، أو يخافه، أو يتوكل عليه، أو يرغب إليه من دون الله، وغير ذلك من أنواع العبادات.
فإن العبادة : اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة.
ومنها الدعاء، وقد قال تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } [الجن:18].
__________
(1) اعتمدنا في طبعنا لهذه الرسالة على مطبوعة ((دار الهجرة)) التي حققها : (( محمد حسين عفيفي ، وعمر بن غرامة العمروي )) فجزاهم الله خيراً ، فما عرفنا الرسالة إلا يهم.(2/2)
والدليل على أن دعوة غير الله كفر، كما قال تعالى: { وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } [ المؤمنون:117].
وذلك أن الدعاء من أعظم أنواع العبادات، كما قال ربكم: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر:60].
وفي ((السنن))(1): عن أنس مرفوعاً : ((الدعاء مخ العبادة)).
وأول ما فرض الله على عباده الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ} [النحل:36].
والطاغوت: ما عبد من دون الله أو الشيطان، والطاغوت(2)، والكهانة، والمنجم، ومن يحكم بغير ما أنزل الله، وكل متبوع مطاع على غير الحق.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: (( الطاغوت: ما يجاوز به العبد حده من معبود، أو متبوع، أو مطاع )).
س5: فإذا قيل لك: ما دينك؟
ج: فقل : ديني الإسلام.
ومعنى الإسلام: الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة وموالاة المسلمين ، ومعاداة المشركين.
قال تعالى: { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ }[آل عمران:19]، وقال: { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ }[آل عمران:85].
وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه قال : (( أنْ تَشْهَدَ أن لا إله إلا اللهُ وأنَّ محمداً رسولُ اللهِ ، وتُقيِمَ الصَّلاَةَ، وتُؤْتِيَ الزكاةَ، وتصومَ رمضان، وتحُجَّ البيتَ إن اسْتطعْتَ إليه سَبِلاً )).
ومعنى لا إله إلا الله:
__________
(1) بهذا اللفظ لم يخرجه سوى الترمذي (2234) وضعفه.
(2) قوله والطاغوت كذا بالأصل المطبوع، وليس لها محل في الجملة.(2/3)
أي لا معبود حق إلا الله ... كما قال تعالى : {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 26-28].
والدليل على الصلاة والزكاة: قوله تعالى: { وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } [البينة:5].
فبدأ في هذه الآية بالتوحيد والبراءة من الشرك : أعظم ما أمر به التوحيد ، وأكبر ما نهى عنه الشرك، وأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وهذا هو معظم الدين وما بعده من الشرائع تابع له.
والدليل على فرض الصيام: قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } إلى قوله: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [البقرة:183-185].
والدليل على فرض الحج : قوله تعالى : { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } [آل عمران:97].
وأصول الإيمان ستة:
أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره.
ودليله ما في ((الصحيح)) من حديث عمر بن الخطاب الحديث(1).
س6: وإذا قيل لك : من نبيك؟
ج: فقل : نبينا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف.
__________
(1) الذي في ((الصحيحين)) ومطلعه : ((طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ... ))(2/4)
اصطفاه الله تعالى من قريش وهم صفوة ولد إسماعيل، وبعثه إلى الأحمر والأسود، وأنزل عليه الكتاب والحكمة تدعي الناس إلى إخلاص العبادة و ترك ما كانوا يعبدون من دون الله من : الأصنام – الأحجار- والأشجار، والأنبياء، والصالحين، والملائكة، وغيره.
فدعى الناس إلى ترك الشرك وقاتلهم إلى تركه وأن تخلصوا لعبادة الله كمال قال تعالى : {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} [الجن:20].
وقال تعالى: { قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي } [الزمر:14].
وقال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ } [الرعد:36].
وقال تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:64-66].
ومن أصول الإيمان المنجي من الكفر: الإيمان بالبعث، والنشر، والجزاء، والحساب، والجنة، والنار حق.
قال تعالى:{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55].
وقال تعالى:{ وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ} [الرعد:5].
وفي الآية دليل على أن منجحد البعث كفر كفراً يوجب الخلود في النار.(2/5)
أعاذنا(1) الله من الكفر وأعمال الكفر فضمت هذه الآيات بيان ما بعث به النبي - صلى الله عليه وسلم - من إخلاص العبادة لله، والنهي عن عبادة غير الله وقصر العبادة على العبادة(2)، وهذا دينه الذي دعى الناس إليه، وجاهدهم عليه كما قال تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه } [الأنفال:39].
وقد بعثه الله تعالى على رأس أربعين سنة، فدعا الناس إلى الإخلاص، وترك عبادة ما سوى الله نحواً من عشر سنين، ثم عرج به إلى السماء وفرض عليه الصلوات الخمس من غير واسطة بينه وبين الله تعالى في ذلك، ثم أمر بعد ذلك بالهجرة فهاجر إلى المدينة، وأمر بالجهاد، فجاهد في الله حق جهاده نحواً من عشر سنين حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً، فلما تمت ثلاث وستون سنة – والحمد لله – تم الدين وبَلَغَ البَلاغ من إخبار الله تعالى له بقبضه صلوات الله عليه وسلم.
وأول الرسل نوح عليه السلام، وآخرهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم .. مما قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ} [النساء:163].
وقال تعالى: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ } [آل عمران:144].
وقال تعالى: { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } [الأحزاب:40].
وأفضل الرسل: نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وأفضل البشر بعد الأنبياء صلى الله عليهم وسلم: أبو بكر رضي الله عنه ، وعمر رضي الله عنه، وعثمان رضي الله عنه، وعلي رضي الله عنه .. ورضي الله عنهم أجمعين.
وخير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.
وعيسى - صلى الله عليه وسلم - ينزل من السماء ويقتل الدجال.
والحمد لله رب العالمين.
__________
(1) بالأصل المطبوع : ((أعاذن)).
(2) كذا السياق في ((الأصل المطبوع)).(2/6)
تمت على ما تقدم.
***
انتهيت بفضل الله من صف هذا المتن في علم العقيدة في ليلة الإثنين المباركة 23 ذو القعدة ، 1425 ولله الحمد والمنة
وأنبه على أن التعليقات على الهوامش الجانبية من عندي وكذا كل ما هو باللون الأحمر في المستند .. والله أسأل العفو والعافية
ومن أراد أن ينبه أو ينصح فلا يبخل والله من وراء القصد
aymanabo@yahoo.com ، أو جوال رقم : 20105711211(2/7)
مفيد المستفيد في كفر تارك التوحيد
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين و عليه نتوكل
مما قال الشيخ الإمام وعلم الهداة الأعلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى : لما ارتاب بعض من يدعي العلم من أهل العيينة . لما ارتد أهل حريملاء ، فسئل الشيخ أن يكتب كلاماً ينفعه الله به :
فقال رحمه الله تعالى : روى مسلم في صحيحه عن عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه قال : كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة , وأنهم ليسوا على شيء , وهم يعبدون الأوثان , قال : فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارا فقعدت على راحلتي فقدمت عليه فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخفياً جرأ عليه قومه فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة فقلت له , وما أنت ؟ . قال : ( أنا نبي ) ! . قلت : وما نبي ؟ قال : ( أرسلني الله ) ! . فقلت : بأي شيء أرسلك ؟ قال : ( أرسلني بصلة الأرحام , وكسر الأوثان وأن يوحد الله لا يشرك به شيء ) ! . فقلت له : ومن معك على هذا ؟ . قال : ( حر وعبد ) ! . قال : ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن معه ، فقلت : إني متبعك . قال : ( إنك لا تستطيع ذلك يومك هذا , ألا ترى حالي وحال الناس , ولكن ارجع إلى أهلك , فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني ) . قال : فذهبت إلى أهلي وقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وكنت في أهلي ، فجعلت أتخبر الأخبار وأسأل الناس حين قدم المدينة , حتى قدم نفر من أهل يثرب من أهل المدينة , فقلت : ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة ؟ فقالوا الناس إليه سراع ! وقد أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك , فقدمت المدينة فدخلت عليه فقلت : يا رسول الله أتعرفني ؟ قال : ( نعم ! أنت الذي لقيتني بمكة ) . قال : قلت بلى ، فقلت : يا نبي الله علمني مما علمك الله وأجهله , أخبرني عن الصلاة . قال : ( صلِ صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس , وحتى ترتفع , فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان , وحينئذ يسجد لها الكفار ,(3/1)
ثم صلِ فان الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح , ثم أقصر عن الصلاة فإنها حينئذ تسجر جهنم , فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر , ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ) وذكر الحديث .
قال أبو العباس رحمه الله تعالى : فقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها معللاً ذلك النهي بأنها تطلع وتغرب بين قرني شيطان , وأنه حينئذ يسجد لها الكفار ، ومعلوم أن المؤمن لا يقصد السجود إلا لله ، وأكثر الناس قد لا يعلمون أن طلوعها وغروبها بين قرني شيطان , ولا أن الكفار يسجدون لها ، ثم أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة في هذا الوقت حسماً لمادة المشابهة . ومن هذا الباب أنه كان إذا صلى إلى عود أو عمود جعله على حاجبه الأيمن ولم يصمد له صمداً ، ولهذا نهى عن الصلاة إلى ما عبد من دون الله في الجملة ، ولهذا ينهى عن السجود لله بين يدي الرجل لما فيه من مشابهة السجود لغير الله . انتهى كلامه .
فليتأمل المؤمن الناصح لنفسه ما في هذا الحديث من العبر فإن الله سبحانه وتعالى يقص علينا أخبار الأنبياء وأتباعهم ليكون للمؤمن من المستأخرين عبرة فيقيس حاله بحالهم ، وقص قصص الكفار والمنافقين لتجتنب من تلبس بها أيضا .
فمما فيه من الاعتبار أن هذا الأعرابي الجاهلي لما ذكر له أن رجلاً بمكة يتكلم في الدين بما يخالف الناس لم يصبر حتى ركب راحلته فقدم عليه وعلم ما عنده لما في قلبه من محبة الدين والخير , وهذا فسر به قوله تعالى : ( ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ) أي حرصاً على تعلم الدين : ( لأسمعهم ) أي لأفهمهم , فهذا يدل على أن عدم الفهم في أكثر الناس اليوم عدلا منه سبحانه لما يعلم في قلوبهم من عدم الحرص على تعلم الدين .(3/2)
فتبين أن من أعظم الأسباب الموجبة لكون الإنسان من شر الدواب هو عدم الحرص على تعلم الدين , فإذا كان هذا الجاهلي يطلب هذا المطلب , فما عذر من ادعى اتباع الأنبياء وبلغه عنهم ما بلغه وعنده من يعرض عليه التعليم ولا يرفع بذلك رأساً ، فان حضر أو استمع فكما قال تعالى : ( ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون . لاهية قلوبهم ) .
وفيه من العبر أيضا أنه لما قال : ( أرسلني الله ) . قال : بأي شيء أرسلك ؟ قال : بكذا وكذا . فتبين أن زبدة الرسالة الإلهية ، والدعوة النبوية ، هو توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له وكسر الأوثان ,
ومعلوم أن كسرها لا يستقيم إلا بشدة العداوة وتجريد السيف ، فتأمل زبدة الرسالة .
وفيه أيضاً أنه فهم المراد من التوحيد ، وفهم أنه أمر كبير غريب ، ولأجل هذا قال : من معك على هذا ؟ قال : ( حر وعبد ) فأجابه أن جميع العلماء والعباد والملوك والعامة مخالفون له ولم يتبعه على ذلك إلا من ذكر ، فهذا أوضح دليل على أن الحق قد يكون مع أقل القليل وأن الباطل قد يملأ الأرض . ولله در الفضيل بن عياض حيث يقول : لا تستوحش من الحق لقلة السالكين ، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين . وأحسن منه قوله تعالى : ( ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين ) .(3/3)
وفي الصحيحين أن بعث النار من كل ألف تسعة وتسعون وتسعمائة وفي الجنة واحد من كل ألف ، ولما بكوا من هذا لما سمعوه قال - صلى الله عليه وسلم - : ( إنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية فيؤخذ العدد من الجاهلية فإن تمت وإلا أكملت من المنافقين ) قال الترمذي حسن صحيح . فإذا تأمل الإنسان ما في هذا الحديث من صفة بدء الإسلام ، ومن اتبع الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذ ذاك ، ثم ضم إليه الحديث الآخر الذي في صحيح مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : ( بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ ) تبين له الأمر إن هداه الله وانزاحت عنه الحجة الفرعونية : ( فما بال القرون الأولى ) والحجة القرشية : ( ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة ) .
وقال أبو العباس رحمه الله تعالى في كتاب ( إقتضاء الصراط المستقيم ) في الكلام على قوله تعالى : ( وما أهل به لغير الله ) ظاهره أن ما ذبح لغير الله سواء لفظ به أو لم يلفظ ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه النصراني للحم وقال فيه باسم المسيح ونحوه ، كما أن ما ذبحناه نحن متقربين به إلى الله سبحانه كان أزكى مما ذبحناه للحم وقلنا عليه باسم الله ، فإن عبادة الله سبحانه بالصلاة والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور ، والعبادة لغير الله أعظم كفراً من الاستعانة بغير الله فلو ذبح لغير الله متقربا به إليه لحرم وإن قال فيه باسم الله ، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة ، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبائحهم بحال ، لكن يجتمع في الذبيحة مانعان ، وهذا ما يفعل بمكة وغيرها من الذبح للجن . انتهى كلام الشيخ وهو الذي ينسب إليه بعض أعداء الدين أنه لا يكفر المعين ، فانظر أرشدك الله إلى تكفيره من ذبح لغير الله من هذه الأمة ، وتصريحه أن المنافق يصير مرتداً بذلك ، وهذا في المعين إذ لا يتصور أن تحرم إلا ذبيحة معين .(3/4)
وقال أيضا في الكتاب المذكور : وكانت الطواغيت الكبار التي تشد أليها الرحال ثلاثة اللات ، والعزى ، ومناة ، وكل واحد منها لمصر من أمصار العرب ، فكانت اللات لأهل الطائف ، ذكروا أنه كان في الأصل رجلاً صالحاً يلت السويق للحجاج فلما مات عكفوا على قبره . وأما العزى : فكانت لأهل مكة قريبا من عرفات ، وكانت هناك شجرة يذبحون عندها ويدعون . وأما مناة : فكانت لأهل المدينة وكانت حذو قديد من ناحية الساحل .
ومن أراد أن يعلم كيف كانت أحوال المشركين في عبادتهم الأوثان ، ويعرف حقيقة الشرك الذي ذمه الله وأنواعه ، حتى يتبين له تأويل القرآن فلينظر إلى سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحوال العرب في زمانه ، وما ذكره الأزرقي وغيره في أخبار مكة من العلماء .(3/5)
ولما كان للمشركين شجرة يعلقون عليها أسلحتهم ويسمونها ذات أنواط فقال بعض الناس : يا رسول الله أجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط . فقال : ( الله أكبر ، إنها السنن لتركبن سنن من كان قبلكم ) فأنكر - صلى الله عليه وسلم - مجرد مشابهتهم للكفار في اتخاذ شجرة يعكفون عليها معلقين عليها أسلحتهم . فكيف بما هو أطم من ذلك من الشرك بعينه . إلى أن قال : ( فمن ذلك عدة أمكنة بدمشق ) مثل مسجد يقال له مسجد الكف فيه تمثال كف يقال إنه كف علي بن أبى طالب حتى هدم الله ذلك الوثن ، وهذه الأمكنة كثيرة موجودة في البلاد ، وفي الحجاز منها مواضع . ثم ذكر كلاماً طويلاً في نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة عند القبور فقال : العلة لما يفضي إليه ذلك من الشرك . ذكر ذلك الشافعي وغيره ، وكذلك الأئمة من أصحاب مالك وأحمد ، كأبي بكر الأثرم عللوا بهذه العلة ، وقد قال تعالى : ( وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسرا ..) الآية ، ذكر ابن عباس وغيره من السلف أن هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم ، ذكر هذا البخاري في صحيحه وأهل التفسير كابن جرير وغيره .(3/6)
ومما يبين صحة هذه العلة أنه لعن من يتخذ قبور الأنبياء مساجد ، ومعلوم أن قبور الأنبياء لا يكون ترابها نجساً ، وقال عن نفسه : ( اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد ) فعلم أن نهيه عن ذلك كنهيه عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها سداً للذريعة لئلا يصلى في هذه الساعة وإن كان المصلي لا يصلي إلا لله ، ولا يدعو إلا لله ، لئلا يفضي ذلك إلى دعائها والصلاة لها ، وكلا الأمرين قد وقع ، فإن من الناس من يسجد للشمس وغيرها من الكواكب ويدعوها بأنواع الأدعية ، وهذا من أعظم أسباب الشرك الذي ضل به كثيرا من الأولين والآخرين حتى شاع ذلك في كثير ممن ينتسب إلى الإسلام , وصنف بعض المشهورين فيه كتاباً على مذهب المشركين مثل أبي معشر البلخي , وثابت بن قرة وأمثالهما ممن دخل في الشرك وآمن بالطاغوت والجبت وهم ينتسبون إلى الكتاب كما قال تعالى : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ). انتهى كلام الشيخ رحمه الله .
فانظر رحمك الله إلى هذا الإمام الذي ينسب عنه من أزاغ الله قلبه عدم تكفير المعين كيف ذكر عن مثل الفخر الرازي وهو من أكابر أئمة الشافعية ، ومثل أبى معشر وهو من أكابر المشهورين من المصنفين وغيرهما أنهم كفروا وارتدوا عن الإسلام ، والفخر هو الذي ذكره الشيخ في الرد على المتكلمين ، لما ذكر تصنيفه الذي ذكر هنا قال : وهذه ردة صريحة باتفاق المسلمين . وسيأتي كلامه إن شاء الله تعالى .
وتأمل أيضاً ما ذكره في اللات والعزى ومناة وجعله فعل المشركين معها هو بعينه الذي يفعله بدمشق وغيرها وتأمل قوله على حديث ذات أنواط .
هذا قوله في مجرد مشابهتهم في اتخاذ شجرة فكيف بما هو أطم من ذلك من الشرك بعينه ، فهل للزائغ بعد هذا متعلق بشيء من كلام هذا الإمام .(3/7)
وأنا أذكر لفظه الذي احتجوا به على زيغهم قال رحمه الله تعالى : أنا من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير ، أو تبديع ، أو تفسيق ، أو معصية ، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة ، وفاسقاً أخرى ، وعاصياً أخرى . انتهى كلامه .
وهذا صفة كلامه في المسألة في كل موضع وقفنا عليه من كلامه لا يذكر عدم تكفير المعين إلا ويصله بما يزيل الإشكال أن المراد بالتوقف عن تكفيره قبل أن تبلغه الحجة ، وأما إذا بلغته حكم عليه بما تقتضيه تلك المسألة من تكفير ، أو تفسيق ، أو معصية .
وصرح رضي الله عنه أن كلامه في غير المسائل الظاهرة ، فقال في الرد على المتكلمين لما ذكر أن بعض أئمتهم توجد منه الردة عن الإسلام كثيرا قال : وهذا إن كان في المقالات الخفية فقد يقال أنه فيها مخطئ ضال تقم عليه الحجة التي يكفر تاركها ، لكن هذا يصدر عنهم في أمور يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بها ، وكفر من خالفها ، مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له ، ونهيه عن عبادة أحد سواه من الملائكة والنبيين وغيرهم ، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام ، ومثل إيجاب الصلوات الخمس وتعظيم شأنها ، ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ، ثم تجد كثيراً من رؤوسهم وقعوا فيها فكانوا مرتدين .
وأبلغ من ذلك أن منهم من صنف في دين المشركين كما فعل أبو عبدالله الرازي ( يعني الفخر الرازي ) قال وهذه ردة صريحة باتفاق المسلمين . انتهى كلامه .فتأمل هذا وتأمل ما فيه من تفصيل الشبهة التي يذكر أعداء الله ، لكن من يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً .(3/8)
على أن الذي نعتقده وندين لله به ونرجو أن يثبتناً عليه أنه لو غلط هو أو أجلَّ منه في هذه المسألة وهي مسألة المسلم إذا أشرك بالله بعد بلوغ الحجة ، أو المسلم الذي يفضل هذا على الموحدين ، أو يزعم أنه على حق ، أو غير ذلك من الكفر الصريح الظاهر الذي بينه الله ورسوله وبينه علماء الأمة ، أنا نؤمن بما جاءنا عن الله وعن رسوله من تكفيره ولو غلط من غلط .
فكيف والحمد لله ونحن لا نعلم عن واحد من العلماء خلافا في هذه المسألة ، وإنما يلجأ من شاق فيها إلى حجة فرعون : ( فما بال القرون الأولى ) أو حجة قريش : ( ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة ) .
وقال الشيخ رحمه الله في الرسالة السنية لما ذكر حديث الخوارج ومروقهم من الدين وأمره - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم ، قال : فإذا كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة حتى أمر - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم ، فيعلم أن المنتسب إلى الإسلام أو السنة قد يمرق أيضا من الإسلام في هذه الأزمان وذلك بأسباب ، منها الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث يقول : ( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ) وعلي ابن أبى طالب حرق الغالية من الرافضة فأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كنده فقذفهم فيها ، واتفق الصحابة على قتلهم ، ولكن ابن عباس كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف بلا تحريق وهو قول أكثر العلماء وقصتهم معروفة عند العلماء .
وكذلك الغلو في بعض المشائخ ، بل الغلو في علي ابن أبى طالب ، بل الغلو في المسيح ونحوه ، فكل من غلا في نبي ، أو رجل صالح ، وجعل فيه نوعاً من الإلهية ، مثل أن يقول يا سيدي فلان انصرني ، أو أغثني ، أو ارزقني ، أو أجبرني ، أو أنا في حسبك ، ونحو هذه الأقوال فكل هذه شرك وضلال يستتاب صاحبها فإن تاب وإلا قتل .(3/9)
فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده لا شريك له لا يجعل معه إلهاً آخر ، والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا معتقدين أنها تخلق الخلائق أو تنزل المطر أو تنبت النباتات ، وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو صورهم ويقولون : ( إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ) ( ويقولون هؤلاء هم شفعاؤنا عند الله ) .
فبعث الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة ، قال تعالى : ( قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا ) الآية ، قال : طائفة من السلف كان أقوام يدعون المسيح وعزيراَ والملائكة . ثم ذكر رحمة الله تعالى آيات .
ثم قال وعبادة الله وحده لا شريك له هي أصل الدين وهو التوحيد الذي بعث الله به الرسل وأنزل به الكتب ، قال تعالى : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) وقال تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) وكان - صلى الله عليه وسلم - يحقق التوحيد ويعلمه أمته حتى قال له رجل : ما شاء الله وشئت . قال : ( أجعلتني لله نداً ، بل ما شاء الله وحده ) ونهى عن الحلف بغير الله وقال : ( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك ) . وقال في مرض موته : ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) يحذر ما صنعوا . وقال : ( اللهم لا تجعل قبري وثناًَ يعبد ) . وقال : ( لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراًَ وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني ) ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أنه لا يشرع بناء المساجد على القبور ولا الصلاة عندها ، وذلك لأن من أكبر أسباب عبادة الأوثان كان تعظيم القبور .(3/10)
ولهذا اتفق العلماء على أنه من سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند قبره أنه لا يتمسح بحجرته ولا يقبلها لأنه إنما يكون ذلك لأركان بيت الله فلا يشبه بيت المخلوق ببيت الخالق ، كل هذا لتحقيق التوحيد الذي هو أصل الدين ورأسه الذي لا يقبل الله عملاًَ إلا به ويغفر لصاحبه ولا يغفر لمن تركه كما قال تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) الآية ، ولهذا كانت كلمة التوحيد أفضل الكلام وأعظمه . وأعظم آية في القرآن آية الكرسي : ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) وقال - صلى الله عليه وسلم - : ( من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة ) والإله هو الذي تألهه القلوب عبادة له واستعانة به ورجاء وخشية وإجلالاً . انتهى كلامه رحمه الله .
فتأمل أول الكلام وآخره ، وتأمل كلامه فيمن دعا نبياً أو ولياً ، مثل أن يقول يا سيدي فلان أغثني ونحوه ، أنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل هل يكون هذا إلا في المعين والله المستعان . وتأمل كلامه في اللات والعزى ومناة وما ذكر بعده يتبين لك الأمر إن شاء الله تعالى .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في شرح المنازل في باب التوبة : وأما الشرك فهو نوعان أكبر ، وأصغر . فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه ، وهو أن يتخذ من دون الله نداً يحبه كما يحب الله ، بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله ويبغضون لمنتقص معبودهم من المشائخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحد رب العالمين ، وقد شاهدنا هذا نحن وغيرنا منهم جهرة ، وترى أحدهم قد اتخذ ذكر معبوده على لسانه ديدنا له إن قام وإن قعد وإن عثر وإن استوحش وهو لا ينكر ذلك ، ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده ، وهكذا كان عباد الأصنام سواء .(3/11)
وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم وتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم ، فأولئك كانت آلهتهم من الحجر ، وغيرهم اتخذوها من البشر ، قال تعالى حاكياًَ عن أسلاف هؤلاء : ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) الآية .
فهذه حال من اتخذ من دون الله ولياً يزعم أنه يقربه إلى الله تعالى ، وما أعز من يتخلص من هذا ، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره ، والذي قام بقلوب هؤلاء المشركين وسلفهم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله وهذا عين الشرك ، وقد أنكر الله عليهم ذلك في كتابه وأبطله ، وأخبر أن الشفاعة كلها له . ثم ذكر الشيخ ( يعني ابن القيم ) رحمه الله فصلاً طويلاً في تقرير هذا الشرك الأكبر .
ولكن تأمل قوله : وما أعز من يتخلص من هذا ، بل ما أعز من لا يعادي من أنكره . يتبين لك بطلان الشبهة التي أدلى بها الملحد ، وزعم أن كلام الشيخ في الفصل الثاني يدل عليها وسيأتي تقريره إن شاء الله تعالى .
وذكر في آخر هذا الفصل أعني الفصل الأول في الشرك الأكبر الآية التي في سورة سبأ : ( قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله ) إلى قوله : ( إلا لمن أذن له ) وتكلم عليها ، ثم قال : والقرآن مملوء من أمثالها ، ولكن أكثر الناس لا يشعر بدخول الواقع تحته ويظنه في قوم قد خلوا ولم يعقبوا وأرثا ، وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن ، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إنما تنقض عرى الإسلام عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية .
وهذا لأنه إذا لم يعرف الشرك وما عابه القرآن وذمه وقع فيه وأقره وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه أهل الجاهلية فتنتقض بذلك عرى الإسلام ويعود المعروف منكراً ، والمنكر معروفاً ، والبدعة سنة ، والسنة بدعة ، ويكفر الرجل بمحض الإيمان ، وتجريد التوحيد ، ويبدأ بتجريد متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومفارقة الأهواء والبدع ، ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عياناً فالله المستعان .(3/12)
الفصل
وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء والحلف بغير الله ، وقول هذا من الله ومنك ، وأنا بالله وبك ، وما لي إلا الله وأنت ، وأنا متوكل على الله وعليك ولولا أنت لم يكن كذا وكذا . وقد يكون هذا شركاً أكبر بحسب حال قائله ومقصده .
ثم قال الشيخ رحمه الله تعالى ( يعني ابن القيم ) بعد ذكر الشرك الأكبر والأصغر : ومن أنواع هذا الشرك سجود المريد للشيخ ، ومن أنواعه التوبة للشيخ فإنها شرك عظيم ، ومن أنواعه النذر لغير الله ، والتوكل على غير الله ، والعمل لغير الله ، والإنابة والخضوع والذل لغير الله ، وابتغاء الرزق من عند غيره ، وإضافة نعمه إلى غيره ، ومن أنواعه طلب الحوائج من الموتى ، والاستغاثة بهم والتوجه إليهم ، وهذا أصل شرك العالم ، فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً لمن استغاث به ، أو سأله أن يشفع له إلى الله ، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده ، فإن الله تعالى لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه والله لم يجعل سؤال غيره سبباً لإذنه ، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد ، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن ، والميت محتاج إلى من يدعو له كما أوصانا النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم ونسأل الله لهم العافية والمغفرة ، فعكس المشركون هذا وزاروهم زيارة العبادة وجعلوا قبورهم أوثاناً تعبد ، فجمعوا بين الشرك بالمعبود ، وتغيير دينه ، ومعادات أهل التوحيد ونسبتهم إلى تنقص الأموات ، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك ، وأوليائه المؤمنين بذمهم ومعاداتهم ، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص ، إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا ، أو أنهم أمروهم به ، وهؤلاء أعداء الرسل في كل زمان ومكان وما أكثر المستجيبين لهم .(3/13)
ولله در خليله إبراهيم حيث يقول : ( واجنبني وبني أن نعبد الأصنام . رب إنهن اضللن كثيراً من الناس ) وما نجى من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جرد التوحيد لله ، وعادى المشركين في الله وتقرب بمقتهم إلى الله . انتهى كلامه .
والمراد بهذا أن بعض الملحدين نسب إلى الشيخ أن هذا شرك أصغر ، وشبهته أنه ذكره في الفصل الثاني الذي ذكر في أوله الأصغر . وأنت رحمك الله تجد الكلام من أوله إلى آخره في الفصل الأول والثاني صريحاً لا يحتمل التأويل من وجوه كثيرة منها أن دعاء الموتى والنذر لهم ليشفعوا له عند الله هو الشرك الأكبر الذي بعث الله النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عنه فكفر من لم يتب منه وقاتله وعاداه ، وآخر ما صرح به قوله آنفاً : وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلى آخره اهـ . فهل بعد هذا البيان بيان إلا العناد بل الإلحاد .
ولكن تأمل قوله أرشدك الله : وما نجا من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من عادى المشركين إلى آخره اهـ . وتأمل أن الإسلام لا يصح إلا بمعادات أهل الشرك الأكبر وإن لم يعاديهم فهو منهم وإن لم يفعله .
وقد ذكر في الإقناع عن الشيخ تقي الدين ، أن من دعا علي ابن أبي طالب فهو كافر ، وإن من شك في كفره فهو كافر ، فإذا كان هذا حال من شك في كفره مع عداوته له ومقته له ، فكيف بمن يعتقد أنه مسلم ولم يعاده ، فكيف بمن أحبه ، فكيف بمن جادل عنه وعن طريقته ، وتعذر أنا لا نقدر على التجارة وطلب الرزق إلا بذلك ، وقد قال تعالى : ( وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا ) فإذا كان هذا قول الله تعالى فيمن تعذر عن التبيين بالعمل بالتوحيد ومعادات المشركين بالخوف على أهله وعياله فكيف بمن اعتذر في ذلك بتحصيل التجارة ، ولكن الأمر كما تقدم عن عمر إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية لهذا لم يعرف معنى القرآن ، وأنه أشر وأفسد من الذين قالوا : ( إن نتبع الهدى معك ) الآية .(3/14)
ومع هذا فالكلام الذي يظهرونه نفاقاً وإلا فهم يعتقدون أن أهل التوحيد ضالون مضلون ، وأن عبدة الأوثان أهل الحق والصواب ، كما صرح به إمامهم في الرسالة التي أتتكم قبل هذه خطه بيده يقول : بيني وبينكم أهل هذه الأقطار وهم خير أمة أخرجت للناس وهم كذا وكذا ، فإذا كان يريد التحاكم إليهم ويصفهم بأنهم خير أمة أخرجت للناس ، فكيف أيضاً يصفهم بشرك ومخالطتهم للحاجة . وما أحسن قول أصدق القائلين : ( والسماء ذات الحبك . إنكم لفي قول مختلف . يؤفك عنه من أفك ) ( بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج ) .
فرحم الله أمرءً نظر لنفسه وتفكر فيما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من عند الله من معادات من أشرك بالله من قريب أو بعيد وتكفيرهم وقتالهم حتى يكون الدين كله لله ، وعلم ما حكم به محمد - صلى الله عليه وسلم - فيمن أشرك بالله مع ادعائه الإسلام ، وما حكم في ذلك الخلفاء الراشدون كعلي ابن أبي طالب رضي الله عنه وغيره لما حرقهم بالنار مع أن غيرهم من أهل الأوثان الذين لم يدخلوا في الإسلام لا يقتلون بالتحريق والله الموفق .
وقال أبو العباس أحمد بن تيمية في الرد على المتكلمين لما ذكر بعض أحوال أئمتهم قال : وكل شرك في العالم إنما حدث برأي جنسهم فهم الآمرون بالشرك والفاعلون له ، ومن لم يأمر منهم بالشرك فلم ينه عنه ، بل يقر هؤلاء وهؤلاء وإن رجح الموحدين ترجيحاً ما فقد يرجح غيره المشركين ، وقد يعرض عن الأمرين جميعاً ، فتدبر هذا فإنه نافع جداً .(3/15)
ولهذا كان رؤوسهم المتقدمون والمتأخرون يأمرون بالشرك ، وكذلك الذين كانوا في ملة الإسلام لا ينهون عن الشرك ويوجبون التوحيد بل يسوغون الشرك ، أو يأمرون به أولا يوجبون التوحيد ، وقد رأيت من مصنفاتهم في عبادة الملائكة وعبادة الأنفس المفارقة أنفس الأنبياء وغيرهم ما هو أصل الشرك . وهم إذا ادعوا التوحيد إنما توحيدهم بالقول لا بالعبادة والعمل ، والتوحيد الذي جاءت به الرسل لابد فيه من التوحيد بإخلاص الدين لله وعبادته وحده لا شريك له ، وهذا شيء لا يعرفونه فلو كانوا موحدين بالقول والكلام لكان معهم التوحيد دون العمل ، وذلك لا يكفي في السعادة والنجاة بل لابد أن يعبد الله وحده ويتخذ إلهاً دون ما سواه ، وهذا هو معنى قول ( لا إله إلا الله ) . انتهى كلام الشيخ .
فتأمل رحمك الله هذا الكلام فإنه مثل ما قال الشيخ فيه نافع جداً ، ومن أكبر ما فيه من الفوائد أنه يبين لك حال من أقر بهذا الدين ، وشهد أنه الحق ، وأن الشرك هو الباطل ، وقال بلسانه ما أريد منه ، ولكن لا يدين بذلك إما بغضاً له ، أو عدم محبته كما هي حال المنافقين الذين بين أظهرنا ، وإما يثار الدنيا مثل تجارة أو غيرها فيدخلون في الإسلام ثم يخرجون منه ، كما قال تعالى : ( ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا ) الآية ، وقال تعالى : ( من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره ) إلى قوله : ( ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ) فإذا قال هؤلاء بألسنتهم نشهد أن هذا دين الله ورسوله ، ونشهد أن المخالف له باطل ، وأنه الشرك بالله غر هذا الكلام ضعيف البصيرة .(3/16)
وأعظم من هذا وأطم أن أهل حريملاء ومن وراءهم يصرحون بمسبة الدين ، وأن الحق ما عليه أكثر الناس يستدلون بالكثرة على حسن ما هم عليه من الدين ، ويفعلون ويقولون ما هو من أكبر الردة وأفحشها ، فإذا قالوا التوحيد حق والشرك باطل وأيضاً لم يحدثوا في بلدهم أوثاناً جادل الملحد عنهم وقال : أنهم يقرون أن هذا شرك ، وأن التوحيد هو الحق ، ولا يضرهم عندهم ما هم عليه من السب لدين الله ، وبغي العوج له ، ومدح الشرك وذبهم دونه بالمال واليد واللسان فالله المستعان .
وقال أبو العباس أيضاً : في الكلام على كفر مانعي الزكاة والصحابة لم يقولوا هل أنت مقر بوجوبها أو جاحد لها ، وهذا لم يعهد عنه الخلفاء والصحابة ، بل قال الصديق لعمر رضي الله عنهما : ( والله لو منعوني عقالاً ـ أو عناقاً ـ كانوا يؤودنها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعه ) فجعل المبيح للقتال مجرد المنع لا جحد الوجوب . وقد روي أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب لكن بخلوا بها ، ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم جميعهم سيرة واحدة وهي مقاتلتهم وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم ، والشاهدة على قتلاهم بالنار وسموهم جميعهم أهل الردة . وكان من أعظم فضائل الصديق رضي الله عنه عندهم أن ثبته الله على قتالهم ولم يتوقف كما يتوقف غيره فناظرهم حتى رجعوا إلى قوله . وأما قتال المقرين بنبوة مسيلمة ، فهؤلاء لم يقع بينهم نزاع في قتالهم . انتهى .
فتأمل كلامه رحمه الله في تكفير المعين والشهادة عليه إذا قتل بالنار وسبي حريمه وأولاده عند منع الزكاة ، فهذا الذي ينسب عنه أعداء الدين عدم تكفير المعين .
قال رحمه الله : بعد ذلك وكفر هؤلاء وإدخالهم في أهل الردة قد ثبت باتفاق الصحابة المستند إلى نصوص الكتاب والسنة . انتهى كلامه .(3/17)
ومن أعظم ما يحل الإشكال في مسألة التكفير والقتال عمن قصد اتباع الحق ، إجماع الصحابة على قتال مانعي الزكاة وإدخالهم في أهل الردة وسبي ذراريهم ، وفعلهم فيهم ما صح عنهم وهو أول قتال وقع في الإسلام على من ادعى أنه من المسلمين . فهذه أول وقعة وقعت في الإسلام على هذا النوع أعني المدعين للإسلام وهي أوضح الوقعات التي وقعت من العلماء عليهم من عصر الصحابة رضي الله عنهم إلى وقتنا هذا .
وقال الإمام أبو الوفاء ابن عقيل : لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام ، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم وهم عندي كفار بهذه الأوضاع ، مثل تعظيم القبور وخطاب الموتى بالحوائج وكتب الرقاع فيها يا مولاي افعل بي كذا وكذا وإلقاء الخرق على الشجر إقتداء لمن عبد اللات والعزى . انتهى كلامه . والمراد منه قوله : وهم عندي كفار بهذه الأوضاع .(3/18)
وقال أيضاً في كتاب الفنون : لقد عظم الله الحيوان لا سيما ابن آدم ، حيث أباحه الشرك عند الإكراه ، فمن قدم حرمة نفسك على حرمته حتى أباحك أن تتوقى عن نفسك بذكره بما لا ينبغي له سبحانه لحقيق أن تعظم شعائره وتوقر أوامره وزواجره ، وعصم عرضك بإيجاب الحد بقذفك وعصم مالك بقطع يد مسلم في سرقته ، وأسقط شطر الصلاة في السفر لأجل مشقتك , وأقام مسح الخف مقام غسل الرجل إشفاقاً عليك من مشقة الخلع واللبس ، وأباحك الميتة سد لرمقك وحفظاً لصحتك , وزجرك عن مضارك بحد عاجل ووعيد آجل , وخرق العوائد لأجلك , وأنزل الكتب إليك , أيحسن لك مع هذا الإكرام أن يراك على ما نهاك منهمكاً , ولما أمرك تاركاً ، وعلى ما زجرك مرتكباً ، وعن داعيه معرضاً ، ولداعي عدوه فيك مطيعاً ، يعظمك وهو هو ، وتهمل أمره وأنت أنت ، هو حط رتبة عباده لأجلك ، وأهبط إلى الأرض من امتنع من سجدة يسجدها لأبيك ، هل عاديت خادماً طالت خدمته لك لترك صلاة ، هل نفيته من دارك للإخلال بفرض أو لارتكاب نهي فإن لم تعترف اعتراف العبد للموالى ، فلا أقل أن تقتضي نفسك إلى الحق سبحانه اقتضاء المساوي المكافي ، ما أفحش ما تلاعب الشيطان بالإنسان ، بيناً هو بحضرة الحق سبحانه وملائكة السماء سجود له ، ترامى به الأحوال والجهات إلى أن يوجد ساجداً لصورة في حجر ، أو لشجرة من الشجر ، أو لشمس أو لقمر ، أو لصورة ثور خار ، أو لطائر صفر .
ما أوحش زوال النعم ، وتغير الأحوال ، والحور بعد الكور ، لا يليق بهذا الحي الكريم الفاضل على جميع الحيوانات أن يرى إلا عابداً الله في دار التكليف ، أو مجاورا لله في دار الجزاء والتشريف ، وما بين ذلك فهو واضع نفسه في غير موضعها . انتهى كلامه .
والمراد منه أنه جعل أقبح حال وأفحشها من أحوال الإنسان أن يشرك بالله ، ومثله بأنواع : منها السجود للشمس أو للقمر ، ومنها السجود للصورة كما في الصور التي في القباب على القبور .(3/19)
والسجود قد يكون بالجبهة على الأرض ، وقد يكون بالانحناء من غير وصول إلى الأرض ، كما فسر به قوله تعالى : ( أدخلوا الباب سجداً ) قال ابن عباس : أي ركعاً .
وقال ابن القيم في ( إغاثة اللهفان ) في إنكار تعظيم القبور : وقد آل الأمر بهؤلاء المشركين أن صنف بعض غلاتهم في ذلك كتاباً سماه ( مناسك المشاهد ) ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام ودخول في دين عباد الأصنام . انتهى . وهذا الذي ذكره ابن القيم ، رجل من المصنفين يقال له ابن المفيد ، فقد رأيت ما قال فيه بعينه ، فكيف ينكر تكفير المعين ؟ . وأما كلام سائر أتباع الأئمة في التكفير ، فنذكر منه قليلاً من كثير .
أما كلام الحنفية فكلامهم في هذا من أغلظ الكلام ، حتى إنهم يكفرون المعين إذا قال مصيحف أو مسيجد وصلى صلاة بلا وضوء ونحو ذلك . وقال في النهر الفائق ، وعلم أن الشيخ قاسماً ، قال في شرح درر البحار : إن النذر الذي يقع من أكثر العوام بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلاً يا سيدي فلان إن رد غائبي أو عوفي مريضي فلك من الذهب أو الفضة أو الشمع أو الزيت كذا باطل إجماعاً لوجوه . إلى أن قال : ومنها ظن أن الميت يتصرف في الأمر واعتقاد هذا كفر . إلى أن قال : وقد ابتلى الناس بذلك ، لاسيما في مولد الشيخ أحمد البدوي . انتهى كلامه .
فانظر إلى تصريحه إن هذا كفر ، مع قوله أنه يقع من أكثر العوام ، وأن أهل العلم قد ابتلوا بما لا قدرة لهم على إزالته .
وقال القرطبي رحمه الله لما ذكر سماع الفقر أو صورته قال : هذا حرام بالإجماع .
وقد رأيت فتوى شيخ الإسلام ، جمال الملة أن مستحل هذا كافر ، ولما علم أن حرمته بالإجماع لزم أن يكفر مستحله ، فقد رأيت كلام القرطبي وكلام الشيخ الذي نقل عنه في كفر من استحل السماع والرقص مع كونه دون ما نحن فيه بالإجماع بكثير .(3/20)
وقال أبو العباس رحمه الله حدثني ابن الخضيري عن والده الشيخ الخضيري إمام الحنفية في زمانه قال : كان فقهاء بخارى يقولون في ابن سينا كان كافرا ذكياً ، فهذا إمام الحنفية في زمنه حكى عن فقهاء بخاري جملة كفر ابن سينا وهو رجل معين منصف يتظاهر بالإسلام .
وأما كلام المالكية في هذا أكثر من أن يحصر وقد أشتهر عن فقهائهم سرعة الفتوى والقضاء بقتل الرجل عند الكلمة التي لا يفطن لها أكثر الناس ، وقد ذكر القاضي عياض في آخر كتاب الشفاء من ذلك طرفاً ، ومما ذكر أن من حلف بغير الله على وجه التعظيم كفر ، وكل هذا دون ما نحن فيه بما لا نسبة بينه وبينه .
وأما كلام الشافعية ، فقال صاحب الروضة رحمه الله أن المسلم في الكلام إذا ذبح للنبي - صلى الله عليه وسلم - كفر . وقال أيضاً : من شك في كفر طائفة ابن عربي فهو كافر . وكل هذا دون ما نحن فيه .
وقال ابن حجر في شرح الأربعين على حديث ابن عباس : ( إذا سألت فاسأل الله ) وما معناه إن من دعا غير الله فهو كافر . وصنف في هذا النوع كتابا مستقلا سماه ( الإعلام بقواطع الإسلام ) ذكر فيه أنواعا كثيرة من الأقوال والأفعال كل واحد منها ذكر أنه يخرج من الإسلام ويكفر به المعين وغالبه لا يساوي عشير معشار ما نحن فيه ، وتمام الكلام في هذا أن يقال الكلام هنا في مسألتين :
الأولى : أن يقال هذا الذي يفعله كثير من العوام عند قبور الصالحين ومع كثير من الأحياء والأموات والجن من التوجه إليهم ودعائهم لكشف الضر والنذر لهم لأجل ذلك هل هو الشرك الأكبر الذي فعله قوم نوح ومن بعدهم إلى أن انتهى الأمر إلى قوم خاتم الرسل قريش وغيرهم .(3/21)
فبعث الله الرسل وأنزل الكتب ينكر عليهم ذلك ويكفرهم ويأمر بقتالهم حتى يكون الدين كله لله ، أم هذا شرك أصغر وشرك المتقدمين غير هذا ، فاعلم أن الكلام في هذه المسألة سهل على من يسره الله عليه بسبب أن علماء المشركين اليوم يقرون أنه الشرك الأكبر ولا ينكرونه إلا ما كان من مسيلمة الكذاب وأصحابه كابن إسماعيل وابن خالد مع تناقضهم في ذلك واضطرابهم ، فأكثر أحوالهم يقرون أنه الشرك الأكبر ولكن يعتذرون بأن أهله لم تبلغهم الدعوة .
وتارة يقولون لا يكفر إلا من كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وتارة يقولون إنه شرك أصغر وينسبونه لابن القيم رحمه الله في المدارج كما تقدم ، وتارة لا يذكرون شيئاً من ذلك بل يعظمون أهله وطريقتهم في الجملة ، وأنهم خير أمة أخرجت للناس ، وأنهم العلماء الذين يجب رد الأمر عند التنازع إليهم وغير ذلك من الأقاويل المضطربة ، وجواب هؤلاء كثير في الكتاب ، والسنة ، والإجماع .
ومن أصرح ما يجاوبون به إقرارهم في غالب الأوقات أن هذا هو الشرك الأكبر ، وأيضاً إقرار غيرهم من علماء الأقطار ، مع أن أكثرهم قد دخل في الشرك وجاهد أهل التوحيد ، لكن لم يجدوا بداً من الإقرار به لوضوحه .
المسألة الثانية : الإقرار بأن هذا هو الشرك الأكبر ولكن لا يكفر به إلا من أنكر الإسلام جملة ، وكذب الرسول والقرآن واتبع اليهودية أو النصرانية أو غيرهما ، وهذا هو الذي يجادل به أهل الشرك والعناد في هذه الأوقات ، وإلا المسألة الأولى قلَّ الجدال فيها ولله الحمد لما وقع من إقرار علماء الشرك بها . فاعلم أن تصور هذه المسألة تصوراً حسناً يكفي في إبطالها من غير دليل خاص لوجهين :(3/22)
الأول : أن مقتضى قولهم أن الشرك بالله وعبادة الأصنام لا تأثير لها في التكفير لأن الإنسان إن انتقل عن الملة إلى غيرها وكذب الرسول والقرآن فهو كافر وإن لم يعبد الأوثان كاليهود ، فإذا كان من انتسب إلى الإسلام لا يكفر إذا أشرك الشرك الأكبر لأنه مسلم يقول لا إله إلا الله ويصلي ويفعل كذاو كذا لم يكن للشرك وعبادة الأوثان تأثير بل يكون ذلك كالسواد في الخلقة أو العمى أو العرج ، فان كان صاحبها يدعي الإسلام فهو مسلم ، وإن ادعى ملة غيرها فهو كافر ، وهذه فضيحة عظيمة كافية في رد هذا القول الفظيع .
الوجه الثاني : أن معصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الشرك وعبادة الأوثان بعد بلوغ العلم كفر صريح بالفطر والعقول والعلوم الضرورية ، فلا يتصور أنك تقول لرجل ولو من أجهل الناس أو أبلدهم ، ما تقول فيمن عصى الرسو ل - صلى الله عليه وسلم - ولم ينقد له في ترك عبادة الأوثان والشرك ، مع أنه يدعي أنه مسلم متبع إلا ويبادر بالفطرة الضرورية إلى القول بأن هذا كافر من غير نظر في الأدلة أو سؤال أحد من العلماء .
ولكن لغلبة الجهل وغربة العلم وكثرة من يتكلم بهذه المسألة من الملحدين أشتبه الأمر فيها على بعض العوام من المسلمين الذين يحبون الحق ، فلا تحقرها وأمعن النظر في الأدلة التفصيلية لعل الله أن يمن عليك بالإيمان الثابت ويجعلك من الأئمة الذين يهدون بأمره .
فمن أحسن ما يزيل الإشكال فيها ويزيد المؤمن يقيناً ما جرى من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والعلماء بعدهم فيمن انتسب إلى الإسلام ، كما ذكر أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث البراء ومعه الراية إلى رجل تزوج امرأة أبيه ليقتله ويأخذ ماله .
ومثل همه بغزو بني المصطلق لما قيل أنهم منعوا الزكاة . ومثل قتال الصديق وأصحابه لمانع الزكاة وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم وتسميتهم مرتدين .(3/23)
ومثل إجماع الصحابة في زمن عمر تكفير قدامة بن مظعون وأصحابه إن لم يتوبوا لما فهموا من قوله تعالى : ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا ) حل الخمر لبعض الخواص .
ومثل إجماع الصحابة في زمن عثمان في تكفير أهل المسجد الذين ذكروا كلمة في نبوة مسيلمة مع أنهم لم يتبعوه ، وإنما اختلف الصحابة في قبول توبتهم . ومثل تحريق علي رضي الله عنه أصحابه لما غلوا فيه .
ومثل إجماع التابعين مع بقية الصحابة على كفر المختار بن أبي عبيد ومن اتبعه ، مع أنه يدعي أنه يطلب بدم الحسين وأهل البيت . ومثل إجماع التابعين ومن بعدهم على قتل الجعد بن درهم وهو مشهور بالعلم والدين وهلم جرا ، ومن وقائع لا تعد ولا تحصى .
ولم يقل أحد من الأولين والآخرين لأبي بكر الصديق وغيره كيف تقاتل بنى حنيفة وهم يقولون لا إله إلا الله ويصلون , ويزكون . وكذلك لم يستشكل أحد تكفير قدامة وأصحابه لو لم يتوبوا وهلم جرا .
إلى زمن عبيد القداح الذين ملكوا لمغرب ومصر والشام وغيرها مع تظاهرهم بالإسلام وصلاة الجمعة والجماعة ونصب القضاة والمفتين لما أظهروا من الأقوال والأفعال ما أظهروا لم يستشكل أحد من أهل العلم والدين قتالهم ولم يتوقفوا فيه وهم في زمن ابن الجوزي , والموفق , وصنف ابن الجوزي كتاباً لما أخذت مصر منهم سماه ( النصر على مصر ) .(3/24)
ولم يسمع أحد من الأولين والآخرين أن أحدا أنكر شيئا من ذلك أو استشكله لأجل ادعائهم الملة , أو لأجل قول لا إله إلا الله ، أو لأجل إظهار شيء من أركان الإسلام ، إلا ما سمعناه من هؤلاء الملاعين في هذه الأزمان من إقرارهم أن هذا هو الشرك ، ولكن من فعله أو حسنه أو كان مع أهله أو ذم التوحيد أو حارب أهله لأجله أو أبغضهم لأجله أنه لا يكفر لأنه يقول لا إله إلا الله أو لأنه يؤدي أركان الإسلام الخمسة ، ويستدلون بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سماها الإسلام ، هذا لم يسمع قط إلا من هؤلاء الملحدين الجاهلين الظالمين ، فإن ظفروا بحرف واحد عن أهل العلم أو أحد منهم يستدلون به على قولهم الفاحش الأحمق فليذكروه ، ولكن الأمر كما قال اليمني في قصيدته :
أقاويل لا تعزى إلى عالم فلا تساوي فلساً إن رجعت إلى نقد
… ولنختم الكلام في هذا النوع بما ذكره البخاري في صحيحه حيث قال : ( باب يتغير الزمان حتى تعبد الأوثان ) . ثم ذكر بإسناده قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوس حول ذي الخلصة ) وذو الخلصة صنم لدوس يعبدونه فقال - صلى الله عليه وسلم - لجرير بن عبد الله : ( ألا تريحني من ذي الخلصة ) فركب إليه بمن معه فأحرقه وهدمه ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره قال فبرك على خيل أحمس ورجالها خمساً . …وعادة البخاري رحمه الله إذا لم يكن الحديث على شرطه ذكره في الترجمة ، ثم أتى بما يدل على معناه مما هو على شرطه ، ولفظ الترجمة وهو قوله : ( يتغير الزمان حتى تعبد الأوثان ) لفظ حديث أخرجه غيره من الأئمة والله سبحانه وتعالى أعلم .
ولنذكر من كلام الله تعالى ، وكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكلام أئمة العلم جملاً في جهاد القلب واللسان ومعادات أعداء الله وموالات أوليائه ، وأن الدين لا يصح ولا يدخل الإنسان فيه إلا بذلك فنقول :
باب في وجوب عداوة أعداء الله(3/25)
من الكفار والمرتدين والمنافقين
وقول الله تعالى : ( وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزؤ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم ) وقوله تعالى : ( ومن يتولهم منكم فإنه منهم ) وقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ) إلى قوله : ( كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده ) وقوله تعالى : ( لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ) .
وقال ( الإمام الحافظ ) محمد بن وضاح : أخبرني غير واحد ، أن أسد بن موسى كتب إلى أسد بن الفرات :
إعلم يا أخي أن ما حملني على الكتاب إليك ما ذكر أهل بلدك من صالح ما أعطاك الله من إنصافك الناس ، وحسن حالك مما أظهرت من السنة ، وعيبك لأهل البدع وكثرة ذكرك لهم وطعنك عليهم فقمعهم الله بك وشد بك ظهر أهل السنة وقواك عليهم ، بإظهار عيبهم والطعن عليهم فأذلهم الله بيدك وصاروا ببدعتهم مستترين ، فأبشر يا أخي بثواب ذلك واعتد به من أفضل حسناتك من الصلاة والصيام والحج والجهاد ، وأين تقع هذه الأعمال من إقامة كتاب الله تعالى وإحياء سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من أحيا شيئاً من سنتي كنت أنا وهو في الجنة كهاتين ـ وضم بين إصبعيه ـ ) وقال : ( أيما داع دعى إلى هدى فاتُبع عليه كان له مثل أجر من اتبعه إلى يوم القيامة ) فمتى يدرك أجر هذا بشيء من عمله . وذكر أيضاً أن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام ولياً يذب عنها وينطق بعلامتها .(3/26)
فاغتنم يا أخي هذا الفضل وكن من أهله فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن وأوصاه : ( لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرا لك من كذا وكذا ) وأعظم القول فيه . فاغتنم ذلك وادع إلى السنة حتى يكون لك في ذلك ألفة وجماعة يقومون مقامك إن حدث بك حدث فيكونون أئمة بعدك فيكون لك ثواب ذلك إلى يوم القيامة ، كما جاء في الأثر فاعمل على بصيرة ونية وحسبة ، فيرد الله بك المبتدع المفتون الزائغ الحائر فتكون خلفاً من نبيك - صلى الله عليه وسلم - فإنك لن تلقى الله بعمل يشبهه ، وإياك أن يكون لك من أهل البدع أخ أو جليس أو صاحب فإنه جاء في الأثر : من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة ووكل إلى نفسه ، ومن مشى إلى صاحب بدعة مشى في هدم الإسلام . وجاء : ما من إله يعبد من دون الله أبغض إلى الله من صاحب هوى .
وقد وقعت اللعنة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أهل البدع وأن الله لا يقبل منهم صرفاً ولا عدلاً ولا فريضة ولا تطوعاً وكلما ازدادوا اجتهادا وصوماً وصلاة ازدادوا من الله بعداً ، فارفض مجالسهم وأذلهم وأبعدهم كما أبعدهم الله وأذلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأئمة الهدى بعده . انتهى كلام أسد رحمه الله تعالى .
واعلم رحمك الله أن كلامه وما يأتي من كلام أمثاله من السلف في معادات أهل البدع والضلالة في ضلالة لا تخرج عن الملة ، لكنهم شددوا في ذلك و حذروا منه لأمرين :
الأول : غلظ البدعة في الدين في نفسها فهي عندهم أجل من الكبائر ، ويعاملون أهلها بأغلظ مما يعاملون به أهل الكبائر كما تجد في قلوب الناس اليوم أن الرافضي عندهم ولو كان عالماً عابداً أبغض وأشد ذنباً من السني المجاهر بالكبائر .(3/27)
الأمر الثاني : أن البدع تجر إلى الردة الصريحة كما وجد من كثير من أهل البدع ، فمثال البدعة التي شددوا فيها مثل تشديد النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح خوفاً مما وقع من الشرك الصريح الذي يصير به المسلم مرتداً ، فمن فهم هذا فهم الفرق بين البدع وبين ما نحن فيه من الكلام في الردة ومجاهدة أهلها ، أو النفاق الأكبر ومجاهدة أهله وهذا هو الذي نزلت فيه الآيات المحكمات ، ومثل قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه ) الآية ، وقوله تعالى : ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير . يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ) الآية . وقال ابن وضاح في كتاب ( البدع والحوادث ) بعد حديث ذكره أنه سيقع في هذه الأمة فتنة الكفر وفتنة الضلالة ، قال رحمه الله : إن فتنة الكفر هي الردة يحل فيها السبي والأموال ، وفتنة الضلالة لا يحل فيها السبي والأموال ، وهذا الذي نحن فيه فتنة ضلاله لا يحل فيها السبي ولا الأموال . وقال رحمه الله أيضا : أخبرنا أسد أخبرناً رجل عن ابن المبارك قال : قال ابن مسعود : إن لله عند كل بدعة كيد بها الإسلام ولياً من أوليائه يذب عنه وينطق بعلامتها ، فاغتنموا حضور تلك المواطن وتوكلوا على الله . قال ابن المبارك : وكفى بالله وكيلاً ، ثم ذكر بإسناده عن بعض السلف قال : لإن أرد رجلاً عن رأي سيئ أحب إليَّ من اعتكاف شهر .(3/28)
أخبرنا أسد عن أبي إسحاق الحذاء عن الأوزاعي قال : كان بعض أهل العلم يقولون لا يقبل الله من ذي بدعة صلاة ، ولا صدقة ، ولا صياماً ، ولا جهاداً ، ولا حجاً ، ولا صرفاً ، ولا عدلاً ، وكانت أسلافكم تشتد عليهم ألسنتهم وتشمئز منهم قلوبهم ويحذرون الناس بدعتهم . قال : ولو كانوا مستترين ببدعتهم دون الناس ما كان لأحد أن يهتك عنهم سترا ، ولا يظهر منهم عورة ، الله أولى بالأخذ بها أو بالتوبة عليها ، فإما إذا جاهروا به فنشر العلم حياة ، والبلاغ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رحمة يعتصم بها على مصر ملحد . ثم روى بإسناده قال : جاء رجل إلى حذيفة وأبو موسى الأشعري قاعد فقال : أرأيت رجل ضرب بسيفه غضباً لله حتى قتل ، أفي الجنة أم في النار ؟ . فقال أبو موسى في الجنة ! . فقال : حذيفة استفهم الرجل وأفهمه ما تقول حتى فعل ذلك ثلاث مرات ، فلما كان في الثالثة قال : والله لأستفهمه فدعا به حذيفة فقال : رويدك وما يدريك أن صاحبك لو ضرب بسيفه حتى ينقطع فأصاب الحق حتى يقتل عليه فهو في الجنة ، وإن لم يصب الحق ولم يوفقه الله للحق فهو في النار . ثم قال : والذي نفسي بيده ليدخلن النار في مثل الذي سألت عنه أكثر من كذا وكذا . ثم ذكر بإسناده عن الحسن قال : لا تجالس صاحب بدعة فإنه يمرض قلبك . ثم ذكر بإسناده عن سفيان الثوري قال : من جالس صاحب بدعة لم يسلم من إحدى ثلاث : إما أن يكون فتنة لغيره ، وإما أن يقع في قلبه شيء فيزل به فيدخله الله النار ، وإما أن يقول والله ما أبالي ما تكلموه ، وإني واثق بنفسي ، فمن أمن الله على دينه طرفة عين سلبه إياه . ثم ذكر بإسناده عن بعض السلف قال : من أتى صاحب بدعة ليوقره فقد أعان على هدم الإسلام .(3/29)
أخبرنا أسد قال : حدثنا كثير أبو سعيد قال : من جلس إلى صاحب بدعة نزعت منه العصمة ووكل إلى نفسه . أخبرنا أسد ابن موسى قال : أخبرنا حماد بن زيد عن أيوب قال : قال أبو قلابة لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون . قال : أيوب وكان والله من الفقهاء ذوي الألباب .
أخبرنا أسد بن موسى قال أخبرنا زيد عن محمد بن طلحة قال : قال إبراهيم : لا تجالسوا أصحاب البدع ، ولا تكلموهم فإني أخاف أن ترتد قلوبكم أخبرنا أسد بالإسناد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل ) .
أخبرنا أسد أخبرنا مؤمل بن إسماعيل عن حماد بن زيد عن أيوب قال دخل على محمد بن سيرين يوماً رجل فقال : يا أبا بكر اقرأ عليك آية من كتاب الله لا أزيد على أن اقرأها ثم أخرج ، فوضع إصبعيه في أذنيه ثم قال : أحرَّج عليك إن كنت مسلماً لما خرجت من بيتي . قال : فقال يا أبا بكر إني لا أزيد على أن أقرا ثم أخرج . قال : فقام بإزاره يشده عليه وتهيأ للقيام ، فأقبلنا على الرجل فقلنا قد حرَّج عليك إلا خرجت ، أفيحل لك أن تخرج رجلا من بيته . قال : فخرج ، فقلنا : يا أبا بكر ما عليك لو قرأ آية ثم خرج . قال : إني والله لو ظننت أن قلبي يثبت على ما هو عليه ما باليت أن يقرأ ولكنني خفت أن يلقي في قلبي شيئاً أجهد أن أخرجه من قلبي فلا أستطيع .
أخبرنا أسد قال : أخبرنا ضمرة عن سودة قال : سمعت عبد الله بن القاسم وهو يقول : ما كان عبد على هوى فتركه إلا آل إلى ما هو شر منه . قال : فذكرت هذا الحديث لبعض أصحابنا فقال : تصديقه في حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية ثم لا يرجعون حتى يرجع السهم إلى فوقه ) .(3/30)
أخبرنا أسد قال : أخبرنا موسى بن إسماعيل عن حماد بن زيد عن زيد عن أيوب قال : كان رجل يرى رأياً فرجع عنه ، فأتيت محمداً فرحاً بذلك أخبره ، فقلت أشعرت أن فلاناً ترك رأيه الذي كان يرى . فقال : انظروا إلى ما يتحول ، إن آخر الحديث أشد عليهم من أوله يمرقون من الإسلام لا يعودون إليه .
ثم روى بإسناده عن حذيفة أنه أخذ حصاة بيضاء فوضعها في كفه ، ثم قال : إن هذا الدين قد استضاء استضاءة هذه الحصاة ثم أخذ كفاً من تراب فجعل يذره على الحصاة حتى واراها ثم قال : والذي نفسي بيده ليجيئن أقوام يدفنون الدين كما دفنت هذه الحصاة .
أخبرنا محمد بن سعيد بإسناده عن أبي الدرداء قال : لو خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليوم إليكم ما عرف شيئاً مما كان عليه هو وأصحابه إلا الصلاة . قال الأوزاعي : فكيف لو كان اليوم . قال عيسى ( يعني الراوي عن الأوزاعي ) : فكيف لو أدرك الأوزاعي هذا الزمان . أخبرنا سليمان بن محمد بإسناده عن علي أنه قال : تعلموا العلم تعرفون به ، وأعملوا به تكونوا من أهله ، فإنه سيأتي بعدكم زمان ينكر الحق فيه تسعة أعشارهم .
أخبرنا يحي بن يحي بإسناده عن أبي سهل بن مالك عن أبيه أنه قال : ما أعرف منكم شيئاً مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة . حدثني إبراهيم بن محمد بإسناده عن أنس قال : ما أعرف منكم شيئاً كنت أعهده على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس قولكم لا إله إلا الله .(3/31)
أخبرنا محمد بن سعيد قال أخبرنا أسد بإسناده عن الحسن قال : لو أن رجلاً أدرك السلف الأول ، ثم بعث اليوم ما عرف من الإسلام شيئاً ، قال : ووضع يده على خده ثم قال : إلا هذه الصلاة . ثم قال : أما والله لمن عاش في هذه النكرا أو لم يدرك هذا السلف الصالح فرأى مبتدعاً يدعو إلى بدعته ورأى صاحب يدعو إلى دنياه فعصمه الله عن ذلك وجعل قلبه يحن إلى ذكر هذا السلف الصالح يسأل عن سبيلهم ويقتص آثارهم ويتبع سبيلهم ليعوض أجراً عظيماً فكذلك فكونوا إن شاء الله تعالى .
حدثني عبد الله بن محمد بإسناده عن ميمون بن مهران قال : لو أن رجلاً نشر فيكم من السلف ما عرف فيكم غير هذه القبلة . أخبرنا محمد بن قدامة الهاشمي بإسناده عن أم الدرداء قالت : دخل علي أبو الدرداء مغضباً ، فقلت له : ما أغضبك ؟ فقال : والله ما أعرف فيهم من أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا أنهم يصلون جمعياً . وفي لفظ : لو أن الرجل تعلم الإسلام وأهمه ثم تفقده ما عرف منه شيئاً .
حدثني إبراهيم بإسناده عن عبدالله بن عمرو قال : لو أن رجلين من أوائل هذه الأمة خليا بمصحفيهما في بعض هذه الأودية لأتيا الناس اليوم ولا يعرفان شيئاً مما كانا عليه .
قال مالك : وبلغني أن أبا هريرة رضي الله عنه تلا : ( إذا جاء نصر الله والفتح . ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً ) فقال : والذي نفسي بيده إن الناس ليخرجون اليوم من دينهم أفواجا كما دخلوا فيه أفواجاً .
قف تأمل رحمك الله إذا كان هذا في زمن التابعين بحضرة أواخر الصحابة فكيف يغتر المسلم بالكثرة أو تشكل عليه أو يستدل بها على الباطل .(3/32)
ثم روى ابن وضاح بإسناده عن أبي أمية قال : أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت : يا أبا ثعلبة كيف تصنع في هذه الآية ؟ قال : أية آية ، قلت : قول الله تعالى : ( لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) قال : أما والله قد سألت عنها خبيراَ ، سألت عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً ، وهوى متبعاً ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأى برأيه ، فعليك بنفسك ودع عنك أمر العوام ، فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله ) قيل يا رسول الله : أجر خمسين منهم ؟ قال : ( أجر خمسين منكم ) .
ثم روى بإسناده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( طوبى للغرباء ـ ثلاثاً ـ ) قالوا : يا رسول الله ومن الغرباء ؟ قال : ( ناس صالحون قليل في أناس سوء كثير من يبغضهم أكثر ممن يحبهم ) .
أخبرنا محمد بن سعيد بإسناده عن المعافري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( طوبى للغرباء الذين يتمسكون بكتاب الله حين ينكر ويعلمون بالسنة حين تطفى ) . أخبرنا محمد بن يحي أخبرنا أسد بإسناده عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( بدأ الإسلام غريباً ، ولا تقوم الساعة حتى يكون غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء حين يفسد الناس , ثم طوبى للغرباء حين يفسد الناس ) . أخبرنا محمد بن يحي أخبرنا أسد بإسناده عن عبدالرحمن أنه سمع رسول الله يقول : ( إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء ) قيل : ومن الغرباء يا رسول الله ؟ قال : ( الذين يصلحون إذا فسد الناس ) هذا آخر ما نقلته من كتاب البدع والحوادث للإمام الحافظ محمد بن وضاح رحمه الله .(3/33)
فتأمل رحمك الله أحاديث الغربة وبعضها في الصحيح مع كثرتها وشهرتها ، وتأمل إجماع العلماء كلهم أن هذا قد وقع من زمن طويل ، حتى قال ابن القيم رحمه الله : الإسلام في زماننا أغرب منه في أول ظهوره .
فتأمل هذا تأملاً جيداً لعلك أن تسلم من هذه الهوة الكبيرة التي هلك فيها أكثر الناس وهي الإقتداء بالكثرة والسواد الأكبر والنفرة من الأقل فما أقل من سلم منها ما أقله ما أقله !! .
ولنختم ذلك بالحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويعتقدون بأمره ) وفي رواية : ( يهتدون بهديه ، ويستنون بسنته ، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون ما لا يؤمرون ، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ) انتهى ما نقلته والحمد لله رب العالمين .
وقد رأيت للشيخ تقي الدين ، رسالة كتبها وهو في السجن إلى بعض إخوانه لما أرسلوا إليه يشيرون عليه بالرفق بخصومه ليتخلص من السجن أحببت أن أنقل أولها لعظم منفعته .
قال رحمه الله تعالى : الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ، ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ، أما بعد :(3/34)
فقد وصلت الورقة التي فيها رسالة الشيخين الناسكين القدوتين أيدهما الله وسائر الإخوان بروح منه وكتب في قلوبهم الإيمان , وأدخلهم مدخل صدق , وأخرجهم مخرج صدق , وجعل لهم من لدنه ما ينصر به من السلطان ، سلطان العلم والحجة بالبيان والبرهان وسلطان القدرة والنصرة بالسنان والأعوان , وجعلهم من أوليائه المتقين وحزبه الغالبين , لمن ناوأهم من الأقران , ومن الأئمة المتقين الذين جمعوا بين الصبر والإيقان والله محقق ذلك ومنجز وعده في السر والإعلان ، ومنتقم من حزب الشيطان لعباد الرحمن ، لكن بما اقتضت حكمته ومضت به سنته من الابتلاء والامتحان ، الذي يميز الله به أهل الصدق والإيمان , من أهل النفاق والبهتان , إذ قد دل كتابه على أنه لابد من الفتنة لكل من أدعى الإيمان , والعقوبة لذوي السيئات والطغيان ، فقال تعالى : ( آلم . أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون . ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين . أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون ) فأنكر سبحانه على من ظن أن أهل السيئات يفوتون الطالب الغالب ، وأن مدعي الإيمان يتركون بلا فتنة تميز بين الصادق والكاذب .(3/35)
وأخبر في كتابه أن الصدق في الإيمان لا يكون إلا بالجهاد في سبيله فقال تعالى : ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً إن الله غفور رحيم . إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ) وأخبر سبحانه وتعالى بخسران المنقلب على وجهه عند الفتنة , الذي يعبد الله فيها على حرف , وهو الجانب والطرف الذي لا يستقر من هو عليه , بل لا يثبت على الإيمان إلا عند وجود ما يهواه من خير الدنيا ، فقال تعالى : ( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمئن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين ) وقال تعالى : ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) وقال تعالى : ( ولنبلوكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم ) .
وأخبر سبحانه أنه عند وجود المرتدين فلا بد من وجود المحبين المحبوبين المجاهدين فقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه ) فهؤلاء هم الشاكرون لنعمة الإيمان , والصابرون على الامتحان , كما قال تعالى : ( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ) إلى قوله : ( والله يحب المحسنين ) .(3/36)
فإذا أنعم الله على إنسان بالصبر والشكر كان جميع ما يقضي له من القضاء خيراً له , كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيراً له ، إن أصابته سراء فشكر كان خيراً له ، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيراً له ) والصبار الشكور هو المؤمن الذي ذكر الله في غير موضع من كتابه ، ومن لم ينعم الله عليه بالصبر والشكر فهو بشر حال , وكل واحد من السراء والضراء في حقه يفضي به إلى قبيح المال , فكيف إذا كان ذلك في الأمور العظيمة التي هي محن الأنبياء والصديقين , وفيها تثبيت أصول الدين ، وحفظ الإيمان والقرآن من كيد أهل النفاق والإلحاد والبهتان , فالحمدلله حمداً كثيراً طيباً مباركاً كما يحب ربنا ويرضى , وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله .
والله المسؤول أن يثبتكم وسائر المؤمنين بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة , ويتم نعمه عليكم الظاهرة والباطنة وينصر دينه وكتابه ورسوله وعباده المؤمنين على الكافرين والمنافقين الذين أمرنا بجهادهم والإغلاظ عليهم في كتابه المبين . انتهى ما نقلته من كلام أبي العباس رحمه الله في الرسالة المذكورة وهي طويلة .
ومن جواب له رحمه الله لما سئل عن الحشيشة ما يجب على من يدعي أن أكلها جائز ، فقال : أكل هذه الحشيشة حرام وهي من أخبث الخبائث المحرمة سواء أكل منها كثيراً أو قليلاً لكن الكثير المسكر منها حرام بإتفاق المسلمين , ومن استحل ذلك فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتداً لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن بين المسلمين .
وحكم المرتد أشر من حكم اليهود والنصارى وسواء اعتقد أن ذلك يحل للعامة أو للخاصة الذين يزعمون أنها لقمة الذكر والفكر , وأنها تحرك العزم الساكن وتنفع الطريق .(3/37)
وقد كان بعض السلف ظن أن الخمر يباح للخاصة متأولا ًقوله تعالى : ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح ) فاتفق عمر وعلي وغيرهما من علماء الصحابة على أنهم إن أقروا بالتحريم جلدوا ، وإن أصروا على الاستحلال قتلوا . انتهى ما نقلته من كلام الشيخ رحمه الله تعالى .
فتأمل كلام هذا الذي ينسب إليه عدم تكفير المعين إذا جاهر بسب دين الأنبياء وصار من أهل الشرك , ويزعم أنهم على الحق ويأمر بالمصير معهم وينكر على من لا يسب التوحيد ويدخل مع المشركين لأجل انتسابه إلى الإسلام .
أنظر كيف كفر المعين ولو كان عابداً بإستحلال الحشيشة ولو زعم حلها للخاصة الذين تعينهم على الفكرة واستدل بإجماع الصحابة على تكفير قدامة وأصحابه إن لم يتوبوا وكلامه في المعين , وكلام الصحابة في المعين فكيف بما نحن فيه مما لا يساوي إستحلال الحشيشة جزء من ألف جزء منه ، والله أعلم .
والحمد الله رب العالمين .
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .(3/38)
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
اعْلمْ رَحِمَكَ اللهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا تَعَلُّمُ أَرْبَع مَسَائِلَ:
المسألة الأُولَى: الْعِلْمُ: وَهُوَ مَعْرِفَةُ اللهِ، وَمَعْرِفَةُ نَبِيِّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ، وَمَعْرِفَةُ دِينِ الإِسْلامِ بالأَدِلَّةِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: الْعَمَلُ بِهِ.
المسألة الثَّالِثَةُ: الدَّعْوَةُ إِلَيْهِ.
المسألة الرَّابِعَةُ: الصَّبْرُ عَلَى الأَذَى فِيهِ. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: بسم الله الرحمن الرحيم: ?وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ? سورة العصركاملة.
قَالَ الشَّافِعيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى ـ: لَوْ مَا أَنْزَلَ اللهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ إِلا هَذِهِ السُّورَةَ لَكَفَتْهُمْ.
وَقَالَ البُخَارِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى ـ: بَابُ: العِلْمُ قَبْلَ القَوْلِ وَالْعَمَلِ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ اله إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ )[محمد:19]، فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ (قَبْلَ القَوْلِ وَالعَمَلِ )
*****
اعْلَمْ رَحِمَكَ اللهُ أَنَّه يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ، تَعَلُّمُ هَذِهِ الثَّلاثِ مَسَائِل، والْعَمَلُ بِهِنَّ:
الأُولَى:أَنَّ اللهَ خَلَقَنَا، وَرَزَقَنَا، وَلَمْ يَتْرُكْنَا هَمَلا، بَلْ أَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولاً، فَمَنْ أَطَاعَهُ دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَاهُ دَخَلَ النَّارَ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ( إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً ) [المزمل: 15، 16].(4/1)
الثَّانِيَةُ: أَنَّ الله لا يَرْضَى أَنْ يُشْرَكَ مَعَهُ أَحَدُ فِي عِبَادَتِهِ، لا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً )[الجن: 18].
الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ، وَوَحَّدَ اللهَ لا يَجُوزُ لَهُ مُوَالاةُ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَلَوْ كَانَ أَقْرَبَ قَرِيبٍ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ( لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )[المجادلة: 22].
*****
اعْلَمْ أَرْشَدَكَ اللهُ لِطَاعَتِهِ، أَنَّ الْحَنِيفِيَّةَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ: أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ، مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ. وَبِذَلِكَ أَمَرَ اللهُ جَمِيعَ النَّاسِ، وَخَلَقَهُمْ لَهَا؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ )[ الذاريات: 56]. وَمَعْنَى ?يَعْبُدُونِ?: يُوَحِّدُونِ، وَأَعْظَمُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ التَّوْحيِدُ، وَهُوَ: إِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ. وَأَعْظَمُ مَا نَهَى عَنْه الشِّركُ، وَهُوَ: دَعْوَةُ غَيْرِهِ مَعَهُ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً)[النساء: 35].(4/2)
فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَا الأُصُولُ الثَّلاثَةُ التِي يَجِبُ عَلَى الإِنْسَانِ مَعْرِفَتُهَا؟
فَقُلْ: مَعْرِفَةُ الْعَبْدِ رَبَّهُ، وَدِينَهُ، وَنَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
* الأصل الأول *
معرفة الرب
فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَنْ رَبُّكَ؟
فَقُلْ: رَبِّيَ اللهُ الَّذِي رَبَّانِي، وَرَبَّى جَمِيعَ الْعَالَمِينَ بِنِعَمِهِ، وَهُوَ مَعْبُودِي لَيْسَ لِي مَعْبُودٌ سِوَاهُ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ( الْحَمْدُ للَََّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )[الفاتحة: 2]. وَكُلُّ مَنْ سِوَى اللهِ عَالَمٌ، وَأَنَا وَاحِدٌ مِنْ ذَلِكَ الْعَالَمِ.
فَإِذَا قِيلَ لَكَ: بِمَ عَرَفْتَ رَبَّكَ؟(4/3)
فَقُلْ: بِآيَاتِهِ وَمَخْلُوقَاتِهِ، وَمِنْ آيَاتِهِ: اللَّيْلُ، وَالنَّهَارُ، وَالشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ، وَمِنْ مَخْلُوقَاتِهِ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرَضُونَ السَّبْعُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَمَا بَيْنَهُمَا؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ( وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [فصلت: 37]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ )[الأعراف: 54]. وَالرَّبُ هُوَ الْمَعْبُودُ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَآء بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ )[البقرة: 21، 22].
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: الخَالِقُ لِهَذِهِ الأَشْيَاءَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ.(4/4)
وَأَنْوَاعُ الْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا مِثْلُ: الإِسْلامِ، وَالإِيمَانِ، وَالإِحْسَانِ، وَمِنْهُ: الدُّعَاءُ، وَالْخَوْفُ، وَالرَّجَاءُ، وَالتَّوَكُّلُ، وَالرَّغْبَةُ، وَالرَّهْبَةُ، وَالْخُشُوعُ، وَالْخَشْيَةُ، وَالإِنَابَةُ، وَالاسْتِعَانَةُ، وَالاسْتِعَاذَةُ، وَالاسْتِغَاثَةُ، وَالذَّبْحُ، وَالنَّذْرُ، وَغَيْرُ ذَلَكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا. كُلُّهَا للهِ تَعَالَى.
وَالدَّلِيلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً )[الجن: 18]. فَمَنْ صَرَفَ مِنْهَا شَيْئًا لِغَيْرِ اللهِ؛ فَهُوَ مُشْرِكٌ كَافِرٌ؛ وَالدَّلِيلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ( وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ الهاً آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ )[المؤمنون: 117].
وَفِي الْحَدِيثِ: ( الدُّعَاءُ مخ الْعِبَادَةِ ). وَالدَّلِيلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ )[غافر: 60].
وَدَلِيلُ الْخَوْفِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ( فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ )[آل عمران: 175].
وَدَلِيلُ الرَّجَاءِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً )[الكهف: 110].
َودَلِيلُ التَّوَكُلِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ( وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ )[المائدة: 23]. وقوله: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)[الطلاق: 3].(4/5)
وَدَلِيلُ الرَّغْبَةِ، وَالرَّهْبَةِ، وَالْخُشُوعِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ )[الأنبياء: 90].
وَدَلِيلُ الْخَشْيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ( فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي...) الآية [البقرة: 150].
وَدَلِيلُ الإِنَابَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ...) الآية [الزمر: 54].
وَدَلِيلُ الاسْتِعَانَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) [الفاتحة: 5]. وَفِي الْحَدِيثِ: (...وإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ).
وَدَلِيلُ الاسْتِعَاذَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ) [الفلق: 1]. و) َقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ) [الناس: 1].
وَدَلِيلُ الاسْتِغَاثَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ...) الآية[الأنفال: 9].
وَدَلِيلُ الذَّبْحِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَه وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ُ) [الأنعام: 161ـ163]. وَمِنَ السُنَّةِ: (لعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ).
وَدَلِيلُ النَّذْرِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً ) [الإنسان: 7].(4/6)
* الأَصْلُ الثَّانِي *
مَعْرِفَةُ دِينِ الإِسْلامِ بِالأَدِلَّةِ
وَهُوَ: الاسْتِسْلامُ للهِ بِالتَّوْحِيدِ، وَالانْقِيَادُ لَهُ بِالطَّاعَةِ، وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ، وَهُوَ ثَلاثُ مَرَاتِبَ: الإسْلامُ، وَالإِيمَانُ، وَالإِحْسَانُ. وَكُلُّ مَرْتَبَةٍ لَهَا أَرْكَانٌ.
المرتبة الأولى: الإسلام
فَأَرْكَانُ الإِسْلامِ خَمْسَةٌ: شَهَادَةُ أَن لا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَحَجُّ بَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ.
فَدَلِيلُ الشَّهَادَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ( شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ اله إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ اله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )[آل عمران، 18].
وَمَعْنَاهَا: لا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إلا اللهُ، وَحَدُّ النَّفْيِ مِنْ الإِثْبَاتِ ?لا اله? نَافِيًا جَمِيعَ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ ?إِلا اللهُ? مُثْبِتًا الْعِبَادَةَ للهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ فِي عِبَادَتِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ فِي مُلْكِهِ.
وَتَفْسِيرُهَا: الَّذِي يُوَضِّحُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )[الزخرف: 26 ـ 28]. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ )[آل عمران: 64].(4/7)
وَدِليلُ شَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ( لَقَدْ جَآءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ )[التوبة: 128].
وَمَعْنَى شَهَادَة أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ: طَاعَتُهُ فِيمَا أَمَرَ، وَتَصْدِيقُهُ فِيمَا أَخْبَرَ، واجْتِنَابُ مَا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ وأَلا يُعْبَدَ اللهُ إِلا بِمَا شَرَعَ.
وَدَلِيلُ الصَّلاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَتَفْسِيرُ التَّوْحِيدِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ( وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ )[البينة: 5].
َودَلِيلُ الصِّيَامِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )[البقرة: 183].
َودَلِيلُ الْحَجِّ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ( وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ )[آل عمران: 97].
الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: الإِيمَانُ
وَهُوَ: بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، فَأَعْلاهَا قَوْلُ لا اله إِلا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإِيمَانِ.
وَأَرْكَانُهُ سِتَّةٌ: كما فى الحديث (أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ).(4/8)
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذِهِ الأَرْكَانِ السِّتَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ( لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ )[البقرة: 177].
ودليل القدر: قَوْلُهُ تَعَالَى: ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ )[القمر: 49].
الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: الإِحْسَانُ
أركانه: وله رُكْنٌ وَاحِدٌ. كما فى الحديث: ( أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِن لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ). وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ( إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ )[النحل: 128]. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )[الشعراء: 217 ـ 220]. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ( وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ) [يونس: 61].(4/9)
وَالدَّلِيلُ مِنَ السُّنَّةِ: حَدِيثُ جِبْرِيلَ الْمَشْهُورُ: عَنْ عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ، شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ، لا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، فَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلامِ فَقَالَ: ( أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا اله إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلا ). قَالَ: صَدَقْتَ. فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ. قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ. قَالَ:(أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ). قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ. قَالَ: ( أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ). قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ. قَالَ: (مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ ). قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا. قَالَ: ( أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ ). قَالَ: فَمَضَى، فَلَبِثْنَا مَلِيَّا، فَقَالَ: ( يَا عُمَرُ أَتَدْرُونَ مَنِ السَّائِلِ؟ ). قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ( هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ أَمْرَ دِينِكُم ).(4/10)
*الأَصْلُ الثَّالِثُ *
مَعْرِفَةُ نَبِيِّكُمْ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ، وَهَاشِمٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقُرَيْشٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْعَرَبُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلاةِ وَالسَّلامِ، وَلَهُ مِنَ الِعُمُرِ ثَلاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً، مِنْهَا أَرْبَعُونَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وَثَلاثٌ وَعِشْرُون َفى النبوة. نُبِّئَ بـ( اقْرَأ )، وَأُرْسِلَ بـ ( الْمُدَّثِّرْ )، وَبَلَدُهُ مَكَّةُ.
بَعَثَهُ اللهُ بِالنِّذَارَةِ عَنِ الشِّرْكِ، وَبالَدْعُوة إِلَى التَّوْحِيدِ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ )[المدثر: 1ـ7]. وَمَعْنَى: ( قُمْ فَأَنذِرْ ): يُنْذِرُ عَنِ الشِّرْكِ، وَيَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ. ( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) : أَيْ: عَظِّمْهُ بِالتَّوْحِيدِ. ( وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ): أَيْ: طَهِّرْ أَعْمَالَكَ عَنِ الشِّرْكِ. ( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ): الرُّجْزَ: الأَصْنَامُ، وَهَجْرُهَا: تَرْكُهَا، وَالْبَرَاءَةُ مِنْهَا وَأَهْلُهَا، أَخَذَ عَلَى هَذَا عَشْرَ سِنِينَ يَدْعُو إِلَى التَّوْحِيدِ، وَبَعْدَ الْعَشْرِ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَفُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّلَواتُ الْخَمْسُ، وَصَلَّى فِي مَكَّةَ ثَلاثَ سِنِينَ، وَبَعْدَهَا أُمِرَ بالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَالْهِجْرَةُ الانْتِقَالُ مِنْ بَلَدِ الشِّرْكِ إِلَى بَلَدِ الإِسْلامِ.(4/11)
وَالْهِجْرَةُ فَرِيضَةٌ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ مِنْ بَلَدِ الشِّرْكِ إِلَى بلد الإِسْلامِ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءتْ مَصِيراً * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً )[النساء: 97ـ99]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ )[العنكبوت: 56].
قَالَ الْبُغَوِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ:نزلت هَذِهِ الآيَةِ فِي المُسْلِمِينَ الَّذِينَ بِمَكَّةَ ولَمْ يُهَاجِرُوا، نَادَاهُمُ اللهُ بِاسْمِ الإِيمَانِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنَ السُّنَّةِ: قَوْلُهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ: (لا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَ).
فَلَمَّا اسْتَقَرَّ فِي الْمَدِينَةِ أُمِرَ بِبَقِيَّةِ شَرَائِعِ الإِسْلامِ، مِثلِ: الزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَالأَذَانِ، وَالْجِهَادِ، وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِعِ الإِسْلامِ، أَخَذَ عَلَى هَذَا عَشْرَ سِنِينَ، وَتُوُفِّيَ ـ صَلواتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ ـ وَدِينُهُ بَاقٍ.(4/12)
وَهَذَا دِينُهُ، لا خَيْرَ إِلا دَلَّ الأُمَّةَ عَلَيْهِ، وَلا شَرَّ إِلا حَذَّرَهَا مِنْهُ، وَالْخَيْرُ الَّذِي دَلَّهَا عَلَيْهِ التَّوْحِيدُ، وَجَمِيعُ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ، وَالشَّرُ الَّذِي حَذَّرَهَا مِنْهُ الشِّرْكُ، وَجَمِيعُ مَا يَكْرَهُ اللهُ وَيَأْبَاهُ. بَعَثَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَافْتَرَضَ طَاعَتَهُ عَلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الْجِنِّ وَالإِنْسِ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً )[الأعراف: 158]. وَكَمَّلَ اللهُ بِهِ الدِّينَ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً )[المائدة: 3]. وَالدَّلِيلُ عَلَى مَوْتِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَوْلُهُ تَعَالَى: ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ )[الزمر: 30، 31].
وَالنَّاسُ إِذَا مَاتُواْ يُبْعَثُونَ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ( مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى )[طه: 55]. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ( وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً )[نوح: 17، 18]. وَبَعْدَ الْبَعْثِ مُحَاسَبُونَ وَمَجْزِيُّونَ بِأَعْمَالِهِمْ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ( وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى )[النجم: 31].(4/13)
وَمَنْ كَذَّبَ بِالْبَعْثِ كَفَرَ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ( زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ )[التغابن: 7].
وَأَرْسَلَ اللهُ جَمِيعَ الرُّسُلِ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ( رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ )[النساء: 165].
َوَأَّولُهُمْ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ أَوَّلَهُمْ نُوحٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: ( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ )[النساء: 165].
وَكُلُّ أُمَّةٍ بَعَثَ اللهُ إِلَيْهِا رَسُولا مِنْ نُوحٍ إِلَى مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ ) [النحل: 36]. وَافْتَرَضَ اللهُ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ الْكُفْرَ بِالطَّاغُوتِ وَالإِيمَانَ بِاللهِ.(4/14)
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: مَعْنَى الطَّاغُوتِ مَا تَجَاوَزَ بِهِ الْعَبْدُ حَدَّهُ مِنْ مَعْبُودٍ أَوْ مَتْبُوعٍ أَوْ مُطَاعٍ. وَالطَّوَاغِيتُ كَثِيرُونَ وَرُؤُوسُهُمْ خَمْسَةٌ: إِبْلِيسُ لَعَنَهُ اللهُ، وَمَنْ عُبِدَ وَهُوَ رَاضٍ، وَمَنْ دَعَا النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ نَفْسِهِ، وَمَنْ ادَّعَى شَيْئًا مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ، وَمَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ؛ وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ? لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ? [البقرة: 256]. وَهَذَا هُوَ مَعْنَى لا اله إِلا اللهُ، وَفِي الْحَدِيثِ: ( رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلامِ، وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ).
وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعلى اله وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.(4/15)
بسم الله الرحمن الرحيم
من أعجب العجاب ، وأكبر الآيات الدالة على قدرة الملك الغلاب ستة أصول بينها الله تعالى بياناً واضحاً للعوام فوق ما يظن الظانون ، ثم بعد هذا غلط فيها كثير من أذكياء العالم وعقلاء بني آدم إلا أقل القليل.
الأصل الأول
إخلاص الدين لله تعالى وحده لا شريك له ، وبيان ضده الذي هو الشرك بالله، وكون أكثر القرآن في بيان هذا الأصل من وجوه شتى بكلام يفهمه أبلد العامة، ثم لما صار على أكثر الأمة ما صار أظهر لهم الشيطان الإخلاص في صورة تنقص الصالحين والتقصير في حقوقهم، وأظهر لهم الشرك بالله في صورة محبة الصالحين وأتباعهم.
الأصل الثاني
أمر الله بالاجتماع في الدين ونهى عن التفرق فيه، فبين الله هذا بياناً شافياً تفهمه العوام ، ونهانا أن نكون كالذين تفرقوا واختلفوا قبلنا فهلكوا، وذكر أنه أمر المسلمين بالاجتماع في الدين ونهاهم عن التفرق فيه ، ويزيده وضوحاً ما وردت به السنة من العجب العجاب في ذلك، ثم صار الأمر إلى أن الافتراق في أصول الدين وفروعه هو العلم والفقه في الدين ، وصار الاجتماع في الدين لا يقوله إلا زنديق أو مجنون.
الأصل الثالث
أن من تمام الاجتماع السمع والطاعة لمن تأمر علينا ولو كان عبداً حبشياً ، فبين الله هذا بياناً شائعاً كافياً بوجوه من أنواع البيان شرعاً وقدراً ، ثم صار هذا الأصل لا يعرف عند أكثر من يدعي العلم فكيف العمل به.(5/1)
الأصل الرابع
بيان العلم والعلماء ، والفقه والفقهاء ، وبيان من تشبه بهم وليس منهم ، وقد بين الله هذا الأصل في أول سورة البقرة من قوله: { يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم } {سورة البقرة، الآية: 40} إلى قوله: { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين } ، {سورة البقرة، الآية: 47}. ويزيده وضوحاً ما صرحت به السنة في هذا الكلام الكثير البين الواضح للعامي البليد ، ثم صار هذا أغرب الأشياء ، وصار العلم والفقه هو البدع والضلالات، وخيار ما عندهم لبس الحق بالباطل ، وصار العلم الذي فرضه الله تعالى على الخلق ومدحه لا يتفوه به إلا زنديق أو مجنون ، وصار من أنكره وعاداه وصنف في التحذير منه والنهي عنه هو الفقيه العالم.
الأصل الخامس
بيان الله سبحانه لأولياء الله وتفريقه بينهم وبين المتشبهين بهم من أعداء الله المنافقين والفجار، ويكفي في هذا آية من سورة آل عمران وهي قوله: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } {سورة آل عمران، الآية: 31} . الآية ،و آية في سورة المائدة وهي قوله: { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } {سورة المائدة، الآية: 54} . الآية ، وآية في يونس وهي قوله : { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون . الذين أمنوا وكانوا يتقون } {سورة يونس ، الآيتان: 62-63} ، ثم صار الأمر عند الله أكثر من يدعي العلم وأنه من هداة الخلق وحفاظ الشرع إلى أن الأولياء لا بد فيهم من ترك اتباع الرسل ومن تبعهم فليس منهم ولا بد من ترك الجهاد فمن جاهد فليس منهم ، ولا بد من ترك الإيمان والتقوى فمن تعهد بالإيمان والتقوى فليس منهم يا ربنا نسألك العفو والعافية إنك سميع الدعاء.(5/2)
الأصل السادس
رد الشبهة التي وضعها الشيطان في ترك القرآن والسنة واتباع الآراء والأهواء المتفرقة المختلفة ، وهي أن القرآن والسنة لا يعرفهما إلا المجتهد المطلق، والمجتهد هو الموصوف بكذا وكذا أوصافاً لعلها لا توجد تامة في أبي بكر وعمر ، فإن لم يكن الإنسان كذلك فليعرض عنهما فرضاً حتماً لا شك ولا إشكال فيه ، ومن طلب الهدى منهما فهو إما زنديق ، وإما مجنون لأجل صعوبة فهمهما فسبحان الله وبحمده كم بين الله سبحانه شرعاً وقدراً ، خلقاً وأمراً في رد هذه الشبهة الملعونة من وجوه شتى بلغت إلى حد الضروريات العامة ولكن أكثر الناس لا يعلمون { لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون . إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون . وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون . وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون . إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم } . {سورة يس ، الآيات: 7-11} .
