وإنّما عدلوا إلى العبّاس عمّه لأنّه حيٌّ موجود بينهم وطلبوا منه أن يدعو الله لهم.(15/222)
ص -307- ... المسألة الثانية: في الحديث دليل على إنكار المنكر، فإنّ النّبي صلى الله عليه وسلم أنكر على هذا الأعرابي ولم يسكُت عنه.
المسألة الثالثة: في الحديث دليل على تحريم الاستشفاع بالله على أحدٍ من خلقه، وأنّ هذا يُخِلُّ بالعقيدة وينقِّص التّوحيد، وفيه إساءةُ أدبٍ مع الله سبحانه وتعالى، وهذا الذي عقد المصنِّف هذا الباب من أجله.
المسألة الرابعة: في الحديث دليل على أنّ طلب الدعاء والاستشفاع بالحيّ جائز، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم لم يُنكر على هذا الأعرابي قوله: (ونستشفع بك على الله)، وإنّما أنكر عليه الجملة التي قبلَها: "إنا نستشفع بالله عليك"، أمّا الاستشفاع بطلب الدعاء من الحي الحاضر فلا بأس بذلك، وهذا فعل الصّحابة مع الرّسول صلى الله عليه وسلم ومع غيرِه إذا احتاجوا إلى ذلك.
المسألة الخامسة: فيه مشروعيّة تعليم الجاهل، فإنّ النّبي صلى الله عليه وسلم علَّم هذا الجاهل بعدما أنكر عليه ونبهه على الخطأ الذي حصل منه من أجل أن يتجنَّبه.
المسألة السادسة: فيه مشروعية التسبيح والتكبير عند حصول أمرٍ منكر أو أمرٍ عجيب، بدل التصفيق الذي أحدثه من يقلدون الكفار.(15/223)
ص -308- ... [الباب السادس والستون:]
* باب ما جاء في حماية النّبي صلى الله عليه وسلم حمى التّوحيد وسده طرق الشرك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سبق بابٌ يشبه هذا، وهو قول الشيخ رحمه الله هناك: "باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التّوحيد، وسدّه كل طريق يوصِّل إلى الشرك"، فما الفرق بين البابين؟.
الفرق بين البابين: أنّ جناب التّوحيد معناه: جانب التّوحيد، وهنا: "حمى التّوحيد" وفرقٌ بين الجانب وبين الحمى، لأنّ الجانب بعض الشيء، وأمّا الحمى فهو ما حول الشّيء.
فهناك أراد المصنِّف رحمه الله أن يبيّن حماية النّبي صلى الله عليه وسلم للتوحيد نفسه من أن يقع فيه شرك.
وهنا أراد أن يبيّن أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم حمى ما حول التّوحيد، بعد حمايته التّوحيد، وهذا من باب العناية التامة بشأن التّوحيد.
قوله: "باب ما جاء" يعني: من الأحاديث.
"في حماية النّبي صلى الله عليه وسلم" الحماية معناها: المنع، أي: منع النّبي صلى الله عليه وسلم.
"حمى التّوحيد" أي: ما حول التّوحيد.
"وسده طرق الشرك" الطرق هي: الأشياء التي توصِّل إلى الشيء، فالنّبي صلى الله عليه وسلم سدّ الوسائل والأسباب التي تؤدِّي إلى الشرك وإن لم تكن هي من الشِّرْك لكن لَمّا كانت تؤدِّي إلى الشرك منع منها النّبي صلى الله عليه وسلم احتياطاً للتّوحيد، فقد يكون الشيء مباحاً في نفسه، ولكن إذا كان هذا المباح يُفضي إلى محرَّم فإنّ هذا المباح يُصبح حراماً، لأنّ الوسائل لها حكم الغايات، فالوسيلة إلى المحرّم تكون حراماً، وهذا ما يسمّى عند الأُصوليّين بقاعدة (سدّ الذرائع)، فكلُّ ذريعة توصِّل إلى محظور وإلى حرام فإنّ الشّارع منع منها وحرّمها، وهذا كثيرٌ في الشريعة.(15/224)
ص -309- ... عن عبد الله بن الشَّخِّير رضي الله عنه قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: أنت سيِّدُنا، فقال: "السيِّد الله تبارك وتعالى".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه: "عن عبد الله بن الشَّخِّير" هو عبد الله بن كعب بن عامر بن الشخِّير العامري نسبةً إلى بني عامر، قبيلة من قبائل العرب معروفة.
قال: "انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم" وذلك عام الوُفود، وهو العام التّاسع من الهجرة، فإنّ النّبي صلى الله عليه وسلم لَمّا فتح الله عليه مكّة في السنّة الثامنة من الهجرة، دخل النّاس في دين الله أفواجاً، فصاروا يتوافدون على الرّسول صلى الله عليه وسلم يعلنون إسلامهم، فسمّيَ هذا العام عامَ الوُفود، وهذا كما قال الله سبحانه وتعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ(1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً(2)}، والفتح المراد به: فتحُ مكّة.
قالوا للرّسول صلى الله عليه وسلم يخاطبونه: "أنت سيدنا" على عادة العرب أنّهم إذا قدِموا إلى كبيرٍ من كبرائهم أو ملكٍ من ملوكهم يمدحونه ويفخِّمونه بالألفاظ، فظنّوا أن النّبي صلى الله عليه وسلم كذلك يقال له مثل ما يقال لرؤساء العرب وملوك العرب، فقالوا: "أنت سيدنا وابن سيدنا".
فقال النّبي صلى الله عليه وسلم: "السيِّد الله تبارك وتعالى" أراد صلى الله عليه وسلم أن يسدّ باب الغلوّ في حقِّه صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: "السيِّدُ الله" من أجل أن يترُكوا هذا اللّفظ.
والسيِّد يطلق ويُراد به: المالِك، كما يقال لمالك العبد: سيِّد، لأنّه يملكُه، فالله جل وعلا هو السيد، بمعنى أنّه هو المالك المطلق الذي له التصرُّف كما يشاء سبحانه وتعالى في عباده، فهو السيِّد والخلق عباده سبحانه وتعالى.
والنّبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يسدّ هذا المديح خوفاً عليهم من الغلو، كما أن(15/225)
الصّحابة لَمّا آذاهم منافق من المنافقين فقالوا: "قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم"، فقال النّبي صلى الله عليه وسلم: "إنّه لا يُستغاث بي، وإنما يُستغاث بالله"، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يسدّ هذا الباب، وإن كانت الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه جائزة، كما قال الله تعالى في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}، والنّبي صلى الله عليه وسلم قادرٌ على أن يردع هذا المنافق ولكنّه أراد أن يعلِّم الأمّة الآداب ويبعدها عن الغلو فقال: "إنّه لا يُستغاث بي، وإنّما يُستغاث بالله عزّ وجلّ".
وقال- أيضاً-: "لا تُطْرُوني" أي: لا تزيدوا في مدحي، "كما أطرت(15/226)
ص -310- ... قلنا: وأفضلنا فضلاً، وأعظمُنا طَوْلاً، فقال: "قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان" رواه أبو داود بسند جيِّد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النصارى ابن مريم" أي: كما غَلَت النصارى في المسيح عيسى ابن مريم- عليه الصلاة والسلام- حتى أدّى بهم هذا الغلوّ إلى أن عبدوه من دون الله، وجعلوه إلهاً، "إنّما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسولُه".
إلى غير ذلك من الأحاديث التي ينهى فيها النّبي صلى الله عليه وسلم عن الغلوّ في مدحه صلى الله عليه وسلم، خوفاً على الأمّة من الوُقوع في الشّرك، لأنّ المبالغة في المدح تُفضي إلى الغلو والشرك في الممدوح، لاسيّما إذا كان هذا الممدوح نبيًّا من الأنبياء، أو كان صالحاً من الصالحين، أو عالماً من العلماء أو ممّن كانت لهم مكانةٌ في النّاس، فإنّه لا يجوز الغلوّ في مدحه، لأنّ هذا يؤدِّي إلى الشرك.
وأيضاً: مدح الإنسان في وجهه يسبِّب إعجاب الممدوح بنفسه، فالمبالغة في المدح فيها محذوران.
المحذور الأوّل على المدح نفسه: أن يغلو في الممدوح حتى يعبُده من دون الله.
والمحذور الثّاني في حقِّ الممدوح: فقد يُعجب هذا الممدوح في نفسِه ويرى لنفسه منزلة رفيعة، فيكون ذلك ضرراً عليه ويفسد أعماله، لأنّ الإنسان إذا أُعجب بأعماله وأُعجب بصلاحه وأُعجب بعلمه فإن ذلك يؤدي إلى فساد أعماله، لأنّ الواجب على الإنسان أن يتذلّل لربِّه وأن يخضع لربِّه وأن يعرف قدْر نفسه وأنّه ضعيف، وأنّه محتاج إلى الله سبحانه وتعالى، وأنّه مخلوق كسائر المخلوقين ليس له ميزة على غيره من البشر إلاّ بالتقوى والعمل الصّالح، وإلاّ فإنّه لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلاّ بالتقوى.
فالنّبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: "السيِّد الله" من أجل أن يسدّ عليهم هذا الطريق الذي كانوا يعتادونه مع رؤسائهم ومع أكابرهم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "قولوا بقولكم" يعني القول المعتاد مع(15/227)
الرّسول صلى الله عليه وسلم، بأن يقال له:
يا رسولَ الله، يا نبيّ الله، هذا القول المعتاد معه صلى الله عليه وسلم، وليس فيه غلو.
وقوله: "ولا يستجرينكم الشيطان" أي: لا يتّخذكم الشيطان جرياًّ له، والجري(15/228)
ص -311- ... وعن أنس رضي الله عنه: أنّ ناساً قالوا: يا رسولَ الله، يا خيرنا وابن خيرنا، وسيِّدنا وابنَ سيِّدنا، فقال: "يا أيها النّاس، قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد؛ عبد الله ورسولُه، ما أُحِبُّ أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عزّ وجلّ" رواه النسائي بسند جيّد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معناه: الرسول، أي: لا تكونوا رسلاً للشيطان يُرسلكم إلى النّاس بالغواية والمديح الكاذب.
ثم ذكر المصنِّف الحديث الثاني فقال: "عن أنس رضي الله عنه: أن ناساً قالوا: يا رسول الله، يا خيرنا وابن خيرنا، وسيّدنا وابن سيّدنا" أما قولهم: "يا رسول الله" فهذا سليم، لكن قولهم: "سيدنا وابن سيِّدنا" هذا الذي استنكره النّبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك قولهم: وخيرنا وابن خيرنا" هذا- أيضاً- استنكره النّبي صلى الله عليه وسلم، لأن الرّسول صلى الله عليه وسلم لا يريد المدح، وإنّما يريد أن يوصف بما وصفه الله تعالى به من الرّسالة والنبوّة، وكفى بذلك شَرَفاً له صلى الله عليه وسلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يستهوينكَم الشيطان" يستهوينَّكم: يوقعكم في الهوى الذي يضلُّ عن سبيل الله عزّ وجلّ. أو يسهوينّكم: من الهُوِي وهو: الوُقوع في الهلاك، أي: لا يوقعكم الشيطان في الضّلال، أو لا يوقعكم في الهوى الذي يضلّكم عن سبيل الله عزّ وجلّ، فإنّ الشيطان يتدرَّج في بني آدم شيئاً فشيئاً إلى أن يُهلكهم. فعلى المسلم أن يحذر من الشيطان واستدراجه واستهوائه، ولا يتساهل مع الشيطان في شيء ولو كان صغيراً فإنّه يكَبُر ويعظم.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "أنا محمد؛ عبد الله ورسوله" هذا ما يمدح به صلى الله عليه وسلم العبودية
والرسالة.
"ما أُحبُّ أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عزّ وجلّ " هذا بيان الحكمة في منعه صلى الله عليه وسلم؛ أّنه خشي عليهم في مدحهم له أن يرفعوه فوق منزلته التي أنزله الله وهي(15/229)
العبوديّة والرّسالة، لئلا يعتقدوا فيه جانب الرّبوبيّة، كما حصل للنصارى في حقّ عيسى- عليه الصلاة والسلام-.
فعبده: فيه منع من الغلوّ.(15/230)
ص -312- ... ورسوله: فيه المنع من تنقص حقه صلى الله عليه وسلم.
فلا تعتبره أنّه لا ميزة له على البشر في شيء، كما يقول الكفار: {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا}، لأنّه جُحودٌ للرّسالة.
ففي قولنا: "عبده ورسوله" منع من الإفراط ومن التفريط.
فهذان الحديثان يُستفاد منهما فوائد عظيمة:
الفائدة الأولى: فيه التحذير من الغلوّ في حقِّه صلى الله عليه وسلم عن طريق المديح، وأنّه صلى الله عليه وسلم إنّما يوصف بصفاته التي أعطاه الله إيّاها: العبوديّة والرِّسالة، أمّا أن يغلى في حقِّه فيوصف بأنّه يفرِّج الكروب ويغفر الذنوب، وأنّه يُستغاث به- عليه الصلاة والسلام - بعد وفاته، كما وقع فيه كثيرٌ من المخرِّفين اليوم فيما يسمّونه بالمدائح النبويّة في أشعارهم كـ "البردة" للبوصيري، وما قيل على نَسْجِها من المخرِّفين، فهذا غلوٌّ أوقع في الشرك، كما قال البوصيري:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذا بيدي ... فضلاً وإلاّ قل يا زلّة القدم
فإنّ من جودك الدنيا وضرَّتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم(15/231)
فهذا غلوٌّ- والعياذ بالله- أفضى إلى الكفر والشِّرْك، حتى لم يترُك لله شيئاً، كلّ شيء جعله للرّسول صلى الله عليه وسلم: الدنيا والآخرة للرّسول، علم اللوح والقلم للرّسول، لا ينقذ من العذاب يوم القيامة إلاّ الرّسول، إذاً ما بقي لله عزّ وجلّ؟.
وهذا من قصيدةٍ يتناقلونها ويحفظونها ويُنشدونها في الموالد.
وكذلك غيرها من الأشعار الكفريّة الشركيّة، خصوصاً ما يُنشد في الموالِد المبتدعة من الأناشيد الشركيّة، كلّ هذا سببه الغلوّ في الرّسول صلى الله عليه وسلم.
وأمّا مدحه صلى الله عليه وسلم بما وصفه الله به بأنّه عبدٌ ورسول، وأنّه أفضل الخلق، فهذا لا بأس به، كما جاء في أشعار الصّحابة الذين مدحوه، كشعر حسّان بن ثابت، وكعب بن زُهير، وكذلك كعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، فهذه أشعار نزيهة طيِّبة، قد سمعها النّبي صلى الله عليه وسلم وأقرّها، لأنّها ليس فيها شيءٌ من الغلو، وإنّما فيها ذكر أوصافه صلى الله عليه وسلم.(15/232)
ص -313- ... الفائدة الثانية: في الحديث النّهي عن وصف الرّسول صلى الله عليه وسلم بالسيّد، وهذا فيه إشكال عند أهل العلم: حيث إنّه أنكر على من قال له: "أنت سيِّدُنا"، وقال " السيِّد الله".
بينما جاءت أحاديث أخرى فيها إطلاق السيِّد عليه صلى الله عليه وسلم وعلى غيره، فقد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم إنّه قال: "أنا سيِّد ولد آدم ولا فخر"، وقال في الحسن بن علي رضي الله عنهما: "إن ابني هذا سيِّد، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين"، وقال: "الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنّة"، ولما جيء بسعد بن معاذ رضي الله عنه عام الخندق، قال صلى الله عليه وسلم للأنصار: "قوموا إلى سيِّدكم".
فالعلماء اختلفوا في الجواب على ثلاثة أقوال:
القول الأوّل: تحريم إطلاق لفظ (السيِّد) على المخلوق، فلا يقال السيِّد إلاّ في حقِّ الله سبحانه وتعالى، كما جاء في هذين الحديثين: "السيِّد الله" وهذا مرويٌّ عن الإمام مالك رحمه الله.
وأجابوا عن الأحاديث المخالفة بأنها أحاديث متقدّمة، وحديث: "السيِّد الله" متأخر لأنّه كان في عام الوفُود في السنّة التاسعة، فيكون ناسخاً للأحاديث التي تدلّ على جواز إطلاق لفظ (السيِّد) على المخلوق.
القول الثّاني: جواز إطلاق السيِّد على المخلوق عملاً بالأحاديث التي فيها ذلك: "أنا سيِّد ولد آدم"، "إن ابني هذا سيِّد"، "قوموا إلى سيِّدكم"، فيجوز إطلاق لفظ السيد على المخلوق كما في هذه الأحاديث.
وأجابوا عن حديث المنع بأنّه محمولٌ على كراهة التنزيه، فيكون النّهي للتنزيه.
والقول الثالث: الجواز مطلقاً بلا كراهة، إلاّ إذا خيف من الغلو، فإنّ النّبي صلى الله عليه وسلم خاف عليهم من الغلو، كما في الحديثين المذكورين، فإذا خيف على الإنسان من الغلو يُنهى عن ذلك، أمّا إذا لم يُخفْ عليه من الغلو فلا بأس عملاً بالأحاديث الكثيرة التي جاء فيها إطلاق السيد على المخلوق.
وهناك قولٌ رابع ألمح إليه(15/233)
المشايخ، وهو: أنّه لا يجوز إطلاق السيِّد على(15/234)
ص -314- ... الشخص في حضورِه ومواجهته، ويجوز إطلاقُه عليه وهو غائب، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم إنّما استنكر هذا لَمّا واجهوه به صلى الله عليه وسلم، فيُمنع مواجهة الإنسان بقول: (أنت السيِّد)، (أنت سيِّدنا) أو ما أشبه ذلك خوفاً عليه من الإعجاب بنفسه، كما نهى النّبي صلى الله عليه وسلم من مدح الإنسان حال حضوره.
هذا حاصل الأقوال في هذا المسألة.
تنبيه: الآن لفظ (السيِّد) صار يطلق على من يُعتقد فيهم النفع والضر، مثل من يسمّونهم السادة من أهل البيت أو السادة من الصوفية، وصار يصحب هذا القول اعتقاد في الأشخاص، وهذا لا شكّ في تحريمه.
فإذا أُطلق (السيِّد) على مثل هؤلاء فإنّه محرَّم، لأنّه ينبئ عن اعتقاد باطل وشرك بالله عزّ وجلّ، وأنّ هؤلاء ينفعون ويضرّون وتحلّ البركة منهم.
المسألة الثالثة: فيه ما عقد المصنِّف هذا الباب من أجله، وهو حمايته صلى الله عليه وسلم حمى التّوحيد وسدّه الطرق التي تُفضي إلى الشّرك، حيث إنّه منع من وصفه صلى الله عليه وسلم بالسيادة وبالفضل وبالطَّوْل من أجل سدّ الوسيلة إلى الغلو وإلى الشرك، ففيه: شاهد للترجمة.
الفائدة الرّابعة: فيه المنع من الغلوّ في مدحه صلى الله عليه وسلم سواءً في النثر أو في الشِّعر، والشِّعر أشد، لأنّ الشعر يُحفظ ويُرغب فيه أكثر من النّثر، وبعضهم إذا جاء لزيارة قبر النّبي صلى الله عليه وسلم يقف ويدعو النّبي صلى الله عليه وسلم يستغفر، ويقول: جئتك تائباً يا رسول الله، يا حبيب الله جئتك تائباً وما أشبه ذلك من الغلو، لأنّ التوبة إلى الله سبحانه وليست إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.(15/235)
ص -315- ... [الباب السابع والستون:]
* باب ما جاء في قول الله تعالى:
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب ختم به المؤلِّف رحمه الله أبواب "كتاب التّوحيد"، لأنه يشتمل على الأسماء والصّفات، لأنّ "كتاب التّوحيد" كلُّه يدور على توحيد الأُلوهيّة، ومكملاته ومنقصاته ومناقضاته، وفي هذا الباب ذكرُ الأسماء والصّفات من أجل أن يتكامل هذا الكتاب فيحتوي على جميع أنواع التّوحيد، لأنّ توحيد الألوهيّة يتضمّن توحيد الربوبيّة، ومن جملة توحيد الربوبيّة: الإيمان بالأسماء والصّفات، ولكن فُصلت الأسماء والصّفات بقسم خاص لوُجود المخالفين فيها؛ من فرق الجهميّة والمعتزلة والأشاعرة ومَن أخذ بمذهبهم، وقد أنكر عليهم الأئمّة مذهبهم هذا إنكاراً شديداً، وألّفوا في ذلك المؤلَّفات والرُّدود الكثيرة، لأنّ هذا تعطيلٌ لأسماء الله وصفاته، وإلحادٌ في أسماء الله وصفاته، والله تعالى يقول: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(180)}.
فالله أثبت لنفسه الأسماء وأثبت له الصّفات، أثبت له السمع، والبصر، والقُدرة، والحياة، والعلم، والوجه، واليدين، وأثبت له سبحانه وتعالى صفات الكمال، فمن نفى ذلك عن الله فقد ألحد في أسماء الله، فهو من الذين قال الله- تعالى فيهم: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} أي: اتُركوهم ولا تلتفتوا إلى قولهم، لأنّه مخالف لكتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وفي قوله: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ} تهديدٌ من الله سبحانه وتعالى لِمَنْ خالف في أسماء الله وصفاته بأنّه سيعذِّبُه.
ولذلكِّ عقد المصنف رحمه الله هذا الباب في آخر "كتاب التّوحيد" من أجل تكامل الكلام على(15/236)
التّوحيد.
قوله رحمه الله: "باب ما جاء" يعني: ما ورد عن النّبي صلى الله عليه وسلم وعن السّلف الصالح في تفسير هذه الآية: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(67)} وهذه آية عظيمة فيها عبر(15/237)
ص -316- ... وعِظات، وأنّ هذا الكون بسمائه وأرضه وجباله وشجره ومائه وثرائه وجميع المخلوقات يجعلها الله سبحانه وتعالى يوم القيامة على أصابعه ويجمعها في كفيّه سبحانه وتعالى، كمَا صحت بذلك الأدلة، فهذا يدلّ على عظمة الله سبحانه وتعالى، وصغر هذه المخلوقات الهائلة بالنسبة إليه سبحانه وتعالى ويدلّ عل عظمته وكبريائه وجَبَروته سبحانه، ولهذا قال جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي: ما عظّموه حقّ تعظيمِه.
{وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} هذا بيان لعظمته سبحانه وتعالى وسيأتي بيان ذلك في الحديث الذي يسوقه المصنِّف رحمه الله.
{وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} من كان يقدر على هذه الأمور فإنّه لا أعظم منه سبحانه وتعالى، كلُّ الكون- بمن فيه- كلُّه حقير وصغير بالنّسبة إلى خالقه سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} هذا يشمل كلّ من تنقّص الله تعالى فإنّه ما قدره حقّ قدره، فيدخل في ذلك الجاحدون المعطِّلون الذين ينفون وُجود الله تعالى، وهم الدهرية الذين يقولون: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ}، يقولون: ليس لنا ربّ يتصرّف فينا، وإنّما هذا الوُجود إنّما هو نتيجة الطّبيعة والصُّدفة ليس له ربٌّ أوجده وخلقه، وإنّما يتفاعل هذا الوُجود بنفسه، فتتكوّن هذه الأشياء من تفاعُل هذا الكون، ويجحدون وُجود الخالق سبحانه وتعالى، وهؤلاء يقال لهم: المعطِّلة الدهريّة.
وقد ردّ الله تعالى عليهم بقوله: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ(35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ(36)}، وردّ عليهم بقوله: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ}، لأن القول لابد أن يكون مستنداً إلى بُرهان، وأين بُرهانهم؟ لأن البرهان إنما(15/238)
على أنّ هذا الخلْق له خالق، هذا هو البُرهان الذي تقرّه الفطر والعقول.
فلا يُتصوّر ولا يُعقل أن يوجَد مخلوق بدون خالق، فلا عاقل في الدّنيا يتصوّر أنّ هذا الكون وُجد بدون خالق، لأن هذا من باب العبث بالعُقول، هل تجدون - مثلاً- أنّ قصراً تكوّن بدون عمال وبدون بانٍ؟، هذا محال هل تجدون- مثلاً- شجرة وُجدت بدون أسباب وبدون بِذار وبدون سقي؟، لابدّ من أسباب لوجودها.(15/239)
ص -317- ... وهذا يقال إنّ الإمام أبا حنيفة رحمه الله جاءه جماعة من الملاحدة وقالوا: نريد المناظرة، فقال لهم رحمه الله: قبل المناظرة بلغني خبرٌ عجيب، قالوا: وما هو؟، قال: بلغني أنّ سفينةً تسير بنفسها في البحر، وتحمَّل نفسها بالبضائع، ثم تأتي وتُفرغ حَمولتها بنفسها بدون عُمّال وبدون قائد، قالوا: هذا مُحال، لا يُتصوّر أنّ سفينة تمشي في البحر وتحمّل نفسها وتُفرغ عن نفسها بدون عمّال وبدون قائد، قال: هكذا بلغني، قالوا: هذا مُحال، قال: يا سبحان الله! إذا كانت سفينة- وهي جزئيّة صغيرة في الكون- لا يُتصوّر فيها أنّها تعمل هذا الشّيء فكيف بهذا الكون كلّه ليس له خالق وليس له مدبِّر وليس له رب، فانخصموا واندحروا، وأفحمهم بهذه الحُجّة.
وهذه الآية مفحمة لكل ملحد: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} هل يُعقل أنّ الخلق يوجد بدون خالق؟، لا، هذا لا يقولُه عاقل.
وإذا كان الكون لابدّ له من خالق فمن هو هذا الخالق؟، هل هو أنتم؟ {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} يعني: أنتم الذين خلقتم السماء، خلقتم الأرض، خلقتم الشجّر، خلقتم البحار، بيِّنوا لنا الذي خلق هذه الأشياء، وضِّحوا لنا، لا يستطيع أحد مهما بلغ من الكفر والإلحاد، لا يستطيع أن يدّعي أنّه خلق السماء، وخلق الأرض، {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ(36)}، {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ}، {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}، فكلّ الكفرة والمشركين لا أحد منهم ادّعى أنّ معبوده من دون الله خلقَ شيئاً من هذا الكون، أبداً، قال سبحانه وتعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}.
فالله جل وعلا هو المنفرد بالخلْق، ولا أحد نازعَ الله في ذلك من الجبابرة والمتكبِّرين والكَفرة(15/240)
والملحدين، لا أحد ادّعى أنه خلق بعوضة: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}، هذا تحدٍّ من الله سبحانه وتعالى، تحدِّ لجميع الخلق بمن فيهم المَهَرة والمهندسون والخُبراء أن يخلُقوا ذباباً، ولا يزال التحدِّي قائماً إلى يوم القيامة، فهذا دليل على أنّ الخالق هو الله.
أوّلاً: الخلْق لابدّ له من خالق، هذه بداهة عقلية لا ينازع فيها إلاّ مكابر.(15/241)
ص -318- ... ثانياً: ما أحد ادّعى أنّه خلق شيئاً من السموات ولا من الأرض، والتحدِّي قائم إلى يوم القيامة.
فالملاحدة ما قدروا الله حقَّ قدره، الذين نفوا وُجود الله ووجود الخالق.
وكذلك المشركون الذي أقرّوا أن الخالق الرّازق المحيي المدبِّر هو الله سبحانه وتعالى، واعترفوا بتوحيد الرّبوبية، ولكنّهم خالفوا في العبادة، وخالفوا في توحيد الألوهيّة، فعبدوا مع الله غيره من الأصنام والأحجار والأشجار والقبور والأضرحة، هؤلاء ما قدروا الله حقّ قدره، حيث إنّهم أشركوا معه غيرَه في عبادته، ممن لا يخلُق ولا يرزق ولا يملك نفعاً ولا ضرًّا ولا موتاً ولا حياةً ولا نُشوراً، هؤلاء ما قدروا الله حقّ قدره، حيث سوّوا به خلقاً من خلقه، وجعلوهم معبودين معه، يذبحون لهم، وينذُرون لهم، ويتبرّكون بهم، ويطوفون بقبورهم، ويتبرّكون بالأحجار والأشجار، ويعبدون الأصنام، جعلوا هذه الأصنام والجمادات، وجعلوا هؤلاء الأموات الرُّفات في القبور جعلوهم شركاء لله في العبادة، هؤلاء ما قدَروا الله حقّ قدره سبحانه وتعالى.
وكذلك ما قدر الله حقّ قدره مَن جحد الأسماء والصّفات، فمن أنكر الأسماء والصّفات الّتي أثبتها الله لنفسه وأثبتها له رسولُه صلى الله عليه وسلم أو تأوّلها على غير معناها وألحد فيها؛ ما قدَر الله حقّ قدره، فالذي قال: "إنّ الله لا يوصف بصفات، ولا يسمّى بأسماء، وإنّما هذه مجازات لا حقيقة لها، فلا يوصف الله عنده بأنّ له يدين، ولا أنّ له وجهاً، ولا يوصف الله بأنّه في العلو عالٍ على خلقه مستوٍ على عرشه"، ثم راح يؤوِّل هذه الصّفات إلى معانٍ لا تحتملُها، فهذا ما قدَر الله حقّ قدره سبحانه وتعالى، حيث إنّه ألحد في أسمائه، وألحد في صفاته، ما قدر الله حقّ قدره، ويدخُل في ذلك الجهميّة والمعتزلة والأشاعرة والماتوريديّة، وكلّ من ألحد في الأسماء والصّفات أو جحد بعضها أو شيئاً منها فإنّه ما قدَر الله حقّ قدره ولا عظّمه حقّ(15/242)
تعظيمه، ويدخل في ذلك كلّ من خالف في الأسماء والصّفات فإنّه ما قدَر الله حق قدره ولا عظّمه حق تعظيمه ولا تأدّب مع ربه سبحانه وتعالى، بل صار يكذِّب بما وصف الله به نفسه وسمّى به نفسه، فيقول: هذا غير صحيح، هذا مجاز، هذا ليس بحقيقة، إلى غير ذلك من مقالاتهم الباطلة، {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}.(15/243)
ص -319- ... كذلك ما قدر الله حقّ قدره من نفى القدر: فالقدريّة ما قدروا الله حقّ قدره، حيث نفوا القدر، وقالوا: "إنّ الأشياء توجد بدون قدر الله وأنّها أُنف- يعني: تحدُث بغير قدر الله، وإنّما العبد هو الذي يخلق فعل نفسه دون أن يكون لله قدرٌ سابق وعلمٌ سابق بهذه الأشياء، {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}.
ويدخل في ذلك كلّ من ألحد في القدر من الجبرية ومن القدريّة، كلّهم ما قدروا الله حقّ قدره.
أيضاً: ما قدر الله حقّ قدره مَن عصى الله وارتكب ما حرّم الله من المعاصي وترك ما أوجب الله من الطّاعات، ما قدر الله حقّ قدره، لأنّه خالف أمره سبحانه وتعالى، ولا شك أن من عصى مخلوقاً فقد تنقّصه فكيف بمن عصى الخالق، {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} لو أنّ إنساناً تمرّد على أوامر ملِك من الملوك وأبى أن ينفِّذ ما آمر به، فيكون ما قدر ذلك الملِك حق قدره، بل تنقّص هذا الملِك حيث إنّه لم يلتزم بأوامره ونواهيه، فكيف بالذي خالف أمرَ الله سبحانه وتعالى، وخالف نواهيه، وارتكب المنهي وترك الواجب؟، هل يكون هذا مقدِّراً لله حقّ قدره؟.
إذاً فكلّ مخالف لأوامر الله سبحانه وتعالى ونواهيه وأحكامه فإنّه ما قدر الله حقّ قدره، حيث لم يمتثل شرعَ الله، ومن لم يمتثل شرع الله فإنّه لم يقدُره حقّ قدره.
كذلك من حكم بغير ما أنزل الله، وجعل القوانين الوضعيّة بديلاً عن الأحكام الشّرعية التي شرعها الله لعباده ما قدر الله حقّ قدره، يقول- بلسان الحال أو بلسان المقال-: إنّ شرعك لا يصلُح للبشر، وإنّما يصلُح للبشر القوانين البشرية التي وضعها المخلوق، هكذا، ما قدر الله حقّ قدره سبحانه.
والنّاس يتفاوتون في هذا، فمنهم من خالف مخالفة كبيرة ومنهم من هو دون ذلك بحسب مخالفتهم، كلّ من خالف الله أي نوع من المخالفة فإنّه ما قدر الله حقّ قدره، وإنّما قدر الله حقّ قدره من امتثل أوامره ونواهيه وحكم بكتابِه وعبد الله وحده ولم يُشرك به(15/244)
شيئاً، هذا هو الذي قدَر الله حق قدْره، امتثل أمره واجتنب نهيه وآمن به سبحانه وتعالى ووصفه بما وصف به نفسَه وسمّاه بما سمّى به نفسه أو وصف وسمّى به رسولُه صلى الله عليه وسلم، هذا هو الذي قدر الله حقّ قدره.(15/245)
ص -320- ... عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حَبْرٌ من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمّد، إنّا نجد أنّ الله يجعل السماوات على إصبع، والأرَضِيْن على إصبع، والشجرَ على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كذلك من جحد الرّسالة وقال: إنّ الله لا يبعث رسولاً من البشر فهذا ما قدر الله حقّ قدره، لأنّه اتهم الله سبحانه وتعالى بأنّه ترك عباده بدون هداية ولا بيان، ولا بيّن لهم طريق الحقّ من طريق الباطل، ولا وضّح لهم، ولهذا يقول جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ(91)}، فالذي يجحد الرّسالة ويقول: "لا يمكن أن يبعث الله بشراً"، وإنّما يقترح على الله أن يبعث الملائكة إلى البشر؛ فهذا ما قدر الله حق قدره.
وكذلك من جحد البعث، وزعم أن الله لا يبعث عبيده ليجازيهم بأعمالهم: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى(31)}، فهذا ما قدر الله حق قدره، ووصفه بالعبث، وأن الله خلق الخلق عبثاً، وتركهم سدىً، يعملون بلا نتيجة، لا فرق بين المحسن والمسيء والمطيع والعاصي، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
وكذلك من جحد كلام الله وقال: "إنّ الله لا يتكلّم، وهذا الكتاب الذي هو التوراة والإنجيل والقرآن والزَّبور وغيرها من كتب الله ليس هو كلامُ الله، لأنّ الله لا يتكلم، وإنّما هو كلامُ البشر"، ومنهم من يقول: "المعنى من الله واللّفظ من البشر"، هذا ما(15/246)
قدَر الله حقّ قدره.
الحاصل؛ أنّ هذا بابٌ واسع، وأنّ قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} يشمل كلّ من خالف في أمور العقائد وأمور الأحكام فإنّه ما قدَر الله حقّ قدره.
فقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(67)} تفسير هذه الآية في هذه الأحاديث والآثار التي ذكرها المصنِّف في هذا الباب.
أولُها: "عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حَبْرٌ من الأحبار" الحَبر- بفتح الحاء، ويجوز الكسر، هو: العالِم، وأغلب ما يُطلق ذلك على علماء اليهود قال تعالى:(15/247)
ص -321- ... {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ} الأحبار في اليهود والرُّهبان للنصارى.
"فقال: يا محمد" اليهود يخاطبونه بهذا الخطاب، وأحياناً يقولون: يا أبا القاسم، ولا يقولون: يا نبيَّ الله، أو يا رسول الله، لأنّهم يجحدون رسالته ويحسدونه- عليه الصلاة والسلام-، وإنْ كانوا يعترفون بأنّه رسول الله وأنّه نبيُّ الله في قَرارة أنفسهم كما قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(146)}، فهم يعلمون أنّه رسول الله، وأنّه نبيُّ الله، ولكنّهم جحدوا هذا تكبُّراً وحسداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وحسداً للعرب، لأنّهم يريدون أن تكون النبوّة في بني إسرائيل ولا يريدونها أن تكون في بني إسماعيل، ولكنّ الله يختصّ برحمته من يشاء.
قال الحبر: "إنا نجد" يجدون ذلك في التّوراة.
"أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إِصبع" الأرضين: جمع أرض.
"والشجر على إصبع"؛ شجر الدنيا، شجر البر والبحر، فالشجر اسم جنس يشمل كلّ الشجر الذي في الدنيا.
"والثرى على إصبع " الثرى يعني: التراب: قال سبحانه وتعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى(6)} أي: تحت التُّراب.
"وسائر الخلْق على إصبع" يعني: باقي المخلوقات.
فهذه خمسة أصابع عليها جميع المخلوقات العلوية والسفلية، كلّ إصبع عليه خلْقٌ من خلقه سبحانه وتعالى.
"فيقول: أنا الملك" ولا أحد ينازع في هذا، فدلّ على انفراده سبحانه بالمُلْك يوم القيامة، يقول الله جل وعلا: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} فيقول: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}، ولا أحد ينازع في هذا فيدّعي شيئاً من ملك السماوات والأرض، لأنّه لا أحد يملك السماوات والأرض إلاّ الله سبحانه وتعالى.
أمّا المُلك المؤقت في الدنيا والملك(15/248)
الذي يُعطى لبعض النّاس فهذا عارية، ليس مُلكاً حقيقيًّا وإنّما هو عاريّة وامتحان يزول؛ {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ(15/249)
ص -322- ... فضحك النّبيُّ صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحَبْر، ثم قرأ:
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية".
وفي رواية لمسلم: "والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزّهنّ فيقول: أنا الملك أنا الله ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ(27)}.
فالأملاك ترجع إلى الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يرث الأرض ومن عليها: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ(40)}.
قوله: "فضحك النّبي صلى الله عليه وسلم" أي: لمّا سمع كلام هذا الحَبْر ضحك صلى الله عليه وسلم سروراً بهذا، لأنّ هذا إقرارٌ بما جاء في القرآن، وإقرارٌ بما جاء به الرّسول صلى الله عليه وسلم.
"حتى بَدَتْ نواجذُه" النواجذ هي: أوائل الأضراس، كان صلى الله عليه وسلم إذا ضحك يتبسّم فقط، وإذا بالغ في التبسُّم بدت نواجذه صلى الله عليه وسلم.
"ثم قرأ:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(67)}" فهذا شيء جاء به القرآن كما جاءت به التّوراة، والقرآن والتوراة والإنجيل والزَّبور وصحف إبراهيم وموسى وكتب الأنبياء كلها من عند الله سبحانه وتعالى، وما دخل في التّوراة والإنجيل من التحريف فإنّما هو من اليهود والنصارى بعد الأنبياء. وقد بيّن الله تحريفهم في القرآن وفضح سرائرهم.(15/250)
قوله: "وفي رواية لمسلم: والجبال والشجر على إصبع" في هذه الرواية زيادة الجبال.
"ثم يهزُّهن" يحرِّكهنُّ سبحانه وتعالى.
"فيقول: أنا الملِك، أنا الله" هذا فيه: بيان عظمته، وربوبيّته ومُلكه سبحانه وتعالى، وعظيم قدْرته جل وعلا وتقرير انفراده بالملك.(15/251)
ص -323- ... وفي رواية للبخاري: "يجعل السماوات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلْق على إصبع" أخرجاه.
ولمسلم عن ابن عمر مرفوعاً: "يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليُمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبّارون؟، أين المتكبِّرون؟.
ثم يطوي الأرضين السبع، ثم يأخذهن بشماله، فيقول: أنا الملِك، أين الجبّارون؟، أين المتكبِّرون؟".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "وفي رواية للبخاري: يجعل السماوات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع" ذكر هنا أن أصابعه سبحانه استوعبت كلَّ الخلْق وأن يقبض السماوات والأرضين بيديه وهذا من عظمته سبحانه وتعالى. قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية الطريق فيها وفي أمثالها مذهب السلف وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف انتهى.
قال الإمام ابن خزيمة الإمساك على الأصابع غير القبض على الشيء. قال: فالإمساك على الأصابع قبل تبديل الله الأرض غير الأرض. انتهى بمعناه.
قال: "ولمسلم عن ابن عمر مرفوعاً: "يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليُمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبّارون؟" هذا تحدٍّ منه سبحانه وتعالى لهؤلاء الذين يتجبّرون في الدّنيا.
والجبّارون: جمع جبّار، وهو المتعالي على النّاس بالقَهْر والغَلَبة والظُّلم والبَطْش بغير حق.
أمّا الجبّار من أسمائه سبحانه، فمعناه: المتعالي بحقّ.
"أين المتكبِّرون؟ " جمع متكبِّر، والمتكبِّر من الخلق هو: المتعالي، الذي يتعالى على النّاس بالظّلم والبَطْش، وكذلك يتعالى على الحق فلا يقبله. والمتكبر من أسماء الله الحسنى الكاملة يدل على العظمة والجلال والتنزه عن النقائص(15/252)
ص -324- ... وروي عن ابن عبّاس قال: "ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلاّ كخردلة في يد أحدكم".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والعيوب ويتضمن صفة الكبرياء قال تعالى:{وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(37)}.
قوله: "روي عن ابن عبّاس قال: ما السماوات السبع والأرَضون السبع في كفِّ الرحمن إلاّ كخردلة في يد أحدكم" تقدّم بيان معنى هذا من الآية والأحاديث، وأنّ الله سبحانه وتعالى يطوِي السماوات فيأخذها بيده اليُمنى، ويطوي الأرضين السبع فيأخذهن بشمالِه، ثم يقول: "أنا الملِك... " إلى آخره، وفي هذا الأثر ما يوافق ما سبق.
فقوله: "ما السماوات السبع في كفِّ الرحمن إلاّ كخردلة" أي: أنّه سبحانه وتعالى يطوي السماوات السبع ويقبضُها بيده اليُمنى، ويطوي الأرَضين السبع فيأخذهنّ بشماله، فتكون في كفِّه سبحانه وتعالى كخردلة، والخردلة هي: أصغر شيء يُضرب المثل بصغيرِها.
فهذه السماوات العظيمة في كَفِّ الرحمن والأرضون الواسعة وما فيها في كفِّ الرحمن كالخردلة في يد واحدٍ منّا، هذا تشبيه لصغر هذه المخلوقات بالنسبة إلى الله، كصغر حبّة الخردل في يد المخلوق، وليس هو من تشبيه الله سبحانه وتعالى أو صفة من صفاتِه بصفات المخلوقين، وإنّما هو تشبيه لصغر المخلوقات بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى بصغر حبّة الخردل بالنسبة ليد المخلوق.
وهذا من باب ضرب الأمثال التي تقرب بها المعاني ويوضح المقصود.
قال شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في تفسيره: "أضواء البيان ": فيحصل من هذا البحث أن الصّفات من باب واحد وأن الحق فيها متركب من أ مرين:
الأول: تنزيه الله جل وعلا عن مشابهة الخلق.
والثاني: الإيمان بكل ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتاً أو نفياً وهذا هو معنى قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ(15/253)
الْبَصِيرُ} والسلف الصالح رضي الله عنهم ما كانوا يشكون في شيء من ذلك ولا كان يشكل عليهم. إلاّ ترى إلى قول الفرزدق وهو شاعر فقط وأما من جهة العلم فهو عامي:(15/254)
ص -325- ... وقال ابن جرير: حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: حدثني أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما السماوات السبع في الكرسي إلاّ كدراهم سبعة ألقيت في ترس ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وكيف أخاف النّاس والله قابض ... على النّاس والسبعين في راحة اليد
ومراده بالسبعين: سبع سموات وسبع أرضين. فمن علم مثل هذا من كون السموات والأرضين في يده جل وعلا أصغر من حبة خردل فإنه عالم بعظمة الله وجلاله لا يسبق إلى ذهنه مشابهة صفاته لصفات الخلق ومن كان كذلك زال عنه كثير من الإشكالات التي أشكلت على كثير من المتأخرين، وهذا الذي ذكرنا من تنزيه الله جل وعلا عما لا يليق به والإيمان بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم هو معنى قول الإمام مالك رحمه الله: الاستواء غير مجهول. والكيف غير معقول والسؤال عنه بدعة. ويروى نحو قول مالك عن شيخه ربيعة وأم سلمة رضي الله عنها والعلم عند الله تعالى. انتهى كلامه رحمه الله.
ثم قال: "وقال ابن جرير" هو الإمام المفسِّر: محمَّد بن جرير، صاحب التفسير المشهور الذي يُعتبر أُمّ التفاسير.
"حدثني يونس، أخبرنا ابن وَهْب، قال: قال ابن زَيْد: حدثني أبي قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ما السماوات السّبع في الكُرْسي إلاَّ كدراهم سَبْعة أُلقِيَتْ في تُرس" السماوات السبع: السماء الدنيا والتي تليها إلى السماء السّابعة على عظمتها وسَعَتها كما قال سبحانه وتعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ(47)}، هذه السموات السبع العظيمة الواسعة بطِباقها وتباعُد ما بينها هناك مخلوقٌ أعظم منها وهو الكُرسي.
والكُرسي مخلوق: قال تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}، فهو مخلوقٌ من مخلوقات الله سبحانه وتعالى.
وهو فوق السماوات والسماوات بالنسبة إليه كسبعة دراهم أٌلْقِيَت في تُرْس.
والتُّرْس هو:(15/255)
القاع المستدير من الأرض، فلو ألقيت سبعة دراهم في قاعٍ من الأرض ماذا تكون نسبة هذه الدراهم السّبعة إلى هذا القاع الواسع؟، تكونُ صغيرة جدًّا.(15/256)
ص -326- ... قال: وقال أبو ذر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما الكرسي في العرش إلاّ كحلقة من حديد ألقيت بين ظهراني فلاة من الأرض".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد يُراد بالتُّرْس: الصفحة من الفُولاذ التي يتّخذها المقاتِل وقايَةً بينَه وبين السّلاح يتترّس بها.
ولكن الظّاهر المعنى الأوّل، وهو أنّ المراد به: القاع المستدير.
فالسماوات السبع بالنسبة للكرسي تكون كالدراهم السبعة إذا أُلقيت في القاع الواسع المستدير، فتكون نسبتُها ضئيلة، ممّا يدلّ على أنّ الكرسيَّ أعظمُ من السموات، وأنّها بالنسبة إليه صغيرة، والله جل وعلا يقول: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}، فمصداقُ هذا في كتاب الله سبحانه وتعالى.
فدلّ على وُجود الكرسي، وأنّه مخلوق، أعظم من السماوات، وفي هذا ردٌّ على من فسّر الكرسي بالعلم، والصّواب: أنّ الكرسي غير العلم.
وفيه ردٌّ- أيضاً- على من فسّر الكرسي بالعرش، لأنّه سيأتي أنّ العرش غير الكرسي.
وقد جاء في الحديث: أن الكرسيَّ موضعُ القدمين، فهو مخلوقٌ مستقل، عظيم، أكبر من السموات على سعتها، وأعظم من السموات على عظمتِها.
قال: "وقال أبو ذرّ" الصحابي الجليل، الزاهد، التّقي، الورع، العالِم، العابِد، الذي له سَبْق في الإسلام فهو من السّابقين الأوّلين، ومن المهاجرين- رضي الله تعالى عنه-.
"سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما الكرسي في العرش إلاّ كحلقة أُلْقِيَتْ بين ظهراني فلاةٍ من الأرض" الكرسي سبق لنا أنّه مخلوق مستقلّ، وأنّه أعظم من السموات، لكن هناك مخلوق أعظمُ منه وهو العَرْش.
والعرش هو: شَقْفُ المخلوقات، وأعلى المخلوقات، وأعظمُها.
والكرسي بالنسبة إلى العرْش كحلقة من حديد أُلقيت بين ظهراني فلاةٍ من الأرض، والفلاة هي: المكان المتّسع من الأرض، لو ألقيتَ فيها حَلْقة من حديد، فماذا تكون نسبة الحلْقة إلى هذه الفلاة(15/257)
الواسعة؟، قد لا تُرى أو تكون شيئاً ضئيلاً، فكذلك الكرسي(15/258)
ص -327- ... وعن ابن مسعود قال: "بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم" أخرجه ابن مهدي عن حمّاد بن سلمة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بالنسبة لعرش الرّحمن كحلقة من حديد أُلْقِيَت في فلاةٍ واسعة من الأرض.
فهذا يدلّ على وُجود العرْش، وأنّه مخلوق من مخلوقات الله، وأنّه أكبر من الكُرْسي، وأنّ الكرسي أكبر من السماوات، فهذا يدلّ على عظمة الخالق سبحانه وتعالى الذي هذه مخلوقاتُه العظيمة الهائلة.
وفي هذا رد على من فسّر العرش بالملك أو غير ذلك من التفاسير الباطلة.
ثم قال: "وعن ابن مسعود" حديث ابن مسعود هذا يبيِّن المسافات التي بين السماوات والأرض والمسافة التي بين السماوات والكُرْسي، والمسافة التي بين الكرسي وبين العرش.
"قال: "بين السمّاء الدنيا" يعني: القريبة من الأرض، الموالية للأرض كما قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ}.
فبين الأرض والسماء الدنيا خمسمائة عام، وبين كلِّ سماء وسماء خمسمائة عام، وبين السماء السّابعة والكُرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام وكثف كل سماء من السماوات السبع خمسمائة عام.
إذاً تكون المخلوقات: أوّلاً: الأرض، ثم فوقها السماوات السّبع، ثم فوق السموات السّبع الكرسي، ثم فوق الكرسي بحر ما بين أعلاه وأسفلِه خمسمائة عام، وفوق الماء عرْش الرّحمن سبحانه وتعالى، والله جل وعلا فوق العرش، هذا ترتيب هذه المخلوقات حسبما جاءت به النصوص، وهي متباعِدة فيما بينها، فبين السماء الدنيا والأرض خمسمائة عام، وبين كلِّ سماء والتي تليها- يعني: السماء الثّانية والسماء الثّالثة والرّابعة(15/259)
والخامسة والسّادسة والسّابعة- بين كلِّ سماء وسماء خمسمائة عام.
وكثف كل سماء خمسمائة عام.(15/260)
ص -328- ... ورواه بنحوه المسعودي عن عاصم بن أبي وائل، عن عبد الله.
قاله الحافظ الذهبي- رحمه الله تعالى- قال: (وله طرق).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبين السماء السّابعة والكرسي- الذي مرَّ بنا أنّه أعظم من السموات، وأنّها بالنسبة إليه كالدّراهم في التُّرْس- بينهما خمسمائة عام، ثم فوق الكرسي بحر ما بين أسفلِه وأعلاه خمسمائة عامّ، ثم فوق الماء عرشُ الرّحمن سبحانه وتعالى: قال تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}، فكما أن في الأرض بحراً يغمرها فكذلك في السماء بحر آخر غير البحر الذي في الأرض، وهذا البحر الذي في السماء بحر هائل عمقه خمسمائة عام، قال تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}.
فالعرش فوق هذا البَحْر، {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}.
إذاً يكون العرش هو أعظم المخلوقات، أعظم من هذا البَحْر، وأعظم من الكُرْسي، وأعظم من السموات، وأعظم من كلِّ المخلوقات، فالعرش هو أعظم المخلوقات، وأوسعُها، وأعظمُها، والله سبحانه وتعالى أضافه إلى نفسه فقال: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ(15)} {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} فتمدح سبحانه وتعالى به وذلك لأنّه خلْقٌ عظيم، وخَلْقٌ فيه عبرٌ عظيمة يدل على عظمة خالقه.
ثم قال: "وبين السماء السّابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء" أي فوق هذا البحْر.
"والله فوق العرش" فهو سبحانه وتعالى فوق مخلوقاتِه، عالٍ على خَلْقِه سبحانه وتعالى، العليُّ الأعلى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ}، {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}، {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}، وأدلّة علوّ الله جل وعلا على خلْقه كثيرة في الكتاب والسنّة والعقْل والفطرة حتى قال بعضُهم: "إنّها بلغت ألف دليل"، وقد ألّف الحافظ الذهبي رحمه الله كتاباً مستقلاً في العلو سمّاه: "العلوُّ(15/261)
للعليِّ الغفّار"، وهو مطبوع ومتداوَل، ذكر فيه النّصوص الدالّة على علوّ الله على خلْقه، وقد أجمع أهلُ السنّة والجماعة على علوّ الله سبحانه وتعالى بذاتِه على خلقه، ولهذا قال: "والله فوق العرش"، يعني: إذا كان العرش فوق المخلوقات والله فوق العرش، فدلّ على أنّ الله جلا وعلا هو العليُّ الأعلى فوق مخلوقاته جل وعلا، وأنّ المخلوقات كلُّها بالنسبة إلى كف الرحمن سبحانه كالخرْدَلة في يد أحدِنا كما سبق فيما ورد عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.(15/262)
ص -329- ... وعن العبّاس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تدرون كم ما بين السماء والأرض؟ "، قلنا: الله ورسوله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "لا يخفى عليه شيء من أعمالكم" أي: مع علوِّه على خلْقه لا يَتصوّر أحدٌ أنّه بعيدٌ عن عبادِه، بل له هذا العلوّ، ومع هذا لا يخفى عليه شيءٌ من أعمال بني آدم، فهو سبحانه وتعالى فوق العرْش وعلمُه في كلِّ مكان، لا يخفى عليه شيء: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ(5)}، {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(3)}، {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}، {مَعَكُمْ} أي: بعلمه سبحانه وتعالى وإحاطته، لا تخفون عليه، ولا تخفى عليه أعمالُكم خيرُها وشرُّها، وكلُّ ما يصدر من عباده فإنّه يعلمُه سبحانه وتعالى من الطّاعات والمعاصي والخير والشّرّ، كلّه يعلمه سبحانه وتعالى، لا يخفى عليه شيءٌ من أعمالهم: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ(61)}.
فلا يتصوّر أحدٌ أنّ الله إذا كان في العلوّ أنّه يكون بعيداً عن عبادِه، وأنّه لا يعلم أعمالهم، فيتصوّر أنّ الخالق مثل المخلوق، إذا كان في مكان مرتفع فإنّه لا يعلم ما تحتَه، ولا يدري ما يحدُث بما تحته، هذا في حق المخلوق، أما الله جل وعلا فإنّه لا يخفى عليه شيء، والمخلوقات كلها(15/263)
على عظمها وسعتها ما هي بالنسبة إليه بشيء سبحانه وتعالى فهو محيطٌ بها، يعلمُها ويراها، ويسمع ما يحدُث فيها، ويرى ما يحدُث فيها، هو بكلِّ شيء عليم سبحانه. ولا يحدث فيها شيء إلاَّ بقضائه وقدره وأمره.
فهذا فيه: الجمع بين العلوّ والعلم والإحاطة.
"وعن العبّاس" عمّ النّبي صلى الله عليه وسلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "أتدرون كم بين السماء والأرْض؟" هذا فيه: السؤال يراد به التعليم والإرشاد، وليس هو من السؤال الذي يطلُب السّائل من المسؤول أن يُخبره عن شيء لا يعلمُه، وإنّما هو من باب التقريب وإحضار الذّهن، لأنّ التعليم إذا جاء عن طريق السؤال والجواب كان أثبت.(15/264)
ص -330- ... قال: "بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وبين السماء السابعة والعرش بحر، يين أسفله وأعلاه كما بين السماء الأرض، والله تعالى فوق ذلك، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم" أخرجه أبو داود وغيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال صلى الله عليه وسلم: "بينهما مسيرة خمسمائة سنة" أي: بين السماء الدنيا والأرض خمسمائة عام.
"وبين كلِّ سماء إلى سماء خمسمائة عام، وكثف كلِّ سماء" هذه هي الزيادة التي جاء بها هذا الحديث عما قبله، أي: غِلَظ كلّ سماء وسمكها.
"وبين السماء السّابعة والعرْش بحر، بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض" هذا بيان عمق البحْر.
والعرش فوق الماء، وهذا سبق، وهو في الآية الكريمة: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}.
"والله تعالى فوقَ ذلك، وليس يخفى عليه شيءٌ من أعمال بني آدم" هذا كما سبق أنّ الله سبحانه وتعالى مستوٍ على عرشه، عالٍ على خلقه بذاته سبحانه وتعالى، ومع علوِّه سبحانه- على مخلوقاته فإنّه يعلم ما في السموات وما في الأرض، ولا يخفى عليه شيءٌ ممّا يحدُث في هذا الكون في أعلاه وفي أسفله، وجميع أعمال بني آدم على كثرة بني آدم وتفرُّقهم في الأرض واختلاف أمكنتهم فإنّ الله يعلم جميع ما يصدُر منهم: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ(10)}، فالله جل وعلا لا يخفى عليه شيء على كثرة العباد، وتفرُّقهم في الأرض، واختلاف أمكنتهم، وتبايُن ما بينهم وخفاء أعمالِهم فإنّ الله جل وعلا يعلمُها: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} أي أخفى من السّرّ، بل يعلم ما في النّفس وما في القلب قبل أن يتكلّم الإنسان فالله يعلم ما يختلج في نفسك وما يدور في فِكْرك قبل أن تتكلّم وقبل أن تعمل، فالله جل وعلا لا يخفى عليه شيء، وهو العليُّ الأعلى(15/265)
فوقَ مخلوقاتِه سبحانه.
يُستفاد من هذه النصوص فوائد عظيمة جليلة:
أوّلاً: فيه قَبُول الحقِّ مِمَّن جاء به، فإنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قبِل الحق من هذا اليهودي وفرح به - عليه الصلاة والسلام-.(15/266)
ص -331- ... ثانياً: في هذه النّصوص مشروعيّة التحدُّث عن آيات الله الكونيّة، من أجل الاعتبار والاتّعاظ، وتعظيم الله سبحانه وتعالى وإفرادِه بالعبادة، وليس التحدُّث بهذه الأمور هو من باب الاستطلاع أو زيادة المعلومات فقط، وإنّما هو من أجل الاعتبار والاتّعاظ والاستدلال على استحقاق الله جل وعلا للعبادة دونما سواه، هذا هو المطلوب.
ثالثاً: فيها إثبات اليدين لله جل وعلا، والكف، والأصابع، ووصف يديه باليمين والشِّمال، وفي حديثٍ آخر: "وكلتا يديه يمين"، فهي شِمال لكنّها ليست كشِمال المخلوق، فشِماله يمين، خلاف المخلوق فإنّ شِماله لا تكون يميناً، وإنّما هذا خاصٌّ بالله تعالى بأن "كلتا يديه يمين"، فله يد يمين وله شِمال كما في هذه الأحاديث، فهي يمين لا تُشبه يمين المخلوقين وشمالٌ لا تشبه شمال المخلوقين، وله أصابع سبحانه لا تُشبه أصابع المخلوقين، بل تليق به سبحانه وتعالى.
رابعاً: في هذه النّصوص بيانُ المسافات التي بين هذه المخلوقات: المسافات بين السماء والأرض، المسافات بين السموات، المسافات بين السموات والكرسيّ، المسافات بين الكرسي والماء، وهذه مسافات عظيمة متباعِدة، ممّا يدلّ على عظمة هذا الكون، وعظمة هذا الكون يدلّ على عظمة خالقِه سبحانه وتعالى.
وفيها: الردُّ على أصحاب النظريّات الحديثة الذين لا يؤمنون بوجود السموات، ولا بوجود هذه المخلوقات العُلْويّة، وإنّما يظنّون أنّ هذا فضاء خارجي، وعندهم: أن الكون هو المجموعة الشمسيّة، ويعتبرون أنّ الشمس هي المركز لهذه المجموعة، وأنّ هذه الأفلاك بكواكبها تدور عليها -بما فيها الأرض، وهذا من الكذب على الله سبحانه وتعالى، والقول على الله بلا علم، والتحرُّص الذي ما أنزل الله به من سلطان، والنّبي صلى الله عليه وسلم بيَّن هذه المخلوقات في هذه الأحاديث: أوّلاً: الأرض، ثم فوقها السموات السّبع، ثم فوق السموات السّبع الكرسي، ثم فوق الكرسي البحر، ثم فوق البحر(15/267)
العرش، والله جل وعلا فوق العرْش، فيجب الإيمان بذلك، وتكذيب هذه النظريّات الباطلة التي ما أنزل الله بها من سلطان. فالله أخبر أن الأرض قرار وأن الشمس تجري وأصحاب النظريات يقولون بالعكس.
خامساً: في هذه النّصوص إثبات أنّ الأرضين سبع كالسموات، والله جل(15/268)
ص -332- ... وعلا لم يذكر في القرآن عدد الأرضين، ولكنّه أشار إلى هذا في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}، فقوله تعالى: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}، يدلّ على أنّ الأرضين سبع، وجاء مصرَّحاً بذلك في السنّة كما في الأثر الأوّل، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من اقتطع شِبْراً من الأرض طُوِّقَه يومَ القيامة من سبع أَرَضين"، فدلّ هذا على أنّ الأَرَضين سبع.
سادساً: فيها بيان كيفيّة هذه المخلوقات، وأنّ بعضَها فوق بعض، فالأرض أوّلاً ثم السموات، ثم الكرسيّ، ثم البَحْر، ثم العَرْش، وأنّ العرش هو أعظم هذه المخلوقات وفيها رد على من يقول إن العرش هو الملك وأن معنى: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} استولى على الملك.
سابعاً: فيها أنّ الكرسي غير العرش، وأنّه مخلوق مستقل، ردّاً على من زعم أنّه العرْش، أو أنّ المراد به العلم.
ثامناً: في هذه النّصوص إثبات علوّ الله على عرشِه، ردًّا على الجهميّة والمعتزلة والأشاعرة ونُفاة العلوّ الذين ينفون علوَّ الله على عرشِه.
تاسعاً: فيها إثبات إحاطة علمِ الله- جلّ وعلا بكلِّ شيء-، وأنّه لا تخفى عليه أعمال عباده صغيرُها وكبيرُها.
عاشراً: فيها وُجوب إفراد الله تعالى بالعبادة، لأنّه إذا كانت هذه المخلوقات العظيمة حقيرةٌ بالنسبة إليه سبحانه وتعالى، وصغيرة بالنسبة إليه، وأنّه يتصرّف فيها جل وعلا، ويعلم ما يجري فيها وما يكونُ فيها؛ فهو المستحقُّ للعبادة، وبُطلان عبادة ما سواه ممّن لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرًّا ولا موتاً ولا حياةً ولا نُشوراً.
وبهذا انتهى شرح هذا الكتاب المبارَك: "كتاب التّوحيد الذي هو حقُّ الله على العبيد".
والحمد لله رب العالمين، وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(15/269)
التمهيد لشرح كتاب التوحيد
تأليف: الشيخ / صالح آل الشيخ
الناشر:
دار التوحيد
الطبعة الأولى 1424هـ(16/1)
ص -1- ... مقدمة شرح كتاب التوحيد
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه:
هذا شرح لكتاب التوحيد، شرحته في مجالس متصلة في مسجد شيخ الإسلام ابن تيمية بحي سلطانة في مدينة الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية، وقد فرغ من الأشرطة المسجلة وأصلحت بعض الألفاظ بما يناسب المكتوب، فلم أقصد على تأليف شرح، ولذلك فإني أرغب من المحققين في مقاصد التأليف أن يغضوا الطرف عما قد يرد في الشرح من عدم استيعاب أو علو عبارة، والله أسأل أن يجزي مؤلف الأصل الجدّ الإمام محمد بن عبد الوهاب خير الجزاء عن أهل السنة لقاء ما قرّب لهم من علوم الكتاب والسنة، وصلى الله على نبينا محمد وسلم تسليما.
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ.(16/2)
ص -2- ... بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بعث عباده المرسلين بتوحيده، وأقام بهم الحجة على عبيده، فاتفقوا أولهم وآخرهم على توحيده وتفريده، ونبذ الشرك وتنديده، وأنه الإله الحق المستحق للعبادة دون من سواه، وعبادة غيره- كائنا من كان- باطلة؛ فإنه ما عُبد غير الله إلا بالبغي، والظلم، والعدوان.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تأكيداً بعد تأكيد؛ لبيان مقام التوحيد، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:-
فهذا الكتاب –كتاب التوحيد- من مؤلفات الإمام المصلح المجدد شيخ الإسلام والمسلمين، محمد بن عبد الوهاب، وهو –رحمه الله- غني عن التعريف؛ لما جعل الله –جلّ وعلا- لدعوته من أثر ظاهر النفع في جميع أنحاء الأرض: شرقاً وغرباً، جنوباً وشمالاً، ولا غرو في ذلك فإن دَعوَتَه –رحمه الله- إحياء لدعوة محمد بن عبد الله –عليه أفضل الصلاة والسلام-.
وكتاب التوحيد –الذي نحن بصدد شرحه- كتاب عظيم جداً، أجمع علماء التوحيد، على أنه لم يصنف في الإسلام في موضوعه مثله، فهو كتاب وحيد فريد في بابه، لم ينسج على منواله مثله؛ لأن المؤلف –رحمه الله- طرق في هذا الكتاب مسائل توحيد العبادة، وما يضادُّ ذلك التوحيد، من أصله، أو ما يضاد كماله، فامتاز الكتاب بسياق أبواب توحيد العبادة(16/3)
ص -3- ... مفصلة، مُدَلَّلَةً، وعلى هذا النحو، بتفصيل، وترتيب، وتبويب لمسائل التوحيد، لم يوجد من سبق الشيخ إلى ذلك، فحاجة طلاب العلم إليه، وإلى معرفة معانيه ماسة؛ لما اشتمل عليه من الآيات، والأحاديث، والفوائد.
وقد شبَّه بعض العلماء هذا الكتاب بأنه قطعة من صحيح البخاري –رحمه الله- وهذا ظاهر، ذلك أن الشيخ –رحمه الله- نَسَج كتابه هذا نسج الإمام البخاري صحيحه من جهة أن التراجم التي يعقدها، تحتوي على آية وحديث –غالباً- والحديث والآية على الترجمة، وما بعدها مفسِّر لها، وكذلك ما يسوقه –رحمه الله- من كلام أهل العلم من الصحابة، أو التابعين، أو أئمة الإسلام، هو نسق طريقة الإمام أبي عبد الله البخاري –رحمه الله- فإنه يسوق أقوال أهل العلم في بيان المعاني.
وهذا الكتاب صنفه إمام الدعوة ابتداءً في البصرة لما رحل إليها، وكان الداعي إلى تأليفه ما رأى من شيوع الشرك بالله –جل جلاله- ومن ضياع مفهوم التوحيد الحق عند بعض المسلمين، وما رآه عندهم من مظاهر الشرك: الأكبر، والأصغر، والخفي، فابتدأ في البصرة جمع هذا الكتاب، وتحرير الدلائل لمسائله، ذكر ذلك تلميذه، حفيده الشيخ الإمام عبد الرحمن بن حسن –رحمه الله- في ((المقامات))، ثم إن الشيخ لما قدم نجداً حرر الكتاب، وأكمله، فصار كتابه هذا –بحق- كتاب دعوة إلى التوحيد الحق؛ لأن الشيخ –رحمه الله-بين فيه أصول دلائل التوحيد، وبين فيه معناه وفصله، كما بيّن فيه ما يضادّه، والخوف ممّا يضاده، وبيّن –أيضاً- أفراد توحيد العبادة، وأفراد(16/4)
ص -4- ... توحيد الأسماء والصفات إجمالاً، واعتنى ببيان الشرك الأكبر والأصغر وصورهما، والذرائع المؤدية إليهما، وبين ما يُحمى به التوحيد، والوسائل إلى ذلك، وبين أيضاً شيئاً من أفراد توحيد الربوبية. فـ((كتاب التوحيد)) كتاب عظيم النفع جداً، جدير بأن يعنى به عناية حفظٍ، ودرس، وتأمل، فالعبد محتاج إليه للعمل به، ولتبليغ ما فيه من العلم لمن وراءه من الناس، سواءً أكانوا في المسجد، أم في البيت، أم في مقر عمله، أم في أي جهة أخرى. والمقصود: أن مَنْ فهم هذا الكتاب فقد فهم أكثر مسائل توحيد العبادة، بل يكون قد فهم جل مسائله وأغلبها.
وقد كنت نظرت في الكيفية التي ينبغي أن يشرح بها هذا الكتاب، وطريقة ذلك؛ لأن الكتاب –كما يُعلم- طويل لا يمكن استيعاب شرحه شرحاً متوسطاً أو مبسوطاً في نحو ثمانية عشر مجلساً، فتأملت منهج العلماء الذين شرحوه، فوجدت شروحهم: ما بين بسيط، ووجيز، ووسيط، فرأيت أن يقتصر الشرح على ذكر الفوائد التي يكثر التباسها على طلبة العلم، مع بيان مناسبة الآي والأحاديث للترجمة، وإبراز وجه الاستدلال من الآية أو من الحديث على المقصود، وذكر شيء من تقرير الحجاج مع الخصوم في هذه المسائل، ربما بما لا يُطالعه كثير من طلبة العلم في الشروح. وهذه الطريقة التي سنسلكها: طريقة مختصرة، سوف نأتي بها –إن شاء الله تعالى- على الكتاب كله، مع عدم الإخلال بإفهامه، وعدم الإقلال من معانيه، ونسأل الله تعالى المدد، والإعانة، والتوفيق.(16/5)
ص -1- ... (كتاب التوحيد)
قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} الآية [النحل:36]، وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} الآية [الإسراء: 23]، وقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} الآية [النساء: 36]، وقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} الآيات [الأنعام: 151-153].
قال ابن مسعود: "من أراد أن ينظر إلى وصية محمد –صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} إلى قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} الآية". (1)
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت رديف النبي –صلى الله عليه وسلم- على حمار فقال لي: "يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله"؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حق الله على العباد: أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله: أن لا يعذب من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه الترمذي (3072) والبيهقي في شعب الإيمان كما في الدر المنثور (3/381).(16/6)
ص -2- ... لا يشرك به شيئاً". قلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ قال: "لا تبشرهم فيتكلوا" أخرجاه في الصحيحين. (1)
فيه مسائل:
الأولى: الحكمةُ في خلق الجن والإنس.
الثانية: أن العبادة هي التوحيد؛ لأن الخصومة فيه.
الثالثة: أن من لم يأت به لم يعبد الله. ففيه معنى قوله: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}.
الرابعة: الحكمة في إرسال الرسل.
الخامسة: أن الرسالة عمت كل أمة.
السادسة: أن دين الأنبياء واحد.
السابعة: المسألة الكبيرة: أن عبادة الله لا تحصل إلا بالكفر بالطاغوت، ففيه معنى قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}.
الثامنة: أن الطاغوت عام في كل ما عُبد من دون الله.
التاسعة: عظم شأن ثلاث الآيات المحكمات في سورة الأنعام عند السلف وفيها عشر مسائل. أولها: النهي عن الشرك.
العاشرة: الآيات المحكمات في سورة الإسراء. وفيها ثماني عشرة مسألة بدأها الله بقوله: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (128) و(129) و(2856) و(5967) و(6267) و(6500) و(7373) ومسلم (30).(16/7)
ص -3- ... وختمها بقوله: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً}. ونبهنا الله –سبحانه- على عظم شأن هذه المسائل بقوله: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ}.
الحادية عشرة: آية سورة النساء التي تسمى آية الحقوق العشرة، بدأها تعالى بقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}.
الثانية عشرة: التنبيه على وصية رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عند موته.
الثالثة عشرة: معرفة حق الله علينا.
الرابعة عشرة: معرفة حق العباد عليه إذا أدوا حقه.
الخامسة عشرة: أن هذه المسألة لا يعرفها أكثر الصحابة.
السادسة عشرة: جواز كتمان العلم للمصلحة.
السابعة عشرة: استحباب بشارة المسلم بما يسره.
الثامنة عشرة: الخوف من الاتكال على سعة رحمة الله.
التاسعة عشرة: قول المسؤول عما لا يعلم "الله ورسوله أعلم".
العشرون: جواز تخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض.
الحادية والعشرون: تواضعه –صلى الله عليه وسلم- لركوب الحمار، مع الإرداف عليه.
الثانية والعشرون: جواز الإرداف على الدابة.
الثالثة والعشرون: فضيلة معاذ بن جبل.
الرابعة والعشرون:عظم شأن هذه المسألة.(16/8)
ص -4- ... الشرح:
قوله: كتاب التوحيد، وقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] جرت عادة المصنفين والمؤلفين، أن يضعوا بعد البسملة والحمدلة خطبة للكتاب، يبينون فيها طريقتهم فيه، ومرادهم من تأليفه، وهاهنا سؤال معروف، وهو: لماذا خالف الشيخ –رحمه الله- طريقة المصنفين، فلم يجعل للكتاب خطبة يبين فيها طريقته، بل قال: "كتاب التوحيد" وقول الله تعال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فأخلاه من الخطبة؟ والسبب في ذلك، والسر فيه –فيما يظهر لي- أن التوحيد الذي سيبينه الشيخ –رحمه الله- في هذا الكتاب هو توحيد الله –جل جلاله-، وتوحيد الله قد بينه الله –جلا وعلا- في القرآن، فكان –لذلك- من الأدب في مقام التوحيد ألا يَجعل فاصلاً بين الحق والدال على الحق وكلام الدال عليه، فالحق الذي لله هو التوحيد، والذي دل على هذا الحق هو الله –جل جلاله- والدليل عليه هو كلامه، وكلام رسوله –صلى الله عليه وسلم- وهذا من لطائف أثر التوحيد في القلب، وهذا كصنيع الإمام البخاري –رحمه الله- في صحيحه،(1) إذ لم يجعل لصحيحه خطبة، بل جعل صحيحه مبتدأً بالحديث؛ ذلك أن كتابه كتاب سنة، ومن المعلوم أن من الأدب، أو من مراعاة الأدب: ألا يتقدَّم بين يدي الله ورسوله، فلم يقدِّم كلامه على كلام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: البخاري في كتاب بدء الوحي ص:1.(16/9)
ص -5- ... رسوله –صلى الله عليه وسلم- فجعل البخاري صحيحه مفتتحاً بقول الرسول –صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"(1) لأن كتابه كتاب سنة، فجعل كتابه في ابتدائه مبتدأً بكلام صاحب السنة –عليه الصلاة والسلام-. وهذا من لطيف المعاني التي يرعاها من نَوَّرَ الله قلوبهم لمعرفة حقه، وحق رسوله صلى الله عليه وسلم.
قوله: (كتاب التوحيد) التوحيد: مصدر وحَّدَ يوحِّد توحيداً، وقد جاء هذا اللفظ (التوحيد) بقلة، وجاء في السنة الدعوة إلى توحيد الله، كما ورد في صحيح البخاري أن النبي –صلى الله عليه وسلم- لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن قال له: "إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يوحدوا الله"(2) فـ"يوحدوا" مصدره "التوحيد"، وفي الرواية الأخرى من حديث ابن عباس –رضي الله عنهما- الذي فيه قصة بعث معاذ إلى اليمن –وهي في الصحيحين- أنه –صلى الله عليه وسلم- قال: "فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله"(3) فدل هذا على أن التوحيد هو: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتحقيق هاتين الشهادتين، هو: تحقيق التوحيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (1) و(54) و(2529) و(3898) و(5070) و(6689) و(6953) ومسلم (1907).
(2) أخرجه البخاري (1458) و(1496) و(2448) و(4347) و(7371) ومسلم (19) (31).
(3) أخرجه البخاري (1395) و(1496) و(4347) و(7371) ومسلم (19) (31).(16/10)
ص -6- ... وتوحيد الشيء: جعله واحداً، تقول: وحَّدْتُ المتكلم: إذا جعلتَه واحداً، ووحَّد المسلمون الله: إذا جعَلوا المعبود واحداً، وهو الله –جل وعلا-.
والتوحيد المطلوب يشمل ما أمر الله –جل وعلا- به في كتابه من توحيده، وهو ثلاثة أنواع:
1- توحيد الربوبية.
2- وتوحيد الألوهية.
3- وتوحيد الأسماء والصفات.
فأما توحيد الربوبية: فمعناه توحيد الله بأفعاله. وأفعال الله كثيرة، منها: الخلق، والرَّزْق، والإحياء، والإماتة، وتدبير الملك، والنفع، والضَّر، والشفاء، والإجارة، كما قال تعالى في التنزيل: {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْه} [المؤمنون: 88] وإجابة دعوة المضطر، وإجابة دعوة الداعي، ونحو ذلك من أفراد الربوبية، فالمتفرد بذلك على الكمال هو الله –جل وعلا- فتوحيد الربوبية: هو توحيد الله بأفعاله –سبحانه-.
وأما توحيد الألوهية: فالألوهية مأخوذة من: ألَه يأْلَه إلهة وأُلُوهةً: إذا عبد مع المحبة والتعظيم. يقال: تألَّه: إذا عبد معظما محباً، ففرق بين العبادة والألوهة، فإن الألوهة عبادة فيها المحبة، والتعظيم، والرضا بالحال، والرجاء، والرغب، والرهب، فمصدر ألَه يأْلَه: أُلُوهة وإلهة؛ ولهذا قيل: توحيد الإلهية، وقيل توحيد الألوهية، وهما مصدران لأَلَه يأْلَه.
ومعنى (ألَه) في لغة العرب: عبد مع المحبة، والتعظيم. والتأَلُّه: العبادة على ذلك النحو، قال الراجز:(16/11)
ص -7- ... لله درُّ الغانيات المدَّةِ ... سبَّحن واسترجعن من تألهِ
يعني: من عبادتي، فتوحيد الإلهية، أو توحيد الألوهية: هو توحيد العبادة، يعني: جَعْل العبادة لواحد، وهو الله – جل جلاله-، فالعبادة التي يفعلها العبد أنواع، والله –جل وعلا- هو المستحق للألوهية وللعبادة، فهو ذو الألوهية، وهو ذو العبادة على خلقه أجمعين.
فـ"توحيد" الألوهية: هو توحيد الله بأفعال العبد المتنوعة، التي يوقعها على جهة التقرّب، فإذا توجه بها لواحد وهو الله –جل وعلا- كان موحداً إياه توحيد الإلهية، وإذا توجّه العبد بها لله ولغيره كان مشركاً في هذه العبادة.
وأما النوع الثالث من التوحيد: فهو توحيد الأسماء والصفات، ومعناه: أن يعتقد العبد أن الله –جل جلاله- واحد في أسمائه وصفاته لا مماثل له فيها، وإن شَرِكَ بعضُ العباد الله –جل وعلا- في أصل بعض الصفات فإنهم لا يَشْرَكُونه –جل وعلا- في كمال المعنى، بل الكمال فيها لله وحده دون من سواه، ومثال ذلك: أن المخلوق قد يكون عزيزاً، والله –جل جلاله- هو العزيز، فللمخلوق من صفة العزة ما يناسب ذاته الحقيرة الوضيعة الفقيرة، والله –جل وعلا- له من كمال هذه الصفة منتهى ذلك، ليس له فيها مثيل، وليس له فيها مشابه على الوجه التام، قال –جل وعلا-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
فهذه الأنواع الثلاثة من التوحيد ذكرها الشيخ –رحمه الله- في هذا الكتاب، لكن لما كانت التصانيف قبله اعتنى فيها العلماء –أعني علماء السنة والعقيدة- ببيان النوعين: الأول والثالث، وهما توحيد الربوبية وتوحيد(16/12)
ص -8- ... الأسماء والصفات، لما اعتنى العلماء بهما لم يبسط الشيخ –رحمه الله- القول فيهما، وإنما بسط القول فيما الناس أحوج إليه، ويفتقدون التصنيف فيه، وهذه طريقة الإمام –رحمه الله- فإن كتاباته المختلفة، ومؤلفاته المتنوعة: إنما كانت بحسب حاجة الناس إليها، ليست للتكاثر، أو للاستكثار، أو للتفنن، وإنما كتب فيما الناس بحاجة إليه، فلم يكتب لأجل أن يكتب، ولكن كتب لأجل أن يدعو، وبين الأمرين فرق، فالشيخ –إذاً- بيّن في هذا الكتاب توحيد الإلهية والعبودية، وبيّن أفراده من: التوكل، والخوف، والمحبة، والرجاء، والرغبة، والاستعانة، والاستغاثة، والذبح، والنذر، ونحو ذلك، فكل هذه عبادات لله-سبحانه وحده- دون من سواه. ثم إن الشيخ –رحمه الله- لما بسط ذلك بَيَّن أيضاً ضده وهو الشرك. فهذا الكتاب الذي هو كتاب التوحيد، فيه بيان توحيد العبادة، والربوبية، والأسماء والصفات، وفيه –أيضاً- بيان ضد ذلك، وضد التوحيد: الشرك. والشرك معناه: اتخاذ الشريك، وهو أن يُجْعَلَ واحدٌ شريكاً لآخر؛ يقال: أشرك بينهما: إذا جعلهما اثنين، أو أشرك في أمره غيره: إذا جعل ذلك الأمر لاثنين. فالشرك فيه تشريك، والله –جل وعلا- نهي عن الشرك، كما سيأتي الكلام على ذلك –إن شاء الله-.
وقد بيّن أهل العلم عند كلامهم عن الشرك: أنه بحسب ما دلت عليه النصوص: يُقسَّم إلى قسمين باعتبار، ويقسم إلى ثلاثة أقسام باعتبار آخر؛ فهو إما أن يُقسَّم إلى: شرك أكبر، وشرك اصغر. فهذا باعتبار انقسامه إلى قسمين، أو يقسَّم إلى: شرك أكبر، وشرك أصغر، وشرك خفي، فهذا باعتبار انقسامه إلى ثلاثة أقسام.(16/13)
ص -9- ... والشرك: هو اتخاذ شريك مع الله –جل وعلا- في الربوبية، أو في العبادة، أو في الأسماء والصفات. والمقصود هنا: النهي عن اتخاذ شريك مع الله –جل وعلا في العبادة، والأمر بتوحيده –سبحانه-.
والتقسيم الأول: وهو تقسيم الشرك إلى أكبر وأصغر، فالأكثر: هو المخرج من الملة، والأصغر: ما حكم عليه بأنه شرك. وليس فيه تنديد كامل يُلْحِقُهُ بالشرك الأكبر، وعبَّر عنه بعض العلماء بقوله: ما كان وسيلة إلى الشرك الأكبر، فعلى هذا يكون الشرك الأكبر منه ما هو ظاهر، ومنه ما هو باطن خفي.
فمثال الظاهر من الشرك الأكبر: عبادة الأوثان، والأصنام، وعبادة القبور، والأموات والغائبين. ومثال الباطن: شرك المتوكلين على المشايخ، أو على الآلهة المختلفة، أو كشرك المنافقين؛ لأن المنافقين مشركون في الباطن؛ فشركهم أكبر، ولكنه خفي، أي في الباطن، وليس في الظاهر.
وكذلك الشرك الأصغر –على هذا التقسيم- منه ما هو ظاهر، ومنه ما هو باطن خفي، فمثال الظاهر من الشرك الأصغر: لبس الحلقة، والخيط، وتعليق التمائم، والحلف بغير الله، ونحو ذلك من الأعمال والأقوال. ومثال الباطن الخفي منه: يسير الرياء ونحو ذلك. فيكون الرياء –على هذا التقسيم أيضاً- منه ما هو أكبر كرياء المنافقين الذين قال الله في وصفهم: {يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء: 124]، ومنه: ما يقع فيه بعض المصلين المصنّعين في صلواتهم؛ لأجل نظر الناس إليهم، ومنه ما هو أصغر كمن يحبُّ التسميع أو المراءآت.(16/14)
ص -10- ... التقسيم الثاني للشرك –وهو جعله ثلاثة أقسام-: أكبر، وأصغر، وخفي، وهذا التقسيم يعني به أن الأكبر: ما كان مخرجاً من الملة؛ مما فيه صرف العبادة لغير الله -جل جلاله-، والأصغر: ما كان وسيلة لذلك الشرك الأكبر، وفيه تنديد لا يبلغ به أن يخرج من الإسلام، وقد حكم الشارع على فاعله بالشرك، وحقيقة الحال: أنه ندد وأشرك.
وأما الشرك الخفي، فهو: كيسير الرياء، ونحو ذلك. وبعض أهل العلم يقول بالتقسيم الأول، ومنهم من يقول بالثاني. والتحقيق أنهما متساويان، أحدهما يوافق الآخر، وليس بينهما اختلاف. فإذا سمعت من يقول: إن الشرك ينقسم إلى أكبر، وأصغر: فقوله هذا صحيح، وإذا سمعت من يقول –وهو قول أئمة الدعوة-: إن الشرك ينقسم إلى أكبر وأصغر وخفي: فهذا –أيضا- قوله صحيح.
فإذا تبيّن ذلك، فاعلم أن الشرك يعبر عنه بالتنديد، كما قال –جل وعلا-: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} [البقرة: 22]، وقال النبي –صلى الله عليه وسلم- حينما سئل أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله نداً، وهو خلقك".(1).
فالتنديد منه ما هو تنديد أعظم، ومن ما هو تنديد أصغر ليس فيه صرف العبادة لغير الله، فإذا كان التنديد يجعل العبادة لغير الله: صار التنديد شركاً أكبر، وإذا كان التنديد يجعل غير الله –جل وعلا- نداً لله في عمل، ولم يبلغ ذلك الشرك الأكبر: فإنه يكون تنديداً أصغر، وهذا المسمى بالشرك الأصغر،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (4761) و(6811) و(7520) ومسلم (86) (141).(16/15)
ص -11- ... فهذه مقدمات، وتعريفات، وتنبيهات، جعلتها بين يدي هذا الشرح لأهميتها، ولمسيس الحاجة إليها والله أعلم.
قال إمام هذه الدعوة –رحمه الله-: (كتاب التوحيد) (وقول الله تعالى). (قول) هذه الكلمة – كما في صحيح البخاري- إما أن تنطقها على العطف، فتقول: كتاب التوحيد، وقول الله، يعني: وكتاب قول الله، أو تنطقها على الاستئناف، فتقول: وقولُ الله تعالى.
قال: (وقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات: 56] هذه الآية فيها بيان التوحيد، ووجه ذلك: أن السلف فسروا قوله تعالى: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} بمعنى: إلا ليوحدون(1)، ودليل هذا الفهم: أن الرسل إنما بعثت لأجل التوحيد، أعني: توحيد العبادة، فقوله: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} يعني: إلا ليوحدون.
قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} هذه الآية فيها حصرٌ؛ لأن من المعلوم أن (ما) النافية مع إلا) تفيد الحصر والقصر، فيكون معنى الكلام –على هذا-: أني خلقت الجن والإنس لغاية واحدة هي العبادة دون ما سواها، ففيه قصر علة الخلق على العبادة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير ابن كثير ج4/238.(16/16)
ص -12- ... وقوله: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، و(إلا) هذه أداة استثناء، والاستثناء هنا مفرغ –أي مفرغ من أعمِّ الأحوال كما يقول النحاة- يعني: وما خلقت الجن والإنس لشيء، أو لغاية من الغايات أبداً إلا لغاية واحدة، هي: أن يعبدوني.
وقوله: {لِيَعْبُدُونِ} هذه اللام تسمّى لام التعليل، ولام التعليل هذه قد يكون معناها: إما تعليل غاية، أو تعليل علة.
فتعليل الغاية: يكون ما بعدها مطلوبا، لكن قد يكون، وقد لا يكون، يعني: هذه الغاية. ويسميها بعض العلماء لام الحكمة. وفرْقٌ بين العلة والحكمة، يوضِّحُهُ: إذا قيل: ما الحكمة من خلق الجن والإنس؟ فالجواب: أن يعبدوا الله وحده دون ما سواه، فهذا التعليل لقوله: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} هو تعليل غاية؛ ولو سألت شخصاً –مثلاً-: لم أحضرت الكتاب؟ قال لك: أحضرته لأقرأ، كانت علة الإحضار، أو الحكمة من الإحضار: القراءة، فقد يقرأ، وقد لا يقرأ، بخلاف اللام التي يكون معناها العلة؛ وهي التي يترتب عليها معلولها، والتي يقول العلماء في نحوها: الحكم دائر مع علته وجوداً وعدماً، فتلك هي علة القياس التي لا يتخلف فيها المعلول عن العلة. فتكون اللام هنا: علة الغاية؛ لأن من الخلق من أوجد، وخلقه الله –جل وعلا- لكن عبد غيره.
ولام الحكمة شرعية، ويكون ما بعدها مطلوباً شرعاً؛ وقد قال –جل وعلا- هنا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} فنفهم من هذا:(16/17)
ص -13- ... أن هذه الآية دالة على التوحيد، من جهة أن الغاية من الخلق هي التوحيد، والعبادة هنا هي التوحيد.
وحقيقة العبادة: الخضوع والذل، فإذا انضاف إليها المحبة والانقياد صارت شرعية، قال طرفة في وصف ناقة:
تباري عتاقاً ناجياتٍ وأتبعت ... وضيفاً وضيفاً فوق مور معبد
والمور: الطريق، والمعبد: هو الذي ذلل من كثرة وطء الأقدام عليه.
وقال أيضاً في معلقته:
إلى أن تحامتني العشيرة كلها ... وأفردت إفراد البعير المعبد
يعني الذي صار ذليلاً؛ لأنه أصيب بالمرض، فجعل بعيداً عن باقي الأبعرة، فصار ذليلاً، لعدم المخالطة.
والعبادة شرعا: هي امتثال الأمر والنهي على جهة المحبة والرجاء والخوف.
وقال بعض العلماء: "إن العبادة هي أمر به من غير اقتضاء عقلي ولا اطراد عرفي". وهذا تعريف الأصوليين.
وقال شيخ الإسلام -في بيان معناها في أول رسالة ((العبودية))-: "العبادة: اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال، والأعمال الظاهرة والباطنة".
فتكون دلالة هذه الآية –إذاً-: أن كل فرد من الأفراد العبادة يجب أن يكون لله وحده دون ما سواه؛ لأن الذي خلقهم إنما خلقهم لأجل أن يعبدوه، فكونهم يعبدون غيره –وهو الذي خلقهم- يعد من الاعتداء والظلم العظيم؛ لأنه ليس من يخلق كمن لا يخلق؛ كما قال –جل وعلا-: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [النحل: 17].(16/18)
ص -14- ... قال شيخ الإسلام –رحمه الله-: وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، هذه الآية تفسير للآية قبلها، فالآية قبلها فيها بيان معنى العبادة، وفيها بيان الغرض من إيجاد الخلق، وأنه لأجل العبادة التي أرسلت بها الرسل بدليل قوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} فالله تعالى ابتعث الرسل بهاتين الكلمتين: اعبدوا الله، واجتنبوا الطاغوت. ففي قوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ} إثبات، وفي قوله: {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} نفي، وهذا معنى التوحيد المشتمل على إثبات ونفي، فقوله في الآية: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} يتضمن معنى قول: (لا إله إلا الله)؛ لأن النفي فيه اجتناب الطاغوت –وهو كل إله عبد بالبغي والظلم والعدوان-، والإثبات فيه: إثبات العبادة لله وحده دون ما سواه، ففي قوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ} التوحيد المثبت، وفي قوله: {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} نفي الإشراك.
والطاغوت فعلوت من الطغيان، وهو: كل ما جاوز به العبد حده من متبوع، أو معبود، أو مطاع.
قال: وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء: 23] (قضى) –كما فسرها عدد من الصحابة هنا- بمعنى: أمر ووصى.(16/19)
ص -15- ... وأمر ووصى فيهما معنى القول دون حروف القول، فتكون (أن) في قوله: {ألا تعبدوا} مصدرية، يعني: بماذا أمر ووصى؟ بـ{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}
قوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} هذا معنى (لا إله إلا الله) بالمطابقة؛ لأن (لا) نفي في الجملتين، وقال هنا: {تَعْبُدُوا} وهي بمعنى (إله) المذكورة في كلمة التوحيد، فالإله هو المعبود. فقوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} يعني: احصروا العبادة فيه وحده دون ما سواه؛ فإنه أمر بهذا، ووصى به، وهذا هو معنى التوحيد، ودلالة الآية على التوحيد ظاهرة، في أن التوحيد إفراد الله بالعبادة، أو تحقيق كلمة (لا إله إلا الله).
وقوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} يعني: وأحسنوا بالوالدين إحسانا.
قال: وقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء: 36]، وهذا –أيضاً- فيه أمر ونهي، أما الأمر ففي قوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ} وأما النهي ففي قوله: {وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} وقد مر دلالة قوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ} مع النفي، على توحيد الله.
ثم تأمل قوله هنا: {وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}، فإن (لا) هنا: ناهية، ومن المتقرر في علم الأصول أن النهي كالنفي، إذا تسلَّط على نكرة، فإنه يفيد العموم، وما بعد (لا) نكرة وهو المصدر أحد مدلولي الفعل؛ لأن الفعل(16/20)
ص -16- ... المضارع مشتمل على مصدر وزمن، فـ{وَلا تُشْرِكُوا} يعني: لا إشراك به، فـ{تُشْرِكُوا} متضمنة لمصدر، والمصدر نكرة، فيكون قوله: {لا تُشْرِكُوا} دل على النهي على أي نوع من الشرك. كما أن قوله –في الآية نفسها-: {شَيْئاً} نكرة تدلُّ على عموم الأشياء، فصار –عندنا- في قوله تعالى: {وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} عمومان، الأول: ما دلت عليه الآية من النهي عن جميع أنواع الشرك؛ وذلك لأن النهي تسلط على الفعل، والفعل دال على المصدر، والمصدر نكرة. والثاني: أن مفعول تشرك {شَيْئاً} وهو نكرة، والنكرة جاء في سياق النهي؛ وذلك يدل على عموم الأشياء، يعني: لا الشرك الأصغر مأذون به، ولا الأكبر، والخفي؛ بدلالة قوله: {وَلا تُشْرِكُوا بِهِ}. وكذلك ليس مأذوناً أن يُشرَك به لا ملك، ولا نبي، ولا صالح، ولا عالم، ولا طالح، ولا قريب، ولا بعيد، بدلالة قوله: {شَيْئاً} وهذا استدلال ظاهر الوضوح في الدلالة على التوحيد: بالجمع بين النفي والإثبات.
قال: قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [الأنعام: 151-153] {قل تعالوا} يعني: ما حرم من بعض الأنعام، وافترى على الله في ذلك {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ(16/21)
ص -17- ... أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} قال العلماء: (أن) هنا: تفسيرية، ومفسرها محذوف تقديره: وصاكم؛ لأن (أن) التفسيرية هي التي تأتي بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه، وإنما قدروا المحذوف بقولهم: (وصاكم) لأنه جاء في آخر الآي قوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، وقال في الآية الثانية: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون}، وقال في الآية الثالثة: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وكل هذه الثلاث فيها التوصية، فيكون تقدير الكلام –إذاً-: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم: وصاكم ألا تشركوا به شيئاً. والوصية هنا: شرعية، وإذا كانت الوصية من الله شرعية: فهي أمر واجب.
وقوله: { أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} دلالتها على التوحيد كدلالة أية النساء التي قبلها.
ثم ساق الشيخ –رحمه الله- أثر ابن مسعود –رضي الله عنه- وهو قوله: "من أراد أن ينظر إلى وصية محمد –صلى الله عليه وسلم- التي عليها خاتمه، فليقرأ قوله تعالى ... الخ. (1)
قوله: (التي عليها خاتمه): يعني التي كانت من آخر ما وصى به، ومن آخر ما أمر به، يعني التي قُدِّر أنه وصى، وختم على هذه الوصية، وفتحت بعد وفاته –عليه الصلاة والسلام- وانتقاله إلى الرفيق الأعلى لكانت هي هذه الآيات التي فيها الوصايا العشر، فهذا القول من ابن مسعود للدلالة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم.(16/22)
ص -18- ... على عظم شأن هذه الآيات التي افتُتِحَت بالنهي عن الشرك. والنبي –صلى الله عليه وسلم- ابتدأ دعوته بالأمر بعبادة الله وحده، والنهي عن الشرك، واختتمها أيضاً –كما دل عليه كلام ابن مسعود هذا- بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك فدل ذلك على كونه أولى المطالب، وأول المطالب، وأهم المطالب.
ثم قال بعد بذلك: (وعن معاذ بن جبل –رضي الله عنه- قال: كنت رديف النبي –صلى الله عليه وسلم- على حمار فقال لي: "يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟" قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً").(1) وموطن الشاهد من هذا الحديث هو قوله: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً" وهذا قد مرّ بيان معناه، لكن الشاهد من هذا الحديث، ومناسبته للابتداء –ابتداء كتاب التوحيد-: أنه أتى فيه بلفظ (حق) الذي في قوله: "أتدري ما حق الله على العباد"، ثم قال: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً" وهذا الحق حق واجب لله –جل وعلا- لأن الكتاب والسنة، بل ولأن المرسلين جميعاً أتوا بهذا الحق، وببيانه، وبيان أنه أوجب الواجبات على العباد.
ثم قال: "وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً" قوله: (وحق العباد على الله) معناه: أن هذا حقٌ أحقه الله على نفسه باتفاق أهل العلم، وأوجبه على نفسه، كما في بعض أقوالهم، كما قاله الشيخ تقي الدين ابن تيمية –رحمه الله-.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم.(16/23)
ص -19- ... وهل ذلك الحق المذكور في قوله: "حق العباد على الله" هل هو واجب أم لا؟ نقول: نعم، هو حق واجب، لكن بإيجاب الله ذلك الحق على نفسه؛ فالله جل وعلا-يحرم على نفسه ما يشاء بما يوافق حكمته، ويوجب على نفسه ما يشاء بما يوافق حكمته، فكما أن الله حرم الظلم على نفسه، كما في قوله: "إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا"(1) كذلك أوجب على نفسه أشياء، لكن بعض أهل العلم تحاشى إطلاق لفظ (الإيجاب) على الله، وقال: يُعبَّر عن ذلك بأنه حق يتفضل به –سبحانه- على من يشاء، فهو حق تفضل، لا حق إيجاب، لكن هذا ليس بمتعين؛ لأن الحق الواجب هو الذي أوجبه على نفسه، والعباد لا يوجبون على الله –جل وعلا- شيئاً من الحقوق، بل هو الذي أوجبه –جل وعلا- على نفسه، وتفضل به على عباده، والله –جل جلاله- لا يخلف الميعاد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم (2577).(16/24)
ص -20- ... باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب
وقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}الآية [الأنعام: 82]. عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل" أخرجاه. (1)
ولهما في حديث عتبان: "فإن الله حرّم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله".(2)
وعن أبى سعيد الخدري عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "قال موسى: يا رب علمني شيئاً أذكرك، وأدعوك به، قال: قل –يا موسى-: لا إله إلا الله، قال: يا رب، كل عبادك يقولون هذا؟ قال: يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله" رواه ابن حبان والحاكم وصححه. (3)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (3435) ومسلم (28).
(2) أخرجه البخاري (425) و(667) و(6423) و(6938) ومسلم (33).
(3) أخرجه ابن حبان (2324- موارد) والحاكم1/528 وصححه ووافقه الذهبي.(16/25)
ص -21- ... وللترمذي –وحسنه- عن أنس: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "قال الله تعالى: يا بن آدم، لو آتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة".(1)
فيه مسائل:
الأولى: سعة فضل الله.
الثانية: كثرة ثواب التوحيد عند الله.
الثالثة: تكفيره مع ذلك للذنوب.
الرابعة: تفسير الآية (82) التي في سورة الأنعام.
الخامسة: تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة.
السادسة: أنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان وما بعده؛ تبين لك معنى قول: "لا إله إلا الله" وتبين لك خطأ المغرورين.
السابعة: التنبيه للشرط الذي في حديث عتبان.
الثامنة: كون الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله.
التاسعة: التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أن كثيراً ممن يقولها يخف ميزانه.
العاشرة: النص على أن الأرضين سبع كالسماوات.
الحادية عشرة: أن لهن عماراً.
الثانية عشرة: إثبات الصفات خلافاً للأشعرية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد5/154 و172، والترمذي (3534) وقال: حديث حسن غريب. وله شاهد من حديث أبي ذر عند مسلم (2687).(16/26)
ص -22- ... الثالثة عشرة: أنك إذا عرفت حديث أنس؛ عرفت أن قوله في حديث عتبان: "فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله؛ يبتغي بذلك وجه الله" أن ترك الشرك ليس قولها باللسان.
الرابعة عشرة: تأمُّل الجمع بين كون عيسى ومحمد عَبْديِ الله ورسولَيْه.
الخامسة عشرة: معرفة اختصاص عيسى بكونه كلمة الله.
السادسة عشرة: معرفة كونه روحاً منه.
السابعة عشرة: معرفة فضل الإيمان بالجنة والنار.
الثامنة عشرة: معرفة قوله: "على ما كان من العمل".
التاسعة عشرة: معرفة أن الميزان له كفتان.
العشرون: معرفة ذكر الوجه.
الشرح:
هذا الباب "باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب" يشمل التوحيد بأنواعه الثلاثة؛ فالتوحيد بأنواعه الثلاثة، له فضل عظيم على أهله، ومن أعظم فضله أنه تكفَّر الذنوب، ولهذا قال الشيخ –رحمه الله- في التبويب: "باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب" فـ(ما) هنا موصول اسمي بدلالة وجود "من" البيانية، مما يحول دون جعلها موصولا حرفياً، فيكون المعنى: باب فضل التوحيد، وبيان الذنوب التي يكفرها. فالتوحيد يكفر الذنوب جميعاً، لا يكفر بعض الذنوب دون بعض؛ لأن التوحيد حسنة(16/27)
ص -23- ... عظيمة، لا تقابلها معصية إلا وأحرق نور تلك الحسنة أثر تلك المعصية إذا كمل ذلك النور.
فهذا هو المقصود بقوله: "باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب"؛ فمن كمل التوحيد بأنواعه الثلاثة –أعني: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات-: فإنه تكفر عنه ذنوبه، كما سيأتي بيانه في الباب بعده: أنه من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب.
فكلما زاد التوحيد محي من الذنوب مقدار عظمه، وكلما زاد التوحيد أمن العبد في الدنيا، وفي الآخرة بمقدار عظمه، وكلما زاد العبد في تحقيق التوحيد كان متعرضاً لدخول الجنة على ما كان عليه من العمل؛ فلهذا ساق الإمام –رحمه الله- آية الأنعام، فقال: "باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب، وقول الله تعالى" ثم ذكر الآيات.
ومن العلماء من قال: "إن (ما) في قوله: (وما يكفر من الذنوب) موصول حرفي. وقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]. الظلم هنا: هو الشرك، كما جاء في تفسير ذلك في الصحيحين من حديث ابن مسعود، أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال في هذه الآية حينما استعظم الصحابة هذه الآية، وقالوا: يا رسول الله، أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال: "ليس الذي تذهبون إليه، بظلم، الظلم: الشرك، ألم تسمعوا لقول العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}" [لقمان: 13] (1)، فالظلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (32) و(336) و(3428) ومسلم (124).(16/28)
ص -24- ... هنا-في مراد الشارع- هو الشرك، فيكون مقصود الشيخ من إيراد هذه الآية تحت هذا الباب: بيان فضل من آمن ووحّد، ولم يلبس إيمانه وتوحيده بشرك، وأن له الأمن التام، والاهتداء التام، فهذا هو وجه مناسبة الآية للباب. ومعنى الآية: الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بشرك أولئك لهم الأمن وهم مهتدون.
وجاء الظلم في الآية مُنكَّراً، في سياق النفي، وهو قوله تعالى: {وَلَمْ يَلْبِسُوا}، وهذا يدل على عموم أنواع الظلم، لكن هل المراد بالعموم هنا العموم المخصوص، أو العموم الذي يراد به الخصوص؟
الجواب: أن المراد بالعموم هنا: هو العموم الذي يراد به الخصوص؛ لأن العموم عند الأصوليين تارة يكون باقياً على عمومه، وتارة يكون عموماً مخصوصاً –يعني: دخله التخصيص-، وتارة يكون عموماً مراداً به الخصوص –يعني أن لفظه عام، ولكن يراد به الخصوص- فهذه أوجه ثلاثة، والوجه الأخير هو الذي أراد الشيخ –رحمه الله- الاستدلال به من الآية. صحيح أن (الظلم) هنا جاء نكرة في سياق النفي (لم) فيدل على العموم، لكنه عموم مراد به الخصوص، وهو خصوص أحد أنواع الظلم، وهو الشرك، فيصير العموم في أنواع الشرك، لا في أنواع الظلم كلها؛ لأن من أنواع الظلم: ظلم العبد نفسه بالمعاصي، أو ظلم العبد غيره بأنواع التعديات، ومنه ما هو ظلم من جهة حق الله –جل وعلا- بالشرك به، فهذا هو المراد بهذا العموم، فيكون عاماً في أنواع الشرك، وبهذا يحصل وجه الاستدلال من الآية، فيكون معنى الآية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ} يعني: لم يلبسوا توحيدهم بنوع من أنواع الشرك.(16/29)
ص -25- ... {أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} فـ(الأمن) هنا: هو الأمن التام في الدنيا، والمراد به أمن القلب وعدم حزنه على غير الله –جل وعلا- والاهتداء التام في الدنيا وفي الآخرة، وكلما وجد نقص في التوحيد بغشيان العبد بعض أنواع الظلم الذي هو الشرك، إمّا الشرك الأصغر، أو الشرك الخفي، وسائر أنواع الشرك، ونحو ذلك، ذهب منه من الأمن والاهتداء بقدر ذلك. هذا من جهة تفسير الظلم بأنه الشرك.
فإذا فَسَّرْتَ الظلم بأنه جميع أنواع الظلم –كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية- فإنه يكون –على هذا التفسير- مقابلة بين الأمن والاهتداء، وبين حصول الظلم، فكلما انتفى الظلم وُجد الأمن والاهتداء، وكلما كمل التوحيد وانتفت المعصية عظم الأمن والاهتداء، وإذا زاد الظلم قلَّ الأمنُ والاهتداء بحسب ذلك.
قال: (عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل". أخرجاه.(1)
مناسبة هذا الحديث للباب قوله: "على ما كان من العمل" ومعنى قوله: "على ما كان" يعني على الذي كان عليه من العمل ولو كان مقصراً في العمل، وعنده ذنوب وعصيان، فإن لتوحيده لله، وشهادته له بالوحدانية، ولنبيه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم.(16/30)
ص -26- ... بالرسالة، ولعيسى بأنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، ولإقراره بالغيب، وبالبعث، إن لذلك فضلاً عظيماً، وهو: أن يدخله الله الجنة ولو كان مقصراً في العمل. فهذا الحديث فيه بيان فضل التوحيد على أهله.
قال: ولهما في حديث عتبان: "فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله".(1)
قوله: "من قال: لا إله إلا الله" المراد بالقول هنا: القول الذي معه تمام الشروط، كقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: " الحج عرفة"(2) يعني إذا أتى ببقية الأركان والواجبات، فيكون معنى قوله هنا: "من قال: لا إله إلا الله" يعني باجتماع شروطها، وبالإتيان بلازمها.
وخرج بقوله: "يبتغي بذلك وجه الله" المنافقون؛ لأنهم حين قالوها لا يبتغون بذلك وجه الله.
وقوله: "حرم على النار" تحريم النار في نصوص الكتاب والسنة يأتي على درجتين: الأولى: تحريم مطلق، والثانية: تحريم بعد أمد، فالتحريم المطلق يقتضي أن من حرم الله عليه النار تحريما مطلقا فإنه لن يدخلها، إما بأن يغفر الله له، وإما بأن يكون من الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، وإذا كان التحريم بعد أمد، فربما يدخلها، ثم يحرم عليه البقاء فيها، وهذا الحديث يحتمل الأول، ويحتمل الثاني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم.
(2) رواه أبو داود برقم: (1949) والترمذي (889) والنسائي (5/256) وابن ماجة (2015).(16/31)
ص -27- ... "فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله" يعني أن الذي أتى بالتوحيد، وانتهى عن ضده، وكانت عنده بعض الذنوب والمعاصي، ومات من غير توبة، فهو تحت المشيئة، إن شاء الله عذّبه ثم حرم عليه النار، وإن شاء غفر له وحرم عليه النار ابتداء.
فوجه الشاهد –إذاً- من الحديث للباب: أن هذه الكلمة، وهي كلمة التوحيد –وسيأتي بيان معناها مفصلاً، إن شاء الله تعالى- لما ابتغى بها صاحبها وجه الله، وأتى بشروطها وبلوازمها تفضل الله عليه، وأعطاه ما يستحقه من أنه حرم عليه النار. وهذا فضل عظيم، نسأل الله –جل وعلا- أن يجعلنا من أهله.
وفي حديث أبى سعيد الخدري –الوارد بعد حديث عتبان- وفيه قول موسى –عليه السلام-: "يا رب، علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به. قال: قل –يا موسى-: لا إله إلا الله، قال: يا رب كل عبادك يقولون هذا"(1) فهذا الحديث فيه دلالة على أن أهل الفضل والرفعة في الدين، والإخلاص والتوحيد، قد ينبهون على شيء من مسائل التوحيد؛ فهذا موسى –عليه السلام- وهو أحد أولي العزم من الرسل، وهو كليم الله –جل وعلا- أراد شيئاً يختص به غير ما عند الناس، وأعظم ما يختص به أولياء الله، وأنبياؤه، ورسله، وألو العزم منهم هو كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) فأراد شيئاً أخصّ من ذلك، فأعلم أنه لا أخص من كلمة التوحيد، فهي أفضل شيء، وهي التي دُلَّ عليها أولو العزم من الرسل ومن دونهم من الناس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم.(16/32)
ص -28- ... قال: "يا رب كل عبادك يقولون هذا، قال: يا موسى، لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري" يعني ومن في السماوات السبع من الملائكة ومن عباد الله غير الله -جل وعلا-.
"والأرضين السبع في كفة" يعني: لو تمثلت السماوات أجساماً ووُضع الجميع في ميزان له كفتان، وجاءت (لا إله إلا الله) في الكفة الأخرى لمالت بهن (لا إله إلا الله). فـ(لا إله إلا الله) كلمة توحيد فيها ثقل لميزان من قالها، وعظم في الفضل لمن اعتقدها وما دلت عليه، فلهذا قال: "مالت بهن لا إله إلا الله".
ووجه الدلالة: أنه لو تصور أن ذنوب العبد بلغت ثقل السماوات السبع وثقل ما فيها من العباد والملائكة وثقل الأرض لكانت (لا إله إلا الله) مائلة بذلك الثقل من الذنوب، وهذا هو الذي دل عليه حديث البطاقة حيث جُعِل على أحد العصاة سجلات عظيمة، فقيل له: "هل لك من عمل؟ فقال: لا، فقيل له: بلى، ثم أخرجت له بطاقة فيها (لا إله إلا الله، فوضعت في الكفة الأخرى، فطاشت سجلات الذنوب، وثقلت البطاقة".(1)، وهذا الفضل العظيم لكلمة التوحيد، إنما هو لمن قويت في قلبه، ذلك أنها في قلب بعض العباد تكون قوية، لأنه مخلص فيها مصدق، لا ريب عنده فيما دلت عليه، معتقد ما فيها، محب لما دلت عليه، فيقوي أثرها ونورها في القلب، فإذا كانت كذلك، فإنها تحرق ما يقابلها من الذنوب، وأما من لم يكن من أهل تمام الإخلاص فيها، فإنه لا تطيش له سجلات الذنوب، فيكون هذا الحديث
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد (2/213) والترمذي (639) وقال: حديث حسن.(16/33)
ص -29- ... وحديث البطاقة يدلاّن على أن (لا إله إلا الله) لا يقابلها ذنب، ولا يقابلها خطيئة، لكن هذا في حق من كملها وحققها، بحيث لم يخالط قلبه –في معناها- ريب، ولا تردد، ومعناها مشتمل على الربوبية بالتضمن، وعلى الأسماء والصفات باللزوم، وعلى الإلهية بالمطابقة، فيكون من ينتفع بهذه الكلمة على وجه الكمال –ولو بلغت ذنوبه ما بلغتْ، وكانت سجلاته كثقل السماوات والأرضين السبع- وهو الذي كمَّل ما دلت عليه من التوحيد. وهذا معنى هذا الحديث، وحديث البطاقة، وهذا أيضا هو الذي دل عليه الحديث الآخِر الوارد في الباب نفسه عن أنس، قال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "قال الله تعالى: يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة".(1) وهذا من فضل التوحيد وتكفيره الذنوب.
