ص -146- ... عنها العين والضرر، والنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يزيل هذه العادة الجاهلية، ويقرر التّوحيد. والقلادة ما أحاط بالعنق.
و الـ"وَتَر" -بفتح الواو- المراد به: وَتَر القوس، والقوس آلة كانوا يرمون بها السهام. وكانوا في الجاهلية إذا اخْلَقَّ الوَتَر أخذوه وعلّقوه على رقاب الدواب، وأبدلوه بوَتَر جديد، يعتقدون أن هذا الوَتَر القديم الذي استعمل ورُمي به أنه يدفع العين عن الإبل.
وقوله: "أو قلادة" هذا شك من الراوي، هل الرسول صلى الله عليه وسلم قال: قلادة من وَتَر، أو قال: قلادة مطلقة، سواء كانت من وَتَر أو من غيره؟. وهذا من دقتهم رضي الله عنهم في الرواية.
وعلى كل حال؛ فيه دليل على منع هذا الشيء من أي نوع كان، سواء كان من وَتَر أو من غيره، ما دام أن المقصود منه عقيدة فاسدة، حتى ولو كان من السُّيور، أو من الخيوط، أو من الخرز، أو من غير ذلك، كل قلادة يُقصد بها هذا المقصد الشركي فهي ممنوعة.
أما القلائد التي لا يُقصد منها مقصد شركي، مثل قلاد الهَدْي الذي يُهدى للبيت العتيق؛ فلا حرج فيها.
"إلاّ قُطِعت" هذا فيه إزالة المنكر، ولاسيّما إذا كان هذا المنكر في العقيدة، فإن إزالته متأكِّدة.
وفيه: أن الحاكم أو الإمام يرسل نوّاباً عنه في إزالة المنكر، وليس من شرط ذلك أن يباشره بنفسه.
الشاهد من الحديث: تحريم عقد القلائد على الدواب، أو على الآدميين بقصد أن ذلك يدفع العين لأنه لا يدفع الضرر ولا يدفعه إلاَّ الله سبحانه وتعالى، وليست القلائد هي التي تدفع الضرر، أو تجلب النفع، وليست سبباً في ذلك وإنما هذا بيد الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(107)}، {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا(13/261)
يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(2)}، {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا(13/262)
ص -147- ... وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الرُّقى والتّمائم والتِّوَلَة شرك" رواه أحمد وأبو داود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}.
قال: "وعن ابن مسعود" هو: عبد الله بن مسعود بن غافل الهُذلي الصحابي الجليل، من أئمة العلم المعروفين في الصحابة، ومن أشهر القرّاء لكتاب الله عزّ وجلّ، وهو الذي أُعجب النبي صلى الله عليه وسلم بقراءته، وقال: "من أراد أن يسمع القرآن غضًّا طريًّا كما أنزل؛ فليسمع إلى قراءة ابن أم عبد"، وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليه، فقال: يا رسول الله كيف أقرأ عليك وعليك أُنزل؟، قال صلى الله عليه وسلم: "إني أحب أن أسمعه من غيري"، قال عبد الله: فقرأت عليه من أول سورة النساء حتى بلغت قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً(41)} قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حسبك"، قال: فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم فإذا عيناه تذرفان.
والشاهد من هذا: فضيلة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
وكان من أَوْعِيَة العلم، وكان له رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة، وكان مُفتياً من مشاهير المُفتين من الصحابة، وكان يقال له: صاحب السِّواد، لأنه كان يحمل نعليّ الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفضائله كثيرة رضي الله عنه، وكان من السابقين الأولين.
وفي بعض الأسفار: أنه صعد شجرة وكان نحيلاً، فنظر الصحابة إلى ساقيه دقيقتين؛ فضحكوا، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "تضحكون من دقّة ساقيه؟!، لهما في الميزان أثقل من جبل أحد".
سبب ذكر عبد الله بن مسعود لهذا(13/263)
الحديث: أنه رأى على امرأته زينب رضي الله عنها خيطاً في عنقها، وقال: لأنتم يا آل عبد الله أغنياء عن الشرك، قالت: إن عيني كانت تَطْرف، فأذهب إلى فلان اليهودي فيرقاها فتكف، قال رضي الله عنه: إنما ذلك شيطان يَنْخَسُها بكفه، فإذا رُقي كفّ، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الرُّقى والتّمائم والتوَلَة شرك".(13/264)
ص -148- ... وعن عبد الله بن عُكيم مرفوعاً: "من تعلّق شيئاً؛ وُكِل إليه".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فهو لما قطع هذا الخيط، وأنكر على زوجته هذا الفعل؛ ذكر الدليل من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الرُّقى والتّمائم والتِّوَلَة شرك" وسيأتي تفسير هذه الثلاثة.