آخره والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.(5/3)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، قال شيخ الإسلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى :
فان قيل، فما الجامع لعبادة الله وحده ؟
قلت : طاعته بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه .
فإن قيل : فما أنواع العبادة، التي لا تصلح إلا لله ؟
قلت : من أنواعها، الدعاء، والاستعانة، والاستغاثة، وذبح القربان، والنذر والخوف، والرجاء، والتوكل، والإنابة، والمحبة والخشية، والرغبة والرهبة، والتأله، والركوع، والسجود، والخشوع، والتذلل، والتعظيم الذي هو من خصائص الألوهية .
ودليل الدعاء، قوله تعالى : ( وأن المساجد لله فلا تدعوا الله أحداً ) [الجن :18] .
وقوله تعالى : (له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء ) إلى قوله ( وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) [الرعد:14] ودليل الاستعانة ودليل الاستغاثة، قوله تعالى : ( إذ تستغيثون ربّكم فاستجاب لكم ) [الأنفال:9] .(6/1)
ودليل الذبح، قوله تعالى : ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) قوله تعالى (إياك نعبد وإياك نستعين) [الأنعام :162-163]ودليل النذر، قوله تعالى : ( يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيرا) [الإنسان:7] ودليل الخوف، قوله تعالى : ( إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ) [آل عمران:175]ودليل الرجاء، قوله تعالى : ( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً )[الكهف:110] ودليل التوكل، قوله تعالى : ( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) [المائدة:23] ودليل الإنابة، قوله تعالى : ( وأنيبوا إلى ربّكم وأسلموا له ) [الزمر:54] ودليل المحبة، قوله تعالى : ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله ) [البقرة:165] . ودليل الخشية، قوله تعالى : ( فلا تخشوا الناس واخشون )[المائدة:44].
ودليل الرغبة، والرهبة، قوله تعالى : ( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين ) [الأنبياء:90] ودليل التأله، قوله تعالى : (وإلهكم إله واحد لا إله هو الرحمن الرحيم )[البقرة:163] ودليل الركوع، والسجود، قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون )[الحج:77] ودليل الخشوع، قوله تعالى : ( وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً ) الآية [آل عمران:199]ونحوها ؛ فمن صرف شيئاً من هذه الأنواع لغير الله، فقد أشرك بالله غيره .(6/2)
فإن قيل : فما أجلُّ أمرٍ أمر الله به ؟
قيل : توحيده بالعبادة، وقد تقدم بيانه ؛ وأعظم نهي نهى الله عنه، الشرك به، وهو : أن يدعو مع الله غيره، أو يقصده بغير ذلك، من أنواع العبادة ؛ فمن صرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله : فقد اتخذه ربّاً، وإلهاً، وأشرك مع الله غيره، أو يقصده بغير ذلك، من أنواع العبادة . وقد تقدم، من الآيات : ما يدل على أن هذا هو الشرك، الذي نهى الله عنه، وأنكره على المشركين، وقد قال تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً ) [النساء:116] وقال تعالى : ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ) [المائدة:72] والله أعلم .
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم .(6/3)
تأليف الإمام المجدّد
محمد بن عبدالوهاب
مع ملحق
الآيات المحرّفة عند الرافضة
قرأها وعلّق عليها
محمد مال الله
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى 1422 هـ
إلى العلماء الأجلاء
سماحة الوالد العلامة فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
وفضيلة العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين
وفضيلة العلامة شيخ المحدثين الشيخ محمد ناصر الدين الألباني
راجياً من المولى تبارك وتعالى أن يرحمهم ويجزيهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأن يجعل قبورهم روضة من رياض الجنة وأن يغفر لهم ويحشرهم مع عباده الصالحين 0وأن يجعل ثواب هذا الجهد المتواضع في ميزان حسناتهم 0(7/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن إقتفى أثره إلى يوم الدين 0
منذ فترة جاوزت العشر سنين حينما كنت ببغداد تفضل بعض الأفاضل بإهدائي صورة من مخطوطة " الرد على الرافضة " للإمام المجدّد الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى وجزاه سبحانه وتعالى عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وذلك بغية تحقيقها والتعليق عليها لتتضح الصورة أمام المخدوعين بالشيعة والتشيع فوعدته بالنظر في الموضوع ، ولكن أمام زحمة الأحداث وعدم توفر فرصة ملائمة لهذا الأمر تم تأجيله إلى أن يهيء المولى تبارك وتعالى فرصة أخرى ، وبعد هذه الفترة الطويلة ألح بعض الأخوة بضرورة تحقيق الرسالة والتعليق عليها لاسيما أن كاتبها من الأئمة الأعلام الذين إنتفعت بدعوته المباركة مشارق الأرض ومغاربها ، فاستخرت الله تعالى وقمت بقراءة الرسالة قراءة فاحصة متأنية فوجدت أن الحاجة تستدعي ضرورة الإسراع بالتحقيق والتعليق لا سيما في ظل الدعوات المتهالكة من أجل التقريب بين المسلمين والرافضة ، وقد سلك الإمام رحمه الله تعالى في بحثه عن الرافضة مسلك الباحث الموضوعي الذي إعتمد في كل جزئية تناولها على مراجع الرافضة وذلك شأن المنصفين ، ولا غرو في ذلك فهو رحمه الله تعالى سلك مسلك أئمة السلف في الرد على المخالفين لا سيما وأن الإمام قد تأثر إلى حد كبير بمنهج الإمامين العظيمين : إبن تيمية وتلميذه إبن القيم رحمهما الله تعالى ، فجاءت كتابته عن الرافضة سديدة وموثقة ، وقد شرعت بالتعليق على الرسالة في الخامس عشر من شهر ربيع الأول عام ألف وأربعمائة وواحد عشرين وإنتهيت منها بفضل الله تعالى في العشرين من ذي الحجة من نفس العام فلله تعالى الحمد والمنة ، وعملي ينحصر في التعليق على بعض المواضع المهمة في الرسالة أو المطالب التي أعتقد أنها بحاجة إلى مزيد من الإيضاح ، وإعتمدت على النسخة التي حققها فضيلة الأستاذ الدكتور ناصر بن سعد الرشيد جزاه الله خيراً على إخراج رسالة الإمام رحمه الله تعالى وقد استفدت كثيراً من تعليقاته على(7/2)
الرسالة ، وربما يعترض بعض القراء على إثقال الهوامش بالتعليقات ، والحقيقة أن ذلك مرده ضرورة البيان والتفصيل لا المباهاة وتسويد الصفحات والله تعالى أعلم بالنيات0 ولتمام الفائدة ألحقت بهذه الرسالة ملحقاً ذكرت فيه الآيات المحرّفة عند الرافضة من واقع مراجعهم لئلا يتبجح أحد أن الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله تعالى افترى على الرافضة بدعوى تحريف القرآن ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين 0 …
أبو عبدالرحمن / محمد مال الله
22/12/1421هـ
الدعوة السلفية رائدة الحركات الإسلامية التي ظهرت ابان عهود التخلف والجمود الفكري في العالم الإسلامي تدعو إلى العودة بالعقيدة الإسلامية إلى أصولها الصافية وتلح على تنقية مفهوم التوحيد مما علق به من أنواع الشرك 0
ومن أئمة الدعوة السلفية الإمام المجدّد الشيخ محمد بن عبدالوهاب (1115- 1206هـ ) ولد ببلدة العيينة القريبة من الرياض ، وتلقى علومه على والده دارساً شيئاً من الفقه الحنبلي والتفسير والحديث حافظاً للقرآن الكريم وعمره عشر سنين0
ذهب إلى مكة حاجاً ثم سار إلى المدينة المنورة ليتزود بالعلم الشرعي وفيها التقى بشيخه محمد حياة السندي ( ت 1165هـ ) صاحب الحاشية على صحيح البخاري وكان تأثره به عظيماً 0
عاد إلى العيينة ثم توجه إلى العراق عام 1136هـ ليزور البصرة وبغداد والموصل ، وفي كل مدينة منها كان يتلقى بالمشايخ والعلماء ويأخذ عنهم 0
غادر البصرة إلى الإحساء ثم إلى حريملاء حيث إنتقل اليها والده الذي يعمل قاضياً وفيها بدأ ينشر الدعوة إلى التوحيد جاهراً بها وذلك سنة 1143 هـ ، لكنه ما لبث أن غادرها بسبب تآمر نفر من أهلها عليه لقتله 0
توجه إلى العيينة وعرض دعوته على أميرها " عثمان بن معمر " الذي قام معه بهدم القبور والقباب وأعانه على رجم امرأة زانية جاءته معترفة بذلك 0(7/3)
توجه إلى الدرعية مقر إمارة آل سعود ونزل ضيفاً على محمد بن سويلم العريني عام 1158هـ حيث أقبل عليه التلاميذ وأكرموه 0
الأمير محمد بن سعود الذي حكم الفترة 1139 - 1179 هـ علم بمقدم الشيخ فجاءه مرحباً به وعاهده على حمايته وتأييده 0
مضى الأمير والشيخ في نشر الدعوة في ربوع نجد ، ولما توفي الأمير خلفه إبنه عبدالعزيز بن محمد ليتابع مناصرة الدعوة مع الشيخ الذي توفاه الله بالدرعية ودفن فيها 0
ويمكننا تلخيص السمات الفكرية والعقائدية لهذه الدعوة المبارة بالآتي :
كان الشيخ المؤسس حنبلي المذهب في دراسته لكنه لم يكن يلتزم ذلك في فتواه إذا ترجّح لديه الدليل فيما يخالفه ، وعليه فإن الدعوة السلفية إتسمت بأنها لا مذهبية في أصولها حنبلية في فروعها 0
دعت إلى فتح الإجتهاد بعد أن ظل مغلقاً منذ سقوط بغداد 656هـ 0
أكدت على ضرورة الرجوع إلى الكتاب والسنة وعدم قبول أي أمر في العقيدة ما لم يستند إلى دليل مباشر 0
إعتمدت منهج أهل السنة والجماعة في فهم الدليل والبناء عليه 0
دعت إلى تنقية مفهوم التوحيد مطالبة المسلمين بالرجوع به إلى ما كان عليه المسلمون في الصدر الأول للإسلام 0
لقد عملت هذه الدعوةعلى إيقاظ الأمة الإسلامية فكرياً بعد أن رانت عليها سجف من التخلف والخمول والتقليد الأعمى 0
العناية بتعليم العامة وتفتيح أذهان المثقفين منهم ولفت أنظارهم إلى البحث والدليل ودعوتهم إلى التنقيب في بطون أمهات الكتب والمراجع قبل قبول أية فكرة فضلاً عن تطبيقها 0(7/4)
للشيخ مصنفات كثيرة أهمها ( كتب التوحيد فيما يجب من حق الله على العبيد ) ( كتاب الإيمان ) ( كشف الشبهات ) آداب المشي إلى الصلاة ) وقد أحسن القائمون على جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض حينما أهدوا إلى المسلمين عامة " مجموعة مؤلفات الإمام بن عبدالوهاب " ونتمنى على القائمين على الجامعة بأن يعيدوا طباعة مجموعة مؤلفات الإمام مع الإهتمام بالتحقيق اللائق بتلك الأسفار العظيمة 0
لقد ترسم الشيح رحمه الله تعالى في دعوته أعلاماً ثلاثة استن طريقتهم وهم الإمام أحمد وإبن تيمية وإبن قيم الجوزية رحمهم الله تعالى وغفر لهم ، وكانت دعوته صدى لأفكارهم وترجمة لأهدافهم في واقع عملي 0
رحم الله الإمام محمد بن عبدالوهاب وجزاه الله تعالى عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأن يوفق علمائنا المعاصرين بالعمل على نشر دعوته المباركة لينتفع بها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها 0
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعلنا من أهل السنة والصلاة والسلام على عبده الذي اكمل علينا به المنة وعلى آله وأصحابه الذين حبهم وإتباع آثارهم أقوى جنّة ، أما بعد :
فهذا مختصر مفيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب تغمده الله بالرحمة والرضوان في بعض الرافضة الذين رفضوا سنة حبيب الرحمن ، واتبعوا في غالب أمورهم خطوات الشيطان فضلوا وأضلوا عن كثير من موجبات الإيمان بالله وسعوا في البلاد بالفساد والطغيان يتولون أهل النيران ويعادون أصحاب الجنان ، نسأل الله العفو عن الافتتان من قبائحهم .(7/5)
مطلب الوصية بالخلافة
إن مفيدهم قال في كتابه روضة الواعظين : " إن الله أنزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد توجهه إلى المدينة في الطريق في حجة الوداع فقال : يا محمد إن الله تعالى يقرئك السلام ويقول لك : إنصب علياً للإمامة ونبّه أمتك على خلافته 0 فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا أخي جبريل إن الله بغّض أصحابي لعلي ، إني أخاف منهم أن يجتمعوا على إضراري فاستعف لي ربي 0فصعد جبريل وعرض جوابه على الله تعالى 0 فأنزله الله تعالى مرة أخرى 0 وقال النبي صلى الله عليه وسلم مثلما قال أولاً0 فاستعفى النبي صلى الله عليه وسلم كما في المرة الأولى 0 ثم صعد جبريل فكرّر جواب النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمره الله تكرير نزوله معاتباً له مشدّداً عليه بقوله : ) يا أيها الرسول بلّغ ما أُنزل اليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ( فجمع أصحابه وقال : يا أيها الناس إن علياً أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين ، ليس لأحد أن يكون خليفة بعدي سواه ، من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه 0 انتهى 0
فانظر أيها المؤمن إلى حديث هؤلاء الكذبة الذي يدل على إختلاقه ركاكة ألفاظه وبطلان أغراضه ولا يصح منه إلا من كنت مولاه ، ومن إعتقد منهم صحة هذا فقد هلك ، إذ فيه إتهام المعصوم قطعاً من المخالفة بعدم إمتثال أمر ربه إبتداءاً وهو نقص ، ونقص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كفر () ، وأن الله تعالى اختار لصحبته من يبغض أجلّ أهل بيته ، وفي ذلك ازدراء بالنبي صلى الله عليه وسلم(7/6)
ومخالفة لما مدح الله به رسوله وأصحابه من أجل المدح، قال الله تعالى : ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار ، وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيما ) وإعتقاد ما يخالف كتاب الله والحديث المتواتر كفر ، وأنه صلى الله عليه وسلم خاف إضرار الناس وقد قال الله تعالى : ( والله يعصمك من الناس ) قبل ذلك كما هو معلوم بديهة وإعتقد عدم توكله على ربه فيما وعده نقص ، ونقصه كفر وإن فيه كذباً على الله تعالى ) ومن أظلم ممن إفترى على الله كذباً( وكذباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن إستحل ذلك فقد كفر ، ومن يستحل ذلك فقد نفسق، وليس في قوله : من كنت مولاه ، أن النص على خلافته متصله ، ولو كان نصاً لادّعاها علي رضي الله عنه لأنه أعلم بالمراد، ودعوى إدّعائها باطل ضرورة ، ودعوى علمه يكون نصاً على خلافته وترك إدعائها تقية أبطل من أن يبطل 0
وما أقبح ملة قوم يرمون إمامهم بالجُبن والخور والضعف في الدين مع أنه أشجع الناس وأقواهم0(7/7)
مطلب إنكار خلافة الخلفاء
ومنها إنكارهم صحة خلافة الصدّيق رضي الله عنه ،وإنكارها يستل تفسيق من بايعه واعتقد خلافته حقاً ، وقد بايعه الصحابة رضي الله عنهم حتى أهل البيت كعلي رضي الله عنه ، وقد اعتقدها حقاً جمهور الأمة ، واعتقاد تفسيقهم يخالف قوله تعالى : ( كنتم خير أمة أُخرجت للناس ) إذ أي خير في أمة يخالف أصحاب نبيها إياه ويظلمون أهل بيته بغصب أجلّ المناصب ويؤذونه بإيذائهم ويعتقد جمهورها الباطل حقاً ( سبحانك هذا بهتان عظيم )0 ومن إعتقد ما يخالف كتاب الله فقد كفر ، والأحاديث في صحة خلافة الصدّيق وإجماع الصحابة وجمهور الأمة على الحق أكثر من أن تُحصر ، ومن نسب جمهور أصحابه صلى الله عليه وسلم إلى الفسق والظلم ، وجعل إجتماعهم على الباطل فقد إزدرى بالنبي صلى الله عليه وسلم وإزدراؤه كفره ، ما أضيع صنيع قوم يعتقدون في جمهور النبي صلى الله عليه وسلم الفسق والعصيان والطغيان ، مع أن بديهة العقل تدل على أن الله تعالى لا يختار لصحبة صفيّه ونصرة دينه إلا الأصفياء من خلقه ، والنقل المتواتر يؤيد ذلك - فلو كان في هؤلاء القوم خير لما تكلموا في صحب النبي صلى الله عليه وسلم وأنصار دينه إلا بخير ، لكن الله أشقاهم
فخذلهم بالتكلم في أنصار الدين كل ميسر لما خلق له 0عن علي رضي الله عنه قال: دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا : يا رسول الله استخلف علينا 0 قال : إن يعلم الله فيكم خيراً يول عليكم خيركم 0 فقال علي رضي الله عنه : فعلم الله فينا خيراً فولّى علينا خيرنا أبا بكر رضي الله عنه 0 رواه الدار قطني 0
وهذا أقوى حجة على من يدّعي موالاة علي رضي الله عنه، وعن جُبير بن مطعم قال : " أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع اليه ، فقالت : إن جئت ولم أجدك - كأنها تقول الموت - ، قال : إن لم تجديني فأتي أبا بكر" رواه البخاري ومسلم 0(7/8)
وعن إبن عباس رضي الله عنه قال : جاءت إمرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله شيئاً ، فقال : تعودين ، فقالت : يا رسول الله إن عدت فلم أجدك - تعرض بالموت - ، فقال : إن جئت فلم تجديني فأتي أبا بكر فإنه الخليفة بعدي " رواه إبن عساكر 0
وعن إبن عمر رضي الله عنهما قال :" سمعت رسول الله يقول : يكون خلفي إثنا عشر خليفة ، أبو بكر لا يلبث إلا قليلا " رواه البغوي بسند حسن 0
وعن حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إقتدوا بالذين بعدي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما " رواه أحمد والترمذي وحسنه ابن ماجة والحاكم وصححه ورواه الطبراني عن أبي الدرداء والحاكم عن ابن مسعود 0
وعن حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لا أدري بقائي فيكم ، فاقتدوا بالذين بعدي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وتمسكوا بهدي عمار وما حدثكم إبن مسعود فصدقوه " رواه أحمد وغيره 0
وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وإهتدوا بهدي عمار وتمسكوا بعهد إبن مسعود " رواه إبن عدي 0وعنه: بعثني بنو المصطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أسأله إلى من ندفع صدقاتنا بعدك 0 فقال : إلى أبي بكر 0 رواه الحاكم وصححه 0 وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل : أنا أولى ، ويأبى الله إلا أبابكر0 رواه مسلم وأحمد0 وهذا الحديث يُخرج من يأبى(7/9)
خلافة الصديق عن المؤمنين 0 عن علي رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :" سألت الله أن يقدمك ثلاثاً فأبى الله إلا تقديم أبي بكر " وفي رواية زيادة " ولكني خاتم الأنبياء وأنت خاتم الخلفاء" رواه الدار قطني والخطيب وإبن عساكر 0 وعن سفينة قال : لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وضع في البناء حجراً وقال لأبي بكر : ضع حجرك إلى جنب حجري 0 ثم قال لعمر : ضع حجرك إلى جنب حجر أبي بكر 0 ثم قال : هؤلاء الخلفاء بعدي " رواه إبن حبان ، قال أبو زرعة : إسناده قوي لا بأس به ، والحاكم وصححه والبيهقي 0
روي في تفسير قوله تعالى ( وإذ أسرّ النبي إلى بعض أزواجه ) الإخبار بخلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما قيل يشير إلى خلافة الصديق رضي الله عنه قوله تعالى ( ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم أصحاب النار هم فيها خالدون ) لأنه هو الذي جاهد أهل الردة 0 قوله تعالى ( قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أُولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون ) الآية ، لأنه هو الذي باشر قتال بني حنيفة الذين كانوا من أشد الناس حين إرتدوا ، وقوله تعالى ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ) وقد مكن الإسلام بأبي بكر وعمر فكانا خليفتين حقين لوجود صدق وعد الله وما صح من قوله صلى الله عليه وسلم " الخلافة بعدي ثلاثون " وفي بعض الروايات " خلافة رحمة" ، وفي بعضها " خلافة النبوة " وما صح من أمره صلى الله عليه وسلم أبا بكر في مرض موته بإمامة الناس وهذا التقديم من أقوى إمارات حقيقة خلافة الصديق وبه إستدل أجلاء الصحابة كعمر وأبي عبيدة وعلي رضي الله عنهم أجمعين ، فهذه وما شاكلها تسوّد وجوه الرافضة والفسقة المنكرين خلافة الصديق رضي الله عنه 0(7/10)
مطلب دعواهم إرتداد الصحابة رضي الله عنهم
منها أنه روى الكشي منهم وهو عندهم أعرفهم بحال الرجال وأوثقهم في رجاله وغيره عن الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه وحاشاه من ذلك أنه قال : " لما مات النبي صلى الله عليه وسلم ارتد الصحابة كلهم إلا أربعة : المقداد و حذيفة وسلمان وأبو ذر رضي الله عنهم 0 فقيل له : كيف حال عمار بن ياسر ؟0 قال : حاص حيصة ثم رجع " هذا العموم المؤكد يقتضي إرتداد علي وأهل البيت
، وهم لا يقولون بذلك ، وهذا هدم لأساس الدين لأن أساسه القرآن والحديث ، فإذا فرض إرتداد من أخذ من النبي صلى الله عليه وسلم إلا النفر الذين لا يبلغ خبرهم التواتر وقع الشك في القرآن والأحاديث ، نعوذ بالله من إعتقاد يُوجب هدم الدين 0 وقد إتخذ الملاحدة كلام هؤلاء الرافضة حجة لهم فقالوا : كيف يقول الله تعالى ( كنتم خير أمة أُخرجت للناس ) وقد ارتدوا بعد وفاة نبيهم إلا نحو خمسة أو ستة أنفس منهم لامتناعهم من تقديم أبي بكر على علي وهو الموصى به 0
فانظر إلى كلام هذا الملحد تجده من كلام الرافضة ، فهؤلاء أشد ضرراً على الدين من اليهود والنصارى ، وفي هذه الهفوة الفساد من وجوه: فإنها تُوجب إبطال الدين والشك فيه ، وتجوّز كتمان ما عُورض به القرآن ، وتجوّز تغيير القرآن ، وتخالف قوله تعالى ( رضي الله عن المؤمنين ) وقوله تعالى ( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) وقوله في من آمن قبل الفتح وبعده ( وكلاً وعد الله الحسنى ) وقوله في حق المهاجرين والأنصار ( أولئك هم الصادقون ) ، ( وأولئك هم المفلحون ) وقوله ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونا شهداء على الناس ) وقوله ( كنتم خير أمة أُخرجت للناس ) وغير ذلك من الآيات والأحاديث الناصة على أفضلية الصحابة وإستقامتهم على الدين ، ومن إعتقد ما يخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقد كفر ، ما أشنع مذهب قوم يعتقدون إرتداد من إختاره الله لصحبة رسوله ونصرة دينه 0(7/11)
مطلب دعواهم نقص القرآن
ومنها ما ذكروه في كتبهم الحديثية والكلامية أن عثمان رضي الله عنه نقص من القرآن ، فإنه كان في سورة " ألم نشرح " بعد قوله تعالى ( ورفعنا لك ذكرك ) وعلياً صهرك ، فأسقطها بحسد إشتراك الصهرية، قالوا وكانت سورة الأحزاب مقدار سورة الأنعام ، فأسقط عثمان منها ما كان في فضل القربى 0 قيل أظهروا في هذه الأزمنة سورتين يزعمون أنهما من القرآن الذي أخفاه عثمان كل سورة مقدار جزء وألحقوهما بآخر المصحف ، سموا إحداهما سورة النورين وأخرى سورة الولاء 0
يلزم من هذا تكفير الصحابة حتى علي حيث رضوا بذلك فهي كالتي قبلها في المفاسد وتكذيب قوله تعالى : ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ) وقوله ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) ومن اعتقد عدم صحة حفظه من الإسقاط واعتقد ما ليس منه فقد كفر ، ويلزم من هذا رفع الوثوق بالقرآن كله ، وهو يؤدي إلى هدم الدين ، ويلزمهم عدم الإستدلال به والتعبد بتلاوته إحتمال التبدّل ، ما أخبث قول قوم يدهم دينهم ، روى البخارى أنه قال إبن عباس ومحمد بن الحنفية : "ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما بين الدفتين " 0
مطلب السب
ومنها إيجابهم سب الصحابة لاسيما الخلفاء الثلاثة نعوذ بالله ، رووا في كتبهم المعتبرة عندهم عن رجل من أتباع هشام الأحول أنه قال : كنت يوماً عند أبي عبد الله جعفر بن محمد فجاءه رجل خياط من شيعته وبيده قميصان ، فقال : يا ابن رسول الله خطت أحدهما وبكل غرزة إبرة وحدت الله الأكبر وبكل غرزة لعن الأبعد أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - ثم نذرت لك ما أحببته لكمنهما فما تحبه خذه وما لا تحبه رده 0 فقال الصادق :أحب ما تم بلعن أبي بكر وعمر واردد اليك الذي خيط بذكر الله الأكبر 0(7/12)
فانظر إلى هؤلاء الكذبة الفسقة ماذا ينسبون إلى أهل البيت من القبائح حاشاهم ، قال الله تعالى : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ) فإذا لم يكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطاً فمن يكون غيرهم ؟ 0
وقال تعالى : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) فإذا لم يكن أصحابه من خيرهم فمن يكون سواهم ؟ 0 وقال : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين إتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدّ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم ) 0 ومن سب من رضي الله عنه فقد حارب الله ورسوله ، وقال : ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ) وكيف يسب من رضي عنه مولاه واصطفاه ، وقال تعالى : ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) كيف يجوز سب من يمدحه ربه 0وقال تعالى : ( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى ) ومن وعده سيده الجنة كيف يسب ؟0 وقال تعالى : ( للفقراء الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ) وقال في الأنصار : ( فأولئك هم المفلحون ) 0 والقرآن مشحون من مدح الصحابة رضي الله عنهم فمن سبهم فقد
خالف ما أمر الله من إكرامهم ومن إعتقد السوء فيهم كلهم أو جمهورهم فقد كذّب الله تعالى فيما أخبر من كمالهم وفضائلهم ومكذّبه كافر 0 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " النجوم أمنة السماء ، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما تُوعد ، وأنا أمنة لأصحابي ، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمنة لأمتي ، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يُوعدون " رواه مسلم 0(7/13)
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير أمتي قرني ثم الثاني ثم الثالث ، وخير أمتي أولها وآخرها وفي وسطها الكدر" رواه الحاكم والترمذي ، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أن الله يفتح على الناس ببركة الصحابة ، وعن أبي سعيد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أُحد ذهباً ما أدرك مدّ أحدهم أو نصيفه " رواه مسلم وغيره 0وعن عمر رضي الله عنه يقول : " لا تنسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عمره " رواه ابن ماجة 0وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لعل الله اطلّع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم قد وجبت لكم الجنة أوقد غفرت لكم " 0وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يدخل النار من حضر الحديبية إن شاء الله "، وقد روي بطرق إسناد بعضها رجال الصحيح غير واحد وهو ثقة قال : " لا تسبوا أصحابي لعن الله من سب أصحابي " ، وقد روي بأسانيد بعضها حسن عن ابن عباس قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده علي رضي الله عنه " يا علي سيكون في أمتي قوم ينتحلون حب أهل البيت لهم نبز يسمون الرافضة قاتلوهم فإنهم مشركون " وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على كمال الصحابة رضي الله عنهم خصوصاً الخلفاء الراشدين ، فإن ما ذكر في مدح كل واحد مشهور بل متواتر لأن نقلة ذلك أقوام يستحيل تواطؤهم على الكذب ويفيد مجموع أخبارهم العلم اليقيني بكمال الصحابة وفضل الخلفاء 0(7/14)
فإذا عرفت أن آيات القرآن تكاثرت في فضلهم والأحاديث المتواترة بمجموعها ناصّة على كمالهم فمن اعتقد فسقهم أو فسق مجموعهم وإرتدادهم وإرتداد وعظمهم عن الدين أو اعتقد سبهم وإباحته أو سبهم مع إعتقاد حقية سبهم أو حلّيته فقد كفر بالله تعالى ورسوله فيما أخبر من فضائلهم وكمالاتهم المستلزمة لبراءتهم عما يوجب الفسق والإرتداد وحقية السب وإباحته ومن كذبهما فيما ثبت قطعاً صدوره فقد كفر ، والجهل بالمتواتر القاطع ليس بعذر وتأويله وصرفه من غير دليل معتبر غير مفيد كمن أنكر فرضية الصلوات الخمس جهلاً لفرضيتها فإنه بهذا الجهل يصير كافراً وكذا لو
أوّلها على غير المعنى الذي نعرفه فقد كفر لأن العلم الحاصل من نصوص القرآن والأحاديث الدالة على فضهلم قطعي ، ومن خصّ بعضهم بالسب فإن كان ممن تواتر النقل في فضله وكماله كالخلفاء فإن اعتقد حقية سبه أو إباحته فقد كفر لتكذيبه ما ثبت قطعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكذبه كافر ، وإن سبّه من غير إعتقاد حقية سبه أو إباحته فقد تفسّق لأن سباب المسلم فسوق ، وقد حكم بعض فيمن سب الشيخين بالكفر مطلقاً والله أعلم ، وإن كان ممن لم يتواتر النقل في فضله وكماله فالظاهر أن سابه فاسق إلا أن يسبه من حيث صحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن ذلك كفر ، وغالب هؤلاء الرافضة الذين يسبون الصحابة لا سيما الخلفاء يعتقدون حقية سبهم أو إباحته بل وجوبه لأنهم يتقربون بذلك إلى الله تعالى حيث يرون ذلك من أجلّ أمور دينهم كما نقل عنهم () ما أضل عقول قوم يتقربون إلى الله تعالى بما يوجب لهم خسران الدين والله الحافظ 0(7/15)
هذا وإني لا أعتقد كفر من كان عند الله مسلماً ولا إسلام من كان عنده كافراً بل أعتقد من كان عنده كافراً كافراً ، وما صح عن العلماء من أنه لا يكفر أهل القبلة فمحمول على من لم يكن بدعته مكفرة لأنهم اتفقت كلمتهم على تكفير من كانت بدعته مكفرة ، ولا شك أن تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه قطعاً كفر ، والجهل في مثل ذلك ليس بعذر والله أعلم 0
مطلب التقية
ومنها إيجابهم التقية ، ورووا عن الصادق رضي الله عنه : " التقية ديني ودين آبائي" حاشاه من ذلك 0 وفسّر بعضهم قوله تعالى : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) أكثركم تقية وأشدكم خوفاً من الناس وقد قال صلى الله عليه وسلم : " من فسّر القرآن برأيه فقد كفر " ونقل علماؤهم عن أحد ثقاتهم أنه قال : " إن جعفر الصادق رضي الله عنه نام ليلة عندنا في خلوته الخاصة ، ولم يكن عنده إلا من نشك في تشيعه ، فقام للتهجد فتوضأ ماسحاً أُذنيه غاسلاً رجليه وصلّى ساجداً على اللبد عاقداً يديه ، فكنا نقول لعل الحق ذلك ، حتى سمعنا صيحة ، فرأينا رجلاً ألقى بنفسه يقبلهما ويبكي ويعتذر ، فسئل عن حاله فقال : كان الخليفة وأركان دولته يشكّون فيك وأنا كنت من جملتهم فتهدت بالفحص عن مذهبك وقد انتهزت الفرصة مدة مديدة حتى ظفرت هذه الليلة بأن دخلت الدار واختفيت ولم يطلع علّي أحد ، فالحمد الذي أذهب ذلك عني وحسُن إعتقادي يا إبن بنت رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يبقني على سوء ظني ، قال الشيخ : فعلمنا أن الله لا يُخفي عن المعصوم شيئاً وعلمنا أن هذه كانت تقية منه 00 انتهى 0(7/16)
والمفهوم من كلامهم أن معنى التقية عندهم كتمان الحق أو ترك اللازم أو إرتكاب المنهي خوفاً من الناس ، والله أعلم 0فانظر إلى جهل هؤلاء الكذبة ، وبنوا على هذه التقية المشئومة كتم علي نص خلافته ومبايعة الخلفاء الثلاثة وعدم تخليص حق فاطمة رضي الله عنها من إرثها على زعمهم وعدم التعرّض لعمر حين إغتصب بنته من فاطمة وغير ذلك ، قالوا فعل ذلك تقية قبحهم الله ، وقد وردت نصوص كثيرة عن علي وأهل بيته دالة على براءتهم عنها وإنما إفتراها عليهم الرافضة لترويج مذهبهم الباطل ، وهذا يقتضي عدم الوثوق بأقوال أئمة أهل البيت وأفعالهم لإحتمال أنهم قالوها أو فعلوها تقية ، وإن أرادوا بقوله " ودين آبائي " النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده ، فقد جوّزوا عليه عدم تبليغ ما أمره الله تبليغه خوفاً من الناس ، ومخالفة أمر الله في أقواله وأفعاله خوفاً منهم ويلزم من هذا عدم الوثوق بنبوته ، حاشاه عن ذلك ، ومن جوّز عليه ذلك فقد نقصه ، ونقص الأنبياء كفر ، ما أشنع قول قوم يلزم منه نقص أئمتهم المبرئين من ذلك 0(7/17)
مطلب سبهم عائشة رضي الله عنها المبرأة
ومنها نسبتهم الصديقة الطيبة المبرأة عما يقولون إلى الفاحشة وقد شاع في هذه الأزمنة بينهم ذلك كما نقل عنهم ، قال تعالى : ( إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب أليم لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإن لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رءوف رحيم 0 يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات
الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم ) وقال تعالى : ( إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرأون مما يقولون لهم معفرة ورزق كريم ) 0(7/18)
وقد روى عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والبخاري وإبن جرير وإبن المنذر وإبن أبي حاتم وإبن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن عائشة رضي الله عنها أنها المبرأة من هذه الآيات0 وروى سعيد ابن منصور وأحمد والبخاري وابن المنذر وإبن مردويه عن أم رومان رضي الله عنها ما يدل أن عائشة رضي الله عنها هي المبرأة المقصودة بهذه الآيات ، وروى البزار وإبن مردويه بسند حسن عن أبي هريرة ما يوافق ما تقدم ، وروى ابن مردويه والطبراني عن ابن عباس رضي الله عنه مثلما سبق ، وروى الطبراني وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله عنهما ما يطابق السابق ، وروى ابن مردويه والطبراني عن أبي إياس الأنصاري ما يوافق ما تقدم ، وروى ابن أبي حاتم والطبراني عن سعيد بن جبير ما يوافق ما تقدم ، وروى الطبراني عن الحكم بن عتيبة مثل ذلك ، وروى عن عبد الله بن الزبير ما يوافقه ، وروى عن عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وعلقمة ابن وقاص وعبد الله ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود وعمرة بنت عبد الرحمن وعبد الله بن أبي بكر بن حزم وسلمة بن عبد الرحمن بن عوف والقاسم ابن محمد بن أبي بكر والأسود بن يزيد وعباد بن عبد الله ابن الزبير ومقسم مولى ابن عباس وغيرهم عن عائشة رضي الله عنها مثله ، وكونها هي المبرأة المرادة من الآيات مشهور بل متواتر ، فإذا عرفت هذا فاعلم أنه من قذفها بالفاحشة مع إعتقاده أنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنها بقيت في عصمته بعد هذه الفاحشة فقد جاء بكذب ظاهر واكتسب الإثم واستحق العذاب وظن بالمؤمنين سوءاً وهو كاذب وأتى بأمر ظنه هيناً وهو عند الله عظيم ، وإتهم أهل بيت النبوة بالسوء ومن هذا الإتهام يلزم نقص النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن نقصه فكأنما نقص الله ، ومن نقص الله ورسوله فقد كفر وهو بفعله هذا خارج عن أهل الإيمان ومتبع لخطوات الشيطان وملعون في الدنيا والآخرة ومكذّب الله في قوله تعالى: ( والطيبات للطيبين ) الآية 0 ومن(7/19)
كذّب الله فقد كفر ، ومن قذفها مع زعمه أنها لم تكن زوجته أو لم تبق في عصمته بعد
هذه الفاحشة فإن قلنا : إنه ثبت قطعاً أنها هي المرادة بهذه الآيات وهوالظاهر يلزم من قذفها ما تقدم من القبائح ، والحاصل أن قذفها كيفما كان يُوجب تكذيب الله تعالى في إخباره عن تبرئتها عما يقول القاذف فيها ، وقد قال بعض المحققين من السادة : " وأما قذفها الآن فهو كفر وإرتداد ولا يكتفي فيه بالجلد لأنه تكذيب لسبع عشرة آية من كتب الله كما مر فيُقتل ردة وإنما اكتفى صلى الله عليه وسلم بجلدهم أي من تحذفها في زمنه مرة أو مرتين لأن القرآن ما كان أنزل في أمرها فلم يكذبوا القرآن وأما الآن فهو تكذيب للقرآن ، أما نتأمل في قوله تعالى : ( يعظكم الله أن تعودوا لمثله ) الآية ، ومكذّب القرآن كافر فليس له إلا السيف وضرب العنق " انتهى 0 ولا يخالف هذا قوله : ( ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا) الآية لأنه روى عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وإبن أبي الدنيا في الصمت وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طرق ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى : ( فخانتاهما ) : أما خيانة امرأة نوح فكانت تقول للناس إنه مجنون وأما خيانة امرأة لوط فكانت تدل على الضيف فتلك خيانتهما ، وروى ابن عساكر عن أشرس يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما بغت امرأة نبي قط " وروى إبن جرير عن مجاهد :" لا ينبغي لامرأة كانت تحت نبي أن تفجر" ومن يقذف الطاهرة الطيبة أم المؤمنين زوجة رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة كما صح ذلك عنه فهو من ضرب عبد الله بن أبي سلول رأس المنافقين ولسان حال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يا معشر المسلمين من يعذرني فيمن آذاني في أهلي " ( إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في(7/20)
الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما إكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبينا ) فأين أنصار دينه ليقولوا نحن نعذرك يارسول الله فيقومون بسيوفهم إلى هؤلاء الأشقياء الذين يكذّبون الله ورسوله ويؤذونهما والمؤمنين فيبيدونهم ويتقربون بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستوجبون بذلك شفاعتهم ، اللهم إنا نبرأ اليك من قول هؤلاء المطرودين 0
مطلب تكفير من حارب علياً
ومنها تكفير من حارب علياً رضي الله عنه ، مرادهم بذلك عائشة وطلحة والزبير وأصحابهم ومعاوية وأصحابه ، وقد تواتر منه صلى الله عليه وسلم ما يدل على إيمان هؤلاء وكون بعضهم مبشراً بالجنة ، وفي تكفيرهم تكذيب لذلك فإن لم يصيروا كفرة بهذا التكذيب فلا شك أنهم يصيرون فسقة وذلك يكفي في خسارتهم في تجارتهم 0
مطلب إستهانتهم بأسماء الصحابة
ومنها إستهانتهم بأسماء الصحابة ولاسيما العشرة وقد تواتر عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على وجوب تعظيمهم وإكرامهم ، وقد أرشد الله تعالى إلى ذلك في مواضع من كتابه ، ويلزم من إهانة هؤلاء إياهم إستخفافهم لذلك عندهم ، ومن إعتقد منهم ما يُوجب إهانتهم فقد كذّب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر من وجوب إكرامهم وتعظيمهم ، ومن كذّبه فيما ثبت عنه قطعاً فقد كفر 0
ومن عجب أنهم يتجنبون التسمية بأسماء الأصحاب ويسمون بأسماء الكلاب فما أبعدهم عن الصواب وأشبههم بأهل الضلال والعقاب 0
مطلب إنحصار الخلافة في إثني عشر
ومنها دعواهم إنحصار الخلافة في إثني عشر فإنهم كلهم بالنص والابصار عمن قبله وهذه دعوى بلا دليل مشتملة على كذب فبطلانها أظهر من أن يبين ويتوسلون بها إلى بطلان خلافة من سواهم ، في ذلك تكذيب لنصوص واردة في خلافة الخلفاء الراشدين وخلافة قريش .(7/21)
مطلب العصمة
ومنها إيجابهم العصمة للإثني عشر بناء على أن العصمة عندهم شرط في الإمامة وبطلان هذا أظهر ويلزم من إعتقادهم هذا مشاركة الأئمة الإثني عشر الأنبياء في وصف العصمة ، فإن قلنا : إنها مخصوصة بهم لا يوجد في غيرهم أو لا تلزم لغيرهم فإثباتها للأئمة جرم جسيم ، قال في التجريد :" الإمام لطف فيجب نصبه على الله تحصيلاً للغرض " 0 قال شارحه " : اختلفوا في أن الإمام هل يجب أن يكون معصوماً أم لا ، فذهبت الإمامية والإسماعيلية إلى وجوبه والباقون بخلافه " ثم قال في المتن وإمتناع التسلسل : " يوجب عصمة الإمام إلى آخر ما ذكر والظاهر أن إيجاب العصمة لأئمتهم من اكذابهم وإفترائهم لم يرد به دليل من الكتاب ولا من السنة ولا من الإجماع ولا من القياس الصحيح ولا من العقل السليم قاتلهم الله أنى يؤفكون " 0
مطلب فضل الإمام علي رضي الله عنه
ومنها : أنه قال ابن المطهر الحلي : " اجتمعت الإمامية على أن علياً بعد نبينا أفضل من الأنبياء غير أولي العزم وفي تفضيله عليهم خلاف قال وأنا من المتوقفين في ذلك وكذلك الأئمة من آله" 0 وقال الطوسي في تجريده:" وعلي أفضل الصحابة لكثرة جهاده إلى أن قال : وظهور المعجزات عنه وإختصاصه بالقرابة والأخوة ووجوب المحبة والنصرة ومساواة الأنبياء انتهى " وقال الشارح " ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم :" من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه وإلى نوح في تقواه وإلى ابراهيم في حلمه وإلى موسى في هيبته وإلى عيسى في عبادته فلينظر إلى علي بن أبي طالب " فإنه أوجب مساواته الأنبياء في صفاتهم انتهى " 0 وفي صحة هذا نظر ، وبعد فرض صحته لا يوجب المساواة لأن المشاركة في بعض الأوصاف لا تقتضي المساواة كما هو بديهي ، ومن اعتقد في غير الأنبياء كونه أفضل منهم ومساوياً لهم فقد كفر ، وقد نقل على ذلك الإجماع غير واحد من العلماء ، فأي خير في قوم إعتقادهم يوجب كفرهم 0(7/22)
مطلب نفي ذرية الحسن رضي الله عنه
ومنها : أن الحسن بن علي لم يعقب وأن عقبه انقرض وأنه لم يبق من نسله المذكور أحد ، وهذا القول شائع فيهم وهم مجمعون عليه ولا يحتاج إلى إثباته كذا قيل ، ومنهم من يدعي أن الجاج مثلهم كلهم وتوصلوا بذلك إلى أن يحصروا الإمامة في أولاد الحسين ، ومنهم في إثني عشر وأن يبطلوا إمامة من قام بالدعوة من آل الحسن مع فضلهم وجلالتهم واتفاقهم بشروط الإمامة ومبايعة الناس لهم وصحة نسبتهم ووفور علمهم بحيث أنهم كلهم بلغوا درجة الإجتهاد المطلق فقاتلهم الله أنى يؤفكون ، انظر إلى هؤلاء الأعداء لآل البيت المؤذين رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة بإنكار نسب من يثبت قطعاً أنه من ذرية الحسن رضي الله عنه وثبوت نسب ذريته متواتر لا يخفى على ذي بصيرة ، وقد عدّ صلى الله عليه وسلم الطعن في الأنساب من أفعال الجاهلية ، وقد ورد ما يدل على أن المهدي من ذرية الحسن رضي الله عنه كما رواه أبو داود وغيره 0
مطلب خلافهم في خروج غيرهم من النار
ومنها أنه قال الحلي في شرح التجريد : " اختلف الأئمة في غير الاثنى عشرية من الفرق الإسلامية هل يخرجون من النار ويدخلون الجنة أم يخلدون فيها بأجمعهم قال : والأكثرون على الثاني ، وقال شرذمة بالأول ، وقال ابن نوبخت : يخرجون من النار ولا يدخلون الجنة بل هم بالأعراف 0 انتهى 0 وهذا مبني على مذهبهم اعتقادهم أهل الجنة كفاراً أوفساقاً مع إعتقادهم أن الفاسق لا يخرج من النار أبداً ، وهذا يستلزم تكذيب ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من إخراج عصاة الموحدين من النار وما ورد في فضل السواد الأعظم الذين هم أهل السنة ، وقد صح أن الصحابة وأخيار التابعين مذهب أهل السنة مذهبهم وقولهم ، هذا يُشبه قول أهل الكتاب حيث قالوا : ( لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى ) وكذلك هؤلاء يقولون بأفواههم لن يدخل الجنة إلا من كان رافضياً انظر كيف يفترون على الكذب بل أفعالهم تقتضي حرمانهم عنها 0(7/23)
مطلب مخالفتهم أهل السنة
ومنها: أنهم جعلوا مخالفة أهل السنة والجماعة الذين هم على ما ( عليه ) رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصلاً للنجاة ، فصاروا كلما فعل أهل السنة تركوه ، وإن تركوا شيئاً فعلوه فخرجوا بذلك عن الدين رأساً ، فإن الشيطان سوّل لهم وأملى لهم ، وإدّعوا بأن هذه المخالفة علامة أنهم الفرقة الناجية ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " الفرقة الناجية هي السواد الأعظم وما أنا عليه() وأصحابي () " فلينظر إلى الفرق ومعتقداتهم وأعمالهم ، فما وافقت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هي الفرقة الناجية ، وأهل السنة هم المتبعون لآثاره صلى الله عليه وسلم وآثار أصحابه كما لا يخفى على منصف ينظر بعين الحق ، فهم أحق أن يكونوا الفرقة الناجية ، وآثار النجاة الظاهرة فيهم لإستقامتهم على الدين من غير تحريف وظهور مذهبهم وشوكتهم في غالب البلاد ووجود العلماء المحققين والمحدثين والأولياء والصالحين فيهم ، وقد نزع الولاية عن الرافضة فما سمع فيهم ولي قط 0(7/24)
مطلب الرجعة
ومنها : أنه ما قال أضلهم محمد بن بابويه القمي في عقائده في مبحث الإيمان بالرجعة فإنهم عليهم الصلاة قالوا : من لم يؤمن برجعتنا فليس منا واليه ذهب جميع علمائهم 0 قالوا : إن النبي صلى الله عليه وسلم وعلياً رضي الله عنه والأئمة الإثني عشر يحيون في آخر الزمان ويحشرون بعد خروج المهدي وبعد قتله الدجال ويُحيى كل من الخلفاء الثلاثة وقتلة الأئمة ، فيقتل النبي صلى الله عليه وسلم الخلفاء حداً والقتلة قصاصاً ويصلبون الظالمين ، ويبتدئون بصلب أبي بكر وعمر على شجرة فمن قائل قائل يقول : إن تلك تكون رطبة فتجف تلك الشجرة بعد أن صلبا عليها فيضل بذلك خلق كبير من أهل الحق ، ويقولون ظلمناهم، ومن قائل يقول : الشجرة تكون يابسة فتخضر بعد الصلب ويهتدي به جم غفير من محبيهما ، قيل ذكروا في كتبهم أن تلك الشجرة نخلة وأنها تطول حتى يراها أهل المشرق والمغرب وأن الدنيا تبقى بعد ذلك خمسين ألف سنة وقيل مائة وعشرين ألف سنة لكل إمام من الإثني عشر ألف سنة ، وقال بعضهم إلا المهدي فإن له ثمانين ألف سنة ثم يرجع
آدم ثم شيث ثم إدريس ثم نواح ثم بقية الأنبياء إلى أن ينتهي إلى المهدي وأن الدنيا غير فانية وأن الآخرة غير آتية كذا نقل عنه والله أعلم 0
فانظر أيها المؤمن إلى سخافة رأي هؤلاء الأغبياء يختلقون ما يرده بديهة العقل وصراحة النقل ، وقولهم هذا مستلزم تكذيب ما ثبت قطعاً في الآيات والأحاديث من عدم رجوع الموتى إلى الدنيا ، فالمجادلة مع هؤلاء الحمر تضيع الوقت ، لو كان لهم عقل لما تكلوا أي (شيء) يجعلهم مسخرة للصبيان ويمج كلامهم أسماع أهل الإيقان لكن الله سلب عقولهم وخذلهم في الوقيعة ، في خُلّص أوليائه لشقاوة سبقت لهم 0(7/25)
مطلب زيادتهم في الأذان
ومنها : زيادتهم في الآذان والإقامة والتشهد بعد الشهادتين أن علياً ولي الله ، وهذه بدعة مخالفة للدين لم يرد بها كتاب ولا سنة ولم يكن عليها إجماع ولا فيها قياس صحيح ومخالفة لأهل مذهبهم فردها لا يحتاج اليه 0
مطلب الجمع بين الصلاتين
ومنها : تجويزهم الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاءين غير عذر ، وقد روى الترمذي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من جمع بين صلاتين بغير عذر فقد أتى باباً من الكبائر" ، وقد ورد أن من أشراط الساعة تأخير الصلاة عن وقتها ، وما روي عن إبن عباس رضي الله عنه من الجمع بين العصرين والعشاءين فمؤول بتأخير الأولى إلى آخر وقتها وأداء الأخرى في أول وقتها والله أعلم ، قيل إن سبب جمعهم بين الظهرين والمغربين طول الدهر مع إختيار التأخير فيهما هو أنه ينتظرون القائم المختفي في السرداب ليقتدوا به فيؤخرون الظهر إلى العصر إلى قريب غروب الشمس فإذا يئسوا من الإمام واصفرت الشمس وصارت بين قرني شيطان نقروا عند ذلك كنقر الديك فصلوا الصلاتين من غير خشوع ولا طمأنينة فرادى من غير جماعة ورجعوا خائبين خاسرين
نسأل الله العفو والعافية ، وقد صاروا بذلك وبوقوفهم بالجبل على ذلك السرداب وصياحهم بأن يخرج اليهم أضحوكة لأولى الألباب ولقد أحسن القائل شعراً :
ما آن للسرداب أن يلد ... الذي كلمتوه بجهلكم ما آنا
فعلى عقولكم العفاء ... فإنكم ثلثتم العنقاء والغيلانا
مطلب العصمة
ومنها : إشتراطهم كون الإمام معصوماً وإيجابهم على الله عدم إخلاء الزمان من إمام معصوم وحصر الإمام المعصومين في إثني عشر وبطلان هذا وتناقضه وإشتماله على سوء الأدب مع الله أظهر من أن يذكر ، وأبطلوا بهذا القول الباطل الجماعة في الصلاة التي هي من أعلى شعائر الإسلام ، لكنهم ليس لهم نصيب منها فحُرموا هذه الكرامة العلية 0(7/26)
مطلب المتعة
ومنها : إباحتهم نكاح المتعة ، بل يجعلونها خيراً من سبعين نكاحاً دائما ، وقد جوّز شيخهم الغالي علي بن العالي أن يتمتع إثنا عشر نفساً في ليلة واحدة بإمرأة واحدة ، وإذا جاءت بولد منهم أقرعوا ، فمن خرجت قرعته كان الولد له ، قلت هذا مثل أنكحة الجاهلية التي أبطلها الشرع كما في الصحيح وعن علي أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة، رواه البخاري ومسلم وغيرهما 0 وعن سلمة ابن الأكوع رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم أباح نكاح المتعة ثم حرمها ، رواه الشيخان ، وروى مسلم في صحيحه عن سبرة نحو ذلك وعن إبن عمر : " نهانا عنها ـ يعني المتعة ـ رسول الله صلى الله عليه وسلم " رواه الطبراني بإسناد قوي ، وقد نُقل عن إبن عباس رجوعه عنها وروى الطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه : " هدم المتعة النكاح والطلاق والعدة والميراث " وإسناده حسن وعن إبن عباس رضي الله عنه قال : " كانت المتعة في أول الإسلام حتى نزلت هذه الآية ( حرمت عليكم ) وتصديقها من القرآن ( إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ) وما سوى هذا فهو حرام " رواه الطبراني و البيهقي والحاصل : أن المتعة كانت حلالاً ثم نسخت وحرمت تحريماً مؤبداً ، فمن فعلها فقد فتح على نفسه باب الزنا 0
مطلب النكاح بلا ولي وشهود
ومنها : إباحتهم النكاح بلا ولي ولا شهود وهذا هو الزنا بعينه ، فإن الحلّي منهم : " ولا يشترط في نكاح الرشيدة الولي ولا يشترط الشهود في شيء من الأنكحة ولو تآمرا على الكتمان لم يبطل انتهى" 0(7/27)
عن عمران بن حصين أنه صلى الله عليه وسلم قال : " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل " رواه الشافعي والطبراني والدار قطني والبيهقي وهذا وإن كان منقطعاً فإن أهل العلم يقولون به ، وعن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا نكاح إلا بولي " رواه أحمد والترمذي وإبن ماجه والحاكم وقال :وقد صحت الرواية فيه عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وزينب بنت جحش قال : وفي الباب عن علي أنه قال : " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل " وابن عباس وغيرهما وسرد تمام ثلاثين صحابياً وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل " رواه الشافعي وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وأبوعوانة وإبن حبان والحاكم وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تنكح المرأة المرأة ولا نفسها إنما الزانية التي تنكح نفسها " وفي لفظ :" التي تنكح نفسها هي الزانية " رواه ابن ماجة والدار قطني وعن عكرمة بن خالد قال : " جمعت الطريق ركباً فجعلت امرأة منهن ثيب أمرها بيد رجل غير ولي فأنكحها فبلغ ذلك عمر فجلد الناكح والمنكح " رواه الشافعي والدار قطني وروى الدار قطني عن الشعبي قال : " ما كان أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أشد في النكاح من علي بن أبي طالب كان يضرب فيه " رواه الشافعي والدار قطني قد روى ابن خيثمة مرفوعاً : " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل " وعن أبي هريرة مرفوعاً وموقوفاً: " لا نكاح إلا بأربعة خاطب وولي وشاهدين" وعن إبن عباس رضي الله عنه قال : " أدنى ما يكون في النكاح أربعة الذي يتزوج والذي يزوّج وشاهدان " رواه ابن أبي شيبة وصححه البيهقي ورواه الدار قطني وعن عائشة رضي الله عنها نحو ذلك ، وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " البغايا اللاتي ينكحن أنفسهن بغير بينه " وروى(7/28)
مالك عن أبي الزبير أن عمر أتى بنكاح لم يشهد عليه إلا رجل وامرأة قال : " هذا نكاح السر ولا أُجيزه ولو كنت تقدمت فيه لرجمته " وعن عبد الله بن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أعلنوا النكاح " رواه أحمد والحاكم وصححه ، قال بعض السادة : وإذا طرق سمعك ما سردنا عليك من الأحاديث فقد ظهر لك بطلان مذهبهم في تجويزهم النكاح بغير ولي ولا شهود والله أعلم 0
مطلب وطء الجارية بالإباحة
ومنها : تجويزهم وطء الجارية للغير بالإباحة ، قال الحلّي : يجوز إباحة الأمة للغير بشرط كون المبيح مالكاً لوقته جائز التصرف وكون الأمة مباحة بالنسبة إلى من أُبيحت له 0 ويكفي في رد هذا الباطل قوله تعالى ) والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ()( ومعلوم قطعاً أن وطأها ليس بالنكاح ولا بملك اليمين ، وقوله تعالى ) ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء()( 0
مطلب الجمع بين المرأة وعمتها
ومنها : تجويزهم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها وعلى هذا ما ورد عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تنكح المرأة على عمتها ولا العمة على بنت أخيها ولا المرأة على خالتها والخالة على بنت أخيها ولا تنكح الصغرى على الكبرى ولا الكبرى على الكبرى " رواه البزار0(7/29)
وعن إبن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تنكح المرأة على عمتها " بمثل حديث علي ، رواه أحمد وأبو داود والترمذي وإبن حبان وزاد عن إبن عباس " إنكم إذا فعلتم فطعتم أرحامكم " وروى إبن ماجه عن أبي سعيد نحوه 0 وروى إبن حبان عن إبن عمر رضي الله عنه نحوه ، وروى أبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة نحو ذلك ، وروى أحمد والبخاري والترمذي والنسائي عن جابر نحو ذلك ، وكلها مرفوعة ، ونقل إبن عبد البر الإجماع على حرمة ذلك() وبهذا وأمثاله تعرف أن الرافضة أكثر الناس تركاً لما أمر الله وإتياناً لما حرّمه ، وإن كثيراً منهم ناشئ عن نطفة خبيثة موضوعة في رحم حرام ، ولذا لا ترى منهم إلا الخبيث إعتقاداً وعملاً ، وقد قيل : كل شيء يرجع إلى أصله 0
مطلب إباحتهم" أبعدهم الله " إتيان المرأة في دبرها
ومنها : إباحتهم إتيان الزوجة والمملوكة في الدبر وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما يدل على أن المراد من قول : ( نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم ) هو الإتيان في القُبُل ، وإليه يرشد لفظ الحرث ، بل هو نص في ذلك 0 وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم لعن من فعل ذلك في الدبر وإطلاق الكفر عليه ، فهو خليق أن يكون حراماً قطعياً يخاف على مستحله الكفر ، الله الحافظ 0(7/30)
مطلب مسح الرجلين
ومنها : إيجابهم المسح على الرجلين ومنع غسلهما والمسح على الخفين وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال الله فيه : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم ) برواية علي رضي الله عليه غسلهما والأمر به ،وكذا عنه برواية عثمان وإبن عباس وزيد بن عاصم ومعاوية بن مرة والمقداد بن معد يكرب وأنس وعائشة وأبي هريرة وعبد الله بن عمر وعمرو بن عنبسة وغيرهم 0 وقد صح عنه :" ويلٌ للأعقاب من النار" فمجموع ما ورد عنه في غسلهما فعلاً وقولاً يفيد العلم الضروري اليقيني ومن أنكر ذلك فقد أنكر المتواتر ، وحال منكره معلوم أقل مراتبه أن يكون فاسقاً بل تكون صلاته باطلة فيُبعث يوم القيامة مصلياً بلا طهارة شرعية والله أعلم 0
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم برواية نحو خمسين من الصحابة أو ثمانين أو أزيد المسح على الخفين فمنكره مبتدع 0 فلا خير في قوم يتركون المتواتر من فعله صلى الله عليه وسلم الذي يجب إتباعه في جميع أموره ، من إتبعه وصل ومن لم يتبعه ضلّ وإنفصل ، أحيانا الله على سنته وأماتنا على ملته وحشرنا في زمرته 0(7/31)
مطلب الطلاق بالثلاث في لفظ واحد
ومنها : قولهم : إن من طلّق امرأته بالثلاث في لفظٍ واحد لا يقع وهذا مخالف للأحاديث الصحيحة وإجماع أهل الإسلام ، فإنهم أجمعوا على وقوع الطلاق وإنما إختلافهم في عدد الطلاق ، أهي واحدة أم ثلاث ، روى إبن ماجة عن الشعبي قال : قلت لفاطمة بنت قيس : حدثيني عن طلاقك 0 قالت : طلقني زوجي ثلاثاً وهو خارج إلى اليمن فأجاز ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم "0 () وروى البيهقي عن علي رضي الله عنه فيمن طلّق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها قال : لا تحل حتى تنكح زوجاً غيره() 0وروى ابن عدي عنه : " إذا طلق الرجل امرأته ثلاثاً في مجلس واحد فقد بانت منه ولا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره " () وروى البيهقي عن مسلمة بن جعفر الأحمس قال: قلت لجعفر بن محمد أن قوماً يزعمون أن من طلّق ثلاثاً بجهالة رد إلى السنة يجعلونها واحدة يروونها عنكم 0 قال : معاذ الله أن يكون هذا من قولنا ، من طلّق ثلاثاً فهو كما قال () 0
وتعرف بهذا وأضرابه إفتراء الرافضة الكذبة على أهل البيت وأن مذهبهم مذهب أهل السنة والجماعة ، وروي غير واحد من الصحابة ما يوافق هذا 0 وروي عن الحسن رضي الله عنه ما يؤيد ذلك 0 فهؤلاء الإمامية خارجون عن السنة بل الملّة ، واقعون في الزنا وما أكثر ما فتحوا على أنفسهم أبواب الزنا في القُبُل والدبر ، فما أحقهم بأن يكونوا أولاد الزنا ، حمانا الله وإياكم معاشر الإخوان من إتباع خطوات الشيطان 0
مطلب نفي القدر
ومنها : قولهم إن الله لم يقدّر شيئاً في الأزل وأن الله لم يرد شراً ولا يريده ، وقد روى مسلم أن قوله تعالى :" إنا كل شيء خلقناه بقدر " نزلت حين نازل المشركون فيه ، وقد قال بعض السادة : قد رويت في إثبات القدر وما يتعلق به أحاديث رويت عن أكثر من مائة صحابي رضي الله عنهم ، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم : " لكل أمة مجوس ومجوس هذه الأمة الذين لا يقولون لا قدر " 0(7/32)
فإذا علمت ذلك فإعلم أن الله علم الأشياء قبل وجودها إجمالاً وتفصيلاً كلية وجزئية وعلم ما يتعلق به وقدّر في الأزل لكل شيء قدراً فلا يزيد ولا ينقص ولا يتقدم ولا يتأخر ، وأنه لا يوجد شيء إلا
بإرادة الله ومشيئته والله بكل شيء عليم ، وما قدّر الله يكون وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وثبت ذلك ببداهة العقل وتواتر النقل وعلم يقيناً ، فمن أنكر هذا البديهي والمتواتر فإن لم يصر كافراً فلا أقل ( من ) أن يصير فاسقاً .
مطلب مشابهتهم اليهود
ومن قبائحهم تشابههم باليهود ولهم بهم مشابهات منها : أنهم يضاهون اليهود الذين رموا مريم الطاهرة بالفاحشة بقذف زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة المبرأة بالبهتان وسلبوا بسبب ذلك الإيمان ، ويشابهونهم في قولهم إن دينا بنت يعقوب خرجت وهي عذراء فإفترعها مشرك بقولهم إن عمر إغتصب بنت علي رضي الله عنه ، وبلبس التيجان فإنها من ألبسة اليهود، وبقص اللحى أو حلقها أو إعفاء الشوارب ، هذا دين اليهود وإخوانهم من الكفر ، ومنها أن اليهود مسخوا قردة وخنازير ، وقد نقل أنه وقع ذلك لبعض الرافضة في المدينة المنورة وغيرها بل قد قيل إنهم تمسخ صورهم ووجوههم عند الموت والله أعلم 0
مطلب تركهم الجمعة والجماعة
ومنها(ترك) الجمعة والجماعة وكذلك اليهود فإنهم لا يصلون إلا فرادى 0 ومنها : تركهم آمين وراء الإمام في الصلاة فإنهم لا يقولون آمين يزعمون أن الصلاة تبطل به ، ( ومنها : تركهم تحية السلام فيما بينهم وإذا سلموا فعلوا بعكس السنة ) ومنها : خروجهم من الصلاة بالفعل وتركهم السلام في الصلاة فإنهم يخرجون من الصلاة من غير سلام بل يرفعون أيديهم ويضربون بها على ركبهم كأذناب الخيل الشّمّس0(7/33)
ومنها : شدة عدوانهم للمسلمين وأخبر الله عن اليهود : ( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود ) وكذلك هؤلاء أشد الناس عداوة لأهل السنة والجماعة حتى إنهم يعدونهم أنجاساً فقد شابهوا اليهود في ذلك ومن خالطهم لا يُنكر وجود ذلك فيهم 0
ومنها : أنهم يجمعون بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها يشابهون اليهود فإنهم كانوا يجمعون في شرع يعقوب بين الأختين 0
ومنها : قولهم إن من عداهم من الأمة لا يدخلون الجنة بل يُخلدون في النار ، وقد قال اليهود والنصارى : ( لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى )0
ومنها : إتخاذهم الصور الحيوانية كاليهود والنصارى ، وقد ورد الوعيد الشديد في تصوير الصور ذات الأرواح ، في البخاري وغيره أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لعن الله المصورين " وأنه قال :" إن المصوّر يكلف يوم القيامة أن ينفخ الروح فيما صوّره وليس بنافخ ولا تدخل الملائكة بيتاً فيه صورة ذات روح 0
ومنها : تخلفهم عن نصر أئمتهم كما خذلوا علياً وحسيناً وزيداً وغيرهم رضي الله عنهم ، قبحهم الله ما أعظم دعواهم في حب أهل البيت وأجنبهم عن نصرهم ، وقد قال اليهود لموسى : ( إذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون )0
ومنها : أن اليهود مسخوا ، وقد روي : إن كان خسف ومسخ ففي المكذبين بالقدر وهؤلاء مكذبون به ،وقد خسف بقرى كثيرة مرات عديدة من بلاد العجم 0
ومنها : أن اليهود ضربت عليهم الذلة والمسكنة أينما كانوا وكذلك هؤلاء ضربت عليهم الذلة حتى أحيوا التقية من شدة خوفهم وذلهم 0
ومنها : أن اليهود يكتبون الكتاب بأيديهم ويقولون : هذا من عند الله ، وكذلك هؤلاء يكتبون الكذب ويقولون هذا من كلام الله ويفترون الكذب على رسوله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته رضي الله عنهم 0(7/34)
مطلب مشابهتهم النصارى
ومن مشابهتهم النصارى : أنهم عبدوا المسيح كذلك غلاة هؤلاء عبدوا علياً وأهله رضي الله عنهم ، ومنها أن النصارى أطرت عيسى ، كذلك غلاة الرافضة أطروا أهل البيت حتى ساووهم بالأنبياء . ومنها : جماعهم النساء في الأدبار حالة الحيض وكانت النصارى تجامع النساء في المحيض .
ومنها : أن لبس بعضهم يشبه لبس النصارى 0
مشابهتهم المجوس
ومن مشابهتهم المجوس : إنهم قالوا بإلهين : النور والظلمة ، وهؤلاء يقولون : الله خالق الخير والشيطان خالق الشر 0 ومنها : أن المجوس ينكحون المحارم كذلك غلاة الشيعة يفعلون ذلك 0 ومنها : المجوس تناسخيون وكذلك في غلاتهم تناسخيون ، ومن قبائح الرافضة أنهم يتخذون يوم موت الحسين مأتماً فيتركون الزينة ويظهرون الحزن ويجمعون النوائح يبكين ويصورون صورة قبور الحسين رضي الله عنه ويزينونها ويطوفون بها في السكك ويقولن : يا حسين ، ويسرفون في ذلك إسرافاً محرماً وكل ذلك بدعة ، أما ترك الزينة فمن الإحداد الذي حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ورد ذلك في الصحيح ، وأما النياحة فمن أعظم منكرات الجاهلية ويترتب على ما يفعلون من المنكرات والمحرمات كما لا يحصى ، وكل ذلك بدعة ومنكر وفاعله والراضي به والمعين عليه والأجير فيه كلهم مشاركون في البدعة ، فاللازم على كل مؤمن منع هؤلاء المبتدعة من هذه البدعة القبيحة ومن سعى في إبطالها مخلصاً لله تعالى يُرجى له الثواب الجزيل 0(7/35)
قال الشيخ ابن تيمية الحنبلي الحراني رحمه الله : " اعلم وفقني الله وإياك أن ما أصيب به الحسين رضي الله عنه من الشهادة في يوم عاشوراء إنما كان كرامة من الله عز وجل أكرمه بها ومزيد حظوة ورفع درجة عند ربه وإلحاقاً له بدرجات أهل بيته الطاهرين وليهينن من ظلمه واعتدى عليه ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل أي الناس أشد بلاء ، قال : الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل حسب دينه فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه وإن كان في دينه رقة خفّف عنه ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة فالمؤمن إذا حضر عاشوراء وذكر ما أُصيب به الحسين يشتغل بالإسترجاع ليس إلا كما أمره المولى عز وجل عند المصيبة ليحوز الأجر الموعود في قوله : ) أولئك عليهم صلوات من ربهم وأولئك هم المهتدون( ويلاحظ ثمرة البلوى وما أعدّه الله للصابرين حيث قال : ( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ) ويشهد أن ذلك البلاء من المبلي فيغيب برؤية وجدان مرارة البلاء وصعوبته قال تعالى : ( فاصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا ) وقيل لبعض الشطار : متى يهون عليك الضرب والقطع 0 فقال : إذا كنا بعين من نهواه فنعد البلاء رخاء والجفاء وفاء والمحنة منحة ، فالعاقل يستحضر مثل هذا في ذلك الوقت ويستصغر ما يرد عليه من مصائب الدنيا وشدائدها وبلائها ويتسلى ويتعزى بما يصيبه من ذلك
ويشتغل يومه ذلك بما استطاع من الطاعات والأعمال الصالحه لحثه صلى الله عليه وسلم على صوم يوم عاشوراء فبكل ذلك يصرف زمانه في أنواع القربات عسى أن يُكتب من محبي أهل القربى ولا يتخذه للندب والنياحة والحزن كفعل الجهلة ، إذ ليس ذلك من أخلاق أهل البيت النبوي ولا من طريقهم ، ولو كان ذلك من طرائقهم لاتخذت الأمة يوم وفاة نبيهم صلى الله عليه وسلم مأتماً في كل عام ، فما هذا إلا من تزيين الشيطان وإغوائه 0(7/36)
قال الشيخ عقب ذكر ذلك : وهذا كما زين لقوم آخرين معارضة هؤلاء في فعلهم فاتخذوا هذا اليوم عيداً وأخذوا في إظهار الفرح والسرور إما لكونهم من النواصب المتعصبين على الحسين رضي الله عنه وأهل بيته وإما من الجهال المقابلين للفساد بالفساد والشر بالشر والبدعة فأظهروا الزينة كالخضاب ولبس الجديد من الثياب والإكتحال وتوزيع النفقات وطبخ الأطعمة والحبوب الخارجة عن العادات ويفعلون فيه ما يفعل في الأعياد ويزعمون أن ذلك من السنة والمعتاد ، والسنة ترك ذلك كله فإنه لم يرد في ذلك شيء يعتمد عليه ولا أثر صحيح يرجع اليه 0 إلى أن قال : " فصار هؤلاء لجهلهم يتخذون يوم عاشوراء موسماً كموسم الأعياد والأفراح وأولئك يتخذون مأتماً يقيمون فيه الأحزان والأتراح ، وكلا الطائفتين مخطئة خارجة عن السنة متعرضة للحرم والجناح " انتهى 0
وقال ابن القيم : " وأما أحاديث الإكتحال والادهان والتطيب يوم عاشوراء فمن وضع الكذابين وقابلهم الآخرون فاتخذوه يوم تألم وحزن ، والطائفتان مبتدعتان خارجتان عن السنة ، وأما ما يحكى عن الرافضة من تحريم لحوم الحيوانات المأكولة يوم عاشوراء حتى يقرأوا كتاب مصرع الحسين رضي الله عنه فمن الجهالات والأضحوكات لا يفتقر في إبطالها إلى دليل حسبنا الله ونعم الوكيل 0 انتهى كلام الشيخ بنوع إختصار ، وقبائح هذه الرافضة أكثر من تذكر وفضائحهم أشهر من أن تشهر وفي هذا القدر كفاية في معرفة مذهبهم الكاسد وقولهم الفاسد 0(7/37)
مطلب الخاتمة رزقنا الله حسنها
خاتمة : جاء في المطالب العالية عن نوف البكالي أن علياً رضي الله عنه خرج يوماً للمسجد وقد أقبل اليه جندب بن نصير والربيع بن خيثم وإبن أخيه وكان من أصحاب البرانس المتعبدين فأفضى علي وهم معه إلى نفر فأسرعوا اليه قياماً وسلموا عليه التحية ثم قال : من القوم ؟ فقالوا : أناس من شيعتك يا أمير المؤمنين 0 فقال : لهم خيراً ، ثم قال : يا هؤلاء مالي لا أرى فيكم سمة شيعتنا وحلية أحبتنا 0 فأمسك القوم حياء ، فأقبل عليه جندب والربيع فقالا له : ما سمة شيعتكم يا أمير المؤمنين ؟ فسكت ، فقام همام وكان عابداً مجتهداً وقال : أسألك بالذي أكرمكم أهل البيت وخصكم وحباكم لما أنبأتنا بصفة شيعتكم 0 قال : فسأنبئكم جميعاً ووضع يده على منكب همام وقال : شيعتكم العارفون بالله العاملون بأمر الله ، أهل الفضائل ، الناطقون بالصواب ، مأكولهم القوة ، ملبوسهم الإقتصاد ، وشيمهم التواضع لله بطاعته وخضعوا البه بعبادته مضوا غاضين أبصارهم عما حرم الله عليهم موقفين أسماعهم على العلم بدينهم نزلت أنفسهم منهم بالبلاء كالذي نزلت منهم في الرخا رضاً عن الله بالقضاء ، فلولا الآجال التي كتب الله لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى لقاء الله تعالى والثواب وخوفاً من أليم العقاب ، عظم الخالق في أنفسهم وصغر ما دون في أعينهم ، فهم والجنة كمن رآها فيهم على أرائكها متكئون والنار من رآها فهم فيها معذبون ، صبروا أياماً قليلاً فأعقبهم راحة طويلة أرادتهم الدنيا فلم يريدوها وطلبتهم فأعجزوها ، أما الليل فصافون أقدامهم تالون لأجزاء القرآن ترتيلاً يعظون أنفسهم بأمثاله يستشفون لدائهم بدوائه تارة وتارة مفترشون جباههم وأكفهم وركبهم وأطراف أقدامهم تجري دموعهم على خدودهم يمجدون جباراً عظيماً ويجأرون اليه في فكاك رقابهم هذا ليلهم ، وأما نهارهم فحلماء علماء بررة أتقياء براهم خوف باريهم كالقداح تحسبهم مرضى وقد خولطوا وما هم بذلك بل(7/38)
خامرهم من عظمة ربهم وشدة سلطانه ما طاشت له قلوبهم وذهلت عنه عقولهم فإذا أشفقوا من ذلك بادروا إلى الله تعالى بالأعمال الزكية لا يرضون له بالقليل ولا يستكثرون له الجزيل ، فهم لأنفسهم متهمون زمن أعمالهم مشفقون ، ترى لأحدهم قوة في دين وحزماً في لين وإيماناً في يقين وحرصاً على علم وفهماً في فقه وعلماً في حلم وكيساً في قصد ، وقصداً في غناء ، وتجملاً في فاقة وصبراً في شدة وخشوعاً في عبادة ورحمة لمجهود وإطاء في حق ورفقاً في كسب وطلباً في حلال ونشاطاً في هدوء وإعتصاماً في شهوة لا يغره ما(7/39)
أجهله ولا يدع إحصاء ما عمله يستبطىء نفسه في العمل وهومن صالح عمل على وجل يصبح وشغله الذكر ويمسي وهمه الشك ، يبيت حذراً سنة النفل ويصبح فرحاً بما أصاب من الفضل والرحمة ورحمته فيما يبقى وزهادة فيما يفنى وقد قرن العلم بالعمل والحلم بالعلم ، دائماً نشاطه بعيداً كسله قريباً أمله زلله متوقعاً أجله خاشعاً قلبه ذاكراً ربه قانعة نفسه محرزاً دينه كاظماً غيظه آمناً منه جاره سهلاً أمره معدوماً كبره بيناً صبره كثيراً ذكره لا يعمل شيئاً من الخير رياء ولا يتركه حياء أولئك شيعتنا وأحبتنا ومنا ومعنا ألا شوقاً اليهم ، فصاح همام صيحة فوقع مغشياً عليه فحركوه فإذا هو قد فارق الدنيا فغسل وصلى عليه أمير المؤمنين رضي الله عنه ومن معه " () قال الشيخ() : " فهذه صفة شيعة أهل البيت النبوي التي وصفهم بها إمامهم وهي صفة خواص المؤمنين لا من إشتغل بالتعصبات والترهات ، لأن بتلك الصفات تظهر علامة المحبة وهوطاعة المحبوب وإيثار محابه() ومرضاته والتأدب بآدابه وأخلاقه وعن هذا قال علي رضي الله عنه : " لا يجتمع حبّي وبغض أبي بكر وعمر " لأن التحقيق بالمحبة يستوجب التخلق بخلق المحبوب والأخذ بهديه وحب من أحبه ، ومن هدي علي رضي الله عنه حب أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ، منحنا الله وإياكم ذلك ، وجعلنا من الفائزين برسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل وأصحابه أجمعين آمين آمين آمين 0(7/40)
الرسائل الشخصية
للشيخ محمد بن عبدالوهاب
القسم الأول / عقيدة الشيخ وبيان حقيقة دعوته ورد ما ألصق به من التهم
الرسالة الأولى
ص ( 7 )(1)
رسالة الشيخ إلى أهل القصيم لما سألوه عن عقيدته :
بسم الله الرحمن الرحيم
أشهد الله ومن حضرني من الملائكة وأشهدكم أني أعتقد ما اعتقدته الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره، ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، بل أعتقد أن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه ولا أحرف الكلم عن مواضعه، ولا ألحد في أسمائه وآياته، ولا أكيف، ولا أمثل صفاته تعالى بصفات خلقه لأنه تعالى لا سمي له ولا كفؤ له، ولا ندله، ولا يقاس بخلقه فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره وأصدق قيلاً وأحسن حديثاً فنزه نفسه عما وصفه به المخالفون من أهل التكييف والتمثيل : وعما نفاه عنه النافون من أهل التحريف والتعطيل فقال : ( سبحان ربك رب العزة عما يصفون. وسلام على المرسلين. والحمد لله رب العالمين!) والفرقة الناجية وسط في باب أفعاله تعالى بين القدرية والجبرية، وهم في باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية ؛ وهم وسط في باب الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية، وهم وسط في باب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الروافض والخوارج. وأعتقد أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود : وأنه تكلم به حقيقة وأنزله على عبده ورسوله وأمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ وأومن بأن الله فعال لما يريد، ولا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته،
__________
(1) رقم الصفحة من القسم الخامس من مؤلفات الشيخ محمد بن عبدالوهاب من مطبوعات جامعة الإمام محمد بن سعود(8/1)
وليس شيء في العالم يخرج عن تقديره ولا يصدر إلا عن تدبيره ولا محيد لأحد عن القدر المحدود ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور.
وأعتقد الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، فأومن بفتنة القبر ونعيمة، وبإعادة الأرواح إلى الأجساد، فيقوم الناس لرب العالمين حفاة عراة غرلا تدنو منهم الشمس، وتنصب الموازين وتوزن بها أعمال العباد فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون وتنشر الدواوين فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله.
وأومن بحوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بعرصة القيامة، ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل آنيته عدد نجوم السماء من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً، وأومن بأن الصراط منصوب على شفير جهنم يمر به الناس على قدر أعمالهم.. وأومن بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أول شافع وأول مشفع، ولا ينكر شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم إلا أهل البدع والضلال، ولكنها لا تكون إلا من بعد الإذن والرضى كما قال تعال :(ولا يشفعون إلا لمن ارتضى )، وقال تعالى : (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)، وقال تعالى : (وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى) وهو لا يرضى إلا التوحيد ؛ ولا يأذن إلا لأهله. وأما المشركون فليس لهم من الشفاعة نصيب ؛ كما قال تعالى : (فما تنفعهم شفاعة الشافعين ).
وأومن بأن الجنة والنار مخلوقتان، وأنهما اليوم موجودتان، وأنهما لا يفنيان ؛ وأن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة كما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته.(8/2)
وأومن بأن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين والمرسلين، ولا يصح إيمان عبد حتى يؤمن برسالته ويشهد بنبوته ؛ وأن أفضل أمته أبو بكر الصديق ؛ ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي المرتضي، ثم بقية العشرة، ثم أهل بدر، ثم أهل الشجرة أهل بيعة الرضوان، ثم سائر الصحابة رضي الله عنهم. وأتولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذكر محاسنهم وأترضى عنهم وأستغفر لهم وأكف عن مساويهم وأسكت عما شجر بينهم، وأعتقد فضلهم عملا بقوله تعالى : (والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤف رحيم ) وأترض عن أمهات المؤمنين المطهرات من كل سوء وأقر بكرامات الأولياء ومالهم من المكاشفات إلا أنهم لا يستحقون من حق الله تعالى شيئاً ولا يطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، ولا أشهد لأحد من المسلمين بجنة ولا نار إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني أرجو للمحسن وأخاف على المسيء، ولا أكفر أحداً من المسلمين بذنب، ولا أخرجه من دائرة الإسلام، وأرى الجهاد ماضيا مع كل إمام براً كان أو فاجراً وصلاة الجماعة خلفهم جائزة، والجهاد ماض منذ بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى أن يقاتل آخر هذه الأمة الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، وأرى وجوب السمع والطاعة لأئمة المسلمين برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله، ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به وغلبهم بسيفه حتى صار خليفة وجبت طاعته ؛ وحرم الخروج عليه، وأرى هجر أهل البدع ومباينتهم حتى يتوبوا، وأحكم عليهم بالظاهر وأكل سرائرهم إلى الله، وأعتقد أن كل محدثة في الدين بدعة.(8/3)
وأعتقد أن الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية هو بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن طريق، وأرى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما توجبه الشريعة المحمدية الطاهرة.
فهذه عقيدة وجيزة حررنها وأنا مشتغل البال لتطلعوا على ما عندي والله على ما نقول وكيل.
ثم لا يخفى عليكم أنه بلغني أن رسالة سليمان بن سحيم قد وصلت إليكم وأنه قبلها وصدقها بعض المنتمين للعلم في جهتكم والله يعلم أن الرجل افترى علي أموراً لم أقلها ولم يأت أكثرها على بالي. ( فمنها ) قوله : إني مبطل كتب المذاهب الأربعة، وإني أقول إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء وإني أدعي الاجتهاد، وإني خارج عن التقليد وإني أقول إن اختلاف العلماء نقمة، وإني أكفر من توسل بالصالحين، وإني أكفر البوصيري لقوله يا أكرم الخلق، وإني أقول لو أقدر على هدم قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهدمتها، ولو أقدر على الكعبة لأخدت ميزابها وجعلت لها ميزاباً من خشب وإني أحرم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وإني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهما، وإني أكفر من حلف بغير الله، وإني أكفر ابن الفارض وابن عربي، وإني أحرق دلائل الخيرات وروض الرياحين وأسمية روض الشياطين. جوابي عن هذه المسائل أن أقول سبحانك هذا بهتان عظيم. وقبله من بهت محمداً صلى الله عليه وسلم أنه يسب عيسى بن مريم ويسب الصالحين فتشابهت قلوبهم بافتراء الكذب وقول الزور. قال تعالى : (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله) بهتوه صلى الله عليه وسلم بأنه يقول إن الملائكة وعيسى وعزيراً قي النار. فأنزل الله في ذلك : ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون ).(8/4)
وأما المسائل الأخر وهي أنى أقول لا يتم إسلام الإنسان حتى يعرف معنى لا إله إلا الله وأني أعرف من يأتيني بمعناها وأني أكفر الناذر إذا أراد بنذره التقرب لغير الله وأخذ النذر لأجل ذلك، وأن الذبح لغير الله كفر والذبيحة حرام. فهذه المسائل حق وأنا قائل بها. ولي عليها من كلام الله وكلام رسوله، ومن أقوال العلماء المتبعين كالأئمة الأربعة وإذا سهل الله تعالى بسطت الجواب عليها في رسالة مستقلة إن شاء الله تعالى.
ثم اعلموا وتدبروا قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة )
الرسالة الثانية
ص ( 15 )
ومنها رسالة إلى محمد بن عباد مطوع ثرمداء وكان قد أرسل إليه كتاباً فيه كلام حسن في تقرير التوحيد وغيره وطلب من الشيخ رحمه الله أن يبين له إن كان فيه شيء يخفاه فكتب له رحمه الله :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى الأخ محمد بن عباد وفقه الله لما يحبه ويرضاه سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
وصلنا أوراق في التوحيد بها كلام من أحسن الكلام وفقك الله للصواب، وتذكر فيه أن ودك نبين لك إن كان فيها شيء غاترك فاعلم أرشدك الله أن فيها مسائل غلط.
الأولى : قولك أول واجب على كل ذكر وأنثى النظر قي الوجود ثم معرفة العقيدة ثم علم التوحيد، وهذا خطأ وهو من علم الكلام الذي أجمع السلف على ذمه، وإنما الذي أتت به الرسل أول واجب هو التوحيد ليس النظر في الوجود ولا معرفة العقيدة كما ذكرته أنت في الأوراق أن كل نبي يقول لقومه : اعبدوا الله ما لكم من إله غيره.
الثانية : قولك في الإيمان بالله وملائكته إلى آخره والإيمان هو التصديق الجازم بما أتى به الرسول فليس كذلك، وأبو طالب عمه جازم بصدقه والذين يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، والذين يقولون الإيمان هو التصديق الجازم هم الجهمية، وقد اشتد نكير السلف عليهم في هذه المسألة.(8/5)
الثالثة : قولك إذا قيل للعامي ونحوه ما الدليل على أن الله ربك، ثم ذكرت ما الدليل على اختصاص العبادة بالله، وذكرت الدليل على توحيد الألوهية.
فاعلم أن الربوبية والألوهية يجتمعان ويفترقان كما في قوله : ( قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس ) وكما يقال رب العالمين وإله المرسلين وعند الإفراد يجتمعان كما في قول القائل من ربك، مثاله الفقير والمسكين نوعان في قوله : ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) ونوع واحد في قوله : (افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم ) إذا ثبت هذا فقول الملكين للرجل في القبر : من ربك ؟ معناه من إلهك لأن الربوبيية التي أقر بها المشركون ما يمتحن أحد بها، وكذلك قوله : (الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله) وقوله: (قل أغير الله أبغي ربا) وقوله : (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) فالربوبية في هذا هي الألوهية ليست قسيمة لها كما تكون قسيمة لها عند الاقتران فينبغي التقطن لهذه المسألة.
الرابعة : قولك في الدليل على إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ودليله الكتاب والسنة ثم ذكرت الآيات، كلام من لم يفهم المسألة لأن المنكر للنبوة أو الشاك فيها إذا استدللت عليه بالكتاب والسنة يقول كيف تستدل علي بشيء ما أتى به إلا هو، والصواب في المسألة أن تستدل عليه بالتحدي بأقصر سورة من القرآن أو شهادة علماء أهل الكتاب كما في قوله : ( أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ) أو لكونهم يعرفونه قبل أن يخرج كما في قوله تعالى : (وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ) الآية إلى غير ذلك من الآيات التي تفيد الحصر وتقطع الخصم.(8/6)
الخامسة : قولك اعلم يا أخي لا علمت مكروها فأعلم أن هذه كلمة تضاد التوحيد وذلك أن التوحيد لا يعرفه إلا من عرف الجاهلية والجاهلية هي المكروه فمن لم يعلم المكروه لم يعلم الحق فمعنى هذه الكلمة أعلم لا علمت خيراً، ومن لم يعلم المكروه ليجتنبه لم يعلم المحبوب.
وبالجملة فهي كلمة عامية جاهلية، ولا ينبغي لأهل العلم أن يقتدوا بالجهال.
السادسة : جزمك بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (اطلبوا العلم ولو من الصين ) فلا ينبغي أن يجزم الإنسان على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يعلم صحته، وهو من القول بلا علم، فلو أنك قلت وروى، أو ذكر فلان، أو ذكر في الكتاب الفلاني لكان هذا مناسباً، وأما الجزم بالأحاديث التي لم تصح فلا يجوز فتفطن لهذه المسألة فما أكثر من يقع فيها.
السابعة : قولك في سؤال الملكين : والكعبة قبلتي وكذا وكذا، فالذي علمناه عن رسول الله عليه وسلم أنهما يسألان عن ثلاث. عن التوحيد، وعن الدين، وعن محمد صلى الله عليه وسلم. فإن كان في هذا عندكم رابعة فأفيدونا، ولا يجوز الزيادة على ما قال الله ورسوله.
الثامنة : قولك في الإيمان بالقدر إنه الإيمان بأن لا يكون صغير ولا كبير إلا بمشية الله وإرادته، وأن يفعل المأمورات ويترك المنهيات وهذا غلط لأن الله سبحانه له الخلق والأمر والمشيئة والإرادة وله الشرع والدين. إذا ثبت هذا ففعل المأمورات وترك المنهيات هو الإيمان بالأمر وهو الإيمان بالشرع والدين، ولا يذكر في حد الإيمان بالقدر.
التاسعة : قولك الآيات التي قي الاحتجاج بالقدر كقوله تعالى ( وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء ) الآية ثم قلت : فإياك والاقتداء بالمشركين في الاحتجاج على الله وحسبك من القدر الإيمان به. فالذي ذكرنا في تفسير هذه الآيات غير المعنى الذي أردت فراجعه وتأمله بقلبك فإن اتضح لك وإلا فراجعني فيه لأنه كلام طويل.(8/7)
العاشرة : وأخرناها لشدة الحاجة إليها قولك : إن المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقروا بتوحيد الربوبية، ثم أوردت الأدلة الواضحة على ذلك، وإنما قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند توحيد الألوهية، ولم يدخل الرجل في الإسلام بتوحيد الربوبية إلا إذا انضم إليه توحيد الألوهية فهذا كلام من أحسن الكلام وأبينه تفصيلا، ولكن العام لما وجهنا إليه إبراهيم كتبوا له علماء سدير مكاتبة وبعثها لنا وهى عندنا الآن ولم يذكروا فيها إلا توحيد الربوبية، فإذا كنت تعرف هذا فلأي شيء ما أخبرت إبراهيم ونصحته. إن هؤلاء ما عرفوا التوحيد، وإنهم منكرون دين الإسلام، وكذلك أحمد بن يحيى راعي رغبه عداوته لتوحيد الألوهية والاستهزاء بأهل العارض لما عرفوه، وإن كان يقربه أحياناً عداوة ظاهرة لا يمكن أنها لا تبلغك، وكذلك ابن إسماعيل إنه نقض ما أبرمت في التوحيد وتعرف أن عنده الكتاب الذي صنفه رجل من أهل البصرة كله من أوله إلى آخره في إنكار توحيد الألوهية وأتاكم به ولد محمد بن سليمان راعي وثيثيه وقرأه عندكم وجادل به جماعتنا، وهذا الكتاب مشهور عند المويس وأتباعه مثل ابن سحيم وابن عبيد يحتجون به علينا ويدعون الناس إليه، ويقولون هذا كلام العلماء. فإذا كنت تعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قاتل الناس إلا عند توحيد الألوهية، وتعلم أن هؤلاء قاموا وقعدوا ودخلوا وخرجوا وجاهدوا ليلا ونهاراً في صد الناس عن التوحيد يقرءون عليهم مصنفات أهل الشرك لأي شيء لم تظهر عداوتهم وأنهم كفار مرتدون ؟ فإن كان باين لك أن أحداً من العلماء لا يكفر من أنكر التوحيد أو أنه يشك في كفره فاذكره لنا وأفدنا، وإن كنت تزعم أن هؤلاء فرحوا بهذا الدين وأحبوه ودعوا الناس إليه، ولما أتاهم تصنيف أهل البصرة في إنكار التوحيد كفروه وكفروا من عمل به، وكذلك لما أتاهم كتاب ابن عفالق الذي أرسله المويس لابن إسماعيل وقدم به عليكم العام وقرأه على(8/8)
جماعتكم يزعم فيه أن التوحيد دين ابن تيمية وأنه لما أفتى به كفره العلماء وقامت عليه القيامة.
إن كنت تقول ما جرى من هذا شيء فهذا مكابرة، وإن كنت تعرف أن هذا هو الكفر الصراح والردة الواضحة، ولكن تقول أخشى الناس فالله أحق أن تخشاه. ولا تظن أن كلامي هذا معاتبة وكلام عليك، فوالله الذي لا إله إلا هو إنه نصيحة لأن كثيراً ممن واجهناه وقرأ علينا يتعلم هذا ويعرفه بلسانه.
فإذا وقعت المسألة لم يعرفها بل إذا قال له بعض المشركين نحن نعرف أن رسول الله لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً وأن النافع الضار هو الله يقول جزاك الله خيراً. ويظن أن هذا هو التوحيد ونحن نعلمه أكثر من سنة أن هذا هو توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون. فالله الله في التفطن لهذه المسألة فإنها الفارقة بين الكفر والإسلام، ولو أن رجلا قال : شروط الصلاة تسعة ثم سردها كلها فإذا رأى رجلا يصلي عرياناً بلا حاجة أو على غير وضوء أو لغير القبلة لم يدر أن صلاته فاسدة لم يكن قد عرف الشروط ولو سردها بلسانه، ولو قال الأركان أربعة عشر ثم سردها كلها ثم رأى من لا يقرأ الفاتحة ومن لا يركع ومن لا يجلس للتشهد ولم يفطن أن صلاته باطلة لم يكن قد عرف الأركان ولو سردها فالله الله في التفطن لهذه المسألة، ولكن أشير عليك بعزيمة أنك تواصلنا ونتذاكر معك، وكذلك أيضاً من جهة البدع قيل لي إنك تقول فيها شيء ما يقوله الذي هو عارف مسألة البدع، وصلى الله على محمد وآله وسلم.