ومناسبة هذا الحديث للباب ظاهرة، وهي: أنه من أتى بذنوب عظيمة، ولو كانت كقراب الأرض خطايا، يعني كعظم وقدر الأرض خطايا، ولكنه لقي الله لا يشرك به شيئاً لأتى اللهُ ذلك العبد بمقدار تلك الخطايا مغفرة، وهذا لأجل فضل التوحيد، وعظم فضل الله –جل وعلا- على عباده بأن هداهم إليه، ثم أثابهم عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم.(16/34)
ص -30- ... باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب
وقول الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120] وقال: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 59]. عن حصين بن عبد الرحمن، قال: "كنت عند سعيد بن جبير، فقال: أيُّكم رأى الكوكب الذي انقضَّ البارحة؟ فقلت: أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لدغت، قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت، قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي، قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: "لا رقية إلا من عين أو حمة"، قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "عرضت عليّ الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، فنظرت، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب"، ثم نهض فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام، فلم يشركوا بالله شيئاً، وذكروا أشياء. فخرج عليهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فأخبروه. فقال: "هم(16/35)
ص -31- ... الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون" فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: "أنت منهم" فقام رجل آخر، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: "سبقك بها عكاشة".(1)
فيه مسائل:
الأولى: معرفة مراتب الناس في التوحيد.
الثانية: ما معنى تحقيقه.
الثالثة: ثناؤه سبحانه على إبراهيم بكونه لم يك من المشركين.
الرابعة: ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك.
الخامسة: كون ترك الرقية والكيّ من تحقيق التوحيد.
السادسة: كون الجامع لتلك الخصال هو التوكل.
السابعة: عمق علم الصحابة لمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل.
الثامنة: حرصهم على الخير.
التاسعة: فضيلة هذه الأمة بالكَمْية والكيفية.
العاشرة: فضيلة أصحاب موسى.
الحادية عشرة: عرض الأمم عليه عليه الصلاة والسلام.
الثانية عشرة: أن كل أمةٍ تُحشر وحدها مع نبيها.
الثالثة عشرة: قلة من استجاب للأنبياء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (3410) و(5705) و(5752) و(6472) و(6541) ومسلم (220).(16/36)
ص -32- ... الرابعة عشرة: أن من لم يجبه أحدٌ يأتي وحده.
الخامسة عشرة: ثمرة هذا العلم، وهو عدم الاغترار بالكثرة، وعدم الزهد في القلة.
السادسة عشرة: الرخصة في الرقية من العين والحمة.
السابعة عشرة: عمق علم السلف لقوله: "قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن كذا وكذا" فعُلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني.
الثامنة عشرة: بُعد السلف عن مدح الإنسان بما ليس فيه.
التاسعة عشرة: قوله: "أنت منهم" عَلَمٌ من أعلام النبوة.
العشرون: فضيلة عكاشة.
الحادية والعشرون: استعمال المعاريض.
الثانية والعشرون: حُسْنُ خُلُقِه –صلى الله عليه وسلم-.
الشرح:
هذا الباب هو: "باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب" وقد ذكر في الباب قبله فضل التوحيد، وما يكفر من الذنوب، وهذا الباب أرفع رتبة من بيان فضل التوحيد فإن فضل التوحيد يشترك فيه أهله، وأهل التوحيد هم أهل الإسلام، ولا شك أن لكل مسلم نصيباً من التوحيد، فيكون له –تبعا لذلك- نصيب من فضل التوحيد، وتكفير الذنوب، أما خاصة هذه الأمة فهم الذين حققوا التوحيد، ولهذا عطف هذا الباب على الذي قبله؛ لأنه أخص. وتحقيق التوحيد هو مدار هذا الباب، وتحقيقه بمعنى تحقيق(16/37)
ص -33- ... الشهادتين (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ومعنى تحقيق الشهادتين: تصفية الدين من شوائب الشرك والبدع والمعاصي، فصار تحقيق التوحيد يرجع إلى ثلاثة أشياء:
الأول: ترك الشرك بأنواعه: الأكبر والأصغر، والخفي.
الثاني: ترك البدع بأنواعها.
الثالث: ترك المعاصي بأنواعها.
فيكون تحقيق التوحيد على هذا درجتين: درجة واجبة، ودرجة مستحبة، وعليها يكون الذين حققوا التوحيد على درجتين أيضا، فالدرجة الواجبة: أن يترك ما يجب تركه من الأشياء الثلاثة التي ذكرت، فيترك الشرك خفيه وجليه، صغيره وكبيره، ويترك البدع، ويترك المعاصي، هذه درجة واجبة.
والدرجة المستحبة في تحقيق التوحيد –وهي التي يتفاضل فيها الناس من المحققين للتوحيد أعظم تفاضل- هي ألا يكون في القلب شيء من التوجه أو القصد لغير الله –جل وعلا- يعني: أن يكون القلب متوجها إلى الله بكليته، ليس فيه التفات إلى غير الله، فيكون نطقه لله، وفعله وعمله لله، بل وحركة قلبه لله –جل وعلا- وقد عبر عنها بعض أهل العلم –أعني هذه الدرجة المستحبة- بقوله: "أن يترك ما لا بأس به حذراً مما به بأس، يعني: في مجال أعمال القلوب، وأعمال اللسان، وأعمال الجوارح.
فإذاً رجع تحقيق التوحيد الذي هذا فضله –وهو أن يدخل أهله الجنة بغير حساب، ولا عذاب- رجع إلى تينك المرتبتين، وتحقيقه تحقيق الشهادتين: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)؛ لأن في قوله: (لا إله إلا الله) الإتيان(16/38)
ص -34- ... بالتوحيد، والبعد عن الشرك بأنواعه، ولأن في قوله: "أشهد أن محمداً رسول الله" البعد عن المعصية، والبعد عن البدع؛ لأن مقتضى الشهادتين بأن محمداً رسول الله: أن يطاع فيما أمر، وأن يصدق فيما أخبر، وأن يُجتنَب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع، فمن أتى شيئاً من المعاصي والذنوب، أو البدع ثم لم يتت منها، أو لم تكفّر له، فإن لم يحق التوحيد الواجب، وإذا لم يأتِ شيئاً من البدع، ولكن حسَّنها بقلبه، أو قال: لا شيء فيها؛ فإن حركة قلب من هذا شأنه لمّا كانت في غير تحقيق التوحيد، وفي غير تحقيق شهادة أن محمداً رسول لله: فإنه لا يكون من أهل التوحيد، وكذلك أهل الشرك بأنواعه ليسوا من أهل تحقيق التوحيد. وأما مرتبة الخاصة التي ذُكِرًتْ ففيها يتنافس المتنافسون، وما ثمَّ إلا عفو الله، ومغفرته، ورضوانه.
واستدل الشيخ في باب (باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب) بآيتين وبحديث، أما الآية الأولى فهي قول الله تعال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[النحل: 120] وهذه الآية فيها الدلالة على أن إبراهيم عليه السلام كان محققا للتوحيد.
وجه الدلالة: أن الله –جل وعلا- وصفه بصفات:
الأولى: أنه كان {أُمَّةً} والأمة: هو الإمام الذي جمع جميع صفات الكمال البشري وصفات الخير، وهذا يعني أنه لم ينقص من صفات الخير شيئاً، وهذا هو معنى تحقيق التوحيد. والأمة تطلق في القرآن إطلاقات، فمن(16/39)
ص -35- ... تلك الإطلاقات: أن يكون معنى الأمة الإمام المقتدى به في الخير، وسُمِّي أمة؛ لأنه يقوم مقام أمة في الاقتداء؛ ولأن من سار على سيره يكون غير مستوحش ولا متردد؛ لأنه ليس مع واحد فقط، وإنما هو مع أمة.
الوصف الثاني الذي فيه تحقيق التوحيد: أنه قال: {قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً}، وهاتان الصفتان: -القانت والحنيف- متلازمتان؛ لأن القنوت لله معناه: دوام الطاعة لله –جلا وعلا- وملازمتها، فهو ملازم لطاعة الله –جل وعلا-. ولأن "الحنيف" –كما يقول العلماء-: هو ذو الحنف وهو الميل عن طريق المشركين، فالحنيف هو المائل عن طريق المشركين، المائل عن هدي وسبيل المشركين، فصارت عنده ديمومة وقنوت وملازمة للطاعة، وبُعدٌ عن سبيل المشركين، ومعلوم أن سبيل المشركين الذي صار إبراهيم –عليه السلام- حنيفاً، أي مائلاً بعيداً عنه- معلوم أنه يشتمل على الشرك، والبدعة، والمعصية، فهذه الثلاثة هي أخلاق المشركين: الشرك، والبدعة، والمعصية، من غير إنابة ولا استغفار.
قال: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}:
وقوله: {وَلَمْ يَكُ} كانت في الأصل: يكن، ويجوز في حالة الجزم –بشروط- حذف نون (يكن) كما في الآية السابقة، وكما في قوله تعالى -في سورة النحل-: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127] ويجوز إثباتها كما في قوله تعالى: {وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} في سورة النمل [النمل: 70].(16/40)
ص -36- ... فإثبات النون وحذفها وجهان جائزان في اللغة –بشروطه المعروفة-.
وقوله تعالى: {مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: المشركين: جمع تصحيح لـ(المشرك)، والمشرك اسم فاعل الشرك، و(أل) –كما هو معلوم في العربية- إذا دخلت اسم الفاعل أو اسم المفعول فإنها تكون موصولة، كما قال ابن مالك في الألفية:
وصفة صريحة صلة أل ... وكونها بمعرب الأفعال قل
والاسم الموصول عند الأصوليين يدل على العموم، فيكون معنى قوله –إذاً- {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} أنه لم يكُ فاعلاً للشرك بأنواعه، ولم يكُ منهم.
ودل قوله –أيضاً- {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} على أنه ابتعد عنهم، لأن (مِنْ) تحتمل أن تكون تبعيضية، فتكون المباعدة بالأجسام، ويحتمل أن تكون بيانية، فتكون المباعد بمعنى الشرك. فالمقصود: أن الشيخ –رحمه الله- استحضر هذه المعاني من الآية فدلته على أنها في تحقيق التوحيد.
قال –جل وعلا-: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ذلك لأن من جَمَع تلك الصفات فقد حقق التوحيد، ومن حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب.
وقد فسَّر إمام الدعوة –المصنف- الشيخ محمد بن عبد الوهاب، هذه الآية من أواخر سورة النحل، فقال –رحمه الله-: { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً},(16/41)
ص -37- ... لئلا يستوحش سالك الطريق من قلة السالكين، {قَانِتاً لِلَّهِ} لا للمملوك، ولا للتجار المترفين، {حَنِيفاً} لا يميل يميناً، ولا شمالاً، كحال العلماء المفتونين {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} خلافاً لمن كثَّر سوادهم، وزعم أنه من المسلمين. وهو من التفاسير الرائقة الفائقة البعيدة المعاني {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.
ثم قال بعد ذلك: (وقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 59]. وهذه الآيات في سورة المؤمنون، وهي في مدح خاصة المؤمنين.
وجه الاستدلال من الآية على الباب: أن الله قال: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} فقوله: {لا يُشْرِكُونَ} نفي للشرك، وقد ذكرنا من قبل أن النفي إذا تسلط على الفعل المضارع، فإنه يفيد عموم المصدر الذي يدل عليه الفعل، فكأنه –جل وعلا- قال: والذين هم بربهم لا يفعلون شركاً، أو لا يشركون لا بشرك أكبر، ولا أصغر، ولا خفي.
والذي لا يشرك هو الموحد، فصار عندنا لازم، وهو أن من لم يشرك بالله أيَّ نوعٍ من الشرك، فإنه ما ترك الشرك إلا لتوحيده، قال العلماء: قدم هنا قوله: {بِرَبِّهِمْ} في قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} لأن الربوبية تستلزم العبودية، فصار عدم الإشراك في الربوبية معناه عدم الإشراك في الطاعة، وعدم الإشراك في العبودية، وهذا وصف الذين حققوا التوحيد؛ لأنه(16/42)
ص -38- ... يلزم من عدم الإشراك: ألا يُشْرِك هواه؛ لأن المرء إذا أشرك هواه أتى بالبدع، أو أتى بالمعصية، فصار نفي الشرك نفياً للشرك بأنواعه، ونفياً للبدعة، ونفياً للمعصية، وهذا هو تحقيق التوحيد لله –جل وعلا-.
فالآية –إذاً- دالة على ما ترجم له الإمام –رحمه الله- بقوله: "باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب".
أما الحديث فطويل، وموضع الشاهد منه قوله عليه الصلاة والسلام: "فنظرت، فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب" ثم نهض فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله –صلى الله عليه وسلم-. وقال بعضهم فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام، فلم يشركوا بالله شيئاً، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فأخبروه، فقال: "هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون". هذا الحديث في صفة الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وهذه صفة من صفاتهم، وتلك الصفة خاصة بهم، لا يلتبس أمرهم بغيرهم؛ لأن هذه الصفة كالشامة يعرفون بها. فَمَنْ هم الذين حققوا التوحيد؟
الجواب في قوله: "هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون" فذكر أربع صفات:
أنهم "لا يسترقون" ومعنى يسترقون: يعني لا يطلبون الرقية؛ لأن الطالب للرقية يكون في قلبه ميل للراقي، حتى يرفع ما به من جهة السبب. وهذا النفي الوارد في قوله: "لا يسترقون"؛ لأن الناس في شأن الرقية تتعلق(16/43)
ص -39- ... قلوبهم بها جداً أكثر من تعلقهم بالطب ونحوه، فالعرب في الجاهلية –وهكذا هو حال أكثر الناس- لهم تعلق بالرقية، فالقلب يتعلق بالراقي، ويتعلق بالرقية؛ وهذا ينافي كمال التوكل على الله –جل جلاله-. وأما ما جاء في بعض الروايات أنهم:"الذين لا يرقون" فهذا غلط؛ وهو لفظ شاذ؛ لأن الراقي محسن على غيره، والصواب ما جاء في هذه الرواية من أنهم: "الذين لا يسترقون" يعني: الذين لا يطلبون الرقية؛ وذلك لأن طالب الرقية يكون في قلبه ميل إلى هذا الذي رقاه وإلى الرقية، ونوع توكل، أو نوع استرواح لهذا الذي يرقى أو للرقية.
ثم قال: "ولا يكتوون": والكي مكروه في أصله؛ لأن فيه تعذيباً بالنار، مع أنه مأذون به شرعاً، لكن فيه كراهة. والعرب تعتقد أن الكي يحدث المقصود دائماً؛ فلهذا تتعلق قلوبهم بالكي، فصار تعلق القلب بهذا الكي من جهة أنه سبب يؤثر دائماً، ومعلوم أن الكي يؤثر –بإذن الله جل وعلا-: إذا اجتمعت الأسباب، وانتفت الموانع. فالنفي لأجل أن في الكي بخصوصه ما يتعلق الناس به من أجله.
ثم قال: "ولا يتطيرون": والطيرة شيء يعرض على القلب من جراء شيء يحدث أمامه، فيجعله يقدم على أمر، أو يحجم عنه، وهذه صفة من لم يكن التوكل في قلبه عظيماً.
ثم قال بعدها: "وعلى ربهم يتوكلون": وهي جامعة للصفات السابقة. وهذه الصفات ليس المقصود منها أن الذين حققوا التوحيد لا يباشرون الأسباب، كما فهمه بعضهم، وأن الكمال ألا يباشر سبباً البتة، أو ألا يتداوى(16/44)
ص -40- ... البتة! وهذا غلط؛ لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- رقي،(1) ولأنه –عليه الصلاة والسلام- تداوى، وأمر بالتداوي،(2) وأمر أيضا بعض الصحابة بأن يكتوي،(3) ونحو ذلك، فليس في الحديث أن أولئك لا يباشرون الأسباب مطلقاً، أو لا يباشرون أسباب الدواء، وإنما فيه ذكر لهذه الثلاث بخصوصها؛ لأنه يكثر تعلق القلب والتفاته إلى الراقي، أو إلى الكي، أو الكاوي، أو إلى التطير، ففيها إنقاص من مقام التوكل. أما التداوي فهو مشروع، وهو إما واجب، أو مستحب، وقد يكون في بعض الأحوال مباحاً، وقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "تداووا عباد الله ولا تتداووا بحرام"(4) فالمقصود من هذا أن التداوي ليس خارماً لتحقيق التوحيد، ولكن الذي هو من صفة أهل تحقيق التوحيد أنهم لا يسترقون بخصوص الرقية، ولا يكتوون بخصوص الكي، ولا يتطيرون، وأما ما عدا ذلك مما أذن به، فلا يدخل فيما يختص به أهل تحقيق التوحيد.
والأظهر –عندي- أن قوله في هذا الحديث: "لا يسترقون ولا يكتوون، ولا يتطيرون" أنه مخصوص بهذه الثلاثة.
قال: (فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: "أنت منهم" ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: "سبقك بها عكاشة" هذا فيه دليل على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم (2186) والترمذي (972).
(2) أخرجه أحمد (4/278) والترمذي (2039)
(3) أخرجه البخاري (5680) و(5681).
(4) أخرجه أبو داود (3874) والترمذي (2045).(16/45)
ص -41- ... أن أهل تحقيق التوحيد قليل وليسوا بكثير، ولهذا جاء عددهم في هذا الحديث بأنهم سبعون ألفاً، وقد جاء في بعض الروايات عند الإمام أحمد وعند غيره: "بأن الله –جل وعلا- أعطى النبي –صلى الله عليه وسلم- مع كل ألف من السبعين سبعين ألفاً".(1) فيكون العدد قرابة خمسة ملايين من هذه الأمة، فإن كان ذلك الحديث صحيحاً –وقد صحح إسناده بعض أهل العلم- فإنه لا يكون للعدد في هذا الحديث مفهوم، أو كان ذلك قبل سؤال النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يُزاد في عدد أولئك الذين حققوا التوحيد. فإن قيل: ما معنى أن يُزاد في عددهم؟
فالجواب: أن المعنى أن الله –جل وعلا- يَمُنُّ على أُناس من هذه الأمة –غير السبعين ألفاً- ممّن سيأتون بَعْدُ، فيوفقهم لعمل تحقيق التوحيد، فالله –جل وعلا- هو الذي يوفق، وهو الذي يهدي، ثم هو الذي يجازي. فما أعظمه من محسن، برٍّ، كريم، رحيم!.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد في المسند (2/359) والبيهقي في الشعب (416).(16/46)
ص -42- ... باب الخوف من الشرك
وقول الله –عز وجل-: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء: 48و116] وقال الخليل –عليه السلام-: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ} [إبراهيم: 35]. وفي الحديث: "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" فسئل عنه، فقال: "الرياء".(1) وعن ابن مسعود –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "من مات، وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار".(2) رواه البخاري. ولمسلم عن جابر –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار".(3)
فيه مسائل:
الأولى: الخوف من الشرك.
الثانية: أن الرياء من الشرك.
الثالثة: أنه من الشرك الأصغر.
الرابعة: أنه أخوفُ ما يخُاف منه على الصالحين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد 5/428و429، والطبراني في "الكبير" (4301) وحسنه الحافظ في "بلوغ المرام" (302).
(2) أخرجه البخاري (4497) و(6683).
(3) أخرجه مسلم (93).(16/47)
ص -43- ... الخامسة: قُرب الجنة والنار.
السادسة: الجمع بين قربهما في حديث واحد.
السابعة: أنه مَنْ لقيه لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار، ولو كان من أعبد الناس.
الثامنة: المسألة العظيمة: سؤال الخليل ولبنيه وقايةَ عبادة الأصنام.
التاسعة: اعتباره بحال الأكثر لقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ}.
العاشرة: فيه تفسير "لا إله إلا الله" كما ذكره البخاري.
الحادية عشرة: فضيلة من سَلِمَ من الشرك.
الشرح:
كل من حقق التوحيد فلا بد أن يخاف من الشرك؛ ولهذا كان سيد المحققين للتوحيد محمد –عليه الصلاة والسلام- يُكثر من الدعاء بأن يبعدَ عنه الشرك، وكذلك كان إبراهيم –عليه السلام- يكثر من الدعاء؛ لئلا يدركه الشرك، أو عبادة الأصنام.
فمناسبة هذا الباب لما قبله ظاهرة، وهي أن تحقيق التوحيد عند أهله لا بُدَّ أن يقترن معه الخوف من الشرك، وقّلَّ من يكون مخاطراَ بتوحيده أو غير خائف من الشرك، ويكون مع هذا على مراتب الكمال، بل لا يوجد, فكل محقق للتوحيد، وكل راغب فيه حريص عليه يخاف من الشرك، وإذا خاف من الشرك، فإن الخوف الذي هو فزع القلب وهلعه، يجعل العبد حريصاً كل الحرص على البعد عن الشرك والهروب منه. والخوف من الشرك يثمر ثمرات منها:(16/48)
ص -44- ... - أن يكون متعلماً للشرك بأنواعه، حتى لا يقع فيه.
- ومنها أن يكون متعلماً للتوحيد بأنواعه، حتى يقوم في قلبه الخوف من الشرك، ويعظُم، ويستمر على ذلك.
- ومنها أن الخائف من الشرك يكون قلبه دائم الاستقامة على طاعة الله مبتغياً مرضاة الله، فإن عصى، أو غفل كان استغفارُه استغفار من يعلم عظم شأن الاستغفار، وعظم حاجته للاستغفار؛ لأن الناس في الاستغفار أنواع، لكن من علم منهم حق الله –جل وعلا- وسعى في تحقيق التوحيد وتعلم ذلك، وسعى في الهروب من الشرك؛ فإنه إذا غفل وجد أنه أشد ما يكون حاجة إلى الاستغفار، ولأجل صلاح هذا بوب الشيخ –رحمه الله- هذا الباب الذي عنوانه: (باب الخوف من الشرك)، فكأنه يقول لك: إذا كنت تخاف الشرك كما خاف منه إبراهيم –عليه السلام- وعرفت ما توعد الله به أهل الشرك من أنه لا يغفر لهم شركهم، فينبغي لك أن تعلم وأن تتعلَّم ما سيأتي في هذا الكتاب؛ فإن هذا الكتاب موضوع لتحقيق التوحيد، وللخوف من الشرك، والبعد عنه، فما بعد هذين البابين: (باب من حقق التوحيد) و(باب الخوف من الشرك) تفصيل لهاتين المسألتين العظيمتين اللتيْن هما: تحقيق التوحيد، والخوف من الشرك، ببيان معناه، وبيان أنواعه.
وقد ذكرنا فيما سبق أن الشرك هو إشراك غير الله معه في أيِّ نوع من أنواع العبادة، وقد يكون أكبر، وقد يكون اصغر، وقد يكون خفياً.
قال الشيخ –رحمه الله-: (وقول الله –عز وجل-: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [النساء: 48و116]).(16/49)
ص -45- ... والمغفرة هي: الستر لما يُخاف وقوع أثره، ويقال في اللغة: غفر: إذا ستر، ومنه سُمِّي ما يوضع على الرأس مغفراً؛ لأنه يستر الرأس، ويقيه الأثر المكروه من وقع السيف ونحوه، فمادة (المغفرة) راجعة إلى ستر الأثر الذي يُخاف منه، والشرك والمعصية لهما أثرهما إما في الدنيا، وإما في الآخرة، أو فيهما جميعا. وأعظم ما يُمَنُّ به على العبد أن يغفر ذنبه، وذلك بأن يستر عليه ويُمحى عنه أثره، فلا يؤاخذ به في الدنيا، ولا يعاقب عليه في الآخرة، فلولا المغفرة لهلك الناس.
ومعنى قوله –جل وعلا- في هذه الآية: {لا يَغْفِرُ} أي أبداً، فقوله: {لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} هذا وعيد بأنه -تعالى- لم يجعل مغفرته لمن أشرك به. وقد قال العلماء في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} إن في هذه الآية دليلاً على أن المغفرة لا تكون لمن أشرك شركاً أكبر، أو أشرك شركاً أصغر، فإن الشرك لا يدخل تحت المغفرة، بل يكون بالموازنة، فهو لا يغفر إلا بالتوبة، فمن مات على ذلك غير تائب فهو غير مغفور له ما فعله من الشرك، وقد يغفر الله –تعالى- غير الشرك كما قال: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} فجعلوا الآية دليلاً على أن الشرك الأكبر والأصغر لا يدخل تحت المشيئة.
وجه الاستدلال من الآية: أن (أن) في قوله –تعالى- {لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} موصول حرفي، فتؤول مع الفعل الذي بعدها –وهو"يشرك" بمصدر(16/50)
ص -46- ... كما هو معلوم- والمصدر نكرة وقع في سياق النفي، وإذا وقعت النكرة في سياق النفي عمت، قالوا: فهذا يدل على أن الشرك الذي نفي هنا يعم الأكبر، والأصغر، والخفي، فكل أنواع الشرك لا يغفرها الله –جل وعلا- وذلك لعظم خطيئة الشرك؛ لأن الله –جل وعلا- هو الذي خلق، ورزق، وأعطى، وهو الذي تفضل، فكيف يتوجه القلب عنه إلى غيره؟ لا شك أن هذا ظلم في حق الله –جل وعلا- ولذلك لم يغفر. وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وأكثر علماء الدعوة.
وقال آخرون من أهل العلم: إن قوله هنا: {لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} دال على العموم، لكنه عموم مراد به خصوص الشرك الأكبر، فالمقصود بالشرك في قوله: {لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} هو الشرك الأكبر فقط دون غيره، وأما ما دون الشرك الأكبر فإنه يكون داخلا تحت المشيئة، فيكون العموم في الآية مراداً به الخصوص؛ لأنه غالباً ما يرد في القرآن هذا اللفظ: {أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} ونحو ذلك، ويراد به الشرك الأكبر دون الشرك الأصغر، وهذا في الغالب –كما سبق- فالشرك غالباً ما يطلق في القرآن على الأكبر دون الأصغر، ومن شواهد ذلك قوله –جل وعلا-: {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] فقوله في الآية: {يُشْرَكَ} هو –أيضاً-: فعل داخل في سياق الشرط؛ فيكون عاما، لكن(16/51)
ص -47- ... هل يدخل فيه الشرك الأصغر والخفي؟
الجواب: أنه لا يدخل بالإجماع؛ لأن تحريم الجنة، وإدخال النار، والتخليد فيها، إنما هو لأهل الموت على الشرك الأكبر، فدلنا ذلك على أن المراد بقوله: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] أهل الإشراك بالله الشرك الأكبر، ولم يدخل ما دونه من أنواع الأصغر.
فيكون المفهوم _إذاً- من آيتي سورة النساء كالمفهوم من آية سورة المائدة، ونحوها، وهذا كقوله في سورة الحج: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31] فهذا ونحوه وارد في الشرك الأكبر.
فيكون –على هذا القول- المراد بما نُفي هنا في قوله: {لا يَغْفِرُ أَنْ} الشرك الأكبر. ولما كان اختيار إمام الدعوة، كما هو اختيار عدد من المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم وغيرهما أن العموم شامل لأنواع الشرك: الأكبر، والأصغر، والخفي، كان الاستدلال بهذه الآية صحيحاً؛ لأن الشرك أنواع، وإذا كان الشرك بأنواعه لا يُغفر، فهذا يوجب الخوف منه أعظم الخوف، فإذا كان الشرك الأصغر كالحلف بغير الله، وتعليق التميمة، والحلقة، والخيط، ونحو ذلك من أنواع الشرك الأصغر، كقولك: ما شاء وشئت، ونسبة النعم إلى غير الله، إذا كان ذلك لا يُغفر فإنه يوجب أعظم الخوف كالشرك الأكبر.(16/52)
ص -48- ... وإذا كان كذلك، فيقع الخوف من الشرك مَنْ هم على غير التوحيد، كمَنْ يعبدون غير الله، ويستغيثون بغير الله، ويتوجهون إلى غيره، ويذبحون وينذرون لغيره، ويحبون غير الله محبة العبادة، ويرجون غير الله رجاء العبادة، ويخافون خوف السر من غير الله، إلى غير ذلك من ألوان الشرك، فيكون هؤلاء أولى بالخوف من الشرك؛ لأنهم وقعوا فيما اتُفِقَ عليه أنه لا يغفر. كما يقع في الخوف من الشرك أهل الإسلام الذين قد يقعون في بعض أنواع الشرك الخفي، أو الشرك الأصغر بأنواعه، وهم لا يشعرون، أو وهم لا يحذرون.
فإذا علم العبد المسلم أن الشرك بأنواعه لا يغفر، وأنه مؤاخذ به، وأن الصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان لا تكفر ذنب الوقوع في الشرك الأصغر، فيجب أن يعظم في قلبه الخوف منه. فإن قيل: فبماذا يُغفر إذاً؟
فالجواب: أنه لا يغفر إلا بالتوبة فقط، فإن لم يتب فثمَّة الموازنة بين الحسنات والسيئات، ولكن ما ظنكم بسيئة فيها التشريك بالله مع حسناتٍ؟ فمن ينجو من ذلك؟ لا ريب أنه لا ينجو إلا من عظمت حسناته، فزادت على سيئة ما وقع فيه من أنواع الشرك. ولا شك أن هذا يوجب الخوف الشديد من الشرك بعامة؛ لأن المرء يكون على خطر عظيم إذا وُزنت حسناته وسيئاته، ثم كان في سيئاته نوع من أنواع الشرك؛ لأن من المعلوم أن الشرك بأنواعه من حيث الجنس أعظم من كبائر الأعمال المعروفة.
فوجه الاستدلال من آية النساء وهي قوله –جل وعلا-: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} أن فيها عموما يشمل أنواع الشرك جميعاً، وأنها كلها لا تغفر، فيكون ذلك موجبا للخوف من الشرك، وإذ وقع أو حصل الخوف(16/53)
ص -49- ... والوجل من الشرك في القلب، فإن العبد سيحرص على معرفة أنواعه حتى لا يقع فيه، ويطلب معرفة أصنافه وأفراده، حتى لا يقع فيها، وحتى يحُذِّر أحبابه ومن حوله منها؛ لذلك كان أحب الخلق، أو أحب الناس، وخير الناس للناس من يحذرهم من هذا الأمر، ولو لم يشعروا به، ولو لم يعقلوه، قال جل وعلا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس} [آل عمران: 110] لأنهم يدلون الخلق على ما ينجيهم، فالذي يحب للخلق النجاة هو الذي يحذِّرهم من الشرك بأنواعه، ويدعوهم إلى التوحيد بأنواعه؛ لأن هذا أعظم ما يدعى إليه، ولهذا لما حصل من بعض القرى في زمن إمام الدعوة تردد وشك ورجوع عن مناصرة الدعوة، وفهمِ ما جاء به الشيخ –رحمه الله- وكتبوا للشيخ وغلّظوا له القول، وقالوا: إن ما جئت به ليس بصحيح، وإنك تريد كذا وكذا –لما حصل منهم ذلك، أجابهم بكتاب قال في آخره- بعد أن شرح التوحيد وضدّه، ورغَّب، ورهَّب-: "ولو كنتم تعقلون حقيقة ما دعوتكم إليه لكنت أغلى عندكم من آبائكم وأمهاتكم وأبنائكم، ولكنكم قوم لا تعقلون". انتهى كلامه رحمه الله. وهو كلام صحيح، ولكن لا يعقله إلا من عرف حق الله –جل وعلا- فرحمة الله على هذا الإمام، وأجزل له المثوبة، وجزاه عنا وعن المسلمين خير الجزاء، ورفع درجته في المهديين، والنبيين، والصالحين.
ثم ساق الشيخ –رحمه الله- بعد هذه الآية قول الله –جل وعلا-:
{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]، وصاحب هذه الدعوة هو إبراهيم –عليه السلام- ومرَّ في الباب قبله أن إبراهيم قد
...(16/54)
ص -50- ... حقق التوحيد، وقد وصفه الله بأنه كان أمة قانتا لله حنيفا، وبأنه لم يك من المشركين، فهل يطمئن من كان على هذه الحال إلى أنه لن يعبد غير الله، ولن يعبد الأصنام، أو يظل مقيماً على خوفه؟ وهل حال الكمَّل الذين حققوا التوحيد أنهم يطمئنون أم يخافون؟ هذا إبراهيم –عليه السلام- كما في هذه الآية خاف الشرك، وخاف عبدة الأصنام، فدعا الله بقوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} [إبراهيم: 35-36]، فكيف بمن دون إبراهيم ممن ليس من السبعين ألفاً، وهم عامّة هذه الأمة؟ والواقع أن عامة الأمة لا يخافون من الشرك، فمن الذي يخافه –إذاً؟ الذي يخافه هو الذي يسعى في تحقيق التوحيد.
قال إبراهيم التيمي –رحمه الله- وهو من سادات التابعين لما تلا هذه الآية، قال: "ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم؟"(1) إذا كان إبراهيم –عليه السلام- وهو الذي حقق التوحيد، وهو الذي وُصِفَ بما وُصِفَ به، وهو الذي كسَّر الأصنام بيده يخاف من الفتنة بها فمن يأمن البلاء بعده؟.
إذا فما ثم إلا غرور أهل الغرور، والمقصود: أن هذا يوجب الخوف الشديد من الشرك؛ لأن إبراهيم –عليه السلام- مع كونه سيد المحققين للتوحيد في زمانه، بل وبعد زمانه إلى نبينا –صلى الله عليه وسلم- ما أعطي الضمان والأمان من الوقوع في الشرك، وألا يزيغ قلبه، وكذلك الحال مع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم كما في الدرر المنثور (5/46).(16/55)
ص -51- ... قوله هنا: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} الأصنام: جمع صنم، والصنم هو: ما جُعِل على صورة مما يُعبد من دون الله، كشكل وجه رجل، أو شكل جسم حيوان، أو رأس حيوان، أو صورة كوكب، أو نجم، أو شكل الشمس أو القمر ونحو ذلك، فإن ذلك كله وما أشبهه يطلق عليه أنه صنم.
والوثن هو: ما عُبد من دون الله، مما ليس على هيئة صورة، فالقبر وثن، وليس بصنم، وكذلك المشهد، أعني: مشاهد القبور عند عبّادها، فهذه أوثان وليست بأصنام.
وقد يطلق على الصنم اسم الوثن، كما قال -جل وعلا- في قصة إبراهيم في صورة العنكبوت: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكا} [العنكبوت: 17] ولكن هذا يطلق على قلة.
وقال بعض أهل العلم: "هم عبدوا الأصنام، وعبدوا الأوثان جميعا، فصار ذكر الأصنام في بعض الآيات لعبادتهم الأصنام، وذكر الأوثان في بعض الآيات لعبادتهم الأوثان". والأول الأظهر في أنه قد يطلق على الصنم أنه وثن. ويدل على أن الوثن ما ليس على هيئة صورة قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: " اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد"(1). فدعا الله أن لا يجعل قبره وثناً، فدل ذلك على أن الوثن ما يعبد من دون الله مما ليس علي هيئة صورة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد 2/246.(16/56)
ص -52- ... قال -رحمه الله-: (وفي الحديث: "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" فسئل عنه، فقال: "الرياء"(1). والرياء قسمان: رياء المسلم، ورياء المنافق.
فرياء المنافق: رياء في أصل الدين، يعني: أنه راءى بإظهار الإسلام، وأبطنَ الكفر، قال تعال: {يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء: 142] ورياء المسلم الموحِّد مثل: أن يُحسِّن صلاته من أجل نظر الرجل، أو أن يُحسِّن تلاوته لأجل التسميع، ليمدح، ويُسمَّع، لا لأجل التأثير.
فالرياء مشتق من الرؤية، فجهته الرؤية، ومن صوره: أن يحسن العبادة لأجل أن يرى من المتعبدين كأن يطيل في صلاته، أو يطيل في ركوعه، أو في سجوده، أو يقرأ في صلاته أكثر من العادة لأجل أن يرى ذلك منه، أو يقوم الليل لأجل أن يقول الناس عنه إنه يقوم الليل. فهذا كله شرك أصغر.
والشرك الأصغر-الذي هو الرياء- قد يكون محبطاً لأصل العمل الذي تعبد به، وقد يكون محبطا للزيادة التي زادها فيه.
فيكون محبطاً لأصل العمل الذي تعبد به إذا ابتدأ النية بالرياء، كمن يصلي الراتبة لأجل أن يرى أنه يصليها، وليست عنده رغبة في أن يصليها، لكن لما رأى أنه يرى صلاها، ولأجل أن يمدح لما يرى من نظر الناس إليه، فصلاته هذه حابطة ليس له فيها ثواب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم.(16/57)
ص -53- ... لكن إذا عرض له الرياء في أثناء العبادة، فيكون ما زاده لأجل الرؤية باطلاً كما قال –عليه الصلاة والسلام-: "قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه"(1).
فالشاهد من حديث الباب: قوله –عليه الصلاة والسلام-: "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" فهو أخوف الذنوب التي خافها النبي –صلى الله عليه وسلم- على أهل التوحيد؛ لأنهم ما داموا أهل توحيد فإنهم ليسوا من أهل الشرك الأكبر، فيكون أشد ما يُخاف عليهم هو الشرك الأصغر. والشرك الأصغر تارة يكون في النيات، وتارة يكون في الأقوال، وتارة يكون في الأعمال، يعني أنه يكون في القلب، وفي المقال، وفي الفعال، وسيأتي في هذا الكتاب بيان أصناف كل واحد من هذه الثلاثة.
فيدلُّ قوله –عليه الصلاة والسلام-: " أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" أنه أخوف الذنوب على هذه الأمة. لكن لماذا خافه النبي –صلى الله عليه وسلم- وكان أعظم الذنوب خوفاً؟
الجواب: أنه كان كذلك لأجل أثره، وهو أنه لا يُغفر، ولأجل أن الناس قد يغفلون عنه، والشيطان حريص على إيقاع أهل التوحيد في الشرك الأصغر، ووصمهم بالرياء في الأقوال، والأعمال، والنيات. وفرحه بذلك أعظم من فرحه بغيره من الذنوب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم (2985).(16/58)
ص -54- ... ثم بعد ذلك ساق حديث ابن مسعود فقال: (وعن ابن مسعود –رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من مات وهو يدعو من دون الله نداً، دخل النار".(1).
وجه الاستدلال منه: أنه قال: "من مات وهو يدعو من دون الله نداً" ودعوة الند من دون الله من الشرك الأكبر؛ لأن الدعاء عبادة، وهو من أعظم العبادات، فقد جاء في الحديث الصحيح: "الدعاء هو العبادة"(2) وفي معناه حديث أنس الذي في السنن، ولفظه: "الدعاء مخُّ العبادة"(3) فهو أعظم أنواع العبادة، فمن مات وهو يصرف هذه العبادة أو شيئاً منها لند من الأنداد فقد استوجب النار.
وقوله: "دخل النار" يعني كحال الكفار، فيكون خالدا فيها؛ لأن المسلم إذا وقع في الشرك الأكبر فإن يحبط عمله بذلك، ولو كان أصلح الصالحين، وقد قال –جل وعلا- لنبيه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 65-66] فالله عظيم، والله أكبر، وخلقه كلهم محتاجون إليه، وعبيد له –سبحانه- بمن فيهم أفضلهم، وهم الأنبياء والمرسلون، فلو فرض أن أشرك نبينا –صلى الله عليه وسلم- لحبط عمله، ولكان في الآخرة من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم.
(2) أخرجه الترمذي (5/426) وأبو داود (1479) وابن ماجه (3828).
(3) أخرجه الترمذي (5/425).(16/59)
ص -55- ... الخاسرين، أفلا يوجب أن يخاف من هو دونه ممن يدعي الصلاح والعلم من الشرك؟!! بل قد شاع في هذه الأمة أن بعض المنتسبين إلى العلم يدعو إلى الشرك ويحضُّ عليه، ويُكرِّه ويبغِّض في التوحيد وحال هؤلاء، كما قال الله –جل وعلا- عن أسلافهم: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45].
فوجه الاستدلال ظاهر _إذاً- في قوله صلى الله عليه وسلم: "من مات، وهو يدعو من الله نداً دخل النار" وأنه يوجب الخوف؛ لأن قصد المسلم، بل قصد العاقل أن يكون ناجياً من النار، ومتعرِّضاً لثواب الله في الجنة.
ولفظ: "من دون الله" يكثر وروده في القرآن والسنة، ويراد به عند علماء التفسير، وعلماء التحقيق شيئان:
1- أن تأتي بمعنى (مع) فيكون معنى "من دون الله" أي مع الله، وعبَّر عن المعية بلفظ: "من دون الله" لأن كل ما دُعي مع الله، فهو دون الله –جل وعلا- فهم دونه والله –جل وعلا- هو الأكبر، وهو الأعظم، وفي هذا دليل على بشاعة عملهم.
2- أن تأتي بمعني (غير) فيكون معنى "دون الله" أي يدعو إلهاً غير الله، يعني أنه لم يعبد الله، وأشرك معه غيره، بل دعا غيره استقلالاً، فشملت "من دون الله" الحالين: من دعا الله ودعا غيره، ومن دعا غير الله استقلالاً.(16/60)
ص -56- ... قال (رواه البخاري. ولمسلم عن جابر –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار"(1). تقدم قريبا أن قوله: "لا يشرك به شيئاً" فيه نوعان من العموم: عموم في أنواع الشرك ويدل عليه وقوع النكرة في سياق النفي؛ لأن لفظة: "يشرك" نكرة، وعموم –أيضاً- في المتَوجَّه إليهم، وهم المُشْرَك بهم، كما يدل عليه قوله: "شيئاً" لأنه –أيضاَ- نكرة في سياق النفي.
فمعنى قوله: "به شيئاً" أي لم يتوجه بالعبادة لأيِّ أحد، لا لملك، ولا لنبي، ولا لصالح، ولا لجني، ولا لطالح، ولا لحجر، ولا لشجر، ولا غير ذلك.
قوله: "دخل الجنة" يعني: أن الله –جل وعلا- وعده بدخول الجنة برحمته سبحانه، وتفضله، وبوعده الصادق الذي لا يُخلَف.
قوله: "ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار" أي أنَّ كُلَّ مشركٍ متوعَّدٌ بالنار، ووجه الدلالة مستقيم مع استدلال الشيخ بالآية؛ لأن من لقي الله وهو على شيء من الشرك الأكبر، أو الأصغر، أو الخفي فإنه سينال العقوبة والعذاب في النار –والعياذ بالله-.
قوله: "ومن لقيه يشرك به شيئاً" فيه عموم –أيضاً- كما ذكرنا؛ لأن (من) هنا شرطية، و (يشرك) نكرة، فتكون عامة لأنواع الشرك، و(شيئاً) عامة في المتجَّه إليهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم.(16/61)
ص -57- ... فإن قيل: علام يدل قوله: "من لقيه يشرك به شيئاً دخل النار"؟ هل يدل على أن دخول أبدي، أو أمدي؟
فالجواب: أن ذلك بحسب نوع الشرك، فإن كان الشرك أكبر ومات عليه فإنه يدخل النار دخولاً أبدياً، وإن كان الشرك أصغر، أو خفياً فإنه يكون متوعداً بالنار، أي: سيدخل النار ويخرج منها؛ لأنه من أهل التوحيد.
وهل يدخل الشرك الأصغر الموازنة أو لا؟ تقدم الجواب أن الشرك الأصغر يدخل في موازنة الحسنات والسيئات، وأنه إذا رجحت حسناته فإنه لا يعذب على الشرك الأصغر. لكن هذا ليس في حق كل أحد من الخلق، فإن منهم من يعذب على الشرك الأصغر؛ لأن الموازنة بين الحسنات والسيئات ليست شاملة لكل الخلق، وليست شاملة –أيضاً- لكل الذنوب، بل قد يكون من الذنوب ما يستوجب النار، ولو رجحت الحسنات على السيئات؛ فإنه يستوجب الجنة. ولكن لا بد من أن يطهر في النار. وهذا دليل على وجوب الخوف من الشرك؛ لأن قوله: "من لقيه يشرك به شيئاً دخل النار" يشمل الشرك الأكبر والأصغر والخفي، فعلى المرء أن يطلب الهرب من الشرك بجميع أنواعه، ويسعى إلى ذلك جهده.
وعلى المرء –أيضاً- أن يستعيذ بالله –جل وعلا- من الشرك الأصغر والخفي بقوله: "اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه، وأستغفرك مما لا أعلم"(1). لأنه إذا علم فأشرك، فإنه سيترتب الأثر الذي ذكرناه، وهو عدم المغفرة، ففي هذا الدعاء الذي علمناه رسولنا –عليه الصلاة والسلام-
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد (19606) وابن أبي شيبة 10/337-338 بنحو من حديث أبي موسى، وقال الهيثمي في "المجمع"10/223: رواه أحمد والطبراني في "الكبير" و"الأوسط" ورجال أحمد رجال الصحيح غير أبي علي، ووثقه ابن حبان).(16/62)
ص -58- ... التفريق بين الشرك الأصغر مع العلم، والشرك الأصغر مع الجهل؛ ولذا قال: " أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه" لأن أمر الشرك الأصغر مع العلم عظيم فيجب أن يستعيذ المر بالله من أن يشرك به شركاً أصغر، فما هو أعلى منه من باب أولى، وهو يعلم.
ثم قال: " وأستغفرك مما لا أعلم" قد يقع في الشرك الأصغر أو الخفي، وهو لا يعلم، ويظهر شيء من ذلك على فلتات لسانه، وهو لا يقصد، ولمثل ذلك شُرع هذا الدعاء.
فهذا يدل على أن الشرك أمره عظيم، فلا يتهاوننَّ أحد بهذا الأمر؛ لأن من تهاون بالشرك وبالتوحيد، فإنه يكون متهاوناً بأصل دين الإسلام، بل يكون متهاوناً بالذي دعا إليه النبي –صلى الله عليه وسلم- في مكة سنين عدداً، بل يكون متهاوناً بدعوة الأنبياء والمرسلين؛ فإنهم اجتمعوا على شيء واحد، وهو العقيدة وتوحيد العبادة والربوبية والأسماء والصفات، وأما الشرائع فشتى.
لهذا وجب عليك الحذر كل الحذر من الشرك وأنواعه، وأن تتعلم ضده وأن تتعلم –أيضاً- أفراد الشرك، وأفراد التوحيد، وبذلك يتم العلم، ويستقيم العمل. وأما تعلّم ذلك على وجه الإجمال، فهذا كما يقال: نحن على الفطرة، لكن إذا أتت الأفراد فربما رأيت بعض الناس يخوضون في بعض الأقوال أو الأعمال التي هي من جنس الشرك، وهم لا يشعرون؛ وذلك لعدم خوفهم وهربهم من الشرك، نسأل الله –جل وعلا- العفو والعافية.
فاحرص –إذاً- على تعلّم هذا الكتاب ومدارسته، وعلى كثرة مذاكرته، وفهم ما فيه من الحجج والبينات؛ لأنه أفضل ما تودعه صدرك، بعد كتاب الله –جل وعلا- وسنة نبيه –صلى الله عليه وسلم- فلعلّه أن يكون –إن شاء الله- سبباً عظيماً من أسباب النجاة والفلاح.(16/63)
ص -59- ... باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله
وقول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف: 108] الآية.
عن ابن عباس –رضي الله عنهما- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- لما بعث معاذاً إلى اليمن قال: "إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله" وفي رواية: "إلى أن يوحدوا الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد علي فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" أخرجاه.(1).
ولهما عن سهل بن سعد –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال يوم خيبر: "لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه" فبات الناس يدكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبحوا غدوا على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كلهم يرجون أن يعطاها، فقال: "أين علي بن أبي طالب؟" فقيل: هو يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه، فأتي به فبصق في عينيه، ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم تخريجه.(16/64)
ص -60- ... وجع، فأعطاه الراية، وقال: "انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاَ واحداً خير لك من حمر النعم"(1).
(يدوكون: أي يخوضون).
فيه مسائل:
الأولى: أن الدعوة إلى الله طريق من اتبع رسول الله –صلى الله عليه وسلم-.
الثانية: التنبيه على الإخلاص؛ لأن كثيراً من الناس لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه.
الثالثة: أن البصيرة من الفرائض.
الرابعة: من دلائل حُسن التوحيد كونه تنزيهاً لله تعالى عن المسبَّة.
الخامسة: من قُبح الشرك كونه مسبَّة لله.
السادسة: -وهي من أهمها- إبعاد المسلم عن المشركين؛ لئلا يصير منهم ولو لم يشرك.
السابعة: كون التوحيد أول واجب.
الثامنة: أن يبدأ به قبل كل شيء حتى الصلاة.
التاسعة: أن معنى: "يوحدوا الله": معنى شهادة أن لا إله إلا الله.
العاشرة: أن الإنسان قد يكون من أهل الكتاب وهو لا يعرفها، أو يعرفها ولا يعمل بها.
الحادية عشرة: التنبيه على التعليم بالتدريج.
الثانية عشرة: البُداءة بالأهم فالأهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (3701) ومسلم (2406)(16/65)
ص -61- ... الثالثة عشرة: مصرف الزكاة.
الرابعة عشرة: كشفُ العالم الشبهةَ عن المتعلم.
الخامسة عشرة: النهي عن كرائم الأموال.
السادسة عشرة: اتقاء دعوة المظلوم.
السابعة عشرة: الإخبار بأنها لا تحجب.
الثامنة عشرة: من أدلة التوحيد ما جرى على سيد المرسلين وسادات الأولياء من المشقة والجوع والوباء.
التاسعة عشرة: قوله: "لأعطين الراية ..." علمُ من أعلام النبوة.
العشرون: تفْلُه في عينيه عَلَمُ من أعلامها أيضاً.
الحادية والعشرون: فضيلة علي رضي الله عنه.
الثانية والعشرون: فضل الصحابة في دَوْكِهم تلك الليلة وشُغلهم عن بشارة الفتح.
الثالثة والعشرون: الإيمان بالقدر، لحصولها لمن لم يسع لها ومنعها عمن سعى.
الرابعة والعشرون: الأدب في قوله: "على رسْلك".
الخامسة والعشرون: الدعوة إلى الإسلام قبل القتال.
السادسة والعشرون:الدعوة بالحكمة لقوله: "أخبرهم بما يجب عليهم".
الثامنة والعشرون: المعرفة بحق الله في الإسلام.
التاسعة والعشرون: ثوابُ من اهتدى على يديه رجلٌ واحد.
الثلاثون: الحلف على الفُتيا.(16/66)
ص -62- ... الشرح:
هذا الباب هو "باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله" أي: باب الدعوة إلى التوحيد. وقد ذكر في الباب قبله الخوف من الشرك، وقبله ذَكَرَ فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب، و"باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب". ولما ذكر بعده الخوف من الشرك اجتمعت معالم حقيقة التوحيد في نفس الموحد، فهل من اجتمعت حقيقة التوحيد في قلبه، بأن عرف فضله، وعرف معناه، وخاف من الشرك، واستقام على التوحيد، وهرب من ضده، هل يبقى مقتصراً بذلك على نفسه، ويضنّ به على غيره، وهل تتم حقيقة التوحيد في قلبه إلا بأن يدعو إلى حق الله الأعظم، ألا وهو إفراده –جل وعلا- بالعبادة وبما يستحقه –سبحانه وتعالى- من نعوت الجلال وأوصاف الجمال؟؟!.
بوب الشيخ –رحمه الله- بهذا الباب؛ ليدل على أن من تمام الخوف من الشرك، ومن تمام التوحيد أن يدعو المرءُ غيره إلى التوحيد؛ فإنه لا يتم في القلب حتى تدعو إليه، وهذه حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله؛ لأن الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله عُلمت حيث شهد العبد المسلم لله بالوحدانية بقوله: أشهد أن لا إله إلا الله، وشهادته معناها: اعتقاده ونطقه وإخباره غيرَه بما دلت عليه، فلا بد –إذاً تحقيقاً للشهادة، وإتماماً لها- أن يكون المكلَّف الموِّحد داعياً إلى التوحيد؛ لهذا ناسب أن يذكر هذا الباب بعد الأبواب قبله، ثم إن له مناسبة أخرى لطيفة، وهي أن ما بعد هذا الباب هو تفسير للتوحيد وبيان لأفراده، وتفسير للشرك وبيان لأفراده، فتكون الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا(16/67)
ص -63- ... الله، وإلى التوحيد دعوة إلى تفاصيل ذلك. وهذا من المهمات؛ لأن كثيراً من المنتسبين للعلم –من أهل الأمصار- يسلِّمون بالدعوة إلى التوحيد إجمالاً، ولكن إذا أتى التفصيل في بيان مسائل التوحيد، أو جاء التفصيل في بيان أفراد الشرك، فإنهم يخالفون في ذلك، وتغلبهم نفوسهم في مواجهة الناس بحقائق أفراد التوحيد، وأفراد الشرك.
فالذي تميزت به دعوة الإمام المصلح –رحمه الله- أن الدعوة فيها على شهادة أن لا إله إلا الله دعوة تفصيلية، ليست إجمالية، أما الإجمال فيدعو إليه كثيرون ممن يقولون: نهتم بالتوحيد، ونبرأ من الشرك، لكن لا يذكرون تفاصيل ذلك. والذي ذكره الإمام –رحمه الله- في بعض رسائله أنه لما عرض هذا الأمر –يعني الدعوة إلى التوحيد- على علماء الأمصار قال: "وافقوني على ما قلت، وخالفوني في مسألتين: في مسالة التكفير، وفي مسألة القتال. وهاتان المسألتان سبب مخالفة أولئك العلماء للشيخ؛ لأنهما فرعان ومتفرعان عن البيان والدعوة إلى أفراد التوحيد، والنهي عن أفراد الشرك.
فالدعاء –إذاً- إلى شهادة أن لا إله إلا الله هو الدعاء إلى ما دلت عليه من التوحيد، والدعاء إلى ما دلت عليه من نفي الشريك في العبادة، وفي الربوبية، وفي الأسماء والصفات عن الله –جل وعلا- وهذه الدعوة دعوة تفصيلية لا إجمالية؛ ولهذا فصل الإمام –رحمه الله- في هذا الكتاب أنواع التوحيد، وأفراد توحيد العبادة، وفصّل الشرك الأكبر والأصغر، فبيّن أفراداً من ذاك وذاك.
وسيأتي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله في الباب الذي بعده؛ لأنه "باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله".(16/68)
ص -64- ... قال -رحمه الله-: وقول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].
هذه الآية من آخر سورة يوسف هي في الدعوة إلى الله من أولها إلى آخرها، فموضوعها –إذاً الدعوة؛ ولهذا جاء في آخرها قواعد مهمة في بيان حال الدعاة إلى الله، وحال الرسل الذين دعوا إلى الله، وما خالف به الأكثرون، وفي آخر تلك السورة قال الله –جل وعلا- لنبيه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} أي سبيلي ومنهجي: أنني أدعو إلى الله، فمهمة الرسل هي الدعوة إلى الله –جل وعلا-.
فأحسن الأقوال: قول من دعا إلى الله، وأحسن الأعمال عمل من دعا إلى الله –جل وعلا- قال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]. قال الحسن البصري –رحمه الله- في تفسير هذه الآية –ما معناه-: "هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله من خلقه، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، هذا حبيب الله".(1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه عبد الرزاق في التفسير2/187.(16/69)
ص -65- ... وهذا أمر عظيم؛ فالداعي إلى الله هو أحسن أهل الأقوال قولاً كما دلت عليه الآية السابقة.
وموطن الشاهد من قوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} هو قوله: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} فإنه دعاء إلى الله –جل وعلا- لا إلى غيره، وفي هذا فائدتان:
الأولى: أن الدعوة إلى الله دعوة إلى توحيده، ودعوة إلى دينه، كما سيأتي تفسير هذه الكلمة في الحديثين بعدها، حديث ابن عباس في إرسال معاذ إلى اليمن، وحديث سهل بن سعد –رضي الله عنه- في إعطاء عليٍّ الراية.
فدلّ قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} على الفائدة –كما تقدم- وهي أن الدعوة إلى الله فيها دعوة إلى التوحيد.
الثانية: التنبيه على الإخلاص، وهذا يحتاجه من أراد الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله، والدعاء إلى الإسلام، يعني أن الداعي إلى الإسلام يحتاج أن يكون مخلصاً في ذلك؛ ولهذا قال الشيخ –رحمه الله- في مسائل هذا الباب في قوله: "{إِلَى اللَّهِ} التنبيه على الإخلاص؛ لأن كثيرين –وإن دعوا إلى الحق- فإنما يدعون إلى أنفسهم، أو نحو ذلك".
وقوله في الآية: {عَلَى بَصِيرَةٍ} البصيريةُ: هي العلم، وهي للقلب كالبصر للعين يبصر بها المعلومات والحقائق، فكما أنك بالعين تبصِر الأجرام والذوات، فإنك ببصيرة القلب والعقل تدرك المعلومات، والمعنى: أنه دعا على علم، وعلى يقين، وعلى معرفة، لم يدعُ إلى الله على جهالة.(16/70)
ص -66- ... وقوله تعالى: {أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} يعني: أدعو أنا إلى الله، وكذلك من اتبعني ممن أجاب دعوتي، فإنهم يدعون إلى الله أيضاً على بصيرة، وهذا أيضاً من مناسبة إيراد الآية تحت هذا الباب؛ لأن أتباع النبي –صلى الله عليه وسلم- يدعون إلى الله.
فالمتبعون للرسول –عليه الصلاة والسلام- والموحدون لله لا بد لهم من الدعوة إلى الله، بل هذه صفته –صلى الله عليه وسلم- وصفتهم التي أمر الله نبيه أن يُخبر عنها، فقال: {قُلْ} يعني: يا محمد {هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} فهذه إذاً خصلة أتباع الأنبياء الذين لم يخافوا من الشرك فحسب، بل دعوا إلى ذلك، وهذا أمر حتمي ولازم؛ لأن من عرف عِظم حق الله –جل وعلا- فإنه يغار على حق الرب سبحانه وتعالى، وكيف لا يغار على مولاه، وعلى حق من أحبه فوق كل محبوب من أن يكون توجه الخلق إلى غيره بنوع من أنواع التوجهات؟!. فلا بد أن يدعو إلى أصل الدين وأصل الملة الذي اجتمعت عليه الأنبياء والمرسلون، ألا وهو توحيده –جل وعلا- في عبادته، وفي ربوبيته، وفي أسمائه وصفاته –جل وعلا، وعز سبحانه-.
ثم ساق الإمام –رحمه الله- حديث ابن عباس أنه قال: (لما بعث النبي –صلى الله عليه وسلم- معاذاً إلى اليمن قال: "إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله" وفي رواية: "إلى أن يوحدوا الله" هذا موطن الشاهد، وهو أن النبي –صلى الله عليه وسلم أمر معاذاً أن يكون(16/71)
ص -67- ... أول ما يدعو إليه هو شهادة أن لا إله إلا الله، وفسّرتها الرواية الأخرى للبخاري في كتاب التوحيد من صحيحه، وهي بلفظ: "إلى أن يوحدوا الله"..(1).
فالدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله مأمور بها، وهي الدعوة إلى التوحيد. فالنبي عليه الصلاة والسلام أمر معاذاً أن يدعو أهل اليمن، وكانوا أهل الكتاب، يعني: من أهل من الكتاب المُتَعبدين بالتوراة والإنجيل، فبعضهم كان من اليهود، وبعضهم من النصارى، أما المشركون فيهم فهم قليل، وأكثرهم كان على إحدى الملتين.
قال العلماء: " قوله -عليه الصلاة والسلام- لمعاذ: "إنك تأتي قوماً أهل كتاب" فيه توطين وتوطئة للنفس بأنْ يهيئ نفسه لمناظرتهم، وقد كان معاذ بن جبل –رضي الله عنه- من العلماء بدين الإسلام، ومن علماء الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- فقال له عليه الصلاة والسلام ذلك ليهيئ نفسه لمناظرتهم ولدعوتهم، ثم أمره أن يكون أول ما يدعوهم إليه أن يوحدوا الله –جل وعلا-.
وفي إعراب قوله: "فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله" وجهان:
الأول: برفع قوله: (أولُ) على أنه اسم لـ(يكن)، ونصب قوله: (شهادة) على أنه الخبر. فيكون المعنى على هذا الوجه: أنه أخبره عن الأولية، فابتدأ بالأولية ثم أخبره بذلك الأول.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم.(16/72)
ص -68- ... الثاني: بنصب قوله: (أولَ) على أنه خبر لـ(يكن) مقدم، ورفع قوله: (شهادة) على أنه اسمها مؤخر، فيكون المعنى –على هذا الوجه-: الإخبار عن الشهادة بأنها أول ما يدعى إليه. وهذان الوجهان جائزان، والمشهور هو الوجه الثاني، يعني: بجعل (أول) منصوبة؛ وذلك لأن مقام ذكر الشهادة والابتداء بها هو الأعظم، وهو المقصود، ليلتفت السامع والمتلقي –وهو معاذ- إلى ما يُراد منه أن يُخبَر به من جهة الشهادة.
فموطن الشاهد من هذا الحديث، ومناسبة إيراده في الباب: هو ذكر أن التوحيد هو أول ما يدعى إليه، وهو شهادة أن لا إله إلا الله.
ثم ساق في الباب أيضاً حديث سهل بن سعد الذي في الصحيحين أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال يوم خيبر: "لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه" فبات الناس يدكون ليلتهم..."
قوله: "بات" البيتوتة هي: المكث في الليل سواءً أكان نوم أو لم يكن.
ومعنى قوله: "يدوكون ليلتهم" أي يخوضون في تلك الليلة، و(باتوا) يعني ظلوا ليلاً يتحدثون من دون نوم، لعظم هذا الفضل الذي ذكره عليه الصلاة والسلام.
قال: "...فلما أصبحوا غدوا على رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كلهم يرجون أن يعطاها، فقال: "أين علي بن أبي طالب؟" فقيل: هو يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه، فأتي به فبصق في عينيه، ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، وقال: "انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام ...". فقوله: "انفذ على رسلك حتى(16/73)
ص -69- ... تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام".(1)هذا هو موطن الشاهد والمناسبة من إيراد هذا الحديث في الباب.
قال: "ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه". فالدعوة إلى الإسلام هي الدعوة إلى التوحيد؛ لأن أعظم أركان الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وضم إليها عليه الصلاة والسلام أيضاً أن يدعوهم إلى حق الله فيه، يعني: إلى ما يجب عليهم من حق الله فيه.
فقوله: "وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه" يعني: في الإسلام، من جهة التوحيد، ومن جهة الفرائض، واجتناب المحرمات؛ ولهذا يجب أن تبدأ بالدعوة أولاً إلى أصل الإسلام، وهو التوحيد، وبيان معنى الشهادتين، ثم بيان المحرمات، والواجبات؛ لأن أصل الأصول هو أولى الواجبات بالتقديم.
ومما يلاحظ –هنا- أن آية سورة يوسف فيها بيان أن كل الصحابة كانوا دعاة إلى الله –جل وعلا- وإلى التوحيد، وحديث معاذ يبين أن معاذاً كان من الدعاة إلى الله، وقد فصّل فيه نوع تلك الدعوة إلى الله –جل وعلا- وكذلك حديث سهل بن سعد الذي فيه قصة علي فيه أيضاً الدعوة إلى الإسلام، فيكون هذان الحديثان كالتفصيل لقوله في الآية: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} فالدعوة على بصيرة هي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وهي الدعوة على توحيده، وإلى الإسلام، وما يجب على العباد من حق الله فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم.(16/74)
ص -70- ... "باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله"
وقول الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} الآية [الإسراء: 57] وقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف: 26-27] الآية، وقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية [التوبة: 31] وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّه} الآية [البقرة: 165].
وفي الصحيح عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله –عز وجل-".(1) وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب.
فيه مسائل:
فيه أكبر المسائل وأهمها: وهي تفسير الشهادة، وبيّنها بأمور واضحة.
منها: آية الإسراء، بيّن فيها الرد على المشركين الذين يدعون الصالحين، ففيها بيان أن هذا هو الشرك الأكبر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم (23).(16/75)
ص -71- ... ومنها: آية براءة، بين فيها أن أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، وبين أنهم لم يؤمروا إلا بأن يعبدوا إلهاً واحدا، مع أن تفسيرها الذي لا إشكال فيه طاعةُ العلماء والعباد في المعصية، لا دعاؤهم إياهم.
ومنها: قول الخليل عليه السلام للكفار: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف: 26-27] فاستثنى من المعبودين ربه، وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة هي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله، فقال: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 28].
ومنها: آية البقرة في الكفار الذين قال الله فيهم: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 167] ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله، فدل على أنهم يحبون الله حباًّ عظيماً، ولم يدخلهم في الإسلام، فكيف بمن أحب الندَّ أكبر من حب الله؟ فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده؟ ولم يحب الله؟.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: " من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله" وهذا من أعظم ما يُبين معنى "لا إله إلا الله" فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصماً للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، ولا الإقرارُ بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يُضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو توقف لم يحرُم ماله ودمه.
فيا لها من مسألة ما أعظمَها وأجلَّها! ويا لَهُ من بيان ما أوضحه! وحجة ما أقطعها للمنزاع!.(16/76)
ص -72- ... الشرح:
"باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله" سبق بيان أن التوحيد هو: شهادة أن لا إله إلا الله؛ ولهذا قال العلماء: "إن العطف في قوله: "التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله" من عطف المترادفات. ولكن هذا فيه نظر من جهة أن الترادف غير موجود، أعني: الترادف الكامل، لكن الترادف الناقص موجود، فيكون هذا –إذاً- من قبيل عطف المترادفات التي يختلف بعضها عن بعض في بعض المعنى.
وقوله هنا: "باب تفسير التوحيد" يعني: الكشف والإيضاح عن معنى التوحيد، وقد تقدم أن التوحيد هو اعتقاد أن الله –جل وعلا- واحد في ربوبيته لا شريك له، واحد في إلهيته لا ندّ له، واحد في أسمائه وصفاته لا مثل له، سبحانه وتعالى، قال –جل وعلا-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: [11] وذلك يشمل أنواع التوحيد جميعا، فالتوحيد –إذاً- هو اعتقاد أن الله وحده في هذه الثلاثة أشياء.
قوله: "... وشهادة أن لا إله إلا الله" يعني: تفسير شهادة أن لا إله إلا الله، فهذه الشهادة هي أعظم منها؛ وذلك لأن معناها هو الذي قامت عليه الأرض والسماوات، وما تعبّد المتعبدون إلا لتحقيقها ولامتثالها.
والشهادة تارة تكون شهادة عن حضور وبصر، وتارة تكون شهادة عن علم، بمعنى: إما أن يشهد على شيء حضره ورآه، أو يشهد على شيء(16/77)
ص -73- ... علمه، فهذان معنيان للشهادة. فإذا قال قائل: أشهد، فيحتمل أنها بمعنى: المشاهدة والرؤية، ويحتمل أنها بمعنى: العلم. ومعنى الشهادة في قولنا: أشهد أن لا إله إلا الله، شهادة علمية، ولهذا تضمن قوله: أشهد العلمَ.
والشهادة في اللغة، والشرع، وفي تفاسير السلف لآي القرآن التي فيها لفظ (شهد) كقوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18] وكقوله: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} تتضمن أشياء:
الأول: الاعتقاد بما سينطق به، والاعتقاد بما شهده، فكونه يشهد أن لا إله إلا الله يستلزم أنه اعتقد بقلبه معنى هذه الكلمة عن علم ويقين؛ لأن الشهادة فيها الاعتقاد، والاعتقاد لا يسمى اعتقاداً إلا إذا كان ثمَّ علم ويقين.
الثاني: التكلم بها، فالشهادة كما أنها تقتضي اعتقاداً فإنها تقتضي –أيضاً- إعلاماً ونطقاً.
الثالث: الإخبار بذلك، والإعلام به، فينطق بلسانه، وهذا من جهة الواجب –وأيضاً- لا يسمَّى شاهداً حتى يُخبر غيره بما شهد، وهذا من جهة (الشهادة).
فيكون معنى: أشهد أن لا إله إلا الله أعتقد، وأتكلم، وأعلم، وأخبر بأن لا إله إلا الله. فافترقتْ بذلك عن حال الاعتقاد، وافترقتْ كذلك عن حال القول، كما افترقت –أيضاً- عن حال الإخبار المجرد عن الاعتقاد، فلا بد لتحقّقها من حصول الثلاثة مجتمعة؛ ولهذا نقول في الإيمان إنه: اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالجوارح والأركان.(16/78)
ص -74- ... فـ(لا إله إلا الله) هي كلمة التوحيد، وهي مشتملة –من حيث الألفاظ- على أربعة ألفاظ:
1- (لا).
2- (إله).
3- (إلا).
4- لفظ الجلالة (الله).
أما (لا هنا فهي: النافية للجنس، تنفي جنس الألوهية الحقة عن أحد إلا الله –جل وعلا- يعني في هذا السياق. وإذا أتى بعد النفي (إلا) -وهي أداة الاستثناء- أفادت معنى زائدة، وهو الحصر، والقصر، فيكون المعنى الإلهية الحقة، أو الإله الحق هو الله، بالحصر والقصر، ليس ثمَّ إله حق إلا هو، دون ما سواه.
وكلمة (إله) على وزن (فعال) وتأتي أحياناً بمعنى (فاعل)، وتأتي أحياناً بمعنى مفعول، وهي -لغة مشتقة من (أله) بمعنى عَبَدَ، وقال بعض اللغويين: إنها من: أَلَهَ يَأْله إذا تحير، فـ(ألَه) فلان يأله أو تألَّه: إذا تحير، وسمي الإله عندهم إلهاً؛ لأن الباب تحيَّرت في كنه وصفه، وكُنه حقيقته.
وهذا القول ليس بجيد، بل الصواب أن كلمة (إله) (فعال) بمعنى (مفعول) وهو المعبود، ويدل على ذلك ما جاء في قراءة ابن عباس أنه قرأ في سورة الأعراف: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127]. كان ابن عباس يقرأها هكذا: {وَيَذَرَكَ وآلهتك} قال: لأن(16/79)
ص -150- ... "باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله"
وقول الله تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108]
وعن ثابت بن الضحاك -رضي الله عنه- قال: "نذر رجل أن يذبح إبلاً ببوانة، فسأل النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: "هل كان فيه وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟" قالوا: لا، قال: "فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟" قالوا: لا، قال: "أوف بنذرك فإنه لا وفاء بنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم" رواه أبو داود(1). وإسناده على شرطهما.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً}.
الثانية: أن المعصية قد تؤثر في الأرض، وكذلك الطاعة.
الثالثة: رد المسالة المشكلة إلى المسألة البينة ليزول الإشكال.
الرابعة: استفصال المفتي إذا احتاج إلى ذلك.
الخامسة: أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع.
السادسة: المنع منه إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية ولو بعد زواله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أبو داود (3313) قال شيخ الإسلام في الاقتضاء (1/436): إسناده على شرط الصحيحين.(16/80)
ص -151- ... السابعة: المنع منه إذا كان فيه عيد من أعيادهم، ولو بعد زواله.
الثامنة: أنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة؛ لأنه نذر معصية.
التاسعة: الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ولو لم يقصده.
العاشرة: لا نذر في معصية.
الحادية عشرة: لا نذر لابن آدم فيما لا يملك.
الشرح:
قال الإمام رحمه الله: "باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله".
قوله: "لا يذبح لله" هذا على جهة النفي المشتمل على النهي؛ لأن من أساليب اللغة العربية أنه يُعْدَلُ عن التصريح بالنهي إلى التصريح بالنفي؛ ليدل دلالة أبلغ على أن النفي والنهي معاً مقصودان، فكأنه لا يصح أن يقع أصلاً؛ ولهذا أتى بصيغة النفي، فقال: "باب لا يذبح لله".
وقال بعض أهل العلم: يُحتمل أن تكون (لا) للنهي، فيكون الفعل المضارع بعدها مجزوماً، أي: "باب لا يَذْبَحْ لله بمكان يذبحُ فيه لغير الله".
وقوله: "لله" يعني: أن تكون النسيكة أو أن تكون الذبيحة مراداً بها وجه الله –جل وعلا-.
"بمكان يذبح فيه لغير الله": (والباء) هنا لها معنى زائد على كلمة (في) وهذا المعنى الزائد أنها أفْهَمَت معنى الظرفية ومعنى المجاورة جميعاً؛ لأن (الباء) تكون للمجاورة أيضاً كما تقول: مررت بزيد، يعني: بمكان قريب من مكان زيد، أو بمكان مجاور لمكان زيد، والظرفية بـ(في) تفيد أنه في المكان(16/81)
ص -152- ... نفسه، فاستعمال حرف (الباء) يفيد أنه مجاور لذلك المكان. وهذان المعنيان معاً مقصودان، وهو أنه لا يُذبح لله بمجاورة المكان الذي يُذبح فيه لغير الله، ولا في نفس المكان الذي يذبح فيه لغير الله؛ لأنهما –بهذا- يشتركان مع الذين يذبحون لغير الله –جل وعلا-.
وصورة المسألة: أن يوجد مكان يُذبح فيه لغير الله، كمكان عند قبر، أو عند مشهد، أو عند مكان معظم، واعتاد المشركون التقرب بالذبائح لأصنامهم وأوثانهم في هذا المكان، فإذا كانوا يتقربون في هذا المكان للقبر أو نحوه ويذبحون لصاحبه –يعني: من أجله- فإنه لا يحل أن يذبح المسلم الموحد في هذا المكان ولو ذبحه خالصاً لله –عز وجل- لأنه يكون قد شابه أولئك المشركين في تعظيم الأمكنة التي يتعبدون فيها بأنواع العبادات التي يصرفونها لغير الله –جل وعلا- فالذبح لله وحده –وإن كان خالصاً له- إن كان في المكان الذي يُتقرب فيه لغير الله فإنه لا يحل ولا يجوز، بل هو من وسائل الشرك، ومما يغري بتعظيم ذلك المكان، وحكمه أنه محرم، ووسيلة من وسائل الشرك.
قال الشيخ –رحمه الله ورفع درجاته في الجنة-: "وقول الله تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً...} هذا النهي هو عن القيام في مسجد الضرار الذي بناه المنافقون، وقد أقاموه إرصاداً، ومحاربة لله ورسوله، وتفريقاً بين المؤمنين، فهو مكان أقيم على الخيانة وعلى مضادة الإسلام وأهله؛ فلهذا لما كانت هذه هي غاية من أقامه فإن مشاركتهم فيه بالصلاة لا يجوز؛ لأنه إقرار لهم أو تكثير لسوادهم، وإغراء للناس للصلاة فيه، فنهى الله –جل وعلا- نبيه –صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين عن أن يصلوا فيه.(16/82)
ص -153- ... ومناسبة الآية للباب ظاهرة، وهي أن الله –جل وعلا- نهى النبي –صلى الله عليه وسلم- عن الصلاة في مسجد الضرار، ومعلوم أن صلاته عليه الصلاة والسلام، وصلاة المؤمنين معه هي خالصة لله –جل وعلا- دون من سواه، ومع هذا فقد نُهوا عن الصلاة فيه، مع أنهم مخلصون ليس عندهم نية الإضرار ولا التفريق ولا الإرصاد، لكن نهاهم عن الصلاة فيه؛ لأجل هذه المشاركة والمشابهة التي قد تغري بإتيان ذلك المكان.
الصورة متحققة وموجودة فيمن ذبح لله بمكان يُذبح فيه لغير الله، فإنه وإن كان مخلصاً، لكنه قد يدعو إلى تعظيم ذلك المكان بفعله،ة وإن لم يقصد التعظيم. لكن هنا إيراد: وهو أنه جاء الإذن عن الصحابة بالصلاة في الكنيسة، وقد صلى عمر –رضي الله عنه- في كنيسة بيت المقدس(1). ومن الصحابة -رضوان الله عليهم- من صلى في كنائس بعض البلاد، فصلاتهم في الكنائس لله –جل وعلا- أليست مشابهة للصلاة في مسجد الضرار أو للذبح في مكان يُذبح فيه لغير الله؟.
الجواب: أن هذا الإيراد ليس بوجيه؛ ذلك لأن نهي النبي –صلى الله عليه وسلم- عن الصلاة في مسجد الضرار، وعن الذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله إنما هو لأن صورة العبادة واحدة، فصورة الذبح من الموحد ومن المشرك واحدة، وهي إمرار السكين –وهي آلة الذبح- على الموضع من البهيمة المراد ذبحها، وإهراق دمها في ذلك المكان، والصورة الحاصلة من الموحد ومن المشرك واحدة، ولهذا فإنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: صحيح البخاري باب الصلاة في البيعة، وفيه أثر عمر وابن عباس، وانظر: الإنصاف ج1/496، والفتاوى22/162، وأحكام أهل الذمة6/123.(16/83)
ص -154- ... لا تمييز بين الصورتين –من حيث الظاهر- وإن اختلفت مقاصدها، فكذلك صلاة النبي –صلى الله عليه وسلم- والصحابة في مسجد الضرار فيها مشابهة من حيث الصورة لصلاة المنافقين، فرجع الاختلاف إلى الاختلاف ما في القلب؛ والنيات ومقاصدها القلوب مما تخفي على الناس، ولهذا تقع المفسدة من حيث اشتباه الصورة الظاهرية، ولا يحصل بذلك الفعل –ولو مع خلوص النية- مصلحة.
وأما الصلاة في الكنيسة، فإن صورة الفعل مختلفة؛ لأن صلاة النصارى ليست على هيئة وصورة صلاة المسلمين، فيعلم من رأى المسلم يصلي أنه لا يصلي صلاة النصارى، فليس في فعله إغراء بصلاة النصارى، ومشاركتهم فيها، فهذا هو الفرق بين المسألتين، وهو واضح بأدنى تأمل.
قال: (وعن ثابت بن الضحاك -رضي الله عنه- قال: "نذر رجل أن يذبح إبلاً ببوانة، فسأل النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: "هل كان فيه وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟" قالوا: لا، قال: "فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟" قالوا: لا، قال: "أوف بنذرك فإنه لا وفاء بنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم" رواه أبو داود وإسناده على شرطهما).
هذا الحديث فيه أن رجلاً نذر أن ينحر إبلاً ببوانة، و(بوانة): اسم موضع، فلما نذر أن ينحر في هذا الموضع استفصله النبي –صلى الله عليه وسلم- لأن المقام يقتضي الاستفصال؛ إذ يتبادر إلى الذهن سؤال عن تخصيص هذا الرجل بوانة بأن ينحر فيها الإبل، فقد تكون لأن فيها عيداً من أعيادهم، أو لأن فيها وثناً من أوثان الجاهلية كان يعبد في ذلك الموضع فهذا هو المتبادر من التخصيص؛ لأنه في الغالب يكون لغرض العبادة؛ ولهذا استفصله النبي عليه(16/84)
ص -155- ... الصلاة والسلام فقال: "هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟" قالوا: لا". فهذا السؤال يدل على أنه لو وجد هذا الوصف –وهو أنه كان ثَمَّ وثن من أوثان الجاهلية يُعبد- لَم يُجزْ النحر في ذلك الموضع، وهو المراد من إيراد هذا الحديث في الباب، وهو وجه الاستدلال.
قوله: "فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟" العيد: هو المكان أو الزمان الذي يعود، أو يُعاد إليه، فالعيد قد يكون مكانياً؛ لأنه اسم للمكان الذي يُعتاد المجيء إليه ويُرجع إليه في وقت معتاد، ومثال ما يراد به المكاني قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تجعلوا قبري عيداً"(1). يعني: لا تجعلوا هذا المكان مكاناً تعتادون المجيء إليه.
وكذلك الأزمنة تكون أعيادا؛ لأنها تعود في وقت معين.
فقوله: "هل كان فيها عيد من أعيادهم؟" يعني: عيداً مكانياً؛ لأنه قال: "هل كان فيها عيد من أعيادهم؟" ويحتمل أيضاً أن يكون عيداً زمانياً.
ومن المعلوم أن أعياد المشركين الزمانية والمكانية مرتبطة بأديانهم الشركية، فيكون المعنى –إذاً- أنهم يتعبدون في تلك الأعياد بعباداتهم الشركية، ومن أعظم ما يفعلونه في هذه الأعياد التقرب إلى معبوداتهم بالذبح وإراقة الدماء.
فدل ذلك على أن مشاركة المشركين في المكان الذي يتقربون فيه لغير الله بصورة مشابهة لفعلهم ولو ظاهراً لا يجوز؛ لأنه مشاركة لهم في الفعل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أبو داود (2042).(16/85)
ص -156- ... الظاهر ولو كان الفاعل مخلصاً لا يذبح إلا لله، أو لا يصلي إلا لله –جل وعلا-.
قال العلماء: قوله صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله" فيه ترتيب ما بعد (الفاء) على ما قبلها بالفاء، وهذا يدل على أن سبب الإذن بالوفاء بالنذر أن ما قبله ليس بمعصية، ويدل الاستفصال على أن الذبح لله في مكان فيه وثن يعبد، أو فيه عيد من أعياد المشركين معصية لله –عز وجل- وبهذا يستقيم ما أراده الشيخ –رحمه الله- من الاستدلال والاستشهاد بهذا الحديث تحت ذلك الباب.(16/86)
ص -157- ... "باب من الشرك النذر لغير الله تعالى"
وقول الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [الإنسان: 7] وقوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [البقرة: 270]
وفي الصحيح عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه".(1).
فيه مسائل:
الأولى: وجوب الوفاء بالنذر.
الثانية: إذا ثبت كونه عبادة لله، فصرفه إلى غير الله شرك.
الثالثة: أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به.
الشرح:
قوله: "باب من الشرك النذر لغير الله تعالى" (من) هاهنا تبعيضية.
قوله: "من الشرك النذر": النذر مبتدأ مؤخر، والخبر قبله، وأصل الجملة: النذر لغير الله كائن من الشرك. والشرك هنا: المقصود به الشرك الأكبر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (6696) و(6700).(16/87)
ص -158- ... ولا شك أَنَّ النذر لغير الله شرك أكبر بالله –جل وعلا- ووجه كونه شركاً بالله –جل وعلا- أن النذر هو إلزام المكلف نفسه بعبادةٍ لله –جل وعلا- إما مطلقاً، وإما بقيد، فهذه حقيقة النذر.
ومما يدل –أيضاً- على أن النذر عبادة أن الله –جل وعلا- مَدَحَ الذين يوفون بالنذر فقال:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} {الإنسان: 7] ومدحه لهم يدل على أن الوفاء بالنذر أمر محبوب لله عز وجل، ولا يكون محبوباً إلا وهو مشروع، وذلك يقتضي أنه عبادة من العبادات، بل الوفاء به واجب؛ لأنه إلزام بطاعة، وقال صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه".
ومما يدل –أيضاً- على كون النذر عبادة قوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [البقرة: 270] ووجه الدلالة: محبة الله –جل وعلا- لذلك الذي حصل منهم تعظيماً له –سبحانه وتعالى- بالنذر.
وإذا كان كذلك فإنه عبادة من العبادات، فمن صَرَفَهُ لغير الله –جل وعلا- كان مشركاً بالله –جل وعلا-.
وهاهنا سؤال معروف قد يَرِدُ في هذا المقام، وهو أن النذر مكروه قد كرهه النبي –صلى الله عليه وسلم- وسئل عنه فقال: "إنه لا يأتي بخير"(1). فكيف يكون عبادة وقد كرهه النبي عليه الصلاة والسلام؟؟!.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (6693) ومسلم (1639) (4).(16/88)
ص -159- ... والجواب: أن النذر قسمان: نذر مطلق، ونذر مقيد، والنذر المطلق هو أن يُلْزِمَ العبدُ نفسه بعبادة لله –جل وعلا- هكذا بلا قيد، كأن يقول مثلاً: لله عليَّ نذر أن أصلي ركعتين، وليس هذا النذر في مقابلة شيء يحدث له في المستقبل، أو شيء حدث له، فيلزم نفسه بعبادة كصلاة، أو صيام، أو نحو ذلك، فهذا هو النذر المطلق، وهو إلزام العبد نفسه بطاعةٍ لله –جل وعلا- أو بعبادة. وليس هذا النذر هو الذي كرهه عليه الصلاة والسلام؛ بل النذر المكروه هو القسم الثاني، وهو النذر المقيد، وهو الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنما يستخرج به من البخيل".(1).
وحقيقته: أن يلزم العبد نفسه بطاعة لله –جل وعلا- مقابل شيءٌ يحدثه الله –جل وعلا- له ويقدره، ويقضيه له، كأن يقول مثلاً: إن شفي الله مريضي فلله علي نذرٌ أن أتصدق بكذا وكذا، أو إنْ نجحت فسأصلي ليلة، أو إنْ عُيِّنت في هذه الوظيفة فسأصوم أسبوعاً، ونحو ذلك، فهذا كأنه يشترط بهذا النذر على الله –جل وعلا- فيقول مثلاً: يا رب إن أعطيتني كذا وكذا صمت لك، وإن أنجحتني صليتُ، أو تصدقت، وإن شفيت مريضي فعلتُ كذا وكذا، يعني مقابلة للفعل بالفعل. وهذا الذي وصفه النبي –عليه الصلاة والسلام- بقوله: "إنما يستخرج به من البخيل" لأن البخيل هو الذي لا يعمل العبادة حتى يُقاضى عليها فصار بما أعطاه الله من النعمة أو بما دفع عنه من النقمة كأنه –في حِسِّ ذلك الناذر- قد أعطى الأجر، وأعطي ثمن تلك العبادة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم (1639) (2).(16/89)
ص -160- ... وهذا المعنى الخاطئ يستحضره كثير من العوام الذين يستعملون النذور، فإنهم يظنون أن حاجاتهم لا تحصل إلا بالنذر، وقال شيخ الإسلام –رحمه الله- وغيره من أهل العلم: "إن من ظن أنه لا تحصل حاجة من حاجاته إلا بالنذر، فإن اعتقاده هذا محرَّمٌ؛ لأنه ظن أن الله لا يعطي إلا بمقابل، وهذا سوء ظن بالله –جل وعلا- وسوء اعتقاد فيه سبحانه وتعالى، بل هو المتفضل المنعم على خلقه".
فإذا تبين لك ذلك فاعلم أن النذر المطلق لا يدخل في الكراهة، لكن إذا أطلقنا القول بأن النذر عبادة، فهل يدخل في هذا الإطلاق النذر المقيّد؟.
والجواب: أن النذر المقيّد له جهتان:
الأولى: وفاؤه بالنذر الذي ألزم نفسه به فإنه يكون بذلك قد تعبَّد الله عبادةً من هذه الجهة –فيما يظهر-.
الجهة الثانية: جهة الكراهة المتعلِّقة بهذا النذر المقيد، وهي إنما جاءت لصفة الاعتقاد لا لصفة أصل العبادة، فإنه –في النذر المقيد- إذا قال: إن كان كذا وكذا فلله عليّ نذرُ كذا وكذا، كانت الكراهة راجعة إلى ذلك التقييد، لا إلى أصل النذر، دلّ على ذلك التعليل، حيث قال: "فإنما يستخرج به من البخيل".
فلا إشكال إذاً, فالنذر عبادة من العبادات العظيمة.
وهنا قاعدة في أنواع الاستدلال على أن عملاً ما من الأعمال، صَرْفُه لغير الله –جل وعلا- شرك أكبر، وذلك أن الاستدلال نوعان:
النوع الأول: استدلال عام، يعني: أن كل دليل من الكتاب أو السنة فيه إفراد الله بالعبادة يكون دليلاً على أن كل عبادة لا تصلح إلا لله، فيكون الاستدلال بهذا النوع من الأدلة على تحريم النذر لغير الله، وأنه شرك(16/90)
ص -161- ... كالآتي: دل الدليل على وجوب صرف العبادة لله وحده، وعلى أنه لا يجوز صرف العبادة لغير الله –جل وعلا- وأن من صرفها لغير الله –جل وعلا- فقد أشرك، والنذر عبادة من العبادات، فمن نذر لغير الله فقد أشرك.
والنوع الثاني من الاستدلال: هو أن تستدل على المسائل بأدلة خاصة وردت فيها، كأن تستدل على تحريم الذبح لغير الله بأدلة خاصة وردت في ذلك، وكأن تستدل على وجوب الاستغاثة بالله وحده دون ما سواه بأدلة خاصة وردت بذلك، وكذا الاستعاذة ونحو ذلك.
فالدليل على وجوب إفراد الله بجميع أنواع العبادة تفصيلاً وإجمالاً، وعلى أن صرفها لغير الله شرك أكبر، يستقيم بهذين النوعين من الاستدلال:
استدلال عام بكل آية أو حديث فيهما الأمر بإفراد الله بالعبادة، والنهي عن الشرك فتُدخل هذه الصورة فيها؛ لأنها عبادة، بجامع تعريف العبادة.
والثاني: أن تستدل على المسألة بخصوص ما ورد فيها من الأدلة؛ ولهذا قال الشيخ -رحمه الله- هنا: "باب من الشرك النذر لغير الله" واستدل على ذلك بخصوص أدلة وردت في النذر.
وأما الآيات التي قدّمها في أول الكتاب، كقوله جلا وعلا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] وكقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}[النساء: 36] وكقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [الأنعام: 151] فهذه أدلة تصلح لأن تستدل بها على أن صرف النذر لغير الله شرك؛ فتقول: النذر لغير(16/91)
ص -162- ... الله عبادة، والله –جل وعلا- نهى أن تصرف العبادة لغيره، وأن من صرف العبادة لغير الله فهو مشرك، فتقول: النذر عبادة؛ لأنه داخل في حد العبادة؛ لأن الله –جل وعلا- يرضاه، ومدح الموفين به.
فالدليل الخاص –إذاً- هو أن تستدل بخصوص ما جاء في الكتاب والسنة من الأدلة على النذر؛ ولهذا أورد الشيخ –هنا- الدليل التفصيلي، وفي أول الكتاب أتى بالأدلة العامة على كل مسائل العبادة، وهذا من الفقه الدقيق في التصنيف. ومن الفقه في الأدلة الشرعية: أن المستدل على مسائل التوحيد، ينبغي له أن يراعي التنويع؛ لأن تنويع الاستدلال، وإيراد الأدلة من عدة وجوه، من شأنه أن يضعف حجة الخصوم الذين يدعون الناس لعبادة غير الله، وللشرك به –جل وعلا- فإذا أوردت على الخصم مرة دليلاً خاصاً، وتارة دليلاً عاماً، ونوعت في ذلك، فإن هذا مما يضيق به المخاصم، ويقطع حجته، أما إذا لم تورد إلا دليلاً واحداً فربما أوله لك، أو ناقشك فيه، فيحصل عند المستدل ضعف عند المواجهة، أما إذا انتبه لمقاصد أهل العلم، وحفظ الأدلة فإنه يقوى على مجادلة الخصوم، والله –جل وعلا- وعد عباده بالنصر كما في قوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51]
وقد قال الشيخ –رحمه الله- في "كشف الشبهات": "والعامي من الموحدين يغلب الألف من علماء المشركين".
وهذا صحيح؛ فإن عند العوام الذين علموا مسائل التوحيد، وأخذوها عن أهلها، عندهم من الحجج، ووضوح البينات في ذلك ما ليس عند بعض المتعلمين.(16/92)
ص -163- ... وقول الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْر} [الإنسان: 7] وجه الاستدلال به على كون النذر عبادة ظاهر، وهو أن الله –جل وعلا- مدح الموفين بالنذر، ومدحه للموفين بالنذر يقتضي أن الوفاء بالنذر محبوب له –جل وعلا- وأنه مشروع، وما كان كذلك فهو من أنواع العبادات، فيكون صرفه لغير الله –جل وعلا- شركاً أكبر.
وكذلك قوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة: 270] فإن الله عظّم النذر بقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُه} وعظّم أهله، وهذا يدل على أن الوفاء به عبادة محبوبة لله –جل وعلا-.
قوله: وفي الصحيح عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه".
وجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي –صلى الله عليه وسلم- أوجب الوفاء بالنذر المطلق الذي يكون طاعة، كأن يقول: لله عليّ نذر أن أصلي كذا وكذا، فهذا يجب عليه أن يوفي بنذره، وكذا إن كان النذر مقيداً، كأن يقول: إن شفي الله مريضي فلله عليّ أن أتصدق بمائة ريال، فهذا يجب عليه أن يوفي بنذره لله –جل وعلا- وإيجاب ذلك يدل على أنه عبادة محبوبة، لأن الواجب من أنواع العبادات، وأما إن كان وسيلة إليه فإنه أيضاً عبادة؛ لأن الوسيلة للوفاء بالنذر هي النذر، فلولا النذر لم يأت الوفاء، فأُوجب الوفاء؛ لأجل أن المكلف هو الذي ألزم نفسه بهذه العبادة.(16/93)
ص -164- ... وأما المنع من الوفاء بنذر المعصية الذي دل عليه قوله: "... ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" فلأن إيجاب المكلف على نفسه معصية الله –جل وعلا- فيه معارضة لنهي الله –جل وعلا- عن العصيان، وإذا نذر العبد العصيان، فإن النذر –كما هو معلوم في الفقه- قد انعقد، ويجب عليه ألا يفي بفعل تلك المعصية، ولكن يجب عليه أن يكفّر عن ذلك كفارة يمين، ومحل ذلك باب النذر في كتب الفقه.
فالمقصود من هذا أن استدلال الشيخ –رحمه الله- بالشق الأول، وهو قوله: "من نذر أن يطيع الله فليطعه" ظاهر في الدلالة على أن النذر عبادة، وكذلك في قوله: "ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" حيث أوجب عليه كفارة يمين، فهذا يدل على أن أصله منعقد، وإنما انعقد لكونه عبادة، وإذا كان عبادة فصرفها لغير الله شرك أكبر به –جل وعلا-.
فالنذر –على أية حال كان- لله، أو لغير الله، هو عبادة، ثم إن كان لله فهو عبادة لله –جل وعلا- وإن كان لغير الله فهو عبادة لذلك الغير، والله أعلم.(16/94)
ص -165- ... "باب من الشرك الاستعاذة بغير الله تعالى"
وقول الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن: 6].
وعن خولة بنت حكيم –رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك" رواه مسلم.(1).
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الجن.
الثانية: كونه من الشرك.
الثالثة: الاستدلال على ذلك بالحديث؛ لأن العلماء يستدلون به على أن كلمات الله غير مخلوقة، قال: لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك.
الرابعة: فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره.
الخامسة: أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية من كف شر، أو جلب نفع لا يدل أنه ليس من الشرك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم (2708).(16/95)
ص -166- ... الشرح:
هذا الباب عنونه الإمام –رحمه الله- بقوله: "باب من الشرك الاستعاذة بغير الله تعالى" وهذا الباب مع الباب الذي قبله والأبواب التي سلفت أيضا كلها في بيان المقصد من هذا الكتاب، وبيان الغرض من تأليفه، وأن التوحيد إنما يُعرف بضده، فمن طلب التوحيد فليطلب ضدَّه؛ لأنه –أعني: التوحيد- يجمع بين الإثبات والنفي، فيجمع بين الإيمان بالله، وبين الكفر بالطاغوت، فمن جمع بين هذين الأمر فإنه يكون قد عرف التوحيد؛ ولهذا فصّل الشيخ –رحمه الله- أفراد توحيد العبادة، وفصّل أفراد الشرك، فبين أصناف الشرك الأصغر: القولي والعملي، وبين أصناف الشرك الأكبر: العملي والاعتقادي، فذكر الذبح لغير الله، وذكر النذر لغير الله، والذبح والنذر عبادتان عظيمتان.
فعبادة الذبح عبادة فعلية عملية، وعبادة النذر عبادة قولية إنشاءً، وعملية وفاءً، فالشرك الأكبر الذي يكون من جهة العمل أنواع، وقد ذكر منها –على سبيل التمثيل- الذبح لغير الله، كما أنه ذكر النذر لغير الله، مثالاً على أنواع الشرك الأكبر الحاصل من جهة القول، وكلُّ من الذبح والنذر يصاحبهما اعتقاد تعظيم المخلوق كتعظيم الله –عز وجل- وهذا شرك، قال تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة: 165] وقال: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97-98} ثم عطف على ذلك "باب من الشرك الاستعاذة بغير(16/96)
ص -167- ... الله" لأن الاستعاذة بغير الله تكون بالقول الذي معه اعتقاد؛ ولذلك ناسبتْ أن تكون بعد "باب من الشرك النذر لغير الله".
وقوله رحمه الله: "من الشرك" (من هاهنا تبعيضية، كما ذكرنا فيما سبق من الأبواب، والشرك المقصود –هنا- هو الشرك الأكبر، أي من الشرك الأكبر الاستعاذة بغير الله؛ لأن (الألف واللام) أو (اللام وحدها) الداخلة على قوله: "الشرك" هي للعهد، فتكون عائدة إلى الشرك المعهود، وهو الأكبر، يعني: باب من الشرك الأكبر الاستعاذة بغير الله.
والاستعاذة: طلب العياذ، يقال: استعاذ: إذا طلب العياذ، والعياذ: ما يؤمِّن من الشر، كالفرار من شيء مخوف إلى ما يؤمِّن منه، أو إلى من يؤمِّن منه، ويقابلها اللياذ، وهو الفرار إلى طلب الخير، والتوجه إليه، والاعتصام به، والإقبال عليه لطلب الخير.
والاستعاذة: استفعال، ومادة: (استفعل) موضوعة –في الغالب- للطلب، فغالب مجيء (الألف والتاء) للطلب، فمعنى استعاذ، واستعان، واستغاث، واستسقى: طلب تلك الأمور، وتأتي أحياناً للدلالة على كثرة الوصف في الفعل، كما في قوله جل وعلا: {وَاسْتَغْنَى اللَّه} [التغابن: 6] فـ(استغنى) ليس معناها طلب الغنى، وإنما جاء بالسين والتاء هنا: للدلالة على عظم الاتصاف بالوصف الذي اشتمل عليه الفعل، وهو الغنى.
فـ(استعاذ) و(استغاث) و(استعان) وأشباه ذلك فيها طلب، والطلب من أنواع التوجه والدعاء، لأن الطلب يدل على أن هناك من يُطلب منه، والمطلوب منه لما كان أرفع درجة من الطالب كان الفعل المتوجه إليه يسمى دعاء؛(16/97)
ص -168- ... ولهذا فإن حقيقة الاستعاذة لغةً ودلالتها شرعاً هي: طلب العوذ، أو طلب العياذ، وهو الدعاء المشتمل على ذلك، والاستغاثة هي: طلب الغوث، وهو دعاء مشتمل على ذلك، وهكذا في كل ما فيه طلب، نقول: إنه دعاء، وإذا كان دعاءً فإنه يكون عبادةً، والعبادة حق لله وحده دون من سواه، كما قام الإجماع على هذا، ودلت النصوص عليه، كقوله سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن: 18] وكقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] وكقوله أيضاً: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء: 36].
إذاً فكل فعل من الأفعال، أو قول من لأقوال فيه طلب يكون عبادةً؛ لأنه دعاء، وكل طلب فهو دعاء. والطلب يختلف نوعه ومسمّاه باختلاف المطلوب منه، فإذا كان الطلب من مقارن فيسمى التماساً، وإذا كان ممن هو دونك فيسمى أمراً، وإذا كان الطلب ممن هو أعلى منك فيسمى دعاءً. والمستعيذ والمستغيث لا شك أنه طالب ممن هو أعلى منه لحاجته إليه؛ فلهذا يصح أن يكون كل دليل فيه ذكر إفراد الله –جل وعلا- بالدعاء أو بالعبادة دليلاً على خصوص هذه المسألة، وهي أن الاستعاذة عبادة من العبادات العظيمة، وإذ كانت كذلك، فإن إفراد الله بها واجب.
وقوله هنا: "من باب الاستعاذة بغير الله" هذا الغير شامل لكل من يتوجه إليهم بالعبادة، ويشركونهم مع الله، ويدخل في ذلك –بالأولية- ما كان المشركون الجاهليون يتوجهون إليهم بالعبادة من الجن، والملائكة(16/98)
ص -169- ... والرسل، والأنبياء، والصالحين، والأشجار، والأحجار، وغير ذلك من معبوداتهم.
لكن هل مقصوده بقوله: "باب من الشرك الاستعاذة بغير الله" شمول هذا الحكم على فاعله بالشرك لكل أنواع الاستعاذة، ولو كان فيما يقدر عليه المخلوق؟.
والجواب: أن هذا فيه تفصيل، فمن العلماء من يقول: "الاستعاذة لا تصلح إلا بالله، وليس ثَمَّ استعاذة بمخلوق فيما يقدر عليه؛ لأن الاستعاذة توجه القلب، واعتصامه، والتجاؤه، ورغبه، وهذه المعاني جميعاً لا تصلح إلا لله جل وعلا.
وقال آخرون: "قد جاءت أدلة بأنه يستعاذ بالمخلوق فيما يقدر عليه؛ لأن حقيقة الاستعاذة: طلب انكفاف الشر، وطلب العياذ، وهو أن يستعيذ من شرٍّ أحْدَقَ به، وإذا كان كذلك فقد يملك المخلوق شيئاً من ذلك، وعلى هذا فتكون الاستعاذة بغير الله شركاً أكبر، إذا كان ذلك المخلوق لا يقدر على أن يعيذ، أو طُلبتْ منه الإعاذة فيما لا يقدر عليه إلا الله".
والذي يظهر أن المقام –كما سبق- فيه تفصيل، وهو أن الاستعاذة فيها عمل ظاهر، وفيها عمل باطن، فالعمل الظاهر أن يطلب العوذ، وأن يطلب العياذ، وهو أن يُعصم من هذا الشر، أو أن ينجو من هذا الشر، وفيها –أيضاً- عمل باطن، وهو توجه القلب وسكينته، واضطراره، وحاجته إلى هذا المستعاذ به، واعتصامه بهذا المستعاذ به، وتفويض أمر نجاته إليه.
فإذا كانت الاستعاذة تجمع هذين النوعين فيصح أن يُقال: إن الاستعاذة لا تصلح إلا بالله، لأن منهما ما هو عمل قلبي –كما تقدم- وهو –بالإجماع- لا يصلح التوجه به إلا لله. وإذا قصد بالاستعاذة العمل الظاهر –فقط- وهو(16/99)
ص -170- ... طلب العياذ والملجأ، فيجوز أن يتوجه بها إلى المخلوق، وعلى هذا يحمل الدليل الوارد في جوازها.
فحقيقة الاستعاذة –إذاً- تجمع بين الطلب الظاهر، والمعنى الباطن، ولهذا اختلف أهل العلم في جواز طلبها من المخلوق، فالذي ينبغي أن يكون منك دائماً على ذكر أنّ توجُّه أهل العبادات الشركية لمن يشركون به من الأولياء، أو الجن، أو الصالحين،ـ أو الطالحين، أو غيرهم، أنهم جمعوا بين القول باللسان، وأعمال القلوب التي لا تصلح إلا لله –جل وعلا- وبهذا يبطل ما يقوله أولئك الخرافيون من أن الاستعاذة بهم إنما فيما يقدرون عليه، وأن الله أقدرهم على ذلك، فيكون إبطال مقالهم راجعاً إلى جهتين:
الجهة الأولى: أن يُبطَل قولهم بأن يقال: إن هذا المَيْت، أو هذا الجني يقدر على هذا الأمر الذي طلب منه، فإذا لم يقتطع بذلك، أو حصل عنده اشتباهٌ ما انتقل السُّنيُّ على الجهة الثانية من الإبطال، وهو إثبات أن الاستعاذة فيها توجُّهٌ بالقلب إلى المستعاذ به واضطراره إليه، واعتصام به، وافتقارٌ إليه، وهذا الذي توجّه إلى ذلك الميت أو الولي قد قامت هذه المعاني بقلبه، ولا يجوز أن يكون شيء من ذلك إلا لله وحده عز وجل.
فنقول إذاً: الاستعاذة بغير الله شرك أكبر، لأنها صَرْفُ عبادةٍ لغير الله –جل وعلا- لكن إن كان الاستعاذة في الظاهر فقط –مع طمأنينة القلب بالله، وتوجهه على الله، وحسن ظنه بالله، وأن هذا العبد إنما هو سبب، وأن القلب مطمئن لما عند الله- فإن هذه تكون استعاذة بالظاهر، وأما القلب فإنه لم تقم به حقيقة الاستعاذة. وإذا كان كذلك كان هذا جائزاً.(16/100)
ص -171- ... قال رحمه الله: "وقول الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً}" [الجن: 6].
قوله: {وَأَنَّه} هذه معطوف على أول السورة، وهو ما أوحى الله –جل وعلا- إلى نبيه بقوله: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 1] ثم قال بعد آيات {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} ومعنى {رَهَقاً} أي خوفاً، واضطراباً في القلب، أوجب لهم الإرهاق، والرهق في الأبدان وفي الأرواح، فلما كان كذلك تعاظمت الجن، وزاد شرها، وقد كان المشركون يعتقدون أن لكل مكان مخوف جنياً أو سيداً من الجن يخدم ذلك المكان، هو له ويسيطر عليه، فكانوا إذا نزلوا وادياً أو مكاناً قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، يعنون الجن، فعاذوا بالجني لأجل أن يكف عنهم الشر مدة مقامهم، لهذا قال جل وعلا: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن: 6]. يعني: زاد الجن الإنس خوفاً، واضطراباً، وتعباً في الأنفس، وفي الأرواح، وإذا كان كذلك كان هذا عقوبة لهم. والعقوبة إنما تكون على ذنب، فدلت الآية على ذم أولئك، وإنما ذموا؛ لأنهم صرفوا تلك العبادة لغير الله –جل وعلا- والله سبحانه أمر أن يستعاذ به دون ما سواه، فقال سبحانه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] وقال(16/101)
ص -172- ... {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] وقال: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 97] والآيات في ذلك كثيرة، كقوله: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف: 200]. فعُلِم من التنصيص على المستعاذ به وهو الله –جل وعلا- أن الاستعاذة حصلت بالله، وبغيره، وأن الله أمر نبيه أن تكون استعاذته به وحده دون ما سواه. وقد ذكرتُ لكم أصل الدليل في ذلك، وأن الاستعاذة عبادة، وإذا كانت عبادة فتدخل فيما دلت عليه الآيات من إفراد العبادة بالله وحده.
وقال قتادة وبعض السلف: "إن معنى قوله: {رَهَقاً} إثماً"(1). أي فزادوهم إثماً، وهذا أيضاً ظاهر من جهة الاستدلال، لأن الاستعاذة إذا كانت موجبة للإثم، فهي –إذاً- عبادة شركية إذا صرفت لغير الله، وعبادة مطلوبة إذا صرفت لله –جل جلاله- وهذا يستقيم مع الترجمة من أن الاستعاذة بغير الله شرك.
قوله: (وعن خولة بنت حكيم –رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك" رواه مسلم).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تفسير ابن كثير (8/226).(16/102)
ص -173- ... وجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي –صلى الله عليه وسلم- بيّن فضل الاستعاذة بكلمات الله فقال: "من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق" وجعل المستعاذ منه المخلوقات الشريرة، والمستعاذَ به هو كلمات الله، وقد استدل أهل العلم لمّا ناظروا المعتزلة، وردُّوا عليهم بهذا الحديث، على أن كلمات الله ليست بمخلوقة، قالوا: لأن المخلوق لا يُستعاذ به، والاستعاذة به شرك، كما قال الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة.
فوجه الدلالة من الحديث: إجماع أهل السنة على الاستدلال به على أن الاستعاذة بالمخلوق شرك، وأنه ما أمر بالاستعاذة بكلمات الله إلا لأن كلمات الله –جل وعلا- ليست بمخلوقة.
قوله: "من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق" المقصود بـ"كلمات التامة" الكلمات الكونية التي لا يُجاوزهن برٌّ ولا فاجر، وهي المقصودة بقوله جل وعلا: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف: 109] وبقوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27] وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً} [الأنعام: 115] وفي القراءة الأخرى: {وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} [الأنعام: 115] فهذه الآية في الكلمات الشرعية، وكذلك في الكلمات الكونية.
إذاً فقوله: "أعوذ بكلمات الله التامات" يعني الكلمات الكونية.(16/103)
ص -174- ... قوله: "من شر ما خلق" يعني: من شر الذي خلقه الله –جل وعلا- وهذا العموم المقصود منه: من شر المخلوقات التي فيها شر، إذ ليست كل المخلوقات فيها شر، بل ثَمَّ مخلوقات طيبة ليس فيها شر، كالجنة، والملائكة، والرسل، والأنبياء، والأولياء، وهناك مخلوقات خُلقت وفيها شر، فاستعيذ بكلمات الله –جل وعلا- من شر الأنفس الشريرة، والمخلوقات التي فيها شر.(16/104)
ص -175- ... "باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره"
وقول الله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 106-107]
وقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 17].
وقول الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5-6]
وقول الله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ}[النمل: 62].(16/105)
ص -176- ... وروى الطبراني بإسناده: أنه كان في زمن النبي –صلى الله عليه وسلم- منافق يؤذي المؤمنين فقال بعضهم: فقوموا بنا نستغيث برسول الله –صلى الله عليه وسلم- من هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه لا يستغاث بي، إنما يستغاث بالله"(1).
فيه مسائل:
الأولى: أن عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص.
الثانية: تفسير قوله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ}
الثالثة: أن هذا هو الشرك الأكبر.
الرابعة: أن أصلح الناس لو يفعله إرضاءً لغيره صار من الظالمين.
الخامسة: تفسير الآية التي بعدها.
السادسة: كون ذلك لا ينفع في الدنيا مع كونه كفراً.
السابعة: تفسير الآية الثالثة.
الثامنة: أن طلب الرزق لا ينبغي إلا من الله، كما أن الجنة لا تُطلب إلا منه.
التاسعة: تفسير الآية الرابعة.
العاشرة: أنه لا أضل ممن دعا غير الله.
الحادية عشرة: أنه غافل عن دعاء الداعي، لا يدري عنه.
الثانية عشرة: أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي وعداوته له.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/159: "ورجاله رجال الصحيح، غير ابن لهيعة، وهو حسن الحديث.(16/106)
ص -177- ... الثالثة عشرة: تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو.
الرابعة عشرة: كفر المدْعُوِّ بتلك العبادة.
الخامسة عشرة: هي سبب كونه أضل الناس.
السادسة عشرة: تفسير الآية الخامسة.
السابعة عشرة: الأمر العجيب، وهو إقرار عبدة الأوثان أنه لا يجيب المضطر إلا الله، ولأجل هذا يدعونه في الشدائد مخلصين له الدين.