قال: "وعن عبد الله بن عُكيم مرفوعاً" عبد الله بن عُكيم أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يثبت له سماع من النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيكون تحديثه عن الرسول من باب المرسل، لأنه لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال الشيخ: "مرفوعاً".
"من تعلّق شيئاً وُكِل إليه" "من تعلّق شيئاً" سواءً قلادة، أو تَمِيمَة، أو حِرْزاً من الحُرُوز، أو خيطاً، أو حلقة، يعني: علّق قلبه بشيء أيّ شيء، يظن أنه ينفع ويضر، "وُكِل إليه" وَكَلَه الله إلى ما تعلق به. وهذه عقوبة من الله سبحانه وتعالى، وإهانة له من الله سبحانه وتعالى، لأن الله إذا تخلّى عنه وَوَكَلَه إلى غيره هلك. أما من توكّل على الله عزّ وجلّ وحده فإن الله سبحانه وتعالى يتولى أمره. أما من اعتقد بغيره فإنه يَكِلُه إليه ويتخلّى عنه، يَكِلُه إلى حلْقة من صُفْر، أو خيط، أو إلى تَمِيمَة، أو إلى وليّ من الأولياء، أو قبر من القبور، أو ضريح من الأضرحة، يَكِلُه إلى من اعتقد فيه.
فهذا فيه خطر عظيم، وفيه حث على أن يعلِّق الإنسان قلبه بالله عزّ وجلّ، وأن يعتقد أنه لا ينفع إلاَّ الله، ولا يضر إلاَّ الله، ولا يشفي إلاَّ الله، ولا يرزق إلاَّ الله، ولا يُعطي ولا يمنع إلاَّ الله، يتوكّل على الله، مع أخذه بالأسباب المباحة التي جعلها الله أسباباً كالدواء المباح، وغير ذلك من الأسباب المباحة، لكن القلب يتعلق بالله.
فقوله: "من تعلّق شيئاً وُكِل إليه" قاعدة عامة، تعمّ كل شيء يعلّق الإنسان قلبه به من دون الله عزّ وجلّ؟ من بشر، أو حجر، أو شجر، أو قبر، أو حلْقة، أو خيط، أو(13/265)
تَمِيمَة، أو غير ذلك، أو جن، أو إنس.
ففي هذا وجوب التوكّل على الله، والنهي عن الاعتماد على غير الله في جلب خير أو دفع ضُر، والقرآن يقرّر هذا في آيات كثيرة.(13/266)
ص -149- ... "التّمائم": شيء يعلّقونه على الأولاد يتقون به العين.
لكن إذا كان المعلّق من القرآن؛ فرخّص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخّص فيه، ويجعله من المنهي عنه، منهم ابن مسعود رضي الله عنه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم إن الشيخ محمد رحمه الله شرح هذه الألفاظ، فقال: "التّمائم شيء يعلِّقونه على الأولاد يتّقون به العين" ثم قال مفصِّلاً الحكم في هذا: "لكن إذا كان هذا المعلَّق من القرآن؛ فقد رخّص فيه بعض السلف" يعني: إذا كانت التَمِيمَة مكتوبة من القرآن؛ فقد رخّص فيها بعض السّلف، مثل: عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، وعائشة، لأنها من القرآن، والتشافي بالقرآن ليس فيه محذور شركي، فهو كلام الله سبحانه وتعالى.
"وبعضهم" أي: بعض الصحابة، "لم يرخِّص فيه " حتى لو كان من القرآن، منهم: عبد الله بن مسعود- راوي الحديث-، وسيأتي الأثر عن إبراهيم أنه قال: "كانوا يكرهون التّمائم من القرآن ومن غير القرآن"، وإبراهيم النخعي تلميذ لابن مسعود.
هذا اختلاف السلف في تعليق التّمائم من القرآن، فقد اختلفوا في هذا على قولين: منهم من أجاز، نظراً لأن هذا من القرآن، وهو كلام الله سبحانه وتعالى، والتداوي بكتاب الله والاستشفاء بكتاب الله مشروع، ومنهم من منع هذا ولم يرخِّص فيه لعموم النهي عن التمائم.
وبناءً على ذلك اختلف الفقهاء من بعد الصحابة في هذه المسألة على قولين:
منهم من أجاز؛ أخذاً برأي من أجاز من الصحابة، ومنهم من منع.
والصحيح: الرأي الثاني وهو المنع، والشيخ عبد الرحمن بن حسن وقبله الشيخ سليمان بن عبد الله رجَّحا منعه، وذلك لثلاثة أمور:
الأمر الأول: عموم النهي، ولم يَرِد دليل يخصّص ذلك.