الرسالة الثالثة
ص (23 )
ومنها رسالة أرسلها إلى بن عيد من مطاوعة ثرمدا قال فيها :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى محمد بن عيد وفقنا الله وإياه. لما يحبه ويرضاه وبعد :(8/9)
وصل الكراس وتذكرون أن الحق إن بان لكم اتبعتم، وفيه كلام غير هذا يسر الخاطر من طرفك خاصة بسبب أن لك عقلا. والثانية أن لك عرضاً تشح به.والثالثة : أن الظن فيك إن بان لك الحق أنك ما تبيعه بالزهايد، فأما تقريركم أول الكلام أن الإسلام خمس كأعضاء الوضوء وأنكم تعرفون كلام الله وكلام رسوله وإجماع العلماء أن له نواقض كنواقض الوضوء الثمانية : اعتقاد القلب وإن لم يعمل أو يتكلم يعني إذا اعتقد خلاف ما عمله الرسول أمته بعد ما تبين له، ومنها كلام باللسان وإن لم يعمل ولم يعتقد، ومنها عمل بالجوارح وإن لم يعتقد ويتكلم ولكن من أظهر الإسلام وظننا أنه أتى بناقض لا نكفره بالظن لأن اليقين لا يعرفه الظن، وكذلك لا نكفر من لا نعرف منه الكفر بسبب ناقض ذكر عنه ونحن لم نتحققه وما قررتم هو الصواب الذي يجب على كل مسلم اعتقاده والتزامه، ولكن قبل الكلام اعلم أني عرفت بأربع مسائل :
الأولى : بيان التوحيد مع أنه لم يطرق آذان أكثر الناس.
الثانية : بيان الشرك ولو كان في كلام من ينتسب إلى العلم أو عبادة من دعوة غير الله، أو قصده بشيء من العبادة، ولو زعم أنهم يريدون أنهم شفعاء عند الله مع أن أكثر الناس يظن أن هذا من أفضل القربات كما ذكرتم عن العلماء أنهم يذكرون أنه قد وقع في زمانهم.
الثالثة : تكفير من بان له أن التوحيد هو دين الله ورسوله ثم أبغضه ونفر الناس عنه. وجاهد من صدق الرسول فيه ومن عرف الشرك وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بإنكاره وأقر بذلك ليلا ونهاراً ثم مدحه وحسنه للناس وزعم أن أهله لا يخطئون لأنهم السواد الأعظم، وأما ما ذكر الأعداء عني أني أكفر بالظن وبالموالاة أو أكفر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة فهذا بهتان عظيم يريدون به تنفير الناس عن الله ورسوله.(8/10)
الرابعة : الأمر بقتال هؤلاء خاصة حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله الله فلما اشتهر عني هؤلاء الأربع صدقني من يدعي أنه من العلماء في جميع البلدان في التوحيد وفي نفي الشرك وردوا على التكفير والقتال. إذا تحققت ما ذكرت لك انبنى الجواب على ما ذكرتم في أول الأوراق من إقراركم بمعرفة نواقض الإسلام بإجماع العلماء بشرط أنكم لا تكفرون بالظن ولا من لا تعرفون فنقول: من المعلوم عند الخاص والعام ما عليه البوادي أو أكثرهم فإن كابر معاند لم يقدر على إن عنزة وآل ظفير وأمثالهم كلهم مشاهير هم والأتباع إنهم مقرون بالبعث ولا يشكون فيه، ولا يقدر أن يقول إنهم يقولون إن كتاب الله عند الحضر وأنهم عانقوه ومتبعون ما أحدث آباؤهم مما يسمونه الحق ويفضلونه على شريعة الله فإن كان للوضوء ثمانية نواقض ففيهم من نواقض الإسلام أكثر من المائة ناقض فلما بينت ما صرحت به آيات التنزيل وعلمه الرسول أمته، وأجمع عليه العلماء من أنكر البعث أو شك فيه، أو سب الأذان إذا سمعه، أو فضل فراضة الطاغوت على حكم الله، أو سب من زعم أن المرأة ترث أو أن الإنسان لا يؤخذ في القتل بجريرة أبيه وابنه إنه كافر مرتد قال علماؤكم معلوم أن هذا حال البوادي لا ننكره ولكن يقولون : لا إله إلا الله وهي تحميهم من الكفر ولو فعلوا كل ذلك، ومعلوم أن هؤلاء أولى وأظهر من يدخل في تقريركم فلما أظهرت تصديق الرسول فيما جاء به سبوني غاية المسبة، وزعموا أني أكفر أهل الإسلام وأستحل أموالهم، وصرحوا أنه لا يوجد في جزيرتنا رجل واحد كافر، وأن البوادي يفعلون من النواقص مع علمهم أن دين الرسول عند الحضر، وجحدوا كفرهم وأنتم تذكرون أن من رد شياً مما جاء به الرسول بعد معرفته أنه كافر.(8/11)
فإذا كان المويس وابن إسماعيل والعديلى وابن عباد وجميع أتباعهم كلهم على هذا فقد صرحتم غاية التصريح أنهم كفار مرتدون، وإن ادعى مدع أنهم يكفرونهم أو ادعى أن جميع البادية لم يتحقق من أحد منهم من النواقض شيئاً أو ادعى أنهم لا يعرفون أن دين الرسول خلاف ما هم عليه فهذا كمن ادعى أن ابن سليمان وسويد وابن دواس وأمثالهم عباد زهاد فقراء ما شاخوا في بلد قط ومن ادعى هذا فأسقط الكلام معه.
ونقول ثانياً : إذا كانوا أكثر من عشرين سنة يقرون ليلا ونهاراً سراً وجهاراً أن التوحيد الذي أظهر هذا الرجل هو دين الله ورسوله لكن الناس لا يطيعوننا، وأن الذي أنكره هو الشرك وهو صادق في إنكاره، ولكن لو يسلم من التكفير والقتال كان حق. هذا كلامهم على رؤوس الأشهاد ثم مع هذا يعادون التوحيد ومن مال إليه العداوة التي تعرف ولو لم يكفر ويقاتل، وينصرون الشرك نصره الذي تعرف مع إقرارهم بأنه شرك مثل كون المويس وخواص أصحابه ركبوا وتركوا أهليهم وأموالهم إلى أهل قبة الكواز وقبة رجب سنة يقولون إنه قد خرج من ينكر قبتكم وما أنتم عليه، وقد أحل دماءهم وأموالهم وكذلك ابن إسماعيل وابن ربيعة والمويس أيضاً بعدهم بسنة رحلوا إلى أهل قبة أبي طالب وأغروهم بمن صدق النبي صلى الله وسلم وأحلوا دماءنا وأموالنا حتى جرى على الناس ما تعرف مع أن كثيراً منهم لم يكفر ولم يقاتل وقررتم أن من خالف الرسول في عشر معشار هذا ولو بكلمة أو عقيدة قلب أو فعل فهو كافر فكيف بمن جاهد بنفسه وماله وأهله ومن أطاعه في عداوة التوحيد وتقرير الشرك مع إقراره بمعرفة ما جاء به الرسول فإن لم تكفروا هؤلاء ومن اتبعهم ممن عرف أن التوحيد حق وأن ضده الشرك فأنتم كمن أفتى بانتقاض وضوء من بزغ منه مثل رأس الإبرة من البول وزعم أن من يتغوط ليلا ونهاراً وأفتى للناس أن ذلك لا ينقض وتبعوه على ذلك حتى يموت أنه لا ينقض وضوءه، وتذكرون أني أكفرهم بالموالاة وحاشا وكلا، ولكن أقطع أن كفر(8/12)
من عبد قبة أبي طالب لا يبلغ عشر كفر المويس وأمثاله كما قال تعالى : (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ) الآيتين، وأنا أمثل لك مثالا لعل الله أن ينفعك به لعلمي أن الفتنة كبيرة وأنهم يحتجون بما تعرفون : منها في الأوراق أنهم لم يقصدوا بحربكم رد التوحيد وإحياء الشرك وإنما قصدوا دفع الشر عن أنفسهم خوف البغي عليهم. فتقول لو نقدر أن السلطان ظلم أهل المغرب ظلماً عظيماً في أموالهم وبلادهم ومع هذا خافوا استيلاءهم على بلادهم ظلماً وعدواناً ورأوا أنهم لا يدفعونهم إلا باستنجاد الفرنج وعلموا أن الفرنج لا يوافقونهم إلا أن يقولوا نحن معكم على دينكم ودنياكم ودينكم هو الحق ودين السلطان هو الباطل وتظاهروا بذلك ليلا ونهاراً مع أنهم لم يدخلوا في دين الفرنج ولم يتركوا الإسلام بالفعل، لكن لما تظاهروا بما ذكرنا ومرادهم دفع الظلم عنهم هل يشك أحد أنهم مرتدون في أكبر ما يكون من الكفر والردة إذا صرحوا أن دين السلطان هو الباطل مع علمهم أنه حق وصرحوا أن دين الفرنج هو الصواب، وأنه لا يتصور أنهم لا يتيهون لأنهم أكثر من المسلمين ولأن الله أعطاهم من الدنيا شيئاً كثيراً ولأنهم أهل الزهد والرهبانية فتأمل هذا تأملا جيداً وتأمل ما صدرتم به الأوراق من موافقتكم به الإسلام ومعرفتكم بالناقض إذا تحققتموه وأنه يكون بكلمة ولو لم تعتقد ويكون بفعل ولو لم يتكلم ويكون في القلب من الحب والبغض ولو لم يتكلم ولم يعمل تبين لك الأمر اللهم إلا إن كنتم ذاكرين في أول الأوراق وأنتم تعقدون خلافه فذلك أمر آخر.
وأما ما ذكرتم من كلام العلماء فعلى الرأس والعين، ولكن عنه جوابان :(8/13)
أحدهما : أنكم لو لم تنقلوا كلام ابن عقيل ( في الفنون ) وكلام الشيخ في ( اقتضاء الصراط المستقيم ) وكلام ابن القيم لقلت لعلهم مخطئون قائلون بمبلغ علمهم هذا كله عندنا في هذه الكتب كما هو عندكم وابن عقيل ذكر أنهم كفار بهذا الفعل أعني دعوة صاحب التربة ودس الرقاع وأنتم تعلمون ذلك، وأصرح منه كلام الشيخ في قوله ومن ذلك ما يفعله الجاهلون بمكة يا سبحان الله كيف تركتم صريحه في العبارة بعينها إن هذا من فعله كان مرتداً، و إن المسلم إذا ذبح للزهرة والجن ولغير الله فهو مما أهل لغير الله به وهي أيضاً ذبيحة مرتد لكن يجتمع في الذبيحة مانعان فصرح أن هذا الرجل إذا ذبح للجن مرة واحدة صار كافراً مرتداً وجميع ما يذبحه للأكل بعد ذلك لا يحل لأنه ذبيحة مرتد، وصرح في مواضع من الكتاب كثيرة بكفر من فعل شيئاً من الذبح والدعوة حتى ذكر ثابت بن قرة وأبا معشر البلخي وذكر أنهم كفار مرتدون وأمثالهم مع كونهم من أهل التصانيف، وأصرح من الجميع كلام ابن القيم في كثير من كتبه فلما نقلتم بعض العبارة وتركتم بعضها علمت أنه ليس بجهالة، ولكن الشرهة عليك لو أنك فاعل كما فعل بعض أهل الحسا لما صنف بعضهم كتاباً في الرد علينا يريد أن يبعثه تكلم رجل منهم وقال أحب ما إلى ابن عبد الوهاب وصول هذا إليه أنتم ما تستحيون فتركوا الرسالة.(8/14)
الجواب الثاني : أنه على سبيل التنزل أن الشرك لا يكفر من فعله أو أنه شرك أصغر أو أنه معصية غير الكفر مع أن جميع ما ذكرتم لا يدل على ذلك فإن أردت بينت لك في غير هذه المرة معاني هذه العبارات من الأدلة من كلام كل رجل كما بينته لك من كلام الشيخ. لكن أنتم مسلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنكره ونهى عنه، فلو أن رجلا أقر بذلك مع كونه لم يفعله لكنه زينه للناس ورغبهم فيه أليس هذا كافراً مرتداً ولو قدرنا أن الأمر الذي كرهه وصد الناس عنه ما أمر به الرسول إلا أمر استحباب كركعتي الفجر، أو أن الذي نهى عنه ما نهى عنه إلا نهي تنزيه كأكل بالشمال والنوم للجنب من غير وضوء ولو أن رجلاً عرف نهي الرسوم وزعم لأجل غرض من الأغراض أن الأكل بالشمال هو الأحب المرضى عند الله وأن الأكل باليمين يضر عند الله وأن الوضوء للجنب إذا أراد النوم يضر عند الله وأن النوم من غير وضوء أحب إلى الله مع علمه بما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، أليس هذا كلام كافر مرتد فكيف بمن سب دين الله الذي بعث به جميع الأنبياء مع إقراره ومعرفته به، ومدح دين المشركين الذي بعث الله الأنبياء بإنكاره ودعا الناس إليه مع معرفته، ولكن أرى لك أن تقوم في السحر وتدعو بقلب حاضر بالأدعية المأثورة وتطرح نفسك بين يدي الله أن يهديك لدينه ودين نبيه عليه السلام وصلى الله على محمد وآله وسلم.
الرسالة الرابعة
ص ( 31)
ومنها رسالة أرسلها إلى فاضل آل مزيد رئيس بادية الشام قال فيها :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى الشيخ فاضل آل مزيد زاده الله من الإيمان وأعاذه من نزغات الشيطان. أما بعد :(8/15)
فالسبب في المكاتبة أن راشد بن عربان ذكر لنا عنك كلاماً حسناً سر الخاطر، وذكر عنك أنك طالب مني المكاتبة بسبب ما يجيك عنا من كلام العدوان من الكذب والبهتان وهذا هو الواجب من مثلك أنه لا يقبل كلاماً إلا إذا تحققه، وأنا أذكر لك أمرين قبل أن أذكر لك صفة الدين.
الأمر الأول : أني أذكر لمن خالفني أن الواجب على الناس اتباع ما وصى به النبي صلى اله عليه وسلم أمته، وأقول لهم الكتب عندكم انظروا فيها ولا تأخذوا من كلامي شيئاً لكن إذا عرفتم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في كتبكم فاتبعوه ولو خالفه أكثر الناس.
والأمر الثاني : أن هذا الذي أنكروا علي وأبغضوني من أجله إذا سألوا عنه كل عالم في الشام واليمن أو غيرهم يقول هذا هو الحق وهو دين الله ورسوله ولكن ما أقدر أن أظهره في مكاني لأجل أن الدولة ما يرضون وابن عبد الوهاب أظهره لأن الحاكم في بلده ما أنكره، بل لما عرف الحق اتبعه هذا كلام العلماء وأظن أنه وصلك كلامهم فأنت تفكر في الأمر الأول وهو قولي لا تطيعوني ولا تطيعوا إلا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في كتبكم وتفكر في الأمر الثاني أن كل عاقل به لكن ما يقدر أن يظهره.(8/16)
فقدم لنفسك ما ينجيك عند الله. واعلم أنه لا ينجيك إلا اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والدنيا زائلة والجنة والنار ما ينبغي للعاقل أن ينساهما. وصورة الأمر الصحيح أني أقول ما يدعى إلا الله وحده لا شريك له كما قال تعالى في كتابه : ( فلا تدعوا مع الله أحداً ) وقال في حق النبي صلى الله عليه وسلم : ( قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً ) فهذا كلام الله والذي ذكره لنا رسول الله ووصانا به، ونهى الناس أن لا يدعوه فلما ذكرت لهم أن هذه المقامات التي في الشام والحرمين وغيرهم أنها على خلاف أمر الله ورسوله، وأن دعوة الصالحين والتعلق بهم هو الشرك بالله الذي قال الله فيه : (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ) فلما أظهرت هذا أنكروه وكبر عليهم، وقالوا أجعلتنا مشركين وهذا ليس إشراكاً. هذا كلامهم وهذا كلامي أسنده عن الله ورسوله، وهذا هو الذي بيني وبينكم فإن ذكر عني شيء غير هذا فهو كذب وبهتان، والذي يصدق كلامي هذا أن العالم ما يقدر أن يظهره حتى من علماء الشام من يقول هذا هو الحق ولكن لا يظهره إلا من يحارب الدولة، وأنت ولله الحمد ما تخاف إلا الله نسأل الله أن يهدينا وإياكم إلى دين الله ورسوله والله أعلم ).
الرسالة الخامسة
ص (35 )
ومنها رسالة أرسلها إلى السويدي عالم من أهل العراق وكان قد أرسل له كتاباً وسأله عما يقول الناس فيه فأجابه بهذه الرسالة وهي :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الرحمن بن عبد الله سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد :(8/17)
فقد وصل كتابك وسر الخاطر جعلك الله من أئمة المتقين ومن الدعاة إلى دين سيد المرسلين وأخبرك أني ولله الحمد متبع ولست بمبتدع عقيدتي وديني الذي أدين الله به مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم القيامة لكني بينت للناس إخلاص الدين لله، ونهيتهم عن دعوة الأحياء والأموات من الصالحين، وغيرهم، وعن إشراكهم فيما يعبد الله به من الذبح والنذر والتوكل والسجود وغير ذلك مما هو حق الله الذي لا يشركه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهو الذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة، وبينت لهم أن أول من أدخل الشرك في هذه الأمة هم الرافضة الملعونة الذين يدعون علياً وغيره ويطلبون منهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات، وأنا صاحب منصب في قريتي مسموع الكلمة فأنكر هذا بعض الرؤساء لأنه خالف عادة نشأوا عليها وأيضاً ألزمت من تحت يدي بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وغير ذلك من فرائض الله، ونهيتم عن الربا وشرب المسكر، وأنواع من المنكرات فلم يمكن الرؤساء القدح في هذا وعيبه لكونه مستحسناً عند العوام فجعلوا قدحهم وعداوتهم فيما آمر به من التوحيد وأنهى عنه من الشرك، ولبسوا على العوام أن هذا خلاف ما عليه أكثر الناس وكبرت الفتنة جداً، وأجلبوا علينا بخيل الشيطان ورجله، منها إشاعة البهتان بما يستحي العاقل أن يحكيه فضلا عن أن يفتريه، ومنها ما ذكرتم أني أكفر جميع الناس إلا من اتبعني، وأزعم أن أنكحتهم غير صحيحة. ويا عجباً كيف يدخل هذا في عقل عاقل هل يقول هذا مسلم أو كافر أو عارف أو مجنون، وكذلك قولهم إنه يقول لو أقدر أهدم قبة النبي صلى الله عليه وسلم لهدمتها.(8/18)
وأما ( دلائل الخيرات ) فله سبب وذلك أني أشرت على من قبل نصيحتي من إخواني أن لا يصير في قلبه أجل من كتاب الله ويظن أن القراءة فيه أجل من قراءة القرآن، وأما إحراقه والنهي عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بأي لفظ كان فهذا من البهتان.
والحاصل أن ما ذكر عنا من الأسباب غير دعوة الناس إلى التوحيد والنهي عن الشرك فكله من البهتان، وهذا لو خفي على غيركم فلا يخفى على حضرتكم، ولو أن رجلا من أهل بلدكم ولو كان أحب الخلق إلى الناس قام يلزم الناس بالإخلاص ويمنعهم من أهل القبور وله أعداء وحساد أشد منه رياسة وأكثر أتباعاً وقاموا يرمونه بما تسمع ويوهمون الناس أن هذا تنقص بالصالحين وأن دعوتهم من إجلالهم واحترامهم تعلمون كيف يجري عليه ومع هذا وأضعافه فلا بد من الإيمان بما جاء به الرسول ونصرته كما أخذ الله على الأنبياء قبله وأنهم في قوله تعالى : (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه )، فلما فرض الله الإيمان لم يجز ترك ذلك وأنا أرجو أن يكرمك الله بنصر دينه ونبيه وذلك بمقتضى الاستطاعة ولو بالقلب والدعاء وقد قال صلى الله عليه وسلم : (إذا أُمرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) فإن رأيت عرض كلامي على من ظننت أنه يقبل من إخواننا فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، ومن أعجب ما أجرى من الرؤساء المخالفين أني لما بينت لهم كلام الله وما ذكر أهل التفسير في قوله ( أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ) وقوله : (ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) وقوله : ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) وما ذكر الله من إقرار الكفار في قوله : ( قل من يرزقكم من السماء والأرض) الآية وغير ذلك، قالوا القرآن لا يجوز العمل به لنا ولأمثالنا ولا بكلام الرسول ولا بكلام المتقدمين، ولا نطيع إلا ما ذكره المتأخرون، قلت لهم أنا أخاصم الحنفي بكلام المتأخرين(8/19)
من الحنفية والمالكي والشافعي والحنبلي كل أخاصمه بكتب المتأخرين من علمائهم الذين يعتمدون عليهم، فلما أبو ذلك نقلت لهم كلام العلماء من كل مذهب وذكرت ما قالوا بعد ما حدثت الدعوة عند القبور والنذر لها فصرفوا ذلك وتحققوه ولم يزدهم إلا نفوراً. وأما التكفير فأنا أكفر من عرف دين الرسول ثم بعد ما عرفه سبه ونهى الناس عنه وعادى من فعله فهذا هو الذي أكفره وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك. وأما القتال فلم نقاتل أحداً إلى اليوم إلا دون النفس والحرمة وهم الذين أتونا في ديارنا ولا أبقوا ممكنا ولكن قد نقاتل بعضهم على سبيل المقابلة ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) وكذلك من جاهر بسب دين الرسول بعد ما عرفه والسلام.
الرسالة السادسة
ص (39 )
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى العلماء الأعلام في بلد الله الحرام نصر الله بهم سيد الأنام وتابعي الأئمة الأعلام، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد :(8/20)
جرى علينا من الفتنة ما بلغكم وبلغ غيركم وسببه هدم بنيان في أرضنا على قبور الصالحين فلما كبر هذا على العامة لظنهم أنه تنقيص للصالحين ومع هذا نهيناهم عن دعواهم وأمرناهم بإخلاص الدعاء لله فلما أظهرنا هذه المسئلة مع ما ذكرنا من هدم البنيان على القبور كبر على العامة جداً وعاضدهم بعض من يدعى العلم لأسباب أخر التي لا تخفى على مثلكم أعظمها اتباع هوى العوام مع أسباب أخر فأشاعوا عنا أنا نسب الصالحين وأنا على غير جادة العلماء، ورفعوا الأمر إلى المشرق والمغرب وذكروا عنا أشياء يستحي العاقل من ذكرها وأنا أخبركم بما نحن عليه ( خبراً لا أستطيع أن أكذب ) بسبب أن مثلكم لا يروج عليه الكذب على أناس متظاهرون بمذهبهم عند الخاص والعام فنحن ولله الحمد متبعين غير مبتدعين على مذهب الإمام أحمد بن حنبل وحتى من البهتان الذي أشاع الأعداء إني ادعي الاجتهاد ولا أتبع الأئمة فإن بان لكم أن هدم البنا على القبور والأمر بترك دعوة الصالحين لما أظهرناه وتعلمون أعزكم الله أن المطاع في كثير من البلدان لو تبين بالعمل بهاتين المسئلتين أنها تكبر على العامة الذين درجوهم وإياهم على ضد ذلك فإن كان كان الأمر كذلك فهذه كتب الحنابلة عندكم بمكة شرفها الله مثل (الإقناع ) (وغاية المنتهى) (والإنصاف) اللاتي عليه اعتماد المتأخرين وهو عند الحنابلة ( كالتحفة ) (والنهاية) عند الشافعية وهم ذكروا في باب الجنايز هدم البنا على القبور واستدلوا عليه بما في صحيح مسلم عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه بهدم القبور المشرفة وأنه هدمها، واستدلوا على وجوب إخلاص الدعوة لله والنهى عما اشتهر في زمنهم من دعاء الأموات بأدلة كثيرة، وبعضهم يحكى الإجماع على ذلك فإن كانت المسئلة إجماعاً فلا كلام، وإن كانت مسألة اجتهاد فمعلومكم أنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد فمن عمل بمذهبه في محل ولايته لا ينكر عليه، وما أشاعوا عنا من التكفير وأني(8/21)
أفتيت بكفر البوادي الذي ينكرون البعث والجنة والنار، وينكرون ميراث النساء مع علمهم أن كتاب الله عند الحضر، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بالذي أنكروا، فلما أفتيت بكفرهم مع أنهم أكثر الناس في أرضنا استنكر العوام ذلك وخاصتهم الأعداء ممن يدعي العلم، وقالوا من قال لا إله إلا الله لا يكفر ولو أنكروا البعث وأنكروا الشرائع كلها، ولما وقع ذلك من بعض القرى مع علمهم اليقين بكفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض حتى أنهم يقولون من أنكر فرعاً مجمعاً عليه كفر، فقلت لهم إذا كان هذا عندكم فيمن أنكر فرعاً مجمعاً عليه فكيف بمن أنكر الإيمان باليوم الآخر ؟ وسب الحضر وسفه أحلامهم إذا صدقوا بالبعث. فلما أفتيت بكفر من تبر البوادي من أهل القرى مع علمه بما أنزل الله وبما أجمع عليه العلماء كثرت الفتنة وصدق الناس بما قيل فينا من الأكاذيب والبهتان. وبالجملة هذا ما نحن عليه وأنتم تعلمون أن من هو أجل منا لو تبين في هذه المسائل قامت عليه القيامة وأنا أشهد الله وملائكته وأشهدكم على دين الله ورسوله أني متبع لأهل العلم وما غاب عني من الحق وأخطأت فيه فبينوا لي، وأنا أشهد الله أني أقبل على الرأس والعين، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.
الرسالة السابعة
ص ( 43 )
وله أيضاً رحمه الله تعالى لعالم من أهل المدينة :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين ؛ إله الأولين والآخرين، وقيوم السموات والأرضين، وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم، ثم ينتهى إلى جناب...... لا زال محروس الجناب، بعين الملك الوهاب وبعد :(8/22)
الخط وصل أوصلك الله إلى رضوانه وسر الخاطر حيث أخبر بطيبكم فإن سألت عنا فالحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات، وإن سألت عن سبب الاختلاف الذي هو بيننا وبين الناس فما اختلفنا في شئ من شرائع الإسلام من صلاة وزكاة وصوم وحج وغير ذلك، ولا في شئ من المحرمات، الشيء الذي عندنا زين هو عند الناس زين، والذي عندهم شين هو عندنا شين إلا إذا نعمل بالزين ونغصب الذي يدنا عليه وننهي عن الشين ونؤدب الناس عليه، والذي قلب الناس علينا الذي قلبهم على سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، وقلبهم على الرسل من قبله (( كلما جاء أمة رسولها كذبوه)) ومثل ما قال ورقة للنبي صلى الله عليه وسلم والله ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي. فرأس الأمر عندنا وأساسه إخلاص الدين لله نقول : ما يدعى إلا الله ولا ينذر إلا لله ولا يذبح القربان إلا لله ولا يخاف خوف الله إلا من الله، فمن جعل من هذا شيئاً لغير الله فنقول هذا الشرك بالله الذي قال الله فيه (( إن الله لا يغفر أن يشرك به )) الآية، والكفار الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم واستحل دماءهم يقرون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له النافع الضار المدبر لجميع الأمور، واقرأ قوله تعالى : لنبيه صلى الله عليه وسلم : (( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار )) الآية (( قل من بيده ملكوت كل شئ وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله))، وأخبر الله عن الكفار أنهم يخلصون لله الدين أوقات الشدائد واذكر قوله سبحانه : (( فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين )) والآية الأخرى (( وإذا غشيهم موج كالظل دعوا الله مخلصين له الدين )) وبين غاية الكفار ومطلبهم أنهم يطلبون الشفع واقرأ أول سورة الزمر تراه سبحانه بين دين الإسلام وبين دين الكفار ومطلبهم والآيات في هذا من القرآن ما تحصي ولا تعد.(8/23)
وأما الأحاديث الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم فلما قال بعض الصحابة ما شاء الله وشئت قال : (( أجعلتني لله نداً، قل ما شاء الله وحده )). وفي الحديث الثاني قال بعض الصحابة : قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق قال : (( إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله وحده )) وفى الحديث الثالث أن أم سلمة رضي الله عنها ذكرت له كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور قال : (( أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح ـ أو العبد الصالح ـ بنوا على قبره مسجداً وصورا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة )) والحديث الرابع لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له : (( إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، فإن أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ))، والحديث الخامس عن معاذ قال كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي : (( يا معاذ أتدرى ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله ؟ )) قلت : الله ورسوله أعلم قال : (( حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً )) الحديث، والأحاديث في هذا ما تحصى وأما تنويهه صلى الله عليه وسلم بأن دينه يتغير بعده فقال صلى الله عليه وسلم : (( عليكم بسني وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالتواجد وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة )) وفى الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : (( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ))، وفى الحديث قال : (( افترقت الأمم قبلكم، افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى افترقت على اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. قالوا من(8/24)
الواحدة يا رسول الله ؟ قال : (( من كان مثل ما أنا عليه وأصحابي )) وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم : (( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه )) قالوا : اليهود والنصارى ؟ قال : (( فمن ؟ )).
ويكون عندك معلوماً أن أساس الأمر ورأسه ودعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له والنهي عن عبادة من سواه قال تعالى : (( وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون )) وقال تعالى ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله )) وقال تعالى : (( يا أيها المدثر )) الآيتين ويكون عندك معلوماً أن لله تعالى أفعالا وللعبيد أفعالا، فأفعال الله الخلق والرزق والنفع والضر والتدبير وهذا أمر ما ينازع فيه لا كافر ولا مسلم، وأفعال العبد العبادة كونه ما يدعو إلا الله ولا ينذر إلا لله ولا يذبح إلا له ولا يخاف خوف السر إلا منه ولا يتوكل إلا عليه، فالمسلم من وحد الله بأفعاله سبحانه وأفعاله بنفسه، والمشرك الذي يوحد الله بأفعاله سبحانه ويشرك بأفعاله بنفسه، وفى الحديث لما نزل الله عليه ((قم فأنذر)) صعد الصفا صلى الله عليه وسلم فنادى : (( واصباحاه )) فلما اجتمع إليه قريش قال لهم : ما قال فقال عمه تبا لك، ما جمعتنا إلا لهذا وأنزل الله فيه : (( تبت يدا أبي لهب وتب )) وقال صلى الله عليه وسلم : (( يا عباس عم رسول الله، ويا صفية عمة رسول الله اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا )) أين هذا من قول صاحب البردة :
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
وقوله :
ولن يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تجلى باسم منتقم(8/25)
وذكر صاحب السيرة أنه صلوات الله وسلامه عليه قام يقنت على قريش ويخصص أناساً منهم في مقتل حمزة وأصحابه فأنزل الله عليه : (( ليس لك من الأمر شيء )) الآية ولكن مثل ما قال صلى الله عليه وسلم : (( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ)).
فإن قال قائلهم إنهم يكفرون بالعموم فنقول : سبحانك هذا بهتان عظيم الذي نكفر الذي يشهد أن التوحيد دين الله ودين رسوله، وأن دعوة غير الله باطلة ثم بعد هذا يكفر أهل التوحيد، ويسميهم الخوارج ويتبين مع أهل القبب على أهل التوحيد، ولكن نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه ولا يجعله ملتبساً علينا فنضل (( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني )) الآية ويكون عندك معلوماً أن أعظم المراتب وأجلها عند الله الدعوة إليه التي قال الله : (( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله )) الآية وفي الحديث (( والله لأن يهدي الله بك رجلا واحداً خير لك من حمر النعم )). ثم بعد هذا يذكر لنا عدوان الإسلام الذين ينفرون الناس عنه يزعمون أننا ننكر شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فنقول سبحانك هذا بهتان عظيم، بل نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الشافع المشفع صاحب المقام المحمود نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يشفعه فينا وأن يحشرنا تحت لوائه ـ هذا اعتقادنا وهذا الذي مشى عليه السلف الصالح من المهاجرين والأنصار والتابعين وتابع التابعين والأئمة الأربعة رضي الله عنهم أجمعين، وهم أحب الناس لنبيهم وأعظمهم في اتباعه وشرعه ؛ فإن كانوا يأتون عند قبره يطلبونه الشفاعة فإن اجتماعهم حجة. والقائل إنه يطلب الشفاعة بعد موته يورد علينا الدليل من كتاب الله، أو من سنة رسول الله أو من إجماع الأمة ؛ والحق أحق أن يتبع.(8/26)
الرسالة الثامنة
ص (51 )
وله قدس الله روحه :
بسم الله الرحمن الرحيم
الذي يعلم من وقف عليه من الإخوان المتبعين محمداً صلى الله عليه وسلم أن ابن صياح سألني عما ينسب إلي فطلب مني أن اكتب الجواب فكتبته :
الحمد لله رب العالمين أما بعد :
فما ذكره المشركون على أني أنهي عن الصلاة على النبي، أو أني أقول لو أن لي أمراً هدمت قبة النبي صلى الله عليه وسلم، أو أني أتكلم في الصالحين، أو أنهي عن محبتهم فكل هذا كذب وبهتان افتراه على الشياطين الذين يريدون أن يأكلوا أموال الناس بالباطل مثل أولاد شمسان، وأولا إدريس الذين يأمرون الناس ينذرون لهم وينخونهم ويندبونهم، وكذلك فقراء الشيطان الذين ينتسبون إلى الشيخ عبد القادر رحمه الله وهو منهم بري كبراءة علي بن أبي طالب من الرافضة، فلما رأوني آمر الناس بما أمرهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم أن لا يعبدوا إلا الله، وأن من دعا عبد القادر فهو كافر وعبد القادر منه بريء ، وكذلك من نخا الصالحين أو الأنبياء أو ندبهم أو سجد لهم أو نذر لهم أو قصدهم بشيء من أنواع العبادة التي هي حق الله على العبيد، وكل إنسان يعرف أمر الله ورسوله لا ينكر هذا الأمر بل يقربه ويعرفه، وأما الذي ينكره فهو بين أمرين : إن قال إن دعوة الصالحين واستغاثتهم والنذر لهم وصيرورة الإنسان فقيراً لهم أمر حسن ولو ذكر الله ورسوله أنه كفر فهو مصر بتكذيب الله ورسوله، ولا خفاء في كفره فليس لنا معه كلام، وإنما كلامنا مع رجل يؤمن بالله واليوم الآخر، ويحب ما أحب الله ورسوله، ويبغض ما أبغض الله ورسوله لكنه جاهل قد لبست عليه الشياطين دينه، ويظن أن الاعتقاد في الصالحين حق ولو يدرى أنه كفر يدخل صاحبه في النار ما فعله، ونحن نبين لهذا ما يوضح له الأمر فنقول : الذي يجب على المسلم أن يتبع أمر الله ورسوله، ويسأل عنه والله سبحانه أنزل القرآن وذكر فيه ما يحبه ويبغضه، وبين لنا فيه ديننا، وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء فليس على وجه الأرض أحد أحب إلى أصحابه منه، وهم(8/27)
يحبونهم على أنفسهم وأولادهم، ويعرفون قدره ويعرفون أيضاً الشرك والإيمان فإن كان أحد من المسلمين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعاه أو نذر له أو ندبه أو أحد من أصحابه جاء عند قبره بعد موته يسأله أو يندبه أو يدخل عليه للالتجاء له عند القبر فاعرف أن هذا الأمر صحيح حسن ولا تطعني ولا غيري، وإن كان إذا سألت إذا أنه صلى الله عليه وسلم تبرأ ممن اعتقد في الأنبياء والصالحين، وقتلهم وسباهم وأولادهم، وأخذ أموالهم، وحكم بكفرهم فاعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق والواجب على كل مؤمن اتباعه فيما جاء به، وبالجملة فالذي أنكره الاعتقاد في غير الله مما لا يجوز لغيره، فإن كنت قلته من عندي فارم به، أو من كتاب لقيته ليس عليه عمل فارم به كذلك، أو نقلته عن أهل مذهبي فارم به، وإن كنت قلته عن أمر الله ورسوله، وعما أجمع عليه العلماء في كل مذهب فلا ينبغي لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يعرض عنه لأجل أهل زمانه أو أهل بلده، وأن أكثر الناس في زمانه أعرضوا عنه.(8/28)
واعلم أن الأدلة على هذا من كلام الله وكلام رسوله كثيرة لكن أنا أمثل لك بدليل واحد ينبهك على غيره قال الله تعالى (( قل ادعو الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب )) الآية. ذكر المفسرون في تفسيرها أن جماعة كانوا يعتقدون في عيسى عليه السلام وعزير فقال تعالى : هؤلاء عبيدي كما أنتم عبيدي، ويرجون رحمتي كما ترجون رحمتي ويخافون عذابي كما تخافون عذابي. فيا عباد الله تفكروا في كلام ربكم تبارك وتعالى إذا كان ذكر عن الكفار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دينهم الذي كفرهم به هو الاعتقاد في الصالحين، وإلا فالكفار يخافون الله ويرجونه ويحجون ويتصدقون ولكنهم كفروا بالاعتقاد في الصالحين، وهم يقولون إنما اعتقدنا فيهم ليقربونا إلى الله زلفى ويشفعوا لنا كما قال تعالى : (والذين اتخذوا من دونهم أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) وقال تعالى : ((ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله )) فيا عباد الله إذا كان الله ذكر في كتابه أن دين الكفار هو الاعتقاد في الصالحين، وذكر أنهم اعتقدوا فيهم ودعوهم وندبوهم لأجل أنهم يقربوهم إلى الله زلفى هل بعد هذا البيان بيان ؟ فإذا كان اعتقد في عيسى ابن مريم مع أنه نبي من الأنبياء وندبه ونخاه فقد كفر فكيف بمن يعتقدون في الشياطين كالكلب أبي حديدة، وعثمان الذي في الوادي، والكلاب الأخر في الخرج وغيرهم في سائر البلدان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، ويصدون عن سبيل الله وأنت يا من هداه الله لا تظن أن هؤلاء يحبون الصالحين بل هؤلاء أعداء الصالحين وأنت والله الذي تحب الصالحين لأن من أحب قوماً أطاعهم، فمن أحب الصالحين وأطاعهم لم يعتقد إلا في الله، وأما من عصاهم ودعاهم يزعم أنه يحبهم فهو مثل النصارى الذين يدعون عيسى ويزعمون محبته وهو بريء منهم، ومثل(8/29)
الرافضة الذين يدعون على بن أبى طالب وهو بريء منهم، ونختم هذا الكتاب بكلمة واحدة وهى أن أقول : يا عباد الله لا تطيعوني ولا تفكروا واسألوا أهل العلم من كل مذهب عما قال الله ورسوله وأنا أنصحكم لا تظنوا أن الاعتقاد في الصالحين مثل الزنا والسرقة بل هو عبادة للأصنام من فعله كفر وتبرأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عباد الله تفكروا وتذكروا والسلام
الرسالة التاسعة
ص (57 )
وله أيضاً رحمه الله :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه من المسلمين سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ؛ وبعد :
ما ذكر لكم عني أني أكفر بالعموم فهذا من بهتان الأعداء، وكذلك قولهم إني أقول من تبع دين الله ورسوله وهو ساكن في بلده أنه ما يكفيه حتى يجييء عندي فهذا أيضا من البهتان ؛ إنما المراد اتباع دين الله ورسوله في أي أرض كانت ؛ ولكن نكفر من أقر بدين الله ورسوله ثم عاداه وصد الناس عنه ؛ وكذلك من عبد الأوثان بعد ما عرف أنها دين للمشركين وزينة للناس ؛ فهذا الذي أكفره وكل عالم على وجه الأرض يكفر هؤلاء إلا رجلاً معانداً أو جاهلاً والله أعلم والسلام.
الرسالة العاشرة
ص ( 59 )
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى الأخ حمد التويجري ألهمه الله رشده، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد :(8/30)
وصل الخط أوصلك الله ما يرضيه، وأشرفنا على الرسالة المذكورة، وصاحبها ينتسب إلى مذهب الإمام أحمد رحمه الله، وما تضمنته رسالته من الكلام في الصفات مخالف لعقيدة الإمام أحمد، وما تضمنته من الشبه الباطلة في تهوين أمر الشرك بل في إباحته فمن أبين الأمور بطلانه لمن سلم من الهوى والتعصب ؛ وكذلك تمويهه على الطغام بأن ابن عبد الوهاب يقول : الذي ما يدخل تحت طاعتي كافر ؛ ونقول : سبحانك هذا بهتان عظيم، بل نشهد الله على ما يعلمه من قلوبنا بأن من عمل بالتوحيد، وتبرأ من الشرك وأهله فهو المسلم في أي زمان وأي مكان وإنما نكفر من أشرك بالله في إلهتيه بعد ما نبين له الحجة على بطلان الشرك وكذلك نكفر من حسنه للناس، أو أقام الشبه الباطلة على إباحته، وكذلك من قام بسيفه دون هذه المشاهد التي يشرك بالله عندها، وقاتل من أنكرها وسعى في إزالتها والله المستعان والسلام.
الرسالة الحادية عشرة
ص (61 )
بسم الله الرحمن الرحيم
ومنها رسالة أرسلها جواباً لعبد الله بن سحيم مطوع أهل المجمعة حين سأله عن الكتاب الذي أرسله عدو الله سليمان بن محمد بن سحيم مطوع أهل الرياض، وكانت رسالة أرسلها إلى أهل البصرة والحسا يشنع فيها على الشيخ بالكذب والبهتان والزور والباطل الذي ما جرى، وما كان قصده بذلك الاستنصار بكلامهم على إبطال ما أظهره الشيخ من بيان التوحيد وإخلاص الدعوة لله، وهدم أركان الشرك، وإبطال مناهج الضلال والإفك ورام هذا أن يرتقي إلى ذلك بأسباب، ويستدعى من كل معاند مكابر الجواب، فإن الله تعالى بفضله قد أزال اللبس والحجاب، وكشف عن القلوب ظلمات الرين والاحتجاب وهذا نص الرسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الله بن سحيم وبعد :(8/31)
ألفينا مكتوبك وما ذكرت فيه من ذكرك وما بلغك، ولا يخفاك أن المسائل التي ذكرت أنها بلغتكم في كتاب من العارض جملتها أربعة وعشرون مسألة بعضها حق بهتان وكذب، وقبل الكلام فيها لا بد من تقديم أصل وذلك أن أهل العلم إذا اختلفوا، والجهال إذا تنازعوا ومثلى ومثلكم إذا اختلفنا في مسألة هل الواجب اتباع أمر الله ورسوله وأهل العلم ؟ أو الواجب اتباع عادة الزمان التي أدركنا الناس عليها، ولو خالفت ما ذكره العلماء في جميع كتبهم، وإنما ذكرت هذا ولو كان واضحاً لأن بعض المسائل التي ذكرت أنا قلتها لكن هي موافقة لما ذكره العلماء في كتبهم. الحنابلة وغيرهم، ولكن هي مخالفة لعادة الناس التي نشأوا عليها فأنكرها علي لأجل مخالفة العادة وإلا فقد رأوا تلك في كتبهم عياناً، وأقروا بها وشهدوا أن كلامي هو الحق لكن أصابهم ما أصاب الذين قال الله فيهم (( فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين )) الآية وهذا هو ما نحن فيه بعينه، فإن الذي راسلكم هو عدو الله ابن سحيم، وقد بينت ذلك له فأقر به، وعندنا كتب يده في رسائل متعددة أن هذا هو الحق، وأقام على ذلك سنين، لكن أنكر آخر الأمر لأسباب أعظمها البغي أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، وذلك أن العامة قالوا له ولأمثاله إذا كان هذا هو الحق فلأي شيء لم تنهونا عن عبادة شمسان وأمثاله، فتعذروا أنكم ما سألتمونا، قالوا : وإن لم نسألكم كيف نشرك بالله عندكم ولا تنصحونا، وظنوا أن يأتيهم في هذا غضاضة وأن فيه شرفاً لغيره، وأيضاً لما أنكرنا عليهم أكل السحت والرشا إلى غير ذلك من الأمور، فقام يدخل عندكم وعند غيركم بالبهتان والله ناصر دينه ولو كره المشركون، وأنت لا تستهون مخالفة العادة على العلماء فضلا عن العوام، وأنا أضرب لك مثلا بمسألة واحدة وهي مسئلة الاستجمار ثلاثاً فصاعدا غير عظم ولا روث، وهو كاف مع وجود الماء عند الأئمة الأربعة وغيرهم وهو إجماع الأمة لا خلاف في(8/32)
ذلك، ومع هذا لو يفعله أحد لصار هذا عند الناس أمراً عظيماً ولنهوا عن الصلاة خلفه، وبدعوه مع إقرارهم بذلك ولكن لأجل العادة. إذا تبين هذا فالمسائل التي شنع بها منها : ماهو من البهتان الظاهر وهي قوله : إني مبطل كتب المذاهب، وقوله : إني أقول إن الناس من ستمائة سنة ليسوا على شيء وقوله إني أدعى الاجتهاد، وقوله : إني خارج عن التقليد، وقوله إني أقول : إن اختلاف العلماء نقمة، وقوله إني أكفر من توسل بالصالحين، وقوله : إني أكفر البوصيري لقوله يا أكرم الخلق، وقوله إني أقول لو أقدر على هدم حجرة الرسول لهدمتها ولو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها وجعلت لها ميزاباً من خشب، وقوله إني أنكر زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله إني أنكر زيارة قبر الوالدين وغيرهم وإني أكفر من يحلف بغير الله فهذه اثنتا عشرة مسألة جوابي فيها أن أقول : ((سبحانك هذا بهتان عظيم )) ولكن قبله من بهت النبي محمداً صلى الله عليه وسلم أنه يسب عيسى ابن مريم ويسب الصالحين ((تشابهت قلوبهم )) وبهتوه بأنه يزعم أن الملائكة، وعيسى، وعزيراً في النار فأنزل الله في ذلك ( إن الذين سبقت لهم الحسنى أولئك عنها مبعدون) الآية، وأما المسائل الأخر وهي أني أقول لا يتم إسلام الإنسان حتى يعرف معنى لا إله إلا الله، ومنها أني أعرف من يأتيني بمعناها، ومنها أني أقول الإله هو الذي فيه السر، ومنه تكفير الناذر إذا أراد به التقرب لغير الله وأخذ النذر كذلك، ومنها أن الذبح للجن كفر، والذبيحة حرام ولو سمى الله عليها إذا ذبحها للجن فهذه خمس مسائل كلها حق وأنا قائلها. ونبدأ بالكلام عليها لأنها أم المسائل وقبل ذلك أذكر معنى لا إله إلا الله فنقول : التوحيد نوعان توحيد الربوبية وهو : أن الله سبحانه متفرد بالخلق والتدبير عن الملائكة والأنبياء وغيرهم، وهذا حق لابد منه، لكن لا يدخل الرجل في الإسلام لأن أكثر الناس مقرون به قال الله تعالى : ((قل من يرزقكم من(8/33)
السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار)) إلى قوله ((أفلا تتقون)) وأن الذي يدخل الرجل في الإسلام هو توحيد الألوهية، وهو : أن لا يعبد إلا الله لا ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلا، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث وأهل الجاهلية يعبدون أشياء مع الله، فمنهم من يدعو الأصنام، ومنهم من يدعو عيسى، ومنهم من يدعو الملائكة فنهاهم عن هذا، وأخبرهم أن الله أرسله ليوحد ولا يدعي أحد من دونه لا الملائكة ولا الأنبياء، فمن تبعه ووحد الله فهو الذي شهد أن لا إله إلا الله، ومن عصاه ودعا عيسى والملائكة واستنصرهم، والتجأ إليهم فهو الذي جحد لا إله إلا الله مع إقراره أنه لا يخلق ولا يرزق إلا الله، وهذه جملة لها بسط طويل، لكن الحاصل أن هذا مجمع عليه بين العلماء، ولما جرى في هذه الأمة ما أخبر به نبيها صلى الله عليه وسلم حيث قال: (( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه )) وكان من قلبهم كما ذكر الله عنهم : ((اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله )) فصار ناس من الضالين يدعون أناساً من الصالحين في الشدة والرخاء مثل عبد القادر الجيلاني، وأحمد البدوي وعدي بن مسافر، وأمثالهم من أهل العبادة والصلاح، فأنكر عليهم أهل العلم غاية الإنكار، وزجروهم عن ذلك، وحذروهم غاية التحذير والإنذار من جميع المذاهب في سائر الأقطار والأمصار فلم يحصل منهم انزجار بل استمروا على ذلك غاية الاستمرار. وأما الصالحون الذين يكرهون ذلك فحاشاهم من ذلك، وبين أهل العلم أن أمثال هذا هو الشرك الأكبر، وأنت ذكرت في كتابك تقول : يا أخي مالنا والله دليل إلا من كلام أهل العلم وأنا أقول كلام أهل العلم رضي، وأنا أنقله لك وأنبهك عليه فتفكر فيه وقم لله ساعة ناظراً ومناظراً مع نفسك ومع غيرك، فإن عرفت أن الصواب معي، وأن دين الإسلام اليوم من أغرب الأشياء أعني دين الإسلام الصرف الذي لا يمزج بالشرك والبدع وأما الإسلام(8/34)
الذي ضده الكفر فلا شك أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم آخر الأمم وعليها تقوم الساعة فإن فهمت أن كلامي هو الحق فاعمل لنفسك واعلم أن الأمر عظيم والخطب جسيم، فإن أشكل عليك شيء فسفرك إلى المغرب في طلبه غير كثير، واعتبر لنفسك حيث قلت لي فيما مضى إن هذا هو الحق الذي لا شك فيه لكن لا نقدر على تغيره، وتكلمت بكلام حسن، فلما غربلك الله بولد المويس ولبس عليك، وكتب لأهل الوشم يستهزئ بالتوحيد، ويزعم أنه بدعة، وأنه خرج من خراسان ويسب دين الله ورسوله لم تفطن لجهله وعظم ذنبه وظننت أن كلامي فيه من باب الانتصار للنفس، وكلامي هذا لا يغيرك فإن مرادي أن تفهم أن الخطب جسيم وأن أكابر أهل العلم يتعلمون هذا ويغلطون فيه فضلا عنا وعن أمثالنا فلعله إن أشكل عليك تواجهني، هذا إن عرفت أنه حق وإن كنت إذا نقلت لك عبارات العلماء عرفت أني لم أفهم معناها وأن الذي نقلت لك كلامهم أخطئوا، وأنهم خالفهم أحد من أهل العلم فنبهي على الحق وأرجع إليه إن شاء الله تعالى.
فنقول : قال الشيخ نقي الدين وقد غلط في مسمى التوحيد طوائف من أهل النظر، ومن أهل العبادة حتى قلبوا حقيقته، فطائفة ظنت أن التوحيد هو نفي الصفات، وطائفة ظنوا أنه الإقرار بتوحيد الربوبية ومنهم من أطال في تقرير هذا الموضع وظن أنه بذلك قرر الوحدانية وأن الألوهية هي القدرة على الاختراع ونحو ذلك، ولم يعلم أن مشركي العرب كانوا مقرين بهذا التوحيد قال الله تعالى : (( قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون )) الآيات، وهذا حق لكن لا يخلص به عن الإشراك بالله الذي لا يغفره الله، بل لا بد أن يخلص الدين لله فلا يعبد إلا الله فيكون دينه لله والإله هو المألوه الذي تألهه القلوب، وأطال رحمه الله الكلام.(8/35)
وقال أيضاً في ( الرسالة السنية ) التي أرسلها إلى طائفة من أهل العبادة ينتسبون إلى بعض الصالحين، ويغلون فيه، فذكر حديث الخوارج ثم قال : فإذا كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين ممن ينتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام قد يمرق من الدين وذلك بأمور : منها : الغلو الذي ذمه الله مثل الغلو في عدي بن مسافر أو غيره بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح ونحوه فكل من غلا في نبي أو صحابي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الإلهية مثل أن يقول يا سيدي فلان أغثني أو أنا في حسبك ونحو هذا فهذا كافر يستتاب، فإن تاب وإلاقتل فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليعبد ولا يدعى معه إله آخر والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل الشمس والقمر والصالحين والتماثيل المصورة على صورهم لم يكونوا يعتقدون أنها تنزل المطر، وتنبت النبات وإنما كانوا يعبدون الملائكة والصالحين ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله فبعث الله الرسل، وأنزل الكتب تنهى أن يدعى أحد من دونه لادعاء عبادة ولا دعاء استغاثة. وأطال الكلام رحمه الله، فتأمل كلامه في أهل عصره من أهل النظر الذين يدعون العلم، ومن أهل العبادة الذين يدعون الصلاح. وقال في ( الإقناع ) في باب حكم المرتد في أوله : فمن أشرك بالله أو جحد ربوبيته أو وحدانيته إلى أن قال أو استهزأ بالله أو رسله قال الشيخ، أو كان مبغضاً لرسوله أو لما جاء به اتفاقاً، أو جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم كفر إجماعاً. إلى أن قال : أو أنكر الشهادتين أو إحداهما، فتأمل هذا الكلام بشراشر قلبك، وتأمل هل قالوا هذا في أشياء وجدت في زمانهم، واشتد نكيرهم على أهلها أو قالوا ولم تقع، وتأمل الفرق بين جحد الربوبية والوحدانية والبغض لما جاء به الرسول.(8/36)
وقال أيضاً في أثناء الباب : ومن اعتقد أن لأحد طريقاً إلى الله غير متابعة محمد صلى الله عليه وسلم، أولا يجب عليه اتباعه، أو أن لغيره خروجاً عن اتباعه، أو قال أنا محتاج إليه في علم الظاهر دون علم الباطن، أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة أو قال إن من العلماء من يسعه الخروج عن شريعته كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى كفر في هذا كله، ولو تعرف من قال هذا الكلام فيه وجزم بكفرهم وعلمت ما هم عليه من الزهد والعبادة وأنهم عند أكثر أهل زماننا من أعظم الأولياء لقضيت العجب.
وقال أيضاً في الباب : ومن سب الصحابة واقترن بسبه دعوى أن علياً إله أو نبي أو أن جبريل غلط فلا شك في كفر هذا، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره فتأمل، هذا إذا كان كلامه هذا في علي فكيف بمن ادعى أن ابن عربي أو عبد القادر إله ؟ وتأمل كلام الشيخ في معنى الإله الذي تألهه القلوب، واعلم أن المشركين في زماننا قد زادوا على الكفار في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يدعون الأولياء والصالحين في الرخاء والشدة، ويطلبون منهم تفريج الكربات وقضاء الحاجات مع كونهم يدعون الملائكة والصالحين، ويريدون شفاعتهم والتقرب بهم، وإلا فهم مقرون بأن الأمر لله فهم لا يدعونهم إلا في الرخاء فإذا جاءتهم الشدائد أخلصوا لله قال الله تعالى : " وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم " الآية.(8/37)
وقال أيضاً في ( الإقناع ) في الباب : ويحرم تعلم السحر وتعليمه وفعله، وهو عقد ورقى وكلام يتكلم به، أو يكتبه، أو يعمل شيئاً يؤثر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله، ومنه ما يقتل، ومنه ما يمرض، ومنه ما يأخذ الرجل عن امرأته فيمنعه وطأها ومنه ما يبعض أحدهما للآخر ويحبب بين اثنين، ويكفر بتعلمه وفعله سواء اعتقد تحريمه أو إباحته، فتأمل هذا الكلام، ثم تأمل ما جرى في الناس خصوصاً الصرف والعطف تعرف أن الكفر ليس ببعيد، وعليك بتأمل هذا الباب في الإقناع وشرحه تأملا جيداً وقف عند المواضع المشكلة، وذاكر فيها كما تفعل في باب الوقف والإجازة يتبين لك إن شاء الله أمر عظيم.(8/38)
وأما الحنفية فقال الشيخ قاسم في شرح (درر البحار ) : النذر الذي يقع من أكثر العوام، وهو أن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلا: يا سيدي فلان إن رد غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي فلك كذا وكذا باطل اجماعأً لوجوه : منها : أن النذر للمخلوق لا يجوز، ومنها ظن أن الميت يتصرف في الأمر واعتقاد هذا كفر، إلى أن قال إذا عرف هذا فما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت ونحوها وينقل إلى ضرائح الأولياء فحرام بإجماع المسلمين، وقد ابتلى الناس بهذا لا سيما في مولد أحمد البدوي، فتأمل قول صاحب النهر مع أنه بمصر ومقر العلماء كيف شاع بين أهل مصر مالا قدرة للعلماء على دفعه، فتأمل قوله من أكثر العوام أتظن أن الزمان صلح بعده ؟ أما المالكية، فقال الطرطوشي في كتاب (الحوادث والبدع ) روى البخاري عن أبي واقد الليثي قال : ((خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي حنين ونحن حديثو عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم يقال ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا. يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنوط فقال الله أكبر هذا كما قال بنو إسرائيل لموسى : اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، لتركبن سنن من كان قبلكم ) فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة يقصدها الناس، وينوطون بها الخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها، وقال صلى عليه وسلم (( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبي للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس )) ومعنى هذا أن الله لما جاء بالإسلام فكان الرجل إذا أسلم في قبيلته غريباً مستخفياً بإسلامه قد جفاه العشيرة فهو بينهم ذليل خائف، ثم يعود غريباً لكثرة الأهواء المضلة والمذاهب المختلفة حتى يبقى أهل الحق غرباء في الناس لقلتهم وخوفهم على أنفسهم.(8/39)
وروى البخاري عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال : ( والله ما أعرف فيهم من أمر محمد إلا أنهم يصلون جميعاً)، وذلك أنه أنكر أكثر أفعال أهل عصره. وقال الزهري : دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي فقلت : ما يبكيك ؟ فقال : ما أعرف فيهم شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة وهذه الصلاة قد ضيعت انتهى كلام الطرطوشي.
فليتأمل اللبيب هذه الأحاديث، وفي أي زمان قيلت وفي أي مكان وهل أنكرها أحد من أهل العلم، والفوائد فيها كثيرة، ولكن مرادي منها ما وقع من الصحابة وقول الصادق المصدوق إنه مثل كلام الذين اختارهم الله على العالمين لنبيهم اجعل لنا إلهاً، يا عجباً إذا جرى هذا من أولئك السادة كيف ينكر علينا أن رجلا من المتأخرين غلط في قوله يا أكرم الخلق، كيف تعجبون من كلامي فيه وتظنون به خيراً وأعلم منهم ؟ ولكن هذه الأمور لا علم لكم بها، وتظنون أن من وصف شركاً أو كفراً أنه الكفر الأكبر المخرج عن الملة ، ولكن أين كلامك هذا من كتابك الذي أرسلت إلي قبل أن يغربلك الله بصاحب الشام، وتذكر وتشهد أن هذا هو الحق وتعتذر أنك لا تقدر على الإنكار، ومرادي أن أبين لك كلام الطرطوشي وما وقع في زمانه من الشرك بالشجر مع كونه في زمن القاضي أبي يعلي أتظن الزمان صلح بعده ؟(8/40)
وأما كلام الشافعية فقال الإمام محدث الشام أبو شامة في كتاب ( الباعث على إنكار البدع والحوادث ) وهو في زمن الشارح وابن حمدان، وقد وقع من جماعة من النابذين لشريعة الإسلام المنتمين إلى الفقر الذي حقيقته الافتقار من الإيمان من اعتقادهم في مشايخ لهم ضالين مضلين فهم داخلون تحت قوله: (( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الذين ما لم يأذن به الله )) وبهذه الطرق وأمثالها كان مبادئ ظهور الكفر من عبادة الأصنام وغيرها، ومن هذا القسم ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد، وإسراج مواضع في كل بلد يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه أحداً ممن شهر بالصلاح فيفعلون ذلك، ويظنون أنهم يتقربون إلى الله، ثم يجاوزون ذلك إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لهم، وهي بين عيون وشجر وحائط وحجر، وفي دمشق صانها الله من ذلك مواضع متعددة كعوينة الحمى، والشجرة الملعونة خارج باب النصر سهل الله قطعها فما أشبهها بذات أنواط، ثم ذكر كلاماً طويلا إلى أن قال : أسال الله الكريم معافاته من كل ما يخالف رضاه ولا يجعلنا ممن أضله فاتخذ إلهه هواه، فتأمل ذكره في النوع أنه نبذ لشريعة الإسلام وأنه خروج على الإيمان، ثم ذكر أنه عم الابتلاء في الشام فأنت قل لصاحبكم هؤلاء العلماء من الأئمة الأربعة ذكروا أن الشرك عم الابتلاء به وغيره، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض، وذكروا أن الدين عاد غريباً، فهو بين اثنتين : إما أن يقول كل هؤلاء العلماء جاهلون ضالون مضلون خارجون، وإما أن يدعي أن زمانه وزمان مشايخه صلح بعد ذلك، ولا يخفاك أني عثرت على أوراق عند ابن عزاز فيها إجازات له من عند مشايخه، وشيخ مشايخه رجل يقال له عبد الغني، ويثنون عليه أوراقهم، ويسمونه العارف بالله، وهذا اشتهر عنه أنه على دين ابن عربي الذي ذكر العلماء أنه أكفر من فرعون، حتى قال ابن المقري الشافعي من شك في كفر(8/41)
طائفة ابن عربي فهو كافر، فإذا كان إمام دين ابن عربي والداعي إليه هو شيخهم ويثنون عليه أنه العارف بالله فكيف يكون الأمر ؟ ولكن أعظم من هذا كله ما تقدم عن أبي الدرداء وأنس وهما بالشام ذلك الكلام العظيم. واحتج به أهل العلم على أن زمانهم أعظم فكيف بزماننا ؟ وقال ابن القيم رحمه الله في (الهدي النبوي ) في الكلام على حديث وفد الطائف لما أسلموا وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يترك لهم اللات لا يهدمها سنة، ولما تقدم ابن القيم على المسائل المأخوذة من القصة قال : ومنها أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً، فإنها شعائر الشرك والكفر، وهي أعظم المنكرات فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة، وهذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثاناً تعبد من دون الله، ولأحجار التي تقصد للتبرك والنذر والتقبيل لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى بل أعظم شركا عندها وبها والله المستعان ولم يكن أحد من أرباب هذه الطواغيت يعتقد أنها تخلق وترزق، وإنما كانوا يفعلون عندها وبها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم عند طواغيتهم، فاتبع هؤلاء سنن من قبلهم وسلكوا سبيلهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع، وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وغلب الشرك على أكثر النفوس لغلبة الجهل وخفاء العلم، وصار المعروف منكراً والمنكر معروفاً، والسنة بدعة والبدعة سنة، ونشاً في ذلك الصغير، وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام واشتدت غربة الإسلام وقل العلماء، وغلب السفهاء وتفاهم الأمر، واشتد البأس، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي انتهى كلامه.(8/42)
وقال أيضاً : في الكلام على هذه القصة لما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ مال اللات وصرفه في المصالح، ومنها جواز صرف الإمام الأموال التي تصير إلى هذه الطواغيت في الجهاد ومصالح المسلمين فيجب عليه أن يأخذ أموال هذه الطواغيت التي تساق إليها، ويصرفها على الجند والمقاتلة، ومصالح الإسلام كما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أموال اللات، وكذا الحكم في وقفها، والوقف عليها باطل، وهو مال ضائع فيصرف في مصالح المسلمين، فإن الوقف لا يصح إلا في قربة وطاعة الله ورسوله فلا يصح على مشهد ولا قبر يسرج عليه ويعظم وينذر له ويعبد من دون الله، وهذا مما لا يخالف فيه أحد من أئمة الدين، ومن اتبع سبيلهم انتهى كلامه.(8/43)
فتأمل كلام هذا الرجل هو من أهل العلم، وهو أيضاً من أهل الشام كيف صرح أنه ظهر في زمانه فيمن يدعي الإسلام في الشام وغيره عبادة القبور والمشاهد والأشجار والأحجار التي هي أعظم من عبادة اللات والعزى أو مثله، وأن ذلك ظهر ظهوراً عظيماً حتى غلب الشرك على أكثر النفوس، وحتى صار الإسلام غريباً بل اشتدت غربته أين هذا ؟ من قول صاحبكم لأهل الوشم في كتابه لما ذكروا له أن في بلدانكم شيئاً من الشرك يأبى الله أن يكون ذلك في المسلمين، وكلام هؤلاء الأئمة من أهل المذاهب الأربعة أعظم وأعظم وأطم مما قال ابن عيدان وصاحبه في أهل زمانهما افترى هؤلاء العلماء أتوا فرية عظيمة ومقالة جسيمة ؟فهذا ما يسر الله نقله من كلام أهل العلم على سبيل العجلة فأنت تأمله تأملاً جيداً، واجعل تأملك لله مستعيذاً بالله من اتباع الهوى، ولا تفعل فعلك أولا، لما ذكرت لك أنك تتأمل كلامي وكلامه، فإن كان كلامي صحيحاً لا مجازفة فيه، وأن شاميكم لا يعرف معنى لا إله إلا الله، ولا يعرف عقيدة الإمام أحمد، وعقيدة الذين ضربوه فاعرف قدره فهو بغيره أجهل، واعرف أن الأمر أمر جليل، فإن كان كلامي باطلا ونسبت رجلا من أهل العلم إلى هذه الأمور العظيمة بالكذب والبهتان فالأمر أيضاً عظيم فأعرضت عن ذلك كله وكتبت لي كتاباً في شيء آخر، فإن كان مرادك اتباع الهوى أعاذنا الله منه، وأنك مع ولد المويس كيف كان فاترك الجواب، فإن بعض الناس يذكرون عنك أنك صائر معه لأجل شيء من أمور الدنيا، وإن كنت مع الحق فلا أعذرك من تأمل كلامي هذا وكلامي الأول وتعرضهما على كلام أهل العلم وتحررهما تحريراً جيداً ثم تتكلم بالحق.(8/44)
إذا تقرر هذا فخمس المسائل التي قدمت جوابها في كلام العلماء وأضيف إليها مسألة سادسة وهى : إفتائي بكفر شمسان وأولاده ومن شابههم وسميتهم طواغيت، وذلك أنهم يدعون الناس إلى عبادتهم من دون الله عبادة أعظم من عبادة اللات والعزى بأضعاف، وليس في كلامي مجازفة بل هو الحق لأن عباد اللات والعزى يعبدونها في الرخاء، ويخلصون لله في الشدة وعبادة هؤلاء أعظم من عبادتهم إياهم في شدائد البر والبحر، فإن كان الله أوقع في قلبك معرفة الحق والانقياد له والكفر بالطاغوت والتبري ممن خالف هذه الأصول ولو كان أباك أو أخاك فاكتب لي وبشرني لأن هذا ليس مثل الخطأ في الفروع، بل ليس الجهل بهذا فضلا عن إنكاره مثل الزنا والسرقة بل والله ثم والله ثم والله إن الأمر أعظم، وإن وقع في قلبك إشكال فاضرع إلى مقلب القلوب أن يهديك لدينه ودين نبيه.(8/45)
وأما بقيه المسائل فالجواب عنها ممكن إذا خلصنا من شهادة أن لا إله إلا الله وبيننا وبينكم كلام أهل العلم لكن العجب من قولك أنا هادم قبور الصحابة، وعبارة الإقناع في الجنائز يجب هدم القباب التي على القبور لأنها أسست على معصية الرسول والنبي صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه بعث علياً لهدم القبور ومثل صاحب كتابكم لو كتب لكم أن ابن عبد الوهاب ابتدع لأنه أنكر على رجل تزوج أخته فالعجب كيف راج عليكم كلامه فيه ؛ وأما قولي : إن الإله الذي فيه السر فمعلوم أن اللغات تختلف فالمعبود عند العرب وإلإله الذي يسمونه عوامنا السيد، والشيخ، والذي فيه السر، والعرب الأولون يسمون الألوهية ما يسميها عوامنا السر لأن السر عندهم هو القدرة على النفع والضر، وكونه يصلح أن يدعى ويرجى ويخاف ويتوكل عليه فإذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )) وسئل بعض العامة ما فاتحة الكتاب ما فسرت له إلا بلغة بلده، فتارة تقول هي فاتحة الكتاب وتارة تقول هي أم القرآن، وتارة تقول هي الحمد، وأشباه هذه العبارات التي معناها واحد، ولكن إن كان السر في لغة عوامنا ليس هذا وأن هذا ليس هو الإله في كلام أهل العلم فهذا وجه الإنكار فبينوا لنا. والحمد لله رب العالمين.(8/46)
الرسالة الثانية عشرة
ص (77 )
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه كلمات جواب عن الشبهة التي احتج بها من أجاز وقف الجنف والإثم، ونحن نذكر قبل ذلك صورة المسألة ثم نتكلم على الأدلة. وذلك أن السلف اختلفوا في الوقف الذي يراد به وجه الله على غير من يرثه مثل الوقف على الأيتام، وصوام رمضان، أو المساكين، أو أبناء البسبيل. فقال شريح القاضي، وأهل الكوفة لا يصح ذلك الوقف حكاه عنهم الإمام أحمد، وقال جمهور أهل العلم : هذا وقف صحيح واحتجوا بحجج صحيحه صريحة ترد قول أهل الكوفة، فهذه الحجج التي ذكرها أهل العلم يحتجون بها على علماء أهل الكوفة مثل قوله ((صدقة جارية )) ومثل وقف عمر أوقاف أهل المقدرة من الصحابة على جهات البر التي أمر الله بها ورسوله ليس فيها تغيير لحدود الله.(8/47)
وأما مسألتنا فهي إذا أراد الإنسان أن يقسم ماله على هواه، وفر من قسمة الله وتمرد عن دين الله. مثل : أن يريد أن امرأته لا ترث من هذا النخل، ولا تأكل منه إلا حياة عينها، أو يريد أن يزيد بعض أولاده على بعض فراراً من وصية الله بالعدل، أو يريد أن يحرم نسل البنات، أو يريد أن يحرم على ورثته بيع هذا العقار لئلا يفتقروا بعده، ويفتي له بعض المفتين أن هذه البدعة الملعونة صدقة بر تقرب إلى الله، ويوقف على هذا الوجه قاصداً وجه الله فهذه مسألتنا فتأمل هذا بشراشر قلبك، ثم تأمل ما نذكره من الأدلة فنقول : من أعظم المنكرات وأكبر الكبائر تغيير شرع الله ودينه والتحيل على ذلك بالتقرب إليه وذلك مثل أوقافنا هذه إذا أراد أن يحرم من أعطاه الله من امرأة أو امرأة ابن أو نسل بنات أو غير ذلك، أو يعطى من حرمه الله، أو يزيد أحداً عما فرض الله، أو ينقصه من ذلك، ويريد التقرب إلى الله بذلك مع كونه مبعداً عن الله فالأدلة على بطلان هذا الوقف، وعوده طائعاً، وقسمه على قسم الله ورسوله أكثر من أن تحصر، ولكن من أوضحها دليل واحد وهو أن يقال لمدعى الصحة. إذا كانت تدعى أن هذا مما يحبه الله ورسوله، وفعله أفضل من تركه، وهو داخل فيما حض عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقة الجارية وغير ذلك، فمعلوم أن الإنسان مجبول على حبه لولده وإيثاره على غيره حتى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى ( إنما أموالكم وأولادكم فتنة ) فإذا شرع الله لهم أن يوقفوا أموالهم على أولادهم، ويزيدوا من شاءوا، أو يحرموا النساء والعصبة ونسل البنات فلأي شيء لم يفعله التابعون، ولأي شيء لم يفعله الأئمة الأربعة وغيرهم ؟ أتراهم راغبوا عن الأعمال الصالحة ولم يحبوا أولادهم، وآثروا البعيد عليهم، وعلى العمل الصالح، ورغب في ذلك أهل القرن الثاني عشر، أم تراهم خفي عليهم حكم هذه المسألة، ولم يعلموها حتى ظهر هؤلاء فعلموها ؟ سبحان الله ما أعظم شأنه(8/48)
وأعز سلطانه، فإن ادعى أحد أن الصحابة فعلوا هذا الوقف فهذا عين الكذب والبهتان والدليل على أن هذا أن هذا الذي تتبع الكتب، وحرص على الأدلة لم يجد إلا ما ذكره ونحن نتكلم على ما ذكره. فأما حديث أبى هريرة الذي فيه (( صدقة جارية )) فهذا حق وأهل العلم استدلوا به على من أنكر الوقف على اليتيم وابن السبيل والمساجد، ونحن أنكرنا على من غير حدود الله وتقرب بما لم يشرعه ولو فهم الصحابة وأهل العلم هذا الوقف من هذا الحديث لبادروا إليه، وأما حديث عمر أنه تصدق بالأرض على الفقراء والرقاب والضيف وذوي القربى وأبناء السبيل فهذا بعينه من أبين الأدلة على مسألتنا، وذلك أن من احتج على الوقف على الأولاد ليس له حجة إلا هذا الحديث لأن عمر قال : لا جناح على من وليه أن يأكل بالمعروف، وإن حفصة وليته، ثم وليه عبد الله بن عمرو فاحتجوا بأكل حفصة وأخيها دون بقية الورثة، وهذه الحجة من أبطل الحجج، وقد بينه الشيخ الموفق رحمه الله والشارح، وذكروا أن أكل الولي ليس زيادة على غيره وإنما ذلك أجرة عمله كما كان في زماننا هذا يقول صاحب الضحية لوليها الجلد والأكارع ففي هذا دليل من جهتين :
الأولى : أن من وقف من الصحابة مثل عمر وغيره لم يوقفوا على ورثتهم ولو كان خيراً لبادروا إليه، وهذا المصحح لم يصحح بقوله : (( ثم أدناك أدناك )) فإذا كان وقف عمر أولاده أفضل من الفقراء، وأبناء السبيل فما باله لم يوقف عليهم أتظنه اختار المفضول وترك الفاضل أم تظن أنه هو ورسوله الله صلى الله عليه وسلم الذي أمره لم يفهما حكم الله ؟(8/49)
الثانية : أن من احتج على صحة الوقف على الأولاد وتفضيل البعض لم يحتج إلا بقوله تليه حفصة، ثم ذو الرأي، وإنه يأكل بالمعروف، وقد بينا معنى ذلك وأنه لم يبر أحداً، وإنما جعل ذلك للولي عن تعبه في ذلك فإذا كان المستدل لم يجد عن الصحة إلا هذا تبين لك أن قولهم تصدق أبو بكر بداره على ولده وتصدق فلان وفلان، وأن الزبير خص بعض بناته، ليس معناه كما فهموا، وإنما معناه أنهم تصدقوا بما ذكر صدقة عامة على المحتاجين، فكان أولاده إذا قدموا البلد نزلوا تلك الدار لأنهم من أبناء السبيل كما يوقف الإنسان مسقاة ويتوضأ منها وينتفع بها هو وأولاده مع الناس، وكما يوقف مسجداً ويصلى فيه. وعباده البخاري في صحيحه : وتصدق أنس بدار فكان إذا قدم نزلها وتصدق الزبير بدوره، واشترط للمردودة من بناته أن تسكنها. فتأمل عبارة البخاري يتبين لك أن ما ذكر عن الصحابة مثل من وقف نخلا عن المفطرين من الفقراء في هذا المسجد ويقول : إن افتقر أحد من ذريتي فليفطر معهم فأين هذا من وقف الجنف والإثم ؟ على أن هذه العبارة كلام الحميدي والحميدي في زمن القاضي أبي يعلي، وأجمع أهل العلم على أن مراسيل المتأخرين لا يجوز الاحتجاج بها فمن احتج بها فقد خالف الإجماع هذا لو فرضنا أنه يدل على ذلك فكيف وقد بينا معناه ولله الحمد ؟(8/50)
إذا تبين لك أن من أجاز الوقف على الأولاد والتفصيل لم يجد إلا حديث عمر، وقوله ليس على من وليه جناح وأن الموفق وغيره ردوا على من احتج به تبين لك أن حديث عمر من أبين الأدلة على بطلان وقف الجنف والإثم، وأما قوله لم يكن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا وقف فهل هذا يدل على صحة وقف الجنف والإثم، وما مثله إلا كمن رأى رجلا يصلي في أوقات النهي فأنكر عليه فقال : ( أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى )، ويقول إن أصحاب رسول الله عليه وسلم يصلون أو يذكر فضل الصلوات، وكذلك مسألتنا إذا قلنا : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) – ( ولهن الربع مما تركتم ) وغير ذلك، أو قلنا إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث أو قلنا إن النبي صلى الله عليه وسلم غلظ القول فيمن تصدق بماله كله، أو قلنا : (( اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم )) وادعو علينا أنم الصحابة وقفوا أهل أنكرنا الوقف كأهل الكوفة حتى يحتج علينا بذلك ؟(8/51)
وأما قول أحمد من رد الوقف فكأنما رد السنة فهذا حق ومراده وقف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما ذكره أحمد في كلامه. وأما وقف الإثم والجنف فمن رده فقد عمل بالسنة ورد البدعة، واتبع القرآن، وأما قوله إن في صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأكل بالمعروف، وإن زيداً وعمراً سكنا داريهما التى وقفا، فيا سبحان الله من أنكر هذا ؟ وهذا كمن وقف مسجداً وصلى فيه وذريته، أو وقف مسقاة واستسقى منها وذريته، وقول الخرقي والظاهر أنه عن شرط فكذلك وهذا شرط صحيح وعمل صحيح كمن وقف داره على المسجد، أو أبناء السبيل، أو استثنى سكناها مدة حياته، وكل هذا يردون به على أهل الكوفة فإن هذا ليس من وقف الجنف والإثم. وأما قوله : (( ابدأ بنفسك ثم بمن تعول )) وقوله : (( صدقتك على رحمك صدقة وصلة )) وقوله : (( ثم أدناك أدناك )) وأشباه ذلك فكل هذا صحيح لا إشكال فيه لكن لا يدل على تغيير حدود الله. فإذا قال : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) ووقف الإنسان على أولاده ثم أخرج نسل الإناث محتجاً بقوله : (ثم أدناك أدناك ) أو صلة الرحم فمثلة كمثل رجل أراد أن يتزوج خالة أو عمة فقيرة فتزوجها يريد الصلة واحتج بتلك الأحاديث، فإن قال إن الله حرم نكاح الخالات والعمات، قلنا وحرم تعدي حدود الله التي حد في سورة النساء قال تعالى : (( ومن يعص الله ورسوله ويتعدّ حدوده يدخله ناراً خالداً فيها )) فإذا قال الوقف ليس من هذا، قلنا : هذا مثل قوله من تزوج خالته إذا تزوجها لفقرها ليس من هذا، فإذا كان عندكم بين المسألتين فرق فبينوه. وأما قول عمر : إن حدث بي حادث فإن ثمغى صدقة هذا يستدلون به على تعليق الوقف بالشرط وبعض العلماء يبطله، فاستدلوا به على صحته، وأما القول بأن عمر وقفه على الورثة فيا سبحان الله كيف يكابرون النصوص، ووقف عمر وشرطه ومصارفه ثمغي وغيرها معروفة مشهورة، وأما قول عمر إلا سهمي الذي بخيبر أردت أن أتصدق به(8/52)
فهذا دليل على أهل الكوفة كما قدمناه، فأين في هذا دليل على صحة هذا الوقف الملعون ؟ الذي بطلانه أظهر من بطلان أصحاب بكثير.
وأما وقف حفصة الحلي على آل الخطاب فيا سبحان الله ؟ هل وقفت على ورثتها أو حرمت أحداً أعطاه الله، أو أعطت أحداً حرمه الله، أو استثنت غلته مدة حياتها، فإذا وقف محمد بن مسعود نخلا على الضعيف من آل مقرن أو مثل ذلك هل أنكرنا هذا، وهذا وقف حفصة فأين هذا مما نحن فيه ؟. وأما قولهم إن عمر وقف على ورثته، فإن كان المراد ولاية الوقف فهو صحيح وليس مما نحن فيه، فإن كان مراد ولاية الوقف صحيح وليس مما نحن فيه، فإن كان مراد القائل إنه ظن أنه وقف يدل على صحة ما نحن فيه، فهذا كذب ظاهر ترده النقول الصحيحة في صفة وقف عمر.(8/53)
وأما كون صفية وقفت على أخ لها يهودي فهو لا يرثها ولا ننكر ذلك، وأما كلام الحميدي فتقدم الكلام عنه. وسر المسألة أنك تفهم أن أهل الكوفة يبطلون الوقف على المساجد، وعلى الفقراء والقرابات الذين لا يرثونهم، فرد عليهم أهل العلم بتلك الأدلة الصحيحة، ومسألتنا هي إبطال هذا الوقف الذي يغير حدود الله، وإيتاء حكم الجاهلية وكل هذا ظاهر لا خفاء فيه، ولكن إذا كان الذي كتبه يفهم معناه وأراد به التلبيس على الجهال كما فعل غيره فالتلبيس يضمحل، وإن كان هذا قدر فهمه وأنه ما فهم هذا الذي تعرفه العوام فالخلف والخليفة على الله، وأما ختمه الكلام بقوله : (( ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا )) فيا لها من كلمة ما أجمعها و والله إن مسألتنا هذه من إنكارها، وقد أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم يلزم حدود الله والعدل بين الأولاد، ونهانا عن تغيير حدود الله، والتحيل على محارم الله، وإذا قدرنا أن مراد صاحب هذا الوقف وجه الله لأجل من أفتاه بذلك فقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البدع في دين الله ولو صحت نية فاعلها فقال : : (( من أحدث قي أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) وفي لفظ : ((ومن عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد )) هذا نص الذي قال الله فيه : ((وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا )) وقال ((وإن تطيعوه تهتدوا )) وقال : ((قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله )) فمن قبل ما آتاه الرسول، وانتهى عما نهى وأطاعه ليهتدي، واتبعه ليكون محبوباً عند الله فليوقف كما أوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما وقف عمر رضي الله عنه، وكما وقفت حفصة وغيرهم من الصحابة وأهل العلم، وأما هذا الوقف المحدث الملعون المغير لحدود الله فهذا الذي قال الله فيه بعد ما حد المواريث والحقوق للأولاد والزوجات وغيرهم : ((تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحته الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم.(8/54)
ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين )) وقد علمتم ما قال الرسول فيمن أعتق ستة من العبيد، وما رد وأبطل من ذلك فهو شبيه بمن أوقف ماله كله خالصاً لوجه الله على مسجد أو صوام أو غير ذلك، فكيف بما هو أعظم وأطم من هذه الأوقاف ؟
وأما قوله : (( يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون )) فوالله الذي لا إله إلا هو إن فعل الخير اتباع ما شرع الله، وإبطال من غير حدود الله، والإنكار على من ابتدع في دين الله، هذا هو فعل الخير المعلق به الفلاح خصوصاً مع قوله صلى الله عليه وسلم : (( وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة )) وقوله : (( لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل )) وقوله : (( لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا ثمنها )) فليتأمل اللبيب الخالي عن التعصب والهوى الذي يعرف أن وراءه جنة وناراً الذي يعلم أن الله يطع خفيات الضمير هذه النصوص ويفهمها فهماً جيداً، ثم ينزلها على مسئلة وقف الجنف والإثم فيتبين له الحق إن شاء الله، صلى الله على محمد وآله وسلم. هذا آخر ما ذكره الشيخ رحمة الله في الرد على من أجاز وقف الجنف وبيان الوقف الصحيح الموافق لما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الرسالة الثالثة عشرة
ص (87 )
وله أيضاً حشره الله في زمرة النبيين والصديقين
بسم الله الرحمن الرحيم
يعلم من يقف عليه أني وقفت على أوراق بخط ولد ابن سحيم صنفها يربد أن يصد بها الناس عن دين الإسلام، وشهادة أن لا إله إلا الله فأردت أن أنبه على ما فيها من الكفر الصريح وسب دين الإسلام، وما فيها من الجهالة التي يعرفها العامة، فأما تناقض كلامه فمن وجوه :(8/55)
الأول : أنه صنف الأوراق يسبنا ويرد علينا في تكفير كل من قال لا إله إلا الله، وهذا عمدة ما يشبه به على الجهال وعقولها، فصار في أوراقه يقول : أما من قال لا إله إلا الله لا يكفر، ومن ؟أم القبلة لا يكفر، فإذا ذكرنا لهم الآيات التي فيها كفره، وكفر أبيه، وكفر الطواغيت يقول نزلت في النصارى نزلت في الفلاني ثم رجع في أوراقه يكذب نفسه ويوافقنا ويقول : من قال إن النبي صلى الله عليه وسلم أملس الكف كفر ومن قال كذا كفر تارة يقول ما يوجد الكفر فينا، وتارة يقرر الكفر أعجب لبانيه يخربه.
الثاني : أنه ذكر في أوراقه أنه لا يجوز الخروج عن كلام العلماء وصادق في ذلك.
ثم ذكر فيها كفر القدرية، والعلماء لا يكفرونه فكفر ناساً لم يكفروا وأنكر علينا تكفير أهل الشرك.
الثالث : أنه ذكر معنى التوحيد أن تصرف جميع العبادات من الأقوال والأفعال لله وحده لا يجعل فيها شيء لا لملك مقرب ولا نبي مرسل، وهذا حق، ثم يرجع يكذب نفسه ويقول : إن دعاء شمسان وأمثاله في الشدائد والنذر لهم ليبرئوا المريض، ويفرجوا عن المكروب الذي لم يصل إليه عبدة الأوثان بل يخلصون في الشدائد لله، ويجعل هذا ليس من الشرك، ويستدل على كفره الباطل بالحديث الذي فيه أن الشيطان يئس أن يعبد في جزيرة العرب.
الرابع : أنه قسم التوحيد إلى نوعين توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية ويقول إن الشيخ بين ذلك، ثم يرجع يرد علينا في تكفير طالب الحمضي وأمثاله الذين يشركون بالله في توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، ويزعمون أن حسيناً وإدريس ينفعون ويضرون، وهذه الربوبية، ويزعم أنهم ينخون ويندبون وهذا توحيد الألوهية.(8/56)
الخامس : أنه ذكر في (( قل هو الله أحد )) أنها كافية في التوحيد فوحد نفسه الأفعال فلا خالق فلا خالق إلا الله، وفي الألوهية فلا يعبد إلا إياه، وبالأمر والنهي فلا حكم إلا لله، فيقرر هذه الأنواع الثلاثة، ثم يكفر بها كلها ويرد علينا ؛ فإذا كفرنا من قال إن عبد القادر والأولياء ينفعون ويضرون قال : كفرتم أهل الإسلام، وإذا كفرنا من يدعو شمسان وتاجا وحطاباً قال كفرتم أهل الإسلام، والعجب أنه يقول إن من التوحيد توحيد الله بالأمر والنهي فلا حكم إلا لله، ثم يرد علينا إذا عملنا بحكم الله ويقول من عمل بالقرآن كفر والقرآن ما يفسر.
السادس : أنه ينهي عن تفسير القرآن ويقول ما يعرف، ثم يرجع يفسره في تصنيفه، ويقول قل هو الله أحد فيها كفاية، فلما فسرها كفر بها.
السابع : أنه ذكر أن التوحيد له تعلق بالصفات وتعلق بالذات، وقبل ذلك قد كتب إلينا أن التوحيد في ثلاث كلمات أن الله ليس على شيء وليس في ولا من شيء، فتارة يذكر أن التوحيد إثبات الصفات، وتارة ينكر ذلك ويقول التوحيد نفي الصفات.
الثامن : أنه ذكر آيات في الأمر بالتوحيد، وآيات في الأمر بالتوحيد، وآيات في النهي عن الشرك ثم قال المراد بهذا الشرك في هذه الآيات والأحاديث الشرك الجلي كشرك عباد الشمس لا على العموم كما يتوهمه بعض الجهال فصرح بأن مراد الله، ومراد النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل فيه إلا عبادة الأوثان وأن الشرك الأصغر لا يدخل فيه، ويسمى الذين أدخلوه فيه الجهال ثم في آخر الصفح بعينه قال : وقد يطلق الشرك بعبارات أخر وكل ذلك في قوله : (( وما أنا من المشركين )) فرد علينا في أول الصفح وكذب على الله ورسوله في أن معنى ذلك بعض الشرك، ثم رجع يقرر ما أنكره ويقول إن الشرك الأكبر والأصغر داخل في قوله : (( وما أنا من المشركين ))(8/57)
التاسع : أنه ذكر أن الشرك أربعة أنواع : شرك الألوهية، وشرك الربوبية وشرك العبادة، وشرك الملك، وهذا كلام من لا يفهم ما يقول فإن شرك العبادة هو شرك الالهية وشرك الربوبية هو شرك الملك.
العاشر : أنه قال في مسألة الذبح والنذر، ومن قال إن النذر والذبح عبادة فهو منه دليل على الجهل لأن العبادة ما أمر به شرعاً من غير اطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي لكن البهيم لا يفهم معنى العبادة فاستدل على النقي بدليل الإثبات.
الحادي عشر : بعد أربعة أسطر كذب نفسه في كلامه هذا فقال من ذبح لمخلوق يقصد به التقرب، أو لرجاء نفع، أو دفع ضر من دون الله فهذا كفر، فتارة يرد علينا إذا قلنا إنه عبادة وتارة يكفر من فعله.
الثاني عشر : أنه قرر أن من ذبح لمخلوق لدفع ضر أنه يكفر، ثم قرر أن الذبح للجن ليس بكفر.
الثالث عشر : أنه رد علينا في الاستدلال بقوله : (( فصل لربك وانحر )) ثم رجع يقرر ما قلنا بكلام البغوي كان ناس يذبحون لغير الله فنزلت فيهم الآية فيا سبحان الله ما من عقول تفهم أنم هذا الرجل من البقر التي لا تميز بين التين والعنب والحمد لله رب العالمين.
الرسالة الرابعة عشرة
ص (93 )
وله رسالة إلى البكبلي صاحب اليمن.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي نزل الحق في الكتاب، وجعله تذكره لأولي الألباب، ووفق من من عليه من عباده للصواب، لعنوان الجواب وصلى الله وسلم وبارك على نبيه ورسوله وخيرته من خلفه محمد وعلى آله وشيعته وجميع الأصحاب، ما طلع نجم وغاب، وانهل وابل من سحاب.
من عبد العزيز بن محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب. إلى الأخ في الله أحمد بن محمد العديلي البكبلي سلمه الله من جميع الآفات واستعمله بالباقيات الصالحات، وحفظه من جميع البليات، وضاعف له الحسنات، ومحا عنه السيئات.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد :(8/58)
لفانا كتابكم وسر الخاطر بما ذكرتم فيه من، سؤالكم وما بلغنا على البعد من أخباركم وسؤالكم عما نحن عليه وما دعونا الناس إليه فأردنا أن نكشف عنكم الشبهة بالتفصيل ونوضح لكم القول الراجح بالدليل، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يسلك بنا ربكم أحسن منهج وسبيل.
أما ما نحن عليه من الدين فعلى دين الإسلام الذي قال الله فيه : (( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين )) وأما ما دعونا الناس إليه فندعوهم إلى التوحيد الذي قال الله فيه خطاباً لنبيه صلى الله عليه وسلم : (( قل هذه سبيلي أدعو إلى على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ))وقوله تعالى : (( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً )) وأما ما نهينا الناس عنه فنهيناهم عن الشرك الذي قال الله فيه : (( ومن يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ))، وقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على سبيل التغليط وإلا فهو منزه هو وإخوانه عن الشرك : (( ولقد أوحي إليك وإلى الذين من فبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين )) وغير ذلك من الآيات ونقاتلهم عليه كما قال تعالى : (( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة )) أي شرك (( ويكون الدين كله لله )) وقوله تعالى : فاقتلوا المشركين حيث وجد تموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم )) وقوله صلى الله عليه وسلم : (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل )) وقولة تعالى (( فاعلم أنه لا إله إ لا الله )) وسماها سبحانه بالعروة الوثقى وكلمة التقوى وسموها الطواغيت كلمة الفجور، من قال لا إله إلا الله عصم دمه وماله ولو هدم أركان الإسلام الخمسة، وكفر(8/59)
بأصول الإيمان الستة.
وحقيقة اعتقادنا أنها تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح وإلا فالمنافقون في الدرك الأسفل من النار أنهم يقولون لا إله إلا الله، بل ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، بل ويصومون، ويحجون، ويجاهدون وهم مع ذلك تحت آل فرعون في الدرك الأسفل من النار، وكذلك ما نصه الله سبحانه عن بلعام وضرب له مثلا بالكلب ما معه من العلم فضلا عن الاسم الأعظم :
وعالم بعلمه لم يعملن معذب من قبل عباد الوثن
وأما ما ذكرتم من حقيقة الاجتهاد فنحن مقلدون الكتاب والسنة وصالح سلف الأمة، وما عليه الاعتماد من أقوال الأئمة الأربعة أبي حنيفة النعمان بن ثابت ومالك بن أنس، ومحمد بن إدريس، وأحمد بن حنبل رحمهم الله تعالى.
وأما ما سألتم عنه من حقيقة الإيمان فهو التصديق وأنه يزيد بالأعمال الصالحة، وينقص بضدها قال الله تعالى : (( ويزداد الذين آمنوا إيماناً )) وقوله (( فأما الدين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون )) وقوله تعالى : (( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً )) وغير ذلك من الآيات. قال الشيباني رحمه الله :
وإيماننا قول وفعل ونية ويزداد بالتقوى وينقص بالردى(8/60)
وقوله صلى الله وعليم وسلم : (( الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول : لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن طريق )) وقوله صلى الله عليه وسلم : ((فإن لم يستطيع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان )) وقوله تعالى : (( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم )) (( وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود )) فقال الطواغيث الذي قال الله فيهم : (( اتخذوا أخبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله )) : إن فساق مكة حشو الجنة مع أن السيئات تضاعف فيها كما تضاعف الحسنات فانقلبت القضية بالعكس حتى آل الأمر إلى الهتيميات المعروفات بالزنا والمصريات يأتون وفوداً يوم الحج الأكبر كل من الأشراف معروفة بغيته منهن جهاراً وأن أهل اللواط وأهل الشرك والرافضة وجميع الطوائف من أعداء الله ورسوله آمنين فيها، وأن من دعا أبا طالب آمن، ومن وحد الله وعظمه ممنوع من دخولها ولو استجار بالكعبة ما أجارته، وأبو طالب والهتيميات بجيرون من استجار بهم سبحانك هذا بهتان عظيم ( وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون).
وما جئنا بشيء يخالف النقل ولا ينكره العقل ولكنهم يقولون ما لا يفعلون ونحن نقول ونفعل ( كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) نقاتل عباد الأوثان كما قاتلهم صلى الله عليه وسلم ونقاتلهم على ترك الصلاة وعلى منع الزكاة كما قاتل مانعها صديق هذه الأمة أبو بكر الصديق رضي الله عنه ولكن ما هو إلا كما قال ورقة بن نوفل ما أتى أحد بمثل ما أتيت به إلا عودي وأوذي وأخرج وما قل وكفى خير مما كثر وألهي.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(8/61)
الرسالة الخامسة عشرة
ص ( 99 )
وأرسل إليه صاحب اليمن.
بسم الله الرحمن الرحيم
من إسماعيل الجراعي إلى من وقفه الله محمد بن عبد الوهاب.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته..... أم بعد
بلغني على ألسن الناس عنك ممن أصدق علمه وما لا أصدق والناس اقتسموا فيكم بين قادح ومادح فالذي سرني عنك الإقامة على الشريعة في آخر هذا الزمان وفي غربة الإسلام أنك تدعو به وتقوم أركانه فوالله الذي لا إله غيره مع ما نحن فيه عند قومنا ما نقدر على ما تقدر عليه من بيان الحق والإعلان بالدعوة.