الثامنة عشرة: حماية المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حمى التوحيد، والتأدب مع الله.
الشرح:
قوله: "باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره" الشركُ المراد به –كما ذكرنا فيما سبق- الشرك الأكبر.
قوله: "أن يستغيث" يعني: الاستغاثة؛ لأن (أن) مع الفعل تُؤولَ بمصدر، يعني: باب: "من الشرك الاستغاثة بغير الله" أو "استغاثة بغير الله" وكذلك قوله: "يدعو" يؤول بمصدر، يعني: من الشرك، "دعوة غيره" أو "دعاء غيره".
والاستغاثة كما ذكرنا: طلب، والطلب نوع من أنواع الدعاء، ولهذا قال العلماء: "إن في قوله: "أو يدعو غيره" بعد قوله: "أن يستغيث بغير الله" عطفاً للعام على الخاص، ومن المعلوم أن الخاص قد يعطف على العام، وأن العام قد يعطف على الخاص.
وقوله: "أن يستغيث بغير الله" هذا أحد أفراد الدعاء –كما ذكرنا- لأن الاستغاثة طلب، والطلب دعاء.(16/107)
ص -178- ... وقوله: "أو يدعو غيره" هذا لفظ عام يشمل الاستغاثة، والاستعاذة، ويشمل أصنافاً كثيرة من أنواع الدعاء.
قوله: "أن يستغيث" الاستغاثة: هي طلب الغوث، والغوث يحصل لمن وقع في شدة وكرب يخشى معه المضرة الشديدة، أو الهلاك، فيقال: أغاثه: إذا فزع إليه، وأعانه على كشف ما به، وخلَّصه منه، كما قال جل وعلا في قصة موسى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15] فقوله: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ}[القصص: 15] يعني: أن مَنْ كان مِنْ شيعة موسى طلب الغوث من موسى على من كان عدواً لهما جميعاً، فأغاثه موسى عليه السلام.
فالاستغاثة: طلب الغوث، وطلب الغوث لا يصلح إلا من الله فيما لا يقدر عليه إلا الله –جل وعلا- لأن الاستغاثة يمكن أن تُطلب من المخلوق فيما يقدر عليه.
لكن متى تكون الاستغاثة بغير الله شركاً أكبر؟.
ضبطه بعض أهل العلم بقولهم: "تكون شركاً أكبر إذا استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه ذلك المخلوق"
وقال آخرون: "تكون شركاً أكبر إذا استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله".
وهاتان العبارتان مختلفتان، والأصح منهما الأخير؛ لأن المرء إذا استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله، وهو يعلم أن هذا لا يقدر عليه إلا الله، فهذا شرك أكبر بالله –جل وعلا- لأن حقيقة الأمر أنه لا يقدر عليه إلا الله.(16/108)
ص -179- ... أما قول من قال من أهل العلم: "إن الاستغاثة شرك أكبر إذا استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه، فإن هذا يَرِدُ عليه أن ثَمَّة أشياء قد يكون المخلوق في ظاهر الأمر قادراً عليها، ولكنه في الحقيقة لا يقدر عليها، لكن هذا الضابط غير منضبط؛ لأن من وقع في شدة كغرقٍ –مثلاً- وتوجّه لرجل يراه بأن يغيثه فقال مخاطباً إياه: أستغيث بك، أستغيث بك، أستغيث بك، وذاك لا يحسن السباحة، ولا يحسن الإنجاء من الغرق، فهذا يكون قد استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه المخلوق، فهل يكون شركاً أكبر؟! لا يكون منه؛ لأن الإغاثة من الغرق ونحوه يصلح –في الغالب- أن يكون المخلوق قادراً عليها، فيكون الضابط الثاني هو الصحيح، وهو أن يقال: الاستغاثة بغير الله شرك أكبر إذا كان قد استغاث به فيما لا يقدر عليه إلا الله، أما إذا استغاث به فيما يقدر عليه غير الله من المخلوقين، لكن هذا المخلوق المعين لم يقدر على هذا الشيء المعين فإنه لا يكون شركاً أكبر؛ لأنه ما اعتقد في المخلوق شيئاً لا يصلح إلا لله جل جلاله.
فالاستغاثة بغير الله إذا كانت فيما لا يقدر عليه إلا الله، فهي شرك أكبر، وإذا كانت فيما يقدر عليه المخلوق، فهي جائزة، كما حصل من صاحب موسى؛ إذ استغاث بموسى عليه السلام.
قوله: "أو يدعو غيره" الدعاء كما ذكرت لك: هو العبادة، والدعاء نوعان:
دعاء مسألة، ودعاء عبادة، ونعني بدعاء المسألة: ما كان فيه طلب وسؤال، كأن يرفع يديه لله –جل وعلا- ويدعوه، فهذا يسمى دعاء مسألة.(16/109)
ص -180- ... وهو الذي يغلب عند عامة المسلمين في تسمية الدعاء، فإذا قيل: دعا فلان، يعني: سأل ربه جل وعلا.
والنوع الثاني: دعاء العبادة، كما قال جل وعلا: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً}[الجن:18] يعني: لا تعبدوا مع الله أحداً، أو لا تسألوا مع الله أحداً، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة".
ودعاء المسألة غير دعاء العبادة، فدعاء العبادة يتناول كل صنف من أصنف العبادة، فمن صلى، أو زكَّى، أو صام، ونحو ذلك فيقال: إنه دعا، لكن دعاء عبادة.
قال العلماء: "دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، ودعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة". يعني: أن من سأل الله –جل وعلا- شيئاً فهو داع دعاء مسألة، وهذا متضمن لعبادة الله؛ لأن الدعاء –أعني: دعاء المسألة- أحد أنواع العبادة، فدعاء المسألة متضمن للعبادة؛ لأن الله –جل وعلا- يحب من عباده أن يسألوه.
وقولنا: إن دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة، يعني: أن من صلى، فيلزم من إنشائه الصلاة أن يسأل الله القبول، ويسأل الله الثواب، فيكون دعاء المسألة متضمناً لدعاء العبادة، ودعاء العبادة مستلزماً لدعاء المسألة.
وإذا تقرر ذلك فاعلم أن هذا التفصيل –أو هذا التقسيم- مهم جداً في فهم حجج القرآن، وفي فهم الحجج التي يوردها أهل العلم، لأنه قد حصل من الخرافيين والداعين إلى الشرك أنهم يؤوِّلون الآية التي فيها دعاء العبادة بدعاء المسألة، أو الآية التي في دعاء المسألة بدعاء العبادة، وإذا تبين ذلك(16/110)
ص -181- ... عُلم أنه لا انفكاك في الحقيقة بين دعاء المسألة ودعاء العبادة، فهذا هو ذاك، إما بالتضمن أو باللزوم. ومعلوم أن دلالات التضمن واللزوم دلالات لغوية واضحة جاءت في القرآن ، وجاءت في السنة.
ثم ساق الشيخ –رحمه الله بعض الأدلة على أن الدعاء والاستغاثة إنما يُتوجَه بهما إلى الله وحده فيما لا يقدر عليه إلا الله.
قال: (وقول الله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 106-107])
قال في الآية الأولى:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} فقوله: {وَلا تَدْعُ} هذا نهي، والنهي –هنا- قد توجه إلى الفعل (تدع) وإذا كان كذلك فإنه يعمُّ أنواع الدعاء، وسبق القول بأن الدعاء منه: دعاء مسألة ومنه، دعاء عبادة، والقاعدة: أن النكرة في سياق النهي، أو في سياق النفي، أو في سياق الشرط، فإنها تعمُّ، و(تدعُ) نكرة؛ لأنه فعل مشتمل على مصدر، والمصدر حدثٌ نكرة، فهو يعمّ نوعي الدعاء. وهذا مراد الشيخ –أو أحد مراداته- من الاستدلال بهذه الآية فقد نهى الله- جل وعلا- أن يُتَوَجَّه لغير الله بدعاء المسألة، أو بدعاء العبادة، أو بأي نوع من أنواع العبادات، فلا يصلح طلب ما لا يقدر عليه إلا الله إلا منه جل وعلا،(16/111)
ص -182- ... ويدخل في ذلك الاستعاذة، والاستغاثة التي هي طلب الغوث، وكذلك دعاء العبادة بأنواعه كالصلاة، والزكاة، والتسبيح، والتهليل، والسجود، وتلاوة القرآن، والذبح، والنذر، وكذلك أعمال القلوب كالتوكل، والمحبة التي هي عبادة، والرجاء الذي هو عبادة، وخوف السر. فهذه العبادات كلها لا تصلح إلا لله. وهي من أنواع دعاء العبادة.
فهذه الآية دلت على النهي عن أن يتوجه أحد إلى غير الله –جل وعلا- بدعاء مسألة، أو دعاء عبادة، وقد نُهي النبي –صلى الله عليه وسلم- عن ذلك أعظم النهي، ووجِّه إليه الخطاب بذلك مع أنه إمام المتقين، وإمام الموحدين.
قوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} يعني: مع الله، أو من دون الله استقلالاً.
قوله:{مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} يعني: الذي لا ينفعك ولا يضرك، و(ما) تشمل العقلاء وغير العقلاء. فالعقلاء: كالملائكة، والأنبياء، والرسل، والصالحين،.
وغير العقلاء: كالأصنام، والأحجار، والأشجار، وهذا من جهة الدلالة اللغوية لـ(ما).
وقوله تعالى لنبيه: {فَإِنْ فَعَلْتَ} يعني: إن دعوت من دون الله أحداً، وذلك الأحد موصوف بأنه لا ينفعك، ولا يضرك {فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} وهذا إذا كان في حق النبي –عليه الصلاة والسلام- الذي كمَّل الله التوحيد أنه إذا حصل منه الشرك فإنه يصبح ظالماً، ويصبح مشركاً –وحاشاه عليه الصلاة والسلام من ذلك- فهو تخويف عظيم لمن هو دونه ممن لم يُعصم، ولم يعطَ العصمة من ذلك من باب أولى.(16/112)
ص -183- ... فقوله: {فَإِنْ فَعَلْتَ} يعني: إن دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك {فَإِنَّكَ إِذاً} يعني: بسبب تلك الدعوة {مِنَ الظَّالِمِينَ} والظالمون جمع تصحيح للظالم، والظالم: اسم فاعل الظلم، والظلم المراد به هنا: الشرك، كما قال جل وعلا: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.
ثم قال: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} اعلم أن غرض من يلجأ إلى غير الله، أو يستغيث، أو يستعيذ بغيره إنما هو طلب كشف الضر. وقد أبطل الله هذا التعلّق الشرعي بقاعدة عامة تقطع عروق الشرك من القلب، حيث قال: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} يعني: إذا مسَّك الله بضر فمن يكشف الضر؟.
الجواب: يكشفه من قدَّره، ومن قضاه عليك، وهكذا كل أنواع التوجه لغير الله –جل وعلا- أياًّ كانت. ولكن ما دام أنه أذن بالتوجه إلى المخلوق فيما يقدر عليه، كالتوجه إليه بطلب الغوث أو نحو ذلك فإنه يكون مما رُخّص فيه، والحمد لله.
وقوله في هذه الآية: {بِضُرٍّ} نكرةٌ جاء في سياق الشرط فتعمّ جميع أنواع الضر، سواء أكان ضراً في الدين، أم كان ضراً في الدنيا، يعني: كان ضراً في الدنيا من جهة الأبدان، أو من جهة الأموال، أو من جهة الأولاد، أو من جهة الأعراض، أو نحو ذلك، إذاً فمعنى قوله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} أي: بأي نوع من أنواع الضر {فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} أي: الذي يكشف الضر في الحقيقة هو الله –جل وعلا- لا يكشف البلوى إلا هو(16/113)
ص -184- ... سبحانه وتعالى، وإذا كان المخلوق يقدر على ذلك الكشف فإنما هو من جهة أنه سبب، فالله هو الذي جعله سبباً يقدر على أن يكشف بإذن الله –جل وعلا- وإلا فالكاشف حقيقة هو الله –جل وعلا- والمخلوق –ولو كان يقدر- فإنما قدر بإقدار الله له؛ إذ هو سبب من الأسباب، فالحاصل أن الكاشف –على الحقيقة- هو الله وحده.
وإذا تبين ذلك ظهر لك وجه استدلال المصنف بهذه الآية، ومناسبة الآية للترجمة من عدة جهات كما ذكرنا.
ثم أورد الشيخ –رحمه الله- قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} [العنكبوت: 17].
ليبين أن الاستغاثة والدعاء هما من أعظم ما يتعلق بهما الخلق لطلب الرزق، لأن طلب الرزق أعظم أسباب الحياة، فمن لم يكن عنده رزق، فإنه يوشك على الهلاك، ولهذا ذكر الإمام هذه الآية التي فيها النصُّ على توحيد جهة طلب الرزق؛ لأن معظم حال المستغيثين إنما هي لطلب الرزق.
والرزق اسم عام يشمل كل ما يصلح أن يُرزق، يعني: أن يُمنح ويُعطى، فيدخل في ذلك الصحة، والعافية، والمال، والطعام، والمنزل، والدواب، وكل ما يحتاجه المرء.
وقوله في الآية: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ}
أصل تركيب الكلام: فابتغوا الرزق عند الله، و(ابتغوا) فعل أمر، و(الرزق) مفعول، و(عند الله) الأصل أن يتأخر على المفعول، أي فابتغوا الرزق عند الله.
قال علماء المعاني: -من علوم البلاغة- "إن تقديم ما حقه(16/114)
ص -185- ... التأخير يفيد الاختصاص". والأصل فابتغوا عند الله الرزق، وجعلوا ذلك الابتغاء مختصاً بالله –جل وعلا- هكذا يفهم العربي معنى الآية، أي: فليكن ابتغاؤكم الرزق من عند الله وحده، فلا تستغيثوا بغيره في طلب رزق، ولا تستنجدوا بغيره في طلب رزق، وإنما ذلك لله جل وعلا.
ثم قال: {وَاعْبُدُوهُ} ليجمع أصناف السؤال بما يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة.
ثم قال: (وقول الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5])
دلالة الآية ظاهرة في أنها واردة في سياق الدعاء، لأن الله تعالى قال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ} فهي ظاهرة في أن ثم داعياً، وثم مدعواً، وذاك المدعو غير الله جل وعلا.
ووجه الدلالة من الآية: أن الله تعالى وصف كل من يدعو من دون الله بأنه في غاية الضلال، ومنتهى الغواية، وأنه لا أحد أضل منه، والدليل على أنه أراد الأموات ولم يرد الأصنام والأحجار والأشجار أنه قال: {مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} فجعل غاية المنع من الإجابة إلى يوم القيامة، وهذه في الأموات؛ لأن الميت إذا كان يوم القيامة نشر وصار يسمع، وربما أجاب طلب من طلبه، لأنه يكون في ذلك المقام حياً وربما كان قادراً.(16/115)
ص -186- ... وأما الميت –الذي هو في البرزخ- فهو الذي يصدق عليه وصف الله –جل وعلا- بقوله:{مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} والأصل في اللغة أن لفظ (مَنْ) تستعمل للعقلاء –كما يقول النحاة_ والأصح أن يقال: لفظ (مَنْ) الأصل فيها لغة: أنها تطلق على من يعلم، لورود بعض الآيات في القرآن أطلق فيها هذا اللفظ في حق الله –عز وجل- هذا الأحسن من حيث استعمال هذا اللفظ، وإن كان الذي جرى عليه القول عند علماء النحو استعمال (مَنْ) للعاقل، و(ما) لغير العاقل.
فتلخص مما سبق أن الأصح في استعمال (من) أنها تطلق لمن يعلم، وهؤلاء المذكورون في الآية كانوا بشراً يُخاطِبون ويُخاطَبون، ويعلمون، ويُعلم منهم.
وقوله: {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} هذا الوصف ليس مقصوداً به الأصنام، وإنما هو في الأموات.
ثم قال تعالى: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 6] ولذلك قال جل وعلا في سورة النحل: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النحل: 21-22]
قال: (وقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62].(16/116)
ص -187- ... هذه الآية من سورة (النمل) فيها أن إجابة دعاء المضطر إنما هي لله –جل وعلا- وحده فقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} هذا دعاء المسألة، وكشف السوء في قوله: {وَيَكْشِفُ السُّوءَ} تارة يكون بالاستغاثة، وتارة بغير ذلك، ولهذا يكون هذا القَدْرُ من الآية صالحاً لما ترجم به المؤلف –رحمه الله من اللفظين: لفظ (الاستغاثة) ولفظ (الدعاء).
ثم قال بعد ذلك: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل: 62] وهذا الاستفهام إنكاري، يُنكر عليهم أن يتخذوا إلهاً مع الله، ويُنكر عليهم أن يدعوا غير الله، أو يتوجهوا في كشف السوء لغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، فهذا معنى الإنكار في قوله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}
قال: (وروى الطبراني بإسناده: أنه كان في زمن النبي –صلى الله عليه وسلم- منافق يؤذي المؤمنين فقال بعضهم: ...") المراد بالبعض هنا: أبو بكر الصديق كما جاء في بعض الروايات.
ثم قال في الحديث: ("...فقوموا نستغيث برسول الله –صلى الله عليه وسلم- من هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه لا يستغاث بي، إنما يستغاث بالله")
واستغاثة الصحابة بالنبي -صلى الله عليه وسلم- كانت جائزة؛ لأنهم طلبوا الإغاثة من النبي –صلى الله عليه وسلم- فيما يقدر عليه؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان قادراً –في هذا المقام- على إغاثتهم، إما بالأمر بقتل المنافق، أو الأمر بسجنه، أو بتهديده، أو معاقبته بتعزير، أو بغيره، لأنه كان يؤذي المؤمنين.(16/117)
ص -188- ... فاستغاثتهم برسول الله –صلى الله عليه وسلم- في قولهم: "قوموا بنا نستغيث برسول الله" استغاثة به فيما يقدر عليه، لكن النبي -عليه الصلاة والسلام- علّمهم الأدب في ذلك، وعلّمهم الأكمل في ذلك، حيث قال: "إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله".
وحقيقة الاستغاثة على وجه الكمال إنما هي بالله –جل وعلا- لا بنبيه –صلى الله عليه وسلم- فكأنه حصل منهم نوع التفات للنبي –عليه الصلاة والسلام- فيما يقدر عليه، فبين لهم أن الواجب عليهم أن يستغيثوا بالله –جل وعلا- أولاً فقال: "إنه لا يستغاث بي" وهذا نفي فيه معنى النهي، يعني: لا تستغيثوا بي، بل استغيثوا بالله في هذا الأمر، وإذا أغاثهم الله –جل وعلا- كفَّ شر ذلك المنافق عنهم.
وقد أعلَّ بعض العلماء هذا الحديث بأن في إسناده ابن لهيعة، وحاله معروف، لكن إيراد أئمة الحديث للأحاديث التي قد يكون في إسنادها بعض مقال في مثل هذا المقام لا بأس به، بل فعلهم هذا صواب إذا كان ما في الحديث من المعنى قد عضدته الأدلة من القرآن ومن السنة، كما في هذا الحديث، فإن قوله عليه الصلاة والسلام: "إنه لا يستغاث بي إنما يستغاث بالله" قد دلت عليه الآيات التي سلفت، وهذا الذي درج عليه صنيع الراسخين في العلم من أهل الحديث، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرِض كلام له في (الفتاوى)
قال: "أهل الحديث لا يستدلون بحديث ضعيف في أصل من الأصول، بل إمّا في تأييده –يعني: في تأييد ذلك الأصل- أو في فرع من الفروع".(16/118)
ص -189- ... وهذا صنيع الشيخ –رحمه الله- أيضاً في هذا الكتاب، فإنه يستدل بأحاديث هي من جهة المعنى الذي اشتملت عليه صحيحة –كما سبق إيضاحه- وقد ساق شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الحديث مستدلاً به في رده على البكري المعروف بـ(الاستغاثة) أعني: كتاب (الاستغاثة الكبرى) أو (الرد على البكري) وقال: "إن هذا الحديث هو في معنى ما جاء في النصوص".
فقوله عليه الصلاة والسلام: "إنه لا يستغاث بي" يعني: لا تستغيثوا بي، وإنما استغيثوا بالله؛ لأن لفظ(يستغاث) تقدَّمّه نفي، والمراد منه: النهي.
وهذا الباب ظاهر المناسبة لما قبله ولما بعده أيضاً في أن الاستغاثة بغير الله نوع من أنواع الدعاء، وأن الدعاء عبادة، وأن الاستغاثة عبادة، وصَرْفُ العبادة لغير الله –جل وعلا- كفر وشرك.
ومما يدل على أن الدعاء عبادة قول الله جل وعلا: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} [البقرة: 186] وقوله: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} يدل على أن إجابة الدعوة إنما تكون برفع المكروه، أو بمنع وقوعه، وتكون أيضاً بالعطاء، والإثابة فيما إذا عُبد، فيجيب الدعوة بإعطاء السائل سؤله، ويجيب أيضاً الدعاء بإثابة الداعي العابد على عبادته، ولهذا يفسِّر السلف الآيات التي فيها إجابة الدعاء ونحو ذلك بأن فيها إعطاء سؤل السائل، وإثابة العابد، لأن الصحابة والسلف يعلمون أن الدعاء يشمل هذا وهذا.
وقوله: {إِذَا دَعَانِ} يعني: إذا سألني، أو عبدني، مع أنها في السؤال ظاهرة، وفي الدعاء بينة.(16/119)
ص -190- ... والآيات في مثل ذلك كثيرة كقوله –جل وعلا- في سورة إبراهيم، فيما ذكره عن نبينه عليه السلام: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً} قال الله جل وعلا بعدها: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [مريم: 48-49] فإبراهيم عليه السلام قال: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ} وقال الله: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} فدل على أن الدعاء هو العبادة، والعبادة هي الدعاء. والدعاء يُفسَّر تارة بدعاء المسألة، وتارة بدعاء العبادة، وهذا حاصل من أولئك لأصنامهم وأوثانهم.(16/120)
ص -191- ... باب قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [الأعراف: 191-192].
وقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 13-14]
وفي الصحيح(1). عن أنس –رضي الله عنه- قال: شُج النبي –صلى الله عليه وسلم- يوم أحد، وكسرت رباعيته، فقال: "كيف يفلح قوم شجوا نبيهم" فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128].
وفيه عن ابن عمر –رضي الله عنهما- أنه سمع رسول الله –صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر: "اللهم العن فلاناً وفلاناً" بعد ما يقول: "سمع الله يمن حمده ربنا ولك الحمد" فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}(2).
وفي رواية يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) علقه البخاري، ووصله أحمد في "المسند" 3/99 و178 و206 والترمذي (2005) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(2) أخرجه البخاري (4009) و(4070) و(4559) (7346).(16/121)
ص -192- ... والحارث بن هشام، فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}(1).
وفيه عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قام رسول الله- صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} فقال: "يا معشر قريش –أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئتِ لا أغني عنكِ من الله شيئاً".(2).
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيتين.
الثانية: قصة أحد.
الثالثة: قنوت سيد المرسلين وخَلْفَه سادات الأولياء يؤمِّنون في الصلاة.
الرابعة: أن المدعوَّ عليهم كفار.
الخامسة: أنهم فعلوا أشياء ما فعلها غالب الكفار، منها: شجهم نبيهم وحرصهم على قتله. ومنها: التمثيل بالقتلى مع أنهم بنو عمهم.
السادسة: أنزل الله عليه في ذلك: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (4070) معلقاً، ووصله الترمذي (3007) وأحمد2/93 وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
(2) أخرجه البخاري (2753) و(3527) و(4771.(16/122)
ص -193- ... السابعة: قوله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} فتاب عليهم فآمنوا.
الثامنة: القنوت في النوازل.
التاسعة: تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم.
العاشرة: لعن المُعيَّن في القنوت.
الحادية عشرة: قصته –صلى الله عليه وسلم- لما أنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}.
الثانية عشرة: جِدُّه –صلى الله عليه وسلم- في هذا الأمر بحيث فعل ما نُسب بسببه إلى الجنون، وكذلك لو يفعله مسلم الآن.
الثالثة عشرة: قوله للأبعد والأقرب: "لا أغني عنك من الله شيئاً" حتى قال: "يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنكِ من الله شيئاً" فإذا صرح -وهو سيد المرسلين- بأنه لا يغني شيئاً عن سيدة نساء العالمين، وآمن الإنسان أنه صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، ثم نظر فيما وقع في قلوب خواص الناس اليوم، تبين له التوحيد وغربة الدين.
الشرح:
هذا الباب هو باب قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [الأعراف: 191-192].
وإيراد هذا الباب بعد الأبواب المتقدمة هو من أحسن الإيراد، ومن أعظمها فقهاً ورسوخاً في العلم، ذلك أن برهان وجوب توحيد الله –جل وعلا- في(16/123)
ص -194- ... إلهيته هو ما رُكِز في الفِطَر من أنه –جل وعلا- واحدٌ في ربوبيته، وقد أقرَّ بهذا، وسلّم به المشركون، بل كلُّ أحد على الإقرار بهذا، والاعتراف به؛ فهي البرهان على أن المستحق للعبادة هو من توّحد في الربوبية.
فهذا الباب والباب الذي بعده –أيضاً- برهانٌ لاستحقاق الله العبادة وحده دون ما سواه، بدليل فطري، ودليل واقعي، ودليل عقلي.
ومن المعلوم أن الأدلة العقلية عندنا –أهل السنة والجماعة- تؤخذ من الكتاب والسنة؛ لأن الكتاب والسنة من الأدلة العقلية ما يُغني عن تكلف أدلة عقلية أخرى كما هو ظاهر لمن تأمّل نصوص الوحيين.
فهذا الباب فيه بيان أن الذي يخلق هو الله وحده، والذي يرزق هو الله وحده، والذي يملك هو الله وحده، وأن غير الله –جل وعلا- ليس له نصيب من الرَّزق، وليس له نصيب من الإحياء، وليس له نصيب من الإماتة، وليس له نصيب من الأمر، وليس له مِلْكٌ حقيقي في أمر من الأمور حتى أعلى الخلق مقاماً، وهو النبي عليه الصلاة والسلام، قال له الله –جل وعلا- {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 28] يعني: لست مالكاً لشيء من الأمر، وليس من الأمر شيء تملكه، فـ(اللام) هنا لام الملك. فمن الذي يملك إذاً؟ الذي يملك هو الله –جل وعلا- فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يُنفَى عنه ذلك الأمر فإنه منفيٌّ عمن هو دونه من باب أولى.
والمتوجهون إلى أصحاب القبور أو إلى الصالحين والأولياء والأنبياء يعتقدون بأن هؤلاء المتوجه إليهم يملكون شيئاً من الرِّزق، أو التوسط، أو(16/124)
ص -195- ... الشفاعة بدون إذن الله –جل وعلا- ومشيئته.
فهذا الباب –إذاً- هو أحد الأبواب التي فيها البرهان على استحقاق الله للعبادة وحده دون ما سواه.
والقرآن فيه كثير من الأدلة والبراهين على أن المستحق للعبادة هو الله –جل وعلا- وحده دون ما سواه، فمن تلك الأدلة والبراهين ما في القرآن من أدلة فيها إقرار المشركين بتوحيد الربوبية، فكل ذلك النوع من الأدلة فيه دليل على أن المستحق للعبادة هو من أقررتم له بالربوبية.
ومن الأدلة والبراهين على ذلك –أيضاً- ما جاء في القرآن من نصرة الله –عز وجل- رسله وأولياءه على أعدائهم من طوائف الشرك، وكيف أنهم ذلوا وخضعوا وغُلبوا أمام طوائف أهل الإيمان وجند الله –جل وعلا- من الرسل والأنبياء وأتباعهم، فهذا نوع آخر من الأدلة، وهو أنه ما من طائفة موحدة بعث الله –جل وعلا- إمامها ورسولها بقتال المشركين إلا نصرها وأظفرها، حتى صارت العاقبة لهم.
وأدلة هذا في القرآن كثيرة، نقرؤها في قصص الأنبياء، وقصص القرى، وما جاء في بيان عاقبة الأمم والقرى المخالفين لرسلهم، فهذا دليل على أن التوحيد هو الحق، وأن الشرك باطل.
ومن الأدلة والبراهين على تقرير استحقاق الله تعالى للعبادة دون مَنْ سواه ما تضمّنه القرآن من بيان ضعف المخلوق، الذي يعلم هذا، ويلمسهُ بنفسه، وكيف أنه جاء إلى الحياة بغير اختياره، بل الله –جل وعلا- الذي أتى به إلى هذه الحياة، وسيُخرِجه منها بغير اختياره أيضاً. مما يدل على أنه مقهور، وهو يعلم –قطعاً- أن الذي قهره وأذلَّه وجعله على هذه الحالة ليست هي تلك الآلهة، وإنما هو الله – جل وعلا- وحده هو الذي يحيي ويميت، وهذا إقرار عام، يعلمه كل أحد من فطرته(16/125)
ص -196- ... ومن الأدلة والبراهين أيضاً: أن الله –جل وعلا- له الأسماء الحسنى، وله الصفات العلى، وأنه ذو النعوت الكاملة، وذو النعوت الجليلة، فنعوتُ الجلال، والجمال، والكمال له سبحانه، وهو سبحانه له الكمال المطلق في كل اسم له، وفي كل نعت ووصف له، فله الكمال المطلق، الذي لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه.
فهذا الباب ذكر فيه الشيخ –رحمه الله- حد أنواع أدلة الربوبية، أو براهين التوحيد، وأنه –جل وعلا- هو الواحد في ربوبيته، والباب الذي يلي هو باب قوله الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23].
وفيه دليل على عظمة الله –جل وعلا- في صفاته، ففي هذا الكتاب تنويع براهين توحيد العبادة بأدلة متنوعة من القرآن –كما سيأتي- إن شاء الله تعالى.
باب قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [الأعراف: 191-192].
وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر: 13]
ذكرنا أن هذا الباب مع الباب الذي يليه من كتاب التوحيد هما برهان للتوحيد، وبرهان لاستحقاق الله –جل وعلا- العبادة وحده، وحجة دامغة على بطلان عبادة ما سواه، وهذا البرهان هو تقرير أن الله –جل وعلا- واحد في ربوبيته، ودليل ذلك الفطرة، والعقل، والنص من الكتاب والسنة، فلا أحد ينكر أن الله –جل وعلا- هو مالك الملك، وهو الذي بيده تصريف(16/126)
ص -197- ... الأمر كما يشاء إلا شرذمة قليلة من الناس –كما قال الشهرستاني وغيره- لا يصح أن تنسب لهم مقالة.
فالناس مفطورون على الإقرار بالرب، وعلى الإقرار بأنهم مخلوقون، وإذا كان كذلك فإن الحجة عليهم قائمة بوجوب إقرارهم بتوحيد الإلهية؛ لما جعل الله في فطرهم من الإقرار بتوحيد الله في ربوبيته، ولهذا لم يكن المشركون ينكرون توحيد الربوبية. بل كانوا يعترفون أنه تعالى الرزّاق وحده، وأنه الخلاّق وحده، وأنه –جل وعلا- هو الذي يحيي ويميت، وهو الذي يجير ولا يُجار عليه، وهو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، وهو الذي ينبت النبات، وهو الذي ينزل الماء، إلى آخر أفراد تدبيره –جل وعلا- للأمر، وأفراد توحيد الربوبية.
فالبرهان على أن الله هو المستحق للعبادة وحده أنه –جل وعلا- هو مالك الملك وحده، وهو المتفرّد بتدبير هذا الملكوت، وهو الذي خلق العباد، والعباد صائرون إليه، أما الآلهة التي تَوَجَّه إليها العباد بالعبادة من الأنبياء، أو الأولياء، أو الملائكة، فإنما هم مخلوقون مربوبون، لا يخلقون شيئاً، وهم يخلقون، وأيضاً: لا يستطيعون نصراً لمن سألهم، وإنما ذلك كُلُّه لله –جل وعلا- فإذا كان أولئك المدعوون ليس لهم من الأمر شيء، وليس لهم من الملك شيء، وليس لهم من الخلق شيء، وليس لهم من تدبير الأمر شيء، وإنما تدبير أمر السماوات ، وتدبير أمر الأرض بيد الله وحده دون ما سواه، فإن الذي يستحق العبادة وحده، هو الذي يفعل تلك الأفعال، وهو الذي يتصف بتلك الصفات، وهو الذي وحَّده العباد في ربوبيته، فإذا كان كذلك فيجب أن يُوحِّدوه بأفعالهم، وألا يتوجهوا بالعبادة إلا إليه وحده.(16/127)
ص -198- ... وهذا النوع من الحجاج والاستدلال كثير في القرآن جداً؛ فإنك تجد القرآن أن أعظم الأدلة والبراهين على المشركين في تقريره إبطال عبادتهم لغير الله، وفي إحقاق عبادة الله وحده دون ما سواه أنهم يقرون بتوحيد الربوبية، والإقرار بتوحيد الربوبية برهان توحيد الإلهية.
فالله –جل وعلا- احتج في القرآن على المشركين بما أقروا به من توحيد الربوبية، على ما أنكروه من توحيد الإلهية، ولهذا قال جل وعلا: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} [يونس: 31] يعني: أتقرون بذلك، فلا تتقون الشرك؟ وقد ذكرت أن (الفاء) إذا أتت بعد الهمزة فهي تعطف ما بعدها على جملة محذوفة قبلها دل عليها السياق، فقوله: {أَفَلا تَتَّقُونَ} يعني: أتقرون بأن الله واحد في ربوبيته، فلا تتقون الشرك به؟! {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ} باعترافكم وبإيقانكم {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس: 32].
فهذا النوع من الاحتجاج وهو الاحتجاج عليهم بما أقروا به –توحيد الربوبية- على ما أنكروه –وهو توحيد الإلهية- في القرآن كثير، كالآيات العظيمة في سورة النمل في قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ(16/128)
ص -199- ... لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: 59-60]
فقوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} هنا: إنكار عليهم بسبب أنهم فيما سبق يقرُّون بخلق السماوات والأرض، وغيرها من الأمور الوارد ذكرها في الآيات، فإذا كانوا يقرون بأن الذي خلقها هو الله، فكيف –إذاً- يتخذون إلهاً مع الله؟! فهذا هو سبب الإنكار عليهم؛ لأن الذي أنزل لهم من السماء ماء فأنبت لهم به حدائق ذات بهجة هو الله، فكيف يتخذون إلهاً معه، ولهذا قال جل وعلا: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} فهذا إنكار عليهم.
وقوله: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} يعني: يعدلون بالله غيره، أو يعدلون غير الله –جل وعلا- به، يعني: يساوون هذا بهذا، أو يعدلون، يعني: يُصرَفون عن الحق، وينصرفون عنه إلى غيره، فكيف يعدلون عن الحق إلى غيره؟ أو كيف يعدلون بالله غيرَه من الآلهة؟! وهكذا الآية التي بعدها وهي قوله: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً} وجواب المشركين على هذا السؤال في قوله: {أَمَّنْ} هو الله، فقد كانوا مقرِّين بأنه المتفرّد بهذه الأمور، قال جل وعلا: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النمل: 61] ثم قال جل وعلا: {أَمَّنْ(16/129)
ص -200- ... يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} وهذا رجوع من الآيات التي في الآفاق، وفيما حولهم إلى الشيء الذي يعلمونه علم اليقين، وهو أن فاعل تلك الأشياء المتقدم ذكرها في الآيات، وما سيأتي –أيضاً- هو الله تعالى.
ثم قال سبحانه:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} ثم قال جل وعلا: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 62-64].
وفي الحقيقة: أنه لا برهان لهم، ولهذا قال جل وعلا في سورة المؤمنون: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} ومعنى قوله: {لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} أي: أن كل إله متخذ من دون الله فإنه لا حجة قائمة على أنه إله، وإنما اتخذه البشر بالطغيان وبالظلم، ولهذا قال متوعداً إياهم ومبيناً فداحة خسارتهم: {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117]
فهذا الباب قائم على هذه الحجة، ولهذا فإن من أعظم الحجة على المشركين –الذين توجهوا إلى الأموات، والمقبورين(16/130)
ص -201- ... بطلب تفريج الكربات، وطلب إغاثة اللهفات، وطلب إنجاح الحاجات، وسؤال ما يحتاجه الناس، إن من أعظم الحجة عليهم- أن تحتج عليهم بتوحيد الربوبية على ما ينكرونه من توحيد الإلهية، وقد زاد شرك المشركين في هذه الأزمنة على شرك مشركي الجاهلية –كما قال الشيخ –رحمه الله- في القواعد الأربعة- بأن اعتقدوا أن لتلك الآلهة، وأولئك الأموات تصرفاً في الكون فنسبوا إليهم شيئاً من الربوبية، فهم لم يجعلوا توحيد الربوبية -أيضاً- خالصاً.
وهذا نوع من البراهين عظيم ينبغي أن تتوسع في دلائله، وأن تعلم حجته من القرآن؛ لأن القرآن كثيراً ما يحتج بهذا البرهان –وهو توحيد الربوبية- على ما ينكره المشركون من توحيد الإلهية.
ومن ذلك ما ساقه الشيخ –رحمه الله- في هذا الباب، وهو قوله: "باب قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} فهذا إنكار وتوبيخ لهم، كيف يشركون الذي لا يخلق شيئاً وهم يخلقون؟ مع أن خالقهم هو الله –عز وجل- بل هو الذي خلق من عُبد، وهو الذي خلق العابد –أيضاً- فالذي يستحق العبادة وحده دون ما سواه إنما هو الله ذو الجلال والإكرام.
ثم بين حقيقة هذه الآلهة وعجزها فقال: {وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً} [الأعراف: 191-192] لأن النصر في الحقيقة إنما هو من عند الله –جل وعلا- ولو أراد الله أن يمنع نصر الناصر لمنعه.(16/131)
ص -202- ... وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكم} [فاطر: 13-14] وموطن الشاهد من هذه الآيات قوله: {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} فحتى هذا القطمير –وهو غلاف النواة أو الحبل الواصل من أعلى النواة إلى ظاهر الثمرة- لا يملكونه، فغيره –مما هو أعلى منه- من باب أولى وأولى، وإذا كانوا لا يملكون هذا الشيء الحقير، وهو مما لا يحتاجه الناس، ولا يطيقونه فكيف –إذاً- يطلبون منهم أشياء لا يملكونها.
وقوله جل وعلا هنا: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} (الذين) اسم موصول يعم كل من دعي من دون الله من الملائكة، أو الأنبياء والرسل، أو الصالحين من الأموات، أو الطالحين، أو الجن، أو الأصنام، أو الأشجار، أو الأحجار، فكلُّ من دعي وما دعي فإنه لا يملك ولو قطميراً، فإذا كانوا لا يملكون هذا الشي مع حقارته، فلم يُسألون؟! فالواجب أن يُتوجه بالسؤال لمن يملك ذلك.
ثم ذكر الشيخ –رحمه الله- بعد ذلك عدة أحاديث في هذا الباب، وهذه الأحاديث مدارها على بيان قول الله جل وعلا: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128]
ووجه الاستدلال من هذه الأحاديث، وإيراد هذه الآية هنا: أن هذا النفي توجه إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وهو عليه الصلاة والسلام سيد ولد آدم.(16/132)
ص -203- ... فقوله: {لَيْسَ لَكَ} أي يا محمد {مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} واللام في قولك: (لك) هي لام الاستحقاق، أو لام الملك، يعني: لا تستحق شيئاً أو لا تملك شيئاً، يعني: لا تستحقه بذاتك، وإنما بما أمر الله –جل وعلا- وبما أذن به فتعظيم النبي –صلى الله عليه وسلم- ومحبته فرع عن محبة الله، وتعظيمه –جل وعلا- فليس له –صلى الله عليه وسلم- وراء ذلك شيء إلا ما أذن به، كما قال تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} ولو كان له عليه الصلاة والسلام من الأمر شيء لنصر نفسه وأصحابه يوم أحد، ولكن حصل في يوم أحد ما حصل، فأنزل الله قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}
وكذلك الحديث الآخر: لما لعن النبي صلى الله عليه وسلم -في قنوت الفجر- فلانا وفلانا من الناس الذين آذوا المؤمنين أنزل الله قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}(1). يعني: لست تملك شيئاً من الأمر. وهكذا الحديث الذي بعده.
وهذه الأحاديث تدل على أن النبي –صلى الله عليه وسلم- لا يملك شيئاً من ملكوت الله. وهو عليه الصلاة والسلام قد بلغ ذلك وبينه، فمن هو دونه عليه الصلاة والسلام منفي عنه هذا الأمر من باب أولى، فالملائكة، والأنبياء والصالحون من أتباع الرسل، وأتباعه عليه الصلاة والسلام أولى بأن ينفى عنهم ذلك، فإذا كان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم.(16/133)
ص -204- ... كذلك بطلبت كل التوجهات إلى غير الله –جل وعلا- ووجب أن يُتوجه بالعبادات، وأنواع التوجيهات من دعاء، واستعانة، واستغاثة، واستعاذة، وذبح، ونذر، وغير ذلك إلى الحق –جل وعلا- وحده دون ما سواه.
ثم ذكر الحديث الأخير في الباب، وهو أنه لمّا نزلت{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} فقال: "يا معشر قريش –أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئتِ لا أغني عنكِ من الله شيئاً" وهذا ظاهر في أن النبي –عليه الصلاة والسلام- لا يستطيع أن ينفع أحداً من أقربائه إلا بما جعله الله من الرسالة، وأداء الأمانة، وأما أنه يغني عنهم من الله شيئاً، ويدفع عنهم العذاب، أو النكال، أو العقوبة فالله –جل وعلا- لم يجعل لأحدٍ من خلقه من ملكوته شيئاً، وإنما هو سبحانه المتفرد بالملكوت والجبروت، والمتفرد بالكمال والجمال والجلال.(16/134)
ص -205- ... باب قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23].
وفي الصحيح عن أبي هريرة –رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك. {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} فيسمعها مسترق السمع. ومسترق السمع هكذا بعضهم فوق بعض. وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه. فيسمع الكلمة فيلقيها على من تحته، ثم يلقيها الآخر من تحته، حتى يلقيها عن لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركها الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا، فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء".
وعن النواس بن سمعان –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي، أخذت السماوات منه رجفة –أو قال: رعدة- شديدة خوفاً من الله عز وجل، فإذ سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة،(16/135)
ص -206- ... كلما مر بسماء سأله ملائكتها، ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: قال الحق وهو العلي الكبير، فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل".
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآية.
الثانية: ما فيها من الحجة على إبطال الشرك، خصوصاً ما تعلق على الصالحين، وهي الآية التي قيل: إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب.
الثالثة: تفسير قوله: {قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}
الرابعة: سبب سؤالهم عن ذلك.
الخامسة: أن جبريل يجيبهم بعد ذلك بقوله: :قال كذا وكذا".
السادسة: ذكرُ أن أول من يرفع رأسه جبريل.
السابعة: أنه يقول لأهل السماوات كلهم لأنهم يسألونه.
الثامنة: أن الغَشْي يعم هل السماوات كلهم.
التاسعة: ارتجاف السماوات بكلام الله.
العاشرة: أن جبريل هو الذي ينتهي بالوحي إلى حيث أمره الله.
الحادية عشرة: ذكر استراق الشياطين.
الثانية عشرة: صفة ركوب بعضهم بعضاً.
الثالثة عشرة: إرسال الشهاب.
الرابعة عشرة: أنه تارة يدركه الشهاب قبل أن يُلقيها، وتارة يلقيها في أذن وليِّه من الإنس قبل أن يدركه.(16/136)
ص -207- ... الخامسة عشرة: كون الكاهن يصدُقُ بعض الأحيان.
السادسة عشرة: كونه يكذب معها مائة كِذْبة.
السابعة عشرة: أنه لم يصَدّق كَذِبُه إلا بتلك الكلمة التي سُمعت من السماء.
الثامنة عشرة: قبول النفوس للباطل، كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة؟.
التاسعة عشرة: كونهم يتلقى بعضهم من بعض تلك الكلمة، ويحفظونها ويستدلون بها.
العشرون: إثبات الصفات، خلافاً للأشعرية المعطلة.
الحادية والعشرون: أن تلك الرجفة والغشي خوف من الله عز وجل.
الثانية والعشرون: أنهم يَخِرُّون لله سجداً.
الشرح:
مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد –كما ذكرنا سابقاً- أن فيه برهاناً على أن المستحق للعبادة هو الله –جل جلاله- لأنه هو المتصف بصفات الكمال والجلال.
وهذا الباب فيه ذِكرٌ لصفات الجلال لله –جل وعلا- إذ كل من في السماوات والأرض خائف منه، ووجل، لأنه –سبحانه- الجليل، ولذلك كان أعرف عُمَّار السماء به هم الملائكة الذين قال الله تعالى في وصفهم: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} وقال -جل وعلا-(16/137)
ص -208- ... في وصفهم أيضا: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} فصفات الجلال، والكمال، والجمال له سبحانه، وهذه كلها دلائل على أنه هو المستحق للعبادة وحده دون ما سواه، لأنه المتصف بالعظمة الكاملة، وهو الذي ينبغي أن يُهاب وأن يخاف منه على الحقيقة، فكل ما في السماوات والأرض جار على وفق أمره سبحانه وتعالى.
فهو –سبحانه وتعالى- ذو الأسماء الحسنى، وذو الصفات العلى، ولهذا قال جل وعلا في آية سبأ: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} و(فُزِّعَ) يعني: أزيل الفزع عن قلوب الملائكة، فالملائكة مع أنهم مقربون إلا أنهم شديدو المعرفة بالله –جل وعلا- وشديدو العلم به، فعلمهم بربهم –سبحانه- عظيم، ومما يعلمونه عن الله –جل وعلا- أنه هو الجبار، وأنه هو الجليل سبحانه، وأنه ذو الملكوت، فلهذا اشتدّ فزعهم منه سبحانه؛ لأنه لا غنى بهم عنه –جل وعلا- طرفة عين.
والصفات التي اشتملت على هذا النوع من البرهان على استحقاقه –تعالى- للعبادة هي صفات الجلال لله –جل وعلا- وهي الصفات التي تورث الخوف في القلب؛ لأن الصفات تنقسم إلى أقسام متنوعة باعتبارات، ومن ذلك أنها تنقسم إلى صفات جلال، وصفات جمال.
فالصفات التي تُحدثُ في القلب الخوف، والهلع، والرهبة من الرب –جل وعلا- تسمى صفات الجلال، والذي يتصف بصفات الجلال على الحقيقة هو الله –جل وعلا- لأنه هو الكامل في صفاته سبحانه.(16/138)
ص -209- ... فإذا كان كذلك فإن الكامل في صفاته هو المستحق للعبادة، وأما البشر المخلوقون فإنهم ناقصون في صفاتهم، ويعلمون أن حياتهم ليست حياة كاملة فحيث عرض لها عرض من موتٍ، أو مرض، أو غيرهما، فإنها تضعف بذلك، وتعجز عن أن تعمل شيئاً، وربما تهلك، فحقيقة الأمر أن البشر ضعافٌ فقراء، محتاجون، ليست لهم صفات الكمال، وهذا دليل عجزهم، ونقصهم، وأنهم مربوبون، مقهورون.
ولهذا يجب على العباد أن يتوجّهوا بالعبادة إلى من له صفات الكمال، ونعوت الجمال، والجلال، وهو الله –جل وعلا- وحده سبحانه وتعالى.
فهذا المراد بهذا الباب وهو ظاهر بحمد الله تعالى.(16/139)
ص -210- ... "باب الشفاعة"
وقول الله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام: 51]
وقوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} [الزمر: 44] وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِه} [البقرة: 255]
وقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26].
وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22-23].
قال أبو العباس رحمه الله: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عوناً لله، ولم يبق إلا الشفاعة فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب كما قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] فهذه(16/140)
ص -211- ... الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن، وأخبر النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده –لا يبدأ بالشفاعة أولاً- ثم يقال له: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع".(1).
وقال له أبو هريرة: (من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه".(2).
فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله تعالى، ولا تكون لمن أشرك بالله، وحقيقته: أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود.
فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع. وقد بين النبي –صلى الله عليه وسلم- أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص. انتهى كلامه.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيات.
الثانية: صفة الشفاعة المنفية.
الثالثة: صفة الشفاعة المثبتة.
الرابعة: ذكر الشفاعة الكبرى، وهي المقام المحمود.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (3340) ومسلم (194).
(2) أخرجه البخاري (6570).(16/141)
ص -212- ... الخامسة: صفة ما يفعله –صلى الله عليه وسلم- أنه لا يبدأ بالشفاعة، بل يسجد، فإذا أُذن له شَفَع.
السادسة: من أسعد الناس بها؟.
السابعة: أنها لا تكون لمن أشرك بالله.
الثامنة: بيان حقيقتها.
الشرح:
هذا الباب هو باب الشفاعة، وإيراد هذا الباب بعد البابين قبله مناسب جداً؛ ذلك أن الذين يسألون النبي عليه الصلاة والسلام ويستغيثون به ويطلبون منه، أو يسألون غيره من الأولياء أو الأنبياء إذا أقيمت عليهم الحجة بما ذُكر من توحيد الربوبية، قال: نحن نعتقد ذلك، ولكن هؤلاء الشفعاء مقربون عند الله معظَّمون، وقد رفعهم الله –جل وعلا- عنده، ولهم الجاه عند الرب –جل وعلا- وإذا كانوا كذلك فهم يشفعون عند الله، فمن توجَّه إليهم أرضوه بالشفاعة؛ لأنهم ممن رفعهم الله، ولهذا يقبل شفاعتهم.
فكأن الشيخ –رحمه الله- رأى حال المشركين والخرافيين واستحضر حججهم. وهو كذلك، إذ هو أخبر أهل هذه العصور المتأخرة بحجج المشركين.
فلما استحضر ذلك عقد باب الشفاعة ليحاججهم، فهذا باب الشفاعة.
والشفاعة في الأصل: مأخوذ من (الشفع) والشفع هو الزوج، لأن الشافع طالب، فصار مع صاحب الطلب الأصلي شفعاً، فإذا أراد أحدٌ من(16/142)
ص -213- ... آخر شيئاً فجاءه ليشفع له فقد صار –بذلك شفعاً له، فسميت شفاعة؛ لأن صاحب الطلب أصبح شفعاً، بعد أن كان فرداً.
والشفاعة هي: الدعاء. وطلب الشفاعة هو طلب الدعاء، فإذا قال قائل: أستشفع برسول الله، فكأنه قال: أطلب من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن يدعو لي عند الله.
فالشفاعة طلب، فمن استشفع فقد طلب الشفاعة. والخلاصة: أن الشفاعة دعاء، وهي طلب الدعاء –أيضاً- وقد سبق أن قررنا أن كل دليل ورد في الشرع على إبطال أن يُدعى مع الله –جل وعلا- إله آخر، فإنه يصلح أن يكون دليلاً على إبطال الاستشفاع بالموتى الذين غابوا عن دار التكليف؛ لأن حقيقة الشافع –كما تقدم آنفا- أنه طالب، ولأن حقيقة المستشفع أنه طالب –أيضاً- فالشافع في ظن المستشفع يدعو، والمستشفع يدعو من أراد منه الشفاعة، يعني: إذا أتى آتٍ إلى قبر نبي، أو قبر ولي، أو نحو ذلك، فقال: أستشفع بك، أو أسال الشفاعة، فمعناه أنه طلب منه، ودعا أن يدعو له؛ فلهذا كان صرفها ، أو التوجه بها إلى غير الله –جل وعلا- شركاً أكبر؛ لأنها في الحقيقة دعوةٌ لغير الله، وسؤال من هذا الميت، وتوجه بالطلب والدعاء منه.
فإذا عرفت معنى الشفاعة، وحُكْمَ طلبها من الأموات، وأن ذلك شرك أكبر فاعلم أن الأحياء الذين هم في دار التكليف يجوز طلب الشفاعة منهم، بمعنى: أن يطلب منهم الدعاء، لكن قد يجاب دعاؤهم، وقد لا يجاب، وهذا كما هو حاصلٌ في شفاعة الناس بعضهم لبعضٍ بالشفاعة الحسنة أو بالشفاعة السيئة، كما قال تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً} [النساء: 85] وقال: {وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً} [النساء: 85] فهذا يحصل لكن من(16/143)
ص -214- ... الأحياء؛ لأنه في دار تكليف، ويقدرون على الإجابة، وقد أذن الله في طلب الشفاعة منهم، ولهذا كان الصحابة في عهد النبي –صلى الله عليه وسلم- ربما أتى بعضهم النبي –عليه الصلاة والسلام- وطلب أن يشفع له، يعني أن يدعو له.
فمسألة الشفاعة من المسائل التي تخفى على كثيرين بما في ذلك بعض أهل العلم؛ ولذا وقع بعضهم في أغلاط في مسألة طلب الشفاعة من النبي-على لصلاة والسلام- فأوردوا قصصاً في كتبهم، فيها استشفاع بالنبي –صلى الله عليه وسلم- دون إنكار، كما فعل النووي وابن قدامة وغيرهما.
وهذا لا يعدُّ خلافً في المسألة؛ لأن هذا الخلاف راجع إلى عدم فهم حقيقة هذا الأمر، ومسألة الشفاعة مسألة فيها خفاء، ولهذا يقول بعض أهل العلم من أئمة الدعوة رحمهم الله: "إن إقامة الحجة في مسائل التوحيد تختلف بحسب قوة الشبهة، فأقل الشبهات وروداً، وأيسر الحجج قدوماً على المخالف هو فيما يتعلق بأصل دعوة غير الله معه، وبالاستغاثة بغير الله، والذبح لغيره، ونحو ذلك".
ومن أكثرها اشتباهاً –إلا على المحقق من أهل العلم- مسألة الشفاعة، ولهذا فإن الشيخ –رحمه الله- أتى بهذا الباب، وقال: "باب الشفاعة" وبين لك –بما ساق من الأدلة من الكتاب والسنة- أن الشفاعة التي تنفع لا تصح إلا بشروط، وكذلك فإن هناك شفاعة منفية، فليست كل الشفاعة مقبولة، بل منها ما يقبل، ومنها ما لا يُقبل، فالمقبول منها له شروط وضوابط، والمردود منها فلقيام أوصاف توجب ردّها.
فالحاصل: أن الشفاعة الواردة في القرآن والسنة قسمان: شفاعة منفية، وشفاعة مثبتة.
فالشفاعة المنفية: هي التي نفاها الله –جل وعلا- عن أهل الإشراك، وأول الأدلة التي ساقها الشيخ –رحمه الله- في بيان هذه المسألة(16/144)
ص -215- ... قوله عز وجل:{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام: 51] والشفاعة الواردة هنا هي: الشفاعة المنفية، وقد نفاها الله عن جميع الخلق، بما في ذلك الذين يخافون وهم أهل التوحيد، كما نفاها عن غيرهم. أما عن أهل التوحيد فهي منفية عنهم بشروط، وهي إذن الله للشافع أن يشفع ورضاه –جل وعلا- عن الشافع وعن المشفوع له.
قوله هنا: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} يعني: أن الشفيع في الحقيقة هو الله –جل جلاله- دون ما سواه؛ ولهذا أعقبها بالآية الأخرى فقال: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} [الزمر: 44] فالشافعة جميعاً ملك لله، وأهل الإيمان وغيرهم –في الحقيقة- ليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع، فليس من أحد أن يشفع لهم من دون الله –جل وعلا- بل لا بد أن تكون الشفاعة بالله، يعني: بإذنه وبرضاه.
فإذا تقرر ذلك وأن الشفاعة منفية عن أحد سوى الله –تعالى- لأنه هو الذي يملك الشفاعة وحده بطل تعلق قلوب المشركين –الذين يسألون الموتى الشفاعة- بمسألة الشفاعة؛ لأن الشفاعة ملك لله، وهذا المدعو لا يملكها.
لكن هل تنفع الشفاعة مطلقاً أم لا بد لها أيضاً من قيود؟ نعم الشفاعة تنفع لكن لا بد لها من شروط، ولهذا أورد الآيتين بعدها وهما قوله جل وعلا: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] وقوله(16/145)
ص -216- ... {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]. ووجه الاستدلال من الآية الأولى: أنه قيّد الإذن فيها، فليس لأحد أن يشفع إلا بشرط أن يأذن الله له، فلا أحد يشفع عند الله إلا بإذنه، فلا الملائكة، ولا الأنبياء، ولا المقربون يملكون شيئاً من الشفاعات، وإنما الله –جل وعلا- هو الذي يملك الشفاعة.
فإذا كان كذلك وأنه لا بد من إذنه –جل وعلا- فمن الذين يأذن الله –جل وعلا- لهم؟ ليُعْلمْ أولاً أن لا أحد يبتدئ بالشفاعة دون أن يأذن الله له بها، فإذا كان كذلك رجع الأمر إلى أن الله هو الذي يوفّق للشفاعة، وهو الذي يأذن بها فلا أحد يبتدئ بها.
وكذلك قال في الآية الأخرى: {إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ} يعني: من الشافعين {وَيَرْضَى} أي يرضى قول الشافع، ويرضى –أيضاً- عن المشفوع له.
ففائدة هذه الشروط –وهي الفائدة المراد تقريرها في هذا الباب- أن لا يتعلّق أحدٌ بمن يظن أو يعتقد أنه له عند الله مقاماً وأنه يشفع له عند الله، كما يعتقد ذلك أهل الشرك في آلهتهم، حيث يزعمون أن من توجهوا إليهم بالشفاعة يملكون ذلك جزماً، فمتى توجه إليهم الطالب، وتذلل لهم، وتقرّب إليهم بالعبادات ثم طلب منهم الشفاعة عند الله فإنهم يشفعون جزماً، وأن الله –عز وجل- لا يرد شفاعتهم.
فهذه الآيات فيها إبطال لدعوى أولئك المشركين، واعتقادهم أن أحداً يملك الشفاعة بدون إذن الله، وبدون رضاه عن المشفوع، وإذا ثبت أنه لا أحد(16/146)
ص -217- ... يملكها، وأن من يشفع إنما يشفع بإكرام الله له، وبإذنه –جل وعلا- له فكيف يتعلّق المتعلق بهذا المخلوق، بل الواجب أن يتعلق بالذي يملك الشفاعة، وإذا كان من المتقرّر شرعاً أن شفاعة النبي –صلى الله عليه وسلم- حاصلة يوم القيامة، فهل يصح طلبها منه؟
الجواب: إن طلبها إنما هو من الله –تعالى- فتقول في ذلك: اللهم شفِّع فينا نبيك، لأنه –تعالى- هو الذي يفتح، ويُلهم النبي عليه الصلاة والسلام أن يشفع في فلان وفي فلان، فيمن سألوا الله أن يشفع لهم النبي عليه الصلاة والسلام، ولهذا أعقبها الشيخ –رحمه الله- بآية سبأ، فقال وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ: 22]. فهذه الآية اشتملت على أربع حالات:
الحالة الأولى: أن يدعوا الذين زعموهم من دون الله، وأن ينظروا هل يملكون مثقال ذرة في السماوات أو في الأرض؟!
والجواب: كما قال جل وعلا: {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} فانتفى عنهم الملك الاستقلالي، وهذه هي الحالة الأولى.
والثانية: في قوله: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} إذ نفى –هنا- أيضاً: أن يكونوا شركاء لله في الملك، وفي تدبير السماوات والأرض، أو في ملك شيء منهما، فنفى أولاً أن يملكوا استقلالاً، ونفى ثانياً أن يملكوا شَرِكة، ثم قال عز وجل: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} والظهير: هو المعاون(16/147)
ص -218- ... والمؤازر، والوزير. وقوله تعالى: {وَمَا لَهُ} أي: الله تعالى. و{مِنْهُمْ} يعني: من تلك الآلهة، ماله من وزير ولا معاون، لأنه قد يتبادر إلى ذهن بعض الناس أن ثمة من يعين الله على تدبير الأمور، وتصريف الشؤون، كالملائكة، أو الأنبياء، فيظن أنه إذا توجّه إلى أولئك بالدعاء والطلب، كان قد توجه إلى من يعين الله، فيعتقد أنه إذا طلب من الله فإن الله لن يردّه؛ لأنه ممن يعين الله! وقد بنوا هذا الاعتقاد الفاسد على تشبيه الخالق –تعالى- بما يحصل من المخلوقين بعضهم لبعض، فإن الملك في هذه الدنيا، أو الحاكم، أو الأمير إذا كان له من يعينه، ومن يظاهره، وشَفَعَ هذا المعين لأحد فإنه لا يردُّ شفاعته؛ لأنه يحتاجه، فلأجل هذه الحاجة لا يرد الأمير، أو الملك، شفاعة من كان له ظهيراً، فلما ظنَّ هؤلاء المشركون أن بعض تلك الآلهة معاونة لله –جل وعلا- نفى الله هذا الاعتقاد الجاهلي، وهذه هي الحالة الثالثة.
ثم نفى أخيراً آخر اعتقاد، وهو أن تلك الألهة تملك الشفاعة، فقال جل وعلا: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ} [سبأ: 23]. فنفى –آخر ما نفى- الشفاعة، وأثبتها بشرط، فقال: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} وهذه هي الحالة الرابعة.
إذن فالآيات التي سبقت من أول الباب إلى هنا رتّبها الإمام –رحمه الله- ترتيباً موضوعياً، ووجه الاستدلال في الآية الأولى والثانية: أن الشفاعة ملك(16/148)
ص -219- ... لله، وليس لأحد شيء من الشفاعة. فإذا كان لا يملك فمن يشفع إذاً؟ وكيف يشفع؟
الجواب: يشفع بأن يُعطى الشفاعة، ويؤذن له بها، ويُكرم بها.
وسؤال آخر، وهو هل يشفع الشافع استقلالاً؟ وجوابه: أن الله تعالى نفى شفاعة الاستقلال، وأثبت الشفاعة بشرط، وهو شرط الإذن والرضا.
إذا كان كذلك فمن الذي يُؤذن له؟ ومن الذي يُرضى له أن يشفع؟ ومن الذي يُرضى عنه أن يشفع له؟ ومن الذي يُرضى عنه أن يُشّفع فيه؟ هذه ثلاثة أسئلة جوابها في كلام شيخ الإسلام حيث قال المصنف رحم الله:
قال أبو العباس رحمه الله: نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عوناً لله، ولم يبق إلا الشفاعة فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب كما قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن ..." ومعنى قول أبي العباس: "منتفية يوم القيامة" يعني: عن جميع الخلق إلا لمن أثبت الله –جل وعلا- له الاستحقاق، أو يكون نائلاً تلك الشفاعة، يعني: الأصل أنْ لا شفاعة إلا لمن رضي الله قوله أو أذن له جل وعلا.
ثم قال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: "...كما نفاها القرآن، وأخبر النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده" قول الشيخ رحمه الله: " فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة، كما نفاها القرآن" يعني: منتفية بدون شروط؛ لأن المشركين(16/149)
ص -220- ... يعتقدون أنها تحصل بدون إذن من الله ولا رضا، لأن الشافع عندهم يملك الشفاعة، ولكن حقيقتها: أنها لا تحصل إلا بالشرط المذكور في الكتاب والسنة.
ثم قال أبو العباس رحمه الله "... يأتي فيسجد لربه ويحمده –لا يبدأ بالشفاعة أولاً- ثم يقال له: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع"
وقال له أبو هريرة: (من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه".(1). فالدليل الأول وهو من السنة فيه أن النبي –صلى الله عليه وسلم ولد سيد آدم- لا يشفع حتى يؤذن له كما في قوله: "يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط واشفع تشفع".(2). فهذا في دليل الإذن. لكن من الذي يؤذن له؟
الجواب: يؤذن للنبي عليه الصلاة والسلام، ويؤذن للرسل فلا يبتدئون بالشفاعة من أنفسهم وإنما يستأذنون في الشفاعة فيؤذن لهم؛ لأنهم لا يملكونها، وإنما الذي يملكها إنما هو الله سبحانه وتعالى.
فإذا قيل: فمن الذي يؤذن في الشفاعة فيه؟ ومن الذي يرضى عنه في الشفاعة؟
فالجواب جاء في الحديث الآخر، حيث قال أبو هريرة للنبي صلى الله عليه وسلم: من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: " من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه".(3). فهذا الذي يرضى عنه، فيشفع فيه، بعد إذن الله –جل وعلا-
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم (194) مطولاً.
(2) أخرجه البخاري (99)
(3) تقدم.(16/150)
ص -221- ... فالمخصوصون بنيل الشفاعة هم أصحاب الإخلاص من أهل التوحيد، فتبين أن تلك الشفاعة منتفية عن أهل الشرك.
ثم قال أبو العباس ابن تيمية: "فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله تعالى، ولا تكون لمن أشرك بالله" ومعنى هذا أن من توجه إلى الموتى، أياً كانوا –رسلاً، أم أنبياء، أو صالحين، أو كالصاحين- لطلب الشفاعة منهم فإنه مشرك؛ لأنه توجه بالدعاء لغير الله، وأولئك لا يملكون الشفاعة، وإنما يشفعون بعد الإذن والرضا، والرضا يكون عن أهل التوحيد، وأهل التوحيد هم الذين لا يسألون الشفاعة أحداً من الموتى.
فكل من سأل ميتاً الشفاعة فقد حرم نفسه الشفاعة؛ لأنه أشرك بالله –جل وعلا- والشفاعة المثبتة إنما هي لأهل الإخلاص، ليس لأهل الشرك فيها نصيب.
"وحقيقته" يعني: حقيقة الشفاعة.
ثم قال ابن تيمية –رحمه الله- موضحاً حقيقة الشفاعة: "وحقيقته: أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود" فهذا الكلام في مقام بيان حقيقة الشفاعة فإننا قد ذكرنا أن الله نفى أن يملك أحدٌ الشفاعة، وأنها خاصة به –عز وجل- كما قال سبحانه: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَه} [الزمر: 44] واللام في قوله: {لِلَّهِ} لام الملك، يعني: الذي يملك الشفاعة هو الله –جل وعلا- وقال: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ(16/151)
ص -222- ... وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام: 51] فإن الشفاعة إنما هي لله تبارك وتعالى، وجاءت الأدلة بنفي الشفاعة عن المشركين، وأن الشفاعة إنما هي لأهل الإخلاص بشرطين: الإذن والرضا.
إذا تقرر ذلك فما حقيقة الشفاعة؟ يعني: ما حقيقة حصولها، وكيف تحصل؟
الجواب في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في قوله: " وحقيقته: أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص" يعني: أن الذين شُفع لهم، إنما ذلك بتفضل الله –جل وعلا- عليهم، وهم أهل الإخلاص، حيث جاء في حديث أبي هريرة قوله عليه الصلاة والسلام: "أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه" أو قال: "خالصاً من قلبه ونفسه" فأهل الإخلاص هم الذين يكرمهم الله بالشفاعة، فالمتفضل بالشفاعة هو الله –عز وجل- فإذا ثبت ذلك انقطع القلب من التعلق بغير الله في طلب الشفاعة، لأن الذين توجهوا إلى المعبودات المختلفة كالأولياء، والصالحين، والملائكة وغيرهم إنما توجهوا إليهم رجاء الشفاعة، كما قال جل وعلا- عنهم: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] فإذا بطل أن تكون لهم الشفاعة وثبت أن المتفضل بالشفاعة هو الله –جل وعلا- إنما يتفضل بها على أهل الإخلاص، فيغفر لهم أي بواسطة من دعا، بواسطة دعاء الذي أَذِن له أن يشفع.
وهاهنا سؤال: لمَ لم يتفضل الله عليهم بأن يغفر لهم بدون واسطة الشفاعة؟
والجواب عن ذلك ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية هنا بقوله:(16/152)
ص -223- ... "ليكرمه" أي إظهاراً لفضل الشافع، وإكرام الله –تعالى- له في ذلك المقام، فإن من المعلوم أن الشافع –الذي قبلت شفاعته- ليس في المقام مثل المشفوع له، فالله –جل وعلا- يُظهر إكرامه لمن أذن له أن يشفع، ويظهر رحمته بالشافع، فقد تكون للشافع قرابةٌ، أو أحباب يريد أن يشفع لهم، ولذلك فإن الشفاعة يوم القيامة لأهل الكبائر ليست خاصة بالنبي –صلى الله عليه وسلم- بل يشفع –أيضاً الأنبياء، والملائكة، والصالحون.
فهذه شفاعات مختلفة في أهل الكبائر جعلها الله إكراماً للشافع، ورحمة به، وأيضاً رحمة بالمشفوع له، وإظهاراً لفضل الله –جل وعلا- على الشافع، والمشفوع له.
فالحاصل أن حقيقة الشفاعة تكون بتفضل الله –تعالى- على المأذون له بالشفاعة ليشفع وإكرامه بذلك، ثم تفضله على المشفوع له ورحمته بقبول الشفاعة فيه. وهذا كله دال –لمن كان له قلب- على عظم الله –جل وعلا- وتفرده بالملك، وتفرده بتدبير الأمر وأنه –سبحانه- الذي يجير ولا يجار عليه، وهو الذي له الشفاعة كلها، وهو الذي له ملك الأمر كله، ليس لأحد منه شيء، وإنما يُظهر –سبحانه- فضله، وإحسانه ورحمته، وكرمه لتتعلق به القلوب، فبطل –إذاً- أن يكون ثَمَّ تعلق للقلب بغير الله –جل وعلا- لأجل الشفاعة. وبطل –أيضاً- صنيع الذين تعلقوا بالأولياء، أو تعلقوا بالصالحين، أو بالأنبياء، أو بالملائكة لأجل الشفاعة، فإذا تبين هد الشفاعة، وحقيقتها، وأنها محض فضل من الله سبحانه وتعالى إكرام، أوجب ذلك تعلق القلوب به سبحانه في طلب الشفاعة، ورجائها، فالله تعالى هو المتفضل بها على الحقيقة، والعباد مكرمون بها، لا يبتدئون بالقول، ولا يسبقون بالقول، وإنما يجلون،ويخافون، ويثنون على الله، ويحمدون، حتى يؤذَن لهم بالشفاعة.(16/153)
ص -224- ... ثم قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك" أي مثل ما في قوله جل وعلا: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام: 51] فهذه شفاعة منفية، وهي الشفاعة التي فيها شرك، وكذلك فإن المشركين لا يشفعون، فالشفاعة في حقهم منفية؛ لأنهم لم يُرض عنهم. فالشفاعة التي فيها شرك من جهة الطلب، أو من جهة من سُئلت له، بأن كان مشركاً فإنها منفية عن هؤلاء، بل لا تنفعهم. فثبت بذلك أن المستحقين للشفاعة هم الذين أنعم الله عليهم بالإخلاص، ووفقهم لتعظيمه، وتعلقت قلوبهم به وحده دون ما سواهم، بخلاف الذين حُرموها من المشركين بالله الشرك الأكبر، فلا نصيب لهم منها؛ لأن الشفاعة فضل من الله لأهل الإخلاص.
وأما الشفاعة المثبتة فهي التي أثبتت بشرط الإذن، والرضا. قال شيخ الإسلام بعد ذلك: "ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع" وهذه هي الشفاعة المثبتة "أثبتها بإذنه في مواضع" أي بشرط الإذن، والإذن إما إذن كوني، وإما إذن شرعي، فالمأذون له بالشفاعة لا يمكن أن تحصل منه الشفاعة إلا أن يأذن الله كوناً بأن يشفع فإذا منعه الله كونا أن يشفع لم تحصل منه الشفاعة ولا تحركت بها لسانه.
ومعنى الإذن في باب الشفاعة: بأن تكون خالصة وخالية من الشرك، وأن يكون المشفوع له ليس من أهل الشرك. ويخُصُّ من ذلك أبو طالب، حيث يشفع له النبي عليه الصلاة والسلام في تخفيف العذاب عنه فهي شفاعة(16/154)
ص -225- ... ليست في الانتفاع بالإخراج من النار، إنما هي في تخفيف العذاب خاصة بالنبي –عليه الصلاة والسلام- بما أوحى الله –جل وعلا- إليه وأذن له بذلك.
ثم قال شيخ الإسلام ابن تيمة -رحمه الله- في آخر كلامه: "وقد بين النبي –صلى الله عليه وسلم- أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص" وهذه هي الشفاعة المثبتة بشرط الرضا. فتبين بهذا الباب أن الشفاعة التي تعلقت بها قلوب أولئك الخرافيين المشركين باطلة، وأن قولهم: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] قول باطل؛ إذ الشفاعة التي تنفع إنما هي لأهل الإخلاص، ثم إن طلبها وسؤالها من غير الله تعالى مؤذنٌ بحرمانهم إياها، ما داموا طلبوها من غير الله، ووقعوا في الشرك الصريح.
وخلاصة الباب أن تعلق أولئك بالشفاعة عاد عليهم بعكس ما أرادوا، فإنهم لما تعلقوا بالشفاعة حرموها؛ لأنهم تعلقوا بشيء لم يأذن الله –جل وعلا- به شرعاً؛ حيث استخدموا الشفاعات الشركية، وتوجّهوا إلى غير الله، وتعلقت قلوبهم بهذا الغير.(16/155)
ص -226- ... "باب قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}" [القصص: 56]
وفي الصحيح عن ابن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عم، قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله" فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه النبي –صلى الله عليه وسلم- فأعادا، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأستغفرن لك، ما لم أُنه عنك" فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113]
وأنزل الله –تبارك وتعالى- في أبي طالب: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}" [القصص: 56] (1).
فيه مسائل:
الأولى: تفسير {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (1360) و(3884) و(4675) و(4772) و(6681) ومسلم (24).(16/156)
ص -227- ... الثانية: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}.
الثالثة: وهي المسألة الكبرى تفسير قوله: "قل لا إله إلا الله" بخلاف ما عليه من يدَّعي العلم.
الرابعة: أن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي –صلى الله عليه وسلم- إذا قال للرجل: "قل لا إله إلا الله" فَقَبَّح الله من أبو جهل أعلم منه بأصل الإسلام.
الخامسة: جِدُّه –صلى الله عليه وسلم- ومبالغته في إسلام عمه.
السادسة: الرد على من زعم إسلام عبد المطلب وأسلافه.
السابعة: كونه صلى الله عليه وسلم استغفر له فلم يُغفر له، بل نُهي عن ذلك.
الثامنة: مضرة أصحاب السوء على الإنسان.
التاسعة: مضرة تعظيم الأسلاف والأكابر.
العاشرة: استدلال الجاهلية بذلك.
الحادية عشرة: الشاهد لكون الأعمال بالخواتيم؛ لأنه لو قالها لنفعته.
الثانية عشرة: التأمل في كبر هذه الشبهة في قلوب الضالين؛ لأن في القصة أنهم لم يجادلوه إلا بها، مع مبالغته صلى الله عليه وسلم وتكريره، فلأجل عظمتها ووضوحها عندهم اقتصروا عليها.
الشرح:
مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد:
أن الهداية من أعز المطالب، وأعظم ما تعلق به المتعلقون بغير الله؛ أن يحصل لهم النفع الدنيوي والأخروي من الذين توجهوا إليهم، واستشفعوا(16/157)
ص -228- ... بهم. ولما كان النبي –صلى الله عليه وسلم- وهو أفضل الخلق، وسيد ولد آدم –قد نفى الله عنه أن يملك الهداية- وهي نوع من أنواع المنافع- دل ذلك على أنه عليه الصلاة والسلام ليس له من الأمر شيء، كما جاء فيما سبق في باب قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأنعام: 91] في سبب نزول قول الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] فإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام ليس له من الأمر شيء، ولا يستطيع أن ينفع قرابته، كما جاء في قوله:"يا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئتِ لا أغني عنكِ من الله شيئاً"(1).
أقول: إذا كان هذا في حق المصطفى –صلى الله عليه وسلم- وأنه لا يغني من الله –جل وعلا- عن أحبابه شيئاً، وعن أقاربه شيئاً ولا يملك شيئاً من الأمر، وليست بيده هداية التوفيق، فإنه ينتفي ذلك وما دونه عن غير النبي –صلى الله عليه وسلم- من باب أولى.
فبطل –إذاً كل تعلق للمشركين –من هذه الأمة- بغير الله –جل وعلا- لأن كل من تعلقوا به هو دون النبي عليه الصلاة والسلام بالإجماع، فإذا كانت هذا حال النبي عليه الصلاة والسلام، وقد نفى الله عنه ملك هذه الأمور، فإن نَفْي ذلك عن غيره من باب أولى.
قال هنا: "باب قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}" (لا) هنا: نافية، وقوله: (تهدي) الهداية المنفية هنا: هي هداية التوفيق، والإلهام الخاص، والإعانة الخاصة، وهي التي يسميها العلماء: هداية التوفيق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (47700) ومسلم (208).(16/158)
ص -229- ... والإلهام، ومعناها: أن الله –جل وعلا- يجعل في قلب العبد من الإعانة الخاصة على قبول الهدى، ما يجعله لغيره. فالتوفيق إعانة خاصة لمن أراد الله توفيقه، بحيث يقبل الهدى ويسعى فيه. فجعل هذا في القلوب ليس إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- إذ القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء، حتى إن أحب الناس إليه –صلى الله عليه وسلم- لا يستطيع –عليه الصلاة والسلام أن يجعله مسلماً مهتدياً، وقد كان أبو طالب من أنفع قرابة النبي –صلى الله عليه وسلم- له، ومع ذلك لم يستطع أن يهديه هداية توفيق. فالمنفي هنا في قوله: (تهدي) هي هداية التوفيق.
والنوع الثاني من الهداية المتعلقة بالمكلف هي: هداية الدلالة والإرشاد، وهذه ثابتة للنبي –صلى الله عليه وسلم- بخصوصه، ولكل داع إلى الله، ولكل نبي ورسول، قال جل وعلا:{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7] وقال جل وعلا في نبيه عليه الصلاة والسلام: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى: 52-53] ومعنى (لتهدي) أي لتدل وترشد إلى صراط مستقيم بأبلغ أنواع الدلالة، وأبلغ أنواع الإرشاد المؤَيدين بالمعجزات والبراهين الدالة على صدق ذلك الهادي، وصدق ذلك المرشد.
فالهداية المنتفية –إذاً- هي: هداية التوفيق، وهذا يعني: أن النفع وطلب النفع في هذه المطالب المهمة يجب أن يكون من الله –جل وعلا- ومحمد –عليه الصلاة والسلام- مع عظم شأنه عند ربه، وعظم مقامه عند ربه، وأنه سيد ولد آدم، وأفضل الخلق عليه الصلاة والسلام، وأشرف الأنبياء والمرسلين- إلا أنه لا يملك من الأمر شيئاً عليه الصلاة والسلام.(16/159)
ص -230- ... فبطل –إذاً- تعلق القلوب في المطالب المهمة -كالهداية، والمغفرة، وطلب الرضوان، وطلب دفع الشرور، وفي جلب الخيرات- إلا بالله –جل وعلا- فإنه هو الذي يجب أن تتعلق القلوب به –جل وعلا- خضوعاً، وإنابة، ورغباً، ورهباً، وإقبالاً عليه، وإعراضاً عما سواه سبحانه وتعالى.
قوله: (وفي الصحيح عن ابن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عم، قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله" فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه النبي –صلى الله عليه وسلم- فأعادا، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله).
في هذا القدر من الحديث فائدة، وهي أن هذه الكلمة (لا إله إلا الله) ليست كلمة مجردة عن المعنى، تنفع من قالها، ولو لم يُقرّ بمعناها. والعرب كانوا –لصلابتهم، وعزتهم، ورجولتهم، ومعرفتهم بما يقولون- إذا تكلموا، أو خوطبوا بكلام يعون كل حرف، وكل كلمة خوطبوا بها، أو نطقوا بها، ولذلك لما قيل لهم: قولوا: لا إله إلا الله –مع أنها كلمة يسيرة- أبوا؛ لأنهم يعلمون أن هذه الكلمة معناها إبطال آلهة من سوى الله –جل وعلا- ولهذا قال جل وعلا: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} الآيات [الصافات: 35-37] وكذلك(16/160)
ص -231- ... قول الله جل وعلا مخبراً عن قولهم في أول سورة (ص): {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [ص: 5] استنكروا قول: (لا إله إلا الله) وهذا هو الذي حصل مع أبي طالب لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله". فلو كانت مجردة من المعنى عندهم، أو يمكن أن يقولها المرء دون اعتقاد ما فيها، ورضىً بما فيها ويقين وانتفاء الريب لقالها، ولكن ليس هذا هو المقصود من قول (لا إله إلا الله) بل المقصود هو قولها مع تمام اليقين بها، وانتفاء الريب، والعلم، والمحبة، إلى آخر الشروط المعروفة.
وقوله في الحديث: "فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب" هذا فيه –والعياذ بالله- ضرر جليس السوء على المجالس له.
وقوله: "فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك" وهذا موطن الشاهد من هذا الحديث.
ومناسبة هذا الحديث لهذا الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لأستغفرن لك" واللام في قوله: "لأستغفرن " هي التي تقع في جواب القسم، فثَمَّ قسم مقدر، تقديره: والله لأستغفرن لك. فالاستغفار حصل من النبي صلى الله عليه وسلم لعمّه، ولكن هل نفع استغفار النبي –صلى الله عليه وسلم- له؟ لم ينفعه ذلك.
وطلب الشفاعة والاستشفاع هو من جنس طلب المغفرة، فالاستغفار طلب المغفرة، والشفاعة قد يكون منها طلب المغفرة، ولكن لم يقبل الله تعالى من النبي –صلى الله عليه وسلم- شفاعته لعمه؛ لأن المطلوب له كان مشركاً، والاستغفار والشفاعة لا تنفعان أهل الشرك، والنبي –صلى الله عليه وسلم لا يملك أن ينفع مشركاً بالشفاعة(16/161)
ص -232- ... له بمغفرة ذنوبه، أو ينفع أحداً ممن توجه إليه بدعوةٍ، أو استغاثةٍ، أو استعانةٍ لإزالة ما به من كربات، أو جلب الخيرات له، لهذا قال: "لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك" فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113] وهذا ظاهر في المقام أن الله –جل وعلا- نهى النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يستغفر للمشركين.
فائدة: كلمة (ما كان) في الكتاب والسنة تأتي على استعمالين:
الاستعمال الأول: النهي.
الاستعمال الثاني: النفي.
فالنهي مثل هذه الآية، وهي قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}[التوبة:[122] فهذا نهي عن الاستغفار لهم، وكذلك قوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} والنفي كقوله: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59] ونحو ذلك من الآيات.
فإذا عرفنا أن كلمة (ما كان) تأتي في القرآن على هذين المعنيين، فالمراد بها –هنا- النهي، أي النهي عن الاستغفار لأحدٍ من المشركين. فإذا كان الله عز وجل نهى الرسل، والأنبياء، والأولياء، وغيرهم من أهل الصلاح(16/162)
ص -233- ... -في حال حياتهم- عن الاستغفار لهؤلاء المشركين، فهذا يدل أنه لو فرض أنهم يقدرون على الاستغفار في حال حياتهم البرزخية فإنهم لن يستغفروا للمشركين، ولن يسألوا الله لمن توجه إليهم –حال موتهم- لطلب الاستشفاع، أو لطلب الإغاثة، أو غيرها من العبادات، وأنواع التوجهات. والله أعلم.
قال: وأنزل الله في أبي طالب: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56](16/163)
ص -234- ... "باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين"
وقول الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171].
وفي الصحيح عن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال في قول لله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح: 23]
قال: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تُعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت".(1).
وقال ابن القيم: "قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد، فعبدوهم".(2).
وعن عمر أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله" أخرجاه.(3).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (4920).
(2) إغاثة اللهفان. ط دار ابن زيدون 552-223.
(3) أخرجه البخاري (3445) (6830) ومسلم (1691).(16/164)
ص -235- ... وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو".(1).
ولمسلم: عن ابن مسعود أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثاً.(2).
فيه مسائل:
الأولى: أن من فهم هذا الباب والبابين بعده تبين له غربة الإسلام، ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب.
الثانية: معرفة أول شرك حدث في الأرض أنه بشبهة الصالحين.
الثالثة: أول شيء غُير به دين الأنبياء، وما سبب ذلك، مع معرفة أن الله أرسلهم.
الرابعة: قَبُول البدع مع كون الشرائع والفطر تردها.
الخامسة: أن سبب ذلك كله: مزج الحق بالباطل، فالأول محبة الصالحين. والثاني: فعل أناس من أهل العلم شيئاً أرادوا به خيراً فظن من بعدهم أنهم أرادوا به غيره.
السادسة: تفسير الآية التي في سورة نوح.
السابعة: جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه والباطل يزيد.
الثامنة: فيه شاهد لما نُقل عن السلف أن البدع سبب الكفر.
التاسعة: معرفة الشيطان بما تؤول إليه البدعة، ولو حسن قصد الفاعل.
العاشرة: معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو ومعرفة ما يؤول إليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد 1/215 و347 وابن ماجة (3064).
(2) أخرجه مسلم (2670).(16/165)
ص -236- ... الحادية عشرة: مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح.
الثانية عشرة: معرفة النهي عن التماثيل والحكمة في إزالتها.
الثالثة عشرة: معرفة شأن هذه القصة، وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها.
الرابعة عشرة: وهي أعجب وأعجب، قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث، ومعرفتهم بمعنى الكلام، وكون الله حال بينهم وبين قلوبهم حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح أفضل العبادات، فاعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه، فهو الكفر المبيح للدم والمال.
الخامسة عشرة: التصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة.
السادسة عشرة: ظنهم أن العلماء الذين صوّروا الصور أرادوا ذلك.
السابعة عشرة: البيان العظيم في قوله: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم" فصلوات الله وسلامه على من بلَّغ البلاغ المبين.
الثامنة عشرة: تضحيته إيانا بهلاك المتنطعين.
التاسعة عشرة: التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم، ففيها بيان معرفة قدر وجوده، ومضرة فقده.
العشرون: أن سبب فقد العلم موت العلماء.
الشرح:
بين الشيخ –رحمه الله- فيما سبق من الأبواب أصولاً عظيمة، وأقام البراهين على التوحيد، وبين ما يتعلق به المشركون، وأبطل أصول اعتقادهم بالشريك، أو الظهير، أو الشفيع، ونحو ذلك.
فإذا كان التوحيد ظاهرا، والأدلة عليه من النصوص بينة، فكيف –إذا- دخل الشرك؟ وكيف وقع الناس فيه، والأدلة على انتفائه، وبطلانه، وعدم(16/166)
ص -237- ... جوازه ظاهرا؟! مع أن الرسل بعثوا ليعبد الله وحده دون ما سواه، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل: 36] فما سبب الغواية؟ وما سبب الشرك؟ فإذا كانت قضية التوحيد من أوضح الواضحات، والأبواب السالفة دالة بظهور ووضوح على وجوب إحقاق عبادة الله وحده، وعلى إبطال عبادة كل من سوى الله –جل جلاله وتقدست أسماؤه- فما سب وقوع الشرك إذاً؟! وكيف وقعت فيه الأمم؟
وللأجوبة على هذه الأسئلة أورد الشيخ –رحمه الله- هذا الباب وما بعده ليبين أن سبب الشرك، وسبب الكفر هو الغلو الذي نهى الله –جل وعلا- عنه، ونهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم سواء في هذه الأمة أو في الأمم السابقة، فأحد أسباب وقوع الكفر والشرك هو الغلو في الصالحين، بل هو سببهما الأعظم.
قال هنا: "باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين" هذا ذكر للأسباب بعد ذكر الأصول والعقائد.
"هو الغلو في الصالحين" الغلو: مأخوذ من غلا في الشيء، يغلو غلواً: إذا جاوز به حده، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رمى الجمرات بحصيات قال: "بمثل هذه فارموا وإياكم والغلو"(1). يعني: لا تجاوزوا الحد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه أحمد في المسند (1/215-347) والنسائي (5/268) وابن ماجة (3064) وصححه الذهبي والنووي وابن تيمية في الاقتضاء ص:106.(16/167)
ص -238- ... حتى في حجم تلك الحصاة، ومقدارها، ولذلك أرشدهم إلى الحجم الذي ينبغي أن تكون عليه بقوله: "بمثل هذه فارموا" فإذا جاوز في المثلية، بأن رمى بكبيرة فإنه قد غلا، يعني: جاوز الحد الذي حُدّ له في ذلك، فالغلو –إذاً- هو مجاوزة الحد.
والمقصود بـ"الغلو في الصالحين" الذي هو سبب كفر بني آدم، وتركهم دينهم الذي أمروا به أنهم تجاوزوا الحد الواجب في تعظيمهم حتى آل بهم الأمر إلى الشرك.
وقوله: "الصالحون" يشمل كل من قام به هذا الوصف، من الأنبياء، والرسل، والأولياء، من أي أمة كانوا.
وأصل كلمة (الصالحين) أنها جمع (الصالح). والصالح هو اسم من قام به الصلاح، والصلاح في الكتاب والسنة تارة يكون بمعنى نفي الفساد، أي ما يقابل الفساد، وتارة يكون بمعنى ما يقابل السيئات، فيقال: صالح يعنى ليس بذي فساد، ويقال أيضاً: صالح بمعنى: ليس بسيئ.
والصالحون هنا المراد بهم: أهل الصلاح، يعني: أهل الطاعة والإخلاص لله –جل وعلا- الذين اجتنبوا الفساد، واجتنبوا السيئات، وهم الذين اشتركوا في فعل الطاعات وترك المحرمات، أو كانوا من السابقين بالخيرات، فاسم الصالح يقع شرعاً على المقتصد، وعلى السابق بالخيرات، فالمقتصد صالح، والسابق بالخيرات صالح، وكلٌّ درجات عند الله جل وعلا.
"والغلو في الصالحين" يعني: مجاوزة الحد فيهم، لكن ما الحد الذي أذن به الشرع في حق الصالحين، حتى نعلم متى يكون تعظيمهم مجاوزة للحد المعلوم؟.
الجواب: أنهم إذا كانوا من الرسل فبالأخذ بشرائعهم، واتباعهم،(16/168)
ص -239- ... والاقتداء بهم، مع المحبة، والاحترام، والموالاة، والنصرة، وغير ذلك من المعاني الداخلة في الحد المأذون به في حقهم. أما الغلو فيهم فهو مجاوزة ذلك الحد، وهو بحر لا ساحل له، فمما حصل من الغلو فيهم أنهم جُعلت فيهم خصائص الإلهية كما ادّعاه في حق نبينا –صلى الله عليه وسلم- أنه يعلم سر اللوح والقلم، وأنه من جوده الدنيا وضُرتها كما قالها البوصيري في قصيدته المشهورة، المسماة بـ(البُردة):
فإن من جودك الدنيا وضرتها
ومن علومك علم اللوح والقلم
ومن المعلوم أن هذا لا يليق إلا بالله، فهذا من الغلو المنهي عنه، وكذلك قوله في النبي – عليه الصلاة والسلام- غالياً فيه أعظم الغلو:
لو ناسبت قدره آياته عظماً
أحيا اسمه حين يدعى دارس الرمم
يقول: إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يُعطَ آية تناسب قدره، قال الشراح: "حتى القرآن لا يناسب قدر النبي صلى الله عليه وسلم"
والعياذ بالله، يقولون: القرآن المتلو بخلاف غير المتلو عند الأشاعرة؛ لأنهم يفرقون بين هذا وهذا.
فهذا البوصيري يغلو، ويقول: لو ناسبت قدره –يعني النبي عليه الصلاة والسلام- آياته عظماً –يعني: في العظمة- أحيا اسمه حين يدعى دارس الرمم، فالذي يناسب قدره –عند البوصيري- أنه إذا ذكر اسم على ميت قد درس ، وذهب رميمه في الأرض، وذهبت عظامه أن تتجمع هذه العظام وتحي، لأجل ذكر اسم النبي –صلى الله عليه وسلم- عليه، وهذا من أنواع الغلو الذي يحصل من الذين يعبدون غير الله –جل وعلا- ويتوجهون إلى الأنبياء والرسل، ويجعلون في حقهم من خصائص الألوهية ما لا إذن لهم به، بل هو من الشرك الأكبر(16/169)
ص -240- ... بالله –جل وعلا- ومن سوء الظن بالله، ومن تشبيه المخلوق بالخالق، وهذا كفر –والعياذ بالله.
فالحد المأذون به شرعاً في حقهم مطلوب، وهذه هي الحالة الأولى. والغلو مذموم شرعاً ومنهيٌّ عنه، وهذه الحالة الثانية، ويقابلها الجفاء في حقهم –وهي الحالة الثالثة-
وهذا الجفاء له صور منها:
عدم موالاتهم، وبخسهم حقهم، وترك محبتهم، فالحاصل أن كل تقصير في حقهم يُعدُّ جفاء، وكل زيادة فيه يعدُّ غلواً.
قوله: "قول الله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ...} مناسبته لباب ظاهرة،وهي أنه تعالى نهى أهل الكتاب عن الغلو، فقال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ...} [النساء: 171] ووجه الاستدلال من الآية أنه قال: {لا تَغْلُوا}. و(تغلوا) فعل جاء في سياق النهي فهو يعمّ جميع أنواع الغلو في الدين، أي لا تغلوا بأي نوع من أنواع الغلو في الدين، فنُهوا عن أي نوع من أنواع الغلو. فيدخل في هذا عموم الغلو في الصالحين وغيرهم.
والمتأمل لحال أهل الكتاب، ولما قصّ الله –جل وعلا- من أخبارهم يجد أنهم قد غلوا في صالحيهم، كغلو النصارى –مثلا- في عيسى –عليه السلام- وفي أمه وفي حوارييه، وكغلّو اليهود –أيضاً- في عزير، وفي أصحاب موسى، وفي أحبارهم، وفي رهبانهم، وهكذا. فحصل الغلو في أهل الكتاب بأن جَعَلوا للرسل والأنبياء خصائص الألوهية من جهة التوجه لهم، وقد قال الله(16/170)
ص -241- ... جل وعلا: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة: 72-73] وفي آخر سورة المائدة أيضاً قال الله جل وعلا: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ} يعني تنزيها وتعظيما لك أن أقول لهم ذلك، لأن ذلك من الشرك، فكيف أقول لهم ذلك؟! {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ}[المائدة: 116-117]
وهذا كله في التوحيد. فالحاصل أن الغلو وقع من أتباع الرسل، وأتباع الأنبياء في الأنبياء والرسل، وغلوا –أيضاً- في الصالحين من أتباعهم، وجعلوا لهم بعض خصائص الإلهية، وجعلوا لهم الشفاعة، وزعموا أن لهم نصيباً من الملك، أو أنهم يدبرون الأمور، أو أنهم يصرفون شيئاً من الملكوت، وهذا كما يعتقده بعض الصوفية أن للكون أقطاباً أربعة يدبرون أمر هذا العالم،(16/171)
ص -242- ... وربما قالوا: الربع الفلاني، المسؤول عنه: القطب الفلاني، والربع الفلاني المسؤول عنه: القطب الفلاني، وهكذا. فجعل هؤلاء المتصوفة لأقطابهم المزعومين نصيباً من الملك والربوبية، وجعلوا لهم –أيضاً نصيباً من الإلهية، فتقربوا إليهم بأنواع القربات من الذبح، والاستغاثة، والتذلل، والخضوع، والمحبة، والتوكل، والرغب، والرهب، وخوف السر، وغيرها من أنواع العبادات القلبية والعملية.
قوله: "وفي الصحيح عن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال في قول لله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرا} [نوح: 23-24]
قال: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم..." هذه القصة، أو هذا الأثر عن ابن عباس –رضي الله عنهما- محمول على الرفع؛ لأن هذا خبر غيبي لا يُستقى إلا من مشكاة النبوة. و(ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر) هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح.
ونوح –عليه السلام- هو أول رسول بعثه الله بعبادة الله وحده دون من سواه، وبالدعوة إلى التوحيد، لما وقع الشرك في قومه. لكن كيف دخل الشرك في قوم نوح؟
الجواب: أن القرآن ذكر أصلين في الحالين من أصول الشرك –وذكر غيرهما أيضاً- الأصل الأول: شرك قوم نوح، والأصل الثاني: شرك قوم إبراهيم(16/172)
ص -243- ... وأما شرك قوم نوح فكان بالغلو في الصالحين وأرواحهم، فجاءهم الشيطان من جهة روح ذلك العبد الصالح، وأثر تلك الروح، وأن من تعلق به فإنه يشفع له، ثم ساقهم من ذلك التعظيم إلى أن صور لهم صوراً، ونصبوا لهم أنصاباً، وأوثاناً وأصناما حتى إذا طال عليهم الأمد عبدوهم.
الأصل الثاني: شرك قوم إبراهيم، وذلك شرك في التأثير، يعني: من جهة النظر في الكواكب ومن يؤثر ويحرك، فهذا شرك في الربوبية، وما تبعه من الشرك في الألوهية؛ لأنهم جعلوا لتلك الكواكب أصناماً، وجعلوا لها صوراً، وجعلوها أوثاناً، فعبدوها من الله –جل وعلا- وتوجهوا إليها.
فسبب وقوع الشرك في قوم نوح هو الغلو في الصالحين، كما قال ابن عباس هنا في بيان أصل وقوع هذا
الشرك: "فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تُعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت".
وقال ابن القيم: "قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد، فعبدوهم" الشاهد من هذا: أن أولئك توجهوا إلى الصور –صور الصالحين- وكانوا أهل علم يعلمون أنهم إذا اتخذوا هذه الصور فإنهم لن يعبدوها. لكن كانت تلك الصور للصالحين والمعظمين وسيلة وطريقا وسببا لأن عبدت في المستقبل، لما نسي العلم. ومن حرص الشيطان المريد على إضلال العبيد أنه ربما أتى إلى الصورة المتعلق بها، فأوهم الناظر إليها، أو المخاطب لها أنها تتحدث(16/173)
ص -244- ... وتتكلم، أو يسمع منها كلاماً، أو نحو ذلك من الأشياء، وأصناف التصرفات التي تجعل القلوب تتعلق بتلك الروحانيات –كما يقال، أو تلك الأرواح- فيُغرى أولئك بهم، وهذا هو الحاصل عند عبّاد القبور، والعاكفين عليها، يأتي أحدهم، ويقول: ذهبتُ إلى القبر الفلاني، فكلمني أبي، ويكون ذلك شيطاناً نطق على لسان أبيه، وربما تصوّر بصورة أبيه فخرج له في ظلامٍ ونحوه، فيحدثه أبوه بصوته الذي يعرفه، أو يحدثه العالم، أو الولي بصوته الذي يعرفه منه، فتقع الفتنة، وهذا من قبيل الشيطان، ولهذا قال ابن عباس هنا كلمة تبين السبب في ذلك، فقال: "أوحى الشيطان على قومهم" والوحي: إلقاء في خفاء، والشيطان لا يتحدث علَناً، ولكن يوحي، يعني: يلقي في خفاء، فالوحي هو إلقاء الخبر في خفاء، فألقى الشيطان في روعهم وأنفسهم ذلك الأمر، فكان سبباً للشرك بالله –جل وعلا- ولم يكونوا في أول الأمر يعبدونها، ولكنهم لما صوّروا صور أولئك الصالحين، ونصبوا لهم الأنصاب كان ذلك سبباً ووسيلة إلى عبادتهم، لكن أولئك الذين جعلوها وسائل، كان عندهم من العلم ما حجزهم عن عبادة الصالحين، لكن نُسي العلم عُبدت.
وهذا الفعل الذي فعلوه بإيحاء الشيطان هو من الغلو في أولئك الصالحين. وهذا وجه الشاهد، وهو أنهم لما ماتوا عكفوا على قبورهم، أو صوروا صورهم، أو نصبوا الأنصاب في أماكنهم ليتذكروهم، وليكون ذلك أنشط لهم في العبادة أو العلم، ولكن هذه الأفعال التي فعلوها كانت سبباً من أسباب عبادة أولئك الصالحين، الذي غَلَوا في حبهم. وهذا هو مراد الشيخ –رحمه الله- من إيراد هذا الأثر.(16/174)
ص -245- ... "وعن عمر أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله".(1).
هذا الحديث فيه النهي عن إطرائه –عليه الصلاة والسلام- والإطراء هو مجاوزة الحد –أيضاً- في المدح، أما الغلو فهو يعمّ أموراً كثيرة، فقد يكون في المدح، وقد يكون في الذم، وقد يكون في الفهم، وقد يكون في العلم، وقد يكون في العمل، أما الإطراء فهو الغلو في المدح، والثناء والوصف. والنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن إطرائه كإطراء النصارى ابن مريم، فقال: "إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله".
وقد ظن بعض الناس أن (الكاف) في قوله: "كما أطرت النصارى ابن مريم" أنها كاف المثلية، يعني: لا تطروني بمثل ما أطرت النصارى ابن مريم، ويقول هذا الظانُّ: أن النصارى أطرت ابن مريم في شيء واحد، وهو أن قالوا: هو ابن الله –جل وعلا- فيكون النهي عن أن تجعل له –صلى الله عليه وسلم- رتبة البنوة فقط، فإذا كان كذلك فما عداه جائز. وهذا فهم الخرافيين لهذا النهي، كما قال قائلهم البوصيري في هذا المقام:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... واحكم بما شئت فيه واحتكم
أو كما قال، يعني: لا تقل: إنه ولد لله، أو إنه ابن لله، فهذا هو القدْر المنهيُّ عنه فقط، ولك أن تقول فيه بعد ذلك ما شئت غير ملوم وغير مُثرَّب عليك.
الوجه الثاني –وهو الفهم الصحيح، وهو الذي يدل عليه السياق- أن (الكاف) هنا هي كاف القياس، والمعنى: لا تطروني إطراء، كما أطرت النصارى ابن مريم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (3445) والدارمي (1787) وأحمد (3029) وتقدم.(16/175)
ص -246- ... وكاف القياس هي كاف التمثيل الناقص، وحقيقتها: أن يكون هناك شبه بين ما بعدها وما قبلها في أصل الفعل، فنهى النبي –صلى الله عليه وسلم- في قوله: "لا تطروني كما أطرت" عن أن يُطرى عليه الصلاة والسلام كما حصل أن النصارى أطرت ابن مريم فهو تمثيل للحدث بالحدث، لا تمثيل أو نهي عن نوع الإطراء، فمعنى قوله: "لا تطروني كما أطرت" هو نهي عن إطرائه عليه الصلاة والسلام؛ لأجل أن النصارى أطرت ابن مريم، فقادهم ذلك إلى الكفر، والشرك بالله، وادعاء أنه ولد لله –جل وعلا- ولهذا قال: "إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله".
فالكاف هنا ليست كاف التمثيل الكامل؛ بأن يكون ما بعدها مماثلا لما قبلها من كل وجه، وإنما هي كاف التمثيل التي يكون ما بعده مشتركاً مع ما قبله في المعنى، وهي القياسية التي تجمعها العلة، ولهذا يقول الفقهاء -كما هو معلوم- هذا كهذا، فيقولون مثلا: نبيذ غير التمر والعنب كنبيذ التمر والعنب مساواة بين هذا وهذا، لوجود أصل المعنى بينهما، وهنا نهي عن الإطراء، لأجل وجود أصل الإطراء في الاشتراك بين إطراء النصارى وما سبّبه من الشرك، وإطراء ما لو أطري النبي صلى الله عليه وسلم وما سيسببه من الشرك.
وكثير من طوائف هذه الأمة خالفوا أمر النبي –صلى الله عليه وسلم- في النهي عن إطرائه حتى جاوزوا الحد في ذلك، فزعم زاعمهم أن له من الملك نصيباً، ولا حول ولا قوة إلا بالله، مع أنه –صلى الله عليه وسلم- أرشدهم إلى ما ينبغي أن يكون عليه الأمر بقوله: "إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله" وهذا هو الكمال في حقه عليه الصلاة والسلام أن يكون عبداً رسولاً، فهذا أشرف مقاماته عليه الصلاة والسلام.(16/176)
ص -247- ... قوله: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو".
هذا نهي عن الغلو بأنواعه، وأن من قبلنا إنما أهلكهم الغلو، أهلكهم من جهة الدين، وأهلكهم –أيضاً- من جهة الدنيا، فالغلو سبب لكل شر، والاقتصاد سبب في كل فلاح وخير، والغلو منهي عنه بجميع صوره في الأقوال والأعمال، يعني: في جميع أقوال القلب، وأعماله، وكذلك أقوال اللسان وأعمال الجوارح، فالغلو سبب لهلاك العبد في دينه ودنياه.
قوله: "ولمسلم: عن ابن مسعود أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "هلك المتنطعون" يعني: هلك الذين تنطعوا فيما يأتون به في أعمالهم، أو في أقوالهم، وهم الذين جاوزوا الحد في ذلك، وابتغوا علم شيء أو تكلفوا شيئاً لم يأذن به الله، فزادوا عما أذن لهم، فأتوا بأشياء لم يؤذن لهم فيها.
والتنطع والإطراء والغلو متقاربة المعنى يجمعها مجاوزة الحد المشروع، والغلو يشمل الإطراء، ويشمل التنطع، فكل تنطع وكل إطراء غلو، والغلو اسم جامع لهذه جميعا، فالشيخ –رحمه الله- في هذا الباب بين أن سبب كفر بني آدم، وسبب تركهم دينهم هو الغلو في الصالحين، بأن جاوزوا الحد فيهم، كما جاوز قوم نوح الحد في صالحيهم، فعكفوا على قبورهم، وألهوها، فصارت آلهة، والنصارى غَلت في رسولهم عيسى عليه السلام، وفي الحواريين، وفي البطارقة، حتى جعلوهم آلهة مع الله –جل وعلا- يستغيثون بهم، ويؤلهونهم، ويسألونهم، ويعبدونهم، وكذلك وقع الغلو في هذه الأمة من الذين جعلوا للنبي عليه الصلاة والسلام نصيباً من(16/177)
ص -248- ... خصائص الألوهية، وهذا هو عين ما نَهَى عنه عليه الصلاة والسلام بقوله: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله".(16/178)
ص -249- ... "باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح، فكيف إذا عبده؟"
وفي الصحيح عن عائشة –رضي الله عنها- أن أم سلمة ذكرت لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور، فقال: "أولئك شرار الخلق عند الله، أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله".(1).
فهؤلاء جمعوا بين فتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل.
ولهما عنها قالت: "لما نزل برسول الله طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتمّ بها كشفها، فقال –وهو كذلك- لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا ولولا ذلك أُبرز قبره غير أنه خشي أن يُتخذ مسجدا" أخرجاه. (2).
ولمسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي –صلى الله عليه وسلم- قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (427) و(434) و(1341) و(3878) ومسلم (528).
(2) أخرجه البخاري (435) و(1330) و(1390) و(3453) و(4443) و(5815) ومسلم (531).(16/179)
ص -250- ... يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك".(1).
فقد نهى عنه في آخر حياته، ثم إنه لعن –وهو في السياق- من فعله.
والصلاة عندها من ذلك، وإن لم يُبن مسجد، وهو في معنى قولها: "خشي أن يتخذ مسجداً" فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا، وكل موضع قُصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجداً، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجداً، كما قال صلى الله عليه وسلم: "جعلت الأرض لي مسجداً وطهورا".(2).
ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود –رضي الله عنه- مرفوعاً: "إن من شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد" رواه أبو حاتم في صحيحه. (3).
فيه مسائل:
الأولى: ما ذكر الرسول فيمن بنى مسجداً يُعبد الله فيه عند قبر رجل صالح، ولو صحت نية الفاعل.
الثانية: النهي عن التماثيل وغِلظ الأمر في ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم (532).
(2) أخرجه البخاري (335) و(438) و(3122) ومسلم (521) .
(3) أخرجه أحمد (5316) وابن خزيمة (879)(16/180)
ص -251- ... الثالثة: العبرة في مبالغته –صلى الله عليه وسلم- في ذلك كيف بين لهم هذا أولاً، ثم قبل موته بخمسٍ، قال ما قال، ثم لما كان في السياق لم يكتف بما تقدم.
الرابعة: نهيه عن فعله عند قبره قبل أن يوجد القبر.
الخامسة: أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم.
السادسة: لعنه إياهم على ذلك.
السابعة: أن مراده تحذيره إيانا عن قبره.
الثامنة: العلة في عدم إبراز قبره.
التاسعة: في معنى اتخاذها مسجداً.
العاشرة: أنه قرن بين من اتخذها، وبين من تقوم عليه الساعة، فذكر الذريعة إلى الشرك قبل وقوعه مع خاتمته.
الحادية عشرة: ذكره في خطبته قبل موته بخمس الرد على الطائفتين اللتين هما أشر أهل البدع، بل أخرجهم بعضُ أهل العلم من الثنتين والسبعين فرقة، وهم: الرافضة والجهمية. وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد.
الثانية عشرة: ما بُلي به صلى الله عليه وسلم من شدة النزع.
الثالثة عشرة: ما أُكرم به من الخُلّة.
الرابعة عشرة: التصريح بأنها أعلى من المحبة.
الخامسة عشرة: التصريح بأن الصديق أفضل الصحابة.
السادسة عشرة: الإشارة إلى خلافته.(16/181)
ص -252- ... الشرح:
في هذا الباب مع الأبواب بعده بيان أن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان حريصاً على هذه الأمة، وأنه كان بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً، ومن تمام حرصه على الأمة أن حذّرهم كل وسيلة تصل بهم إلى الشرك، وسدّ جميع الذرائع الموصلة إلى ذلك، وغلّظ في ذلك، وشدّد فيه، وأبدى وأعاد، حتى إنه بين ذلك خشية أن يفوت تأكيده، وهو يعاني سكرات الموت عليه الصلاة والسلام.
فهذه الأبواب في بيان وسائل الشرك الأكبر، وما ينبغي سده ومنعه من الذرائع الموصلة إليه، رعاية وحماية للتوحيد، لأن النبي عليه الصلاة والسلام غلّظ على من يفعلون شيئاً من تلك الوسائل، أو الذرائع الموصلة إلى الشرك.
وهذا الباب في بيان أحد الوسائل الموصلة إلى الشرك، والذرائع التي يحب منعها.
قوله رحمه الله: "باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح". صورة ذلك: أن يأتي آتٍ إلى قبر رجل صالح، يعلم صلاحه -كأن يكون من الأنبياء والمرسلين، أو أن يكون من صالحي هذه الأمة، أو صالحي أمة من عير هذه الأمة- فتحرى ذلك المكان كي يعبد الله وحده دون ما سواه، رجاء بركة هذه البقعة.
وقد راج هذا الأمر عند الكثيرين من الناس، والدهماء، حيث اعتقدوا أن ما حول قبور الأنبياء والصالحين من الأمكنة والبقاع مبارك، وأن العبادة عندها ليست كالعبادة عند عيرها. والنبي عليه الصلاة والسلام غلّظ في ذلك(16/182)
ص -253- ... ونهى عنه، مع أن المغلّظ عليه لم يعبد إلا الله –حل وعلا- ولم يعبد صاحب القبر، لكنه اتخذ ذلك المكان رجاء بركته، ورجاء تنزل الرحمات –كما يقولون- ورجاء تنزل النسمات، والفضل من الله عليه، فاختاره لأجل بركته، ولكنه لم يعبد إلا الله –جل وعلا- ومع ذلك لعن النبي –صلى الله عليه وسلم- ذلك الصنف الذين يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد.