الأمر الثاني: سدّ الوسيلة المُفضية إلى الشرك، لأننا إذا أجزنا تعليق القرآن انفتح الباب لتعليق غيره.
الأمر الثالث: أن تعليق القرآن يعرِّضه للامتهان، لأنه يعلّق على الصبيان، والصبيان لا يتجنّبون(13/267)
النجاسة أو الدخول في مواضع القاذورات، وكذلك الجُهّال لا يحترمون القرآن كما ينبغي، ولا يتنّبهون لذلك، وما كان سبباً لتعريض القرآن للامتهان فهو محرّم.(13/268)
ص -150- ... و"الرُّقى": هي التي تُسَمَّى العزائم، وخص منها الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخّص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحُمَة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والذين أجازوا- وهم أصحاب الرأي الأول- اشترطوا ثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن تكون التَمِيمَة من القرآن.
الشرط الثاني: أن تكون مكتوبة باللفظ العربي، فلا تُكتب بلفظ أعجمي أو بخط لا يُقرأ.
الشرط الثالث: أن يعتقد أن الشفاء من الله لا من هذه التَمِيمَة، وإنما هذه التَمِيمَة سبب فقط.
قال الشيخ: "والرُّقى: هي التي تُسمى العزائم" الرُّقى: جمع رقية، والرُّقْيَة: القراءة على المريض. ويسميها العوام العزيمة.
قال الشيخ: "وخصّ منها الدليل ما خلا من الشرك" أي: استثناه من التحريم فهناك أدلة تفصِّل بأنه إن كانت الرُّقْية من القرآن أو من الأدعية المباحة فإنها ليست بشرك، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم رخّص في الرُّقْية من العين ومن الحُمَة كما جاء في حديث بُريدة بن الحُصين الذي سبق في "باب من حقق التّوحيد"، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم رَقى المرضى، ورُقي صلى الله عليه وسلم؛ رَقاه جبريل، وكذلك لما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألونه قالوا: كنا في الجاهلية لنا رُقى نرقي بها وأدوية نتداوى بها، قال صلى الله عليه وسلم: "اعرضوا علي رُقَاكُم، لا بأس بها ما لم تكن شركاً".
وقوله: "فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمة" الرُخصة عند الأصوليين: ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح، لأن الأحكام على قسمين: رُخصة، وعزيمة. فالشيء المستثنى من الممنوع بدليل يسمى: رُخصة، مثل: الأكل من الميتة، وقصر الصلاة للمسافر، هذا يسمى رخصة، كذلك الإفطار في نهار رمضان، كل هذه رُخص، رخّص فيها الشارع من أشياء كانت في الأصل ممنوعة، وذلك من أجل الرّحمة بالخلق، وكذلك الرقية في القرآن استثنيت من الرقى الممنوعة بقوله(13/269)
صلى الله عليه وسلم: "إن الرقى والتمائم والتولة شرك"، فهي رخصة.(13/270)
ص -151- ... و"التِّوَلَة": هي شيء يصنعونه، يزعمون أنه يحبِّب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته.
وروى أحمد عن رُوَيْفع قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يارُوَيْفِع، لعل الحياة ستطول بك؛ فأخبر الناس: أن من عقد لحيته، أو تقلّد وَتَراً، أو استنجى برجيع دابة أو عظم؛ فإن محمداً بريء منه".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "والتِّوَلَة" بكسر التاء وفتح الواو، "شيء يصنعونه، يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته" "يزعمون" أي: يكذبون، والزعم: ا لكذب، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا}، يعني: يكذبون في قولهم أنهم آمنوا.
" أنه يحبِّب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته" هذا يسمونه: الصّرف والعطف، وهو سحر، قال الله سبحانه وتعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}، فهو سحر يفرِّق ويَجْمع، لأنه عمل شيطاني، يعمل أشياء تنفِّر الإنسان من الإنسان، أو الرجل من زوجته، أو الزوجة من زوجها، وهو من عمل الشياطين. فالسحرة لما تقرّبوا من الشياطين وخدموهم وأشركوا بالله، فالشياطين في مقابل ذلك ساعدتهم في هذه الأمور. وهذا كثير في الناس، خصوصاً إذا ضعف في الإيمان، وخصوصاً في البلاد التي لا يُعتنى فيها بأمر العقيدة، فإن السحر يُتخذ حِرْفَة ومهنة في بعض البلاد، ولكن من نعمة الله على هذه البلاد أن هذا الشيء لا يوجد فيها إلاَّ خُفية، لكنه يُطارد، وأهله- والحمد لله- أذِلاء.