وأما قول من لا أصدق أنك تكفر بالعموم ولا تبغي الصالحين ولا تعمل بكتب المتأخرين فأنت أخبرني واصدقني بما أنت عليه وما تدعو الناس إليه ليستقر عندنا خبرك ومحبتك.
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى إسماعيل الجراعي :
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.... أما بعد
فما تسأل عنه فنحمد الله الذي لا إله غيره ولا رب لنا سواه فلنا أسوة وهم الرسل عليهم الصلاة والسلام أجمعين، وأما ما جرى لهم مع قومهم وما جرى لقومهم معهم فهم قدرة وأسوة لمن اتبعهم.
فما تسأل عنه من الاستقامة على الإسلام فالفضل لله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( بدأ الإسلام غربياً وسيعود غريباً كما بدأ )).
وأما القول إنا نكفر بالعموم فذلك من بهتان الأعداء الذين يصدون به عن هذا الدين ونقول سبحانك هذا بهتان عظيم.
وأما الصالحون فهم على صلاحهم رضي الله عنهم ولكن نقول ليس لهم شيء من الدعوة قال الله : (( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً ))
وأما المتأخرون رحمهم الله فكتبهم عندنا فنعمل بما وافق النص منها وما لا يوافق النص لا نعمل به.(8/62)
فاعلم رحمك الله أن الذي ندين به وندعو الناس إليه إفراد الله بالدعوة وهي دين الرسل قال الله (( وإذا أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله )) فانظر رحمك الله ما أحدث الناس من عبادة غير الله فتجده في الكتب جعلني الله وإياك ممن يدعو إلى الله على بصيرة كما قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : (( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين )) وصلى الله على محمد.(8/63)
الرسالة السادسة عشرة
ص (103 )
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام التام على سيدنا محمد الأنام وعل آله وأصحابه البررة الكرام إلى عبد الله بن عبد الله الصنعاني وفقه الله وهداه وجنبه الإشراك والبدعة وحماه. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته أما بعد. فوصل الخط وتضمن السؤال فيه عما نحن عليه من الدين ( فنقول ) وبالله التوفيق الذي ندين به عبادة الله وحده لا شريك له، والكفر بعبادة غيره ومتابعة الرسول النبي الأمي حبيب الله وصفيه من خلقه محمد صلى الله عليه وسلم فأما عبادة الله فقال : (( وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون )) وقال تعالى: (( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ))، فمن أنواع العبادة الدعاء وهو الطلب بياء النداء لأنه ينادي به القريب والبعيد، وقد يستعمل في الاستغاثة أو بأحد أخواتها من حروف النداء، فإن العبادة اسم جنس، فأمر تعالى عباده أن يدعوه ولا يدعوا معه غيره فقال تعالى : (( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين )) وقال في النهي : (( وإن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً )) وأحداً كلمة تصدق على كل ما دعي مع الله تعالى، وقد روى الترمذي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الدعاء مخ العبادة، وعن النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( الدعاء هو العبادة )) ثم قرأ : (( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم )) رواه أحمد وأبو داود والترمذي قال العلقمي في شرح الجامع الصغير حديث الدعاء مخ العبادة قال شيخنا : قال في النهاية مخ الشيء خالصه وإنما كان مخها لأمرين :
أحدهما : انه امتثال لأمر الله تعالى حيث قال : (( ادعوني استجب لكم )) فهو مخ العبادة وهو خالصها.(8/64)
الثاني : أنه إذا رأى نجاح الأمور من الله قطع أمله عما سواه ودعاه لحاجته وحده، ولأن الغرض من العبادة هو الثواب عليها وهو المطلوب بالدعاء وقوله : الدعاء هو العبادة قال شيخنا قال الطيبي أتى بالخبر المعرف باللام ليدل على الحصر وأن العبادة ليست غير الدعاء انتهى كلام العلقمي.
إذا تقرر هذا فنحن نعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لأمته أن يدعوا أحداً من الأموات لا الأنبياء ولا الصالحين ولا غيرهم بل نعلم أنه نهى عن هذه الأمور كلها وأن ذلك من الشرك الأكبر الذي حرمه الله ورسوله قال تعالى : (( ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون. وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين )) وقال تعالى : (( فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين )) وقال (( ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك )) الآيات، وهذا من مغنى لا إله إلا الله فإن ( لا ) هذه النافية للجنس فنفى جميع الآلهة و ( إلا ) حرف استثناء يفيد حصر جميع العبادة على الله عز وجل، ( والإله ) اسم صفة لكل معبود بحق أو باطل ثم غلب على المعبود بحق وهو الله تعالى وهو الذي بخلق ويرزق ويدبر الأمور (( والتأله )) التعبد قال الله تعالى : (( وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم )) ثم ذكر الدليل فقال : (( إن في خلق السموات والأرض إلى قوله : (( ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً ) ). الآية.(8/65)
وأما متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فواجب على أمته متابعته في الاعتقادات والأقوال والأفعال قال الله تعال : (( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله )) وقال صلى الله عليه وسلم من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) رواه البخاري ومسلم (( وفي رواية لمسلم : (( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد )) فتوزن الأقوال والأفعال بأقواله وأفعاله فما وافق منها قبل وما خالف رد على فاعله كائنا من كان، فإن شهادة أن محمداً رسول الله تتضمن تصديقه فيما أخبر به وطاعته ومتابعته في كل ما أمر به وقد روى البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قيل : ومن يأبى قال : من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى.
فتأمل رحمك الله ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعده والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين وما عليه الأئمة المقتدى بهم من أهل الحديث والفقهاء كأبي حنفية ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين لكي نتبع آثارها.
وأما مذهبنا فمذهب الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة، ولا ننكر على أهل المذاهب الأربعة إذا لم يخالف نص الكتاب والسنة وإجماع الأمة وقول جمهورها.
والمقصود بيان ما نحن عليه من الدين وأنه عبادة الله وحده لا شريك له فيها بخلع جميع الشرك، ومتابعة الرسول فيها نخلع جميع البدع إلا بدعة لها أصل في الشرع كجمع المصحف في كتاب واحد وجمع عمر رضي الله عنه الصحابة على التراويح جماعة وجمع ابن مسعود أصحابه عل القصص كل خميس ونحو ذلك خميس ونحو ذلك فهذا حسن والله أعلم.(8/66)
الرسالة السابعة عشرة
ص ( 109 )
وله أيضاً قدس الله روحه ونور ضريحه رسالة إلى أهل المغرب هذا نصها :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، ولن يضر إلا نفسه ولن يضر الله شيئاً وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد. فقد قال الله تعالى : ((قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين )) وقال تعالى: (( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم )) وقال تعالى : (( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وقال تعالى : (( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً )) فأخبر سبحانه أنه أكمل الدين وأتمه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وأمرنا بلزوم ما أنزل إلينا من ربنا، وترك البدع والتفرق والاختلاف فقال تعالى: (( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء ؛ قليلاً ما تذكرن )) وقال تعالى : (( وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون )) والرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأن أمته تأخذ مأخذ القرن قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع وثبت في الصحيحين وغيرهما عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه )) قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ وأخبر في الحديث الآخر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قالوا : من هي يا رسول الله ؟
قال : من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي.(8/67)
إذا عرف هذا فمعلوم ما قد عمت به البلوى من حوادث الأمور التي أعظمها الإشراك بالله والتوجه إلى الموتى وسؤالهم النصر على الأعداء وقضاء الحاجات وتفريج الكربات التي لا يقدر عليها إلا رب الأرض والسموات وكذلك التقرب إليهم بالنذر وذبح القربان، والاستغاثة بهم في كشف الشدائد وجلب الفوائد إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي لا تصلح إلا لله. وصرف شيء من أنواع العبادة لغير الله كصرف جميعها لأنه سبحانه أغنى الشركاء عن الشرك ولا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً كما قال تعالى: " فاعبد الله مخلصاً له الدين ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدى من هو كاذب كفار فأخبر سبحانه أنه لا يرضى من الدين إلا ما كان خالصاً لوجهه وأخبر أن المشركين يدعون الملائكة والأنبياء والصالحين ليقربوهم إلى الله زلفى ويشفعوا لهم عنده، وأخبر أنه لا يهدي من هو كاذب كفار فكذبهم في هذه الدعوى وكفرهم فقال : (( إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار )) وقال تعالى : ((ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون )) فاخبر أن من جعل بينه وبين الله وسائط يسألهم الشفاعة فقد عبدهم وأشرك بهم وذلك أن الشفاعة كلها لله كما قال تعالى : (( قل لله الشفاعة جميعاً )).(8/68)
فلا يشفع عنده أحد إلا كما قال تعالى : (( من ذا الذي يشفع عنده إلا بأذنه )) وقال تعالى : (( يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا )) وهو سبحانه لا يرض إلا التوحيد كما قال تعالى : (( ولا يشفعون إلا لمن ارتض ) ) وقال تعالى : (( قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ومالهم فيها من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له )) فالشفاعة حق ولا تطلب في دار الدنيا إلا من الله تعالى كما قال تعالى : (( وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحداً )) وقال : (( ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين )) فإذا كان الرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد الشفعاء، وصاحب المقام المحمود، وآدم فمن دونه تحت لوائه لا يشفع إلا بإذن الله لا يشفع إبتداء بل : (( يأتي فيخر ساجداً فيحمده بمحامد يعلمه إياها ثم يقال ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع ثم يحد له حداً فيدخلهم الجنة )) فكيف بغيره من الأنبياء والأولياء ؟
وهذا الذي ذكرناه لا يخالف فيه أحد من علماء المسلمين بل قد أجمع عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم ممن سلك سبيلهم ودرج على منهجهم.
وأما ما صدر من سؤال الأنبياء والأولياء الشفاعة بعد موتهم وتعظيم قبورهم ببناء القباب عليها والسرج والصلاة عندها واتخاذها أعياداً وجعل السدنة والنذور لها فكل ذلك من حوادث الأمور التي أخبر بوقوعها(8/69)
النبي صلى الله عليه وسلم وحذر منها كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان )) وهو صلى الله عليه وسلم حمى جناب التوحيد أعظم حماية وسد كل طريق يوصل إلى الشرك فنهى أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه كما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر، وثبت فيه أيضاً أنه بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأمره أن لا يدع فبراً مشرفاً إلا سواه ولا تمثال إلا طمسه ولهذا قال غير واحد من العلماء يجب هدم القبب المبنية على القبور لأنها أسست على معصية الرسول صلى الله عليه وسلم.
فهذا هو الذي أوجب الاختلاف بيننا وبين الناس حتى آل بهم الأمر إلى أن كفرونا وقاتلونا واستحلوا دماءنا وأموالنا حتى نصرنا الله عليهم وظفرنا بهم، وهو الذي ندعو الناس إليه ونقاتلهم عليه بعد ما نقيم عليهم الحجة من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع السلف الصالح من الأئمة ممتثلين لقوله سبحانه وتعالى : (( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله )) فمن لم يجب الدعوة بالحجة والبيان قاتلناه بالسيف والسنان كما قال تعالى : (( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلهم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز ))، وندعو الناس إلى إقام الصلاة في الجماعات على الوجه المشروع وإيتاء الزكاة وصيام شهر رمضان وحج بيت الله الحرام ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر كما قال تعالى : (( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور )).
فهذا هو الذي نعتقد وندين الله به فمن عمل بذلك فهو أخونا المسلم له ما لنا وعليه ما علينا.(8/70)
ونعتقد أيضاً أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم المتبعين لسنته لا تجتمع على ضلالة وأنه لا تزال طائفة من أمته على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، وصلى الله على محمد.
القسم الثاني / بيان أنواع التوحيد
ص ( 117 )
الرسالة الثامنة عشرة
ص ( 119 )
بسم الله الرحمن الرحيم
وسئل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى.
قال السائل : ما يقول الشيخ شرح الله صدره، ويسر له أمره، في مسائل أشكلت علي فيما يجب علينا من معرفة الله، إذا كان موجب الإلهية الربوبية وأراك قليل التعريج عليها عند تقرير الإلهية ؟ ويشكل علي أيضاً كون مشركي العرب أقروا به، هل يكون من غير معرفة لوضوحه أم توغلوا في التقليد ولم يلتفتوا للحقيقة الموجبة للعبادة، أم زعمهم إن هذا شيء يرضاه الرب أم كيف الحال ؟ أيضاً كلمة التوحيد كونها محتوية على جميع الدين من إنزال الكتب وإرسال الرسل، وأنها نافية جميع المقصودات المسمات بالآلهة الباطلة إذ حدها القصد فتسمى بذلك من غير استحقاق لأنها مخلوقة مربوبة مقهورة، والواحد في القصد هو الواحد في الخلق وإن تكلم الناس في معناها وعملها، وأن ألفاظها مجردة من غير معرفة لا يفيد شيئاً، لكن نظرت في حديث الشفاعة الكبرى عند قوله سبحانه : (( عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً )) وإخراجه العصاة من أمته بإذن ربه حتى قال : (( إنذن لي فيمن قال : لا إله إلا الله )) هذا مشكل علي جداً وقاصر فهمي عن معرفته إذا كان كلمة التوحيد هي الغاية وتقييدها بالمعرفة مع العمل، وإخراجه صلى الله عليه وسلم من كان في قلبه أدنى مثقال حبة خردل من إيمان فأنت جزاك الله خيراً بين لي معنى هذا الكلام لا أضل ولا أضل، وأخبرك أني غافل الفهم في الربوبية ما فهمي بجيد في الإلهية فحين بان لي شيء من معرفتها واتضح لي بعض المعرفة في الإلهية بضرب المثل : أن فيصل ما استعبد لعريعر إلا لأجل كبر ملك عريعر مع أنه(8/71)
قبيل له، وأظن غالب الناس كذلك وفيهم من لا يرى الربوبية ولا يعتبرها أو يتهاون بها وهذا تسمعه من بعضهم فجزاك الله خيراً صرح بالجواب فأجاب.
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى الأخ حسن، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ( وبعد ) سرني ما ذكرت من الإشكال وانصرافك إلى الفكرة في توحيد الربوبية، ولا يخفاك أن التفصيل يحتاج إلى أطوال، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله؛ فأما توحيد الربوبية فهو الأصل ولا يغلط في الإلهية إلا من لم يعطه حقه، كما قال تعالى، فيمن أقر بمسئلة منه : (( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون )) ومما يوضح لك الأمر أن التوكل من نتائجه والتوكل من أعلى مقامات الدين ودرجات المؤمنين وقد تصدر الإنابة والتوكل من عابد الوثن بسبب معرقته بالربوبية، كما قال تعالى : (( وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيباً إليه )) الآية، وأما عبادته سبحانه بالإخلاص دائماً في الشدة والرخاء فلا يعرفونها وهي نتيجة الإلهية، وكذلك الإيمان بالله واليوم الآخر، والإيمان بالكتب ؛ والرسل وغير ذلك، وأما الصبر والرضا، والتسليم والتوكل، والإنابة، والتفويض والمحبة، والخوف، والرجاء، فمن نتائج توحيد الربوبية، وهذا وأمثاله لا يعرف إلا بالتفكر لا بالمطالعة، وفهم العبارة، وأما الفرق بينهما فإن أفراد أحدهما مثل قوله : (( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا )) فهو توحيد الإلهية ؛ وكذلك إذا أفرد توحيد الإلهية مثل قوله : (( فاعلم أنه لا إله إلا الله )) وأمثال ذلك ؛ فإن قرن بينهما فسرت كل لفظة بأشهر معانيها كالفقير والمسكين.
وأما ما ذكرت من أهل الجاهلية كيف لم يعرفوا الإلهية إذا أقروا بالربوبية هل هو كذا أو كذا أو غير ذلك فهو لمجموع ما ذكرت وغيره ؟(8/72)
وأعجب من ذلك ما رأيت وسمعت ممن يدعى أنه أعلم الناس، ويفسر القرآن ويشرح الحديث بمجلدات ثم يشرح ( البردة ) ويستحسنها ويذكر في تفسيره وشرحه للحديث أنه شرك، ويموت ما عرف ما خرج من رأسه، هذا هو العجب العجاب، أعجب بكثير من ناس لا كتاب لهم ولا يعرفون جنة ولا ناراً، ولا رسولا ولا إلهاً، وأما كون لا إله إلا الله تجمع الدين كله، وإخراج من قالها من النار إذا كان في قلبه أدنى مثقال ذرة، فلا إشكال في ذلك : وسر المسألة أن الإيمان يتجزأ، ولا يلزم إذا ذهب بعضه أن يذهب كله، بل هذا مذهب الخوارج، فالذي يقول الأعمال كلها من ( لا إله إلا الله ) فقوله الحق، والذي يقول يخرج من النار من قالها وفي قلبه من الإيمان مثقال ذرة فقوله الحق، السبب مما ذكرت لك من التجزي، وبسبب الغفلة عن التجزي غلط أبو حنيفة وأصحابه في زعمهم، أن الأعمال ليست من الإيمان والسلام.
الرسالة التاسعة عشرة
ص ( 123 )
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته خصوصاً محمد بن عبيد وعبد القادر العديلي وابنه وعبد الله بن سحيم وعبد الله بن عضيب وحميدان بن تركي وعلي بن زامل ومحمد أبا الخيل وصالح بن عبد الله، أما بعد.(8/73)
فإن الله تبارك وتعالى أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إلينا على حين فترة من الرسل فهدى الله به إلى الدين الكامل والشرع التام وأعظم ذلك وأكبره، وزبدته هو إخلاص الدين لله بعبادته وحده لا شريك له والنهي عن الشرك وهو أن لا يدعى أحداً من أحد من دونه من الملائكة والنبين فضلاً عن غيرهم، فمن ذلك أنه لا يسجد إلا لله ولا يركع إلا له ولا يدعى لكشف الضر إلا هو ولا لجلب الخير إلا هو ولا ينذر إلا له ولا يحلف إلا به ولا يذبح إلا له وجميع العبادات لا تصلح له وحده لا شريك له، وهذا معني قول لا إله إلا الله فإن المألوه هو المقصود المعتمد عليه وهذا أمر هين عند من لا يعرفه كبير عظيم عند من عرفه، فمن عرف هذه المسألة عرف أن أكثر الخلق قد لعب بهم الشيطان وزين لهم الشرك بالله وأخرجه في قالب حب الصالحين وتعظيمهم.
والكلام في هذا ينبني على قاعدتين عظيمتين :
( القاعدة الأولى ) : أن تعرف أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرفون الله ويعظمونه ويحجون ويعتمرون ويزعمون أنهم على دين إبراهيم الخليل، وأنهم يشهدون أنه لا يخلق ولا يرزق ولا يدبر الأمر إلا الله وحده لا شريك له كما قال تعالى : " قل من يرزقكم من السماء والأرض الآية فإذا عرفت أن الكفار يشهدون بهذا كله فاعرف :(8/74)
( القاعدة الثانية ) : وهي أنهم يدعون الصالحين مثل الملائكة وعيسى وعزيز وغيرهم وكل من ينتسب إلى شيء من هؤلاء سماه إلهاً ولا يعنى بذلك أن يخلق أو يرزق بل يدعون الملائكة وعيسى ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله، ويقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى والإله في لغتهم هو الذي يسمى في لغتنا الذي فيه سر والذين يسمونه الفقراء شيخهم يعنون بذلك أنه يدعى وينفع ويضر إلا أنهم مقرون لله بالتفرد بالخلق والرزق وليس ذلك معنى الإله به الإله المقصود المدعو المرجو لكن المشركون في زماننا أضل من الكفار في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجهين :
أحدهما : أن الكفار إنما يدعون الأنبياء والملائكة في الرخاء، وأما في الشدائد فيخلصون لله الدين كما قال تعالى : (( وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه))الآية.(8/75)
والثاني أن مشركي زماننا يدعون أناساً لا يوازنون عيسى والملائكة. إذ عرفتم هذا فلا يخفى عليكم ما ملأ الأرض من الشرك الأكبر عبادة الأصنام هذا يأتى إلى قبر نبي، وهذا إلى قبر صحابي كالزبير وطلحة، وهذا إلى قبر رجل صالح، وهذا يدعوه في الضراء وفي غيبته، وهذا ينذر له وهذا يذبح للجن، وهذا يدخل عليه من مضرة الدنيا والآخرة، وهذا يسأله خير الدنيا والآخرة فإن كنتم تعرفون أن هذا من الشرك كعبادة الأصنام الذي يخرج الرجل من الإسلام، وقد ملأ البر والبحر وشاع وذاع حتى إن كثيراً ممن يفعله يقوم الليل ويصوم النهار وينتسب إلى الصلاح والعبادة فما بالكم لم تفشوه في الناس وتبينوا لهم أن هذا كفر بالله مخرج عن الإسلام أرأيتم لو أن بعض الناس أو أهل بلدة تزوجوا أخواتهم أو عماتهم جهلا منهم أفيحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتركهم لا يعلمهم أن الله حرم الأخوات والعمات، فإن كنتم تعتذرون أن نكاحهم أعظم مما يفعله الناس اليوم عند قبور الأولياء والصحابة، وفي غيبتهم عنها فاعلموا أنكم لم تعرفوا دين الإسلام ولا شهادة أن لا إله إلا الله ودليل هذا مما تقدم من الآيات التي بينها الله في كتابه، وإن عرفتم ذلك فكيف يحل لكم كتمان ذلك والإعراض عنه، وقد أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فإن كان الاستدلال بالقرآن عندكم هزؤاً وجهلا كما هي عادتكم ولا تقبلونه فانظروا في ( الإقناع ) في باب حكم المرتد، وما ذكر فيه من الأمور الهائلة التي ذكر أن الإنسان إذا فعلها فقد ارتد وحل دمه مثل الاعتقاد في الأنبياء والصالحين، وجعلهم وسائط بينه وبين الله، ومثل الطيران في الهواء، والمشي في الماء فإذا كان من فعل هذه الأمور منكم مثل السائح الأعرج ونحوه تعتقدون صلاحه وولايته، وقد صرح في ( الإقناع ) بكفره، فاعلموا أنكم لم تعرفوا معنى شهادة أن لا إله إلا الله، فإن بان لكم في كلامي هذا شيء من الغلو من أن هذه الأفاعيل لو(8/76)
كانت حراماً فلا تخرج من الإسلام وإن فعل أهل زماننا في الشدائد في البر والبحر وعند قبور الأنبياء والصالحين ليست من هذه بينوا لنا الصواب وأرشدونا إليه ؛ وإن تبين لكم أن هذا هو الحق الذي لا ريب فيه وأن الواجب إشاعته في الناس وتعليمه النساء والرجتا فرحم الله من أدى الواجب عليه وتاب إلى الله وأقر على نفسه فإن التائب منم الذنب كمن لا ذنب له وعسى الله أن يهدينا وإياكم وإخواننا لما يحب ويرضى والسلام.
الرسالة العشرون
( ص 129 )
ومنها رسالة أرسلها إلى عبد الله بن سحيم مطوع المجمعة قال فيها :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الله بن سحيم حفظه الله تعالى، سلام عليكم ورحمه الله وبركاته، أما بعد، فقد وصل كتابك تطلب شيئاً من معنى كتاب المويس الذي أرسل لأهل الوشم وأنا أجيبك عن الكتاب جملة فإن كان الصواب فيه فنبهني وأرجع إلى الحق، وإن كان الأمر كما ذكرت لك من غير مجازفة بل أنا مقتصر فالواجب على المؤمن أن يدور مع الحق حيث دار وذلك أن كتابة مشتمل على الكلام في ثلاثة أنواع من العلوم :
الأول : علم الأسماء والصفات الذي يسمى علم أصول الدين ويسمى أيضاً العقائد.
والثاني : الكلام على التوحيد والشرك.
والثالث : الاقتداء بأهل العلم واتباع الأدلة، وترك ذلك.
أما الأول : فإنه أنكر على أهل الوشم إنكارهم على من قال ليس بجوهر ولا جسم ولا عرض، وهذا الإنكار جمع فيه بين اثنتين :
إحداهما : أنه لم يفهم كلام ابن عيدان وصاحبه.
الثانية : أنه لم يفهم صورة المسألة ؛ وذلك أن مذهب الإمام أحمد وغيره من السلف أنهم لا يتكلمون في هذا النوع إلا بما يتكلم الله به ورسوله فما أثبته الله لنفسه أو أثبته رسوله أثبتوه مثل الفوقية والاستواء والكلام والمجيء وغير ذلك وما نفاه الله عن نفسه ونفاه عنه رسوله نفوه مثل المثل والند والسمي وغير ذلك.(8/77)
وأما ما لا يوجد عن الله ورسوله إثباته ونفيه مثل الجوهر والجسم والعرض والجهة وغير ذلك لا يثبتونه ولا ينفونه فمن نفاه مثل صاحب الخطبة التي أنكرها ابن عيدان وصاحبه فهو عند أحمد والسلف مبتدع، ومن أثبته مثل هشام ابن الحكم وغيرهم فهو عندهم مبتدع، والواجب عندهم السكوت عن هذا النوع اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، هذا معنى كلام الإمام أحمد الذي في رسالة المويس أنه قال : لا أرى الكلام إلا ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن العجب استدلاله بكلام الإمام أحمد على ضده، ومثاله في ذلك كمثل حنفي يقول الماء الكثير ولو بلغ قلتين ينجس بمجرد الملاقاة من غير تغير فإذا سئل عن الدليل قال قوله صلى الله عليه وسلم : (( الماء طهور لا ينجسه شيء)) فيستدل بدليل خصمه فهل يقول هذا من يفهم ما يقول ؟
وأنا أذكر لك كلام الحنابلة في هذه المسألة قال الشيخ تقي الدين بعد كلام له على من قال إنه ليس بجوهر ولا عرض ككلام صاحب الخطبة قال رحمه الله : فهذه الألفاظ لا يطلق إثباتها ولا نفيها كلفظ الجوهر والجسم والتحيز والجهة ونحو ذلك من الألفاظ ولهذا لما سئل ابن سريج عن التوحيد فذكر توحيد المسلمين قال : وأما توحيد أهل الباطل فهو الخوض في الجواهر والأعراض وإنما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بإنكار ذلك، وكلام السلف والأئمة في ذم الكلام وأهله مبسوط في غير هذا الموضع، والمقصود أن الأئمة كأحمد وغيره لما ذكر لهم أهل البدع الألفاظ المجملة كلفظ الجسم والجوهر والحيز لم يوافقوهم لا على إطلاق الإثبات ولا على إطلاق النفي انتهى كلام الشيخ تقي الدين.(8/78)
إذا تدبرت هذا عرفت أن إنكار ابن عيدان وصاحبه على الخطيب الكلام في هذا عين الصواب، وقد اتبعا في ذلك إمامها أحمد بن حنبل وغيره في إنكارهم ذلك على المبتدعة ففهم صاحبكم أنهما يريدان إثبات ضد ذلك وأن الله جسم وكذا ولا كذا، تعالى الله عن ذلك، وظن أيضاً أن عقيدة أهل السنة هي نفي أنه لا جسم ولا جوهر ولا كذا، وقد تبين لكم الصواب أن عقيدة أهل السنة هي السكوت من أثبت بدعوه ومن نفى بدعوه، فالذي يقول ليس بجسم ولا.. ولا.. هم الجهمية والمعتزلة، والذين يثبتون ذلك هو هشام وأصحابه. والسلف بريئون من الجميع من أثبت بدعوه ومن نفى بدعوه فالمويس لم يفهم كلام الأحياء ولا كلام الأموات وجعل النفي الذي هو مذهب الجهمية والمعتزلة مذهب السلف، وظن أن من أنكر النفي أنه يريد الإثبات كهشام وأتباعه، ولكن أعجب من ذلك استدلاله على ما فهم بكلام أحمد المتقدم ومن كلام أبو الوفا ابن عقيل قال أنا أقطع أن أبا بكر وعمر ماتا عرفا الجوهر والعرض فإن رأيت أن طريقة أبي علي الجبائي وأبي هاشم خير لك من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيت انتهى، وصاحبكم يدعي أن الرجل لا يكون من أهل السنة حتى يتبع أبا علي وأبا هاشم بنفي الجوهر والعرض، فإن أنكر الكلام فيهما مثل أبي بكر وعمر فهو عنده على مذهب هشام الرافضي.(8/79)
فظهر بما قررناه أن الخطيب الذي يتكلم بنفي العرض والجوهر أخذه من مذهب الجهمية والمعتزلة، وأن ابن عيدان وصاحب أنكرا ذلك مثل ما أنكره أحمد والعلماء كلهم على أهل البدع، وقوله في الكتاب ومذهب أهل السنة إثبات من غير تعطيل ولا تجسيم ولا كيف ولا أين إلى آخره وهذا من أبين الأدلة على أنه لم يفهم عقيدة الحنابلة ولم يميز بينها وبين عقيدة المبتدعة وذلك أن إنكار الأين من عقائد أهل الباطل وأهل السنة يثبتونه اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح أنه قال للجارية أين الله ؟ فزعم هذا الرجل أن إثباتها مذهب المبتدعة وأن إنكارها مذهب أهل السنة كما قيل وعكسه بعكسه / وأما الجسم فتقدم الكلام أن أهل الحق لا يثبتونه ولا ينفونه فغلظ عليهم في إثباته، وأما التعطيل والكيف فصدق في ذلك فجمع لكم أربعة ألفاظ نصفها حق من عقيدة الحق ونصفها باطل من عقيدة الباطل وساقها مساقاً واحداً وزعم أنه مذهب أهل السنة فجهل وتناقض. وقوله أيضاً ويثبتون ما أثبته الرسول صلى الله عليه وسلم من السمع والبصر والحياة والقدرة والإرادة والعلم والكلام إلى آخره، وهذا أيضاً من أعجب جهله وذلك أن هذا مذهب طائفه من المبتدعة يثبتون الصفات السبع وينفون ما عداها ولو كان في كتاب الله ويؤولونه. وأما أهل السنة فكل ما جاء عن الله ورسوله أثبتوه وذلك صفات كثيرة لكن أظنه نقل هذا من كلام المبتدعة وهو لا يميز بين كلام أهل الحق من كلام أهل الباطل إذا تقرر هذا فقد ثبت خطؤه من وجوه :
الأول : أنه لم يفهم الرسالة التي بعثت إليه.
الثاني : أنه بهت أهلها بإثبات الجسم وغيره.
الثالث : أنه نسبهم إلى الرافضة، ومعلوم أن الرافضة من أبعد الناس عن هذا المذهب وأهله.
الرابع : أنه نسب من أنكر هذه الألفاظ إلى الرفض والتجسيم، وقد تبين أن الإمام أحمد وجميع السلف ينكرونه فلازم كلامه أن مذهب الإمام أحمد وجميع السلف مجسمة على مذهب الرفض.(8/80)
الخامس : أنه نسب كلامهما إلى الفرية الجسمية فجعل عقيدة إمامه وأهل السنة فرية جسمية.
السادس : أنه زعم أن البدع اشتعلت في عصر الإمام أحمد ثم ماتت حتى أحياها أهل الوشم فمفهوم كلامه بل صريحه أن عصر الإمام أحمد وأمثاله عصر البدع والضلال وعصر ابن إسماعيل عصر السنة والحق.
السابع : أنه نسبها إلى التعطيل، والتعطيل إنما هو جحد الصفات.
الثامن : بهتهما أنهما نسبا من قبلهما من العلماء إلى التعطيل لكونهما أنكرا على خطيب المبتدعة وهذا من البهتان الظاهر.
التاسع : أنه نسبهما إلى وراثة هشام الرافضي.
العاشر : أن المسلم أخو المسلم فإذا أخطأ أخوه نصحه سراً وبين له الصواب فإذا عاند أمكنه المجاهرة بالعداوة وهذا لما راسلاه صنف عليهما ما علمت وأرسله إلى البلدان اعرفوني.. اعرفوني تراى جاي من الشام.(8/81)
وأما التناقص وكون كلامه يكذب بعضه بعضاً فمن وجوه : منها نسبهما تارة إلى التجسيم وتارة إلى التعطيل، ومعلوم أن التعطيل ضد التجسيم، وأهل هذا أعداء لأهل هذا والحق وسط بينهما، ومنها أن نسبهما إلى الجهمية وإلى المجسمة والجهمية والمجسمة بينهما من التناقض والتباعد كما بين السواد والبياض وأهل السنة وسط بينهما، ومنها : أنه يقول مذهب أهل الحق إثبات الصفات ثم يقول ولا أين ولا ولا وهذا تناقض، ومنها أنه يقول ما أثبته الله ورسوله أثبت ثم يخص ذلك بالصفات السبع فهذا عين التناقض. فعقيدته التي نسب لأهل السنة جمعها من نحو أربع فرق من المبتدعة يناقض بعضهم بعضاً ويسب بعضهم بعضا ولو فهمت حقيقة هذه العقيدة لجعلتها ضحكة، ومنها : أنه يذكر عن أحمد أن الكلام في هذه الأشياء مذموم إلا ما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم ثم ينقل لكم إثبات كلام المبتدعة ونفيهم ويتكلم بهذه العقيدة المعكوسة ويزعم أنها عقيدة أهل الحق. هذا ما تيسر كتابته عجلا على السراج والمأمول فيك أنك تنظر فيها بعين البصيرة، وتتأمل هذا الأمر، واعرض هذا عليه واطلب منه الجواب عن كل كلمة من هذا فإن أجابك بشيء فاكتبه وإن عرفته باطلا وإلا فراجعني فيه أبينه لك ولا تستحقر هذا الأمر فإن حرصت عليه جداً عرفك عقيدة الإمام أحمد وأهل السنة وعقيدة المبتدعة وصارت هذه الواقعة أنفع لك من القراءة في علم العقائد شهرين أو ثلاثة بسبب الخطأ والاختلاف مما يوضح الحق ويبين لخبائه.
وأما النوع الثاني : فهو كلام في الشرك والتوحيد وهو المصيبة العظمى والداهية الصما والكلام على هذا النوع والرد على هذا الجاهل يحتمل مجلداً وكلامه فيه كما قال ابن القيم إذا قرأ المؤمن تارة يبكي وتارة يضحك ولكن أنبهك منه على كلمتين :
الأولى : قوله إنهما نسبا من قبلهما إلى الخروج من الإسلام والشرك الأكبر أفيظن أن قوم موسى لما قالوا اجعل لنا إلهاً خرجوا من الإسلام ؟(8/82)
أفيظن أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قالوا اجعل لنا ذات أنواط فحلف لهم أن هذا مثل قول قوم موسى اجعل لنا إلهاً أنهم خرجوا من الإسلام ؟ أيظن أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمعهم يحلفون بآبائهم فنهاهم وقال : (( من حلف بغير الله فقد أشرك )) أنهم خرجوا من الإسلام ؟ إلى غير ذلك من الأدلة التي لا تحصر فلم يفرق بين الشرك المخرج عن الملة من غيره ولم يفرق بين الجاهل والمعاند.
والكلمة الثانية : قوله إن المشرك لا يقول لا إله إلا الله، فياعجباً من رجل يدعى العلم وجاي من الشام يحمل كتب فلم تكلم ؟ إذ أنه لا يعرف الإسلام من الكفر ولا يعرف الفرق بين أبي بكر الصديق وبين مسيلمة الكذاب، أما علم أن مسيلمة يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويصلي ويصوم، أما علم أن غلاة الرافضة الذين حرقهم علي يقولونها وكذلك الذين يقذفون عائشة ويكذبون القرآن، وكذلك الذين يزعمون أن جبريل غلط وغير هؤلاء ممن أجمع أهل العلم على كفرهم منهم من ينتسب إلى الإسلام، ومنهم من لا ينتسب إليه كاليهود وكلهم يقولون لا إله إلا الله وهذا بين عند من له أقل معرفة بالإسلام من أن يحتاج إلى تبيان. وإذا كان المشركون لا يقولونها فما معنى باب حكم المرتد الذي ذكر الفقهاء من كل مذهب ؟ هل الذين ذكروهم الفقهاء وجعلوهم مرتدين لا يقولونها هذا الذي ذكر أهل العلم أنهم أكفر من اليهود والنصارى، وقال بعضهم من شك في كفر أتباعه فهو كافر وذكرهم في ( الإقناع ) في باب حكم المرتد وإمامهم ابن عربي أيظنهم لا يقولون لا إله إلا الله لكن هو آت من الشام وهم يعبدون ابن عربي جاعلين على قبره صنماً يعبدونه ولست أعني أهل الشام كلهم حاشا وكلا بل لا تزال طائفة على الحق وإن قلت واغتربت لكن العجب العجاب استدلاله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى قول لا إله إلا الله، ولم يطالبهم بمعناها وكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحوا(8/83)
بلاد الأعاجم وقنعوا منهم بلفظ إلى آخر كلامه فهل يقول هذا من يتصور ما يقول فنقول أولا هو الذي نقض كلامه وكذبه بقوله دعاهم إلى ترك عبادة الأوثان فإذا كان لم يقنع منهم إلا بترك عبادة الأوثان تبين أن النطق بها لا ينفع إلا بالعمل بمقتضاها وهو ترك الشرك وهذا هو المطلوب ونحن إذا نهينا عن الأوثان المجعولة على قبر الزبير وطلحة وغيرهما في الشام أو في غيره فإن قلتم ليس هذا من الأوثان وإن دعاء أهل القبور والاستغاثة بهم في الشدائد ليست من الشرك مع كون المشركين الذين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلصون لله في الشدائد ولا يدعون أوثانهم فهذا كفر، وبيننا وبينكم كلام العلماء من الأولين والآخرين الحنابلة وغيرهم وإن أقررتم أن ذلك كفر وشرك وتبين أن قول لا إله إلا الله لا ينفع إلا مع ترك الشرك، وهذا هو المطلوب وهو الذي نقول وهو الذي أكثرتم النكير فيه وزعمتم أنه لا يخرج إلا من خراسان وهذا القول كما في أمثال العامة لا وجه سميح ولا بنت رجال، لا أقول صواباً إلا خطأً ظاهراً وسباً لدين الله ولا هو أيضاً قول باطل يصدق بعضه بعضا بل مع كونه خطأً فهو متناقض يكذب بعضه بعضاً لا يصدر إلا ممن هو أجهل الناس وأما دعواه أن الصحابة لم يطلبوا من الأعاجم إلا مجرد هذه الكلمة ولم يعرفوهم بمعناها فهذا قول من لا يفرق بين دين المرسلين ودين المنافقين الذين في الدرك الأسفل من النار فإن المؤمنين يقولونها والمنافقين يقولونها لكن المؤمنين يقولونها مع معرفة قلوبهم بمعناها، وعمل جوارحهم بمقتضاها والمنافقون يقولونها من غير فهم لمعناها ولا عمل بمقتضاها فمن أعظم المصائب وأكبر الجهل من لا يعرف الفرق بين الصحابة والمنافقين لكن هذا لا يعرف النفاق ولا يظنه في أهل زماننا بل يظنه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأما زمانه فصلح بعد ذلك وإذا كان زمانه وبلدانه ينزهون عن البدع ومخرجها من خراسان فكيف بالشرك والنفاق ؟(8/84)
ويا ويح هذا القائل ما أجرأه على الله وما أجهله بقدر الصحابة وعلمهم حيث ظن أنهم لا يعلمون الناس لا إله إلا الله. أما علم هذا الجاهل أنهم يستدلون بها على مسائل الفقه فضلا عن مسائل الشرك، ففي الصحيحين أن عمر رضي الله عنه لما أشكل عليه قتال ما نعي الزكاة لأجل قوله صلى الله عليه وسلم (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها )) قال أبو بكر فإن الزكاة من حقها فإذا كان منع الزكاة من منع حق لا إله إلا الله فكيف بعبادة القبور والذبح للجن ودعاء الأولياء وغيرهم مما هو دين المشركين. وصرح الشيخ تقي الدين في ( اقتضاء الصراط المستقيم ) بأن من ذبح للجن فالذبيحة حرام من جهتين :
من جهة أنها مما أهل لغير الله به.
ومن جهة أنها ذبيحة مرتد.
فهي كخنزير مات من غير ذكاة، ويقول ولو سمى الله عند ذبحها إذا كانت نيته ذبحها للجن ورد على من قال إنه إن ذكر اسم الله حل الأكل منها مع التحريم ـ وأما ما سألت عنه من قوله اللهم صلى على محمد إلى آخره فهذه المحامل التي ذكر غير بعيدة ولو كان الإنكار على الرجل الميت الذي صنفها والإنكار إنما هو على الخطباء والعامة الذين يسمعون، فإن كان يزعم أن عامة أهل هذه القرى كل رجل منهم يفهم هذا التأويل فهذا مكابرة، وإن كان يعرف أنهم ما قصدوا إلا المعاني التي لا تصلح إلا لله لم يمنع من الإنكار عليهم وتبين أنه شرك كون الذي قالها أولا قصد معنى صحيحاً كما لو أن رجلا من أهل العلم كتب إلى عامة أن نكاح الأخوات حلال ففهموا منه ظاهرة وجعلوا يتزوجون أخواتهم خاصتهم وعامتهم لم يمنع من الإنكار عليهم وتبين أن الله حرم نكاح الأخوات كون القائل أراد الأخوات في الدين كما قال إبراهيم عليه السلام لسارة هي أختي وهذا واضح بحمد الله ولكن من انفتح له تحريف الكلم عن مواضعه نفتح له باب طويل عريض.(8/85)
وأما النوع الثالث وهو الكلام على التقليد والاستدلال فكلامه فيه من أبطل الباطل وأظهر الكذب وهو أيضاً كلام جاهل ينقض بعضه بعضاً ونحن ما أردنا المعنى الذي ذكر والكلام على هذا طويل ولكن أنا كتبت له كلاماً في هذا مع رسالة طويلة فاطلبه وراجعه وتأمله وتكلم لله في سبيل الله بما يرضي الله ورسوله واحذر من فتنة (( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون)) فمن نجا منها فقد نجا من شر كثير ولا تغفل عن قوله في خطية ( شرح الإقناع ) من عثر على شيء مما طغى به القلم إلى آخره، وقوله في آخرها اعلم رحمك الله أن الترجيح إذا اختلف بين الأصحاب إلى آخره، وإن طمعت بالزيارة والمذاكرة من الرأس لعلك أيضاً تحقق علم العقائد وتميز بين حقه من باطله، وتعرف أيضاً علوم الإيمان بالله وحده والكفر بالطاغوت فتراى أشير وألزم فإن رأيت أمر الله ورسوله فهو المطلوب وإلا فقد وهبك الله من الفهم ما تميز به بين الحق والباطل إن شاء الله تعالى.
وهذا الكتاب لا تكتمه عن صاحب الكتاب بل اعرضه عليه فإن تاب وأقر ورجع إلى الله فعسى إن زعم أن له حجة ولو في كلمة واحدة أو أن في كلامي مجازفة فاطلب الدليل فإن أشكل شيء عليك فراجعني فيه حتى تعرف كلامي وكلامه، نسأل الله أن يهدينا وإياك والمسلمين إلى ما يحبه ويرضاه، وأنت لا تلمني على هذا الكلام تراني استدعيته أولا بالملاطفة وصبرت منه على أشياء عظيمة، والآن أشرفت منه على أمور ما ظننتها لا في عقله ولا في دينه : منها أنه كاتب إلى أهل الحساء يعاونهم على سب دين الله ورسوله
الرسالة الحادية والعشرون
( ص 143 )
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب سلام عليكم ورحمة الله وبركاته إلى محمد بن سلطان سلمه الله تعالى بعد.(8/86)
لا يخفاك أنه ذكر لنا عنك كلام حسن ويذكر أيضاً كلام ما هو بزين، وننتظر قدومك إلينا ونبين لك عسى الله أن يهدينا وإياك الصراط المستقيم، وجاءنا عنك أنك تقول أبغيكم تكتبون لي الدليل من قول الله وقول رسوله، وكلام العلماء على كفر الذين ينصبون أنفسهم للنذور والنخي في الشدائد، ويرضون بذلك، وينكرون على من زعم أنه شرك، ويذكرون عنك أنك تقول أبغي أعرضه على العلماء في الخرج وفي الأحساء ولكم على أني ما أقبل منهم الطفايس والكلام الفاسد فإن بينوا حجة صحيحة من الله ورسوله أو عن العلماء تفسد كلامكم وإلا اتبعت أمر الله ورسوله، واعتقدت كفر الطاغوت ومن عبدهم وتبرأت منهم فإن كنت قلت هذا فهو كلام حسن وفقك الله لطاعته ولا يخفاك أني أعرض هذا من سنين على أهل الأحساء وغيرهم وأقول كل إنسان أجادله بمذهبه إن كان شافعياً فبكلام الشافعية، وإن كان مالكياً فبكلام المالكية، أو حنبلياً أو حنفياً فكذلك فإذا أرسلت إليهم ذلك عدلوا عن الجواب لأنهم يعرفون أني على الحق وعم على الباطل وإنما يمنعهم من الانقياد التكبر والعناد على أهل نجد كما قال تعالى : (( الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه )) وأنا أذكر لك الدليل على هذا الأمر وأوصيك بالبحث عنه والحرص عليه وأحذرك عن الهوى والتعصب بل أقصد وجه الله واطلب منه وتضرع إليه أن يهديك للحق وكن على حذر من أهل الأحساء أن يلبسوا عليك بأشياء لا ترد على المسألة أو يشبهوا عليك بكلام باطل كما قال تعالى ((إن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون، وأنا أشهد الله وملائكته إن أتاني منهم حق لأقبلنه على الرأس والعين ولكن هيهات أن يقدر أحد أن يدفع حجج الله وبيناته.(8/87)
واعلم أرشدك الله أن الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب لمسألة واحدة هي توحيد الله وحده والكفر بالطاغوت كما قال تعالى : (( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ))، والطاغوت هو الذي يسمى السيد الذي ينخى وينذر له ويطلب منه تفريج الكربات غير الله تعالى وهذا يتبين بأمرين عظيمين :
الأول : توحيد الربوبية وهو الشهادة بأنه لا يخلق ولا يرزق ولا يحيي ولا يميت ولا يدبر الأمور إلا هو وهذا حق، ولكن أعظم الكفار كفراً الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهدون به ولم يدخلهم في الإسلام كما قال تعالى : (( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون )) فإذا تدبرت هذا الأمر العظيم وعرفت أن الكفار يقرون بهذا كله لله وحده لا شريك له، وأنهم إنما اعتقدوا في آلهتهم لطلب الشفاعة والتقرب إلى الله كما قال تعالى : (( ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله" وفي الآية الأخرى : (( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى )) فإذا تبين لك هذا وعرفته معرفة جيدة بقي للمشركين حجة أخرى وهي أنهم يقولون هذا حق ولكن الكفار يعتقدون في الأصنام فالجواب القاطع أن يقال لهم إن الكفار في زمانه صلى الله عليه وسلم منهم من يعتقد في الأصنام، ومنهم من يعتقد في قبر رجل صالح مثل اللات، ومنهم من يعتقد في الأصنام، ومنهم من يعتقد في الصالحين وهم الذين ذكر الله في قوله عز وجل : (( أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه )) يقول تعالى هؤلاء الذين يدعونهم الكفار ويدعون محبتهم قوم صالحون يفعلون طاعة الله ومع هذا راجون خائفون، فإذا تحققت أن العلي الأعلى تبارك وتعالى ذكر في كتابه أنهم يعتقدون في الصالحين وأنهم لم(8/88)
يريدوا إلا الشفاعة عند الله والتقرب إليه بالاعتقاد في الصالحين وعرفت أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين من اعتقد في الأصنام ومن اعتقد في الصالحين بل قاتلهم كلهم وحكم بكفرهم تبين لك حقيقة دين الإسلام وعرفت.
الأمر الثاني : وهو توحيد الآلهية وهو أنه لا يسجد إلا لله ولا يركع إلا له ولا يدعي في الرخاء والشدايد إلا هو، ولا يذبح إلا له، ولا يعبد بجميع العبادات إلا الله وحده لا شريك له وأن من فعل ذلك في نبي من الأنبياء أو ولي من الأولياء فقد أشرك بالله وذلك النبي أو الرجل الصالح بريء ممن أشرك به كتبرء عيسى من النصارى، وموسى من اليهود، وعلى من الرافضة وعبد القادر من الفقراء، وعرفت أن الألوهية هي التي تسمى في زماننا السيد لقوله تعالى : (( وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون )). فتأمل قول نبي إسرائيل مع كونهم إذ ذاك أفضل العالمين لنبيهم اجعل لنا إلهاً يتبين لك معنى الإله، ويزيدك بصيرة قوله تعالى : (( وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه )) فيا سبحان الله إذا كان الله يذكر عن أولئك الكفار أنهم يخلصون لله في الشدائد لا يدعون نبياً ولا ولياً وأنت تعلم ما في زمانك أن أكثر ما بهم الكفر والشرك ودعاء غير الله عند الشدائد فهل بعد هذا البيان بيان، وأما كلام أهل العلم فقد ذكر في (الإقناع ) في باب حكم المرتد إجماع المذاهب كلهم على أن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم أنه كافر مرتد حلال المال والدم وذكر فيه أن الرافضي إذا شتم الصحابة فقد توقف الإمام في تكفيره فإن ادعى أن علياً يدعى في الشدائد والرخاء فلا شك في كفره هذا معنى كلامه في الاقناع وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما اعتقد فيه النفع والضر أناس في زمانه حرقهم بالنار مع عبادتهم فكذلك الذين يدعون شمسان وأمثاله وأجناسه لاشك في كفرهم.(8/89)
واعلم أن هذه المسألة مسألة عظيمة جداً وهي التي خلق الله الجن والإنس لأجلها ولكن أكثر الناس لا يعلمون فأنت اعرض هذا الكلام على كل من يدعي العلم وأنا أعيذك بالله وجميع المسلمين من التكبر والعناد الذي يرد صاحبه الحق بعد ما تبين، واعلم أن أكثر القرآن في هذه المسألة وتقريرها وضرب الأمثال لها والله أعلم.
الرسالة الثانية والعشرون
( ص 149 )
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه من المسلمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ( وبعد ).
أخبركم أني – ولله الحمد – عقيدتي وديني الذي أدين الله به مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم القيامة لكني بينت للناس إخلاص الدين لله ونهيتهم عن دعوة الأنبياء والأموات من الصالحين وغيرهم. وعن إشراكهم فيما يعبد الله به من الذبح والنذر والتوكل والسجود وغير ذلك مما هو حق الله الذي لا يشركه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهو الذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة. وأنا صاحب منصب في قريتي مسموع الكلمة فأنكر هذا بعض الرؤساء لكونه خالف عادة نشأوا عليها، وأيضاً ألزمت من تحت يدي بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وغير ذلك من فرائض الله، ونهيتهم عن الربا وشرب المسكر وأنواع من المنكرات فلم يمكن الرؤساء القدح في هذا وعيبه لكونه مستحسناً عند العوام فجعلوا قدحهم وعداتهم فيما آمر به من التوحيد وما نهيتهم عنه من الشرك، ولبسوا على العوام أن هذا خلاف ما عليه الناس، وكبرت الفتنة جداً، وأجلبوا علينا بخيل الشيطان ورجله.(8/90)
فنقول : التوحيد نوعان، توحيد الربوبية وهو أن الله سبحانه متفرد بالخلق والتدبير عن الملائكة والأنبياء وغيرهم وهذا حق لابد منه لكن لا يدخل الرجل في الإسلام بل أكثر الناس مقرون به قال الله تعالى : (( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ؛ ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون )) وأن الذي يدخل الرجل في الإسلام هو توحيد الإلهية وهو ألا يعبد إلا الله لا ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلا وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث والجاهلية يعبدون أشياء مع الله فمنهم من يعبد الأصنام، ومنهم من يدعو عيسى، ومنهم من يدعو الملائكة فنهاهم عن هذا وأخبرهم أن الله أرسله ليوحد ولا يدعي أحد لا الملائكة ولا الأنبياء فمن تبعه ووحد الله فهو الذي يشهد أن لا إله إلا الله ومن عصاه ودعا عيسى والملائكة واستنصرهم والتجأ إليهم فهو الذي جحد لا إله إلا الله مع إقراره أنه لا يخلق ولا يرزق إلا الله وهذه جملة لها بسط طويل ولكن الحاصل أن هذا مجمع عليه بين العلماء.
فلما جرى في هذه الأمة ما أخبر به نبيها صلى الله عليه وسلم حيث قال : (( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذوة بالقذة حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه )) وكان من قبلهم كما ذكر الله عنهم : (( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله )) وصار ناس من الضالين يدعون أناساً من الصالحين في الشدة والرخاء مثل عبد القادر الجيلاني، وأحمد البدوي، وعدي بن مسافر وأمثالهم من أهل العبادة والصلاح صاح عليهم أهل العلم من جميع الطوائف أعني – على الداعي – وأما الصالحون الذين يكرهون(8/91)
ذلك فحاشاهم، وبين أهل العلم أن هذا هو الشرك الأكبر عبادة الأصنام فإن الله سبحانه إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليعبد وحده ولا يدعى معه إله آخر والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل الشمس والقمر والصالحين والتماثيل المصورة على صورهم لم يكونوا يعتقدون أنها تنزل المطر أو تنبت النبات وإنما كانوا يعبدون الملائكة والصالحين ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله فبعث الله الرسل وأنزل الكتب تنهى عن أن يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء الاستغاثة.(8/92)
واعلم أن المشركين في زماننا قد زادوا على الكفار في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يدعون الملائكة والأولياء والصالحين، ويريدون شفاعتهم والتقرب إليهم وإلا فهم مقرون بأن الأمر لله فهم لا يدعونها إلا في الرخاء فإذا جاءت الشدائد أخلصوا لله قال الله تعالى : (( وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم )) الآية واعلم أن التوحيد : هو إفراد الله سبحانه بالعبادة وهو دين الرسل الذي أرسلهم الله به إلى عباده فأولهم نوح عليه السلام أرسله الله إلى قومه لما غلوا في الصالحين ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر وآخر الرسل محمد صلى الله عليه وسلم وهو الذي كسر صور الصالحين أرسله الله إلى أناس يتعبدون ويحجون ويتصدقون ويذكرون الله كثيراً ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط بينهم وبين الله تعالى يقولون نريد منهم التقرب إلى الله تعالى ونريد شفاعتهم عنده مثل الملائكة وعيسى ومريم وأناس غيرهم من الصالحين. فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم يجدد لهم دين إبراهيم ويخبرهم أن هذا التقرب والاعتقاد محض حق الله تعالى لا يصلح منه شيء لا لملك مقرب ولا نبي مرسل فضلا عن غيرهما وإلا فهؤلاء المشركون يشهدون أن الله هو الخالق وحده لا شريك له وأنه لا يخلق ولا يرزق إلا هو، ولا يحيي ولا يميت إلا هو، ولا يدبر الأمر إلا هو وأن جميع السموات السبع ومن فيهن والأرضين السبع ومن فيهن كلهم عبيده وتحت تصرفه وقهره، فإذا أدرت الدليل على أن هؤلاء المشركين الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهدون بهذا فاقرأ قوله تعالى : (( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون )) وقوله تعالى : (( قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون. قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل(8/93)
أفلا تتقون. قل من بيده ملكوت كل شىء وهو يجبر ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون، سيقولون لله قل فأنى تسحرون )) وغير ذلك من الآيات الدالات على تحقق أنهم يقولون بهذا كله لم يدخلهم في التوحيد الذي دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفت أن التوحيد الذي جحدوه هو توحيد العبادة الذي يسميه المشركون في زماننا الاعتقاد كما كانوا يدعون الله سبحانه وتعالى ليلا ونهاراً خوفاً وطمعاً، ثم من يدعو الملائكة لأجل صلاحهم وقربهم من الله عز وجل ليشفعوا لهم ويدعو رجلا صالحاً مثل اللات أو نبيا مثل عيسى وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم على ذلك ودعاهم على إخلاص العبادة لله وحده كما قال تعالى : (( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً )) وقال تعالى : (( له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال )) وعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلهم ليكون الدين كله لله والذبح كله لله والنذر كله لله ؛ والاستغاثة كلها لله، وجميع أنواع العبادة كلها لله وعرفت أن إقرارهم بتوحيد الربوبية لم يدخلهم في الإسلام وأن قصدهم الملائكة والأنبياء والأولياء يريدون شفاعتهم والتقرب إلى الله تعالى بهم هو الذي أحل دماءهم وأموالهم ؛ عرفت حينئذ التوحيد الذي دعت إليه الرسل وأبى عن الإقرار به المشركون، وهذا التوحيد هو معنى قولك لا إله إلا الله، فإن الإله عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور سواء كان ملكاً أو نبياً أو ولياً هو معنى قولك لا إله إلا الله، فإن الإله عندهم هو الذي يقصد لأجل هذه الأمور سواء كان ملكاً أو نبياً أو ولياً أو شجرة أو قبراً أو جنياً لم يريدوا أن الإله هو الخالق الرازق المدبر فإنهم يقرون أن ذلك لله وحده كما قدمت لك وإنما يعنون بالإله ما يعني المشركون في زماننا بلفظ السيد فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم(8/94)
يدعوهم إلى كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها والكفار والجهال يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو إفراد الله بالتعلق والكفر بما يعبد من دونه، والبراءة منه فإنه لما قال لهم قولوا لا إله إلا الله قالوا أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب.
فإذا عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار، بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب بشيء من المعاني والحاذق منهم يظن أن معناها لا يخلق ولا يرزق ولا يحيي ولا يميت ولا يدبر الأمر إلا الله فلا خير في رجل جهال الكفار أعلم منه بمعنى لا إله إلا الله.
فإذا عرفت ما قلت لك معرفة قلب وعرفت الشرك بالله الذي قال الله فيه : (( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء )) الآية وعرفت دين الله الذي بعث به الرسل من أولهم إلى آخرهم الذي لا يقبل الله من أحد ديناً سواه وعرفت ما أصبح غالب الناس فيه من الجهل بهذا أفادك فائدتين :
الأولى : الفرح بفضل الله وبرحمته قال الله تعالى : (( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون )) وأفادك أيضاً الخوف العظيم فإنك إذا عرفت أن الإنسان يكفر بكلمة يخرجها من لسانه وقد يقولها وهو جاهل فلا يعذر بالجهل وقد يقولها وهو يظن أنها تقربه إلى الله خصوصاً إن ألهمك الله ما قص عن قوم موسى مع صلاحهم وعلمهم أنهم أتوه قائلين : (( اجعل لنا إلها كما لهم آلهة )) فحينئذ يعظم خوفك وحرصك على ما يخلصك من هذا وأمثاله.(8/95)
واعلم أن الله سبحانه من حكمته لم يبعث نبياً بهذا التوحيد إلا جعل له أعداء كما قال تعالى : (( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً )) وقد يكون لأعداء التوحيد علوم كثيرة وكتب وحجج كما قال تعالى : (( فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم )) فإذا عرفت ذلك عرفت أن الطريق إلى الله لابد له من أعداء قاعدين عليه أهل فصاحة وعلم وحجج كما قال تعالى : (( ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله )) الآية فالواجب عليك أن تعلم من دين الله ما يصير لك سلاحاً تقاتل به هؤلاء الشياطين الذين قال إمامهم ومقدمهم لربك عز وجل: (( لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين)). ولكن إذا أقبلت على الله وأصغيت إلى حجج الله وبيناته فلا تخف ولا تحزن إن كيد الشيطان كان ضعيفاً، والعامي من الموحدين يغلب ألفاً من علماء هؤلاء المشركين كما قال تعالى (( إن جندنا لهم الغالبون )) فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان، كما أنهم الغالبون بالسيف والسنان وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح، وقد من الله علينا بكتابة الذي جعله تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين، فلا يأتي صاحب باطل بحجة إلا وفي القرآن ما ينقضها ويبين بطلانها كما قال تعالى : (( ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً )) قال بعض المفسرين : هذه الآية عامة في كل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة.
والحاصل أن كل ما ذكر عنا من الأشياء غير دعوة الناس إلى التوحيد والنهي عن الشرك فكله من البهتان.(8/96)
ومن أعجب ما جرى من الرؤساء المخالفين أني لما بينت لهم كلام الله وما ذكر أهل التفسير في قوله تعالى : (( أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب )) الآية وقوله : (( ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله )) وقوله : (( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى )) وما ذكر الله من إقرار الكفار في قوله (( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار )) وغير ذلك. قالوا : القرآن لا يجوز العمل به لنا ولأمثالنا ولا بكلام الرسول، ولا بكلام المتقدمين، ولا نطيع إلا ما ذكره المتأخرون قلت لهم أنا أخاصم الحنفي بكلام المتأخرين من الحنفية والمالكي والشافعي والحنبلي كل أخاصمه بكتب المتأخرين من علمائهم الذين يعتمدون عليهم فلما أبو ذلك نقلت كلام العلماء من كل مذهب لأهله وذكرت كل ما قالوا بعد ما صرحت الدعوة عند القبور والنذر لها فعرفوا ذلك وتحققوه فلم يزدهم إلا نفوراً وأما التفكير فأنا أكفر من عرف دين الرسول ثم بعد ما عرفه سبه ونهى الناس عنه، وعادى من فعله فهذا هو الذي أكفر، وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك، وأما القتال فلم نقاتل أحداً إلى اليوم إلا دون النفس والحرمة وهم الذين أتونا في ديارنا ولا أبقوا ممكنا ولكن قد نقاتل بعضهم على سبيل المقابلة وجزاء سيئة مثلها وكذلك من جاهز بسب دين الرسول بعد ما عرف فإنا نبين لكم أن هذا الحق الذي لا ريب فيه وأن الواجب إشاعته في الناس وتعليمه النساء والرجال.
فرحم الله من أدى الواجب عليه وتاب إلى الله وأقر على نفسه فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له ونسأل الله أن يهدينا وإياكم لما يحبه ويرضاه.(8/97)
القسم الثالث / بيان معنى لا إله إلا الله وما يناقضها من الشرك في العبادة
الرسالة الثالثة والعشرون
( ص 161 )
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلي ثنيان بن سعود سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد :
سألتم عن معني قوله تعالي لنبيه صلي الله عليه وسلم : ( فاعلم أنه لا إله إلا الله ) وكونها نزلت بعد الهجرة فهذا مصداق كلامي لكم مراراً عديدة أن الفهم الذي يقع في القلب غير فهم اللسان وذلك أن هذه المسألة من أكثر ما يكون تكرارً عليكم وهي التي بوب لها الباب الثاني في كتاب التوحيد وذلك أن العلم لا يسمي علماً إلا إذا أثمر وإن لم يثمر فهو جهل كما قال تعالي : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) وكما قال عن يعقوب ( وإنه لذو علم لما علمناه ) والكلام في تقرير هذا ظاهر، والعلم هو الذي يستلزم العمل ومعلوم تفاضل الناس في الأعمال تفاضلا لا ينضبط وكل ذلك بسبب تفاضلهم في العلم فيكفيك في هذا استدلال الصديق على عمر في قصة أبي جندل مع كونها من أشكل المسائل التي وقعت في الأولين والآخرين شهادة أن محمداً رسول الله، وسر المسألة العلم بلا إله إلا الله، ومن هذا قوله تعالى لنبيه صلي الله عليه وسلم ( ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير. ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض ) فإن العلم بهذه الأصول الكبار يتفاضل فيه الأنبياء فضلا عن غيرهم، ولما نهى نوح بنيه عن الشرك أمرهم بلا إله إلا الله فليس هذا تكراراً ؛ بل هذان أصلان مستقلان كبيران وإن كانا متلازمين فالنهي عن الشرك يستلزم الكفر بالطاغوت، ولا إله إلا الله الإيمان بالله، وهذا وإن كان متلازماً فيوضحه لكم الواقع وهو أن كثيراً من الناس يقول لا أعبد إلا الله وأنا أشهد بكذا وأقر بكذا ويكثر الكلام فإذا قيل له ما تقول في فلان وفلان إذا عبدا أو عبدا من دون الله قال ما علي من الناس الله أعلم بحالهم، ويظن بباطنه أن ذلك لا يجب عليه فمن أحسن الاقتران أن الله قرن بين الإيمان به والكفر بالطاغوت فبدأ بالكفر به على الإيمان بالله وقرن الأنبياء بين الأمر بالتوحيد النهى عن الشرك مع أن في الوصية بلا إله إلا الله ملازمة الذكر بهذه اللفظة والإكثار منها ويتبين عظم قدرها كما(8/98)
بين صلى الله عليه وسلم فضل سورة ( قل هو الله أحد ) على غيرها من السور ذكر أنها تعدل ثلث القرآن مع قصرها، وكذلك حديث موسى عليه السلام فإن في ذكره ما يقتضي كثرة الذكر بهذه الكلمة كما في الحديث ( أفضل الذكر لا إله إلا الله ) والسلام
الرسالة الرابعة والعشرون
ومنها رسالة أرسلها إلى عبد الرحمن بن ربيعة مطوع أهل ثادق وهي هذه :
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم : من محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الرحمن بن ربيعة سلمه الله تعالى وبعد.(8/99)
فقد وصل كتابك تسأل عن مسائل كثيرة وتذكرة أن مرادك اتباع الحق، منها مسألة التوحيد، ولا يخفاك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن له : ( إن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله فإن هم أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات ) إلى آخره. فإذا كان الرجل لا يدعي إلى الصلوات الخمس إلا بعد ما يعرف التوحيد وينقاد له فكيف بمسائل جزئية اختلف فيها العلماء. فاعلم أن التوحيد الذي دعت إليه الرسل من أولهم إلي آخرهم إفراد الله بالعبادة كلها ليس فيها حق لملك مقرب ولا نبي مرسل فضلا عن غيرهم فمن ذلك لا يدعي إلا إياه كما قال تعالى : ( وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً) فمن عبد الله ليلا ونهاراً ثم دعا نبياً أو ولياً عند قبره فقد اتخذ إلهين اثنين ولم يشهد أن لا إله إلا الله لأن الإله هو المدعو كما يفعل المشركون اليوم عند قبر الزبير أو عبد القادر غيرهم وكما يفعل قبل هذا عند قبر زيد وغيره ومن ذبح لله ألف ضحية ثم ذبح لنبي أو غيره فقد جعل إلهين اثنين كما قال تعالى ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ) والنسك هو الذبح وعلى هذا فقس. فمن أخلص العبادات لله ولم يشرك فيها غيره فهو المشرك الجاحد لقول لا إله إلا الله وهذا الشرك الذي أذكره اليوم قد طبق مشارق الأرض ومغاربها إلا الغرباء المذكورين في الحديث وقليل ما هم، وهذه المسألة لا خلاف فيها بين أهل العلم من كل المذاهب. فإذا أردت مصداق هذا فتأمل باب حكم المرتد في كل كتاب وفي كل مذهب وتأمل ما ذكروه في الأمور التي تجعل المسلم مرتداً يحل دمه وماله منها : من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم كيف حكى الإجماع في ( الإقناع ) على ردته ثم تأمل ما ذكروه في سائر الكتب، فإن عرفت أن في المسألة خلافاً ولو في بعض المذاهب فنبهي، وإن صح عندك الإجماع على تكفير من فعل هذا أو رضيه أو جادل فيه فهذه خطوط المويس وابن اسماعيل وأحمد بن(8/100)
يحيى عندنا في إنكار هذا الدين والبراءة منه وهم الآن مجتهدون في صد الناس عنه فإن استقمت على التوحيد وتبينت فيه ودعوت الناس إليه وجاهرت بعداوة هؤلاء خصوصاً ابن يحيى لأنه من أنجسهم وأعظمهم كفراً وصبرت على الأذى في ذلك فأنت أخونا وحبيبنا وذلك محل المذاكرة في المسائل التي ذكرت، فإن بان الصواب معك وجب علينا الرجوع إليك، وإن لم تستقم على التوحيد علماً وعملا ومجاهدة فليس هذا محل المراجعة في المسائل والله أعلم.
الرسالة الخامسة والعشرون
( ص169)
(رسالة جوابية للشيخ عن كتاب لم نقف عليه ويستغنى عنه بجوابه ).
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وبعد :
قال الله سبحانه وتعالى : ( إن الدين عند الله الإسلام ) وقال تعالى : ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ) وقال تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتمت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ).
قيل إنها آخر آية نزلت، وفسر نبي الله صلى الله عليه وسلم الإسلام لجبريل عليه السلام وبناه أيضاً على خمسة أركان، وتضمن كل ركن علماً وعملاً فرضاً على كل ذكر وأنثى لقوله : ( لا ينبغي لأحد يقدم على شيء حتى يعلم حكم الله فيه ).
فاعلم أن أهمها وأولاها الشهادتان وما تضمنا من النفي والإثبات من حق الله على عبيده، ومن حق الرسالة على الأمة، فإن بان لك شيء من ذلك ما ارتعت وعرفت ما الناس فيه من الجهل والغفلة والإعراض عما خلقوا له، وعرفت ما هم عليه من دين الجاهلية وما معهم من الدين النبوي ؛ وعرفت أنهم بنوا دينهم على ألفاظ وأفعال أدركوا عليها أسلافهم نشأ عليها الصغير وهرم عليها الكبير، ويؤيد ذلك أن الولد إذا بلغ عشر سنين غسلوا له أهله وعلموه ألفاظ الصلاة وحيي على ذلك ومات عليه.(8/101)
أتظن من كانت هذه حاله هل شم لدين الإسلام الموروث عن الرسول رائحة ؟ فما ظنك به إذا وضع في قبره وأتاه الملكان وسألاه، عما عاش عليه من الدين بماذا يجيب ؟ : ( هاه هاه، لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته )، وما ظنك إذا وقف بين يدي الله سبحانه وسأله : ماذا كنتم تعبدون وبماذا أجبتم المرسلين، بماذا يجيب ؟ رزقنا الله وإياك علماً نبوياً وعملاً خالصاً في الدنيا ويوم نلقاه آمين. فانظر يا رجل حالك وحال أهل هذا الزمان أخذوا دينهم عن آبائهم ودانوا بالعرف والعادة، وما جاز عند أهل الزمان والمكان دانوا يه وما لا فلا، فأنت وذاك، وإن كانت نفسك عليك عزيزة ولا ترضى لها بالهلاك فالتفت لما تضمنت أركان الإسلام من العلم والعمل خصوصا الشهادتين من النفي والإثبات، وذلك ثابت من كلام الله وكلام رسوله.
قيل إن أول آية نزلت قوله سبحانه بعد اقرأ : ( يا أيها المدثر، قم فأنذر ) قف عندها ثم قف ثم قف ترى العجب العجيب، ويتبين لك ما أضاع الناس من أصل الأصول، وكذلك قوله تعالى : ( ولقد بعثنا في كل أمة رسولا ) وكذلك قوله تعالى : أفرأيت من اتخذ إلهه هواه )(8/102)
الآية، وكذلك قوله تعالى : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ) وغير ذلك من النصوص الدالة على حقيقة التوحيد الذي هو مضمون ما ذكرت في رسالتك أن الشيخ محمداً قرر لكم ثلاثة أصول : توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية والولاء والبراء، وهذا هو حقيقة دين الإسلام ولكن قف عند هذه الألفاظ واطلب ما تضمنت من العلم والعمل ولا يمكن في العلم إلا أنك تقف على كل مسمى منهما مثل الطاغوت أكاد سليمان والمويس وعريعر وأبا ذراع والشيطان رءوسهم كذلك قف عند الأرباب منهم أكادهم العلماء والعباد كائناً من كان أفنوك بمخالفة الدين ولو جهلا منهم فأطعتهم، كذلك قوله تعالى : ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداد يحبونهم كحب الله ) يفسرها قوله تعالى : ( قل إن كان آباؤكم وإخوانكم ) كذلك قوله تعالى ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ) وهذه أعم مما قبلها وأضرها وأكثرها وقوعاً، ولكن أظنك وكثير من أهل الزمان ما يعرف من الآلهة المعبودة إلا هبل ويغوث ويعوق ونسرا واللات والعزى ومناة، فإن جاد فهمه عرف أن المقامات المعبودة اليوم من البشر والشجر والحجر ونحوها مثل شمسان وإدريس وأبو حديدة ونحوهم منها. هذا ما أثمر به الجهل والغفلة والأعراض عن تعلم دين الله ورسوله، ومع هذا يقول لكم شيطانكم المويس أن بنيات حرمة وعيالهم يعرفون التوحيد فضلا عن رجالهم، وأيضاً تعلم معنى لا إله إلا الله بدعة استغربت ذلك مني فاحضر عندك جماعة واسألهم عما يسئلون عنه في القبر هل تراهم يعبرون عنه لفظاً وتعبيراً ؟ فكيف إذا طولبوا بالعلم والعلم ؟(8/103)
هذا ما أقول لك فإن بان لك شيء من ذلك ارتعت روعة صدق على ما فاتك من العلم والعمل في دين الإسلام أكبر من روعتك التي ذكرت في رسالتك من تجهيلنا جماعتك، ولكن هذا حق من أعرض عما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من دين الإسلام فكيف بمن له قريب من أربعين سنة يسب دين الله ورسوله ويبغضه ويصد عنه مهما أمكن ؟ فلما عجز عن التمرد في دينه الباطل، وقيل له أجب عن دينك وجادل دونه وانقطعت حجته أقر أن هذا الذي عليه ابن عبد الوهاب أنه هو دين الله ورسوله، قيل له : فالذي عليه أهل حرمة قال : هو دين الله ورسوله، كيف يجتمع هذا وهذا في قلب رجل واحد ؟ فكيف بجماعات عديدة بين الطائعتين من الاختلاف سنين عديدة ما هو معروف ؟ حتى أن كلا منهم شهر السيف دون دينه واستمر الحرب مدة طويلة وكل منهم يدعي صحة دينه ويطعن في دين الآخر نعوذ بالله من سوء الفهم وموت القلوب أهل دينين مختلفين وطائفتان يقتتلون كل منهم على صحة دينه، ومع هذا يتصور أن الكل دين صحيح يدخل من دان به الجنة (سبحانك هذا بهتان عظيم ) فكيف والناقد بصير، فيا رجل ألق سمعك لما فرض الله عليك خصوصا الشهادتين وما تضمنتاه من النفي والإثبات، ولا تغير باللفظ والفطرة وما كان عليه أهل الزمان والمكان فتهلك.
فاعلم أن أهم ما فرض على العباد معرفة أن العباد معرفة أن الله رب كل شيء وملكيه ومدبره بإرادته، فإذا عرفت هذا فانظر ما حق من هذه صفاته عليك بالعبودية بالمحبة والإجلال والتعظيم والخوف والرجاء والتأله المتضمن للذل والخضوع لأمره ونهيه، وذلك قبل فرض الصلاة والزكاة ولذلك يعرف عباده بتقرير ربوبيته ليرتقوا بها إلي معرفة إلهيته التي هي مجموع عبادته على مراده نفياً وإثباتاً علماً وعملاً جملة وتفصيلاً.
( هذا آخر الرسالة والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم ).(8/104)
الرسالة السادسة والعشرون
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلي من يصل إليه من علماء الإسلام، أنس الله بهم غربة الدين، وأحيى بهم سنة إمام المتقين، ورسول رب العالمين، سلام عليكم معشر الإخوان ورحمة الله وبركاته أما بعد :
فإنه قد جرى عندنا فتنة عظيمة، بسبب أشياء نهيت عنها بعض العوام من العادات التي نشؤوا عليها، وأخذها الصغير عن الكبير، مثل عبادة غير الله وتوابع ذلك من تعظيم المشاهد، وبناء القباب على القبور وعبادتها واتخاذها مساجد، وغير ذلك مما بينه الله ورسوله غاية البيان، وأقام الحجة وقطع العذرة، ولكن الأمر كما قال صلى الله عليه وسلم :
( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدا ) فلما عظم العوام قطع عاداتهم وساعدهم على إنكار دين الله بعض من يدعي العلم وهو من أبعد الناس عنه- إذ العالم من يخشى الله –فأرضى الناس بسخط الله ؛ وفتح للعوام باب الشرك بالله، وزين لهم وصدهم عن إخلاص الدين لله ؛ وأوهمهم أنه من تنقيص الأنبياء الصالحين، وهذا بعينيه هو الذي جرى على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر أن عيسى عليه السلام عبد مربوب، ليس له من الأمر شيء، قالت النصارى : إنه سب المسيح وأمه، وهكذا قالت الرافضة لمن عرف حقوق أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم وأحبهم، ولم يغل فيهم، رموه ببغض أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا هؤلاء، لما ذكرت لهم ما ذكره الله ورسوله، وما ذكره أهل العلم من جميع الطوائف، من الأمر بإخلاص الدين لله، والنهي عن مشابهة أهل الكتاب من قبلنا في اتخاذ الأحبار والرهبان أربابآ من دون الله، قالوا لنا تنصم الأنبياء والصالحين والأولياء، والله تعالى ناصر لدينه ولو كره المشركون، وها أنا أذكر مستندي في ذلك، من كلام أهل العلم من جميع الطوائف فرحم الله من تدبرها بعين البصيرة، ثم نصر الله ورسوله وكتابه ودينه، ولم تأخذه في ذلك لومة لائم.(8/105)
فأما كلام الحنابلة فقال الشيخ تقي الدين رحمة الله لما ذكر حديث الخوارج : فإذا كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه ممن قد انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة، فيعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة قد يمرق أيضاً ؛ وذلك بأمور منها : الغلو الذي ذمه الله تعالى كالغلو في بعض المشائخ كالشيخ عدي بل الغلو في علي بن أبي طالب بل الغلو في المسيح ونحوه، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الإلهية، مثل أن يدعوه من دون الله بأن يقول : يا سيدي فلان أغثني أو أجرني، أو أنت حسبي، أو أنا في حسبك ؛ فكل هذا شرك وضلال، يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل فإن الله أرسل الرسل ليعبده وحده لا يجعل معه إله آخر، والذين يجعلون مع الله آلهة أخرى مثل الملائكة أو المسيح أو العزيز أو الصالحين أو غيرهم، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق وترزق، وإنما كانوا يدعونهم يقولون : ( هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) فبعث الله الرسل تنهى أن يدعى أحد من دون الله، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة انتهى، وقال في ( الإقناع ) في أول باب حكم المرتد : أن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم فهو كافر إجماعاً.(8/106)
وأما كلام الحنفية فقال الشيخ قاسم : في شرح ( درر البحار ) النذر الذي يقع من أكثر العوام بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلا: يا سيدي إن رد غائبي، أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي فلك من الذهب أو الطعام الشمع كذا وكذا باطل إجماعاً، بوجوه منها : أن النذر للمخلوق لا يجوز ومنها : أنه ظن الميت يتصرف في الأمر، واعتقاد هذا كفر إلى أن قال : وقد ابتلى الناس بذلك ولا سيما في مولد الشيخ أحمد البدوي، وقال الإمام البزازي في ( فتاويه ) : إذا رأى رفض صوفية زماننا هذا في المساجد مختلطاً بهم جهال العوام الذين لا يعرفون القرآن والحلال والحرام، بل لا يعرفون الإسلام والإيمان، لهم نهيق يشبه نهيق الحمير يقول : هؤلاء لا محالة اتخذوا دينهم لهواً ولعباً، فويل للقضاة والحكام حيث لا يغيرون هذا مع قدرتهم.(8/107)
وأما كلام الشافعية فقال الإمام محدث الشام أبو شامة : وهو في زمن الشارح وابن حمدان في كتاب ( الباعث على إنكار البدع والحوادث ) : لكن نبين من هذا ما وقع فيه جماعة من جهال العوام، النابذين لشريعة الإسلام، وهو ما يفعله الطوائف من المنتسبين إلى الفقر الذي حقيقته الافتقار من الإيمان من الإيمان من مؤاخات النساء الأجانب،، واعتقادهم في مشائخ لهم، وأطال رحمه الله الكلام – إلى أن قال :-وبهذه الطرق وأمثالها كان مبادئ ظهور الكفر من عبادة الأصنام وغيرها، ومن هذا ما قد عم الابتلاء به من تزين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد وسرج مواضع مخصوصة في كل بلد يحكى لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحداً ممن شهر بالصلاح ثم يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لها وهي ما بين عيون وشجر وحائط، وفي مدينة دمشق صانها الله من ذلك مواضع متعددة، ثم ذكر رحمه الله الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال له بعض من معه اجعل لنا ذات أنواط قال : ( الله أكبر قلتم والذي نفس محمد بيده كما قال قوم موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ) انتهى كلامه رحمة الله، وقال : في ( اقتضاء الصراط المستقيم ) إذا كان هذا كلامه صلى الله عليه وسلم في مجرد قصد شجرة لتعليق الأسلحة والعكوف عندها فكيف بما هو أعظم منها الشرك بعينه بالقبور ونحوها ؟(8/108)
وأما كلام المالكية فقال أبو بكر ( الطرطوشي ) في كتاب ( الحوادث والبدع ) لما ذكر حديث الشجرة ذات أنواط فانظروا رحمكم الله أين ما وجدتم سدرة أو شجرة، يقصدها الناس ويعظمون من شأنها، ويرجون البرء والشفاء لمرضاهم من قبلها، فهي ذات أنواط فاقطعوها، وذكر حديث العرباض بن سارية الصحيح وفيه قوله صلى الله عليه وسلم : ( فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة ) قال في البخاري : عن أبي الدرداء أنه قال : والله ما أعرف من أمر محمد شيئاً إلا أنهم يصلون جميعاً، وروى مالك في الموطأ عن بعض الصحابة أنه قال : ما أعرف شيئاً مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة، قال الزهري : دخلت على أنس بدمشق وهو يبكي... فقال : ما أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة وهذه الصلاة قد ضيعت، قال الطرطوشي رحمه الله : فانظروا رحمكم الله إذا كان في ذلك الزمن طمس الحق، وظهر الباطل، حتى ما بعرف من الأمر القديم إلا القبلة، فما ظنك بزمنك هذا والله المستعان.
وليعلم الواقف على هذا الكلام من أهل العلم أعزهم الله أن الكلام في مسألتين :
( الأولى ) : أن الله سبحانه بعث محمداً صلى الله عليه وسلم لإخلاص الدين لله لا يجعل معه أحد في العبادة والتأله، لا ملك ولا نبي ولا قبر ولا حجر ولا شجر ولا غير ذلك، وأن من عظم الصالحين بالشرك بالله فهو يشبه النصارى وعيسي عليه السلام برئ منهم.
( والثانية ) : وجوب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك البدع، وإن اشتهرت بين أكثر العوام، وليعلم أن العوام محتاجون إلى كلام أهل العلم من تحقيق هذه المسائل، ونقل كلام العلماء، فرحم الله من نصر الله ورسوله ودينه ولم تأخذه في الله لومة لائم، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(8/109)
الرسالة السابعة والعشرون
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى من يصل إليه من المسلمين هدانا الله وإياهم لدينه القويم وسلوك صراطه المستقيم ورزقنا وإياهم ملة الخليلين محمد وإبراهيم.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد :
قال الله تعالى : ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ) وقال تعالى : ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ) وقال تعالى : ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً ) إلى قوله: ( أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) فيجب على كل إنسان يخاف الله والنار، أن يتأمل كلام ربه الذي خلقه هل يحصل لأحد من الناس أن يدين الله بغير دين النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى : ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدي ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ) ودين النبي صلى الله عليه وسلم التوحيد وهو معرفة لا إله إلا الله، محمد رسول الله والعمل بمقتضاهما.
فإن قيل : كل الناس يقولونها، قيل منهم من يقولها، ويحسب معناها أنه لا يخلق إلا الله ولا يرزق إلا الله وأشباه ذلك ومنهم من لا يفهم معناها، ومنهم لا من لا يعمل بمقتضاها، ومنهم من لا يعقل حقيقتها، وأعجب من ذلك من عرفها من وجه، وعاداها وأهلها من وجه، وأعجب منه من أحبها وانتسب إلى أهلها، ولم يفرق بين أوليائها وأعدائها، يا سبحان الله العظيم أتكون طائفتان مختلفتين في دين واحد وكلهم على الحق كلا والله ! فماذا بعد الحق إلا الضلال فإذا قيل : التوحيد زين والدين حق إلا التكفير والقتال، قيل اعملوا بالتوحيد ودين الرسول، ويرتفع حكم التكفير والقتال، فإن كان حق التوحيد الإقرار به والإعراض عن أحكامه فضلا عن بغضه ومعاداته، فهذا والله عين الكفر وصريحة، فمن أشكل عليه من ذلك شيء فليطالع سيرة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والسلام عائد عليكم كما بدا ورحمة الله وبركاته.(8/110)
الرسالة الثامنة والعشرون
ومنها رسالة أرسلها إلى أهل الرياض ومنفوحة وهو إذ ذاك مقيم في بلد العيينة، وكتب إلى عبد الله بن عيسى قاضي الدرعية يسجل تحتها بما رآه من الكلام ليكون ذلك سبباً لقولها، وهذا نص الرسالة :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد :
فقد قال الله تعالى : ( والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد ) وذلك أن الله أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم ليبين للناس الحق من الباطل، فبين صلى الله عليه وسلم للناس جميع ما يحتاجون إليه في أمر دينهم بياناً تاماً وما مات صلى الله عليه وسلم حتى ترك الناس على المحجبة البيضاء ليلها كنهارها، فإذا عرفت ذلك فهؤلاء الشياطين من مردة الإنسن يحاجون في الله من بعد ما استجيب له إذا رأوا من يعلم الناس ما أمرهم به محمد صلى الله عليه وسلم من شهادة أن لا إله إلا الله وما نهاهم عنه مثل الاعتقاد في المخلوقين الصالحين وغيرهم قاموا يجادلون ويلبسون على الناس ويقولون كيف تكفرون المسلمين كيف تسبون الأموات آل فلان أهل ضيف آل فلان أهل كذا وكذا ومرادهم بهذا لئلا يتبين معنى لا إله إلا الله، ويتبين أن الاعتقاد في الصالحين النفع والضر ودعاءهم كفر ينقل عن الملة فيقولون الناس لهم إنكم قبل ذلك جهال لأي شيء لم تأمرونا بهذا. وأنا أخبركم عن نفسي والله الذي لا إله إلا هو لقد طلبت العلم واعتقد من عرفني أن لي معرفة وأنا ذلك الوقت لا أعرف معنى لا إله إلا الله، ولا أعرف دين الإسلام قبل هذا الخير الذي من الله به. وكذلك مشايخي ما منهم رجل عرف ذلك، فمن زعم من علماء العارض أنه عرف معنى لا إله إلا الله أو عرف معنى الإسلام قبل هذا الوقت أو زعم عن مشايخه أن أحداً عرف ذلك فقد كذب وافترى ولبس على الناس ومدح نفسه بما ليس فيه. وشاهد هذا أن عبد الله بن عيسى ما نعرف في علماء(8/111)
نجد ولا علماء العارض ولا غيره أجل منه، وهذا كلامه واصل إليكم إن شاء الله فاتقوا الله عباد الله ولا تكبروا على ربكم ولا نبيكم، واحمدوه سبحانه الذي من عليكم ويسر لكم من يعرفكم بدين نبيكم صلى الله عليه وسلم ولا تكونوا من الذين بدلوا نعمه الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار، إذا عرفتم ذلك فاعلموا أن قول الرجل : لا إله إلا الله نفى وإثبات، إثبات الألوهية كلها لله وحده ونفيها عن الأنبياء والصالحين وغيرهم، وليس معنى الألوهية أنه لا يخلق ولا ولا يرزق ولا يدبر ولا يحيى ولا يميت إلا الله فإن الكفار الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرون بهذا كما قال تعالى : ( قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون فتفكروا عباد الله فيما ذكر الله عن الكفار أنهم مقرون بهذا كله لله وحده لا شريك له، وإنما كان شركهم أنهم يدعون الأنبياء والصالحين ويندبونهم وينذرون لهم ويتوكلون عليهم يريدون منهم أنهم يقربونهم إلي الله كما ذكر الله عنهم ذلك في قوله تعالى : ( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إذا عرفتم ذلك فهؤلاء الطواغيت الذين يعتقد الناس فيهم من أهل الخرج وغيرهم مشهورون عند الخاص والعام بذلك، وأنهم يترشحون له ويأمرون به الناس ؛ كلهم كفار مرتدون عن الإسلام ومن جادل عنهم أو أنكر على من كفرهم أو زعم أن فعلهم هذا لو كان باطلا فلا يخرجهم إلى الكفر فأقل أحوال هذا المجادل أنه فاسق لا يقبل خطه ولا شهادته ولا يصلي خلفه بل لا يصح دين الإسلام إلا بالبراءة من هؤلاء وتكفيرهم كما قال تعالى : ( فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى ) ومصداق هذا أنكم إذا رأيتم من يخالف هذا الكلام وينكره فلا يخلو : إما أن يدعى أنه عارف فقولوا له هذا الأمر(8/112)
العظيم لا يغفل عنه فبين لنا ما يصدقك من كلام العلماء إذا لم تعرف كلام الله ورسوله، فإن زعم أن عنده دليلا فقولوا له يكتبه حتى نعرضه على أهل المعرفة، ويتبين لنا أنك على الصواب، ونتبعك فإن نبينا صلى الله عليه وسلم قد بين لنا الحق من الباطل، وإن كان المجادل يقر بالجهل ولا يدعي المعرفة فيا عباد الله كيف ترضون بالأفعال والأقوال التي تغضب الله ورسوله، وتخرجكم عن الإسلام إتباعاً لرجل يقول : إني عارف فإذا طالبتموه بالدليل عرفتم أنه لا علم عنده أو اتباعاً لرجل جاهل، وتعرضون عن طاعة ربكم وما بينه نبيكم صلى الله عليه وسلم وأهل العلم بعده، ما قص الله عليكم في كتابه لعلكم تعتبرون فقال : ( ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون ) وهؤلاء أهلكم الله بالصيحة وأنتم الآن إذا جاءكم من يخبركم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنكم فريقان تختصمون أفلا تخافون أن يصيبكم من العذاب ما أصابهم.(8/113)
والحاصل أن مسائل التوحيد ليست من المسائل التي هي من فن المطاوعة خاصة، بل البحث عنها أو تعلمها فرض لازم على العالم والجاهل والمحرم والمحل والذكر والأنثى، وأنا لا أقول لكم : أطيعوني ولكن الذي أقول لكم إذا عرفتم أن الله أنعم عليكم وتفضل عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم والعلماء بعده، فلا ينبغي لكم معاندة محمداً صلى الله عليه وسلم، وقولكم أننا نكفر المسلمين كيف تفعلون كذا كيف تفعلون كذا، فإنا لم نكفر المسلمين بل ما كفرنا إلا المشركين وكذلك أيضآ من أعظم الناس ضلال متصوفة في معكال وغيره مثل ولد موسى بن جوعان وسلامة بن مانع وغيرهما يتبعون مذهب ابن عربي وابن الفارض، وقد ذكر أهل العلم أن ابن عربي من أئمة أهل مذهب الاتحادية وهم أغلظ كفراً من اليهود والنصارى فكل من لم يدخل في دين محمد صلى الله عليه وسلم ويتبرأ من دين الاتحادية فهو كافر برئ من الإسلام ولا تصح الصلاة خلفه، ولا تقبل شهادته، والعجب كل العجب أن الذي يدعي المعرفة يزعم أنه لا يعرف كلام الله، ولا كلام رسوله بل يدعى أني أعرف كلام المتأخرين مثل ( الأقناع ) وغيره وصاحب الإقناع قد ذكر أن من شك في كفر هؤلاء السادة والمشائخ فهو كافر، سبحان الله، كيف يفعلون أشياء في كتابهم أن من فعلها كفر ومع هذا يقولون نحن أهل المعرفة وأهل الصواب وغيرنا صبيان جهال، والصبيان يقولون أظهروا لنا كتابكم ويأبون عن إظهاره أما في هذا ما يدل على جهالتهم وضلالتهم، وكذلك أيضاً من جهالة هؤلاء وضلالتهم إذا رأوا من يعلم الشيوخ وصبيانهم أو البدو شهادة أن لا إله إلا الله قالوا : قولوا لهم يتركون الحرام وهذا من عظيم جهلهم فإنهم لا يعرفون إلا ظلم الأموال ؛ وأما ظلم الشرك فلا يعرفون وقد قال الله تعالى : ( إن الشرك لظلم عظيم ) وأين الظلم الذي إذا تكلم الإنسان بكلمة منه أو مدح الطواغيت أو جادل عنهم خرج من الإسلام ولو كان صائما قائماً من الظلم الذي لا يخرج من الإسلام بل(8/114)
إما أن يؤدي إلى صاحبه بالقصاص وإما أن يغفره الله فبين الموضعين فرق عظيم.