قوله: "فيمن عبد الله" يعني: أنه لم يشرك بالله، بل عبد الله وحده، بأن صلى مخلصاً، أو دعا لله مخلصاً، أو تضرع واستغاث واستعاذ بالله –جل وعلا- مخلصاً.
لكنه تحرّى إيقاع هذه العبادات عند قبر رجل صالح لأجل البركة. والرجل الصالح –كما سبق أن ذكرنا- هو المقتصد الذي أتى بالواجبات، وابتعد عن المحرمات، أو السابق بالخيرات، وهو أعلى درجة، فالصالحون من الرجال والنساء مقامات {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران: 163] وبعض أهل العلم يعبّر في تعريف الرجل الصالح بقوله: الصالح من عباد الله هو القائم بحقوق الله، القائم بحقوق عباده، وهذا تعبير صحيح؛ ولأن المقتصد قائم بحقوق الله، قائم بحقوق عباده أتى بالواجبات، وانتهى عن المحرمات. وأعظم منه درجة السابق بالخيرات. فأهل السبق بالخيرات من العباد لا يجوز أن تعظم قبورهم، وان يغلى فيها بظن أن البقعة التي حول قبورهم بقعة مباركة، فإن هذا الفعل قد جاء فيه الوعيد الذي سيأتي في هذا الباب، وغلظ –عليه الصلاة والسلام- فيه على فاعله.(16/183)
ص -254- ... وقوله: "فكيف إذا عبده" يعني: إذا كان هذا التغليظ واللعن قد جاء في حق من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، ومن أسرج على القبور أو عظّمها، وعظّم من فيها، وعبد الله وحده عندها إذا كان قد جاءت النصوص بلعن فاعله، وأنه من شرار الخلق عند الله، فكيف إذا توجه ذلك العابد إلى صاحب القبر يدعوه، ويرجوه، أو يخافه، أو يأمل منه، أو يستغيث به، أو يصلي له، أو يذبح له، أو يستشفع به؟! لا شك أن هذا أعظم وأعظم في التغليظ من عبادة الله وحده عند قبر رجل صالح، كما قال الشيخ رحمه الله: "فكيف إذا عبده؟" يعني: أن التغليظ يكون أشد وأشد، إذا عبد صاحب ذلك القبر، وهذا مقتضى كلام الشيخ في هذا التبويب. وهذا واضح؛ لأن تحرِّي العبادة والدعاء، أو تعظيم ذلك المكان وسيلة وذريعة إلى الشرك، وعبادة المقبورين، فإذا كان من وسائل الشرك الأكبر ملعوناً وموصوفاً بأنه من شرار الخلق عند الله، فكيف بمن فعل الشرك الأكبر بعينه وتوجه إلى قبور الصالحين، واتخذها أوثاناً مع الله جل وعلا؟!.
لا شك أن هذا أبلغ وأبلغ في التغليظ، وذلك لأنه من الشرك الأكبر المخرج من ملة الإسلام، إذا فعله مسلم.
ومعنى قوله: "فكيف إذا عبده؟" أي عبد القبر، أو عبد الرجل الصالح –صاحب القبر- لأن عبادة القبوريين تارة تكون بالتوجه إلى ما حول القبر، وتارة بالتوجه إلى صاحب القبر، بل وتارة التوجه إلى ما حول القبر كالأبنية المحاطة بالقبور، وصارت مشاهد، فمنها ما يكون مستوراً بالحديد، فترى من هؤلاء من يعمد إلى تلك الستور والجدران والأبنية، فيتمسح بها رجاء بركتها، ويتخذها وسيلة إلى الله، فتراهم –أيضاً يعكفون عند قبور معظميهم،(16/184)
ص -255- ... ويتخذون مشاهدهم أوثاناً يعبدونها، ويرجونها، ويخافونها، وإذا ضم أحدهم إلى صدره تلك المشاهد، أو الحديد، أو الستور، ونحو ذلك، فكأنه صار مقرَّباً عند الله، وقبلت وسيلته تلك. ولا شك أن هذا نوع من أنواع اتخاذ المشاهد أوثاناً، من اتخاذ القبور أوثاناً، أو الرجل الصالح –الذي هو متبرئ من أولئك ومن عبادتهم- إلهاً مع الله، وقد علمنا أن العبادة معناها واسع، وأنها قد تكون بالصلاة له أو بدعوته، أو بسؤاله كشف المدلهمات، أو جلب الخيرات، أو الذبح لصاحب القبر، أو وضع النذور له، ونحو ذلك من أنواع العبادات، كما هو الواقع من أولئك الذين يعبدون الأوثان، وقبور الصالحين.
قوله: "وفي الصحيح عن عائشة –رضي الله عنها- أن أم سلمة ذكرت لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور، فقال: "أولئك شرار الخلق عند الله، أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله". في هذا الحديث أن أم سلمة –رضي الله عنها- لما كانت في الحبشة رأت كنيسة, ورأت في تلك الكنيسة صور الصالحين، فذكرت ذلك لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح" فقد يكون الرجل الصالح نبياً من أنبيائهم، أو عبداً من عباد الله الصالحين فيهم فماذا كانوا يفعلون معه؟ جاء في قوله –عليه الصلاة والسلام- "بنوا على قبره مسجداً" أي يجعلون قبره مسجداً، والمسجد في اللغة هو مكان العبادة، فيدخل في المعنى: الكنائس. والمسجد –أيضاً- مكان السجود، والسجود هو الخضوع والتذلل(16/185)
ص -256- ... لله –جل وعلا- فالمسجد يطلق على كل مكان يتخذ لعبادة الله –جل وعلا- كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم: "وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً" فمكان العبادة يقال له: مسجد، ولهذا قال النبي -عليه الصلاة والسلام- في شأن الكنيسة: "بنوا على قبره مسجدا" يعني: مكاناً للعبادة. فالكنائس –إذاً- بنيت على قبور أولئك الصالحين، وصوروا فيها الصور، أي جعلوا صور الصالحين على قبورهم، أو على حوائط القبور، لكي يدلوا الناس على عبادة الله بتعظيم ذلك الرجل الصالح، وتعظيم قبره، فاتخذوا البناء على القبور، الذي هو وسيلة من وسائل الشرك الأكبر، ومن البدع التي يحدثها الخلوف بعد الأنبياء اتخاذ الصور فوق القبور، والتعبد بها، ولذلك قال النبي –صلى الله عليه وسلم- عنهم: "أولئك شرار الخلق عند الله جل وعلا".
وقوله: "أولئك" الخطاب فيه لأم سلمة –رضي الله عنها- والخطاب إذا توجه إلى مؤنث تكسر فيه كاف الخطاب.
وقوله: "أولئك شرار الخلق عند الله" أي المعظمون الصالحين ببناء المساجد على قبورهم. وليس في هذا الحديث أنهم توجهوا إليهم بالعبادة، بل عظّموا قبورهم، وجعلوا لهم صوراً فجمعوا بين فتنتين: فتنة القبور، وفتنة الصور وسيلة من وسائل حدوث الشرك الأكبر، وكذلك فتنة القبور بالبناء عليها، وتعظيمها، وبإرشاد الناس إليها، وسيلة إلى أن يُعتقد في صاحب القبر أن له شيئاً من خصائص الإلهية، وأنه يتوسط عند الله –جل وعلا- في قضاء الحاجات، كما حصل ذلك منهم فعلا.(16/186)
ص -257- ... والمفهوم من وصفه –صلى الله عليه وسلم- لأولئك الأقوام بأنهم شرار الخلق عند الله تحذير هذه الأمة أن يبنوا على قبر أحد مسجداً، لأن من فعل ذلك ودل الخلق على تعظيم ذلك القبر، فهو من شرار الخلق عند الله، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع"
فوجه الدلال من هذا الحديث قوله: "أولئكِ شرار الخلق عند الله" وما فيه من التغليظ فيمن عبد الله في الكنيسة التي فيها القبور والصور، لأن القبور والصور من وسائل الشرك بالله جل وعلا.
وقوله: ولهما عنها –يعني عن عائشة- قالت: "لما نزل برسول الله طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتمّ بها كشفها، فقال –وهو كذلك- لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا ولول ذلك أُبرزت قبره غير أنه خشي أن يُتخذ مسجدا".
ووجه ذلك: أنه عليه الصلاة والسلام مع أنه في ذلك الغم، وتلك الشدة، ونزول سكرات الموت به لم يُغفل –وهو في تلك الحال- تحذير الأمة من وسيلة وسائل الشرك، وتوجيه اللعن والدعاء على اليهود والنصارى بلعنة الله؛ لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.
وسبب ذلك: أنه عليه الصلاة والسلام وهو في تلك الحال خشي أن يتخذ قبره مسجداً، كما اتخذ شرار الخلق عند الله من اليهود والنصارى قبور أنبيائهم مساجد، فلعنهم النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: "لعنة الله على اليهود(16/187)
ص -258- ... والنصارى" واللعنة هي الطرد والإبعاد من رحمة الله، وذلك يدل على أنهم فعلوا كبيرة من كبائر الذنوب، لأن البناء على القبور، واتخذوا قبور الأنبياء مساجد، هو من وسائل الشرك، وكبيرة من الكبائر.
وقوله: "اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" فيه بيان السبب الذي لأجله استحقوا اللعن، وهو أنهم اتخذوا قبور الأنبياء مساجد. وفي تحذير النبي –صلى الله عليه وسلم- من اتخاذ القبور مساجد، ولعن فاعله –وهو في السياق- ما يقوم مقام آخر وصية أوصى بها, ومع ذلك خالف كثير من هذه الأمة وصيته عليه الصلاة والسلام.
واتخاذ القبور مساجد على إحدى صور ثلاث:
الصورة الأولى: أن يسجد على القبر، يعني: أن يجعل القبر مكان سجوده، فقوله: "اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يعني: جعلوا القبر مكان السجود. وهذه الصورة في الواقع لم تحصل بانتشار، لأن قبور الأنبياء لم تكن مباشرة للناس، بحيث يمكنهم الصلاة عليها، أو السجود عليها بل كانوا يعظمون قبور أنبيائهم فلا يصلون عليها مباشرة. لكن أبلغ صور الاتخاذ المفهوم من قوله: "اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" هو أن يتخذ القبر نفسه مسجدا، يعني: يصلي عليه مباشرة، وهذا أفظع تلك الأنواع وأشدها، وأعظمها، وسيلة إلى الشرك والغلو بالقبر.
الصورة الثانية: أن يصلي على القبر، ومعنى اتخاذه مسجدا في هذه الحالة أن يكون أمامه القبر، يصلي إليه بحيث يجعله قبلة، فإنه يكون بذلك قد اتخذ القبر –وما حوله له حكمه- مكانا للتذلل والخضوع. والمسجد لا يعني به مكان السجود الذي هو وضع الجبهة على الأرض فقط، وإنما يعنى به مكان(16/188)
ص -259- ... التذلل والخضوع، فاتخاذ قبورهم مساجد، يعني: جعلوها قبلة لهم؛ ولهذا نهى النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يُصلى إلى القبر؛ لأجل أن الصلاة إليه وسيلة من وسائل التعظيم، وهذا يوافق قول الشيخ –رحمه الله- في الباب "باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح" فالمفهوم من قوله: "عند قبر رجل صالح" هذه الصورة المتقدمة، وهي أن يكون القبر أمامه، فيجعل القبر بينه وبين القبلة تعظيماً للقبر.
الصورة الثالثة: أن يتخذ القبر مسجداً، بأن يجعل القبر في داخل بناء، وذلك البناء هو المسجد، فإذ دُفن النبي قام أولئك بالبناء عليه، فجعلوا حول قبره مسجداً، واتخذوا ذلك المكان للتعبد وللصلاة فيه، هذه هي الصورة الثالثة، وهي أيضاً موافقة لقول الشيخ رحمه الله "عند قبر رجل صالح" وهذا يبين لك بعض المناسبة في إيراد هذا الحديث في هذا الباب.
وقول عائشة رضي الله عنها: "يحذر ما صنعوا" فيه إشارة إلى السبب الذي لأجله لعن النبي –عليه الصلاة والسلام- اليهود والنصارى هو يعالج ويعاني سكرات الموت، وهو أنه أراد تحذير الصحابة من أن يحذوا في ذلك الأمر حذو أهل الكتاب. وقد قبل الصحابة رضوان الله عليهم تحذيره، وعملوا بوصيته. ومعنى قولها رضي الله عنها: "ولولا ذلك أُبرز قبره" يعني: لأُظهر، وجعل قبره مع سائر القبور في البقيع أو غير ذلك، ولكن كان من العلل التي جعلتهم لا ينقلونه عليه الصلاة والسلام من مكانه الذي توفي فيه إلى المقبرة قوله عليه الصلاة والسلام: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" قالت: يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره، فهذه إحدى العلتين.(16/189)
ص -260- ... والعلة الثانية: قول أبي بكر –رضي الله عنه- إنه سمع النبي –صلى الله عليه وسلم- يقول: " إن الأنبياء يقبرون حيث يقبضون".(1).
وقولها: "غير أنه خشي" بفتح الخاء، أو "خشي" بضمها، وهما وجهان جائزان.
فإذا كان بفتح الخاء فالمقصود به النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان بضم الخاء فالمقصود هم الصحابة –رضي الله عنهم- وهذا تنبيه على إحدى العلتين.
وقد قبل الصحابة –رضوان الله عليهم- وصية رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وعملوا بها، فدفنوه في مكانه الذي قُبض فيه، في حجرة عائشة، وكانت –رضي الله عنها- قد أقامت جداراً بينها وبين القبور، فكانت غرفة عائشة فيها قسمان: قسم القبر، وقسم هي فيه.
وكذلك لما توفي أبو بكر –رضي الله عنه- ودفن بعد رسول الله –صلى الله عليه وسلم – من جهة الشمال، كانت أيضاً في ذلك الجزء من الحجرة، ولما دفن عمر –رضي الله عنه- تركت الحجرة –رضي الله عنها- ثم أغلقت الحجرة، فلم يكن ثَمَّ باب فيها يدخل منه إليها، وإنما كانت فيها نافذة صغيرة، ولم تكن الغرفة –كما هو معلوم- مبنية من حجر، ولا من بناء مجصص، وإنما كانت من البناء الذي كان في عهده عليه الصلاة والسلام من خشب ونحو ذلك.
ولما زيد في بناء المسجد النبوي في عهد الوليد بن عبد الملك، وكان أمير المدينة يوم ذاك عمر بن عبد العزيز –رحمه الله- وأخذوا بعضاً من حُجر زوجات النبي عليه الصلاة والسلام بقيت حجرة النبي عليه الصلاة والسلام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) "سيرة ابن هشام"4/1303.(16/190)
ص -261- ... كذلك، فأخذوا من الروضة جزءاً، وبنوا عليه جداراً آخر عليه غير الجدار الأول، بنوه من ثلاث جهات، وجعلوا جهة الشمال مسنمة، أي مثلّثة، فصار عندنا –الآن- جداران، الجدار الأول: معلق تماماً، وهو جدار حجرة عائشة، والجدار الثاني: الذي عُمل في إمرأة عمر بن عبد العزيز –رحمه الله- زمن الوليد بن عبد الملك، وقد جعلوا من جهة الشمال –وهي عكس القبلة- منسماً؛ لأنه في تلك الجهة جاءت التوسعة، فخشوا أن يكون ذلك الجدار مربعاً، يعني مسامتاً للمستقبل، فيكون إذا استقبله أحد استقبل القبر، فجعلوه مثلثاً، يبعد كثيراً عن الجدار الأول، وهو جدار حجرة عائشة؛ لأجل أن لا يمكن لأحدٍ أن يستقبل القبر، لبعد المسافة، ولأجل أن الجدار صار مثلثاً.
ثم بعد ذلك بأزمان جاء جدار ثالث أيضاً وبُني حول ذينك الجدارين، وهو الذي قال فيه ابن القيم –رحمه الله- في النونية في وصف دعاء النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد".(1). قال:
فأجاب رب العالمين دعاءه ... وأحاطه بثلاثة الجدران
حتى عدت أرجاءه بدعائه ... في عزة وحماية وصيان
فأصبح قبر النبي عليه الصلاة والسلام محاطاً بثلاثة جدران، وكل جدار ليس فيه باب، فلا يمكن لأحد أن يدخل ويقف على القبر بنفسه، لأنه صار ثَمَ جداران، وكل جدار ليس له باب، ثم بعد ذلك وضع الجدار الثالث، وهذا الجدار أيضا ليس له باب، وهو كبير مرتفع، وهو الذي وضُعت عليه القبة فيما بعد، فلا يستطيع أحد الآن أن يدخل إلى القبر، وأن يتمسح به أو أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مالك في "الموطأ" كتاب الصلاة (261).(16/191)
ص -262- ... يرى مجرد القبر، ثم بعد ذلك وضع السور الحديدي بينه وبين الجدار الثالث نحو متر ونصف في بعض المناطق، ونحو متر في بعضها، وفي بعضها نحو متر وثمانين إلى مترين، يضيق ويزداد، لكن من مشى فإنه يمشي بين ذلك الجدار الحديدي والجدار الثالث. فالحاصل أن المسلمين عملوا بوصيته عليه الصلاة والسلام، وأبعد قبره، بحيث لا يمكن لأحد أن يصل إليه، ولهذا لما جاء الخرافيون في عهد الدولة العثمانية فتحوا في التوسعة التي هي من جهة الشرق ممرا؛ لكي يمكن من يريد أن يطوف بالقبر، أو أن يصلي في تلك الجهة، أو يطوف، أو يصلي! وذلك الممر الشرقي –الذي هو قدر مترين أو يزيد قليلا- قد منعت الصلاة فيه في عهد الدولة السعودية الأولى وما بعدها، فكأنه أخرج من كونه مسجداً؛ لأنه إذا كان من مسجد النبي عليه الصلاة والسلام فلا يجوز أن يمنعوا أحداً من الصلاة فيه، فلما منعوا الصلاة فيه جعلوا له حكم المقبرة، ولم يجعلوا له حكم المسجد، فلا يمكن لأحد أن يصلي فيه، بل يغلقونه وقت الصلاة، أما وقت السلام أو وقت الزيارة فإنهم يفتحونه للمرور.
فتبين بذلك أن قبر النبي –عليه الصلاة والسلام- لم يتخذ مسجداً، وإنما أدخلت الغرف –بالتوسعة- في عهد التابعين في المسجد، ولكن جهته الشرقية خارجة عن المسجد، فصارت كالشيء الذي دخل في المسجد، ولكن الحيطان المتعددة –وهي الجدران الأربعة التي تفصل بين القبر والمسجد- تمنع أن يكون القبر في داخل المسجد –يعني: مكان الدفن- ومما يدل على أخذ الصحابة والتابعين ومن بعدهم بوصية النبي عليه الصلاة والسلام، وعدم اتخاذ قبره مسجداً أنهم(16/192)
ص -263- ... أخذوا من الروضة الشريفة التي هي روضة من رياض الجنة كما قال عليه الصلاة والسلام: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة"(1). قدر ثلاثة أمتار، لكي يبنوا الجدار الثاني، ثم الجدار الثالث، وأخذوا أكثر من ثلاثة أمتار لإقامة السور الحديدي، فهذا من أعظم التطبيق والعمل بوصيته عليه الصلاة والسلام، حيث إنهم أخذوا من الروضة، وأجازوا أن يأخذوا من المسجد لأجل أن يُحمى قبر النبي عليه الصلاة والسلام من أن يُتخذ مسجداً وهذا –ولا شك- يدل على عظيم فقه من قاموا بذلك العمل، ففَصْل القبر عن المسجد بهذه الكيفية التي وصفت هو من رحمة الله –جل وعلا- بهذه الأمة، ومن إجابة دعوة النبي عليه الصلاة والسلام لما دعا بقوله فيما سيأتي بعد هذا الباب: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد".
إذن فقوله عليه الصلاة والسلام: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا" فإنه عليه الصلاة والسلام لم يتخذ قبره مسجدا.
والموجود اليوم في المسجد النبوي قد تكون صورته –عند من لم يحسن التأمل، وعند غير الفقيه- صورة قبر في داخل مسجد، وليست الحقيقة كذلك، لوجود الجدارين المختلفة التي تفصل بين المسجد وبين القبر، ولأن الجهة الشرقية منه ليست من المسجد، ولهذا لما جاءت التوسعة الأخيرة كان مبتدؤها من جهة الشمال بعد نهاية الحجرة بكثير، حتى لا تكون الحجرة في وسط المسجد، فيكون ذلك من اتخاذ قبره مسجدا عليه الصلاة والسلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (1196) و(6588) و(7335).(16/193)
ص -264- ... فالمقصود من هذا البيان أن قبر النبي عليه الصلاة والسلام ما اتخذ مسجداً، ولأن وصيته عليه الصلاة والسلام في التحذير قد أخذ بها في مسجده وفي قبره، ولكن خالفتها بعض الأمة في قبور بعض الصالحين من هذه الأمة فاتخذوا قبور بعض آل البيت مساجد وعظّموها، كما تعظّم الأوثان.
"ولمسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي –صلى الله عليه وسلم- قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً" سبب ذلك: أن الخلّة هي أعظم درجات المحبة، وهي التي تتخلل الروح، وتتخلل القلب، وشغاف الصدر، بحيث لا يكون ثَمَ مكان لغير ذلك الخليل، ولهذا فإن النبي –عليه الصلاة والسلام- ليس له من أصحابه خليل، ولذا قال: "ولو كنت متخذاً من أمتي لاتخذت أبا بكر خليلا".
ووجه الشاهد من هذا الحديث قوله بعد ذلك: "ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك".
وجاء في رواية أخرى أيضاً: "كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد" وهذا هو الذي وقع في هذه الأمة، ولا شك أنه وسيلة من وسائل الشرك.
ومناسبة الحديث للباب ظاهرة، وهي أنه حرّم اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد مع أنه قد يكون العابد لا يعبد إلا الله، لأنها وسيلة من وسائل(16/194)
ص -265- ... الشرك الأكبر، والوسائل تفضي على ما بعدها، وقد تقرر في القواعد الشرعية، وأجمع عليه المحققون أن سد الذرائع الموصلة إلى الشرك، وإلى المحرمات أمر واجب؛ لأن الشريعة جاءت بسد أصول المحرمات، وسد الذرائع إليها، فيجب أن يُغلق كل باب من أبواب الشرك بالله، ومن ذلك اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد؛ ولهذا لا تصح الصلاة في مسجد بُني على قبر؛ لأن ذلك مناف لنهي النبي –صلى الله عليه وسلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام نهى، وهؤلاء فعلوا، والنهي توجه إلى بقعة الصلاة فبطلت الصلاة، فالذي يصلي في مسجد أقيم على قبر فصلاته باطلة لا تصح، لقوله عليه الصلاة والسلام: "ألا فلا تتخذوا القبور مساجد" يعني بالبناء عليها وبالصلاة حولها، "فإني أنهكم عن ذلك".
قوله: "فقد نهى عنه في آخر حياته، ثم إنه لعن –وهو في السياق- من فعله، والصلاة عندها من ذلك، وإن لم يُبن مسجد، وهو في معنى قولها: "خشي أن يتخذ مسجداً" يعني: أن الصلاة عند القبور لا تجوز سواء صلّى إليها أو صلى عندها رجاء بركة ذلك المكان، أو لم يرجُ بركة ذلك المكان، وإنما صلى صلاة نافلة –غير صلاة الجنازة عندها- كل هذا لا يجوز، سواء كان ثَمَّ بناء على القبر كمسجد أو قبر، أو قبران في غير بناء عليهما، فإن الصلاة لا تجوز، ولهذا جاء في الصحيح أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تجعلوها قبوراً"(1). وفي البخاري -أيضاً- معلقاً من كلام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (432) و(1187).(16/195)
ص -266- ... عمر –رضي الله عنه- أنه رأى أنساً عند، فقال له: "القبر، القبر"(1). يعني: احذر القبر، احذر القبر، وهذا يدل على أن الصلاة عند القبور لا تجوز؛ لأنها وسيلة من وسائل الشرك، وأعظم من ذلك أن يكون ثم بنيان، واتخاذ لما حول القبر من الأبنية مسجدًا للصلاة، والدعاء، والقراءة، ونحو ذلك.
وهو معنى قولها: "خشي أن يتخذ مسجداً" فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا، وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجداً، بل كل موضع يصلي فيه يسمى مسجداً كما قال صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً" وهذا ظاهر.
ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود –رضي الله عنه- مرفوعاً: "إن من شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد" رواه أبو حاتم(2). في صحيحه.
ووجه الشاهد من هذا الحديث: أنه قال: "والذين يتخذون القبور مساجد" يعني أنهم من شرار الناس، فالذين يتخذون القبور مساجد هم من شرار الناس، وذلك لأن اتخاذ القبور مساجد –كما ذكرنا- وسيلة من وسائل الشرك بالله جل وعلا.
وقوله: "والذين يتخذون القبور مساجد" هذا يعم كل اتخاذ للقبر مسجداً، سواء اتخذه بالصلاة عليه، أو بالصلاة إليه، أو بالصلاة عنده، فذلك القصد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري معلقا إثر حديث (426).
(2) يعني: ابن حبان. وأخرجه أحمد (5316) وابن خزيمة (879) والطبراني في "الكبير" كما في "مجمع الزوائد" (2/27) وقال: إسناده حسن.(16/196)
ص -267- ... للصلاة عند القبر يجعل القاصد من شرار الناس كما وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام بذلك.
ومناسبة هذا الحديث للباب ظاهرة فإنه ذكر أن من شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد، والقصد من اتخاذ القبر مسجداً أن يُعبد الله عند قبر ذلك الرجل الصالح، فكيف حال الذي توجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام بالعبادة؟! والحال أن القبر لا يُخلص إليه، ولكن الاستغاثة بالنبي عليه الصلاة والسلام، وتأليهه قد يقعان بحسب الاعتقادات، وبحسب المناداة، كما حصل من الجاهلين مناداة الملائكة، واتخاذ الملائكة آلهة مع الله جل وعلا.
وكذلك المتخذون الأولياء معبودين هم من أشر الناس الذين وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد" فإن الذي اتخذ القبر مسجداً ملعون بلعنة النبي عليه الصلاة والسلام، وإن كان لم يعبد إلا الله –جل وعلا- فكيف حال الذي عَبد صاحب ذلك القبر؟! نسأل الله العافية والسلامة من كل وسائل الشرك.
وتأمل هذا مع ما فشا في بلاد المسلمين من بناء القباب والمشاهد على القبور، وتعظيم هذا الفعل المنكر، وتحسينه، وتوجيه الناس إليه، وإلى التعلق بالمقبورين، وذكر الحكايات الطويلة في مناقب أولئك الأولياء، وفي إجابتهم للدعوات، وإغاثتهم للهفات، ونحو ذلك يتبين لك غربة الإسلام أشد غربة في هذه الأزمنة وما قبلها، فكيف إذا قالوا: إن ذلك جائز، وذلك توحيد؟! بل كيف إذا اتهموا من نهاهم عن ذلك بعدم المعرفة، وعدم الفهم، وهو يدعوهم إلى الله –جل وعلا- وهم يدعونه إلى النار؟ نسأل الله السلامة والعافية.(16/197)
ص -268- ... "باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تُعبد من دون الله تبارك وتعالى"
روى مالك في الموطأ أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"(1).
ولابن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19] قال: كان يلت لهم السويق فمات فعكفوا على قبره. (2). وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس قال: "كان يلت السويق للحاج. (3).
وعن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: "لعن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" رواه أهل السنن. (4).
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الأوثان.
الثانية: تفسير العبادة.
الثالثة: أنه –صلى الله عليه وسلم- لم يستعذ إلا مما يُخاف وقوعه.
الرابعة: قرنه بهذا اتخاذ قبور الأنبياء مساجد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مالك في "الموطأ" (261).
(2) ابن جرير في "التفسير" 27/58.
(3) ابن جرير في "التفسير".
(4) أبو داود (3236) والترمذي (320) وقال: حديث حسن.(16/198)
ص -269- ... الخامسة: ذكر شدة الغضب من الله.
السادسة: وهي من أهمها: صفة معرفة عبادة اللات التي هي أكبر الأوثان.
السابعة: معرفة أنه قبر رجل صالح.
الثامنة: أنه اسم صاحب القبر، وذكر معنى التسمية.
التاسعة: لعنه زوّارات القبور.
العاشرة: لعنه من أسرجها.
الشرح:
"باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تُعبد من دون الله تبارك وتعالى". الغلو في قبور الصالحين وسيلة من وسائل الشرك بل قد يصل الغلو إلى أن يكون شركاً بالله –جل وعلا- وأن يُصيّر ذلك القبر وثنا يعبد، فالغلو درجات، وقد تقدم في الأبواب قبله ذكر بعض صور هذا الغلو في القبور، وهنا بين أن الغلو يصل إلى أن تصير تلك القبور أوثانا تُعبد من دون الله.
وإذا قلنا: إن الغلو هو مجاوزة الحد فمعناه هنا في هذا الباب: هو مجاوزة الحد في الصفة التي ينبغي أن يكون عليها القبر؛ إذ صفتها في الشرع واحدة، ولم يأت عن الشارع دليل في تمييز قبور الصالحين عن غيرهم، بل الوارد وجوب أن تتساوى من حيث الصفة، فلا يفرق بين قبر صالح أو طالح، فالقبر إما أن يكون في ظاهر مسنَّماً، وإما أن يكون مربعا، وهذه الصورة من حيث الظاهر واحدة.(16/199)
ص -270- ... فنهي النبي عليه الصلاة والسلام عن الكتابة على القبر، أو تجصيصه، أو رفعه في أنواع من السنن التي جاءت في أحكام القبور؛ إنما لأجل سد الطرق التي توصل إلى الغلو في قبور الصالحين.
فمجاوزة الحد في قبور الصالحين لا تختلف عن قبور غير الصالحين. فالغلو فيها يكون بالكتابة عليها أو برفعها بالبناء عليها، أو باتخاذها مساجد، وكل هذا من الوسائل المؤدية إلى الشرك الأكبر. ومن صور الغلو في قبور الصالحين أن تُجعل وسيلة من وسائل الشرك التي تقرب إلى الله –جل وعلا- أو ينذر للقبر، أو يذبح له، أو يستشفع بترابه اعتقاداً أنه وسيلة عند الله –جل وعلا- ونحو ذلك من أنواع الشرك الأكبر بالله تبارك وتعالى.
فالغلو في قبور الصالحين يكون بمجاوزة ما أذن فيها، ومن المجاوزة ما هو من وسائل الشرك ، ومنها ما هو شرك صريح، كاتخاذ القبور أوثانا تُعبد من دون الله –جل وعلا- ولهذا قال رحمه الله: "باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا" وقوله: "يصيرها" يعني: يجعلها، فقد يكون جعل الوسائل للغايات، يعني: أن الغلو صار وسيلة لاتخاذها أوثانا، وقد يكون الغلو جعلها وثنا يعبد من دون الله جل وعلا.
وهذا هو الواقع والمشاهد في كثير من بلاد الإسلام في أن القبور صارت أوثانا تُعبد من دون الله، لما أقيمت عليها المشاهد والقباب، ودعي الناس إليها، وذبح لها، وقبلت النذور لها، وصار يطاف حولها، ويعكف عندها، ونحو ذلك من أنواع الشرك الأكبر بالله.(16/200)
ص -271- ... قوله: "روى مالك في الموطأ أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"
قوله: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد" هذا دعاء، ورغب منه –صلى الله عليه وسلم- إلى الله تعالى ألا يقع ذلك بقبره، ولو كان ذلك لا يقع أصلاً، ولا يمكن أن يقع لما دعا النبي عليه الصلاة والسلام بذلك الدعاء العظيم، وهو أن يجعل قبره وثنا يعبد، كما جعلت قبور غيره من الأنبياء والمرسلين – عليه الصلاة والسلام- فإن عددا من قبور الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام اتُخذت أوثانا تعبد من دون الله، وفي قوله: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" دليل على أن القبر يمكن أن يكون وثناً يعبد، فالغاية أن يكون القبر وثناً يعبد، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" دعاء منه بأن لا تتحقق هذه الغاية التي من وسائلها ما جاء في قوله بعد ذلك: "اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وهذا هو غلو الوسائل، فاتخاذ قبور الأنبياء مساجد غلو من غلو الوسائل يصير تلك القبور أوثاناً. فالنبي عليه الصلاة والسلام جمع في هذا الحديث بين ذكر الوسيلة والتنفير منها، وبيان اشتداد غضب الله على من فعلها، وذكر نهاية ما تصل إليه تلك الوسيلة بأصحابها، وهي أن تكون القبور أوثانا تعبد من دون الله جل وعلا.
فهذا الحديث صريح في أن القبر يمكن أن يكون وثناً، والخرافيون يقولون: إن القبور لا يمكن أن تكون أوثانا، والأوثان هي أوثان الجاهلية وأصنام الجاهلية فقط. فنقول في الرد عليهم: إن الجاهليين إذا كانوا قد تعلّقوا(16/201)
ص -272- ... بأصنام، وبأحجار، وبأشجار، وبغير ذلك من الأشياء، واعتقدوا فيها ووصل بهم ذلك الاعتقاد إلى حد الشرك الأكبر مع أن المسوغ العقلي والنفسي لعبادتها غير قوي، ولا ظاهر فيها فإن اتخاذ قبور الصالحين والأنبياء والمرسلين أوثاناً، أو أن يتوجه إلى أصحابها بالعبادة وراد من باب أولى؛ لأن تعلق القلوب بالصالحين أولى من تعلقها بالأحجار، وتعلقها بالأنبياء والمرسلين أولى من تعلقها بالجن، أو بالأشجار، أو بالأحجار، أو نحو ذلك. فوسائل الشرك بالقبور أظهر منها في الأصنام ونحوها وأوضح، وهما يشتركان في أن كلا منهما يعتقد تأثير الصنم أو الوثن في حصول ما يرجوه من الشفاعة عند الله، فأولئك المشركون في آلهتهم {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] ويقولون: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] وأهل العصور التي فشا فيها الشرك إذا سألتهم يقولون: هذا توسل، وهذا استشفاع، والحال واحدة، والسبيل الذي جعل تلك القبور أوثاناً هو اتخاذها مساجد، والبناء عليها، والحث على مجيئها، والتبرك بها، وذكر الكرامات التي تحصل عندها من إجابة الدعوات، وتفريج الكربات! إلى غير ذلك مما يفعله المشركون بقبور معظميهم.
ولابن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19] قال: كان يلت لهم السويق فمات فعكفوا على قبره. (1). وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس قال: "كان يلت السويق للحاج". الشاهد قول مجاهد: "مات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن جرير في "التفسير" 27/58.(16/202)
ص -273- ... فعكفوا على قبره" فهذا العكوف؛ لأجل أنه رجل كان ينفعهم، يلتُّ السويق لهم، وهذا على قراءة {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى}.
ووجه المناسبة ظاهر من أن صلاح ذلك الرجل جعلهم يغلون في قبره كما قال: "فعكفوا على قبره" والعكوف على قبره يصيرها أوثانا، والعكوف معناه: لزوم القبر بتعظيمه، واعتقاد البركة، والثواب، والنفع، ودفع الضر في لزومه، فهذا معنى العكوف.
وعن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: "لعن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" رواه أهل السنن". وجه الدلالة من الحديث ظاهرة، وهي أن النبي –صلى الله عليه وسلم- لعن المتخذين على القبور المساجد والسّرج. أما اتخاذ المساجد على القبور فقد سبق الكلام عليه، وأما لعن المتخذين السرج على القبور، فلأنها وسيلة لتعظيم تلك القبور، ونوع من أنواع الغلو فيها، وقد كانت القبور المعظّمة تسرج قديماً، وتجعل عليها القناديل، أما في هذه الأعصار، فيجعلون عليها الأنوار العظيمة التي تبين أن هذا المكان مقصود، وأنه مطلوب الراغبين، ويجعلون لها من وسائل الإضاءة العصرية الحديثة ما يسطع الأبصار، ويغري الناس بتعظيمها وعبادتها. ولا شك أن هؤلاء ملعونون بلعنة رسول الله، فلا يجوز أن تتخذ السرج على القبور؛ لأن اتخاذ السرج على القبور من أنواع الغلو فيها، ولأنه يدعو إلى تعظيمها، وقد يؤول الأمر بعد ذلك إلى أن تتخذ آلهة وأوثاناً تعبد مع الله جل وعلا.(16/203)
ص -274- ... "باب ما جاء في حماية المصطفى –صلى الله عليه وسلم- جناب التوحيد، وسده كل طريق يوصل إلى الشرك"
وقول الله عز وجل: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة: 128-129}.
وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم" رواه أبو داود بإسناد حسن، ورواته ثقات.(1).
وعن علي بن الحسين –رضي الله عنه- أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي –صلى الله عليه وسلم- فيدخل فيها فيدعو فنهاه وقال: ألا أحدثك حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا عليّ فإن تسليمكم يبلغني حيث كنتم" رواه في المختارة.(2)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أبو داود (2042).
(2) أخرجه الضياء المقدسي في "المختارة" (428).(16/204)
ص -275- ... فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية براءة.
الثانية: إبعاده أمته عن هذا الحمى غاية البعد.
الثالثة: ذكر حرصه علينا ورأفته ورحمته.
الرابعة: نهيه عن زيارة قبره على وجه مخصوص مع أن زيارته من أفضل الأعمال.
الخامسة: نهيه عن الإكثار من الزيارة.
السادسة: حثه على النافلة في البيت.
السابعة: أنه متقرر عندهم أنه لا يُصلى في المقبرة.
الثامنة: تعليله ذلك بأن صلاة الرجل وسلامه عليه يبلغه وإن بعد، فلا حاجة إلى ما يتوهمه من أراد القرب.
التاسعة: كونه صلى الله عليه وسلم في البرزخ تُعرض أعمال أمته في الصلاة والسلام عليه.
الشرح:
هذا الباب من جنس الأبواب قبله الواردة في حماية النبي عليه الصلاة والسلام جناب التوحيد، وفي سده كل طريق يوصل إلى الشرك. وأتى الشيخ –رحمه الله- هنا بآية براءة، وهي قول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128-129}.(16/205)
ص -276- ... فقوله: { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } يعني: عزيز عليه عنتكم، يعني: أن تكونوا في عنت ومشقة، فهذا عزيز عليه، ولا يرغب فيه عليه الصلاة والسلام.
قوله: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} لأنه عليه الصلاة والسلام عزيز عليه عنت أمته، فهو لهذا يأمرهم بكل خير، وينهاهم عن كل شر، ويحمي حمَى ما أمرهم به، وما نهاهم عنه، لأن الناس أقدموا على ما نُهوا عنه فإنهم أقدموا على مهلكتهم، وأقدموا على ما فيه عنتهم في الدنيا وفي الآخرة، والنبي –عليه الصلاة والسلام- عزيز عليه عنت أمته، أي: أن يقعوا في ما يعود عليهم بالوبال وبالمشقة، لهذا قال بعدها: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} لأن عزة مشقتهم عليه، وحرصه عليهم متلازمان، فمن حرصه علينا عليه الصلاة والسلام ومن كونه يعزُّ عليه عنتنا، أن حَمَى حِمَى التوحيد، وحمى جناب التوحيد، وسد كل طريق قد نصل بها إلى الشرك، عليه الصلاة والسلام، وهذا وجه الاستدلال من الآية على الباب.
وأما حديث أبي هريرة فوجه الشاهد منه قوله: "ولا تجعلوا قبري عيداً" والعيد يكون عيداً مكانياً كما جاء هنا، ويكون عيداً زمانيا، فقوله: "لا تجعلوا قبري عيداً" يعني: لا تصيروا قبري مكاناً تعودون إليه، أو تعتادون المجيء إليه في أوقات معلومة؛ فإن هذا قد يوصل إلى أن يُعظّم النبي عليه الصلاة والسلام كتعظيم الله –جل وعلا- فاتخاذ القبور عيداً من وسائل الشرك، ولهذا قال: "وصلوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم".(16/206)
ص -277- ... وكذلك حديث علي بن الحسين هو بمعنى الحديث السابق. ولفظ حديث علي بن الحسين أنه قال: ألا أحدثك حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً" قاله للرجل الذي كان يعتاد المجيء إلى فرجة كانت عند القبر؛ لأن اعتياده الدعاء عند القبر نوع من الغلو، ووسيلة إلى تعظيم القبر، واتخاذه عيداً. وهذا من وسائل الشرك.
فحمى النبي عليه الصلاة والسلام حمى التوحيد وحرس جنابه، وسدّ كل طريق توصل إلى الشرك، حتى في قبره عليه الصلاة والسلام، فإذا كان قد نهى عن اتخاذ قبره مسجداً، أو عيداً فمن باب أولى قبور غيره من الأنبياء والمرسلين، والصالحين، فإنهم أولى بذلك؛ لأنه أفضل خلق الله عليه الصلاة والسلام. فالحاصل أن بعض هذه الأمة خالف ما دعا إليه النبي –صلى الله عليه وسلم- وأمر به من حماية جناب التوحيد، فاتخذوا القبور مساجد وأعياداً، وبنوا عليها المشاهد، وأسرجوها، وقدموا لها الذبائح والنذور، وطافوا حولها، وجعلوها كالكعبة، وجعلوا الأمكنة حولها مقدسة أعظم من تقديس بقاع الله المباركة، بل إن عبّاد القبور تجد عندهم من الذل، والخضوع، والإنابة، والرغب، والرهب –حين يأتون إلى قبر النبي أو قبر الرجل الصالح أو قبر الولي- ما ليس في قلوبهم إذا كانوا في خلوة مع الله –جل جلاله- وهذا عين المحادة لله –جل وعلا- ولرسوله صلى الله عليه وسلم.(16/207)
ص -278- ... "باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان"
وقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} [النساء: 51].
وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60].
وقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} [الكهف: 21].
وعن أبي سعيد –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه" قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟" أخرجاه. (1).
ولمسلم عن ثوبان –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "إن لله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي ألا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (3456) ومسلم (2669) بنحوه.(16/208)
ص -279- ... يهلكها بسنة بعامة، وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة بعامة، وألا أسلّط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً"(1). رواه البرقاني في صحيحه، وزاد: "وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى".
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النساء.
الثانية: تفسير آية المائدة.
الثالثة: تفسير آية الكهف.
الرابعة: وهي أهمها: ما معنى الإيمان بالجبت والطاغوت؟ وهل هو اعتقاد قلب؟ أو هو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم (2889).(16/209)
ص -280- ... الخامسة: قولهم: إن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدى سبيلاً من المؤمنين.
السادسة: وهي المقصودة بالترجمة: أن هذا لا بد أن يوجد في هذه الأمة، كما تقرر في حديث أبي سعيد.
السابعة: التصريح بوقوعها، أعني عبادة الأوثان في هذه الأمة في جموع كثيرة.
الثامنة: العجب العجاب: خروج من يدّعي النبوة، مثل المختار، مع تكلّمه بالشهادتين، وتصريحه بأنه من هذه الأمة. وأن الرسول حق وأن القرآن حق، وفيه أن محمدا خاتم النبيين، ومع هذا يُصدق في هذا كله مع التضاد الواضح. وقد خرج المختار في آخر عصر الصحابة وتبعه فئام كثيرة.
التاسعة: البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية، كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة.
العاشرة: الآية العظمى أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم.
الحادية عشرة: أن ذلك الشرط إلى قيام الساعة.
الثانية عشرة: ما فيهن من الآيات العظيمة.
منها: إخباره بأن الله زوى له المشارق والمغارب، وأخبر بمعنى ذلك، فوقع كما أخبر، بخلاف الجنوب والشمال.
وإخباره بأنه أعطي الكنزين.(16/210)
ص -281- ... وإخباره بإجابة دعوته لأمته في الاثنتين.
وإخباره بأنه مُنع الثالثة.
وإخباره بوقوع السيف وأنه لا يرفع إذا وقع.
وإخبار بظهور المتنبئين في هذه الأمة.
وإخباره ببقاء الطائفة المنصورة.
وكل هذا وقع كما أخبر مع أن كل واحدة منها من أبعد ما يكون في العقول.
الثالثة عشرة: حصر الخوف على أمته من الأئمة المضلين.
الرابعة عشرة: التنبيه على معنى عبادة الأوثان.
الشرح:
هذا "باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان" وكتاب التوحيد من أوله إلى هذا الموضع ذكر فيه الإمام محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله- مسائل كثيرة من التوحيد، كبيان وجوب معرفة التوحيد، والعلم به والخوف من الشرك، وبيان بعض أفراد التوحيد، وبعض أفراد الشرك، الأكبر والأصغر، ثم بين شيئاً مما يتعلق بوسائل ذلك، وما يتعلق بالصور المختلفة التي وقعت من هذا الشرك في الأمم قبلنا وعند الجاهليين، يعني: في الأميين وفي أهل الكتاب، وكذلك مما وقع في هذه الأمة. ثم ذكر الوسائل والطرق الموصلة إلى الشرك، يعني: وسائل الشرك التي توصل إليه، وطرق الشرك الموصلة إليه.(16/211)
ص -282- ... وقد يحتج بعض المشركين والخرافيين بأن هذه الأمة حماها الله –جل وعلا- من أن تعود إلى عبادة الأوثان، وعصمت من الوقوع في الشرك الأكبر بدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام: "إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم".(1). فلما قال عليه الصلاة والسلام: "إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب".(2). علمنا أن عبادة الشيطان لا تكون في هذه الأمة، وأن الشرك الأكبر لا يكون، هكذا يدعي القبوريون.
والجواب: أن هذا الاحتجاج في غير موضعه، وفهم ذلك الدليل، وذلك الحديث ليس على ذلك النحو، وجواب ما قالوا من أن قوله عليه الصلاة والسلام: "إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب" هو أن نقول: إن الشيطان لا يعلم الغيب، وهو حريص على إغواء بني آدم، كما قال تعالى: {لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء: 62] هو أيس ولكن لم يأيسه الله –جل وعلا- فالشيطان أيس بنفسه لما رأى عز الإسلام، ولما رأي ظهور التوحيد على الكفر في جزيرة العرب، فأيس لما رأى ذلك، ولكنه لم يأيسه الله –جل وعلا- من أن يعبد في جزيرة العرب.
ثم إن في قوله: "أيس أن يعبده المصلون" إشارة إلى أن أهل الصلاة هم الذين لا تتأتى منهم عبادة الشيطان؛ لن المصلين لا شك أنهم آمرون بالمعروف ناهون عن المنكر؛ لأن المصلي هو الذي أقام الصلاة، ومن أقام الصلاة فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وأعظم المنكر الذي سينكره
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه.(16/212)
ص -283- ... المصلي هو الشرك بالله –جل وعلا- فيكون الشيطان بذلك قد يئس أن يعبده من أقام الصلاة على حقيقتها كما أراد الله جل وعلا.
فليس في هذا الحديث –إذاً- أن عبادة الشيطان لا تكون في هذه الأمة، بل فيه أن الشيطان أيس لما رأى عز الإسلام، ولكنه لم يُأيّس؛ ولهذا فإن طائفة من العرب ارتدوا عن الإسلام بعد وفاة النبي –صلى الله عليه وسلم- بقليل، ولا شك أن ذلك الارتداد كان من عبادة الشيطان؛ لأن عبادة الشيطان تكون –أيضاً- بطاعته، كما قال جل وعلا: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس: 60] وعبادة الشيطان –كما في تفسير الآية- بطاعته في الأمر والنهي، وطاعته في الشرك، وطاعته في ترك الإيمان وترك لوازمه.
وقد كان إمام الدعوة –رحمه الله- مستحضراً لهذا الدليل الذي يحتج به المشركون –من هذه الأمة، من أهل عصره وغيرهم- على نفي عبادة هذه الأمة للأوثان، وعدم وقوع الشرك منهم، فأراد –رحمه الله- التنبيه على بطلان الاستدلال بذلك الدليل على ما ادعوه، بل هو لا يدل على قولهم، إذ قد عرفنا معناه وتفسيره فيما تقدم. والأدلة جاءت مُصرحة أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان، وهذا مما يُصحح معنى ما أشرنا إليه من كون الشيطان قد يأس من أن يعبده المصلون في جزيرة العرب.
وقول الإمام رحمه الله: "باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان" معناه أن عبادة الأوثان واقعة في هذه الأمة بنص قول النبي صلى الله عليه وسلم كما وقعت في الأمم السالفة، فهذه الأمة ستقع فيها عبادة غير الله سبحانه وتعالى أيضاً.(16/213)
ص -284- ... وقوله: "باب ما جاء" يعني: من النصوص في الكتاب وفي السنة.
وقوله: "أن بعض هذه الأمة" نص على وقوع ذلك من بعضهم، لا من كلهم؛ لأن عبادة الأوثان لم تكن من الأمة كلها، وإنما كانت من بعض هذه الأمة، وإلا فلا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرة على الحق كما قال عليه الصلاة والسلام: "ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم إلى قيام الساعة".
والمقصود بـ"بعض هذه الأمة" ذلك البعض المرذول، فنفهم من هذا أن هناك من الأمة من يقوم بالاستمساك بالأمر الأول الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وكان عليه صحابته في أمر التوحيد وأمر العبادة والسنن.
لكن هل المقصود بقوله: "هذه الأمة" أمة الدعوة أو أمة الإجابة؟
إذا قلنا: أمة الدعوة فلا شك أن هناك من أمة الدعوة –وهم جميع الجن والإنس- من عبد الأوثان، واستمر على عبادتها، بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرض ببعثه، ولم يقبل ذلك.
وإذا قلنا: إن المراد بالأمة أمة الإجابة، يعني، أن من أجاب الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته تتقادم بهم العهود، حتى يرتدوا على أدبارهم، ويتركوا دينهم، كما جاء في بابٍ سلف في أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم الغلو في الصالحين، لكن الظاهر هنا قوله: "بعض هذه الأمة يعبد الأوثان" يعني: به أمة الإجابة في أنهم يتركون دينهم، ويتوجهون إلى الأوثان ويعبدونها.
و"الأوثان" جمع وثن، والوثن هو كل شيء توجه إليه الناس بالعبادة، إما بأن يدعوه مع الله –جل وعلا- أو أن يستغيثوا به، أو أن يعتقدوا فيه أنه(16/214)
ص -285- ... ينفع ويضر بدون إذن الله –جل وعلا- أو أنه يُرجى رجاء العبادة، ويخاف منه كخوف الله –جل وعلا- أي خوف السر، ونحو ذلك من التوجهات، والعبادات، فمن اعتقد فيه شيء من ذلك فهو وثن من الأوثان، وقد يكون راضياً بتلك العبادة، وقد لا يكون راضياً.
والوثن ليس هو المصَوَّر على شكل صورة، بل الصنم هو ما كان على شكل صورة- كما سبق أن ذكرنا- فالفرق بين الأوثان والأصنام: أن الأصنام هي الآلهة التي صورت على شكل صورة، كأن جعل لنبي من الأنبياء صورة يعبدها، أو يجعل لرجل من الرجال –كبوذا ونحوه- صورة ويسجد لها، ويعبدها، فهذه تسمى أصناماً، وأما الأوثان فهي الأشياء المعبودة أيّا كانت، فقد تكون جداراً، أو قبراً، ا, رجلاً ميتاً، أو صفة من الصفات يتخذها معبودة من دون الله. فكل ما توجّه إليه العباد بنوع من أنواع العبادة فهو وثن من الأوثان.
قوله: وقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51]. الجبت: اسم عام لكل ما فيه مخالفة لأمر الله –جل وعلا- وأمر رسوله –صلى الله عليه وسلم- في الاعتقاد، فقد يكون الجبت سحراً، وهذا هو الذي فسر به كثير من السلف الجبت، وقد يكون الجبت: الكاهن، وقد يكون الجبت الشيء المرذول الذي يضر صاحبه.
قوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} يعني: يؤمنون بالسحر، ويؤمنون بالباطل، وبعبادة غير الله جل وعلا.(16/215)
ص -286- ... ويؤمنون بـ{َالطَّاغُوتِ} والطاغوت: مشتق من الطغيان، وهو مجاوزة الحد، فالطاغية هو الذي تجاوز الحد في أمر الدين، بأن جعل ما لله له، ولهذا يُعرف ابن القيم –رحمه الله- الطاغوت بأنه: "كل ما تجاوز به العبد حده من معبود، أو متبوع، أو مطاع".
ومعنى مجاوزة العبد به حده: أنه تعدى حد ذلك الشيء الذي توجه إليه، وهو الحد الذي لم يأذن به الشرع مجاوزته له، فتوجهه إليه بالعبادة، أو اعتقاده فيه بعض خصائص الإلهية من أنه يغيثه كيف ما شاء، ومن أنه يملك غوثه، ويملك الشفاعة له، أو أن يغفر له، وأن يعطيه، ويملك أن يقربه إلى الله –جل وعلا- ونحو ذلك مما لا يملكه المعبودون، فإن كل ذلك مجاوزته بذلك المتخذ عن الحد الذي جُعل له في الشرع.
فهذا معنى مجاوزة الحد في المعبودين، والمقصود بقوله: "أو متبوع" مثل العلماء، والقادة في أمر الدين، ومعنى مجاوزة الحد فيهم: أنهم صاروا يتبعون في كل ما قالوا، وإن أحلّوا لهم الحرام، وحرموا الحلال، أو جعلوا لهم السنة بدعة، والبدعة سنة، وهم يعلمون أصل الدين، ولكنهم خالفوا لأجل ما قال فلان، فإن هذا قد تُجُوِّز به حده، فإن حد المتبوع في الدين أن يكون آمراً بما أمر به الشرع، ناهياً عما نهى عنه الشرع. فإذا أحل الحرام، أو أحرم الحلال فإنه يعتبر طاغوتاً، ومن اتبعه فإنه يكون قد تجاوز به حده، وقد أقرّ بأنه طاغوت، واتخذه كذلك.
وقوله: "أو مطاع" يشمل الأمراء والملوك، والحكام، والرؤساء، الذين يأمرون بالحرام فيطاعون، ويأمرون بتحريم الحلال فيطاعون في ذلك مع علم المطيع بما أمر(16/216)
ص -287- ... الله –جل وعلا- به فهؤلاء اتخذوهم طواغيت؛ لأنهم جاوزوا بهم حدهم. فهذا شرح لمعنى ما ذكره الإمام ابن القيم –رحمه الله- من تعريف الطاغوت.
وقوله في الآية المتقدمة: {َالطَّاغُوتِ} يدخل فيه كل هذه الأنواع، أي الذين عبدوا، والذين اتبعوا، والذين أطيعوا.
ووجه مناسبة هذه الآية للباب: أن الإيمان بالجبت والطاغوت حصل ووقع من الذين أوتوا نصيباً من الكتاب من اليهود والنصارى، وإذا كان قد وقع منهم فسيقع في هذه الأمة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر أن ما وقع في الأمم قبلنا سيقع في هذه الأمة، كما قال في حديث أبي سعيد الآتي: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه" فمثل بشيء صغير، وهو دخول حجر الضب –الذي لا يمكن أن يفعل- تنبيها على أن ما هو أعلى من ذلك سيقع من هذه الأمة، كما وقع من الأمم قبلنا.
وقد حصل –كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم- فإن من هذه الأمة من آمن بالسحر، ومنهم من آمن بعبادة غير الله، ومنهم من أطاع العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله، فكانوا بذلك متبعين سنن من كان قبلهم، وحصل منهم إيمان بالجبت والطاغوت كما حصل من الأمم قبلهم.
"وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} [المائدة: 60]". على هذه القراءة {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} يكون الطاغوت مفعول (عبد) و(عبد) فعلا معطوفا على قوله: (لعن) كأنه قال: بتقديم وتأخير: من(16/217)
ص -288- ... لعنه الله ومن عبد الطاغوت. ووجه الاستشهاد من الآية: أن عبادة الطاغوت وقعت في أولئك الملعونين، وبما أن ما وقع في الأمم السالفة بخبر النبي صلى الله عليه وسلم سيقع في هذه الأمة، فإننا نعلم أن في هذه الأمة من سيعبد الطاغوت كما عبدها أولئك، وعبادة الطاغوت عامة –كما ذكرنا- يدخل فيها عبادة الأوثان من عبادة القبور، وتأليه أصحابها، والتوسل بهم إلى الله –جل وعلا- والاستشفاع بهم إلى الله –جل وعلا- أو طلب الشفاعة منهم، ونحو ذلك من الوسائل الشركية، أو ما هو من الشرك الأكبر، فحصلت عبادة الأوثان من القبور، ومن المشاهد، ومن الأشجار ومن الأحجار، ونحو ذلك مما اعتقد فيه الجهلة الذين تركوا دين محمد عليه الصلاة والسلام.
وقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} [الكهف: 21]. قصة أصحاب الكهف معروفة، وهذه الجملة بعض آية من قصة أصحاب الكهف، جعلهم الله –جل وعلا- آية، كما قال تعال: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} [الكهف: 25] واطلع الناس على أنهم مكثوا أحياء هذه المدة الطويلة، فاعتقدوا فيهم، ولمّا ماتوا تنازعوا في أمرهم:
فمنهم من قال: {ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً}
ونهم من قال: اجعلوا لهم فناء وداراً، وعظّموا مكانهم، واختلف الناس فيهم في ذلك الزمان، قال الله جل وعلا: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى(16/218)
ص -289- ... عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} [الكهف: 21]. فَمَنْ الذين غلبوا على الأمر؟ اختلف المفسرون في ذلك:
فقال قائل: هم المسلمون –مسلمو ذلك الزمان- حصل منهم تعظيم لأصحاب الكهف، فقالوا: {ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً} [الكهف: 21] وقالوا: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} تعظيماً لهم ودلالة للناس عليهم، فإذا كان هذا القول راجحاً فإنه من وسائل الشرك بالله يؤدي إلى عبادة تلك القبور والاعتقاد في أصحاب الكهف، وهذا القدر حصل في هذه الأمة.
والقول الثاني: أن الذين غلبوا على أمرهم هم المشركون، يعني أتباع ذلك الدين لاعتقادهم الجاهلي، ولما في قلوبهم من الشرك والبدع خالفوا بها أنبياءهم، قالوا: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً}
والقول الثالث: -وهو الذي رجحه ابن كثير رحمه الله، ورجحه عدد أيضا من أهل العلم- أن الذين غلبوا على أمرهم هم الكبراء، والأمراء، وأصحاب النفوذ فيهم، لأن الذي له الغلبة في الأمر هو من يملك الأمر والنهي في الناس وهم الكبراء، وأصحاب النفوذ، وملوك ذلك الزمان، وأمراؤه، عظّموا هؤلاء الصالحين، وقالوا: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} وقد حصل هذا في تلك الأمة، وما دام أنه حصل فإنه سيحصل في هذه الأمة؛ لأنه ما من خصلة من الشرك حصلت في الأمم قبلنا إلا وحصلت في هذه الأمة، حتى ادعى بعض هذه الأمة أنه الله –جل وعلا- وأن الله يحل فيه، ونحو ذلك،(16/219)
ص -290- ... بل قد ادعوا أن روح الإله تتناسخ في أناس معينين كما هو اعتقاد طوائف من الباطنيين ونحو ذلك، وهذا كما قال عليه الصلاة والسلام: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة"
قوله: "سنن" يروى بضم السين وفتح النون، وهو جمع سُنة، وهي الطريقة، يعني كأنه قال: لتتبعن طرائق من كان قبلكم يعني في الدين. ويروى بفتح السين والنون معا، وهو على هذه الرواية مفرد، ومعناه: السبيل والطريق، يعني: لتتبعن سبيل من كان قبلكم.
واللام في قوله: "لتتبعن" هي الواقعة في جواب القسم، فيفهم من ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام أقسم على ذلك، فقال مؤكداً: والله لتتبعن سنن من كان قبلكم.
وإنما أقسم عليه الصلاة والسلام ليؤكد هذا الأمر تأكيداً عظيما، وأن هذه الأمة ستتبع –لا محالة- طريق وسبيل من كان قبلها من الأمم، وهذا تحذير؛ لأن الأمم السالفة إما أن يكونوا من أهل الكتاب اليهود والنصارى، وهؤلاء قد وصفهم الله –جل وعلا- بأنهم مغضوب عليهم وضالون، فإذا اتبعت هذه الأمة سبيلهم، فمعنى ذلك أنها تعرضت للغضب واللعنة، وقد وجد في هذه الأمة من سلك سبيل اليهود، ومن سلك سبيل النصارى؛ ولهذا قال بعض السلف: "من فسد من علمائنا ففيه شبه باليهود، ومن فسد من عُبادنا ففيه شبه بالنصارى" لأن اليهود خالفوا على علم، والنصارى خالفت على ضلالة، وقد جل وعلا: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] والمغضوب عليهم هم اليهود، والضالون هم النصارى، كما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم.(16/220)
ص -291- ... قوله: "حذو القذة باقذة" أي مثلا بمثل، وهو مثل للشيئين يستويان، ولا يتفاوتان. مأخوذ من قذة السهم، وهي أذنه؛ لأن كل قذة تقر على صاحبتها، ثم تقطع على قياسها، فلا يكون بينها تفاوت. وقد وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فحصل في هذه الأمة مثل ما حصل في الأمم قبلنا في أبواب الربوبية، وفي أبواب الإلهية، وفي الأسماء والصفات، وكذلك في العمل، وفي السلوك، وكذلك القول في أفعال الله –جل وعلا- فكل شيء كان فيمن قبلنا جاء ووقع في هذه الأمة، نسأل الله –جل وعلا- السلامة والعافية.
قوله: "حتى لو دخلوا جحر ضب لخلتموها" قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟" أخرجاه(1)." وجه الدلالة من هذا الحديث ظاهرة، بل عماد هذا الباب على هذا الحديث من أن كل كفر وشرك وقع في الأمم السالفة فسيقع في هذه الأمة، فإن الأمم السالفة عبدت الأوثان وكفرت بالله –جل وعلا- وسيقع في هذه الأمة من يعبد الأوثان ومن يكفر بالله –جل وعلا- في الربوبية وفي الإلهية وفي الأسماء والصفات وفي أفعال الله –جل وعلا- وفي الحكم والتحاكم، وهكذا في أنواع كثيرة مما حصل فيمن قبلنا حتى في أمور السلوك والبدع، بل حتى في أمور الأخلاق والعادات التي تتصل بالدين فإنه سلكت هذه الأمة مسلك الأمم قبلها مخالفة نهي النبي صلى الله عليه وسلم.
ووجه الاستدلال من حديث ثوبان –وهو حديث طويل – قوله عليه الصلاة والسلام: "وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين" والأئمة المضلون هم الذين اتخذهم الناس أئمة، إما من جهة الدين، وإما من جهة ولاية الحكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يعني البخاري ومسلم.(16/221)
ص -292- ... والأئمة المضلون يملكون زمام الناس، فيضلون الناس بالبدع وبالشركيات، ويحسنونها لهم حتى تغدو في أعينهم حقاً، وكذلك أصحاب الحكم فإنهم إذا كانوا مضلين فإن بيدهم الأمر الذي يجعلهم يفرضون على الناس أموراً ويلزمونهم بأشياء مضادة لشرع محمد صلى الله عليه وسلم من أمور العقيدة والتوحيد، ومن أمور السلوك والعمل، ومن أمور الحكم والتحاكم، وهكذا وقع في هذه الأمة ما خاف منه عليه الصلاة والسلام، فكثر الأئمة المضلون في الأمة، الأئمة المضلون من جهة الاتباع، والأئمة المضلون من جهة الطاعة.
قوله: "إذا وقع عليه السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان" هذا نص صحيح من رواية البرقاني في صحيحه. فهل المراد من قوله: "حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين" أن هذا الحي يترك بلاد المسلمين، ويذهب إلى أرض المشركين؟ أو أنه يلحق بالمشركين في الصفات والخصال؟ يحتمل هذا وهذا.
قوله: "وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان" الفئام: هي الجماعات الكبيرة، وهذا ظاهر المناسبة لقول الشيخ –رحمه الله- في الباب "باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان".
قوله عليه الصلاة والسلام: "ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى" هذه الطائفة المنصورة هي التي قال فيها عليه الصلاة والسلام في حديث آخر:(16/222)
ص -293- ... "ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق" وهي التي قال فيها عليه الصلاة والسلام: "ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة" فالطائفة المنصورة هي الفرقة الناجية، وهي الجماعة بجمع أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام. وسميت منصورة؛ لأن الله –جل وعلا- نصرها على من نازعها بالحجة والبيان، ونصرها الذي وعدت به ليس نصراً بالسنان، ولكنه بالحجة والبيان، فهم وإن هُزموا في بعض المعارك أو أديلت دولتهم في بعض الأحيان فهم الظاهرون على من سواهم بالحجة والبيان، وهم المنصورون بما أعطاهم الله –جل وعلا- من الحجة والنصوص والصواب والحق على من سواهم، فهم على الحق وسواهم على الباطل.
وهذان اللفظان –فرقة ناجية، وطائفة منصورة- اسمان لشيء واحد، وإنما هو من باب تنوع الصفات فقال عنها الطائفة المنصورة هنا: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة" لأنها موعودة بالنصر كما قال جل وعلا: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ} [غافر: 51] وكما قال أيضاَ: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171-173] فقولهم هو المنصور وهو الظاهر وحجتهم هي الظاهرة، وقد يكون أيضاً لهم من النصر والتمكين في أرض الله ما أعطاهم الله –جل وعلا- من ذلك.(16/223)
ص -294- ... وهم أيضا الفرقة الناجية التي جاءت في حديث الافتراق، لأنه موعودة بالنجاة من النار، فهم موصوفون بالنصر، وموصوفون بالنجاة من النار، وموصوفون بالنصر على عدوهم بالحجة والبيان، وقد يكون مع ذلك نصر بالسيف والسنان ونحو ذلك.(16/224)
ص -295- ... باب: ما جاء في السحر"
وقول الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة: 102] وقوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء: 51].
قال عمر: "الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان". وقال جابر: "الطواغيت كهان كان ينزل عليهم الشيطان في كل حي أحد".
وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "اجتنبوا السبع الموبقات" قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات".(1).
وعن جندب مرفوعا: "حد الساحر ضربه بالسيف" رواه الترمذي(2). وقال: الصحيح أنه موقوف.
وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة قال: "كتب عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، قال: فقتلنا ثلاث سواحر".(3).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (2766) و(5764) و(6857) ومسلم (89).
(2) أخرجه الترمذي (1460).
(3) أخرجه البخاري (3156).(16/225)
ص -296- ... وصح عن حفصة رضي الله عنها أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقُتلت،(1). وكذلك صح عن جندب، قال أحمد: عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية البقرة.
الثانية: تفسير آية النساء.
الثالثة: تفسير الجبت والطاغوت، والفرق بينهما.
الرابعة: أن الطاغوت قد يكون من الجن، وقد يكون من الإنس.
الخامسة: معرفة السبع الموبقات المخصوصات بالنهي.
السادسة: أن الساحر يكفر.
السابعة: أنه يُقتل ولا يُستتاب.
الثامنة: وجود هذا في المسلمين على عهد عمر، فكيف بعده!؟.
الشرح:
هذا "باب ما جاء في السحر" ومناسبة ذكر السحر لكتاب التوحيد: أن السحر نوع من الشرك، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "من سحر فقد أشرك" فالسحر أحد أنواع الشرك الأكبر بالله –جل وعلا- فمناسبته ظاهرة، لأنه مضاد لأصل التوحيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مالك في "الموطأ" (46) بلاغاً، ووصله عبد الرزاق10/180.(16/226)
ص -297- ... والسحر في اللغة: هو عبارة عما خفي ولطف سببه، ومعنى خفي: صار سبب ذلك الشيء خفياً لا يقع بظهور، وإنما يقع على وجه الخفاء، ولهذا سمي آخر الليل سحرا لذلك، وكذلك قيل في أكلة آخر الليل سحور، وذلك لأنها تقع على وجه الخفاء وعدم الاشتهار والظهور من الناس.
فهذه اللفظة (سِحرٌ) وما اشتقت منه تدل على خفاء في الشيء، ولهذا فإنه في اللغة يطلق السحر على أشياء كثيرة، منها ما يكون من جهة المقال، ومنها ما يكون من جهة الفعل، ومنها ما يكون من جهة الاعتقاد، وسيأتي في هذا الباب وفي الباب الذي بعده "بيان شيء من أنواع السحر" ما يتصل بذلك.
وأما السحر الذي هو كفر وشرك أكبر بالله –جل وعلا- فهو استخدام الشياطين والاستعانة بها لحصول أمر بواسطة التقرب لذلك الشيطان بشيء من أنواع العبادة.
والسحر عرفه الفقهاء بقولهم: رُقى وعزائم وعُقد يُنفث فيها فيكون سحراً يضُرُّ حقيقة، ويُمرض حقيقة، ويقتل حقيقة. فحقيقة السحر إذاً أنه استخدام للشياطين في التأثير، ولا يمكن للساحر أن يصل إلى إنفاذ سحره حتى يكون متقربا إلى الشياطين، فإذا تقرب إليها خدمته شياطين الجن،بأن أثّرت في بدن المسحور، فلكل ساحر خادم من الشياطين يخدمه، ولكل ساحر مستعان به إلى الشياطين، فلا يمكن للساحر أن يكون ساحراً على الحقيقة إلا إذا تقرب إلى الشياطين، ولهذا فإن السحر شرك بالله جل وعلا.
وهناك شيء قد يكون في الظاهر أنه سحر، ولكنه في الباطن ليس بسحر، وهذا ليس الكلام فيه، وإنما الكلام فيما كان من السحر بالاستعانة(16/227)
ص -298- ... بالشياطين، وباستخدام الرقى والتعويذات والعُقد والنفث فيها، وقد قال جل وعلا: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4] والنفاثات: هن السواحر اللاتي يعقدن العقد وينفثن فيها، خصّت الإناث بالاستعاذة منهن؛ لأن الغالب في السحر أن الذي يستخدمه النساء، فجرى ذلك مجرى الغالب، والنفاثات: جمع نفّاثة، صيغة مبالغة من النفث، لأنها تكثر النفث في العقدة برقى وتعازيم وتعويذات، تستخدم فيه الجن لتخدم هذه العقدة التي فيها شيء من بدن المسحور، أو فيها شيء يتعلق بالمسحور حتى يكون ذلك مؤثرا فيه.
وقد سحر يهودي النبي –صلى الله عليه وسلم- في مُشطٍ ومشاطة، يعني في أشياء من شعره عليه الصلاة والسلام حتى يخيل للنبي –صلى الله عليه وسلم- أنه يفعل الشيء ولا يفعله من جهة نسائه عليه الصلاة والسلام، فقد كان سحر ذلك اليهودي مؤثراً في بدنه عليه الصلاة والسلام، لكنه لم يكن مؤثراً في علمه، ولا في عقله، ولا في روحه عليه الصلاة والسلام، وإنما في بدنه يخيل إليه أنه قد واقع نساءه، وهو لم يواقع ونحو ذلك.
وهذا السحر الذي فيه استخدام الشياطين شرك وكفر بالله –جل وعلا- كما قال سبحانه: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102] والذي تلته الشياطين على ملك سليمان هو ما قرؤوه في كتب السحر وما يتصل بذلك من عمل السحر، قال جل وعلا: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102] فعلل كفر الشياطين بقوله: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ(16/228)
ص -299- ... عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة: 102] قال سبحانه: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُر}
وتعلم السحر وفهم كيف يكون، وكيف يعمل السحر، كل هذا لا يمكن أن يكون إلا بالكفر والشرك، ولكن هناك مراتب:
إحداها: أن يتعلم ذلك نظريا ولا يعمله. الثانية: أن يتعلمه ويعمله ولو مرة، وهناك مرتبة الساحر الذي يتعلم ويعمل به دائما، فما حكم هذه المراتب؟
قال جل وعلا: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُر} [البقرة: 102] فدل على أن تعلمه بمجرده كفر، ولهذا نقول: الصحيح أن تعلم السحر –ولو بدون عمل- شرك وكفر بالله –جل وعلا- بنص الآية، لأنه لا يمكن أن يتعلم السحر إلا بتعلم الشرك بالله –جل وعلا- وكيف يشرك، وإذا تعلم الشرك فهو مشرك بالله جل وعلا.
وبعض العلماء يقول: السحر قسمان: كقول الشافعي وغيره: منه ما يكون بالاستعانة بالشياطين فهذا كفر وشرك أكبر، ومنه ما يكون بالأدوية والتدخينات فهذه فسق ومحرم، ولا يكفر فاعله إلا إذا استحله.
وهذا التقسيم من الشافعي ومن تبعه هو من جهة الواقع، يعني نظروا في الذين يمارسون ذلك، فمنهم من يقول: إنه ساحر وليس كذلك من حيث النظر الشرعي، يعني: أنه ليس السحر الذي وصف في الشرع، فيقول: هو ساحر، وهو يستخدم أدوية وتعويذات، وفي الحقيقة هو مشعوذ، ولا يصدق عليه اسم الساحر، وهذا فيما يفعل يؤثر عن طريق الأدوية.(16/229)
ص -300- ... وأما الصرف والعطف، يعني: جلب محبة امرأة لزوجها، أو صرف محبة المرأة أو العكس، فهذا من القسم الأول؛ لأنه من نواقض الإسلام، فالسحر من نواقض الإسلام؛ لأنه شرك بالله، ومنه الصرف والعطف؛ لأنه لا يمكن لأحد أن يصل إلى روح وقلب من يُراد صرفه أو العطف إليه إلا بالشرك؛ لأن الشيطان هو الذي يُؤثر على النفس ولن يخدم الشيطان الإنسي الساحر إلا بعد أن يشرك بالله جل وعلا.
فتحصل أن السحر بجميع أنواعه فيه استخدام للشياطين واستعانة بها، والشياطين لا تخدم إلا من تقرّب إليها بالذبح، أو بالاستغاثة، أو بالاستعاذة، ونحو ذلك. يعني: أن يصرف إليها شيئا من أنواع العبادة، بل قد نظرت في بعض كتب السحر، فوجدت أن الساحر –بحسب ما وَصَف ذلك الكاتب- لا يصل إلى حقيقة السحر، وتخدمه الجن كما ينبغي، حتى يُهين القرآن، ويُهين المصحف، وحتى يكفر بالله، ويسب الله –جل وعلا- ونبيه- صلى الله عليه وسلم- وهذا قد ذكره بعض من اطلع على حقيقة الحال.
فالسحر إذاً شرك بالله تعالى، وكل ساحر مشرك، وقتل الساحر –فيما سيأتي- على الصحيح أنه قتل ردة، لا قتل تعزير، فالشيخ –رحمه الله – عقد هذا الباب "باب ما جاء في السحر" لبيان تلك المسألة.
وقول الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة: 102] وجه الاستدلال بهذه الآية قوله: {مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} يعني: ما له في الآخرة من نصيب، والخلاق: هو النصيب. وقوله:(16/230)
ص -301- ... {لَمَنِ اشْتَرَاهُ} يعني: السحر، والاشتراء: أن يأخذ شيئاً ويدفع عوضه، فحقيقة الشراء أن تشتري سلعة مثلا وتدفع ثمنها، فتأخذ مثمناً وتدفع ثمنه. والساحر ومن تعلم السحر اشترى السحر. أي أخذ السحر، وبذل توحيده عوضاً، فالثمن هو التوحيد، والإيمان بالله وحده، والمثمن هو السحر، ولهذا قال جل وعلا: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ} يعني: من دفع دينه عوضاً عن ذلك الشي الذي أخذه وهو السحر {مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} يعني: من نصيب، وهكذا المشرك ليس له في الآخرة من نصيب، فوجه الاستدلال ظاهر في أن الساحر قد جعل دينه عوضاً عن ذلك الشيء الذي اشتراه وتعلمه وعمل به.
"وقوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوت} [النساء: 51].
قال عمر: "الجبت: السحر". وهذا في ذم أهل الكتاب فإن أهل الكتاب لما آمنوا بالسحر ذمهم الله –جل وعلا- ولعنهم وغضب عليهم، لأنه يكثر السحر واستعماله فيهم، فذمهم الله –جل وعلا- بسبب ذلك، وإذا كان الله ذمهم ولعنهم وغضب عليهم لأجل ذلك، فهذا يفيد أنه من المحرمات ومن الكبائر، وإذا كان فيه إشراك بالله –جل وعلا- فظاهر أنه شرك بالله جل وعلا.
وقوله: والطاغوت: الشيطان"يعني: أن الجبت اسم عام يشمل أشياء كثيرة –كما تقدم- ومن أبرزها وأظهرها عند اليهود السحر، فيؤمنون بالجبت يعني السحر، لأنه هو أظهر الأشياء عندهم، ويؤمنون بالطاغوت، يعني: بالشيطان، وهو كل ما توجهوا إليه بالطاعة، وبَعُد عن الحق، وعن الصواب.(16/231)
ص -302- ... وقال جابر:(1). "الطواغيت كهان كان ينزل عليهم الشيطان في كل حي أحد". وهذا يأتي بيانه في "باب ما جاء في الكهان".
"وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "اجتنبوا السبع الموبقات" قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: "الشرك بالله، والسحر" وجه الاستدلال من ذلك: أن السحر من الموبقات، والموبقات: هي التي تُوبق صاحبها، وتجعله في هلاك وخسارة في الدنيا والآخرة، وهذه السبع أكبر الكبائر، وعطف السحر على الشرك بالله ليس عطفاً بين متغايرين في الحقيقة، وإنما هو عطف بين خاص وعام، فالشرك بالله يكون بالسحر ويكون بغيره، فعطف السحر على الشرك للتنصيص عليه، والسحر –كما ذكرنا- أحد أفراد الشرك بالله –جل وعلا- وعطف الخاص على العام أمثلته كثيرة، منها قوله جل وعلا: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} فعطف جبريل وميكال على الملائكة، وهما منهم، من باب عطف الخاص على العام.
وعن جندب مرفوعا: "حد الساحر ضربه بالسيف" رواه الترمذي. وقال: الصحيح أنه موقوف. روي هكذا "ضربه" وهو الأصح، وروي "ضربة" فحد الساحر قتله بالسيف، وعلى رواية "ضربة" لا يكون لها مفهوم، يعني: إن مات بضربة أو يضرب ضربتين أو ثلاثاً حتى يموت؛ لأن العدد لا مفهوم له.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يعني: ابن عبد الله.(16/232)
ص -303- ... قوله: "حد الساحر" هنا لم يفرق بين ساحر وساحر، ولم يأت في أدلة الكتاب والسنة التفصيل في اسم الساحر الذي يُحد، أو الذي وصف بالكفر بين نوع ونوع من التأثير، فالأنواع التي يستخدمها السحرة مما يصدق عليها أنها سحر في التأثير، وفي الأمراض، وفي التفريق، وفي التأثير على العقول وعلى القلوب، ونحو ذلك من أنواع التأثير الخفي الذي يكون باستخدام الشياطين أو بأمور خفية، فهذا كله لا يفرق فيه فاعل وفاعل، والأدلة ما فرّقت؛ فلهذا قال العلماء: الصحيح أن الساحر من أي نوع حدّه أن يقتل، وهل حدُّه حد كفر وردة، أو حد لأجل أنه قتل، فيكون حدا لأجل القتل، أو حد تعزير؟
اختلف العلماء في ذلك، والصحيح من هذه أنه في الجميع حد ردة؛ لأن حقيقة السحر أنه لا بد أن يكون فيه إشراك بالله –جل وعلا- فمن أشرك بالله –جل وعلا- فقد ارتد وحل دمه وماله.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية تفصيل يقول فيه ما مقتضاه: إن الساحر قد لا تُدرك حقيقة سحره فيُترك أمره في قتله إلى الإمام، إذا رأى المصلحة في قتله قتله، وإن لم ير المصلحة في قتله لم يقتله، ويعني بالمصلحة المصلحة الشرعية، فتحصّل من ذلك الأقوال في حد الساحر هي:
الأول: أنه يقتل مطلقاً ردة؛ لأنه لا يكون إلا بشرك.
والقول الثاني: أنه يقتل ردة إذا كان سحره بشرك، ويقتل حداً إذا كان سحره أدى إلى قتل غيره بغير ما فيه إشراك، من مثل الأدوية، والتعويذات ونحو ذلك مما ذكرنا.
والقول الثالث: القول الذي عُزي إلى شيخ الإسلام: من أنه كالزنديق يُترك أمره إلى الإمام بحسب ما يراه، إن رأى المصلحة الشرعية في قتله قتله، وإلا عاقبه بما دون القتل.(16/233)
ص -304- ... قوله: "وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة قال: "كتب عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، قال: فقتلنا ثلاث سواحر" هذا ظاهر في الأمر بقتل الساحر والساحرة بدون تفصيل، ولأن حقيقة السحر لا تكون إلا بشرك بالله –جل وعلا- وذلك ردة.
قوله: "وصح عن حفصة رضي الله عنها أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقُتلت، وكذلك صح عن جندب، قال أحمد: عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
يعني أن السحر يجب أن يقتل وهذا حده سواء قلنا: إنه يقتل لحد الردة، أو يقتل لحد القتل، أو يقتل تعزيراً، فالصحابة رضوان الله عليهم أفتوا بقتله، وأمروا بقتله، وذلك بدون تفريق، وهذا هو الواجب ألا يُفرق بين نوع ونوع، والواجب على المسلمين أن يحذروا من السحر بأنواعه، وأن يتعاونوا في الإبلاغ عن كل من يعلمون عنده شعوذة، أو استخداماً لشيء من الخرافات، أو السحر، ونحو ذلك إبراء للذمة، وإنكارا للمنكر؛ لأنه كما قال الأئمة: ما دخل السحرة إلى بلد إلا فشا فيها الفساد، والظلم، والاعتداء، والطغيان، ذلك لأنهم يستخدمون الشياطين، فتطيع الشياطين السحرة، أعاذنا الله منهم، ومن أقوالهم، وأعمالهم وتأثيراتهم.(16/234)
ص -305- ... "باب بيان شيء من أنواع السحر"
قال أحمد: "حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا عوف بن مالك، قال: حدثنا قطن بن قبيصة، عن أبيه، أنه سمع النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "إن العيافة، والطرق، والطيرة من الجبت"
قال عوف: "العيافة: زجر الطير. والطرق: الخط يُخط بالأرض. والجبت: قال الحسن: رنّة الشيطان" إسناده جيد. (1). ولأبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه المسند منه.(2).
وعن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد". رواه أبو داود، وإسناد صحيح.(3).
وللنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "من عقد عقدة، ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً وُكِل إليه".(4).
وعن ابن مسعود –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا هل أنبئكم ما العضه؟ هي النميمة القالة بين الناس" رواه مسلم.(5).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد3/477 و5/60.
(2) أخرجه أبو داود (3907) وابن حبان7/646، وحسنه النووي.
(3) أخرجه أبو داود (3905).
(4) أخرجه النسائي7/112.
(5) أخرجه مسلم (2606).(16/235)
ص -306- ... ولهما عن ابن عمر –رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: "إن من البيان لسحرا".(1).
فيه مسائل:
الأولى: أن العيافة والطرق والطيرة من الجبت.
الثانية: تفسير العيافة والطرق.
الثالثة: أن علم النجوم نوع من السحر.
الرابعة: العقد مع النفث من ذلك.
الخامسة: أن النميمة من ذلك.
السادسة: أن من ذلك بعض الفصاحة.
الشرح:
هذا "باب بيان شيء من أنواع السحر"
لما ذكر الإمام –رحمه الله- ما جاء في السحر، وما اتصل بذلك من حكمه وتفصيل الكلام فيه، ذكر أن السحر قد يأتي في النصوص، ولا يراد منه السحر الذي يكون بالشرك بالله –جل وعلا- فإن اسم السحر عام في اللغة، يدخل فيه ذلك الاسم الخاص الذي فيه استعانة بالشياطين والتقرب إليها وعبادتها لتخدم الساحر، ويدخل فيها أمور أخرى يطلق عليها الشارع أنها سحر، وليست كالسحر الأول في الحقيقة ولا في الحكم، وهو درجات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (5146) و(5767) وأحمد2/16 و59 و63 و94.(16/236)
ص -307- ... فمما يسمى سحراً: البيان، كما جاء في آخر الباب " إن من البيان لسحراً" والبيان ليس سحراً فيه استعانة بالشياطين ، ولكنه داخل في حقيقة السحر اللغوية، لأن له تأثيراً خفياً على القلوب، فإن الرجل البليغ ذا البيان، وذا الإيضاح وذا اللسان الفصيح يؤثر في القلوب حتى يسبيها، وربما قلب الحق باطلاً والباطل حقاً ببيانه، فسمّي سحراً لخفاء وصوله إلى القلوب وقلب الرأي وفهم المخاطب من شيء إلى آخر.
وكذلك ما ذكر من أن الطيرة من السحر، فالطيرة نوع اعتقاد، وكذلك العيافة وهي شبيهة بها أو بعض أنواعها، كذلك الخط في الرمل، ونحو ذلك من الأشياء التي ربما أطلق عليها أنها سحر، وهي ليست كالسحر الأول في الحد والحقيقة ولا في الحكم.
ولهذا عقد الإمام –رحمه الله- هذا الباب لبيان شيء من أنواع السحر؛ لأن من أنواع السحر ما هو شرك أكبر بالله –جل وعلا- وهو المراد إذا أطلق السحر، وهذه هي الحقيقة العرفية، ومنه ما ليس شركاً أكبر.
وفي ألفاظ الشرع أمور يكون المرجع فيها إلى الحقيقة الشرعية. ومن ذلك هذا الباب، فإن فيه ما يطلق عليه –لغة- أنه سحر، وفيه ما يطلق عليه -عرفا- أنه سحر، وما يطلق عليه –شرعا- أنه سحر.
والتفريق بين هذه الأنواع مهم؛ ولهذا ذكر الإمام هذا الباب حتى تفرق بين نوع وآخر، فالحد الذي فيه "حد الساحر ضربه بالسيف" لا ينطبق على كل هذه الأنواع التي ستذكر؛ لأنها سحر لغة وليست بسحر شرعاً.(16/237)
ص -308- ... قوله في الحديث الأول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن العيافة، والطرق، والطيرة من الجبت"
العيافة: مأخوذ من عِيَاف الشيء، وهو تركه، عاف الشيء يعافه، إذا تركه، فلم تبغِه نفسه، وهي كما فسرها عوف: زجر الطير –وهذا أحد تفسيرات العيافة- وزجر الطير: أن يحرّك طيراً حتى ينظر إلى أين تتحرك، ثم يفهم من ذلك الزجر أن هذا الأمر الذي سيُقدم عليه أمر محمود أو أمر مذموم، أو يطلّع بحقيقة زجر الطير على مستقبل الحال، فهذا نوع من الجبت، وهو السحر؛ لأن من معاني (الجبت) –كما تقدم- الشيء المرذول المطّرح الذي يصرف الواحد عن الحق.
والسحر: شيء خفي يؤثر في النفوس، والعيافة من التأثر وبزجرها وبانتقالها من هنا إلى هنا أو بحركتها شيء خفي دخل في النفس فأثر فيها من جهة الإقدام أو الكف، فكانت نوعاً من السحر لأجل ذلك، وهي –أيضاً- جبت؛ لأنها شيء مرذول أدى إلى الإقبال أو الامتناع. والطيرة أعم من العيافة؛ لأن العيافة –على تفسير عوف وهو أحد تفسيراتها- متعلقة بالطير وحده، وأما الطيرة فهي: اسم عام لما فيه تشاؤم أو تفاؤل بشيء من الأشياء، وسيأتي باب مستقل لذكر أحكام الطيرة، وصورتها، وما بقي منها إن شاء الله تعالى.
وحقيقة الطيرة: أنه يرى شيئاً من الطير، تحرك يمينا أو يساراً، فإن رآه تحرك يمينا تفاءل به، واعتقد أنه سينجح في هذا العمل أو في هذا السفر، وإن رآه تحرك شمالاً قال: هذا معناه أني سأتضرر في هذا السفر، أو سيصيبني(16/238)
ص -309- ... مكروه فرجع. وقد قال عليه الصلاة والسلام: "من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك".(1).
وقد يتشاءم بحركة شيء، أو بكلمة يسمعها، أو بشيء في الجو، أو بتصادم سيارة أمامه، أو بسواد في الجو حصل أو في ذلك اليوم الذي سينتقل فيه، أو يتشاءم بشيء حصل له في أول زواجه، ونحو ذلك من أنواع التشاؤم، كالتشاؤم بالأشهر، أو بالأيام، هذا كله من أنواع الطيرة.
ولا يكون طيرة إلا إذا رده عن حاجته، أو جعله يقبل إلى حاجته، فإذا تشاءم، وحمله ذلك التشاؤم على أن يُقدم أو يُحجم فإنه يكون متطيراً.
وكذلك في باب التفاؤل إذا رأى شيئاً، فجعله ذلك الشيء يُقدم، ولولا ذلك الشيء الذي رآه ما أقدم، فإن ذلك أيضاً من الطيرة وهي نوع من أنواع التأثيرات الخفية على القلوب، وذلك ضرب من السحر.
أما الطرق فهو مأخوذ من وضع طرق في الأرض، وهي الخطوط، فيأتي بخطوط متنوعة يخطها في الأرض، ليس لها عدد، ثم يبدأ الكاهن الذي يستخدم الخطوط فيمسح خطاً خطاً أو يمسح خطين خطين بسرعة، ثم ينظر ما بقي، فيقول: هذا الذي بقي يدل على كذا وكذا، وأنك ستغتني، أو يدل على أنه سيصيبك كذا وكذا، ونحو ذلك، وهو نوع من أنواع الكهانة، والكهانة ضرب من السحر.
قال هنا: " والطرق: الخط يُخط بالأرض. والجبت: قال الحسن: رنّة الشيطان".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد2/220.(16/239)
ص -310- ... وهو من أنواع السحر؛ لأن الشيطان يدعو إلى ذلك بصوته وبعويله.
قوله: "وعن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد".(1). رواه أبو داود بإسناد صحيح.
في هذا الحديث بيان أن تعلم النجوم تعلمٌ للسحر، ويأتي في باب خاص "باب ما جاء في التنجيم" أنواع تعلم النجوم وما جعل الله –جل وعلا- النجوم له.
قوله: "من اقتبس شعبة" يعني: من تعلم بعضاً من علم النجوم؛ لأن الشعبة هي الطائفة من الشيء، أو جزء من أجزائه، فكل جزء من أجزاء علم النجوم الذي هو علم التأثير نوع من أنواع السحر، قال: "فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد" يعني كلما زاد في تعلم علم النجوم زاد في تعلم السحر، حتى يصل إلى آخر حقيقة علم التأثير كما يسمونه، فيصبح سحراً وكهانة على الحقيقة، ويأتي أن التنجيم منه علم التأثير وهو جعل الكواكب والنجوم في حركتها والتقائها وافتراقها وطلوعها وغروبها مؤثرة في الحوادث الأرضية، أو دالة على ما سيحدث في الأرض، فيجعلونها دالة على علم الغيب، ومنبئة على المغيبات، وهذا القدر من السحر، لأنه يشترك معه في حقيقته وهو أنه تأثير بأمر خفي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أبو داود (3905) بلفظ: "من اقتبس علمًا ..." الحديث، والإمام أحمد في المسند (2000) وابن ماجه (3726).(16/240)
ص -311- ... قوله: "وللنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "من عقد عقدة، ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً وُكِل إليه".(1).
قوله: "من عقد عقدة، ثم نفث فيها فقد سحر" يعني: أن عقد العقد والنفث فيها من أنواع السحر. والنفث المقصود هنا: النفث الذي فيه استعاذة واستعانة بالشياطين، فليس كل نفث في عقدة يعقد السحر، بل لا بد أن يكون النفث بأدعية معينة ورقى شركية وتعويذات وكلام تحضر الجن عند تلاوته وتخدم هذه العقدة السحرية، وهو ما كان يتعاطاه الناس المردة في زمان النبي عليه الصلاة والسلام من النفث في العقد، كما قال جل وعلا: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} وهن السواحر.
قوله: "فقد سحر" أي يخدم هذا السحر بالنفث في العقدة، وفائدة العقدة عند السحرة أنه لا ينحل السحر ما دامت معقودة، فينعقد الأمر الذي أراده الساحر بشيئين: بالعقدة، وبالنفث بالعقدة، أي عقدة حبل أو خيط أو نحو ذلك، وبالنفث فيها بالأدعية الشركية والاستعانة بالشياطين، ومن الأمور المهمة التي ينبغي أن تُعلم في هذا لباب: أن العقد تارة تكون مرئية واضحة، وتارة تكون صغيرة جدا.
قوله: "ومن سحر فقد أشرك" هذا عام؛ لأنه جعل الإشراك جزاء السحر بأسلوب الشرط ولجزاء، فكأنه قال: كل من سحر فقد أشرك، يعني: سحر بذلك النحو الذي ذُكر، وهو أن يعقد عقدة ثم ينفث فيها،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه النسائي في السنن برقم: (4084).(16/241)
ص -312- ... و"من سحر فقد أشرك" وهذا دليل لما ذكرناه في الباب قبله، من أن كل سحر يعد من أنواع الشرك؛ لأنه لا يمكن أن يحدث السحر إلا بالنفث في العقد، أو باستحضار الجني، وبعبادة الجن، ونحو ذلك، وهذا شرك بالله.
قوله: "ومن تعلق شيئاً وكل إليه" تقدم نظير هذا، ومعنى هذا الحديث: أن القلب إذا تعلق بشيء –بمعنى أحبه- ورضيه وتعلق به، فإنه يوكل إليه، ويجعل هو السبب الذي من أجله يجيء نفعه أو يجيء ضره.
ومعلوم أن كل الأسباب الشركية تعود على فاعلها أو على الراضي بها بالضرر لا بالنفع، والعبد إذا تخلى عن الله –جل وعلا- فقد خاب وخسر وضُر أعظم الضرر، فسعادة العبد وعِظم صلاح روحه، بأن يكون تعلقه بالله –جل وعلا- وحده.
قوله هنا: ومن تعلق شيئاً وكل إليه" دليل على أن من تعلق بالله فإن الله كافيه، ومن تعلق قلبه بالله إنزالاً لحوائجه بالله، ورغباً فيما عند الله، ورهباً مما يخافه ويؤذيه –يعني: يؤذي العبد- فإن الله –جل وعلا- كافيه، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} وإذا تعلق العبد بغير الله فإنه يوكل إلى ذلك الغير، والعباد فقراء إلى الله، والله –جل وعلا- هو ولي النعمة وولي الفضل، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} فمن أنزل حاجته بالله أفلح، ومن تعلق قلبه بالله أفلح، وأما من تعلق بالخرفات، أو تعلق بالأمور الشركية كالسحر،(16/242)
ص -313- ... وكالذهاب إلى الأولياء، وطلب المدد منهم، أو طلب الإغاثة منهم، فإنه يوكل إلى المخلوق، ومن يوكل إلى المخلوق فإنه يضره ذلك أعظم الضرر، كما قال جل وعلا: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} [الحج: 13]
وعن ابن مسعود –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا هل أنبئكم ما العضه؟ هي النميمة القالة بين الناس" رواه مسلم.(1).
قوله: "العَضْه"ُ هكذا تروى في كتب الحديث (العضه) وفي كتب غريب الحديث واللغة تنطق هكذا (العِضَه) لأشباهها في وزنها، وهي كما فسرها النبي عليه الصلاة والسلام: "النميمة القالة بين الناس".
وأصل العضه في اللغة يطلق على أشياء، منها السحر، والنميمة والقالة بين الناس نوع من أنواع السحر، وهي كبيرة من الكبائر، ومحرم من المحرمات.
ووجه الشبه بين النميمة وبين السحر: أن تأثير السحر في التفريق بين المتحابِّين، أو في جمع المتفرقين، تأثيره على القلوب خفي، وهكذا عمل النمام، فإنه يفرق بين الأحباب لأجل كلام يسوقه لهذا وكلام يسوقه لذاك، فيفرق بين القلوب، ويجعل العدواة والبغضاء بين قلب هذا وهذا، كما قال جل وعلا: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] والنميمة هي القالة بين الناس، وهي من أنواع السحر، وكبيرة من الكبائر، والكبائر من أعظم الذنوب العملية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم (2606).(16/243)
ص -314- ... ولهما عن ابن عمر –رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: "إن من البيان لسحرا".(1).
المقصود بالبيان هنا: التبيين عما في النفس بالألفاظ الفصيحة البينة التي تأخذ المسامع والقلوب، فتسحر القلوب، فربما قلبت الحق باطلاً، والباطل حقاً، حتى يغدو قول ذلك الذي يعد من أهل البيان والفصاحة هو الحق، وأن ما لم يقله أو رده هو الباطل –في الظاهر، وفي ظن سامعيه- وهذا ضرب من السحر، لأنه تأثير في النفوس بالألفاظ، وقلب الحق باطلا، والباطل حقاً، فتأثيره خفي كتأثير السحر في الخفاء، ولهذا قال: "إن من البيان لسحرا".
والصحيح من أقوال أهل العلم: أن هذا ذم للبيان وليس مدحا له، قال: "إن من البيان لسحرا" على جهة الذم، وبعض أهل العلم يقول: إن ذاك على جهة المدح؛ لأنه يصل في التأثير إلى أن يؤثّر تأثيرا بالغاً كتأثير السحر في النفوس، والتأثير البالغ إذا كان من جهة البيان فإنه جائز، وهذا من جهة المدح له، وبيان عِظم تأثيره.
وهذا فيه نظر، لأنه لما جعل البيان سحراً علمنا أنه أراد ذمه، ولهذا أورده الشيخ –رحمه الله- في هذا الباب الذي اشتمل على أنواع من المحرمات.
فالذي يستغل ما آتاه الله –جل وعلا- من اللسان والبيان والفصاحة في قلب الباطل حقاً، والحق باطلاً، هذا لا شك أنه من أهل الوعيد ومذموم على فعله، لأن البيان إنما يُقصد به نصرة الحق لا أن يجعل ما أبطله الله –جل وعلا- حقاً في أنفس الناس وفي قلوبهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (5146) ومسلم (2009).(16/244)
ص -315- ... "باب ما جاء في الكهان ونحوهم"
روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي –صلى الله عليه وسلم- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من أتى عرّافاً فسأله فصدقه لم تقبل له صلاته أربعين يوماً".(1).
وعن أبي هريرة عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" رواه أبو داود. (2).
وللأربعة والحاكم –وقال صحيح على شرطهما- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- "من أتى عرّافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم".(3).
ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفا. (4).
وعن عمران بن حصين مرفوعاً: "ليس منا من تطير أو تُطير له، أو تكهن أو تُكهن له، أو سحر أو سُحر له، ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" رواه البزار بإسناد جيد. (5).
ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله: "ومن أتى" إلى آخره(6).
قال البغوي: العرّاف: الذي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه ومسلم (2230) دون قوله: "فصدقه".
(2) أخرجه أبو داود (3904).
(3) أخرجه أحمد2/429 والبيهقي8/135 والحاكم1/8 وصححه ووافقه الذهبي,
(4) أخرجه أبو يعلى (8-54).
(5) أخرجه البزار (3044).
(6) أخرجه الطبراني كما في "مجمع الزوائد" 5/117 وقال المنذري: إسناده حسن..(16/245)
ص -316- ... يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك.
وقيل: هو الكاهن، والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل، وقيل: الذي يخبر عما في الضمير.
وقال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: العرّاف اسم للكاهن، والمنّجم، والرّمّال، ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما- في قوم يكتبون "أبا جاد" وينظرون في النجوم: ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق.
فيه مسائل:
الأولى: لا يجتمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن.
الثانية: التصريح بأنه كفر.
الثالثة: ذكر من تُكهن له.
الرابعة: ذكر من تُطُيِّر له.
الخامسة: ذكر من سُحر له.
السادسة من تعلم أبا جاد.
السابعة: ذكر الفرق بين الكاهن والعراف.(16/246)
ص -317- ... الشرح:
"باب ما جاء في الكهان ونحوهم" هذا الباب أتى بعد أبواب السحر، لأن حقيقة عمل الكاهن أنه يستخدم الجن لإخباره بالأمور المغيبة في الماضي، أو الأمور المغيبة في المستقبل التي لا يعلمها إلا الله –جل جلاله- فالكاهن يجتمع مع الساحر في أن كلا منهما يستخدم الجن لغرضه ويستمع بالجن لغرضه.
ومناسبة الباب لكتاب التوحيد: أن الكهانة استخدام للجن، واستخدام الجن كفر وشرك بالله –جل وعلا- لأن استخدام الجن في مثل هذه الأشياء لا يكون إلا بأن يتقرب إلى الجن من العبادات، فالكهان لا بد –لكي يُخدموا بذكر الأمور المغيبة- أن يتقربوا إلى الجني ببعض العبادات، إما بالذبح، أو الاستعانة، أو بالكفر بالله –جل وعلا- بإهانة المصحف أو بسب الله، أو نحو ذلك من الأعمال الشركية الكفرية.
فالكهانة صنعة مضادة لأصل التوحيد، والكاهن مشرك بالله –جل وعلا- لأنه يستخدم الجن ولا يمكن أن تخبره الجن بالمغيبات إلا إذا تقرب إليها بأنواع العبادات.
وكانت الكهانة منتشرة في بلاد العرب في الجزيرة وغيرها، والكهان أناس يُدّعى فيهم الولاية والصلاح، وأن عندهم علم ما مضى، أو عندهم علم المغيبات التي ستحدث للناس، أو تحدث في الأرض، ولهذا كانت العرب تعظم الكهان وتخاف منهم، وكانت تعطي الكاهن أجراً عظيماً لأجل ما يخبر عنه.(16/247)
ص -318- ... والكاهن –كما ذكرنا- لا يصل إلى حقيقة عمله بأن يخبر عن الأمور المغيبة إلا باستخدام الجن، والتقرب إليهم التقربات الشركية، فتسمتع الجن به من جهة ما صرف لها من العبادة، ويستمتع هو بالجني من جهة ما يُخبره به من الأمور المغيبة.
والجن تصل إلى الأمور المغيبة التي تصدق فيها عن طريق استراق السمع، فإن بعضهم يركب بعضاً حتى يسمعوا الوحي الذي يوحيه الله –جل وعلا- في السماء، فربما أدرك الشهاب الجني قبل أن يلقى الكلمة لمن تحته، وربما أدركه بعد أن يلقي الكلمة، فتأتي هذه الكلمة للجن فيعطونها الكهان، فيكذب معها الكاهن، أو تكذب معها الجن مائة كذبة، حتى يعظم شأن الكهان، وحتى تعظم عبادة الإنس للجن.
وقبل بعثة النبي عليه الصلاة والسلام كان استراق السمع كثيرا جداً، وبعد بعثته عليه الصلاة والسلام حُرست السماء من أن تسترق الجن السمع، لأجل تنزل القرآن والوحي، حتى لا يقع الاشتباه في أصل الوحي والنبوة، وبعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام رجع الاستراق ولكنه قليل بالنسبة لما كان عليه قبل البعثة، فصارت عندنا أحوال استراق السمع ثلاثة:
1- قبل البعثة كثير جداً.
2- وبعد بعثة النبي عليه الصلاة والسلام: لم يحصل استراق من الجن، وإن حصل فهو نادر في غير وحي الله –جل وعلا- بكتابه لنبيه صلى الله عليه وسلم.
3- بعد وفاته عليه الصلاة والسلام رجع استراق السمع أيضاً، ولكنه ليس بالكثرة التي كانت قبل ذلك؛ لأن السماء ملئت حرساً شديداً وشهباً، والله -جل وعلا- بيّن في القرآن في آيات كثيرة من أن النجوم والشهب(16/248)
ص -319- ... ترمي الجن، كما قال جل وعلا: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر: 18] ونحو ذلك من الآيات التي فيها أن الشهب مرصدة للجن.
إذا ظهر ذلك فالكاهن قد يُطلق عليه العراف، والكاهن والعراف اسمان متداخلان، فقد يطلق أحدهما على الآخر، وعند بعض الناس يطلق الكاهن على من يخبر بما يحصل في المستقبل، ويطلق العراف على من يخبر عن الغائب عن الأعين مما حصل في الماضي من مثل مكان المسروق، أو السارق من هو؟ ونحو ذلك مما هو غائب عن الأنظار وإنما يعلمه العراف بواسطة الجن.
والصحيح في ذلك ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية: من أن العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلمون في معرفة الأمور بتلك الطرق. فكل من تكلم في معرقة الأمور المغيبة الماضية أو المستقبلة بتلك الطرق: طريق التنجيم، أو الخط في الرمل، بطريق الطرق، أو بالودع، ونحو ذلك من الأسباب، أو بالخشبة المكتوب عليها أبا جاد، ونحو ذلك من قراءة الفنجان، أو قراءة الكف، كل من يخبر عن الأمور المغيبة بشيء يجعله وسيلة لمعرفة الأمور المغيبة يسمى كاهنا، ويسمى عرافاً؛ لأنه لا يحصل له أمره إلا بنوع من أنواع الكهانة، وسيأتي ذلك إن شاء الله.
قوله: "باب ما جاء في الكهان ونحوهم" و(نحوهم) يعني من العرافين، والمنجمين، والذين يخطون في الرمل، والذين يكتبون على الخشب، ونحو ذلك.(16/249)
ص -320- ... قوله: "روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي –صلى الله عليه وسلم- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من أتى عرّافاً فسأله فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوماً".
هكذا ذكر المؤلف رحمه الله حديث الباب بهذا اللفظ، وعزاه لمسلم، وقد نبّه الشراح على أن لفظه في مسلم: "من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً" بدون لفظة: "فصدقه" أما لفظة "فصدقه" فقد رواها الإمام أحمد في مسنده.
وعلى هذا فالمؤلف رحمه الله تعالى ذكر هذا اللفظ، وعزاه لمسلم على طريقة أهل العلم في عزو الحديث لأحد صاحبي الصحيح إذا كان أصله فيهما لاتحاد الطريق أو نحو ذلك.
قوله:"من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً" هذا الحديث فيه جزاء الذي يأتي العراف ويسأله، فمن أتى عرافاً فسأله عن شيء –ولو لم يصدقه- فإنه لا تقبل له صلاة أربعين يوما.
والمقصود من قوله: "لم تقبل له صلاة أربعين يوما" أنها تقع مجزئة لا يجب عليه قضاؤها، ولكن لا ثواب له فيها؛ لأن الذنب والإثم الذي اقترفه حين أتى العراف فسأله عن شيء يقابل ثواب الصلاة أربعين يوما، فأسقط هذا هذا، ويدل ذلك على عظم ذنب الذي يأتي العراف فيسأله عن شيء ولو لم يصدقه، وهذا عند أهل العلم على حالتين:
الحالة الأولى: من أتى العراف فسأله عن شيء رغبة في الاطلاع، أما من أتى العراف فسأله للإنكار عليه وحتى يتحقق أنه عراف فلا يدخل في ذلك؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد.(16/250)
ص -321- ... الحالة الثانية: أن يأتي العراف أو الكاهن فيسأله عن شيء، فإذا أخبره الكاهن أو العراف صدقه بما يقول، فالحديث الأول الذي عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فيه أنه: "لم تقبل له صلاة أربعين يوماً" والحديث الثاني فيه أنه: "كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" فيتضح بالحديثين أن الحالة الثانية –وهي من أتى العراف أو الكاهن فسأله عن شيء فصدقه- أنه يكفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وأنه لا تقبل له صلاة أربعين يوماً.
وهذه الحالة تدل على أن الذي أتى الكاهن أو العراف فصدقه، أنه لم يخرج من الملة، لأنه حدّ عليه الصلاة والسلام عدم قبول صلاته بأربعين يوماً، والذي أتى الكاهن إذا حُكم عليه بأنه كافر كفراً أكبر ومرتد وخارج من الملة فإن صلاته لا تقبل بتاتاً حتى يرجع إلى الإسلام، وقد قال طائفة من أهل العلم: دل قوله: "فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوماً" على أن قوله: "كفر بما أنزل على محمد" أنه كفر أصغر وليس بالكفر المخرج من الملة، وهذا القول هو القول الأول، وهو الصحيح، وهو الذي يتعين جمعاً بين النصوص، فإن قول النبي عليه الصلاة والسلام: "من أتى عرافاً فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوما" يدل على أنه لم يخرج من الإسلام، والحديث الآخر وهو قوله: "من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد"(1). يدل على كفره، فعلمنا بذلك أن كفره كفر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد2/408-476 والبيهقي8/135 والحاكم1/8.(16/251)
ص -322- ... أصغر، وليس كفراً مخرجاً من الملة، هذا أحد الأقوال في مسألة كفر من أتى الكاهن فصدقه بما يقول.
والقول الثاني: أنه يُتوّقف فيه، فلا يقال يكفر كفراً أكبر، ولا يقال أصغر، وإنما يقال: إتيان الكهان وتصديقهم كفر بالله –جل وعلا- ويسكت عن ذلك، ويطلق القول كما جاء في الحديث، وهذا لأجل التهديد والتخويف حتى لا يتجاسر الناس على هذا الأمر، وهذا مذهب الإمام أحمد في المنصوص عنه.
والقول الثالث من أقوال أهل العلم: أن الذي يصدق الكاهن كافر كفراً أكبر مخرج من الملة، وهذا القول فيه نظر من جهتين:
الجهة الأولى: ما ذكرنا من الدليل من أن قوله عليه الصلاة والسلام: "لم تقبل له صلاة أربعين يوماً" يدل على أنه لم يكفر الكفر الأكبر، ولو كان كفر الكفر الأكبر لم يحد عدم قبول صلاته بتلك المدة من الأيام.
والجهة الثانية: أن تصديق الكاهن فيه شبهة، وادعاء علم الغيب أو تصديق أحد ممن يدعي علم الغيب كفرٌ بالله –جل وعلا- كفراً أكبر، لكن هذا الكاهن الذي ادّعى علم الغيب يُخبر بالأمور المغيبة فيما صدق فيه عن طريق استراق الجن للسمع، فيكون إذاً هو نقل ذلك الخبر عن الجني، والجن نقلوه عمّا سمعوه في السماء، وهذه شبهة. فقد يأتي الآتي إلى الكاهن ويقول: أنا أصدقه فيما أخبر من الغيب؛ لأنه قد جاء علم ذلك الغيب من السماء عن طريق الجن، وهذه الشبهة تمنع من تكفير من صدق الكاهن الكفر الأكبر.
فالقول الأظهر أن كفره كفرٌ أصغر وليس بأكبر، لدلالة الأحاديث، ولظهور التعليل في ذلك.(16/252)
ص -323- ... قوله: "فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" يعني القرآن؛ لأنه قد جاء في القرآن وما بينه النبي –صلى الله صلى الله عليه وسلم- من السنة أن الكاهن، والساحر، والعراف لا يفلحون، وأنهم يكذبون ولا يصدقون.
قوله: وعن عمران بن حصين مرفوعاً: "ليس منا من تطير أو تُطير له" يأتي في باب ما جاء في التطير.
قوله: "ليس منا" يدل على أن الفعل محرم، ويقول بعض أهل العلم: إن قوله عليه الصلاة والسلام: "ليس منا" يدل على أنه من الكبائر.