قوله: "وروى أحمد عن رويفع".
"رُوَيْفِع" هو رُوَيْفِع بن ثابت الأنصاري- رضي الله تعالى عنه- تولّى إمارة بُرْقة في عهد الخلفاء في مصر، وتوفي هناك رضي الله عنه، وقد طال عمره.
قال: "لعل الحياة ستطول بك" هذا إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم أن رُوَيْفِعاً يعمّر، وقد عُمّر، ففيه: عَلَم من أعلام النبوة، وهو الإخبار عن(13/271)
شيء مستقبَل، ويقع كما أخبر به صلى الله عليه وسلم، وهذا مما أطلعه الله تعالى عليه.
"فأخبر الناس" هذا فيه دليل على تبليغ العلم، ونشر العقيدة، والدعوة إليها،(13/272)
ص -152- ... وإنكار الشرك، وأن الإنسان محمّل هذه الأمانة، لا يتخلى عنها، ويترك الناس يقعون في الشرك وفساد العقيدة، وهو ساكت، ثم يقول: اتركوا الناس مجتمعين، لا تفرقوا بين الناس، حاربوا الشيوعية وحاربوا المذاهب الهدّامة، واتركوا الشرك وهل هناك أشد من الشرك؟، الشرك هو أكبر المذاهب الهدّامة، وهذا القول يدسّه علينا الأعداء إما من اليهود والماسونية أو غيرهم، ويأخذه بعض المغرورين من شبابنا على أنه صحيح، وهو يقصد منه هدم الإسلام، وهدم العقيدة، لأنه إذا تُرك الشرك فسدت العقيدة.
قوله: "أن من عقد لحيته" عقد اللحية اختلف العلماء في تفسيره، منهم من قال: عقد اللحية عادة عند الفُرس، أنهم كانوا عند الحروب يعقدون لحاهم تكبّراً وتجبّراً، ونحن قد نهينا عن التشبّه بالكفّار.
والقول الثاني: المراد به عقد اللحية في الصلاة، لأن هذا من العبث في الصلاة، والحركة في الصلاة، وهذا مكروه في الصلاة، لأنه يدل على عدم الخشوع.
القول الثالث: أن المراد بعقد اللحية ما يفعله أهل الترف من تجعيد لحاهم وتحسينها وكدّها، حتى تتجعّد، يقصدون بها الجمال، فهذا يكون من الترف، نعم لا بأس أن اللحية تصلح وأنها تُنظّف، وأنها تُكرم لكن لا يصل هذا إلى حد الإسراف.
"أو تقلد وَتَراً" يعني: جعل الوَتَر قلادة عليه، أو على دابته، أو على ولده من أجل أن يتّقي به العين والضرر، كما كانت الجاهلية تفعل.
وهذا محل الشاهد في الحديث، قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: "وإذا كان هذا فيمن تقلدوا وتراً، فكيف بمن تعلّق على الأموات يسألهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات؟؟؟!!".
"أو استنجي" الاستنجاء: إزالة أثر الخارج من السبيلين.
لأن الواجب أن الإنسان إذا قضى حاجته أن ينقي المخرج إما بماء وإما باستجمار بالحجارة، فإن جمع بينهما فهذا أفضل.(13/273)
ص -153- ... وعن سعيد بن جبير قال: "من قطع تَمِيمَة من إنسان؛ كان كعدل رقبة" رواه وكيع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"برجيع دابة" الرجيع زوث الدواب، "أو عظم، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم بريء منه" وهذا وعيد شديد يدل على تحريم هذا الفعل، وهو الاستجمار بروث الدواب والعظام، لأن هاتين المادتين طعام الجن وطعام دوابهم فلا يلوثهما عليهم.
قوله: "عن سعيد بن جبير قال: من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة" أي: كان كمن أعتق رقبة من الرِّق، والمناسبة أن اعتاق العبد فيه اعتاق من الرِّق، وقطع التَمِيمَة فيه إعتاق من الشرك، لأن الشرك رِقّ للشيطان بدل الرِّق للرحمن، ورحم الله الإمام ابن القيم حيث يقول:
هربوا من الرِّق الذي خلقوا له ... فبُلُوا برق النفس والشيطان
يعني: هم أرقاء لله، عبيد لله، لكن لما أشركوا به صاروا عبيداً للشيطان، وعبيداً للنفس والهوى، فالإنسان خلق لعبادة الله، فإذا تركها صار عبداً للشيطان، فهو عبد ولابد.
فالذي يزيل هذه الظاهرة الشركية عن مسلم يكون كمن أعتقه من الرِّق في الأجر والثواب.