وبالجملة رحمكم الله إذا عرفتم ما تقدم أن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد بين، الدين، كله فاعلموا أن هؤلاء الشياطين قد أحلوا كثيراً من الحرام في الربا والبيع وغير ذلك، وغير ذلك، وحرموا عليكم كثيراً من الحلال وضيقوا ما وسعه الله فإذا رأيتم الاختلاف فاسألوا عما أمر الله به ورسوله ولا تطيعوني ولا غيري، وسلام عليكم ورحمة الله.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا لإسلام ومن علينا باتباع محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وبعد :
فبقول العبد الفقير إلى الله تعالى عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن : إن أول واجب على كل ذكر وأنثى معرفة شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي أرسل الله بها جميع رسله، وأنزل لأجلها جميع كتبه، وجعلها أعظم حقه على عباده كما ذكرنا الله لنا في كتابه وعلى لسان رسوله في مواضع لا تحصى، منها قوله تعالى (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) وقال تعالى : (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون) وقال (فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة) وقد أمر الله عباده بالاستجابة لهذه الكلمة فقال : (استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله مالكم من ملجأ يومئذ وما لكم من نكير) وتوعد سبحانه أفضل الخلق وأكرمهم سيد ولد آدم والنبين قبله على مخالفتها فقال :(8/115)
(ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) فكيف بغيرهم من سائر الخلق، وقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا قو أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصمون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ) فمن نصح نفسه وأهله وعياله، وأراد النجاة من النار، فليعرف شهادة أن لا إله إلا الله، فإنها العروة الوثقى وكلمة التقوى، لا يقبل الله من أحد عملا إلا بها : لا صلاة، ولا صوماً، ولا حجاً ولا صدقة، ولا جميع الأعمال الصالحة ـ إلا بمعرفتها والعمل بها، وهي كلمة التوحيد، وحق الله على العبيد، فمن أشرك مخلوقاً فيها من ملك مقرب، أو نبي مرسل، أو ولي، أو صحابي وغيره، أو صاحب قبر أو جني، او غيره، أو استغاث به، أو استعان به فيما لا يطلب إلا من الله أو نر له أو ذبح له، أو توكل عليه أو رجاه أو دعاه دعاء استغاثة أو استعانة، أو جعله واسطة بينه وبين الله لقضاء حاجته، أو لجلب نفع أو كشف ضر، فقد كفر كفر عباد الأصنام القائلين ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى زلفى ) القائلين ( هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) كما ذكر الله عنهم في كتابه، وهم مخلدون في النار ـ وإن صاموا وصلوا وعملوا بطاعة الله الليل والنهار كما قال تعالى : ( إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ) وغيرها من الآيات، وكذلك من ترشح بشيء من ذلك أو أحب من ترشح له، أو ذب عنه، أو جادل عنه ـ فقد أشرك شركاً لا يغفر، ولا يقبل ولا تصح منه الأعمال الصالحة : الصوم والحج وغيرها : (إن الله لا يغفر أن يشرك به ) ولا يقبل عمل المشركين، وقد نهى الله نبيه وعباده عن المجادلة عمن فعل مادون الشرك من الذنوب بقوله : ( ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ) فكيف بمن جادل عن المشركين وصد عن رب العالمين ؟ فالله الله عباد لا تغتروا بمن لا يعرف شهادة أن لا إله إلا الله وتلطخ بالشرك وهو لا يشعر ؛ فقد مضى أكثر حياتي ولم أعرف من(8/116)
أنواعه ما أعرفه اليوم، فلله الحمد على ما علمنا من دينه ولا يهولنكم اليوم أن هذا الأمر غريب فإن نبيكم صلى الله عليه وسلم قال ( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ ) واعتبروا بدعاء أبينا إبراهيم عليه السلام بقوله في دعائه : (واجبني وبني أن نعبد الأصنام. رب إنهن أضللن كثيراً من الناس) ولولا ضيق هذه الكراسة وأن الشيخ محمداً أجاد وأفاد بما أسلفه من الكلام فيها لأطلنا الكلام. وأما الاتحادي ابن عربي صاحب النصوص المخالف للنصوص، وابن الفارض الذي لدين الله محارب وبالباطل للحق معارض، فمن تمذهب بمذهبهما فقد اتخذ مع غير الرسول سبيلا، وانتحل طريق المغضوب عليهم والضالين المخالفين لشريعة سيد المرسلين، فإن ابن عربي، وابن الفارض ينتحلان نحلا تكفرهما وقد كفرهم كثير من العلماء العاملين فهؤلاء يقولون كلاماً أخشى المقت من الله في ذكره فضلا عمن انتحله، فإن لم يتب إلى الله من انتحل مذهبهما وجب هجره وعزله عن الولاية إن كان ذا ولاية من إمامة أو غيرها فإن صلاته غير صحيحة لا لنفسه ولا لغيره، فإن قال جاهل أرى عبد الله توه يتكلم في هذا الأمر، فيعلم أنه إنما تبين لي الآن وجوب الجهاد في ذلك علي وعلى غيري لقوله تعالى: ( وجاهدوا في الله حق جهاده ) إلى أن قال : ( ملة أبيكم إبراهيم ) وصلى الله على محمد وآله وسلم.(8/117)
الرسالة التاسعة والعشرون
ومنها الرسالة التي أرسلها إلي بعض البلدان قال فيها :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه هذا الكتاب من المسلمين
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد : فاعلموا رحمكم الله أن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس بشيراً ونذيراً مبشراً لمن اتبعه بالجنة ومنذراً لمن لا يتبعه بالنار، وقد علمتم إقرار كل من له معرفة أن التوحيد الذي بينا للناس هو الذي أرسل الله به رسله، حتى كل مطوع معاند يشهد بذلك وأن الذي عليه غالب الناس من الاعتقادات في الصالحين وفي غيرهم هو الشرك الذي قال الله فيه : ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار ) فإذا تحققتم هذا، وعرفتم أنهم يقولون لو يترك أهل العارض التكفير والقتال كانوا على دين الله ورسوله، ونحن ما جئناكم في التكفير والقتال لكن ننصحكم بهذا الذي قطعتم أنه دين الله ورسوله إن كنتم تعلمونه وتعملون به إن كنتم من أمة محمد باطناً وظاهراً وأنا أبين لكن هذه بمسألة القبلة أن النبي صلى الله عليه وسلم وأمته يصلون والنصارى يصلون ولكن قبلته صلى الله عليه وسلم وأمته بيت الله وقبلة النصارى مطلع الشمس فالكل منا ومنهم يصلي ولكن اختلفنا في القبلة، ولو أن رجلاً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يقر بهذا، ولكن يكره من يستقبل القبلة ويحب من يستقبل الشمس أتظنون أن هذا مسلم، وهذا ما نحن فيه فالنبي صلى الله عليه وسلم بعثه الله بالتوحيد، وأن لا يدعى مع الله أحد لا نبي ولا غيره والنصارى يدعون عيسى رسول الله، ويدعون الصالحين يقولون ليشفعوا لنا عند الله فإذا كان كل مطوع مقراً بالتوحيد فاجعلوا التوحيد مثل القبلة واجعلوا الشرك مثل استقبال المشرق مع أن هذا أعظم من القبلة، وأنا أنصحكم لله وأنخاكم لا تضيعوا حظكم من الله، وتحبون دين النصارى على دين نبيكم فما ظنكم بمن واجه الله وهو يعلم من قلبه أنه عرف أن التوحيد دينه ودين رسوله وهو يبغضه ويبغض من اتبعه، ويعرف أن دعوة غيره هو الشرك، ويحبه ويحب من اتبعه أتظنون أن الله يغفر لهذا ؟ والنصيحة لمن خاف عذاب الآخرة، وأما القلب
الخالي من ذلك فلا والسلام.(8/118)
الرسالة الثلاثون
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى الأخ فايز سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد :
مسألة الشرك بالله بينها الله سبحانه، وأكثر الكلام فيها، وضرب لها الأمثال ؛ ومن أعظم ما ذكر فيها قوله : ( ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ) مع أن الذين طلبوا منه ليس شرك القلب، وأما كونك تعرفه مثل معرفة الفواحش، وتكرهه كما تكرهها فهذا له سببان أحدهما : اللجوء إلى الله، وكثرة الدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم بحضور قلب، الثاني: الفكرة في المثل الذي ضربه الله في سورة الروم بقوله : ( ضرب لكم مثلا من أنفسكم ) فإذا أمعنت النظر وتأملت لو أن رجلا يشرك بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين مسيلمة في الرسالة أنها أكبر قبحاً من الفواحش فكيف لو يشرك بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين امرأة زانية، وأنت تعرف أن أهل بلد لو يصلون على شيخهم أو إمامهم كما يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم أعد هذا من أعظم الفواحش بكثير، فإذا وازنت بين هذا وبين ما يفعله أكثر الناس اليوم من دعوة الله ودعوة أبي طالب أو الكواز، أو أخس الناس، أو شجرة أو حجر أو غير ذلك تبين لك أن الأمر أعظم مما ذكرنا بكثير، لكن الذي غير القلوب أن هذا تعودته وألفته، وتلك الأنواع لم تعودها القلوب فلذلك تكرهها لأن القلوب على الفطرة إلا أن تتغير إذا كبرت بالعادات والسلام.(8/119)
القسم الرابع / بيان الأشياء التي يكفر مرتكبها ويجب قتاله والفرق بين فهم الحجة وبيان قيام الحجة
ص 203
الرسالة الحادية والثلاثون
ومنها رسالة كتبها إلى أحمد بن إبراهيم مطوع مرات من بلدان الوشم وكان قد أرسل إليه رسالة فأجابه الشيخ بهذه.
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى أحمد بن إبراهيم هدانا الله وإياه وبعد :
ما ذكرت من مسألة التكفير، وقولك أبسط الكلام فيها فلو بيننا اختلاف أمكنني أن أبسط الكلام أو أمتنع، وأما إذا اتفقنا على الحكم الشرعي لا أنت بمنكر الكلام الذي كتبت إليك، ولا أنا بمنكر العبارات التي كتبت إلي، وصار الخلاف في أناس معينين إقرار أن التوحيد الذي ندعو إليه دين الله ورسوله، وأن الذي ننهي عنه في الحرمين والبصرة والحسا هو الشرك بالله، ولكن هؤلاء المعينون هل تركوا التوحيد بعد معرفته وصدوا الناس عنه ؟ أم فرحوا به وأحبوه ودانوا به وتبرأوا من الشرك أهله ؟ فهذه ليس مرجعها إلى طالب العلم بل مرجعها إلى علم الخاص والعام.مثال ذلك إذا صح أن أهل الحسا والبصرة يشهدون أن التوحيد الذي نقول دين الله ورسوله، وأن هذا المفعول عندهم في الأحياء والأموات هو الشرك بالله، ولكن أنكروا علينا التكفير والقتال خاصة. والمرجع في المسألة إلى الحضر والبدو والنساء، والرجال هل أهل قبة الزبير وقبة الكواز تابو من دينهم وتبعوا ما أقروا به من التوحيد؟ أو هم على دينهم، ولو يتكلم الإنسان بالتوحيد فسلامته على أخذ ماله، فإن كنت تزعم أن الكواوزة، وأهل الزبير تابوا من دينهم وعادوا من لم يتب فتبعوا ما أقروا به، وعادوا من خالفه هذا مكابرة، وإن أقررتم أنهم بعد الإقرار أشد عداوة ومسبة للمؤمنين والمؤمنات كما يعرفه الخاص والعام، وصار الكلام في أتباع المويس، وصالح بن عبد الله هل هم مع أهل التوحيد؟ أم هم مع الأوثان ؟ بل أهل الأوثان معهم وهم حزبة العدو وحاملوا الراية، فالكلام في هذا نحيله على الخاص والعام فودى أنك تسرع بالنفور فتتوجه إلى الله وتنظر نظر من يؤمن بالجنة والخلود فيها ويؤمن بالنار والخلود فيها، وتسأله بقلب حاضر أن يهديك الصراط المستقيم هذا مع أنك تعلم ما جرى من ابن إسماعيل، وولد ابن ربيعة سنة الحبس لما شكونا عند أهل قبة أبي طالب يوم يكسيه صاية، وجميع من معك من خاص وعام معهم إلى الآن، وتعرف روحة المويس وأتباعه(8/120)
لأهل قبة الكواز، وسية طالب يوم يكسيه صاية، ويقول لهم طالع الناس ينكرون قببكم، وقد كفروا وحل دمهم ومالهم وصار هذا عندك وعند أهل الوشم، وعند أهل سدير والقصيم من فضائل المويس ومناقبه، وهم على دينه إلى الآن مع أن المكاتيب التي أرسلها علماء الحرمين مع المزيودي سنة الحبس عندنا إلى الآن تتناك، وقد صرحوا فيها أن من أقر بالتوحيد كفر وحل ماله ودمه وقتل في الحل والحرم ويذكرون دلائل على دعاء الأولياء في قبورهم، منها قوله تعالى ( لهم ما يشاءون عند ربهم ) فإن كانت ليست عندك، ولا صبرت إلى أن تجيء فأرسل إلى ولد محمد بن سليمان في وشيقر ولسيف العتيقي يرسلونها إليك ويجيبون عن قوله : (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة ) أنهم يدعون على أنهم المعطون المانعون بالأصالة، وأما دعوتهم على أنهم شفعاء فهو الدين الصحيح، ومن أنكره قتل في الحل والحرم، وأيضاً جاءنا بعض المجلد الذي صنفه القباني، واستكتبوه أهل الحسا، وأهل نجد وفيه نقل الإجماع على تحسين قبة الكواز وأمثالها، وعبادتها وعبادة سية طالب ويقول في تصنيفه إنه لم يخالف في تصنيفه إلا ابن تيمية وابن القيم، وعشرة أنا عاشرهم فالجميع اثنا عشر، فإذا كان يوم القيامة اعتزلوا وحدهم عن جميع الأمة وأنتم إلى الآن على ما تعلم مع شهادتكم أن التوحيد دين الله ورسوله وأن الشرك باطل وأيضاً مكاتيب أهل الحسا موجودة، فأما ابن عبد اللطيف وابن عفالق وابن مطلق فحشوا بالزبيل أعني : سبابة التوحيد واستحلال دم من صدق به أو أنكر الشرك، ولكن تعرف ابن فيروز أنه أقربهم إلى الإسلام وهو رجل من الحنابلة، وينتحل كلام الشيخ وابن القيم خاصة ومع هذا صنف مصنفاً أرسله إلينا قرر فيه هذا الذي يفعل عند قبر يوسف وأمثاله هو الدين الصحيح واستدل في تصنيفه بقول النابغة :
أيا قبر النبي وصاحبيه ووا مصيبتنا لو تعلمونا
وفي مصنف ابن مطلق الاستدلال بقول الشاعر :(8/121)
وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة سواك بمغن عن سواد بن قارب
ولكن الكلام الأول أبلغ من هذا كله وهو شهادة البدو والحضر والنساء والرجال أن هؤلاء الذين يقولون التوحيد دين الله ورسوله، ويبغضونه أكثر من بغض اليهود والنصارى، ويسبونه، ويصدون الناس عنه، ويجاهدون في زواله وتثبيت الشرك بالنفس والمال خلاف ما عليه الرسل وأتباعهم، فإنهم يجاهدون حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. وأما قولك أبغي أشارو إبراهيم فلا ودي تصير ثالثاً لابن عباد وابن عيد، أما ابن عباد فبقول أي شيء أفعل بالعناقر، وإلا فالحق واضح ونصحتهم وبينت لهم. وابن عيد أنت خابره حاول إبراهيم في الدخول في الدين، وتعذر من الناس أن إبراهيم ممتنع يا سبحان الله ! إذا كان أهل الوشم أهل سدير وغيرهم يقطعون أن كل مطوع في قرية لو ينقاد شيخها ما منهم أحد يتوقف كيف يكون قدر الدين عندكم ؟ كيف قدر رضا الله والجنة ؟ كيف قدر النار وغضب الله ؟ ولكن ودي تفكر فيما تعلم لما اختلف الناس بعد مقتل عثمان، وبإجماع أهل العلم أنهم لا يقال فيهم إلا الحسنى مع أنهم عثو في دمائهم، ومعلوم أن كلا من الطائفتين : أهل العراق، وأهل الشام معتقدة أنها على الحق والأخرى ظالمة، ونبغ من أصحاب علي من أشرك بعلي وأجمع الصحابة على كفرهم وردتهم وقتلهم، لكن حرقهم علي، وابن عباس يرى قتلهم بالسيف أترى أهل الشام لو حملهم مخالفة علي على الاجتماع بهم، والاعتذار عنهم والمقاتلة معهم لو امتنعوا أترى أحداً من الصحابة يشك في كفر من التجأ إليهم ؟ ولو أظهر البراءة من اعتقادهم، وإنما التجأ إليهم وزين مذهبهم لأجل الاقتصاص من قتلة عثمان، فتفكر في هذه القضية فإنها لا تبقى شبهة إلا على من أراد الله فتنته، وغير ذلك قولك أريد أماناً على كذا وكذا فأنت مخالف والخاص والعام يفرحون بجيتك مثل ما فرحوا بجية ابن غنام، والمنقور، وابن عضيب مع أن ابن عضيب أكثر الناس سباً لهذا الدين الآن وراحوا موقرين(8/122)
محشومين كيف لو تجيء أنت كيف تظن أن بجيئك ما تكره، فإن أردت تجديد الأمان على مابغيت فاكتب لي، ولكن تعرف حرصي على الكتب، فإن عزمت على الراضة وعجلتها على قبلك فتراها على بنو الخير، وإن ما جاز عندك كلها فبعضها ولو مجموع ابن رجب ترى ماجاءنا فهو عارية مؤداة وإن لم تأتنا.
قال ابن القيم في النونيه :
يا فرقة جهلت نصوص نبيها ... وقصوده وحقائق الإيمان
فسطوا على أتباعه وجنوده ... بالبغي والتكفير والطغيان
لله حق لا يكون لغيره ... ولعبده حق هما حقان
لا تجعلوا الحقين حقاً واحداً ... من غير تمييز ولا فرقان
المراد تعريفك لما صدقتك وأن لك نظراً في الحق أن في ذلك الزمان من يكفر العلماء إذا ذكروا التوحيد، ويظنونه تنقيصاً للنبي صلى الله عليه وسلم فما ظنك بزمانك هذا ؟ وإذا كان المكفرون ممن يعدون من علمائهم فما ظنك بولد المويس وفاسد وأمثالهما يوضحه تسجيلهم على جواب علماء مكة ونشره وقراءته على جماعتهم ودعوتهم إليه. ذكر ابن عبد الهادي في مناقب الشيخ لما ذكر المحنة التي نالته بسبب الجواب في شد الرحل فالجواب الذي كفروه بسببه ذكر أن كلامه في هذا الكتاب أبلغ منه، فالعجب إذا كان هذا الكتاب عندك والعلماء في زمن الشيخ كفروه بكلام دونه فكيف بالمويس وأمثاله لا يكفروننا بمحض التوحيد ؟ وذكر ابن القيم في النونية ما يصدق هذا الكلام لما قالوا له إنك مثل الخوارج رد عليهم بقوله :
من لي بمثل خوارج قد كفروا ... بالذنب تأويلا بلا إحسان(8/123)
ثم ذكر في البيت الثاني أن هؤلاء لا يكفروننا بمحض الإيمان والخوارج يكفرون بالذنوب، وكلامي هذا تنبيه أن إنكار التوحيد متقدم، وكذلك التفكير لمن اتبعه، وأنت لا تعتقد أن الزمان صلح بعدهم، ولا تعتقد أن المويس وأمثاله أجل وأورع من أولئك الذين كفروا الشيخ وأتباعه، وعد ابن عبد الهادي من كتبه كتاب ( الاستغاثة ) مجلد ولفانا من الشام مع مربد. وسببه أن رجلا من فقهاء الشافعية يقال له ابن البكري عثر على جواب للشيخ في الاستغاثة بالموتى، فأنكر ذلك، وصنف مصنفاً في جواز الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث الله فيه، وصرح بتكفير الشيخ في ذلك الكتاب وجعله مستنقصاً للأنبياء وأورد فيه آيات وأحاديث. فصنف الشيخ كتاب ( الاستغاثة ) رداً على ابن البكري وقرر فيه مذهب الرسل وأتباعهم، وذكر أن الكفار لم يبلغ شركهم هذا بل ذكر الله عنهم أنهم إذا مسهم الضر أخلصوا ونسوا ما يشركون، والمقصود أن في زمن الشيخ ممن يدعي العلم والتصنيف من أنكر التوحيد، وجعله سباً للأنبياء والأولياء، وكفر من ذهب إليه، فكيف تزعم أن عبدة قبة الكواز وأمثالها ما أنكروه ؟ بل تزعم أنهم قبلوه ودانوا به وتبرءوا من الشرك، ولا أنكروا إلا تكفير من لا يكفر، وأعظم وأطم أنكم تعرفون أن البادية كفروا بالكتاب كله، وتبرءوا من الدين كله واستهزءوا بالحضر الذين يصدقون بالبعث، وفضلوا حكم الطاغوت على شريعة الله واسهزءوا بها مع إقرارهم بأن محمداً رسول الله وأن كتاب الله عند الحضر لكن كذبوا وكفروا واستهزءوا عناداً، ومع هذا تنكرون علينا كفرهم وتصرحون بأن من قال لا إله إلا الله لا يكفر، ثم تذكر في كتابك أنك تشهد بكفر العالم العابد الذي ينكر التوحيد، ولا يكفر المشركين، ويقول هؤلاء السواد الأعظم ما يتيهون، فإن قلم إن الأولين وإن كانوا علماء فلم يقصدوا مخالفة الرسول بل جهلوا، وأنتم وأمثالكم تشهدون ليلاً ونهاراً أن هذا الذي أخرجنا للناس من التوحيد(8/124)
وإنكار الشرك أنه دين الله ورسوله، وأن الخلاف منا والتكفير والقتال، ولو قدرنا أن غيركم يعذر بالجهل فأنتم مصرحون بالعلم والله أعلم.
الرسالة الثانية والثلاثون
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى محمد بن فارس، سلام عليكم، وبعد :
الواصل إليكم مسألة التكفير من كلام العلماء، وذكر في ( الإقناع ) إجماع المذاهب كلها على ذلك، فإن كان عند أحد كلمة تخالف ما ذكروه في مذهب من المذاهب فيذكرها وجزاه الله خيراً، وإن كان يبغي يعاند كلام الله وكلام رسوله، وكلام العلماء، ولا يصغي لهذا أبداً فاعرفوا أن هذا الرجل معاند ما هو بطلاب حق، وقد قال الله تعالى : (( ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون)) والذي يدلكم على هذا أن هؤلاء يعتذرون بالتكفير إذا تأملتهم إذا أن الموحدين أعداؤهم يبغضونهم ويستثقلونهم، والمشركون والمنافقون هم ربعهم الذين يستأنسون إليهم، ولكن هذه قد جرت من رجال عندنا في الدرعية وفي العيينة الذين ارتدوا وأبغضوا الدين.
وقال أيضاً رحمه الله تعالى.
اعلم أن من أعظم نواقض الإسلام عشرة :
الأول : الشرك في عبادة الله وحده لا شريك له، والدليل قوله تعالى : (( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء )) ومنه الذبح لغير الله كمن يذبح للجن أو القباب.
الثاني : من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة كفر إجماعاً.
الثالث : من لم يكفر المشركين، أو شك في كفرهم، أو صحح مذهبهم كفر إجماعاً.
الرابع : من اعتقد أن غير هدى النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه كالذين يفضلون حكم الطاغوت على حكمه فهو كافر.
الخامس : من أبغض شيئاَ مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به كفر إجماعاً، والدليل قوله تعالى : (( ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ))(8/125)
السادس : من استهزأ بشيء من دين الله أو ثوابه أو عقابه كفر والدليل قوله تعالى : (( قل أبا لله وآياته ورسوله تستهزؤن، لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ))
السابع : السحر ومنه الصرف والعطف، فمن فعله أو رضى به كفر والدليل قوله تعالى : (( وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر ))
الثامن : مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين والدليل قوله تعالى : (( ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدى القوم الظالمين ))
التاسع :من اعتقد أن بعض الناس لا يجب عليه اتباعه صلى الله عليه وسلم وأنه يسعه الخروج من شريعته كما وسع الخضر الخروج من شريعة موسى عليهما السلام فهو كافر.
العاشر : الأعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى :(( ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون )) ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف إلا المكره، وكلها من أعظم ما يكون خطراً، ومن أكثر ما يكون وقوعاً فينبغي للمسلم أن يحذرها ويخاف منها على نفسه نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه وصلى الله على محمد.
الرسالة الثالثة والثلاثون
(ص215)
ومنها رسالة أرسلها جواباً لرجل من أهل الحسا يقال له أحمد بن عبد الكريم وكان قد عرف التوحيد وكفر المشركين، ثم إنه حصل له شبهة في ذلك، بسبب عبارات رآها في كلام الشيخ تقي الدين ففهم منها غير مراد الشيخ رحمه الله قال فيها :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلي أحمد بن عبد الكريم، سلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.(8/126)
أما بعد، فقد وصل مكتوبك تقرر المسألة التي ذكرت وتذكر أن عليك إشكالا تطلب إزالته، ثم ورد منك مراسلة تذكر أنك عثرت على كلام الشيخ أزال عنك الإشكال فنسأل الله أن يهديك لدين الإسلام وعلى أي شيء يدل كلامه على أن من عبد الأوثان عبادة أكبر من عبادة اللات والعزى وسب دين الرسول بعد ما شهد به مثل سب أبي جهل أنه لا يكفر بعينه، بل العبارة صريحة واضحة في تكفير مثل ابن فيروز وصالح ابن عبد الله وأمثالهما كفراً ظاهراً ينقل عن الملة فضلا عن غيرهما، هذا صريح واضح في كلام ابن القيم الذي ذكرت وفي كلام الشيخ الذي أزال عنك الإشكال في كفر من عبد الوثن الذي على قبر يوسف وأمثاله، ودعاهم في الشدائد والرخاء، وسب دين الرسل بعد ما أقر به ودان بعبادة الأوثان بعد ما أقر بها، وليس في كلامي هذا مجازفة بل أنت تشهد به عليهم ولكن إذا أعمى الله القلب فلا حيلة فيه. وأنا أخاف عليك من قوله تعالى : ((ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون)) والشبهة التي دخلت عليك هذه البضيعة التي في يديك تخاف تغذى أنت وعيالك إذا تركت بلد المشركين وشاك في رزق الله، وأيضاً قرناء السوء أضلوك كما هي عادتهم، وأنت والعياذ بالله تنزل درجة درجة أول مرة في الشك، وبلد الشرك وموالاتهم والصلاة خلفهم، وبراءتك من المسلمين مداهنة لهم، ثم بعد ذلك طحت على ابن غنام وغيره، وتبرأت من ملة إبراهيم، وأشهدتهم على نفسك باتباع المشركين من غير إكراه لكن خوف ومداراة، وغاب عنك قوله تعالى في عمار بن ياسر وأشباهه : (( من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)) إلى قوله : (( ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على طمأنينة قلبه. والإكراه لا يكون على العقيدة بل على القول والفعل فقد صرح بأن من قال المكفر أو فعله فقد كفر إلا المكره بالشرط المذكور، وذلك أن ذلك بسبب العقيدة فتفكر في نفسك هل أكرهوك وعرضوك على السيف مثل عمار أم لا ؟ وتفكر(8/127)
هل هذا بسبب أن ته عقيد تغيرت أم بسبب إيثار الدنيا ؟ ولم يبق عليك إلا رتبة واحدة وهي : أنك تصرح مثل ابن رفيع تصريحاً بمسبة دين الأنبياء، وترجع إلى عبادة العيدروس وأبي حديدة وأمثالهما، ولكن المر بيد القلوب فأول ما أنصحك به أنك تفكر هل هذا الشرك الذي عندكم هو الشرك الذي ظهر نبيك صلى الله عليه وسلم ينهي عنه أهل مكة، أم شرك أهل مكة نوع آخر أغلظ منه ؟ أم هذا أغلظ فإذا أحكمت المسألة، وعرفت أن غالب من عندكم سمع الآيات وسمع كلام أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين، وأقر به وقال أشهد أن هذا هو الحق ونعرفه قبل ابن عبد الوهاب، ثم بعد ذلك يصرح بمسبة ما شهد أنه الحق، ويصرح بحسن الشرك وأتباعه وعدم البراءة من أهله فتفكر هل هذه مسألة أو مسألة الردة الصريحة التي ذكرها أهل العلم في الردة ؟ ولكن العجب من دلائلك التي ذكرت كأنها أتت ممن لا يسمع ولا يبصر. أما استدلالك بترك النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده تكفير المنافقين وقتلهم فقد عرفه الخاص والعام ببديهة العقل أنهم لو يظهرون كلمة واحدة أو فعلا واحداً من عبادة الأوثان أو مسبة التوحيد الذي جاء الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم يقتلون أشر قتله فإن كنت تزعم أن الذين عندكم أظهروا اتباع الدين الذي تشهد أنه دين الرسول صلى الله عليه وسلم، وتبرؤا من أشرك بالقول والفعل، ولم يبق إلا أشياء خفية تظهر على صفحات الوجه أو فلتة لسان في السر، وقد تابوا من دينهم الأول وقتلوا الطواغيت وهدموا البيوت المعبودة فقل لي، وإن كنت تزعم أن الشرك الذي خرج عليه رسول الله عليه وسلم أكبر من هذا فقل لي وإن كنت تزعم أن الإنسان إذا أظهر الإسلام لا يكفر إذا أظهر عبادة الأوثان، وزعم أنها الدين، وأظهر سب دين الأنبياء وسماه دين أهل العارض وأفتى بقتل من أخلص لله الدين وإحراقه وحل ماله فهذه مسألتك، وقد قررتها وذكرت أن من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا لم يقتلوا أحداً ولم(8/128)
يكفروه من أهل الملة، أما ذكرت قول الله تعالى: (( لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض )) إلى قوله: (( ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا )) واذكر قوله : (( ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها )) إلى قوله : (( فخذوهم واقتلوهم )) واذكر قوله في الاعتقاد في الأنبياء : (( أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون )) واذكر ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أشخص رجلاً معه الراية إلى من تزوج امرأة أبيه ليقتله ويأخذ ماله فأي هذين أعظم ؟ تزوج امرأة الأب أو سب دين الأنبياء بعد معرفته، واذكر أنه قد هم بغزو بني المصطلق لما قيل إنهم منعوا الزكاة حتى كذب الله من نقل ذلك، واذكر قوله في أعبد هذه الأمة وأشدهم اجتهاداً : (( لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم يوم القيامة )) واذكر قتال الصديق وأصحابه ما نعي الزكاة وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم ؛ واذكر إجماع الصحابة على قتل أهل مسجد الكوفة، وكفرهم، وردتهم لما قالوا كلمة في تقرير بنوه مسيلمة، ولكن الصحابة اختلفوا في قبول توبتهم لما تابوا، والمسألة في صحيح البخاري وشرحه في الكفالة، واذكر إجماع الصحابة لما استفتاهم عمر على أن من زعم أن الخمر تحل للخواص مستدلا بقوله تعالى : (( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طمعوا )) مع كونه من أهل بدر، وأجمع الصحابة على كفر من اعتقد في على مثل اعتقاد هؤلاء في عبد القادر، وردتهم، وقتلهم، فأحرقهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهم أحياء فخالفه ابن عباس في الإحراق وقال : يقتلون بالسيف، مع كونهم من أهل القرن الأول أخذوا العلم عن الصحابة، واذكر إجماع أهل العلم من التابعين وغيرهم على قتل الجعد بن درهم. قال ابن القيم :
شكر الضحية كل سنة لله درك من أخي قربان(8/129)
ولو ذهبنا نعدد من كفره العلماء مع ادعائه الإسلام وأفتوا بردته وقتله لطال الكلام لكن من آخر ما جرى قصة بني عبيد ملوك مصر، وطائفتهم وهم يدعون أنهم من أهل البيت، ويصلون الجمعة والجماعة، ونصبوا القضاة والمفتين أجمع العلماء على كفرهم وردتهم وقتالهم وأن بلادهم بلاد حرب يجب قتالهم ولو كانوا مكرهين مبغضين لهم، واذكر كلامه في ( الإقناع ) و(شرحه) في الردة كيف ذكروا أنواعاً كثيرة موجودة عندكم، ثم قال منصور : وقد عمت البلوى بهذه الفرق وأفسدوا كثيراً من عقائد أهل التوحيد نسأل الله العفو والعافية. هذا لفظه بحروفه، ثم ذكر قتل الواحد منهم وحكم ماله هل قال واحد من هؤلاء من الصحابة من أصحابه إلى زمن منصور إن هؤلاء يكفر أنواعهم لا أعيانهم. وأما عبارة الشيخ التي لبسوا بها عليك فهي أغلظ من هذا كله ولو نقول بها لكفرنا كثيراً من المشاهير بأعيانهم فإنه صرح فيها بأن المعين لا يكفر إلا إذا قامت عليه الحجة، فإذا كان المعين، يكفر إذا قامت عليه الحجة، فمن المعلوم أن قيامها ليس معناه أن يفهم كلام الله ورسوله مثل فهم أبي بكر رضي الله عنه، بل إذا بلغه كلام الله ورسوله وخلا من شيء يعذر به فهو كافر كما كان الكفار كلهم تقوم عليهم الحجة بالقرآن مع قول الله : (( وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه )) وقوله (( إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون)) وإذا كان كلام الشيخ ليس في الشرك والردة بل في المسائل الجزئيات سواء كانت من الأصول أو الفروع، ومعلوم أنهم يذكرون في كتبهم في مسائل الصفات أو مسألة القرآن أو مسألة الاستواء أو غير ذلك مذهب السلف، ويذكرون أنه الذي أمر الله به ورسوله والذي درج عليه هو وأصحابه، ثم يذكرون مذهب الأشعري أو غيره، ويرجحونه ويسبون من خالفه. فلو قدرنا أنها لم تقم الحجة على غالبهم قامت على هذا المعين الذي يحكي مذهب الأشعري ومن معه فكلام الشيخ في هذا النوع يقول : إن السلف كفروا النوع،(8/130)
وأما المعين فإن عرف الحق وخالف كفر بعينه وإلا لم يكفروا. وأنا أذكر لك من كلامه ما يصدق هذا لعلك تنتفع إن هداك الله وتقوم عليك الحجة قياماً بعد قيام، وإلا فقد قامت عليك وعلى غيرك قبل هذا. وقال رحمه الله في ( اقتضاء الصراط المستقيم ) في الكلام على قوله (( وما أهل لغير الله به )) ظاهره أنه ما ذبح لغير الله حرم سواء لفظ به أو لم يلفظ وهذا أظهر من تحريم ما ذبح للحم وقال فيه باسم المسيح ونحوه، فإن عبادة الله والنسك له أعظم من الاستعانة باسمه في فواتح الأمور، فكذلك الشرك بالنسك لغيره أعظم من الاستعانة باسمه، وعلى هذا لو ذبح لغير الله متقرباً إليه وإن قال فيه بسم الله كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة، وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال لكن يجتمع في الذبيحة مانعان، ومن هذا الباب ما قد يفعله الجاهلون بمكة وغيرها من الذبح للجن انتهى كلامه بحروفه، فانظر كلامه لمن ذبح لغير الله وسمى الله عليه عند الذبح أنه مرتد تحرم ذبيحته ولو ذبحها للأكل، لكن هذه الذبيحة تحرم من جهتين : من جهة أنها مما أهل به لغير الله، وتحرم أيضا لأنها ذبيحة مرتد يوضح ذلك ما ذكرته أن المنافقين إذا أظهروا نفاقهم صاروا مرتدين فأين هذا من نسبتك عنه أنه لا يكفر أحد بعينه، وقال أيضا في أثناء كلامه على المتكلمين ومن شاكلهم لما ذكر عن أئمتهم شيئا من أنواع الردة والكفر.(8/131)
وقال رحمة الله وهذا إذا كان في المقالات الخفية فقد يقال إنه فيها مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي يعلم المشركون واليهود والنصارى أن محمداً صلى الله عليه وسلم بعث بها وكفر من خالفها مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سواه من النبيين والملائكة وغيرهم، فإن هذا أظهر شرائع الإسلام ثم تجد كثيرا من رؤوسهم وقعوا في هذه الأنواع فكانوا مرتدين، وكثير منهم تارة يرتد عن الإسلام ردة صريحة وتارة يعود إليه مع مرض في قلبه ونفاق والحكاية عنهم في ذلك مشهورة.(8/132)
وقد ذكر ابن قتيبة من ذلك طرفا في أول ( مختلف الحديث )، وأبلغ من ذلك أن منهم من صنف في الردة كما صنف الفخر الرازي في عبادة الكواكب، وهذه ردة عن الإسلام باتفاق المسلمين هذا لفظه بحروفه. فانظر كلامه في التفرقة بين المقالات الخفية، وبين ما نحن فيه في كفر المعين وتأمل تكفيره رؤوسهم فلانا وفلانا بأعيانهم وردتهم ردة صريحة، وتأمل تصريحه بحكاية الإجماع على ردة الفخر الرازي عن الإسلام مع كونه عند علمائكم من الأئمة الأربعة هل يناسب هذا لما فهمت من كلامه أن المعين لا يكفر ؟ ولو دعا عبد القادر في الرخاء والشدة ولو أحب عبد الله بن عون وزعم أن دينه حسن مع عبادته أبي حديدة ولو أبغضك واستنجسك مع أنك أقرب الناس إليه لما رآك ملتفتا بعض الالتفات إلى التوحيد، مع كونك توافقهم على شيء من شركهم وكفرهم. وقال الشيخ أيضا : في رده على بعض المتكلمين وأشباههم : والقوم وإن كان لهم ذكاء وفطنة وفيهم زهد وأخلاق فهذا لا يوجب السعادة إلا بالإيمان بالله وحده وإنما قوة الذكاء بمنزلة قوة البدن، وأهل الرأي والعلم بمنزلة الملك والإمارة فكل منهم لا ينفعه ذلك إلا أن يعبد الله وحده لا شريك له، ويتخذه إلها دون ما سواه وهو معنى قول لا إله إلا الله، وهذا ليس في حكمتهم ليس فيها إلا أمر بعبادة الله وحده، والنهي عن عبادة المخلوقات، بل كل شرك في العالم إنما حدث بزي جنسهم فهم الآمرون بالشرك الفاعلون له، ومن لم يأمر منهم بالشرك فلم ينه عنه بل يقر هؤلاء وهؤلاء ـ وإن رجح الموحدين ترجيحا ما فقد يرجح غيره المشركين وقد يعرض عن الأمرين جميعا، فتدبر هذا فإنه نافع جدا، وكذلك الذين كانوا في ملة الإسلام لا ينهون عن الشرك ويوجبون التوحيد فإنما توحيدهم بالقول لا بالعبادة والعمل، والتوحيد الذي جاءت به الرسل لابد فيه من التوحيد بإخلاص الدين كله لله وعبادته وحده لا شريك له وهذا شيء لا يعرفونه، والتوحيد الذي يدعونه إنما هو تعطيل حقائق(8/133)
الأسماء والصفات فلو كانوا موحدين بالكلام وهو أن يصفوا الله بما وصفته به رسله لكان معهم التوحيد دون العمل وذلك لا يكفيء في النجاة، بل لابد أن يعبد الله وحده ويتخذه إلها دون ما سواه، وهو معنى قوله : لا إله إلا الله فكيف وهم في القول معطلون جاحدون ولا مخلصون انتهى. فتأمل كلامه واعرضه على ماغرك به الشيطان من الفهم الفاسد الذي كذبت به الله ورسوله، وإجماع الأمة، وتحيزت به إلى عبادة الطواغيت فإن فهمت هذا وإلا أشير عليك أنك تكثر من التضرع والدعاء إلى من الهداية بيده فإن الخطر عظيم فإن الخلود في النار جزاء الردة الصريحة ما يسوى بضيعة تربح تومانا أو نصف تومان وعندنا ناس يجيئون بعيالهم بلا مال ولا جاعوا ولا شحذوا وقد قال الله في هذه المسألة : (( يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون، وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم والله أعلم.
الرسالة الرابعة والثلاثون
(ص225)
ومنها رسالة كتبها الشيخ رحمه الله إلى سليمان بن سحيم صاحب تلك الرسالة التي شنع بها على الشيخ المتقدمة قبل ذلك وجوابها، وكان الشيخ رحمه الله قد أرسل له وتلطف له قبل ذلك فلما تبين للشيخ أنه معاند للحق والإيمان ومن أعوان أهل الشرك والطغيان كتب له هذه الرسالة وهذا نص الرسالة :
بسم الله الرحمن الرحيم(8/134)
الذي يعلم به سليمان بن سحيم أنك زعجت قرطاسة فيها عجائب، فإن كان هذا قدر فهمك فهذا من أفسد الأفهام، وإن كنت تلبس به على الجهال فما أنت برابح وقبل الجواب نذكر لك أنك أنت وأباك مصرحون بالكفر والشرك والنفاق، ولكن صائر لكم عند جماعة في معكال قصاصيب وأشباههم يعتقدون أنكم علماء، ونداريكم ودنا أن الله يهديكم ويهديهم وأنت إلى الآن أنت وأبوك لا تفهمون شهادة أن لا إله إلا الله أنا أشهد بهذا شهادة يسألني الله عنها يوم القيامة أنك لا تعرفها إلى الآن ولا أبوك، ونكشف لك هذا كشفا بينا لعلك تتوب إلى الله وتدخل في دين الإسلام إن هداك الله، وإلا تبين لكل من يؤمن بالله واليوم الآخر حالكما، والصلاة وراءكما وقبول شهادتكما وخطكما، ووجوب عداوتكما كما قال تعالى ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله وأكشف عن ذلك بوجوه :
الأول : أنكم تقرون أن الذي يأتيكم من عندنا هو الحق وأنت تشهد به ليلا ونهارا، وإن جحدت هذا شهد عليك الرجال والنساء ثم مع هذه الشهادة أن هذا دين الله وأنت وأبوك مجتهدان في عداوة هذا الدين ليلا ونهارا ومن أطاعكما، وتبهتون وترمون المؤمنين بالبهتان العظيم، وتصورون على الناس الأكاذيب الكبار فكيف تشهد أن هذا دين الله ثم تتبين في عداوة من تبعه ؟
( الوجه الثاني) : أنك تقول إني أعرف التوحيد وتقر أن من جعل الصالحين وسائط فهو كافر والناس يشهدون عليك أنك تروح للمولد وتقرأه لهم وتحضرهم وهم ينخون ويندبون مشايخهم ويطلبون منهم الغوث والمدد وتأكل اللقم من الطعام المعد لذلك، فإذا كنت تعرف أن هذا كفر فكيف تروح لهم وتعاونهم عليه وتحضر كفرهم ؟(8/135)
( الوجه الثالث ) : أن تعليقهم التمائم من الشرك بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ذكر تعليق التمائم صاحب (الإقناع) في أول الجنائز وأنت تكتب الحجب وتأخذ عليها شرطاً حتى إنك كتبت لامرأة حجابا لعلها تحبل وشرطت لك أحمرين وطالبتها تريد الأحمرين فكيف تقول إني أعرف التوحيد وأنت تفعل هذه الأفاعيل ؟ وإن أنكرت فالناس يشهدون عليك بهذا.
(الوجه الرابع) : أنك تكتب في حجبك طلاسم، وقد ذكر (في الإقناع) أنها من السحر، والسحر يكفر صاحبه فكيف تفهم التوحيد وأنت تكتب الطلاسم ؟ وإن جحدت فهذا خط يدك موجود.
(الوجه الخامس) : أن الناس فيما مضى عبدوا الطواغيت عبادة ملأت الأرض بهذا الذي تقر أنه من الشرك ينخونهم ويندبونهم ويجعلونها وسائط وأنت وأبوك تقولان نعرف هذا لكن ما سألونا فإذا كنتم تعرفونه كيف يحل لكم أن تتركا الناس يكفرون ما تنصحانهم ولو لم يسألوكم ؟
(الوجه السادس) : أنا لما أنكرنا عبادة غير الله بالغتم في عداوة هذا الأمر وإنكاره، وزعمتم أنه مذهب خامس وأنه باطل وإن أنكرتما فالناس يشهدون بذلك وأنتم مجاهرون به فكيف تقولون هذا كفر ؟ ولكن ما سألونا عنه، فإذا قام من يبين للناس التوحيد قلتم إنه غير الدين وآت بمذهب خامس، فإذا كنت تعرف التوحيد وتقر أن كلامي هذا حق فكيف تجعله تغييراً لدين الله وتشكونا عند أهل الحرمين، والأمور التي تدل على أنك أنت وأباك لا تعرفان شهادة أن لا إله إلا الله لا تحصر، لكن ذكرنا الأمور التي لا تقدر تنكرها وليتك تفعل المنافقين الذين قال الله فيهم : (( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار)) لأنهم يخفون نفاقهم وأنت وأبوك تظهران للخاص والعام.
وأما الدليل على أنك رجل معاند ضال على علم مختار الكفر على الإسلام فمن وجوه :(8/136)
(الأول) : أني كتبت ورقة لابن صالح من سنتين فيها تكفير الطواغيت شمسان وأمثاله، وذكرت فيها كلام الله ورسوله وبينت الأدلة فلما جاءتك نسختها بيدك لموسى بن سليم ثم سجلت عليها وقلت ما ينكر هذا إلا أعمى القلب، وقرأها موسى في البلدان وفي منفوحة وفي الدرعية وعندنا، ثم راح بها للقبلة فإذا كنت من أول موافقا لنا على كفرهم وتقول ما ينكر هذا إلا من أعمى الله بصيرته فالعلم الذي جاءك بعد هذا يبين لك أنهم ليسوا بكفار بينه لنا.
(الوجه الثاني) : أني أرسلت لك رسالة الشيخ تقي الدين التي يذكر فيها أن من دعا نبيا أو صحابيا أو وليا مثل : أن يقول يا سيدي فلان أنصرني وأغثني أنه كافر بالإجماع فلما أتتك استحسنتها وشهدت أنها حق وأنت تشهد به الآن فما الموجب لهذه العداوة.
(الوجه الثالث) : أنه إذا أتاك أحد من أهل المعرفة أقررت أن هذا دين الله وأنه الحق وقلته على رؤوس الأشهاد، وإذا خلوت مع شياطينك وقصاصيبك فلك كلام آخر.
(الوجه الرابع) : أن عبد الرحمن الشنيفي ومن معه لما أتوك وذاكروك أقررت بحضرة شياطينك أن هذا هو الحق وشهدت أن الطواغيت كفار وتبرأت من طالب الحمضي، وعبد الكريم، وموسى بن نوح فأي شيء بان لك بأن هذا باطل وأن الذي تبرأت منهم وعاديتهم أنهم على حق ؟
(الوجه الخامس): أنك لما خرجت من عند الشيوخ وأتيت عند الشنيقي جحدت الكلام الذي قلت في المجلس، فإن كان الكلام حقا فلأي شيء تجحده وأنت وأبوك مقران أنكما لا تعرفان كلام الله ورسوله لكن تقولان نعرف كلام صاحب (الإقناع) وأمثاله؟ وأنا أذكر لك كلام صاحب (الإقناع) أنه مكفرك ومكفر أباك في غير موضع من كتابه:
الأول : أنه ذكر في أول سطر من أحكام المرتد أن الهازل بالدين
يكفر وهذا مشهور عنك، وعن ابن أحمد بن نوح الاستهزاء بكلام الله ورسوله وهذا كتابكم كفركم.(8/137)
الثاني : أنه ذكر في أوله أن المبغض لما جاء به الرسول كافر بالإجماع ولو عمل به، وأنت مقر أن هذا الذي أقول في التوحيد أمر الله ورسوله، والنساء والرجال يشهدون عليكم أنكم مبغضون لهذا الدين مجتهدون في تنفير الناس عنه، والكذب والبهتان على أهله فهذا كتابكم كفركم.
الثالث : أنه ذكر من أنواع الردة إسقاط حرمة القرآن، وأنتم كذلك تستهزئون بمن يعمل به وتزعمون أنهم جهال وأنكم علماء.
الرابع : أنه ذكر أن من ادعى في علي بن أبي طالب ألوهية أنه كافر، ومن شك في كفره فهو كافر وهذه مسألتك التي جادلت بها في مجلس الشيوخ وقد صرح في (الإقناع) بأن من شك في كفرهم فهو كافر فكيف بمن جادل عنهم وادعى أنهم مسلمون، وجعلنا كفارا لما أنكرنا عليهم ؟
الخامس أنه ذكر أن السحر يكفر بتعلمه وتعليمه والطلاسم من جملة السحر، فهذه ستة مواضع في (الإقناع) في باب واحد أن من فعلها فقد كفر، وهي دينك ودين أبيك، فإما أن تبرؤوا من دينكم هذا، وإلا فأجيبوا عن كلام صاحب الإقناع وكلامنا هذا لغيرك الذين عليهم الشرهة مثل الشيوخ أو من يصلي وراءك كادوا أن الله يهديهم ويعزلونك أنت وأبوك عن الصلاة بالناس لئلا تفسد عليهم دينهم وإلا فأنا أظنك لا تقبل ولا يزيدك هذا الكلام إلا جهالة وكفراً. وأما الكلام الذي لبست به على الناس فأنا أبينه إن شاء الله كلمة وذلك أن جملة المسائل التي ذكرت أربعا :
الأولى : النذر لغير الله تقول إنه حرام ليس بشرك.
الثانية : أن من جعل بينه وبين الله وسائط كفر. أما الوسائط بأنفسهم فلا يكفرون
الثالثة : عبارة العلماء أن المسلم لا يجوز تكفيره بالذنوب
الرابعة : التذكير ليلة الجمعة لا ينبغي الأمر بتركه هذه المسائل التي ذكرت(8/138)
فأما المسألة الأولى : فدليلك قولهم إن النذر لغير الله حرام بالإجماع فاستدللت بقولهم حرام على أنه ليس بشرك، فإن كان هذا قدر عقلك فكيف تدعي المعرفة ؟ ياويلك ما تصنع بقول الله تعالى : ( قل تعالوا أتل ماحرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ) فهذا يدل على أن الشرك حرام ليس بكفر ياهذا الجاهل الجهل المركب ما تصنع بقول الله تعالى : ( قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن )إلى قوله : (وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ) هل يدل هذا التحريم على أنه لا يكفر صاحبه ؟ يا ويلك في أي كتاب وجدته إذا قيل لك هذا حرام إنه ليس بكفر، فقولك إن ظاهر كلامهم أنه ليس بكفر كذب وافتراء على أهل العلم بل يقال ذكر أنه حرام، وأما كونه كفر فيحتاج إلى دليل آخر والدليل عليه أنه صرح في (الإقناع) أن النذر عبادة ومعلوم أن لا إله إلا الله معناها لا يعبد إلا الله. فإذا كان النذر عبادة وجعلتها لغيره كيف لا يكون شركا ؟
وأيضا مسألة الوسائط تدل على ذلك والناس يشهدون أن هؤلاء الناذرين يجعلونهم وسائط وهم مقرون بذلك.
وأما استدلالك بقوله : من قال أنذروا لي وأنه إذا رضي وسكت لا يكفر فبأي دليل ؟ غاية ما يقال إنه سكت عن الآخذ الراضي وعلم من دليل آخر، والدليل الآخر أن الرضى بالكفر كفر صرح به العلماء وموالاة الكفار كفر، وغير ذلك هذا إذا قدر أنهم لا يقولونه فكيف وأنت وغيرك تشهد عليهم أنهم يقولون ويبالغون فيه ؟ ويقصون على الناس الحكايات التي ترسخ الشرك في قلوبهم، ويبغض إليهم التوحيد ويكفرون أهل العارض لما قالوا لا يعبد إلا الله. وأما قولك ما رأينا للترشيح معنى في كلام العلماء فمن أنت حتى تعرف كلام العلماء ؟.(8/139)
وأما الثانية : وهي أن الذي يجعل الوسائط هو الكافر، وأما المجعول فلا يكفر فهذا كلام تلبيس وجهالة، ومن قال إن عيسى وعزيراً وعلي بن أبي طالب وزيد بن الخطاب وغيرهم من الصالحين يلحقهم نقص بجعل المشركين إياهم وسائط حاشا وكلا (( ولاتزر وازرة وزر أخرى )) وإنما كفرنا هؤلاء الطواغيت أهل الخرج وغيرهم بالأمور التي يفعلونها هم منها أنهم يجعلون آباءهم وأجدادهم وسائط، ومنها أنهم يدعون الناس إلى الكفر، ومنها أنهم يبغضون عند الناس دين محمد صلى الله عليه وسلم، ويزعمون أن أهل العارض كفروا لما قالوا لا يعبد إلا الله وغير ذلك من أنواع الكفر وهذا أمر أوضح من الشمس لا يحتاج إلى تقرير، ولكن أنت رجل جاهل مشرك مبغض لدين الله، وتلبس على الجهال الذين يكرهون دين الإسلام ويحبون الشرك ودين آباؤهم، وإلا فهؤلاء الجهال لو أن مرادهم اتباع الحق عرفوا أن كلامك من أفسد ما يكون.
وأما المسألة الثالثة : وهي من أكبر تلبيسك الذي تلبس به على العوام أن أهل العلم قالوا : لا يجوز تكفير المسلم بالذنب وهذا حق ولكن ليس هذا ما نحن فيه، وذلك أن الخوارج يكفرون من زنى أو سرق أو سفك الدم بل كل كبيرة إذا فعلها المسلم كفر.(8/140)
وأما أهل السنة فمذهبهم : أن المسلم لا يكفر إلا بالشرك، ونحن ما كفرنا الطواغيت وأتباعهم إلا بالشرك وأنت رجل من أجهل الناس تظن أن من صلى وادعى أنه مسلم لا يكفر، فإذا كنت تعتقد ذلك فما تقول في المنافقين الذين يصلون ويصومون ويجاهدون قال الله تعالى فيهم ( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) وما تقول في الخوارج الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد أينما لقيتموهم فاقتلوهم ) أتظنهم ليسوا من أهل القبلة ؟ ما تقول في الذين اعتقدوا في علي بن أبي طالب رضي الله عنه مثل اعتقاد كثير من الناس في عبد القادر وغيره فأضرم لهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه مثل نارا فأحرقهم بها وأجمعت الصحابة على قتلهم، لكن ابن عباس أنكر تحريقهم بالنار، وقال يقتلون بالسيف أتظن هؤلاء ليسوا من أهل القبلة ؟ أم أنت تفهم الشرع وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفهمونه ؟ أرأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قاتلوا من منع الزكاة، فلما أرادوا التوبة قال أبو بكر لا نقبل توبتكم حتى تشهدوا أن قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار أتظن أن أبا بكر وأصحابه لا يفهمون ؟ وأنت وأبوك الذين تفهمون يا ويلك أيها الجاهل الجهل المركب إذا كنت تعتقد هذا، وأن من أم القبلة لا يكفر فما معنى هذه المسائل العظيمة الكثيرة التي ذكرها العلماء في باب حكم المرتد التي كثير منها في أناس أهل زهد وعبادة عظيمة، ومنها طوائف ذكر العلماء أن من شك في كفرهم فهو كافر، ولو كان الأمر على زعمك لبطل كلام العلماء في حكم المرتد إلا مسألة واحدة وهي الذي يصرح بتكذيب الرسول وينتقل يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا ونحوهم هذا هو الكفر عندك يا ويلك ما تصنع بقوله صلى الله عليه وسلم : (( لا تقوم الساعة حتى تعبد فئام من أمتي الأوثان )) وكيف تقول هذا وأنت تقر أن من جعل الوسائط كفر ؟ فإذا كان أهل العلم في زمانهم حكموا على كثير من(8/141)
أهل زمانهم بالكفر والشرك أتظن أنكم صلحتم بعدهم يا ويلك ؟ وأما مسألة التذكير فكلامك فيها من أعجب العجاب أنت تقول بدعة حسنة والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار )) ولم يستثن شيئا تشير علينا به فنصدقك أنت وأبوك لأنكم علماء ونكذب رسول الله، والعجب من نقلك الإجماع فتجمع مع الجهالة المركبة الكذب الصريح والبهتان فإذا كان في (الإقناع) في باب الأذان قد ذكر كراهيته في مواضع متعددة أتظن أنك أعلم من صاحب (الإقناع) أم تظنه مخالفاً للإجتماع ؟ وأيضا لما جاءك عبد الرحمن الشنيفي أقررت لهم أن التذكير بدعة مكروهة فمتى هذا العلم جاءك ؟ وأما قولك أمر الله بالصلاة على نبيه على الإطلاق فأيضا أمر الله بالسجود على الإطلاق في قوله (( اركعوا واسجدوا )) فيدل هذا على السجود للأصنام أو يدل على الصلاة في أوقات النهي فإن قلت ذاك قد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم قلنا وكذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البدع وذكر أن كل بدعة ضلالة ومعلوم أن هذا حادث من زمن طويل وأنكره أهل العلم منهم صاحب (الإقناع) وقد ذكر السيوطي في كتاب (الأوائل) أن أول ما حدث التذكير يوم الجمعة لتهيؤ الناس لصلاتها بعد السبعمائة في زمن الناصر بن قلاوون فأرنا كلام واحد من العلماء أرخص فيه وجعله بدعة حسنة فليس عندك إلا الجهل المركب والبهتان والكذب. وأما استدلالك بالأحاديث التي فيها إجماع الأمة والسواد الأعظم وقوله : (( من شذ شذ في النار)) و (( يد الله على الجماعة)) وأمثال هذا فهذا أيضا من أعظم ما تلبس به على الجهال، وليس هذا معنى الأحاديث بإجماع أهل العلم كلهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الإسلام سيعود غريباً فكيف يأمرنا باتباع غالب الناس ؟ وكذلك الأحاديث الكثيرة منها قوله : (( ويأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه )) و أحاديث عظيمة كثيرة يبين صلى الله عليه وسلم(8/142)
أن الباطل يصير أكثر من الحق وأن الدين يصير غريباً، ولو لم يكن في ذلك إلا قوله صلى الله عليه وسلم : (( ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة )) هل بعد هذا البيان بيان يا ويلك، كيف تأمر بعد هذا باتباع أكثر الناس ؟ ومعلوم أن أهل أرضنا وأرض الحجاز الذي ينكر البعث منهم أكثر ممن يقرّ به، وأن الذي يعرف الدين أقل ممن لا يعرفه، والذي يضيع الصلوات أكثر من الذي يحافظ عليها، والذي يمنع الزكاة أكثر ممن يؤديها، فإن كان الصواب عندكَ اتباع هؤلاء فبين لنا، وإن كان عنزة وآل ظفير وأشباههم من البوادي هو السواد الأعظم ولقيت في علمك وعلم أبيك أن اتباعهم حسن فاذكر لنا ونحن نذكر كلام أهل العلم في معنى تلك الأحاديث ليتبين للجهال الذين موهت عليهم.
قال ابن القيم رحمه الله في ( أعلام الموقعين ) : واعلم أن الإجماع والحجة والسواد الأعظم هو العالم صاحب الحق وإن كان وحده وإن خالفه أهل الأرض. وقال عمرو بن ميمون سمعت ابن مسعود يقول : (( سيلي عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن وقتها فصل الصلاة وحدك) وهي الفريضة ((ثم صل معهم لك نافلة )). قلت : يا أصحاب محمد، ما أدري ما تحدثون، قال : وما ذاك ؟ قلت : تأمرني بالجماعة ثم تقول صلّ الصلاة وحدك !. قال : يا عمرو بن ميمون، لقد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية، أتدري ما الجماعة ؟ قلت : لا، قال : جمهور الجماعة هم الذين فارقوا الجماعة والجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك.(8/143)
وقال نعيم بن حماد : إذا فسدت الجماعة فعليك بما كان عليه الجماعة قبل أن تفسد الجماعة، وإن كنت وحدك فإنك أنت الجماعة حينئذ، وقال بعض الأئمة وقد ذكر له السواد الأعظم أتدري ما السواد الأعظم هو محمد بن أسلم الطوسي وأصحابه الذين جعلوا السواد الأعظم والحجة والجمهور والجماعة فجعلوهم عياراً على السنة وجعلوا السنة بدعة، وجعلوا المعروف منكراً لقلة أهله وتفردهم في الأعصار والأمصار وقالوا : (( من شذ شذ في النار )) وعرف المتخلفون أن الشاذ ما خالف الحق وإن كان عليه الناس كلهم إلا واحداً فهم الشاذون، وقد شذ الناس كلهم في زمن أحمد بن حنبل إلا نفراً يسيراً فكانوا هم الجماعة، وكانت القضاة يومئذ والمفتون والخليفة وأتباعهم كلهم هم الشاذون، وكان الإمام أحمد وحده هو الجماعة، ولما لم تحمل ذلك عقول الناس قالوا للخليفة يا أمير المؤمنين أتكون أنت وقضاتك وولاتك والفقهاء والمفتون على الباطل، وأحمد وحده على الحق فلم يتسع علمه لذلك فأخذه بالسياط والعقوبة بعد الحبس الطويل فلا إله إلا الله ما أشبه الليلة بالبارحة انتهى كلام ابن القيم يا سلامه ولد أم سلامة. هذا كلام الصحابة في تفسير السواد الأعظم، وكلام التابعين، وكلام السلف وكلام المتأخرين حتى ابن مسعود ذكر في زمانه أن أكثر الناس فارقوا الجماعة، وأبلغ من هذه الأحاديث المذكورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غربة الإسلام وتفرق هذه الأمة أكثر من سبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة فإن كنت وجدت في علمك وعلم أبيك ما يرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم والعلماء، وإن عنزة وآل ظفير والبوادي يجب علينا اتباعهم فأخبرونا. كتبه محمد بن عبد الوهاب وصلى الله على محمد وآله وسلم )).(8/144)
الرسالة الخامسة والثلاثون
(ص 239 )
ومنها رسالة أرسلها إلى مطاوعة أهل الدرعية وهو إذ ذاك في بلد العيينة قال فيها :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الله بن عيسى وابنه عبد الوهاب وعبد الله بن عبد الرحمن حفظهم الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد : فقد ذكر لي أحمد أنه مشكل عليكم الفتيا بكفر هؤلاء الطواغيت، مثل أولاد شمسان وأولاد إدريس والذين يعبدونهم مثل طالب وأمثاله. فيقال : أولا دين الله تعالى ليس لي دونكم فإذا أفتيت أو عملت بشئ وعلمتم أني مخطئ وجب عليكم تبين الحق لأخيكم المسلم، وإن لم تعلموا وكانت المسألة من الواجبات مثل التوحيد فالواجب عليكم أن تطلبوا وتحرصوا حتى تفهموا حكم الله ورسوله في تلك المسألة، وما ذكر أهل العلم قبلكم فإذا تبين حكم الله ورسوله بياناً كالشمس فلا ينبغي لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يرده لكونه مخالفاً لهواه أو لما عليه أهل وقته ومشايخه فإن الكفر كما قال ابن القيم في نونيته :
فالكفر ليس سوى العناد ورد ما جاء الرسول به لقول فلان
فانظر لعلك هكذا دون التي قد قالها فتبوء بالخسران(8/145)
ومتى لم تتبين لكم المسألة لم يحل لكم الإنكار على من أفتى أو عمل حتى يتبين لكم خطؤه بل الواجب السكوت والتوقف، فإذا تحققتم الخطأ بينتموه ولم تهدروا جميع المحاسن لأجل مسألة أو مائة أو مائتين أخطأت فيهن فإني لا أدعي العصمة وأنتم تقرون أن الكلام الذي بينته في معنى لا إله إلا الله هو الحق الذي لا ريب فيه، سبحان الله إذا كنتم تقرون بهذا فرجل بين الله به دين الإسلام، وأنتم ومشايخكم ومشايخهم لم يفهموه ولم يميزوا بين دين محمد صلى الله عليه وسلم ودين عمرو بن لحى الذي وضعه للعرب بل دين عمرو عندهم دين صحيح ويسمونه رقة القلب والاعتقاد في الأولياء، ومن لم يفعل فهو متوقف لا يدري ما هذا ولا يفرق بينه وبين دين محمد صلى الله عليه وسلم، فالرجل الذي هداكم الله به لهذا إن كنتم صادقين لو يكون أحب إليكم من أموالكم وأولادكم لم يكن كثيراً فكيف يقال أفتى في مسألة الوقف ؟ أفتى في كذا أفتي في كذا كلها ولله الحمد على الحق إلا أنها مخالفة لعادة الزمان ودين الآباء، وأنا إلى الآن أطلب الدليل من كل من خالفني فإذا قيل له استدل أو اكتب أو اذكر حاد عن ذلك وتبين عجزه لكن يجتهدون الليل والنهار في صد الجهال عن سبيل الله ويبغونها عوجا اللهم إلا إن كنتم تعتقدون أن كلامي باطل وبدعة مثل ما قال غيركم، وأن الاعتقاد في الزاهد وشمسان والمطيوية والاعتماد عليهم هو الدين الصحيح وكل ما خالفه بدعة وضلالة فتلك مسألة أخرى ـ إذا ثبت هذا فتكفير هؤلاء المرتدين انظروا في كتاب الله من أوله إلى آخره والمرجع في ذلك إلى ما قاله المفسرون والأئمة، فإن جادل منافق بكون الآية نزلت في الكفار فقولوا له هل قال أحد من أهل العلم أولهم وآخرهم إن هذه الآيات لا تعم من عمل بها من المسلمين من قال هذا قبلك ؟ وأيضاً فقولوا له هذا رد على إجماع الأمة فإن استدلالهم بالآيات النازلة في الكفار على من عمل بها ممن انتسب إلى الإسلام أكثر من أن تذكر، وهذا أيضاً(8/146)
كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن فعل مثل هذه الأفاعيل مثل الخوارج العباد الزهاد الذين يحقر الإنسان الصحابة عندهم وهم بالإجماع لم يفعلوا ما فعلوا إلا باجتهاد وتقرب إلى الله وهذه سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن خالف الدين ممن له عبادة واجتهاد مثل تحريق علي رضي الله عنه من اعتقد فيه بالنار، وأجمع الصحابة على قتلهم وتحريقهم إلا ابن عباس رضي الله عنهما خالفهم في التحريق فقال : يقتلون بالسيف، وهؤلاء الفقهاء من أولهم إلى آخرهم عقدوا باب حكم المرتد للمسلم إذا فعل كذا وكذا، ومصداق ذلك في هذه الكتب الذي يقول المخالف جمعوا فيها الثمر وهم أعلم منا.... وهم..... انظروا افي متن (الإقناع) في باب حكم المرتد هل صرح أن من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم أنه كافر بإجماع الأمة، وذكر فيمن اعتقد في علي بن أبي طالب دون ما يعتقد طالب في حسين وإدريس أنه لا شك في كفره بل لا يشك في كفر من شك في كفره، وأنا ألزم عليكم أنكم تحققون النظر في عبارات (الإقناع) وتقرءونها قراءة تفهم وتعرفون ما ذكر في هذا، وما ذكر في التشنيع علي من الأصدقاء عرفتم شيئاً من مذاهب الآباء وفتنة الأهواء ـ إذا تحققتم ذلك وطالعتم الشروح والحواشي، فإذا إني لم أفهمه وله معنى آخر فأرشدوني وعسى الله أن يهدينا وإياكم إخواننا لما يحب ويرضى ولا يدخل خواطركم غلظة هذا الكلام، فالله سبحانه يعلم قصدي به والسلام )).(8/147)
الرسالة السادسة والثلاثون
(ص 243 )
وله أيضاً أسكنه الله الفردوس الأعلى.
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى الأخوان سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ؛ وبعد :
ما ذكرتم من قول الشيخ كل من جحد كذا وكذا وقامت عليه الحجة وأنكم شاكون في هؤلاء الطواغيت وأتباعهم هل قامت عليهم الحجة فهذا من العجب كيف تشكون في هذا وقد أوضحته لكم مراراً، فإن الذي لم تقم عليه الحجة هو الذي حديث عهد بالإسلام والذي نشأ ببادية بعيدة، أو يكون ذلك في مسألة خفية مثل الصرف والعطف فلا يكفر حتى يعرف ؛ وأما أصول الدين التي أوضحها الله وأحكمها في كتابه فإن حجة الله هو القرآن فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة، ولكن أصل الإشكال أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وبين فهم الحجة فإن أكثر الكفار والمنافقين من المسلمين لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم كما قال تعالى : (( أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا)) وقيام الحجة نوع، وبلغوها نوع وقد قامت عليهم وفهمهم إياها نوع آخر وكفرهم ببلوغها إياهم وإن لم يفهموها. إن أشكل عليكم ذلك فانظروا قوله : صلى الله عليه وسلم في الخوارج (( أينما لقيتموهم فاقتلوهم )) وقوله : (( شر قتلى تحت أديم السماء )) مع كونهم في عصر الصحابة ويحقر الإنسان عمل الصحابة معهم ومع إجماع الناس أن الذي أخرجهم من الدين هو التشدد والغلو والاجتهاد وهم يظنون أنهم يطيعون الله وقد بلغتهم الحجة ولكن لم يفهموها، وكذلك قتل علي رضي الله عنه الذين اعتقدوا فيه وتحريقهم بالنار، مع كونهم تلاميذ الصحابة مع مبادئهم وصلاتهم وصيامهم وهم يظنون أنهم على حق، وكذلك إجماع السلف على تكفير غلاة القدرية وغيرهم مع علمهم وشدة عبادتهم وكونهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ولم يتوقف أحد من السلف في تكفيرهم لأجل كونهم لم يفهموا. إذا علمتم ذلك فإن هذا الذي أنتم فيه كفر، الناس يعبدون الطواغيت ويعادون دين الإسلام فيزعمون أنه ليس ردة لعلهم ما فهموا الحجة، كل هذا بين، وأظهر مما تقدم الذين حرقهم علي فإنه يشابه هذا، وأما إرسال كلام الشافعية وغيرهم فلا يتصور يأتيكم أكثر مما أتاكم فإن كان معكم بعض الإشكال فارغبوا إلى الله تعالى أن يزيله عنكم والسلام....(8/148)
القسم الخامس / توجيهات عامة للمسلمين في الاعتقاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر
الرسالة السابعة والثلاثون
(ص249)
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف حفظه الله تعالى سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد :
فقد وصل إلينا من ناحيتكم مكاتيب فيها إنكار وتغليظ علي ولما قيل إنك كتبت معهم وقع في الخاطر بعض الشيء لأن الله سبحانه نشر لك من الذكر الجميل وأنزل في قلوب عباده لك من المحبة ما لم يؤته كثيرا من الناس لما يذكر عنك من مخالفة من قبلك من حكام السوء، وأيضا لما أعلم منك من محبة الله ورسوله وحسن الفهم واتباع الحق ولو خالفك فيه كبار أئمتكم لأني اجتمعت بك من نحو عشرين وتذاكرت أنا وإياك في شيء من التفسير والحديث وأخرجت لي كراريس من البخاري كتبتها ونقلت على هوامشها من الشروح وقلت في مسألة الإيمان التي ذكر البخاري في أول الصحيح، هذا هو الحق الذي أدين الله به فأعجبني هذا الكلام لأنه خلاف مذهب أئمتكم المتكلمين وذاكرتني أيضا في بعض المسائل فكنت أحكي لمن يتعلم مني ما منّ الله به عليك من حسن الفهم ومحبة الله والدار الآخرة فلأجل هذا لم أظن فيك المسارعة في هذا الأمر لأن الذين قاموا فيه مخطئون على كل تقدير، لأن الحق إن كان مع خصمهم فواضح وإن كان معهم فينبغي للداعي إلى الله أن يدعو بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، وقد أمر الله رسوليه موسى وهارون أن يقولا لفرعون قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى وينبغي للقاضي أعزه الله بطاعته لما ابتلاه الله بهذا المنصب أن يتأدب بالآداب التي ذكرها الله في كتابه الذي أنزل ليبين للناس ما اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يوقنون فمن ذلك لا يستخفنه الذين لا يوقنون، ويثبت عند سعايات الفساق والمنافقين ولا يعجل، وقد وصف الله المنافقين في كتابه(8/149)
بأوصافهم، وذكر شعب النفاق لتجتنب ويجتنب أهلها أيضا. فوصفهم بالفصاحة والبيان وحسن اللسان بل وحسن الصورة في قوله : (( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم ))، ووصفهم بالمكر والكذب والاستهزاء بالمؤمنين في أول البقرة، ووصفهم بكلام ذي الوجهين ووصفهم بالدخول في المخاصمات بين الناس بما لا يحب الله ورسوله في قوله : (( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ))، ووصفهم باستحقار المؤمنين والرضا بأفعالهم، ووصفهم بغير هذا في البقرة وبراءة وسورة القتال وغير ذلك. كل ذلك نصيحة لعباده ليجتنبوا الأوصاف ومن تلبس بها، ونهى الله نبيه عن طاعتهم في غير موضع فكيف يجوز من مثلك أن يقبل مثل هؤلاء ؟ وأعظم من ذلك أن تعتقد أنهم من أهل العلم وتزورهم في بيوتهم وتعظمهم، وأنا لا أقول هذا في واحد بعينه، ولكن نصيحة وتعريف بما في كتاب الله من سياسة الدين والدنيا لأن أكثر الناس قد نبذه وراء ظهره. وأما ما ذكر لكم عني فإني لم آته بجهالة بل أقول ولله الحمد والمنة وبه القوة إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين، ولست ولله الحمد أدعو إلى مذهب صوفي أو فقيه أو متكلم أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم مثل ابن القيم والذهبي وابن كثير وغيرهم، بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له وأدعو إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أوصى بها أول أمته وآخرهم وأرجو أني لا أرد الحق إذا أتاني، بل أشهد الله وملائكته وجميع خلقه إن أتانا منكم كلمة من الحق لأقبلنها على الرأس والعين، ولأضربن الجدار بكل ما خالفها من أقوال أئمتي حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقول إلا الحق وصفة الأمر غير خاف عليكم ما درج عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون وأتباعهم والأئمة كالشافعي وأحمد وأمثالهما ممن أجمع أهل الحق على هدايتهم، وكذلك ما درج عليه من سبقت له من الله(8/150)
الحسنى من أتباعهم، وغير خاف عليكم ما أحدث الناس في دينهم من الحوادث، وما خالفوا فيه طريق سلفهم، ووجدت المتأخرين أكثرهم قد غير وبدل، وسادتهم وأئمتهم وأعلمهم وأعبدهم وأزهدهم مثل ابن القيم والحافظ الذهبي والحافظ العماد ابن كثير والحافظ ابن رجب قد اشتد نكيرهم على أهل عصرهم الذين هم خير من ابن حجر، وصاحب الإقناع بالإجماع، فإذا استدل عليهم زمانهم بكثرتهم وإطباق الناس على طريقتهم قالوا هذا من أكبر الأدلة على أنه باطل لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أمته تسلك مسالك اليهود والنصارى حذو القذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، وقد ذكر الله في كتابه أنهم فرقوا دينهم وكانوا شيعاً وأنهم كتبوا الكتاب بأيديهم وقالوا هذا من عند الله وأنهم تركوا كتاب الله والعمل به، وأقبلوا على ما أحدثه أسلافهم من الكتب وأخبر أنه وصاهم بالإجتماع، وأنهم لم يختلفوا لخفاء الدين بل اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم (( فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون )) والزبر الكتب، فإذا فهم المؤمن قول الصادق المصدوق (( لتبعن سنن من كان قبلكم )) وجعله قبلة تبين له أن هذه الآيات وأشباهها ليست على ما ظن الجاهلون أنها كانت في قوم كانوا فبانوا، بل يفهم ما ورد عن عمر رضى الله عنه أنه قال في هذه الآيات مضى القوم وما يعني به غيركم، وقد فرض الله على عباده في كل صلاة أن يسألوه الهداية إلى صراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم الذين هم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. فمن عرف دين الإسلام وما وقع الناس فيه من التغيير له عرف مقدار هذا الدعاء وحكمة الله فيه.(8/151)
والحاصل أن صورة المسألة هل الواجب على كل مسلم أن يطلب علم ما أنزل الله على رسوله ولا يعذر أحد في تركه البتى ؟ أم يجب عليه أن يتبع (التحفة) مثلا. فأعلم المتأخرين وسادتهم منهم ابن القيم قد أنكروا هذا غاية الإنكار، وأنه تغيير لدين الله واستدلوا على ذلك بما يطول وصفه من كتاب الله الواضح، ومن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم البين لمن نور الله قلبه، والذين يجيزون ذلك أو يوجبونه يدلون بشبه واهية لكن أكبر شبههم على الإطلاق أنا لسنا من أهل ذلك، ولا نقدر عليه ولا يقدر عليه إلا المجتهد، وإنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون، ولأهل العلم في إبطال هذه الشبهة ما يحتمل مجلدا ومن أوضحه قول الله تعالى : (( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله )) وقد فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عدى بهذا الذي أنتم عليه اليوم في الأصول والفروع لا أعلمهم يزيدون عليكم مثقال حبة خردل بل يبين مصداق قوله (( حذو القذة بالقذة )) إلى آخره، وكذلك فسرها المفسرون لا أعلم بينهم اختلافا، ومن أحسنه ما قاله أبو العالية : أما إنهم لم يعبدوهم ولو أمروهم بذلك ما أطاعوهم ؛ ولكنهم وجدوا كتاب الله فقالوا لا نسبق علماءنا بشيء، ما أمرونا به ائتمرنا وما نهونا عنه انتهينا، وهذه رسالة لا تحتمل إقامة الدليل ولا جواباً عما يدلي به المخالف لكن أعرض عليه من نفسي الإنصاف والانقياد للحق فإذن أردتم على الرد بعلم وعدل فعندكم كتاب (أعلام الموقعين) لابن القيم عند ابن فيروز في مشرفه فقد بسط الكلام فيه على هذا الأصل بسطا كثيرا، وسرد من شبه أئمتكم ما لا تعرفون أنتم ولا آباؤكم، وأجاب عنها واستدل لها بالدلائل الواضحة القاطعة، منها أمر الله ورسوله عن أمركم هذا بعينه وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وصفوة من قبل أن يقع وحذروا الناس منه، وأخبروا أنه لا يصير على الدين إلا الواحد بعد الواحد، وأن الإسلام يصير(8/152)
غريبا كما بدأ، وقد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأله عمرو بن عبسة في أول الإسلام : من معك على هذا ؟ قال حر وعبد يعني أبا بكر وبلالا، فإذا كان الإسلام يعود كما بدأ فما أجهل من استدل بكثرة الناس وإطباقهم أشباه هذه الشبهة التي هي عظيمة عند أهلها حقيرة عند الله وعند أولي العلم من خلقه كما قال تعالى : (( بل قالوا مثل ما قال الأولون )) فلا أعلم لكم حجة تحتجون بها إلا وقد ذكر الله في كتابه أن الكفار استدلوا بها على تكذيب الرسل مثل إطباق الناس، وطاعة الكبراء وغير ذلك. فمن من الله عليه بمعرفة دين الإسلام الذي دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرف قدر هذه الآيات والحجج وحاجة الناس إليها، فإن زعمتم أن ذكر هؤلاء الأئمة لمن كان من أهله، فقد صرحوا بوجوبه على الأسود والأحمر والذكر والأنثى، وأن ما بعد الحق إلا الضلال، وأن قول من قال ذلك صعب مكيدة من الشيطان كاد بها الناس عن سلوك الصراط المستقيم الحنيفية ملة إبراهيم، وإن بان لكم أنهم مخطئون فبينوا لي الحق حتى أرجع إليه، وإنما كتبت لكم هذا معذرة من الله ودعوة إلى الله لأحصل ثواب الداعين إلى الله وإلا أنا أظن أنكم لا تقبلونه وأنه عندكم من أنكر المنكرات من أن الذي يعيب هذا عندكم مثل من يعيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لكن أنت من سبب ما أظن فيك من طاعة الله لا أبعد أن يهديك الله إلى الصراط المستقيم ويشرح قلبك للإسلام فإذا قرأته فإن أنكره قلبك فلا عجب فإن العجب ممن نجا كيف نجا فإن أصغى إليه قلبك بعض الشيء فعليك بكثرة التضرع إلى الله والإنطراح بين يديه خصوصا أوقات الإجابة كآخر الليل وأدبار الصلوات، وبعد الأذان وكذلك بالأدعية المأثورة خصوصا الذي ورد في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول : (( اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما(8/153)
اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم )) فعليك بالإلحاح بهذا الدعاء بين يدي من يجيب المضطر إذا دعاه، وبالذي هدى إبراهيم لمخالفة الماس كلهم وقل يا معلم إبراهيم علمتني، وإن صعب عليك مخالفة الناس ففكر في قول الله تعالى : (( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا (( وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله )) وتأمل قوله في الصحيح (( بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ )) وقوله صلى الله عليه وسلم : (( إن الله لا يقبض العلم )) إلى آخره، وقوله : (( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي )) وقوله : (( وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة )) والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة أفردت بالتصنيف فإني أحبك، وقد دعوت لك في صلاتي وأتمنى من قبل هذه المكاتيب أن يهديك الله لدينه القيم، ولا يمنعني من مكاتبتك إلا ظني أنك لا تقبل وتسلك مسلك الأكثر، ولكن لا مانع لما أعطى الله والله لا يتعاظم شيئا أعطاه وما أحسنك تكون في آخر هذا الزمان فاروقا لدين الله كعمر رضي الله عنه في أوله فإنك لو تكون معنا لانتصفنا ممن أغلظ علينا. وأما هذا الخيال الشيطاني الذي اصطاد به الناس أن من سلك هذا المسلك فقد نسب نفسه للاجتهاد وترك الإقتداء بأهل العلم وزخرفه بأنواع الزخارف فليس هذا بكثير من الشيطان وزخارفه كما قال تعالى : (( يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا )) فإن الذي أنا عليه وأدعوكم إليه هو في الحقيقة الاقتداء بأهل العلم فإنهم قد وصوا الناس بذلك، ومن أشهرهم كلاما في ذلك إمامكم الشافعي قال : لابد أن تجدوا عني ما يخالف الحديث فكل ما خالفه فأشهدكم أني قد رجعت عنه، وأيضا أنا في مخالفتي هذا العالم لم أخالفه وحدي فإذا اختلفت أنا وشافعي مثلا في أبوال مأكول اللحم وقلت القول بنجاسته يخالف حديث العرنيين ويخالف حديث أنس أن(8/154)
النبي صلى الله عليه وسلم صلى في مرابض الغنم فقال هذا الجاهل الظالم أنت أعلم بالحديث من الشافعي ؟ قلت أنا لم أخالف الشافعي من غير إمام اتبعته بل اتبعت من هو مثل الشافعي أو أعلم منه قد خالفه واستدل بالأحاديث فإذا قال أنت أعلم من الشافعي قل أنت أعلم من مالك وأحمد فقد عارضته بمثل ما عارضني به وسلم الدليل من المعارض، واتبعت قول الله تعالى : (( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول )) واتبعت من اتبع الدليل في هذه المسألة من أهل العلم لم أستدل بالقرآن أو الحديث وحدي حتى يتوجه علي ما قيل وهذا على التنزل وإلا فمعلوم أن اتباعكم لابن حجر في الحقيقة ولا تعبئون بمن خالفه من رسول أو صاحب أو تابع حتى الشافعي نفسه ولا تعبئون بكلامه إذا خالف نص ابن حجر وكذلك غيركم إنما اتباعهم لبعض المتأخرين لا للأئمة فهؤلاء الحنابلة من أقل الناس بدعة، وأكثر (الإقناع) و(المنتهى) مخالف لمذهب أحمد ونصه يعرف ذلك من عرفه، ولا خلاف بيني وبينكم أن أهل العلم إذا أجمعوا وجب اتباعهم، وإنما الشأن إذا اختلفوا هل يجب علي أن أقبل الحق ممن جاء به وأرد المسألة إلى الله والرسول مقتديا بأهل العلم، أو انتحل بعضهم من غير حجة وأزعم أن الصواب في قوله فأنتم على هذا الثاني وهو الذي ذمة الله وسماه شركا، وهو اتخاذ العلماء أربابا وأنا على الأول أدعو إليه وأناظر عليه، فإن كان عندكم حق رجعنا إليه وقبلناه منكم وإن أردت النظر في (أعلام الموقعين) فعليك بمناظرة في أثنائه عقدها بين مقلد وصاحب حجة، وإن ألقى في ذهنك أن ابن القيم مبتدع وأن الآيات التي استدل بها ليس هذا معناها فأضرع إلى الله وأسأله أن يهديك لما اختلفوا فيه من الحق وتجرد إلى ناظر أو مناظر، واطلب كلام أهل العلم في زمانه مثل الحافظ الذهبي وابن كثير وابن رجب وغيرهم، ومما ينسب للذهبي رحمة الله :
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس خلف فيه(8/155)
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فقيه
فإن لم تتبع هؤلاء فانظر كلام الأئمة قبلهم كالحافظ البيهقي في كتاب (المدخل) والحافظ ابن عبد البر والخطابي وأمثالهم ومن قبلهم كالشافعي وابن جرير وابن قتيبة وأبي عبيد فهؤلاء إليهم المرجع في كلام الله وكلام رسوله وكلام السلف، وإياك وتفاسير المحرفين للكلم عن مواضعه وشروحهم فإنها القاطعة عن الله وعن دينه، وتأمل ما في كتاب (الاعتصام) للبخاري وما قال أهل العلم في شرحه، وهل يتصور شيء أصرح مما صح عنه صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على أكثر من سبعين فرقة أخبر كلهم في النار إلا واحدة، ثم وصف تلك الواحدة أنها التي على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأنتم مقرون أنكم على غير طريقتهم وتقولون ما نقدر عليها ولا يقدر عليها إلا المجتهد فجزمتم أنه لا ينتفع بكلام الله وكلام رسوله إلا المجتهد، وتقولون يحرم على غيره أن يطلب الهدى من كلام الله وكلام رسوله وكلام أصحابه فجزمتم وشهدتم أنكم على غير طريقتهم معترفين بالعجز عن ذلك، وإذا كنتم مقرين أن الواجب على الأولين اتباع كتاب الله وسنة رسوله لا يجوز العدول عن ذلك وأن هذه الكتب والتي خير منها لو تحدث في زمن عمر بن الخطاب لفعل بها وبأهلها أشد الفعل ولو تحدث في زمن الشافعي وأحمد لاشتد نكيرهم لذلك، فليت شعري متى حرم الله هذا الواجب وأوجب هذا المحرم، ولما حدث قليل من هذا لا يشبه ما أنتم عليه في زمن الإمام اشتد إنكاره لذلك ولما بلغه عن بعض أصحابه أنه يروى عنه مسائل بخراسان قال أشهدكم أني قد رجعت عن ذلك، ولما رأى بعضهم يكتب كلامه أنكر عليه وقال تكتب رأيا لعلي أرجع عنه غدا أطلب العلم مثلما طلبناه، ولما سئل عن كتاب أبي ثور قال كل كتاب ابتدع فهو بدعة ومعلوم أن أبا ثور من كبار أهل العلم وكان أحمد يثني عليه وكان ينهي الناس عن النظر في كتب أهل العلم الذين يثنى عليهم ويعظمهم ولما أخذ بعض أئمة(8/156)
الحديث كتب أبي حنيفة هجره أحمد وكتب إليه إن تركت كتب أبي حنيفة أتيناك تسمعنا كتب ابن المبارك، ولما ذكر له بعض أصحابه أن هذه الكتب فيها فائدة لمن لا يعرف الكتاب والسنة قال إن عرفت الحديث لم تحتج إليها، وإن لم تعرفه لم يحل لك النظر فيها وقال عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان والله يقول : (( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم )) قال : أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة الشرك، ومعلوم أن الثوري عنده غاية وكان يسميه أمير المؤمنين. فإذا كان هذا كلام أحمد في كتب نتمنى الآن أن نراها فكيف بكتب قد أقر أهلها على أنفسهم أنهم ليسوا من أهل العلم وشهد عليهم بذلك ولعل بعضهم مات وهو لا يعرف مادين الإسلام الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وشبهتكم التي ألقيت في قلوبكم أنكم لا تقدرون على فهم كلام الله ورسوله والسلف الصالح، وقد قدمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة )) إلى آخره، فتأمل هذه الشبهة أعني قولكم لا نقدر على ذلك وتأمل ما حكى الله عن اليهود في قوله : (( وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم )) وقوله : (( ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون )) وقوله (( إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون )) وقوله (( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر )) واطلب تفاسير هذه الآيات من كتب أهل العلم واعرف من نزلت فيه واعرف الأقوال والأفعال التي كانت سببا لنزول هذه الآيات، ثم اعرضها على قولهم لا نقدر على فهم القرآن والسنة تجد مصداق قوله (( لتتبعن سنن من كان قبلكم )) وما في معناه من الأحاديث الكثيرة فلتكن قصة إسلام سلمان الفارسي منكم على بال ففيها أنه لم يكن على دين الرسل إلا الواحد بعد الواحد حتى إن آخرهم قال عند موته : لا أعلم على وجه الأرض أحدا على ما نحن فيه ولكن قد أظل زمان نبي، واذكر مع هذا قول(8/157)
الله تعالى : (( فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم)) فحقيق لمن نصح نفسه وخاف عذاب الآخرة أن يتأمل ما وصف الله به اليهود في كتابه خصوصا ما وصف به علماءهم ورهبانهم من كتمان الحق ولبس الحق بالباطل والصد عن سبيل الله، وما وصفهم الله أي علماءهم من الشرك والإيمان بالجبت والطاغوت وقولهم للذين كفروا : (( هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا )) لأنه عرف أن كل ما فعلوا لا بد أن تفعله هذه الأمة وقد فعلت، وإن صعب عليك مخالفة الكبرا ولم يقبل ذهنك هذا الكلام فأحضر بقلبك أن كتاب الله أحسن الكتب وأعظمها بيانا وأشفى لداء الجهل وأعظمها فرقا بين الحق والباطل والله سبحانه قد عرف تفرق عباده واختلافهم قبل أن يخلقهم، وقد ذكر في كتابه : (( وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة )) وأحضر قلبك هذه الأصول وما يشابهما في ذهنك، واعرضها على قلبك فإنه إن شاء الله يؤمن بها على سبيل الإجمال فتأمل قوله : (( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا )) وتكرير هذا الأصل في مواضع كثيرة وكذلك قوله : (( أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سطان )) فكل حجة تحتجون بها تجدها مبسوطة في القرآن وبعضها في مواضع كثيرة، فأحضر بقلبك أن الحكيم الذي أنزل كتابه شفاء من الجهل فارقا بين الحق والباطل لا يليق منه أن يقرر هذه الحجج ويكررها مع عدم حاجة المسلمين إليها ويترك الحجج التي يحتاجون إليها ويعلم أن عباده يفترقون حاشا أحكم الحاكمين من ذلك ومما يهون عليك مخالفة من خالف الحق وإن كان من أعلم الناس وأذكاهم وأعظمهم جهلا ولو اتبعه أكثر الناس ما وقع في هذه الأمة من افتراقهم في أصول الدين وصفات الله تعالى وغالب من يدعي المعرفة، وما عليه المتكلمون وتسميتهم طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم حشوا وتشبيها(8/158)
وتجسيما مع أنك إذا طالعت في كتاب من كتب الكلام مع كونه يزعم أن هذا واجب على كل أحد وهو أصل الدين تجد الكتاب من أوله إلى آخره لا يستدل على مسألة منه بآية من كتاب الله ولا حديث عن رسول الله اللهم إلا أن يذكره ليحرفه عن مواضعه، وهم معترفون أنهم لم يأخذوا أصولهم من الوحي بل من عقولهم، ومعترفون أنهم مخالفون للسلف في ذلك مثل ما ذكر في فتح الباري في مسألة الإيمان على قول البخاري، وهو قول وعمل ويزيد وينقص فذكر إجماع السلف على ذلك، وذكر عن الشافعي أنه نقل الإجماع على ذلك، وكذلك ذكر أن البخاري نقله ثم بعد ذلك حكى كلام المتأخرين ولم يرده فإن نظرت في كتاب التوحيد في آخر الصحيح ـ فتأمل تلك التراجم ـ وقرأت في كتب أهل العلم من السلف ومن أتلاعهم من الخلف ونقلهم الإجماع على وجوب الإيمان بصفات الله تعالى وتلقيها بالقبول وأن من جحد شيئاً منها أو تأول شيئاً من النصوص فقد افترى على الله وخالف إجماع أهل العلم أن علم الكلام بدعة وضلالة حتى قال أبو عمر ابن عبد البر أجمع أهل العلم في جميع الأعصار والأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وضلالات لا يعدون عند الجميع من طبقات العلماء والكلام في هذا يطول. والحاصل أنهم عمدوا إلى شيء أجمع المسلمون كلهم بل وأجمع عليه أجهل الخلق بالله عبدة الأوثان الذين بعث بهم النبي صلى الله عليه وسلم فابتدع هؤلاء كلاماً من عند أنفسهم كابروا به العقول أيضا حتى إنكم لا تقدرون أن تغيروا عوامكم عن قطرتهم التي فطرهم الله عليها ثم مع هذا كله تابعهم جمهور من يتكلم في علم هذا الأمر إلا من سبقت لهم من الله الحسنى وهم كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود يبغضونهم الناس ويرمونهم بالتجسيم. هذا، وأهل الكلام وأتباعهم من أحذق الناس وأفطنهم حتى إن لهم من الذكاء والحفظ والفهم ما يحير اللبيب وهم وأتباعهم مقرون أنهم مخالفون للسلف حتى إن أئمة المتكلمين لما ردوا على الفلاسفة في تأويلهم في آيات الأمر(8/159)
والنهي مثل قولهم المراد بالصيام كتمان أسرارنا والمراد بالحج زيارة مشايخنا، والمراد بجبريل العقل الفعال وغير ذلك من إفكهم رد عليهم الجواب بأن هذا التفسير خلاف المعروف بالضرورة من دين الإسلام فقال لهم الفلاسفة أنتم جحدتم علو الله على خلقه واستواءه على عرشه مع أنه مذكور في الكتب على ألسنة الرسل، وقد أجمع عليه المسلمون كلهم وغيرهم من أهل الملل فكيف يكون تأويلنا تحريفا وتأويلكم صحيحا ؟ فلم يقدر أحد من المتكلمين أن يجيب عن هذا الإيراد، والمراد أن مذهبهم مع كونه فاسداً في نفسه مخالفاً للعقول، وهو أيضا مخالف لدين الإسلام والكتاب والرسول وللسلف كلهم، ويذكرون في كتبهم أنهم مخالفون للسلف ثم مع هذا راجت بدعتهم على العالم والجاهل حتى طبقت مشارق الأرض ومغاربها وأنا أدعوك إلى التفكر في هذه المسألة وذلك أن السلف قد كثر كلامهم وتصانيفهم في أصول الدين وإبطال كلام المتكلمين وتفكيرهم وممن ذكر هذا من متأخري الشافعية البيهقي والبغوي وإسماعيل التيمي ومن بعدهم كالحافظ الذهبي، وأما متقدموهم كابن سريج والدار قطني وغيرهما فكلهم على هذا الأمر ففتش في كتب هؤلاء فإن أتيتني بكلمة واحدة أن منهم رجلاً واحداً لم ينكر على المتكلمين ولم يكفرهم فلا تقبل مني شيئاً أبداً ومع هذا كله وظهوره غاية الظهور راج عليكم حتى ادعيتم أن أهل السنة هم المتكلمون والله المستعان. ومن العجب أنه يوجد في بلدكم من يفتي الرجل بقول إمام والثاني بقول آخر والثالث بخلاف القولين ويعد فضيلة وعلماً وذكاء ويقال هذا يفتي في مذهبين أو أكثر، ومعلوم عند الناس أن مراده في هذا العلو والرياء وأكل أموال الناس بالباطل فإذا خالفت قول عالم لمن هو أعلم منه أو مثله إذا كان معه الدليل ولم آت بشيء من عند نفسي تكلمتم بهذا الكلام الشديد فإن سمعتم أني أفتيت بشيء خرجت فيه من إجماع أهل العلم توجه على القول وقد بلغني أنكم في هذا الأمر قمتم وقعدتم، فإن كنتم(8/160)
تزعمون أن هذا إنكار للمنكر فيا ليت قيامكم كان في عظائم في بلدكم تضاد أصلى الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله منها وهو أعظمها عبادة الأصنام عندكم من بشر وحجر هذا يذبح له، وهذا ينذر له وهذا يطلب إجابة الدعوات وإغاثة اللهفات، وهذا يدعوه المضطر في البر والبحر، وهذا يزعمون أن من التجأ إليه ينفعه في الدنيا والآخرة ولو عصى الله، فإن كنتم تزعمون أن هذا ليس هو عبادة الأصنام والأوثان المذكورة في القرآن فهذا من العجب فإني لا أعلم أحدا من أهل العلم يختلف في ذلك اللهم إلا أن يكون أحد وقع فيما وقع فيه اليهود من إيمانهم بالجبت والطاغوت وإن ادعيتم أنكم لا تقدرون على ذلك، فإن لم تقدروا على الكل قدرتم على البعض كيف وبعض الذين أنكروا علي هذا الأمر وادعوا أنهم من أهل العلم ملتبسون بالشرك الأكبر ويدعون إليه ولو يسمعون إنساناً يجرد التوحيد ألزموه بالكفر والفسوق ؟ ولكن نعوذ بالله من رضاء الناس بسخط الله ؛ ومنها ما يفعله كثير من أتباع إبليس وأتباع المنجمين والسحرة والكهان ممن ينتسب إلى الفقر وكثير ممن ينتسب إلى العلم من هذه الخوارق التي يوهمون بها الناس ويشبهونها بمعجزات الأنبياء وكرامات الأولياء، ومرادهم أكل أموال الناس بالباطل والصد عن سبيل الله حتى إن بعض أنواعها يعتقد فيه من يدعي العلم أنه من العلم الموروث عن الأنبياء من علم الأسماء وهو من الجبت والطاغوت، ولكن هذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم : (( لتتبعن سنن من كان قبلكم ))، ومنها هذه الحيلة الربوية التي مثل حيلة أصحاب السبت أو أشد وأنا أدعو من خالفني إلى أحد أربع : إما إلى كتاب الله، وإما إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما إلى إجماع أهل العلم، فإن عاند دعوته إلى المباهلة كما دعا إليها ابن عباس في بعض مسائل الفرائض، وكما دعا إليها سفيان والأوزاعي في مسألة رفع اليدين وغيرهما من أهل العلم والحمد لله رب العالمين وصلى(8/161)
الله على محمد وآله وسلم.