قوله: "أو تكهن" يعني ادّعى علم الغيب، وادعى أنه كاهن، أو أخبر بأمور من المغيبة يخدع من رآه بأنه كاهن.
قوله: "أو تُكهن له" يعني: من رضي أن يُتكهن له فأتى فسأل عن شيء.
قوله: "أو سحر أو سحر له ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم"(1).
وهذا كله لأجل أن تصديق الكاهن فيه إعانة له على الشرك الأكبر بالله –جل وعلا- هذا حكم الذي يأتي الكاهن.
أما الكاهن فذكرنا حكمه، وهو أنه مشرك بالله الشرك الأكبر؛ لأنه لا يمكن له أن يخبر بالأمور المغيبة إلا بأن يُشرك.
قوله: "قال البغوي: العرّاف: الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البزار في المسند (3044).(16/253)
ص -324- ... هذا الذي ذكرنا من أن العراف عند بعض أهل العلم من يخبر بأمور سبقت لكنها خفية غيبية عن الناس، لكنها من حيث الوجود وقعت في ملكوت الله.
قوله: "وقيل هو الكاهن" يعني أن العراف والكاهن اسمان لشيء واحد.
"والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل، وقيل: الذي يخبر عما في الضمير، وقال أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: "العراف اسم للكاهن، والمنجم، والرمال ونحوهم" المنّجم: هو الذي يستخدم علم التنجيم والتأثير، يقول: إذا ظهر نجم كذا والتقى بنجم كذا فمعناه أنه سيحدث كذا وكذا، أو إذا ولد لفلان ولد في برج كذا فإنه سيحصل كذا وكذا له من الغنى والفقر، أو السعادة، أو الشقاوة، ونحو ذلك، فيستدلون بحركة النجوم على حال الأرض وحال الناس فيها، وسيأتي تفصيله إن شاء الله.
"والرمال" هو صاحب الطرق، أو الذي يخط في الرمل، أو يستخدم الحصى على الرمل.
"ونحوهم" يعني: مِن مثل الذين يقرؤون الكف، ويقرؤون الفنجان، أو في هذا العصر الذين يكتبون في الصحف والجرائد والمجلات البروج، وما يحصل في ذلك البرج، وأنت إذا ولدت في هذا البرج فمعناه أنه سيحصل لك في هذا الشهر كذا وكذا، هذه كلها من أنواع الكهانة كما سيأتي.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما- في قوم يكتبون "أبا جاد" وينظرون في النجوم: ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق. (1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف11/26، وابن أبي شيبة في المصنف8/602 والبيهقي في السنن8/139.(16/254)
ص -325- ... وذلك لأن كتابة (أبا جاد) والنظر في النجوم –يعني للتأثير- نوع من أنواع الكهانة، والكهانة محرمة وكفر بالله جل وعلا.
واعلم أن أصناف الكهانة كثيرة جداً وجامعها الذي يجمعها أنه يستخدم الكاهن وسيلة ظاهرة عنده ليقنع السائل بأنه وصل إليه العلم عن طريق أمور ظاهرة كالنجوم، أو عن طريق الخط، أو عن طريق الطرق، أو عن طريق الودع، أو عن طريق الفنجان، أو عن طريق الكف، أو عن طريق النظر في الحصى، أو عن طريق الخشب ونحو ذلك، هذه كلها وسائل يُغر بها الكاهن من يأتيه، وهي في الحقيقة وسائل لا تحصّل ذاك العلم، ولكن العلم جاءه عن طريق الجن، وهذه الوسيلة إنما هي وسيلة لخداع الناس، ولكي يظن الظان أنها تؤدي إلى العلم وأن هؤلاء أصحاب علم وفن بهذه الأمور، وفي الواقع هو لا يتحصل على العلم الغيبي عن طريق خط، أو عن طريق فنجان، أو عن طريق النظر في البروج، أو نحو ذلك، وإنما يأتيه العلم عن طريق الجن، وهو يُظهر هذه الأشياء حتى يحصل على المقصود كي يصدقه الناس أنه لا يستخدم الجن، وأنه ولي من الأولياء، وإلا فكيف يستنتج المغيبات من هذه الأمور الظاهرة؟! ويوجد في بعض البلاد –كغرب أفريقيا وبعض شمالها وفي الشرق- من يتعاطى هذه الأشياء، ويزعم أنه من الأولياء، ويقول: إن الملائكة تخبره بكذا، فهو لا يفعل الفعل إلا بإرشاد من الملائكة، فالذي يفعل هذه الأفعال من الأمور السحرية أو الكهانة يعتبر في تلك البلاد من الأولياء، ولهذا ترى بعض الشّراح يذكر في مقدمة هذه الأبواب أن أولياء الله تعالى لا يتعاطون الشرك، ولا يتعاطون مثل هذه الأمور، فأولياء الله مقيدون بالشرع، وليسوا من أولياء الجن.(16/255)
ص -326- ... "باب: ما جاء في النشرة"
وعن جابر أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- سُئل عن النشرة فقال: "هي من عمل الشيطان" رواه أحمد بسند جيد، وأبو داود،(1). وقال: سئل أحمد عنها فقال: ابن مسعود يكره هذا كله.
وفي البخاري عن قتادة، قلت لابن المسيب: رجل به طب، أو يؤخّذ عن امرأته، أيُحل عنه أو ينشّر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه. انتهى.
ورُوي عن الحسن أنه قال: لا يحل السحر إلا ساحر.
قال ابن القيم: النشرة: حل السحر عن المسحور، وهي نوعان: حل سحر بمثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمل قول الحسن، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور. والثاني: النشرة بالرقية، والتعوذات، والأدوية، والدعوات المباحة فهذا جائز.
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن النُّشرة.
الثانية: الفرق بين المنهي عنه والمرخص فيه، مما يزيل الإشكال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد3/294 وأبو داود (3868) وحسنه الحافظ في "الفتح"10/233.(16/256)
ص -327- ... الشرح:
"باب ما جاء في النشرة" النشرة متعلقة بالسحر، وأصلها من النَّشر وهو قيام المريض صحيحاً، وهي اسم لعلاج المسحور، سميت نشرة؛ لأنه ينتشر بها أي يقوم ويرجع إلى حالته المعتادة.
وقول المؤلف –رحمه الله – هنا: "باب ما جاء في النشرة" يعني: من التفصيل، وهل النشرة جميعا –وهي حل السحر- مذمومة؟ أو أن منها ما هو مذموم، ومنها ما مأذون به؟.
ومناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة، وهي أنه كما أن السحر شرك بالله –جل وعلا- يقدح في أصل التوحيد، وأن الساحر مشرك الشرك الأكبر بالله، فالنشرة التي هي حلّ السحر قد تكون من ساحر، وقد تكون من غير ساحر بالأدوية المأذون بها، أو الأدعية ونحو ذلك، فإذا كان من ساحر فإنها مناقضة لأصل التوحيد، ومنافية لأصله، فالمناسبة ظاهرة في الصلة بين هذا الباب وباب ما جاء في السحر، وكذا مناسبتها لكتاب التوحيد؛ لأن كثيرين ممن يستعملون النشرة يشركون بالله جل وعلا.
والنشرة قسمان: نشرة جائزة، ونشرة ممنوعة.
فالنشرة الجائزة: هي ما كانت بالقرآن، أو بالأدعية المعروفة، أو بالأدوية عند الأطباء، ونحو ذلك، فإن السحر يكون عن طريق الجن –كما تقدم- ويحصل منه –حقيقةً- إمراض في البدن،وتغيير في العقل والفهم، وإذا كان الأمر كذلك، فإنه يُعالج بالمضادات التي تزيل ذلك السحر، فمما يزيله القرآن الكريم، والقرآن هو أعظم ما ينفع في إزالة السحر، وكذلك الأدعية، والأوراد، ونحو ذلك مما هو معروف من الرقى الشرعية.(16/257)
ص -328- ... ونوع من السحر يكون في البدن، أي من جهة عضوية، فهذا أحياناً يُعالج بالرقى والأدعية والقرآن، وأحياناً يعالج عن طريق الأطباء العضويين، وذلك لأن السحر –كما سبق – يُمرض حقيقة، فإذ أزيل المرض أو سبب المرض فإنه يبطل السحر، ولهذا قال ابن القيم في آخر الكلام: "والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات، والأدوية، والدعوات المباحة فهذا جائز" لأنه يحصل منه المرض، وإذا كان الأمر كذلك فإنه يعالج بما أذن به شرعاً من الرقى والأدوية المباحة.
والقسم الثاني من النشرة: وهي التي من أنواع الشرك أن ينّشر عنه بغير الطريق الأول بطريق السحر، فيحل السحر الأول بسحر آخر، وذكرنا أن السحر لا ينعقد أصلاً إلا بأن يتقرب الساحر للجني، أو أن يكون الجني يخدم الساحر الذي يشرك بالله دائماً.
كذلك حل الساحر لا بد فيه من إزالة سببه وهو خدمة شياطين الجن للساحر. وهذا لا يمكن إلا للجن، فإن الساحر الثاني الذي يُنشّر السحر ويرفع السحر لا بد أن يستغيث أو أن يتوجه إلى بعض جنّه في أن يرفع أولئك الجن الذين عقدوا هذا السحر أن يرفعوا أثره فعلى هذا لا يكون السحر من حيث العقد والابتداء إلا بالشرك بالله، ومن حيث الرفع والنشر لا يكون إلا بالشرك بالله –جل وعلا- ولهذا قال الحسن: "لا يحل السحر إلا ساحر"(1).
يعني: لا يحل السحر بغير الطريق الشرعية المعروفة إلا ساحر، فإذا جاء أحد وقال: أنا أحل السحر، وقيل له: تستخدم القراءة والتلاوة والأدعية؟ فإن قال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه ابن جرير في (التهذيب) كما في (فتح الباري) 10/233.(16/258)
ص -329- ... لا، قيل: هل أنت طبيب تطب ذلك المسحور؟ فإن قال: لا، فهو إذا ساحر؛ لأنه إذا لم يستخدم الطريقة الثانية فإنه لا يمكن أن يحل السحر إلا ساحر؛ لأنه فك أثر الجن في ذلك السحر، ولا يمكن إلا عن طريق شياطين الجن الذين يؤثرون في ذاك.
"عن جابر أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- سُئل عن النشرة فقال: "هي من عمل الشيطان"(1). هذا سؤال عما كان معهوداً معروفاً عندهم في هذا الاسم وهو اسم النشرة، والذي كان معروفاً معهوداً هو أن النشرة إنما هي من جهة الساحر؛ لأنها –عند العرب- حل السحر بمثله، لهذا لما سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن النشرة، قال: "هي من عمل الشيطان" قال العلماء: (أل) أو لام التعريف في قوله: "النشرة" هذه للعهد، يعني: النشرة المعهود استعمالها، وهي حل السحر بمثله، فقال عليه الصلاة والسلام"هي من عمل الشيطان" لأن رفع السحر لا يكون إلا بعمل شيطان جني، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "هي" يعني: الرفع والنشر "من عمل الشيطان" لأن العقد أصلا من عمل الشيطان، والرفع والنشر من عمل الشيطان، فإذا هو سؤال عن النشرة التي كانت تستخدم في الجاهلية.
رواه أحمد بسند جيد، وأبو داود. وقال: سئل أحمد عنها فقال: ابن مسعود يكره هذا كله. (2).
وقوله: "يكره هذا كله" يعني: أن تكون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد في المسند3/294 وأبو داود (3868) والبهقي في السنن9/301.
(2) انظر الآداب الشرعية لابن مفلح3/77.(16/259)
ص -330- ... النشرة عن طريق التمائم التي فيها القرآن، لأنه مرّ بنا أن ابن مسعود كان يكره جميع أنواع التمائم حتى من القرآن، كما قال إبراهيم النخعي –رحمه الله- كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن ومن غير القرآن. يعني: أصحاب ابن مسعود، فابن مسعود كان يكره التمائم من القرآن، وهو أن يُعلق شيئاً من القرآن لأي غرض، لدفع العين، أو لإزالة السحر، ورفع الضرر، لهذا قال الإمام أحمد لما سُئل عن النشرة التي تكون بالتمائم من القرآن، قال: ابن مسعود يكره هذا كله.
أما النشرة باستخدام النفث، والرقية من غير تعليق فلا يمكن للإمام أحمد ولا لابن مسعود أن يكرها ذلك، لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- استخدم ذلك، وأذن به عملاً في نفسه، وكذلك في غيره عليه الصلاة والسلام.
"وفي البخاري عن قتادة، قلت لابن المسيب: رجل به طب، أو يؤخّذ عن امرأته، أيُحل عنه أو ينشّر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه".(1). يريد ابن المسيب بذلك ما ينفع من النشرة بالتعوذات،والأدعية، والقرآن، والدواء المباح، ونحو ذلك، أما النشرة التي هي بالسحر، فابن المسيب أرفع من أن يقول: إنها جائزة، ولم يُنه عنها، والنبي –صلى الله عليه وسلم- يقول: "هي من عمل الشيطان" لهذا قال: "لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع الناس فلم ينه عنه" يعني: من الأدوية المباحة، ومن الرقى، والتعوذات الشرعية، وقراءة القرآن، ونحو ذلك، فهذا لم ينه عنه، بل أذن فيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه البخاري10/323.(16/260)
ص -331- ... "ورُوي عن الحسن أنه قال: لا يحل السحر إلا ساحر".(1). وهذا بيّنا معناه.
"قال ابن القيم: النشرة: حل السحر عن المسحور، وهي نوعان: حل سحر بمثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمل قول الحسن، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب" كما ذكرنا لكم سلفاً.
"فيبطل عمله عن المسحور" وهذه حقيقة النشرة الشركية.
إذا تبين ذلك، فإن حكم حل السحر بمثله أنه لا يجوز ومحرم، بل هو شرك بالله –جل وعلا- لأنه لا يحل السحر إلا ساحر. وبعض العلماء من أتباع المذاهب يرى جواز حل السحر بمثله إذا كان للضرورة، كما قال فقهاء مذهب الإمام أحمد في بعض كتبهم: ويجوز حل سحر بمثله ضرورة. وهذا القول ليس بصواب، بل هو غلط، لأن الضرورة لا تكون جائزة ببذل الدين والتوحيد عوضاً عنها، ومعروف أن الضروريات الخمس التي جاءت بها الشرائع أولها: حفظ الدين، وغيره أدنى منه مرتبة –ولا شك- فلا يبذل ما هو أعلا لتحصيل ما هو أدنى، وضرورة الحفاظ على النفس وإن كانت من الضروريات الخمس، لكنها دون حفظ الدين مرتبة، ولهذا لا يُقدم ما هو أدنى على ما هو أعلى، أو أن يُبذل ما هو أعلى لتحصيل ما هو أدنى من الضروريات الخمس، والأنفس لا يجوز حفظها بالشرك، ولأن يموت المرء وهو على التوحيد خير له من أن يُعافى وقد أشرك بالله –جل وعلا- لأن السحر لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم.(16/261)
ص -332- ... يكون إلا بشرك، والذي يأتي الساحر ويطلب منه حل السحر، فقد رضي قوله وعمله، ورضي أن يعمل به ذاك، ورضي أن يُشرك ذاك بالله لأجل منفعته، وهذا غير جائز.
فتحصل من هذا أن السحر –نشراً ووقوعاً- لا يكون إلا بالشرك الأكبر بالله –جل وعلا- وعليه فلا يجوز أن يُحلَّ لا من جهة الضرورة، ولا من جهة غير الضرورة من باب أولى بسحر مثله، بل يُحل وينشّر بالرقى الشرعية.(16/262)
ص -333- ... "باب ما جاء في التطير"
وقول الله تعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 131]
وقوله: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يس: 19].
وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر" أخرجاه،(1). وزاد مسلم: "ولا نوء، ولا غول".(2).
ولهما عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل" قالوا: وما الفأل؟ قال: "الكلمة الطبية".(3).
ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر قال: ذُكرت الطيرة عند رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال: "أحسنها الفأل، ولا ترد مسلماً، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأت بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك".(4).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (5757) ومسلم (2220).
(2) أخرجه مسلم (2222).
(3) أخرجه البخاري (5776) وسلم (2224)
(4) أخرجه أبو داود (3719) وصححه النووي.(16/263)
ص -334- ... وله من حديث ابن مسعود مرفوعاً: "الطيرة شرك، الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل" رواه أبو داود، والترمذي وصححه،(1). وجعل آخره من قول ابن مسعود.
ولأحمد من حديث ابن عمرو: " من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك" قالوا: وما كفارة ذلك؟ قال: "أن تقولوا: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك".(2).
وله من حديث الفضل بن العباس: "إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك".(3).
فيه مسائل:
الأولى: التنبيه على قوله: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} مع قوله: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ}.
الثانية: نفي العدوى.
الثالثة: نفي الطيرة.
الرابعة: نفي الهامة.
الخامسة: نفي الصّفَر.
السادسة: أن الفأل ليس من ذلك، بل مستحب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أبو داود (3910) والترمذي (1614)..
(2) أخرجه أحمد2/220.
(3) أخرجه أحمد (2131).(16/264)
ص -335- ... السابعة: تفسير الفأل.
الثامنة: أن الواقع في القلوب من ذلك –مع كراهته- لا يضر، بل يُذهبه الله بالتوكل.
التاسعة: ذكر ما يقول من وجده.
العاشرة: التصريح بأن الطيرة شرك.
الحادية عشرة: تفسير الطيرة المذمومة.
الشرح:
هذا "باب ما جاء في التطير" سبق بيان أن الطيرة نوع من السحر، ولهذا جاء المؤلف –رحمه الله- بهذا الباب بعد الأبواب المتعلقة بالسحر، لأنها من أنواعه بنص الحديث.
ومناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد: أن التطير نوع من الشرك بالله –جل وعلا- بشرطه، والشرك الذي يكون من جهة التطير منافٍ لكمال التوحيد الواجب؛ لأنه شرك أصغر.
وحقيقة التطير: أنه التشاؤم أو التفاؤل بحركة الطير من السوانح والبوارح، أو النطيح والقعيد، أو بغير الطير مما يحدث. فكانوا في الجاهلية إذا أراد أحد أن يذهب إلى مكان، أو يمضي في سفر، أو أن يعقد له خياراً استدل بما يحدث له من أنواع حركات الطيور، أو بما يحدث له من الحوادث على أن هذا السفر سفر سعيد فيمضي فيه، أو أنه سفر سيئ وعليه فيه وبال فيرجع عنه.
وعلى هذا فضابط الطيرة الشركية التي من قامت في قلبه وحصل له شرطها وضابطها فهو مشرك الشرك الأصغر، هو ما جاء في آخر الباب من قوله عليه الصلاة(16/265)
ص -336- ... والسلام: "إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك"(1). فالطيرة شرك، وهي التي تقع في القلب، ويبني عليها المرء إمضاء في الفعل، أو نكوصاً عنه. فإذا خرج مثلاً من بيته وهو ينوي سفراً أو رحلة، أو ينوي القيام بصفقة تجارة، أو نحو ذلك، فحصل أمامه حادث، فهذا الحادث الذي حصل أمامه من تصادم سيارة، أو اعتداء من واحد على آخر، أو نحو ذلك، إن أوقع في قلبه شؤما، واستدل بهذا الحادث على أنه سيفشل في سفره أو تجارته أو أنه سيصيبه مكروه في سفره، ورجع ولم يمضِ فقد حصل له التطير الشركي، أما إذا حصل ذلك في قلبه وحصل له نوع تشاؤم، ولكنه مضى وتوكل على الله، فهذا لا يكاد يسلم منه أحد، كما جاء في حديث ابن مسعود "وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل"(2). كما سيأتي.
فهذه حقيقة التطير الشركي وضابطه، وتبين أن التطير عام ليس خاصاً بالطير وحركاتها، وقد تقدم في "باب ما جاء في شيء من أنواع السحر" أن العيافة متعلقة بالطير، كما فسرها عوف الأعرابي بقوله: "العيافة زجر الطير"ز فهي متعلقة بالطير من حيث إنه يحرك الطير ويزجره حتى ينظر أين يتحرك، وأما الطيرة فهي أن يتشاءم أو يتفاءل ويمضي أو يرجع بحركة تحصل أمامه ولو لم يزجر أو يفعل، أو بشيء يحصل أمامه، إما من الطير أو غيره.
قوله: "باب ما جاء في التطير" يعني: من أنه شرك بالله –جل وعلا إذا أمضى أو رجع، وكفارة التطير إذا وقع في القلب، ونحو ذلك من الأحكام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد1/213.
(2) أخرجه أحمد1/389، 438، 440، وأبو داود (3910) والترمذي (1614).(16/266)
ص -337- ... وقول الله تعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 131] هذا مقطع من آية سورة الأعراف أولها: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[الأعراف: 131] يعني: إذا أتاهم خصب وسعة وزيادة في الأرزاق {قَالُوا لَنَا هَذِهِ} يعني: نحن المستحقون لها، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} يعني: أصابهم جدب، أو نقص في الأرزاق، أو بلاء، قالوا: هذا بسبب شؤم موسى ومن معه، فهم الذين بسببهم وبسبب أقوالهم وأعمالهم حصل لنا هذا السوء وهذه الويلات، فتطيروا بهم، يعني: جعلوهم سبباً لما حصل لهم، قال جل وعلا: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} طائرهم، يعني: ما يطير عنهم من عمل صالح أو طالح، وأنهم يستحقون الحسنات أو يستحقون السيئات، كل هذا عند الله –جل وعلا- أو أن معنى قوله: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} يعني: أن سبب ما يأتيهم من الحسنات أو ما يأتيهم من السيئات أن ذلك من جهة القضاء والقدر، فهو عند الله جل وعلا.
ومناسبة هذه الآية لهذا الباب: أن هذا التطير من صفات أعداء الرسل، ومن خصال المشركين، وإذا كان كذلك فهو مذموم، ومن خصال المشركين الشركية، وليست من خصال أتباع الرسل، وأما أتباع الرسل فإنهم يعلقون ذلك بما عند الله من القضاء والقدر، أو بما جعله الله –جل وعلا- لهم من(16/267)
ص -338- ... ثواب أعمالهم أو العقاب على أعمالهم كما قال تعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ}.
وقوله: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} الآية، وهي من سورة يسين، والذين تطيروا بأولئك هم المشركون أصحاب تلك القرية حيث قالوا: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال أتباع الرسل: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ}[يس: 18-19] يعني: سبب وقوع السيئات عليكم، أو سبب قدوم الحسنات عليكم هو من عند أنفسكم، فالسوء الذي سينالكم والعقاب الذي سينزل بكم ملازم ما تتطيرون به من عمل سوء، ومن معاداة للرسل، وتكذيب للرسل، هذا ملازم لكم وستتطيرون به {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} لأنه من جهة أنهم فعلوا السيئات وكذبوا الرسل وهذا سيقع عليهم وباله.
ومناسبة هذه الآية للباب كمناسبة الآية قبلها من أن هذه هي قالة المشركين وأعداء الرسل.
"عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر" أخرجاه،(1). وزاد مسلم: "ولا نوء، ولا غول".(2).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (5757) ومسلم (2220).
(2) من رواية جابر (2222).(16/268)
ص -339- ... موطن الشاهد قوله: "ولا طيرة" من المعلوم أن المنفي هنا ليس هو وجود الطيرة؛ لأن الطيرة موجودة من جهة اعتقاد الناس، ومن جهة استعمالها، وكذلك العدوى موجودة من جهة الوقوع، ولهذا قال العلماء: النفي هنا راجع إلى ما تعتقده العرب ويعتقده أهل الجاهلية؛ لأن (لا) هنا: نافية للجنس واسمها مذكور، وخبرها محذوف لأجل العلم به، فإن الجاهليين يؤمنون بوجود هذه الأشياء، ويؤمنون أيضاً بتأثيرها، فالمنفي ليس هو وجودها، وإنما هو تأثيرها فيكون التقدير هنا: لا عدوى مؤثرة بطبعها ونفسها وإنما تنتقل العدوى بإذن الله –جل وعلا- وكان أهل الجاهلية يعتقدون أن العدوى تنقل بنفسها، فأبطل الله ذلك الاعتقاد، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا عدوى" يعني: مؤثرة بنفسها.
"ولا طيرة" أي مؤثرة أيضاً، فإن الطيرة شيء وهمي يكون في القلب، لا أثر له في قضاء الله وقدره، فحركة السانح، والبارح، أو النطيح، أو القعيد، لا أثر لها في حكم الله وفي ملكوته، وفي قضائه وقدره، فخبر (لا) النافية للجنس تقديره: (مؤثرة) أي لا طيرة مؤثر، بل الطيرة شيء وهمي.
وكذلك قوله: "ولا هامة ولا صفر..." إلخ الحديث.
وقد سبق بيان أن خبر (لا) النافية للجنس يحذف كثيرا في لغة العرب إذا كان معلوما، كما قال ابن مالك في آخر باب (لا) النافية للجنس في الألفية:
وشاع في ذا الباب إسقاط الخبر ... إذا المراد مع سقوطه ظهر
"ولهما عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى" يعني: لا عدوى مؤثرة بنفسها، بل بإذن الله جل وعلا.(16/269)
ص -340- ... "ولا طيرة" مؤثرة أصلاً، وإنما ذلك راجع إلى قضاء الله وقدره.
قوله: "ويعجبني الفأل" قالوا: وما الفأل؟ قال: "الكلمة الطبية".(1). كان عليه الصلاة والسلام يحب الفأل وفسره بأنه الكلمة الطبية؛ لأن الكلمة الطيبة إذا سمعها فتفاءل بها، وأنه سيحصل له كذا وكذا من الخيرات، يكون من باب حُسن الظن بالله –جل وعلا- فالفأل حسن ظن بالله، والتشاؤم سوء ظن بالله –جل وعلا- ولهذا كان الفأل ممدوحاً ومحموداً، والشؤم مذموماً.
ومعلوم أن العبد مأمور بأن يحسن الظن بالرب –جل وعلا- ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يتفاءل، وكل ذلك من تعظيم الله –جل وعلا- وحسن الظن به وتعلق القلب به، وأنه لا يفعل للعبد إلا ما أصلح له.
" ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر قال: ذُكرت الطيرة عند رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال: "أحسنها الفأل" الطيرة: يعني: التأثر بالكلمة؛ لأننا ذكرنا أن الطيرة عامة تشمل الأقوال والأعمال التي تحصل أمام العبد، فإذا كان ثَمَّ تطير فإن أحسنه الفأل، يعني: أن يقع في قلبه أنه سيحصل له كذا وكذا من جراء كلمة سمعها، أو من جراء فعل حصل له. وأحسنُ ذلك الفأل وغيره مذموم، وإنما كان الفأل محموداً وممدوحاً ومأذوناً به، لما ذكرنا من أنه إذا تطير متفائلاً فإنه محسن الظن بالله –جل وعلا- لأن التفاؤل يشرح الصدر، ويؤنس العبد، ويهذب الضيق الذي يوحيه الشيطان ويسببه في قلب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (5776) وسلم (2224)(16/270)
ص -341- ... العبد، والشيطان يأتي للعبد فيجعله يتوهم أشياء تضره وتحزنه، فإذا فتح العبد على قلبه باب التفاؤل أبعد عن قلبه باب تأثير الشيطان في النفس.
قوله: "ولا ترد مسلماً" هذا خبر في معنى النهي، وقد بينا أن النهي قد يُعدل عنه للخبر، كما أن الأمر قد يعدل عنه إلى الخبر لتأكيد النهي ولتأكيد الأمر، قال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ} [النحل: 49] فهذا خبر مثبت لكنه كالأمر المؤكد، وقوله: "لا ترد مسلماً" هذا خبر منفي لكن فيه النهي أن ترد الطيرة مسلماً عن حاجته، فإذا ردته عن حاجته، فقد حصل له الشرك بالتطير.
"فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأت بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك".(1). هذا دعاء عظيم في دفع ما يأتي للقلب من أنواع التشاؤم وأنواع الطيرة.
"وعن ابن مسعود مرفوعاً: "الطيرة شرك، الطيرة شرك"(2). يعني: أنها شرك أصغر بالله جل وعلا.
وقوله: "وما منا إلا" يعني: إلا وقد يقع في قلبه بعض التطير؛ لأن هذا من الشيطان، والشيطان يأتي القلوب فيغريها بما يفسدها، "وما منا إلا" يعني: ويعرض له ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أبو داود (3719).
(2) تقدم.(16/271)
ص -342- ... قوله: "ولكن الله يذهبه بالتوكل" لأن حسنه التوكل وإتيان العبد بواجب التوكل يذهب عنه كيد الشيطان بالتطير، فالواجب على العبد إذا عرض له شيء من التشاؤم ألا يرجع عما أراد عمله، بل يُعظم التوكل على الله –جل وعلا- لأن هذه الأشياء التي تحصل لا تدل على الأمور المغيبة؛ لأنها أمور طرأت ووقعت هكذا أمام العبد، وليس لها أثر فيما يحصل مستقبلاً.
ولأحمد من حديث ابن عمرو: " من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك" هذا هو ضابط الطيرة التي تكون شركاً، وهو أن ترد المتطير عن حاجته، فإذا لم ترده عن حاجته، ولم يستجب لها، فلا حرج عليه في ذلك إلا أن عظُمت في قلبه، فربما دخلت في أنواع محرمات القلوب، والذي يذهب ذلك كله هو التوكل على الله، وتعظيم الرغب فيما عنده وحسن الظن بالله جل وعلا.
"قالوا: وما كفارة ذلك؟ قال: "أن تقولوا: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك".(1). لا طير إلا طيرك: يعني: لن يحصل إلا قضاؤك الذي قضيته، أو لن يحصل ويُقضى إلا ما قدرته على العبد. فعلم المغيبات إنما هو عند الله جل وعلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد2/220.(16/272)
ص -343- ... "باب ما جاء في التنجيم"
قال البخاري في صحيحه: قال قتادة: "خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يُهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به".(1). انتهى.
وكره قتادة تعلم منازل القمر، ولم يُرخّص ابن عيينة فيه. ذكره حرب عنهما. ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق.
وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن خمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر" رواه أحمد وابن حبان في صحيحه. (2).
فيه مسائل:
الأولى: الحكمة في خلق النجوم.
الثانية: الرد على من زعم غير ذلك.
الثالثة: ذكر الخلاف في تعلم المنازل.
الرابعة: الوعيد فيمن صدّق بشيء من السحر، ولو عرف أنه باطل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري6/295 معلقاً ووصله ابن جرير في "التفسير" 1/91.
(2) أخرجه أحمد4/399 وابن حبان7/366.(16/273)
ص -344- ... الشرح:
"باب ما جاء في التنجيم" يعني في حكم التنجيم، وانه منقسم إلى جائز ومحرم، والمحرم منه نوع من أنواع السحر، وهو كفر وشرك بالله –جل وعلا- فادعاء معرفة المغيبات عن طريق النجوم، وهو التنجيم المذموم المحرم الذي هو من أنواع الكهانة والسحر.
والتنجيم الذي يتعاطاه الناس ثلاثة أنواع:
الأول: التنجيم الذي هو اعتقاد أن النجوم فاعلة مؤثرة بنفسها، وان الحوادث الأرضية منفعلة ناتجة عن النجوم، وعن إرادات النجوم، وهذا تأليه للنجوم، وهو الذي كان يصنعه الصائبة ويجعلون لكل نجم وكوكب صورة وتمثالاً، تحلُّ فيها أرواح الشياطين، فتأمر أولئك بعبادة تلك الأصنام والأوثان، وهذا بالإجماع كفر أكبر وشرك كشرك قوم إبراهيم.
والنوع الثاني من التنجيم: هو ما يسمى علم التأثير، وهو الاستدلال بحركة النجوم والتقائها وافتراقها، وطلوعها وغروبها، على ما سيحصل في الأرض، فيجعلون حركة النجوم دالة على ما سيقع مستقبلا في الأرض، والذي يفعل هذه الأشياء ويستدل بها يقال له: المنجِّم، وهو نوع من أنواع الكهان؛ لأنه يخبر بالأمور المغيبة عن طريق الاستدلال بحركات الأفلاك وتحرك النجوم، وهذا النوع محرم وكبيرة من الكبائر، وهو نوع من الكهانة وكفر بالله –جل وعلا- لأن النجوم ما خلقت لذلك، وهؤلاء تأتيهم الشياطين فتوحي إليهم بما يريدون وبما سيحصل في المستقبل ويجعلون حركة النجوم دليلاً على ذلك.(16/274)
ص -345- ... وقد أبطل قول المنجمين في أشياء كثيرة من الواقع ونحو ذلك كما في فتح عمورية في قصيدة أبي تمام المشهورة:
السيف أصدق أنباء من الكتب ..... وغيرها.
النوع الثالث مما يدخل في التنجيم: ما يسمى بعلم التسيير، وهو أن يتعلم منازل النجوم وحركاتها، لأجل أن يعلم القبلة، والأوقات، وما يصلح من الأوقات للزرع وما يصلح، والاستدلال بذلك على هبوب الرياح، وعلى الوقت الذي جرت سنة الله أن ينزل فيه من المطر كذا، ونحو ذلك.
فهذا يسمى علم التسيير، وقد رخص فيه بعض العلماء، وسبب الترخيص فيه: أنه يجعل النجوم وحركاتها والتقاءها وافتراقها، وطلوعها أو غروبها، يجعل ذلك وقتاً وزمناً، لا يجعله سبباً، فيجعل هذه النجوم علامة على زمن يصلح فيه كذا وكذا، والله –جل وعلا- جعل النجوم علامات، كما قال تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] فهي علامة على أمور كثيرة، كأن يعلم –مثلا- أنه بطلوع النجم الفلاني يدخل وقت العشاء، فدخول الوقت ليس بسبب طلوع النجم، ولكن حين طلع استدللنا بطلوعه على دخول الوقت، وإلا فهو ليس بسببٍ لحصول البرد، وليس بسبب لحصول الحر، وليس بسبب للمطر، وليس بسبب لمناسبة غرس النخل أو زرع المزروعات ونحو ذلك، ولكنه وقت، فإذا كان على ذلك فلا بأس به قولاً أو تعلماً، لأنه يجعل النجوم وظهورها وغروبها أزمنة وذلك مأذون به.(16/275)
ص -346- ... "قال البخاري في صحيحه: قال قتادة: "خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء" كما قال جل وعلا: {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً} [فصلت: 12].
"ورجوماً للشياطين" والآيات على ذلك كثيرة.
"وعلامات يُهتدى بها" كما قال جل وعلا: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [النمل: 63] وقال جل وعلا: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] ونحو ذلك من الآيات، فهي علامات يهتدى بها إلى معرفة الجهات، كجهة القبلة، وجهة الشمال، وجهة الغرب، وجهة الشرق، ويهتدى بها أيضاً إلى معرفة أماكن البلاد والقرى، حيث يُعرف أن البلدة الفلانية باتجاه النجم الفلاني، فإذا أراد السائر ليلاً في البر أو البحر أن يتجه إلى بلد معين استدل واهتدى بالنجوم إليه، ونحو ذلك مما أجرى الله سنته به. قوله: "فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به".(1). وهذا صحيح؛ لأن النجوم خلق من خلق الله ولا نفهم سرها إلا بما أخبر الله –جل وعلا- به، فما أخبرنا به أخذناه، ومن لم نخبر به فلا يجوز أن نتكلف فيه، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "إذا ذكر القدر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري 6/295.(16/276)
ص -347- ... فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا".(1). والمراد هنا بذكر النجوم، يعني: في غير ما جاء به الدليل، إذا ذكر القدر في غير ما جاءت به الأدلة فأمسكوا، وإذا كر أصحابي في غير ما جاء به من فضلهم وحسن صحبتهم وسابقتهم ونحو ذلك من الدليل فأمسكوا، وكذلك إذا ذكرت النجوم وما فيها بغير ما جاء فيه الدليل فأمسكوا؛ لأن ذلك ذريعة لأمور محرمة.
قوله: "وكره قتادة تعلم منازل القمر، ولم يُرخّص ابن عيينة فيه. ذكره حرب عنهما. ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق" جعل الله عز وجل القمر منازل كما قال: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] فله ثمانية وعشرون منزلا ينزل في كل ليلة منزلة منها،، فما حكم تعلم هذه المنازل؟ فيها قولان لأهل العلم: فقد كرهه بعضهم، ورخص فيه طائفة، وهو الصحيح؛ لأنه _جل وعلا- امتن على عباده بذلك فقال: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَاب} [يونس: 5] وظاهر الآية أن حصول المنة به في تعلمه، وذلك دليل الجواز.
"وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن خمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر" (2). وجه الاستدلال من هذا الحديث قوله: "ومصدق بالسحر" وقد تقدم أن من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه الطبراني في الكبير (1427-10448).
(2) أخرجه أحمد4/399 وابن حبان7/366.(16/277)
ص -348- ... التنجيم ما هو من أنواع السحر، كما قال عليه الصلاة والسلام: "من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد"(1). وإذا صدق بالنجوم، فإنه مصدّق بالسحر، والمصدق بالسحر لا يدخل الجنة.
قال هنا: "ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن خمر" وإدمان الخمر من الكبائر.
"وقاطع الرحم" وهي من الكبائر.
"ومصدق بالسحر" وهو أيضاً من الكبائر.
ومما يدخل في التنجيم في هذا العصر بوضوح –مع غفلة الناس عنه- ما يكثر في المجلات مما يسمونه البروج، فيخصصون صفحة أو أقل منها في الجرائد، ويجعلون عليها رسم بروج السنة برج الأسد، والعقرب، والثور، إلى آخره، ويجعلون أمام كل برج ما سيحصل فيه، فإذا كان الرجل أو المرأة مولودا في ذلك البرج يقول: سيحصل لك في هذا الشهر كذا وكذا وكذا، وهذا هو التنجيم الذي هو التأثير، والاستدلال بالنجوم والبروج على التأثير في الأرض، وعلى ما سيحصل في الأرض، وهو نوع من الكهانة، ووجوده في المجلات والجرائد على ذلك النحو وجود للكهان فيها، فهذا يجب إنكاره إنكاراً للشركيات ولدّعاء معرفة الغيب وللسحر وللتنجيم؛ لأن التنجيم من السحر كما ذكرنا، ويجب إنكاره على كل صعيد، ويجب أيضاً على كل مسلم أن لا يدخله بيته، وأن لا يقرأه، ولا يطّلع عليه، لأن الاطلاع على تلك البروج وما فيها –ولو لمجرد المعرفة- يدخل في النهي من جهة أنه أتى الكاهن غير منكر عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم.(16/278)
ص -349- ... وإذا قرأ هذه الصفحة وهو يعلم برجه الذي وُلد فيه، أو يعلم البرج الذي يناسبه، وقرأ ما فيه، فكأنه سأل كاهناً، فلا تقبل له صلاة أربعين يوماً، فإن صدق بما في تلك البرج فقد كفر بما أنزل على محمد، وهذا يدلك على غربة التوحيد بين أهله، وغربة فهم حقيقة هذا الكتاب –كتاب التوحيد- حتى عند أهل الفطرة وأهل الدعوة، فإنه يجب إنكار ذلك على كل صعيد، وأن لا يؤثم المرء نفسه، ولا من في بيته بإدخال شيء من الجرائد التي فيها ذلك في البيوت؛ لأن هذا معناه إدخال للكهنة إلى البيوت، وهذا –والعياذ بالله- من الكبائر، فواجب إنكار ذلك وتمزيقه والسعي فيه بكل سبيل حتى يُدحر أولئك؛ لأن أهل التنجيم وأهل البروج هم من الكهنة، والتنجيم له معاهد معمورة في لبنان وفي غيرها، يتعلم فيها الناس حركة النجوم، وما سيحصل بحسابات معروفة، وجداول معينة، ويخبرون بأنه إذا كان من أهل البرج الفلاني فإنه سيحصل له كذا وكذا عن طريق تعلم وهمي يغرهم به رؤوسهم وكهانهم، فالواجب على طلبة العلم أن يسعوا في تبصير الناس بحقيقة ذلك في كلماتهم، وبعد الصلوات، وفي خطب الجمع؛ لأن هذا مما كثر البلاء به، والإنكار فيه قليل، والتنبيه عليه ضعيف، والله المستعان.(16/279)
ص -350- ... "باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء"
وقول الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82].
وعن أبي مالك الأشعري –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة، وقال: النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب" رواه مسلم. (1).
ولهما عن زيد بن خالد –رضي الله عنه- قال: "صلى لنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم – صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب".(2).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم (934).
(2) أخرجه البخاري (846) و(1038) و(4147) و( 7503) ومسلم (71).(16/280)
ص -351- ... ولهما من حديث ابن عباس بمعناه، وفيه: قال بعضهم: "لقد صدق نوء كذا وكذا، فأنزل الله هذه الآية: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} إلى قوله: {تُكَذِّبُونَ}(1).
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الواقعة.
الثانية: ذكر الأربع التي من أمر الجاهلية.
الثالثة: ذكر الكفر في بعضها.
الرابعة: أن من الكفر ما لا يُخرج من الملة.
الخامسة: قوله: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر" بسبب نزول النعمة.
السادسة: التفطن للإيمان في هذا الموضع.
السابعة: التفطن للكفر في هذا الموضع.
الثامنة: التفطن لقوله: "لقد صدق نوء كذا وكذا".
التاسعة: إخراج العالم للمتعلم المسألة بالاستفهام عنها، لقوله: "أتدرون ماذا قال ربكم؟".
العاشرة: وعيد النائحة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم (73).(16/281)
ص -352- ... الشرح:
هذا "باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء" والاستسقاء بالأنواء هو نسبة السقيا إلى الأنواء، والأنواء: هي النجوم، يقال للنجم: نوء.
والعرب والجاهليون كانوا يعتقدون أن النجوم والأنواء سبب في نزول المطر، فيجعلونها أسباباً، ومنهم –وهم طائفة قليلة- من يجعل النوء والنجم هو الذي يأتي بالمطر كما سبق في حال الطائفة الأولى من المنجمين الذي يجعلون المفعولات منفعلة عن النجوم وعن حركتها.
فقوله –رحمه الله –"باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء" يعني: باب ما جاء في نسبة السقيا إلى النوء، وعبّر بلفظ الاستسقاء، لأنه جاء في الحديث "والاستسقاء بالنجوم".
ومناسبة هذا الباب لما قبله من الأبواب: أن الاستسقاء بالأنواء نوع من التنجيم؛ لأنه نسبة السقيا إلى النجم وذلك أيضا من السحر؛ لأن التنجيم من السحر بمعناه العام.
ومناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد: أن الذي ينسب السقيا والنعمة والفضل الذي يؤتاه حين نزول المطر إلى النوء أو النجم، وناسباً النعم إلى غير الله –جل وعلا- ومعتقدا أن النجوم أسباب لهذه المسببات من نزول المطر ونحوه، وهذا مناف لكمال التوحيد، فإن كمال التوحيد الواجب يوجب على العبد أن ينسب النعم جميعا إلى الله وحده، وأن لا ينسب شيئاً منها إلى غير الله، ولو كان ذلك الغير سبباً، فينسب النعمة إلى مسديها ولو كان من أجرى الله على(16/282)
ص -353- ... يديه تلك النعم سبباً من الأسباب، فإنه لا ينسبها إلى غير الله –جل وعلا- كيف وأن النجوم ليست بسبب أصلا؟! ففي ذلك نوعان من التعدي:
1- أنها ليست بأسباب أصلاً.
2- أن تجعل أسباباً لم يجعلها الله –جل وعلا- أسباباً، وتنسب النعم والفضل والسقيا إليها، وهذا مناف لكمال التوحيد، وكفر أصغر بالله جل وعلا.
وقول الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82].
قال علماء التفسير: معنى الآية: وتجعلون شكر رزقكم، أي شكر ما رزقكم الله من النعم ومن المطر أنكم تكذبون بأن النعمة من عند الله بنسبتها لغير الله –جل وعلا- وإضافتها إلى الأنواء، والواجب –شكراً لنعم الله جل وعلا، وشكراً لله جل وعلا، على ما رزق وأنعم وتفضل- أن تُنسب النعم جميعا إلى الله، وأن ينسب الفضل على الرب وحده دون ما سواه.
"وعن أبي مالك الأشعري –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن" قوله: "من أمر الجاهلية" هذا دليل على ذمها وأنها من شعب الجاهلية، ومن المعلوم أن شعب الجاهلية جميعا يجب الابتعاد عتها؛ لأن خصال أهل الجاهلية مذمومة، كما جاء في صحيح البخاري من حديث ابن عباس أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "أبغض الرجال إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومطّلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه، ومبتغٍ في الإسلام سنة الجاهلية"(1). فكل شعب من شعب أهل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (6882).(16/283)
ص -354- ... الجاهلية إذا ظهر من يعيدها إلى أهل الإسلام بعد أن أنقذهم الله من ذلك ببعثة النبي عليه الصلاة والسلام وظهور القرآن والسنة وبيان الأحكام فإنه مبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، وهو من أبغض الرجال إلى الله جل وعلا.
فقوله: "من أمر الجاهلية" هذا دليل على الذم، وليس بإخبار بأنها باقية دليل الإباحة.
قوله: "لا يتركونهن" الفخر بالأحساب" يعني: على وجه التكبر والرفعة.
"والطعن في الأنساب" أي النيل، والقدح في أنساب الناس من غير دليل شرعي، ومن غير حاجة شرعية، فإن القاعدة التي ذكرها الإمام مالك وغيره من أهل العلم: أن الناس مؤتمنون على أنسابهم، فإذا كان لا يترتب على ذكر النسب أثر شرعي من إعطاء حق لغير أهله، أو بميراث، أو بعقد نسبة، أو بزواج، ونحو ذلك فإن الناس مؤتمنون على أنسابهم، أما إذا كان له أثر فلا بد من الإثبات، لا سيما إذا كان مخالفا لما هو شائع متواتر عند الناس، فالطعن في الأنساب من أمور الجاهلية.
"والاستسقاء بالنجوم" وهو نسبة السقيا إلى النجوم، ويشمل ما هو أعظم من ذلك وهو أن تطلب السقيا من النجم، كحال الذين يعتقدون أن الحوادث الأرضية تحصل بالنجوم نفسها، وأن النجوم هي التي تحدث المقدرات الأرضية، والمنفعلات الأرضية.
قوله: "والنياحة، وقال: النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب" رواه مسلم". (1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم.(16/284)
ص -355- ... النياحة من الكبائر وهي رفع الصوت عند المصيبة، وشق الجيب ونحو ذلك، وهي منافية للصبر الواجب، ومن خصال الجاهلية.
ولهما عن زيد بن خالد –رضي الله عنه- قال: "صلى لنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم – صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب".(1).
قوله: "على إثر سماء كانت من الليل" يعني: مطر، والمطر يطلق عليه سماء؛ لأنه يأتي من جهة العلو،كما قال الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
يعني: إذا نزل المطر.
"فلما انصرف" يعني: من صلاة الصبح.
"أقبل على الناس فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟" قالوا: الله ورسوله أعلم".هذه من الكلمات التي تُقال في حياته عليه الصلاة والسلام، وأما بعد وفاته عليه الصلاة والسلام فإذا سئل المرء عما لا يعلم فليقل: لا أدري، أو فليقل: الله أعلم، ولا يقل: الله ورسوله أعلم؛ لأن ذكر علم النبي عليه الصلاة والسلام مقيد بحياته الشريفة عليه الصلاة والسلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم.(16/285)
ص -356- ... "قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر" هنا قسم العباد إلى قسمين: مؤمن بالله –جل وعلا- وهو الذي نسب هذه النعمة وأضافها إلى الله –جل وعلا- وشكر الله عليها، وعرف أنها من عند الله، وحمد الله وأثنى عليه بها، والصنف الثاني: "وكافر" ولفظ كافر اسم فاعل الكفر، أو اسم من قام به الكفر، وهذا يصدق على الكفر الأصغر والكفر أكبر، فهم انقسموا إلى مؤمنين وإلى كافرين، والكافرون منهم نوعان:
النوع الأول: من كفر كفراً أصغر، كمن يقول: مطرنا بنوء كذا وكذا، يعتقد أن النوء والنجم والكوكب سبب في المطر، فهذا كفره كفر أصغر؛ لأنه لم يعتقد التشريك والاستقلال، ولكنه جعل ما ليس سبباً سبباً ونسب النعمة إلى غير الله، فقوله من أقوال أهل الكفر، وهو كفر أصغر بالله –جل وعلا- كما قال العلماء.
والنوع الثاني: كافر الكفر الأكبر، وهو الذي اعتقد أن المطر أثر من آثار الكوكب والنجوم، وأنها هي التي تفضلت بالمطر، وهي التي تحركت بحركة لما توجه إليها عابدوها أنزلت المطر إجابة لدعوة عابديها، وهذا كفر أكبر بالإجماع؛ لأنه اعتقاد ربوبية وإلهية لغير الله جل وعلا.
"فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب" لأنه نسب النعمة لله وحده، ونسبة النعمة لله وحده دلت على إيمانه.
ولهما من حديث ابن عباس بمعناه، وفيه: قال بعضهم: "لقد صدق نوء كذا وكذا، فأنزل الله هذه الآية: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} إلى قوله: {تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 75-82](1). وهذا ظاهر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم (73).(16/286)
ص -357- ... وهنا تنبيه في المسألة: وهو ما يحصل أحيانًا من بعض الناس من أنهم يقولون في الوسمي مثلاً إذا طلع يأتي المطر، ونجم سهيل إذا طلع فسيحصل كذا ونحو ذلك، فهذا القول كما علمتَ له حالتان:
الحال الأولى: أن يقول ذلك معتقدا أن النجم أو البرج الذي أتى هو زمن جعل الله سنته فيه أنه يأتي المطر، وإن شاء الله سيأتي مطر ونحو ذلك، فهذا جعلٌ للوسم زمناً، وهذا جائز.
الحال الثاني: أن يقول: الوسم جاء وسيأتي المطر، أو اطلع النجم الفلاني وسيأتينا كذا وكذا معتقدا أن هذا الفصل أو ذلك البرج أو ذلك النجم سبب، فهذا كفر ونسبة للنعمة لغير الله، واعتقاد تأثير أشياء لا تأثير لها.
فينبغي أن يُفرّق بين ما يستعمله العوام من جعل تلك المواسم، والنجوم أزمانا وأوقاتا للمطر أو للبرد، أو الحر، وبين نسبة أهل الشرك والضلال الأفعال للنجوم، إما استقلالاً، وإما على وجه التسبب.(16/287)
ص -358- ... باب قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165]
وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24].
عن أنس أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" أخرجاه. (1).
ولهما عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كنّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار"(2). وفي رواية: "لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى ..." (3). إلى آخره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (15) ومسلم (44).
(2) أخرجه البخاري (16) و(21) و(6941) ومسلم (43).
(3) أخرجه البخاري (6041).(16/288)
ص -359- ... وعن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: "من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه، حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئاً" رواه ابن جرير. وقال ابن عباس في قوله: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَاب} قال: المودة.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية البقرة.
الثانية: تفسير آية البراءة.
الثالثة: وجوب محبته صلى الله عليه وسلم على النفس والأهل والمال.
الرابعة: نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام.
الخامسة: أن للإيمان حلاوة وقد يجدها الإنسان وقد لا يجدها.
السادسة: أعمال القلب الأربع التي لا تنال ولاية الله إلا بها، ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها.
السابعة: فهم الصحابي للواقع: أن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا.
الثامنة: تفسير {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَاب}.
التاسعة: أن من المشركين من يحب الله حباً شديداً.
العاشرة: الوعيد على من كان الثمانية أحب إليه من دينه.
الحادية عشرة: أن من اتخذ ندّاً تساوي محبته محبة الله، فهو الشرك الأكبر.(16/289)
ص -360- ... الشرح:
هذا الباب والأبواب التي بعده شروع من الشيخ محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله- في ذكر العبادات القلبية، وما يجب أن تكون عليه تلك العبادات من الإخلاص لله –جل وعلا- فهذا في ذكر واجبات التوحيد ومكملاته، وبعض العبادات القلبية، وكيف يكون إفراد الله –جل وعلا- بها.
وابتدأها بباب المحبة، وأن العبد يجب أن يكون الله –جل وعلا- أحب إليه من كل شيء حتى من نفسه، وهذه المحبة المراد منها محبة العبادة، وهي المحبة التي فيها تعلق المحبوب، بما يكون معه امتثال للأمر رغباً إلى المحبوب واختياراً، واجتناب النهي رغبة واختيارا.
فمحبة العبادة هي المحبة التي تكون في القلب، يكون معها الرغب والرهب، والطاعة والسعي في أمراض المحبوب، والبعد عما لا يحب المحبوب. والموحد لم يوحد الله إلا بسبب ما وقر في قلبه من محبة الله –جل وعلا- لأنه استدل بربوبية الله –جل وعلا- وأنه الخالق وحده، وأنه ذو الملكوت وحده، وأنه ذو الفضل والنعمة على عباده وحده، وأنه محبوب، وأنه يجب أن يُحب، وإذا أحب العبد ربه، فإنه يجب عليه أن يوحده بأفعال العبد حتى يكون محباً له على الحقيقة؛ لذلك نقول: المحبة التي هي من العبادة هي المحبة التي يكون فيها اتباع للأمر، واجتناب للنهي، ورغب ورهب، ولهذا قال طائفة من أهل العلم: المحبة المتعلقة بالله ثلاثة أنواع:
1- محبة الله على النحو الذي وصفنا، وهذا نوع من العبادات الجليلة، وهي إفراد الله –جل وعلا- بها.
2- محبة في الله، وهو أن يحب الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأن يحب الصالحين في الله، وأن يحب في الله، وأن يبغض في الله.(16/290)
ص -361- ... 3- محبة مع الله، وهذه محبة المشركين لآلهتهم، فإنهم يحبونها مع الله –جل وعلا- فيتقربون إلى الله رغباً ورهباً نتيجة محبة الله، ويتقربون إلى الآلهة رغباً ورهباً نتيجة لمحبتهم لتلك الآلهة، ويتضح المقام بتأمل حال المشركين، وعبدة الأوثان، وعبدة القبور في مثل هذه الأزمنة، فإنك تجد المتوجه لقبر الولي في قلبه من محبة ذلك الولي وتعظيمه ومحبة سدنة ذلك القبر ما يجعله في رغب ورهب، وفي خوف وطمع، وفي إجلال حين يعبد ذلك الولي، أو يتوجه إليه بأنواع العبادة لأجل تحصيل مطلوبه، فهذه محبة العبادة صرفُها لغير الله –جل وعلا- شرك أكبر به، بل هي عماد الدين، بل هي عماد صلاح القلب، فإن القلب لا يصلح إلا بأن يكون محباً لله –جل وعلا- وأن تكون محبته لله –جل وعلا- أعظم من كل شيء، فالمحبة التي هي محبة الله وحده –يعني محبة العبادة- هذه من أعظم أنواع العبادات، وإفراد الله بها واجب، والمحبة مع الله محبة العبادة هذه شركية، فمن أحب غير الله –جل وعلا- محبة العبادة فإنه مشرك الشرك الأكبر بالله جل وعلا.
هذه الأنواع الثلاثة هي المحبة المتعلقة بالله، أما النوع الثاني من أنواع المحبة وهي المحبة المتعلقة بغير الله من جهة المحبة الطبيعية، فقد أذن بها الشرع وأجازها؛ لأن المحبة فيها ليست محبة العبادة والرغب والرهب الذي هو من العبادة، وإنما هي محبة الدنيا، وذلك كمحبة الوالد لولده، والولد لوالده، والرجل لزوجته، والأقارب لأقربائهم، والتلميذ لشيخه، والمعلم لأبنائه، ونحو ذلك من الأحوال، وهذه محبة طبيعية لا بأس بها، بل جعلها الله –جل وعلا- غريزة في الإنسان.(16/291)
ص -362- ... قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً} [البقرة: 165] أندادا، يعني: أشباهاً ونظراء وأكفاء، يعني: يساوونه في المحبة، لهذا قال: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} وأحد وجهي التفسير في قوله: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} يعني: أن المشركين يحبون الأنداد كحبهم لله.
والوجه الثاني من التفسير: أن المشركين يحبون الأنداد كحب المؤمنين لله.
والوجه الأول أظهر، والكاف فيه هنا في قوله: {كَحُبِّ اللَّهِ} بمعنى: مثل، أي يحبونهم مثل حب الله، وهي كاف المساواة ومثلية المساواة، ولهذا قال جل وعلا في سورة الشعراء مخبراً عن قول أهل النار: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97-98} قال العلماء: سووهم برب العالمين في المحبة بدليل هذه الآية، ولم يسووهم برب العالمين في الخلق والرزق وأفراد الربوبية.
وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة: 24]. هذا يدل على أن محبة الله –جل وعلا- واجبة، وأن محبة الله يجب أن تكون فوق كل محبوب، وأن يحب الله أعظم من محبته لأي شيء، قال جل وعلا: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ}(16/292)
ص -363- ... إلى أن قال: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} وهذا وعيد فيدل على أن تقديم محبة غير الله على محبة الله كبيرة من الكبائر، ومحرم من المحرمات؛ لأن الله توعد عليه وحكم على فاعله بالفسق والضلال، فالواجب لتكميل التوحيد أن يحب العبد الله ورسوله فوق كل محبوب، ومحبة النبي عليه الصلاة والسلام هي محبة في الله ليست محبة مع الله، لأن الله هو الذي أمرنا بحب النبي عليه الصلاة والسلام، فإن من أحب الله –جل وعلا- أحب رسله.
عن أنس أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين". (1).
قوله: "لا يؤمن أحدكم" يعني: الإيمان الكامل. وقوله: "حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" يعني: أن يكون محابي مقدمة على محاب غيري، فحتى أكون أحب إليه وأعظم في نفسه من ولده ووالده والناس أجمعين، وفي حديث عمر المعروف أنه قال للنبي عليه الصلاة والسلام: إلا من نفسي فقال: "يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك" فقال عمر: أنت الآن أحب إلي من نفسي، قال: "فالآن يا عمر" يعني كملت الإيمان.
فقوله: "لا يؤمن أحدكم" يعني: الإيمان الكامل حتى يقدم محبة النبي عليه الصلاة والسلام على محبة الولد والوالد والناس أجمعين، ويظهر هذا بالعمل، فإذا كان يقدم محاب هؤلاء على ما فيه مرضاة الله –جل وعلا-
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (15) ومسلم (44).(16/293)
ص -364- ... وعلى ما أمر به عليه الصلاة والسلام؛ فإن محبته للنبي عليه الصلاة والسلام تكون ناقصة؛ لأن المحبة محركة كما قال شيخ الإسلام في كتابه "قاعدة المحبة": المحبة هي التي تُحرك، فالذي يحب الدنيا يتحرك إلى الدنيا، والذي يحب العلم يتحرك للعلم، والذي يحب الله –جل وعلا- محبة عبادة ورغب ورهب يتحرك طالباً لمرضاته، ويتحرك مبعداً عما فيه مساخط الرب جل وعلا.
كذلك الذي يحب النبي عليه الصلاة والسلام على الحقيقة، فإنه يسعى في اتباع سنته، وفي امتثال أمره، وفي اجتناب نهيه، والاهتداء بهديه، والاقتداء بسنته عليه الصلاة والسلام.
"ولهما عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كنّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار"(1).
والاستدلال به ظاهر على أن محبة الله ورسوله يجب أن تكون مقدمة على محبة ما سواهما، وأنها من كمال الإيمان، وأن العبد لن يجد كمال الإيمان إلا بذلك.
"وفي رواية: "لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى ..." إلى آخره. (2). المقصود بالحلاوة هنا الحلاوة الناتجة عن تحصيل كماله؛ لأن الإيمان له حلاوة توجد في الروح، وكلما سعى العبد في تكميل إيمانه اشتد وجده لهذه الحلاوة؛ واشتد شعوره بتلك الحلاوة واللذة التي تكون في القلب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم.
(2) تقدم.(16/294)
ص -365- ... "وعن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: "من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك"هذه محبة في الله راجعة إلى الأمر والنهي، وهي من أقسام المحبة.
قوله: "أحب في الله" يعني: كانت محبته لذلك المحبوب لأجل أمر الله.
"أبغض في الله" يعني: كان بغضه لذلك المبغَض لأجل أمر الله.
"ووالى في الله" كانت موالاته للعقد الذي بينه وبين ذاك في الله –جل وعلا- من أخوة إيمانية.
"وعادى في الله" يعني: لما حصل بينه وبين ذاك الذي خالف أمر الله إما بكفر أو بما دونه.
"فإنما تنال ولاية الله بذلك" يعني: إنما يكون العبد وليا من أولياء الله بهذا الفعل، وهو أن يوالي في الله ويعادي في الله جل وعلا.
والولاية –بالفتح- هي المحبة والنصرة. يقال: والَى، وَلاَيةً، يعني: أحب محبة، ونصر نصرة، وأما الوِلاية –بالكسر- فهي الملك والإمارة، قال جل وعلا: {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} [الكهف: 44] يعني: أن المحبة والنصرة إنما هي لله –جل وعلا- وليست لغيره، فقوله: "إنما تنال ولاية الله بذلك" يعني: تنال محبة الله ونصرته بذلك، بأن يأتي بالمحبة في الله والبغض في الله.
"ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه، حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا،(16/295)
ص -366- ... وذلك لا يجدي على أهله شيئاً"(1). المؤاخاة والمحبة في الدنيا هذه تراد للدنيا، والدنيا قصيرة زائلة، وإنما يغتر بها أهل الغرور. وأما أهل المعرفة بالله، والعلم بالله، وأهل كمال توحيده، وأهل كمال الإيمان، وتحقيق التوحيد فإنما تكون محابهم ومشاعرهم القلبية وأنواع العلوم والمعارف التي تكون في القلب وأنواع العبادات والمقامات والأحوال التي تكون في القلب يكون ذلك كله تبعاً لأمر الله ونهيه ورغبة في الآخرة، أما الدنيا فلها أهلون، وهي مرتحلة عنهم، وهم مقبلون على أمر آخرتهم، ولذلك لن تجدي المحبة في الدنيا على أهلها شيئاً، إنما الذي يجدي هو الحب في الله والرغب في الآخرة.
"وقال ابن عباس في قوله: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} قال: المودة"(2). لأن المشركين كانوا يشركون بآلهتهم، ويحبونها، ويظنون أنها ستشفع لهم يوم القيامة لأجل مودتهم لها، ومحبتهم لها، وستنقطع تلك الأسباب وتلك المدعاة الموهومة يوم القيامة، ولن يجدوا نصيرا، كما قال الله جل وعلا: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} يعني: كل ما ظنوه سبباً نافعاً ينفعهم عند الله فإنه سينقطع يوم القيامة {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} [البقرة: 166].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه ابن المبارك في الزهد (353) وأبو نعيم في الحلية1/312، والطبراني في الكبير (13537).
(2) أخرجه ابن جرير الطبري في التفسير (2423) والحاكم في المستدرك2/272.(16/296)
ص -367- ... "باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]
وقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18]
وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10]
وعن أبي سعيد –رضي الله عنه- مرفوعاً: "إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتِك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره".(1).
وعن عائشة –رضي الله عنها- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس".(2). رواه ابن حبان في صحيحه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" 5/106 و10/41، والبيهقي في "شعب الإيمان" (203) وإسناده ضعيف.
(2) أخرجه ابن حبان 1/247.(16/297)
ص -368- ... فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية آل عمران.
الثانية: تفسير آية براءة.
الثالثة: تفسير آية العنكبوت.
الرابعة: أن اليقين يضعف ويقوى.
الخامسة: علامة ضعفه ومن ذلك هذه الثلاث.
السادسة: أن إخلاص الخوف لله من الفرائض.
السابعة: ذكر ثواب من فعله.
الثامنة: ذكر عقاب من تركه.
الشرح:
"باب قول الله تعالى: { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]" هذا الباب في بيان عبادة الخوف، ومناسبته لكتاب التوحيد ظاهرة، وهي أن خوف العبد من الله –جل وعلا- عبادة من العبادات التي أوجبها الله –جل وعلا- فالخوف والمحبة والرجاء عبادات قلبية واجبة، وتكميلها تكميل للتوحيد، والنقص فيها نقص لكمال التوحيد.
والخوف من غير الله –جل وعلا- ينقسم على ما هو شرك، وإلى ما هو محرم، وإلى ما هو مباح، فهذه ثلاثة أقسام:(16/298)
ص -369- ... القسم الأول: الخوف الشركي، وهو خوف السر، يعني: أن يخاف في داخله من هذا المخوف منه، وخوفه لأجل ما عند هذا المخوف منه ما يرجوه أو يخافه من أن يمسه سرا بشيء، أو أنه يملك له في آخرته ضراً أو نفعاً، فالخوف الشركي متعلق في الدنيا بخوف السر، بأن يخاف أن يصيبه ذلك الإله بشر وذلك شرك.
والخوف المتعلق بالآخرة، معناه أن يخاف العبد غير الله ويتعلق خوفه بغير الله من أن لا ينفعه ذلك الإله في الآخرة، فلأجل رغبة في أن ينفعه ذلك الإله في الآخرة وأن يشفع له، وأن يقربه منه في الآخرة، وأن يبعد عنه العذاب في الآخرة، خاف منه فأنزل خوفه به.
فالخوف من العبادات العظيمة التي يحب أن يُفرد الله –جل وعلا- بها وسيأتي مزيد تفصيل لذلك.
والقسم الثاني: الخوف المحرم، وهو أن يخاف من مخلوق في امتثال واجب، أو البعد عن المحرم، مما أوجبه الله أو حرمه، كأن يخاف من مخلوق في أداء فرض من فرائض الله، أو في أداء واجب من الواجبات، فلا يصلي خوفاً من مخلوق، ولا يحضر الجماعة خوفاً من ذم المخلوق له أو استنقاصه له، فهذا محرم، قال بعض العلماء: وهو نوع من أنواع الشرك؛ لأن ترك الأمر والنهي الواجب بشرطه خوفاً من ذم الناس، أو من ترك مدحهم له، أو من وصمهم له بأشياء، فيه تقديم لخوف الناس على خوف الله تعالى، وهذا محرم؛ لأن الوسيلة إلى المحرم محرمة.
القسم الثالث: الخوف الطبيعي المأذون به، وهذا أمر طبيعي كخوفٍ من عدو، أو من سبع، أو من نار، أو من مؤذٍ ومهلك، ونحو ذلك.(16/299)
ص -370- ... "باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]"
وجه الاستدلال من هذه الآية: أنه قال: {فَلا تَخَافُوهُمْ} وهذا نهي عن إنزال عبادة الخوف بغيره، فهذا يدل على أنه نهيٌ عن أحد أفراد الشرك.
قوله: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أمر بالخوف منه جلا وعلا، فدل على أن الخوف عبادة من العبادات، وتوحيد الله بهذه العبادة توحيد، وإشراك غير الله مع في هذه العبادة شرك، والخوف من الخلق –كما ذكرنا- في ترك فريضة الجهاد، إنما يكون من جرّاء الشيطان، فالشيطان هو الذي يخوف المؤمنين من أوليائه، ويخوف أهل التوحيد وأهل الإيمان من أعداء الله –جل وعلا- لكي يتركوا الفريضة، فلهذا كان ذلك الخوف محرماً، يعني: الخوف من الأعداء الذي يترتب عليه ترك فريضة من فرائض الله من الجهاد وغيره، والواجب ألا يخاف العبد إلا ربه –جل وعلا- وأن يُنزل خوفه به، وألا يخاف أولياء الشيطان.
فقوله جل وعلا: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} معناها على الصحيح من التفسير أو على الراجح: يخوفكم أولياءه، يعني: يخوف أهل الإيمان أولياء الشيطان، ففاعل يخوف ضمير يعود على الشيطان، والمفعول الأول محذوف دل عليه السياق، والتقدير: يخوف الشيطانُ الناسَ أولياءه، يعني: يجعل الشيطان أهل التوحيد في خوف من أعدائهم، لهذا قال(16/300)
ص -371- ... السلف في تفسيرها: {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} يعني: يخوفكم أولياءه، وهذا ظاهر من الآيات قبلها كقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].
"وقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} [التوبة: 18}" وجه الدلالة من الآية قوله: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} وهذا نفي واستثناء بعد النفي يدل على الحصر والقصر، فالآية دالة بظهور على أن الخشية يجب أن تكون من الله، وأن الله أثنى على أولئك لأنهم جعلوا خشيتهم لله وحده دون ما سواه، والخشية أخص من الخوف.
وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] قوله: {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} بأن خاف منها، وترك ما أوجب الله عليه، أو أقدم على ما حرم الله عليه خشية من كلام الناس.
"وعن أبي سعيد –رضي الله عنه- مرفوعاً: "إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتِك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية(16/301)
ص -372- ... كاره".(1). وجه الاستدلال من هذا الحديث قوله: "إن من ضعف اليقين أن ترُضي الناس بسخط الله".
"من ضعف اليقين" يعني: من أسباب ضعف الإيمان، والذي يضعف الإيمان ارتكاب المحرمات؛ لأن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، فدل على أن إرضاء الناس بسخط الله معصية وذنب ومحرم؛ لأن هذا الذي أرضى الناس بسخط الله خافهم أو رجاهم، وهذا مناسبة إيراد الحديث في الباب.
وعن عائشة –رضي الله عنها- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس". رواه ابن حبان في صحيحه. (2). هذا جزاء الذي أفرد الله بعبادة الخوف وجزاء الذي لم يُكمل التوحيد في عبادة الخوف، فالذي التمس رضا الله بسخط الناس عظم الله وخافه، ولم يجعل فتنة الناس كعذاب الله، بل جعل عذاب الله –جل وعلا- أعظم فخاف الله وخشيه وطمع فيما عنده، فلم يلتفت إلى الناس، ولم يرفع بهم رأساً، فكان جزاؤه أن رضي الله عنه، وجعل الناس يرضون عنه.
"ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس" لأنه ارتكب ذنباً بأن خاف الناس، وجعل خوفه من الناس سبباً لعمل المحرم، أو ترك فريضة من فرائض الله، لهذا قال: ومن التمس رضا الناس بسخط" فكان جزاؤه أن سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" 5/106 و10/41، والبيهقي في "شعب الإيمان" (203).
(2) أخرجه ابن حبان في الصحيح 1/247، وابن أبي شيبة في المصنف 13/436-573.(16/302)
ص -373- ... "باب قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]
وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64]
وقوله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]
وعن ابن عباس قال: "{حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد –صلى الله عليه وسلم- حين قالوا له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} [آل عمران: 175]" رواه البخاري والنسائي.(1).
فيه مسائل:
الأولى: أن التوكل من الفرائض.
الثانية: أنه من شروط الإيمان.
الثالثة: تفسير آية الأنفال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (4563) و(4564).(16/303)
ص -374- ... الرابعة: تفسير الآية في آخرها.
الخامسة: تفسير آية الطلاق.
السادسة: عظم شأن هذه الكلمة؛ أنها قول إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم في الشدائد.
الشرح:
مناسبة الباب لكتاب التوحيد أن التوكل على الله فريضة من الفرائض، وواجب من الواجبات، وأن إفراد الله –جل وعلا- به توحيد، وأن التوكل على غير الله شرك مخرج من الملة، والتوكل على الله شرط في صحة الإسلام، وشرط في صحة الإيمان، فالتوكل عبادة عظيمة، فعقد المؤلف –رحمه الله- هذا الباب لبيان هذه العبادة.
وحقيقة التوكل على الله –جل وعلا- أن يعلم العبد أن هذا الملكوت إنما هو بيد الله –جل وعلا- يصرفه كيف يشاء، فيفوض الأمر إليه، ويلتجئ بقلبه في تحقيق مطلوبه وفي الهرب مما يسوءه، يلتجئ في ذلك ويعتصم بالله –جل وعلا- وحده، فينزل حاجته بالله ويفوض أمره إلى الله، ثم يعمل السبب الذي أمر الله به، فحقيقة التوكل في الشرع تجمع تفويض الأمر إلى الله –جل وعلا- وفعل الأسباب، بل إن نفس الإيمان سبب من الأسباب التي يفعلها المتوكلون على الله، بل إن نفس التوكل على الله –جل وعلا- سبب من الأسباب، فالتوكل حقيقته في الشرع تجمع عبادة قلبية عظيمة، وهي تفويض الأمر إليه، والالتجاء إليه، والعلم بأنه لا أمر إلا أمره، ولا شيء إلا بما قدره وأذن به كوناً، ثم فعل السبب الذي أوجب الله –جل وعلا- فعله أو(16/304)
ص -375- ... أمر بفعله، فترك فعل الأسباب ينافي حقيقة التوكل الشرعية، كما أن الاعتماد على السبب وترك تفويض الأمر إلى الله –جل وعلا- ينافي حقيقة التوكل الشرعية، فالمتوكل في الشرع هو من عمل السبب، وفوّض الأمر إلى الله –جل وعلا- في الانتفاع بالسبب، وفي حدوث المسبب من ذلك السبب، وفي توفيق الله وإعانته فإنه لا حول ولا قوة إلا به جل وعلا.
والتوكل –كما قال الإمام أحمد- عمل القلب، فالتوكل عبادة قلبية محضة، ولهذا كان إفراد الله –جل وعلا- بها واجباً، وكان صرفها لغير الله –جل وعلا- شركاً.
والتوكل على الله –جل وعلا- له حالان:
الحال الأولى: أن يكون شركا أكبر، وهو أن يتوكل على أحد من الخلق فيما لا يقدر عليه إلا الله –جل وعلا- كأن يتوكل على المخلوق في مغفرة الذنب، وأن يتوكل على المخلوق في تحصيل الخيرات الأخروية، أو يتوكل على المخلوق في تحصيل ولد له، أو في تحصيل وظيفة له، فيتوكل عليه بقلبه، وهو لا يقدر على ذلك الشيء، وهذا يكثر عند عباد القبور وعباد الأولياء، فإنهم يتوجهون إلى الموتى بقلوبهم يتوكلون عليهم، ويفوضون أمر صلاحهم فيما يريدون في الدنيا والآخرة إلى أولئك الموتى، وإلى تلك الآلهة والأوثان التي لا تقدر من ذلك على شيء، فهذه عبادة صُرفت لغير الله –جل وعلا- وهو شرك أكبر بالله –جل وعلا- منافٍ أصل التوحيد.
والنوع الثاني: أن يتوكل على المخلوق فيما أقدره الله –جل وعلا- عليه، وهذا نوع شرك، بل هو شكر خفي، وشرك أصغر، ولهذا قال طائفة من أهل العلم: إذا قال: توكلت عليه وعليك، فإن هذا شرك أصغر، ولهذا قالوا:(16/305)
ص -376- ... لا يجوز أن يقول: توكلت على الله ثم عليك، لأن المخلوق ليس له نصيب من التوكل، فإن التوكل إنما هو تفويض الأمر والالتجاء بالقلب إلى من بيده الأمر وهو الله –جل وعلا- والمخلوق لا يستحق شيئاً من ذلك.
فالتوكل على المخلوق فيما يقدر عليه شرك خفي ونوع شرك أصغر، والتوكل على المخلوق فيما لا يقدر عليه المخلوق، وهذا يكثر عند عباد القبور والمتوجهين إلى الأولياء والموتى، وهو شرك مخرج من الملة.
وحقيقة التوكل الذي ذكرناه لا يصلح إلا لله –جل وعلا- لأنه تفويض الأمر إلى من بيده الأمر والمخلوق ليس بيده الأمر، فالتجاء القلب ورغب القلب وطمع القلب في تحصيل المطلوب إنما يكون ذلك ممن يملكه وهو الله –جل وعلا- أما المخلوق فلا يقدر على شيء استقلالاً، وإنما هو سبب، فإذا كان سبباً فإنه لا يجوز التوكل عليه؛ لأن التوكل عمل القلب، وإنما يجعله سبباً بأن يجعله شفيعا، أو واسطة، ونحو ذلك، فهذا لا يعني أنه متوكل عليه. فيجعل المخلوق سبباً فيما أقدره الله عليه ولكن يفوض أمر النفع بهذا السبب إلى الله –جل وعلا- فيتوكل على الله ويأتي بالسبب الذي هو الانتفاع من هذا المخلوق بما جعل الله –جل وعلا- له من الانتفاع أو من القدرة ونحو ذلك.
"باب قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] هذه الآية فيها الأمر بالتوكل على الله وحده، ولمّا أمر به علمنا أنه من العبادة، ولمّا قدّم الجار والمجرور في قوله: {وَعَلَى اللَّهِ} على ما يتعلق به وهو الفعل {فَتَوَكَّلُوا} دل على وجوب إفراد الله –جل وعلا-(16/306)
ص -377- ... بالتوكل وأن التوكل عبادة يجب أن تُحصر وتُقصر في الله –جل وعلا- هذا وجه الدلالة من الآية.
ودليل آخر في هذه الآية، وهو قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} حيث جعل الإيمان لا يصح إلا بالتوكل، وأن التوكل شرط الإيمان، فقال: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وهذا هو الشرط، وجوابه محذوف، وتقديره: فأفردوا الله بالتوكل، فجزاء الشرط هو إفراد الله بالتوكل، فصارت دلالة الآية من جهتين.
وكذلك قوله جلا وعلا في آية سورة يونس: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84] فقوله: {فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا} أمر بإفراده بالتوكل –جل وعلا- وقدّم الجار والمجرور لإفادة الحصر والقصر والاختصاص بالله –جل وعلا- ثم جعل إفراده بالتوكل –جل وعلا- شرطا في صحة الإسلام فقال: {إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} فهاتان الآيتان دلتا على أن التوكل عبادة، وأن إفراد الله به –جل وعلا- واجب، وأنه شرط في صحة الإسلام، وشرط في صحة الإيمان، وهذا كله يدل على أن انتفاء مُذهبٌ لأصل التوحيد مناف لأصله إذا توكل على غيره الله فيما لا يقدر عليه إلا الله جل جلاله.
"وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2](16/307)
ص -378- ... وجه الدلالة من الآية: أنه وصف المؤمنين بهذه الصفات الخمس وآخرها قوله: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} وظاهر من دلالة الآية حيث قدم الجار والمجرور على أنهم أفردوا الله بالتوكل، فدل على أن هذه العبادات الخمس هي أعظم مقامات أهل الإيمان، وهذا ينبغي التنبه له، إذ كل أمور الدين والعبادات والفروع العملية التي يعملها العبد، إنما هي فرع عن تحقيق هذه الخمس التي جاءت في هذه الآية {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} وهذه الصفة تجمع الكلمات الشرعية وتجمع الدين جميعاً؛ لأن ذكر الله فيه القرآن وفيه السنة.
"وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 64]" يعني: كافيك الله، وكافي من اتبعك من المؤمنين؛ لأن الحسب هو الكافي، والكلمة المشابهة لها (حَسَب) تقول: هذا بحسب كذا، يعني: بناء على كذا، وأما الكافي فهو (الحسْب) بسكون السين.
ووجه مناسبة الآية لهذا الباب: أن الله حسْب من توكل عليه، قال جل وعلا: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] فالله حسب من توكل عليه، فدل على أن الله –جل وعلا- أمر عباده بالتوكل عليه حتى يكون كافيهم من أعدائهم وحتى يكون –جل وعلا- كافي المؤمنين من المشركين، قال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} يعني: كافيك الله، ولهذا أعقبها المؤلف بالآية الأخرى وهي قوله جل وعلا: {وَمَنْ(16/308)
ص -379- ... يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} والتوكل على الله –جل وعلا- كما سبق يرجع إلى فهم توحيد الربوبية، وإلى عِظم الإيمان بتوحيد الربوبية، فإن بعض المشركين قد يكون عنده من التوكل على الله الشيء العظيم.
والتوكل على الله من العبادات العظيمة التي تطلب من المؤمن، ولهذا نقول: إن إحداث التوكل في القلب يرجع إلى التأمل في آثار الربوبية، فكلما كان العبد أكثر تأملا في ملكوت الله في السماوات والأرض، والأنفس، والآفاق، كان علمه بان الله هو ذو الملكوت وأنه هو المتصرف، وأن نصره لعبده شيء يسير جدا بالنسبة إلى ما يجريه الله –جل وعلا- في ملكوته، فيعظم المؤمن بهذا التدبر الله –جل وعلا- ويعظم التوكل عليه، ويعظّم أمره ونهيه، ويعتقد أن الله –جل جلاله- لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء سبحانه وتعالى.
"{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}" رتب الحسب –وهو الكفاية- على التوكل عليه، وهذا فضيلة التوكل، وفضيلة المتوكلين عليه.
وعن ابن عباس قال: "{حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد –صلى الله عليه وسلم- حين قالوا له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل}"(1). وهذا يبين عِظم هذه الكلمة، وهي قول المؤمن: حسبنا الله ونعم الوكيل، فإذ حقق العبد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم.(16/309)
ص -380- ... التوكل على الله حقيقة في القلب فقد حقق هذا النوع من توحيد التوكل في النفس، فإن العبد إذا أعظم رجاءه في الله، وأكمل توكله على الله، فإنه وإن كادته السماوات والأرض ومن فيهن فإن الله سيجعل له من أمره يسراً وسيجعل له من بينها مخرجاً.
قوله: "حسبنا الله" يعني: كافينا الله.
"ونعم الوكيل" يعني: ونعم الوكيل ربنا، هذه كلمة عظيمة قالها إبراهيم -عليه السلام- في الكرب، وقالها أيضا النبي –عليه الصلاة والسلام- وأصحابه في الكرب لما قال لهم الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} [آل عمران: 175] وذلك لعظم توكلهم على الرب جل وعلا.(16/310)
ص -381- ... "باب قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} " [الأعراف: 99]
وقوله: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56]
وعن ابن عباس –رضي الله عنهما- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- سئل عن الكبائر فقال: "الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله".(1).
وعن ابن مسعود –رضي الله عنه- قال: "أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله"(2).
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الأعراف.
الثانية: تفسير آية الحجر.
الثالثة: شدة الوعيد فيمن أمن مكر الله.
الرابعة: شدة الوعيد في القنوط.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البزار (106) وابن أبي حاتم في "التفسير" كما في "الدر المنثور" 2/147 وقال إسناده حسن.
(2) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" 10/459.(16/311)
ص -382- ... الشرح:
هذا "باب قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} " [الأعراف: 99]
وقوله: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56] هذا الباب عقده المؤلف للآيتين جميعا لاتصالهما. والمراد بهذا الباب بيان أن الجمع بين الخوف والرجاء واجب من واجبات الإيمان، ولا يتم التوحيد إلا بذلك، فعدم الجمع بين الخوف والرجاء مناف لكمال التوحيد، فالواجب على العبد أن يجعل خوفه مع الرجاء، وأن يجعل رجاءه مع الخوف، وأن لا يأمن المكر كما لا يقنط من رحمة الله جل وعلا، فالآية الأولى وهي قول الله: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} فيها بيان أن المشركين من صفاتهم أنهم أمنوا عقاب الله فلم يخافوا، والواجب بالمقابل أن تكون قلوبهم خائفة وجلة من الله –جل وعلا- قال سبحانه: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ} يعني: أيعلمون تلك المثلات، وفعل الله جل وعلا بالأمم السالفة، التي قصها الله في سورة الأعراف فأمنوا مكر الله؟! فإذا كان كذلك، وحصل منهم الأمن مع وجود النذر فيما حولهم، وأن الله قص عليهم القصص والأنباء فإن ذلك من صفات الخاسرين كما قال تعالى: {فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}(16/312)
ص -383- ... والأمن من مكر الله ناتج عن عدم الخوف، وترك عبادة الخوف، وعبادة الخوف قلبية، والمراد هنا خوف العبادة. وهذا الخوف إذا كان في القلب فإن العبد سيسعى في مراضي الله ويبتعد هن مناهيه، وسيعظّم الله –جل وعلا- ويتقرب إليه بالخوف؛ لأن الخوف عبادة، ويكون عبادة من وجوه منها: أن يتقرب إلى الله -جل وعلا- بالخوف، وأن يتقرب إلى الله –جل وعلا- بعدم الأمن من مكره، وذلك أن الله هو ذو الجبروت، فعدم الأمن من مكر الله راجع إلى عدم فهم صفات الله –جل وعلا- وأسمائه التي منها: القهار، الجبار، وهو الذي يجير ولا يجار عليه، ونحو ذلك من صفات الربوبية.
ومكر الله –جل وعلا- من صفاته التي تطلق مقيدة، فالله –جل وعل- يمكر بمن مكر بأوليائه وأنبيائه، وبمن مكر بدينه؛ لأنها في الأصل صفة نقص، ولكن تكون صفة كمال إذا كانت بالمقابلة، لأنها حينئذ فيها معنى إظهار العزة والقدرة والقهر والجبروت وسائر صفات الجلال، فمكر الله –جل وعلا- من صفاته التي يتصف بها على وجه التقييد، فنقول: يمكر بأعداء رسله، يمكر بأعدائه، يمكر بمن مكر به، ونحو ذلك.
وحقيقة مكر الله –جل وعلا- ومعنى هذه الصفة: أنه –جل وعلا- يستدرج العبد ويملي له، حتى إذا أخذه لم يفلته، فييسر له الأمور حتى يظن أنه في غاية الأمن، فيكون ذلك استدراجاً في حقه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: "إذا رأيتم الله يعطي العبد، وهو مقيم على معاصيه، فاعلموا أن ذلك استدرج"(1). وهذا ظاهر من معنى المكر؛ لأن في معنى المكر والكيد وأمثالهما معنى الاستدراج.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد4/145.(16/313)
ص -384- ... ولا ترادف في اللغة، بل هناك فروق بين المكر والاستدراج والكيد، ونحو ذلك، لكن نقول هذا من جهة التقرير، فالمكر فيه استدراج، وفيه زيادة أيضاً على الاستدراج بحيث يكون قلب ذلك المستدرَج آمناً من كل جهة.
"وقوله: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}" هذا فيه أن من صفة الضالين أنهم يقنطون من رحمة الله –جل وعلا- ومعنى ذلك بالمفهوم أن صفة المتقين المهتدين أنهم لا يقنطون من رحمة الله، بل يرجون رحمة الله –جل وعلا- والجمع بين الخوف والرجاء واجب شرعاً، فإن الخوف عبادة، والرجاء عبادة، واجتماعهما في القلب واجب فلا بد أن يكون هذا وهذا جميعاً في القلب حتى تصح العبادة.
ومن هنا اختلف العلماء أيهما يغلّب الخوف أو الرجاء؟ هل يغلب العبد جانب الرجاء أو يغلب جانب الخوف؟ والتحقيق أن ذلك على حالين:
الأولى: إذا كان العبد في حال الصحة والعافية فإنه إما أن يكون مسدداً مسارعاً في الخيرات، فهذا ينبغي أن يتساوى في قلبه جانب الخوف والرجاء، فيخاف ويرجو، لأنه من المسارعين في الخيرات. وإذا كان في حال الصحة والعافية وكان من أهل العصيان، فالواجب عليه أن يغلب جانب الخوف حتى ينكفّ عن المعصية.
الحال الثانية: إذا كان في حال المرض المخوف فإنه يجب عليه أن يعظّم جانب الرجاء على الخوف، فيقوم في قلبه الرجاء والخوف، ولكن يكون رجاؤه أعظم من خوفه، وذلك لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "لا يمت أحدكم إلا وهو يُحسّن الظن بربه تعالى"(1). وذلك من جهة رجائه في الله جل جلاله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم (7229).(16/314)
ص -385- ... ومن هنا اختلف كلمات أهل العلم، فتجد بعضهم يقول: يجب أن يتساوى الخوف والرجاء، وبعض السلف قال: يُغلب جانب الخوف على جانب الرجاء، وبعض السلف يغلب جانب الرجاء على جانب الخوف، وهي أقوال متباينة ظاهراً، لكنها متفقة في الحقيقة؛ لأن كل قول منها يرجع إلى حالة مما ذكرنا.
فمن قال: يغلب جانب الخوف على الرجاء فهو في حق الصحيح العاصي. ومن قال: يغلب جانب الرجاء على الخوف فهو في حق المريض الذي يخاف الهلاك أو من يخاف الموت. ومن قال: يساوي بين الخوف والرجاء فنظر إلى حال المسددين المسارعين في الخيرات، الذين وصفهم الله –جل وعلا- بقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] وقوله جل وعلا في سورة الإسراء: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء: 57} وهذا ظاهر.
فالشيخ –رحمه الله- عقد هذا الباب لبيان وجوب أن يجتمع الخوف والرجاء في القلب وقد مر بنا أن هذه الأبواب متتالية لبيان حالات القلب والعبادات القلبية وأحكام ذلك.
وعن ابن عباس –رضي الله عنهما- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- سئل عن الكبائر فقال: "لشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر(16/315)
ص -386- ... الله".(1). وجه الشاهد من ذلك: أنه جعل اليأس من روح الله، وهو ذهاب الرجاء من القلب وترك الإتيان بعبادة الرجاء، جعله من الكبائر، وجعل الأمن من مكر الله، وهو ذهاب الخوف من الله جل وعلا من القلب جعله من الكبائر، فعدم الرجاء في الله من الكبائر، وعدم الخوف من الله –جل وعلا- من الكبائر، وهي كبائر من جهة أعمال القلوب، واجتماع الكبيرتين معا بأن لا يكون عنده رجاء ولا خوف أعظم من كبيرة ترك الخوف وحده من الله، أو ترك الرجاء وحده من الله جل وعلا، ولهذا قرن بينهما في هذا الحديث حيث قال: "سئل عن الكبائر فقال: الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله" وبهذا يتبين لك الفرق بين اليأس من روح الله أو القنوط من رحمة الله والأمن من مكر الله، لأن اليأس راجع إلى ترك عبادة الرجاء، والأمن من مكر الله راجع إلى ترك عبادة الخوف، واجتماعهما واجب من الواجبات, وذهابهما أو الانتقاص منهما نقص في كمال توحيد من قام ذلك بقلبه.
"وعن ابن مسعود –رضي الله عنه- قال: "أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله"(2). في هذا الأثر ما في الحديث قبله، لمن فصّل في القنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، فجعل القنوط من رحمة الله شيئاً، وجعل اليأس من روح الله شيئاً آخر، وهذا باعتبار بعض الصفات لا باعتبار أصل المعنى، وإلا فإن القنوط من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البزار (106- كشف الأستار) .
(2) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" 10/459 والطبراني في "الكبير" (8783).(16/316)
ص -387- ... الرحمة واليأس من الروح بمعنى واحد، لكن يختلفان من حيث ما يتناوله هذا، ويتناوله هذا، فالقنوط من رحمة الله عام، لأن الرحمة أعم من الروح، والرحمة تشمل جلب النعم ودفع النقم، وروح الله –جل وعلا- يطلق في الغالب في الخلاص من المصائب، فقوله: القنوط من رحمة الله هذا أعم، ولهذا قدمه فيكون ما بعده من عطف الخاص على العام، أو أن يكون هناك ترادف في أصل المعنى، واختلاف في الصفات، أو بعض ما يتعلق باللفظ.
فهذا الحديث مع الحديث قبله والآيتين دلالتهما على ما أراد المؤلف من عقد هذا الباب واحدة، ودلالة الجميع أن الخوف والرجاء واجب اجتماعهما في القلب وإفراد الله –جل وعلا- بهما، والمقصود خوف العبادة، ورجاء العبادة.(16/317)
ص -388- ... "باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله"
وقول الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} [التغابن: 11]
قال علقمة: "هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم". (1).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت".(2).
ولهما عن ابن مسعود مرفوعاً: "ليس منا ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية".(3).
وعن أنس –رضي الله- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أراد الله بعبده الخير عجّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة"(4).
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط"(5). حسنه الترمذي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه ابن جرير في "التفسير" 28/123.
(2) أخرجه مسلم (67).
(3) أخرجه البخاري (1294) و(1297) و(3519) ومسلم (103).
(4) أخرجه الترمذي (2398) والحاكم1/340.
(5) أخرجه الترمذي (2398) وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه.(16/318)
ص -389- ... فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية التغابن.
الثانية: أن هذا من الإيمان بالله.
الثالثة: الطعن في النسب.
الرابعة: شدة الوعيد فيمن ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية.
الخامسة: علامة إرادة الله بعبده الخير.
السادسة: إرادة الله به الشر.
السابعة: علامة حب الله للعبد.
الثامنة: تحريم السخط.
التاسعة: ثواب الرضا بالبلاء.
الشرح:
"باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله" الصبر من المقامات العظيمة، والعبادات الجليلة التي تكون في القلب وفي اللسان وفي الجوارح، وحقيقة العبودية لا تثبت إلا بالصبر؛ لأن العبادة أمر شرعي، أو نهي شرعي، أو ابتلاء بأن يصيب الله العبد بمصيبة قدرية فيصبر عليها.
فحقيقة العبادة أن يمتثل الأمر الشرعي، وأن يجتنب النهي الشرعي، وأن يصبر على المصائب القدرية التي ابتلى الله –جل وعلا- العباد بها. فالابتلاء حاصل بالدين وحاصل بالأقدار، فبالدين كما قال جل وعلا لنبيه –صلى الله عليه وسلم في(16/319)
ص -390- ... الحديث القدسي الذي رواه مسلم عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: إنما بعثتك لأبتليك، وأبتلي بك"(1). فحقيقة بعثة النبي عليه الصلاة والسلام الابتلاء، والابتلاء يجب معه الصبر، والابتلاء الحاصل ببعثته بالأوامر والنواهي.
فالواجبات تحتاج إلى صبر، والمنهيات تحتاج إلى صبر والأقدار الكونية تحتاج إلى صبر، ولهذا قال طائفة من أهل العلم: إن الصبر ثلاثة أقسام: صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على أقدار الله لمؤلمة.
ولما كان الصبر على المصائب قليلاً أفرد له الشيخ –رحمه الله- هذا الباب لبيان أنه من كمال التوحيد، ومن الواجب على العبد أن يصبر على أقدار الله؛ لأن تسخط العباد وعدم صبرهم كثيرا ما يظهر في حال الابتلاء بالمصائب، فعقد هذا الباب لبيان أن الصبر واجب على أقدار الله المؤلمة، ونبّه بذلك على أن الصبر على الطاعة واجب، وأن الصبر عن المعصية واجب.
وحقيقة الصبر في اللغة: الحبس، ومنه قولهم: قتل فلان صبراً إذا حبس أو ربط فقتل من دون مبارزة ولا قتال. ويقال للصبر الشرعي إنه صبر؛ لأن فيه حبس اللسان عن التشكي، وحبس القلب عن السخط، وحبس الجوارح عن إظهار السخط من لطم الخدود، وشق الجيوب، ونحو ذلك، فحبس هذه الأشياء هو حقيقة الصبر، فالصبر إذاً في الشرع هو حبس اللسان عن التشكي، وحبس القلب عن التسخط، وحبس الجوارح عن إظهار السخط بشق أو نحو ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم (2865) وأحمد 4/162.(16/320)
ص -391- ... قال الإمام أحمد رحمه الله: "ذُكر الصبر في القرآن في أكثر من تسعين موضعاً، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد؛ لأن من لا صبر له على الطاعة، ولا صبر له عن المعصية، ولا صبر على أقدار الله المؤلمة، فإنه يفوته أكثر الإيمان.
وقوله: "باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله" يعني: أن من خصال الإيمان بالله الصبر على أقدار الله، والإيمان له شعب، كما أن الكفر له شعب، فنبه بقوله: "من الإيمان بالله الصبر" على أن من شعب الإيمان الصبر، ونبّه في الحديث الذي رواه مسلم على أن النياحة من شعب الكفر، فيقابل كل شعبة من شعب الكفر شعبة من شعب الإيمان، فالنياحة على الميت شعبة من شعب الكفر، يقابلها في شعب الإيمان الصبر على أقدار الله المؤلمة.
وقول الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} [التغابن: 11]
قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم. (1).
هذا تفسير من علقمة –أحد التابعين- لهذه الآية، وهو تفسير ظاهر الصحة والصواب، وذلك أن قوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} إنما ورد في سياق ذكر ابتلاء الله بالمصائب، فـ{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ} يعني: يعظم الله –جل وعلا- ويمتثل أمره ويجتنب نهيه {يَهْدِ قَلْبَهُ} للصبر و{يَهْدِ قَلْبَهُ} لعدم التسخط، و{يَهْدِ قَلْبَهُ} للعبادات، ولهذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه ابن جرير في "التفسير" 28/123، أخرجه عبد الرزاق في التفسير3/95.(16/321)
ص -392- ... قال: "هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله" وهذا هو الإيمان بالله.
"فيرضى ويسلم".
والمصائب من القدر، والقدر راجع إلى حكمة الله –جل وعلا- وحكمة الله –جل وعلا- هي وضع الأمور في مواضعها الموافقة للغايات المحمودة منها، فالحكمة بعامة مرتبطة بالغايات المحمودة من وضع الأمر في موضعه، فمن وضع الأمر في غير موضعه فقد ظلم، ومن وضع الأمر في موضعه عدل، وقد يكون غير حكيم، أي قد يكون عادلاُ ولكن غير حكيم، فإذ وضع الأمر في موضعه الموافق للغاية المحمودة منه فذاك هو الحكيم، والله –جل وعلا- منفي عنه الظلم ومثبت له كمال العدل سبحانه حيث يضع الأمور في مواضعها، ومثبت له –جل وعلا- كمال الحكمة حيث إن وضعه الأمور في مواضعها موافق للغايات المحمودة منها، فنعلم بذلك أن المصيبة إذا أصابت العبد فإن الخير له فيها، إما أن يصبر فيؤجر، وإما أن يسخط فيؤزر على ذلك، وهذا في حق الخاسرين، فالله –جل وعلا- له الحكمة من الابتلاء بالمصائب؛ لهذا يجب على العبد أن يعلم أن ما جاء من عند الله هو قدر الله –جل وعلا- وقضاؤه الموافق لحكمته فيجب الصبر على ذلك.
قوله: "يعلم أنها من عند الله" يعني: أن الله هو الذي أتى بها، وهو الذي أذن بها قدراً وكوناً.
"فيرضى ويسلم" الرضى بالمصيبة مستحب وليس بواجب، ولهذا يختلط على كثيرين الفرق بين الرضا والصبر، وتحرير المقام في ذلك أن الصبر على المصائب واجب من الواجبات؛ لأن فيه ترك التسخط على قضاء الله وقدره، والرضى له جهتان:(16/322)
ص -393- ... الجهة الأولى: راجعة إلى فعل الله –جل وعلا- فيرضى بقدر الله الذي هو فعله، ويرضى بفعل الله، ويرضى بحكمة الله، ويرضى بما قسم الله –جل وعلا- وهذا الرضى بفعل الله –جل وعلا- واجب من الواجبات، وتركه محرم ومناف لكمال التوحيد.
والجهة الثانية: الرضى بالمقضي، أي بالمصيبة في نفسها، فهذا مستحب، ليس واجباً على العباد أن يرضوا بالمرض، وأن يرضوا بفقد الولد، وأن يرضوا بفقد المال، لكن هذا مستحب وهو رتبة الخاصة من عباد الله، لكن الرضى بفعل الله –جل وعلا- بمعنى الرضا بقضاء الله من حيث هو واجب، أما الرضا بالمقضي فإنه مستحب، ولهذا قال علقمة: "هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيرضى" يعني: على قضاء الله، "ويسلم" لعلمه أنها من عند الله –جل وعلا- وهذا من خصال الإيمان.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "اثنتان في الناس هما بهم كفر" يعني: خصلتان من شعب الكفر قائمتان، وستبقيان في الناس: "الطعن في النسب، والنياحة على الميت".(1).
وجه الشاهد من هذا الحديث قوله: "والنياحة على الميت" لأن النياحة مخالفة للصبر، والصبر الواجب فيه حبس الجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحو ذلك، وحبس اللسان عن التشكي والعويل، هذا هو النياحة، فالنياحة من شعب الكفر؛ لأنها منافية للصبر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم (67) وأحمد في المسند 2/377-441.(16/323)
ص -394- ... وكونها من شعب الكفر لا يدل على أن مَنْ قامت به فهو كافر الكفر المطلق المخرج من الملة، بل يدل على أن من قامت به قامت به خصلة من خصال الكفار، وشعبة من شعب الكفر، ولهذا قال هنا: "اثنتان في الناس هما بهم كفر" فنكّر كلمة "كفر" والقاعدة في فهم ألفاظ الكفر التي تأتي في الكتاب والسنة أن الكفر إذا أتى معرّفاً بالألف واللام فإن المراد به الكفر الأكبر، وإذا أتى منكرا –أي بدون الألف واللام- فإنه يدل على أن الخصلة تلك من شعب الكفر، ومن خصال أهل الكفر، وأن ذلك كفر أصغر كما قال عليه الصلاة والسلام: "لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعضٍ"(1). لأن ذلك من خصال الكفار، ونحو ذلك قوله: "سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر"(2). هذا في الكفر الأصغر.
أما الكفر المعرف بالألف واللام فالقاعدة التي حررها الأئمة كشيخ الإسلام وغيره أنه إذا أتى فيراد به الكفر الأكبر، كقوله عليه الصلاة والسلام: "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة"(3).
"ولهما عن ابن مسعود مرفوعاً: "ليس منا ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية".(4). دل هذا الحديث على أن من فعل هذه الأفعال فهو ليس من أهل الإيمان، وقد سبق بيان أن كلمة "ليس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (121) و(4405) و(6869) و(7080) ومسلم (118).
(2) أخرجه مسلم (221).
(3) أخرجه مسلم (134).
(4) أخرجه البخاري (1294) ومسلم (103) وأحمد1/386.(16/324)
ص -395- ... منا" تدل على أن الفعل من الكبائر، ولهذا فإن ترك الصبر وإظهار التسخط كبيرة من الكبائر، والمعاصي تُنقص الإيمان؛ لأن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، ونقص الإيمان قد ينقص كمال التوحيد، بل ترك الصبر مناف لكمال التوحيد الواجب.
وعن أنس –رضي الله- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أراد الله بعبده الخير عجّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة"(1).
هذا فيه بيان حكمة الله –جل وعلا- التي إذا استحضرها المصاب فإنه يعظُم عنده الصبر، ويتحلى بهذه العبادة القلبية العظيمة وهي ترك التسخط، والرضا بفعل الله –جل وعلا- وقضائه؛ لأن العبد إذا أريد به الخير فإن العقوبة تُعجّل له في هذه الدنيا؛ لأن رفع أثر العقوبة عن العبد يكون بعشرة أشياء، منها: أن تُعجّل له العقوبة في الدنيا، يعني: أن يعاقب في الدنيا بمرض، أو بفقد مال، أو بمصيبة؛ لأن مخالفة أمر الله في ملكوته لا بد أن تقع لها عقوبة، إن لم يغفر الله –جل وعلا- ويتجاوز، فإذا كانت العقوبة في الدنيا فإنها أهون من أن تكون في البرزخ، أو أن تكون يوم القيامة؛ ولهذا جاء في الحديث الآخر الذي رواه البخاري وغيره قال عليه الصلاة والسلام: "من يرد الله به خيراً يُصب منه"(2). ولهذا كان بعض السلف يتهم نفسه إذا رأى أنه لم يصب ببلاء أو لم يمرض ونحو ذلك، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحمى مثلاً: "لا تسبوا الحمى فوالذي نفسي بيده
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه الترمذي (2398) والحاكم1/340.
(2) أخرجه البخاري (5645)(16/325)
ص -396- ... إنها لتنفي الذنوب عن العبد كما ينفي الكير خبث الحديد"(1). ففي المصائب نعم على العبد، والله –جل وعلا- له الحكمة البالغة فيما يُصلح عبده المؤمن.
"وقال صلى الله عليه وسلم: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط"(2). دل قوله: "من رضي فله الرضا" على أن الرضا عبادة؛ لأن رضا الله عن العبد إذا رضي عنه دال على أن ذلك الفعل محبوب له، وذلك دليل أنه من العبادات، وكذلك الجملة الثانية دليل على أن السخط محرم، قال: "ومن سخط فله السخط" يعني من الله جل وعلا.
وحقيقة السخط على الله جل وعلا- أن يقوم في قلبه عدم محبة ذلك الشيء، وكراهته، وعدم الرضا به، واتهام الحكمة فيه، فمن قامت به هذه الأشياء مجتمعة فقد سخط، ويظهر أثر السخط على اللسان أو على الجوارح، أو في القلب من جهة عدم الرضا بالأوامر، وعمد الرضا بالنواهي، وعدم الرضا بالشرع، فيتسخط الأمر، ويتسخط النهي، ويتسخط الشرع، فهذا كبيرة من الكبائر ولو امتثل ذلك فإن تسخطه وعدم الرضا بذلك قلباً دليل على انتفاء كمال التوحيد في قلبه، وقد يصل بالبعض إلى انتفاء التوحيد من أصله إذا لم يرض بأصل الشرع وسخطه بقلبه واتهم الشرع أو اتهم الله –جل وعلا- في حكمه الشرعي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه ابن ماجة (3469).
(2) أخرجه الترمذي (2396).(16/326)
ص -397- ... "باب ما جاء في الرياء"
وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف: 110]
وعن أبي هريرة مرفوعا: قال الله تعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه"(1).رواه مسلم. وعن أبي سعيد مرفوعاً: "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟" قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل" رواه أحمد. (2).
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الكهف.
الثانية: الأمر العظيم في رد العمل الصالح إذا دخله شيء لغير الله.
الثالثة: ذكر السبب الموجب لذلك، وهو كمال الغنى.
الرابعة: أن من الأسباب أنه تعالى خير الشركاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم (2985).
(2) أخرجه أحمد 3/30، وابن ماجة (4204) وقال البوصيري: هذا إسناد حسن.(16/327)
ص -398- ... الخامسة: خوف النبي –صلى الله عليه وسلم على أصحابه من الرياء.
السادسة: أنه فسّر ذلك بأن يصلي المرء لله، لكن يُزينها لما يرى من نظر رجل إليه.
الشرح:
هذا "باب ما جاء في الرياء" يعني: من الوعيد، وأنه شرك بالله جل وعلا.
والرياء حقيقته من الرؤية البصرية، وذلك بأن يعمل عمل العبادة لكي يُرى أنه يعمل العمل الذي هو من العبادة، إما من صلاة، أو تلاوة، أو ذكر، أو صدقة، أو حج، أو جهاد، أو امتثال أمر، أو اجتاب نهي، ونحو ذلك، لا لطلب ما عند الله ولكن لأجل أن يراه الناس على ذلك فيثنوا عليه به. هذا هو الرياء، وقد يكون الرياء في أصل الإسلام كرياء المنافقين، فالرياء على درجتين:
الدرجة الأولى: رياء المنافقين، بأن يُظهر الإسلام ويبطن الكفر لأجل رؤية الخلق، وهذا مناف للتوحيد من أصله وكفر أكبر بالله –جل جلاله- ولهذا وصف الله المنافقين بقوله: {يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء: 142] فقوله: {يُرَاؤُونَ النَّاسَ} يعني: الرياء الأكبر الذي هو إظهار أصل الإسلام وشعب الإسلام، وإبطان الكفر وشعب الكفر.
والنوع الثاني من الرياء: أن يكون الرجل مسلماً أو المرأة مسلمة، ولكن يرائي بعمله أو ببعض عمله، فهذا شرك خفي، وذلك الشرك مناف لكمال(16/328)
ص -399- ... التوحيد، والله –جل وعلا- قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48، 116] على قول من قال: إن قوله: {اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} يدخل فيه الشرك الخفي والأصغر.
"باب ما جاء في الرياء" وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف: 110]
قوله: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} هذا نهي عن الإشراك، والنهي هنا عام لجميع أنواع الشرك، ومنها شرك الرياء، ولهذا يستدل السلف بهذه الآية على مسائل الرياء، كما أوردها الإمام –رحمه الله تعالى- هنا؛ لأنه قال: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} يعني: بما يشمل ترك المراءة، فإن الرياء شرك.
وقوله: {وَلا يُشْرِكْ} هذا عموم يعم أنواع الشرك جميعاً؛ لأن {يُشْرِكْ} نكرة جاءت في سياق النهي، فعمت أنواع الشرك.
وقوله: {أَحَداً} يعم جميع الخلق بمراءة أو بتسميع أو بغير ذلك، فدلالة الآية على الباب ظاهرة، وأن المراءة نوع من الشرك الأصغر، وضرب من الشرك الخفي، لأننا نقول: الرياء شرك أصغر باعتبار أنه له ليس بأكبر،(16/329)
ص -400- ... ولا مخرج من الملة، وتارة نقول: الرياء شرك خفي، لأنه ليس بظاهر، وإنما هو باطن خفي في قلب العبد؛ ولهذا تجد أن كثيرين من أهل العلم يعبرون عن الشرك الأصغر بيسير الرياء، وتارة يعبرون عن الشرك الخفي بالرياء، ذلك لأن الشرك يختلف من حيث الإطلاق –كما سبق- من عالم إلى آخر فتارة يقسمون الشرك إلى أكبر وأصغر، ومنهم من يقسمه إلى أكبر وأصغر وخفي، وكل له اصطلاحه، وكل الأقوال صواب.
"وعن أبي هريرة مرفوعا: قال الله تعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه"(1).
هذا الحديث يدل على أن الرياء مردود على صاحبه، وأن الله –جل وعلا- لا يقبل العمل الذي خالطه الرياء، والعلماء فصلوا في ذلك فقالوا: الريا إذا عرض للعبادة له أحوال:
الحالة الأولى: أن يعرض للعبادة من أولها، فإذا عرض للعبادة من أولها فإن العبادة كلها باطلة، كأن ينشئ الصلاة لنظر فلان، فلم يرد أن يصلي، لكن لما رأى فلاناً ينظر إليه صلى، فهذا عمله حابط، يعني أن الصلاة التي صلاها حابطة، وهو مأزور على مراءاته ومرتكب الشرك الخفي، الشرك الأصغر.
والحالة الثانية: أن يكون أصل العبادة لله، ولكن خلط ذلك العابد عمله رياء، كمن أطال الركوع وأكثر التسبيح وأطال القراءة والقيام لأجل من يراه، فأصل العبادة –والتي كانت لله- له، وما عدا ذلك فهو حابط؛ لأنه راءى في الزيادة على الواجب فيحبط ذلك الزائد وهو آثم عليه، لا يؤاجر عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم (2985).(16/330)
ص -401- ... ولا ينتفع منه ويؤزر على إشراكه وعلى مراءاته في العبادات البدنية. أما العبادات المالية فيختلف الحال عن ذلك.
قوله: "من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه" يعني: بجميع أنواع المشركين وبجميع أنواع الأعمال؛ لأن (عملا) في قوله: "من عمل عملا" نكرة جاءت في سياق الشرط، فعمت جميع الأعمال: الأعمال البدنية، والأعمال المالية، والأعمال التي اشتملت على مال وبدن، فالبدنية: كالصلاة والصيام، والمالية: كالزكاة والصدقة، والمشتملة على بدن ومال: كالحج والجهاد ونحو ذلك، والمقصود من قوله: "من عمل عملا" أنه أنشأه "أشرك فيه معي غيري" جعله لله ولغير الله جميعا، فإن الله –جل وعلا- أغنى الشركاء عن الشرك، لا يقبل إلا ما كان له وحده سبحانه وتعالى.