وسعيد بن جبير رحمه الله اعتبر الشرك رقًّا، من أزاله فكأنما أعتق هذا العبد من هذا الرِّق الذّليل المهين، وجعله حُرًّا من عبادة المخلوق، عبداً لله سبحانه وتعالى لا يعبد غيره، فعبادة الله جل وعلا هي الحرية الصحيحة، ليست الحرية أن الإنسان يشرك ويكفر ويعتقد ما شاء، كما يقولون: الناس أحرار في اعتقادهم لا بل الناس خلقوا لعبادة الله، وعبادة الله ليست من باب الذل والمهانة، وإنما هو من الإكرام، ومن الرِّفعة، وهذا شرف، والله جل وعلا أكرم نبيه بالعبودية له، فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، فعبودية الله شرف، أما عبودية غيره فهي ذلّ ومهانة.
"رواه وكيع" ووكيع هو: وكيع بن الجراح، الإمام الجليل، روى عنه الإمام أحمد وغيره.(13/274)
ص -154- ... وله عن إبراهيم قال: "كانوا يكرهون التّمائم كلها؛ من القرآن وغير القرآن".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال: "وعن إبراهيم" أي: عن إبراهيم النخعي، أحد الأئمة من التابعين.
وقوله: "يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن" أي: كان كبار التابعين من أصحاب ابن مسعود لا يفصِّلون في التّمائم، بل كانوا يكرهونها عموماً، كما سبق أن الراجح هو: تحريم تعليق التّمائم، ولو كانت من القرآن؛ من أجل الأمور الثلاثة التي ذكرناها هناك. وقوله: "يكرهون" أي يحرمون، لأن الكراهة عند السلف يريدون بها التحريم.
فكلام إبراهيم هذا يؤيّد ترجيح المنع مطلقاً، ولأن هذا قول عبد الله بن مسعود، وتلاميذه من أئمة التابعين، أن التّمائم لا تفصيل فيها، حتى ولو كانت من القرآن، لا تُعلّق على الرِّقاب على شكل حُروز، أو على شكل رقاع، أو على شكل أكياس تعبّأ بالأوراق المكتوب فيها ويسمونها خطوطاً، أو عزائم، هذا لا يجوز وإن كان من القرآن، ولا تعلّق على السيارات أو الجدران لأن هذا وسيلة إلى الشرك، ولأنه لم يرد دليل على جوازه، ولأنه تعريض للقرآن للامتهان والابتذال- كما سبق-.
وفي هذا دليل على بعد السلف عما يخدش العقيدة.(13/275)
ص -155- ... {الباب التاسع:] باب من تبرّك بشجرة أو حَجْر ونحوهما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب مكمِّلٌ للأبواب التي قبله، لأن الأبواب التي قبله في لبس الحلْقة والخيط ونحوهما، أو تعليق الرُّقى والتّمائم، وهذا فيه النهي عن التبرّك بالأشجار والأحجار، فهذه الأبواب كلها مؤدّاها الاعتقاد بغير الله سبحانه وتعالى أنه يضر أو ينفع، وهذا شرك، لأن الذي يقدر على دفع الضر وجلب النفع هو الله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له، هو القادر سبحانه وتعالى على ذلك، لا يشاركه أحد، وإن كان هناك أشياء يترتّب على استعمالها أو أكلها أو شُربها ضرر، أو يترتّب عليه نفع؛ فهذه أسباب فقط، أما الذي يخلق ذلك فهو الله سبحانه.
مثلاً: الأكل والشرب من الطيبات هذا فيه نفع، لكن ليس الأكل والشرب هو الذي يخلق النفع، إنما الذي يخلق النفع هو الله سبحانه وتعالى.
مثلاً: السُّم يقتل، والنار تُحرق، لكن ليست هي التي تفعل هذه الأشياء، لأنها مخلوقات لله سبحانه وتعالى، ولكنها أسباب، يقدِر القادر سبحانه أن يسلبها هذه الخاصيات، كما سلب النار الحرارة لما أُلقي فيها إبراهيم، وصارت برداً وسلاماً، فدلّ على أنها لا تستقل بالضرر.
وقوله: "باب من تبرّك" أي: طلب البركة، وهي حصول ا لخير ونماؤه وثبوته وكثرته.