يا من تعز عليهم أرواحهم ... ويرون غبنا بيعها بهوان
ويرون أن أمامهم يوم اللقا ... لله مسألتان شاملتان
ماذا عبدتم ثم ماذا قد أجبتم ... من أتى بالحق والبرهان
هيئوا جوابا للسؤال وهيئوا ... أيضا صوابا للجواب يدان
وتيقنوا أن ليس ينجيكم سوى ... تجريدكم لحقائق الإيمان
تجريدكم توحيده سبحانه ... عن شركة الشيطان والأوثان
وكذاك تجريد اتباع رسوله ... عن هذه الآراء والهذيان
فالوحي كاف للذي يعنى به ... شاف لداء جهالة الإنسان
هذا آخر ما ذكره الشيخ رحمة الله في هذه الرسالة النافعة.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً(8/162)
الرسالة الثامنة والثلاثون
(ص269)
وله أيضا قدس الله روحه ونور ضريحه
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه من الإخوان، المؤمنين بآيات الله المصدقين لرسول الله التابعين للسواد الأعظم من أصحاب رسول الله والتابعين لهم بإحسان، وأهل العلم والإيمان المتمسكين بالدين القيم عند فساد الزمان، الصابرين على الغربة والامتحان سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد فإن الله سبحانه بعث نبيكم صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل وأهل الأرض من المشرق إلى المغرب قد خرجوا عن ملة إبراهيم وأقبلوا على الشرك بالله إلا بقايا من أهل الكتاب فلما دعا إلى الله ارتاع أهل الأرض من دعوته وعادوه كلهم جهالهم وأهل الكتاب عبادهم وفساقهم، ولم يتبعه على دينه إلا أبو بكر الصديق وبلال وأهل بيته صلى الله عليه وسلم خديجة وأولادها ومولاه زيد بن حارثة وعلي رضي الله عنه قال عمرو بن عبسة لما أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قلت ما أنت قال : ((نبي)) قلت : وما نبي (( قال : أرسلني الله )) قلت : بأي شيء أرسلك ؟ قال: ((بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يعبد الله لا يشرك به شيئاً)) قلت من معك على هذا قال : ((حر وعبد )) ومعه يومئذ أبو بكر وبلال، فهذا صيغة بدو الإسلام وعداوة الخاص والعام له وكونه في غاية الغربة ؛ ثم قد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ)) فمن تأمل هذا وفهمه زالت عنه شبهات شياطين الإنس الذين يجلبون على من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم بخيل الشيطان ورجله، فاصبروا يا اخواني واحمدوا الله على ما أعطاكم من معرفة الله سبحانه ومعرفة حقه على عباده ومعرفة ملة أبيكم إبراهيم في هذا الزمان التي أكثر الناس منكر لها ؛ واضرعوا إلى الله أن يزيدكم إيمانا ويقينا وعلما وأن يثبت قلوبكم على دينه، وقولوا كما قال الصالحون الذين أثنى الله عليهم في كتابه : (( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب )).(8/163)
واعلموا أن الله قد جعل للهداية والثبات أسباباً كما جعل للضلال والزيغ أسبابا فمن ذلك أن الله سبحانه أنزل الكتاب وأرسل الرسول ليبين للناس ما اختلفوا فيه كما قال تعالى : (( وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون )) فبإنزال الكتب وإرسال الرسول قطع العذر وأقام الحجة كما قال تعالى : (( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل )) فلا تغفلوا عن طلب التوحيد وتعلمه واستعمال كتاب الله وإجالة الفكر فيه، وقد سمعتم من كتاب الله ما فيه عبرة، مثل قولهم نحن موحدون نعلم أن الله هو النافع الضار، وأن الأنبياء وغيرهم لا يملكون نفعا ولا ضرا لكن نريد الشفاعة، وسمعتم ما بين الله في كتابه في جواب هذا وما ذكر أهل التفسير وأهل العلم، وسمعتم قول المشركين الشرك عبادة الأصنام، وأما الصالحون فلا، وسمعتم قولهم لا نريد إلا من الله لكن نريد بجاههم وسمعتم ما ذكر الله في جواب هذا كله، وقد من الله عليكم بإقرار علماء المشركين بهذا كله سمعتم اقرارهم أن هذا الذي يفعل في الحرمين والبصرة والعراق واليمن أن هذا شرك بالله فأقروا لكم أن هذا الدين الذي ينصرون أهله ويزعمون أنهم السواد الأعظم أقروا لكم أن دينهم هو الشرك ؛ وأقروا لكم أيضا أن التوحيد الذي يسعون في إطفائه وفي قتل أهله وحبسهم أنه دين الله ورسوله، وهذا الإقرار منهم على أنفسهم من أعظم آيات الله ومن أعظم نعم الله عليكم، ولا يبقى شبهة مع هذا إلا للقلب الميت الذي طبع الله عليه وذلك لا حيلة فيه.(8/164)
ولكنهم بجادلونكم اليوم بشبهة واحدة فاصغوا لجوابها، وذلك أنهم يقولون كل هذا حق نشهد أنه دين الله ورسوله إلا التكفير والقتال، والعجب ممن يخفى عليه جواب هذا إذا أقروا أن هذا دين الله ورسوله كيف لا يكفر من أنكره وقتل من أمر به وحسبهم؟ كيف لا يكفر من أمر بحبسهم ؟ كيف لا يكفر من جاء إلى أهل الشرك يحثهم على لزوم دينهم وتزيينه لهم ويحثهم على قتل الموحدين وأخذ مالهم ؟ كيف لا يكفر وهو يشهد أن الذي يحث عليه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أنكره ؟ ونهى عنه وسماه الشرك بالله ويشهد أن الذي يبغضه ويبغض أهله ويأمر المشركين بقتلهم هو دين الله ورسوله.
واعلموا أن الأدلة على تكفير المسلم الصالح إذا أشرك بالله، أو صار مع المشركين على الموحدين ولو لم يشرك أكثر من أن تحصر من كلام الله وكلام رسوله وكلام أهل العلم كلهم.(8/165)
وأنا أذكر لكم آية من كتاب أجمع أهل العلم على تفسيرها وأنها في المسلمين وأن من فعل ذلك فهو كافر في أي زمان، قال تعالى: (( من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان )) إلى آخر الآية وفيها : (( ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة )) فإذا كان العلماء ذكروا أنها نزلت في الصحابة لما فتنهم أهل مكة وذكروا أن الصحابي إذا تكلم بكلام الشرك بلسانه مع بغضه لذلك وعداوة أهله لكن خوفاً منهم أنه كافر بعد إيمانه فكيف بالموحد في زماننا ؟ إذا تكلم في البصرة أو الأحساء أو مكة أو غير ذلك خوفا منهم لكن قبل الإكراه، وإذا كان هذا يكفر فكيف بمن صار معهم وسكن معهم وصار من جملتهم ؟ فكيف بمن أعانهم على شركهم وزينه لهم ؟ فكيف بمن أمر بقتل الموحدين وحثهم على لزوم دينهم ؟ فأنتم وفقكم الله تأملوا هذه الآية، وتأملوا من نزلت فيه، وتأملوا إجماع العلماء على تفسيرها، وتأملوا ما جرى بيننا وبين أعداء الله نطلبهم دائما الرجوع إلى كتبهم التي بأيديهم في مسألة التكفير والقتال فلا يجيبوننا إلا بالشكوى عند الشيوخ، وأمثالهم والله أسأل أن يوفقكم لدينه ويرزقكم الثبات عليه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(8/166)
الرسالة التاسعة والثلاثون
(ص275)
ومنها رسالة أرسلها إلى عبد الوهاب بن عبد الله بن عيسى قال فيها :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الوهاب بن عبد الله بن عيسى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد :
إن تفضلتم بالسؤال فنحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو ونحن بخير وعافية ـ جعلكم الله كذلك وأحسن من ذلك ـ وأبلغوا لنا الوالد السلام سلمه الله من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، وغير ذلك في نفسي عليه بعض الشيء من جهة المكاتيب لما حبسها عنا هجسنا فيه الظن الجميل ثم بعد ذلك سمعنا بعض الناس يذكر أنه معطيها بعض السفهاء يقرءونها على الناس، وأنا أعتقد فيه المحبة، وأعتقد أيضا أن له غاية وعقلا، وهو صاحب إحسان علينا وعلى أهلنا فلا ودى يعقبه بالأذى ويكدر هذه المحبة بلا منفعة في العاجل والآجل، وأنا إلى الآن ما تحققت ذلك وهوجس فيه بالهاجوس الجيد، وذكر أيضا عنه بعض الناس الكلام الذي يشوش الخاطر، فإن كان يرى أن هذا ديانة ويعتقده من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأنا ولله الحمد لم آت الذي أتيت بجهالة وأشهد الله وملائكته أنه إن أتاني منه أو ممن دونه في هذا الأمر كلمة من الحق لأقبلها على الرأس والعين وأترك قول كل إمام اقتديت به حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يفارق الحق، فإن كانت مكاتيب أولياء الشيطان وزخرفة كلامهم الذي أوحي إليهم ليجادل في دين الله لما رأى أن الله يريد أن يظهر دينه غرته وأصغت إليه أفئدتكم فاذكروا لي حجة مما فيها أو كلها أو في غيرها من الكتب مما تقدرون عليه أنتم ومن وافقكم، فإن لم أجاوبه عنها بجواب فاصل بين يعلم كل من هداه الله أنه الحق وأن تلك هي الباطل فأنكروا علي، وكذلك عندي من الحجج الكثيرة الواضحة مالا تقدرون أنتم ولا هم أن تجيبوا عن حجة واحدة منها، وكيف لكم بملاقاة جند الله ورسوله ؟ وإن كنتم تزعمون أن أهل العلم على خلاف ما أنا عليه فهذه كتبهم موجودة ومن أشهرهم وأغلظهم كلام الإمام أحمد كلهم على هذا الأمر لم يشذ منهم رجل واحد ولله الحمد، ولم يأت عنهم كلمة واحدة أنهم أرخصوا لمن يعرف الكتاب والسنة في أمركم هذا فضلا عن أن يوجبوه، وإن زعمتم أن المتأخرين معكم فهؤلاء(8/167)
سادات المتأخرين وقادتهم ابن تيمية وابن القيم، وابن رجب عندنا له مصنف مستقل في هذا، ومن الشافعية الذهبيى وابن كثير وغيرهم وكلامهم في إنكار هذا أكثر من أن يحصر، وبعض كلام الإمام أحمد ذكره ابن القيم في (الطرق الحكمية ) فراجعه، ومن أدلة شيخ الإسلام : (( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله )) فقد فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة بعده بهذا الذي تسمونه الفقه وهو الذي سماه الله شركاً واتخاذهم أرباباً لا أعلم بين المفسرين في ذلك اختلافاً. والحاصل أن من رزقه الله العلم يعرف أن هذه المكاتيب التي أتتكم وفرحتم بها وقرأتموها على العامة من عند هؤلاء الذين تظنون أنهم علماء كما قال تعالى : (( وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً )) إلى قوله : (( ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة )) لكن هذه الآيات ونحوها عندكم من العلوم المهجورة، بل أعجب من هذا أنكم لا تفهمون شهادة أن لا إله إلا الله ولا تنكرون هذه الأوثان التي تعبد في الخرج وغيره التي هي الشرك الأكبر بإجماع أهل العلم، وأنا لا أقول هذا )).(8/168)
الرسالة الأربعون
(ص279)
ومنها رسالة كتبها إلى عبد الوهاب بن عبد الله بن عيسى قال فيها :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الوهاب بن عبد الله، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد :
فقد وصل كتابك وما ذكرت فيه من الظن والتجسس وقبول خبر الفاسق فكل هذا حق وأريد به باطل، والعجب منك إذا كنت من خمس سنين تجاهد جهاداً كبيراً في رد دين الإسلام فإذا جاءك مساعد أو ابن راجح وإلا صالح بن سليم وأشباه هؤلاء الذين نلقنهم شهادة أن لا إله إلا الله وأن عبادة المخلوقات كفر وأن الكفر بالطاغوت فرض قمت تجاهد وتبالغ في نقض ذلك والاستهزاء به، وليس الذي يذكر هذا عنك بعشرة ولا عشرين ولا ثلاثين ولا أنت بمتخف في ذلك ثم تظن في خاطرك أن هذا يخفى علي وأنا أصدقك إذا قلت ما قلت ولو أن الذي جرى عشر أو عشرون أو ثلاثون مرة أمكن تعداد ذلك، وأحسن ما ذكرت أنك تقول (( ربنا ظلمنا أنفسنا )) وتقر بالذنب وتجاهد في إطفاء الشرك وإظهار الإسلام كما جاهدت في ضده ويصير ما تقدم كأن لم يكن، فإن كنت تريد الرفعة في الدنيا والجاه حصل لك بذلك ما لا يحصل بغيره من الأمور بأضعاف مضاعفة، وإن أردت به الله والدار الآخرة فهي التجارة الرابحة وأتتك الدنيا تبعاً، وإن كنت تظن في خاطرك أنا نبغي أن نداهنك في دين الله ولو كنت أجل عندنا مما كنت فأنت مخالف فإن كنت تتهمي بشئ من أمور الدنيا فلك الشرهة، فإن كان إني أدعو لك في سجودي وأنت وأبوك أجل الناس إلى وأحبهم عندي، وأمرك هذا أشق علي من أمر أهل الحسا خصوصاً بعد ما استركبت أباك وخربته فعسى الله أن يهدينا وإياك لدينه القيم ويطرد عنا الشيطان ويعيذنا من طريق المغضوب عليهم والضالين.
الرسالة الحادية والأربعون
(ص283)
ومنها رسالة كتبها إلى أحمد بن محمد بن سويلم، وثنيان بن مسعود قال فيها :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى الأخوين أحمد بن محمد وثنيان.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد :(8/169)
فقد ذكر لي عنكم أن بعض الإخوان تكلم في عبد المحسن الشريف يقول : إن أهل الحسا يحبون على يدك وأنك لابس عمامة خضراء والإنسان لا يجوز له الإنكار إلا بعد المعرفة، فأول درجات الإنكار معرفتك أن هذا مخالف لأمر الله، وأما تقبيل اليد فلا يجوز إنكار مثله وهي مسألة فيها اختلاف بين أهل العلم، وقد قبل زيد بن ثابت يد ابن عباس وقال : هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا، وعلى كل حال فلا يجوز لهم إنكار كل مسألة لا يعرفون حكم الله فيها، وأما لبس الأخضر فإنها أحدثت قديماً تمييزاً لأهل البيت لئلا يظلمهم أحد أو يقصر في حقهم من لا يعرفهم، وقد أوجب الله لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس حقوقاً فلا يجوز لمسلم أن يسقط حقهم ويظن أنه من التوحيد بل هو من الغلو ونحن ما أنكرنا إلا إكرامهم لأجل ادعاء الألوهية فيهم أو إكرام المدعى لذلك، وقيل عنه أنه اعتذر عن بعض الطواغيت، وهذه مسئلة جليلة ينبغي التفطن لها وهي قوله تعالى : ((يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا))
فالواجب عليهم إذا ذكر لهم عن أحد منكراً عدم العجلة فإذا تحققوه أتوا صاحبه ونصحوه فإن تاب ورجع وإلا أنكر عليه وتكلم فيه، فعلى كل حال نبهوهم على مسئلتين :
الأولى : عدم العجلة ولا يتكلمون إلا مع التحقق فإن التزوير كثير.
الثانية :أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف منافقين بأعيانهم ويقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله،
فإذا ظهر منهم وتحقق ما يوجب جهادهم جاهدهم، وغير ذلك عبد الرحمن بن عقيل رجع إلى الحق ولله الحمد، ولكن ودى أن أقرأ عليه رسالة ابن شلهوب وغيرها، وأنت يا أحمد على كل حال أرسل المجموع مع أول من يقبل وأرسلها فيه، خذه من سليمان لا تغفل تراك خالفت خلافاً كبيراً في هذا المجموع والسلام(8/170)
الرسالة الثانية والأربعون
(ص287)
ومنها رسالة أرسلها إلى عبد الله بن سويلم حين غضب على ابن عمه أحمد في شدته على المنافقين قال فيها :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الله بن عبد سويلم
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، فقد ذكر لي ابن زيدان أنك يا عبد الله زعل على أحمد بعض الزعل لما تكلم في بعض المنافقين، ولا يخفاك أن بعض الأمور كما قال تعالى : (( وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم )) وذلك أني لا أعرف شيئاً يتقرب به إلى الله أفضل من لزوم طريقة رسول الله صلى عليه وسلم في حال الغربة، فإن إنصاف إلى ذلك الجهاد عليها للكفار والمنافقين كان ذلك تمام الإيمان، فإذا أراد أحد من المؤمنين أن يجاهد فأتاه بعض إخوانه فذكر له أن أمرك للدنيا أخاف أن يكون هذا من جنس الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات، فأنتم تأملوا تفسير الآية ثم نزلوه على هذه الواقعة، وأيضاً في صحيح مسلم : ((أن أبا سفيان مر على بلال وسلمان وأجناسهما فقالوا : ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها، فقال أبو بكر : أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدها ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فقال : يا أبا بكر لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك )) ومن أفضل الجهاد جهاد المنافقين في زمن الغربة، فإذا خاف أحد منكم من بعض إخوانه قصداً سيئاً فلينصحه برفق وإخلاص لدين لله وترك الرياء والقصد الفاسد ولا يفل عزمه عن الجهاد ولا يتكلم فيه بالظن السيء وينسبه إلى ما لا يليق ولا يدخل خاطرك شئ من النصيحة. فلو أدري أنه يدخل خاطرك ما ذكرته وأنا أجد في نفسي أن ودي من ينصحني كلما غلطت والسلام.(8/171)
الرسالة الثالثة والأربعون
(ص 291 )
رسالة منه إلى جماعة أهل شقرا سلمهم الله تعالى :
بسم الله الرحمن الرحيم
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن الله يرضي لكم ثلاثاً )) وواجب علينا لكم النصيحة وعلى الله التوفيق فيا اخواني لا تغفلوا عن أنفسكم ترى الباطل زمالة لحاية عند الحاجة ولا تظنوا أن الضيق مع دين الإسلام، لا والله بل الضيق والحاجة وسكنة الريح وضعفه البخت مع الباطل والإعراض عن دين الإسلام، مع أن مصداق قولي فيما ترونه فيمن ارتد من البلدان أولهن (ضرما) وآخرهن (حريملا) هم حصلوا سعة فيما يزعمون أو ما زادوا إلا ضيقاً وخوفاً على ما هم قبل أن يرتدوا. وأنتم كذلك المعروف منكم إنكم ما تدينون للعناقر وهم على عنفوان القوة في الجاهلية فيوم رزقكم الله دين الإسلام الصرف وكنتم على بصيرة في دينكم وضعف من عدوكم اذعنتوا له حتى أنه يبي منكم الخسر ما يشابه لجزية اليهود والنصارى حاشاكم والله من ذلك، والله العظيم إن النساء في بيوتهن يأنفن لكم فضلا عن صماصيم بني زيد. يا الله العجب تحاربون إبراهيم بن سليمان فيما مضى عند كلمة تكلم بها على جاركم أو حمار يأخذه ما يسوى عشر محمديات وتنفذون على هذا ما لكم ورجالكم، ومع هذا يثلب بعضكم بعضا على التصلب في الحرب ولو عضكم، فيوم رزقكم الله دين الأنبياء الذي هو ثمن الجنة والنجاة من النار إلى أنكم تضعفون عن التصلب وها الأمر خالفه صار كلمة أو حمار أنفق عندكم وأعز من دين الإسلام، يا الله العجب نعوذ بالله من الخذلان والحرمان ما أعجب حالكم وأتيه رأيكم إذ تؤثرون الفاني على الباقي وتبيعون الدر بالبعر والخير بالشر كما قيل.
فيا درة بين المزايل ألقيت وجوهرة بيعت بأبخس قيمة
فتوكلوا على الله وشمروا عن ساق الجد في دينكم، وحاربوا عدوكم وتمسكوا بدين نبيكم وملة أبيكم إبراهيم، وعضوا عليها بالنواجذ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(8/172)
الرسالة الرابعة والأربعون
(ص 295 )
ومنها رسالة أرسلها إلى إخوانه من أهل سدير بسبب أمر جرى بين أهل الحوطة من بلدان سدير قال فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى من يصل إليه هذا الكتاب من الإخوان، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد فيجري عندكم أمور تجري عندنا من سابق وننصح إخواننا إذا جرى منها شئ حتى فهموها، وسببها أن بعض أهل الدين ينكر منكراً وهو مصيب لكن يخطئ في تغليظ الأمر إلى شئ يوجب الفرقة بين الإخوان، وقد قال الله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا )) الآية، وقال صلى الله عليه وسلم : (( إن الله يرضى لكم ثلاثاً : أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم )) وأهل العلم يقولون الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يحتاج إلى ثلاث أن يعرف ما يأمر به وينهى عنه، ويكون رفيقاً فيما يأمر به وينهى عنه صابراً على ما جاء من الأذى، وأنتم محتاجون للحرص على فهم هذا والعمل به فإن الخلل إنما يدخل على صاحب الدين من قلة العمل بهذا أو قلة فهمه، وأيضاً يذكر العلماء أن إنكار المنكر إذا صار يحصل بسببه افتراق لم يجز إنكاره، فالله الله في العمل بما ذكرت لكم والتفقه فيه فإنكم إن لم تفعلوا صار إنكاركم مضرة على الدين، والمسلم ما يسعى إلا في صلاح دينه ودنياه ؛ وسبب هذه المقالة التي وقعت بين أهل الحوطة لو صار أهل الدين واجباً عليهم إنكار المنكر فلما غلظوا الكلام صار فيه اختلاف بين أهل الدين فصار فيه مضرة على الدين والدنيا، وهذا الكلام وإن كان قصيراً فمعناه طويل فلازم تأملوه وتفقهوا فيه واعملوا به فإن عملتم به صار نصراً للدين واستقام الأمر إن شاء الله، والجامع لهذا كله أنه إذا صدر المنكر من أمير أو غيره أن ينصح برفق خفية ما يشترف أحد، فإن وافق وإلا استحلق عليه رجلا يقبل منه يخفيه،(8/173)
فإن لم يفعل فيمكن الإنكار ظاهراً إلا أن كان على أمير ونصحه ولا وافق واستلحق عليه ولا وافق فيرفع الأمر يمنا خفية، وهذا الكتاب كل أهل بلد ينسخون منه نسخة ويجعلونها عندهم ثم يرسلونه لحرمة والمجمعة ثم للغاط والزلفي والله أعلم.
الرسالة الخامسة والأربعون
(ص299)
ومنها رسالة أرسلها إلى أحمد بن يحيى مطوع من أهل رغبة قال فيها :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى أحمد بن يحيى سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد :
ما ذكرت من طرف مراسلة سليمان فلا ينبغي أنها تزعلك :
الأولى : أنه لو خالف فمثلك يحلم ولا يأتي بغايته هذا ولا أكثر منه.(8/174)
وثانياً : إنك إذا عرفت أن كلامه ماله فيه قصد إلا الجهدة في الدين ولو صار مخطئاً فالأعمال بالنيات والذي هذا مقصده يغتفر له ولو جهل عليك، ونحن ملزمون عليك لزمة جيدة، وربك ونبيك ودينك لزمتهم لزمة تتلاشى فيها كل لزمة وهذه الفتنة الواقعة ليست في مسائل الفروع التي مازال أهل العلم يختلفون فيها من غير نكير ولكن هذه في شهادة أن لا إله إلا الله والكفر بالطاغوت، ولا يخفاك أن الذي عادانا في هذا الأمر هم الخاصة الذين ليسوا بالعامة، هذا ابن إسماعيل والمويس وابن عبيد جاءتنا خطوطهم في إنكار دين الإسلام الذي حكى في (الإقناع) في باب حكم المرتد الإجماع من كل المذاهب أن من لم يدن به فهو كافر وكاتبناهم ونقلنا لهم العبارات وخاطبناهم بالتي هي أحسن ما زادهم ذلك إلا نفورا، وزعموا أن أهل العارض ارتدوا لما عرفوا شيئاً من التوحيد وأنت تفهم أن هذا لا يسعك التكفي عنه، فالواجب عليك نصر أخيك ظالماً ومظلوماً وإن تفضل الله عليك بفهم ومعرفة فلا تعذر لا عند الله ولا عند خلقه من الدخول في هذا الأمر، فإن كان الصواب معنا فالواجب عليك الدعوة إلى الله وعداوة من صرح بسبب دين الله ورسوله، وإن كان الصواب معهم أو معنا شئ من الحق وشئ من الباطل أو معنا غلو في بعض الأمور فالواجب منك مذاكرتنا ونصيحتنا وتورينا عبارات أهل العلم لعل الله أن يردنا بك إلى الحق، وإن كان إذا حررت المسألة إذ أنها من مسائل الاختلاف، وأن فيها خلافاً عند الحنفية أو الشافعية أو المالكية فتلك مسألة أخرى.
وبالجملة فالأمر عظيم ولا نعذرك من تأمل كلامنا وكلامهم ثم نعرضه على كلام أهل العلم ثم تبين في الدعوة إلى الحق وعداوة من حاد الله ورسوله منا أو من غيرنا والسلام.(8/175)
الرسالة السادسة والأربعون
(ص 303 )
ومنها رسالة أرسلها إلى عبد الله بن عيسى مطوع الدرعية قال فيها :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الله بن عيسى.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد :
فقد قال ابن القيم في أعلام الموقعين (( فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم )) فقسم الأمر إلى أمرين لا ثالث لهما : إما الاستجابة للرسول، وإما اتباع الهوى وذكر كلاماً في تقرير ذلك إلى أن قال : ثم أخبر سبحانه أن من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول فقد حكم الطاغوت وتحاكم إليه يعني الآيات في النساء (( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكمون إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ) قال : والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم ممن أعرض عن طاعة الله ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته، وهؤلاء لم يسلكوا طريق الناجين من هذه الأمة وهم الصحابة ومن تبعهم قال الله : (( فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون )) والزبر الكتب أي كل فرقة صنفوا كتبا أخذوا بها وعملوا بها دون كتب الآخرين كما هو الواقع سواء وقال : (( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه )) قال ابن عباس تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسود وجوه أهل الفرقة والاختلاف. هذا كله كلام ابن القيم. وقال الشيخ تقي الدين في كتاب (الإيمان) قال الله تعالى : (( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ) الآية وفي حديث عدى بن حاتم أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : (( إنا لسنا نعبدهم، قال أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتحلونه ؟ قلت : بلى قال : فتلك عبادتهم )) رواه الإمام أحمد والترمذي وغيره وقال أبو العالية إنهم وجدوا في كتاب الله ما أمروا به وما نهوا عنه فقالوا لن نسبق أحبارنا بشئ فما أمرونا به ائتمرنا وما نهونا عنه(8/176)
انتهينا لقولهم ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم انتهى كلام ابن تيمية، فتأمل هذا الكلام بشراشر قلبك ثم نزله على أحوال الناس وحالك وتفكر في نفسك وحاسبها بأي شئ تدفع هذا الكلام وبأي حجة تحتج يوم القيامة على ما أنت عليه فإن كان عندك شبهة فاذكرها فأنا أبينها إن شاء الله تعالى، والمسألة مثل الشمس ولكن من يهدى الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له، وإن لم يتسع عقلك لهذا فتضرع إلى الله بقلب حاضر خصوصاً في الأسحار أن يهديك للحق ويريك الباطل باطلا، وفر بدينك فإن الجنة والنار قدامك والله المستعان، ولا تستهجن هذا الكلام فو الله ما أردت به إلا الخير، وصلى الله على محمد وآله وسلم.(8/177)
الرسالة السابعة والأربعون
(ص 307 )
وله أيضاً رحمة الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى نغيمش وجميع الإخوان.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد :
إن سألتم عنا فنحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، ونخبركم أنا بخير وعافية، أتمها الله علينا وعليكم في الدنيا والآخرة، وسرنا والحمد لله ما بلغنا عنكم من الأخبار من الاجتماع على الحق، والإتباع لدين محمد صلى الله عليه وسلم وهذا هو أعظم النعم المجموع لصاحبه بين خيري الدنيا والآخرة، عسى الله أن يوفقنا وإياكم لذلك، ويرزقنا الثبات عليه، ولكن يا إخواني لا تنسوا قول الله تعالى : ((وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيراً )) وقوله : (( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين )) فإذا تحققهم أن من اتبع هذا الدين لابد له من الفتنة، فاصبروا قليلا، ثم ابشروا عن قليل بخير الدنيا والآخرة ؛ واذكروا قول الله تعالى : (( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد )) وقوله : (( ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون )) وقوله تعالى : (( إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين. كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز )) فإن رزقكم الله الصبر على هذا، وصرتم من الغرباء الذين تمسكوا بدين الله مع ترك الناس إياه، فطوبى ثم طوبى إن كنتم ممن قال فيه نبيكم صلى الله عليه وسلم : (( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء، قيل : يا رسول الله من الغرباء ؟ قال : (( الذين يصلحون إذا افسد الناس )) فيالها من نعمة ؟ ويا لها من عظيمة ؟ جعلنا الله وإياكم من أتباع الرسول، وحشرنا تحت لوائه، وأوردنا حوضه الذي يرده من تمسك بدينه في الدنيا، ثم أنتم في أمان الله وحفظه والسلام.(8/178)
الرسالة الثامنة والأربعون
(ص 311 )
وفى سنة 1184هـ أرسل الشيخ محمد بن عبد الوهاب والإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود إلى والي مكة الشيخ عبد العزيز الحصين وكتبا إلى الوالي المذكور رسالة هذا نصها :
بسم الله الرحمن الرحيم
المعروض لديك، أدام الله أفضل نعمه عليك، حضره الشريف أحمد بن الشريف سعيد أعزه الله في الدارين والأعز به دين جده سيد الثقلين.
إن الكتاب لما وصل إلى الخادم ونأمل ما فيه الكلام الحسن رفع يديه بالدعاء إلى الله بتأييد الشريف لما كان قصده نصر الشريعة المحمدية ومن تبعها وعداوة من خرج عنها، وهذا هو الواجب على ولاة الأمور ولما طلبتم من ناحيتنا طالب علم امتثلنا الأمر وهو واصل إليكم، ويجلس في مجلس الشريف أعزه الله هو وعلماء مكة، فإن اجتمعوا فالحمد لله على ذلك، وإن اختلفوا أحضر الشريف كتبهم وكتب الحنابلة والواجب على الكل منا ومنكم أنه يقصد بعلمه وجه الله ونصر رسوله كما قال تعالى : ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمن به ولتنصرنه )) فإذا كان سبحانه قد أخذ الميثاق على الأنبياء إن أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم على الإيمان به ونصرته فكيف بنا يا أمته ؟ فلا بد من الإيمان به ولابد من نصرته لا يكفي أحدهما عن الآخر، وأحق الناس بذلك وأولادهم به أهل البيت الذي بعثه الله منهم وشرفهم على أهل الأرض، وأحق أهل البيت بذلك من كان من ذريته صلى الله عليه وسلم والسلام.
الرسالة التاسعة والأربعون
(ص 313)
ومنها رسالة أرسلها أيضاً إلى بن عيسى وابنه عبد الوهاب قال فيها :
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الله بن عيسى وعبد الوهاب.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد :(8/179)
فقد ذكر لي أنكم زعلانين علي في هذه الأيام بعض الزعل ولا يخفاكم أني زعلان زعلاً كبيراً وناقد عليكم نقوداً أكبر من الزعل، ولكن وابطناه واظهراه، ومعي في هذه الأيام بعض تنغص المعيشة والكدر مما يبلغني عنكم والله سبحانه إذا أراد أمراً فلا راد له وإلا ما خطر على البال أنكم ترضون لأنفسكم بهذا، ثم من العجب كفكم عن نفع المسلمين في المسائل الصحيحة وتقولون لا يتعين علينا الفتيا ثم تبالغون في مثل هذه الأمور مثل التذكير الذي صرحت الأدلة والإجماع وكلام الإقناع بإنكاره ولاودي أنكم بعد ما أنزلكم الله هذه المنزلة وأنعم عليكم بما تعلمون وما لا تعلمون وجعلكم من أكبر أسباب قبول الناس لدين ربكم وسنة نبيكم وجهادكم في ذلك وصبركم على مخالفة دين الآباء ـ أنكم ترتدون على أعقابكم، وسبب هذا أنه ذكر لي عنكم أنكم ظننتم أني أعنيكم ببعض الكلام الذي أجبت به من اعتقد حل الرشوة وأنه مزعلكم فيا سبحان الله كيف أعنيكم به وأنا كاتب لكم تسجلون عليه وتكونون معي أنصاراً لدين الله ؟ وقيل لي إنكم ناقدون علي بعض الغلظة فيه على ملفاه والأمر أغلظ مما ذكرنا ولولا أن الناس إلى الآن ما عرفوا دين الرسول وأنهم يستنكرون الأمر الذي لم يألفوه ـ لكان شأن آخر، بل والله الذي لا إله إلا هو لو يعرف الناس الأمر على وجهه لأفتيت بحل دم ابن سحيم وأمثاله ووجوب قتلهم كما أجمع على ذلك أهل العلم كلهم لا أجد في نفسي حرجاً من ذلك، ولكن إن أراد الله أن يتم هذا الأمر تبين أشياء لم تخطر لكم على بال، وإن كانت من المسائل التي إذا طلبتم الدليل بيننا أنها من إجماع أهل العلم، وبالحاظر لا يخفاكم أن معي غيظ عظيم ومضايقة من زعلكم وأنتم تعلمون أن رضا الله ألزم والدين لا محاباة فيه وأنتم من قديم لا تشكون في والآن غايتكم قريبة وداخلتكم الريبة وأخاف أن يطول الكلام فيجري فيه شئ يزعلكم وأنا في بعض الحدة فأنا أشير عليكم وألزم أن عبد الوهاب يزورنا سواء كان(8/180)
يومين وإلا ثلاثة، وإن كان أكثر يصير قطعاً لهذه الفتنة ويخاطبني وأخاطبه من الرأس، وإن كان كبر عليه الأمر فيوصي لي وأعني له فإن الأمر الذي يزيل زعلكم ويؤلف الكلمة ويهديكم الله بسببه نحرص عليه ولو هو أشق من هذا اللهم إلا أن تكونوا ناظرين شيئا من أمر الله فالواجب عليكم اتباعه، والواجب علينا طاعتكم والإنقياد لكم وإن أبينا كان الله معكم وخلقه، ولا يخفاكم أنه وصلني أمس رسالة في صفة مذاكرتكم في التذكير وتطلبون مني جواباً عن أدلتكم وأنتم ضحكتم علي ابن فيروز وتسافهتموه وتساخفتم عقله في جوابه وانحرفتم تعدلون عدالة لكن ما أنا بكاتب لهم جواباً لأن الأمر معروف أنه منكم وأخاف أن أكتب لهم جواباً فينشرونه فيزعلكم وأشوف غايتكم قريبة وتحملون الأمر على غير محمله والسلام.(8/181)
الرسالة الخمسون
(ص 317 )
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الله بن عيد وبعد :
أبلغ السلام أحمد والحمولة وعيالكم، وما ذكرت أن الحمولة
(1) فلا نحو (2) الكتاب قرأه سليمان ورحت أنا وإياه لابن عقيل ليسأله عن هذا، وتقدمت إلى بيته، ولحقني هو وابن ماهر قبل أن أواجه أحمد، وقال ابن ماهر إني كاتب ها الكلمة من عندي ما دري بها أحد فلا تشرفوه ولا شرفناه، فهذا بابها أني ما دريت بها لا أنا، ولا ابن عقيل والعجب أنهم يزعلون علي وينقدون، ويقولون إنه يصدق الأكاذيب وتغيره علينا، وهم ما انقدوا على أنفسهم أنهم يزعلون ويتغيرون بلا خبر صدق ولا كذب ـ إلا ظن سوء ظانينه فإن كان كل كلمة قيلت عندنا يحملونها على فتراهم يلقون كلاماً كباراً فيهم وفي غيرهم في الدين والدنيا خصوصاً في هذه القضية، يحكى عندنا كلاماً ما يتجاسر العاقل ينطق به، فإن كان مذكور لكم أني قائل شيئاً أو قائل أحد يحضرني كلام سوء ولا رديت عليه ـ فاذكروا لي ترى التنبيه حسن ولا يدخل خاطري إلا ربما أني أعرف أنه محبة وصفو، والذي يكدر الخاطر زعلكم، وإظهار كم للناس الزعل والتغير بسبب ظن سوء وإلا ما من قبلكم كذب ولا صدق. وأما من باب السؤالات وأنكم بلغكم أني ظان أنها من عبد الله فهذا عجب كيف تظنون أني ما أعرف خط ابن صالح ؟ وأيضاً أفهم أن عبد الله لا يسأل عن هذا، وأيضاً أنا ما أنقد عليه ولا عليكم إلا قلة الحرص والسؤال عن هذا الأمر لما فتح الله عليكم منه بعض الشئ، وودى ما يجي جماميل إلا ومعهم من عندكم سؤالات عن هذا وأمثاله فكيف أزعل منه ؟ بل هذا هو الذي يرضيني لكن هذه أنتم معذورون فيها إذا كانت عن ابن عمر، وهو متوهم ما حاكاني في بيان هذا الأمر لما وقع، ولا يدري عن الذي في خاطري لكنه يسمع من أهل الجنوبية وغيرهم، ونعرف حال الكلام من بعيد.(8/182)
فهذا صفة الأمر فإن كان أنتم المخالفون المتغيرون فالحق عليكم، فإن كان جارياً مني شئ تنقده فتراني أحب أن تنبهني عليه لا تترك بيان شئ في خاطرك من قبلي، وإن كنتم متجرفين على التغير أوجتكم الفتنة وودكم ببرد الأرض فهذا شئ آخر. وأما قولكم : إن الأمور ليست على الذي أعهده، وتشيرون علي بترك الكلام فلا أدري إيش مرادكم ؟ هو مرادك أني مثلكم في أحد لا ينبغي الكلام فيه ممن لا يظهر إلا الإيمان ولو ظنياً فيه النفاق فهذا كلام مقبول، وإن كان بلغك عني شيئاً فنبهني جزاك الله خيراً وإن كان مرادك أني أسكت عمن أظهر الكفر والنفاق، وسل سيف البغض على دين الله وكتابه ورسوله مثل ولد ابن سحيم، ومن أظهر العداوة لله ورسوله من أهل العيينة والدرعية أو غيرهم، فهذا لا ينبغي منك، ولا يطاع أحد في معصية الله، فإن وافقتونا على الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمة الله فلكم الحظ الأوفر، وإلا لم تضروا الله شيئا، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: أن الطائفة المنصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفم (( وسيعلم الكفار لمن عقبي الدار )) وقد ذم الله الذي لا يثبت على دينه إلا عند ما يهواه فقال : (( ومن الناس من يعبد الله على حرف )) الآية (1) وينبغي لكم إذا عجزتم أوجبتم أنكم ما ما تلوموننا، ونحمد الله الذي يسر لنا هذا، وجعلنا من أهله، وقد أخبر أنه عند وجود المرتدين فلا بد من وجود المحبين المحبوبين فقال تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين)) الآية(2) جعلنا الله وإياكم من الذين لا تأخذهم في هذا لومة لائم، وقيل لي إن ولد ابن سحيم كاتب لكم جواب الذي جاه فاذكر لي، وأبلغ السلام عيالكم ومن أردتم من الإخوان، وسليمان وثنيان يبلغون الجميع السلام والسلام.(8/183)
الرسالة الحادية والخمسون
(ص 321 )
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن عبد الوهاب إلى الإخوان (1) عبد الله بن على ومحمد بن جماز
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد :
لا تحركون إلى أن ننبكم تراكم ما تجوزون إلا براضة هلحين. وفرج وعرفج الذين وراهم يبون يتبينون في الدين ولا يبغون شيئاً فأنت يا عبد الله أخبرهم بالمبغي منهم ترى الأمر يدور على ما قال الله تعالى : (( فإن تأبوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة )) الآية فأمرهم بي يفهمونه ولكن الآمر لهم يأمرهم بالتوبة من الشرك والدخول في الإسلام، وأهل القصيم غارهم إن ما عندهم قبب ولا سادات، ولكن أخبرهم أن الحب والبغض والموالاة والمعاداة لا يصير للرجل دين إلا بها ماداموا ما يغيضون أهل الزلفي وأمثالهم فلا ينفعهم ترك الشرك ولا ينفعهم قول : (( لا إله إلا الله )) فأهم ما تفطنهم له كون التوحيد من أخل به مثل من أخل بصوم رمضان ولو ما أبغضه. وكذلك الشرك إن كان ما أبغض أهله مثل بغض من تزوج بعض محارمه فلا ينفعه ترك الشرك، وتفطنهم للآيات التي ذكر الله في الموالاة والمعاداة مثل قوله : (( ومن يتولهم منكم فإنه منهم )) وقوله في المعاداة : (( قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه )) إلى قوله : (( حتى تؤمنوا بالله وحده )) الآية، واذكر لهم أنه واجب على الرجل يعلم عياله وأهل بيته ذلك أعظم من وجوب تعليم الوضوء والصلاة. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
هذا آخر ما تيسر جمعه من الرسائل الشخصية للشيخ محمد بن عبد الوهاب، نسأل الله أن ينفع بها وأن يجعل العمل خالصاً لوجهه الكريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الفهرس
رقم الرسالة ... الموضوع
1 ... رسالة الشيخ إلى أهل القصيم
2 ... رسالته إلى محمد بن عباد مطوع ثرمداء
3 ... رسالته إلى محمد بن عيد
4 ... رسالته إلى فاضل آل مزيد رئيس بادية الشام
5 ... رسالته إلى السويدي عالم من العراق
6 ... رسالته إلى العلماء الأعلام في بلد الله الحرام(8/184)
7 ... رسالته إلى عالم من أهل المدينة
8 ... رسالته إلى ابن صياح
9 ... رسالته إلى عامة المسلمين
10 ... رسالته إلى حمد التويجري
11 ... رسالته إلى عبد الله بن سحيم
12 ... جواب الشيخ عن الشبهة التي احتج بها من أجاز وقف الجنف والأثم
13 ... رد الشيخ على سليمان بن سحيم
14 ... رسالته إلى البكبلي صاحب اليمن
15 ... رسالته إلى إسماعيل الجراعي
16 ... رسالته إلى عبد الله بن عبد الله الصنعاني
17 ... رسالته إلى أهل المغرب
18 ... رسالة الشيخ إلى الأخ حسن
19 ... رسالته إلى محمد بن عيد وعبد القادر العديلي وجماعة معهم
20 ... رسالته إلى عبد الله بن سحيم
21 ... رسالته إلى محمد بن سلطان
22 ... رسالته إلى عامة المسلمين
23 ... رسالة الشيخ إلى ثنيان بن سعود
24 ... رسالته إلى عبد الرحمن بن ربيعة
25 ... جواب الشيخ عن كتاب وصله
26 ... رسالته إلى علماء الإسلام
27 ... رسالته إلى عامة المسلمين
28 ... رسالته إلى أهل الرياض ومفتوحة
29 ... رسالته إلى عامة المسلمين
30 ... رسالته إلى الأخ فايز
31 ... رسالة الشيخ إلى أحمد بن إبراهيم مطوع مرات
32 ... رسالته إلى محمد بن فارس
33 ... رسالته إلى أحمد بن عبد الكريم
34 ... رسالته إلى سليمان بن سحيم
35 ... رسالته إلى عبد الله بن عيس وابنه وعبد الله بن عبد الرحمن
36 ... رسالته إلى الأخوان
37 ... رسالة الشيخ إلى محمد بن عبد اللطيف
38 ... رسالته إلى الإخوان المؤمنين
39 ... رسالته إلى عبدالوهاب بن عبد الله بن عيسى
40 ... رسالته إلى عبدالوهاب بن عبد الله بن عيسى
41 ... رسالته إلى الأخوين أحمد بن محمد بن سويلم وثنيان بم سعود
42 ... رسالته إلى عبد الله بن عبد سويلم
43 ... رسالته إلى جماعة أهل شقراء
44 ... رسالته إلى الإخوان من أهل سدير
45 ... رسالته إلى أحمد بن يحي
46 ... رسالته إلى عبد الله بن عيسى مطوع الدرعية
47 ... رسالته إلى نغيمش وجميع الإخوان(8/185)
48 ... رسالته إلى والي مكة
49 ... رسالته إلى عبد الله بن عيسى وابنه عبدالوهاب
50 ... رسالته إلى عبد الله بن عيد
51 ... رسالته إلى الإخوان عبد الله بن علي ومحمد بن جماز(8/186)
القواعد الأربع
للشيخ محمد بن عبد الوهاب
بسم الله الرحمن الرحيم
أسأل الله الكريم ربّ العرش العظيم أن يتولاّك في الدنيا والآخرة، وأن يجعلك مبارَكًا أينما كنت، وأن يجعلك ممّن إذا أُعطيَ شكر، وإذا ابتُلي صبر، وإذا أذنب استغفر، فإنّ هؤلاء الثلاث عنوان السعادة.
اعلم أرشدك الله لطاعته: أن الحنيفيّة ملّة إبراهيم: أن تعبد الله مخلصًا له الدين كما قال تعالى ?وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِِ?[الذاريات:56]. فإذا عرفت أنّ الله خلقك لعبادته فاعلم: أنّ العبادة لا تسمّى عبادة إلا مع التوحيد، كما أنّ الصلاة لا تسمّى صلاة إلى مع الطهارة، فإذا دخل الشرك في العبادة فسدتْ كالحدَث إذا دخل في الطهارة. فإذا عرفتَ أن الشرك إذا خالط العبادة أفسدها وأحبط العمل وصار صاحبه من الخالدين في النار عرفتَ أنّ أهمّ ما عليك: معرفة ذلك، لعلّ الله أن يخلّصك من هذه الشَّبَكة، وهي الشرك بالله الذي قال الله فيه: ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ?[النساء:116], وذلك بمعرفة أربع قواعد ذكرها الله تعالى في كتابه.
القاعدة الأولى: أن تعلم أنّ الكفّار الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقِرُّون بأنّ الله تعالى هو الخالِق المدبِّر، وأنّ ذلك لم يُدْخِلْهم في الإسلام، والدليل: قوله تعالى?قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ?[يونس:31].(9/1)
القاعدة الثانية: أنّهم يقولون: ما دعوناهم وتوجّهنا إليهم إلا لطلب القُرْبة والشفاعة، فدليل القُربة قوله تعالى ?وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ?[الزمر:3].
ودليل الشفاعة قوله تعالى: ?وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ?[يونس:18]، والشفاعة شفاعتان: شفاعة منفيّة وشفاعة مثبَتة:
فالشفاعة المنفيّة ما كانت تٌطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلاّ الله، والدليل: قوله تعالى ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ?[البقرة:254].
والشفاعة المثبَتة هي: التي تُطلب من الله، والشّافع مُكْرَمٌ بالشفاعة، والمشفوع له: من رضيَ اللهُ قوله وعمله بعد الإذن كما قال تعالى: ?مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ?[البقرة:255].
القاعدة الثالثة: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ظهر على أُناسٍ متفرّقين في عباداتهم منهم مَن يعبُد الملائكة، ومنهم من يعبد الأنبياء والصالحين، ومنهم من يعبد الأحجار والأشجار، ومنهم مَن يعبد الشمس والقمر، وقاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يفرِّق بينهم، والدليل قوله تعالى: ?وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ?[البقرة:193].
ودليل الشمس والقمر قوله تعالى: ?وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ?[فصلت:37].(9/2)
ودليل الملائكة قوله تعالى: ?وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا?[آل عمران:80].
ودليل الأنبياء قوله تعالى: ?وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ?[المائدة:116].
ودليل الصالحين قوله تعالى: ?أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ... ?الآية[الإسراء:57].
ودليل الأحجار والأشجار قوله تعالى: ?أَفَرَأَيْتُمْ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19)وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى?[النجم:19-20].
وحديث أبي واقدٍ الليثي - رضي الله عنه - قال: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى حُنين ونحنُ حدثاء عهدٍ بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله إجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط... الحديث.
القاعدة الرابعة: أنّ مشركي زماننا أغلظ شركًا من الأوّلين، لأنّ الأوّلين يُشركون في الرخاء ويُخلصون في الشدّة، ومشركوا زماننا شركهم دائم؛ في الرخاء والشدّة. والدليل قوله تعالى: ?فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ?[العنكبوت:65].(9/3)
باب آداب المشي إلى الصلاة (1)
يسن الخروج إليها متطهرا بخشوع لقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامدا إلى المسجد فلا يشبكن بين أصابعه فإنه في صلاة » وأن يقول إذا خرج من بيته ولو لغير الصلاة :
« بسم الله ، آمنت بالله اعتصمت بالله ، توكلت على الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل أو أزل أو أزل أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل علي » .
وأن يمشي إليها بسكينة ووقار لقوله صلى الله عليه وسلم : « وإذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا » وأن يقارب بين خطاه ويقول : « اللهم إني أسألك بحق (2) السائلين عليك وبحق ممشاي هذا ، فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة ، خرجت اتقاء سخطك ، وابتغاء مرضاتك ، أسألك أن تنقذني من النار ، وأن تغفر لي ذنوبي جميعا ، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت » ، ويقول : « اللهم اجعل في قلبي نورا وفي لساني نورا ، واجعل في بصري نورا وفي سمعي نورا وأمامي نورا وخلفي نورا وعن يميني نورا وعن شمالي نورا وفوقي نورا وتحتي نورا ؛ اللهم أعطني نورا وزدني نورا » .
_________
(1) لم يذكر المصنف رحمه الله كتاب أحكام الوضوء وشروط الصلاة قبل باب آداب المشي إلى الصلاة اكتفاء برسالة شروط الصلاة المتضمنة لذلك كله وقد جرت العادة بقراءتها قبل هذا الكتاب فكأنها جزء منه .
(2) قوله أسألك بحق السائلين . إلخ قد ورد بذلك حديث ولم يجزم تقي الدين بن تيمية بصحته وذكر غيره أن في سنده ( عطية العوفي ) وهو شيعي مدلس فلا يعتد بنقله ، وعلى تقدير صحته فقد أوله العلماء بأن حق السائلين الإجابة وحق ممشاي الإثابة ونحو ذلك وإجابة الدعاء والإثابة على الأعمال الصالحة من الله تعالى فلا يحتج به على سؤال الله بأحد من خلقه فهو منهي عنه غير جائز .(10/1)
فإذا دخل المسجد استحب له أن يقدم رجله اليمنى ويقول : « بسم الله أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم . اللهم صل على محمد . اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك » . وعند خروجه يقدم رجله اليسرى ويقول : « وافتح لي أبواب فضلك » .
وإذا دخل المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين » ويشتغل بذكر الله أو يسكت ، ولا يخوض في حديث الدنيا ؛ فما دام كذلك فهو في صلاة والملائكة تستغفر له ما لم يؤذ أو يحدث .(10/2)
ويسن جهر الإمام بالتكبير لقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا كبر الإمام فكبروا » وبالتسميع لقوله : « وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد » .(10/3)
ويسر مأموم ومنفرد ويرفع يديه ممدودتي الأصابع مضمومة ويستقبل ببطونهما القبلة إلى حذو (1) منكبيه إن لم يكن عذر ورفعهما إشارة إلى كشف الحجاب بينه وبين ربه ، كما أن السبابة إشارة إلى الوحدانية ، ثم يقبض كوعه الأيسر بكفه الأيمن ويجعلهما تحت سرته ومعناه ذل بين يدي ربه عز وجل ، ويستحب نظره إلى موضع سجوده في كل حالات الصلاة إلا في التشهد فينظر إلى سبابته . ثم يستفتح سرا فيقول : « سبحانك : اللهم ، وبحمدك » ومعنى - سبحانك اللهم - أي أنزهك التنزيه اللائق بجلالك يا ألله ، وقوله وبحمدك ، قيل معناه : أجمع لك بين التسبيح والحمد « وتبارك اسمك » أي البركة تنال بذكرك « وتعالى جدك » أي جلت عظمتك « ولا إله غيرك » أي لا معبود في الأرض ولا في السماء بحق سواك يا ألله ، ويجوز الاستفتاح بكل ما ورد (2) ، ثم يتعوذ سرا فيقول : « أعوذ بالله من الشيطان الرجيم » ، وكيفما تعوذ من الوارد فحسن ، ثم يبسمل سرا ، وليست من الفاتحة ولا غيرها بل آية من القرآن قبلها وبين كل سورتين سوى " براءة " (3) ، ويسن كتابتها أوائل الكتب كما كتبها سليمان عليه السلام ، وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ، وتذكر في ابتداء جميع الأفعال وهي تطرد
_________
(1) حذو : مقابل , والمنكب بفتح الميم وكسر الكاف مجمع عظم العضد والكتف .
(2) قال الشيخ تقي الدين : الأفضل أن يأتي بكل نوع أحيانا .
(3) فيكره ابتداؤها بها قيل لأنها مع الأنفال سورة واحدة فلا يفصل بينهما بها ، وقيل لنزولها بالسيف .(10/4)
الشيطان قال أحمد : لا تكتب أمام الشعر ولا معه (1) ثم يقرأ الفاتحة مرتبة متوالية مشددة ، وهي ركن في كل ركعة كما في الحديث : « لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب » وتسمى أم القرآن لأن فيها الإلهيات والمعاد والنبوات ، وإثبات القدر ، فالآيتان الأوليان يدلان على الإلهيات و { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } يدل على المعاد وإياك نعبد { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } يدل على الأمر والنهي والتوكل وإخلاص ذلك كله لله ، وفيها التنبيه على طريق الحق وأهله المقتدى بهم والتنبيه على طريق الغي والضلال .
ويستحب أن يقف عند كل آية لقراءته صلى الله عليه وسلم وهي أعظم سورة في القرآن ، وأعظم آية فيه الكرسي وفيها إحدى عشرة تشديدة .
_________
(1) قال القاضي : لأنه يشوبه الكذب والهجوم غالبا ، وأما النظم في الفقه والتوحيد والنحو ونحو ذلك فأجاز العلماء كتابتها أمامه لعدم العلة التي ذكرها القاضي .(10/5)
ويكره الإفراط في التشديد والإفراط في المد ، فإذا فرغ قال : " آمين " بعد سكتة لطيفة ليعلم أنها ليست من القرآن ومعناها اللهم استجب ، يجهر بها إمام ومأموم معا في صلاة جهرية ، ويستحب سكوت الإمام بعدها في صلاة جهرية لحديث سمرة ، ويلزم الجاهل تعلمها ، فإن لم يفعل مع القدر لم تصح صلاته ، ومن لم يحسن شيئا منها ولا من غيرها من القرآن لزمه أن يقول : « سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر » لقوله صلى الله عليه وسلم : « إن كان معك قرآن فاقرأ وإلا فاحمد الله وهلله وكبره ثم اركع » رواه أبو داود والترمذي ، ثم يقرأ البسملة سرا ، ثم يقرأ سورة كاملة ويجزئ آية إلا أن أحمد استحب أن تكون طويلة (1) فإن كان في غير الصلاة فإن شاء جهر بالبسملة وإن شاء أسر .
_________
(1) كآية الدين وآية الكرسي فإن قرأ من أثناء سورة فلا بأس أن يبسمل .(10/6)
وتكون السورة في الفجر من طوال المفصل وأوله ( ق ) لقول أوس : سألت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كيف تحزبون القرآن ؟ قالوا ثلاثا ، وخمسا وسبعا وتسعا ، وإحدى عشرة وثلاث عشرة ، وحزب المفصل واحد ، ويكره أن يقرأ في الفجر من قصاره من غير عذر كسفر ومرض ونحوهما (1) ويقرأ في المغرب من قصاره ويقرأ فيها بعض الأحيان من طواله لأنه صلى الله عليه وسلم قرأ فيها بالأعراف (2)
ويقرأ في البواقي من أوساطه إن لم يكن عذر " (3) وإلا قرأ بأقصر منه ، ولا بأس بجهر (4) امرأة في الجهرية إذا لم يسمعها أجنبي ، والمتنفل في الليل يراعي المصلحة فإن كان قريبا منه من يتأذى بجهر أسر وإن كان ممن يستمع له جهر ، وإن أسر في جهر وجهر في سر بنى على قراءته .
_________
(1) كغلبة نعاس وخوف لمخالفته السنة .
(2) فرقها في الركعتين .
(3) أي من مرض وسفر ونحوهما .
(4) ويكره الجهر بالقراءة لمأموم ويخير منفرد وقائم لقضاء ما فاته بعد سلام إمامه بين جهر وإخفات .(10/7)
وترتيب الآيات واجب لأنه بالنص وترتيب السور بالاجتهاد لا بالنص في قول جمهور العلماء فتجوز قراءة هذه قبل هذه ، ولهذا تنوعت مصاحف الصحابة في كتابتها وكره أحمد قراءة حمزة والكسائي والإدغام الكبير لأبي عمرو ، ثم يرفع يديه كرفعه الأول بعد فراغه من القراءة وبعد أن يثبت قليلا حتى يرجع إليه نفسه ، ولا يصل قراءته بتكبير الركوع ، فيكبر فيضع يديه مفرجتي الأصابع على ركبتيه ملقما كل يد ركبة ويمد ظهره مستويا ويجعل رأسه حياله لا يرفعه ولا يخفضه لحديث عائشة ويجافي مرفقيه عن جنبيه لحديث أبي حميد ، ويقول في ركوعه : ( سبحان ربي العظيم ) لحديث حذيفة رواه مسلم ، وأدنى الكمال ثلاث وأعلا في حق الإمام عشر وكذا حكم سبحان ربي الأعلى في السجود ، ولا يقرأ في الركوع والسجود لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، ثم يرفع رأسه ويرفع يديه كرفعه الأول قائلا ، إمام ومنفرد : ( سمع الله لمن حمده ) وجوبا (1) ومعنى سمع استجاب فإذا استتم قائما قال : « ربنا ولك الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما شئت من شيء بعد » (2) وإن شاء زد « أهل الثناء والمجد ، أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد ، لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك
_________
(1) ثم إن شاء أرسل يديه من غير وضع إحداهما على الأخرى ، وإن شاء وضع يمينه وشماله .
(2) أي كالكرسي وغيره مما لا يعلم سعته إلا الله تعالى .(10/8)
الجد » وله أن يقول غيره مما ورد . وإن شاء قال : « اللهم ربنا لك الحمد » بلا واو لوروده في حديث أبي سعيد وغيره ، فإن أدرك المأموم الإمام في هذا الركوع فهو مدرك للركعة ، ثم يكبر ويخر ساجدا ولا يرفع يديه ، فيضع ركبتيه ثم يديه ثم وجهه ويمكن جبهته وأنفه وراحتيه من الأرض ويكون على أطراف أصابع رجليه موجها أطرافها إلى القبلة ، والسجود على هذه الأعضاء السبعة ركن ، ويستحب مباشرة المصلى (1) ببطون كفيه ، وضم أصابعهما موجهة إلى القبلة غير مقبوضة رافعا مرفقيه .
_________
(1) بفتح اللام أي موضع الصلاة .(10/9)
وتكره الصلاة في مكان شديد الحر أو شديد البرد لأنه يذهب الخشوع ، ويسن للساجد أن يجافي عضديه عن جنبيه وبطنه عن فخذيه ، وفخذيه عن ساقيه ، ويضع يديه حذو منكبيه ، ويفرق بين ركبتيه ورجليه . ثم يرفع رأسه مكبرا ويجلس مفترشا ، يفرش رجله اليسرى ويجلس عليها وينصب اليمنى ويخرجها من تحته ويجعل بطون أصابعها إلى الأرض لتكون أطراف أصابعها إلى القبلة ؛ لحديث أبي حميد في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم باسطا يديه على فخذيه مضمومة الأصابع ، ويقول : « رب اغفر لي » ولا بأس بالزيادة لقول ابن عباس : « كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول بين السجدتين " رب اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني وعافني » رواه أبو داود . ثم يسجد الثانية كالأولى وإن شاء دعا فيه لقوله صلى الله عليه وسلم : « وأما السجود فأكثروا فيه من الدعاء فقمن أن يستجاب لكم » رواه مسلم ، وله عن أبي هريرة « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده : " اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله وأوله وآخره وعلانيه وسره » . ثم يرفع رأسه مكبرا قائما على صدور قدميه معتمدا على ركبتيه لحديث وائل إلا أن يشق لكبر أو مرض أو ضعف (1) ، ثم يصلي الركعة الثانية كالأولى إلا
_________
(1) أي فيعتمد على الأرض .(10/10)
في تكبيرة الإحرام والاستفتاح ، ولو لم يأت به في الأولى .(10/11)
ثم يجلس للتشهد مفترشا جاعلا يديه على فخذيه باسطا أصابع يسراه مضمومة مستقبلا بها القبلة قابضا من يمناه الخنصر والبنصر محلقا إبهامه مع وسطاه ، ثم يتشهد سرا ويشير بسبابته اليمنى (1) في تشهده إشارة إلى التوحيد ويشير بها أيضا عند دعائه في صلاة وغيرها ؛ لقول ابن الزبير : « كان النبي صلى الله عليه وسلم يشير بأصبعه إذا دعا ولا يحركها » . رواه أبو داود ، فيقول : « التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته . السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله » ، ، وأي تشهد تشهده مما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم جاز ، والأولى تخفيفه وعدم الزيادة عليه وهذا التشهد الأول ، ثم إن كانت الصلاة ركعتين فقط صلى على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : « اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد » ، ويجوز أن يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم مما ورد ، وآل محمد : أهل بيته (2) وقوله ( التحيات ) أي جميع التحيات (3) لله تعالى استحقاقا وملكا ( والصلوات ) الدعوات (
_________
(1) أي مرار أكل مرة عند ذكر لفظ الله تنبها على التوحيد .
(2) قوله ( أهل بيته ) هذا أحد الوجوه في معنى الآل . وقال في الإقناع الذي هو أصل هذا الكتاب : وآله أتباعه على دينه ، قال الشارح كان لم يكونوا من أقاربه ثم استدل بما يطول ذكره وهذا في مقام الدعاء كما هنا ، وأما في مقام تحريم الزكاة على آله فالمراد بهم بنو هاشم وبنو المطلب ، أو بنو هاشم فقط والبحث مفصل في محله .
(3) أي التعظيمات .(10/12)
والطيبات ) الأعمال الصالحة فهو سبحانه يحيي ولا يسلم عليه لأن السلام دعاء . وتجوز الصلاة على غير النبي صلى الله عليه وسلم منفردا إذا لم يكثر ولم تتخذ شعارا لبعض الناس أو يقصد بها بعض الصحابة دون بعض ، وتسن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في غير الصلاة وتتأكد تأكدا كثيرا عند ذكره . وفي يوم الجمعة وليلتها ، ويسن أن يقول : « اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات وأعوذ بك من فتتة المسيح الدجال » وإن دعا بغير ذلك فحسن لقوله صلى الله عليه وسلم : « ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه » ما لم يشق على مأموم ، ويجوز الدعاء لشخص معين لفعله صلى الله عليه وسلم في دعائه للمستضعفين بمكة ، ثم يسلم وهو جالس مبتدئا عن يمينه قائلا : « السلام عليكم ورحمة الله » وعن يساره كذلك ، والالتفات سنة ، ويكون عن يساره أكثر بحيث يرى خده ، ويجهر إمام بالتسليمة الأولى فقط ويسرهما غيره ، ويسن حذفه وهو عدم تطويله أي لا يمد به صوته وينوي به الخروج من الصلاة وينوي به أيضا السلام على الحفظة وعلى الحاضرين ، وإن كانت الصلاة أكثر من ركعتين نهض مكبرا على صدور قدميه إذا فرغ من التشهد(10/13)
الأول (1) ويأتي بما بقي من صلاته كما سبق إلا أنه لا يجهر ولا تقرأ شيئا بعد الفاتحة فإن فعل لم يكره ، ثم يجلس (2) في التشهد الثاني متوركا يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى ويخرجها عن يمينه ويجعل إليتيه على الأرض فيأتي بالتشهد الأول ثم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم بالدعاء ثم يسلم ، وينحرف الإمام إلى المأمومين على يمينه أو على شماله ، ولا يطيل الإمام الجلوس بعد السلام مستقبل القبلة ، ولا ينصرف المأموم قبله لقوله صلى الله عليه وسلم : « إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالانصراف » فإن صلى معهم نساء انصرف النساء وثبت الرجال قليلا ؛ لئلا يدركوا من انصرف منهن .
_________
(1) قال في الإقناع : ولا يرفع يديه قال في الإنصاف : وهر المذهب وعن الإمام أحمد يرفعهما ، اختاره المجد والشيخ تقي الدين وصاحب الفائق وابن عبدوس ، قال في المبدع وهي أظهر وقد صححه أحمد وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم .
(2) قوله ثم يجلس إلى آخره هذا الجلوس والصلاة على النبي والتسليم من أركان الصلاة اكتفى المصنف بذكرها هنا عن إعادتها في الأركان فتنبه .(10/14)
ويسن ذكر الله والدعاء والاستغفار عقب الصلاة فيقول : « أستغفر الله » ثلاثا ثم يقول : « اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، لا حول ولا قوة إلا بالله لا إله إلا الله لا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون »« اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد » ثم يسبح ويحمد ويكبر كل واحدة ثلاثا وثلاثين ويقول تمام المائة : « لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير » ويقول بعد صلاة الفجر وصلاة المغرب قبل أن يكلم أحدا من الناس : « اللهم أجرني من النار » سبع مرات .(10/15)
والإسرار بالدعاء أفضل وكذا بالدعاء المأثور ويكون بتأدب وخشوع وحضور قلب ورغبة ورهبة لحديث « لا يستجاب الدعاء من قلب غافل » ويتوسل بالأسماء والصفات والتوحيد (1) ويتحرى أوقات الإجابة ، وهي ثلث الليل الآخر وبين الأذان والإقامة وأدبار الصلاة المكتوبة وآخر ساعة يوم الجمعة ، وينتظر الإجابة ولا يعجل فيقول : قد دعوت ودعوت فلم يستجب لي ، ولا يكره أن يخص نفسه إلا في دعاء يؤمن عليه ، ويكره رفع الصوت (2)
ويكره (3) في الصلاة التفات يسير ورفع بصره إلى السماء وصلاته إلى صورة منصوبة أو إلى آدمي واستقبال نار ولو سراجا وافتراش ذراعيه في السجود ، ولا يدخل فيها وهو حاقن أو حاقب أو بحضرة طعام يشتهيه بل يؤخرها ولو فاتته الجماعة .
ويكره مس الحصى وتشبيك أصابعه واعتماده على يديه في جلوسه ولمس لحيته وعقص شعره وكف ثوبه وإن تثاءب كظم ما استطاع فإن غلبه وضع يده في فمه .
_________
(1) ولا يتوسل إلى الله بدعائه بمخلوق كالملائكة والأنبياء والصالحين ؛ لأن ذلك لم يكن واردا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه فيكون بدعة فيها والبدع في الدين لا خير فيها .
(2) أي بالدعاء في صلاة وغيرها .
(3) قوله : « ويكره . » هذا شروع في ذكر بعض ما يكره في الصلاة وما يباح أو يستحب فيها .(10/16)
ويكره تسوية التراب بلا عذر ويرد المار بين يديه (1) ولو بدفعه ، آدميا كان أو المار غيره فرضا كانت الصلاة أو نفلا فإن أبى فله قتاله ولو مشى يسيرا ويحرم المرور بين المصلي وبين سترته وبين يديه إن لم يكن له سترة ، وله قتل حية وعقرب وقملة وتعديل ثوب وعمامة وحمل شيء ووضعه ، وله إشارة بيد ووجه وعين لحاجة ، ولا يكره السلام على المصلي وله رده بالإشارة ، ويفتح على إمامه إذا أرتج عليه أو غلط ، وإن نابه شيء في صلاته سبح رجل وصفقت امرأة ، وإن بدره بصاق أو مخاط وهو في المسجد بصق في ثوبه وفي غير المسجد عن يساره ، ويكره أن يبصق قدامه أو عن يمينه .
_________
(1) أي ما لم يكن في مكة المشرفة فلا يرده لأنه عليه السلام صلى بمكة والناس يمرون بين يديه وليس بينهما سترة, وألحق الموفق الحرم كله بمكة .(10/17)
وتكره صلاة غير مأموم إلى غير سترة ولو لم يخش مارا من جدار أو شيء شاخص كحربة أو غير ذلك مثل آخرة الرحل ، ويسن أن يدنو منها لقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة ويدن منها » وينحرف عنها يسيرا لفعله صلى الله عليه وسلم ، وإن تعذر خط خطا وإذا مر من ورائها شيء لم يكره ، فإن لم تكن سترة أو مر بينه وبينها امرأة أو كلب أو حمار بطلت صلاته (1) وله قراءة في المصحف والسؤال عند آية الرحمة ، والتعوذ عند آية العذاب .
والقيام ركن في الفرض (2) لقوله تعالى { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } (3) إلا لعاجز أو عريان أو خائف أو مأموم خلف إمام الحي العاجز عنه (4) وإن أدرك الإمام في الركوع فبقدر التحريمة (5)
_________
(1) بطلان الصلاة بمرور واحد من الثلاثة المذكورة وارد في حديث معروف والمذهب أنها لا تبطل إلا بمرور الكلب الأسود البهيم فقط .
(2) قوله : « والقيام ركن . » هذا شروع في ذكر أركان الصلاة ، وقد تقدم ذكر بعضها .
(3) سورة البقرة ، الآية : 238 .
(4) أي بشروطه وهر أن يرجى زوال علته .
(5) أي فالركن من القيام بقدر التحريمة أي تكبيرة الإحرام .(10/18)
وتكبيرة الإحرام ركن وكذا قراءة الفاتحة على الإمام والمنفرد (1) وكذا الركوع لقوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا } (2) وعن أبي هريرة رضي الله عنه « أن رجلا دخل المسجد فصلى ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه فقال له : " ارجع فصل فإنك لم تصل " فعلها ثلاثا ثم قال : والذي بعثك بالحق نبيا لا أحسن غير هذا فعلمني ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ، ثم اجلس حتى تطمئن جالسا ، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها » رواه الجماعة (3) فدل على أن المسمى في هذا الحديث لا يسقط بحال ؛ إذ لو سقطت لسقطت عن الأعرابي الجاهل .
والطمأنينة في هذا الأفعال ركن لما تقدم . ورأى حذيفة رجلا لا يتم ركوعه ولا سجوده ، فقال له : ما صليت ولو مت لمت على غير فطرة الله التي فطر عليها محمدا صلى الله عليه وسلم .
_________
(1) قال في الإقناع : وكذا على المأموم لحديث : « لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب » فلا يتحملها الإمام عنه .
(2) سورة الحج , الآية : 77 .
(3) المراد بالجماعة في اصطلاح المجد في المنتقى هم أهل الأمهات الست والإمام أحمد السبعة في اصطلاح صاحب بلوغ المرام .(10/19)
والتشهد الأخير ركن لقول ابن مسعود : كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد : السلام على الله السلام على جبريل وميكائيل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « " لا تقولوا هكذا ولكن قولوا التحيات لله » رواه النسائي ورواته ثقات .(10/20)
والواجبات التي تسقط سهوا ثمانية : التكبيرات غير الأولى (1) والتسميع للإمام والمنفرد والتحميد للكل وتسبيح ركوع وسجود وقول رب اغفر لي والتشهد الأول والجلوس له وما عدا ذلك سنن أقوال وأفعال .
_________
(1) أي تكبيرة الإحرام فإنها ركن غير تكبيرة مأموم أدرك إمامه راكعا فهي سنة للاجتزاء عنها بتكبيرة الإحرام .(10/21)
فسنن الأقوال سبع عشرة : الاستفتاح والتعوذ والبسملة والتأمين وقراءة السورة في الأوليين وفي صلاة الفجر والجمعة والعيد والتطوع كله والجهر والإخفات وقول ملء السماء والأرض إلى آخره وما زاد على المرة في تسبيح ركوع وسجود وقول رب اغفر لي والتعوذ في التشهد الأخير والصلاة على آل النبي صلى الله عليه وسلم والبركة عليه وعليهم ، وما سوى ذلك فسنن أفعال مثل : كون الأصابع مضمومة مبسوطة مستقبلا بها القبلة عند الإحرام والركوع والرفع منه وحطهما عقب ذلك ، وقبض اليمين على كوع الشمال وجعلهما تحت سرته والنظر إلى موضع سجوده (1) وتفريقه بين قدميه في قيامه ومراوحته بينهما وترتيل القراءة والتخفيف للإمام وكون الأولى أطول من الثانية وقبض ركبتيه مفرجتي الأصابع في الركوع ومد ظهره مستويا وجعل رأسه حياله ومجافاة عضديه عن جنبيه ووضع ركبتيه قبل يديه في سجوده ورفع يديه قبلهما في القيام وتمكين جبهته وأنفه من الأرض ومجافاة عضديه عن جنبيه وبطنه عن فخذيه وفخذيه عن ساقيه وإقامة قدميه وجعل بطون أصابعهما إلى الأرض مفرقة ووضع يديه حذو منكبيه مبسوطة الأصابع إذا سجد وتوجيه أصابع يديه مضمومة إلى القبلة ومباشرة المصلي بيديه وجبهته
_________
(1) قال في المبدع : وفي حالة إشارته في التشهد فإنه ينظر إلى سبابته لخبر ابن الزبير ، وصفته تجاه الكعبة فإنه ينظر إليها كذا قال ، والله أعلم .(10/22)
وقيامه إلى الركعة على صدور قدميه معتمدا بيديه على فخذيه والافتراش في الجلوس بين السجدتين والتشهد الأول والتورك في الثاني ووضع يديه على فخذيه مبسوطتين مضمومتي الأصابع مستقبلا بهما القبلة بين السجدتين وفي التشهد وقبض الخنصر والبنصر من اليمنى وتحليق إبهامها مع الوسطى والإشارة بسبابتها والالتفات يمينا وشمالا في تسليمه وتفضيل الشمال على اليمين في الالتفات .(10/23)
وأما سجود السهو فقال أحمد يحفظ فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم خمسة أشياء : سلم من اثنتين فسجد ، وسلم من ثلاث فسجد ، وفي الزيادة والنقصان ، وقام من الثنتين فلم يتشهد . قال الخطابي : المعتمد عليه عند أهل العلم هذه الأحاديث الخمسة ، يعني حديثي ابن مسعود ، وأبي سعيد ، وأبي هريرة وابن بحينة ، وسجود السهو يشرع للزيادة والنقص وشك في فرض ونفل إلا أن يكثر فيصير كوسواس فيطرحه . وكذا في الوضوء والغسل وإزالة النجاسة ، فمتى زاد فعلا من جنس الصلاة قياما أو ركوعا أو سجودا أو قعودا عمدا بطلت ، وسهوا يسجد لقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا زاد الرجل أو نقص في صلاته فليسجد سجدتين » رواه مسلم . ومتى ذكر عاد إلى ترتيب الصلاة بغير تكبير ، وإن زاد ركعة قطع متى ذكر وبنى على فعله قبلها ولا يتشهد إن كان قد تشهد ثم سجد وسلم . ولا يعتد بالركعة الزائدة مسبوق ، ولا يدخل معه من علم أنها زائدة ، وان كان إماما أو منفردا فنبهه اثنان لزمه الرجوع ، ولا يرجع إن نبهه واحد إلا أن يتيقن صوابه لأنه صلى الله عليه وسلم لم يرجع إلى قول ذي اليدين .(10/24)
ولا يبطل الصلاة عمل يسير كفتحه صلى الله عليه وسلم الباب لعائشة وحمله أمامة ووضعها . وإن أتى بقول مشروع في الصلاة في غير موضعه كالقراءة في القعود والتشهد في القيام لم تبطل به .
وينبغي السجود لسهوه لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : « إذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين » . وإن سلم قبل إتمامها عمدا بطلت ، وإن كان سهوا ثم ذكر قريبا أتمها ولو خرج من المسجد أو تكلم يسيرا لمصلحتها ، وإن تكلم سهوا أو نام فتكلم أو سبق على لسانه حال قراءته كلمة من غير القرآن لم تبطل . وإن قهقه بطلت إجماعا ؛ لا إن تبسم .
وإن نسي ركنا غير التحريمة فذكره في قراءة الركعة التي بعدها بطلت التي تركه منها وصارت الأخرى عوضا عنها ، ولا يعيد الاستفتاح ، قاله أحمد ، وإن ذكره قبل الشروع في القراءة عاد فأتى به وبما بعده ، وإن نسي التشهد الأول ونهض لزمه الرجوع والإتيان به ما لم يستتم قائما لحديث المغيرة رواه أبو داود ، ويلزم المأموم متابعته ويسقط عنه التشهد ويسجد للسهو .(10/25)
ومن شك في عدد الركعات بنى على اليقين ، ويأخذ مأموم عند شكه بفعل إمامه ، ولو أدرك الإمام راكعا وشك هل رفع الإمام رأسه قبل إدراكه راكعا لم يعتد بتلك الركعة . وإذا بنى على اليقين أدى بما بقى ويأتي به المأموم بعد سلام إمامه ويسجد للسهو ، وليس على المأموم سجود سهو إلا أن يسهو إمامه فيسجد معه ولو لم يتم التشهد ثم يتمه بعد سجوده . ويسجد مسبوق لسلامه مع إمامه سهوا ولسهوه معه وفيما انفرد به ومحله قبل السلام إلا إذا سلم عن نقص ركعة فأكثر لحديث عمران وذي اليدين وإلا فيما إذ بنى على غالب ظنه إن قلنا به فيسجد ندبا بعد السلام لحديث علي وابن مسعود ، وإن نسيه قبل السلام أو بعده أتى به ما لم يطل الفصل ، وسجود السهو وما يقول فيه وبعد رفعه كسجود الصلاة .(10/26)
باب صلاة التطوع
قال أبو العباس : التطوع تكمل به صلاة الفرض يوم القيامة إن لم يكن أتمها (1) وفيه حديث مرفوع (2) وكذلك الزكاة وبقية الأعمال ، وأفضل التطوع الجهاد ، ثم توابعه من نفقة فيه وغيرها ، ثم تعلم العلم وتعليمه ، قال أبو الدرداء : العالم والمتعلم في الأجر سواء وسائر الناس همج لا خير فيهم . وعن أحمد طلب العلم أفضل الأعمال لمن صحت نيته وقال : تذاكر بعض ليلة أحب إلي من إحيائها . وقال : يجب أن يطلب الرجل من العلم ما يقوم به دينه ، قيل له مثل أي شيء ؟ قال : الذي لا يمنعه جهله صلاته وصومه ونحو ذلك . ثم بعد ذلك الصلاة لحديث : « استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة » ثم بعد ذلك ما يتعدى نفعه من عيادة مريض أو قضاء حاجة مسلم ، أو إصلاح بين الناس لقوله صلى الله عليه وسلم : « ألا أخبركم بخير أعمالكم وبأفضل من درجة الصوم والصلاة ؟ إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة » . صححه الترمذي .
_________
(1) ولهذا لا ينبغي للإنسان ترك ما شرعه الله من النوافل فإنها تكمل الفرائض كالصلاة والصيام وغير ذلك فإن تركها متهاونا بها راغبا عنها خيف عليه من الإثم لرغبته عن السنة بل صرح غير واحد من العلماء أن تارك الوتر فاسق إذا داوم على تركه .
(2) رواه أحمد في المسند .(10/27)
وقال أحمد : اتباع الجنازة أفضل من الصلاة وما يتعدى نفعه يتفاوت ، فصدقة على قريب محتاج أفضل من عتق ، وهو أفضل من صدقة على أجنبي إلا زمن مجاعة ، ثم حج . وعن أنس مرفوعا : « من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع » قال الترمذي : حسن غريب . قال الشيخ : تعلم العلم وتعليمه يدخل في الجهاد وإنه نوع منه وقال : استيعاب عشر ذي الحجة بالعبادة ليلا ونهار أفضل من الجهاد الذي لم يذهب فيه نفسه وماله . وعن أحمد : ليس يشبه الحج شيء للتعب الذي فيه ولتلك المشاعر وفيه مشهد ليس في الإسلام مثله عشيه عرفة وفيه إنهاك المال والبدن . وعن أبي أمامة « أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل ؟ قال : " عليك بالصوم فإنه لا مثل لهم » رواه أحمد وغيره بسند حسن . وقال الشيخ قد يكون كل واحد أفضل في حال لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه بحسب الحاجة والمصلحة . ومثله قول أحمد : انظر ما هو أصلح لقلبك فافعله . ورجح أحمد فضيلة الفكر على الصلاة والصدقة . فقد يتوجه منه أن عمل القلب أفضل من عمل الجوارح وأن مراد الأصحاب عمل الجوارح ويؤيده حديث : « أحب الأعمال إلى الله الحب في الله والبغض في الله » . وحديث :(10/28)
« أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله » .
وآكد التطوع الكسوف (1) ثم الوتر ثم سنة الفجر ، ثم سنة المغرب ، ثم بقية الرواتب ، ووقت صلاة الوتر بعد العشاء إلى طلوع الفجر والأفضل آخر الليل لمن وثق بقيامه ، وإلا أوتر قبل أن يرقد ، وأقله ركعة وأكثره إحدى عشرة ، والأفضل أن يسلم من ركعتين ثم يوتر بركعة وإن فعل غير ذلك مما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فحسن ، وأدنى الكمال ثلاث ، والأفضل بسلامين ويجوز بسلام واحد ، ويجوز كالمغرب .
والسنن الراتبة عشر ، وفعلها في البيت أفضل وهي : ركعتان قبل الظهر وركعتان بعدها وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء وركعتا الفجر .
ويخفف ركعتي الفجر ويقرأ فيهما بسورتي الإخلاص ، أو يقرأ في الأولى بقوله تعالى { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا } (2) الآية ، التي في البقرة , وفي الثانية : { قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } (3) الآية وله فعلها راكبا .
_________
(1) قال في الإقناع أصل هذا الكتاب : وآكد صلاة التطوع صلاة الكسوف ثم الاستسقاء ثم التراويح ثم الوتر . وكذلك في الزاد وغيره فيحتمل أن هذه الزيادة سقطت من النسخ المطبوعة .
(2) سورة البقرة , الآية : 136 .
(3) سورة آل عمران ، الآية : 64 .(10/29)
ولا سنة للجمعة قبلها ، وبعدها ركعتان أو أربع ، وتجزئ السنة عن تحيه المسجد ، ويسن له الفصل بين الفرض والسنة بكلام أو قيام لحديث معاوية ، ومن فاته شيء به منها استحب له قضاؤه ، ويستحب أن في بين الأذان والإقامة .
والتراويح سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعلها جماعة أفضل ويجهر الإمام بالقراءة لنقل الخلف عن السلف ويسلم من كل ركعتين لحديث : « صلاة الليل مثنى مثنى » . ووقتها بعد العشاء وسنتها قبل الوتر إلى طلوع الفجر ويوتر بعدها ، فإن كان له تهجد جعل الوتر بعده لقوله صلى الله عليه وسلم : « اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا » فإن أحب من له تهجد متابعة الإمام قام إذا سلم الإمام فجاء بركعة لقوله صلى الله عليه وسلم : « من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة » صححه الترمذي .(10/30)
ويستحب حفظ القرآن إجماعا وهو أفضل من سائر الذكر ويجب منه ما يجب في الصلاة (1) . ويبدئ الصبي وليه به قبل العلم إلا أن يعسر ، ويسن ختمه في كل أسبوع وفيما دونه أحيانا ، ويحرم تأخير القراءة إن خاف نسيانه ، ويتعوذ قبل القراءة ، ويحرص على الإخلاص ودفع ما يضاده ، ويختم في الشتاء أول الليل وفي الصيف أول النهار . قال طلحة ابن مصرف : « أدركت أهل الخير من هذه الأمة يستحبون ذلك تقولون إذا ختم أول النهار : صلت عليه الملائكة حتى يمسي ، وإذا ختم أول الليل : صلت عليه الملائكة حتى يصبح » رواه الدارمي عن سعد بن أبي وقاص إسناده حسن . ويحسن صوته بالقرآن ويرتله ، ويقرأ بحزن وتدبر ويسأل الله تعالى عند آية الرحمة ، ويتعوذ عند آية العذاب ولا يجهر بين مصلين أو نيام أو تالين جهرا بحيث يؤذيهم ، ولا بأس بالقراءة قائما وقاعدا ومضطجعا وراكبا وماشيا .
_________
(1) وهو الفاتحة على المشهور أو الفاتحة وسورة على مقابله .(10/31)
ولا تكره في الطريق ولا مع حدث أصغر ؛ وتكره في المواضع القذرة ؛ ويستحب الاجتماع لها والاستماع للقارئ ، ولا يتحدث عندها بما لا فائدة فيه . وكره أحمد السرعة في القراءة وكره قراءة الألحان وهو الذي يشبه الغناء ، ولا يكره الترجيع ، ومن قال في قرآن برأيه وبما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار وأخطأ ولو أصاب .
ولا يجوز للمحدث مس المصحف وله حمله بعلاقة أو في خرج فيه متاع وفي كمه وله تصفحه بعود ونحوه وله مس تفسير وكتب فيها قرآن ، ويجوز للمحدث كتابته من غير مس وأخذ الأجرة على نسخه ويجوز كسيه الحرير ولا يجوز استدباره أو مد الرجل إليه ونحو ذلك مما فيه ترك تعظيمه ، ويكره تحليته بذهب أو فضة وكتابة الأعشار وأسماء السور وعدد الآيات وغير ذلك مما لم يكن على عهد الصحابة .
ويحرم أن يكتب القرآن أو شيء به فيه ذكر الله بغير طاهر فإن كتب به أو عليه وجب غسله ، وإن بلى المصحف أو اندرس دفن لأن عثمان رضي الله عنه دفن المصاحف بين القبر والمنبر .(10/32)
وتستحب النوافل المطلقة في جميع الأوقات إلا في أوقات النهي . وصلاة الليل مرغب فيها وهي أفضل من صلاة النهار وبعد النوم أفضل لأن الناشئة لا تكون إلا بعده فإذا استيقظ ذكر الله تعالى وقال ما ورد ، ومنه : « ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ) » ثم إن قال : « ( اللهم اغفر لي ) » أو دعا استجيب ، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته ، ثم يقول : « الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور ، لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك سبحانك أستغفرك لذنبي وأسألك رحمتك ، اللهم زدني علما ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ، الحمد لله الذي رد علي روحي وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره » ثم يستاك ، فإذا قام إلى الصلاة فإن شاء استفتح باستفتاح المكتوبة ، وإن شاء بغيره كقوله : « اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك حق والجنة حق(10/33)
والنار حق والنبيون حق والساعة حق . اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت ولا قوة إلا بك » وإن شاء قال : « اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم » .
ويسن أن يستفتح تهجده بركعتين خفيفتين وأن يكون له تطوع يداوم عليه وإذا فاته قضاه .
ويستحب أن يقول عند الصباح والمساء ما ورد وكذلك عند النوم والانتباه ودخول المنزل والخروج منه وغير ذلك ، والتطوع في البيت أفضل وكذا الإسرار به إن كان مما لا تشرع له الجماعة ولا بأس بالتطوع جماعة إذا لم يتخذ عادة . ويستحب الاستغفار بالسحر والإكثار منه ، ومن فاته تهجده قضاة قبل الظهر ولا يصح التطوع من مضطجع .
وتسن صلاة الضحى ، ووقتها من خروج وقت النهي إلى قبيل الزوال ، وفعلها إذا اشتد الحر أفضل وهي ركعتان وإن زاد فحسن .(10/34)
وتسن صلاة الاستخارة ، إذا هم بأمر فيركع ركعتين من غير الفريضة ثم يقول : « اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب ؛ اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر - ويسميه بعينه - خير لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري " عاجله وآجله " فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه ، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به » . ثم يستشير ولا يكون وقت الاستخارة عازما على الفعل أو الترك .
وتسن تحيه المسجد وسنة الوضوء وإحياء ما بين العشاءين ، وسجدة التلاوة سنة مؤكدة وليست بواجبة لقول عمر : " من سجد فقد أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه " رواه مالك في الموطأ . وتسن للمستمع ، والراكب يومئ بسجوده حيث كان وجهه والماشي يسجد بالأرض مستقبل القبلة ولا يسجد السامع . لما روي عن الصحابة . وقال ابن مسعود للقارئ وهو غلام : اسجد فإنك إمامنا .(10/35)
وتستحب سجدة الشكر عند نعمة ظاهرة عامة أو أمر يخصه ، ويقول إذا رأى مبتلى في دينه أو بدنه : « الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلا » .
وأوقات النهي خمسة : بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس وبعد طلوعها حتى ترتفع قيد رمح وعند قيامها حتى تزول وبعد صلاة العصر حتى تدنو من الغروب وبعد ذلك حتى تغرب . ويجوز قضاء الفرائض فيها وفعل المنذورات وركعتي الطواف وإعادة جماعة إذا أقيمت وهو في المسجد وتفعل صلاة الجنازة في الوقتين الطويلين .(10/36)
( بابُ صَلاة الجماعَة )
أقلها اثنان في غير جمعة وعيد وهي واجبة على الأعيان حضراً وسفراً حتى في خوف لقوله تعالى : { وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } الآية وتفضل على صلاة المنفرد بسبع وعشرين درجة ، وتفعل في المسجد . والعتيق أفضل وكذلك الأكثر جماعة وكذلك الأبعد ، ولا يؤم في مسجد قبل إمامه الراتب إلا بإذنه إلا أن يتأخر فلا يكره ذلك لفعل أبي بكر وعبد الرحمن بن عوف ، وإذا أقيمت الصلاة فلا يجوز الشروع في نفل ، وإن أقيمت وهو فيها أتمها خفيفة ، ومن أدرك ركعة مع الإمام فقد أدرك الجماعة ، وتدرك بإدراك الركوع مع الإمام ، وتجزيء تكبيرة الإحرام عن تكبيرة الركوع لفعل زيد بن ثابت وابن عمر ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة . وإتيانه بهما أفضل خروجاً من خلاف من أوجبه فإن أدركه بعد الركوع لم يكن مدركاً للركعة وعليه متابعته ويسن دخوله معه للخبر ولا يقوم المسبوق إلا بعد سلام الإمام التسليمة الثانية فإن أدركه في سجود السهو بعد السلام لم يدخل معه وإن فاتته الجماعة استحب له أن يصلى معه لقوله صلى الله عليه وسلم : "من يتصدق على هذا فيصلي معه" ولا تجب القراءة على مأموم لقوله تعالى :(11/1)
{ وإذا قريء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون } قال أحمد : أجمع الناس على أن هذه الآية في الصلاة . وتسن قراءته فيما لا يجهر فيه الإمام أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين يرون القراءة خلف الإمام فيما أسر فيه خروجاً من خلاف من أوجبه لكن تركناه إذا جهر الإمام للأدلة ويشرع في أفعالها بعد إمامه من غير تخلف بعد فراغ الإمام فإن وافقه كره ، وتحرم مسابقته فإن ركع أو سجد قبله سهواً رجع ليأتي به بعده فإن لم يفعل عالماً عمداً بطلت صلاته ، وإن تخلف عنه بركن بلا عذر فكالسبق به ، وإن كان لعذر من نوم أو غفلة أو عجلة إمام فعله ولحقه ، وإن تخلف بركعة لعذر تابعه فيما بقي من صلاته وقضاها بعد سلام الإمام ، ويسن له إذا عرض عارض لبعض المأمومين يقتضي خروجه أن يخفف وتكره سرعة تمنع مأموماً من فعل ما يسن .
ويسن تطويل قراءة الركعة الأولى أطول من الثانية ، ويستحب للإمام انتظار الداخل ليدرك الركعة إن لم يشق على مأموم .
وأولى الناس بالإمامة أقرؤهم لكتاب الله . وأما تقديم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر مع أن غيره أقرأ منه كأبي ومعاذ فأجاب أحمد أن ذلك ليفهموا أنه المقدم في الإمامة الكبرى ، وقال غيره : لما قدمه مع قوله يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة علم أن أبا بكر أقرؤهم وأعلمهم ، لأنهم لم يكونوا يتجاوزون شيئاً من القرآن حتى يتعلموا معانيه والعمل به كما قال ابن مسعود : كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات من
القرآن لم يتجاوزهن حتى يتعلم معانيهن والعمل بهنَّ وروى مسلم عن أبي مسعود البدري يرفعه ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سناً ) .(11/2)
ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه وفي الصحيحين : "يؤمكم أكبركم" وفي بعض ألفاظ أبي مسعود : "فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلماً" أي إسلاماً .
ومن صلَّى بأُجرة لم يصلّ خلفه . قال أبو داود : سئل أحمد عن إمام يقول : أُصلي بكم رمضان بكذا وكذا فقال : أسأل الله العافية ومن يصلي خلف هذا ؟ ! ولا يصلي خلف عاجز عن القيام إلا إمام الحي - وهو كل إمام مسجد راتب - إذا اعتل صلوا وراءه جلوساً ، وإن صلى الإمام وهو محدث أو عليه نجاسة ولم يعلم إلا بعد فراغ الصلاة لم يعد من خلفه وأعاد الإمام وحده في الحدث ، ويكره أن يؤم قوماً أكثرهم يكرهه بحق ويصح ائتمام متوضيء بمتيمم .