"وعن أبي سعيد مرفوعاً: "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟" قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل".(1).
هذا فيه بيان أن هذا النوع من الشرك هو أخوف على هذه الأمة عند النبي –صلى الله عليه وسلم- من المسيح الدجال، ذلك أن أمر المسيح أمر ظاهر بيّن، والنبي عليه الصلاة والسلام بين ما فيه من شأنه، وبين صفته، وحذر الأمة منه، وأمرهم بأن يدعوا آخر كل صلاة، وأن يستعيذوا من شر المسيح الدجال، ومن فتنة المسيح الدجال، أما الرياء فإنه يعرض للقلب كثيراً، والشيطان يأتي إلى القلوب وهذا الشرك يقود العبد إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد 3/30، وابن ماجة (4204).(16/331)
ص -402- ... أن يتخلى شيئاً فشيئاً عن مراقبة الله –جل وعلا- ويتجه إلى مراقبة المخلوقين، لذلك صار أخوف عند النبي –صلى الله عليه وسلم- علينا من المسيح الدجال، ثم فسره بقوله: "الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل".(16/332)
ص -403- ... "باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا"
وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15-16]
وفي الصحيح عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أُعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس،وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع".(1).
فيه مسائل:
الأولى: إرادة الإنسان الدنيا بعمل الآخرة.
الثانية: تفسير آية هود.
الثالثة: تسمية الإنسان المسلم عبد الدينار والدرهم والخميصة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (2886) و(2887) و(6435).(16/333)
ص -404- ... الرابعة: تفسير ذلك بأنه إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط.
الخامسة: قوله: "تعس وانتكس".
السادسة: قوله: "وإذا شيك فلا انتقش".
السابعة: الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات.
الشرح:
هذا الباب باب عظيم من أبواب الكتاب ترجمه الإمام –رحمه الله- بقوله: "باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا".
"من الشرك" يعني: من الشرك الأصغر أن يريد الإنسان بأعماله التي يعملها من الطاعات الدنيا ولا يريد بها الآخرة، وإرادة الإنسان الدنيا، يعني: ثواب الدنيا، فهو أعم من حال الرياء، فالرياء حالة واحدة من أحوال إرادة الإنسان الدنيا، فهو يصلي أو يزيد ويزين في صلاته لأجل الرؤية، ولأجل المدح، لكن هناك أحوال أخر لإرادة الناس بأعمالهم الدنيا، فلهذا عطف الشيخ –رحمه الله- هذا الباب على الذي قبله ليبين أن إرادة الإنسان الدنيا تأتي في أحوال كثيرة أعم من حال الرياء بخاصة، لكن الرياء جاء فيه الحديث وخافه النبي عليه الصلاة والسلام على أمته فهو في وقوعه كثير والخوف منه جلل.
وهذا الباب اشتمل على الحكم بأن إرادة الإنسان بعمله الدنيا من الشرك.
وقوله: "إرادة الإنسان" يعني: أن يعمل العمل وفي إرادته أي الذي بعثه على العمل ثواب الدنيا، فهذا من الشرك بالله –جل جلاله- وسيأتي تفصيل أحوال ذلك.(16/334)
ص -405- ... وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15-16] هذه الآية من سورة هود مخصوصة بقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} [الإسراء: 18] فهي مخصوصة بمن شاء الله جل وعلا. فقوله هنا: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} يعني: ممن أراد الله –جل وعلا- له ذلك وممن شاء الله، فهذا العموم الذي هنا مخصوص بآية الإسراء.
والذين يريدون الحياة الدنيا أصلاً وقصداً وتحركاً هم الكفار، ولهذا نزلت هذه الآية في الكفار، لكن لفظها يشمل كل من أراد الحياة الدنيا بعمله الصالح، ولهذا جمع الإمام محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله- في رسالة له أحوال الناس فيما قاله السلف تفسيرا لهذه الآية، وجعل كلام السلف يتناول أربعة أنواع من الناس كلهم يدخل في هذا الوعيد:
النوع الأول: ممن ركبوا هذا الشرك الأصغر وأرادوا بعملهم الحياة الدنيا أنه يعمل العمل الصالح وهو فيه مخلص لله –جل وعلا- ولكن يريد به ثواب الدنيا ولا يريد ثواب الآخرة، كأن يتعبد الله –جل وعلا- بالصلاة وهو فيها مخلص لله، أدّاها على طواعية واختيار وامتثال لأمر الله، لكن يريد منها(16/335)
ص -406- ... أن يصح بدنه، أو وصل رحمه وهو يريد منه أن يحصل له في الدنيا الذكر الطيب والصلة ونحو ذلك، أو عمل أعمالا من التجارة والصدقات وهو يريد بذلك تجارة يكون عنده مال فيتصدق، وهو يريد بذلك ثواب الدنيا.
فهذا النوع عمل العبادة امتثالا للأمر، ومخلصاً فيها لله، ولكنه طامع في ثواب الدنيا، وليس له همة في الآخرة ولم يعمل هرباً من النار وطمعاً في الجنة، فهذا داخل في هذا النوع وداخل في قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود: 15].
والأعمال التي يعملها العبد ويستحضر فيها ثواب الدنيا على قسمين:
القسم الأول: أن يكون العمل الذي عمله، واستحضر فيه ثواب الدنيا وأراده، ولم يرد ثواب الآخرة، لم يُرغب الشرع فيه بذكر ثواب الدنيا، مثل: الصلاة والصيام ونحو ذلك من الأعمال والطاعات، فهذا لا يجوز له أن يريد به الدنيا، ولو أراد به الدنيا، فإنه مشرك ذلك الشرك.
القسم الثاني: أعمال رتّب الشارع عليها ثوابا في الدنيا، ورغّب فيها بذكر ثوابٍ لها في الدنيا، مثل صلة الرحم، وبر الوالدين، ونحو ذلك، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه"(1). فهذا النوع إذا استحضر في عمله حين يعمل ذلك العمل،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد 3/156، بنحوه من حديث أبي سعيد الخدري، وأصله متفق عليه من حديث أنس.(16/336)
ص -407- ... استحضر ذلك الثواب الدنيوي، وأخلص لله في العمل ولم يستحضر الثواب الأخروي، فإنه داخل في الوعيد فهو من أنواع هذا الشرك، لكن إن استحضر الثواب الدنيوي والثواب الأخروي معاً، له رغبة فيما عند الله في الآخرة، ويطمع في الجنة، ويهرب من النار، واستحضر ثواب هذا العمل في الدنيا، فإنه لا بأس بذلك؛ لأن الشرع ما رغّب فيه بذكر الثواب في الدنيا إلا للحض عليه، كما قال عليه الصلاة والسلام: "من قتل قتيلاً فله سلبه"(1). فمن قتل حربيا في الجهاد لكي يحصل على السلب، ولكن قصده من الجهاد الرغبة فيما عند الله –جل وعلا- مخلصاً فيه لوجه الله، لكن أتى هذا من زيادة الترغيب له ولم يقتصر على هذا الدنيا بل قلبه معلق أيضا بالآخرة، فهذا النوع لا بأس به ولا يدخل في النوع الأول مما ذكره السلف في هذه الآية.
النوع الثاني مما ذكره السلف مما يدخل تحت هذه الآية: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود: 15]. أنه يعمل العمل الصالح لأجل المال، فهو يعمل العمل لأجل ما يحصله من المال، مثل: أن يدرس ويتعلم العلم الشرعي لأجل الوظيفة فقط، وليس في همه رفع الجهالة عن نفسه ومعرفة العبد بأمر ربه ونهيه والرغب في الجنة، وما يقرب منها والهرب من النار وما يبعد عنها، فهذا داخل في ذلك، أو حفظ القرآن ليكون إماماً في المسجد، ويكون له الرَّزق الذي يأتي من بيت المال، فغرضه من هذا العمل إنما هو المال، فهذا لم يعمل العمل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد5/306 من حديث أبي قتادة.(16/337)
ص -408- ... صالحاً وإنما عمل العمل الذي في ظاهره أنه صالح ولكن في باطنه قد أراد به الدنيا.
النوع الثالث: أهل الرياء الذين يعملون الأعمال لأجل الرياء.
النوع الرابع: الذين يعملون الأعمال الصالحة ومعم ناقض من نواقض الإسلام، كمن يصلي ويزكي ويتصدق ويقرأ القرآن ويتلوه، ولكن هو مشرك الشرك الأكبر، فهذا وإن قال: إنه مؤمن فليس بصادق في ذلك؛ لأنه لو كان صادقا لوحّد الله جل وعلا.
فهذه بعض الأنواع التي ذُكرت في تفسير هذه الآية وكلها داخلة تحت قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} فهؤلاء جميعا أرادوا الحياة الدنيا وزينتها ولم يكن لهم همّ في رضا الله –جل وعلا- وطلب الآخرة بذلك العمل الذي عملوه.
وهنا إشكال أورده بعض أهل العلم: وهو أن الله –جل وعلا- قال في الآية التي تليها: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 16] وأن هذه في الكفار الأصليين أو فيمن قام به مكفّر، أما المسلم الذي قامت به إرادة الدنيا فإنه لا يدخل في هذه الآية.
والجواب: أنه يدخل؛ لأن السلف أدخلوا أصنافاً من المسلمين في هذه الآية، والوعيد بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} فمن كانت إرادته الحياة الدنيا فلم يتقرب إلى الله –جل وعلا- بشيء {مَنْ(16/338)
ص -409- ... كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} [هود: 15] فهؤلاء أردوا الدنيا بكل عمل، وليس معهم من الإيمان والإسلام مصحح لأصل أعمالهم، فهؤلاء مخلدون في النار، أما الذي معه أصل الإيمان وأصل الإسلام الذي يصح به عمله، فهذا قد يحبط العمل، بل يحبط عمله الذي أشرك فيه وأراد به الدنيا، وما عداه لا يحبط؛ لأن معه أصل الإيمان الذي يصحح العمل الذي لم يخالطه شرك.
فهذه الآية فيها وعيد شديد، وهذا الوعيد يشمل كما ذكرنا أربعة أصناف، وكما قال أهل العلم: إن العبرة هنا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهي وإن كانت في الكفار، لكن لفظها يشمل من أراد الحياة الدنيا من غير الكفار.
"وفي الصحيح عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة ...إلخ"(1). وجه الشاهد من ذلك: أنه دعا على عبد الدينار، وعلى عبد الدرهم، وعلى عبد الخميصة. وعبد الدينار والدرهم هو الذي يعمل العمل لأجل الدينار، ولولا الدينار لما تحركت همته في العمل، لولا هذه الخميصة لما تحركت في العمل، فهو إنما عمل لأجل هذه الدينار، لأجل هذه الدنيا، وما فيها من الدرهم،والجاه والمكانة، ونحو ذلك، وقد سماه النبي عليه الصلاة والسلام عابداً للدينار، فدل ذلك على أنه من الشرك؛ لأن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم.(16/339)
ص -410- ... العبودية درجات، منها: عبودية الشرك الأصغر، ومنها عبودية الشرك الأكبر، فالذي يشرك بغير الله –جل وعلا- الشرك الأكبر هو عابد له، كأهل الأوثان، وعبدة الأصنام، وعبدة الصليب، وكذلك من يعمل الشرك الأصغر، ويتعلق قلبه بشيء من الدنيا فهو عابد، لذلك يقال: عبد هذا الشيء؛ لأنه هو الذي حرك همته، ومعلوم أن العبد مطيع لسيده أينما وجهه توجه، فهذا الذي حركته همته للدنيا وللدينار وللدرهم عبد لها؛ لأن همته متعلقة بتلك الأشياء، وإذا وجد لها سبيلاً تحرك إليها بدون النظر هل يوافق أمر الله –جل وعلا- أم لا يوافق أمر الله –جل وعلا- وشرعه؟!.(16/340)
ص -411- ... "باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه فقد اتخذهم أرباباً من دون الله"
وقال ابن عباس: "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله، وتقولون قال أبو بكر وعمر".(1).
وقال أحمد بن حنبل: "عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، ويذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63} أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك".(2).
وعن عدي بن حاتم: أنه سمع النبي –صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] فقلت له: لسنا نعبدهم، قال: "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد (3121).
(2) أخرجه ابن بطة في "الإبانة الكبرى" (97)(16/341)
ص -412- ... فتحلونه؟!" فقلت: بلى، قال: "فتلك عبادتهم"(1). رواه أحمد والترمذي وحسنه.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النور.
الثانية: تفسير آية براءة.
الثالثة: التنبيه على معنى العبادة التي أنكرها عدي.
الرابعة: تمثيل ابن عباس بأبي بكر وعمر، وتمثيل أحمد بسفيان.
الخامسة: تغير الأحوال إلى هذه الغاية حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال، وتسمى الولاية. وعبادة الأحبار هي العلم والفقه. ثم تغيرت الحال إلى أن عُبد من دون الله من ليس من الصالحين. وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين.
الشرح:
هذا الباب والأبواب بعده في بيان مقتضيات التوحيد، ولوازم تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن شهادة أن لا إله إلا الله تقتضي وتستلزم أن يكون العبد مطيعا لله –جل وعلا- فيما أحل وما حرم، محلاً للحلال محرماً للحرام، لا يتحاكم إلا إليه –جل وعلا- ولا يحكِّم في الدين إلا شرع الله جل وعلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه الترمذي (3094) وأحمد4/257 و378.(16/342)
ص -413- ... والعلماء وظيفتهم تبيين معاني ما أنزل الله –جل وعلا- على رسوله –صلى الله عليه وسلم وليست وظيفتهم التي أذن لهم بها في الشرع أن يحللوا ما يشاءون، أو أن يحرموا ما يشاءون، بل وظيفتهم الاجتهاد في فقه النصوص، وأن يبينوا ما أحل الله وما حرم جل وعلا، فهم أدوات ووسائل لفهم نصوص الكتاب والسنة، ولذلك كانت طاعتهم تبعا لطاعة الله ورسوله، يطاعون فيما فيه طاعة الله –جل وعلا- ولرسوله، وما كان من الأمور الاجتهادية فيطاعون، لأنهم هم أفقه بالنصوص من غيرهم، فتكون طاعة العلماء والأمراء من جهة الطاعة التبعية لله ولرسوله، أما الطاعة الاستقلالية فليست إلا لله –جل وعلا- حتى طاعة النبي عليه الصلاة والسلام إنما هي تبع لطاعة الله –جل وعلا- فإن الله هو الذي أذن بطاعته وهو الذي أمر بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا معنى الشهادة له بأنه رسول الله، قال جل وعلا: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] وقال جل وعلا: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} النساء: 64].
فالطاعة الاستقلالية نوع من أنواع العبادة، فيجب إفراد الله –جل وعلا- بها وغير الله –جل وعلا- إنما يطاع لأن الله –جل وعلا- أذن بطاعته، ويطاع فيما أذن الله به في طاعته، فالمخلوق لا يطاع في معصية الله؛ لأن الله لم يأذن أن يطاع مخلوق في معصية الخالق –جل وعلا- وإنما يطاع فيما أطاع الله –جل وعلا- فيه على النحو الذي يأتي.
فهذا الباب عقده الشيخ –رحمه الله- ليبين أن الطاعة من أنواع العبادة، بل إن الطاعة في التحليل وفي التحريم هي معنى اتخاذ الأرباب، كما قال الله(16/343)
ص -414- ... جل وعلا: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة: 31] وما سيأتي من بيان حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه.
فقوله: "باب من أطاع العلماء والأمراء" العلماء والأمراء هم أولوا الأمر في قوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] قال العلماء: أولوا الأمر يشمل من له الأمر في حياة الناس في دينهم –وهم العلماء- وفي دنياهم –وهم الأمراء- وقد قال جل وعلا: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} ولم يكرر فعل الطاعة.
قال ابن القيم وغيره: "دل هذا على أن طاعة ولي الأمر ليست استقلالا وإنما يطاعون في طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا أمروا بمعصية فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق".
والأمور الاجتهادية التي ليس فيها نص من الكتاب والسنة فإنهم يطاعون في ذلك لأن الله أذن به، ولما في ذلك من المصالح المرعية في الشرع.
قوله: "في تحريم ما أحل الله" يعني في تحريم الأمر الذي أحله الله، بحيث هناك حلال في الشرع فيحرمونه، أي يحرمه العالم، أو يحرمه الأمير، فيطيعه الناس، وهم يعلمون أنه حلال، لكن يطيعونه في التحريم، ومثاله: أن الله أحل أكل الخبز فيقولون: الخبز عليكم حرام ديناً، فلا تأكلوه تديناً، ويحرمونه لأجل ذلك، فإن أطاعوهم كان ذلك طاعة لهم في تحريم ما أحل الله.(16/344)
ص -415- ... قوله: "أو تحليل ما حرم الله" يعني أحلوا ما يعلم أن الله حرمه، مثاله: حرم الله الخمر فأحله العلماء أو أحله الأمراء، فمن أطاع عالما أو أميراً في اعتقاد أن الخمر حلال، وهو يعلم أنها حرام، وأن الله حرمها فقد اتخذه رباً من دون الله جل وعلا.
ففي هذا الباب حكم وشرط، فالحكم قوله في آخره: "فقد اتخذهم أربابا" وهو جزاء الشرط، والشرط قوله: "من أطاع العلماء والأمراء" وضابط هذا الشرط ما بينهما وهو قوله: "في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه" وهذا يستفاد منه –يعني من اللفظ- أنهم عالمون بما أحل الله فحرموه طاعة لأولئك، عالمون بما حرم فأحلوه طاعة لهم.
قوله في آخره: "فقد اتخذهم أباباً" ذلك لأجل آية سورة براءة: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} وحديث عدي بن حاتم في ذلك.
والأرباب جمع الرب، والرب والإله لفظان يفترقان إذا اجتمعا، ويجتمعان إذا افترقا، لأن الرب هو السيد المالك المتصرف في الأمر، والإله هو المعبود، وقد سئل المصنف الإمام محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله عن الفرق بين الإله والرب في مثل هذه السياقات في نحو قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 80] وفي نحو قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً(16/345)
ص -416- ... مِنْ دُونِ اللَّهِ} ما معنى الربوبية هنا؟ قال: الربوبية هنا بمعنى الألوهية، بمعنى المعبود؛ لأن من أطاع على ذلك النحو فقد عَبَد، لقول النبي –صلى الله عليه وسلم- لعدي بن حاتم حين قال: "لسنا نعبدهم" فعدي فهم من كلمة "أرباباً" العبادة، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- مقررا لذلك: "أليس يحرمون ..." إلخ، فهو إقرار منه عليه الصلاة والسلام بأن معنى الربوبية هنا العبودية.
فلهذا قال الشيخ –رحمه الله- حينما سئل: "الألوهية والربوبية أو كلمة الرب والإله من الألفاظ التي إذا اجتمعت افترقت، وإذا افترقت اجتمعت" يعني: كلفظة الفقير والمسكين، والإسلام والإيمان، ونحوهما؛ لأن الإله يطلق على المعبود، وجاء في نصوص كثيرة إطلاق الرب على المعبود كما ذكرنا في الآيات وفي الحديث، وكقوله عليه الصلاة والسلام في مسائل القبر: "... فيأتيه ملكان فيسألانه من ربك؟" يعني: من معبودك؛ لأن الابتلاء لم يقع في الرب الذي هو الخالق الرازق المحيي المميت.
إذاً لفظ (الرب) و(الإلهية) من الألفاظ التي إذا اجتمعت افترقت وإذا افترقت اجتمعت، فقد يطلق على الأرباب آلهة، وعلى الآلهة أرباب، وهل هذا الإطلاق لأجل اللغة؟ يعني أن أصله في اللغة يدخل هذا في هذا، وهذا في ذاك، أو لأنه لأجل اللزوم والتضمن؟ الظاهر –عندي- الأخير، وهو أنه لأجل اللزوم والتضمن، فإن الربوبية مستلزمة للألوهية، والألوهية متضمنة للربوبية، فإذا ذُكر الإله فقد تضمن ذكر ذلك ذكر الرب، وإذا ذكر الرب استلزم ذلك ذكر الإله، ولهذا قال جل وعلا هنا: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ(16/346)
ص -417- ... وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً} [آل عمران: 80] يعني: آلهة، لاستلزام لفظ الربوبية للإلهية، وكذلك قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً} يعني: آلهة معبودين كما أتى تفصيله في الحديث.
وقال ابن عباس: "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله، وتقولون قال أبو بكر وعمر".(1).
هذا الحديث رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح، وإسناده عن عبد الرزاق، عن معمر، عن طاوس، عن ابن عباس، أو نحو ذلك، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع الفتاوى بنصه، فذكر الإسناد والمتن، وغالب الذين خرجوا كتاب التوحيد قالوا: إن هذا الأثر لا أصل له بهذا اللفظ، وهذه جراءة منهم حيث إنهم ظنوا أن كتب الحديث بين أيديهم، ولو تتبعوا كتب أهل العلم لوجدوا أن إسناده والحكم عليه موجود في كتبهم.
ووجه الاستشهاد ما اشتمل عليه هذا الأثر، وهو قوله: "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله، وتقولون قال أبو بكر وعمر" لأن الواجب على المسلم إذا سمع حديثا عن النبي –صلى الله عليه وسلم- وعلم فقهه، أو بينه له أهل العلم ألا يترك ذلك الحديث وفقهه لقول أحد كائناً من كان، إذا كان الحديثُ ظاهراً في الدلالة على ذلك، وكان القول الآخر لا دليل عليه، أما إذا كانت المسألة اجتهادية في الحديث من جهة الفهم فهذا مجاله واسع، وابن عباس رضي الله عنهما يحمل كلامه هذا على أن هؤلاء الذين قالوا له
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم.(16/347)
ص -418- ... تلك المقالة، قالوا له: قال أبو بكر وعمر، عارضوا قوله في المتعة بقول أبي بكر وعمر الذي هو مناقض لصريح قول النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يذهبان إلى أن إفراد الحج أفضل من التمتع، وابن عباس كان يوجب أفضلية التمتع ويسوق الأدلة في ذلك، وقول أبي بكر وعمر أخذ به طائفة من أهل العلم كمالك وغيره، بل قال طائفة: إن إفراد الحج وسفره مرة أخرى للعمرة خير له من أن يجمع بين حج وعمرة في سفرة واحدة، كما هو اختيار شيخ الإسلام وغيره من المحققين.
والمقصود من ذلك أن كلام ابن عباس هذا ليس في المسألة الفقهية، يعني: أن المؤلف رحمه الله لم يسق قول ابن عباس لخصوص مسألة التمتع والإفراد، ولكن في مسألة عموم لفظه، وهو أن لا يُعارض قول النبي عليه الصلاة والسلام الظاهر معناه بقول أحد لا دليل له على قوله، ولو كان ذلك القائل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فكيف بمن دونهما من التابعين أو من الصحابة، فكيف بأئمة أهل المذاهب وأصحاب أهل المذاهب رحمهم الله؟! واحترام العلماء وأهل المذاهب واجب، لكن أجمع أهل العلم على أن من استبانت له سنة من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يتركها لقول أحد كائناً من كان.
"وقال أحمد بن حنبل: "عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، ويذهبون إلى رأي سفيان" وسفيان هو ابن سعيد بن مسروق الثوري أحد العلماء المعروفين، وكان له مذهب وله أتباع.
قوله: "يذهبون إلى رأي سفيان" يدل على أن سفيان لم يكن له مستند على ما ذهب إليه، وهو عالم من العلماء، وأحد الزهاد الصالحين المشهورين،(16/348)
ص -419- ... ولكن قد تخفاه السنة فيكون قد حكم برأيه أو بتقعيد عنده، لكن السنة جاءت بخلاف ذلك، فلا يسوغ أن يجعل رأي سفيان في مقابل الحديث النبوي.
"والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63} أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك" إذا رد بعض قول النبي –الصلاة والسلام لقول أحد يُخشى عليه أن يعاقب فيقع في قلبه زيغ، قال الله جل وعلا: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} فهم زاغوا بمحض إرادتهم واختيارهم، مع بيان الحجج وظهور الدلائل والبراهين لكن لما زاغوا أزاغ الله قلوبهم عقوبة منه لهم على ذلك، وهذا معنى قوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أي نوع شرك، وقد يصل ذلك إلى الشرك الأكبر بالله –جل وعلا- إذا كان في تحليل الحرام مع العلم بأنه حرام، وتحريم الحلال مع العلم بأنه حلال.
وعن عدي بن حاتم: أنه سمع النبي –صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} فقلت له: لسنا نعبدهم" فيه أنه فهم من قوله: "أرباباً" أنهم المعبودون.(16/349)
ص -420- ... "قال عليه الصلاة والسلام: "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟!" فقلت: بلى، قال: "فتلك عبادتهم" رواه أحمد والترمذي وحسنه.(1). هذا الحديث فيه بيان أن طاعة الأحبار والرهبان قد تصل إلى الشرك الأكبر، واتخاذ أولئك أرباباً ومعبودين، والأحبار هم العلماء، والرهبان هم العبّاد.
وطاعة الأحبار في التحليل والتحريم على درجتين:
الدرجة الأولى: أن يطيع العلماء أو الأمراء في تبديل الدين، يعني في جعل الحرام حلالاً وفي جعل الحلال حراماً، فيطيعهم في تبديل الدين، وهو يعلم أن الحرام قد حرمه الله، ولكن أطاعهم تعظيماً لهم، فحلل ما أحلوه طاعة لهم وتعظيماً وهو يعلم أنه حرام، يعني: اعتقد أنه حلال وهو حرام في نفسه، أو حرّم حلالا تبعاً لتحريمهم، وهو يعلم أن ما حرموه حلال، ولكنه حرم تبعاً لتحريمهم، هذا يكون قد أطاع العلماء أو الأمراء في تبديل أصل الدين، فهذا هو الذي اتخذهم أربابا، وهو الكفر الأكبر والشرك الأكبر بالله –جل وعلا- وهذا هو الذي صرف عبادة الطاعة إلى غير الله، ولهذا قال الشيخ سليمان –رحمه الله- في شرحه لكتاب التوحيد: "الطاعة هنا في هذا الباب المراد بها طاعة خاصة، وهي الطاعة في تحليل الحرام أو تحريم الحلال" وهذا ظاهر.
الدرجة الثانية: أن يطيع الحبر، أو يطيع الأمير، أو يطيع الرهبان في تحريم الحلال أو في تحليل الحرام من جهة العمل، أطاع وهو يعلم أنه عاص بذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه الترمذي (3094) .(16/350)
ص -421- ... ومعترف بالمعصية لكن اتبعهم عملاً وقلبه لم يجعل الحلال حراماً متعيناً أو سائغاً، ولكن أطاعهم حباً له في المعصية، أو حبا له في مجاراتهم، ولكن في داخله يعتقد أن الحلال هو الحلال، والحرام هو الحرام، فما بدل الدين، قال شيخ الإسلام رحمه الله: "هذا له حكم أمثاله من أهل الذنوب".
وهاتان الدرجتان هما من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية على هذه الآية، فهذا له حكم أمثاله من أهل الذنوب والعصيان، لأنه ما حرم الحلال ولا أحل الحرام، وإنما فعل الحرام من جهة العصيان، وجعل الحلال حراما من جهة العصيان لا من جهة تبديل أصل الدين.
ويريد الشيخ –رحمه الله- بذكر الرهبان وبإيراده للآية: التنبيه على أن الطاعة في تحليل الحرام، وتحريم الحلال جاءت أيضاً من جهة الرهبان والعباد، وهذا موجود عند المتصوّفة وأهل الغلو في التصوف، والغلاة في تعظيم رؤساء الصوفية، فإنهم أطاعوا مشايخهم والأولياء الذين زعموا أنهم أولياء، أطاعوهم في تغيير الملة، فهم يعلمون أن السنة هي كذا وكذا، وأن خلافها بدعة، ومع ذلك أطاعوهم تعظيماً للشيخ وتقديساً للولي، أو يعلمون أن هذا شرك والدلائل عليه من القرآن والسنة ظاهرة، لكن تركوه وأباحوا ذلك الشرك وأحلوه؛ لأن شيخهم ومُقَدَّمهم ورئيس طريقتهم أحله، وهذا كان في نجد كثيراً إبّان ظهور الشيخ بدعوته، وهو موجود في كثير من الأمصار، وهو نوع من اتخاذ أولئك العباد أرباباً من دون الله –جل وعلا- وهذا المقام أيضاً فيه تفصيل على نحو الدرجتين اللتين ذكرتهما عن شيخ الإسلام رحمه الله.(16/351)
ص -422- ... "باب قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} [النساء: 60-62]
وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]
وقوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به"
قال النووي: "حديث صحيح رويناه في كتاب "الحجة" بإسناد صحيح".(1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه ابن أب عاصم في "السنة" (15) والحديث ضعيف.(16/352)
ص -423- ... وقال الشعبي: "كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه عرف أنه لا يأخذ الرشوة، وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود، لعلمه أنهم يأخذون الرشوة، فاتفقا أن يأتيا كاهنا في جهينة فيتحاكما إليه فنزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} الآية". (1).
وقيل: "نزلت في رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافع إلى النبي –صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف، ثم ترافعا إلى عمر، فذكر له أحدهما القصة، فقال للذي لم يرض برسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذلك؟ قال: نعم، فضربه بالسيف فقتله.(2).
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النساء وما فيها من الإعانة على معرفة فهم الطاغوت.
الثانية: تفسير آية البقرة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} الآية.
الثالثة: تفسير آية الأعراف: : {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}.
الرابعة: تفسير: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}.
الخامسة: ما قال الشعبي في سبب نزول الآية الأولى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه ابن جرير في "التفسير" (9891) و(9892) و(9893).
(2) أخرجه الثعلبي كما في "الدر المنثور" عن ابن عباس، وأخرجه الطبراني في "التفسير" من طريق مجاهد (1-99) بإسناد صحيح. وانظر "فتح الباري" 5/37.(16/353)
ص -424- ... السادسة: تفسير الإيمان الصادق والكاذب.
السابعة: قصة عمر مع المنافق.
الثامنة: كون الإيمان لا يحصل لأحد حتى يكون هواه تبعا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
الشرح:
هذا الباب من الأبواب العظيمة المهمة في هذا الكتاب، وذلك لأن إفراد الله –جل وعلا- بالوحدانية في ربوبيته وفي إلهيته يتضمن ويقتضي ويستلزم –جميعا- أن يفرد في الحكم، فكما أنه –جل وعلا- لا حكم إلا حكمه في ملكوته، فكذلك يجب أن يكون لا حكم إلا حكمه فيما يتخاصم فيه الناس، وفي الفصل بينهم، فالله –جل وعلا- هو الحَكَم، وإليه الحكم سبحانه، قال جال وعلا: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: 12] وقال جل وعلا: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57] فتوحيد الله –جل وعلا- في الطاعة وتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله لا يكون إلا بأن يكون العباد محكِّمين لما أنزل الله –جل وعلا- على رسوله. فترك تحكيم ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بحكم الجاهلية، أو بحكم القوانين، أو بحكم سواليف البادية، أو بكل حكم مخالف لحكم الله –جل وعلا- هذا من الكفر الأكبر بالله –جل جلاله- ومما يناقض كلمة التوحيد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.(16/354)
ص -425- ... وقد عقد الشيخ –رحمه الله- هذا الباب ليبين أن الحكم بما أنزل الله فرض، وأن ترك الحكم بما أنزل الله وتحكيم غير ما أنزل الله في شؤون المتخاصمين وتنزيل ذلك منزلة القرآن أن ذلك شرك أكبر بالله -جل وعلا- وكفر مخرج من ملة الإسلام.
قال الإمام محمد بن إبراهيم –رحمه الله- في أول رسالته "تحكيم القوانين": إن من الكفر الأكبر المستبين، تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب سيد المرسلين، ليكون حكماً بين العالمين، مناقضة ومحادة لما نزل من رب العالمين. انتهى كلامه بمعناه.
فلا شك أن إفراد الله بالطاعة، وإفراده بالحكم، وتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، كل ذلك يقتضي ألا يُحكم إلا بشرعه، فلهذا كان الحكم بالقوانين الوضعية، أو الحكم بسواليف البادية من الكفر الأكبر بالله جل وعلا لقوله تعالى في هذه الآية: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء: 60]
فمناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة جلية، وهي أن التحاكم إلى غير شرع الله قدح في أصل التوحيد، وأن الحكم بشرع الله واجب، وأن تحكيم القوانين أو سواليف البادية أو أمور الجاهلية مناف لشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله؛ فإن من مقتضيات شهادة أن محمدا رسول اله أن يطاع فيما أمر، وأن يصدق فيما أخبر، وأن يجتنب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.(16/355)
ص -426- ... فالحكم بين المتخاصمين لا بد أن يرجع فيه إلى حكم من خلق المتخاصمين، ومن خلق الأرض والسماوات، فالحكم الكوني القدري لله –جل وعلا- وكذلك الحكم الشرعي لله –جل وعلا- فيجب ألا يكون بين العباد إلا تحكيم أمر الله –جل وعلا- فإن ذلك هو حقيقة التوحيد في طاعة الله –جل وعلا- في مسائل التخاصم بين الخلق.
"باب قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [النساء: 60]"
فقوله: {يَزْعُمُون} يدل على أنهم كذبة، فلا يجتمع الإيمان مع إرادة الحكم والتحاكم إلى الطاغوت.
قوله: {يُرِيدُونَ} هذا ضابط مهم، وشرط في نفي أصل الإيمان عمن تحاكم إلى الطاغوت، فإن من تحاكم إلى الطاغوت قد يكون بإرادته –وهي الطواعية والاختيار والرغبة في ذلك وعدم الكراهة- وقد يكون بغير إرادته، بأن يكون مجبراً على ذلك، وليس له في ذلك اختيار، وهو كاره لذلك، فالأول هو الذي ينتفي عنه الإيمان، إذ لا يجتمع الإيمان بالله وبما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، وما أنزل من قبله مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت، فالإرادة شرط، لأن الله –جل وعلا- جعلها في مساق الشرط، فقال: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} و{أَنْ يَتَحَاكَمُوا} هذا مصدر، يعني: يريدون التحاكم إلى الطاغوت، والطاغوت: اسم لكل ما تجاوز به العبد حده من متبوع، أو معبود، أو مطاع، كما تقدم بيانه.(16/356)
ص -427- ... قوله: {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} يعني: أن يكفروا بالطاغوت، وأن يكفروا بكل تحاكم إلى غير شرع الله –جل وعلا- فالأمر بالكفر بالتحاكم إلى الطاغوت أمر واجب، ومن إفراد التوحيد، ومن إفراد تعظيم الله –جل وعلا- في ربوبيته، فمن تحاكم إلى الطاغوت بإرادته، فقد انتفى عنه الإيمان أصلاً كما دلت عليه الآية.
{وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} دل ذلك على أن هذا من وحي الشيطان، ومن تسويله.
وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] الإفساد في الأرض: الإشراك بالله، وبتحكيم غير شرع الله، فالأرض إصلاحها بالشريعة والتوحيد، وإفسادها بالشرك بأنواعه الذي منه الشرك في الطاعة؛ ولهذا ساق الشيخ هذه الآية تحت هذا الباب، لأجل أن يبين لك أن صلاح الأرض بالتوحيد الذي منه إفراد الله –جل وعلا- بالطاعة، وأن لا يحاكم إلا إلى شرعه، وأنّ إفساد الأرض بالشرك الذي منه أن يُجعل حكم غير الله –جل وعلا- جائز التحاكم إليه.
وهذه الآية ظاهرة في أن من خصال المنافقين أنهم يسعون في الشرك وفي مسائله وأفراده، ويقولون: إنما نحن مصلحون وفي الحقيقة أنهم المفسدون ولكن لا يشعرون؛ لأنهم إذا أرادوا الشرك ورَغِبوا فيه وحاكموا وتحاكموا إلى غير شرع اله فإن ذلك هو الفساد والسعي فيه سعي في الإفساد.(16/357)
ص -428- ... وقوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] وحكم الجاهلية هو أن يحكم بعضهم على بعض، بأن يسن البشر شريعة فيجعلونها حَكَماً، والله –جل وعلا- هو الذي خلق العباد، وهو أعلم بما يصلحهم، وما فيه العدل في الفضل بين الناس في أقضيتهم وخصوماتهم، فمن حاكم إلى شرائع الجاهلية فقد حكّم البشر، ومعنى ذلك أنه اتخذه مطاعاً من دون الله، أو جعله شريكاً لله –جل وعلا- في عبادة الطاعة، والواجب أن يجعل العبد حكمه وتحاكمه إلى الله –جل وعلا- دون ما سواه، وأن يعتقد أن حكم الله –جل وعلا- هو أحسن الأحكام، {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً} [الأنعام: 114] {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فدل على أن حكم غيره إنما هو –كما قال طائفة- زبالة أذهان ونحاتة أفكار لا تساوي شيئاً عند من عقل تصرف الله –جل وعلا- في ملكه وملكوته، وأن ليس ثَمَّ حكم إلا حكم الرب جل وعلا.
وهذه المسألة –أعني مسألة التحاكم إلى غير شرع الله- من المسائل التي يقع فيها خلط كثير، خاصة عند الشباب في هذه البلاد وفي غيرها، وهي من أسباب تفرق المسلمين؛ لأن نظر الناس فيها لم يكن واحدا، والواجب أن يتحرى طالب العلم ما دلت عليه الأدلة وما بيّن العلماء من معاني تلك الأدلة وما فقهوه من أصول الشرع والتوحيد وما بينوه في تلك المسائل.(16/358)
ص -429- ... ومن أوجه الخلط في ذلك: أنهم جعلوا المسألة –مسألة الحكم والتحاكم- واحدة، يعني: جعلوها صورة واحدة، وهي متعددة الصور.
من صورها: أن يكون هناك تشريع لتقنين مستقبل، يضاهى به حكم الله –جل وعلا- هذا التقنين من حيث وضعُه كفر، والواضع له، والمشرِّع والسان لذلك، وجاعل هذا التشريع منسوباً إليه وهو الذي حكم بهذه الأحكام، هذا المشرِّع كافر، وكفره ظاهر، لأنه جعل نفسه طاغوتاً، فدعا الناس إلى عبادته، عبادة الطاعة وهو راض، وهناك من يحكم بهذا التقنين-وهذه الحالة الثانية- فالمشرِّع حالة، ومن يحكم بذلك التشريع حالة، ومن يتحاكم إليه حالة، ومن يجعله في بلده من جهة الدول هذه حالة رابعة.
فصارت عندنا الأحوال أربعاً:
المشرِّع، ومن أطاعه في جعله الحلال حراما والحرام حلالا، ومناقضة شرع الله، هذا كافر. ومن أطاعه في ذلك فقد اتخذه رباً من دون الله. والحاكم بذلك فيه تفصيل، فإن حكم مرة أو مرتين أو أكثر من ذلك ولم يكن ذلك ديدناً له وهو يعلم أنه عاص بتحكيم غير شرع الله، فهذا له حكم أمثاله من أهل الذنوب، ولا يكفَّر حتى يستحلّ، ولهذا تجد أن بعض أهل العلم يقول: الحاكم بغير شرع الله لا يُكفّر إلا إذا استحلّ، وهذا صحيح، ولكن لا تنزّل هذه الحالة على حالة التقنين والتشريع، كما قال ابن عباس: "ليس الكفر الذي تذهبون إليه، هو كفر دون كفر". يعني: أن من حكم في مسألة أو في مسألتين بهواه بغير شرع الله وهو يعلم أنه عاص ولم يستحل، هذا كفر دون كفر.
أما الحاكم الذي لا يحكم بشرع الله بتاتاً ويحكم دائماً ويُلزم الناس بغير شرع الله، فهذا من أهل العلم من قال: يكفر مطلقاً ككفر الذي سنّ القانون؛(16/359)
ص -430- ... لأن الله -جل وعلا- قال: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} فجعل الذي يحكم بغير شرع الله مطلقاً طاغوتاً، وقال: {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ}.
ومن أهل العلم من قال: حتى هذا النوع لا يكفر حتى يستحل؛ لأنه قد يعمل ذلك ويحكم وهو يعتقد في نفسه أنه عاصٍ، فله حكم أمثاله من المدمنين على المعصية الذين لم يتوبوا منها.
والقول الأول –وهو أن الذي يحكم دائماً بغير شرع الله ويلزم الناس بغير شرع الله أنه كافر- هو الصحيح –عندي- وهو قول الشيخ محمد بن إبراهيم –رحمه الله- في رسالته "تحكيم القوانين" لأنه لا يصدر في الواقع من قلب قد كفر بالطاغوت، بل لا يصدر إلا ممن عظّم القانون، وعظّم الحكم بالقانون.
الحالة الثالثة: حال المتحاكمين، يعني: الذي يذهب هو وخصمه ويتحاكمون إلى قانون، فهذا فيه تفصيل –أيضاً- وهو إن كان يريد التحاكم إلى الطاغوت، وله رغبة في ذلك، ويرى أن الحكم بذلك سائغ ولا يكرهه، فهذا كافرٌ أيضاً؛ لأنه داخل في هذه الآية، ولا تجتمع –كما قال العلماء- إرادة التحاكم إلى الطاغوت مع الإيمان بالله، بل هذا ينفي هذا، والله –جل وعلا- قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ}.
وأما إن كان لا يريد التحاكم ولا يرضاه، وإنما أجبر على ذلك، كما يحصل في البلاد الأخرى، من إلزامه بالحضور مع خصمه إلى قانوني أو إلى قاضٍ يحكم بالقانون، أو أنه علم أن الحق له في الشرع فرفع الأمر إلى القاضي(16/360)
ص -431- ... في القانون لعلمه أنه يوافق حكم الشرع فهذا الذي رفع أمره في الدعوى على خصمه إلى قاض قانوني لعلمه أن الشرع يعطيه حقه وأن القانون وافق الشرع في ذلك فهذا الأصح أيضاً –عندي – جائز.
وبعض أهل العلم يقول: يتركه ولو كان الحق له، والله –جل وعلا- وصف المنافقين بقوله: {وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور: 49] فالذي يرى أن الحق ثبت له في الشرع وما أجاز لنفسه أن يترافع إلى غير الشرع إلا لأنه يأتيه ما جعله الله –جل وعلا-له مشروعا، فهذا لا يدخل في إرادة التحاكم إلى الطاغوت فهو كاره ولكنه حاكم إلى الشرع فعلم أن الشرع يحكم له فجعل الحكم الذي عند القانوني وسيلة للوصول إلى الحق الذي ثبت له شرعاً.
الحال الرابعة: حال الدولة التي تحكم بغير الشرع، تحكم بالقانون، فالدول التي تحكم بالقانون –أيضاً- فقد فصل الشيخ محمد بن إبراهيم الكلام في هذه المسألة في فتاويه، وخلاصة قوله: أن الكفر بالقانون فرض، وأن تحكيم القانون في الدول إن كان خفياً نادراً فالأرض أرض الإسلام، يعني: أن الدولة دولة إسلام، فيكون له حكم أمثاله من الشركيات التي تكون في الأرض، قال: "وإن كان ظاهراً فاشيا، فالدار دار كفر" يعني: الدولة دولة كفر، فيصبح الحكم على الدولة راجع إلى هذا التفصيل:
إن كان تحكيم القانون قليلا وخفيا، فهذه لها حكم أمثالها من الدول الظالمة، أو التي لها ذنوب وعصيان ووجود بعض الشركيات في دولتها، وإن كان ظاهراً فاشياً –والظهور يضاده الخفاء، والفشو يضاده القلة- قال: "فالدار(16/361)
ص -432- ... دار كفر".
وهذا التفصيل هو الصحيح؛ لأننا نعلم أنه صار في دول الإسلام تشريعات موافقة لشرع الله جل وعلا، والعلماء في الأزمنة الأولى ما حكموا على الدار بأنها دار كفر ولا على تلك الدول بأنها دول كفرية إلا لأن الشرك له أثر في الدار، وإذ قلنا: الدار فنعني الدولة، فمتى كان التحاكم إلى الطاغوت ظاهراً فاشياً فالدولة دولة كفر، ومتى كان قليلاً خفياً أو كان قليلاً ظاهراً وينكر، فالأرض أرض إسلام، والدار دار إسلام، والدولة دولة إسلام.
فهذا التفصيل يتضح به هذا المقام وبه تجمع بين كلام العلماء، ولا تجد مضادة بين قول عالم وعالم، ولا تشتبه المسألة إن شاء الله تعالى.(16/362)
ص -433- ... "باب من جحد شيئاً من الأسماء والصفات"
وقول الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد: 30]
وفي صحيح البخاري قال علي: "حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكذّب الله ورسوله؟!".(1).
وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس –رضي الله عنهما- "أنه رأى رجلا انتفض لما سمع حديثاً عن النبي –صلى الله عليه وسلم- في الصفات استنكاراً لذلك، فقال: "ما فرق هؤلاء؟! يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابه؟"(2). انتهى.
ولما سمعت قريش رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يذكر الرحمن أنكروا ذلك فأنزل الله فيهم: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ}.(3).
فيه مسائل:
الأولى: عدم الإيمان بجحد شيء من الأسماء والصفات.
الثانية: تفسير آية الرعد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (127).
(2) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (20895).
(3) أخرجه ابن جرير في "التفسير" (20397).(16/363)
ص -434- ... الثالثة: ترك التحديث بما لا يفهم السامع.
الرابعة: ذكر العلة أنه يُفضي إلى تكذيب الله ورسوله، ولو لم يتعمد المنكر.
الخامسة: كلام ابن عباس لمن استنكر شيئاً من ذلك، وأنه أهلكه.
الشرح:
هذا الباب ترجم له إمام هذه الدعوة بقوله: "باب من جحد شيئاً من الأسماء والصفات" يعني وما يلقحه من الذم، وأن جحد شيء من الأسماء والصفات مناف لأصل التوحيد ومن خصال الكفار والمشركين.
وقد ذكرنا فيما سبق أن توحيد الإلهية عليه براهين، ومن براهينه توحيد المعرفة والإثبات، وهو توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، فمن أدلة توحيد الإلهية توحيد الربوبية كما سبق في "باب قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف: 191]" وكذلك توحيد الأسماء والصفات برهان على توحيد الإلهية، ومن حصل عنده ضلال في توحيد الأسماء والصفات فإن ذلك سيتبعه ضلال في توحيد الإلهية، ولهذا تجد المبتدعة الذين ألحدوا في أسماء الله وفي صفاته من هذه الأمة من الجهمية، والمعتزلة، والرافضة، والأشاعرة، والماتريدية، ونحو هؤلاء، تجد أنهم لما انحرفوا في باب توحيد الأسماء والصفات لم يعلموا حقيقة معنى توحيد الإلهية، ففسروا (الإله) بغير معناه، وفسروا (لا إله إلا الله) بغير معناها الذي(16/364)
ص -435- ... دلت عليه اللغة ودل عليه الشرع، وكذلك لم يعلموا متعلقات الأسماء والصفات وآثارها في ملك الله –جل وعلا- وسلطانه، لهذا عقد الشيخ –رحمه الله- هذا الباب لأجل أن يبين أن تعظيم الأسماء والصفات من كمال التوحيد وأن جحد الأسماء والصفات مناف لأصل التوحيد، فالذي يجحد اسماً سمى الله به نفسه أو سماه به رسوله –صلى الله عليه وسلم- وثبت ذلك عنه وتيقنه فإنه يكون كافراً بالله –جل وعلا- كما قال سبحانه عن المشركين: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 30].
والواجب على العباد من هذه الملة أن يوحدوا الله –جل وعلا- في أسمائه وصفاته، ومعنى توحيد الله في أسمائه وصفاته: أن يتيقن ويؤمن بأن الله –جل وعلا- ليس له مثيل في أسمائه ولا في صفاته كما قال جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] فنفى وأثبت، نفى أن يماثل الله شيء –جل وعلا- وأثبت له صفتي السمع والبصر.
قال العلماء: قدّم النفي قبل الإثبات على القاعدة العربية المعروفة أن التخلية تسبق التحلية، فيجب أن يخلو القلب من كل براثن التمثيل ومن كل ما كان يعتقده المشركون الجاهلون من تشبيه الله بخلقه، أو تشبيه خلق الله به، فإذا خلا القلب من كل ذلك، وبرئ من التشبيه والتمثيل، أثبت ما يستحقه الله –جل وعلا- من الصفات، فأثبت هنا صفتين وهما السمع والبصر.
وسبب ذكر السمع والبصر هنا في مقام الإثبات دون غيرهما من الصفات أو دون ذكر غير اسم السميع والبصير من الأسماء؛ لأن صفتي السمع(16/365)
ص -436- ... والبصر مشتركة بين أكثر المخلوقات الحية، فجلُّ المخلوقات الحية التي حياتها بالروح والنفس لا بالنماء فإن السمع والبصر موجود فيها جميعاً، فالإنسان له سمع وبصر وسائر أصناف الحيوانات لها سمع وبصر، فالذباب له سمع وبصر يناسبه، والبعير له سمع وبصر يناسبه، وكذلك الطيور، والأسماك، والدواب الصغيرة، والحشرات كل له سمع وبصر يناسبه.
ومن المتقرر عند كل عاقل أن سمع هذه الحيوانات ليس متماثلاً، وأن بصرها ليس متماثلاً، وأن سمع الحيوان ليس مماثلا لسمع الإنسان، فسمع الإنسان ربما كان أبلغ وأعظم من سمع كثير من الحيوانات وكذلك البصر، فإذا كان كذلك اشتراك المخلوقات التي لها سمع وبصر في السمع والبصر، فإذا كان اشتراكاً في أصل المعنى، ولكل سمع وبصر بما قدر له وما يناسب ذاته، فإذا كان كذلك ولم يكن وجود السمع والبصر في الحيوان وفي الإنسان مقتضياً لتشبيه الحيوان بالإنسان، فكذلك إثبات السمع والبصر للملك الحي القيوم ليس على وجه المماثلة للسمع والبصر في الإنسان أو في المخلوقات، فلله –جل وعلا- سمع وبصر يليق به، كما أن للمخلوق سمعاً وبصراً يليق بذاته الحقيرة الوضعية، فسمع الله كامل مطلق من جميع الوجوه لا يعتريه نقص، وبصره كذلك.
واسم الله (السميع) هو الذي استغرق كل الكمال في صفة السمع، وكذلك اسم الله (البصير) هو الذي استغرق كل الكمال في صفة البصر، فدل ذلك على أن النفي مقدم على الإثبات، وأن النفي يكون مجملاً، والإثبات يكون مفصلاً، فالواجب على العباد أن يعلموا أن الله –جل(16/366)
ص -437- ... جلاله- متصف بالأسماء الحسنى وبالصفات العلى، وأن لا يجحدوا شيئاً من أسمائه وصفاته، فمن جحد شيئاً من أسماء الله وصفاته فهو كافر، لأن ذلك صنيع الكفار والمشركين.
والإيمان بالأسماء والصفات يقوي اليقين بالله، وهو سبب لمعرفة الله، والعلم به، بل إن العلم بالله ومعرفة الله –جل وعلا- تكون بمعرفة أسمائه وصفاته، وبمعرفة آثار الأسماء والصفات في ملكوت الله –جل وعلا- وهذا باب عظيم ربما يأتي له زيادة إيضاح عند "باب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]".
فتلخص من هذا أن لقوله: "باب من جحد شيئاً من الأسماء والصفات" صلة وطيدة بكتاب التوحيد من جهتين:
الجهة الأولى: أن من براهين توحيد العبادة توحيد الأسماء والصفات.
الثانية: أن جحد شيء من الأسماء والصفات شرك وكفر مخرج من الملة، وأن من ثبت عنده الاسم، أو ثبتت الصفة، وعلم أن الله –جل وعلا- أثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله –صلى الله عليه وسلم- ثم جحدها ونفاها أصلاً فإن هذا كفر، لأنه تكذيب بالكتاب وبالسنة.
"وقول الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 30] الآية" الرحمن: من أسماء الله –جل وعلا- والمشركون والكفار في مكة كانوا يقولون: لا نعلم الرحمن إلا رحمن اليمامة، فكفروا باسم الله (الرحمن)(16/367)
ص -438- ... وهذا كفر بنفسه، ولهذا قال جل وعلا: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} يعني: باسم الله (الرحمن) وهذا اسم من أسماء الله الحسنى، وهو مشتمل على صفة الرحمة؛ لأن (الرحمن) فيه صفة الرحمة، ومبني على وجه المبالغة، فالرحمن أبلغ في اشتماله على صفة الرحمة من اسم (الرحيم) ولهذا لم يتسم به على الحقيقة إلا الله –جل وعلا- فهو من أسماء الله العظيمة التي لا يشركه فيها أحد، أما (الرحيم) فقد أطلق الله –جل وعلا- على بعض عباده بأنهم رحماء، وأن نبيه صلى الله عليه وسلم رحيم كما قال: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]
والاسم والصفة بينهما ارتباط من جهة أن كل اسم لله –جل وعلا- مشتمل على صفة، فأسماء الله ليست جامدة، بل كل اسم من أسماء الله مشتمل على صفة، فالاسم من أسماء الله يدل على مجموع شيئين بالمطابقة، وهما: الذات والصفة التي اشتمل عليها الاسم، ويدل على أحدهما: الذات، أو الصفة بالتضمن؛ ولهذا نقول: كل اسم من أسماء الله متضمن لصفة من صفات الله ودال بالمطابقة على كل من الذات والصفة، أي الذات المتصفة بالصفة حتى لفظ الجلالة (الله) الذي هو علم على المعبود بحق –جل وعلا- مشتق على الصحيح من قولي أهل العلم؛ لأن أصله (الإله) حذفت همزته تخفيفا لكثرة دعائه وندائه بذلك في أصل العربية، فهو مأخوذ من (الآلهة) وهي العبادة، فلفظ الجلالة (الله) ليس اسما جامداً، بل هو مشتق من ذلك.
وجميع الصفات التي تتضمنها الأسماء كلها دالة على كمال الله –جل وعلا- وعلى عظمته، فالعبد المؤمن إذا أراد أن يكمل توحيده فليعظم العناية(16/368)
ص -439- ... بالأسماء والصفات؛ لأن معرفة الاسم والصفة يجعل العبد يراقب الله –جل وعلا- وتؤثر هذه الأسماء والصفات في توحيده وقلبه وعلمه بالله ومعرفته كما سيأتي في تقاسيم الأسماء والصفات.
"وفي صحيح البخاري قال علي: "حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكذّب الله ورسوله؟!".(1).
وهذا فيه دليل على أن بعض العلم لا يصلح لكل أحد؛ فإن من العلم ما هو خاص ولو كان نافعاً في نفسه ومن أمور التوحيد، لكن ربما لا يعرفه كثير من الناس، وهذا من مثل بعض أفراد توحيد الأسماء والصفات كبعض مباحث الأسماء والصفات، وذكر بعض الصفات لله –جل وعلا- فإنها لا تناسب كل أحد حتى إن بعض المتجهين إلى العلم قد لا تطرح عليه بعض المسائل الدقيقة في الأسماء والصفات، ولكن يؤمرون بالإيمان بذلك إجمالاً، والإيمان بالمعروف والمعلوم المشتهر في الكتاب والسنة أما دقائق البحث في الأسماء والصفات فإنما هي للخاصة، ولا تناسب العامة والمبتدئين في طلب العلم؛ لأن منها ما يُشكل، ومنها ما قد يؤول بقائله إلى أن يكذب الله ورسوله، كما قال هنا علي رضي الله عنه: "حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكذّب الله ورسوله؟!".
فمناسبة هذا الأثر لهذا الباب: أن من أسباب جحد الأسماء والصفات أن يحدّث المرء بما لا يعقلونه من الأسماء والصفات، لأن عامة الناس عندهم إيمان إجمالي بالأسماء والصفات يصح معه توحيدهم وإيمانهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (127).(16/369)
ص -440- ... وإسلامهم، فالدخول في تفاصيل ذلك غير مناسب إلا إذا كان المخاطب يعقل ذلك ويعيه، وليس أكثر الناس كذلك، ولهذا نهى الإمام مالك –رحمه الله- لما حدِّث عنده بحديث الصورة نهى المتحدث بذلك؛ لأن العامة لا يحسنون فهم مثل هذه المباحث، وهكذا في بعض المسائل في الأسماء والصفات لا تناسب العامة، فقد يكون سبب الجحد تحديث الرجل ببحث لا يعقله، فيؤول به ذلك إلى أن يجحد شيئاً من العلم بالله –جل وعلا- أو يجحد شيئاً من الأسماء والصفات.
فالواجب على المسلم وبخاصة طالب العلم أن لا يجعل الناس يكذّبون شيئاً مما قاله الله –جل وعلا- أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، ووسيلة ذلك التكذيب أن يحدّث الناس بما لا يعرفون، وبما لا تبلغه عقولهم، كما جاء في الحديث الآخر: "ما أنت بمحدّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة" وقد بوّب على ذلك البخاري في الصحيح في كتاب العلم بقوله: "باب من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه"(1). وهذا من الأمر المهم الذي ينبغي للمعلِّم والمتحدّث والواعظ والخطيب أن يعيه، وأن يحدّث الناس بما يعرفون وأن يجعل تقوية التوحيد وإكمال توحيدهم والزيادة في إيمانهم بما يعرفون لا بما ينكرون.
وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس –رضي الله عنهما- "أنه رأى رجلا انتفض لما سع حديثاً عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم ( 14).(16/370)
ص -441- ... النبي –صلى الله عليه وسلم- في الصفات استنكاراً لذلك، فقال: "ما فرق هؤلاء؟! يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابه؟"(1) هذا الرجل لما لم يعرف هذه الصفة انتفض؛ لأنه فهم من هذه الصفة المماثلة أو التشبيه، فخاف من تلك الصفة، والواجب على المسلم أنه إذا سمع صفة من صفات الله في كتاب الله أو في سنة النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يجريها مجرى جميع الصفات، وهو أن إثبات الصفات لله –جل وعلا- إثبات بلا تكييف، وبلا تمثيل، فإثباتنا للصفات على وجه تنزيه لله –جل وعلا- عن المثيل والنظير في صفاته وأسمائه، فله من كل اسم وصفة أعلى وأعظم ما يشتمل عليه من المعنى؛ ولهذا قال ابن عباس هنا: "ما فرق هؤلاء؟" يعني: ما سبب خوف هؤلاء؟ لماذا فرقوا؟ خافوا من هذه الصفة ومن إثباتها.
قوله: "يجدون رقة عند محكمه" يعني: إذا خوطبوا بالمحكم الذي يعرفون، وجدوا في قلوبهم رقة لذلك، والمحكم: هو ما يُعلم، أي الذي يعلمه سامعه هذا هو المحكم.
قوله: "ويهلكون عند متشابه؟" فإذا سمعوا في الكتاب أو السنة شيئاً لا تعقله عقولهم هلكوا عنده، وخافوا، وفرقوا، وأولوا، ونفوا أو جحدوا، وهذا من أسباب الضلال.
والمتشابه: الذي يشتبه علمه على سامعه. والقرآن والعلم والشريعة كلها محكمة، وكلها متشابهة، ومنها محكم، ومنها متشابه، فهذه ثلاثة أقسام:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (20895) وابن أبي عاصم في السنة (485).(16/371)
ص -442- ... فالأول: المحكم كما قال جل وعلا: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود: 1-2] فالقرآن كله محكم، بمعنى: أن معناه واضح، وأن الله –جل وعلا- أحكمه، فلا اختلاف فيه ولا تباين، وإنما يصدق بعضه بعضاً كما قال جل وعلا: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء: 82].
والقرآن والشريعة أيضا متشابهة كلها، بمعنى: أن بعضها يشبه بعضاً، فهذا الحكم يشبه غيره، وهذه المسألة تشبه تلك، لأنها تجري معها في قاعدة واحدة، فنصوص الشريعة يصدق بعضها بعضاً ويؤول بعضها إلى بعض وقد قال جل وعلا: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم} [الزمر: 23] فقال: {كِتَاباً مُتَشَابِهاً} فالقرآن متشابه، يعني: أن بعضه يشبه بعضاً، فهذا خبر في الجنة، وهذا خبر في الجنة، وبعض الأخبار يفصل بعضاً، وهذه قصة وهذه قصة، وكل تصدق الأخرى، وتزيدها تفصيلاً، وهكذا كل ما في القرآن.
والقرآن أيضاً والشريعة والعلم منه محكم ومنه متشابه باعتبار آخر كما جاء في آية آل عمران: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] فمنه محكم،(16/372)
ص -443- ... وهو الذي اتضح لك علمه، ومنه متشابه: وهو الذي اشتبه عليك علمه.
وبهذا نعلم أنه ليس عند أهل السنة والجماعة –أتباع السلف الصالح- شيء من المتشابه المطلق الذي لا يعلمه أحد، بمعنى أنه لا توجد مسألة من مسائل التوحيد، أو من مسائل العمل يشتبه علمها على كل الأمة، هذا لا يوجد، بل ربما اشتبه على بعض الناس، وبعضهم يعلم المعنى، كما قال جل وعلا: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْم} [آل عمران] على أحد وجهي الوقف، فهذا المتشابه الموجود الذي هو قيسم للمحكم قد يشتبه على بعض الناس، فإذا اشتبه عليك علم شيء من التوحيد أو من الشريعة فإن الواجب ألا تفرق عنده وألا تخاف وألا تتهم الشرع وإلا وقع في قلبك شيء من الزيع؛ لأن الذين يتبعون المتشابه، بمعنى: لا يؤمنون به، فإن هؤلاء هم الذين في قلوبهم زيغ، وهذا الذي عناه ابن عباس رضي الله عنهما حين قال: "يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابه" يريد به هذا الوجه من أن الذين يهلكون عند المتشابه هم أهل الزيغ الذين قال الله جل وعلا في فيهم: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِه}ِ [آل عمران: 7].
فأهل الزيغ يتبعون المتشابه ابتغاء أحد أمرين إما أن يبتغوا بالمتشابه الفتنة، وإما أن يبتغوا به التأويل، والواجب أن يُردّ المتشابه إلى المحكم، فنعلم أن الشريعة يُصدق بعضها بعضاً، وأن التوحيد بعضه يدل على بعض، وكالقاعة المعروفة في الصفات التي ذكرها عدد من(16/373)
ص -444- ... الأئمة كالخطابي وشيخ الإسلام في التدمرية: "أن القول في بعض الصفات كالقول في بعض" و"أن القول في الصفات كالقول في الذات يحتذى فيه حذوه وينهج على منواله".
ولما سمعت قريش رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يذكر الرحمن أنكروا ذلك فأنزل الله فيهم: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ}[الرعد: 30]".(1).
فإنكار الصفة أو إنكار الاسم بمعنى عدم التصديق بذلك هذا جحد، وهذا يختلف عن التأويل، فالتأويل والإلحاد له مراتب يأتي بيانها إن شاء الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه ابن جرير في "التفسير" (20397).(16/374)
ص -445- ... "باب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ}" [النحل: 83]
قال مجاهد ما معناه: "هو قول الرجل: هذا مالي ورثته عن آبائي".
وقال عون بن عبد الله: "يقولون: لولا فلان لم يكن كذا".
وقال ابن قتيبة: "يقولون: هذا بشفاعة آلهتنا".
وقال أبو العباس –بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه: "وإن الله تعالى قال: أصبح من عبادي مؤمن بي كافر ..." الحديث وقد تقدم- وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذمُّ سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به.
قال بعض السلف: "هو كقولهم: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقاً، ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثير".
فيه مسائل:
الأولى: تفسير معرفة النعمة وإنكارها.
الثانية: معرفة أن هذا جار على ألسنة كثير.
الثالثة: تسمية هذا الكلام إنكاراً للنعمة.
الرابعة: اجتماع الضدين في القلب.(16/375)
ص -446- ... الشرح:
هذا الباب من الأبواب العظيمة في هذا الكتاب وبخاصة في هذا الزمن، لشدة الحاجة إليه، وترجمة المصنف –رفع الله بها مقامه في الجنة- بقوله: "باب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا}" فوصف الكفار في سورة النحل التي تسمى سورة النِّعم، وصفهم بأنهم يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها، وإنكار النعمة أن تنسب إلى غير الله، وأن يجعل المتفضل بالنعمة غير الذي أسداها وهو الله جل وعلا.
فالواجب على العبد أن يعلم أن كل النعم من الله –جل وعلا- وأن كمال التوحيد لا يكون إلا بإضافة كل نعمة إلى الله –جل وعلا- وأن إضافة النعم إلى غير الله نقص في كمال التوحيد، ونوع شرك بالله –جل وعلا- ولهذا تكون مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد أن ثمة ألفاظاً يستعملها كثير من الناس في مقابلة النعم أو في مقابلة اندفاع النقم، وتكون تلك الألفاظ نوع شرك بالله –جل وعلا- بل هي شرك أصغر بالله –جل وعلا- فنبه الشيخ –رحمه الله- بهذا الباب على ما ينافي كمال التوحيد من الألفاظ، وأن نسبة النعم إلى الله –جل وعلا- واجبة.
قوله: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية أن لفظ (المعرفة) يستعمل في القرآن وفي السنة غالباً فيما يذم من أخذ المعلومات كقوله جل وعلا: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] وقوله في هذه(16/376)
ص -447- ... الآية: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} [النحل: 83] وهذا على جهة الأكثرية، وإلا فقد وردت المعرفة بمعنى العلم كما جاء في صحيح مسلم من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: "إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يعرفوا الله، فإن عرفوا الله"(1). فهذا يدل على أن بعض من روى الحديث من التابعين جعل المعرفة بمعنى العلم، وهم حجة في هذا المقام فيدل على أن استعمال المعرفة بمعنى العلم لا بأس به.
وهذا الباب معقود لألفاظ يكون استعمالها من الشرك الأصغر، ذلك أن فيها إضافة النعمة إلى غير الله، والله –جل وعلا- قال: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّه} النحل: 53] وهذا نص صريح في العموم، لأن مجيء النكرة في سياق النفي يدل على العموم ظهوراً، فإن سُبقت النكرة بـ(من) دلت على العموم نصاً، والتنصيص في العموم معناه أنه لا يخرج شيء من أفراده، فدلت الآية على أنه لا يخرج شيء من النعم أياً كان ذلك الشيء، صغيراً كان أو كبيراً، عظيما أو حقيرا، لا يكون إلا من الله –جل وعلا- فكل النعم صغُرت أو عظُمت، هي من الله –جل جلاله- وحده، وأما العباد فإنما هم أسباب تأتي النعم على أيديهم، وأسباب في إيصال النعمة إليك، فمن كان سببا في معالجتك، أو سببا في تعيينك، أو سببا في نجاحك، أو نحو ذلك لا يدل على أنه هو ولي النعمة، أو هو الذي أنعم، فإن ولي النعمة هو الرب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم.(16/377)
ص -448- ... -جل وعلا- وهذا من كمال التوحيد فإن القلب الموحد يعلم أنه ما ثم شيء في هذا الملكوت إلا والله –جل وعلا- هو الذي يرسله، وهو الذي يمسك ما يشاء كما قال سبحانه: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2] فكل النعم من الله –جل وعلا- والعباد أسباب في ذلك، فالواجب إذا أن تنسب النعمة إلى المسدي، لا إلى السبب؛ لأن السبب لو أراد الله –جل وعلا- لأبطل كونه سبباً، وهذا السبب إذا كان آدمياً فقلبه بين إصبعين من أصابع الله –جل وعلا- لو شاء لصده عن أن يكون سببا، أو أن ينفعك بشيء، فالله –جل وعلا- هو ولي النعمة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله- "ما من أحد تعلق بمخلوق إلا وخذل، وما من أحد تعلق بمخلوق في حصول نفع له أو اندفاع مكروه عنه إلا خذل، وهذا في غالب المسلمين؛ وذلك لأن الواجب على المسلم أن يعلق قلبه بالله، وأن يعلم أن النعم إنما هي من عند الله، والعباد أسباب يسخّرهم الله –جل جلاله- وهذا هو حقيقة التوحيد ومعرفة تصرف الله في ملكوته".
قال مجاهد ما معناه: "هو قول الرجل: هذا مالي ورثته عن آبائي"(1). يعني: أن قول الرجل: "مالي ورثته عن آبائي" مناف لكمال التوحيد ونوع شرك؛ لأنه نسب هذا المال إليه ونسبه إلى آبائه، وفي الواقع أن هذا المال أنعم الله به على آبائه ثم أنعم الله به على هذا المؤمن إذ جعل الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه ابن جرير في التفسير14/157.(16/378)
ص -449- ... -جل وعلا- قسمة الميراث تصل إليه، وهذا كله من فضل الله –جل وعلا- ومن نعمته، والوالد سبب في إيصال المال إليك، ولهذا لا يجوز للوالد أو لصاحب المال أن يقسم المال على ما يريد؛ لأن المال في الحقيقة ليس مالاً له كما قال جل وعلا: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] فهو مال الله –جل وعلا- يقسمه كيف يشاء "إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم".(1).
فالواجب على العبد أن يعلم أن ما وصله من المال، أو وصله من النعمة عن طريق آبائه هو من فضل الله –جل وعلا- ونعمته، ووالده أو والدته أو قرابته سبب من الأسباب، فيحمد الله –جل وعلا- على هذه النعمة، ويقابل ذلك السبب بجزائه إما بدعاء وإما بغيره.
وقال عون بن عبد الله: "يقولون: لولا فلان لم يكن كذا"(2). كقول القائل: لولا الطيار لذهبنا في هلكة، ولولا سائق السيارة كان ماهراً لذهبنا في كذا وكذا، أو يقول: لولا أن الشيخ كان معلّما وأفهمنا هذه المسألة لما فهمناها أبداً، أو يقول: لولا المدير الفلاني لفصلت، ونحو ذلك من الألفاظ التي فيها تعلق حصول الأمر بهذه الواسطة. والأمر إنما حصل بقضاء الله وبقدره، وبفضل الله وبنعمته من حصول النعم، أو اندفاع المكروه والنقم، ولهذا يجب على العبد أن يوحّد فيقول: لولا الله ثم فلان، فيجعل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد1/387.
(2) أخرجه ابن جرير في التفسير14/157.(16/379)
ص -450- ... مرتبة السبب ثانية، ولا يجعلها هي الأولى أو الوحيدة، لأن الله –جل وعلا- هو المسدي للنعم المتفضل بها.
قوله: "لولا فلان لم يكن كذا" إنما قال هنا: "فلان" من جهة كثرة الاستعمال، أما في الواقع فإن الناس يستعملونها فيما يتعلقون به من جمادات، كبيت، أو سيارة، أو طيارة، أو بقعة، أو مطر، أو ماء، أو سحاب، أو هواء، ونحو ذلك، فنسبة النعمة إلى إنسان، أو إلى بقعة، أو إلى فعل فاعل، أو إلى صنعة، أو إلى مخلوق، كل ذلك من نسبة النعم إلى غير الله وهو نوع من أنواع الشرك في اللفظ وهو من الشرك الأصغر بالله جل وعلا، كما سيأتي بعده إن شاء الله تعالى.
وقال ابن قتيبة: "يقولون: هذا بشفاعة آلهتنا" يعني: إذا حصلت لهم نعمة، أو جاءتهم أمطار، أو مال، أو نجحوا في تجارتهم، إذا حصل لهم ذلك توجهوا للأولياء، أو توجهوا للأنبياء، أو توجهوا للأصنام أو للأوثان، فصرفوا لهم شيئاً من العبادة فقالوا: الآلهة شفعت لنا فلذلك جاءنا الخير، فيتذكرون آلهتهم وينسون أن المتفضل بذلك هو الله –جل وعلا- وأن الله سبحانه لا يقبل شفاعة شركية من تلك الشفاعات التي يذكرونها.
وقال أبو العباس –بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه: "وإن الله تعالى قال: أصبح من عبادي مؤمن بي كافر ..." الحديث وقد تقدم- وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذمُّ سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به.
قال بعض السلف: "هو كقولهم: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقاً، ونحو ذلك مما هو جار على(16/380)
ص -451- ... ألسنة كثير" وهذا باب ينبغي الاهتمام به وتنبيه الناس عليه، لأن نعم الله على أهل الإيمان في كل مكان كثيرة لا حصر لها، ولهذا يجب أن تنسب النعم إلى الله –جل وعلا- وأن يُذكر بها وأن يُشكر، لأن من درجات شكر النعمة أن تُضاف إلى من أسداها كما قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] فأول درجات الشكر التحديث بالنعمة كأن تقول: هذا من فضل الله، وهذه نعمة الله، فإذا التفت القلب إلى مخلوق فإنه يكون قد أشرك، هذا النوع من الشرك المنافي لكمال التوحيد.(16/381)
ص -452- ... "باب قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}" [البقرة: 22]
قال ابن عباس –رضي الله عنهما- في الآية: "الأنداد: هو الشرك، أخفى من دبيب النمل، على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص. وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان، لا تجعل فيها فلاناً، هذا كله شرك" رواه ابن أبي حاتم. (1).
وعن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك".(2). رواه الترمذي وحسنه، وصححه الحاكم.
وقال ابن مسعود: "لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً".(3).
وعن حذيفة –رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان" رواه أبو داود بسند
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه ابن أبي حاتم (230).
(2) أخرجه الترمذي (1535) والحاكم1/18 و4/297، وصححه ووافقه الذهبي.
(3) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"8/469 والطبراني في "الكبير (8902).(16/382)
ص -453- ... صحيح. (1). وجاء عن إبراهيم النخعي أنه يكره أن يقول: أعوذ بالله وبك، ويجوز أن يقول: بالله ثم بك،(2). قال: ويقولون: لولا الله ثم فلان، ولا تقولوا: لولا الله وفلان.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية البقرة في الأنداد.
الثانية: أن الصحابة رضي الله عنهما يفسرون الآية النازلة في الشرك الأكبر أنها تعم الأصغر.
الثالثة: أن الحلف بغير الله شرك.
الرابعة: أنه إذا حلف بغير الله صادقا، فهو أكبر من اليمين الغموس.
الخامسة: الفرق بين الواو و(ثم) في اللفظ.
الشرح:
هذا "باب قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}" [البقرة: 22] وفيه بيان أن هناك ألفاظاً فيها التنديد، والتنديد معناه: أن تجعل غير الله ندا له، فيكون التنديد في نسبة النعم إلى غير الله، ويكون في الحلف بغير الله، ويكون في قول: ما شاء الله وشاء فلان، وغير ذلك من الألفاظ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أبو داود (4980) وصححه النووي.
(2) أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت (347).(16/383)
ص -454- ... فهذا الباب فيه بيان أن التنديد يكون في الألفاظ، والتنديد هنا المراد به: التنديد الأصغر الذي هو شرك أصغر في الألفاظ، وليس التنديد الكامل الذي هو الشرك الأكبر.
"قوله جل وعلا: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} " [البقرة: 22] هذا عام يشمل اتخاذ الأنداد بالشرك الأكبر، ويشمل أيضاً اتخاذ الأنداد بأنواع الإشراك التي دون الشرك الأكبر؛ لأن قوله: {أَنْدَاداً} نكرة في سياق النهي، فتعم جميع أنواع التنديد، والتنديد منه ما هو مخرج من الملة، ومنه ما لا يخرج من الملة، ولهذا ساق عن ابن عباس أنه قال: "الأنداد: هو الشرك، أخفى من دبيب النمل" فجعل مما يدخل في هذه الآية الشرك الخفي أو شرك الألفاظ التي تخفى على كثير من الناس.
ومناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة، من أن حقيقة التوحيد ألا يكون في القلب إلا الله –جل وعلا- وألا يتلفظ بشيء فيه جعل غير الله –جل وعلا- شريكا أو نداً له كمن حلف بغير الله، أو كمن قال: ما شاء الله وشاء فلان، أو لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص، ونحو هذه الألفاظ.
قوله: "لا تجعل فيها فلاناً، هذا كله شرك" يعني: لا تقل: لولا الله وفلان، بل قل: لولا الله لحصل كذا، هذا هو الأكمل، فالذي ينبغي في استعمال هذه الألفاظ أن تنسب إلى الله، فظهر لنا هنا أن ثمة درجتين: كاملة، جائزة، وغير ذلك لا يجوز:
فالدرجة الأولى –وهي الكاملة-: أن تقول لولا الله لحصل كذا.(16/384)
ص -455- ... والدرجة الثانية –وهي الجائزة-: أن يقول: لولا الله ثم فلان لما حصل كذا، فهذه جائزة، وهي توحيد، لجعله مرتبة نازلة عن مرتبة إنعام الله، ولكن هذا ليس هو الكمال، ولهذا قال ابن عباس هنا: "لا تجعل فيها فلاناً" لأن الكمال أن تقول: لولا الله لأتانا اللصوص، ولولا نعمة الله لما حصل كذا، ولولا فضل الله لما حصل كذا، هذه هي المرتبة الكاملة، والجواز أن تقول: لولا الله ثم فلان.
وأما الذي لا يجوز والذي قال فيه ابن عباس: "كله به شرك" فهو أن يقول: لولا الله وفلان، بالواو؛ لأن (الواو) تفيد التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه دون تراخ في المرتبة، أما (ثم) فتفيد التراخي في المرتبة، أو التراخي في الزمن على ما هو معلوم في هذا المبحث في حروف المعاني من النحو، فلهذا كان قول القائل: لولا الله وفلان شرك، أو ما شاء الله وشاء فلان شركا أصغر. والواجب أن يقول: لولا الله، أو أن يقول: ما شاء الله وحده، كما سيأتي في باب بعد ذلك.
فاتضح من هذا أن الكمال أن ينسب ذلك إلى الله –جل وعلا- وحده، وأن الجائز أن يقول: لولا الله ثم فلان.
"وعن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك". رواه الترمذي وحسنه، وصححه الحاكم."
قوله: "من حلف بغير الله" يعني: عقد اليمين بغير الله –جل وعلا- "فقد كفر أو أشرك".(16/385)
ص -456- ... واليمين هي: تأكيد الكلام بمعظّم به بين المتكلم والمخاطب، بأحد حروف القسم الثلاثة: الواو أو الباء أو التاء، والواجب ألا يؤكّد الكلام إلا بالله –جل وعلا- لأن المعظَّم على الحقيقة هو الله –جل وعلا- وأما البشر فليسوا بمعظمين بحيث يحلف بهم، نعم ربما عُظِّموا بشيء يناسب ذاتهم التعظيم البشري اللائق بهم، أما التعظيم الذي يصل إلى حد أن يُحلف به فهذا إنما هو لله جل وعلا.
فالواجب إذاً ألا يؤكد الكلام إلا بالله –جل وعلا- إذا أراد الحلف، فمن كان حالفاً فليحلف بالله، أو ليؤكد الكلام بالله –جل وعلا- باستخدام أحد الأحرف الثلاثة: الواو، أو الباء، أو التاء.
وأما إذا استخدم غير هذه الأحرف كلفظ (في) ونحو ذلك فإنه لا يعد حلفاً إلا إن كان في قلبه أنه يمين ولكنه أخطأ في التعبير، فالعبرة بما في النفس من المعاني، أما ما في اللفظ فإنه في هذا المقام يؤول إلى ما في القلب؛ لهذا قال هنا: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" وإنما كفر أو أشرك؛ لأنه عظّم هذا المخلوق كتعظيم الله –جل وعلا- في الحلف به، وكفره وشركه شرك أصغر، وقد يصل إلى أن يشرك بالحلف شركاً أكبر إذا عظّم المحلوف به كتعظيم الله –جل وعلا- في العبادة.
فالحلف بغير الله تعالى تعظيم لذلك المحلوف به في الحلف، فإن انضاف إلى ذلك تعظيم المحلوف به تعظيم عبادة صار شركا أكبر، كحلف الذين يعبدون الأوثان بأوثانهم فإنه شرك أكبر؛ لأنه يعظّم ذلك الوثن، أو ذلك القبر، أو تلك البقعة، أو ذلك المشهد، أو ذلك الولي، يعظمه كتعظيم الله في العبادة(16/386)
ص -457- ... فيكون حلفه بمعظّم به في العبادة، ويكون شركاً أصغر بمجرد الحلف بغير الله، فكل من حلف بغير الله فهو مشرك الشرك الأصغر قد يصل في بعض الأحوال إلى أن يكون مشركا الشرك الأكبر إذا كان يعبد هذا الذي حلف به.
وهناك يمين بغير الله في اللفظ فهذه أيضا شرك، ولو لم يعقد القلب اليمين، كمن يكون دائما على لسانه استعمال الحلف بالنبي، أو بالكعبة، أو بالأمانة، أو بولي، ونحو ذلك وهو لا يريد حقيقة اليمين وإنما يجري على لسانه مجرى اللغو، فهذا أيضاً شرك، لأنه تعظيم لغير الله جل وعلا.
"وقال ابن مسعود: "لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً" هذا لأجل عظم الحلف بغير الله –جل وعلا- وأن الحلف بغير الله شرك، وأما الكذب فإنه كبيرة والشرك الأصغر هذا أعظم من الكبائر، فلهذا استحب أن يكذب مع التوحيد وألا يصدق مع الشرك، لأن حسنة التوحيد أعظم من سيئة الكذب، ولأن سيئة الشرك أشنع من سيئة الكذب.
"وعن حذيفة –رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان" رواه أبو داود بسند صحيح" هذا من جهة الإرشاد إلى ما ينبغي أن يقال، فلا تجعل مشيئة العبد مقارنة مشتركة مع مشيئة الله، بل الواجب أن يُنزه العبد لفظه حتى يعظم الله –جل وعلا- والقلب المعظِّم لله –جل وعلا- لا يمكن أن يستعمل لفظاً فيه جعل لمخلوق في مرتبة الله –جل وعلا- في المشيئة، أو في الحلف، أو في الصفات ونحو ذلك، لهذا قال: "لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان" وهذا النهي للتحريم؛ لأن التشريك في المشيئة شرك أصغر بالله جل وعلا.(16/387)
ص -458- ... قوله: "ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان" لأن (ثم) تفيد التراخي في المشيئة، وهذا لأن مشيئة العبد تبع لمشيئة الله –جل وعلا- قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29] فمشيئة العبد ناقصة ومشيئة الله كاملة.
"وجاء عن إبراهيم النخعي أنه يكره أن يقول: أعوذ بالله وبك، ويجوز أن يقول: بالله ثم بك" لأن (الواو) تقتضي التشريك في الاستعاذة، والاستعاذة كما ذكرنا لها جهتان: جهة ظاهرة، وجهة باطنة، أما الباطنة وهي: الالتجاء، والاعتصام، والرغب، والرهب، وإقبال القلب على المستعاذ به، فهذه لا تصلح إلا لله.
والاعتماد في الاستعاذة على المخلوق فيما أقدره الله عليه جائز؛ لأن الاستعاذة بالمخلوق ظاهرا فيما أقدره الله عليه جائزة، لهذا "كان يكره أن يقول: أعوذ بالله وبك" والكراهة في استعمال السلف يراد منها غالبا المحرم، وقد ترد لغير المحرم ولكن يستعملونها فيما لا نص فيه.
ومجيء الكراهة بمعنى التحريم في القرآن في قوله تعالى لما ذكر الكبائر في سورة الإسراء: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [الإسراء: 38] في القراءة الأخرى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} أي محرما التحريم التشديد.
"ويجوز أن يقول: بالله ثم بك" لما فيها من التراخي "قال: ويقولون: لولا الله ثم فلان، ولا تقولوا: لولا الله وفلان".(16/388)
ص -459- ... "باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله"
عن ابن عمر –رضي الله عنهما- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصدق، ومن حُلف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله" رواه ابن ماجه بسند حسن.(1).
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن الحلف بالآباء.
الثانية: الأمر للمحلوف له بالله أن يرضى.
الثالثة: وعيد من لم يرض.
الشرح:
"باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله" قوله: "لم يقنع" استفاد منه كثير من الشراح أن المراد بهذا الباب ما يكون عند توجه اليمين على أحد المتخاصمين، فإنه إذا كانت الخصومة، وتوجهت اليمين في الدعوى فإن الواجب على الآخر أن يقنع بما حلف عليه الآخر بالله –جل وعلا- فخصوا ما جاء الدليل، وخصوا هذا الباب بمسألة الدعاوى، يعني: اليمين عند القاضي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه ابن ماجه (2101) وحسنه الحافظ في "فتح الباري" 11/535.(16/389)
ص -460- ... وقال بعض أهل العلم: "إن الحديث عام، والحديث حسنه طائفة من أهل العلم، كما ذكر الشيخ –رحمه الله- فقوله: "من حُلف له بالله فليرض" هذا عام في كل حلف، سواء كان عند القاضي أو لم يكن عند القاضي، وهذا القول أوجه وأصوب ظاهراً؛ لأن سبب الرضى بما حُلف عليه بالله هو التعظيم لله –جل وعلا- فإن تعظيم الله في قلب العبد يجعله يصدق من حلف له بالله، ولو كان كاذباً، لكن له ألا يبني عليه لكن يصدقه ولا يظهر تكذيبا له لتعظيم الله –جل وعلا- "من حُلف له بالله فليرض" فليجعل توحيده وتعظيمه لله –جل وعلا- له وكذب ذاك في الحلف بالله عليه.
وقال طائفة من أهل العلم –وهذا قول ثالث-: إن هذا راجع إلى من عُرف صدقه في اليمين، أما من كان فاجراً فاسقا لا يبالي إذا حلف أن يحلف كاذباً فإنه لا يجب تصديقه؛ لأن تصديقه –والحالة هذه- مع قيام اليقين أو القرائن العامة بكذبه ليس بداخل في الحديث؛ لقوله في أول الحديث: "من حلف بالله فليصدق، ومن حُلف له بالله فليرض" فتعلق قوله: "من حُلف له بالله" بما قبله، وهو قوله: "من حلف بالله فليصدق" يعني: من حلف له من كان صادقا فليرض.
قوله: "ومن لم يرض" أي من لم يرض باليمين بالله "فليس من الله" فيدل على أن فعله من الكبائر، لأن قوله: "ليس من الله" هذا ملحق لفعله بالكبائر.
وهذا الباب فيه نوع تردد عند الشراح، والظاهر في المراد منه أن الإمام المصنف –رحمه الله ذكره تعظيما لله –جل وعلا- وقد ذكر في الباب(16/390)
ص -461- ... قبله من حلف بغير الله، وأن حكمه أنه مشرك، فهذا فيه أن الحلف بالله يجب تعظيمه، وأن لا يحلف المرء بالله إلا صادقا، وأن لا يحلف بآبائه، وأن لا يحلف بغير الله، ومن حُلف له بالله فواجب عليه الرضى تعظيما لاسم الله، وتعظيما لحق الله –جل وعلا- حتى لا يقع في قلبه استهانة باسم الله الأعظم، وعدم اكتراث به أو بالكلام المؤكد به.
فتلخص من هذا أن كثيرا من أهل العلم جعلوا قول المصنف: "باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله" خاصاً بما إذا توجهت اليمين على أحد المتخاصمين عند القاضي، وأن طائفة من أهل العلم قالوا في قوله: "ومن حلف له بالله فليرض" إن هذا عام في كل من حُلف له بالله فإنه يجب عليه الرضى، وآخرون قالوا: يفرّق بين من ظاهره الصدق، ومن ظاهره الكذب، والله أعلم.(16/391)
ص -462- ... "باب قول: ما شاء الله وشئت"
عن قتيلة أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إنكم تشركون تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، فأمرهم النبي –صلى الله عليه وسلم- إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت" رواه النسائي وصححه. (1).
وله أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا قال للنبي –صلى الله عليه وسلم- ما شاء الله وشئت، فقال: "أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده".(2).
ولابن ماجه عن الطفيل –أخي عائشة لأمها- قال: رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود، قلت: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد، فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، قال: "هل أخبرت بها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه ابالنسائي7/6، وفي "عمل اليوم والليلة" (986) وصححه الحافظ في "الإصابة" 4/389.
(2) أخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة" (988).(16/392)
ص -463- ... أحداً؟ قلت: نعم،قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، فإن طفيلاً رأى رؤيا أخبر من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها، فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده".(1).
فيه مسائل:
الأولى: معرفة اليهود بالشرك الأصغر.
الثانية: فهم الإنسان إذا كان له هوى.
الثالثة: قوله صلى الله عليه وسلم: "أجعلتني لله نداً" فكيف بمن قال: "ما لي من ألوذ به سواك" والبيتين بعده.
الرابعة: أن هذا ليس من الشرك الأكبر، لقوله: "يمنعني كذا وكذا".
الخامسة: أن الرؤيا الصالحة من أقسام الوحي.
السادسة: أنها قد تكون سببا لشرع بعض الأحكام.
الشرح:
هذا الباب ترجمه بقوله: "باب ما شاء الله وشئت" وهذه المسألة تقدم الكلام عليها في باب قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة: 22] وأن قول القائل: ما شاء الله وشئت شرك في اللفظ، وتشريك في المشيئة، وهذا من الشرك الأصغر.
والباب واضح من حيث ما اشتمل عليه، لكن فيه فوائد، منها:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه ابن ماجه (2118) وصححه البوصيري في "مصباح الزجاجة" 2/151.(16/393)
ص -464- ... "عن قتيلة أن يهودياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إنكم تشركون تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، فأمرهم النبي –صلى الله عليه وسلم- إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت" رواه النسائي وصححه" فيه من الفوائد ما ذكره الشيخ –رحمه الله- في مسائل الباب حيث قال: فيه فهم الإنسان إذا كان له هوى. فهؤلاء اليهود هم أهل الشرك يقولون: عزير ابن الله، ويشركون بالله –جل وعلا- لكنهم مع كونهم مشركين نقموا على أهل الإسلام أنهم يشركون، وهذا لأجل الطعن فيهم، فالهوى وطلب تنقص أهل الإسلام والنقد عليهم ومخاطبتهم بما يسوؤهم، كل هذا قصدا لهم، ولهذا فهموا من أين يدخلون! فأهل الإسلام أهل التوحيد، قالوا لهم: إنكم تشركون، وهم أهل الشرك، فردوا عليهم بما قالوا، مما يستفاد منه أن صاحب الهوى قد يفهم الصواب، فإذا فهم الصواب فإن الواجب أن يُقبل منه؛ لأن المسلم يجب عليه أن يقبل الحق ممن جاء به، ولو كان يهودياً أو نصرانياً، فهذا اليهودي والنصراني توجها إلى المؤمنين بالقدح فيهم بالشرك، ولم يمنع النبي –صلى الله عليه وسلم من قبول الحق الذي قالوه أنهم يهود، بل قَبِل ما جاء به ذلك اليهودي فأوصاهم أن يتركوا ذلك التنديد، لأن الحق هو ضالة المؤمن أين وجده أخذه، فلا يمنعه من قبول الحق أن قاله مشرك، أو قاله كافر، أو قاله فاسق، أو قاله مبتدع، أو قاله ضال، إذا كان الكلام في نفسه حقاً؛ لأنه كما جاء قال النبي عليه الصلاة والسلام: "الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها".(1).
والحديث الذي بعده واضح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه ابن ماجه (4169).(16/394)
ص -465- ... ولابن ماجه عن الطفيل –أخي عائشة لأمها- قال: رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود، قلت: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد" هذا فيه أن صاحب الهوى أو صاحب الملة الباطلة قد يردّ على صاحب الحق بأن عنده باطلا كما أن عند ذاك باطلاً، فإذا واجهه بذلك فالواجب عليه أن يتجرد للحق وأن لا يرد الحق لأجل أن من أتى به صاحب باطل، فالقاعدة عند أهل السنة والإيمان أن البدعة لا ترد ببدعة، والباطل لا يرد بباطل، وقد حصل كثير من البدع في تاريخ الإسلام، وحصلت الشبهات، وقويت بعض الضلالات بسبب أن من وجِّه بحق لم يتقبله ورده، لأن الذي واجهه بذلك الحق صاحب باطل، فلما لم يقبل الحق صار يوجّه الأدلة ويؤولها، من أجل إبطال ذلك الحق، وهذا كما فعله طائفة من أهل البدع، والواجب أيضا ألا ترد البدعة ببدعة، وإنما ترد البدعة بحق، وإذا جهل المرء كيف يرد البدعة بحق، فليصبر حتى يتعلم، أو يسأل أهل العلم، وليس من الواجب عليك أن ترد مباشرة، بل إذا وجهت بحق ولو كان من أضل الضلال فاقبل، فإبليس –الشيطان- قُبل منه بعض الحق الذي جاء به، وأرشد إليه أبا هريرة، وهؤلاء اليهود والنصارى في هذين الحديثين قبلنا منهما حقا أرشدونا إليه في أعظم المسائل وأجل المطالب، وهو في توحيد الله جل وعلا.
وهذه المسائل ليست من الشرك الأكبر، كما دل عليه قوله في آخره: "قلتم كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها" والنهي عن(16/395)
ص -466- ... الشرك في الألفاظ أتى بالتدريج في تاريخ بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، وتبليغه أمته بالأوامر والنواهي، فكان الحلف بالآباء جائزاً، ثم نهاهم عليه الصلاة والسلام عن ذلك. وكذلك قول: ما شاء الله وشئت، ثم نهاهم عن ذلك، ولهذا قال المصنف في مسائل كتاب التوحيد: فيه أن الشرك فيه أكبر وأصغر، لقول: "كان يمنعني كذا وكذا" وأما الشرك الأكبر فلا يجوز أن يؤخَّر إنكاره أو أن يمنع عنه مانع، أما الشرك في الألفاظ فقد تكون المصلحة والفقه –فقه الدعوة وفقه ترتيب الأهم فالأهم وتقديم الأهم على المهم- أن يُؤَخَّر بعضه لتتم المصلحة العظمى، أما الشرك الأكبر فلا مصلحة تبقي مع وجوده.(16/396)
ص -467- ... "باب: من سب الدهر فقد آذى الله"
وقول الله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية:24]
في الصحيح عن أبي هريرة –رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار"(1). وفي رواية: "لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر".(2).
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن سب الدهر.
الثانية: تسميته أذى لله.
الثالثة: التأمل في قوله: "فإن الله هو الدهر".
الرابعة: أنه قد يكون ساباً، ولو لم يقصده بقلبه.
الشرح:
الدهر: الزمان، كاليوم والليلة، والأسابيع، والأشهر، والسنين، والعقود، هذا هو الدهر. وهذه الأزمنة مفعولة لا فاعلة، فهي لا تفعل شيئاً، وإنما هي مسخَّرة يسخرها الله جل جلاله، وكل يعلم أن السنين لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (4826) و(6181) و(7491) ومسلم (2246).
(2) أخرجه مسلم (2246).(16/397)
ص -468- ... تأتي بشيء، وإنما الذي يفعل هو الله –جل وعلا- في هذه الأزمنة؛ ولهذا كان سبّ هذه السنين سباً لمن تصرف فيها، وهو الله –جل جلاله- لهذا عقد المؤلف هذا الباب ليبين أن سب الدهر ينافي كمال التوحيد، وأن سب الدهر يعود على الله –جل وعلا- بالإيذاء؛ لأنه سبٌّ لمن تصرف في هذا الدهر.
فمناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة، وهو أن سبّ الدهر من الألفاظ التي لا تجوز، والتخلص منها واجب واستعمالها مناف لكمال التوحيد، وهذا يحصل من الجهلة كثيراً فإنهم إذا حصل لهم في زمان شيء لا يسرهم سبوا ذلك الزمان، ولعنوا ذلك اليوم، أو لعنوا تلك السنة، أو لعنوا ذلك الشهر، ونحو ذلك من الألفاظ الوبيلة، أو شتموا الزمان، وهذا لا شك لا يتوجه إلى الزمن؛ لأن الزمن شيء لا يفعل وإنما يُفعل فيه، وهو أذية لله جل وعلا.
قوله: "باب من سب الدهر" السب في أصله: التنقص، أو الشتم، فيكون بتنقص الدهر، أو يكون بلعنه، أو بشتمه، أو بنسبة النقائص إليه، أو بنسبة الشر إليه ونحو ذلك، وهذا كله من أنواع سبِّه. والله –جل وعلا- هو الذي يقلب الليل والنهار.
قوله: "فقد آذى الله" كما في حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر أقلب الليل والنهار" ففيه رعاية للفظ الحديث.
وسبّ الدهر –كما ذكرنا- محرم، وهو درجات وأعلاها لعن الدهر؛ لأن توجه اللعن إلى الدهر أعظم أنواع المسبة وأشد أنواع الإيذاء، وليس من مسبة الدهر وصف السنين بالشدة، ولا وصف اليوم بالسواد، ولا وصف الأشهر(16/398)
ص -469- ... بالنحس، ونحو ذلك؛ لأن هذا مقيد، وهذا جاء في القرآن في نحو قوله جل وعلا: {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْي}[فصلت: 16] فوصف الله –جل وعلا- الأيام بأنها نحسات، والمقصود: في أيام نحسات عليهم، فوصف الأيام بالنحس؛ لأنه جرى عليهم فيها ما فيه نحس عليهم، ونحو ذلك قوله جل وعلا في سورة القمر: {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ}[القمر: 19] فهذا ليس من سب الدهر؛ لأن المقصود بهذا أن الوصف ما حصل فيها كان من صفته كذا وكذا على هذا المتكلم، وأما سبه بأن ينسب الفعل إليه فيسب الدهر لأجل أنه فعل به ما يسؤوه فهذا هو الذي يكون أذية لله جل وعلا.
"وقول الله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْر} [الجاثية: 24] هذه الآية ظاهرة في أن نسبة الأشياء إلى الدهر من خصال المشركين أعداء التوحيد، فنفهم منه أن خصلة الموحدين أن ينسبوا الأشياء إلى الله –جل وعلا- ولا ينسبوا الإهلاك إلى الدهر، بل الله –جل وعلا- هو الذي يحيي ويميت.
"في الصحيح عن أبي هريرة –رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار" قوله: "وأنا الدهر" لا يعني أن الدهر من أسماء الله –جل وعلا- ولكنه رتّبه على ما قبله، وهو قوله: "يسب الدهر وأنا الدهر" لأن حقيقة الأمر أن الدهر لا يملك شيئاً، ولا يفعل شيئاً، فسب الدهر سب لله، لأن الدهر يفعل الله –جل وعلا-(16/399)
ص -470- ... فيه، فهو ظرف للأفعال وليس مستقلاً، فلهذا لا يفعل، ولا يَحرم، ولا يعطي، ولا يُكرم، ولا يُهلك، وإنما الذي يفعل هذه الأشياء مالك الملك المتفرد بالملكوت وتدبير الأمور الذي يجير ولا يجار عليه.
فقوله –إذاً-: "وأنا الدهر" فيه نفي نسبة الأشياء إلى الدهر، وأن هذه الأشياء تنسب إلى الله –جل وعلا- فيرجع مسبة الدهر إلى مسبة الله –جل وعلا- لأن الدهر لا ملك له، والله هو الفاعل.
"أقلب الليل والنهار" والليل والنهار هما الدهر، فالله –جل وعلا- هو الذي يقلبهما، فليس لهما من الأمر شيء.(16/400)
ص -471- ... "باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه"
في الصحيح عن أبي هريرة –رضي الله عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله".(1).
قال سفيان: "مثل شاهان شاه" وفي رواية: " أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه".(2). وقوله: "أخنع يعني: أوضع.
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن التسمي بمَلك الأملاك.
الثانية: أن ما في معناه مثله، كما قال سفيان.
الثالثة: التفطن للتغليظ في هذا ونحوه، مع القطع بأن القلب لم يقصد معناه.
الرابعة: التفطن أن هذا لأجل الله سبحانه.
الشرح:
التوحيد يقتضي من الموحِّد المؤمن بالله –جل وعلا- أن يعظّمه وألا يجعل مخلوقاً في منزلة الله –جل وعلا- فيما يختص به، لأنه قد يجعل المخلوق في منزلة الله لشبهة وصفٍ قام به، ككون القاضي هو رئيس القضاة أو أعلم، فيُجعل في اللفظ والتسمية قاضياً للقضاة، فلهذا نبه الشيخ –رحمه الله- على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (6206) ومسلم (2143)
(2) أخرجه مسلم (2143) وأحمد في المسند 2/315.(16/401)
ص -472- ... أن التسمّي بالأسماء التي معناها إنما هو لله –جل وعلا- لا يجوز، والتوحيد يقتضي ألا يوصف بها إلا الله وألا يسمى بها إلا الله جل وعلا.
فتسمية غير الله بتلك الأسماء التي ستأتي لا تجوز ومحرم بل هي أخنع الأسماء وأوضع تلك الأسماء وأبغض الأسماء إلى الله جل جلاله.
قوله: "باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه" "التسمي" يشمل ما إذا سمى نفسه، أو سماه غيره به فرضي، أما إذا سماه غيره فلم يرض، فإنه لا يدخل في الذم، لعدم الرضا، فيلحق الوعيد المسمّي، ومن رضي بذلك الاسم.
قوله: "باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه" ونحو قاضي القضاة مثل: ملك الأملاك، وشاهان شاه، ونحو ذلك، وقاضي القضاة: هو الذي يقضي بين القضاة، تقول: قاضي المسلمين، يعني: الذي يقضي بين المسلمين، وقاضي الرياض، يعني: الذي يقضي في الخصومات بين أهل الرياض، فقاضي القضاة لفظ حقيقة معناه: الذي يقضي بين القضاة، وهذا إنما هو الله –جل جلاله- فهو الذي يقضي بين العباد، وبين القضاة وبين العبيد، فهو قاضي القضاة على الحقيقة سبحانه وتعالى فيخبر عنه بذلك؛ لأن "قاضي القضاة" ليست من أسماء البشر، فالذي يقضي بين القضاة هو الله جل جلاله.
والذي أطلقوا هذه التسمية على كبير القضاة، أو على كبير العلماء لا يعنون بها أن ذاك يقضي بين القضاة، وإنما يعنون بها أنه وصل إلى مرتبة في القضاء أو في العلم أعلى من درجة القاضي، فصار قاضي القضاة كما شاع(16/402)
ص -473- ... في الزمن المتأخر في الدولة العثمانية أنهم يسمون المفتي شيخ الإسلام، ووكيل المفتي: وكيل شيخ الإسلام، وهي تسمية خاصة.
وقد انتشر في بلاد المسلمين التسمية بقاضي القضاة ونحوه منذ القرن الرابع الهجري إلى أوقات متأخرة قريبة من هذا الزمان، والواجب على العبد ألا يجعل هذه التسمية جارية على لسانه، ولا أن يرضى بها.
وكذلك ملك الأملاك، أو شاهان شاه، يعني: ملك الأملاك، لأن فيه تسمية البشر بما يختص بالله، فإن ملك الأملاك هو الله جل وعلا، والأملاك واسعة، والإنسان إنما يطلق عليه أنه مالك للشيء المعين، وليس مالكاً لكل شيء، فالذي يملك كل شيء هو الله وحده، والبشر يملكون بالإضافة بعض الأشياء.
وكذلك الملك –بالضم- وهو نفاذ الأمر والسيطرة فإنه يكون في بعض الأرض وليس في كل الأرض، فالذي يملك يقال له: مالك إذا كان يملك مِلكا، أو مَلِك إذا كان يملك مُلكاً، بمعنى: نفاذ الأمر، ويضاف إلى بقعته، فيقال: ملك المملكة العربية السعودية، وملك الأردن، ونحو ذلك.
وأما الإطلاق العام ملك الأملاك، أو شاهان شاه، فإن الأملاك منها ما هو على الأرض، ومنها غير ذلك، وهذا إنما هو لله –جل وعلا- فالتوحيد يوجب ألا يتسمَّى بذلك أحد، وألا يُرضى بتسمية أحد بذلك، حتى لو وجد في بعض الكتب لا ينقل كما هو، وقد يغلط بعض الباحثين وبعض طلبة العلم فينقل قولاً عن بعض أهل العلم المتقدمين، ممن يجوزون في مثل هذه الألفاظ، وفيه: "وقال قاضي لقضاة كذا" "وكان قاضي القضاة كذا" ولا(16/403)
ص -474- ... يغيره، والواجب أن يغيره تعظيما لله –جل وعلا- وأمانة النقل التي يدّعون هي في مرتبة دون توحيد الله –جل وعلا- بكثير كثير، فالواجب تغيير ذلك، وهذا من توحيد الله وتغيير اشتراك الخلق مع الله –جل وعلا- في حقه فيما يزعمه بعض الخلق.
"في الصحيح عن أبي هريرة –رضي الله عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك" "أخنع" يعني: أوضع، وأحقر، وأبعد الأسماء عند الله، رجل تسمّى مَلِك الأملاك.
قوله: "لا مالك إلا الله" وهذا من أساليب الحصر، يعني: أن الملك إنما هو لله وحده، وهناك فرق بين مالك وملك، فمالك: اسم فاعل من المِلك، يقال: ملَك الشيء، يعني: اقتناه وصار مختصاً به من المِلك، وهذا راجع إلى التصرف بالأعيان.
وأما المُلك –بالضم- فالاسم منه المَلِك، وهو الذي ينفُذ أمره ونهيه، فالملك راجع إلى الأعيان، والملك راجع إلى المعاني، هذا في قول عدد من محققي أهل اللغة.
"قال سفيان: "مثل شاهان شاه" وفي رواية: " أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه" وسبب كونه أغيظ رجل وأخبث رجل أنه جعل نفسه مماثلاً لله –جل وعلا- في الحق بهذه التسمية.(16/404)
ص -475- ... "باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك"
عن أبي شريح أنه كان يكنى أبا الحكم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله هو الحكم، وإليه الحُكم" فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين، فقال: "ما أحسن هذا! فما لك من الولد؟" قال: شريح، قال: "فأنت أبو شريح"(1). رواه أبو داود وغيره.
فيه مسائل:
الأولى: احترام أسماء الله وصفاته، ولو لم يقصد معناه.
الثانية: تغيير الاسم لأجل ذلك.
الثالثة: اختيار أكبر الأبناء للكنية.
الشرح:
هذا الباب فيه إرشاد إلى الأدب الذي يجب أن يصدر من قلب الموحّد ومن لسانه، فإن الموحد متأدِّب مع الله –جل وعلا- ومتأدّب مع أسمائه وصفاته، ومع دينه، فلا يهزل –مثلاً- بشيء فيه ذكر الله، ولا يلقي الكلمة عن الله –جل وعلا- دون أن يتدبر ما فيها، وكذلك لا يسمِّي أحدا بأسماء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أبو داود (4955).(16/405)
ص -476- ... الله –جل وعلا- ويغير الاسم لأجل هذا، فأسماء الله –جل وعلا- يجب احترامها، وتعظيمها، ومن احترامها أن يُجعل ما لا يصلح إلا لله منها لله وحده، وألا يسمى به البشر.
قوله: "باب احترام أسماء الله تعالى" هذا الاحترام قد يكون مستحباً من جهة الأدب، وقد يكون واجباً، فأسماء الله تعالى يجب احترامها أيضاً فيما كان من الأدب ألا يوصف به غير الله جل وعلا.
وهذا راجع إلى تعظيم شعائر الله –جل وعلا- قال سبحانه: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] وقال جل وعلا: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ}[الحج: 30]
قال أهل العلم: الشعائر: جمع شعيرة، وهي كل ما أشعر الله بتعظيمه، يعني: أَعلم بتعظيمه فهو شعيرة، ومما أشعر الله بتعظيمه أسماؤه الحسنى –جل وعلا- فيجب احترامها وتعظيمها، ولهذا يستدل أهل العلم على وجوب ألا تُمتهن أسماء الموجودة في الجرائد، أو في الأوراق، أو أن تُرمى، أو أن توضع في أمكنة قذرة، وعلى وجوب احترام كل ما فيه اسم الله بهاتين الآيتين، وبالقاعدة العامة في ذلك.
قوله: "وتغيير الاسم لأجل ذلك" ساق فيه حديث أبي شريح أنه كان يُكْنى أبا الحكم، و"يُكْنَى" بالتخفيف هي الفصيحة، أما(16/406)
ص -477- ... يُكَنَّى فهي لغة ضعيفة، تقول: فلان يكنى بكذا، أما يُكنّى فليست بجيدة، لأن يُكْنى هي التي كان عليها غالب الاستعمال فيما ذكره أهل اللغة.
والحكم من أسماء الله –جل وعلا- والله –جل وعلا- لم يلد ولم يولد، فتكنية المخلوق بأبي الحكم غير لائقة؛ لأن الحكم من أسماء الله، والله –جل وعلا- لم يلد ولم يولد ولم يكن كفواً أحد، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فإن الحكم، وهو بلوغ الغاية في الحكم والفصل بين المتخاصمين، راجع على من له الحُكم وهو الله –جل جلاله- وأما البشر فإنهم لا يصلحون أن يكونوا حكاماً أو أن يكون الواحد منهم حكماً على وجه الاستقلال ولكن يكون حكماً على وجه التبع، ولهذا أنكر النبي عليه الصلاة والسلام على أبي شريح هذه التكنية، فقال: "إن الله هو الحكم" ودخول (هو) بين لفظ الجلال وبين اسم (الحكم) يدل على اختصاصه بذلك كما هو مقرر في علم المعاني؛ لأن (هو) ضمير عماد أو ضمير فصل لا محل له من الإعراب، وفائدته أن يُجعل الثاني مختصاً بالأول.
"وإليه الحكم" يعني: أن الحُكم إليه لا إلى غيره، فاسم (الحكم) الذي يفيد استغرق صفات الحكم ليس إلا إلى الله جل وعلا.
ذاك الرجل علل فقال: "إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين، فقال: "ما أحسن هذا!" راجع إلى الحُكم، وعائد إلى الإصلاح، وهو أنه يُصلح ويحكم بينهم، فيرضى كلا الفريقين، وهل حكم بينهم بالشرع، أو حكم بينهم بما عنده، يعني: بما يراه؟.
الجواب: أنه حكم بينهم بما يراه، ولو كان الحكم بينهم(16/407)
ص -478- ... بالشرع لجاز إطلاق الحكم على من يحكم بين المتخاصمين بالشرع، أما إطلاقه على الفاصل بين المتخاصمين بغير الشريعة فإن هذا مخالف لأدب.
فالواجب ألا يسمى أحد بالحكم أو الحاكم أو نحو ذلك إلا إذا كان منفذاً لأحكام الله –جل جلاله لهذا قال سبحانه: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا}[النساء: 35] فسمّى المبعوث من هذا وهذا حكماً؛ لأنهما يحكمان بالشرع، فالذي يحكم بما حكم به الله الذي هو الحكم يقال له: حكم؛ لأنه حكم يحكم من له الحكم، وهو الله –جل جلاله- فيسوغ إطلاق ذلك ولا بأس به؛ لأن الله –جل وعلا- وصف من يحكمون بشرعه بأنهم حكام وهم القضاة، فقال جل وعلا في سورة البقرة: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188] فقوله: {الْحُكَّامِ} هو جمع الحاكم، وساغ إطلاق ذلك عليه، لأنه يحكم بالشرع.