"بحَجَر أو شجر" أي: طلب البركة من حَجَر أو من شجر، أو اعتقد أنها سبب للبركة وهي لم يجعلها الله أسباباً لها فقد أشرك بالله سبحانه وتعالى، لأن الحجر والشجر لا يخلق البركة ولا يوجدها، ولا هو مسبب في حصولها إلاَّ ما جعله سبباً في حصولها وإنما الذي يوجدها هو الله سبحانه وتعالى، وهو سبب الأسباب نعم قد يجعل الله بعض الأشياء مباركة، مثل: ماء زمزم، ومثل: الأنبياء عليهم السلام، ومثل: الكعبة المشرفة: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ(96)}، فالله هو الذي جعل الكعبة(13/276)
مباركة، أما الكعبة فليست هي التي تُوجِد البركة، أو تخلق البركة، لكن الله جعلها مباركة، فالبركة من الله سبحانه وتعالى وبركتها بالحج والعمرة واستقبالها في الصلاة والطواف بها والتعبد عندها في المسجد الحرام.(13/277)
ص -156- ... وقول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى(19)} الآيات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد يجعل الله بعض الأشياء مباركة، كما أن الله يجعل بعض الأشياء شرِّيرة، فقد جعل الشياطين شرِّيرة، وجعل بعض الدواب شرِّيرة، فالاعتماد على الله سبحانه وتعالى في كل الأمور، وإنما نتخذ الأسباب لأن الله أمرنا باتخاذ الأسباب، وأما النتائج فهي عند الله سبحانه وتعالى، نحن لا نعتمد على الأسباب، وإنما نعتمد على الله، ونحن لا نعطّل الأسباب، لأن الله أمرنا باتخاذها، وتعطيل الأسباب عجز وتعطيل للمنافع، التي جعلها الله سبحانه وتعالى في الأشياء، كما قال بعض العلماء: "الاعتماد على السبب شرك، وترك السبب قدح في الشرع" لأن الشرع أمرك باتخاذ الأسباب، و"الاعتماد على الأسباب شرك" لأنه اعتماد على غير الله.
فهذه مسألة يجب على طالب العلم أن يفقهها وأن يعرفها، وأن يتأملها جيداً، وأن يوضحها للمسلمين، لإزاحة الشُّبُهات، وإزاحة التضليل الذي يَرُوج عند بعض الناس بسبب الجهل، أو بسبب سوء القصد.
قوله: "وقول الله تعالى: "{ أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى(19)}" وتتمة الآيات: "{ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى(20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى(21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى(22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى(23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24)
فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى(25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى(26)}" هذه الآيات في تقرير التّوحيد وتثبيت العقيدة في قلوب المؤمنين، والرد على(13/278)
المشركين.
يقول الله تعالى للمشركين الذي يعبدون الأصنام، وفي مقدمتها الأصنام الثلاثة المشهورة عند العرب: اللات والعُزَّى ومَنَاة، هل تنفع هذه الأصنام أو تضر؟، فيقول: "{أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى(19)}" هل نفعتكم؟، هل دفعت عنكم الضرر؟، هل جلبت لكم شيئاً من الرزق؟، فلا يستطيعون الجواب بأنها تضر أو تنفع، لم تنفعهم في بدر وغيرها من الغزوات، ولم تدفع عنهم ما أوقع الله بهم من الهزائم، ما أجابوا عن هذا السؤال العظيم؛ فدلّ على انقطاع حجتهم.
وهكذا في كل أسئلة القرآن الكريم التي هي من باب التحدِّي والتعجيز، لم(13/279)
ص -157- ... يصدر لها جواب من قبل المشركين، ولن يصدر لها جواب إلى أن تقوم الساعة.
و"{اللاَّتَ}": صنم في الطائف لبني ثقيف. وفي تفسيرها قولان لأهل العلم:
القول الأول: أنها بالتخفيف، وهو اسم حجر كبير أملس عليه نقوش، كانوا يتبرّكون به، ويطلبون منه قضاء حاجتهم، وتفريج كرباتهم.
والقول الثاني: أنه بالتشدّيد اسم فاعل من لَتَّ يَلُتُّ: وهو في الأصل رجل صالح، كان يَلُتُّ السّويق للجاج، وكان يُطعم الحجّاج من هذا الطعام تقرّباً إلى الله سبحانه وتعالى، فلما مات عَكَفُوا على قبره يتبرّكون به، كما حصل لقوم نوح لما غَلَوْ في الصالحين.
فالغُلُّو في الصالحين قديم، ولا يزال مستمرًّا وهو سنّة جاهلية من قديم الزمان، من عهد قوم نوح، ولا تزال.
فعلى التفسير الأول هو: تبرّك بالأحجار، وعلى التفسير الثاني هو: تبرّك بالقبور. وكِلا التفسيرين حق، فالآية تدلّ على منع التبرّك بالأحجار، ومنع التبرّك بالقبور، وما زال هذا الصنم يُعبد من دون الله إلى أن فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة في السنة الثامنة من الهجرة، وأمر بهدم هذا الصنم كغيره من الأصنام التي هدمت.