والسنة وقوف المأمومين خلف الإمام لحديث جابر وجبّار لما وقفا عن يمينه ويساره أخذ بأيديهما فأقامهما خلفه رواه مسلم . وأما صلاة ابن مسعود بعلقمة والأسود وهو بينهما فأجاب ابن سيرين أن المكان كان ضيقاً . وإن كان المأموم واحداً وقف عن يمينه وإن وقف عن يساره أداره عن يمينه ولا تبطل تحريمته وإن أمّ رجلا وامرأة وقف الرجل عن يمينه والمرأة خلفه لحديث أنس رواه مسلم وقرب الصف منه أفضل وكذا قرب الصفوف بعضها من
بعض وكذا توسطه الصف لقوله صلى الله عليه وسلم : "وسطوا الإمام وسدُّوا الخلل" وتصح مصافّة صبي لقول أنس : صففت أنا واليتيم وراءه والعجوز خلفنا ، وإن صلى فذّا لم تصح ، وإن كان المأموم يرى الإمام أو من وراءه صح ولو لم تتصل الصفوف وكذا لو لم ير أحدهما إن سمع التكبير لإمكان الاقتداء بسماع التكبير كالمشاهدة وإن كان بينهما طريق وانقطعت الصفوف لم يصح واختار الموفق وغيره أن ذلك لا يمنع الاقتداء لعدم النص والإجماع .(11/3)
ويكره أن يكون الإمام أعلى من المأمومين قال ابن مسعود لحذيفة : ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك ؟ قال : بلى . رواه الشافعي بإسناد ثقات ولا بأس بعلو يسير كدرجة منبر لحديث سهل أنه صلى الله عليه وسلم ، صلّى على المنبر ثم نزل القهقرى وسجد ، الحديث . ولا بأس بعلو مأموم لأن أبا هريرة صلّى على ظهر المسجد بصلاة الإمام رواه الشافعي ، ويكره تطوع الإمام في موضع المكتوبة بعدها لحديث المغيرة مرفوعاً رواه أبو داود لكن قال أحمد : لا أعرفه عن غير علي ولا ينصرف المأموم قبله لقوله صلى الله عليه وسلم : "لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالانصراف" ، ويكره لغير الإمام اتخاذ مكان في المسجد لا يصلي فرضه إلا فيه لنهيه صلى الله عليه وسلم عن إيطان كإيطان البعير .
ويعذر في ترك الجمعة والجماعة مريض وخائف ضياع ماله أو ما هو مستحفظ عليه : لأن المشقة اللاحقة بذلك أكثر من بلل الثياب بالمطر الذي هو عذر بالاتفاق لقول عمر : كان النبي صلى الله عليه وسلم ينادي مناديه في الليلة الباردة أو المطيرة في السفر . صلوا في رحالكم ، أخرجاه ولهما عن ابن عباس
أنه قال لمؤذنه في يوم مطير يوم جمعة : "إذا قلت أشهد أن محمداً رسول الله فلا تقل : حيَّ على الصلاة قل : صلُّوا في بيوتكم" فكأن الناس استنكروا ذلك فقال : فعله من هو خير مني - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - وإني كرهت أن أخرجكم في الطين والدحض ، ويكره حضور المسجد لمن أكل ثوماً أو بصلا ولو خلا من آدمي لتأذي الملائكة بذلك .(11/4)
( باب صَلاة أهل الأعذار )
يجب أن يصلي المريض قائماً في فرض لحديث عمران "صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب" رواه البخاري . زاد النسائي "فإن لم تستطع فمستلقياً" ويوميء لركوعه وسجوده برأسه ما أمكنه لقوله صلى الله عليه وسلم : "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" .
وتصح صلاة فرض على راحلة واقفة أو سائرة خشية تأذ بوحل ومطر لحديث يعلى بن أمية رواه الترمذي وقال : العمل عليه عند أهل العلم .
والمسافر يقصر الرباعية خاصة وله الفطر في رمضان وإن ائتم بمن يلزمه الإتمام أتم . ولو أقام لقضاء حاجة بلا نية إقامة ولا يعلم متى تنقضي أو حبسه مطر أو مرض قصر أبداً . والأحكام المتعلقة بالسفر أربعة : القصر والجمع ، والمسح ، والفطر .
ويجوز الجمع بين الظهرين وبين العشائين في وقت أحدهما للمسافر . وتركه أفضل غير جمعي عرفة ومزدلفة ولمريض يلحقه بتركه مشقة ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جمع من غير خوف ولا سفر وثبت الجمع للمستحاضة وهو نوع مرض . واحتج أحمد بأن المرض أشد من السفر وقال : الجمع في الحضر إذا كان من ضرورة أو شغل وقال : صحت صلاة الخوف
النبي صلى الله عليه وسلم من ستة أوجه أو سبعة كلها جائزة وأما حديث سهل فأنا أختاره . وهي صلاة ذات الرقاع "طائفة صفت معه وطائفة وجاه العدو فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائماً وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته ثم ثبت جالساً وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم . متفق عليه ، وله أن يصلي بكل طائفة صلاة ويسلم بها رواه أحمد وأبو داود والنسائي ، ويستحب حمل السلاح فيها لقوله تعالى : { وليأخذوا أسلحتهم } ولو قيل بوجوبه لكان له وجه لقوله تعالى : { ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم } وإذا اشتد الخوف صلوا رجالا وركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبليها لقوله تعالى : { فإن خفتم فرجالا أو ركباناً } يومؤون إيماء بقدر الطاقة ويكون السجود أخفض من الركوع ولا تجوز جماعة إذا لم تمكن المتابعة .(11/5)
( بابُ صَلاةِ الجُمْعَة )
وهي فرض عين على كل مسلم بالغ عاقل ذكر حر مستوطن ببناء يشمله اسم واحد ، ومن حضرها ممن لا تجب عليه أجزأته وإن أدرك ركعة أتمها جمعة وإلا أتمها ظهراً ولا بد من تقدم خطبتين فيهما حمد الله والشهادتان والوصية بما يحرك القلوب وتسمى خطبة ، ويخطب على منبر أو موضع عال ، ويسلم على المأمومين إذا خرج وإذا أقبل عليهم ثم يجلس إلى فراغ الأذان لحديث ابن عمر رواه أبو داود ، ويجلس بين الخطبتين جلسة خفيفة لما في الصحيحين من حديث عمر ، ويخطب قائماً لفعله صلى الله عليه وسلم ويقصد تلقاء وجهه ويقصر الخطبة ، وصلاة الجمعة ركعتان يجهر فيهما بالقراءة يقرأ في الأولى بالجمعة والثانية بالمنافقين أو بسبح والغاشية صح الحديث بالكل ويقرأ في فجر يومها بآلم السجدة وسورة الإنسان وتكره المداومة على ذلك ، وإن وافق عيد يوم جمعة سقطت الجمعة عمن حضر العيد إلا الإمام فلا تسقط عنه .
والسنة بعد الجمعة ركعتان أو أربع ، ولا سنة لها قبلها بل يستحب أن يتنفل بما شاء ويسن لها الغسل والسواك والطيب ويلبس أحسن ثيابه ، وأن يبكر ماشياً ، ويجب السعي بالنداء الثاني بسكينة وخشوع ويدنو من الإمام ويكثر الدعاء في يومها رجاء إصابة ساعة الاستجابة وأرجاها آخر ساعة بعد
العصر إذا تطهر وانتظر صلاة المغرب لأنه في صلاة ، ويكثر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في يومها وليلتها ، ويكره أن يتخطى رقاب الناس إلا أن يرى فرجه لا يصل إليها إلا به ، ولا يقيم غيره ويجلس مكانه ولو عبده أو ولده ، ومن دخل والإمام يخطب لم يجلس حتى يصلي ركعتين يخففهما ولا يتكلم ولا يعبث والإمام يخطب لقوله صلى الله عليه وسلم : "ومن مس الحصى فقد لغا" صححه الترمذي ومن نعس انتقل من مجلسه لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك صححه الترمذي .
( بابُ صَلاة العيدَيْن )(11/6)
إذا لم يعلم بالعيد إلا بعد الزوال خرج من الغد فصلى بهم ، ويسن تعجيل الأضحى وتأخير الفطر وأكله قبل الخروج إليها في الفطر تمرات وتراً ولا يأكل في الأضحى حتى يصلي ، وإذا غدا من طريق رجع من آخر ، وتسن في صحراء قريبة فيصلي ركعتين ، يكبر تكبيرة الإحرام ثم يكبر بعدها ستاً ويكبر في الثانية خمساً يرفع يديه مع كل تكبيرة ويقرأ فيهما " بسبح والغاشية" فإذا فرغ خطب ولا يتنفل قبلها ولا بعدها في موضعها ، ويسن التكبير في العيدين وإظهاره في المساجد والطرق والجهر به من أهل القرى والأمصار ، ويتأكد في ليلتي العيدين وفي الخروج إليها وفي الأضحى يبتديء التكبير المطلق من ابتداء عشر ذي الحجة والمقيد من صلاة الفجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق ، ويسن الاجتهاد في العلم الصالح أيام العشر .
( بابُ صَلاةِ الكسوف )
ووقتها من حين الكسوف إلى التجلي . وهي سنة مؤكدة حضراً وسفراً حتى للنساء ، ويسن ذكر الله والدعاء والاستغفار والعتق والصدقة ولا تعاد إن صليت ولم يتجلّ ، بل يذكرون الله ويستغفرونه حتى يتجلى وينادى لها : "الصلاة جامعة" ويصلي ركعتين يجهر فيهما بالقراءة ويطيل القراءة والركوع والسجود . كل ركعة بركوعين لكن يكون في الثانية دون الأولى ثم يتشهد ويسلم وإن تجلى فيها أتمها خفيفة لقوله : صلى الله عليه وسلم : "فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم" .(11/7)
( بابُ صَلاةِ الاسْتسْقاء )
وهي سنة مؤكدة حضراً وسفراً وصفتها صفة صلاة العيد ، ويسن فعلها أول النهار ويخرج متخشعاً متذللا متضرعاً لحديث ابن عباس صححه الترمذي فيصلي بهم ثم يخطب خطبة واحدة ويكثر فيها الاستغفار ويدعو ويرفع يديه ويكثر منه ويقول : اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً مريعاً غدقاً مجللا سحاً عاماً طبقاً دائماً نافعاً غير ضار عاجلا غير آجل ، اللهم أسق عبادك وبهائمك وانشر رحمتك وأحيي بلدك الميت اللهم أسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق ، اللهم إن بالعباد والبلاد من اللأواء والجهد والضنك ما لا نشكوه إلا إليك : "اللهم أنبت لنا الزرع ، وأدر لنا الضرع وأسقنا من بركات السماء وأنزل علينا من بركاتك اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً فأرسل السماء علينا مدراراً" ويستحب أن يستقبل القبلة في أثناء الخطبة ، ثم يحول رداءه فيجعل ما على الأيمن على الأيسر وعكسه لأنه صلى الله عليه وسلم حول إلى الناس ظهره واستقبل القبلة ثم حول رداءه متفق عليه ، ويدعو سراً حال استقبال القبلة ، وإن استسقوا عقب صلاتهم أو في خطبة الجمعة أصابوا السنة ، ويستحب أن يقف في أول المطر ويخرج رحله وثيابه ليصيبها المطر ويخرج إلى الوادي إذا سال ، ويتوضأ ويقول إذا رأى المطر : "اللهم صيباً نافعاً" وإذا زادت المياه وخيف من كثرة المطر استحب أن يقول : ( اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الظراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر ) ويدعو عند نزول المطر ويقول : مطرنا بفضل الله ورحمته وإذا رأى سحاباً أو هبت ريح سأل الله من خيره واستعاذ من شره ولا يجوز سب الريح ، بل يقول : اللهم إني أسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذاباً ، اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً ، وإذا سمع صوت الرعد والصواعق قال : اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك سبحان من سبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وإذا سمع نهيق حمار أو نباح كلب استعاذ بالله من الشيطان وإذا سمع صياح الديك سأل الله من فضله .(11/8)
( بابُ الجَنائِزْ )
يجوز التداوي اتفاقاً ولا ينافي التوكل ، ويكره الكي ، وتستحب الحمية ، ويحرم بمحرم أكلا وشرباً وصوت ملهاة لقوله صلى الله عليه وسلم : "لا تداووا بحرام" وتحرم التميمة وهي عوذة أو خرزة تعلق ، ويسن الإكثار من ذكر الموت والاستعداد له . وعيادة المريض ولا بأس أن يخبر المريض بما يجد من غير شكوى بعد أن يحمد الله ، ويجب الصبر ، والشكوى إلى الله لا تنافيه بل هي مطلوبة ويحسن الظن بالله وجوباً ولا يتمنى الموت لضر نزل به ويدعو العائد للمريض بالشفاء فإذا نزل به استحب أن يلقن "لا إله إلا الله" ويوجه إلى القبلة فإذا مات أغمضت عيناه ولا يقول أهله إلا الكلام الحسن لأن الملائكة يؤمنون على ما يقولون ويسجى بثوب ويسارع في قضاء دينه وإبراء ذمته من نذر أو كفارة لقوله صلى الله عليه وسلم : "نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه" حسنه الترمذي ، ويسن الإسراع في تجهيزه لقوله صلى الله عليه وسلم : "لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله" رواه أبو داود ، ويكره النعي وهو النداء بموته .(11/9)
وغسله والصلاة عليه وحمله وتكفينه ودفنه موجهاً إلى القبلة فرض كفاية ، ويكره أخذ الأجرة على شيء من ذلك ، وحمل الميت إلى غير بلده لغير حاجة ، ويسن للغاسل أن يبدأ بأعضاء الوضوء والميامن ويغسله ثلاثاً أو خمساً ويكفي مرة ، وإذا ولد السقط لأكثر من أربعة أشهر غسل وصلي عليه لقوله صلى الله عليه وسلم : "والسقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة" صححه الترمذي ولفظه "والطفل يصلى عليه" ومن تعذر غسله لعدم ماء أو غيره يمم ، والواجب في كفنه ثوب يستر جميعه . فإن لم يجد ما يستره ستر العورة ثم رأسه وما يليه ويجعل على باقي جسده حشيش أو ورق ، ويقوم الإمام في الصلاة عليه عند صدر رجل ووسط امرأة ويكبر فيقرأ الفاتحة ثم يكبر فيصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يكبر ويدعو للميت ثم يكبر الرابعة ويقف بعدها قليلا ثم يسلم واحدة عن يمينه ويرفع يديه مع كل تكبيرة ويقف مكانه حتى ترفع روي ذلك عن عمر ، ويستحب لمن لم يصل عليها أن يصلي عليها إذا وضعت أو بعد الدفن على القبر ولو جماعة إلى شهر من دفنه ، ولا بأس بالدفن ليلا ، ويكره عند طلوع الشمس وعند غروبها وقيامها ، ويسن الإسراع بها دون الخبب ، ويكره جلوس من تبعها حتى توضع على الأرض للدفن ، ويكون التابع لها متخشعاً متفكراً في مآله ويكره التبسم والتحدث في أمر الدنيا ، ويستحب أن يدخله قبره من عند رجليه إن كان أسهل ، ويكره أن يسجى قبر رجل ولا يكره للرجل دفن امرأة وثم محرم ( واللحد أفضل ) من الشق ، ويسن تعميقه وتوسيعه ، ويكره دفنه في تابوت ، ويقول عند وضعه بسم الله وعلى ملة رسول الله ، ويستحب الدعاء عند القبر بعد الدفن واقفاً عنده ، ويستحب لمن حضر أن يحثو عليه من قبل رأسه ثلاث حثيات .
ويستحب رفع القبر قدر شبر ويكره فوقه لقوله صلى الله عليه وسلم لعلي : "لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سويته" . رواه مسلم ،(11/10)
ويرش عليه الماء ويوضع عليه حصباء تحفظ ترابه ولا بأس بتعليمه بحجر ونحوه ليعرف لما روي في قبر عثمان بن مظعون ، ولا يجوز تجصيصه ولا البناء عليه ، ويجب هدم البناء ولا يزاد على تراب القبر من غيره للنهي عنه رواه أبو داود ، ولا يجوز تقبيله ولا تخليقه ولا تبخيره ولا الجلوس عليه ولا التخلي عليه وكذلك بين القبور . ولا الاستشفاء بترابه ، ويحرم إسراجه واتخاذ المسجد عليه ويجب هدمه ولا يمشي بالنعل في المقبرة للحديث قال أحمد : وإسناده جيد .
وتسن زيارة القبور بلا سفر لقوله صلى الله عليه وسلم : "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد" ولا يجوز للنساء لقوله صلى الله عليه وسلم : "لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" ورواه أهل السنن ، ويكره التمسح به والصلاة عنده وقصده لأجل الدعاء فهذه من المنكرات بل من شعب الشرك ويقول الزائر والمار بالقبر : "السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون يرحم المستقدمين منّا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية ، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم" .
ويخير بين تعريفه وتنكيره في سلامه على الحي وابتداؤه سنة ورده واجب ولو سلم على إنسان ثم لقيه ثانياً وثالثاً أو أكثر سلم عليه ولا يجوز الانحناء في السلام ولا يسلم على أجنبية إلا عجوز لا تشتهى ويسلم عند الانصراف وإذا دخل على أهله سلم وقال : اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج بسم الله ولجنا وبسم الله خرجنا وعلى الله توكلنا وتسن المصافحة لحديث أنس ولا يجوز مصافحة المرأة ويسلم على الصبيان ويسلم الصغير والقليل والماشي والراكب على ضدهم . وإن بلغه رجل سلام آخر استحب له أن يقول : عليك وعليه السلام .(11/11)
ويستحب لكل واحد من المتلاقين أن يحرص على الابتداء بالسلام ولا يزيد على قوله : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وإذا تثاءب كظم ما استطاع فإن غلبه غطى فمه . وإذا عطس خمر وجهه وغض صوته وحمد الله تعالى جهراً بحيث يسمع جليسه ويقول سامعه : يرحمك الله . ويرد عليه العاطس بقوله : يهديكم الله ويصلح بالكم . ولا يشمت من لا يحمد الله وإن عطس ثانياً وثالثاً شمته وبعدها يدعو له بالعافية .
ويجب الاستئذان على من أراد الدخول عليه من قريب وأجنبي فإن أذن له وإلا رجع ، والاستئذان ثلاثاً لا يزيد عليها ، وصفة الاستئذان السلام عليكم . أأدخل ؟ ويجلس حيث ينتهي به المجلس ، ولا يفرق بين اثنين إلا بإذنهما .
ويستحب تعزية المصاب بالميت ، ويكره الجلوس لها ولا تعيين فيما يقول المعزي بل يحثه على الصبر ويعده بالأجر ، ويدعو للميت ويقول المصاب : الحمد لله رب العالمين إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها ، وإن صلى عملا بقوله تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلاة } فحسن فعله ابن عباس ، والصبر واجب ، ولا يكره البكاء على الميت وتحرم النياحة . والنبي صلى الله عليه وسلم بريء من الصالقة والحالقة والشاقة ، فالصالقة التي ترفع صوتها عند المصيبة ، والحالقة التي تحلق شعرها ، والشاقة التي تشق ثوبها ويحرم إظهار الجزع .(11/12)
( كتاب الزَّكاة )
تجب في بهيمة الأنعام والخارج من الأرض والأثمان وعروض التجارة بشروط خمسة : الإسلام ، والحرية ، وملك النصاب ، وتمام الملك والحول ، وتجب في مال الصبي والمجنون روي عن عمر وابن عباس وغيرهما ولا يعرف لهما مخالف ، وتجب فيما زاد على النصاب بالحساب إلا في السائمة فلا زكاة في وقصها ولا في الموقوف على غير معين كالمساجد ، وتجب في غلة أرض موقوفة على معين ومن له دين على مليء كقرض وصداق جرى في حول الزكاة من حين ملكه ويزكيه إذا قبضه أو شيئاً منه . وهو ظاهر إجماع الصحابة ولو لم يبلغ المقبوض نصاباً ويجزيء إخراجها قبل قبضه لقيام سبب الوجوب لكن تأخيرها إلى القبض رخصة فليس كتعجيل الزكاة ، ولو كان بيده بعض نصاب وباقيه دين أو ضال زكى ما بيده ، وتجب أيضاً في دين على غير ملىء ومغصوب ومجهود إذا قبضه روي عن علي وابن عباس للعموم ، وإذا استفاد مالاً فلا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول إلا نتاج السائمة وربح التجارة لقول عمر : "اعتد عليهم بالسخلة ولا تأخذها منهم" رواه مالك ولقول علي ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة . ويضم المستفاد إلى ما بيده إن كان نصاباً من جنسه أو في حكمه كفضة مع ذهب فإن لم يكن من جنس النصاب ولا في حكمه فله حكم نفسه .(11/13)
( بابُ زكاة بَهيمة الأنْعام )
لا تجب إلا في السائمة وهي التي ترعى أكثر الحول فلو اشترى لها أو جمع لها ما تأكل فلا زكاة فيها وهي ثلاثة أنواع :
( أحدها ) الإبل فلا زكاة فيها حتى تبلغ خمساً ففيها شاة . وفي العشر شاتان وفي خمس عشرة ثلاث شياه وفي العشرين أربع شياه إجماعاً في ذلك كله . فإذا بلغت خمساً وعشرين ففيها بنت مخاض وهي التي لها سنة . فإن عدمها أجزاه ابن لبون وهو ما له سنتان وفي ست وثلاثين بنت لبون وفي ست وأربعين حقة لها ثلاث سنين ، وفي إحدى وستين جذعة لها أربع سنين وفي ست وسبعين بنتا لبون وفي إحدى وتسعين حقتان ، وفي مائة وإحدى وعشرين ثلاث بنات لبون ، ثم تستقر الفريضة في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة فإذا بلغت مائتين اتفق الفرضان فإن شاء أخرج أربع حقائق وإن شاء خمس بنات لبون .
( الثاني ) البقر ولا زكاة فيها حتى تبلغ ثلاثين فيجب فيها تبيع أو تبيعة كل منهما له سنة وفي أربعين مسنة لها سنتان وفي ستين تبيعان ثم في كل ثلاثين تبيع . وفي كل أربعين مسنة .
( الثالث ) الغنم ولا زكاة فيها حتى تبلغ أربعين ففيها شاة إلى مائة وعشرين فإذا زادت واحدة ففيها شاتان إلى مائتين . فإن زادت واحدة ففيها ثلاث
شياه إلى ثلاثمائة ففيها أربع شياه ثم في كل مائة شاة ، ولا يؤخذ تيس ولا هرمة أي كبيرة ولا ذات عوار أي عيب ولا تؤخذ الربى وهي التي لها ولد تربيه ولا حامل ولا السمينة ولا خيار المال لقوله صلى الله عليه وسلم : "ولكن من أوسط أموالكم فإن الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره" رواه أبو داود ، والخلطة في المواشي تصير المالين كالمال الواحد .(11/14)
( بابُ زكاة الخارج مِنَ الأرْضِ )
تجب في كل مكيل مدخر من قوت وغيره بشرطين أحدهما بلوغ النصاب وهو خمسة أوسق - والوسق ستون صاعاً وتضم ثمرة العام الواحد وزرعه بعضها إلى بعض في تكميل النصاب . الثاني : أن يكون النصاب مملوكاً له وقت الوجوب فلا تجب فيما يكتسب اللقاط . أو يوهب له . أو يأخذه أجرة لحصاده ، ويجب العشر فيما سقي بلا مؤنة . ونصفه بها وثلاثة أرباع بهما . فإن تفاوتا فبأكثرهما نفعاً ومع الجهل العشر ويجب إخراج زكاة الحب مصفى والثمر يابساً . ولا يصح شراء زكاته ولا صدقته فإن رجعت إليه بإرث جاز . ويبعث الإمام خارصاً ويكفي واحد ويترك الخارص له ما يكفيه وعياله رطباً فإن لم يترك فلرب المال أخذه وكره أحمد الحصاد والجذاذ ليلا ، ولا تتكرر زكاة معشرات ولو بقيت أحوالا ما لم تكن للتجارة فتقوم عند كل حول .
( بابُ زكاة النّقدين )
نصاب الذهب عشرون مثقالا ، ونصاب الفضة مائتا درهم . وفي ذلك ربع العشر ويضم أحدهما إلى الآخر في تكميل النصاب وتضم قيمة العروض إلى كل منهما . ولا زكاة في حلي مباح فإن أعد للتجارة ففيه الزكاة ويباح للذكر من الفضة الخاتم وهو في خنصر يسراه أفضل وضعف أحمد التختم في اليمين . ويكره لرجل وامرأة خاتم حديد وصفر ونحاس نص عليه . ويباح من الفضة قبيعة السيف وحلية المنطقة لأن الصحابة رضي الله عنهم اتخذوا المناطق محلاة بالفضة ويباح للنساء من الذهب والفضة ما جرت عادتهن بلبسه . ويحرم تشبه رجل بامرأة وعكسه في لباس وغيره .
( بابُ زكاة العُروضِ )
تجب فيها إذ بلغت قيمتها نصاباً إذا كانت للتجارة . ولا زكاة فيما أعد للكراء من عقار وحيوان وغيرهما .(11/15)
( بابُ زكاة الفِطْر )
وهي طهرة للصائم من اللغو والرفث ، وهي فرض عين على كل مسلم إذا فضل عنده عن قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته صاع عنه وعمن يمونه من المسلمين ولا تلزمه عن الأجير فإن لم يجد عن الجميع بدأ بنفسه ثم الأقرب فالأقرب ، ولا تجب عن الجنين إجماعاً ، ومن تبرع بمؤنة مسلم شهر رمضان لزمته فطرته ، ويجوز تقديمها قبل العيد بيوم أو يومين ولا يجوز تأخيرها عن يوم الفطر ، فإن فعل أثم وقضى ، والأفضل يوم العيد قبل الصلاة والواجب صاع من تمر أو بر أو زبيب أو شعير أو أقط فإن عدمها أخرج ما يقوم مقامها من قوت البلد وأحب أحمد تنقية الطعام وحكاه عن ابن سيرين ويجوز أن يعطي الجماعة ما يلزم الواحد وعكسه .
( بابُ إخْراج الزّكاة )
لا يجوز تأخيرها عن وقت وجوبها مع إمكانه إلا لغيبة الإمام أو المستحق وكذا الساعي له تأخيرها عند ربها لعذر قحط ونحوه كمجاعة . احتج أحمد بفعل عمر .
( بابُ أهلِ الزّكاة )
وهم ثمانية لا يجوز صرفها إلى غيرهم للآية :
الأول والثاني : الفقراء والمساكين . ولا يجوز السؤال وله ما يغنيه ولا بأس بمسألة شرب الماء والاستعارة والاستقراض ، ويجب إطعام الجائع وكسوة العاري وفك الأسير .
الثالث : العاملون عليها كجاب وكاتب وعداد وكيال ولا يجوز من ذوي القربى وإن شاء الإمام أرسله من غير عقد وإن شاء ذكر له شيئاً معلوما .
الرابع : المؤلفة قلوبهم وهم السادات المطاعون في عشائرهم من كافر يرجى إسلامه أو مسلم يرجى بعطائه قوة إيمانه أو إسلام نظيره أو نصحه أو كف شره ، ولا يحل للمسلم أن يأخذ ما يعطى لكف شره كرشوة .
الخامس : الرقاب وهم المكاتبون ويجوز أن يفدي بها أسير مسلم بأيدي الكفار لأنه فك رقبة ويجوز أن يشتري منها رقبة يُعتقها لعمومِ قوله { وفي الرقاب } .
السادس : الغارمون وهم المدينون وهم ضربان : أحدهما من غرم لإصلاح ذات البين وهو من تحمل مالاً لتسكين فتنة الثاني : من استدان لنفسه في مباح .(11/16)
السابع : في سبيل الله وهم الغزاة فيدفع لهم كفاية غزوهم ولو مع غناهم والحج في سبيل الله .
الثامن : ابن السبيل وهو المسافر المنقطع به الذي ليس معه ما يوصله إلى بلده فيعطى ما يوصله إليه ولو مع غناه ببلده وإن ادعى الفقر من لا يعرف بالغنى قبل قوله وإن كان جلداً وعرف له كسب لم يجز إعطاؤه وإن لم يعرف له كسب أعطي بعد إخباره أنه لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب ، وإن كان الأجنبي أحوج فلا يعطى القريب ، ويمنع البعيد ولا يحابي بها قريباً ، ولا يدفع بها مذمة ، ولا يستخدم بها أحداً ، ولا يقي بها ماله ، وصدقة التطوع مسنونة كل وقت ، وسراً أفضل وكذلك في الصحة وبطيب نفس وفي رمضان لفعله صلى الله عليه وسلم وفي أوقات الحاجة لقوله تعالى : { في يوم ذي مسغبة } وهي على القريب صدقة وصلة ولا سيما مع العداوة لقوله صلى الله عليه وسلم : "تصل من قطعك" ثم الجار لقوله تعالى : { والجار ذي القربى والجار الجنب } ومن اشتدت حاجته لقوله تعالى : { أو مسكيناً ذا متربة } ولا يتصدق بما يضره أو يضر غريمه أو من تلزمه مؤنته ومن أراد الصدقة بماله كله وله عائلة يكفيهم بكسبه وعلم من نفسه حسن التوكل استحب لقصة الصديق وإلا لم يجز ويحجر عليه ويكره لمن لا صبر له على الضيق أن ينقص نفسه عن الكفاية التامة ويحرم المن في الصدقة وهو كبيرة يبطل ثوابها ومن أخرج شيئاً يتصدق به ثم عارضه شيء استحب له أن يمضيه وكان عمرو بن العاص إذا أخرج طعاماً لسائل فلم يجده عزله ويتصدق بالجيد ، ولا يقصد الخبيث فيتصدق به وأفضلها جهد المقل ولا يعارضه خبر : "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" المراد جهد المقل بعد حاجة عياله .(11/17)
( كتاب الصّيام )
صوم رمضان أحد أركان الإسلام وفرض في السنة الثانية من الهجرة فصام رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات ويستحب ترائي الهلال ليلة الثلاثين من شعبان ويجب صوم رمضان برؤية هلاله فإن لم ير مع الصحو أكملوا ثلاثين يوماً ثم صاموا من غير خلاف وإذا رأى الهلال كبر ثلاثاً وقال : "اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والتوفيق لما تحب وترضاه ربي وربك الله هلال خير ورشد" ويقبل فيه قول واحد عدل حكاه الترمذي عن أكثر العلماء وإن رآه وحده وردت شهادته لزمه الصوم ولا يفطر إلا مع الناس وإذا رأى هلال شوال لم يفطر .
والمسافر يفطر إذا فارق بيوت قريته والأفضل له الصوم خروجاً من خلاف أكثر العلماء والحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما أبيح لهما الفطر فإن خافتا على ولديهما فقط أطعمتا عن كل يوم مسكيناً والمريض إذا خاف ضرراً كره صومه للآية ، ومن عجز عن الصوم لكبر أو مرض لا يرجى برؤه أفطر وأطعم عن كل يوم مسكيناً وإن طار إلى حلقه ذباب أو غبار أو دخل إلى حلقه ماء بلا قصد لم يفطر .
ولا يصح الصوم الواجب إلا بنية من الليل ، ويصح صوم النفل بنية من النهار قبل الزوال وبعده .
( بابُ ما يُفسد الصَّوم )(11/18)
من أكل أو شرب أو استعط بدهن أو غيره فوصل إلى حلقه أو احتقن أو استقاء فقاء أو حجم أو احتجم فسد صومه ولا يفطر ناسٍ بشيء من ذلك وله الأكل والشرب مع شك في طلوع الفجر لقوله تعالى : { وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر } ومن أفطر بالجماع فعليه كفارة ظهار مع القضاء ، وتكره القُبْلَةُ لمن تتحرك شهوته ، ويجب اجتناب كذب وغيبة وشتم ونميمة كل وقت لكن للصائم آكد ، ويسن كفه عما يكره ، وإن شتمه أحد فليقل : إني صائم ، ويسن تعجيل الفطر إذا تحقق الغروب وله الفطر بغلبة الظن ، ويسن تأخير السحور ما لم يخش طلوع الفجر ، وتحصل فضيلة السحور بأكل أو شرب وإن قل ويفطر على رطب فإن لم يجد فعلى التمر فإن لم يجد فعلى الماء ويدعو عند فطره ومن فطر صائماً فله مثل أجره ، ويستحب الإكثار من قراءة القرآن في رمضان والذكر والصدقة وأفضل صيام التطوع صيام يوم وإفطار يوم ويسن صيام ثلاثة أيام من كل شهر وأيام البيض أفضل ويسن صوم يوم الخميس والاثنين وستة أيام من شوال ولو متفرقة وصوم تسع ذي الحجة وآكدها التاسع وهو يوم عرفة(11/19)
وصوم المحرم وأفضله التاسع والعاشر ، ويسن الجمع بينهما وكل ما ذكر في يوم عاشوراء من الأعمال غير الصيام فلا أصل له بل هو بدعة ويكره إفراد رجب بالصوم ، وكل حديث في فضل صومه والصلاة فيه فهو كذب ، ويكره إفراد الجمعة بالصوم ويكره تقدم رمضان بيوم أو يومين ويكره الوصال ويحرم صوم العيدين وأيام التشريق ويكره صوم الدهر ، وليلة القدر معظمة يرجى إجابة الدعاء فيها لقوله : { ليلة القدر خير من ألف شهر } قال المفسرون : في قيامها والعمل فيها خير من قيام ألف شهر خالية منها وسميت ليلة القدر لأنه يقدر فيه ما يكون في تلك السنة وهي مختصة بالعشر الأواخر وليالي الوتر وآكدها ليلة سبع وعشرين ويدعو فيها بما علمه النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة : ( اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني ) والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم .(11/20)
( أحكامُ الصَّلاة )
لشيخ الإسلام : محمد بن عبد الوهاب رحمه الله .
بسم الله الرحمن الرحيم
( شروط الصلاة تسعة )
الإسلام ، والعقل ، والتمييز ، والطهارة وستر العورة ، واجتناب النجاسة ، والعلم بدخول الوقت ، واستقبال القبلة ، والنية والقصد .
( أركان الصلاة أربعة عشر ركنا )
القيام مع القدرة ، وتكبيرة الإحرام وقراءة الفاتحة ، والركوع ، والرفع منه ، والاعتدال ، والسجود ، والرفع منه ، والجلوس بين السجدتين والطمأنينة في الجميع ، والترتيب ، والتشهد الأخير ، والجلوس له ، والتسليمة الأولى .
( مبطلات الصلاة ثمانية )
الكلام العمد ، والضحك ، والأكل ، والشرب ، وكشف العورة ، والانحراف عن جهة القبلة ، والعبث الكثير ، وحدوث النجاسة .
( واجبات الصلاة ثمانية )
التكبيرات غير تكبيرة الإحرام ، الثاني : قول سمع الله لمن حمده لإمام ومنفرد ، الثالث : قول ربنا ولك الحمد ، الرابع : تسبيح الركوع ، الخامس : تسبيح السجود ، السادس : قول رب اغفر لي بين السجدتين والواجب مرة ، السابع : التشهد الأول لأنه عليه السلام فعله وداوم على فعله وأمر به وسجد للسهو حين نسيه ، الثامن : الجلوس له .
( فرائض الوضوء ستة أشياء )
غسل الوجه ، وغسل اليدين إلى المرفقين ، ومسح جميع الرأس ، وغسل الرجلين إلى الكعبين ، والترتيب ، والموالاة .
( شروط الوضوء خمسة )
ماء طهور ، وكون الرجل مسلماً مميزاً ، وعدم المانع ، ووصول الماء إلى البشرة ودخول الوقت في دائم الحدث .
( نواقض الوضوء ثمانية )
الخارج من السبيلين ، والخارج الفاحش من البدن ، وزوال العقل بنوم أو غيره ، ولمس المرأة بشهوة ، ومس الفرجين من الآدمي ، وغسل الميت ، وأكل لحم الجزور ، والردة عن الإسلام أعاذنا الله منها . والله أعلم .(11/21)
الواجبات المتحتمات المعرفة
على كل مسلم ومسلمة
للإمام محمد بن عبد الوهاب
الأصول الثلاثة التي يجب على كل مسلم ومسلمة معرفتها...
وهي : معرفة العبد ربه ودينه ونبيه محمداً صلى الله عليه وسلم :
فإن قيل لك : من ربك ؟ فقل : ربي الله الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمته ، وهو معبودي ، ليس لي معبود سواه .
وإذا قيل لك : ما دينك ؟ فقل : ديني الإسلام ، وهو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد وبالطاعة والبراء من الشرك وأهله .
وإذا قيل لك : من نبيك ؟ فقل : محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم ، وهاشم من قريش ، وقريش من العرب ، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم.
أصل الدين وقاعدته أمران...
الأول : الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له ، والتحريض على ذلك ، والموالاة فيه ، وتكفير من تركه .
الثاني : الإنذار عن الشرك في عبادة الله ، والتغليظ في ذلك ، والمعاداة فيه ، وتكفير من فعله .
شروط لا إله إلا الله...
الأول : العلم بمعناها نفياً وإثباتاً.
الثاني : اليقين ، وهو : كمال العلم بها ، المنافي للشك والريب .
الثالث : الإخلاص المنافي للكذب .
الرابع : الصدق المنافي للكذب .
الخامس : المحبة لهذه الكلمة ، ولما دلت عليه ، والسرور بذلك .
السادس : الانقياد لحقوقها ، وهي : الأعمال الواجبة ، إخلاصاً لله ، وطلباً لمرضاته .
السابع : القبول المنافي للرد .ط
أدلة هذه الشروط من كتاب الله تعالى ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم :
دليل العلم : قوله تعالى : { فأعلم أنه لا إله إلا الله } وقوله : { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } أي بـ " لا إله إلا الله " { وهم يعلمون } بقلوبهم ما نطقوا به بألسنتهم .
ومن السنة : الحديث الثابت في الصحيح عن عثمان رضي الله عنه قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة ) .(12/1)
ودليل اليقين : قوله تعالى : { إنما المؤمنون الذين ءامنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون } فاشترط في صدق إيمانهم بالله ورسوله كونهم لم يرتابوا -أي لم يشكوا - فأما المرتاب فهو من المنافقين .
ومن السنة : الحديث الثابت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة ) وفي رواية : ( لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة ) . وعن أبي هريرة أيضاً من حديث طويل : ( من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقناً بها من قلبه فبشره بالجنة ) .
ودليل الإخلاص : قوله تعالى : { ألا لله الدين الخالص } وقوله سبحانه : { وما من أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء } .
ومن السنة : الحديث الثابت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أسعد الناس بشفاعتي من قال لاإله إلا الله خالصاً من قلبه -أو من نفسه - ) وفي الصحيح عن عتبان بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله عز وجل ) وللنسائي في " اليوم والليلة "من حديث رجلين من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، مخلصاً بها من قلبه ، يصدق بها لسانه . . . إلا فتق الله السماء فتقاً ، حتى ينظر إلى قائلها من أهل الأرض ، وحق لعبد نظر إليه الله أن يعطيه سؤله ) .(12/2)
ودليل الصدق : قوله تعالى : { الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذببين } وقوله تعالى : { ومن الناس من يقول ءامنا بالله واليوم الآخر وما هم بمؤمنين * يخادعون الله والذين ءامنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون * في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون } .
ومن السنة : ما ثبت في الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، صادقاً من قلبه ، إلا حرمه الله على النار ) .
ودليل المحبة : قوله تعالى : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين ءامنوا أشد حباً لله } وقوله : { يأيها الذين ءامنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } .
ومن السنة : ما ثبت في الصحيح عن أنس رضي الله عنه ، قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار ) .
ودليل الانقياد : ما دل عليه قوله تعالى : { وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون } وقوله : { ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن } وقوله : { ومن يسلم وجهه لله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى } أي بـ " لا إله إلا الله " ، وقوله تعالى : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً } .(12/3)
ومن السنة : قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ) وهذا هو تمام الانقياد وغايته .
ودليل القبول : قوله تعالى : { وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا ءاباءنا على أمة وإنا على ءاثارهم مقتدون * قال أولوا جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه ءاباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون * فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين } وقوله تعالى : { إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون * ويقولون أإنا لتاركوا ءالهتنا لشاعر مجنون } .
ومن السنة : ما ثبت في الصحيح عن أبى موسى رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً ، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله به الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، أصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك الماء ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم ، ومثل من لم يرفع بذلك راساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ).
نواقض الإسلام...
اعلم أن نواقض الإسلام عشرة :
الأول : الشرك في عبادة الله تعالى ، قال الله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } وقال : { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } ومنه الذبح لغير الله ، كمن يذبح للجن أو للقبر .
الثاني : من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويسألهم الشفاعة ويتوكل عليهم ، كفر إجماعاً .
الثالث : من لم يكفر المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم .
الرابع : من اعتقد أن غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من هديه ، أو أن حكم غيره أحسن من حكمه - كالذي يفضل حكم الطواغيت على حكمه - فهو كافر .(12/4)
الخامس : من أبغض شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولو عمل به ، كفر .
السادس : من استهزأ بشيء من دين الرسول صلى الله عليه وسلم أو ثوابه أو عقابه ، والدليل قوله تعالى : { ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } .
السابع : السحر ، ومنه الصرف والعطف ، فمن فعله أو رضي به كفر ، والدليل قوله تعلى : { وما هم بضارين به من أحد إلا بأذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم } .
الثامن : مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين ، والدليل قوله تعالى : { ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } .
التاسع : من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، كما وسع الخضرالخروج عن شريعة موسى عليه السلام ، فهو كافر .
العاشر : الإعراض عن دين الله تعالى ، لا يتعلمه ولا يعمل به ، والدليل قوله تعالى : { ومن أظلم ممن ذكر بآيت ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون } .
ولا فرق في جميع هذه بين الهازل والجاد والخائف إلا المكره ، وكلها من أعظم ما يكون خطراً وأكثر ما يكون وقوعاً ، فينبغي للمسلم أن يحذرها ويخاف منها على نفسه ، نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه.
التوحيد ثلاثة أنواع...
الأول : توحيد الربوبية : وهو الذي اقر به الكفار على زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يدخلهم في الإسلام ، واستحل دماءهم وأموالهم ، وهو توحيد الله بفعله تعالى ، والدليل قوله تعالى : { قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون } والآيات على هذا كثيرة جداً .(12/5)
الثاني : توحيد الألوهية : وهو الذي وقع فيه النزاع من قديم الدهر وحديثه ، وهو توحيد الله بأفعال العباد ، كالدعاء والنذر والنحر والرجاء والخوف والتوكل والرغبة والرهبة والإنابة ، وكل نوع من هذه الأنواع عليه دليل من القرآن .
الثالث : توحيد الذات والأسماء والصفات : قال الله تعالى : { قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد } وقوله تعالى : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون } وقوله تعالى : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير }.
ضد التوحيد الشرك...
وهو ثلاثة انواع : شرك اكبر ، وشرك اصغر ، وشرك خفي .
النوع الأول من انواع الشرك : الشرك الأكبر ، لا يغفره الله ولا يقبل معه عملاً صالحاً ، قال الله عز وجل : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً } وقال سبحانه : { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } وقال تعالى : { وقدمنا غلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً } وقال سبحانه : { لئن أشركت ليحبكن عملك ولتكونن من الخاسرين } وقال سبحانه : { ولو اشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } .
والشرك الأكبر أربعة أنواع :
الأول : شرك الدعوة : والدليل قوله تعالى : { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم الله إلى البر إذا هم يشركون } .
الثاني : شركالنية والإرادة والقصد : والدليل قوله تعالى : { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم اعمالهم فيها وهم لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا وباطل ما كانوا يعملون } .(12/6)
الثالث : شرك الطاعة : والدليل قوله تعالى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } وتفسيرها الذي لا إشكال فيه :طاعة العلماء والعباد في المعصية ، لا دعاؤهم إياهم ، كما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم لما سأله ، فقال : ( لسنا نعبدهم !) فذكر له أن عبادتهم طاعتهم في المعصية .
الرابع : شرك المحبة : والدليل قوله تعالى : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله } .
النوع الثاني من أنواع الشرك : شرك اصغر : وهو الرياء ، والدليل قوله تعالى : { فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحا ولا يشرك بربه أحداً } .
النوع الثالث من أنواع الشرك : شرك خفي : والدليل قوله صلى الله عليه وسلم : ( الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النملة السوداء على صفاة سوداء في ظلمة الليل ) ، وكفارته قوله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم ، وأستغفرك من الذنب الذي لا أعلم ).
الكفر كفران...
النوع الأول : كفر يخرج من الملة : وهو خمسة أنواع :
النوع الاول : كفر التكذيب : والدليل قوله تعالى : { ومن اظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين } .
النوع الثاني : كفر الإباء والاستكبار مع التصديق : والدليل قوله تعالى : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين } .
النوع الثالث : كفر الشك : وهو كفر الظن ، والدليل قوله تعالى : { ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن ان تبيد هذه أبداً * وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها ثواباً وخيراً منقلباً * قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلاً * لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحداً } .(12/7)
النوع الرابع : كفر الإعراض : والدليل قوله تعالى : { والذين كفروا عما أنذروا معرضون } .
النوع الخامس : كفر النفاق : والذليل قوله تعالى : { ذلك بإنهم ءامنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون } .
النوع الثاني من نوعي الكفر : وهو كفر اصغر لا يخرج من الملة ، وهو كفر النعمة : والدليل قوله تعالى : { وضرب مثلاُ قرية كانت ءامنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون }.
أنواع النفاق...
النفاق نوعان : اعتقادي وعملي :
النفاق الاعتقادي : ستة انواع ، صاحبها من أهل الدرك الأسفل من النار :
الأول : تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم .
الثاني : تكذيب بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم .
الثالث : بغض الرسول صلى الله عليه وسلم .
الرابع : بغض بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم .
الخامس : المسرة بأنخفاض دين الرسول صلى الله عليه وسلم .
السادس : الكراهية بانتصار دين الرسول صلى الله عليه وسلم .
النفاق العملي : خمسة أنواع : والدليل قوله صلى الله عليه وسلم : ( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان ) وفي رواية : ( إذا خاصم فجر ، وإذا عاهد غدر ).
معنى الطاغوت ورؤوس أنواعه...
اعلم رحمك الله تعالى أنّ أول ما فرض الله على ابن آدم الكفر بالطاغوت والإيمان بالله ، والدليل قوله تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أنِ اعبدوا اللهَ واجتنبوا الطاغوت } .
فأمّا صفة الكفر بالطاغوت أن تعتقد بطلان عبادة غير الله وتتركها وتبغضها وتكفِّر أهلها وتعاديهم .(12/8)
وأمّا معنى الإيمان بالله أن تعتقد أنّ الله هو الإله المعبود وحده دون سواه. وتخلص جميع أنواع العبادة كلها لله. وتنفيها عن كل معبود سواه ،وتحب أهل الإخلاص وتواليهم. وتبغض أهل الشرك وتعاديهم. وهذه ملّة إبراهيم التي سفه نفسه مَن رغب عنها. وهذه هي الأسوة التي أخبر الله بها في قوله تعالى : { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا بُرآءُ منكم وممّا تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العدواة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده } .
والطاغوت عام في كل ما عُبد من دون الله ورضي بالعبادة من معبود أو متبوع أو مطاع في غير طاعة الله ورسوله فهو طاغوت.
والطواغيت كثيرة ورؤوسهم خمسة :
الأول : الشيطان الداعي إلى عبادة غير الله ، والدليل قوله تعالى : { ألم أعهد إليكم يا بني ءادم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين} .
الثاني : الحاكم الجائر المغير لأحكام الله ، والدليل قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم ءامنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً} .
الثالث : الذي يحكم بغير ما أنزل الله ، والدليل قوله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } .
الرابع : الذي يدّعي علم الغيب من دون الله ، والدليل قوله تعالى : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلُك من بين يديه ومن خلفه رصداً } ، وقال تعالى : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وماتسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } .
الخامس : الذي يعبد من دون الله وهو راض بالعبادة ، والدليل قوله تعالى : { ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين } .(12/9)
واعلم أن الإنسان ما يصير مؤمنا بالله إلا بالكفر بالطاغوت ، والدليل قوله تعالى : { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم } ، الرشد : دين محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والغي : دين أبي جهل ، والعروة الوثقى : شهادة أن لا إله إلا الله ، وهي متضمنة للنفي والإثبات ، تنفي جميع أنواع العبادة عن غير الله ، وتثبت جميع أنواع العبادة كلها لله وحده لا شريك له .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.(12/10)
تفسير
سور الفاتحة والإخلاص والمعوذتين
للإمام
محمد بن عبد الوهاب
رحمه الله
تفسير سورة الفاتحة
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:
اعلم أرشدك الله لطاعته, وأحاطك بحياطته, وتولاك في الدنيا والآخرة, أن مقصود الصلاة وروحها ولبها هو إقبال القلب على الله تعالى فيها, فإذا صليت بلا قلب فهي كالجسد الذي لا روح فيه, ويدل على هذا قوله تعالى: {فويل للمصلين* الذين هم عن صلاتهم ساهون} (سورة الماعون 4-5), ففسر السهو بالسهو عن وقتها, أي إضاعته- والسهو عن ما يجب فيها, والسهو عن حضور القلب, ويدل على ذلك الحديث الذي في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((تلك صلاة المنافق, تلك صلاة المنافق, تلك صلاة المنافق, يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعاً لايذكر فيها إلا قليلاً)) (رواه مسلم) .
فوصفه بإضاعة الوقت بقوله: ((يرقب الشمس)) وبإضاعة الأركان بذكره النقر , وبإضاعة حضور القلب بقوله: ((لا يذكر الله فيها إلا قليلا)).
إذا فهمت ذلك فافهم نوعا واحدا من الصلاة , وهو قراءة الفاتحة لعل الله أن يجعل صلاتك في الصلوات المقبولة المضاعفة المكفرة للذنوب.
ومن أحسن ما يفتح لك الباب في فهم الفاتحة حديث أبي هريرة الذي في صحيح مسلم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد (الحمد لله رب العالمين) قال الله: حمدني عبدي , فإذا قال: (مالك يوم الدين) قال الله: مجدني عبدي , فإذا قال: (إياك نعبد وإياك نستعين) قال الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل , فإذا قال: (اهدنا الصراط المستقيم , صراط الذين انعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل)) انتهى الحديث. (اخرجه مسلم).(13/1)
فإذا تأمل العبد هذا , وعلم أنها نصفان: نصف لله وهو أولها إالى قوله: (إياك نعبد) ونصف للعبد دعاء يدعو به لنفسه , وتأمل أن الذي علمه هذا هو الله تعالى , وأمره أن يدعو به ويكرره في كل ركعة , وأنه سبحانه من فضله وكرمه ضمن إجابة هذا الدعاء إذا دعاه بإخلاص وحضور قلب تبين له ما أضاع أكثر الناس.
قد هيئوك لأمر لو فطنت له فأربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
وها أنا أذكر لك بعض معاني هذه السورة العظيمة لعلك تصلي بحضور قلب , ويعلم قلبك ما نطق به لسانك , لأن ما نطق به اللسان ولم يعقد عليه القلب ليس بعمل صالح كما قال تعالى: (يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم). (سورة الفتح 11). وأبدأ بمعنى الاستعاذة , ثم البسملة , على طريق الاختصار والإيجاز , فمعنى (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) ألوذ بالله وأعتصم بالله وأستجير بجنابه من شر هذا العدو , أن يضرني في ديني أو دنياي , أو يصدني عن فعل ما أمرت به , أو يحثني على فعل ما نهيت عنه , لأنه أحرص ما يكون على العبد إذا أراد عمل الخير من صلاة وقراءة أو غير ذلك , وذلك أنه لا حيلة لك في دفعه إلا بالاستعاذة بالله لقوله تعالى: (إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم). (سورة الأعراف 27) , فإذا طلبت من الله أن يعيذك منه , واعتصمت به كان هذا سببا في حضور القلب فاعرف معنى هذه الكلمة ولا تقلها باللسان فقط كما عليه أكثر الناس.
وأما البسملة فمعناها أدخل في هذا الأمر من قراءة أو دعاء أو غير ذلك (بسم الله) لا بحولي ولا بقوتي , بل أفعل هذا الأمر مستعينا بالله , ومتبركا باسمه تبارك وتعالى , هذا في كل أمر تسمى في أوله من أمر الدين أو أمر الدنيا , فإذا أحضرت في نفسك أن دخولك في القراءة بالله مستعينا به , متبرئا من الحول والقوة كان هذا أكبر الأسباب في حضور القلب , وطرد الموانع من كل خير.(13/2)
(الرحمن الرحيم) اسمان مشتقان من الرحمة أحدهما أبلغ من الآخر , مثل العلام والعليم , قال ابن عباس: هما اسمان رقيقان احدهما أرق من الآخر أي أكثر من الآخر رحمة.
وأما الفاتحة فهي سبع آيات: ثلاث ونصف لله , وثلاث ونصف للعبد , فاولها (الحمد لله رب العالمين) فاعلم أن الحمد هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري , فأخرج بقوله الثناء باللسان الثناء بالفعل الذي يسمى لسان الحال فذلك نوع من الشكر.
وقوله على الجميل الاختياري أي الذي يفعله الإنسان بإرادته , وأما الجميل الذي لا صنع له فيه مثل الجمال ونحوه فالثناء به يسمى مدحا لا حمدا.
والفرق بين الحمد والشكر: أن الحمد يتضمن المدح والثناء على المحمود بذكر محاسنه سواء كان إحسانا إلى الحامد أو لم يكن , والشكر لا يكون إلا على أحسان المشكور , فمن هذا الوجه الحمد أعم من الشكر , لأنه يكون على المحاسن والإحسان , فإن الله يحمد على ما له من الأسماء الحسنى , وما خلقه في الآخرة والأولى , ولهذا قال: (الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا). (سورة الإسراء 111) , وقال: (الحمد لله الذي خلق السموات والأرض). (سورة الأنعام 13) , إلى غير ذلك من الآيات.
وأما الشكر فإنه لا يكون إلا على الإنعام, فهو أخص من الحمد من هذا الوجه, لكنه يكون بالقلب واليد واللسان, ولهذا قال تعالى: (اعملوا ءال داود شكراً) (سورة الإنعام , الآية: 1) , والحمد يكون بالقلب واللسان, فمن هذا الوجه الشكر أعم من جهة أنواعه, والحمد أعم من جهة أسبابه.(13/3)
الألف واللام في قوله: (الحمد) للاستغراق أي جميع أنواع الحمد لله لا لغيره , فأما الذي لا صنع للخلق فيه مثل خلق الإنسان, وخلق السمع والبصر والسماء والأرض والأرزاق وغير ذلك فواضح, وأما ما يحمد عليه المخلوق مثل ما يثني به على الصالحين والأنبياء والمرسلين, وعلى من فعل معروفاً خصوصاً إن أسداه إليك, فهذا كله لله أيضاً بمعنى أنه خلق ذلك الفاعل, وأعطاه ما فعل به ذلك, وحببه إليه وقواه عليه, وغير ذلك من أفضال الله الذي لو يختل بعضها لم يحمد ذلك المحمود فصار الحمد لله كله بهذا الاعتبار.
وأما قوله: (لله رب العالمين) فالله علم على ربنا تبارك وتعالى, ومعناه: الإله أي المعبود لقوله: (وهو الله في السموت وفي الأرض) (سورة الأنعام, الآية: 3), أي المعبود في السموات والمعبود في الأرض: (إن كل من في السموت والأرض إلا ءاتي الرحمن عبداً) (سورة مريم, الآية: 93), وأما الرب فعناه المالك المتصرف, وأما (العالمين) فهو اسم لكل ماسوى الله تبارك وتعالى فكل ماسواه من ملك ونبي وإنسي وجني وغير ذلك مربوب مقهور يتصرف فيه, فقير محتاج كلهم صامدون إلى واحد لاشريك له في الدين, وهو الغني الصمد, وذكر بعد ذلك (مالك يوم الدين) وفي قراءة أخرى (ملك يوم الدين) فذكر في أول هذه السورة التي هي أول المصحف الألوهية والربوبية والملك, كما ذكره في آخر سورة من المصحف (قل أعوذ برب الناس * ملك الناس) (سورة الناس, الآيات: 1-3).(13/4)
فهذه ثلاثة أوصاف لربنا تبارك وتعالى ذكرها مجموعة في موضه واحد في أول القرآن, ثم ذكرها مجموعة في موضع واحد في آخر القرآن ما يطرق سمعك من القرآن. فينبغي لمن نصح نفسه أن يعتني بهذا الموضوع, ويبذل جهده في البحث عنه, ويعلم أن العليم الخبير لم يجمع بينهما في أول القرآن ثم في آخره إلا لما يعلم من شدة حاجة العباد إلى معرفتها, ومعرفة الفرق بين هذه الصفات, فكل صفة لها معنى غير معنى الأخرى, كما يقال: محمد رسول الله , وخاتم النبيين, وسيد ولد آدم فكل وصف له معنى غير ذلك الوصف الآخر.
إذا عرفت أن معنى الله هو الإله, وعرفت أن الإله هو المعبود, ثم دعوت الله أو ذبحت له أو نذرت له فقد عرفت أنه الله , فإن دعوت مخلوقاً طيباً أو خبيثاً, أو ذبحت له أو نذرت له فقد زعمت أنه هو الله , فمن عرف أنه قد جعل شمسان أو تاجا (شمسان وتاج - ومثلهما يوسف - رجال كان الناس في عصر الشيخ يعتقدون فيهم الولاية, ويرفعون لهم من العبادة والدعاء ونحوها ما لا ينبغي أن يرفع إلا لله عز وجل) (راجع رسالة كشف الشبهات للشيخ) برهة من عمره هو الله, عرف ماعرفت بنو إسرائيل لما عبدوا العجل, فلما تبين لهم ارتاعوا, وقالوا ماذكر الله عنهم: (ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا قالوا لَئِنْ لم يرحمنا ربنا ريغفر بنا لنوكنن من الخسرين) (سورة الأعراف, الآية: 149).
وأما الرب فمعناه المالك المتصرف, فالله تعالى مالك كل شئ وهو المتصرف فيه, وهذا حق, ولكن أقر به عباد الأصنام الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم, كما ذكر الله عنهم في القرآن في غير موضع كقوله تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصر ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فيسقولون الله قل أفلا تتقون) (سورة يونس, الآية: 31).(13/5)
فمن دعا في تفريج كربته وقضاء حاجته, ثم دعا مخلوقاً في ذلك خصوصاً إن اقترن بدعائه نسبة نفسه إلى عبوديته مثل قوله في دعائه (فلان عبدك) أو قول (عبد علي) أو (عبد النبي أو الزبير) فقد أقر له بالربوبية, وفي دعائه علياً أو الزبير بدعائه الله تبارك وتعالى وإقراره له بالعبودية, ليأتي له بخير أو ليصرف عنه شراً مع تسمية نفسه عبداً له, قد أقر له الربوبية, ولم يقر لله رب العالمين كلهم بل جحد بعض ربوبيته, فرحم الله عبداً نصح نفسه, وتفطن هذه المهمات, وسأل عن كلام أهل العلم, وهم أهل الصراط المستقيم, هل فسروا السورة بهذا أم لا؟.
وأما الملك فيأتي الكلام عليه, وذلك أن قوله: (مالك يوم الدين) وفي القراءة الأخرى (ملك يوم الدين) فمعناه عند جميه المفسرين كلهم ما فسره الله به في قوله: (ومآ أدراك مايوم الدين * ثم مآ ما أدراك ما يوم الدين * يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئٍذ لله) (سورة الأنفطار, الآيات: 17 - 19).
فمن عرف تفسير هذه الآية, وعرف تخصيص الملك بذلك اليوم, مع أنه سبحانه مالك كل شئ ذلك اليوم وغيره, عرف أن التخصيص لهذه المسألة الكبيرة العظيمة التي بسبب معرفتها دخل الجنة من دخلها, وبسبب الجهل بها دخل النار من دخلها, فيالها من مسألة لو رحل الرجل فيا أكثر من عشرين سنة لم يوفها حقها, فأين هذا المعنى والإيمان بما صرح به القرآن, مع قوله صلى الله عليه وسلم: (يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً), (أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة), من قول صاحب البردة:
ولن يضيق رسول الله جاهك بي إذا الكريم تحلى باسم منتقم
فإن لي ذمة منه بتسميتي محمداً وهو أوفي الخلق بالذمم
إن لم تكن في مادي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
فليتأمل من نصح نفسه هذه الأبيات ومعناها, ومن فتن بها من العباد, وممن يدعي انه من العلماء, واختاروا تلاوتها على تلاوة القرآن.(13/6)
هل يجتمع في قلب عبد التصديق بهذه الأبيات والتصديق بقوله: (يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئٍذ لله) وقوله: (يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً) لا والله , لا والله , لا والله إلا كما يجتمع في قلبه أن موسى صادق, وأن فرعون صادق, وأن محمداً صادق على الحق, وأن أبا جهل صادق على الحق. لا والله ما استويا ولن يتلاقيل حتى تشيب مفارق الغربان.
فمن عرف هذه المسألة وعرف البردة, ومن فتن بها عرف غربة الإسلام, وعرف أن العداوة واستحلال دمائنا وأموالنا ونسائنا, ليس عند التكفير والقتال, بل هم الذين بدءونا بالتكفير والقتال, بل عند قوله: (فلا تدعوا مع الله أحداً) (سورة الجن, الآية: 18) , وعند قوله: (اولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب) سورة الإسراء, الآية: 57), وقوله: (له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشئ) (سورة الرعد, الآية: 14), فهذه بعض المعاني في قوله: (مالك يوم الدين) بإجماع المفسرين كلهم, وقد فسرها الله سبحانه في سورة ((إذا السماء انفطرت) كما قدمت لك.
واعلم أرشدك الله أن الحق لا يتبين إلا بالباطل كما قيل: وبضدها تتبين الأشياء.
فتأمل ما ذكرت لك ساعة بعد ساعة, ويوماً بعد يوم وشهراً بعد شهر, وسنة بعد سنة لعلك أن تعرف ملة أبيك إبرهيم ودين نبيك فتحشر معهما, ولا تصد عن الحوض يوم الدين, كما يصد عنه من صد عن طريقهما , ولعلك أن تمر على الصراط يوم القيامة, ولا تزل عنه كما زل عن صراطهما المستقيم في الدنيا من زل, فعليك بإدامة دعاء الفاتحة مع حضور القلب وخوف وتضرع.(13/7)
وأما قوله: (إياك نعبد وإياك نستعين) فالعبادة كمال المحبة وكمال الخضوع, والخوف والذل, وقدم المفعول وهو إياك, كرر للاهتمام والحصر أي لا نعبد إلا إياك, ولا نتوكل إلا عليك, وهذا هو كمال الطاعة, والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين, فالأول التبرؤ من الشرك, والثاني التبرؤ من الحول والقوة فقوله: (إياك نعبد) أي إياك نوحد, ومعناه أنك تعاهد ربك أن لا تشرك في عبادته أحداً, لا ملكاً ولا نبياً ولا غيرهما, كما قال للصحابة: (ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبين أرباباً أيامركم بالكفر بعذ إذ أنتم مسلمون) (سورة آل عمران, الآية: 80),فتأمل هذه الآية واعرف ما ذكرت لك في الربوبية, أنها التي نسبت إلى تاج ومحمد بن شمسان, فإذا كان الصحابة لو يفعلوها مع الرسل كفروا بعد إسلامهم فكيف بمن فعلها في تاج وأمثاله؟
وقوله: (وإياك نستعين) هذا فيه أمران أحدهما سؤال الإعانة من الله وهو التوكل والتبرئ من الحول والقوة. وأيضاً طلب الإعانة من الله كما مر أنها من نصف العبد.
وأما قوله: (اهدنا الصراط المستقيم) فهذا هو الدعاء الصريح الذي هو حظ العبد من الله , وهو التضرع إليه والإلحاح عليه أن يرزقه هذا المطلب العظيم, الذي لم يعط أحد في الدنيا والآخرة أفضل منه, كما من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح بقوله: (ويهديك صراطاً مستقيماً) (سورة الفتح, الآية: 2), والهداية هم هنا التوفيق والإرشاد, وليتأمل العبد ضرورته إلى هذه المسألة, فإن الهداية إلى ذلك تتضمن العلم والعمل الصالح على وجه الاستقامة والكمال والثبات على ذلك إلى أن يلقى الله.(13/8)
والصراط: الطريق الواضح والمستقيم الذي لا عوج فيه, والمراد بذلك الدين الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وهو (صراط الذين أنعمت عليهم) وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وأنت دائماً في كل ركعة تسأل الله أن يهديك إلى طريقهم, وعليك من الفرائض أن تصدق الله أنه هو المستقيم, وكلما خالفه من طريق أو علم أو عبادة, فليس بمستقيم, بل معوج. وهذه أول الواجبات من هذه الآية, وهو اعتقاد ذلك بالقلب, وليحذر المؤمن من خدع الشيطان, وهو اعتقاد ذلك مجملاً وتركه مفصلاً, فإن أكفر الناس من المرتدين يعتقدون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق وإن ما خالفه باطل, فإذا جاء بما لا تهوى أنفسهم فكما قال تعالى: (فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون) (سورة المائدة, الآية: 70).
وأما قوله: (غير المغضوب عليهم ولا الضآلين) فالمغضوب عليهم هم العلماء الذين لم يعملوا بعلمهم, والضالون العاملون بلا علم, فالأول صفة اليهود, والثاني صفة النصارى, وكثير من الناس إذا رأي في التفسير أن اليهود مغضوب عليهم وأن النصارى ضالون, ظن الجاهل أن ذلك مخصوص بهم, وهو يقر أن ربه فارض عليه أن يدعو بهذا الدعاء, ويعوذ من طريق أهل هذه الصفات, فياسبحان الله كيف يعلمه الله ويختار له, ويفرض عليه أن يدعو به دائماً مع ظنه أنه لا حذر علي منه, ولا يتصور أنه يفعله, هذا من ظن السوء بالله , والله أعلم هذا آخر الفاتحة.
أما آمين فليست من الفاتحة, ولكنها تأمين على الدعاء, معناها اللهم استجب, فالواجب تعليم الجاهل لئلا يظن أنها من كلام الله.
مسائل مستنبطة من سورة الفاتحة :
الأولى: (إياك نعبد وإياك نستعين) فيها التوحيد.
الثانية: (اهدنا الصراط المستقيم) فيها المتابعة.
الثالثة: أركان الدين الحب والرجاء والخوف. فالحب في الأولى والرجاء في الثانية والخوف في الثالثة.(13/9)
الرابعة: هلاك الأكثر في الجهل بالآية الأولى أعني استغراق الحمد واستغراق ربوبية العالمين.
الخامسة: أول المنعم عليهم وأول المغضوب عليهم والضالين.
السادسة: ظهور الكرم والحمد في ذكر المنعم عليهم.
السابعة: ظهور القدرة والمجد في ذكر المغضوب عليهم والضالين.
الثامنة: دعاء الفاتحة مع قوله لا يستجاب الدعاء من قلب غافل.
التاسعة: قوله (صراط الذين أنعمت عليهم) فيه حجة الإجماع.
العاشرة: مافي الجملة من هلاك الإنسان إذا وكل إلى نفسه.
الحادية عشر: مافيها من النص على التوكل.
الثانية عشر: مافيها من التنبية على بطلان الشرك.
الثالثة عشرة: التنبيه على بطلان البدع. الرابعة عشرة: آيات الفاتحة كل آية منها لو يعلمها الإنسان صار فقيهاً, وكل آية أفرد معناها بالتصانيف.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(13/10)
تفسير سورة الإخلاص
قال رحمه الله تعالى في تفسير سورة الإخلاص :
عن عبد الله بن حبيب قال: (خرجنا في ليلة ممطرة فطلبت النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي لنا فأدركناه، فقال: قل، فلم أقل شيئا، قال: قلت يا رسول الله ما أقول ؟ قال: {قل هو الله أحد} و المعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك كل شيء) قال الترمذي حديث حسن صحيح.
والأحد الذي لا نظير له، والصمد الذي تصمد الخلائق كلها إليه في جميع الحاجات، وهو الكامل في صفات السؤدد.
فقوله {أحد} نفي النظير والأمثال، وقوله {الصمد} إثبات صفات الكمال، وقوله {لم يلد ولم يولد} نفي للصاحبة والعيال، {ولم يكن له كفوا أحد} نفي الشركاء لذي الجلال.(13/11)
تفسير الفلق
قال رحمه الله في تفسير سورة الفلق:
بسم الله الرحمن الرحيم
{قل أعوذ برب الفلق * من شر ما خلق * ومن شر غاسق إذا وقب * ومن شر النفثت في العقد * ومن شر حاسد إذا حسد}.
فمعنى {أعوذ}: أعتصم والتجي ء وأتحرز، وتضمنت هذه الكلمة مستعاذا به ومستعاذا منه ومستعيذا. فأما المستعاذ به: فهو الله وحده رب الفلق الذي لا يستعاذ إلا به.
وقد أخبر الله عمن استعاذ بخلقه، أن استعاذته زادنه رهقا (وهو الطغيان)، فقال: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا} (سورة الجن).
و {الفلق}: هو بياض الصبح، إذا انفلق من الليل، وهو من أعظم آيات الله الدالة على وحدانيته.
وأما المستعيذ: فهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل من اتبعه إلى يوم القيامة.
وأما المستعاذ منه فهو أربعة أنواع:
الأول: قوله: {من شر ما خلق} وهذا يعم شرور الأولى والآخرة، وشرور الدين والدنيا.
الثاني: قوله: {ومن شر غاسق إذا وقب} والغاسق: الليل، إذا وقب: أي أظلم ودخل في كل شيء، وهو محل تسلط الأرواح الخبيثة.
الثالث: قوله: {ومن شر النفثت في العقد} وهذا من شر السحر، فإن النفاثات: السواحر التي يعقدن الخيوط وينفثن على كل عقدة حتى ينعقد ما يردن من السحر، والنفاثات: مؤنث، أي الأرواح والأنفس، لأن تأثير السحر إنما هو من جهة الأنفس الخبيثة.
الرابع: قوله: {ومن شر حاسد إذا حسد} وهذا يعم إبليس وذريته لأنهم أعظم الحساد لبني آدم أيضا. وقوله: {إذا حسد} لأن الحاسد إذا أخفى الحسد ولم يعامل أخاه إلا بما يحبه الله، لم يضر المحسود.(13/12)
تفسير الناس
قال رحمه الله في تفسير سورة الناس:
بسم الله الرحمن الرحيم
{قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس * من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس}.
قوله: {قل أعوذ برب الناس} فقد تضمنت أيضا ذكر ثلاثة:
الأول: الإستعاذة وقد تقدمت.
الثاني: المستعاذ به.
الثالث: المستعاذ منه.
فأما المستعاذ به: فهو الله وحده لا شريك له رب الناس الذي رزقهم ودبرهم، وأوصل إليهم مصالحهم ومنع عنهم مضارهم.
{ملك الناس} أي المتصرف فيهم وهم عبيده ومما ليكه، المدبر لهم كما يشاء، الذي له القدرة والسلطان عليهم، فليس لهم ملك يهربون إليه إذا دهمهم أمره، يخفض ويرفع ويصل ويقطع ويعطي ويمنع.
{إله الناس} أي معبودهم الذي لا معبود لهم غيره، فلا يدعى ولا يرجى ولا يخلق إلا هو، فخلقهم وصورهم وأنعم عليهم وحماهم مما يضرهم بربوبيته، وقهرهم وأمرهم ونهاهم، وصرفهم كما يشاء بملكه، واستعبدهم بالهيبة الجامعة لصفات الكمال كلها.
وأما المستعاذ منه: فهو الوسواس، وهو الخفي الإلقاء في النفس.
وأما الخناس: فهو الذي يخنس ويتأخر ويختفي، وأصل الخنوس: الرجوع إلى الوراء، وهذان وصفان لموصوف محذوف وهو: الشيطان، وذلك أن العبد إذا غفل جثم على قلبه وبذل فيه الوساوس التي هي أصل الشر، فإذا ذكر العبد ربه واستعاذ به خنس.
قال قتادة: (الخناس له خرطوم كخرطوم الكلب، فإذا ذكر العبد ربه خنس). ويقال رأس كرأس الحبة يضعه على ثمرة القلب ويمنيه ويحدثه، فإذا ذكر الله خنس، وجاء بناؤه على الفعال الذي يتكرر منه، فإنه كلما ذكر الله انخنس، وإذا غفل عاد.
وقوله: {من الجنة والناس}: يعني أن الوسواس نوعان: إنس وجن، فإن الوسوسة: الإلقاء الخفي، لكن إلقاء الإنس بواسطة الأذن، والجني لا يحتاج إليها، ونظير اشتراكهما في الوسوسة اشتراكهما في الوحي الشيطاني في قوله: {وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون} (الأنعام).
والله أعلم .
والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.(13/13)
مؤلفات الشيخ الداعية محمد بن عبد الوهاب - الخطب المنبرية
للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله .
قام بالمقابلة والتصحيح الشيخ صالح بن عبد الرحمن الأطرم ومحمد بن عبد الرزاق الدويش
( الخطبة الأولى لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب )
الحمدُ لله الذي بنعمته اهتدى المهتدون ، وبعدله ضل الضَّالون . لا يُسئل عما يفعل وهم يُسئلون . أحمدهُ سبحانه حمد عبد نزه ربه عما يقول الظالمون . وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له . وسبحان الله رب العرش عما يصفون . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخليله الصادقُ المأمون . اللهمّ صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الذين هم بهديه مستمسكون . وسلِّمْ تسليماً كثيراً .
أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله حقَّ تُقاته . وسارعوا إلى مغفرته ومرضاته . وأجيبوا الداعيَ إلى دار كرامته وجناته . ولا تغرنّكُم الحياةُ الدنيا بما فيها من زهرةُ العيش ولذّاته . فقد قَرُبَ الرحيل وذُهِبَ بساعات العمر وأوقاته . واعلموا أن الخير كله بحذافيره في الجنة ، فأدلجوا في السير إليها . والشر كله بحذافيره في النار ، فاجتهدوا في الهرب منها . ألا وأن الدنيا عَرَض حاضر ، يأكل منها البر والفاجر ، والمؤمن والكافر . والآخرة وعد صادق ، يحكم فيها ملك قاهر .
فلا تغُرَّنّكُم الحياة الدنيا فإنها دار بلاء ، ومنزلُ ترحة وعناء . نَزَعَتْ عنها نفوسُ السعداء , وانتُزعت بالكره من أيدي الأشقياء ، وحال بينهم وبيم ما أمّلوه القدر والقضاء . ضُربت لكم بها المقاييسُ والأمثال . وقُرِّبت لكم الحقيقةُ بالشبه والمثال ، فقال صلى الله عليه وسلم "مالي وللدنيا . إنما مَثَل الدنيا كراكب قال في ظل دَوْحة" .(14/1)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { إنّما مَثَلُ الحياةِ الدُّنيا كماءٍ أنزلناهُ من السماءِ فاختلط به نباتُ الأرضِ مما يأكلُ الناسُ والأنعام ، حتى إذا أخَذتِ الأرضُ زُخْرُفَها وازَّينتْ وظنَّ أهلُها أنهم قادرون عليها أتاها أمرُنا ليلا أو نهاراً فجعلناها حَصِيداً كأن لم تَغْنَ بالأمس ، كذلك نُفَصل الآياتِ لقوم يتفكّرون . واللهُ يدعو إلى دار السّلامِ ويهدي مَن يشاءُ إلى صِراطٍ مستقيم . للّذين أحسنوا الحسنى وزيادَة ، ولا يَرْهَقُ وجوهَهم قَتَرٌ ولا ذِلّة ، أُولئك أصحابُ الجنة هم فيها خالدون . والذينَ كسبوا السيئاتِ جزاءُ سيئةٍ بمثلِها وتَرهقُهم ذِلّة ، ما لهم من الله من عاصم ، كأنّما أُغشِيتْ وجُوهُهُمْ قِطعاً من الليلِ مُظلماً أُولئك أصحابُ النار هم فيها خالدون } بارك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم . أقول قولي هذا وأستغفر اللهَ العظيم الجليل ، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب . فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
( خطبة له أيضاً )
الحمد لله العلي العظيم القادر ، هو الأولُ والآخر والباطن والظاهر ، عالم الغيب والشهادة المطلع على السرائر والضمائر . خلق فقدَّر ودبّر فيسر ، فكل عبد إلى ما قَدَّره عليه وقضاه صائر . أحمده سبحانه على خفيّ لطفه ، وجزيل بره المتظاهر . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ولد ولا مظاهر . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صاحب الآيات والمعجزات والبصائر . اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن على سبيله إلى الله سائر . وسلم تسليماً كثيراً .(14/2)
أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى ، واعملوا ليوم تنكشف فيه السرائر ، وتظهر فيه مخبآت الصدور والضمائر ، وتدور فيه على المجرمين الدوائر . وتحصى فيه الصغائر والكبائر . يُرفع فيه لواءُ الخزي لكل ناكث للعهد غادر . تُنصب فيه موازين الأعمال وتنشر الصحائف ، فكل عبد إلى ما قدمه لنفسه صائر . فآخذٌ كتابه بمينه وآخذ كتابه بشماله يا خيبةَ الظالم والفاجر ، ويا سعادة من استجاب لله ورسوله من ذوي الإيمان والبصائر .
فاتقوا الله عباد الله فإن تقواه أنفع الوسائل والذخائر ، ولا تكونوا كالذين بدّلوا نعمة الله كفراً ولم يلتفتوا إلى ما أمامهم من الموارد والمصادر .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { وكلَّ إنسانٍ ألزمناهُ طائرَه في عنقهِ ونُخرجُ له يومَ القيامة كتاباً يلقاه منشورا . اقرأ كتابَكَ كفى بنفسك اليومَ عليك حسيبا . مَنِ اهتدى فإنّما يهتدي لنفسِه ، ومَنْ ضلّ فإنّما يضِلُّ عليها ؛ ولا تَزِرُ وازرةٌ وِزْرَ أُخرى ، وما كنّا مُعَذِّبينَ حتى نَبْعَثَ رسولا . وإذ أرَدْنا أن نُهلِكَ قَريةً أمرنا مُتْرَفِيها ففَسقوا فيها فحقَّ عليها القولُ فَدَمّرْناها تدميراً . وكم أهلكْنا من القُرونِ مِنْ بَعْدِ نوحٍ ، وكفى بربِّك بذُنوبِ عِباده خبيراً بَصيراً }
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل ، لي ولكم وسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .(14/3)
( خطبة له أيضاً )
الحمد لله الذي ظهر لأوليائه بنعوتِ جلاله . وأنار قلوبَ أصفيائه بمشاهدة صفات كماله . وتحبب إلى عباده بما أسداه إليهم من إنعامه وإفضاله . أحمده سبحانه حمدَ عبد أخلص لله في أقواله وأفعاله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا معين في تدبيره وأفعاله . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله نبي أنعم الله على جميع أهل الأرض ببعثه وإرساله . اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى جميع أصحابه وآله وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعدُ فيا أيها الناس اتقوا اللهَ تعالى فإنَّ تقواه عليها المعوَّل . واشكروه على ما أولاكم من الإنعام والخير الكثير وخَوَّل . وعليكم بما كان عليه السلف الصالح والصدرُ الأوَّل . وتدبروا ما جاء به نبيُّكم محمد صلى الله عليه وسلم من الحكمة والكتاب المنزَّل . واعتبروا بمن كان قبلكم ممن علا في الأرض وأمّل وتموَّل . فجاءهم هاذِمُ اللذات وكان الأجل مما أمّلوه أعجل . وسطا بهم رَيْبُ المنون مسرعاً فما توانى في أخذهم وما أمهل . فاستحال النعيم عذاباً ، وانعكس القصد وتحوّل . فاتقوا الله عبادَ اللهِ وحاسبوا أنفسكم قبل القدوم على الله . قال أميرُ المؤمنين عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا ، وزنوها قبل أن توزنوا ، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله ، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية"(14/4)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { فإذا نُفخَ في الصُّور فلا أنسابَ بينهُم يومئذ ولا يتساءَلون . فَمَن ثَقُلَتْ مَوازينُه فأولئك همُ المُفْلِحون . ومَنْ خَفّتْ مَوازينُه فأولئك الذين خَسِروا أنفُسَهم في جهنمَ خالدون . تَلفَحُ وُجوهَهُمُ النارُ وهم فيها كالحون . ألمْ تكنْ آياتي تُتْلى عليكم فكنتم بها تُكذِّبون . قالوا ربّنا غَلَبَتْ علينا شِقْوَتُنا وكنا قوماً ضالّين . ربّنا أخرجنا منها فإن عُدْنا فإنّا ظالمون . قال اخْسَئُوا فيها ولا تُكلِّمون . إنه كان فريقٌ من عبادي يقولون ربّنا آمنّا فاغْفرْ لنا وارْحمْنا وأنت خيرُ الراحمين . فاتّخَذْتُموهم سِخْرِيّا حتى أنسَوْكم ذِكري وكنتم منهم تَضْحَكون . إني جَزَيْتُهُم اليومَ بما صَبروا أنّهمْ همُ الفائزون } بارك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل ، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب . فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
( خطبة له أيضاً )
الحمدُ لله المحمود على كل حال . الموصوف بصفات الجلال والكمال . المعروف بمزيد الإنعام والإفضال . أحمدُه سبحانه وهو المحمود على كل حال ، وفي كل حال . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العظمة والجلال . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخليله الصادق المقال . اللهم صلّ على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه خير صحب وآل . وسلم تسليماً كثيراً .(14/5)
أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله حق تُقاته . وسارعوا إلى مغفرته ومرضاته . وأجيبوا الداعيَ إلى دار كرامته وجناته . ولا تغرّنكم الحياة الدنيا بما فيها من زهرة العيش ولذاته . فقد قَرُب الرحيل ، وذُهب بساعات العمر وأوقاته . ألا وإن المؤمن بين مخافتين : بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه ، وأجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه . فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ، ومن صحته لمرضه ، ومن حياته لموته ، ومن غناه لفقره ، فوالله ما بعدَ الموت من مُسْتَعْتَب ، وما بعد الموت من دار إلا الجنةُ أو النار . وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال "الكيّسُ من دان نفسَه وعمِلَ لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسَه هواها وتمنى على الله الأماني"
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { ليس بأمانِيكمْ ولا أمانِيّ أهلِ الكتاب ، مَنْ يَعْملْ سُوءاً يُجزَ بهِ ولا يجد له من دونِ الله ولياً ولا نصيراً . ومن يَعْمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مُؤْمِنٌ فأولئك يَدْخلونَ الجنةَ ولا يُظْلمون نَقِيرا }
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم . ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل . لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
( خطبة له أيضاً )
الحمدُ لله العليّ الأعلى ، الذي خلق فسوَّى ، والذي قدَّر فهَدى . له ملكُ السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى . الملكُ الحقُّ المبين الذي على العرش استوى ، وعلى الملك احتوى ، وقد وسعَ كلَّ شيءٍ رحمة وعلماً . أحمده سبحانه وبحمده يَلْهجُ أُولو الأحلام والنهى . وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له عالم السر والنجوى . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى كلمة التقوى . اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أئمة العلم والهدى . وسلم تسليماً كثيراً .(14/6)
أما بعدُ فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى ، وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يسمع ويرى . فقد طال إعراضُكم عن النبأ العظيم تغافلا وجهلا . وكثر اشتغالكم بالعَرض الخسيس الأدنى . وصار إقبالكم على ما يصدُّ عن الصراط السويّ والهدى . أما أيقظكم ما رأيتموه من حوادث القَدَر والقضا . أما أنذركم ما سمعتموه من أخبار من كذب وعصى . ومن أعرض عما جاءت به الرسل وغلب عليه الشقاء والهوى . كيف وجدوا عقوباتِ الذنوب ، وكيف كان الحال بمن بغى وطغى . بلغتهُم دعوة الرسل فلم يجيبوا . ورُفعت إليهم المواعظ فلم يلتفتوا ولم ينيبوا . فجاءهم أمر الله بغتة وأصيبوا . فهل تحسُّ منهم من أحد أو تسمعُ لهم رِكْزا . سل عنهم تلك القصورَ الدامرة ، والقبورَ الدائرة ، والعظامَ الناخرة . وكيف كان السؤال والجواب ، وهل وجدوا لهم من دون الله ملجأ ووزرا . فاتقوا الله عباد الله واعملوا ليوم العرض والجزاء . ولا تكونوا ممن أعرض عن ذكر ربه ولم يُرد إلا الحياةَ الدنيا .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { يا أيها الناسُ اتقوا ربّكُم واخْشَوْا يوماً لا يَجْزِي والدٌ عن وَلَدِه ولا مَوْلودٌ هو جازٍ عن والدهِ شيئا ، إنَّ وَعْدَ اللهِ حقُّ فلا تغرَّنّكُم الحياةُ الدنيا ولا يغرَّنّكُم بالله الغَرُور . إنَّ اللهَ عنده علمُ الساعة وينزِّل الغيث ويعلَمُ ما في الأرحامِ ، وما تَدْرِي نفسٌ ماذا تكسِبُ غداً ، وما تدري نفسٌ بأيِّ أرض تَموت ، إن الله عليمٌ خبير }
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم . ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل . لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .(14/7)
( خطبة له أيضاً )
الحمدُ للهِ الذي أنزل على عبدهِ الكتابَ ولم يجعل له عِوَجا ، فصَّلَ وبَيّن وقرّر صراطاً مستقيماً ومنهجاً . ونصب ووضّح من براهين معرفته وتوحيده سلطاناً مبيناً وحججاً . أحمده سبحانه حمدَ عبد جعل له من كل همّ فرجا ، ومن كل ضيق مخرجا . وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له ، شهادةً ترفع الصادقين إلى منازل المقربين درجا . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي وضع الله برسالته عن المكلفين آصاراً وأغلالا وحرجا . اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه خير الأنام طريقة وأهداهم منهجاً . وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله حقَّ تقواه ، وسارعوا إلى مغفرته ورضاه . فقد خلقكم لأمر عظيم . وهيأكم لشأن جسيم . خلقكم لمعرفته وعبادته ، وأمركم بتوحيده وطاعته . وجعل لكم ميعاداً تجتمعون فيه للحكم فيكم وفصل القضاء بينكم ، فخاب وشقى عبد أخرجه الله من رحمته التي وسعت كل شيء وجنة عرضها السموات والأرض . وإنما يكون الأمان غداً لمن خاف واتقى ، وباع قليلا بكثير ، وفانياً بباق ، وشقوة بسعادة . عباد الله ، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين تتقلبون ، ويستخلفها بعدكم الباقون . ألا ترون أنكم في كل يوم تشيّعون غادياً ورائحاً إلى الله قد انقضى أجله وانقطع عمله فتضعونه في بطن صدع من الأرض غير ممهد ولا موسّد قد خلع الأسباب ، وفارق الأحباب ، وواجه الحساب . فاتقوا الله عباد الله وبادروا بالتوبة قبل أن يغلق الباب ، ويسبل الحجاب .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { كلُّ نفسٍ ذائقةُ الموتِ ، وإنّما تُوَفَّوْنَ أجورَكمْ يوم القيامة ، فمن زُحْزِحَ عن النارِ وأُدْخِلَ الجنةَ فقد فاز ، وما الحياةُ الدنيا إلا متاعُ الغُرور }(14/8)
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم . ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل ، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
( خطبة له أيضاً )
الحمدُ لله فاطرِ الأرض والسموات . عالم الأسرار والخفيات . المطلع على الضمائر والنيات . أحاط بكل شيء علماً ، ووسع كل شيء رحمة وحلماً . وقهر كل مخلوق عزة وحكماً ، يعلم ما بين أيديهم وما خلفَهم ولا يحيطون به علماً . لا تدركه الأبصار ، ولا تغيره الدهور والأعصار ، ولا تتوهّمه الظنون والأفكار . وكل شيء عنده بمقدار ، أتقن كلَّ ما صنعه وأحكمه ، وأحصى كلَّ شيء وعَلَمه ، وخلق الإنسان وعلّمه . أحمدُه سبحانه على ما ألهمه من معلوم وفهّمه . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من عرف الحق والتزمه . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل من صدع بالحق وأسمعه ، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وسائر من نصره وكرمه . وسلم تسليماً كثيراً
أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله حق التقوى . واعرفوا ما دلت عليه هذه الكلمة من الحقيقة والمعنى . وتفطنوا لتفاصيل ذلك على القلوب والأعضاء وتدبروا كتاب الله واعرفوا ما فيه من العلم والهدى . وعالجوا به أمراض القلوب فهو الدواء النافع والشفاء وهو السبب الأعظم في حصول السعادة والسيادة في الآخرة والأولى . مَن تركه من جبار قصمه الله ، ومَن ابتغى الهدى من غيره أضله الله ، ومَن أعرض عنه استحوذ عليه الشيطان وتولاه . فهو حبل الله المتين . ونوره المبين . وصراطه المستقيم .(14/9)
قال جندب بن عبد الله رضي الله عنه : عليكم بالقرآن فإنه نور بالليل وهدًى بالنهار . فاعملوا به على ما كان من فقر وفاقة . فإن عرض بلاء فقدّم مالك دون نفسك . فإن تجاوز البلاء فقدم نفسك دون دينك . فإن المحروب مَن حُرِبَ دينه ، والمسلوب من سُلبَ دينه . إنه لا فاقة بعد الجنة ولا غنىً بعد النار . إن النار لا يُفكُّ أسيرها ولا يَسْتغني فقيرها .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { قال اهْبِطا منها جميعاً ، بعضُكمْ لبعضٍ عَدُوّ ، فإمّا يأتينّكُمْ مِنّي هُدًى فمن اتّبَع هُدَايَ فلا يَضِلُّ ولا يَشْقى . ومن أعرض عن ذِكري فإنَّ له مَعِيشةً ضَنْكا ونحشُره يومَ القيامة أعمى . قال رَبِّ لِمَ حَشرتَني أعمى وقد كنتُ بَصيرا . قال كذلك أتتكَ آياتُنا فنَسيتَها وكذلك اليومَ تُنْسى . وكذلك نَجْزِي مَن أسرفَ ولم يُؤمنْ بآياتِ ربِّه ولَعذابُ الآخرةِ أشَدُّ وأبقى }
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم . ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل . لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
( خطبة له أيضاً )
الحمد لله الكريم الذي أسبغ نعمه علينا باطنةً وظاهرة ، الرحيم الذي لم تزل ألطافه على عباده متوالية متظاهرة ، العزيز الذي خضعت لعزته رقاب الجبابرة . والقويِّ المتين الذي أباد من كذّب رسله من الأمم الطاغيةِ الكافرة . أحمده حمد عبد لم تزل ألطافه عليه متتابعة متواترة . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها النجاة في الدار الآخرة . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صاحب الآيات والمعجزات الباهرة . اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه النجوم الزاهرة ، وسلمْ تسليماً كثيراً .(14/10)
أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى ، فإن في تقواه كل خير جزيل . واحذروا أخذه وعقابه فإنه أليم وبيل . عباد الله ما هذا التكاسل وقد جاء الرحيل . وما هذا التغافل وقد وضح السبيل . وصار الأمر أوضح من أن يحتاج إلى دليل . أغرَّكم الغَرور بما أبداه من التسويف والتأميل . أم عندكم من الله عهد هو بالنجاة والسعادة كفيل . أم قد ظننتم حصول السلامة مع الإعراض عن معرفة الحق والدليل . ورجوتم نيلَ الفلاح وقد هجر فيما بينكم الوحي والتنزيل . هيهات هيهات خلاص الأكثرين واللهِ مستحيل .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { أفلَمْ يَهْدِ لهمْ كمْ أهلَكْنَا قبلَهمْ مِنَ القرونِ يمشون في مساكنهم ، إنَّ في ذلك لآياتٍ لأولي النُّهى . ولولا كلمةٌ سَبَقَتْ من ربِّك لكان لِزاماً وأجَلٌ مُسَمّى . فاصبرْ على ما يقولون وسَبح بحمد ربّكَ قبلَ طلوع الشمسِ وقبل غُروبها . ومِنْ آناء الليل فَسَبحْ وأطرافَ النهار لعلّكَ ترضى }
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم . ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل ، لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
( خطبة له أيضاً )
الحمدُ لله الذي له ما في السموات وما في الأرض . وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير . أحمده سبحانه على ما أسداه وأولاه من الإنعام والإكرام والخير الكثير . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ولد ولا ظهير . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله السراج المنير والبشير النذير . اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومَن على سبيله إلى الله يسير . وسلم تسليما كثيراً .(14/11)
أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله حق تقواه ، وسارعوا إلى مغفرته ورضاه . فقد خلقكم لأمر عظيم . وهيأكم لشأن جسيم . خلقكم لمعرفته وعبادته وأمركم بتوحيده وطاعته . وأخذ على هذا مواثيقكم ، وارتهن بحقه نفوسكم ، ووكَّل بكم الكرام الكاتبين يعلمون ما تفعلون ، ويكتبون ما تعملون . وإن قوماً جعلوا أعمارهم لغيرهم وسعيهم لنيل حظوظهم وشهواتهم العاجلة ولم يلتفتوا إلى ما خلقوا له ففجأهم ريب المنون ، وأخذوا وهم كارهون ، وحيل بين القوم وبين ما يشتهون ، ثم ردّوا إلى الله مولاهم الحق وضلَّ عنهم ما كانوا يفترون . وحاق بهم ما كانوا يعملون . وهذا كتاب الله لا تفنى عجائبه . ولا يطفأ نوره ولا يضل متبعه . فاستضيئوا منه ليوم الظلمة ، واستمسكوا منه بأوثق شافع في كل خطب وملمة .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { ألَمْ أعْهَدْ إليكمْ يا بني آدمَ أنْ لا تَعْبُدوا الشيطانَ إنه لكمْ عدوُّ مبين . وأنِ اعبدوني هذا صِراط مستقيم . ولقد أضلَّ منكم جِبِلا كثيراً أفلمْ تكونوا تعقِلون . هذهِ جهنَم التي كنتمْ تُوعَدُون . اصْلَوْها اليومَ بما كنتمْ تكفُرون . اليومَ نَختِمُ على أفواهِهمْ وتُكَلّمُنا أيديهمْ وتَشْهَدُ أرجُلُهمْ بما كانوا يَكْسِبُون . ولو نَشَاءُ لَطَمَسْنا على أعْيُنِهمْ فاستَبَقُوا الصراطَ فأنّى يُبْصِرون . ولو نَشاء لَمَسَخْناهم على مكانتهِم فما استَطاعوا مُضِيّاً ولا يَرْجِعون }
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم . ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل ، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .(14/12)
( خطبة له أيضاً )
الحمد لله الملك العزيز العلام . العليِّ العظيم الكريم السلام ، غافر الذنب وقابل التوب من جميع الآثام . أحمده سبحانه على ما اتصف به من صفات الجلال والإكرام . وأشكره على ما أسداه من جزيل الفضل والإنعام . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها الفوزَ بدار السلام . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أظهر الله به الإيمان والإسلام . اللهم صلي على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه البررة الكرام . وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله تقية من خاف وحذر واستقام ، والتزموا ما أوجبه عليكم من حقوق الإيمان والإسلام . وأحبوه تعالى بما غذاكم به من سوابغ المن والإنعام . واشكروه على ما أولاكم من جزيل الفضل والإكرام . عباد الله قد وضح السبيل فما هذا الإعراض والإحجام . وقد استُمع النذير فما هذا الإخلاد والدار ليست بدار مقام . هل يقنع بالسوم في هذه الدار ويرضاه لنفسه إلا أشباه الأنعام . عباد الله قد سار المؤمنون وشمروا إلى دار السلام . وصاموا عن محارم الله والآثام . فما أفطروا إلا يوم القدوم على الملك السلام . فنالوا من كرامته ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من الأنام . إن الله غرس جنة عدن بيده فقال لها : تكلمي ، قالت { قَدْ أفْلَحَ المؤْمنون }
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم { قد أفْلَحَ المؤْمنون الذينَ همْ في صلاتهْمْ خاشِعون . والذين هم عن اللغو مُعْرِضون . والذين همْ للزكاةِ فاعلون . والذين هم لِفُروجِهِمْ حافِظونَ . إلاّ على أزواجهم أو ما مَلَكَتْ أيمانُهم فإنهمْ غيرُ مَلُومِينَ . فمن ابتَغى وراءَ ذلكَ فأولئكَ همْ العادُونَ ، والذين همْ لأماناتِهم وعَهْدِهمْ راعون ، والذينَ همْ على صَلواتهمْ يحافظون أُولئك هُم الوارِثون الذين يَرِثون الفِرْدَوْسَ هم فيها خالدون } .(14/13)
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل ، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب . فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
( خطبة له أيضاً )
الحمدُ لله الغني الحميد ، المبديء المعيد ، ذي العرش المجيد ، الفعال لما يريد . أحاط بكل شيء علماً وهو على كل شيء شهيد . أحمده سبحانه على ما أولاه من الإنعام والإكرام والتسديد . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العزيز الحميد . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل من دعا إلى الإيمان والتوحيد . اللهم صلِّ على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم من صالحي العبيد . وسلم تسليما كثيراً .