والمقصود أن من الأدب ألا يسمَّى أحد بشيء يختص الله –جل وعلا- به، ولذلك أورد المؤلف هذا الباب إثر الباب الذي قبله، لأجل هذه المناسبة، فتسميته "ملك الأملاك" مشابهة لتكنية "أبى الحكم" من جهة أن في كلٍ منهما اشتراكاً في التسمية، لكن فيها اختلاف من جهة أن "أبا الحكم" راجع إلى شيء يفعله هو، وهو أن يحكم فيرضون بحكمه وذاك "ملك الأملاك" ادعاء ليس له شيء، ولهذا كان أخنع اسم عند الله جل جلاله.(16/408)
ص -479- ... "باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلم"
وقول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65].
وعن ابن عمر، ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وقتادة –دخل حديث بعضهم في بعض- "أنه قال رجل في غزوة تبوك: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء، يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء، فقال له عوف بن مالك: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرنّ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فذهب عوف إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونتحدث حديث الركبان، نقطع به عناء الطريق، قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقاً بنسعة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وإن الحجارة لتنكب رجليه وهو يقول: إنما نخوض ونلعب، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ما يلتفت إليه وما يزيد عليه"(1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه ابن جرير في "التفسير (16911) و(16912) و(16914) (16915) (16916).(16/409)
ص -480- ... فيه مسائل:
الأولى: وهي العظيمة: أن من هزل بهذا فإنه كافر.
الثانية: أن هذا هو تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائنا من كان.
الثالثة: الفرق بين النميمة وبين النصيحة لله ورسوله.
الرابعة: الفرق بين العفو الذي يحبه الله وبين الغلظة على أعداء الله.
الخامسة: أن من الاعتذار ما لا ينبغي أن يُقبل.
الشرح:
هذا "باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول".
التوحيد الخالص في القلب، بل أصل التوحيد لا يُجامع الاستهزاء بالله جل وعلا، وبرسوله، وبالقرآن؛ لأن الاستهزاء معارضة، والتوحيد موافقة، ولهذا قال بعض أهل العلم: "الكفار نوعان: معرضون كمن قال الله فيهم: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ}[الأنبياء: 24] ومعارضون، وهم المجادلون، أو الذين يعارضون بأنواع المعارضات لأجل إطفاء نور الله، ومن ذلك الاستهزاء ونحوه.
فالتوحيد استسلام وانقياد وقبول وتعظيم، والهزء والاستهزاء بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول معارضة، لأنه مناف للتعظيم، ولهذا كان كفراً أكبر بالله –جل وعلا- إذ لا يصدر الاستهزاء بالله، أو برسول الله –صلى الله عليه وسلم- أو بالقرآن من قلب موحد أصلاً، بل لا بد أن يكون إما منافقاً أو كافرا مشركا.(16/410)
ص -481- ... قوله: "باب من هزل" الهزل خلاف الجد، وصفته: أن يتكلم بكلام فيه الهزل والاستهزاء والعيب إما بالله أو بالقرآن أو بالرسول صلى الله عليه وسلم.
وقول الشيخ –رحمه الله- هنا: "باب من هزل بشيء" الباء هذه، هل هي التي يُذكر بعدها وسيلة الهزل، أو الباء التي يذكر بعدها المهزول؟ الظاهر هو الثاني، فعلى الأول يكون المعنى: أنه ذكر الله بشيء فيه هزل، وذكر الرسول بشيء فيه هزل، يعني: هزل، وهو يذكر هذه الأشياء.
وعلى الثاني يكون معنى: "من هزل بشيء فيه ذكر لله" أن المستهزئ به أو المهزول به هو ذكر الله، أو القرآن، أو الرسول، ومعلوم أن المعنى المراد الثاني، لأن الشيخ يريد أن المستهزئ به هو الله، أو الرسول أو القرآن اتباعاً لنص الآية.
فمناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة، وهو أن الهزل والاستهزاء بالله أو بالرسول أو بالقرآن مناف لأصل التوحيد، وكفر يخرج من الملة لكن بضابطه الذي ذكرناه، وهو الاستهزاء –وهو الاستنقاص واللعب والسخرية- يكون بالله –جل جلاله- أو يكون بالرسول صلى الله عليه وسلم، أو يكون بالقرآن، وهذا هو الذي جاء فيه النص، قال جل وعلا: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65-66] فمن استنقص الله –جل وعلا- أو هزل بذكره لله –جل وعلا- يعني: حينما ذكر الله –جل وعلا- استهزأ وهزل ولم يظهر التعظيم(16/411)
ص -482- ... في ذلك فتنقص الله –جل وعلا- كما يفعله بعض الفسقة، والذين يقولون الكلمة ولا يلقون لها بالاً تهوي بعضهم في النار سبعين خريفاً، أو هزل بالقرآن أو استهزأ بالقرآن أو السنة، يعني: بالنبي عليه الصلاة والسلام، فإنه كافر الكفر الأكبر المخرج من الملة، هذا ضابط هذا الباب.
ويخرج عن ذلك ما لو استهزأ بالدين فإن الاستهزاء بالدين فيه تفصيل، فإن المستهزئ بالدين أو السابّ له، أو اللاعن له، قد يريد دين المستهزأ به، ولا يريد دين الإسلام أصلاً، فلا يرجع استهزاؤه إلى واحد من الثلاثة، فلهذا نقول: الكفر يكون أكبر إذا كان الاستهزاء بأحد الثلاثة التي ذكرنا ونصت عليها الآية، أو كان راجعاً إلى أحد الثلاثة.
أما إذا كان الاستهزاء بشيء خارج عن ذلك، فإنه يكون فيه تفصيل، فإن كان هزل بالدين، فيُنظر هل يريد دين الإسلام، أو يريد تدين فلان؟ ومثال أن يأتي واحد من المسلمين ويستهزئ -مثلا- بهيئة أحد الناس وهيئته يكون فيها التزام بالسنة، فهل يكون هذا مستهزئا الاستهزاء الذي يخرجه من الملة؟
الجواب: لا، لأن هذا الاستهزاء راجع إلى تدين هذا المرء، وليس راجعاً إلى الدين أصلاً، فيعرّف بأن هذا سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا علم أنه سنة، وأقرّ بذلك، وأن النبي فعله ثم استهزأ، بمعنى استنقص أو هزل بالذي اتبع السنة مع علمه بأنها سنة ولإقراره بصحة كونها سنة فهذا راجع إلى الاستهزاء بالرسول.
وكذلك الاستهزاء بكلمات قد يكون مرجعها إلى القرآن، وقد لا يكون مرجعها إلى القرآن فيكون فيه تفصيل، فالخلاصة –إذاً- أن الاستهزاء إذا كان بالله أو بصفاته، أو بأسمائه، أو بالرسول عليه الصلاة والسلام، أو بالقرآن(16/412)
ص -483- ... فإن هذا كفر، وإن كان الاستهزاء غير ذلك فينظر، إن كان راجعاً إلى أحد الثلاثة فهو كفر أكبر، وإن كان غير ذلك فإنه يكون محرما ولا يكون كفراً أكبر.
"وقول الله تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65-66]" هذه الآية نص في أن المستهزئ بالله، أو بالرسول، وبآيات الله –جل وعلا- والمقصود بها آيات الله –جل وعلا- الشرعية، يعني: القرآن، أن هذا المستهزئ كافر، وأنه لا ينفعه اعتذاره بأنه كان في هزل ولعب، بل هو كافر، لأن تعظيم الله –جل وعلا وتوحيده يوجب عليه أن لا يستهزئ.
وهذه الآية نزلت في المنافقين، وبعض أهل العلم قال: ليست في المنافقين، وهذا غلط وليس بصواب، لأسباب منها: أن هذه السورة –التي منها هذه الآية- هي في حال المنافقين، ولأن سياق الآية –سابقها ولاحقها- يدل على أن الضمائر ترجع إلى المنافقين. قال جل وعلا: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة:64-65] فالآية السابقة لآية الباب هي في المنافقين نصاً، فالضمير –إذاً- في قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} يعود على من ذكر قبل هذه الآية، وهم المنافقون المنصوص(16/413)
ص -484- ... عليهم بقوله: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ} وكذلك ما بعدها من الآيات في المنافقين في قوله جل وعلا: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} [التوبة:67] والأدلة على ذلك كثيرة.
فالصواب في ذلك أن المراد بالآية هم المنافقون، وأما أهل التوحيد فإنه لا يصدر منهم استهزاء أصلاً ولو استهزءوا لعلمنا أنهم غير معظمين لله، وأن توحيدهم ذهب أصلاً؛ لأن الاستهزاء يطرد التعظيم.
فالواجب على المسلمين جميعاً وعلى طلبة العلم خاصة أن يحذروا من مزالق الكلام، لأن كثرين يتكلمون بكلام لا يلقون له بالاً، ربما استهزءوا، أو ربما تكلموا بكلام فيه شيء من الهزل، وفيه شيء من الضحك، وكان في أثناء هذا الكلام ذكر الله، أو فيه قراءة القرآن، أو فيه ذكر بعض العلم، وهذا مما لا يجوز، وقد يدخل أحدهم في قول النبي عليه الصلاة والسلام: "وإن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفا"(1). نسأل الله –جل وعلا- السلامة والعافية.
فالواجب على العبد أن يعظم الله، وأن لا يتلفظ إلا بكلام عقَله قبل أن يقوله؛ لأن اللسان هو مورد الهلاك، قال معاذ للنبي عليه الصلاة والسلام: أو مؤاخذون يا رسول الله بما نقول؟ قال: "ثكلتك أمك يا معاذ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه الترمذي (2314).(16/414)
ص -485- ... وهل يكب الناس في النار على مناخرهم، أو قال: وجوههم إلا حصائدُ ألسنتهم".(1).
فالله الله في اللسان فإنه أعظم الجوارح خطراً، ومما يتساهل فيه أكثر من الناس، فاحذر الخوض فيما لا يعنيك، وبخاصة فيما يتعلق بالدين، أو بالعلم، أو بأولياء الله، أو العلماء، أو بصحابة النبي عليه الصلاة والسلام، أو بالتابعين، فإن هذا مورده خطير، والله المستعان، فقد عظمت الفتنة، والناجي من سلمه الله جل وعلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد في المسند5/231، 236، 237، والترمذي (2619).(16/415)
ص -486- ... "باب قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [فصلت:50]
قال مجاهد: "هذا بعملي، وأنا محقوق به".(1).
وقال بن عباس: "يريد من عندي".(2).
وقوله: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78] قال قتادة: "على علم مني بوجوه المكاسب".(3).
وقال آخرون: "على علم من الله أني له أهل".(4). وهذا معنى قول مجاهد: "أوتيته على شرف"(5).
وعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن ثلاثة من بني إسرائيل: أبرص وأقرع وأعمى، فأراد الله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكاً، فأتى الأبرص، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به، قال: فمسحه فذهب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه ابن جرير في التفسير25/3.
(2) أخرجه ابن جرير في التفسير25/3
(3) أخرجه عبد بن حميد كما في الدر المنثور6/440.
(4) أخرجه ابن أبي حاتم كما في الدر المنثور6/440.
(5) رواه ابن جرير في التفسير24/12.(16/416)
ص -487- ... عنه قذره، فأعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإبل أو البقر –شك إسحاق- فأعطي ناقة عشراء، وقال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأقرع، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن، ويذهب عني الذي قذرني الناس به، فمسحه فذهب عنه، وأعطي شعراً حسناً، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: البقر أو الإبل، فأعطي بقرة حاملا، قال: بارك الله لك فيها. فأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إلي بصري، فأبصر به الناس، فمسحه فرد الله إليه بصره، قال: أي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطي شاة والداً، فأنتج هذان، وولد هذا، فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم.
قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين، قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك الذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن، والمال بعيرا أتبلغ به في سفري، فقال: الحقوق كثيرة، فقال له: كأني أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيراً فأعطاك الله –عز وجل- المال؟! فقال: إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر، فقال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت، قال: وأتى الأقرع في صورته، فقال له مثل ما قال لهذا، ورد عليه مثل ما رد عليه هذا، فقال له: إن(16/417)
ص -488- ... كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت. قال: وأتى الأعمى في صورته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله، ثم بك، أسألك الذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى فرد الله علي بصري، فخذ ما شئت ودع ما شئت، فوالله لا أجهدُك اليوم بشيء أخذته لله، فقال: أمسك مالك فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك" أخرجاه.(1).
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآية.
الثانية: ما معنى {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي}.
الثالثة: ما معنى قوله: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}.
الرابعة: ما في هذه القصة العجيبة من العبر العظيمة.
الشرح: هذا الباب كالأبواب التي قبله في بيان وجوب تعظيم الله –جل وعلا- في الألفاظ وأن النعم يجب أن تنسب إليه، وان يُشكر عليها فتُعزى إليه، ويقول العبد: هذا أنعم الله عليّ به، والكذب في هذه المسائل، أو أن يتكلم المرء بكلام ليس موافقاً للحقيقة أو هو مخالف لما يعلمه من أن الله –جل وعلا-
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (3464) و(6653) و(مسلم) (2964).(16/418)
ص -489- ... قد أنعم عليه بذلك فهذا قد يؤديه إلى المهالك، وقد يسلب الله –جل وعلا- عنه النعمة بسبب لفظه.
فالواجب على العبد أن يتحرر في ألفاظه وبخاصة فيما يتصل بالله –جل وعلا- أو بأسمائه وصفاته، أو بأفعاله، وإنعامه، أو بعدله وحكمته، والتحرز في ذلك من كمال التوحيد؛ لأنه لا يصدر التحرز إلا عن قلب معظم لله، مجلٍّ لله، مخبتٍ لله، يعلم أن الله –جل وعلا- مطلع عليه، وأنه يُجلّ فوق كل جليل، وأن يحب فوق كل محبوب، وأن يعظّم فوق كل معظم.
فالله –جل وعلا- يجب توقيره وتعظيمه في الألفاظ، ومن ذلك ما عقد له الشيخ هذا الباب حيث قال: "باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي}[فصلت: 50]
"قال مجاهد: "هذا بعملي، وأنا محقوق به" يعني: أنه نسب النعمة إلى نفسه، وأنه جدير وحقيق بها، وأن الله –جل وعلا- تفضل عليه لأنه مستحق لهذا الإنعام، والمال والجاه ولرفعة القدر عند الناس، فصار إليه ذلك الشيء من المال والرفعة والسمعة الطيبة، لأنه مستحق لذلك الشيء بفعله وبجهده ونحو ذلك مما قد يطرأ على قلوب ضعفاء الإيمان وضعفاء التوحيد.
والواجب أن يعلم العبد أنه فقير غير مستحق لشيء على الله –جل وعلا- وأن الله هو الرب المستحق على العبد أن يشكره، وأن يذكره، وأن ينسب(16/419)
ص -490- ... النعم إليه، أما العبد فليس مستحقاً في الدنيا بحق واجب على الله –جل وعلا- إلا ما أوجبه الله –جل وعلا- على نفسه.
ومثل قول القائل: هذا بعملي، وأنا محقوق به –بعد أن أتته رحمة من بعد ضراء- مثل هذا القول يكثر في ألفاظ الناس، كقول الطبيب مثلاً: هذا الذي حصل من شفاء المريض بسببي، أو نجاحي، ونيلي لهذا الأمر إنما بسبب جهدي، وبسبب تعبي، ونحو ذلك مما يجعل إنعام الله –جل وعلا- على العبد بذلك بسبب استحقاقه، أو ينسى الله –جل وعلا- وينسب الأشياء إلى نفسه، ولهذا قال: "قال ابن عباس: يريد من عندي" أي أنا الذي أتيت بهذا المال أو بهذه النعمة وهذا من عندي، ولم يتفضّل علي به.
فيدخل في هذا الوصف الذي جاء في الآية نوعان من الناس: من ينسب الشيء إلى نفسه، ولا ينسبه إلى الله –جل وعلا- أصلا.
والثاني: أن ينسبه إلى الله تعالى، لكن يرى في نفسه مستحقاً لذلك الشيء على الله –جل وعلا- كما يحصل من بعض المغرورين أنه إذا أطاع الله واتقاه، وحصلت له نعمة قال: حصلت لي هذه النعمة من جراء استحقاقي لها، فأنا العابد لله –جل وعلا- ولا يستحضر أن الله –جل وعلا- يرحم عباده ولو حاسبه على عمله لم تقم عبادته وعمله بنعمة من النعم التي أسداها الله –جل وعلا- له.
فالواجب –إذاً- على العبد أن ينسب النعم جميعا لله، وأن يشعر بأنه لا يستحق شيئاً على الله، وإنما الله هو المستحق للعبودية، وهو المستحق للشكر، وهو المستحق للإجلال، والعبد فقير مذنب مهما بلغ. وانظر إلى أبي بكر الصديق –رضي الله عنه- كيف علمه النبي عليه الصلاة والسلام أن يقول في آخر(16/420)
ص -491- ... صلاته: "اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي"(1). إذا كان أبو بكر علمه الرسول عليه الصلاة والسلام أن يدعو بهذا الدعاء، فكيف بحال المساكين أمثالنا، وأمثال أكثر هذه الأمة؟ وكيف يظنون في أنفسهم أنهم يستحقون على الله شيئاً؟!.
فتمام التوحيد –إذاً- أن يُجلّ العبد ربه تبارك وتعالى ويعظمه، وأن لا يعتقد أنه مستحق للنعم، أو أنها أوتيها بجهده، وجهاده، وعمله، وذهابه ومجيئه، بل هو فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، لأن فعل العبد سبب وهذا السبب قد يتخلف، وقد يكون مؤثّراً، ثم إنه إذا أثر فلا يكون مؤثرا إلا بإذن الله –جل وعلا- فرجع الأمر إلى أنه فضل الله يؤتيه من يشاء.
"وقوله: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص: 78] قال قتادة: على علم مني بوجه المكاسب" هذه الآية في قصة قارون، قال جل وعلا: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّة} [القصص: 76] إلى أن قال: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} قال قتادة: "على علم مني بوجوه المكاسب" وهذا يحصل من كثير ممن أغناهم الله –جل وعلا- وأعطاهم أموالاً كثرة، فتجد أحدهم ينسب الشيء إلى نفسه، فيقول: أنا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (8387) و(8388) ومسلم (2705).(16/421)
ص -492- ... خبير بإدارة الأموال، وأنا أفهم التجارة، وأنا عندي علم بوجوه المكاسب، ونحو ذلك، وينسى الله –جل وعلا- هو الذي تفضل، ولو منع الله السبب الذي فعله من التأثير لم يصر شيئاً، فالله –جل وعلا- هو الذي تفضل عليه، وهو الذي وفقه، وهو الذي هداه للفكرة، وهو الذي جعل السبب مؤثرا، فالله هو المنعم ابتداء، وهو المنعم ختاماً، فالواجب إذاً أن يتخلص العبد من رؤية نفسه وأن يعلم أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ويكثر من قولها، فإنها كنز من كنوز الجنة.
فهذا الباب معقود كما ذكرنا لتخليص القلب واللسان من ألفاظ واعتقادات باطلة، يظن المرء فيها أنه مستحق أشياء على الله –جل وعلا- والتوحيد هو أن يكون العبد ذليلا خاضعا بين يدي الله، يعلم أنه لا يستحق شيئا على الله –جل وعلا- وإنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء.
"وقال آخرون: على علم من الله أني له أهل" وهذا يشمل أحد النوعين الذين ذكرتهما. "وهذا معنى قول مجاهد: أوتيته على شرف".
ثم ساق المؤلف حديث أبي هريرة الطويل، والدلالة منه ظاهرة، وأن الله –جل وعلا- عافى هؤلاء الثلاثة في أبدانهم، ورزقهم من فضله، ثم نسب اثنان منهم النعمة إلى أنفسهم، وثالث نسبها إلى الله، فجزى الله الأخير خيراً، وأدام عليه النعمة، ورضي عنه، وعاقب الآخرَين، وسخط عليهما، وهذا فضل من الله ينعم ثم يثبت النعمة فيمن يشاء، ويصرفها عمن يشاء، ومن أسباب ثبات النعمة أن يعظّم العبد ربه، وأن يعلم أن الفضل بيد الله، وأن النعمة هي نعمة الله.(16/422)
ص -493- ... وفي ختام هذه الأبواب أوصي المسلم بأن يكون حذراً من آفات اللسان، مثبتاً فيما يتكلم به، وأن يعلم أن كل خير إنما هو من الله، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ولو سلبه الله العناية منه طرفة عين لهلك، ولكان من الخاسرين، فإن العبد أحوج ما يكون إلى الاعتراف بذنبه، والعلم بأسماء الله وبصفاته، وبآثار ذلك في ملكوته، وبربوبيته –جل وعلا- على خلقه، وبعبادته حق عبادته.(16/423)
ص -494- ... "باب قول الله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}" [الأعراف:190]
قال ابن حزم: "اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله، كعبد عمر، وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك حاشا عبد المطلب".
وعن ابن عباس في الآية: "لما تغشاها آدم حملت، فأتاهما إبليس، فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة، لتطيعاني، أو لأجعلن له قرني أيِّل، فيخرج من بطنه فيشقه، ولأفعلن، ولأفعلن، يخوفهما، سمِّياه عبد الحارث، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتا، ثم حملت، فأتاهما فقال مثل قوله، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتا، ثم حملت فأتاهما، فذكر لهما، فأدركهما حب الولد، فسمَّياه عبد الحارث، فذلك قوله: {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} رواه ابن أبي حاتم. (1).
وله بسند صحيح عن قتادة قال: "شركاء في طاعته، ولم يكن في عبادته. (2).
وله بسند صحيح عن مجاهد في قوله: {لَئِنْ آتَيْتَنَا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه ابن جرير في "التفسير" (15517)
(2) أخرجه ابن جرير الطبري في التفسير (15521).(16/424)
ص -495- ... صَالِحاً} قال: أشفقا أن لا يكون إنسانا،(1). وذكر معناه عن الحسن، وسعيد وغيرهما".
فيه مسائل:
الأولى: تحريم كل اسم معبَّد لغير الله.
الثانية: تفسير الآية.
الثالثة: أن هذا الشرك في مجرد تسميةٍ لم تقصد حقيقتها.
الرابعة: أن هبة الله للرجل البنت السوية من النعم.
الخامسة: ذكر السلف الفرق بين الشرك في الطاعة والشرك في العبادة.
الشرح:
مناسبة هذا الباب للأبواب قبله أن جميع الأبواب في معنى واحد، وهو أن شكر النعمة لله –جل وعلا- فيما أنعم به، يقتضي أن تُنسب إليه –جل وعلا- وأن يُحمد عليها، ويثنى عليه بها، وان تستعمل في مراضيه –جل وعلا- وأن يُتحدث بها، فالذي ينسب النعم إلى نفسه لم يُحقّق التوحيد، فإنه جمع بين ترك تعظيم الله –جل وعلا- وبين ادّعاء شيء ليس له، وقد يعتقد في غيره أنه هو المنعم عليه، كقول القائل: لولا فلان لم يكن كذا، أو نحو تلك العبارات التي تدخل في قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير كما في الدر المنثور3/624.(16/425)
ص -496- ... وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] وفي قوله: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} [النحل: 83] فهذه الألفاظ وأمثالها راجعة إلى عدم شكر النعمة.
ومن شكر النعم أن الله –جل وعلا- إذا أنعم على عبد بولد، وجعله سليماً معافى، ورزقه بتلك النعمة –التي هي نعمة الولد- أن يشكر الله عليها، ومن عدم شكر النعمة تلك، ونسبتها إلى غير الله أن يُعبّد الولد لغير الله –جل وعلا- فإن هذا مضاد للاعتراف بأن المنعم بذلك الولد هو الله –جل جلاله- وقد يصل ذلك إلى حد الشرك الأكبر، إذا عبّد الولد لولي أو لعبد صالح، وهو يعني حقيقة العبودية التي هي أن هذا عبد لذاك؛ لأن ذاك إله، كمن يُعبّد لبعض المشايخ، فيقول: عبد السيد ويعنون به: السيد البدوي، ويقولون: عبد زينب، وعبد علي، وعبد عمرو، ونحو ذلك من الأسماء التي فيها اعتقادات.
فمن عبّد ولدا لغير الله –جل وعلا- فقد نافى شكر النعمة، ولهذا أتبع الشيخ –رحمه الله- هذا الباب الأبواب قبله لما كان يشترك معها في هذا المعنى، وأن الواجب على العبد أن يحقق التوحيد، وأن لا ينسب النعم لغير الله –جل وعلا- فإن وقع منه ذلك فواجب عليه أن يبادر بالتوبة، وألا يقيم على ذلك.
"باب قول الله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف:190]"(16/426)
ص -497- ... قوله: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً} الضمير هنا يرجع إلى آدم وحواء، والذي عليه عامة السلف أن القصة في آدم وحواء حتى قال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله: "إن نسبة ذلك إلى غير آدم وحواء هو من التفاسير المبتدعة" وسياق الآية لا يقتضي غير ذلك إلا بأوجه من التكلف، ولهذا اعتمد الإمام محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله- التفسير الذي عليه عامة السلف، ففسر هذه الآية بأن المراد بها آدم وحواء، فقوله: {فَلَمَّا آتَاهُمَا} يعني: آدم وحواء صالحاً. وقوله: {صَالِحاً} يعني: من جهة الخلقة؛ لأنه كان يأتيهما ولد فيموت، أو يكون معيبا فيموت، فالله –جل وعلا- رزقهما هذا الولد الصالح السليم في خلقته، المعافى في بنيته، وكذلك هو صالح لهما من جهة نفعهما.
{جَعَلا} يعني: آدم وحواء. {جَعَلا لَه}ُ يعني: لله جل وعلا {شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} وكلمة شركاء جمع شريك، والشريك في اللغة هو المقصود بهذه الآية، ومعنى الشركة في اللغة: اشتراك اثنين في شيء، فجعلا لله –جل وعلا- شركاء فيما آتاهما، حيث سميا ذلك الولد عبد الحارث. والحارث هو إبليس، وهو الذي قال: "إن لم تسمياه عبد الحارث لأفعلن، ولأفعلن، ولأجعلن له فرني أيل"ٍ –وهو ذكر الوعل- وفي هذا تهديد بأن يشق بطن الأم، فتموت ويموت أيضاً الولد.
فلما رأت حواء ذلك، وأنها قد مات لها عدة بطون، أطاعت الشيطان في ذلك، فصارت شركة في الطاعة، وآدم وحواء عليهما السلام قد(16/427)
ص -498- ... أطاعا الشيطان من قبل، حيث أمرهما بأن يأكلا من الشجرة التي نهاهما الله –جل وعلا- عنها، كما جاء في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "خدعهما مرتين"(1). وهذا هو المعروف عند السلف، فيكون إذاً قوله: {شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} من جهة التشريك في الطاعة، ومعلوم أن كل عاص مطيع للشيطان، وكل معصية لا تصدر من العبد إلا وثَمَّ نوع تشريك حصل في الطاعة، لأنه إما أن يطيع هواه، وإما أن يطيع الشيطان، ولهذا قال شيخ الإسلام وغيره من المحققين: "إنه ما من معصية يعصي به العبد ربه إلا وسببها طاعة الشيطان أو طاعة الهوى، وذلك نوع تشريك" وهذا هو الذي حصل من آدم وحواء عليهما السلام، وهو لا يقتضي نقصاً في مقامهما، ولا يقتضي شركاً بالله –جل وعلا- وإنما هو نوع تشريك في الطاعة، والمعاصي الصغار جائزة على الأنبياء، كما هو معلوم عند أهل العلم، فإن آدم نبي مكلّم، وصغار الذنوب جائزة على الأنبياء، ولا تقدح في كمالهم، لأنهم لا يستقيمون عليها، بل يسرعون وينيبون إلى الله –جل وعلا- ويكون حالهم بعد ما وقع منهم ذاك أعظم من حالهم قبل أن يقع منهم ذلك، لأنه يكون لهم مقامات إيمانية واعتراف بالعبودية أعظم، وذل وخضوع أكبر بين يدي الله –جل وعلا- ومعرفة أكمل بتحقيق ما يجب لله –جل وعلا- وما يستحب.
فهذه القصة –كما ذكرنا- صحيحة، وآثار السلف الكثرة تدل عليها، وسياق الآيات في آخر سورة الأعراف يدل عليها، والإشكال الذي أورده
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر: تفسير القرطبي7/338.(16/428)
ص -499- ... بعض أهل التفسير من المتأخرين، وهو آدم وحواء جعلا لله شركاء، وهذا نص الآية لا يمنع؛ لأن التشريك هنا تشريك فيما يدل عليه المعنى اللغوي، وليس شركاً أصغر، ولا شركاً أعظم، وحاشاهما من ذلك، وإنما هو تشريك في الطاعة، كما قال جل وعلا:{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} [الفرقان:43] وكما قال في الآية الأخرى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23] فكل من جعل هواه متبّعا فقد جعله مطاعاً، وهذا نوع تأليه، لكن لا يقال: عبد غير الله، أو أشرك بالله –جل وعلا- لكن هو نوع تشريك، فكل طاعة للشيطان أو للهوى فيها هذا النوع من التشريك، إذ الواجب على العبد أن يعظم الله –جل وعلا- وأن لا يطيع إلا أمره –جل وعلا- وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
فظهر بهذا التقرير أن هذه القصة لا تقتضي نقصاً في مقام آدم عليه السلام ولا في مقام حواء، بل هو ذنب من الذنوب تابا منه، كما حصل لهما أول مرة في الأكل من الشجرة، بل إن أكلهما من الشجرة ومخالفة أمر الله –جل وعلا- أعظم من هذا الذي حصل منهما هنا، وهو تسمية الولد عبد الحارث، وذلك أن الخطاب الأول كان من الله –جل وعلا- لآدم مباشرة خاطبه الله –جل وعلا- ونهاه عن أكل هذه الشجرة، وهذه خطاب متوجه إلى آدم بنفسه، وأما هذه التسمية فإنه لم ينه عنها مباشرة، وإنما يفهم النهي عنها من وجوب حق الله –جل وعلا- فذاك المقام زاد على هذا المقام من(16/429)
ص -500- ... جهة خطاب الله –جل وعلا- المباشر لآدم، وهذا أمر معروف عند أهل العلم، ولهذا فسر قتادة كلمة شركاء بقوله كما نقل الشيخ قال: "له بسند صحيح عن قتادة قال: شركاء في طاعته، ولم يكن في عبادته" وهذا الصحيح في تفسير الآية.
"قال ابن حزم: "اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله، كعبد عمر، وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك حاشا عبد المطلب".(1).
قول ابن حزم: "اتفقوا) يعني: أجمعوا، أي أجمع أهل العلم فيما علمه هو أن التعبيد لغير الله محرم، لأن فيه إضافة النعم لغير الله، وفيه أيضاً إساءة أدب مع الربوبية والإلهية، فإن تعبيد الناس لغير الله –جل وعلا- غلط من جهة المعنى، وأيضا فيه نوع هضم لمقام الربوبية، فلذلك حرُم في شريعة الإسلام هذه التسمية، بل وفي شرائع الأنبياء جميعا، فاتفق أهل العلم على ذلك، وان كل اسم معبَّد لغير الله كعبد عمرو، وعبد الكعبة، وعبد علي، وغير ذلك من الأسماء، فإن هذا وما أشبهه محرَّم ولا يجوز.
قوله: "حاشا عبد المطلب" يعني: لم يجمعوا عليه، فإن من أهل العلم من قال: تكره التسمية بعبد المطلب ولا تحرم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال في غزوة حنين: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب"(2). قالوا: وجاء في أسماء الصحابة من اسمه عبد المطلب، ولهذا قالوا:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه ابن حزم في "مراتب الإجماع" (154).
(2) أخرجه البخاري (2864) و(2874) ومسلم (1776).(16/430)
ص -501- ... لا يحرم، وهذا القول ليس بصحيح في أن عبد المطلب لا تكره التسمية به ولا تحرم، وما استدلوا به ليس بوجيه، وذلك أن قول النبي عليه الصلاة والسلام: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب" كان من جهة الإخبار، والإخبار ليس فيه تعبيد مباشر بإضافة ذلك المخلوق إلى غير خالقه، وإنما هو إخبار، وباب الإخبار أوسع من باب الابتداء كما هو معلوم.
وأما تسمية بعض الصحابة بعبد المطلب، فالصحيح أن اسمه المطلب بدون التعبيد، ولكن نقل بعبد المطلب؛ لأنه شاعت التسمية بعبد المطلب دون المطلب، فوقع خطأ في ذلك، وبحث هذه المسألة يطول، ومحله كتب الحديث وكتب الرجال.
"وعن ابن عباس في الآية: "لما تغشاها آدم حملت، فأتاهما إبليس، فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة، لتطيعاني، أو لأجعلن له قرني أيِّل، فيخرج من بطنه فيشقه، ولأفعلن، ولأفعلن، يخوفهما، سمِّياه عبد الحارث، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتا، ثم حملت، فأتاهما فقال مثل قوله، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتا، ثم حملت فأتاهما، فذكر لهما، فأدركهما حب الولد، فسمَّياه عبد الحارث، فذلك قوله: {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} رواه ابن أبي حاتم. وله بسند صحيح عن قتادة قال: "شركاء في طاعته، ولم يكن في عبادته". وهذا دليل على التفريق بين الشرك في الطاعة والشرك في العبادة، فالشرك في العبادة كفر أكبر مخرج من الملة، أما(16/431)
ص -502- ... الشرك في الطاعة فله درجات يبدأ من المعصية والمحرم وينتهي بالشرك الأكبر، فالشرك في الطاعة درجات كثيرة، وليس درجة واحدة، فقد يحصل شرك في الطاعة فيكون معصية، ويحصل شرك في الطاعة فيكون كبيرة، ويحصل شرك في الطاعة ويكون كفرا أكبر، ونحو ذلك، أما الشرك في العبادة فهو كفر أكبر بالله –جل جلاله- ولهذا فرق أهل العلم بين شرك الطاعة وشرك العبادة، مع أن العبادة مستلزمة للطاعة، والطاعة مستلزمة أيضاً للعبادة، لكن ليس في كل درجاتها. .
"وله بسند صحيح عن مجاهد في قوله: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} قال: أشفقا أن لا يكون إنسانا" يعني: خافا أن يكون له –كما قال الشيطان- له قرنا أيل، أو خلقته مختلفة، أو يخرج حيوانا، أو قرداً، أو نحو ذلك، فقالا: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً} يعني: ولدا صالحا سليما من الآفات سليما من الخلقة المشينة، فوعدا بأن يكونا من الشاكرين {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً} عبّدا ذلك للحارث خوفا من أن يتسلط الشيطان عليه بالموت أو الإهلاك، فأخذتهما شفقة الوالد على الولد فكان ذلك خلاف شكر تلك النعمة، لأن من شكر نعمة الولد أن يُعبد الولد لله الذي أنعم به وأعطاه وتفضل به.(16/432)
ص -503- ... "باب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِه} [لأعراف: 180]
"ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس: {يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِه} يشركون".(1). وعنه: "سمّوا اللات من الإله، والعزى من العزيز". وعن الأعمش: "يدخلون فيها ما ليس منها".
فيه مسائل:
الأولى: إثبات الأسماء.
الثانية: كونها حسنى.
الثالثة: الأمر بدعائه بها.
الرابعة: ترك من عارض من الجاهلين الملحدين.
الخامسة: تفسير الإلحاد فيها.
السادسة: وعيد من ألحد.
الشرح:
هذا الباب في وجوب تعظيم أسماء الله الحسنى، وأن من تعظيمها أن لا يُلحد فيها، وأن يدعى الله –جل وعلا- بها، والأسماء الحسنى هي:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير كما في الدر المنثور (613).(16/433)
ص -504- ... الأسماء البالغة في الحسن نهايته، فالخلق يتسمون بأسماء، لكن قد لا تكون حسنة، أو قد تكون حسنة، ولكن ليست بالغة في الحسن نهايته، لأن الحسن في الأسماء يكون راجعاً إلى أن الصفة التي اشتمل عليها ذلك الاسم تكون حقاً موجودة فيمن تسمى بها، والإنسان وإن تسمى باسم فيه معنى فقد لا يكون فيه من ذلك المعنى شيء، فيسمّى صالحا، وقد لا يكون صالحاً، ويسمى خالدا وقد لا يكون خالدا، ويسمى محمدا وقد لا يكون كثير خصال الحمد، وهكذا فإن الإنسان قد يسمى بأسماء لكن لا تكون في حقه حسنى، والله –جل وعلا- له الأسماء الحسنى البالغة في الحسن نهايته، وهي الأسماء المشتملة على صفات الكمال، والجلال، والجمال، والقدرة، والعزة، والجبروت وغير ذلك، وله من كل اسم مشتمل على صفة أعلى وأعظم وأسمى المعاني التي اشتملت عليها الصفة.
وأهل العلم إذا فسروا الأسماء الحسنى فإنما هو تقريب، ليدلوا الناس على أصل المعنى، أما المعنى بكماله فإنه لا يعلمه أحد إلا الله –جل جلاله- ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم- في دعائه: "لا نُحصي ثناء عليك، كما أثنيت على نفسك"(1). فالناس حين يفسِّرون أسماء الله –جل وعلا- فإنهم يفسرون ذلك بما يقرب إلى الأفهام المعنى، أما حقيقة المعنى على كماله فإنهم لا يعونه؛ لأن ذلك من الغيب، وكذلك الكيفية فإنهم لا يعلمونها، لأن ذلك من الغيب، فالله –جل وعلا- له الأسماء الحسنى والصفات العلى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه الترمذي (3566) وابن ماجه (1179)(16/434)
ص -505- ... ومن الأسماء ما لا يكون حسناً إلا بقيد مثل الصانع، والمتكلم، والمريد، والفعّال أو الفاعل، ونحو ذلك، فهذه الأسماء لا تكون كمالاً إلا بقيد، وهو أن يكون متكلماً بما شاء إذا شاء بما تقتضيه الحكمة وتمام العدل، فهذا يكون محموداً، ولهذا ليس من أسماء الله المتكلم، وكذلك الصانع قد يصنع خيرا، وقد يصنع غير ذلك، والله –جل وعلا- ليس من أسمائه الحسنى الصانع، لاشتماله على هذا وهذا، فإذا أطلق من جهة الخبر فيُعنى به ما يقيد بالمعنى الذي فيه كمال، وكذلك فاعل أو فعّال، فإن الفعّال قد يفعل أشياء لا توافق الحكمة، وقد يفعل أشياء لا يريدها، بل مجبر عليها، والكمال أن يفعل ما يريد ولا يكون مجبراً لكمال عزته وقهره، ولهذا قال الله -جل وعلا- عن نفسه: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:16] لأن تقييد كونه فعَالاً بما يريد، يدل على الكمال في أشياء كثيرة، وهي معروفة في مباحث الأسماء والصفات.
وأسماء الله الحسنى تنقسم باعتبارات من جهة المعنى، قال طائفة من أهل العلم: "إن منها أسماء الجمال، وأسماء الجمال لله –جل جلاله- هي الأسماء المشتملة على حسن في الذات، أو حسن في المعنى، وبرٍّ بالعباد والمخلوقين، فيكون من أسماء الجمال صفات الذات، واسم الله الجميل، ويكون من أسماء الجمال: البر، والرحيم، والودود، والمحسن، وما أشبه ذلك. ومن أسماء الله ما هو من الجلال، فيقال: هذه أسماء الجلال، وأسماء الجلال لله هي: التي فيها ما يدل العباد على جلال الله وعظمته وعزته –جل وعلا- وجلاله حتى يُجلّ، من مثل: القهار، والجبار، والقدير والعزيز،(16/435)
ص -506- ... ونحو ذلك، فهذه أسماء الجلال، وهناك أسماء في تقسيمات مختلفة، تطلب من كلام ابن القيم –رحمه الله- أو من كلام الشراح، فإن المقصود هو أن العبد المؤمن الموحد ينبغي أن يتعرف إلى الله –جل وعلا- بأسمائه وصفاته، ولا تتم حقيقة التوحيد في قلب العبد حتى يعلم بأسماء الله –جل وعلا- ويعلم صفات الله –جل وعلا- فإن العلم بها تتم به حقيقة التوحيد.
والعلم بها على مراتب، منها: أن يعلمها إثباتا، يعني: أن يثبت ما أثبت الله لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، فيؤمن أن هذا الاسم من أسماء الله، وأن هذه الصفة من صفات الله جل وعلا.
والثاني: أن يسأل الله –جل وعلا- بأسمائه وصفاته بما يوافق مطلوبه؛ لأن الأسماء والصفات نتعبد لله –جل وعلا- بها، بأن ندعوه بها كما جاء في هذه الآية، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
والثالث من الإيمان بالأسماء والصفات: أن ينظر إلى آثار أسماء الله وصفاته في الملكوت، فإذا نظر إلى آثار الأسماء والصفات في الملكوت وتأمل ذلك علم أن كل شيء ما خلا الله باطل، وأن الحقيقة أن الحق الثابت اللازم هو الله –جل وعلا- وأما سوى الله فهو باطل، وزائل، وآيل إلى الهلاك {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه} [القصص: 88].
"قوله: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}" اللام في قوله: {وَلِلَّهِ} هي لام الاستحقاق، يعني: الأسماء البالغة في الحسن نهايته مستحقة لله –جل وعلا- والله مستحق ذلك.(16/436)
ص -507- ... {فَادْعُوهُ بِهَا} يعني: إذا علمتم أن الله هو المستحق لذلك وآمنتم به، فدعوه بها، وهذا أمر، والدعاء هنا فسّر بالثناء والعبادة، وفسّر بالسؤال والطلب، وكلاهما صحيح، فإننا ندعو الله بها، أي نحمده ونثني عليه بها، فنعبده متوسلين إليه بالأسماء الحسنى، وما اشتملت عليه من الصفات العلى، وكذلك أن نسأله بها، يعني: إذا كان لنا مطلوب نتوجه إلى الله فنسأله بتلك الأسماء بما يوافق المطلوب، فإذا سألنا الله المغفرة نأتي بصفات الجمال، وإذا سألنا الله –جل وعلا- النصرة نأتي بصفات الجلال، وهكذا فيما يناسب، وهناك تفصيلات أيضاً لهذا الأمر.
والمقصود أن قوله جل وعلا: {فَادْعُوهُ بِهَا} يعني: اسألوه بها، أو اعبدوه، وأثنوا عليه بها –جل وعلا- فيشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة.
والباء في قوله: {بِهَا} هي باء الوسيلة، أي ادعوه متوسلين بها.
"قوله: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِه}" {وَذَرُوا} يعني: اتركوا، وهذا يوجب على المسلم أن يبتعد عن حال الذين يلحدون في أسماء الله –جل وعلا- والإلحاد في أسماء الله هو الميل والعدول بها عن حقائقها إلى ما لا يليق بالله جل وعلا.
وهذا الإلحاد في أسماء الله وصفاته مراتب منها: أن يُسمِّي البشر المعبودين بأسماء الله، كما سموا اللات من الإله، والعزى من العزيز، ونحو ذلك.(16/437)
ص -508- ... ومن الإلحاد في أسماء الله: أن يُجعل لله –جل وعلا- ولد، وأن يُضاف المخلوق إليه إضافة الولد إلى والده كحال النصارى.
ومن الإلحاد: إنكار الأسماء والصفات، أو إنكار بعض ذلك، كما فعلت الجهمية الغلاة، فإنهم لا يؤمنون باسم من أسماء الله، ولا بصفة من صفات الله إلا الوجود والموجود؛ لأن هذه الصفة هي التي يستقيم معها برهانهم بحلول الأعراض في الأجسام، ودليل ذلك على الوحدانية كما هو معروف في موضعه.
ومن الإلحاد أيضا والميل بها عن الحق الثابت الذي يجب لله –جل وعلا- فيها: أن تؤول وتُصرف عن ظاهرها إلى معان لا يجوز أن تصرف إليها، فيكون ذلك من التأويل، والواجب الإيمان بالأسماء والصفات وإثباتها، واعتقاد ما دلت عليه، وترك التعرض لها بتأويل ونحوه، وهذه قاعدة السلف فنؤمن بها ولا نصرفها عن حقائقها بتأويل أو مجاز أو نحو ذلك، كما فعل المعتزلة، وفعلته الأشاعرة، والماتريدية وطوائف، كل هذا نوع من أنواع الإلحاد.
وإذا تقرر ذلك علم أن الإلحاد منه ما هو كفر، ومنه ما هو بدعة بحسب ما ذكرنا، فالحال الأخيرة –وهي التأويل، ودعاء المجاز في الأسماء والصفات- بدعة وإلحاد لا يصل بأصحابه إلى الكفر، أما نفي وإنكار وجحد الأسماء والصفات، فهذا كفر كحال الجهمية، والنصارى ومشركي العرب.
"ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس: {يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِه} يشركون" يعني: يجعلون اللات من الإله، فينادون اللات، وعندهم أنهم نادوا الإله، فصار شركا.(16/438)
ص -509- ... وعنه: "سمّوا اللات من الإله، والعزى من العزيز". وعن الأعمش: "يدخلون فيها ما ليس منها" وهذه مرتبة من مراتب الإلحاد في أسمائه؛ لأن الله –جل وعلا- له الأسماء الحسنى، فمن أدخل اسمًا لم يثبت في الكتاب والسنة أنه من أسماء الله فقد ألحد؛ لأنه مال وعدل عن الحق الذي يجب في الأسماء والصفات إلى غيره، والحق هو أن تثبت لله ما أثبته لنفسه، إذ لا أحد أعلم بالله من الله –جل جلاله وتعاظم شأنه- وكذلك لا أحد أعلم من الخلق بالله –جل وعلا- من رسوله الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم، فمن أدخل فيها ما ليس منها فقد ألحد، كمن قال: إن من أسماء الله: الماكر، والمستهزئ، والصانع، وجعلُ ذلك من الأسماء الحسنى، فإن هذا لا يجوز، ومنها ما يجوز بتقييد في باب الإخبار، ومباحث هذا الباب طويلة لاتصالها بالأسماء والصفات وهي معروفة في مبحث توحيد الأسماء والصفات.(16/439)
ص -510- ... "باب: لا يقال السلام على الله"
في الصحيح عن ابن مسعود –رضي الله عنه- قال: كنا إذا كنا مع النبي –صلى الله عليه وسلم- في الصلاة، قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا: السلام على الله، فإن الله هو السلام".(1).
فيه مسائل:
الأولى: تفسير السلام.
الثانية: أنه تحية.
الثالثة: أنها لا تصلح لله.
الرابعة: العلة في ذلك.
الخامسة: تعليمهم التحية التي تصلح لله.
الشرح: مناسبة هذا الباب للباب الذي قبله: أن ترك قول السلام على الله هو من تعظيم الأسماء الحسنى، ومن العلم بها، ذلك أن السلام هو الله –جل جلاله- والسلام من أسمائه سبحانه وتعالى، فهو المتصف بالسلامة الكاملة من كل نقص وعيب، وهو المنزه والمبعد عن كل آفة ونقص وعيب، فله الكمال المطلق في ذاته، وصفاته الذاتية، وصفاته الفعلية –جل وعلا-
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (835) ومسلم (402).(16/440)
ص -511- ... والسلام في أسماء الله معناه أيضاً: الذي يعطي السلامة، وأثر هذا الاسم في ملكوت الله أن كل سلامة في ملكوت الله من كل شر يؤذي الخلق، فإنها من آثار هذا الاسم، فإنه لكون الله –جل وعلا- هو السلام فإنه يفيض السلامة على عباده.
إذا كان كذلك فالله –جل جلاله- هو الذي يفيض السلام، وليس العباد هم الذين يعطون الله السلامة فإن الله –جل وعلا- هو الغني عن خلقه بالذات، والعباد فقراء بالذات، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] فالعبد هو الذي يُعطى السلامة، والله –جل وعلا- هو الذي يسلّم، ولهذا كان من الأدب الواجب في جناب الربوبية وأسماء الله وصفاته أن لا يُقال: السلام على الله، بل يقال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، السلام على فلان وفلان، السلام عليك يا فلان، ونحو ذلك، فتدعو له بأن يبارك باسم الله (السلام) أو أن تحل عليه السلامة.
فظهر بهذا أن وجه مناسبة هذا الباب للذي قبله ظاهرة. وأما مناسبته لكتاب التوحيد فهي أن الأدب مع أسماء الله –جل وعلا- وصفاته ألا يُخاطب بهذا الخطاب، وأن لا يقال: السلام على الله، لأن في هذا نقصاً في تحقيق التوحيد، فتحقيق التوحيد الواجب ألا تقال هذه الكلمة؛ لأن الله غني عن عباده، والفقراء هم الذين يحتاجون إلى السلام.
"في الصحيح عن ابن مسعود –رضي الله عنه- قال: كنا إذا كنا مع النبي –صلى الله عليه وسلم- في الصلاة، قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان(16/441)
ص -512- ... وفلان" وإنما كانوا يقولون هذا مع كونهم موحدين عالمين بحق الله –جل وعلا- ظنا أنها تحية لا تحوي ذلك المعنى، فجعلوها من باب التحية، والتحية في هذه الشريعة مرتبة بالمعنى، فالسلام على الله من عباده كأنهم قالوا: تحية الله من عباده، وهذا المعنى –وإن كان صحيحا من حيث القصد- لكنه ليس بصحيح من حيث اللفظ؛ لأن هذا اللفظ لا يجوز من جهة أن الله –جل وعلا- هو السلام كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، والعباد مسلِّمون، أي يسلمهم الله –جل وعلا- ويفيض عليهم السلامة وهم الفقراء المحتاجون، فليسوا هم الذين يعطون الله السلام، فمعنى: السلام على الله، يعني: السلامة تكون على الله من عباده، وهذا لا شك أنه باطل وإساءة أدب مع ما يجب لله –جل وعلا- في ربوبيته وأسمائه وصفاته.
لهذا قال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: "لا تقولوا: السلام على الله، فإن الله هو السلام" وهذا النهي للتحريم، فلا يجوز لأحد أن يقول: السلام على الله؛ لأن السلام على الله مقتضٍ لانتقاص جناب الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات.
إذا كان كذلك، فما معنى قولك حين تسلم على أحد: السلام عليك يا فلان، أو السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؟ وهي تحية المؤمنين في الدنيا وفي الآخرة {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب: 44] قال بعض أهل العلم: إن معناها: كل اسم لله –جل وعلا- عليكم، يعني اسم السلام عليكم، فيكون ذلك تبركاً بأسماء الله –جل وعلا- وبصفاته، فاسم السلام عليكم، يعني اسم الله عليكم، فيكون ذلك تبركاً بكل الأسماء ومنها اسم الله –جل وعلا- السلام، وهذا أحد المعنيين.(16/442)
ص -513- ... والثاني: ما قاله آخرون من أهل العلم: أن قول القائل: السلام عليكم ورحمة الله، يعني: السلامة التي اشتمل عليها اسم (السلام) عليكم، نسأل الله أن يفيضها عليكم، أو أن يكون المعنى: كل سلامة عليكم مني، فإنك لن تجد مني إلا السلامة، وهذا يصدق حين تُنكر، فتقول: سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، يعني: كل سلامة مني ستأتيك، فلن أخفرك في عرضك، ولن أخفرك في مالك، ولن أخفرك في نفسك، وكثير من المسلمين يقول هذه الكلمة، وهو لا يعي معناها، لأنه حين قال لمن أتاه: السلام عليكم، كأنه عاهده بأنه لن يأتيه منه إلا السلامة، ثم هو يخفر هذه الذمة، وربما أضره، أو تناول ماله، أو نحو ذلك.
فهذه فيه التنبيه على فائدة مهمة، وهي أنه ينبغي لكل طالب العلم، بل كل عاقل بعامة إذا نطق بكلام أن يتبين ما معنى هذا الكلام، فكونه يستعمل كلاماً لا يعي معناه، هذا من العيب، إذ ليس من أخلاق الرجال أصلا أن يتكلموا بكلام لا يعون معناه، فيأتي بكلام ثم ينقضه في فعله أو في قوله، هذا ليس من أفعال الذين يعقلون، فضلاً أن يكون من أفعال أهل العلم، أو طلبة العلم الذين يعون عن الله –جل وعلا- شرعه ودينه.
والصواب أن قول القائل: السلام عليكم، يشمل المعنيين الأول والثاني، فهو تبرك بكل اسم من أسماء الله، وتبرك باسم الله (السلام) الذي من آثاره السلامة عليك في دينك ودنياك، فهو دعاء لك بالسلامة في الدين، وفي الدنيا، وفي الأعضاء، والصفات، والجوارح، إلى آخر ذلك.(16/443)
ص -514- ... "باب قوله: اللهم اغفر لي إن شئت"
في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة، فإن الله لا مكره له".(1).
ولمسلم: "وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه".(2).
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن الاستثناء في الدعاء.
الثانية: بيان العلة في ذلك.
الثالثة: قوله: "ليعزم المسألة".
الرابعة: إعظام الرغبة.
الخامسة: التعليل لهذا الأمر.
الشرح:
حقيقة التوحيد أن يوّحد العبد ربه –جل وعلا- بتمام الذل والخضوع، والمحبة، وأن يتضرع إلى الله –جل وعلا- ويتذلل إليه بإظهار فقره التام إليه،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (6339) ومسلم (2679).
(2) أخرجه مسلم (2679).(16/444)
ص -515- ... وأن الله –جل وعلا- هو الغني عما سواه، وقول القائل: "اللهم اغفر لي إن شئت" يُفهم منه أنه مستغن عن أن يُغفر له، كما يأتي العزيز أو المتكبر من الناس، فيقول لآخر لا يريد أن يتذلل له: افعل هذا إن شئت، يعني: إن فعلت ذلك فحسن، وإن لم تفعل فلستُ بمُلح عليك، ولست بذي إكرام، فهذا القول مناف لحاجة الذي قالها إلى الآخر، ولهذا كان فيه عدم تحقيق التوحيد، ومنافاة لما يجب على العبد في جناب ربوبية الله –جل وعلا- من أن يُظهر فاقته وحاجته لربه، وأنه لا غنى به عن مغفرة الله، وعن غنى الله، وعن عفوه، وكرمه وإفضاله، ونعم طرفة عين، فقول القائل: "اللهم اغفر لي إن شئت" كأنه يقول: لست محتاجا، إن شئت فاغفر، وإن لم تشأ فلستُ بمحتاج، وهذا فعل أهل التكبر، وأهل الإعراض عن الله –جل وعلا- ولهذا حرّم هذا اللفظ، وهو أن يقول: اللهم اغفر لي إن شئت، للحديث الذي ساقه المؤلف فقال: "في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة، فإن الله لا مكره له" ولمسلم: "وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه".
قوله: "ليعزم المسألة" يعني: ليسأل سؤال عازم، سؤال محتاج، سؤال متذلل، لا سؤال مستغن مستكبر، فليعزم المسألة، وليسأل سؤال جاد محتاج متذلل فقير يحتاج إلى أن يعطى ذلك، والذي إذا سأل، سأل أعظم المسائل، وهي المغفرة والرحمة من الله –جل وعلا- فيجب عليه أن يعظم هذه المسألة، ويعظم الرغبة وأن يعزم المسألة.(16/445)
ص -516- ... قوله: "فإن الله لا مكره له" أي لا أحد يكرهه لتمام غناه، وتمام عزته وقهره وجبروته، وتمام كونه مقيتا سبحانه وتعالى، وهذا من آثار الأسماء والصفات.
ولهذا لا يجوز في الدعاء أن يواجه العبد ربه بهذا القول: " اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت" وهذا واضح ظاهر في الدعاء الذي فيه المخاطبة، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن هذا يتقيد بالدعاء الذي فيه خطاب، أما الدعاء الذي ليس فيه خطاب فيكون التعليق بالمشيئة ليس تعليقا لأجل عدم الحاجة، أو منبِئاً عن عدم الحاجة كهذا الدعاء، بل هو للتبرك كمن يقول: رحمه الله إن شاء الله، أو غفر الله له إن شاء الله، أو الله يعطيه من المال كذا وكذا إن شاء الله، ونحو ذلك فهذا قالوا: لا يدخل في هذا النوع، لأنه ليس على وجه الخطاب، وليس على وجه الاستغناء، ولكن الأدب يقتضي ألا يستعمل هذه العبارة في الدعاء مطلقاً، لأنها وإن كانت ليست بمواجهة فإنها داخلة في تعليق الدعاء بالمشيئة، والله –جل وعلا- لا مكره له، فعموم المعنى المستفاد من قوله: "فإن الله لا مكره له" عموم هذا التعليل يشمل هذا وهذا، فلا شك أن قوله: "اللهم اغفر لي إن شئت" أعظم ولكن القول الآخر داخل أيضاً في علة النهي ومعنى النهي، ولهذا لا يسوغ استعماله.
وقول النبي عليه الصلاة والسلام لمن عاده وقد أصابته الحمى –كما رواه البخاري ومسلم وغيرهما-: "طهور إن شاء الله"(1). قال: بل هي حمى تفور ... إلخ كلامه، هذا ليس فيه دعاء، وإنما هو من جهة الخبر، قال: يكون طهوراً إن شاء الله، فليس بدعاء، وإنما هو خبر، فافترق عن أصل المسألة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (3616) ولم يره مسلم رحمه الله.(16/446)
ص -517- ... وقال طائفة من أهل العلم من شراح البخاري: وقد يكون قوله: "طهور إن شاء الله" للبركة، فيكون ذلك من جهة التبرك، كقوله جل وعلا: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99] وهم قد دخلوا مصر، وكقوله جل وعلا: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ} [الفتح: 27].(16/447)
ص -518- ... "باب لا يقول عبدي وأمتي"
في الصحيح عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضئ ربك،، وليقل سيدي ومولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي".(1).
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن قول: عبدي وأمتي.
الثانية: لا يقول العبد: ربي، ولا يقال له: أطعم ربك.
الثالثة: تعليم الأول قول: فتاي، وفتاتي، وغلامي.
الرابعة: تعليم الثاني قول: سيدي ومولاي.
الخامسة: التنبيه للمراد، وهو تحقيق التوحيد في الألفاظ.
الشرح:
هذا الباب مع الأبواب قبله وما بعده كلها في تعظيم ربوبية الله –جل وعلا- وتعظيم أسماء الله –جل وعلا- وصفاته، لأن تعظيم ذلك من كمال التوحيد، وتحقيق التوحيد لا يكون إلا بأن يُعظّم الله –جل وعلا- في ربوبيته، وفي إلهيته، وفي أسمائه وصفاته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (2552) ومسلم (2249).(16/448)
ص -519- ... فتحقيق التوحيد لا يكون إلا بالاحتراس من الألفاظ التي يكون فيها إساءة أدب مع ربوبية الله –جل وعلا- أو مع أسماء الله –جل وعلا- وصفاته، ولهذا عقد المؤلف هذا الباب فقال: "باب لا يقول عبدي وأمتي".
عبودية البشر لله –جل وعلا- عبودية حقيقية، وإذا قيل: هذا عبد الله، فهو عبد لله –جل وعلا- إما قهراً أو اختياراً، فكل من في السماوات والأرض عبد لله –جل وعلا- كما قال جل وعلا: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم: 93-95]. فعبودية الخلق لله –جل وعلا- ظاهرة، لأنه هو الرب، وهو المتصرف، وهو خالق الخلق، وهو المدبر لشؤونهم، فالله –جل وعلا- هو المتفرد بذلك سبحانه، فإذا قال الرجل لرقيقه: هذا عبدي، وهذه أمتي، كان فيه نسبة عبودية أولئك له، وهذا فيه منافاة لكمال الأدب الواجب مع الله –جل وعلا- ولهذا كان هذا اللفظ غير جائز عند كثير من أهل العلم، ومكروه عند طوائف آخرين.
وسبب النهي عن لفظ: (عبدي وأمتي) ما ذكرنا من وجوب تعظيم الربوبية، وعدم انتقاص عبودية الخلق لله جل وعلا.
في الصحيح عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضئ ربك،، وليقل سيدي ومولاي، ولا يقل(16/449)
ص -520- ... أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي" هذا النهي في هذا الحديث اختلف فيه أهل العلم على قولين:
الأول: أنه للتحريم؛ لأن النهي الأصل فيه للتحريم إلا إذا صرفه عن ذلك الأصل صارف.
وقال آخرون: النهي للكراهة، وذلك لأنه من جهة الأدب، ولأنه جاء في القرآن قول يوسف عليه السلام: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: 42] ولأن الربوبية هنا المقصود بها ما يناسب البشر، فرب الدار، ورب العبد هو الذي يملك أمره في هذه الدنيا، فلهذا قالوا: النهي للكراهة وليس للتحريم، ومع ما جاء في بعض الأحاديث من تجويز إطلاق بعض تلك الألفاظ.
قوله: "وليقل: سيدي ومولاي" السيادة مع كون الله –جل وعلا- هو السيد، لكن السيادة بالإضافة لا بأس بها، لأن للبشر سيادة تناسبه.
"ومولاي" المولى يأتي على معان كثيرة، ومخاطبة البشر بقول: "مولاي" أجازه طائفة من أهل العلم، بناء على هذا الحديث، وقد جاء في صحيح مسلم النهي عن أن يقول: مولاي، فقال: "لا تقولوا مولاي إنما مولاكم الله" أو نحو ذلك، وهذا الحديث أعلّه بعض أهل العلم بأنه نقل بالمعنى، فهو شاذ من جهة اللفظ، ومعارض لهذا الحديث الذي هو نص في إجازة ذلك، فالصحيح جواز إطلاق لفظ "مولاي" و"سيدي ونحو(16/450)
ص -521- ... ذلك لأن المراد بالسيادة هنا سيادة تناسب البشر، وكذلك قول: مولاي مراد به ما يناسب البشر من ذلك، فليس اللفظان في مقام الربوبية المطلقة، لأنها أعظم درجة، ولأن العبودية لا تكون إلا لله –جل وعلا- وإطلاق ذلك على البشر لا يجوز.
فتحصل من ذلك: أن هذه الألفاظ –كما ذكرنا- يجب أن يُحترز فيها، وأن يتجنب ما ينفي الأدب مع مقام ربوبية الله –جل وعلا- وأسمائه سبحانه وتعالى، وعليه فلا يكون جائزاً أن يقول: عبدي وأمتي، أو أن يقول: أطعم ربك، وضئ ربك، أو نحو ذلك.
هذا كله مختص بالتعبيد أو الربوبية للمكلفين، أما إضافة الربوبية إلى غير المكلف فلا باس بها؛ لأن حقيقة العبودية لا تتصور فيها كأن تقول: رب الدار، ورب المنزل، ورب المال، ونحو ذلك، فإن الدار، والمنزل، والمال، ليست بأشياء مكلفة بالأمر والنهي، فلهذا لا تنصرف الأذهان أو يذهب القلب إلى أن ثمة نوعاً من عبودية هذه الأشياء لمن أضيفت إليه بل إن ذلك معروف أنه إضافة ملك؛ لأنها ليست مخاطبة بالأمر والنهي، وليس يحصل منها خضوع أو تذلل.(16/451)
ص -522- ... "باب لا يرد من سأل بالله"
عن ابن عمر –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل بالله فأعطوه، ومن استعاذ بالله فأعيذوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تروا أنكم كافأتموه".(1). رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح.
فيه مسائل:
الأولى: إعاذة من استعاذ بالله.
الثانية: إعطاء من سأل بالله.
الثالثة: إجابة الدعوة.
الرابعة: المكافأة على الصنيعة.
الخامسة: أن الدعاء مكافأة لمن لم يقدر إلا عليه.
السادسة: قوله: "حتى تروا أنكم قد كافأتموه".
الشرح:
هذا الباب مع الباب الذي قبله ومع ما سبقه –كما ذكرنا- كلها في تعظيم الله –جل وعلا- وربوبيته وأسمائه وصفاته، لأن تعظيم ذلك من إكمال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أبو داود (1672) النسائي5/82 وصححه النووي في "رياض الصالحين" (653).(16/452)
ص -523- ... التوحيد ومن تحقيق التوحيد، ومن سأل بالله –جل جلاله- فقد سأل بعظيم، ومن استعاذ بالله فقد استعاذ بعظيم، بل استعاذ بمن له هذا الملكوت، وله تدبير الأمر –جل وعلا- فكيف يرد من جعل مالك كل شيء وسيلة؟ ولهذا كان من تعظيم الله التعظيم الواجب ألا يردّ أحد سأل بالله –جل وعلا- فإذا سأل سؤالاً وجعل الله –جل وعلا- هو الوسيلة فإنه لا يجوز أن يرد تعظيماً لله –جل وعلا- والذي في قلبه تعظيم الله –جل وعلا- ينتفض إذا ذكر الله كما قال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [لأنفال: 2] بمجرد ذكر الله تجل القلوب لعلمهم بالله –جل وعلا- وما يستحق، وعلمهم بتدبيره وملكوته، وعظمة صفاته وأسمائه –جل وعلا- فإذا سأل أحد بالله فإن قلب الموحد لا يكون رادًا له، أنه معظّم لله مجلٌ لله –جل وعلا- فلا يرد أحداً جعل وسيلته إليه رب العزة سبحانه وتعالى.
ومن أهل العلم من قال: "إن السائل بالله قد تجب إجابته ويحرم رده، وقد لا يجب ذلك" وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية واختيار عدد من المحققين بعده، وهو القول الثالث في المسألة.
وأما القول الأول: فهو أن من سأل بالله حرُم أن يرد مطلقاً.
والقول الثاني: أن من سأل بالله استحب إجابته، وكره رده.
ومراد شيخ الإسلام رحمه الله بحالة الوجوب: أن يتوجه السؤال لمعين في أمر معين، يعني: ألا يكون السائل عددا من الناس بالله، ليحصل على شيء، فلهذا لم يدخل فيه السائل الفقير الذي يأتي فيسأل هذا ويسأل هذا(16/453)
ص -524- ... كما لم يدخل فيه من يكون كاذبا في سؤاله، أما إذا لم يتوجه لمعين في أمر معين، فإنه لا يجب عليه أن يؤتيه، ويجوز أن يرد سؤاله، وعلى هذا التفصيل يكون للمسألة ثلاثة أحوال:
حال يحرم رد السائل، وحال يكره فيها رد السائل، وحال يباح فيها رد السائل بالله.
فيحرم رد السائل بالله إذا توجه لمعين في أمر معين، كما إذا خصّك بهذا التوجه، وسألك بالله أن تعينه وأنت قادر على أن تؤتيه مطلوبه.
ويستحب إذا كان التوجه ليس لمعين، كأن يسأل أشخاصاً كثيرين، ويباح إذا كان من سأل بالله يعرف منه الكذب.
قوله: "باب لا يرد من سأل بالله" فيه عموم لأجل الحديث الوارد.
"عن ابن عمر –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل بالله فأعطوه" وإنما وجب إعطاؤه تعظيما لله جل وعلا.
"ومن استعاذ بالله فأعيذوه" من استعاذ منك بالله فيجب أن تعيذه، فمن قال: أعوذ بالله منك، تعظيما لله –جل وعلا- تجيبه إلى ذلك وتتركه؛ لأن من استعاذ بالله فقد استعاذ بأعظم مستعاذ به، وفي قصة الجَوْنِيَّة التي دخل عليها النبي عليه الصلاة والسلام واقترب منها، قالت له: أعوذ بالله منك، فابتعد عنها عليه الصلاة والسلام وقال: "لقد استعذتِ بمعاذٍ، ألحقي بأهلكِ".(1). فلما استعاذت بالله منه تركها عليه الصلاة والسلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (5254).(16/454)
ص -525- ... قوله: "ومن دعاكم فأجيبوه" عامة أهل العلم على أن هذا مخصوص بدعوة العرس، وأما سائر الدعوات فهي على الاستحباب.
قوله: "ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه" من صنع إليك معروفاً فكافئه، ولتكن مكافأته من جنس معروفه، إن كان معروفه من جهة المال فكافئه من جهة المال، وإن كان معروفه من جهة الجاه فكافئه من جهة الجاه، وهكذا.
وعلاقة هذا الباب بالتوحيد كما قال المحققون: أن الذي صُنع له معروف يكون في قلبه ميل ونوع تذلل وخضوع في قلبه واسترواح لهذا الذي صنع إليه المعروف، ومعلوم أن تحقيق التوحيد لا يتم إلا بأن يكون القلب خالياً من كل ما سوى الله –جل جلاله- وتخليص القلب من ذلك يكون بالمكافأة على المعروف، وأنه إذا أدّى إليك معروفاً فخلّص القلب من رؤية ذلك المعروف بأن ترد إليه معروفه، ولهذا قال: "فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تروا أنكم كافأتموه" لأجل أن يتخلّص القلب من أثر ذلك المعروف، فترى أنك دعوت له بقدرٍ ترجو معه أنك كافأته، وهذا لتخليص القلب مما سوى الله –جل وعلا- وهذه مقامات لا يدركها إلا أرباب الإخلاص، وتحقيق التوحيد جعلنا الله وإياكم منهم.(16/455)
ص -526- ... "باب(1). لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة"
عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يسأل بوجه الله إلا الجنة"(2). رواه أبو داود.
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن أن يسأل بوجه الله إلا غاية المطالب.
الثانية: إثبات صفة الوجه.
الشرح:
هذا باب: "لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة" ومناسبته لكتاب التوحيد ظاهرة في تعظيم صفات الله –جل وعلا- الذاتية والفعلية من تحقيق التوحيد، ومن كمال الأدب والتعظيم لله –جل وعلا- فإن تعظيم الله –جل جلاله- وتعظيم أسمائه وصفاته يكون بأمور كثيرة، منها: ألا يسأل بوجه الله أو بصفات الله –جل جلاله- إلا المطالب العظيمة التي أعلاها الجنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الشيخ –رحمه الله- صنع هذا كصنيع البخاري في صحيحه، والبخاري في صحيحه على ثلاثة أصناف: تارة يضيف فيقول: باب كذا، وتارة يقول: باب، فتقول: باب وتُكْمل، أو تقول: باب وتسكت ثم تكمل الكلام، فهذه ثلاثة أصناف في البخاري جارية في هذا الكتاب.
(2) أخرجه أبو داود (1671) وله شاهد من حديث أبي موسى أخرجه الطبراني في "الدعاء" (2112).(16/456)
ص -527- ... قوله: "لا يُسأل" هذا نفي مضمّن النهي المؤكد، كأنه قال: لا يسأل أحد بوجه الله إلا الجنة، أو لا تسأل بوجه الله إلا الجنة، فعدل عن النهي إلى النفي؛ لكي يتضمن أن هذا منهي عنه وأنه لا يسوغ وقوعه أصلاً، لما يجب من تعظيم الله –جل جلاله- وتعظيم توحيده، وتعظيم أسمائه –جل وعلا- وصفاته.
قوله: "بوجه الله" وجه الله –جل جلاله- صفة ذات من صفاته سبحانه، وهو غير الذات. والوجه في اللغة: ما يواجه به، وهو مجمع أكثر الصفات في اللغة، فالله –جل وعلا- متصف بالوجه على ما يليق بجلاله وعظمته، نثبت ذلك إثباتاً نعلم أصل المعنى، ولكن إكمال المعنى أو الكيفية فإننا نكل ذلك إلى عالمه وإلى المتصف به –جل جلاله- ولكن نثبت على أصل عدم التمثيل والتعطيل، كما قال جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
قوله: "إلا الجنة" الجنة: هي دار الكرامة التي أعدها الله –جل وعلا- للمكلفين من عباده الذين أجابوا رسله، ووحدوه، وعملوا صالحاً، وهي أعظم مطلوب؛ لأن الحصول عليها حصول على أعظم ما يُسرُّ به العبد، فلهذا كان من غير السائغ واللائق بل كان من غير الجائز أن يُسأل الله –جل وعلا- بنفسه أو وجهه أو بصفة من صفاته أو باسم من أسمائه الحسنى إلا أعظم مطلوب، فإن الله –جل وعلا- لا يُسأل بصفاته الأشياء الحقيرة الوضيعة، بل يسأل بها أعظم المطلوب، وذلك لكي يتناسب السؤال مع وسيلة السؤال، وهذا معنى هذا الباب، وهو أن من تعظيم صفات الله –جل(16/457)
ص -528- ... وعلا- أن لا تدعو الله بها إلا في الأمور الجليلة، فلا تسأل الله –جل وعلا- بوجهه أو باسمه الأعظم أو نحو ذلك في أمور حقيرة وضيعة لا تناسب تعظيم ذلك الاسم.
"عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يسأل بوجه الله إلا الجنة" رواه أبو داود" ودلالة الحديث على ما بوّب له الإمام المصنف –رحمه الله تعالى- ظاهرة جلية، وقد قال العلماء هنا: إن وجه الله –جل وعلا- يسأل به الجنة، ولا يجوز أن يسأل به غيرها إلا ما كان وسيلة إلى الجنة، أو كان من الأمور العظيمة التي هي من جنس السؤال بالجنة، أو من لوازم السؤال بالجنة كالنجاة من النار، وكالتثبيت عند السؤال، ونحو ذلك.
فالأمر المطلوب الجنة أو ما قرّب إليها من قول أو عمل، والنجاة من النار أو ما قرب إليها من قول وعمل، فهذا يجوز أن تسأل الله –جل وعلا- إياه متوسلا بوجهه العظيمة سبحانه وتعالى.
وأما غير الوجه من الصفات أو من الأسماء فالأدب أن لا يسأل به إلا المطالب العظيمة، أما المطالب الوضيعة أو غيرها مما ليس بعظيم فلا يتوسل إليها بصفات الله الجليلة العظيمة، بل يقال: اللهم أعطني كذا، الله، أسألك كذا، والله أعلم.(16/458)
ص -529- ... "باب ما جاء في اللو"
وقول الله تعالى: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران: 154] وقوله:{الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران: 168].
في الصحيح عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجزنّ، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان".(1).
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيتين في آل عمران.
الثانية: النهي الصريح عن قول: "لو" إذا أصابك شيء.
الثالثة: تعليل المسألة، بأن ذلك يفتح عمل الشيطان.
الرابعة: الإرشاد إلى الكلام الحسن.
الخامسة: الأمر بالحرص على ما ينفع مع الاستعانة بالله.
السادسة: النهي عن ضد ذلك وهو العجز.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم (2664).(16/459)
ص -530- ... الشرح:
قلب الموحد المؤمن لا يكون محققا مكملاً للتوحيد حتى يعلم أن كل شيء بقضاء الله –جل وعلا- وبقدره، وأن ما فعله سبب من الأسباب، والله –جل وعلا- ماضٍ قدره في خلقه، وأنه مهما فعل فإنه لا يحجز قدر الله –جل وعلا- فإذا كان كذلك كان القلب معظماً لله -جل وعلا- في تصرفه في ملكوته، وكان القلب لا يخالطه تمني أن يكون شيء فات على غير ما كان، وأنه لو فعل كذا لتغير ذلك السابق، بل الواجب أن يعلم أن قضاء الله نافذ، وأن قدر الله ماض، وأن ما سبق من الفعل قد قدره الله –جل وعلا- وقدر نتائجه، فالعبد لا يمكنه أن يرجع إلى الماضي فيغير. وإذا استعمل لفظ (لو) أو لفظ (ليت) وما أشبهها من الألفاظ التي تدل على الندم، وعلى التحسر على ما فات، فإن ذلك يضعف القلب، ويجعله متعلقاً بالأسباب، منصرفاً عن الإيقان بتصريف الله –جل وعلا- في ملكوته، وكمال التوحيد إنما يكون بعدم الالتفات إلى الماضي فإن الماضي الذي حصل إما أن يكون مصيبة أصيب بها العبد فلا يجوز له أن يقول: لو فعلت كذا لما حصل كذا، بل الواجب عليه أن يصبر على المصيبة، وأن يرضى بفعل الله –جل وعلا- ويستحب له الرضى بالمصيبة.
وإذا كان ما أصابه في الماضي معصية فإن عليه أن يسارع في التوبة والإنابة، وأن لا يقول: لو كان كذا لم يكن كذا بل يجب عليه أن يسارع في التوبة والإنابة حتى يمحو أثر المعصية.
فتبين أن ما مضى من المقدّر للعبد معه حالان: إما أن يكون ذلك الذي مضى مصايب، فحالها كما ذكرنا، وإما أن يكون معايب ومعاصي فالواجب(16/460)
ص -531- ... عليه أن يُنيب وأن يستغفر وأن يُقبل على الله –جل جلاله- وقد قال سبحانه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82].
والشيطان يدخل على القلب، فيجعله يسيء الظن بربه –جل وعلا- وبقضائه وبقدره، وإذا دخلت إساءة الظن بالله ضعف التوحيد ولم يحقق العبد ما يجب عليه من الإيمان بالقدر والإيمان بأفعال الله –جل جلاله- ولهذا عقد المؤلف هذا الباب؛ لأن كثيرين يعترضون على القدر من جهة أفعالهم، ويظنون أنهم لو فعلوا أشياء لتغير الحال والله –جل وعلا- قد قدّر الفعل وقدّر نتيجته، فالكل موافق لحكمته سبحانه وتعالى.
وقول الله تعالى: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران: 154] وقوله:{الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران: 168]. تقدم أن قول (لو) في الماضي لا يجوز وأنه محرم ودليل ذلك واضح من الآيتين. ومناسبة الآيتين للباب ظاهرة، وهو أن التحسر على الماضي بالإتيان بلفظ (لو) إنما هو من خصال المنافقين، قال جل وعلا عن المنافقين: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} وقال:{الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} وهذا في قصة غزوة أحد كما هو معروف، فهذا من كلام المنافقين، فيكون استعمال (لو) من خصال النفاق، وهذا يدل على حرمتها.(16/461)
ص -532- ... "في الصحيح عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- قال: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجزنّ، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان"
وجه مناسبة هذا الحديث: قوله: "وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا" و(لو) هنا كانت على الماضي، وقوله: (فلا تقل) نهي، والنهي للتحريم؛ وهذا لأنه سوء ظن؛ ولأنه فتح عمل الشيطان، فالشيطان يأتي المصاب فيغريه بـ(لو) حتى إذا استعملها ضعف قلبه وعجز، وظن أنه سيغير من قدر الله شيئاً، وهو لا يستطيع أن يغير من قدر الله شيئاً، بل قدر الله ماضٍ، ولهذا أرشده عليه الصلاة والسلام أن يقول: "قدّر الله وما شاء فعل" لأن ذلك راجع إلى قدره وإلى مشيئته، هذا كله من النهي والتحريم راجع إلى ما كان من استعمال (لو) أو (ليت) وما شابهما من الألفاظ في التحسر على الماضي، وتمني أن لو فعل كذا حتى لا يحصل له ما سبق، كل ذلك فيما يتصل بالماضي.
أما المستقبل كأن يقول: لو يحصل لي كذا وكذا في المستقبل، فإنه لا يدخل في النهي؛ لأنها حينئذ تكون للتعليق في المستقبل، وترادف (إن).
فاستعمال (لو) في المستقبل الأصل فيه الجواز إلا إن اقترن بذلك اعتقاد أن فعله سيكون حاكماً على القدر كاعتقاد بعض الجاهليين، أنه إن حصل لي كذا فعلت كذا تكبراً وأنفة واستعظاماً لفعلهم وقدرتهم، فإن هذا يكون من المنهي؛ لأن فيه تجبراً وتعاظما، والواجب على العبد أن يكون ذليلاً؛ لأن القضاء والقدر ماضٍ، وقد يحصل له الفعل ولكن ينقلب على عقبيه كحال(16/462)
ص -533- ... الذي قال الله –جل وعلا- فيه: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ} [التوبة: 75-77] فإنهم قالوا: لئن كان كذا وكذا وكذا لنفعلن كذا وكذا، فلما أعطاهم الله –جل وعلا- المال بخلوا به وتولوا وهم معرضون، فهذا فيه نوع تحكم على القدر وتعاظُم، فاستعمال (لو) في المستقبل إذا كانت في الخير مع رجاء ما عند الله بالإعانة على أسباب الخير فهذا جائز، أما إذا كان على وجه التجبر والاستعظام فإنه لا يجوز؛ لأن فيه نوع تحكم على القدر.(16/463)
ص -534- ... "باب النهي عن سب الريح"
عن أبي بن كعب –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح، وشر ما فيها، وشر ما أمرت به"(1). صححه الترمذي.
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن سب الريح.
الثانية: الإرشاد إلى الكلام النافع إذا رأى الإنسان ما يكره.
الثالثة: الإرشاد إلى أنها مأمورة.
الرابعة: أنها قد تؤمر بخير،وقد تؤمر بشر.
الشرح:
الريح مخلوق من مخلوقات الله مُسخّر، وهي واحدة الرياح، يجريها الله –جل وعلا- كما يشاء، وهي –كالدهر- لا تملك شيئاً، ولا تدبر أمراً، فسبّ الريح كسبّ الدهر يرجع في الحقيقة إلى أذية الله –جل وعلا- لأن الله هو الذي يصرِّف الريح كيف يشاء، فيجعل الريح تأتي بأمر مكروه، ليذكر العباد بالتوبة والإنابة، ويذكر بمعرفة قدرته عليهم، وأنه لا غنى لهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه الترمذي (2252) وقال: حديث حسن صحيح.(16/464)
ص -535- ... عنه –جل وعلا- طرفة عين. وهو الذي يجعل الرياح بشراً، فيسخِّرها –جل وعلا- لما فيه مصلحة العباد.
فهذا الباب عقده لبيان تحريم سبّ الريح، كما عقد ما قبله لبيان أن سبّ الدهر لا يجوز ومحرم؛ لأنه أذية لله –جل وعلا- وهذا الباب من جنس ذاك، لكن هذا يكثر وقوعه، فأفرده لكثرة وقوعه، وللحاجة إلى التنبيه عليه.
قوله: "باب النهي عن سبّ الريح" النهي للتحريم، وسب الريح يكون بشتمها أو بلعنها، وكما ذكرنا في باب الدهر، فإنه ليس من سبها أن توصف بالشدة، كقول الله جل وعلا: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً}(الحاقة: 6-7] فهذا وصف للريح بالشدة، ومثل ذلك وصفها بالأوصاف التي يكون فيها شر على من أتت عليه كقوله: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات:42] فمثل هذا ليس من المنهي عنه.
"عن أبي بن كعب –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أمرت به" هذا يدل على أن الريح يكون فيها خير، وتؤمر وتنهى، والله –جل وعلا- يرسل الرياح كيف يشاء، ويصرفها أيضاً –جل وعلا- عمن يشاء، فهي مسخّرة بأمره –جل وعلا- والملائكة هي التي تصرِّف الريح بأمره –جل وعلا- فللريح ملائكة تصرفها كيف شاء ربنا(16/465)
ص -536- ... -جل وعلا وتقدس وتعاظم- فيكون فيها خير أو يكون فيها عذاب، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: "إذا رأيت ما تكرهون فقولوا..." فأرشدهم إلى القول الآتي.
وكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا رأى شيئاً في السماء أقبل أو أدبر، ودخل وخرج، ورُئي ذلك في وجهه حتى تمطر السماء، فيسرّى عنه، ويُسرّ عليه الصلاة والسلام، قالت له عائشة: يا رسول الله لم ذاك؟ قال: "ألم تسمعي لقول أولئك –أو كما قال عليه الصلاة والسلام: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 24-25](1).
فالخوف من الله –جل جلاله- إذا ظهرت هذه الحوادث أو التغيرات في السماء أو في الأرض واجب، والله –جل وعلا- يتعرف إلى عباده بالرخاء، كما يتعرف إليهم بالشدة، حتى يعرفوا ويعلموا ربوبيته وقهره وجبروته، ويعلموا حلمه وتودده ورحمته أيضاً لعباده.
فعلى العبد إذا رأى ما يكره أن يتضرع إلى الله، ويستغيث به، وأن يسأله بقوله:"اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح، وشر ما فيها، وشر ما أمرت به " صححه الترمذي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (3206) ومسلم (899).(16/466)
ص -537- ... أسأل الله –جل وعلا- أن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وأن يجعل وسيلتنا التوحيد، وأن يجعل وسيلتنا إليه الإخلاص، فإنا مذنبون، ولولا رحمة الله لهلكنا، اللهم فاغفر جماً، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(16/467)
ص -538- ... "باب قول الله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران: 154]
وقوله: تعالى: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [الفتح: 6].
قال ابن القيم في الآية: "فسّر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وفسّر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته، ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله –صلى الله عليه وسلم- وأن يظهره الله على الدين كله، وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح، وإنما كان هذا ظن السوء؛ لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه، وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق، فمن ظن أنه يُديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة، فذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار.
وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم ويما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله، وأسماءه وصفاته، وموجب حكمته وحمده، فليعتن اللبيب الناصح لنفسه(16/468)
ص -539- ... بهذا، وليتب إلى الله، وليستغفره من ظنّه بربه ظن السوء، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنّتا على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم؟.
فإن تنجُ منها تنج من ذي عظيمة ... وإلا فإني لا إخالك ناجيا
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية آل عمران.
الثانية: تفسير آية الفتح.
الثالثة: الإخبار بأن ذلك أنواع لا تحصر.
الرابعة: أنه لا يسلم من ذلك إلا من عرف الأسماء والصفات وعرف نفسه.
الشرح:
مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد: أن الله –جل وعلا- موصوف بصفات الكمال، وله –جل وعلا- أفعال الحكمة، وأفعال العدل، وأفعال الرحمة والبر، فهو سبحانه كامل في أسمائه، كامل في صفاته، كامل في ربوبيته، ومن كماله في ربوبيته وفي أسمائه وصفاته أنه لا يفعل الشيء إلا لحكمة بالغة، والحكمة هي: أنه –جل وعلا- يضع الأمور في مواضعها التي توافق الغايات المحمودة منها، وهذا دليل الكمال. فالله –جل وعلا- له صفات الكمال وله نعوت الجلال والجمال، فلهذا وجب لكماله –جل وعلا- أن يُظنَّ به ظن(16/469)
ص -540- ... الحق، وأن لا يُظن به ظن السوء، وأن يعتقد فيه ما يجب لجلاله –جل وعلا- من تمام الحكمة، وكمال العدل، وكمال الرحمة، وكمال أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى، فالذي يظن به –جل وعلا- أنه يفعل الأشياء لا عن حكمة فإنه قد ظن به ظن النقص، وهو ظن السوء الذي ظنه أهل الجاهلية، فظن غير الحق بالله تعالى مناف للتوحيد، وقد يكون منافيا لكمال التوحيد، فمنه ما يكون صاحبه خارجاً عن ملة الإسلام أصلاً كظن غير الحق بالله تعالى في بعض مسائل القدر –كما سيأتي ومنه ما هو مناف لكمال التوحيد، كعدم الإيمان بالحكمة، أو بأفعال الله –جل وعلا- المنوطة بالعلل التي هي منوطة بحكمته سبحانه البالغة، ولهذا قال جل وعلا: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149] في الرد على القدرية المشركة، وقد قال أيضاً جل وعلا: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر:5] فالله –جل وعلا- موصوف بكمال الحكمة، وكمال الحمد على أفعاله؛ لأن أفعال الله –جل وعلا- قسمان: أفعال ترجع إلى الحكمة والعدل، وأفعال ترجع إلى الفضل والنعمة والرحمة والبر بالخلق، فالله –جل وعلا- يفعل هذا وهذا، وحتى أفعاله التي هي أفعال بر وإحسان هي منوطة بالحكم العظيمة، وكذلك الأفعال التي قد يظهر للبشر أنها ليست في صالحهم أو ليست موافقة للحكمة، فإن ظنّ الحق بالله –جل وعلا- أن يُظن به، وأن يُعتقد أنه ليس ثَمَّ شيء من أفعاله إلا وهو موافق لحكمته –جل وعلا- العظيمة، إذ هو العزيز القهار، الفعال لما يريد.(16/470)
ص -541- ... فالواجب –تحقيقا للتوحيد- أن يظن العبد بالله –جل وعلا- ظن الحق، وأما ظن السوء فهو ظن الجاهلية الذي مناف هو لأصل التوحيد في بعض أحواله، أو مناف لكمال التوحيد، فترجم المؤلف –رحمه الله- بهذا الباب ليبين أن ظن السوء بالله –جل وعلا- من خصال أهل الجاهلية، وهو مناف لأصل التوحيد، أو مناف لكماله بحسب الحال.
"باب قول الله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران: 154]" الظن يطلق ويراد به الاعتقاد، وقد يراد به ما يسبق إلى الوهم، يعني: ما يسبق إلى الذهن، فهم يعتقدون، أو يسبق إلى أذهانهم –بما معهم من الشرك- أن الله –جل وعلا- ليست أفعاله أفعال حق، والله سبحانه هو الحق، وأفعاله كلها أفعال الحق، وذلك الظن هو ظن الجاهلية، فكل من ظن بالله غير الحق فقد ظن ظن الجاهلية، بمعنى أنه ظن بالله –جل وعلا- غير الكمال، فهذا هو ظن الجاهلية. وأما ظنّ أهل التوحيد والإسلام فإنهم يظنون، يعني: يعتقدون ويعلمون ويسبق إلى أذهانهم في أي فعل يحصل لهم أن الله –جل وعلا- موصوف بالكمال وبالحكمة البالغة، فسّر ذلك –جل وعلا- بقوله: {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} وهذا فيه إنكار للحكمة، أو إنكار للقدر، {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} وهذا في الرد على هؤلاء المنافقين أو المشركين.(16/471)
ص -542- ... "وقوله: تعالى: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [الفتح: 6]" يؤخذ من كلام ابن القيم الذي أورده المصنف أن السلف فسروا هذا الظن السوء بأحد ثلاثة أشياء وكلها صحيح:
الأول: إنكار القدر.
الثاني: إنكار الحكمة.
الثالثة: إنكار نصر الله –جل وعلا- لرسوله صلى الله عليه وسلم، أو لدينه، أو لعباده الصالحين، فهذه ثلاثة أشياء، ووجه كون إنكار القدر ظناً بالله ظن السوء أن تقدير الأمور قبل وقوعها من آثار عزة الله –جل وعلا- وقدرته، فإن العاجز هو الذي تقع معه الأمور استئنافاً عن غير تقدير سابق، وأما الذي لا يحصل معه أمر حتى يقدره قبل أن يوقعه، فيقع على وفق ما قدّر، فهو ذو الكمال، وهو ذو العزة، وهو الذي لا يغالب في ملكوته، ولهذا قال الشاعر في وصف رجل كامل:
لأنت تفري ما خلقتَ ... وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
الخلق هنا بمعنى التقدير، يعني: لأنت تقطع ما قدّرت، وبعض القوم –وهم الناقصون إما لعدم قدرتهم، أو لعدم عزتهم، أو لجهلهم- يخلق، يعني: يقدر الأشياء، ثم يفري، أي لا يستطيع أن يقطعها على وفق ما يريد.
فإنكار القدر ظنٌّ بالله –جل وعلا- ظن السوء؛ لأن فيه نسبة النقص لله –جل وعلا- والله –جل وعلا- هو الكامل في أسمائه، الكامل في صفاته –جل وعلا- الذي يجير ولا يجار عليه، والذي إليه الأمر كله، كما قال هنا:(16/472)
ص -543- ... {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} فلهذا كان كل ما يحصل من الرب –جل وعلا- في بريته موافقاً لقدره السابق الذي هو دليل كمال حكمته، وعلمه، وخلقه، وعموم مشيئته.
أما التفسير الثاني: فهو إنكار الحكمة، وحكمة الله –جل وعلا- ثابتة بالكتاب والسنة وبإجماع السلف، واسم الله (الحكيم) مشتمل على صفة الحكمة، فإنه –جل وعلا- حكيم بمعنى: حاكم، وحكيم، بمعنى: محكم للأمور، وحكيم بمعنى: أنه ذو الحكمة البالغة، فهذه ثلاثة تفسيرات لاسم الله (الحكيم) وكلها صحيحة، وكلها يستحقها الله –جل وعلا- فإنه –جل وعلا- حكيم بمعنى: حاكم، وحكيم بمعنى: محكم كما قال: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُه} [هود: 1] وقال: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: 3] لأجل إحكامه، وقال سبحانه وتعالى أيضاً: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101] ونحو ذلك من دليل إحكامه –جل وعلا- لما خلق.
والثالث: أنه ذو الحكمة، والحكمة في صفة الله –جل وعلا- تفسر –كما تقدم- بأنها وضع الأمور في مواضعها الموافقة للغايات المحمودة منها، ولهذا قال أهل السنة والجماعة، أهل الأثر الفقهاء بالكتاب والسنة: إن أفعال الله –جل وعلا- معللة، وكل فعل يفعله الله –جل وعلا- فله علة من أجلها فعل، وهذه العلة هي حكمته سبحانه وتعالى، فإن أفعال الله –جل وعلا- منوطة بالعلل، وهذا أنكره المعتزلة؛ لأنهم قدرية، وأنكره الأشاعرة؛ لأنهم جبرية، فقالوا: إن أفعال الله –جل وعلا- ليست مرتبطة بالحكم، وهو يفعل لا عن حكمة، وهذا سوء ظن بالله جل وعلا،(16/473)
ص -544- ... ولهذا أورد الشيخ –رحمه الله- هذا الباب ليبين أن تحقيق التوحيد، وتحقيق كمال التوحيد أن توقن بالحكمة البالغة لله –جل وعلا- ومن نفى الحكمة في أفعال الله فهو مبتدع، توحيده قد انتفى عنه كماله؛ لأن بدعته شنيعة، وكل البدع تنفي كمال التوحيد، ومنها ما ينفي أصل التوحيد.
والتفسير الثالث: في ظن الجاهلية وأهل النفاق ظن السوء بالله –جل وعلا- أن الله –جل وعلا- لا ينصر رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن الله –جل وعلا- لا ينصر كتابه، أو أنه يجعل رسوله أو دينه في اضمحلال حتى يذهب ذلك الدين، هذا ظن سوء بالله –جل وعلا- ولهذا كان من براهين النبوات عند أهل السنة: أنه لم يدع أحد النبوة وهو كاذب في دعواه إلا ويخذل ويضمحل أمره، ومن براهينها: أن كل نبي قال: إنه مرسل من عند الله –جل وعلا- أيّد بالآيات والبينات، ونُصر على عدوه، وجُعل دينه وأهل دينه في عزة على من سواهم، كما قال جل وعلا: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (غافر:51) وقال جل وعلا: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171-173] فظن أهل الجاهلية أن الخير أو الدين سيضمحل، وأنهم إذا بذلوا إطفاء ذلك الأمر وحاربوه بكل ما أوتوا من وسيلة وقاوموهم فإنه سينتهي، وهذا مع كونه عملا محرماً لما يشتمل عليه من الظلم، فإنه أيضاً سوء ظن بالله –جل وعلا- وغرور بالقوة وبالنفس، والله –جل وعلا- ناصر رسله، والله –جل وعلا- ناصر عباده المؤمنين، ولكن(16/474)
ص -545- ... قد يبتلي الله –جل وعلا- المؤمنين بعدم النصرة والظهور زمناً طويلاً قد يبلغ مئات السنين، كما حصل في قصة نوح عليه السلام {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاما} [العنكبوت 14] ثم بعد ذلك نصره الله –جل وعلا- وهذا الظن السيئ الذي يحصل –كما ذكر ابن القيم- من كثير من أهل الصلاح، بل من كثير من الناس، بل قد يحصل من بعض المنتسبين إلى العلم، وسبب حدوث ذلك الظن السيئ في القلوب عدم العلم بما يستحقه الله –جل وعلا- وما أوجبه –جل وعلا- من الصبر والأناة ونحو ذلك من الواجبات.
فالمسألة متصل بعضها ببعض، فالذي يخالف ما أمر الله –جل وعلا- به شرعاً فيما يتصل بنصرة الدين، فإنه يقع في سوء ظن بالله –جل جلاله- وهذا مما ينافي كمال التوحيد الواجب.
ولهذا يجب على المؤمن أن يتحرز كثيراً، وأن يحترس من سوء الظن بالله –جل وعلا- فإن بعض الناس قد ينال الشيء فيرى أنه يستحق أكثر منه، وقد يحصل له الشيء بقضاء الله وبقدره فيظن أنه لا يستحق ذلك الشيء، أو أن الذي ينبغي أن يصاب به هو غيره، فينظر إلى فعل الله –جل وعلا- قضائه وقدره على وجه الاتهام، وقلَّ من يسلم باطناً وظاهراً من ذلك، فكثيرون قد يسلمون ظاهراً، ولكن في الباطن يقوم بقلوبهم ظن الجاهلية، واعتقاد السوء، ولهذا قال جل وعلا في الآية التي في صدر الباب: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} والظن محله القلب، فلهذا يجب على المؤمن أن يخلّص قلبه من كل ظن بالله غير الحق، وأن يتعلم أسماء الله –جل وعلا- وصفاته، وأن(16/475)
ص -546- ... يتعلم آثار ذلك في ملكوت الله، حتى لا يقوم بقلبه إلا أن الله –جل جلاله- هو الحق، وأن فعله حق، حتى ولو كان في أعظم خطب ولو أصيب بأكبر مصيبة، أو أهين بأعظم إهانة، فإنه يعتقد أن فيما أصابه حكمة لتمام ملك الله –جل وعلا- وحكمته، وأنه يتصرف في خلقه كيف يشاء، وأن العباد مهما بلغوا فإنهم يظلمون أنفسهم، والله –جل وعلا- يستحق الإجلال والتعظيم، فخلّص قلبك -أيها المسلم، وخاصة طالب العلم- من كل ظن سوء بالله –جل وعلا- فلا تظنن في أمر قدّر الله وجوده أن غيره أفضل منه، وأن عدم حصوله أصلح، ولا في أمر قدّر الله عدم كونه أن وجوده أولى، فإن كل ذلك سوء ظن بالله –جل وعلا- ولهذا قال العلماء في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم والحسد، فإنه يأكل الحسنات، كما تأكل النار الحطب"(1). سبب ذلك أن الحاسد ظَنَّ أن من أعطاه الله –جل وعلا- هذه النعمة فإنه لا يستحقها، فحسده وتمنى زوالها عنه، فصار في ظن سوء بالله جل وعلا، فلهذا أكل ظنُّه حسناته، كما أكلت النار الحطب.
نسأل الله –جل وعلا- السلامة والعافية من أن نظن بالله –جل وعلا- غير الحق، ونسأله أن يجعلنا من المعظمين له، ومن المجلين لأمره ونهيه، المعظمين لحكمته سبحانه وتعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أبو داود (4903).(16/476)
ص -547- ... "باب ما جاء في منكري القدر"
وقال ابن عمر: "والذي نفس ابن عمر بيده لو كان لأحدهم مثل أحد ذهباً، ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر" ثم استدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته وكتبه، ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره".(1).
وعن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه: "يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فقال ربّ وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة" يا بني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من مات على غير هذا فليس مني".(2). وفي رواية لأحمد: "إن أول ما خلق الله تعالى القلم فقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة".(3). وفي رواية لابن وهب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار".(4). وفي المسند
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم (8).
(2) أخرجه أبو داود (4700).
(3) أخرجه أحمد5/317، والترمذي (2156) و(3316).
(4) أخرجه ابن وهب في "القدر" (26) وابن أبي عاصم في "السنة" (111).(16/477)
ص -548- ... والسنن عن ابن الديلمي قال: "أتيت أبي بن كعب فقلت: في نفسي شي من القدر، فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي، فقال: "لو أنفقت مثل أحد ذهباً ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو متَّ على غير هذا لكنت من أهل النار" قال: "فأتيت عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت، فكلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم".(1). حديث صحيح رواه الحاكم في صحيحه.
فيه مسائل:
الأولى: بيان فرض الإيمان بالقدر.
الثانية: بيان كيفية الإيمان به.
الثالثة: إحباط عمل من لم يؤمن به.
الرابعة: الإخبار أن واحداً لا يجد طعم الإيمان حتى يؤمن به.
الخامسة: ذكر أول ما خلق الله.
السادسة: أنه جرى بالمقادير في تلك الساعة إلى قيام الساعة.
السابعة: برائته صلى الله عليه وسلم ممن لم يؤمن به.
الثامنة: عادة السلف في إزالة الشبهة بسؤال العلماء.
التاسعة: أن العلماء أجابوه بما يزيل شبهته، وذلك أنهم نسبوا الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد5/182 و185 و189 وأبو داود (4699) وابن ماجه (77).(16/478)
ص -549- ... الشرح:
هذا "باب ما جاء في منكري القدر" ومناسبة هذا الباب للذي قبله أن إنكار القدر سوء ظن بالله –جل وعلا- ويكون هذا الباب كالتفصيل لما اشتمل عليه الباب الذي قبله.
ومناسبته لكتاب التوحيد ظاهرة، وهي أن الإيمان بالقدر واجب، ولا يتم توحيد العبد حتى يؤمن بالقدر، وإنكار القدر كفر بالله –جل وعلا- ينافي أصل التوحيد كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: "القدر نظام التوحيد، فمن كذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده". يعني أن الإيمان بالقدر هو النظام، أي السلك الذي تجتمع وتنظم فيه مسائل التوحيد حتى يقوم عقدها في القلب، فمن كذب بالقدر يكون قد قطع السلك، فنقض ذلك التكذيب أمور التوحيد، وهذا ظاهر، فإن أصل الإيمان أن يؤمن بالأركان الستة التي منها الإيمان بالقدر، كما ذكر ذلك الشيخ في حديث ابن عمر.
والقدر في اللغة: هو التقدير كما هو معروف، وهو وضع الشيء على نحو ما بما يريده واضعه، يقال قدر الشيء تقديرا، وقدره قدراً وقدراً، وفي العقيدة عرفه بعض أهل العلم بقوله: "إن القدر هو علم الله السابق بالأشياء، وكتابته لها في اللوح المحفوظ، وعموم مشيئته –جل وعلا- وخلقه للأعيان والصفات القائمة بها". وهذا التعريف صحيح؛ لأنه يشمل مراتب القدر الأربع. وهذه المراتب على درجتين:
الدرجة الأولى: ما يسبق وقوع المقدر، وذلك مرتبتان: الأولى: الإيمان بالعلم السابق، والثانية: الإيمان بكتابة الله –جل وعلا- لعموم الأشياء، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله قدر مقادير الخلق قبل(16/479)
ص -550- ... أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة" فقوله: "قدر مقادير الخلق" يعني: كتبها.
والدرجة الثانية: ما يقارن وقوع المقدر، فهذا له مرتبتان: الأولى منهما: هي مرتبة عموم المشيئة، فإن الله –جلا- وعلا ما شاءه كان، وما لم يشأ لم يكن، والعبد لا يشاء شيئاً إلا إذا كان الله –جل وعلا- قد شاءه، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [الإنسان:30] وقال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] فمشيئة العبد تابعة لمشيئة الله جل وعلا. والمرتبة الثانية: وهي الإيمان بأن الله –جل وعلا- خالق لكل شيء، للأعيان وللصفات التي تقوم بالأعيان، أما الأعيان والذوات فإن الله –جل وعلا- خالقها باتفاق أهل الإسلام، يعني: الله –جل وعلا- هو الخالق للإنسان، وللحيوان، وللسماء وللأرض، وكذلك الإيمان بأن الصفات التي تقوم بتلك الأعيان الله –جل وعلا هو الخالق لها، ومن ذلك أفعال العباد، ففعل العبد داخل في عموم خلقه –جل وعلا- قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] وكلمة {شَيْءٍ} تعرّف بأنها ما يصح أن يعلم، فكل ما يصح أن يعلم يقال عنه شيء؛ فلهذا يدخل في عموم قوله: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} العباد وأفعال العباد، فهذه أربع مراتب. وإنكار القدر الذي بوّب عليه الشيخ –رحمه الله- يصدق على إنكار أي مرتبة من هذه المراتب، ولا يقال عن(16/480)
ص -551- ... أحد إنه مؤمن بالقدر إلا إذا سلّم بها جميعاً، وآمن بها جميعاً، لدلالة النصوص على ذلك.
فمن منكري القدر: القدرية الغلاة، وهم نفاة القدر الذين أنكروا العلم السابق، فهؤلاء كفار، ينافي فعلهم أصل التوحيد، فمن أنكر العلم السابق، فقد أنكر القدر إنكاراً انتفى معه أصل التوحيد، وكذلك من ينكر الكتابة، فإن إنكار الكتابة السابقة –مع العلم بالنصوص الدالة عليها- مناف لأصل التوحيد، ولا يستقيم معه الإيمان.
وأما إنكار المرتبتين الأخيرتين: عموم المشيئة، وعموم الخلق، كإنكار عموم خلق الله للأفعال كما هو مذهب المعتزلة ونحوهم فإنه ينافي كمال التوحيد، ولا يحكم عليهم بالكفر والخروج من الإسلام بذلك، وإن بُدِّعوا، وضُلِّلوا بسببه.
فإنكار القدر منه ما هو كفر مخرج من التوحيد مخرج من الملة، ومنه ما هو دون ذلك، ويكون منافياً لكمال التوحيد، وبهذا يظهر صلة هذا الباب بكتاب التوحيد.
"وقال ابن عمر: "والذي نفس ابن عمر بيده لو كان لأحدهم مثل أحد ذهباً، ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر" وإنما كان كذلك لأن الله –جل وعلا- لا يقبل من مسلم –إذ الإسلام شرط في صحة قبول الأعمال- ومن أنكر القدر، ولم يؤمن بالقدر، فإنه لا يكون مسلماً، فلا يقبل منه عمل –إذاً- ولو أنفق مثل أحد ذهباً حتى يؤمن بالقدر.(16/481)
ص -552- ... "ثم استدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته وكتبه، ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره" وفي قوله: "تؤمن بالقدر خيره وشره" دليل على أن القدر منه ما هو خير، ومنه ما هو شر، أي خير بالنسبة لابن آدم، وشر بالنسبة لابن آدم، فالمكلف قد يكون عليه قدر هو بالإضافة إليه خير، وقد يكون عليه القدر بالإضافة إليه شر، وأما بالنسبة لفعل الله –جل وعلا- فالله –جل وعلا- أفعاله كلها خير؛ لأنها موافقة لحكمته العظيمة، فلهذا جاء في الحديث النبي صلى الله عليه وسلم في ثنائه على ربه: "والشر ليس إليك"(1). فالله –جل وعلا- ليس في فعله شر، فالشر بما يضاف للعبد، فإذا أصيب العبد بمصيبة فهي شر بالنسبة إليه، أما بالنسبة لفعل الله فهي خير؛ لأنها موافقة لحكمة الله –جل وعلا- البالغة، والله –سبحانه وتعالى- له الأمر كله.
"وعن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه: "يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك"(2). وهذا لأن القضاء والقدر قد فُرغ منه، يعني: تقدير الأمور قد فرغ منه، والله –جل وعلا- قد قدّر الأشياء وقدّر أسبابها، فالسبب الذي سيفعله المختار من عباد الله مقدّر، كما أن نتيجته مقدرة، ومن الإيمان بالقدر الإيمان بأن الله –جل وعلا- جعلك مختاراً، وأنك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم (771).
(2) أخرجه أبو داود (4700).(16/482)
ص -553- ... لست مجبوراً، فالقول بالجبر لا يستقيم مع الإيمان بالقدر؛ لأن الإيمان بالقدر إيمان معه الإيمان بأن العبد مختار وليس بمجبر؛ لأن التكليف وقع بذلك.
والجبرية طائفتان: طائفة غلاة، وهم الجهمية، وغلاة الصوفية الذين يقولون: إن العبد كالريشة في مهب الريح، وحركاته حركات اضطرارية، ومنهم طائفة ليست بالغلاة، وهم الأشاعرة ونحوهم الذين يقولون بالجبر في الباطن، وبالاختيار في الظاهر، ويقولون: إن العبد له كسب، وهذا الكسب هو أن يكون العبد في الفعل الذي فعله محلاً لفعل الله –جل وعلا- فيُفعل به، فيكون هو محلاً للفعل، ويضاف الفعل إليه على جهة الكسب، على ما هو معروف في موضعه من التفاصيل في كتب العقيدة المطولة.
"سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فقال ربّ وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة"(1). هذا فيه دليل على مرتبة الكتابة، وقوله: "إن أول ما خلق الله القلم" معناه –على الصحيح عند المحققين- إنه حين خلق الله القلم، فـ(أول) هنا ظرف بمعنى: حين، و(إنَّ) اسمها ضمير الشأن محذوف: إنه أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، يعني: حين خلق الله القلم، قال له: اكتب، فيكون قوله: اكتب هذا من جهة الظرفية، يعني: حين خلق الله القلم، قال له: اكتب.
وأما أول المخلوقات فالعرش سابق في الخلق على القلم، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي في الصحيح: "قدر الله مقادير الخلق قبل أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أبو داود (4700).(16/483)
ص -554- ... يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء".(1).
فقوله صلى الله عليه وسلم: "إن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب" يدل على أنه حين خلق الله القلم، قال له: اكتب،والكتابة كانت بعد الخلق مباشرة، ودل الحديث الثاني على أن العرش كان سابقاً، والماء كان سابقاً أيضاً، ولهذا فالقول الصحيح: أن العرش مخلوق قبل القلم، كما قال ابن القيم –رحمه الله- في النونية:
والناس مختلفون في القلم الذي ... كتب القضاء به من الديان
هل كان قبل العرش أو بعده ... قولان عند أبي العلى الهمذاني
والحق أن العرش قبل لأنه ... عند الكتابة كان ذا أركان
إلى آخر ما في هذا الباب من مباحث في الإيمان بالقدر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم (2653).(16/484)
ص -555- ... "باب ما جاء في المصورين"
عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة" أخرجاه. (1).
ولهما عن عائشة –رضي الله عنها- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: " أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله".(2).
ولهما عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "كل مصوّر في النار يجعل له بكل صورة صوّرها نفس يعذّب بها في جهنم".(3).
ولهما عنه مرفوعاً: "من صوّر صورة في الدنيا كلّف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ".(4).
ولمسلم عن أبي الهياج قال: قال لي علي: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته".(5).
فيه مسائل:
الأولى: التغليظ الشديد في المصورين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (5953) و(7559) ومسلم (2111).
(2) أخرجه البخاري (5954) ومسلم (2106).
(3) أخرجه البخاري (2225) و(5963) و(7042) ومسلم (2110).
(4) أخرجه البخاري (5963) ومسلم (2110).
(5) أخرجه مسلم (969).(16/485)
ص -556- ... الثانية: التنبيه على العلة، وهو ترك الأدب مع الله لقوله: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي".
الثالثة: التنبيه على قدرته وعجزهم لقوله: "فيخلقوا ذرة، أو حبة، أو شعيرة".
الرابعة: التصريح بأنهم أشد الناس عذاباً.
الخامسة: أن الله يخلق بعدد كل صورة نفساً يعذب بها المصور في جهنم.
السادسة: أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح.
السابعة: الأمر بطمسها إذا وُجدت.
الشرح:
هذا "باب ما جاء في المصورين" والمصورون جمع تصحيح للمصور، والمصور: هو الذي يقوم بالتصوير، والتصوير معناه: التشكيل، تشكيل الشيء حتى يكون على هيئة صورة لآدمي أو لغير آدمي من حيوان، أو نبات، أو جماد، أو سماء، أو أرض، فكل هذا يقال له: مصور، إذا كان يُشكل بيده شيئاً على هيئة صورة معروفة، هذا من حيث المعنى، أما من حيث الحكم فسيأتي بيانه إن شاء الله.