أما "وَالْعُزَّى" فكانت صنماً لأهل مكة، وهي عبارة عن شجرات ثلاث من السَّمْر، وعندها بَنِيَّة عليها أستار، وكانت لقريش ولأهل مكة يعبدونها من دون الله عزّ وجلّ. ولهذا قال أبو سفيان في يوم أحد بعد أن انتهت المعركة: لنا العُزَّى ولا عُزَّى لكم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أجيبوه، قولوا: الله مولانا، ولا مولى لكم"، هذا هو الرد الشافي، وفيما بعد منّ الله على أبي سفيان بالإسلام فأسلم، والإسلام يَجُبُّ ما قبله، والشاهد من هذا: أن العُزَّى كانت لأهل مكة، فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة أرسل إليها خالد بن الوليد فهدمها وقطّع الأشجار، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، قال: "لم تفعل شيئاً"، فرجع خالد رضي الله عنه، إليها مرّة ثانية فوجد عندها(13/280)
السَّدَنة، فلما رأوه هربوا إلى الجبال، فجاء فإذ بامرأة عريانة ناشرة شعرها، فعلاها بالسيف وقتلها، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره، قال: "تلك العُزَّى".
والواقع أن المشركين ليست عبادتهم لهذه الأصنام، وإنما عبادتهم للشياطين،(13/281)
ص -158- ... وعن أبي واقد الليثي قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حُنَيْن، ونحن حُدَثاء عهد بكفر، ...................................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فالشياطين هي التي تُغريهم، وتدعوهم إلى عبادتها، وهي التي تكلّمهم أحياناً، ويظنون أن الصنم هو الذي يتكلم، أو أن الميت هو الذي يتكلم.
أما "{وَمَنَاةَ}" فهي صنم قريب من المدينة، وكانت لقبائل من العرب. وكانوا يُحْرِمُون من عندها للحج والعمرة.
ولما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة أرسل إلى مَنَاة علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهدمها.
فأين ذهبت هذه الأصنام؟، لو كانت آلهة لدفعت عن نفسها.
والشاهد من الآية الكريمة: بطلان التبرّك بالأشجار والأحجار، لأن هذه أشجار وأحجار، ولم تدفع عن نفسها فضلاً عن أن تدفع عن غيرها.
ففي هذا: بُطلان التبرك بالأحجار والأشجار، وفيه: أن من تبرّك بقبر أو بحجر أو شجر يعتقد فيه أنه ينفع ويضر من دون الله، أو أنه سبب لحصول البركة، أو تقرب إليه بشيء من العبادة؛ فهو مثل من عبد اللات والعُزَّى سواء، ولا فرق، بل من غلا في قبر من القبور فهو كمن عبد اللات، لأن اللات- على التفسير الثاني- هو رجل صالح، غَلَوا في قبره بعد موته، فالذين يعبدون القبور اليوم مثل الذين يعبدون اللاتّ سواء بسواء، والقرآن واضح في هذا، لكن يحتاج إلى التدبّر، ونبذ للتقاليد والعادات والبيئات الفاسدة، والتحرر من الخرافات والأباطيل، ورجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله، ففيهما الشفاء للقلوب.
قال "وعن أبي واقد الليثي" هذه كنيته، أما اسمه فهو الحارث بن عوف، و"الليثي" من بني الليث.
"قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حُنَيْنِ" أي: غزوة حنين، وحنين اسم وادٍ بين مكة والطائف، وغزوة حُنَيْن كانت في شوال من السنة الثامنة من الهجرة، وذلك أن الرسول(13/282)
صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة، ونصره الله على قريش؛ خافت هوازِن على نفسها أن يصلها الرسول صلى الله عليه وسلم، فأرادوا أن يغزوا الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يغزوهم، وجمّعوا أمرهم ليغزوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يريدون الدفاع عن أنفسهم، فلم يمهلهم الرسول صلى الله عليه وسلم، بل غزاهم هو بنفسه صلى الله عليه وسلم. وهذا هو الحزم والسياسة؛ أن ولي أمر المسلمين إذا علم أن(13/283)
ص -159- ... وللمشركين سِدْرَة يعكفون عندها وينُوطون بها أسلحتهم، يُقال لها: ذات أَنْواط، فمررنا بِسدْرَة فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أَنْواط كما لهم ذات أَنْواط.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هناك من الكفار من يريد غزو المسلمين يبادر إلى ذلك العدو، ولا يمهله.