أما بعد فيا أيها الناس . اتقوا الله تعالى حق التقوى . وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يسمع ويرى . وإياكم والاغترار بزهرة الحياة الدنيا . فقد اغتر بها قوم قبلكم فأوردهم موارد العطب والردى . أسكرتهم برونقها فما أفاقوا إلا وهم في عسكر الموتى . كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وعدداً . كانوا أطول منكم آمالا وأحسن أثاثاً ومنظراً . سرت إليهم الأقدار فما ونت في سيرها وما أبقت منهم أحداً . فما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون لمّا نزل بهم القدر وقرب المدى . وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله ولم يجدوا لهم من دونه موئلا وملتحداً . فانتبهوا رحمكم الله واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله .(14/14)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { وكم مِنْ قَريةٍ أهْلَكْناها فجاءها بأسُنا بياتاً أو هُمْ قائلون . فما كان دَعْواهُمْ إذ جاءهم بأسُنا إلا أن قالوا إنّا كنّا ظالِمين . فَنَسألنّ الذين أُرسِلَ إليهم ولنَسْألنَّ المُرْسَلين . فلنقصَّنَّ عليهم بعلمِ وما كنا غائِبين . والوزنُ يومئِذٍ الحقُّ فمن ثَقُلَتْ مَوازينُه فأولئكَ هُم المفلحون . ومن خَفّتْ موازينهُ فأولئكَ الذين خَسِروا أنفُسَهُمْ بما كانوا بآياتِنا يَظْلمون }
بارك الله لي ولكل في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل ، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب . فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
( خطبة له أيضاً )
الحمدُ لله عالم الغيب والشهادة ، القادر على تنفيذ ما قدّره وأراده . الحكيم في كل شيء قضاه حتى العجز والكيس والشقاوة والسعادة . أحمده سبحانه حمد عبد عظم رجاؤه للمغفرة والزيادة . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أعْظِمْ بها من شهادة . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام المتقين السادة . اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه نجوم الهداية والإفادة . وسلم تسليما كثيراً .(14/15)
أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى فإن تقواه أربح تجارة وبضاعة . واحذروا معصيته فقد خاب عبد فرط في أمر ربه وأضاعه . وعليكم بما كان عليه السلف الصالح والجماعة . فخذوا بهديهم وما كانوا عليه في المعتقد والعمل والسّمت والطاعة . واحذروا الظلمَ فإن الظلم عار ونار وشناعة . عباد الله . ما هذه الجراءة على ذي العزة والجلال . وما هذا الإعراض عن واسع الأنعام والأفضال . عباد الله ، هل تعي قلوبكم من النصح ما يقال . أم قد حال دون ذلكم الرانُ والأقفال تالله . لتسألُنّ عن الرسول ومن أرسله وما جاء به وما قد قال . فأعدّوا جواباً منجياً مطابقاً عند السؤال . قبل أن يفجأ الأجل ويحال بينكم وبين الآمال .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { وكمْ قَصَمْنا مِنْ قريةٍ كانتْ ظالمةً وأنشأنا بعدَها قوماً آخرين . أحسُّوا بأسَنا إذا هم منها يَرْكُضُون . لا تركُضوا وارجِعوا إلى ما أتْرِفْتُم فيه ومَسَاكِنكمْ لعلّكمْ تُسْألُون ، قالوا يا وَيْلَنا إنّا كنّا ظالِمين . فما زالتْ تلك دَعْواهم حتّى جَعَلْناهمْ حَصِيداً خامِدين } بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم . ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم . أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم الجليل ، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .(14/16)
( خطبة له أيضاً )
الحمدُ لله الذي عمّتْ آلاؤه جميعَ مخلوقاته . فأبى أكثرُ الناس إلا كفوراً . ونصب من الآيات الباهرات ما دل على وحدانيته فعميت بصائر الكافرين والمنافقين فما زادتهم إلا نفورا . وبصّر المؤمنين في التفكير في آياته فأشرقت قلوبهم بالإيمان به مَنّا منه وتيسيراً . فسبحانه من قسّام ما أعْدله ، ومن قهار ما أحلمه ، ومن جواد ما أكرمه ، ومن عليم ما أعلمه ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا يغادر صغيراً ولا كبيراً . أحمده سبحانه حمد عبد عرفه حق معرفته . وأشكره شكراً كثيراً . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته ولا في إلهيته ، تعالى عن ذلك علواً كبيراً ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالحق بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً . اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وسلم تسليما كثيراً .
أما بعد فيا أيها الناس ، اتقوا الله تعالى فقد أسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة فاشكروه ، وأوصاكم بالتمسك بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فاقبلوا وصية ربكم وأطيعوه . ولا تجعلوا أمره ونهيه وراء ظهوركم فيهلككم كما أهلك من قبلكم لمّا آسفوه . وتقربوا إليه بشكر نعمه عليكم وراقبوه ، فكم نعمة آتاكم وكم فتنة وقاكم وكم عدو كفاكم ، فاشكروه عباد الله على ما أولاكم ، فالسعيد من استعمل ما أوتيه من النعم في طاعة خالقه ومربيه ، والشقي من صرفه في إرادته وشهواته ولم يؤدّ حق الله تعالى الواجب فيه .(14/17)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { وإذ قال مُوسى لِقومه اذْكرُوا نعمةَ اللهِ عليكم إذْ أنْجاكمْ مِن آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومونَكم سُوء العَذابِ ويُذَبِّحُونَ أبْناءَكم ويَسْتَحْيونَ نِساءَكمْ وفي ذلِكمْ بَلاءٍ من ربِّكم عظيم . وإذْ تَأذَّنَ ربُّكمْ لئنْ شَكرتمْ لأزِيدَنَّكمْ ولئنْ كفَرْتمْ إن عَذابي لشديد . وقال موسى إن تكفُروا أنتمْ ومَن في الأرضِ جميعاً فإنَّ اللهَ لغنيُّ حميد }
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل ، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
( خطبة عند دخول رمضان له أيضاً )
الحمد لله الذي خصّ بالفضل والتشريف بعض مخلوقاته . وأودع فيها من عجائب حِكمِه وبديع إتقانه ، ما شهدت العقول السليمة بأنها من أكبر آياته . خلق فقدّر ، ودبّر فيسّر . وربك أعلم حيث يجعل رسالاته . ويختص من شاء بفضله وكراماته ، أحمده حمد عبد يعلم أنه هو المحمود على جميع أقضيته وأحكامه وتدبيراته . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فيما يستحقه على العبد من طاعاته وعباداته . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أظهر الله به الإسلام بعد اندراس قواعده وأفول شموخه ونسيان آياته . اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين له على دينه ومحبته وموالاته ، وسلم تسليما كثيراً .
أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى حق تُقاته . وسارعوا إلى مغفرته ومرضاته . قبل انصرام العمر وفوات أوقاته وساعاته . واعلموا أنه قد نزل بساحتكم شهر كريم ، وموسم عظيم ، خصّه الله على سائر الشهور بالتشريف والتكريم ، أنزل فيه القرآن العظيم . وفرض صيامه وجعله أحد أركان الإسلام التي لا يقوم بناؤه على غيرها ولا يستقيم . وسنّ قيامه نبيكم الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ،(14/18)
ففي الحديث "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" وفيه أيضاً "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" .
وفي الحديث "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غُمّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً" أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { يا أيُّها الذين آمنوا كتِبَ عليكُم الصيامُ كما كُتِبَ على الذين من قبلكم لعلّكمْ تتّقون ، أيّاماً مَعْدُوداتٍ فَمنْ كان منكم مريضاً أو عَلَى سَفَرٍ فعِدَّةٌ من أيام أُخَر ، وعلى الذين يُطيقونهُ فِدْيَةٌ طعامُ مِسْكين ، فمن تطوَّع خيراً فهو خيرٌ له ، وأنْ تصوموا خيرٌ لكمْ إن كنتم تعلمون ، شهرُ رَمضانَ الذي أُنْزِلَ فيه القرآنُ هُدًى للناسِ وبَيِّناتٍ مِنَ الهدَى والفُرْقان ، فمنْ شَهِدَ منكُم الشهرَ فلْيَصُمْه ومَن كان مَرِيضاً أو على سَفَرٍ فعدَّةٌ منْ أيّامٍ أُخَر ، يُريدُ اللهُ بكمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بكمُ العُسْر ولِتكْمِلُوا العِدَّةَ ولِتكبِّروا الله على ما هَداكمْ ولعلّكم تَشْكرون }
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل ، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب . فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
( الخطبة التي بعدها في رمضان )
الحمد لله الذي وفّق عبادَه المؤمنين لتلاوة كتابه الكريم ، وفتح عليهم من حقائق المعارف ولطائف العلوم ما عداهم به إلى صراطه المستقيم . وخصهم من مواهب برِّه وإحسانه بأسنى فضله العميم ، ومن على من شاء بالصدق في معاملته ، والله ذو الفضل العظيم أحمده سبحانه على ما أولاه من التعليم . واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العزيز الحكيم . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخليله النبي الكريم . اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم على الدين القويم وسلم تسليما كثيرا .(14/19)
أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى حق تقواه ، وسارعوا إلى مغفرته ورضاه . واحذروا أسباب سخطه ، فإن المؤمن من خاف الله واتقاه . عباد الله إنكم في شهر كريم ، وموسم عظيم ، متجر أولياء الله الصالحين . ومطلب الراغبين إلى الله في العتق من عذاب الجحيم . شهر تفتح فيه أبواب الجنات . وتجاب فيه الدعوات . وينشر الفضل العميم . شهر تكفر فيه السيئات . وتضاعف فيه الحسنات . وتقال فيه العثرات . ويكتب فيه منشور السعادة والتكريم .
فعظموه رحمكم الله بالقراءة والتكبير والركوع والسجود والتهليل والتسبيح والتحميد ، وأكثروا في أيامه من الصدقة والإحسان إلى الفقير والمسكين واليتيم . واحذروا ما يبطل العمل من الفعل السيء والقول الذميم . ففي الحديث ( عنه صلى الله عليه وسلم قال ) : "من لم يَدَعْ قولَ الزور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أن يَدَعَ طعامَه وشرابَه" وفيه أيضاً "رُبَّ صائم حظُّه من صيامه الجوعُ والعطش ، ورب قائم حظه من قيامه السهر والتعب" .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { سابِقوا إلى مَغفِرةٍ من ربّكمْ وجنّةٍ عَرْضُها كعَرْض السماءِ والأرض أُعِدَّتْ للذين آمنوا باللهِ ورُسُله ذلك فضلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ واللهُ ذو الفضل العظيم } بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ،
ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل ، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
( خطب بعدها )(14/20)
الحمدُ لله الذي وفق عباده المؤمنين لأداء الأعمال الصالحات ، وشرح صدورَ أوليائه المتقين للإيمان بما جاء به رسوله من الحكمة والآيات ، وكشف عن قلوب أحبابه حجب الجهالة والضلالات ، ويسر لهم من الباقيات الصالحيات ما يتبوّأون به منازل الجنات ، فضلا منه ونعمة وربك يخلق ما يشاء ويختار من المخلوقات . أحمده سبحانه على ما له من الأسماء الحسنى والصفات ، وأشكره على ما أسداه من الإنعام والبركات ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها رفيع الدرجات ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صاحب الآيات والمعجزات . اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ذوي الهمم العاليات ، وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد فيا أيها الناس ، اتقوا الله تعالى فإن بتقواه تحصل السعادة والنجاة ، واجتهدوا في طاعته فقد أفلح من اجتهد في الطاعات ، وعليكم بالصدق في معاملته فقد خاب من كذب الله في المعاملات ، وأخلصوا له القصد والنية فإنما الأعمال بالنيات ، وخصوا هذا الشهر العظيم بمزيد الطاعات والإكثار من الحسنات ، إن الحسنات يذهبن السيئات ، وتعرضوا لنفحات بره فإن لله في أيام دهركم نفحات ، قال أبو هريرة رضي الله عنه : صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فقال "آمين آمين آمين" فقيل له : يا رسول الله ، إنك صعدت المنبر فقلت آمين آمين آمين . فقال "أتاني جبرائيل عليه السلام فقال : يا محمد رغم أنف امريء دخل عليه شهر رمضان ثم خرج ولم يغفر له ، قل آمين ، فقلت آمين ، ثم قال : رغم أنف امريء أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة ، قل : آمين ، فقلت : آمين . ثم قال : رغم أنف امريء ذُكرتَ عنده فلم يصل عليك ، قل : آمين ، فقلت : آمين".(14/21)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبرائيل فيدارسه القرآن ، فلَرسولُ الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة ،
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { وإذا سَألك عبادي عني فإني قريبٌ أُجيبُ دعْوةَ الداع إذا دعان فلْيَسْتجيبوا لي ولْيُؤْمنوا بي لعلّهم يَرْشدون } . بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل ، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
( خطبة بعدها لرمضان )
الحمدُ لله العظيم الشأن ، الكبير السلطان ، خلق آدمَ من طين ثم قال له كن فكان ، أحسن كل شيء خَلْقه وأبدع الإحسان والإتقان ، أحمده سبحانه وحمدُه واجبٌ على كل إنسان ، وأشكره على ما أسداه من الإنعام والتوفيق للإيمان ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كثير الخير دائم السلطان ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صاحب الآيات والبرهان ، اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه حملة العلم والقرآن ، وسلم تسليما كثيراً .(14/22)
أما بعد فيا أيها الناس ، اتقوا الله تعالى حق تقواه ، وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يسمعه ويراه ، واعملوا ليوم ترجعون فيه إلى الله ، يوم تجد كل نفس ما عملت من خير مُحْضَراً وما عملت من سوء تودُّ لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا وهل ينفع المجرمَ ما يتمناه ، يوم يبعثر ما في القبور ، ويحصل ما في الصدور ، وينشر المكتوب والمسطور ، يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ، يوم يكشف للعبد غطاء عينيه ، ويعرف محصول عمله وما لديه ، ولا يروج البهرج يومئذ منه ولا عليه . يومئذ يعض الظالم على يديه أسفاً على ما اقترفه وما جناه ، فاتقوا الله عباد الله وبادروا إلى ما يحبه الرب من العمل ويرضاه ، واعلموا أن أفضل شهركم هذا عَشْرُه الأخيرة ، فيها ليلة مباركة فيها يُفرق كل أمر حكيم ، وتكتب الحوادث والتدبير ، يصل فيها الربُّ ويقطع ، ويعطي ويمنع ، ويخفض ويرفع ، ويميت ويحيي ، ويسعد ويشقي ، وتجري أقلام القضاء والتقدير ، فعظموها رحمكم الله تعالى بالقيام والركوع والسجود والقراءة والتكبير ، والتمسوها في أفراد العشر كما جاء بذلك الخبر عن البشير النذير . قالت عائشة رضي الله عنها : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تحرّوا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان" وقالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وشدّ المئزر .
وقال صلى الله عليه وسلم "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم { إنّا أنزلناهُ في ليلةِ القَدْر ، وما أدراك ما ليلةُ القدر ، ليلةُ القدر خيرٌ من ألفِ شهر ، تَنَزَّل الملائكةُ والرُّوح فيها بإذنِ ربِّهم من كل أمر ، سلامٌ هي حتى مَطْلع الفجر }(14/23)
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
( خطبة بعدها آخر رمضان )
الحمدُ لله جامع الناس ليوم لا ريب فيه ، عالم ما يُسِرُّه العبد وما يخفيه ، أحصى عليه خطرات فكره وكلمات فيه . من توكل عليه كفاه ووجد كفايته خيرا من توقيه ، ومن تواضع له رفعه وزاد بقدر تواضعه في ترقيه ، أحمده سبحانه وأتوب إليه وأستغفره وأستهديه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خالق كل شيء وهاديه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله معلم الإيمان وداعيه ، اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه ومن حمدت في الإسلام سيرته ومساعيه ، وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد فيا أيها الناس . اتقوا الله تعالى والتمسوا من العمل ما يحبه ويرضيه ، وسارعوا إلى مغفرته وجنته فالمؤمن مَنْ يرجو الله ويتقيه ، ولا تتبعوا خُطُواتِ الشيطان فإنه يضل من اتبعه ويغويه ، ويأمره بالفحشاء والمنكر وإلى طريق الجحيم يهديه . عباد الله هذه العبر تمر بكم كل وقت وحين . وكتاب الله يقص عليكم نبأ المكذبين والمعرضين ويحذركم ما نزل بمن عصى رسله من الجبارين والمتكبرين { وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تُسْكن من بعدهم إلا قليلا وكنا نحن الوارثين } .
عباد الله ، هذا شهر الصيام قُوّضت خيامه وتَصرَّمت أوقاته وأيامه . فمن أحسن فعليه بالإتمام ، والشكر لله على التوفيق والإسلام ، ومن فرط وأضاع فيما مضى من الأيام ، فعليه بالتوبة وحسن الختام ، فإن الأعمال بخواتيمها . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال "أول هذا الشهر رحمة ، وأوسطه مغفرة ، وآخره عتق من النار"(14/24)
واعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر على الذكر والأنثى والحر والعبد والصغير والكبير ، ففي الصحيح عن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه قال : كنا نعطيها زمن النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام أو صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير أو صاعاً من زبيب أو صاعاً من أقط ووقتها يوم العيد قبل الصلاة ، ويجوز إخراجها قبله بيوم أو يومين ،
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { يا أيها الذين آمنُوا لا تُلْهِكُمْ أموالكُمْ ولا أولادُكم عن ذِكْرِ اللهِ ومن يَفْعلْ ذلك فأولئك هُم الخاسرون ، وأنْفِقوا ممّا رَزَقْناكم مِنْ قبلِ أنْ يأتي أحدَكم الموتُ فيقول ربِّ لولا أخرتَني إلى أجل قريبٍ فأصَّدَّق وأكُنْ منَ الصالحين . ولنْ يُؤخرَ الله نفساً إذا جاء أجلُها والله خبير بما تعملون }
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل ، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .(14/25)
( خطبة عيد الفطر )
الله أكبر ( تسعاً نَسَقاً ، ثم يقول ) : الله أكبر عدد ما صام صائم وأفطر ، الله أكبر عدد ما هَلّل مهلّل وكبّر ، الله أكبر عدد ما التزم الملتزم ، الله أكبر عدد ما أفيض هناك من عبرة وندم ( الله أكبر كلما أهلوا من الميقات محرمين ) الله أكبر كلّما يَمّمُوا عرفة ملبّين "الله أكبر كلما سعوا بين المروة والصفا ، الله أكبر كلما هبطوا وادياً أو عَلَوْا شَرَفاً ، الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله الله أكبر الله أكبر ولله الحمد . الحمد لله الذي سهَّل للعباد طريق العبادة ويسر . وأفاض عليهم من خزائن جوده التي لا تحصر . وجعل لهم عيداً يعود في كل عام ويتكرر . نقّاهم به من دون الذنوب وطهَّر . فما مضى شهر الصيام إلا وأعقبه أشهر الحج إلى بيته المطهّر . أحمده سبحانه على نعمه التي لا تحصر . وأشكره وهو المستحق لأنْ يُحْمدَ ويشكر . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق فقدّر ، ودبّر فيسر . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صاحب اللواء والكوثر . نبي نُصر بالرعب مسيرة شهر حتى إنه ليخافه ملك بني الأصفر . نبي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، ومع ذلك قام على قدمه الشريف حتى تفطر . اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه ما لاح هلال وأنور ، وسلم تسليما كثيراً .
أما بعد فيا عباد الله اتقوا الله تعالى واعلموا أنه ليس السعيد من أدرك العيد ولبس الجديد ، وخدمته العبيد ، إنما السعيد من اتقى الله فيما يبدي ويعيد ، وفاز بجنة نعيمها لا يفنى ولا يبيد ، ونجى من نار حرها شديد وقعرها بعيد ، وطعام أهلها الزقوم وشرابهم الصديد ، ولباسهم القطران والحديد . عباد الله الصلاة الصلاة ، فمن حفظها فقد حفظ دينه ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع ، واعلموا أن الله تعالى أمركم ببر الوالدين وصلة الأرحام ، والصبر على فجائع الأيام ، والإحسان إلى الضعفاء والأيتام ،(14/26)
قال تعالى { وليخشَ الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا }
واجتنبوا الربا في المبايعات فإنه من أكبر السيئات ، ومن السبع الموبقات ، قال تعالى { يا أيّها الذين آمنوا اتقوا اللهَ وذَرُوا ما بَقِيَ من الرِّبا إن كنتم مُؤمنين ، فإن لم تفعلوا فأذَنوا بحربٍ من اللهِ ورسوله } . عباد الله أوفوا المكاييل والموازين ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين . واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين ،
قال تعالى { ويْلٌ للمطَفِّفينَ الذينَ إذا اكتالوا على الناس يَسْتَوفونَ وإذا كالوهمْ أو وَزنوهم يُخْسرون . ألا يظن أولئك أنهمْ مَبْعوثون ليومٍ عظيم } . ووقروا اليمين بالله في الخصومات ،
ففي الحديث " من اقتطع مال امريء مسلم بيمينه لقى اللهَ وهو عليه غضبان" ، قالوا : يا رسول الله وإن كان شيئاً يسيراً ؟ قال "وإنْ كان قضيباً من أراك" .
أيها الناس ، حجوا البيت الحرام ، فإن حجه أحد أركان الإسلام ، يكفر الله به جميع الذنوب والآثام ، قال تعالى { وإذْ بَوَّأنا لإبراهيمَ مكانَ البيتِ أنْ لا تشركَ بي شيئاً وطهِّرْ بيتيَ للطائفينَ والقائمينَ والركّعِ السُّجود . وأذِّنْ في الناسِ بالحجِّ يأتوكَ رِجالا وعلى كل ضامِرٍ يأتينَ مِنْ كلِّ فَجٍ عميقٍ لِيَشْهَدُوا مَنافعَ لهم ويَذْكروا اسمَ اللهِ في أيّام معلوماتٍ على ما رَزَقَهم مِن بَهِيمةِ الأنعام } . الله أكبر الله أكبر . لا إله إلا الله ، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد .
( الخطبة الأخيرة )(14/27)
الله أكبر ( سبعا نسقاً ) الحمد لله الذي خلق آدم من طين ، وجعل نسله من سلالة من ماء مهين . قسمهم بعلمه إلى أصحاب شمال وأصحاب يمين . قسمة كتبت فكتبت ، غير أن للسعادة والشقاوة عنواناً يستبين . أحمده سبحانه حمد أوليائه المتقين . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين . اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين .
أما بعد فيا عباد الله اتقوا الله تعالى وأطيعوه وعظموا أمره ولا تعصوه . وعليكم بغضّ البصر فإن النظرة سهم من سهام إبليس .
قال تعالى { قُلْ للمؤْمِنينَ يَغُضوا من أبصارِهم ويَحْفَظوا فُروجَهم ذلك أزكى لهمْ ، إنَّ الله خبيرٌ بما يصنعون . وقُلْ للمؤمنات يَغْضُضْنَ مِن أبصارهِن ويحفظنَ فُروجَهنّ ولا يُبدين زينتَهُنَّ إلا ما ظهر منها } الآية .
واجتنبوا الخُيَلاء والإسبال في الثياب ، فإن ذلك محرم بنص السنة والكتاب ، قال تعالى { ولا تَمْشِ في الأرضِ مَرَحاً إنك لَنْ تَخْرِقَ الأرضَ ولن تَبْلُغَ الجبالَ طولا }
وفي الحديث "من جرَّ إزارَه خُيَلاءَ لم ينظر اللهُ إليه" .
واعلموا أن الله تعالى أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال تعالى : { إنَّ اللهَ وملائكتَهُ يصلُون على النبي . يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما }(14/28)
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد النبي الهاشمي العربي الأوفى . وارْضَ اللهم عن الأربعة الخلفا . والسادة الحنفا . أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر الصحابة أهل الصدق والوفا ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان ولطريقتهم اقتفى ، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خير من تجاوز وعفا . اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمين ، وأذِلَّ الشرك والمشركين ، واحم حوزة الدين ، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين ، اللهم أقم علم الجهاد ، واقمع أهل الشرك والريب والفساد ، وانشر رحمتك على هؤلاء العباد ، يا من له الدنيا والآخرة وإليه المعاد . عباد الله : "إن الله يأمرُ بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ، وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقُضوا الأيمان بعدَ توكيدِها وقد جعلتمُ اللهَ عليكم كفيلا ، إن الله يعلم ما تفعلون" فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
( خطبة في الحث على الحج )
الحمد لله الذي هدى أولياءه لدين الإسلام ، ووفقهم لزيارة بيته الحرام ، وخصهم بالشوق إلى تلك المشاعر العظام ، وحط عن وفده جميع الأوزار والآثام . أحمدهُ سبحانه على جزيل الفضل والإنعام ، وأشكره على ما أولاه من التوفيق والإلهام ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق السلام ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير معلّم وإمام ، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه البررة الكرام ، وسلم تسليما كثيراً .(14/29)
أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى الذي اصطفى لكم الإسلام ، وفضلكم به على كافة الأنام ، وأسبغ عليكم نعمه الجسيمة العظام ، ونصب لكم الأدلة على صحة الدين ورفع الأعلام ، فاتقوا الله الذي تساءَلون به والأرحام ، ولا تكونوا ممن أعرض عن ذلك وسام مع بهيمة الأنعام ، واعلموا أن حج بيت الله الحرام أحد أركان الإسلام ، فرض على من استطاع السبيل إليه من الأنام ، وهو في تكفير الذنوب والسيئات واسطة عقد النظام ، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه "لقد هممت أن أنظر من استطاع الحج فلم يحج فأضع عليهم الجزية ، ما هم عندي بمسلمين"
"وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : من قدر على الحج فتركه فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً"
فاتقوا الله عباد الله وبادروا بالحج في هذا العام ، واحذروا ما يبطل العمل من الرفث والفسوق والآثام . ففي الحديث "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أُمه" وفيه أيضاً "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { وسارِعوا إلى مغفرةٍ من ربّكم وجنةٍ عرضُها السمواتُ والأرضُ أُعِدَّتْ للمتقينَ الذينَ يُنْفِقون في السراء والضراءِ والكاظمينَ الغَيْظَ والعافِينَ عنِ الناس ، واللهُ يحبُّ المحسنين . والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفُسهم ذكَروا اللهَ فاستغفروا لذُنوبِهم ومَن يَغفِرُ الذنوبَ إلا الله ولم يصرُّوا على ما فعلوا وهم يعلمون ، أُولئك جزاؤهم مغفرةٌ من ربهم وجناتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونِعمَ أجرُ العاملين }
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل ، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .(14/30)
( خطبة عيد النحر )
الله أكبر ( تسعاً نسقاً ) الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله الله أكبر الله أكبر ولله الحمد . الله أكبر كلما أحرموا من الميقات . وكلما لبى الملبون وزيد في الحسنات . الله أكبر كلما دخلوا فجاج مكة آمنين . وكلما طافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة ذاكرين مكبرين . الله أكبر كلما وقفوا بعرفة خاضعين مُخْبِتين منيبين مهلّلين . الله أكبر كلما وقفوا بالمشعر الحرام طالبين راغبين . الله أكبر كلما رموا الجمرات مكبرين . محلقين رءوسهم ومقصرين . الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله الله أكبر الله أكبر ولله الحمد . الحمد لله الذي خلق آدم بيده من صلصال كالفخار . وأسجد له ملائكته المقربين الأطهار . فسجدوا إلا إبليس أبى فباء باللعنة والصَّغار . مسح تعالى ظهر آدم بيده فاستخرج ذريته كالذر ونفّذ فيهم الأقدار . قبض قبضة وقال هؤلاء إلى الجنة لا أُبالي . وقبض قبضة فقال هؤلاء ولا أُبالي إلى النار . لا تنفعه طاعة المطيع ولا تضره معصية العاصي ، بل هو النافع الضَّار . أحمده سبحانه على نعمه الغزار . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له توحيداً مقتنىَ ليوم الحاجة والافتقار . متظاهرا عليه اللسان والجنان بالسر والجهار . مشهوداً به لربنا كما شهد به لنفسه وشهدت به ملائكته وأُولو العلم من خلقه لا إله إلا هو العزيز الغفار . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل من صلى ونحر ، وحج واعتمر . وجاهد المنافقين والكفار . اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه البررة الأخيار ، وسلم تسليماً كثيرا . أما بعد:(14/31)
فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى حق التقوى ، والتمسوا من الأعمال ما يحب ويرضى ، واعلموا أن يومكم هذا يوم فضيل ، وعيد جليل ، رفع الله قدره وأظهر ، سماه يوم الحج الأكبر ، وخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا اليوم فقال في خطبته "أيها الناس اعبدوا ربكم ، وصلوا خمسكم ، وصوموا شهركم ، وأطيعوا ذا أمركم ، تدخلوا جنة ربكم" ، وقال "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" ،
وفي هذا اليوم يجتمع الحاج بمنى يستكملون مناسك الحج ، ويتقربون إلى الله بالعج والثج ، يحيون سنة أبيهم إبراهيم بإهراق الدماء في هذا اليوم العظيم ، فإن الله ابتلاه بأن أمره يذبح ولده ، وفلذة كبده ، ليسلم قلبه لله ، ولا يكون فيه شركة لسواه ، فإن العباد لذلك خلقوا ، وبه أُمروا ، فامتثل أمر ربه طائعاً ، وخرج بابنه مسارعاً ،
وقال { يا بُنيَّ إني أرى في المنام أني أذبحُكَ فانظرْ ماذا ترى ، قال يا أبتِ افعلْ ما تُؤْمر }
لا متوقفاً ولا متفكراً ، فاستسلما جميعاً للقضاء المحتوم ، وسلما أمرهما للحي القيوم ، فلما تلّه للجبين ، وأهوى إلى حلقه بالسكين ، أدركته رحمة أرحم الراحمين ونودي أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا ، إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وأتى بكبش من الجنة فذبحه فداء ولده ، فأحيا نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم هذه السنّة وعظمها ، فأهدى في حجته مائة بدنة ، وضحى في المدينة بكبشين أملحين أقرنين أحدهما عن محمد وآل محمد والآخر عن أمة محمد ، فبادروا رحمكم الله إلى إحياء سنن المصطفين الأخيار ،(14/32)
ولا تكونوا ممن بخل وآثر كنز الدرهم والدينار ، على طاعة الملك الغفار ، فأكثر العلماء على أنها مستحبة ، وبعضهم يرى الوجوب مع اليسار ، وأفضلها أكرمها وأسمنها وأغلاها ، وتجزى الشاة عن الرجل وأهل بيته ، والبدنة عن سبع شياه . والمجزي من الضأن ما تم له ستة أشهر ، ومن الإبل ما تم له خمس سنين ، ومن البقر ما تم له سنتان . ومن المعز ما تم له سنة . ولا تجزى العوراء البين عورها ، ولا العرجاء البين ظلعها ، ولا المريضة البين مرضها ، ولا الهزيلة التي لا تنقى . ولا العضباء التي قطع أكثر أذنها أو قرنها .
وتنحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى يطعنها في وهدتها قائلا : بسم الله الله أكبر ، اللهم إن هذا منك ولك . ويتلفظ بالنية فيقول عن فلان . و "تذبح البقر والغنم على جنبها الأيسر . والسنّة جعل الأضاحي أثلاثاً : ثلثاً لأهله . وثلثاً لصديقه ، وثلثاً للفقراء . ووقت الذبح من انقضاء صلاة العيد إلى آخر اليوم الثالث من أيام التشريق .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { ذلك ومَن يُعَظّمْ شَعائِرَ اللهِ فإنّها من تقوى القلوب . لكم فيها مَنافع إلى أجل مسمّى ثم مَحِلُها إلى البيتِ العَتيق . ولكلّ أُمةٍ جعلنا مَنسَكا ليذكروا اسمَ اللهِ على ما رَزَقَهُم من بهيمةِ الأنعامِ ، فإلهكُمْ إله واحدٌ فله أسْلِموا وبشِّر المُخْبِتين . الذين إذا ذُكر اللهُ وَجِلَتْ قلوبُهم والصابِرينَ عَلَى ما أصابَهم والمُقِيمي الصلاة وممّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُون . والبُدْنَ جعلناها لكل مِنْ شعائرِ اللهِ لكم فيها خيرٌ ، فاذكروا اسمَ اللهِ عليها صَوافَّ ، فإذا وَجَبَتْ جُنوبُها فكلوا منها وأطعموا القانعَ والمُعتَر كذلك سَخّرناها لكلم لعلكم تشكرون . لن ينالَ اللهَ لحومُها ولا دماؤُها ولكن ينالُه التقوى منكم ، كذلك سَخّرها لكم لِتُكَبّروا اللهَ عَلَى ما هداكم وبشِّر المُحْسِنين }
الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله الله أكبر الله أكبر ولله الحمد .(14/33)
( الخطبة الأخيرة )
الحمد لله سيد الجمع والأعياد ، رافع السموات بغير عمد ترونها وباسط الأرض ومرسيها بالأطواد . أحمده سبحانه على نعمه التي لا يحصى لها تعداد . وأشكره وبالشكر تحلو النعم وتزداد . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أعدُّها ليوم التناد . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الهادي إلى سبيل الرشاد . الداعي إلى الله على بصيرة حتى دانت لدعوته العباد . اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه البررة الأمجاد . وسلم تسليم كثيراً .
أما بعد فيا عباد الله اتقوا الله تعالى واعلموا أنه ليس السعيد من أدرك العيد . ولبس الجديد . وركب الخيل المسوَّمةَ وخدمته العبيد . إنما السعيد من اتقى الله فيما يبدي ويعيد . وفاز بجنة نعيمها لا يفنى ولا يبيد . ونجا من نار حرها شديد ، وقعرها بعيد ، وطعام أهلها الزقوم وشرابهم الصديد ، ولباسهم القطران والحديد ، واتقوا الله عباد الله بامتثال أمره الأكيد ، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر ، فهذا شأن العبيد . واعلموا أن الله تعالى أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه:
فقال تعالى { إن الله وملائكته يصلّون على النبي ، يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلموا تسليماً }(14/34)
اللهم صل على عبدك ورسولك محمد النبي الهاشمي الأوفى . وارضَ اللهمّ عن الأربعة الخلفا . والسادة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر الصحابة أهل الصدق والوفاء . وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان ولطريقتهم اقتفى . وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خير من تجاوز وعفا . اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين . وأذلَّ الشرك والمشركين . واحم حوزة الدين . واجعل هذا البلد مطمئناً وسائر بلاد المسلمين . اللهم أقم عَلَم الجهاد ، واقمع سبيل أهل الشرك والريب والفساد ، وانشر رحمتك على هؤلاء العباد . يا من له الدنيا والآخرة وإليه المعاد . عباد الله إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، يعظكم لعلكم تذكرون ، وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا . إن الله يعلم ما تفعلون . فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
( خطبة في الأيام العشر من شهر ذي الحجة )
الحمد لله مشرف الأيام والشهور بعضها على بعض ، ومصرِّف الأحكام بالإبرام والنقض ، وموقظ القلوب الغافلة بالتذكير والوعظ ، الرّب المالك الذي ليس لربوبيته تغير ولا إزالة ، الإله الحق الذي ليست الإلهية الحق إلا له ، أحمده سبحانه على ما أولاه من إحسانه وإفضاله . وأشكره على جزيل بره ونواله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته وصفات كماله . شهادة أرجو بها النجاة من شدائد يوم الفزع وأهواله . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي أنعم الله على جميع أهل الأرض ببعثه وإرساله . اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى جميع أصحابه وآله ، وسلم تسليما كثيراً .(14/35)
أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى حق التقوى ، والتمسوا من الأعمال ما يحب ويرضى ، واعلموا أنكم في شهر كريم ، وموسم عظيم ، لا سيما هذه العشر المباركات ، فإنهن الأيام المعلومات التي أقسم الله بها في محكم الآيات ، فاغتنموها رحمكم الله بالمسارعة في الأعمال الصالحات . والإكثار من الحسنات ، فإن الحسنات يذهبن السيئات . عباد الله ، هذه أيام مضاعفة الحسنات ، هذه أيام إجابة الدعوات ، هذه أيام الإفاضات والنفحات ، هذه أيام عتق الرقاب الموبقات ، وهذه مواسم الأرباح والمجاهدات ، عند ذوي الهمم العاليات ، فاكثروا فيها من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والاستغفار والتوبة والإقلاع من الذنوب والسيئات ، ولا تذهب الأعمار منكم في الغفلات ، والتمادي في الشهوات ، فتندموا حين لا تنفع الندامات . فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال "ما من أيام العمل الصالح أحبُّ إلى الله فيهن من هذه الأيام العشر . قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله . قال ولا الجهاد في سبيل الله ، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء"
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال "صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده"
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { سابِقوا إلى مَغْفِرةٍ مِن ربِّكمْ وجنةٍ عرضُها كعرض السماءِ والأرضِ أُعدَّتْ للذين آمنوا باللهِ ورُسُله ذلك فضلُ اللهِ يؤْتيهِ من يَشاءُ واللهُ ذو الفضل العظيم } بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل . لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .(14/36)
( خطبة أيضا )
الحمدُ لله الذي من اعتصم بحبل رجائه وفقه وهداه ، ومن لجأ إليه حفظه ووقاه ، ومن تواضع له رفعه وحماه . أحمده سبحانه على ما أعطى من الإنعام وأولاه ، وأشكره على ما خوّله بفضله وأسداه . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من عرف الله بصفاته ولم يعامل أحداً سواه . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله إلى خلقه بالتوحيد وأوصاه بتقواه ، وعن طاعة الكفار والمنافقين حذّره ونهاه . اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الذين عضوا على سنته بالنواجذ وتمسكوا بهداه . وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى حق تقواه . عباد الله ما أحقر همة من جعل أكبر همه دنياه ، وما أبعد عن السداد من عرف الله وعامل سواه ، وما أسفه رأى من اتخذ إلهه هواه ، وما أعظم حسرة من اختار لنفسه أن تكون النار مثواه . وعليكم عباد الله بالنظر في العواقب فالسعيد من نظر في عقباه ، وتزينوا بلباس التقوى فالفائز من ألبسه الله حلل تقواه ، وتأهبوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون حفاة عراة على الله . واعملوا صالحاً قبل أن ينظر الإنسان ما قدمت يداه . يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه ولا يرحم أحدٌ أحداً إلا من رحمه مولاه .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { يا أيُّها الناسُ اتقوا ربّكم واخشَوْا يوماً لا يَجْزي والدٌ عن وَلَدِهِ ولا مَوْلودٌ هو جازٍ عن والدهِ شيئاً . إن وعدَ اللهِ حقٌّ فلا تَغرنّكًم الحياةُ الدنيا ولا يَغرَّنّكمْ باللهِ الغَرور }
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم . ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل ، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .(14/37)
( خطبة أيضاً )
الحمدُ لله اللطيف الذي بلطفه تنكشف الشدائد . الرءوف الذي برأفته تتواصل النعم والفوائد ، وبحسن الظن به تجري الظنون على أحسن العوائد . وبالتوكل عليه يندفع كيدُ كل كائد . وبالقيام بأوامره ونواهيه تحتوي القلوبُ على أجلِّ العلوم والفوائد . أحمده سبحانه وحمدي له من نعمه ، وأشكره على قمع كل شيطان مارد . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي له في كل شيء آية تدل على أنه واحد . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صاحب الأصل الماجد . وخارق نظام العوائد ، الذي انشق له القمر وحنّت إليه الجوامد . اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الطاهرين المعاقد ، وسلم تسليما كثيراً .
أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى عباد الله قد غلب على النفوس الطمع فأهلكها . واستولت على القلوب الذنوب فسودتها ، فاجلوا سواد هذه الظلمة بالتوبة فالتوبة هي المصباح ، واستفتحوا أبواب الرحمة بالاستغفار فإن الله هو المفتاح ، وأصلحوا فساد أعمالكم يصلح الله أحوالكم ، وارحموا ضعفاءكم يرفع الله درجاتكم ، وواسوا فقراءكم يوسع الله في أرزاقكم ، وخذوا على أيدي سفهائكم يبارك لكم في أعماركم ، فمن رحم رحم ، ومن ظلم قصم ، ومن فرط ندم ، ومن اتجر في الأعمال الصالحة ربح وغنم ، ومن اتقى الله في سره وعلانيته عصم وسلم ، واجتنبوا البغي والعدوان والحقد والحسد . واعلموا أن الحسود لا يسود ولا يناله من حسده إلا الهم والغم والكد والنكد . فمن يردُّ نعمة الله التي أنعم بها على عباده أمّن يمنع عطاء الله الذي يقسمه على مراده . وتيقنوا أن كل إناء ينضح بما فيه ، ومن حفر لأخيه بئراً وقع لا شك فيه . ومن كان لله به عناية فهو منصور ، ومن أدركته رحمة الله فهو محبور وإن كل محسن أو مسيء مجازى بعمله يوم النشور .(14/38)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { من جاءَ بالحسنةِ فله خيرٌ منها وهم مِنْ فَزَعِ يومئذ آمنون . ومن جاءَ بالسيئةِ فكبّتْ وجوهُهم في النار هل تُجْزَون إلا ما كنتم تعملون }
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم . ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل ، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
( خطبة أيضاً )
{ الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور . ثم الذين كفروا بربهم يعدلون }
نصب أدلة مخلوقاته ، وأقام براهين آياته ، وتحبب بنعمه وآلائه . ولكن أكثر الناس لا يعلمون . أحمده سبحانه على ما أولاه من عظيم إنعامه . وما اختصنا به من معرفته وإكرامه ، وهدانا لتوحيده وإسلام الوجه له . وقد ضل عن ذلك الأكثرون . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وسبحان الله رب العرش عما يصفون . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخليله الصادق المأمون . اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعن آله وأصحابه الذين هم بسنته مستمسكون وسلم تسليما كثيراً .
أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله حق تقاته ، وتدبروا ما أنزل إليكم من حكمه وآياته ، واعلموا أن الله لم يخلقكم عبثاً ، ولم يضرب عنكم صفحاً ، بل خلقكم لمعرفته وعبادته ، وأمركم بتوحيده وطاعته ، وأرسل رسله مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة ، فقامت بذلك حجته على العباد ، وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلا ، وظهرت أعلام الملة والدين . فتداركوا أعماركم قبل انخرام آجالها وحياتها فقد جاءكم من الله نور وكتاب مبين . وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون . ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أُولئك هم الفاسقون .(14/39)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { يا أيها الناسُ اعبُدوا ربّكمُ الذي خلقكمْ والذين مِن قبلكم لعلّكمْ تتّقون الذي جعل لكمُ الأرضَ فراشاً والسماءَ بناءَ وأنزلَ من السماء ماء فأخرجَ به من الثمراتِ رِزقاً لكم فلا تجعلوا للهِ أنداداً وأنتم تعلمون }
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل ، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
( خطبة أيضاً )
الحمد لله المتوحّد في الجلال بكمال الجمال تعظيماً وتكبيراً ، المتفرد بتصرف الأحوال على التفصيل والإجمال تقديراً وتدبيراً ، المتعالي بعظمته ومجده الذي أنزل الفِرقانَ على عبده ليكون للعالمين نذيراً ، أطلع شمس الرسالة في حنادِسِ الظلم سراجاً منيراً ، ومنّ بها على أهل الأرض فيا لها نعمة لا يستطيعون لها شكورا ، فجّر ينابيع الهداية في قلوب من سبقت لهم منه الحسنى تفجيراً . أحمده حمد من يعلم أنه لم يزل ولا يزال بجميع المحامد جديرا ، وأستعينه استعانة من لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأكبره تكبيرا ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله رحمة للعالمين ومحجة للسالكين وحجة على العباد أجمعين ، فأبى أكثر الناس إلا كفورا . اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، وسلم تسليما كثيراً .
أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى . عباد الله . أُوصيكم ونفسي بتقوى الله وأن تخلصوا له الأعمال وتراقبوه في جميع الأحوال وأن تتقربوا إليه من طاعته بما يرضيه ، وتجتنبوا مساخطه ومناهيه .
فقد صح عن نبيكم صلى الله عليه وسلم أنه قال "الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني" .(14/40)
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : حاسِبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا . وزنوها قبل أن توزنوا . وتأهبوا للعرض الأكبر على الله ، يومئذ تعرضون لا تخفى على الله منكم خافية .
وقال الحسن رحمه الله : إن أيسر الناس حساباً يوم القيامة الذين حاسبوا أنفسهم لله في هذه الدنيا فوقفوا عند همومهم وأعمالهم ، فإن كان الذي همّوا به لله مضوا فيه ، وإن كان عليهم أمسكوا ، وإنما يثقل الحساب يوم القيامة على الذين جازفوا الأمور فأخذوها من غير محاسبة ، فوجدوا الله قد أحصى عليهم مثاقيل الذّر .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { ووُضِعَ الكتابُ فترى المجرمين مُشْفِقِينَ مما فيه ويقولونَ يا وَيلَتَنَا ما لِهذا الكتابِ لا يُغادِر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها . ووَجدوا ما عمِلوا حاضراً ولا يَظلِمُ ربُّكَ أحدا }
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل ، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
( خطبة أيضاً )
الحمد لله الذي رفع قدر ذوي الأقدار ، عن الركون إلى هذه الدار . ومنح صفاء إحسانه الدار لأهل تلك الدار . ونفذ تصاريف الأقدار في أهل الجنة والنار . فسبحان من يسر كلا لما خلق له وربك يخلق ما يشاء ويختار . أحمده سبحانه وأشكره وللشكر على أصحاب الشكر آثار . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العزيز الغفار . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بعثه ونجم الحق قد غار ، وشرر الباطل قد طار في الأقطار . فمهد قواعد الدين وأشاد المنار . وجاء البيت وللأصنام على فِناء الكعبة قرار . فما زاد أن أومى إليها بالقضيب وأشار . وهو يقول { جاء الحق وزهق الباطل } فتهاوت للانكسار . اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه فاتحي الفتوح وممصّري الأمصار . وسلم تسليما كثيراً .(14/41)
أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله واعلموا أن الجزاء واقع والمنتقم من العصاة هو الجبار . فحذارِ من سطوة الغضب حذار . أعَلَى السرائر تلفق الأعذار . فالبدار البدار ، فقد ذهبت الغفلات بالأعمار . ما أبقت النصائح لبساً وهل يخفى النهار . فالنجاء النجاء في مهلة الإنظار . واللّجأ اللجأ قبل أن يقال العثار . يوم يبعثر ما في القبور ، ويحصل ما في الصدور ، وتكشف الأسرار . يوم يجاء بالظالم والظلم يومئذ عار ونار . يوم يقضي الله بين خلقه بعلمه لا بالبينة ولا بالاستظهار .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { وأنذِرْهمْ يومَ الآزِفة إذِ القلوبُ لدى الحناجرِ كاظمينَ ما للظالمينَ من حَميمٍ ولا شفيعٍ يطاع ، يعلم خائنةَ الأعينِ وما تُخْفي الصدورُ واللهُ يقضي بالحق والذين يَدْعون من دونه لا يقضون بشيء إنَّ اللهَ هو السميع البصير }
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل ، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
( خطبة أيضاً )
الحمد لله الذي أرشد عقول أوليائه إلى توحيده وهداها . وثبت كلمة الإخلاص في قلوب أحبابه على أمواج الامتحان بسم الله مَجراها ومُرساها ، وأعمى بصائر المنافقين لمّا أدبرت عن الدين فلم تجبه لمّا دعاها . فسبحانه من جبار عظيم لا يُماثلَ ولا يُضاهى . فجلّ ربّا وعزّ ملكا وتعالى إلهاً . أحمده سبحانه على نعمه التي لا تتناهى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من عرف مدلولها لمّا تلاها . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي بيّن كلمة التوحيد لفظها ومعناها . وجاهد عليها بلسانه وسنانه حتى أقرها وحمى حماها . اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه الذين عضوا على سنته بالنواجذ وتمسكوا بعراها . وسلم تسليما كثيراً .(14/42)
أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى وإياكم والتغافل والصدود فإن أمامكم القبر فاحذروا ضَغْطَتَه ووحشته ، وأن وراء ذلك ما هو أشد منه ، يوم يشيب من هوله المولود . ألا وإن وراء ذلك ما هو أعظم منه ، دار معدوم رجاؤها ، محتوم بلاؤها ، موحشة مسالكها ، مظلمة مهالكها . مخلد أسيرها . مؤبد سعيرها ، عال زفيرها ( طعام أهلها الزَّقُّوم ) . وشرابهم الحميم . وعذابهم أبداً فيها مقيم . الزبانية تقمعهم ، والهاوية تجمعهم . لهم فيها بالويل ضجيج ، وللهبها فيهم أجيج . أمانيهم فيها الهلاك ، وما لهم من أسرها فكاك . قد شدت أقدامهم إلى النواصي ، واسودَّت وجوههم من ذل المعاصي ينادون من فجاجها وشعابها بُكيّاً من ترادف عذابها : يا مالكُ قد أثقلنا الحديد . يا مالك قد نضجت منا الجلود . يا مالك قد تفلذت منا الكبود . يا مالك العدم خير من هذا الوجود . يا مالك أخرجنا منها فإنا لا نعود . فيجيبهم بعد زمان : اخسأوا فيها ولا بد من الخلود .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { ونادَوا يا مالكُ ليقضِ علينا ربُّك ، قال إنكم ماكِثون . لقد جئناكم بالحقِّ ولكنّ أكثركَم للحقِّ كارهون . أم أبرَمُوا أمراً فإنّا مُبْرِمون . أم يحسَبون أنّا لا نسمَعُ سِرَّهمْ ونَجْواهم ، بلى ورُسلُنا لديهم يكتبون }
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم . ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل ، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .(14/43)
( خطبة أيضاً )
الحمد لله الذي يعلم سر كل نفس ونجواها . أحاط علمه بكل شيء وعلِم مسالك النمل وعدد الرمل وأحصاها . أحمده سبحانه حمد من ارتقى في رتب الإخلاص إلى منتهاها . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من طهر نفسه من الشرك وزكّاها . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث بأكمل الشرائع وأسناها . اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وأصحابه الذين عضوا على سنته بالنواجذ وتمسكوا بعراها . وسلم تسليما كثيراً .
أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى وألجموا النفوس عن تعديها وطغواها . فليس لها والله إلا ما قدمت يداها . ولو كان لها يوم القيامة ملء الأرض ذهباً ما نفعها ولا أجداها . أما والله لتبعثن ليوم عظيم يجمع الله فيه الأمم أولاها وأخراها ، ولتحشرن كما بدأكم أول مرة ولتحاسبن بأكبر الأعمال وأدناها ، [ ولتؤدن المظالم من الظلمة على الرغم منهم كبراها وصغراها ، ولتكونن إلى دار نعيم أبدي ينسي عناء الدنيا وشقاها ، أو إلى دار عذاب مفضح يذهل عن نعيم الدنيا وحلاها ]
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { أأنتم أشدُّ خَلْقاً أمِ السماءُ بناها رَفَعَ سَمْكَها فسوّاها وأغْطَشَ ليلَها وأخرجَ ضُحاها . والأرضَ بعدَ ذلك دَحاها . أخرجَ منها ماءها ومَرْعاها والجبالَ أرساها . مَتاعاً لكم ولأنعاكم . فإذا جاءَتِ الطامّةُ الكبرى يومَ يتذكّرُ الإنسان ما سعى . وبُرِّزَت الجحيمُ لِمَنْ يرى . فأمّا مَن طغى وآثر الحياةَ الدنيا فإن الجحيمَ هيَ المأوى . وأمّا من خافَ مَقَامَ ربّهِ ونهى النفسَ عنِ الهوى فإن الجنةَ هيَ المأوى }
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم . ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل ، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب . فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .(14/44)
( خطبة أيضاً )
الحمد لله الذي فتح أبواب المشاهدات على أرباب المجاهدات بمفتاح لا إله إلا الله . وأحيا نفوس العارفين وملأ كؤوس الذاكرين من أقداح لا إله إلا الله . أبدع المصنوعات وأوجد المخلوقات ووسمها بميسم لا إله إلا الله . خلق الجنين من ماء مهين ليعبده بلا إله إلا الله . أرسل الرسل لأجلها مبشرين وعن ضدها محذرين فدعوا الناس كلهم إلى العمل بلا إله إلا الله . فهي رأس الملَّة والدين ، وهي حبل الله المتين ، فما خاب من تعلق بحبل لا إله إلا الله ، غَوِيَتْ أحلامُ الجاهلين وضلّتْ أفئدة المعاندين حيث جعلوا إلهين اثنين بعد ما طلع بدر لا إله إلا الله . أحمده سبحانه وأشكره إذ جعلنا من أهل لا إله إلا الله . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنجي قائلها إذا خاب أهل الشرك ونجا أهل لا إله إلا الله . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي جدد الله به ما دَرَسَ من مَعالم لا إله إلا الله .
ومع ذلك قال له { فاعلم أنه لا إله إلا الله } . فصدع بها ونادى ، ووالى عليها وعادى ، وقال "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق لا إله إلا الله" .
فدعا إلى الله سراً وجهاراً ليلا ونهاراً حتى انكشف الغطاء عن وجه لا إله إلا الله . اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الذين حموا بمرهفاتهم حَوْزَة لا إله إلا الله . وسلم تسليما كثيراً .(14/45)
أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى ، وجددوا إيمانكم في المساء والصباح بتأمّل معنى لا إله إلا الله ، فيا ذوي العقول الصحاح ويا ذوي البصائر والفلاح ، نادوا بالفلاح فلا فلاح إلا لأهل لا إله إلا الله . فكلمة الإسلام ومفتاح دار السلام لا إله إلا الله . فلا قامت السموات والأرض ولا صحت السنة والفرض ولا نجا أحد يوم العرض إلا بلا إله إلا الله . ولا جردت سيوف الجهاد وأرسلت الرسل إلى العباد إلا ليعلموهم العمل بلا إله إلا الله . فانقسم الناس عند ذلك فريقين وسلكوا طريقين : فريق انقاد للعمل بلا إله إلا الله . والآخر حاد لعلمه أن دين آبائه تبطله لا إله إلا الله . فسبحان من فاوت بين عباده بمقتضى حكمته ومراده ذلك من أدلة لا إله إلا الله . فطوبى لمن عرف معناها فارتضاها ، وعمل باطناً وظاهراً بمقتضاها ، فيكون قد حقق لا إله إلا الله ، وويل لمن صاده الشيطان بالأشراك ، فرماه في هوة الإشراك ، فأبى واستكبر عن الانقياد للا إله إلا الله .(14/46)
ألم تسمعوا قول الله { ولا يملكُ الذين يَدْعونَ مِن دونهِ الشفاعةَ إلا مَن شهِدَ بالحقّ وهم يعلمون } حقيقةَ لا إله إلا الله . الذي هو إفراده بجميع العبادات وتخصيصه بالقصد والإرادات . ونفيها عما سواه من جميع المعبودات . التي نفتها لا إله إلا الله . وذلك هو الكفر بالطاغوت والإيمان بالله . الذي لا يبقى في القلب شيئاً لغير الله . ولا إرادة لما حرّم الله . ولا كراهة لما به أمر الله . هذا والله هو حقيقة لا إله إلا الله . وأما من قالها بلسانه ونقضها بفعاله فلا ينفعه قول لا إله إلا الله . فمن صرف لغير الله شيئاً من العبادات . وأشرك به أحداً من المخلوقات . فهو كافر ولو نطق ألف مرة بلا إله إلا الله . قيل للحسن رحمه الله تعالى : إن أناساً يقولون من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ، فقال : من قالها وأدى حقها وفرضها أدخلته الجنة لا إله إلا الله . وقال ابن منبه لمن قال له : أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله . قال : بلى ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان ، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك لأنك في الحقيقة لم تقل لا إله إلا الله . فيا ذوي الأسماع العتيدة ، لا تظنوا أُمور الشرك منكم بعيدة . فإن هاهنا مهاو شديدة . تقدح في لا إله إلا الله . أين من وحّد الله بالحب والخوف والرجاء والعبادة . أين من خصه بالذل والخضوع والتعظيم والقصد وأفرده بالتوكل فجعل عليه اعتماده . كل هذا من معاني لا إله إلا الله . فسارعوا عباد الله إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السموات والأرض أُعدت للمتقين الذين قاموا بواجبات لا إله إلا الله . ولا تجعلوا مع الله إلهاً آخر إني لكمْ منه نذيرٌ مُبين . وتمسكوا بعرى لا إله إلا الله فمن نفى ما نفته وأثبت ما أثبتته ووالى عليها وعادى رفعته إلى أعلى عليين منازل أهل لا إله إلا الله .(14/47)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { يومَ يقومُ الرُّوحُ والملائكةُ صَفاً لا يتكلّمون إلا مَن أذِنَ له الرحمنُ وقال صَوابا } بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم . ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
( خطبة أيضاً )
الحمدُ لله الوليّ فلا وليَّ من دونه ولا واق . الغني فلا تنفد خزائنه على كثرة الإنفاق يحلم على من عصى ، وينتقم بما لا يحصى ، ولا يكلف ما لا يطاق . أحمده وله الحمد وحده على الاستحقاق . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من ذاق طعم الإيمان فوجده حلو المذاق . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ففتح به قلوباً غلفاً وأعيناً عمياً وآذاناً صما ليس للحق إليها استطراق . اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه صلاة دائمة بالعشيّ والإشراق . وسلم تسليما كثيراً .
أما بعد فيا عباد الله ، اتقوا الله . ولا تجعلوا الدنيا أكبر همكم ومبلغ علمكم . واعتبروا بمن مضى قبلكم من الأمم الخالية ، أهل المراتب العالية كيف طحنتهم الدنيا طحن الحصيد ، وأسكنتهم بعد القصور بطن الصعيد ، سبقونا بتقضي الأعمار ، ونحن على الآثار ، فرحم الله امرءاً لم يجعل الدنيا على باله . واشتغل بالآخرة فكانت أهم اشتغاله . واستعدوا رحمكم الله للموت وأعماله . والقبر وأهواله ، والملك وسؤاله ، والرب وجلاله ، وهل يعطى كتابه بيمينه أو بشماله ، وهل يدعى إلى النعيم وظلاله ، أم إلى الجحيم وأغلاله . والله يقول وأصدقُ القول مقاله .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { فأمّا مَن طَغى وآثر الحياةَ الدنيا فإنَّ الجحيمَ هي المأوى . وأمّا مَن خاف مَقَامَ ربّه ونهى النفسَ عن الهوى فإنَّ الجنةَ هيَ المأوى }(14/48)
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم . ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل ، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
( خطبة أيضا )
الحمدُ لله الذي أذهب البأس ، ووهب لباس التقوى فهو خير لباس . صدقت مواعيده فما توالتْ كالأنفاس . وسبقت رحمته غضبه فالرجا للعبد خير من اليأس . تفرد في وحدانيته فلا شك فيها ولا التباس . ومن آياته أن خلق وصور وشق السمع والبصر وجميع الإحساس . فسبحان رب الناس . ملك الناس ، إله الناس ، أحمده سبحانه وحمده عنوان السعادة . وأشكره وعلى الشكر وعد الزيادة . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أتقلدها يوم القيامة والعمل بها يومئذ قلادة . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي ظللتْ عليه الغمامة ، ودلت بين كتفيه العلامة ، وسبح الحصا في كفه وفقه الناس كلامه . فكم من معجزة له وكم من كرامة ، اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه أهل النجدة والشهامة . وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى وأطيعوه . عباد الله شدوا الرحال ، فقد قرب الارتحال . وأصلحوا الأعمال ، فقد قربت الآجال . وأعدوا الجواب فقد وجب السؤال . فبينما المرء مغرور بتقلبه . مغمور بتكسبه ، إذ تبدَّى له ملك الموت الذي كان عنه محتجبا ، فقضى فيه بالذي به أمره ، قبل شهادة السمع والبصر ، يوم الوعد والوعيد ، يوم الخجل والوجل من رب العبيد . يوم يقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد . فالحذر الحذر فمن نجا منها إنه لسعيد .(14/49)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { وقال قَرِينُهُ هذا ما لَديَّ عَتِيد . ألقِيا في جهنم كلَّ كفّار عَنِيد ، مَنّاعٍ للخيرِ مُعْتَدٍ مُرِيب . الذي جَعَل معَ اللهِ إلهاً آخرَ فألقياهُ في العذابِ الشديد . قال قَرِينُه رَبّنا ما أطغَيْتُه ولَكنْ كان في ضلالٍ بعيد . قال لا تختصموا لَديَّ وقد قَدَّمْتُ إليكم بالوَعِيد . ما يُبَدَّلُ القولُ لديَّ وما أنا بِظلاّمٍ للعبيد . يوم نقول لجهنّمَ هَلِ امْتَلأتِ وتقولُ هل من مَزِيد . وأُزْلِفَتِ الجنةُ للمتقينَ غيرَ بعيد . هذا ما تُوعَدونَ لكلِّ أوَّابٍ حَفِيظ . مَن خَشِيَ الرحمنَ بالغيب وجاءَ بقلبٍ مُنيب . ادخلوها بسلامٍ ذلك يومُ الخلود . لهمْ ما يشاءونَ فيها ولَديْنَا مَزِيد } .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل ، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب . فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
( خطبة أيضا )
الحمدُ لله معزّ من أطاعه واتقاه . ومذل من أضاع أمره وعصاه . الذي وفق أهل طاعته للعمل بما يرضاه . وحقق على أهل معصيته ما قدره عليهم وقضاه . أحمده سبحانه على حلو نعمه ومر بلواه . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا رب لنا سواه ، ولا نعبد إلا إياه . وهو الذي في السماءِ إله وفي الأرض إله . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي كمل به عقد النبوة فطوبى لمن والاه وتولاه . اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الذين جاهدوا في الله حق جهاده . وكان هواهم تبعاً لهداه . وسلم تسليما كثيراً .(14/50)
أما بعد فيا أيها الناس أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى وطاعته . ابن آدم اتق الله وأطعه فيما أمر ، وفكر في نفسك فأنت أحق من فكر . هل ينفعك من الله مال أو جاه أو معشر . أنعم عليك وآواك ، وتفضل عليك وأعطاك ، ومنّ عليك بالسمع والفؤاد والبصر . فكيف حجتك إذا سألك عن شكر نعمه عليك يوم الفزع الأكبر . وكيف جوازك على الصراط وهو أدق من الشعر وأحر من الجمر وأحد من السيف الأبتر . يؤمر بالجواز عليه فمن نجا فإلى جنة المستقر . ومن هوى بذنوبه ففي سقر .
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ترسل الأمانة والرحم يوم القيامة فيقومان جنبتي الصراط يميناً وشمالاً فيمر أولكم كالبرق ثم كالريح ثم كالطير ثم كأجاود الخيل والركاب تجري بهم أعمالهم ونبيكم صلى الله عليه وسلم قائم على الصراط يقول : اللهم سلم سلم ، حتى تعجز أعمال العباد وحتى أن الرجل لا يستطيع أن يمر إلا زحفاً ، وعلى جنبتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة تأخذ من أمرت بأخذه فناج مسلم ومكردس في النار والذي نفس أبي هريرة بيده إن قعر جهنم لسبعين خريفا . والله لتملأنّ" .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ( فَوَرَبِّكَ لنَحْشُرَنّهُمْ والشياطينَ ثم لنُحْضِرَنّهُمْ حولَ جهنمَ جِثِيّا . ثم لنَنْزِعَنّ من كلّ شِيعةٍ أيُّهُمْ أشدُّ على الرحمَنِ عِتِيّا . ثم لنحنُ أعلمُ بالذين هم أولى بها صِليّا . وإنْ منكُم إلا وارِدُها كان على ربِّكَ حتما مَقْضيّا . ثمَّ نُنَجِي الذينَ اتّقوا ونَذَرُ الظالمينَ فيها جِثِيّا )
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .(14/51)
( خطبة أيضا )
الحمدُ لله الكريم المنان ، العزيز ذي السلطان ، خلق الإنسان من تراب ثم قال له كن فكان . يعطي ويمنع . ويخفض ويرفع . ويصل ويقطع . ويشتت ويجمع . كل يوم هو في شأن . يجيب المضطر إذا دعاه . ويغفر للمسيء إذا تاب ما أتاه . ويجبر المنكسر إذا لاذ بحماه . ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فنادى : هل من سائل فيعطى سؤله ، هل من تائب فيتاب عليه ، هل من مستغفر فيغفر له ما جناه . أحمده سبحانه على نعمه التي من أجلّها نعمة الإسلام . وأشكره على تبيين الدين والأحكام ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ولد ولا أعوان . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد ولد عدنان . بعثه رحمة لأهل الإيمان وحجة على أهل الظلم والطغيان . نبي رجفت لهيبته قلوب الجبابرة فكسر كسرى وقصر قيصر وقال سيملك هذا النبي موضع قدمي هاتان . اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أهل الفضل والعرفان . وذوي الحفظ والإتقان . عدد ما أضمره الجنان ، ونطق به اللسان ، وتحركت به الأركان ، وما هو في علم الله كائن أو قد كان ، وسلم تسليما كثيراً .
أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى . عباد الله قد أويتم من الدنيا إلى ركن غير شديد . ورأيتم إيثارها على الآخرة رأياً غير سديد . ما كأنها إلا عمايةٌ عن الذكرى حينئذ لا تفيد . أو جرأةٌ على الجبار فاحذروا أخذه إن أخذه أليم شديد . أو جَلَد على النار فما جَلَد على النار بجليد . أوشك في ورودها فما لأحد عن ورودها محيد . أليست التي يقال لها هل امتلأتِ وتقول هل من مزيد ، فالحذر الحذر فمن نجا منها إنه لسعيد .(14/52)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم { وكذلك أخْذُ رَبّكَ إذا أخذ القُرى وهي ظالمةٌ إنَّ أخْذَهُ أليمٌ شديد ، إن في ذلك لآيةً لِمَنْ خاف عذاب الآخرة ، ذلك يومٌ مجموعٌ له الناسُ وذلك يومٌ مشهود ، وما نؤخّرُه إلاّ لأجَلٍ معدود ، يومَ يأتِ لا تكَلّمُ نفسٌ إلا بإذنه ، فمنهم شقيٌ وسعيد ، فأما الذين شَقُوا ففي النارِ لهم فيها زَفِيرٌ وشَهِيق ، خالدين فيها ما دامتِ السمواتُ والأرضُ إلا ما شاءَ ربُكَ ، إن ربّكَ فعال لما يُريد ، وأما الذين سُعِدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامَتِ السمواتُ والأرضُ إلا ما شاء ربُّك عَطاءً غيرَ مَجْذُوذ } ،
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل ، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
( خطبة أيضا )
الحمد لله الكريم الودود . المعروف بالكرم والجود . المحيط علمه بالحد والمحدود . أحمده سبحانه وهو الرب المعبود . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنجي قائلها من هول اليوم الموعود . وتدخله جنات تجري أنهارها بغير أخدود . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صاحب اللواء المعقود والحوض المورود والمقام المحمود اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ما أضاءت البروق وسبحت الرعود . وسلم تسليماً كثيراً أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى عباد الله ، هبوا من هذه الرقدة والمنام . واهجروا الفواحش والآثام . وارجعوا إلى طاعة الملك العلام . من قبل أن يأتي يوم تشقق السماء فيه بالغمام . فيا له من يوم ما أطوله . ومن حساب ما أثقله [ ومن جزاء ما أجزله ومن عقاب ما أهوله ](14/53)
يوم عظيم جمعت فيه القيامة أهوالها . ووضعت فيه الحوامل أحمالها . وزلزلت الأرض زلزالها . وأخرجت الأرض أثقالها . وقال الإنسان مالها ، يومئذ تحدّث أخبارها . بأن ربك أوحى لها . وشاب الوليد . وحق الوعيد . وعظم الهول الشديد { وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد . لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد } .
وخضعت الرقاب لرب الأرباب . وذل كل فاجر كذاب . فالسعيد من استعمل نفسه في طاعة المعبود . وخاف أن لا ينجو من النار بعد الورود . فانتبهوا رحمكم الله واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم { يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم . يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد }
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل . لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
( خطبة أيضا )
الحمدُ لله المعبود ، القريب بعلمه من العبيد ، العلام بخفيات السرائر وما تنطوي عليه الضمائر من عزم أو ترديد . الملك الحق الذي بيده الملك ليس له معين ولا نديد . وله الحكم يحكم في خلقه بما يريد . من ادعى لغيره أنه ينفع أو يضر فهو شيطان مريد . ومن جادل في توحيده سبحانه فهو في النار مع أبي جهل والوليد . قال تعالى مخاطباً الأنبياء والأولياء والسادة والعبيد { يا أيُّها الناسُ أنتمُ الفقراءُ إلى الله واللهُ هو الغنيُّ الحميد . إن يشأ يُذْهِبْكُمْ ويأتِ بِخَلْقٍ جديد ، وما ذلك على الله بعزيز }(14/54)
أحمده سبحانه وأشكره وأطلب بذلك من نعمه المزيد . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها النجاة من العذاب الشديد . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي قام لله في بطحاء مكة بنصرة التوحيد . ولم تأخذه في الله لومة لائم من قريب أو بعيد . فحفظه الله تعالى منهم بدرع العصمة لا بدرع الحديد . حتى ظهر توحيد الله في المشارق والمغارب على رغم الشرك العنيد . اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وأصحابه فاتحي الأقطار وسيوفهم كانت المقاليد . وسلم تسليما كثيراً .
أما بعد فيا أيها الناس اتقوا الله تعالى . ابن آدم اتق الله فإنما خلقت في الدنيا للعبادة لا للتخليد . وأنت من ذلك في بحر الغفلة يا بليد . أفق فإن الساقط في هوة الهوى فقيد . فإن قدامك المقام العتيد ، والحساب الشديد ، والميزان الذي يطير بالحية فلا يحيد ، والكتاب الذي يطير فيصير قلادة في الجيد ، والصراط الذي يقال مر عليه وهو أحدُّ من الحديد ، وهو منصوب على جسر جهنم التي يقال لها هل امتلأت وتقول هل من مزيد ،
{ وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد ، ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد ، وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد ، لقد كنتَ في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد . وقال قرينه هذا ما لديَّ عتيد ، ألقيا في جهنم كلّ كفار عنيد ، منّاع للخير معتد مريب ، الذي جعل مع الله إلهاً آخر فألقياه في العذاب الشديد }
إن أحسن الزواجر عن الذنوب ، وأصدع المواعظ للقلوب ، كلام الله علام الغيوب .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمين الرحيم { يا أيُّها الناسُ اتّقوا ربّكم إنَّ زلزلَةَ الساعةِ شيء عظيم . يوم تَرَوْنَها تَذْهُل كلُّ مرضعة عما أرضعت . وتَضَع كلُّ ذاتِ حملٍ حَمْلها ، وترى الناسَ سُكارى وما هم بسكارى ولكنَّ عذابَ الله شديد } .(14/55)
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب . فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
تم بحمد الله
تم نسخ هذه المادة من برنامج مركزا لتراث لأبحاث الحاسب الآلي
مؤلفات الشيخ الداعية
الإمام محمد بن عبد الوهاب
مع تحيات أخوانكم في
شبكة مشكاة الإسلامية(14/56)
خمسون سؤالاً وجواباً في العقيدة
للشيخ محمد بن عبدالوهاب
دلائل التوحيد
س1 - ما الأصول الثلاثة التي يجب على الإنسان معرفتها؟
ج1: معرفة العبد ربه ودينه ونبيه محمد .
س2 - من ربك؟
ج2: ربي الله الذي رباني وربى جميع العالمين بنعمه وهو معبودي ليس لى معبود سواه والدليل قوله تعالى: الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:1] وكل ما سوى الله عالم وأنا واحد من ذلك العالم.
س3 - ما معني الرب؟
ج3: المالك المعبود المتصرف وهو المستحق للعبادة.
س4 - بم عرفت ربك؟
ج4: أعرفه بآياته ومخلوقات، ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر، ومن مخلوقاته السماوات السبع ومن فيهن والأرضون السبع ومن فيهن وما بينهما، والدليل قوله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [فصلت:37]، وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54].
س5 - ما دينك؟
ج5: ديني الإسلام، والإسلام هو الإستسلام والإنقياد لله وحده، والدليل عليه قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ [آل عمران:19]، ودليل آخر قوله تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85]، ودليل آخر قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3].(15/1)
س6 - علي أي شيء بُني هذا الدين؟
ج6: بُني على خمسة أركان، أولها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم شهر رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا.
س7 - ما هو الإيمان؟
ج7: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الأخر وتؤمن بالقدر خيره وشره والدليل قوله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:85].
س8 - وما الإحسان؟
ج8: هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، والدليل عليه قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [النحل:128].
س9 - من نبيك؟
ج9: نبيي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، وهاشم من قريش، وقريش من كنانه، وكنانه من العرب، والعرب من ذرية إسماعيل بن ابراهيم، وإسماعيل من نسل إبراهيم، وإبراهيم من ذرية نوح، عليهم الصلاة والسلام.
س10 - وبأي شيء نُبئ؟ وبأي شيء أرسل؟
ج10: نبئ باقرأ، وأرسل بالمدثر.
س11 - وما هي معجزته؟
ج11: هذا القرآن الذي عجزت جميع الخلائق أن يأتوا بسورة من مثله، فلم يستطيعوا ذلك مع فصاحتهم وشدة حذاقتهم وعداوتهم له ولمن اتبعه، والدليل قوله تعالى: وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:23]. وفي الآيه الأخرى: قوله تعالى: قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء:88].(15/2)
س12 - ما الدليل على أنه رسول الله؟
ج12: قوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144].ودليل آخر قوله تعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً [الفتح:29].
س13 - ما هو دليل نبوة محمد؟
ج13: الدليل على النبوة قوله تعالى: مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40]، وهذه الآيات تدل على أنه نبي وأنه خاتم الأنبياء.
س14 - ما الذي بعث الله به محمداً ؟
ج14: عبادة الله وحده لا شريك له، وأن لا يتخذون مع الله إلهاً آخر، ونهاهم عن عبادة المخلوقين من الملائكة والأنبياء والصالحين والحجر والشجر، كما قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، وقوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وقوله تعالى: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:45]، وقوله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
فيعلم بذلك أن الله ما خلق الخلق إلا ليعبدوه ويوحدوه فأرسل الرسل إلى عباده يأمرونهم بذلك.
س15 - ما الفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية؟
ج15: توحيد الربوبيه: فعل الرب، مثل الخلق والرزق والإحياء والإماته وإنزال المطر وإنبات النباتات وتدبير الأمور.(15/3)
وتوحيد الألوهية: فعل العبد، مثل الدعاء والخوف والرجاء والتوكل والإنابه والرغبه والرهبه والنذر والإستغاثه وغير ذلك من انواع العبادات.
س16 - ما هي أنواع العبادات التي لا تصلح إلا لله؟
ج16: من أنواعها: الدعاء، والإستغاثة، والإستعانه، وذبح القربان، والنذر، والخوف، والرجاء، والتوكل، والإنابه، والمحبه، والخشيه، والرغبه، والرهبه، والتأله، والركوع، والسجود، والخشوع، والتذلل، والتعظيم الذي هو من خصائص الألوهية.
س17: فما أجل أمر أمر الله به؟ وأعظم نهي نهى الله عنه؟
ج17: أجل أمر أمر الله به هو توحيده بالعبادة، وأعظم نهي نهى الله عنه هو الشرك به، وهو ان يدعو مع الله غيره أو يقصد بغير ذلك من أنواع العبادة، فمن صرف شيئا من انواع العبادة لغير الله فقد اتخذه ربا وإلها وأشرك مع الله غيره أو يقصده بغير ذلك من أنواع العبادات.
س18: ما المسائل الثلاث التي يجب تعلمها والعمل بها؟
ج18: الأولى: أن الله خلقنا ورزقنا ولم يتركنا هملا بل أرسل إلينا رسولا فمن أطاعه دخل الجنه ومن عصاه دخل النار.
الثانيه: أن الله لا يرضى أن يشرك معه في عبادته أحد لا ملك مقرب ولا نبي مرسل.
الثالثة: أن من اطاع الرسول ووحد الله لا يجوز له موالاة من حاد الله ورسوله ولو كان أقرب قريب.
س19: ما معني الله؟
ج19: معناه ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين.
س20: لأي شيء الله خلقك؟
ج20: لعبادته.
س21: ما هي عبادته؟
ج21: توحيده وطاعته.
س22: ما الدليل على ذلك؟
ج22: قوله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
س23 - ما هو أول ما فرض الله علينا؟
ج23: الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، والدليل على ذلك قوله تعالى: لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقي لا انفصام لها والله سميع عليم [البقرة:256].(15/4)
س24 - ما هي العروة الوثقي؟
ج24: لا إله إلا الله، ومعني لا إله: نفي، وإلا الله: إثبات.
س25 - ما هو النفي والإثبات هنا؟
ج25: نافٍ جميع ما يعبد من دون الله. ومثبت العبادة لله وحده لا شريك له.
س26 - ما الدليل على ذلك؟
ج26: قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ [الزخرف:26] هذا دليل نفي، ودليل الإثبات: إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي [الزخرف:27].
س27 - كم الطواغيت؟
ج27: كثيرون ورؤوسهم خمسة: إبليس لعنه الله، ومن عُبد وهو راض، ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه، ومن ادعى شيئا من علم الغيب، ومن حكم بغير ما أنزل الله.
س28 - ما أفضل الأعمال بعد الشهادتين؟
ج28: أفضلها الصلوات الخمسة، ولها شروط وأركان وواجبات، فأعظم شروطها الإسلام، والعقل، والتمييز، ورفع الحدث، وإزالة النجاسه، وستر العورة، واستقبال القبلة، ودخول الوقت، والنية.
وأركانها أربعة عشر: القيام مع القدرة، وتكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة، والركوع، والرفع منه، والسجود على السبعة الأعضاء، والإعتدال منه، والجلسة بين السجدتين، والطمأنينه في هذه الأركان، والترتيب، والتشهد الأخير، والجلوس له، والصلاة على النبي ، والتسليم.
وواجباتها ثمانية: جميع التكبيرات غير تكبيرة الإحرام، قول سبحان ربي العظيم في الركوع، سمع الله لمن حمده للإمام والمنفرد، ربنا ولك الحمد للإمام والمأموم والمنفرد، سبحان ربي الأعلى في السجود، رب اغفر لى بين السجدتين، والتشهد الأول، والجلوس له، وما عدا هذا فسنن ؛ أقوال وأفعال.(15/5)
س29 - هل يبعث الله الخلق بعد الموت؟ ويحاسبهم على أعمالهم خيرها وشرها؟ ويدخل من أطاعه الجنه؟ ومن كفر به وأشرك به غيره فهو في النار؟
ج29: نعم، والدليل قوله تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7]، وقوله: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55]. وفي القرآن من الأدلة على هذا ما لا يحصى.
س30 - ما حكم من ذبح لغير الله من هذه الاية؟
ج30: حكمة هو كافر مرتد لا تباح ذبيحته، لأنه يجتمع فيه مانعان:
الأول: أنها ذبيحة مرتد، وذبيحة المرتد لا تباح بالإجماع.
الثاني: أنها مما أهل لغير الله وقد حرم الله ذلك في قوله: قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ [الأنعام:145].
س31 - ما هي أنواع الشرك؟
ج31: أنواعة هي: طلب الحوائج من الموتى، والإستغاثة بهم والتوجه إليهم. وهذا أصل شرك العالم، لأن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فضلاً لمن استغاث به، وسأله أن يشفع له إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، فإن الله تعالى لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، والله لم يجعل سؤال غيره سبباً لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن.
والشرك شركان: شرك ينقل عن المله وهو الشرك الأكبر، وشرك لا ينقل عن المله وهو الشرك الأصغر كشرك الرياء.
س32 - ما هي أنواع النفاق ومعناه؟
ج32: النفاق نفاقان: نفاق إعتقادي، ونفاق عملي.
النفاق الإعتقادي: مذكور في القران في غير موضع، أوجب لهم تعالى به الدرك الأسفل من النار.(15/6)
النفاق العملي: جاء في قوله : { أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق، حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا اؤتمن خان}. وكقوله : { آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد اخلف، وإذا اؤتمن خان }.
قال بعض الأفاضل: وهذا النفاق قد يجتمع مع أصل الإسلام ولكن إذا استحكم وكمل فقد ينسلخ صاحبه من الإسلام بالكلية وإن صلّى وصام، وزعم أنه مسلم، فإن الإيمان ينهى عن هذه الخلال، فإذا كملت للعبد، ولم يكن له ما ينهاه عن شيء منها، فهذا لا يكون إلا منافقاً خالصاً.
س33 - ما المرتبة الثانية من مراتب دين الإسلام؟
ج33: هي الإيمان.
س34 - كم شعب الإيمان؟
ج34: هي بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول ( لا إله إلا الله ) وأدناها إماطة الأذي عن الطريق. والحياء شعبة من الإيمان.
س35 - كم أركان الإيمان؟
ج35: ستة: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره.
س36 - ما المرتبه الثالثة من مراتب دين الإسلام؟
ج36: هي الإحسان، وله ركن واحد. هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
س37 - هل الناس محاسبون ومجزيون بأعمالهم بعد البعث أم لا؟
ج37: نعم محاسبون ومجزيون بأعمالهم بدليل قوله تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31].
س38 - ما حكم من كذّب بالبعث؟
ج38: حكمه أنه كافر بدليل قوله تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7].(15/7)
س39 - هل بقيت أمة لم يبعث الله لها رسولاً يأمرها بعبادة الله وحده واجتناب الطاغوت؟
ج39: لم تبق أمة إلا بعث إليها رسولاً بدليل قوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل:36].
س40 - ما هي أنواع التوحيد؟
ج40:1- توحيد الربوبية: هو الذي أقر به الكفار كما في قوله تعالى: قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ [يونس:31].
2- توحيد الألوهية: هو إخلاص العبادة لله وحده من جميع الخلق، لأن الإله في كلام العرب هو الذي يقصد للعبادة، وكانوا يقولون أن الله هو إله الآلهة لكن يجعلون معه آلهة أخرى مثل الصالحين والملائكة، وغيرهم يقولون أن الله يرضى هذا ويشفعون لنا عنده.
3- توحيد الصفات: فلا يستقيم توحيد الربوبية ولا توحيد الألوهية إلا بالإقرار بالصفات لكن الكفار أعقل ممن أنكر الصفات.
س41 - ما الذي يجب علي إذا أمرني الله بأمر؟
ج41: وجب عليك سبع مراتب:
الأولى: العلم به، الثانية: محبته، الثالثة: العزم على الفعل، الرابعة: العمل، الخامسة: كونه يقع على المشروع خالصاً صواباً، السادسة: التحذير من فعل ما يحبطه، السابعة: الثبات عليه.
س42 - إذا عرف الإنسان أن الله أمر بالتوحيد ونهى عن الشرك هل تنطبق هذه المراتب عليه؟
ج42: المرتبه الأولى: أكثر الناس علم أن التوحيد حق، والشرك باطل، ولكن أعرض عنه ولم يسأل ! وعرف أن الله حرم الربى وباع واشترى ولم يسأل ! وعرف تحريم أكل مال اليتيم وجواز الأكل بالمعروف، ويتولى مال اليتيم ولم يسأل !
المرتبه الثانيه: محبة ما أنزل الله وكفر من كرهه، فأكثر الناس لم يحب الرسول بل أبغضه وأبغض ما جاء به، ولو عرف أن الله أنزله.(15/8)
المرتبه الثالثة: العزم على الفعل، وكثير من الناس عرف وأحب ولكن لم يعزم خوفاً من تغير دنياه.
المرتبه الرابعة: العمل وكثير من الناس إذا عزم أو عمل وتبين عليه من يعظمه من شيوخ أو غيرهم ترك العمل.
المرتبه الخامسه: أن كثيراً ممن عمل لا يقع خالصاً فإن وقع خالصاً لم يقع صواباً.
المرتبة السادسة: أن الصالحين يخافون من حبوط العمل لقوله تعالى: أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2] وهذا من أقل الأشياء في زماننا.
المرتبه السابعة: الثبات على الحق والخوف من سوء الخاتمة وهذا أيضاً من أعظم ما يخاف منه الصالحون.
س43 - ما معني الكفر وأنواعة؟
ج43: الكفر كفران:
1- كفر يخرج صاحبه عن المله وهو خمسة أنواع:
الأول: كفر التكذيب، قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:21].
الثاني: كفر الإستكبار والإباء مع التصديق. قال تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة:34].
الثالث: كفر الشك، وهو كفر الظن قال تعالى: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنقَلَباً (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً [الكهف:35-37].
الرابع: كفر الإعراض والدليل عليه قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ [الأحقاف:3].(15/9)
الخامس: كفر النفاق ودليله قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ [المنافقون:3].
2- كفر أصغر لا يخرج عن الملة، وهو كفر النعمة، والدليل عليه قوله تعالى: وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [النحل:112] وقوله: إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34].
س44 - ما هو الشرك وما أنواع الشرك؟
ج44: اعلم أن التوحيد ضد الشرك.
والشرك ثلاث أنواع: شرك أكبر، وشرك أصغر، وشرك خفي.
النوع الأول: الشرك الأكبر وهو أربعة أنواع:
الأول: شرك الدعوة، قال تعالى: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65].
الثاني: شرك النية، الإرادة والقصد، قال تعالى: مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [هود:16،15].
الثالث: شرك الطاعة، قال تعالى: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31].(15/10)
الرابع: شرك المحبه، قال تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ [البقرة:165].
النوع الثاني: شرك أصغر و هو الرياء، قال تعالى فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف:110].
النوع الثالث: شرك خفي، و دليله قوله : { الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل على الصفاة السوداء في ظلمة الليل }.
س45 - ما الفرق بين القدر والقضاء؟
ج45: القدر في الأصل مصدر قدر، ثم استعمل في التقدير الذي هو التفصيل والتبيين، واستعمل أيضاً بعد الغلبة في تقدير الله للكائنات قبل حدوثها.
وأما القضاء: فقد استعمل في الحكم الكوني، بجريان الأقدار وما كتب في الكتب الأولى وقد يطلق هذا على القدر الذي هو التفصيل والتميز.
ويطلق القدر أيضاً على القضاء الذي هو الحكم الكوني بوقوع المقدرات.
ويطلق القضاء على الحكم الديني الشرعي، قال الله تعالى: ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ [النساء:65] ويطلق القضاء على الفراغ والتمام، كقوله تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ [الجمعة:10] ويطلق على نفس الفعل، قال تعالى: فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ [طه:72].
ويطلق على الإعلان والتقدم بالخبر، قال تعالى: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا [الزخرف:77] ويطلق على وجود العذاب، قال تعالى: وَقُضِيَ الأَمْرُ [هود:44].(15/11)
ويطلق على التمكن من الشيء وتمامه، كقوله: وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [طه:114] ويطللق على الفصل والحكم، كقوله تعالى: وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ [الزمر:75] ويطلق على الخلق كقوله تعالى: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ [فصلت:12].
ويطلق على الحتم، كقوله تعالى: وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً [مريم:21] ويطلق على الأمر الديني، كقوله تعالى: أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ [يوسف:40] ويطلق على بلوغ الحاجه، ومنه: قضيت وطري، ويطلق على إلزام الخصمين بالحكم، ويطلق بمعنى الأداء، كقوله تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ [البقرة:200].
والقضاء في الكل: مصدر، واقتضى الأمر الوجوب، ودل عليه، والإقتضاء هو: العلم بكيفية نظم الصيغة، وقولهم: لا أقضي منه العجب، قال الأصمعي: يبقى ولا ينقضي.
س46 - هل القدر في الخير والشر على العموم جميعاً من الله أم لا؟
ج46: القدر في الخير والشر على العموم، فعن علي قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتى الرسول صلى الله علية وسلم فقعد فقعدنا حوله، ومعه مخصرة، فنكس فجعل ينكت بمخصرته، ثم قال: { ما منكم من احد، ما من نفس منفوسه إلا وقد كتب الله مكانها في الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة } قال: فقال رجل: أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال: { من كان من أهل االسعادة فسيصير إلى عمل أهل االسعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة } ثم قرأ: فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-10].(15/12)
وفي الحديث: { واعملوا فكل ميسر، أما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، وأما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة } ثم قرأ فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-10].
س47 - ما معنى لا إله إلا الله؟
ج47: معناها لا معبود بحق إلا الله، والدليل قوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ [الإسراء:23] فقوله أَلاَّ تَعْبُدُواْ فيه معنى لا إله، وقوله إِلاَّ إِيَّاهُ فيه معنى إلا الله.
س48 - ما هو التوحيد الذي فرضه الله على عباده قبل الصلاة والصوم؟
ج48: هو توحيد العبادة، فلا تدعو إلا الله وحده لا شريك له، لا تدعوا النبي ولا غيره، كما قال تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الجن:18].
س49 - أيهما أفضل: الفقير الصابر أم الغني الشاكر؟ وما هو حد الصبر وحد الشكر؟
ج49: أما مسألة الغنى والفقر، فالصابر والشاكر كل منهما من أفضل المؤمنين، وأفضلهما أتقاهما كما قال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].
وأما حد الصبر وحد الشكر: المشهور بين العلماء أن الصبر عدم الجزع، والشكر أن تطيع الله بنعمته التي أعطاك.
س50 - ما الذي توصيني به؟
ج50: الذي أوصيك به وأحضك عليه: التفقه في التوحيد، ومطالعة كتب التوحيد فإنها تبين لك حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله، وحقيقة الشرك الذي حرمه الله ورسوله، وأخبر أنه لا يغفره، وأن الجنة على فاعله حرام، وأن من فعله حبط عمله.
والشأن كل الشأن في معرفة حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله، وبه يكون الرجل مسلماً مفارقاً للشرك وأهله.
اكتب لي كلاماً ينفعني الله به.(15/13)
أول ما أوصيك به: الالتفات إلى ما جاء به محمد صلى الله علية وسلم من عند الله تبارك وتعالى، فإنه جاء من عند الله بكل ما يحتاج إليه الناس، فلم يترك شيئاً يقربهم إلى الله وإلى جنته إلا أمرهم به، ولا شيئاً يبعدهم من الله ويقربهم إلى عذابه إلا نهاهم وحذرهم عنه. فأقام الله الحجة على خلقه إلى يوم القيامة، فليس لأحد حجة على الله بعد بعثة محمد صلى الله علية وسلم.
قال الله عز وجل فيه وفي إخوانه من المرسلين: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيماً (164) رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [النساء:163-165].
فأعظم ما جاء به من عند الله وأول ما أمر الناس به توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له، وإخلاص الدين له وحده كما قال عز وجل: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر:1-3] ومعنى قوله: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ أي: عظم ربك بالتوحيد وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له. وهذا قبل الأمر بالصلاة والزكاة والصوم والحج وغيرهن من شعائر الإسلام.
ومعنى قُمْ فَأَنذِرْ أي: أنذر عن الشرك في عبادة الله وحده لا شريك له. وهذا قبل الإنذار عن الزنا والسرقة والربا وظلم الناس وغير ذلك من الذنوب الكبار.(15/14)
وهذا الأصل هو أعظم أصول الدين وأفرضها، ولأجله خلق الله الخلق، كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
ولأجله أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، كما قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ [النحل:36].
ولأجله تفرق الناس بين مسلم وكافر، فمن وافى الله يوم القيامة وهو موحد لا يشرك به شيئاً دخل الجنه، ومن وافاه بالشرك دخل النار، وإن كان من أعبد الناس. وهذا معنى قولك: ( لا إله إلا الله )، فإن الإله هو الذي يدعى ويرجى لجلب الخير ودفع الشر، ويخاف منه ويتوكل عليه.(15/15)