قوله: "باب ما جاء في المصورين" يعني: من الوعيد، ومن الأحاديث التي فيها أنهم جعلوا أنفسهم أندادا لله جل وعلا.
ومناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد: أن التوحيد هو ألا يُجعل لله ند فيما يستحقه –جل وعلا- والتصوير تنديد من جهة أن المصور جعل فعله نداً لفعل الله –جل وعلا- ولهذا يدخل الرضى بصنيع المصور في قول الله جل(16/486)
ص -557- ... وعلا: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] إذ ذلك حقيقته أنه جعل هذا المصور شريكاً لله –جل وعلا- في هذه الصفة، مع أن تصويره ناقص، وتصوير الله –جل وعلا- على جهة الكمال، لكن من جهة الاعتقاد لَمَّا جعل هذا المخلوق مصوِّراً، والله –جل وعلا- هو الذي ينفرد بتصوير المخلوقات كما يشاء، كان من كمال التوحيد أن لا يُرضى بالتصوير، وأن لا يفعل أحد هذا الشيء؛ لأن ذلك لله –جل وعلا- فالتصوير من حيث الفعل مناف لكمال التوحيد، وهذا هو مناسبة إيراد هذا الباب في هذا الكتاب.
والمناسبة الثانية له: أن التصوير وسيلة من وسائل الشرك بالله –جل وعلا- والشرك ووسائله يجب صدها وغلقُ الباب؛ لأنها تفضي بالناس إلى الإشراك، فمناسبة الباب لكتاب التوحيد من جهتين:
الجهة الأولى: جهة المضاهاة بخلق الله، والتمثيل بخلق الله –جل وعلا- وبصفته واسمه.
والثانية: أنه وسيلة للإشراك، نعم قد لا يُشرك بالصورة المعينة التي عُملت، ولكن الصورة من حيث الجنس هي وسيلة –ولا شك- من وسائل الإشراك؛ فإن شرك كثير من المشركين كان من جهة الصور، فكان من تحقيق التوحيد ألا تُقرر الصور لأجل أن الصورة وسيلة من وسائل المشركين في عباداتهم.
"عن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو(16/487)
ص -558- ... ليخلقوا شعيرة" أخرجاه" هذا فيه معنى وفيه تمثيل، أما المعنى هو قوله: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي" فسبب الظلم أن العبد اعتدى، فأراد أن يخلق كخلق الله –جل وعلا- والمقصود بذلك أن يصور كتصوير الله –جل وعلا- لخلقه.
" فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة" معلوم أن الذرة –وهي واحد الذر، صغار النمل- من أصغر المخلوقات. وحبة الحنطة، أو حبة البر، أو حبة الرز، يمكن أن تُصنع، ولكن لا يمكن أن تكون كخلق الله –جل وعلا- وكذلك الشعيرة يمكن أن تصنّع شكلاً وأن تصور شكلاً، لكن يعجز أن يجعل فيها الحياة، فمثلاً حب البر، أو الشعير، أو الرز، أو نحو ذلك مما صنعه الله ينبت إذا وضع في الأرض، أما ما صنعه المخلوق فإنه لا تكون فيه حياة، فالرز الصناعي الذي يؤكل لو رمي في الأرض لما خرج منه ساق، ولما خرج له جذر، ولما كانت منه حياة، وأما الذي يكون من خلق الله –جل وعلا- فهو الذي أودع فيه سر حياة ذلك الجنس من المخلوقات، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن هذا على وجه التعجيز، فالذي يخلق كخلق الله –جل وعلا- هذا من جهة ظنه، أما من جهة الحقيقة فإنه لا أحد يخلق كخلق الله، ولهذا صار ذلك مشبهاً نفسه بالله –جل وعلا- فصار أظلم الخلق.
استدل مجاهد وغيره من السلف بقوله: "أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة" على أن تصوير ما لا حياة فيه أو ما لا روح فيه محرم؛ لأنه ذكر الحبة والشعيرة، قالوا: فتصوير الأشجار وتصوير الحب ونحو ذلك لا يجوز.(16/488)
ص -559- ... وجمهور العلماء على خلاف ذلك، وأن الأمر في ذلك للتعجيز، وليس لجهة التعليل؛ ولهذا قال في الحديث بعده: "من صوّر صورة في الدنيا كلّف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ" فلما قال: "كلّف أن ينفخ فيها الروح" علمنا أن النهي في التصوير كان منصباً على ما فيه روح، يعني: على ما حياته بحلول الروح فيه، أما ما حياته بالنماء كالمزروعات والأشجار ونحوها فليس داخلاً في ذلك.
"ولهما عن عائشة –رضي الله عنها- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: " أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله" هذا فيه تنبيه على العلة، وهذه العلة هي المضاهاة بخلق الله –جل وعلا- وهي إحدى العلتين اللتين من أجلهما حرِّم التصوير، فالتصوير حُرِّم وصار صاحبه من أشد الناس عذاباً لأجل أنه يضاهي بخلق الله –جل وعلا- ولأن الصورة وسيلة للشرك.
والمضاهاة بخلق الله –جل وعلا- التي رُتِّب عليها أن يكون فاعلها أشد الناس عذاباً يوم القيامة عند كثير من العلماء محمولة على المضاهاة التي تكون كفراً؛ لأن المضاهاة في التصوير يكون كفراً في حالتين:
الحالة الأولى: أن يصوّر صنماً ليعبد، أو يصور إلهاً ليعبد، كأن يصور لأهل البوذية صورة بوذا، أو يصور للنصارى المسيح، أو يصور أم المسيح ونحو ذلك، فتصوير ما يعبد من دون الله –جل وعلا- مع العلم بأنه يعبد هذا كفر بالله –جل وعلا- لأنه صور وثناً ليعبد، وهو يعلم أنه يعبد، فيكون شركاً أكبر، وكفراً بالله جل وعلا.(16/489)
ص -560- ... والحالة الثانية: أن يصور الصورة ويزعم أنها أحسن من خلق الله –جل وعلا- فيقول: هذه أحسن من خلق الله، أو أنا فقت في خلقي وتصويري ما فعل الله –جل وعلا- فهذا كفر أكبر، وشرك أكبر بالله –جل جلاله- وهذا الذي حُمل عليه هذا الحديث وهو قوله: "أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله" وأما المضاهاة بالتصوير عامة بما لا يخرجه من الملة، كالذي يرسم بيده، أو ينحت التمثال، أو ينحت الصورة مما لا يدخل في الحالتين السابقتين فهو كبيرة من كبائر، وصاحبها ملعون ومتوعد بالنار.
"ولهما عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "كل مصوّر في النار يجعل له بكل صورة صوّرها نفس يعذّب بها في جهنم" قوله: "نفس" أفاد أن ذلك التصوير وقع لشي تحله النفس، وهو الحيوانات أو الآدمي، ولهذا كان الوعيد منصباً على ذلك.
"كل مصوّر في النار" هذا يفيد أن التصوير كبيرة من الكبائر.
"ولهما عنه مرفوعاً: "من صوّر صورة في الدنيا كلّف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ" لأن الروح إنما هي من أمر الله جل وعلا.
"ولمسلم عن أبي الهياج قال: قال لي علي: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته" في هذا الحديث التنبيه على العلة الثانية من علتي تحريم التصوير، وهي أنه وسيلة من وسائل الشرك، ووجه الاستدلال من هذا الحديث: أنه قرن بين الصورة والقبر المشرف في وجوب إزالتهما، وبقاء القبر(16/490)
ص -561- ... المشرف وسيلة من وسائل الشرك وكذلك للاقتران بقاء الصورة أيضاً وسيلة من وسائل الشرك، فالنبي عليه الصلاة والسلام بعث علياً أن لا يدع صورة إلا طمسها؛ لأن الصورة من وسائل الشرك، وأن لا يدع قبراً مشرفاً إلا سواه؛ لأن بقاء القبور مشرفة يدعو إلى تعظيمها وذلك من وسائل الشرك.
وهناك خلاف في بعض مسائل التصوير محله كتب الفقه والفتوى من جهة التصوير الحديث الذي يكون بالآلات كالتصوير بالكاميرات المختلفة أو بالفيديو أو التلفزيون أو نحو ذلك.(16/491)
ص -562- ... "باب ما جاء في كثرة الحلف"
وقول الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُم} [المائدة: 89]
وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب" أخرجاه. (1).
وعن سلمان أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: أشيمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته، لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه".(2). رواه الطبراني بسند صحيح.
وفي الصحيح عن عمران بن حصين –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً؟ "ثم إن بعدكم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن".(3).
وفيه عن ابن مسعود أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته".
وقال إبراهيم: "كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار".(4).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (2087) ومسلم (1606).
(2) أخرجه الطبراني في "الكبير" (6111) و(الصغير" (821).
(3) أخرجه مسلم (2535).
(4) أخرجه مسلم (2533).(16/492)
ص -563- ... فيه مسائل:
الأولى: الوصية بحفظ الأيمان.
الثانية: الإخبار بأن الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للبركة.
الثالثة: الوعيد الشديد فيمن لا يبيع ولا يشتري إلا بيمينه.
الرابعة: التنبيه على أن الذنب يعظم مع قلة الداعي.
الخامسة: ذم الذين يحلفون ولا يستحلفون.
السادسة: ثناؤه صلى الله عليه وسلم على القرون الثلاثة أو الأربعة، وذكر ما يحدث بعدهم.
السابعة: ذم الذين يَشهدون ولا يُستشهدون.
الثامنة: كون السلف يضربون الصغار على الشهادة والعهد.
الشرح:
هذا "باب ما جاء في كثرة الحلف" ومن الظاهر والبين أن القلب المعظّم لله –جل جلاله- الذي إذا ذُكر الله وجل قلبه أنه لا يكثر الحلف، لأن كثرة الحلف لا تجامع كمال التوحيد، فإن من كمل التوحيد في قلبه، أو قارب الكمال لا يجعل الله –جل وعلا- عرضة لأيمانه، فالذي إذا تكلم تكلم بالحلف، وإذا باع باع بالحلف، وإذا اشترى اشترى بالحلف ونحو ذلك لم يعظم التعظيم الواجب لله –جل وعلا- فإن الواجب على العبد أن يعظم الله –جل وعلا- وأن لا يكثر اليمين، والمقصود باليمين والحلف هنا: اليمين المعقودة التي عقدها صاحبها، أما لغو اليمين فإن هذا معفو عنه، مع أن(16/493)
ص -564- ... الكمال فيه والمستحب أن يخلّص الموحّد لسانه وقلبه من كثرة الحلف في الإكرام ونحوه بلغو اليمين.
فمناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة؛ وهي أن تحقيق التوحيد وكمال التوحيد لا يجامع كثرة الحلف، فكثرة الحلف منافية لكمال التوحيد والحلف –كما ذكرنا- هو تأكيد الأمر بمعظّم، وهو الله جل جلاله.
فمن أكد وعقد اليمين بالله –جل وعلا- وأكثر من ذلك، فإنه لا يكون معظماً لله –جل وعلا- إذ الله –سبحانه وتعالى- يجب أن يصان اسمه، ويصان الحلف به واليمين به إلا عند الحاجة إليها، أما كثرة ذلك وكثرة مجيئه على اللسان فهو ليس من صفة أهل الصلاح، ولهذا أمر الله –جل وعلا- بحفظ اليمين، فقال: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُم} [المائدة: 89] وهذا الأمر للوجوب، لأنه وسيلة لتحقيق تعظيم الله –جل وعلا- وتحقيق كمال التوحيد، فقوله: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُم} هذا إيجاب لأن يحفظ العبد يمينه، فلا يحلف عاقداً اليمين إلا على أمر شرعي بيِّن، أما أن يحلف دائماً، ويجعل الله –جل وعلا- في يمينه، فهذا ليس من تعظيم أسماء الله جل جلاله.
"وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب" وسبب ذلك أنه نوع عقوبة، فإن هذا الذي يبيع بالحلف فإنه تنفق سلعته، ولكن كسبه يمحق؛ لأن محق الكسب يكون نوع عقوبة لأجل أنه لم يفعل الواجب من تعظيم الله جل وعلا.
"وعن سلمان أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: أشيمط زان" يعني: من شمطه الشيب إذا(16/494)
ص -565- ... خالطه، وقلبه متعلق بالزنى –والعياذ بالله- فإنه ليس عنده من الدواعي للزنى ما يجعله يقبل عليه كحال من كان شاباً، فهو قد وخطه الشيب، فيكون إذاً في قلبه حب المعصية، وليست مسألة غلبة الشهوة؛ ولهذا كان من أهل هذا الوعيد العظيم بألا يكلمه الله، ولا يزكيه، وله عذاب أليم.
"وعائل مستكبر" هذا النوع الثاني –وهو من جنس الأول- فإن الاستكبار –كما قال العلماء- يكون استكباراً في الذات، ويكون استكباراً للصفات.
فإذا كان استكباراً للصفات فهذا محرم، ولكنه أهون كمن يكون ذا جاه ورفعة، فيتكبر لأجل ما له من الجاه والرفعة، فهذا لا يجوز، لكن عنده ما يوقع في قلبه الشبهة والفتنة بالتكبر أو الاستكبار، أو يكون ذا مال، أو يكون ذا جمال، أو ذا سمعة، ونحو ذلك، فعنده سبب يجعله يتكبر، وهذا يكثر في أهل الغنى، فإن كثيراً من أهل الغنى يكون عندهم نوع تكبر على الفقراء، أو من ليس من أهل الغنى، فهذا عنده وصف جعله يتكبر، لكن الأعظم أن يكون تكبره في الذات بألا يكون عنده صفة تجعله متكبراً، وهذا هو النوع الأول، وهو استكبار للذات يرى نفسه كبيراً، ويتعاظم، وهو ليس عنده شيء من الصفات تجعله كذلك، فهذا يكون فعله كبيرة من الكبائر العظيمة، ويدخل في هذا الحديث: "وعائل مستكبر" لأن العائل –وهو الفقير الكثير العيال- ليس عنده من الصفات ما يكون الاستكبار شبهة عنده أو لأجل تلك الصفات، أو يكون ثَمَّ فتنة عنده، إلا لما قام في نفسه الخبيثة من الكبر.(16/495)
ص -566- ... "ورجل جعل الله بضاعته، لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه" وهذا موطن الشاهد من الحديث، وهو ظاهر في أنه مذموم، وأنه صاحب كبيرة؛ لأنه جعل الله بضاعته، يبيع باليمين، ويشتري باليمين، وهذا لا يُجامع كمال التوحيد، بل لا يجامع تعظيم الله –جل وعلا- التعظيم الواجب، فيكون مرتكباً لمحرم.
والحديثان اللذان بعده واضحان.
وأما قول إبراهيم النخعي: "كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار" فهذا فيه تأديب السلف لأولادهم ولذراريهم على تعظيم الله –جل وعلا- فإن الشهادة والعهد يجب أن يقترنا بالتعظيم لله –جل وعلا- والخوف من لقائه، والخوف من الظلم، فكانوا يؤدبون أولادهم على ذلك حتى يتمرنوا وينشئوا على تعظيم توحيد الله وتعظيم أمر الله ونهيه.(16/496)
ص -567- ... "باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه"
وقول الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل:91].
وعن بريدة قال: كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إذا أمّر أميراً على جيشٍ أو سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، فقال: "اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله تعالى ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك؛ فإنكم أن تَخْفِروا ذممكم(16/497)
ص -568- ... وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا".(1). رواه مسلم.
فيه مسائل:
الأولى: الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه وذمة المسلمين.
الثانية: الإرشاد إلى أقل الأمرين خطراً.
الثالثة: قوله: "اغزوا بسم الله في سبيل الله".
الرابعة: قوله: "قاتلوا من كفر بالله".
الخامسة: قوله: "استعن بالله وقاتلهم".
السادسة: الفرق بين حكم الله وحكم العلماء.
السابعة: في كون الصحابي يحكم عند الحاجة بحكم لا يدري أيوافق حكم الله أم لا؟.
الشرح:
هذا باب عظيم من الأبواب الأخيرة في هذا الكتاب، وهو "باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم" وذكر الإمام –رحمه الله لهذا الباب لأجل حديث بريدة الذي ساقه وفيه:" وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم (1731).(16/498)
ص -569- ... تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك؛ فإنكم أن تَخْفِروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه" وهذا لأجل تعظيم الرب –جل وعلا- وتعظيم رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن تعظيم الله –جل وعلا- في مناجاته وفي سؤاله وفي العبادة له –جل وعلا- وفي التعامل مع الناس هذا كله من كمال التوحيد، وهذا الباب من جهة التعامل مع الناس، كما جاء في الباب الذي قبله، فالباب الذي قبله وهو "باب ما جاء في كثرة الحلف" متعلق بتعظيم الله –جل وعلا- حين التعامل مع الناس، و"باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه" متعلق بالتعامل مع الناس في الحالات العسرة الصعبة، وهي حال الجهاد، فنبه بذلك على أن تعظيم الرب –جل وعلا- يجب أن يكون في التعامل ولو في أعصب الحالات، وهي الجهاد، فإن العبد يكون موقراً لله تعالى مجلاً له، معظّما لأسمائه وصفاته، ومن ذاك أن يعظم ذمة الله وذمة نبيه.
والذمة بمعنى العهد، وذمة الله يعني: عهد الله وعهد نبيه؛ فإنه إذا كان يعطي بعهد الله ثم يخفر فقد خفر عهد الله –جل وعلا- وفجر في ذلك، وهذا مناف لكمال التوحيد الواجب؛ لأن الواجب على العبد أن يعظم الله –جل وعلا- وألا يخفر عهده وذمته؛ لأنه إذا أعطى بذمة الله فإنه يجب عليه أن يوفِّي بهذه الذمة مهما كان، حتى لا ينسب النقص لذمة الله –جل جلاله- لهذا كان إعطاء مثل هذه الكلمة مثل كثرة الحلف، فلا يجوز أن تجعل في العهد ذمة الله وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم، كما لا يجوز كثرة الأيمان؛ لأن في كل منهما نقصاً في تعظيم الرب جل جلاله.(16/499)
ص -570- ... "وقول الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل:91]". العهد في قوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ} فُسِّر بالعقد، وفسر باليمين، فالعهد بمعنى: العقد، كما قال جل وعلا: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 34] وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}[المائدة: 1] قالعقد والعهد بمعنى، فلهذا فسر {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} بأنها العقود التي تكون بين الناس، وفسر أيضاً بأنه اليمين ودل عليه قوله بعدها: {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} فيجب الوفاء بالعقد والوفاء باليمين تعظيماً لحق الله –جل وعلا- لأن من أعطي اليمين بالله، فإن معناه أنه أكد وفاءه بهذا الشيء الذي تكلّم به، أكد ذلك بالله –جل وعلا- فإذا خالف وأخفر فمعنى ذلك أنه لم يعظم الله –جل جلاله- تعظيماً خاف بسببه من أن لا يقيم ما يجب لله –جل جلاله- من الوفاء باليمين؛ ولهذا قال: {عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} [النحل:91]. حين استشهدتم الله –جل جلاله- أو حين حلفتم بالله –جل جلاله- ولهذا كانت كفارة اليمين واجبة على ما هو مفصّل في موضعه في كتب الفقه.
والحديث ظاهر الدلالة على ما ذكرنا، ففيه تعظيم الله –جل جلاله- بأن لا يُعطي العبد الناس بذمة الله وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم، بل يعطي بذمته هو، وفي هذا(16/500)
ص -571- ... تنبيه عظيم لأهل التوحيد وطلبة العلم الذين يهتمون بهذا العلم، ويعرف الناس منهم أنهم يهتمون بهذا العلم، ألا يبدر منهم ألفاظ أو أفعال تدل على عدم تخلقهم بهذا العلم، فإن التوحيد هو مقام الأنبياء والمرسلين، ومقام أولياء الله الصالحين، فأن يتعلم طالب العلم مسائل التوحيد، ثم لا تظهر على لسانه، أو على جوارحه، أو على تعامله لا شك أن هذا يرجع –ولو لم يشعر- إلى اتهام ما يحمله من التوحيد والعلم الذي هو علم الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، فتذكّر قول النبي عليه الصلاة والسلام: "وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه" لأجل أنه قد يدخل على أهل الإسلام أو على الدين نفسه من جهة فعلهم؛ لأنهم إذا خفروا هذه الذمة رجع إخفارهم إلى ما حملوه من الإسلام ومن الدين، فهذه مسألة عظيمة، فينبغي أن تستحضر أن الناس ينظرون إليك –خاصة في هذا الزمان الذي هو زمان شبه وزمان فتن- على أنك تحمل سنة، وتحمل توحيداً، وعلماً شرعياً، فلا تعاملهم إلا بشيء فيه تعظيم الرب –جل وعلا- وحتى تجعل أولئك يعظمون الله –جل وعلا- بتعظيمك له، ولا تستهن بشأن اليمين، ولا تخفر ذمة الله؛ لأن ذلك منقص لأثر ما تحمله من العلم والدين، فتذكّر أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: "وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا" وذلك حتى إذا حصل غلط فيكون الغلط منسوباً إلى مَنْ حَكَم إلى هذا البشر، ولا يكون(17/1)
ص -572- ... منسوباً إلى حكم الله، فيصد الناس عن دين الله، وكم من الناس ممن يحملون سنة وعلماً أو يشار إليهم بالاستقامة يسيئون بأفعالهم وأقوالهم لأجل عدم تعظيمهم لله –جل وعلا- وما يجب لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وما يدعوهم إليه الرب الكريم –جل وعلا وتقدس- نبرأ إلى الله –جل وعلا- من كل نقص ونسأله أن يعفو ويتجاوز عنا ويرحمنا جميعاً.(17/2)
ص -573- ... "باب ما جاء في الإقسام على الله"
عن جندب بن عبد الله –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عز وجلّ: من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له، وأحبطت عملك"(1). رواه مسلم.
وفي حديث أبي هريرة: "أن القائل عابد، قال أبو هريرة: تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته".(2).
فيه مسائل:
الأولى: التحذير من التألي على الله.
الثانية: كون النار أقرب إلى أحدنا من شراك نعله.
الثالثة: أن الجنة مثل ذلك.
الرابعة: فيه شاهد لقوله: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة" إلخ.
الخامسة: أن الرجل قد يغفر له بسبب هو من أكره الأمور إليه.
الشرح:
الإقسام على الله يكون على جهتين:
جهة يكون فيها التكبر والتجبر، ورفعة هذا المتألي نفسه حتى يجعل له على الله حقاً، وهذا مناف لكمال التوحيد، وقد ينافي أصله، وصاحبه متوعد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم (2621).
(2) أخرجه أحمد2/323، و363، وأبو داود (490).(17/3)
ص -574- ... بالعقاب الذي جاء في مثل هذا الحديث، فهذا يتألى على الله –جل وعلا- أن يحكم بما اختاره هو من الحكم، فيقول: والله لا يحصل لفلان كذا تكبراً واحتقاراً للآخرين، فيريد أن يجعل حكم الله كحكمه تألياً واستكباراً على الله أن يفعل الله –جل وعلا- ما ظنه هو، فهذا التألي والاستكبار نوع تحكم في أمر الله –جل وعلا- وفي فعله، وهذا لا يصدر من قلب معظم لله جل وعلا.
والجهة الثانية: أن يقسم على الله –جل جلاله- لا على جهة التألي، ولكن على جهة أن ما ظنه صحيح في أمر واقع له، أو أمر يواجهه، فهذا يقسم على الله أن يكون كذا في المستقبل على جهة التذلل والخضوع لله لا على جهة التألي، وهذا هو الذي جاء فيه الحديث: "ومن عباد الله من لو أقسم على الله لأبره"(1). لأنه لو أقسم على الله، لا على جهة التعاظم والتكبر والتألي، ولكن على جهة الحاجة والافتقار إلى الله، فحين أقسم أقسم محتاجاً إلى الله، وأكّد ذلك بالله وبأسمائه من جهة ظنه الحسن بالله –جل وعلا- فهذا جائز، ومن عباد الله من لو أقسم على الله لأبره، لأنه قام في قلبه من العبودية لله والذل والخضوع ما جعل الله –جل وعلا- يجيبه في سؤاله، ويعطيه طلبته ورغبته.
وأما الحال الأولى فهي حال المتكبر المترفع الذي يظن أنه بلغ مقاماً بحيث يكون فعل الله –جل وعلا- تبعاً لفعله، فتكبر واحتقر غيره، فبهذا التفصيل يتضح ما جاء في هذا الباب من الحديث.
"عن جندب بن عبد الله –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عز وجلّ: من ذا الذي يتألى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (2703) ومسلم (1675).(17/4)
ص -575- ... على أن لا أغفر لفلان؟" هذا الذي قال: والله لا يغفر الله لفلان، كان رجلاً صالحاً، والآخر رجلاً فاسقاً، فقال الرجل الصالح: والله لا يغفر الله لفلان؛ لأن فلاناً هذا كان رجلاً فاسقاً مريداً كثير العصيان، فتألى هذا العابد وعظّم نفسه أنه بعبادته لله –جل وعلا- بلغ مقاماً يكون متحكماً فيه بأفعال الله، وان الله لا يرد شيئاً طلبه، أو له أن يتحكم في الخلق، وهذا ينافي حقيقة العبودية التي هي التذلل لله –جل وعلا- فالله سبحانه وتعالى عاقبه، فقال: "من ذا الذي يتألى علي؟" يعني: يتعاظم ويتكبر عليّ ويحلف عليّ؛ لأن "يتألى" من الأليَّة، وهي الحلف، ومنه قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:226] والإيلاء من الأليّة وهي الحلف، فيتألى، يعني: يحلف على جهة التكبر والتعاظم.
"ألا أغفر لفلان، قد إني غفرت له، وأحبطت عملك" فغفر للطالح، وأحبط عمل ذلك الرجل العابد، وهذا يبين لك عظم شأن مخالفة تعظيم الله –جل جلاله- وعظم مخالفة توحيد الله –سبحانه وتعالى- فهذا الرجل الفاسق أتاه خير من حيث لا يشعر، وقيلت في حقه كلمة بحسب الظاهر أنها مؤذية له، وأن فيها من الاحتقار والازدراء له ما يجعله في ضعة بين الناس، حيث شهد عليه هذا الصالح بقوله: "والله لا يغفر الله لفلان" فكانت هذه الكلمة التي ساءته وآذته فيها مصلحة عظيمة له بأن غُفر له ذنبه، ولهذا نبّه الشيخ في مسائل الباب بمسألة معناها: أن من الابتلاء والإيذاء(17/5)
ص -576- ... للشخص ما يكون أعظم أسباب الخير له، فليست العبرة باحتقار الناس، ولا بكلامهم، ولا بإيذائهم، ولا بتصنيفهم للناس، بل العبرة بحقيقة الأمر بما عند الله –جل جلاله- فالواجب على العباد جميعاً أن يعظموا الله، وأن يخبتوا إليه، وأن يظنوا أنهم أسوأ الخلق، حتى يقوم في قلوبهم أنهم أعظم حاجة إلى الله –جل وعلا- وأنهم لم يوفوا الله حقه، أما التعاظم في النفس، والتعاظم بالكلام والمدح والثناء ونحو ذلك، فليس من صنيع المجلين لله –جل وعلا- الخائفين من تقلب القلوب، فالله –جل وعلا- يقلب القلوب، ويصرفها كيف يشاء، فالقلب المخبت المنيب يحذر ويخاف دائماً من أن يتقلب قلبه، فينتبه للفظه، وينتبه للحظه، وينتبه لسمعه، وينتبه لحركاته، لعل الله –جل وعلا- أن يميته غير مفتون ولا مخزي.(17/6)
ص -577- ... "باب لا يستشفع بالله على خلقه"
عن جبير بن مطعم –رضي الله عنه- قال: جاء أعرابي إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، نهكت الأنفس، وجاع العيال، وهلكت الأموال، فاستسق لنا ربك، فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله، سبحان الله!" فما زال يسبح حتى عُرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: " ويحك أتدري ما الله؟! إن شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد"(1). وذكر الحديث. رواه أبو داود.
فيه مسائل:
الأولى: إنكاره على من قال: "نستشفع بالله عليك".
الثانية: تغيّرُه تغيراً عُرف في وجه أصحابه من هذه الكلمة.
الثالثة: أنه لم ينكر عليه قوله: "نستشفع بك على الله".
الرابعة: التنبيه على تفسير "سبحان الله".
الخامسة: أن المسلمين يسألونه -صلى الله عليه وسلم- الاستسقاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أبو داود (4726).(17/7)
ص -578- ... الشرح:
"لا يستشفع" يعني: لا يُجعل الله شفيعاً على الخلق، لأن شأن الله –جل وعلا- أعظم وأجل من أن يستشفع به، ويُجعل واسطة للانتفاع من أحد من الخلق، فالشفاعة المعروفة: أن تأتي إلى أحد، وتطلب أن يكون شفيعاً عند آخر، لأن ذلك الآخر هو الذي يملك ما تريد والنفع عنده، وهذا يكون واسطة، ولا يستطيع أن ينفعك بنفسه إلا بأن يتوسط. والله –جل جلاله- لا يجوز أن يظنّ به ذلك الظن، لأنه سوء ظن بالله –جل جلاله- فالله –سبحانه- لا يصلح أن يُجعل واسطة لأحد أو إلى أحد من الخلق أو على أحد من الخلق، بل هو –جل وعلا- الذي يملك الأمور جميعاً، فالاستشفاع بالله على الخلق يعني: أن يُجعل الله واسطة يتوسط العبد بربه على أحد من الخلق، وهذا مناف لكمال التوحيد، وعمل وقول من الأقوال المنافية لتعظيم الله –جل وعلا- التعظيم الواجب، ولهذا ذكر الشيخ –رحمه الله- حديث جبير بن مطعم والشاهد منه قول الأعرابي للنبي عليه الصلاة والسلام: "فاستسق لنا ربك، فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله" يعني: نستشفع بالله نجعل الله –جل وعلا- واسطة يتوسط لنا عندك حتى تدعو، والله –جل وعلا- هو الملك الحي القيوم الحق المبين، نواصي العباد بيديه، يصرفها كيف يشاء، فشأن الله أعظم من أن يستشفع به على أحد من خلقه، بل الرجل أو المكلف يستشفع بأحد من الخلق عند مخلوق آخر يحتاجه في شيء، والله –جل وعلا- هو الذي يملك الأشياء جميعاً، بيده الملك والملكوت، وهو الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، وبيده خزائن(17/8)
ص -579- ... كل شيء {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر:21] فالعباد هم المحتاجون إلى الله وشأن الله أعظم من ذلك، إذ المخلوق حقير وضيع بالنسبة إلى الرب –جل جلاله- فلا يصلح أن يُجعل الله –جل وعلا- واسطة عنده حتى يقبل هذه الواسطة، بل شأن الله –جل وعلا- أعظم من ذلك، ولهذا قال سيد الخلق، وسيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام رادا على الأعرابي الذي قال: نستشفع بالله عليك، وبك على الله فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "سبحان الله، سبحان الله!" يعني: تنزيها، وتعظيما لله، وإبعاداً لله عن كل وصف سوء أو شائبة نقص، وعن كل ظن سوء به جل وعلا.
"فما زال يسبح حتى عُرف ذلك في وجوه أصحابه" من شدة تسبيحه، وتنزيهه لربه –جل وعلا- وهذا من الغضب لله –جل جلاله- فصلى الله على نبينا محمد، فما كان أعلمه بربه، وما كان أعرفه بربه!.
ثم قال: " ويحك أتدري ما الله؟! إن شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد" فالله –جل وعلا- من علم أسماءه وعلم الصفات المستحقة له –جل وعلا- فإنه لن يخطر بخاطره ظن سوء به-جل وعلا- أو استنقاص له جل وعلا.
فهذا الباب فيه –كما في الأبواب قبله- ما ينبغي أن يتحرز منه الموحد من الألفاظ التي فيها سوء ظن بالله –جل وعلا- وتنقص لمقام الربوبية لله جل جلاله.(17/9)
ص -580- ... "باب: ما جاء في حماية النبي –صلى الله عليه وسلم- حمى التوحيد وسده طرق الشرك"
عن عبد الله بن الشخير –رضي الله عنه- قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقلنا: أنت سيدنا، فقال: "السيد الله تبارك وتعالى" قلنا: وأفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً فقال: "قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان"(1). رواه أبو داود بسند جيد.
وعن أنس –رضي الله عنه- أن ناساً قالوا: يا رسول الله، يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، فقال: "يا أيها الناس قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل"(2). رواه النسائي بسند جيد.
فيه مسائل:
الأولى: تحذير الناس من الغلو.
الثانية: ما ينبغي أن يقول من قيل له: أنت سيدنا.
الثالثة: قوله: "لا يستجرينكم الشيطان" مع أنهم لم يقولوا إلا الحق.
الرابعة: قوله: "ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أبو داود (4806).
(2) أخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة (248) و(249) وصححه ابن عبد الهادي في "الصارم المنكي" (246).(17/10)
ص -581- ... الشرح:
النبي عليه الصلاة والسلام حَمَى وحرس جناب التوحيد،وحَمَى حِمَى التوحيد، وسدّ كل طريق توصل إلى الشرك، فإن في سنة النبي عليه الصلاة والسلام من الدلائل على قاعدة سد الذرائع ما يبلغ مائة دليل أو أكثر، وأعظم الذرائع التي يجب أن تُسد ذرائع الشرك التي توصل إليه، ومن تلك الذرائع قول القائل: أنت سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا ونحو ذلك، فإن مثل هذه الأقوال فيها من التعظيم الذي لا يجوز أن يواجه به بشر، فإن النبي –صلى الله عليه وسلم- هو سيد ولد آدم، كما أخبر به النبي –عليه الصلاة والسلام- لكن كَرِه المواجهة كما سيأتي.
فحماية النبي –صلى الله عليه وسلم- حمى التوحيد، وسده طرق الشرك كان في جهة الاعتقادات ومن جهة الأقوال والأفعال، فإذا تأملت سنته وما جاء في هذا الكتاب –كتاب التوحيد- وجدت أنه عليه الصلاة والسلام سدَّ الباب في الاعتقادات الباطلة، وسدّ الباب في الأفعال الباطلة، كقوله: "اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"(1). وسدّ الباب أيضاً في الأقوال التي توصل إلى الغلو المذموم، فقال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله"(2). وهذا الباب أيضاً من ذلك في بيان حماية النبي صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد، فيما يتعلق بالقول الذي قد يتبعه اعتقاد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم.
(2) تقدم.(17/11)
ص -582- ... "عن عبد الله بن الشخير –رضي الله عنه- قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقلنا: أنت سيدنا، فقال: "السيد الله تبارك وتعالى" قلنا: وأفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً فقال: "قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان" رواه أبو داود بسند جيد"
في هذا الحديث أن إطلاق لفظ السيد على البشر مكروه، ومخاطبته بذلك يجب سدّها، فلا يخاطب أحد بأن يقال له: أنت سيدنا على جهة الجمع، وذلك لأن فيها نوع تعظيم من جهة المخاطبة، يعني: الخطاب المباشر، والجهة الثانية من جهة استعمال اللفظ، والنبي عليه الصلاة والسلام سيد كما قال عن نفسه: "أنا سيد ولد آدم ولا فخر"(1). ولكن مخاطبته عليه الصلاة والسلام مع كونه سيداً كرهها ومنع منها، لئلا تؤدي إلى ما هو أعظم من ذلك من تعظيمه والغلو فيه عليه الصلاة والسلام.
فهذه مناسبة الحديث لهذا الباب: أن في قوله عليه الصلاة والسلام: "السيد الله تبارك وتعالى" مع كونه عليه الصلاة والسلام سيد ولد آدم، ما يفيد أنه عليه الصلاة والسلام حَمَى حِمَى التوحيد، وسدّ الطرق الموصلة للشرك، ومنها طريق الغلو في الألفاظ.
والقول للرجل بأنه سيد ونحو ذلك إذا كان على وجه المخاطبة له، والإضافة إلى الجمع أشد وأعظم مما إذا كان بدون المخاطبة والإضافة إلى الجمع. ومما ذكر العلماء: أن قوله عليه الصلاة والسلام: "السيد الله تبارك وتعالى" يدل على أنه يكره كراهة شديدة أن يقال لبشر: إنه "السيد" هكذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد2/541 من حديث أبي سعيد الخدري وابن ماجه (4308).(17/12)
ص -583- ... بالألف واللام؛ لأن هذا قد يُفهم منه استغراق معاني السيادة؛ لأن البشر له سيادة تخصّه، ولهذا ترى الذين يشركون ببعض الأولياء كالسيد البدوي يعظمون كلمة "السيد" ويكثر عندهم التعبيد للسيد، ويريدون به السيد البدوي، فيكثر عندهم عبد السيد ونحو ذلك، ولا يريدون به الله –جل وعلا- ولكن يريدون به ذلك الذي اتخذوه معبوداً، وتوجهوا إليه ببعض أنواع العبادة، فيفهمون من كلمة "السيد"أنه ذو السيادة، وذو التصرف في الأمر، وهذا هو الذي اعتقدوه من أن البدوي ولأمثاله تصرفاً في الأرض، وقبولاً للمطالب في الحاجات.
"قلنا: وأفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً فقال: "قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان" لأن هذا فيه الثناء والمدح بالمواجهة، وهذا من الشيطان، فالشيطان هو الذي يفتح هذا الباب أن يُمدح أحد ويعظّم في مواجهته، وذلك حتى يعظُم في نفسه فيأتيه الخذلان؛ لأن كل أحد تخلى عن (لا حول ولا قوة إلا بالله) وتخلى عن الازدراء للنفس، والذل والخضوع الذي يعلمه الله من قلبه، فإنه يُخذل، ويأتيه الأمر على غرة، ولهذا نهى النبي –صلى الله عليه وسلم- أن يقال مثل ذلك القول مواجهة، ونهى عن المدح؛ لأن فيه إضراراً بالمتكلم، وإضراراً بالمقول فيه ذلك الكلام.
"وعن أنس –رضي الله عنه- أن ناساً قالوا: يا رسول الله، يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، فقال: " يا أيها الناس قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل" رواه النسائي بسند(17/13)
ص -584- ... جيد" هو عليه الصلاة والسلام كما وصفوه هو خيرهم، وهو سيدهم عليه الصلاة والسلام، لكنه حمى جناب التوحيد، وحَمى حِمى التوحيد، حتى لا يستدل أحد بعده عليه الصلاة والسلام بهذا الكلام على أنه يجوز أن يقال لمن ظن الناس فيه ذلك، بل سدّ الباب في نفسه وهو سيد ولد آدم، وهو خيرهم عليه الصلاة والسلام وأفضلهم، ولكن سدّ الباب حتى لا يدخل أحد منه بإقراره هذا الفعل، فيعظّم أحد ويدخل الشيطان إلى ذلك المعظمِّ وإلى المعظّم، فيجعل القلوب تتعلق بذلك المعظم حتى يشرك به، وحتى يُعظّم بما لا يجوز له من التعظيم.
وهذا الباب كالجامع لما يجب من سد الذرائع الموصلة للشرك، وهذا واجب على المسلم أن يسد كل طريق أو سبيل يجعل نفسه تتعاظم، لأن أعظم مقامات الشرف لك أن يعلم الله –جل وعلا- منك أنك متذلل خاضع بين يديه، وأنك خائف وجل تدعوه راغباً راهباً، فهذه صفة الخلّص من عباد الله –جل وعلا- الذين وعدهم الله –جل وعلا- بالخيرات فقال سبحانه: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] والخشوع نوعان: خشوع في القلب، وخشوع في الجوارح، وخشوع القلب بالتطامن والذل والخضوع بين يدي الله، وخشوع الجوارح بسكونها، كما قال جل وعلا: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً } [فصلت: 39].(17/14)
ص -585- ... "باب ما جاء في قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]
عن ابن مسعود –رضي الله عنه- قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، ، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك النبي –صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وفي رواية لمسلم: "والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزهن، فيقول: أنا الملك أنا الله".
وفي رواية للبخاري: يجعل السماوات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع".(1).
ولمسلم عن ابن عمر مرفوعا: "يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين السبع، ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (4811) و(7414) و(7415) و(7513) ومسلم (2786)(17/15)
ص -586- ... المتكبرون؟".(1).
وروي عن ابن عباس قال: "ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم".(2).
وقال ابن جرير: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: حدثني أبي، قال: قال سول الله صلى الله عليه وسلم: "ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في تُرس".(3).
وقال: قال أبو ذر: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض".(4).
وعن ابن مسعود قال: "بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم" أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زرٍ عن عبد الله.
ورواه بنحوه المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله، قاله(5). الحافظ الذهبي –رحمه الله تعالى- قال: وله طرق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم (2788).
(2) أخرجه ابن جرير في "التفسير" 24/25.
(3) أخرجه ابن جرير في "التفسير" (5794) وعبد الله بن أحمد في السنة (591).
(4) أخرجه ابن جرير في "التفسير" (5794).
(5) أخرجه ابن خزيمة في "التوحيد" (594) وأبو الشيخ في "العظيمة" (203) و(279).(17/16)
ص -587- ... وعن العباس بن عبد المطلب –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تدرون كم بين السماء والأرض؟" قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: "بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله –سبحانه وتعالى- فوق ذلك وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم".(1). أخرجه أبو داود وغيره.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.
الثانية: أن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه صلى الله عليه وسلم ولم ينكروها ولم يتأولوها.
الثالثة: أن الحبر لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم صدقه، ونزل القرآن بتقرير ذلك.
الرابعة: وقوع الضحك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم.
الخامسة: التصريح بذكر اليدين، وأن السماوات في اليد اليمنى ، والأرضين في الأخرى.
السادسة: التصريح بتسميتها الشمال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أبو داود (4723) والترمذي (3317) وقال: حديث حسن غريب.(17/17)
ص -588- ... السابعة: ذكر الجبارين والمتكبرين عند ذلك.
الثامنة: قوله: "كخردلة في كف أحدكم".
التاسعة: عظم الكرسي بالنسبة إلى السماء.
العاشرة: عظم العرش بالنسبة إلى الكرسي.
الحادية عشرة: أن العرش غير الكرسي والماء.
الثانية عشرة: كم بين كل سماء إلى سماء.
الثالثة عشرة: كم بين السماء السابعة والكرسي.
الرابعة عشرة: كم بين الكرسي والماء.
الخامسة عشرة: أن العرش فوق الماء.
السادسة عشرة: أن الله فوق العرش.
السابعة عشرة: كم بين السماء والأرض.
الثامنة عشرة: كثف كل سماء خمس مائة سنة.
التاسعة عشرة: أن البحر الذي فوق السماوات أسفله وأعلاه خمس مائة سنة. والله أعلم.
الشرح:
هذا"باب ما جاء في قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67]" ختم به إمام هذه(17/18)
ص -589- ... الدعوة شيخ الإسلام والمسلمين محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله – كتاب التوحيد وختمه هذا الكتاب بهذا الباب ختم عظيم؛ لأن من علم حقيقة ما تشتمل عليه هذا الباب من وصف الله –جل وعلا- وعظمة الله –جل وعلا- فإنه لا يملك إلا أن يذل دلاً حقيقياً، ويخضع خضوعاً عظيماً للرب –جل جلاله- والصحيح والواقع من حال الخلق أنهم لم يوقروا الله –جل وعلا- وما قدروا الله حق قدره، لا من جهة ذاته وقدرته وصفاته، ولا من جهة حكمته وبعثه لرسله، قال جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْء} [الأنعام: 91] فهذا في إنزال الكتاب وفي إرسال الرسول، وقال جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وقوله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} يعني: ما عظموه حق تعظيمه، ولو عظموه حق تعظيمه لما عبدوا غيره، ولما أطاعوا غيره، ولعبدوه حق العبادة، ولذلوا له ذلاً وخضوعاً دائماً، وأنابوا إليه بخشوع وخشية، ولكنهم ما قدروه حق قدره، يعني: ما عظموه حق تعظيمه الذي يجب لقدره –جل وعلا- وعظم ذاته –سبحانه وتعالى- وصفاته.
ثم بين –جل وعلا- شيئاً من صفة ذاته العظيمة الجليلة، فقال سبحانه: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فإن عقل الإنسان لا يمكن أن يتحمل صفة الله –جل وعلا- على ما هو عليه، والله –جل وعلا-(17/19)
ص -590- ... بين بعض صفاته فقال سبحانه: {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} فإذا نظرت إلى هذه الأرض على عظمها وعلى غرور أهلها فيها، ونظرت إلى حجمها وإلى سعتها وإلى ما فيها، فهي في قبضة الرحمن جل وعلا، يعني: في داخل قبضة الرحمن –جل وعلا- يوم القيامة، فنفهم من ذلك أن كف الرحمن –جل وعلا- وأن يد الرحمن –جل وعلا- أعظم من هذا، وكذلك السماوات مطويات كطي السجل في كف الرحمن –جل وعلا- كما قال سبحانه هنا: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} وقال في آية سورة الأنبياء: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104] فهذه صفات الله –جل جلاله- فإن الأرض التي يتعاظمها أهلها، والسماوات التي يتعاظمها من نظر فيها، هي صغيرة وآيلة في الصغر إلى أن تكون في كف الرحمن –جل وعلا- والله –سبحانه وتعالى- أعظم من ذلك وأجل، بل هو –سبحانه وتعالى- الواسع الحميد الذي له الحمد كله، وله الثناء كله، ويبين لك عظمة الرب –جل وعلا- في ذاته وعظمة الرب –جل وعلا- في صفاته، وإذا تأملت هذه الأحاديث وما اشتملت عليه تبين لك غرور أهل الأرض في الأرض، وبسعتها وبقواهم فيها، وأنها بالنسبة إلى السماء تعتبر صغيرة، وأن بين الأرض وبين السماء الأولى مسيرة خمسمائة سنة في مسيرة الراكب السريع، وكذلك بين السماء الأولى والسماء الثانية مسيرة خمسمائة سنة، وهكذا حتى تنتهي السبع سماوات، وكذلك السماوات السبع متناهية في(17/20)
ص -591- ... الصغر أما الكرسي، ولهذا مثّل النبي عليه الصلاة والسلام السماوات السبع في الكرسي الذي هو فوق ذلك، وهو أكبر بكثير من السماوات بقوله: "إن السماوات السبع كدراهم سبعة ألقيت في ترس" يعني: هذه السماوات صغيرة جداً بالنسبة إلى الكرسي، بل كدراهم سبعة ألقيت في ترس، والترس مكتنفها متقوس عليها، فهي صغيرة فيه وهو واسعها، كما قال جل وعلا: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255] فالأرض التي أنت فيها نقطة صغيرة جداً بالنسبة إلى السماء، والأرض والسماوات مجتمعة في غاية الصغر بالنسبة للكرسي، والكرسي أيضاً فوقهما، وفوق ذلك عرش الرحمن –جل وعلا- والكرسي بالنسبة إلى العرش كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، فهو متناهي الصغر بالنسبة إلى عرش الرحمن، والذي هو مستوٍ عليه –جل وعلا- وهو فوقه –سبحانه وتعالى- ولو تأمل الناس صفة الرب –جل وعلا- وما يجب له من الجلال، وما هو عليه –سبحانه وتعالى- من صفات الذات، ومن صفات الفعل، وما عليه تلك الصفات من الكمال والجلال المطلق لاحتقروا أنفسهم، ولعلموا أنه لا ينجيهم ولا يشرفهم إلا أن يكونوا عبيداً له وحده دون ما سواه، فهل يعبد المخلوق المخلوق؟!.
إن الواجب أن يعبد المخلوق من هو متصف بهذه الصفات العظيمة، فهو الحقيق بأن يُذلّ له، وهو الحقيق بأن يطاع، وهو الحقيق بأن يُجلّ، وهو الحقيق بأن يُسال، وهو الحقيق بأن يبذل كل ما يملكه العبد في سبيل مرضاته –جل وعلا- إذ هذا من قدره حق قدره، ومن تعظيمه حق تعظيمه، فإذا تأمل العبد صفات الربوبية وصفات الجلال(17/21)
ص -592- ... وصفات الجمال لله –جل وعلا- وأن ذات الله –جل وعلا- عظيمة، وأنه –سبحانه وتعالى- مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه، على هذا العظم، علم أنه لا أحد يستحق أن يتوجه إليه بالعبادة وأن يعبد إلا الله –جل وعلا- وأن من عبد المخلوق الحقير الوضيع فإنه نازع الله –جل وعلا- في ملكه، ونازع الله –جل وعلا في إلهيته، ولهذا يحق أن يكون من أهل النار المخلدين فيها والمعذبين عذاباً دائماً؛ لأنه توجه إلى هذا المخلوق الضعيف وترك الرب العلي القادر على كل شيء سبحانه وتعالى.
ثم تأمل كيف أن ربك العزيز الحكيم المتصف بصفات الجلال، وهو –حل وعلا- فوق عرشه يأمر وينهى في ملكوته الواسع الذي ما الأرض إلا كشبه لا شيء في داخل ذلك الملكوت، يفيض رحمته ويفيض نعيمه على من شاء، ويرسل عذابه على من شاء، وينعِّم من شاء، ويصرف البلاء عمن شاء، وهو سبحانه ولي النعمة والفضل فترى أفعال الله –جل وعلا- في السماوات، وترى عبودية الملائكة في السماوات لهذا الرب العظيم، المستوي على عرشه، كما قال عليه الصلاة والسلام: "أطَّت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك قائم، وملك راكع، أو ملك ساجد"(1) تعظيما لأمر الله –جل وعلا- وترى نفوذ أمر الله في ملكوته الواسع الذي لا نعلم منه إلا ما حولنا من هذه الأرض، وما هو قريب منها، بل نعلم بعض ذلك، والله –جل وعلا- هو المتصرف، ثم تنظر إلى أن الله الجليل العظيم المتصف بهذا الملك العظيم يتوجه إليك أيها العبد الحقير الوضيع فيأمرك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أحمد في المسند5/173 والترمذي (2312) وابن ماجه (4190).(17/22)
ص -593- ... بعبادته، وهي شرف لك لو شعرت، ويأمرك بتقواه وهي عز لك لو عقلت، ويأمرك بطاعته وذاك فخر لك لو علمت، فإنه إذا علمت حق الله، وعلمت صفات الله وما هو عليه من العلو المطلق في ذاته وفي صفاته –جل وعلا وفي نفوذ أمره في السماوات السبع التي هي في الكرسي كدراهم ألقيت في ترس، ثم ما فوق ذلك، والجنة والنار وما في ذلك، وجدت أنك لا تتمالك إلا أن تخضع له –جل وعلا- خضوعاً اختياريا، وأن تذل له، وأن تتوجه إلى طاعته، وأن تتقرب إليه بما يحب، وأنك إذا تلوت كلامه تلوت كلام من يخاطبك به، ويأمر وينهى به، فيثمر عندك حينئذ من التوقير والتعظيم لله عز وجل غير ما كنت عليه قبل ذلك، ولهذا كان من أسباب رسوخ الإيمان في القلب وتعظيم الرب –جل وعلا- أن يتأمل العبد ويتفكر في ملكوت السماوات والأرض كما أمر الله –جل وعلا- بذلك حين قال: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} [يونس: 101] وقال جل وعلا: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [لأعراف: 185] وقال جل وعلا في وصف الخلّص من عباده: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ(17/23)
ص -594- ... وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران:190-192] إلى آخر دعواتهم، وهم يذكرون الله قياماً وقعوداً، وعلى جنوبهم، ويتفكرون، ومع ذلك يسألون النجاة من النار، فهم في ذل وخضوع لما عرفوا من آثار توحيد الربوبية، ولما عرفوا من آثار توحيد الألوهية في القلب وفي النفس.
أسأل الله في ختام هذا الكتاب أن يجزي مؤلفه الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب عنا وعن المسلمين خير الجزاء، وأن يجزي كل من ساهم في شرح هذا الكتاب بما أفهمنا من معانيه، فإنه والله لكتاب عظيم، اشتمل على ما به نجاة العباد لو شعروا، وقرّب به الإمام –رحمه الله- نصوص الكتاب والسنة، وأفهمنا دلائلها نرجو معه النجاة بعفو الله –جل وعلا- وكرمه، هذا ووصية أخيرة أختم بها هذا المجلس المبارك فأوصي بالعناية بهذا الكتاب عناية عظيمة، وحفظه، ودراسته، وتأمل مسائله، ومعرفة ما فيه، فإنه الحق الذي كان عليه الأنبياء والمرسلون ومن تبعهم من صالحي عباد الله، هذا وإن الانصراف عن مدارسة ما احتواه مما يجب على العبد تجاه ربه لنذير سوء، وإن الإقبال عليه لمؤذن بالخير والبشرى، وأسأل الله أن يغفر لنا زللنا وخطلنا، وأن يعفو عنا ما أخطأنا فيه، وأن يجعلنا من المعفو عنهم، ونسأل الله التسامح، وأن يجعلنا من المحققين لتوحيده، وأنه لا حول لناولا قوة إلا به، اللهم فكن لنا يا كريم، اللهم فكن لنا يا كريم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(17/24)
ص -597- ... أسئلة وفوائد
سؤال: ما حكم من يضع آية الكرسي في السيارة، أو يضع مجسماً فيه أدعية، كأدعية ركوب السيارة، أو أدعية السفر وغيرها من الأدعية؟.
الجواب: إن هذا فيه تفصيل، فإذا كان وضع هذه الأشياء ليحفظها، ويتذكر قراءتها، فهذا جائز، كمن يضع المصحف أمام السيارة، أو يضعه معه، فإذا صارت عند فرصة هو، أو من معه أن يقرأ فيه قرأ، فهذا جائز، لا بأس به، لكن عن علقها لأجل أن تدفع عنه الآفات، فهذا يدخل في مسألة حكم تعليق التمائم من القرآن، وقد عرفنا أن ذلك لا يجوز على الصحيح، بل يحرم.
سؤال: ما حكم من يوصي أحداً بالبحث عن راقٍ يرقي له دون أن يطلب الرقية من الراقي بنفسه، هل يدخل في الذين يسترقون؟.
الجواب: إن قول النبي –صلى الله عليه وسلم- في وصف السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب أنهم: "هم الذين لا يسترقون"(1) معناه: لا يطلبون الرقية، وفهم جواب السؤال يتبع فهم التعليل، ذلك أن أولئك كانوا لا يسترقون، يعني لا يطلبون الرقية، لأجل ما قام في قلوبهم من الاستغناء بالله، وعدم الحاجة إلى الخلق، ولم تتعلق قلوبهم بالخلق في رفع ما حلّ بهم، وكما ذكرت لك فإن مدار العلة على تعلق القلب بالراقي، أو بالرقية في رفع ما بالمرقي من أذى، أو في دفع ما قد يتوقع من السوء، وعليه فيكون الحالان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم.(17/25)
ص -598- ... سواء، يعني: إن كان طلب بنفسه، أو طلب بغيره فإنه طالب، والقلب متعلق بمن طلب منه الرقية إما بالأصالة أو بالواسطة.
سؤال: ما حكم من يقول له أهله: اذبح ذبيحة ووزعها على المساكين دفعاً لبلاءٍ ما، فهل تجوز تلك النية؟
الجواب: هذا فيه تفصيل، ذلك أن ذبح الذابح إذا كان من جهة الصدقة، ولم يكن لدفع شيء متوقع، أو لرفع شيء حاصل، ولكن من جهة الصدقة وإطعام الفقراء، فهذا لا بأس به،وهو داخل في عموم الأدلة التي فيها الحض على الإطعام، وفضيلة إطعام المساكين.
وأما إن كان الذبح لأن بالبيت مريضاً فيذبح لأجل أن يرتفع ما بالمريض من أذى، فهذا لا يجوز بل يحرم، سداً للذريعة، ذلك لأن كثيرين يذبحون حين يكون بهم مرض، لظنهم أن المرض كان بسبب الجن، أو كان بسبب مؤذٍ من المؤذين، فإذا ذبح الذبيحة وأراق الدم فإنه يندفع شره، أو يرتفع ما أحدثه ذلك المؤذي، ولا شك أن اعتقاد مثل هذا محرم ولا يجوز، فالذبيحة التي ذبحت لرفع المرض والصدقة بها عن المريض –والحالة هذه- قال العلماء: هي حرام لا تجوز سداً للذريعة، وللشيخ العلامة سعد بن حمد بن عتيق رسالة خاصة في الذبح للمريض.
وكذلك إذا كان الذبح لدفع أذى متوقع، كأن يكون في البلد داء معين، فذبح لدفع هذا الداء، أو كان في الجهات التي حول البيت شيء يؤذي، فيذبح ليندفع ذلك المؤذي، إما لص –مثلاً- يتسلط على البيوت، أو أذىً ما يأتي للبيوت، فيذبح ويتصدق بها لأجل أن يندفع ذلك الأذى، فهذا أيضاً(17/26)
ص -599- ... غير جائز، ومنهي عنه سداً للذريعة؛ لأن من الناس من يذبح لدفع أذى الجن، وهذا شرك بالله جل وعلا.
فإذا قيل: فما معنى ما رواه أبو داود وغيره بإسناد حسنه بعض أهل العلم، وبعضهم ضعفه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "داووا مرضاكم بالصدقة"(1) هل يدخل فيه إراقة الدم؟ لأجل ما فيها من الوسيلة إلى الاعتقادات الباطلة. ومعلوم أن الشريعة جاءت بسد الذرائع الموصلة إلى الشرك، وجاءت أيضاً بفتح الذرائع الموصلة للخير، فما كان من ذريعة يوصل إلى الشرك والاعتقاد الباطل فإنه ينهى عنه.
سؤال: ما الحكم في بعض الأواني التي يكتب عليها بعض الآيات، والتي تباع في بعض المحلات التجارية؟.
الجواب: أن هذه الأواني يختلف حالها فإن كان يستخدمها لأجل أن يتبرك بما كتب فيها من الآيات، فيجعل فيها ماء ويشربه، لأن الماء يلامس هذه الآيات، فهذا من الرقية غير المشروعة، لأن الرقية المشروعة تكون بقراءة الآيات في الماء، وهذه الآيات لم تنحلّ في الماء، بل هي مكتوبة في ذلك الإناء المعدني أو النحاسي، والتصاق الماء بتلك الكتابات من الآيات أو الأدعية لا يجعل الماء –بذلك- مباركاً أو مقروءاً فيه، فإذا اتخذت هذه الأواني لذلك فالرقية غير مشروعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أبو الشيخ في "الثواب" عن أبي أمامة كما في "صحيح الجامع الصغير" (3358) والحديث لم يروه أبو داود بمرة.(17/27)
ص -600- ... وأما إذا اتخذها للزينة أو لجعلها في البيت، أو لتعليقها، فهذا كرهه كثير من أهل العلم، لأن القرآن ما نزل لتزيَّن به الأواني، أو تُزيّن به الحيطان، وإنما نزل للهداية كما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}.
سؤال: ما حكم من يضع مصحفاً في درج السيارة، معتقداً أن للمصحف أثراً في رد العين أو البلاء؟
الجواب: إذا كان يقصد من وضع المصحف في درج السيارة، أو في أي جهة منها أن يدفع ذلك عنه العين فهذا من اتخاذ المصحف تميمة، وقد تقدم حكم التمائم من القرآن، وأن الصحيح أنه لا يجوز أن يُجعل القرآن تميمة، ولا يُظن أن وجوده في مكان ما يدفع العين، لكن الذي يدفع العين: قراءة القرآن، والأدعية المشروعة، والاستعاذة بالله –جل وعلا- ونحو ذلك مما جاء في الرقية.
فتحصل أن وضع القرآن في السيارة لهذه الغاية داخل في المنهي عنه، وهو من اتخاذ التمائم من القرآن، لكن لما كان القرآن غير مخلوق –وهو كلام الله جل وعلا- لم تصر هذه التميمة شركية،وإنما يُنهى عنها فقط، لأن النبي –صلى الله عليه وسلم- لم يستعمل القرآن على هذه الصفة، ولم يجعله في عنق أحد من الصحابة لا الصغار، ولا الكبار، ولا أذن، ولا وجَّه إلى أن يجعل القرآن في شيء من صدورهم، أو في عضد أحدهم، أو في بطنه، ومعلوم أن مثل هذا لو كان دواء مشروعاً أو رقية سائغة، أو تميمة مأذوناً بها لرخِّص فيها ولا سيما مع شدة حاجة الصحابة إلى ذلك، لأن تعليق القرآن أيسر من البحث عن راقٍ(17/28)
ص -601- ... يرقي ويُطلب منه ذلك وربما يُكافأ على رقيته، أو يطلب أجراً، فلما كان هذا أيسر والنبي –صلى الله عليه وسلم- لم يرشدهم إلى الأيسر –وقد بُعث ميسراً- عُلم مع ضميمة الأدلة المتقدمة التي ذكرت أن هذا من جنس الرقية غير المشروعة، والله أعلم.
سؤال: قوله: "وعامرهن غيري" قد يستدل به أهل البدع على أن الله في كل مكان، فكيف الرد عليهم؟
الجواب: المقصود بالسماوات في قوله -جل وعلا- في الحديث القدسي: "يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهنّ غيري" السماوات السبع معروفة، وهي طباق بعضها فوق بعض، والمراد بقوله: "وعامرهن" العمارة المعنوية، يعني: من عمرها بالتسبيح، والتهليل، وذكر الله وعبادته، وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "أطت السماء وحقّ لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا ملك قائم، أو ملك ساجد، أو ملك راكع"(1) ففيها عمّار كثيرون عَمروها بعبادة الله –جل وعلا- وقد قال –جل وعلا- في أول سورة الانعام: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} [الأنعام:3] فالله –جل وعلا- هو المعبود –سبحانه- في السماوات، وهو المعبود –سبحانه في الأرض.
فقوله هنا: "لو أن السماوات السبع وعامرهنّ غيري" يعني: مَنْ يعمر السماوات والمقصود بهذا الاستثناء في قوله: "غيره" الله –عز وجل-
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر السلسلة الصحيحة رقم (852).(17/29)
ص -602- ... ويحتمل الاستثناء هذا أن يكون راجعا إلى الذات، أو إلى الصفات، ومعلوم أن الأدلة دلت على أن الله –جل وعلا- على عرشه، مستوٍ عليه بائن من خلقه –جل وعلا- والسماوات من خلقه سبحانه وتعالى، فعُلم من ذلك أن قوله: "وعامرهن غيري" راجع إلى عمارة السماء بصفات الله –جل وعلا- وبما يستحقه سبحانه من التأله، والعبودية،وما فيها من علم الله، ورحمته، وقدرته، وتصريفه للأمر، وتدبيره، ونحو ذلك من المعاني.
سؤال: رجل عنده ولد مريض مرضاً لم يجد له علاجاً فقال: أذهب إلى مكة، وأضع ولدي عند البيت، وأدعو له بالشفاء، فإذا حان الظهر دعوتُ مائة شخص من فقراء الحرم على الغداء، ثم أقول هم: ادعوا الله أن يشفي ولدي، فما حكم هذا العمل؟.
الجواب: هذا العمل فيه تصدق ودعوة الفقراء إلى الطعام، وفيه طلب الدعاء منهم لولده، والتصدق بالطعام هو من جنس الأعمال المشروعة –كما تقدم- وتقدم أيضاً حكم الذبائح، وإراقة الدماء، فإذا كان في هذا الإطعام ذبائح، فتفصيل الجواب كما سبق.
وإن كان قصده مجرد إطعامهم لإشباعهم والتصدق عليهم ثم طلب منهم الدعاء، -وهي المسألة الثانية- فهذا راجع إلى هل يشرع طلب الدعاء من الغير بهذه الصفة، أو لا يشرع؟ الظاهر أن هذا من جنس ما هو غير مشروع، ومعنى أنه ليس بمشروع: أنه ليس بمستحب ولا واجب، ولكن هل يجوز طلب الدعاء من الآخرين؟
قال العلماء: الأصل في ذلك الكراهة، والمتأمل فيما روي عن الصحابة وعن التابعين الذين طلب منهم الدعاء: أنهم كرهوا ذلك، ونهوا(17/30)
ص -603- ... الطالب، وربما قالوا له: أنحن أنبياء؟! كما قال ذلك حذيفة ومعاذ وغيرهما –رضي الله عنهما- وكان إمام دار الهجرة أنس بن مالك إذا طلب منه الدعاء نهى الطالب خشية أن يلتفت الناس إليه، وتتعلق قلوبهم به، وإنما يُتعلق في طلب الدعاء بالأنبياء، أما من دونهم فلا يُتعلق بهم في هذا الأمر، لهذا اختار شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- أن طلب الدعاء من المسلم الحي يكون مشروعاً إذا قصد به نفع الداعي ونفع المدعو له، فإذا قصد الطالب أن ينفع الجهتين يعني: ينفع نفسه، وينفع الداعي فهذا من المشروع، وهذا هو الذي يُحمل عليه ما جاء في السنة فيما رواه أبو داود والترمذي وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر لما أراد أن يعتمر: "لا تنسنا يا أخي من دعائك"(1) وهذا الحديث إسناده ضعيف، وقد احتج به بعض أهل العلم، ومعناه ظاهر في أن النبي –صلى الله عليه وسلم- أراد أن ينفع عمر بهذه الدعوة، فالطالب للدعاء محتاج إلى غيره.
والمقصود أن ما فعله هذا السائل لأجل ولده الأولى له تركه، لأجل ألا يتعلق قلبه بأولئك في دعائهم.
ومن العلاج المناسب شرعاً أن يلتزم بين الركن والمقام، يعني: بين الحجر الأسود وبين آخر حدّ باب الكعبة –وهو الملتزم- ويلتزم ويلصق بطنه، وصدره، وخدّه ببيت الله –جل جلاله- ويقف بالباب مخبتاً منيبا سائلاً الله –جل وعلا- منقطعاً عن الخلق عالماً أنه لا يشفي من الداء في الحقيقة إلا الله –جل جلاله- فالله –جل وعلا- هو الذي يشفي، وهو الذي يعافي كما قال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه أبو داود (1498) والترمذي (3562) وابن ماجه (2894).(17/31)
ص -604- ... تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 2] فهذا الفعل أعظم أثراً –إن شاء الله- من فعله الذي يريد أن يفعله من دعوة أولئك، فالتضرع إلى الله في أوقات الإجابة، وفي الأماكن الفاضلة، وفي الأزمنة الفاضلة، نرجو أن يكون معه إجابة الدعاء وشفاء المرض إن شاء الله.
سؤال: مما يقع فيه كثير من الناس أه إذا حصل له أمر ونجا منه فإنه يوجب على نفسه الصدقة، أو يعتقد وجوبها، فما حكم ذلك؟.
الجواب: أن الصدقة في مثل هذا ليس لها حكم الوجوب، والشكر لله –جل وعلا- على نعمه –إذا نجى العبد من بلاء أو حصلت له مسرّة- ينبغي أن يكون بالسجود، أو بالصلاة، أو بالصدقة شكراً لله –جل وعلا- على نعمه، وهذا كله من المستحب، وليس من الواجب، إلا إذا كان ثَمَّ نذر، كمن –نذر إن نُجّي من كذا وكذا- أن يتصدق، فهنا يكون قد ألزم نفسه بعبادة، وهي الصدقة المنذورة، فتكون –في هذه الحالة- واجبة بالنذر، أما أصل الصدقة فهو مستحب، وإذا كانت الصدقة في مقابلة نعمة، أو اندفاع نقمة، فهي أيضاً مستحبة، وليست واجبة، فلا تجب إلا إذا نذر وتحقق الشرط.
سؤال: عند بعض الناس عادة، وهي أن من حصل بينه وبين شخص عداوة أو بغضاء لتعدٍّ من أحدهما على الآخر فيطلبون من أحدهما أن يذبح ويسمّون ذلك ذبح صلح، فيذبح ويُحضرون من حصلت معه العداوة، فما حكم ذلك؟.(17/32)
ص -605- ... الجواب: أن ذبح الصلح الذي تعمله بعض القبائل في صورته المشتهرة المعروفة لا يجوز، لأنهم يجعلون الذبح أمام من يريدون إرضاءه ويريقون الدم تعظيماً وإجلالاً له لإرضائه، فهذا النوع من الذبح يكون محرماً؛ لأنه لم يُرق الدم لله –جل وعلا- وإنما أراقه لأجل إرضاء فلان، فهذا الذبح –كما قلتُ- محرم، والذبيحة –أيضاً- لا يجوز أكلها؛ لأنها لم تذبح لله –جل وعلا- وإنما ذبحت لغيره.
فإن كان الذبح الذي هذا صفته يقصد به التقرب والتعظيم للمذبوح له صار شركاً أكبر، وإن لم يقصد به التقرب والتعظيم له كان محرماً، لأنه لم يَخْلُص من أن يكون لغير الله فصارت عندنا مع هذه الصورة المسؤول عنها صورة أخرى تقدمت، وهي الذبح عند قدوم السلطان وبحضرته، وفي كلتا الصورتين إن كانت قصد الذابح التقرب والتعظيم للمذبوح له، فيكون الذبح حينئذ شركاً أكبر بالله –جل وعلا- لأنه ذبح وأراق الدم تعظيماً للمخلوق، وتقربا إليه.
وإن لم يذبح تقرباً أو تعظيماً، وإنما ذبح لغاية أخرى مثل الإرضاء، فيكون قد شابه أهل الشرك فيما يذبحونه تقرباً وتعظيماً، فنقول: الذبيحة لا تجوز ولا تحل، والأكل منها حرام، ويمكن للإخوة الذين يشيع عندهم في بلادهم أو في قبائلهم مثل هذا الفعل المسمى "ذبح الصلح" ونحوه أن يبدلوه بخير منه، وهو أن يجعلوه وليمة للصلح، فيذبحون للضيافة، يعني: يذبحون لمن يريدون إرضاءهم، ويدعونهم، ويكرمونهم، ولا يكون هذا بحضرتهم، فهذا من الأمر المرغب فيه، ويكون الذبح في هذه الحالة كما يذبح المسلم عادة لضيافة أضيافه، ونحو ذلك.(17/33)
ص -606- ... سؤال: رجل في منطقةٍ ما يأتي إليه الناس عند فقد أموالهم، فيعطيهم خيطاً معقداً ويقرأ عليه ويطلب منهم أن يضعوه في المكان الذي فُقد فيه المال، فما حكم ذلك العمل، وما حكم هذا الرجل؟ وما حكم الصلاة خلفه؟.
الجواب: هذا من الكهانة، لأن الذي يعمل هذه الأشياء يسمّى العراف، أو الكاهن، وقد يكون ساحراً أيضاً، فلا يجوز مثل هذا العمل، ولا يحل لأحد أن يعين أحداً يدعي معرفة شيء من علم الغيب، والصلاة خلفه لا تجوز، لأن هذا إما أن يكون عرافاً أو كاهناً أو ساحراً، وهؤلاء لا تجوز الصلاة خلفهم.
سؤال: ما معنى قولهم: الشرك الأصغر أكبر الكبائر، وكيف يكون كذلك، والشرك الأكبر يعتبر من الكبائر، إذ هو أكبر الكبائر، فنرجو إزالة الإشكال؟
الجواب: هذا سبق إيضاحه، وهو أن الكبائر قسمان: قسم منها يرجع إلى جهة الاعتقاد والعمل الذي يصحبه اعتقاد، وقسم منها يرجع إلى جهة العمل الذي لا يصحبه اعتقاد.
مثال الأول: وهو الذي يصحبه الاعتقاد: أنواع الشرك بالله كالاستغاثة بغير الله، والذبح لغيره، والنذر لغيره، ونحو ذلك فهذه أعمال ظاهرة،ولكن هي كبائر يصحبها اعتقاد جعلها شركاً أكبر، فهي ظاهرها صرف عبادة لغير الله –جل وعلا- وقام بقلب صاحبها الشرك بالله، بتعظيم هذا المخلوق، وجعله يستحق هذا النوع من العبادة، إما على جهة الاستقلال أو لأجل أن يتوسط.(17/34)
ص -607- ... والقسم الثاني: الكبائر العملية التي تُعمل لا على وجه اعتقاد مثل: الزنا، وشرب الخمر، والسرقة، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، ونحو ذلك من الكبائر والموبقات، فهذه تعمل دون اعتقاد، لهذا صارت الكبائر على قسمين.
فنقول: الشرك الأصغر –ومن باب أولى الشرك الأكبر- هو من حيث جنسه أكبر من الكبائر العملية، فأنواع الشرك الأصغر –وإن كانت لفظياً مثل قول: ما شاء الله وشئت، ومثل الحلف بغير الله، أو نسبة النعم إلى غير الله، أو نسبة اندفاع النقم لغير الله –جل وعلا- أو تعليق التمائم، ونحو ذلك- كلها من حيث الجنس أعظم. نعم هي من الكبائر، لكنها من حيث الجنس أعظم من كبائر العمل التي لا يصحبها اعتقاد؛ لأن كبائر الأعمال مثل: الزنا، والسرقة، ونحوها من الكبائر العملية، ليس فيها سوء ظن بالله -جل وعلا- وليس فيها صرف عبادة لغير الله، أو نسبة شيء لغير الله –جل وعلا- والحامل له على فعلها مجرد الشهوات، أما في الأخرى فالحامل له على فعلها اعتقاد بغير الله، وجعل غير الله –جل وعلا- نداً لله سبحانه وتعالى، وأعظم الذنب أن يجعل المرء لله نداً وهو خلقه جل وعلا.
سؤال: لماذا لم يبين الرسول –صلى الله عليه وسلم- الشرك للصحابة قبل أن يقعوا فيه كما في حديث ذات أنواط؟.
الجواب: من المعلوم أن الشريعة جاءت بالإثبات المفصّل والنفي المجمل، والنفي إذا كان مجملاً فإنه يندرج تحته صور كثيرة، فمن فهم دلالة النفي فلا يُحتاج –مع النفي- أن ينبه على كل فرد من أفراده، ولهذا نقول: من فهم (لا(17/35)
ص -608- ... إله إلا الله) لم يحتج إلى أن يُفصل له كل مسألة من المسائل، فمثلاً: النذر لغير الله ليس فيه حديث النذر لغير الله شرك، والذبح لغير الله ليس فيه حديث ينصُّ أن الذبح لغير الله شرك، وكذا العكوف عند القبور، أو العكوف عند الأشجار والأحجار والتبرك بها، وكل ما سبق لم يأت فيه ما ينص عن النهي عنها بأعيانها، ولكن نفي إلهية غير الله –جل وعلا- يدخل فيها –عند من فهم معنى العبادة- كل الصور الشركية، ولهذا فإن الصحابة رضي الله عنهم فهموا ما دخل تحت هذا النفي، ولم يطلب ذات أنواط –كما للمشركين ذات أنواط- إلا من كان حديث عهد بكفر، يعني: لم يسلم إلا قريباً، وهم قلة ممن كانوا مع النبي –صلى الله عليه وسلم- في مسيره إلى حنين.
وأما الإثبات فإنه يكون مفصلاً، وتفصيل الإثبات تارة يكون بالتنصيص، وتارة يكون بالدلالة العامة، كما في الآيات الآمرة بوجوب إفراد الله –جل وعلا- بالعبادة مثلاً كقوله تعالى: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] وقوله: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [لأعراف: 59و65 و73 و85 – هود:50 و61 و84 –المؤمنون:23 و32] ونحو ذلك من الآيات، وتارة يكون بالأدلة الخاصة بالعبادة كقوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [الإنسان:7] وكقوله تعالى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}[الكوثر:2] وكقوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}[الأنفال: 9] فهذه أدلة إثباتٍ تثبت أن تلك المسائل من العبادات، وإذا كانت من العبادات فقول: (لا إله إلا الله) يقتضي بالمطابقة أنه لا تصرف العبادة إلا لله جل وعلا.(17/36)
ص -609- ... فيكون ما طلبه أولئك من القول –الذي لم يعملوه- راجعاً إلى عدم فهمهم أن تلك الصورة داخلة فيما نفي لهم مجملاً بقول لا إله إلا الله.
سؤال: ما حكم التبرك بالصالحين وبماء زمزم والتعلق بأستار الكعبة؟
الجواب: التبرك قسمان:
القسم الأول: التبرك بذواتهم، أو بعرقهم، أو بسؤرهم –يعني: بقية الشراب- أو بلعابهم الذي اختلط بالنوى مثلاً، أو بما فضل من طعامهم، أو بأشعارهم، ونحو ذلك، فهذا لا يجوز وهو من البدع المحدثة وقد تقدم بيان أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا يعملون مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي –وهم سادة أولياء هذه الأمة- شيئاً من ذلك، وإنما فعله الخلوف الذين يفعلون ما لا يؤمرون ويتركون ما أمروا به.
والقسم الثاني: بركة عمل، وهي الاقتداء بالصالحين في صلاحهم، والاستفادة من أهل العلم، والتأثر بأهل الصلاح، فهذا أمر مطلوب شرعاً، أما التبرك بالذات كما كان يفعل مع النبي –صلى الله عليه وسلم- فهذا ليس لأحد إلا للنبي عليه الصلاة والسلام.
أما التبرك بماء زمزم فإنه لا بأس به لمجيء الدليل بذلك، وهو قوله عليه الصلاة والسلام عن ماء زمزم: "إنها طعام طعم وشفاء سقم"(1) فمن شربها طعاماً، أو شفاء من سقم، فقد عمل بما دل عليه الدليل، وكذلك من شربها لغرض من الأغراض التي يريد أن يحققها لنفسه، فهذا أيضاً جائز لأن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه الطيالسي عن أبي ذر كم في "صحيح الجامع" (2435).(17/37)
ص -610- ... النبي عليه الصلاة والسلام قال: "ما زمزم لما شرب له"(1) فمن جعل ماء زمزم سبباً لأشياء يريد تحقيقها فلا بأس بذلك، لأن هذا راجع إلى أنه سبب أذن به شرعاً، ولو شرب ماء آخر كالمياه المعدنية –مثلاً-وأراد بشرب هذا الماء أن يحفظ القرآن، واعتقد ذلك سبباً لحفظ القرآن فإن اعتقاده هذا خاطئ، لأن الدليل هو الذي يدلّ على كون ذلك الشيء مؤثراً أو لا.
أما التعليق بأستار الكعبة رجاء البركة فهذا من وسائل الشرك، ويكون من الشرك الأصغر إذا اعتقد أن ذلك التبرك سبب لتحقيق مطلوبه، أما إذا اعتقد أن الكعبة ترفع أمره إلى الله، أو أنه إذا فعل ذلك عظم قدره عند الله، وأن الكعبة يكون لها شفاعة عند الله، أو نحو تلك الاعتقادات التي فيها اتخاذ الوسائل إلى الله –جل وعلا- فإن هذا التبرك –على هذا النحو- يكون شركاً أكبر، ولهذا يقول كثير من أهل العلم: إن التمسح بحيطان المسجد الحرام، أو بالكعبة، أو بمقام إبراهيم، ونحوها رجاء بركتها هو من وسائل الشرك الأكبر، بل هو من الشرك الأصغر، كما قرر ذلك الإمام الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله.
سؤال: يوجد بعض الساعات مكتوب عليها لفظ الجلالة، فهل يجوز الدخول بها إلى الخلاء؟
الجواب: يقول العلماء في كتب الفقه، في آداب دخول الخلاء: "ويكره دخول الخلاء بشيء فيه ذكر الله" فاصطحاب شيء مما فيه ذكر الله في الخلاء مكروه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه ابن ماجه (3062).(17/38)
ص -611- ... سؤال: هل يعتبر هذا النذر مطلقاً أم مقيداً، وهو إذا حصل للعبد منفعة، مثل أن نجح، أو حصل على وظيفة، ثم نذر أن يصوم ثلاثة أيام لله تعالى، مع العلم أنه لم ينذر قبل نجاحه، أو حصوله على الوظيفة؟.
الجواب: النذر المطلق هو الذي لم يعلق بشيء سيحصل في المستقبل، والنذر المقيد هو الذي علق على الوفاء بحصول شيء من الله –جل وعلا- للعبد وهذا يكون في المستقبل، كأن يقول: إن شفي الله مريضي فسأصوم ثلاثة أيام، أو نحو ذلك، فهذا هو النذر المعلق المقيد. أما المطلق فهو أن ينذر نذراً لله –جل وعلا- تبرراً منه إما بسبب حادثة حدثت، أو نعمة تجددت، أو نقمة اندفعت، أو بدون سبب، فهذا كله يدخل في النذر المطلق، أما المقيد فهو المعلق بشرط في المستقبل كما تقدم قريبا.
سؤال: ما حكم عمل احتفال بسيط انتهاء عقد أحد العاملين بالشركة، سواء كان مسلما أو غير مسلم، وحجة بعضهم في عمل الاحتفال لغير المسلم أنه من باب دعوته إلى الإسلام، مع العلم أنه خلال وجوده في العمل لم يقدم له أحد –ممن يحتجون بهذا القول- كتاباً أو شريطاً لدعوته للإسلام.
الجواب: المقصود من تلك الاحتفالات إكرام من أقيمت له، فإذا كان مسلما فإكرام المسلم من حقوقه المستحبة، وإذا كان غير مسلم فله حالتان:
الحالة الأولى: أن يكون ممن لم يظهر للإسلام عداوة، أو أظهر في الإسلام رغبة، وهو مسالم لأهل الإسلام، ومحب لأهل الخير وأهل الدين والصلاح –كما يظهر من بعضهم- فمن كان بهذه الصفة فإنه يصلح أن يدعى للإسلام(17/39)
ص -612- ... لأنه قريب، سَلِم من البغضاء والعداوة التي تحجزه عن قبول الحق لو عُرض عليه.
فإذا كان القصد من عمل الاحتفال لمثل هذا أن يكون بداية لدعوته إلى الإسلام وبيان محاسنه، وبيان بطلان الأديان الأخرى، ونحو ذلك، فهذا بحسب قصد فاعله، لكن أصل الإكرام لغير المسلم لا يجوز.
وأما إن كان معادياً للإسلام، أو لم يظهر قبولاً للإسلام، أو عُرف من سيرته –حين بقي تلك المدة في المؤسسة أو الشركة- أنه لا يحب الخير، بل ربما أظهر صدوداً عن أهل الخير، وأظهر عدم قبول لبعض أوامر الشرع التي يُحكم بها، فهذا لا يجوز إكرامه ؛ لأن إكرامه من موالاة الكفار، وموالاتهم محرمة، لأنا نكون –بهذا- قد أكرمناه مع بقائه على عداوته وعلى بغضه، وهذا لا يجوز. والأصل على هذا التفصيل دل عليه قول الله جل وعلا: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:8-9] فهذه الآيات فيها بيان حال الصنفين، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ربما أجاب دعوة اليهود رجالهم ونسائهم، وربما أتى بعض أهل الكتاب، وربما أهدى إليهم، بل وحث على الهدية للجار، وهذا كله لأجل الترغيب في الخير والترغيب في الإسلام.(17/40)
ص -613- ... فالمقصود أن الإكرام بتلك الحفلات لا يجوز إلا إذا كانت ثمة مصلحة شرعية راجحة يقدرها أهل العلم إذا وصف الحال لهم، وأما ما عدا ذلك فلا يجوز إقامة الحفلات لهم؛ لأنه نوع موالاة للكفار.
سؤال: هل يدخل في باب "لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله" ما يحصل –وخاصة في أوروبا وأمريكا" من شراء كثير من المسلمين لكنائس قديمة ثم تعديلها لتكون مساجد، أو هدم الكنيسة وبناء مسجد مكانها؟.
الجواب: أنه لا يدخل في ذلك؛ لأن مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي تضاعف الصلاة فيه أقيم على مكان فيه قبور للمشركين، فبعد أن نُبشت تلك القبور، وأزيل الرفات أقيم المسجد في ذلك المكان.(1) والكنيسة التي عُبد فيها غير الله –جل وعلا- إذا حولت إلى مسجد فهذا من أعظم الطاعات، ومن أحب الأعمال إلى الله –جل وعلا- وذكرت فيما سبق أن الفرق بين هذه الصورة وبين "لا يُذبح بمكان يُذبح فيه لغير الله" أن الذبح صورته مشتركة، بمعنى أن الصورة الظاهرية واحدة، وإنما الاختلاف في النيات، ولهذا منع من ذلك، أما عبادة المسلمين وصلاتهم وهيئة مساجدهم وجلوسهم إلى آخر تلك الهيئات فهي مخالفة لما عليه صلاة النصارى.
فاستبدال الكنيسة بالمسجد أمر مطلوب إذا تمكن المسلمون منه، بل هذا الذي فعله المسلمون في الأندلس، بل ورد في بعض البلاد الأخرى كالشام ومصر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (428) ومسلم (524).(17/41)
ص -614- ... سؤال: نرى عبارة مكتوبة على بعض السيارات "يا رضا الله ورضا الوالدين" فما حكم تلك العبارة؟
الجواب: قوله: "يا رضا الله ورضا الوالدين" غلط من جهتين:
الجهة الأولى: أنه نادى رضا الله، ومناداة صفات الله –جل وعلا- بـ(ياء النداء) لا تجوز؛ لأن الصفة غير الذات في مقام النداء، ولهذا إنما يُنادى الله –جل وعلا- المتصف بالصفات،وقد نصّ شيخ الإسلام ابن تيمية في ردّه على البكري، وغيره من أهل العلم على أن مناداة الصفة محرمة بالإجماع، فإذا كانت الصفة هي الكلمة –كلمة الله جل وعلا- كفراً بالإجماع؛ لأن من نادى الكلمة، يعني بها عيسى عليه السلام فيكون تأليهاً لغير الله –جل وعلا- ورضا الله –جل وعلا- صفة من صفاته، فلا يجوز نداء الصفة.
والمؤاخذة الثانية في تلك الكلمة: أنه جعل رضا الوالدين مقروناً برضا الله –جل وعلا- بـ(الواو) والأنسب هنا أن يكون العطف بـ(ثم) فيقول –مثلاً- أسأل الله رضاه ثم رضا الوالدين. وإن كان استعمال الواو في مثل هذا السياق لابأس به، لأن الله -جل وعلا- قال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14] وقال جل وعلا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء: 23] ولأن (الواو) تقتضي تشريكاً في أصل الرضا، وهذا الرضا يمكن أن يكون من الوالدين –أيضاً- فيكون التشريك في أصل المعنى، لا في المرتبة.(17/42)
ص -615- ... سؤال: هل يجوز الذهاب للعلاج عند من يزعم أنه يعالج بمساعدة جن مسلمين؟ وهل هذه المساعدة من الجن للقارئ من الاستعانة الجائزة أو المحرمة؟.
الجواب: الاستعانة بالجن سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين وسيلة من وسائل الشرك، والاستعانة معناها طلب الإعانة، ولهذا فمن المتقرر عند أهل العلم أنه لا يجوز طلب الإعانة من مسلمي الجن، لأن الصحابة –رضوان الله عليهم- لم يطلبوا ذلك منهم، وهم أولى أن تخدمهم الجن، وأن تعينهم.
وأصل الاستعانة بالجن من أسباب إغراء الإنسي بالتوسل إلى الجني وبرفعة مقامه، والاستمتاع به، وقد قال جل وعلا:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} [الأنعام: 128] فحصل الاستمتاع –كما قال المفسرون- من الجني بالإنسي بأن الإنسي يتقرب إليه، ويخضع له، ويذل ويكون في حاجته، ويحصل الاستمتاع من الإنسي بالجني بأن يخدمه الجني، وقد يكون مع ذلك الاستمتاع ذبح من الإنسي للجني، وتقرب بأنواع العبادات، أو بالكفر بالله –جل وعلا- والعياذ بالله، بإهانة المصحف، أو بامتهانه أو نحو ذلك، ولهذا نقول: إن الاستعانة بجميع أنواعها لا تجوز، فمنها ما هو شرك –كالاستعانة بشياطين الجن- يعني: الكفار، ومنها ما هو وسيلة إلى الشرك، كالاستعانة بمسلمي الجن.(17/43)
ص -616- ... وبعض أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية يقول: "إن الجن قد تخدم الإنسي". وهذا المقام فيه نظر وتفصيل، ذلك أنه –رحمه الله- ذكر في آخر كتاب "النبوات" أن أولياء الله لا يستخدمون الجن إلا بما فعله معهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بأن أمرهم، ونهاهم، أي بالأوامر، والنواهي الشرعية، أما طلب خدمتهم وطلب إعانتهم فإنه ليس من سجايا أولياء الله، ولا من أفعالهم، قال:"مع أنه قد انتفع الجن الإنس، وقد تقدم له بعض الخدمة، ونحو ذلك، وهذا صحيح من حيث الواقع.
فالحاصل أن المقام فيه تفصيل فإذا كان الاستخدام بطلب الخدمة من الجني المسلم، فهذا وسيلة إلى الشرك، ولا يجوز أن يعالج عند أحد يعرف منه أنه يستخدم الجن المسلمين. وإذا كانت الجن تخدم بعض الناس بدون طلبه، فإن هذا قد يحصل، لكن لم يكن هذا من خلق أولياء الله، ولا مما سخّره الله –جل وعلا- لخاصة عباده، فلا يسلم من هذا حاله من خلل جعلت الجن تُكثر من خدمته، وإخباره بالأمور، ونحو ذلك. فالحاصل أن هذه الخدمة إذا كانت بطلب منه، فإنها لا تجوز، وهي نوع من أنواع المحرمات، لأنها نوع استمتاع، وإذا كانت بغير طلب منه فينبغي له أن يستعيذ بالله من الشياطين ويستعيذ بالله من شر مردة الجن، لأنه قد يؤدي قبول خبرهم، واعتماده إلى حصول الأنس بهم، وقد يقوده ذلك الاستخدام إلى التوسل بهم والتوجه إليهم، والعياذ بالله.
فإذا تبين ذلك فإن خبر الجن عند أهل العلم ضعيف، لا يجوز الاحتجاج به عند أهل الحديث، وذكر ذلك أيضاً الفقهاء. وهذا صحيح؛ لأن البناء على الخبر، وقبوله هو فرع عن تعديل المخبِر، والجني غائب، وعدالته غير معروفة، وغير معلومة عند السامع، فإذا بنى الخبر عمن(17/44)
ص -617- ... جاءه به من الجن وهو لم يرهم، ولم يتحقق عدالتهم إلا بما سمع من خطابهم –وهي لا تكفي- فإنه يكون قد قبل خبر من يحتمل أنه فاسق، ولهذا قال الله جل وعلاك{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] والذين يقبلون إخبار الجن وإعلام الجن لهم ببعض الحوادث تحصل منهم مفاسد متنوعة كثيرة، منها هنا: جزمهم بصحة ما أخبرتهم به الجن، فربما حصل بسبب ذلك مفاسد عظيمة من الناس الذين أخبروا بذلك، فيكثر القيل والقال، وقد تفرقت بعض البيوت من جراء خبر قارئ جاهل يزعم أن الذي فعل هذا هو فلان باعتبار الخبر الذي جاءه، ويكون الخبر الذي جاءه من الجني خبراً كاذباً، فيكون قد اعتمد على نبأ هذا الذي لا يعلم عدالته، وبنى عليه وأخبر به، فيحصل من جرّائه فرقة، واختلاف، وتفرق، وشتات في البيوت، ونعلم أنه قد ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم –رحمه الله- أن إبليس ينصب عرشه على ماء، ويبعث سراياه، فيكون أحب جنوده إليه من يقول له: فرقت بين المرأة وزوجها،(1) وهذا من جملة التفريق الذي يسعى إليه عدو الله أن يفرق بين المؤمنين، ولهذا جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أيضاً مسلم وغيره أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه مسلم (2813) (67).(17/45)
ص -618- ... جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم"(1) فهذه المسألة يجب على طلاب العلم أن يسعوا في إنكارها، وبذل الجهد في إقامة الحجة على من يستخدم الجن، ويتذرع بأن بعض العلماء أباح ذلك، والواقع أن هذا العمل وسيلة من وسائل الشرك بالله –جل وعلا- واقرؤوا كتاب "تاريخ نجد" لابن بشر، حيث قال: إن سبب دخول الشرك إلى قرى نجد أنه كان بعض البادية إذا أتى وقت الحصاد، أو أتى وقت خرف النخيل، فإنهم يقطنون بجانب تلك القرى ومعهم بعض الأدوية والأعشاب فإذا كانوا كذلك فربما سألهم بعض جهلة تلك القرى حتى حببوا إليهم بعض تلك أفعال المحرمة من جراء سؤالهم، وحببوا إليهم بعض الشركيات، أو بعض البدع، حتى فشا ذلك بينهم، فسبب هؤلاء المتطببين الجهلة، والقراء المشعوذين انتشر –قديماً- في الديار النجدية وما حولها، كما ذكر ابن غنام. وقد حصل أن بعض مستخدمي الجن كثر عنده الناس، فلما رأى من ذلك صار يعالج علاجاً نافعاً، فزاد تسخُّر الجن له، حتى ضعُف تأثيره، قلما ضعف تأثيره ولم يستطع مع الحالات التي تأتيه للقراءة أو للعلاج شيئاً صار تعلقه بالجن أكثر، ولا زال ينحدر ما في قلبه من قوة اليقين، وعدم الاعتماد بقلبه على الجن حتى اعتمد عليهم شيئاُ فشيئاً، ثم حرفوه –والعياذ بالله- عن السنة، وعما يجب أن يكون في القلب من توحيد الله، وإعظامه، وعدم استخدام الجن في الأغراض الشركية، فجعلوه يستخدم الجن في أغراض شركية وأغراض لا تجوز بالاتفاق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه ومسلم (2812).(17/46)
ص -619- ... فهذا الباب مما يجب وصده، وكذلك يجب إنكار وسائل الشرك والغواية، وحكم من يستخدم الجن، ويعلن ذلك، ويطلب خدمتهم لمعرفة الأخبار، فهذا جاهل بحقيقة الشرع، وجاهل بوسائل الشرك، وما يصلح المجتمعات وما يفسدها، والله المستعان.
سؤال: ما الفرق بين التوسل والشفاعة؟ نرجو التوضيح وجزاكم الله خيرا.
الجواب: أن التوسل هو اتخاذ الوسيلة، والوسيلة: هي الحاجة نفسها، أو ما يوصل إلى الحاجة وقد يكون ذلك التوسل باستشفاع، يعني بطلب شفاعة، بمعنى أنه قد يريد أن يصل إلى حاجته –بحسب ظنه- بالاستشفاع، وقد يروم التوصل إلى حاجته –بحسب ظنه- بغير استشفاع، فيتوسل مثلاً بالذوات فيسأل الله بذات فلان، أو بجاهه، أو بحرمته، مثل أن يقول: اللهم إني أسألك بنبيك محمد –بعد وفاته عليه الصلاة والسلام- أو يقول: اللهم إني أسألك بأبي بكر، أو بعمر، أو بالإمام أحمد، أو بابن تيمية، أو بالولي الفلاني، أو بأهل بدر، أو بأهل بيعة الرضوان، أو بغيرهم. فهذا هو الذي يسمونه توسلاً، وهذا التوسل معناه: أنه جعل أولئك وسيلة، وأحياناً يستعمل في التوسل لفظ: حرمة، والجاه،، فيقول: أسألك بحرمتهم، أو أسألك بجاههم، ونحو ذلك.
أما الاستشفاع فهو أن يسألهم الشفاعة أي يطلب منهم أن يشفعوا له.
فتحصل من ذلك أن التوسل يختلف عن الاستشفاع في أنّ المستشفِع طالب للشفاعة، وقد علم أن الشفاعة إذا طلبها من العبد يكون قد سأل غير الله، وأما المتوسل –بحسب عُرف الاستعمال- فإنه يسأل الله، لكن يجعل ذلك بوسيلة أحدٍ.(17/47)
ص -620- ... فالاستشفاع سؤال لغير الله، وأما الوسيلة فهي سؤال الله بفلان، أو بحرمته، أو بجاهه، وكل هذا لا يجوز؛ لأنه اعتداء في الدعاء، ولأنه بدعة محدثة ووسيلة إلى الشرك، وأما الاستشفاع بالمخلوق الذي لا يملك الدعاء كالميت أو الغائب، أو نحوهما فهو شرك أكبر، لأنه طلب ودعاء لغير الله.
فالتوسل –بحسب العرف- هو من البدع المحدثة، ومن وسائل الشرك، وأما طلب الشفاعة من غير الله فهو دعاء غير الله، وهو شرك أكبر.
لكن الجاهليون والخرافيون والقبوريون يسمون عباداتهم الشركية –من طلب الشفاعة، والذبح، والنذر، والاستغاثة بالموتى، ودعائهم- توسلاً، وهذا غلط في اللغة، والشرع معاً، فالكلام في أصله لا يصح، فإن بين التوسل والشفاعة فرقاً من حيث مدلول المعنى اللغوي، فكيف يسوي بينهما في المعنى؟! أما إذا أخطأ الناس وسموا العبادات المختلفة توسلاً فهذا غلط من عندهم، لا يتحمله الشرع، ولا تتحمله اللغة.
سؤال: ما حكم من يضع على السيارات، أو المنازل عبارات مثل: ما شاء الله، أو تبارك الله، أو هذا من فضل ربي؟.
الجواب: هذا له حكم تعليق بعض الآي على الحيطان، أو في السيارات أو نحو ذلك، فإن كان المقصود منها الإرشاد إلى عمل شرعي مسنون، فهذا مشروع، أو مباح، وأما إن كان القصد منها أن تحفظه أو تحرسه من العين أو من الأذى، فهذا راجع إلى اتخاذ التمائم من القرآن ونحوه، وهذا سبق تفصيل الجواب عنه.(17/48)
ص -621- ... سؤال: ما حكم امرأة طلبت من قريب لها ذاهب إلى مكة أن يشتري لها كفناً من هناك وأن يغسل الكفن من ماء زمزم، وهذا الأمر منتشر بين الناس؟.
الجواب: هذا تبرك بما يباع في مكة واعتقاد فيه، وهو باطل، لا يجوز فعله، لأن ما يباع في مكة ليس له خصوصية في البركة، وليس له خصوصية في النفع، بل هو وما يباع في غير الحرم سواء، وأما غسله بماء زمزم لرجاء أن يكون ذلك الكفن فيه من بركة ماء زمزم، فكذلك هذا غلط، لأن بركة ماء زمزم مقيدة بما ورد فيه الدليل، ليست بركة عامة، إنما هي بركة خاصة بما جاء فيه الدليل، ولهذا فإن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا يستعملون ماء زمزم إلا فيما جاءت فيه الأدلة كقوله صلى الله عليه وسلم: "ماء زمزم لما شرب له"(1) وقوله في زمزم أيضاً: "إنها طعام طعم وشفاء سقم"(2) أما التبرك بها في غير ذلك، فهذا ليس له أصل شرعي.
سؤال: ما حكم الاغتسال بماء زمزم، والماء الذي قرئ فيه القرآن في بيوت الخلاء؟.
الجواب: لا بأس؛ لأنه ليس فيه قرآن مكتوب، وليس فيه المصحف مكتوباً، وإنما فيه الريق، أي النفث، وهو الهواء الذي خالطه المصحف، أو خالطته القراءة.
ومن المعلوم أن أهل مكة في أزمنتهم الأولى كانوا يستعملون ماء زمزم ولم يكن عندهم غير ماء زمزم، فالصواب أن لا كراهة في ذلك، وأنه جائز، والماء ليس فيه قرآن إنما نفث بالقرآن، وفرق بين المقامين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تقدم.
(2) تقدم.(17/49)
ص -622- ... سؤال: ما الحكم إذا ذبح العبد ذبيحة لأن الله قد شفي مريضه، وخرج من المستشفى؟.
الجواب: أن هذا يرجع على نيته في ذبح هذه الذبيحة، فإذا كانت بعد الانتهاء من المرض، وارتفاعه، وتعافي ذلك المرض، وشفي بفضل الله –جل وعلا- وبنعمته، فهذا يختلف حاله، فإذا قصد بالذبيحة أنها شكر لله –جل وعلا- وتصدق بلحمها فهذا حسن، لأن المرض قد انتهى وارتفع، فهو لا يقصد به الاستشفاء، وإنما هي نوع شكر لله –جل وعلا- وكذلك فلا بأس إن دعا إليها أحداً من أقربائه، أو ممن يحبون ذلك المريض ونحو ذلك فهذا من باب الإكرام.
وأما إذا كانت مقاصده أو نياته في هذا الذبح أن يدفع رجوع هذا المرض مرة أخرى، أو أن يدفع سيئاً من انتكاسات المرض، أو يدفع شيئاً مما يخافه، فهذا غير جائز سداً لذريعة الاعتقادات الباطلة.
سؤال: جاء في بعض الكتب نقل معناه: أن الإنسان إذا خاف على ولده أو على نفسه العين، فإنه يضع على جبهته، أو جبهة ولده نقطة سوداء لصرف العين ودفعها.
الجواب: اعتقادات الناس في دفع العين لا حصر لها، والجامع لذلك أن كل شيء يفعله الناس مما يعتقدونه سبباً، وليس هو بسبب شرعي ولا قدري فإنه لا يجوز اتخاذه، وهذا يختلف عما جاء عن عمر –رضي الله عنه- أنه رأى غلاماً صغيراً، حسن الصورة، وخاف عليه العين، فقال لأهله: "دسموا نونته" ففعلوا، فهذا من باب إخفاء الحسن، ومحاولة تدميم الصورة. وليس التدسيم –وهو وضع(17/50)
ص -623- ... نقطة في بعض الوجه- الذي يوضع لأجل أن تدفع تلك النقطة العين، ولكن لأجل أن يظهر بمظهر ليس بحسن، فلا تتعلق النفوس الشريرة به.
فإذا كان وضع هذه النقطة –التي ذكرت- لأجل اعتقاد أنها تدفع العين فهذا من اتخاذ الأسباب الشركية التي لا تجوز، وإن كان لأجل إظهار عدم الحسن في تلك الصورة الجميلة، أو ذلك الجسد المعافى، أو نحو ذلك، فإن هذا لا بأس به. والله أعلم.
سؤال: أجاز بعض العلماء التوسل بالنبي –صلى الله عليه وسلم- ودليلهم حديث الأعمى، فكيف ترد عليهم؟ وجزاكم، الله خيراً.
الجواب: حديث الأعمى رواه الترمذي وغيره،(1) وهو حديث حسن، وهناك رواية أخرى طويلة في معجم الطبراني الصغير لهذا الحديث، وفيها زيادة أن أحد الصحابة –وهو عثمان بن حنيف رضي الله عنه- أرشد إلى استعمال ذلك الدعاء بعد وفاته عليه الصلاة والسلام. (2)
بالنسبة للقدر الأول، وهو أن الأعمى توسل بالنبي عليه الصلاة والسلام في حياته، فهذا صحيح وجار على الأصول، حيث إن التوسل بالنبي عليه الصلاة والسلام في حياته توسل بدعائه، وهو عليه الصلاة والسلام يملك ذلك ويستطيعه ويقدر عليه.
أما التوسل بالنبي عليه الصلاة والسلام، أي بدعائه، أو بذاته، أو بنحو ذلك بعد وفاته، فإنه لا يجوز؛ لأنه طلب للشيء ممن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) رواه أحمد في المسند (4/138) والترمذي (5/569) والطبراني في المعجم الكبير (9/19).
(2) رواه الطبراني في الصغير (1/184).(17/51)
ص -624- ... لا يملكه، والرواية التي في "الطبراني الصغير" ضعيفة، وفيها مجاهيل، ولذلك ليست بحجة ولم يرد أن الصحابة استعملوا هذه الدعاء بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
والذي يدل –أيضا- على أن ذلك خاص بالأعمى، وعلى أصل الاستشفاع، وأنه رحمة من الله –جل وعلا- للمستشفع، وفضل منه عليه، وإزالة عما به أن ذلك الأعمى رأى النور وأبصر بعد دعاء النبي عليه الصلاة والسلام له، وتوجّه ذلك الأعمى إلى الله –جل وعلا- أن يجيب فيه دعاء نبيه عليه الصلاة والسلام.
والصحابة الآخرون الذين كانوا مكفوفين لم يدعوا بهذا الدعاء، فكان في المدينة أناس عدة كُفّت أبصارهم، منهم: ابن أم مكتوم، وجماعة، فما دعوا بذلك الدعاء، وإنما كان ذلك خاصاً بذلك الأعمى، فالعلماء لهم في ذلك توجيهان:
التوجيه الأول: أن ذلك الدعاء كان خاصاً بذلك الأعمى، بدليل عدم استعمال بقية الصحابة ذلك الدعاء، وعدم إرشاد النبي عليه الصلاة والسلام لهم أن يُزال ما بهم من عمى البصر بذلك الدعاء.
التوجيه الثاني: أن ذلك خاص بحياته عليه الصلاة والسلام، ولا يكون بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، وهذا الثاني والأول جميعاً ظاهرة صحيحة، والصحابة فهموا ذلك، ولهذا ثبت في صحيح البخاري وغيره أن عمر رضي الله عنه قال: لما أجدبوا وهو يخطب في الاستسقاء: "اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا بنبيك، وإنا نتوسل إليك اليوم بعمِّ نبيك، يا عباس قم فادع لنا". (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري في الاستسقاء (1010).(17/52)
ص -625- ... قال العلماء: انتقل عمر من الفاضل –وهو النبي عليه الصلاة والسلام- إلى المفضول وهو العباس عم النبي عليه الصلاة والسلام لعلة شرعية، وهي أن الدعاء من الحي ممكن، وأما من غير الحي –الحياة الدنيا المعروفة- فإنه غير ممكن، وإلا كان عمر -رضي الله عنه- انتقل من الفاضل إلى المفضول لغير علة شرعية، وهذا ممتنع في حق الصحابة رضوان الله عليهم لكمال فقههم.
سؤال: بعض أصحاب السيارات الخاصة، كالليموزين، وسيارات النقل الكبيرة يضعون على أطراف السيارة خرقاً سوداء اعتقاداً منهم بأنها حروز تمنعهم الحوادث، فهل يجوز نزعها، أو ماذا يفعل؟
الجواب: إذا كان الأمر كما وصفه السائل من أن سبب وضع تلك الشارات أو الخرق، هو اعتقاد أهلها فيها، فيجب نزعها، ومن نزعها فله فضل نزع التمائم من أماكنها، أو تخليص أصحابها منها، لكن هذا متوقف على أن يعلم أنهم وضعوها لهذا الغرض، فإنّ وضع مثل هذه الشارات لهذا الغرض غير معروف أنه لأجل دفع التمائم، فإذا كان بعض الناس يستعملها لدفع الشر، ويستعملها لأنها تمائم، فهذه يجب نزعها، ومن رآها لا يحل له أن يتعداها حتى ينزعها؛ لأنها اعتقاد في غير الله، ولأنها نوع من أنواع المنكر وذلك الاعتقاد فيها كبيرة من الكبائر، وشرك أصغر بالله جل وعلا.
سؤال: كيف نُخرِّج قول النبي عليه الصلاة والسلام: "لولا أنا لكان عمي في الدرك الأسفل من النار؟".
الجواب: عن هذا يأتي في بابه –إن شاء الله- والقاعدة المنضبطة في ذلك هو منع أن يقول القائل: لولا فلان لكان كذا، لأنه شرك لفظيٌّ، ونوع(17/53)
ص -626- ... تشريك؛ حيث إنه نسب النعمة لغير الله –جل وعلا- وهذا له صور كثيرة جداً منها على سبيل المثال قول القائل: لولا أن فلاناً كان جيداً معي لكان حصل لي كذا وكذا، أو لولا أن السيارة كانت قوية لهلكتُ، أو لولا كذا لكان كذا، مما فيه تعليق دفع النقم أو حصول النعم لأحد من المخلوقين.
والواجب على العباد أن ينسبوا النعم إلى الله –جل وعلا- لأنه هو الذي يسدي النعم، قال جل وعلا: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل:53] وقال جل وعلا: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} [النحل: 83] فالواجب على العبد المسلم أن ينسب النعم إسداء وتضلاً وإنعاماً لله –جل وعلا- وأن يتعلق قلبه بالذي جعل تلك النعم تصل إليه.
والناس أو الخلق أو الأسباب إنما هي فضل من الله –جل وعلا- جعلها أسباباً، وما فلان من الناس إلا سبب أوصل الله إليك النفع عن طريقه، أما النافع في الحقيقة فهو الله –جل وعلا- فإذا اندفعت عنك نقمة، فالذي دفعها هو الله –جل وعلا- بواسطة ذلك المخلوق، آدمياً كان أو غير آدمي، فيجب نسبة النعم إلى الله –جل وعلا- فلا تنسب نعمة لغيره سبحانه، ومن نسبها لغيره سبحانه فهو داخل في قول الله جل وعلا: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} [النحل: 83].
وأما الحديث الذي في الصحيح من أن النبي –صلى الله عليه وسلم- سئل: هل نفعت عمك أبا طالب بشيء؟ قال: "هو في ضحضاح من النار، ولولا أنا لكان في الدرك(17/54)
ص -627- ... الأسفل من النار"(1) فقوله عليه الصلاة والسلام: "لولا أنا" هذا فيه ذكرٌ لعمله –عليه الصلاة والسلام- وافترق عن قول القائل: لولا فلان لحصل كذا من جهتين.
الجهة الأولى: أن ذلك القائل هو الذي حصل له النعمة، أو اندفعت عنه النقمة، والنبي –صلى الله عليه وسلم- هنا يخبر عن صنيعه بعمه، وأن عمَّه اندفعت عنه بعض النقمة، فذلك النهي في المتحدث الذي تعلق قلبه بالذي نفعه أو دفعه عنه الضر، وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا أنا" فهو إخبار عن نفعه لغيره، فليس فيه تعلق القلب في اندفاع النقمة، أو حصول النعمة بغير الله –جل وعلا- هذا وجه، فتكون العلة التي من أجلها نُهي عن قول: لولا كذا لما فيها من نسبة النعمة إلى غير الله من جهة تعلق القلب بذلك الذي حصّل له النعمة، وهذا غير وارد في قول النبي عليه الصلاة والسلام: "لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار" لأنه عليه الصلاة والسلام ليس هو الذي حصلت له النعمة، وإنما هو مخبِر عن فعله لعمه.
الوجه الثاني في ذلك: أن النبي عليه الصلاة والسلام قد بيَّن أن نفعه لعمّه من جهة الشفاعة، فهو يشفع لعمه حتى يكون في ضحضاح من نار، فقوله: "لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار" يعني: لولا شفاعتي.
ومعلوم بنصوص الشرع أنه عليه الصلاة والسلام يُكرم بالشفاعة، ويُعطى الشفاعة، فهو سائل، وهو سبب من الأسباب، والمتقضل حقيقة هو الله جل وعلا،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أخرجه البخاري (3885( و(6564) ومسلم (360).(17/55)
ص -628- ... فكأنه قال عليه الصلاة والسلام –بضميمة علمنا أنه يشفع لعمه- كأنه قال: لولا أن الله شفَّعني فيه لكان في الدرك الأسفل من النار. فليس فيه –بالوجهين جميعاً- تعليق للقلب لغير الله –جل وعلا- في حصول النعم أو اندفاع النقم، مما يكون في قول القائل: لولا فلان لحصل كذا، أو لولا السيارة لحصل كذا، أو لولا الطيار لحصل كذا، أو لولا البيت كان محصناً لحصل كذا ونحو ذلك مما فيه تعلق قلب من حصلت له النعمة بالمخلوقين، والله أعلم.(17/56)