وأبو واقد كان من الذين أسلموا في هذا العام، ولهذا قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حُنَيْن ونحن حُدَثاء عهد بكفر" يعني: أن إسلامهم كان جديداً متأخراً، وهو يريد بذلك بيان العذر مما وقع منهم، أنهم كانوا جُهّالاً، لم يتفقّهوا كما كان الصحابة الذين مع الرسول صلى الله عليه وسلم فقهاء، عرفوا العقيدة ودرسوها، لكن هؤلاء أسلموا قريباً، ولم يتمكّنوا من التفقّه في العقيدة، وكانوا آلفين لأشياء من دين الجاهلية، لم يتخلّصوا منها بعد. قال العلماء: فهذا فيه دليل على أن الإنسان إذا عاش في بيئة فاسدة ثم انتقل منها؛ أنه قد يبقى في نفسه منها شيء. فهذا كان في بيئة شركية، وأسلم قريباً.
وهذا دليل على آفة الجهل، وأن الإنسان قد يقع في الشرك بسبب الجهل، وفيه الحث على تعلم العقيدة ومعرفتها والتبصّر فيها خشية أن يقع الإنسان في مثل ما وقع فيه هؤلاء، فالذين ينادون اليوم بتهوين أمر العقيدة، ويقولون: لماذا يدرسون العقيدة وهم مسلمون؟، يا سبحان الله، المسلم هو أولى بدراسة العقيدة من أجل أن يصحِّح إسلامه، ومن أجل أن يحفظ دينه، هؤلاء مسلمون ومع هذا وقعوا في هذه القضية بسبب أنهم لم يتعلموا، ففي هذا دليل على وجوب تعلم العقيدة الصحيحة، ووجوب تعلّم ما يضادها من الشرك والبدع والخرافات؛ حتى يكون الإنسان على حذر منها، وما أوقع اليوم عُبّاد الأضرحة- أو كثير منهم- في عبادة القبور إلاَّ بسبب الجهل، ويظنون أن هذه من الإسلام، فهذه مصيبة عظيمة، حتى سمعنا أن بعض الدعاة يدعون - في أمريكا وفي غيرها- إلى دين الصوفية وإلى دين(13/284)
القبوريّة، فهم أخرجوهم من كفر إلى كفر، وكونه يبقى على كفره، أخف من كونه ينتقل إلى كفر يسمّى باسم الإسلام.
وقوله: "وللمشركين سِدْرَة يَعْكُفُون عندها" العُكُوف هو: البقاء في المكان، يقال: اعتكف في المكان إذا أطال الجلوس فيه، واعتكف في المسجد يعنى: جلس في المسجد للعبادة.(13/285)
ص -160- ... فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر، إنها السُّنَن، قلت- والذي نفسي بيده- كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} لتركبن سُنَن من قبلكم" رواه الترمذي وصحَّحه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"ويُنَوطُون بها أسلحتهم" النَّوْط هو: التعليق، وغرضهم من هذا العكوف والنوط التبرك بهذه الشجرة.
"فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أَنْوَاط كما لهم ذات أَنْوَاط" أعجبهم عمل المشركين، فظنوا أن هذا عمل سائغ، وهم يحرصون على تحصيل البركة، فطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم شجرة يَعْكُفُون عندها، ويَنُوطُون بها أسلحتهم طلباً للبركة، ولكن انظروا إلى أدب الصحابة مع الرسول صلى الله عليه وسلم حيث لم يقدموا إلى هذا الأمر من عند أنفسهم، بل رجعوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فالمسلم إذا أعجبه شيء ويظن أنه خير فلا يستعجل حتى يعرض هذا على الكتاب والسنة ويسأل عنه أهل العلم الثقات.
فهذا فيه دليل على وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة في أمور العبادة، وأن الإنسان لا يعمل باستحساناته، أو استحسانات غيره، بدون أنه يرجع إلى الكتاب والسنة، وهذا يدل على أن العبادات توقيفية.
فقوله: "فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أَنْواط" يعني: شجرة نعلّق بها أسلحتنا للبركة، ونجلس عندها للبركة. "فقال صلى الله عليه وسلم: "الله كبر، إنها السُّنَن" النبي صلى الله عليه وسلم غضب لما قالوا له هذا الكلام وتعجّب، وكبّر الله سبحانه وتعالى تنزيهاً لله عزّ وجلّ عن هذا العمل. وهذه عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أعجبه شيء أو استنكر شيئاً أنه يسبح أو يكبر.
"إنها السُّنن" أي: الطرق المسلوكة، أي: السبب أن الذي أوقعكم في هذا هو التَّشَبُّه بما عليه الناس، فالتَّشَبُّه بالكفار في عباداتهم وتقاليدهم الخاصة بهم، آفة خطيرة:(13/286)
"من تشبه بقوم فهو منهم"، وما أصاب بعض المسلمين من الأمور الشنيعة، أغلبه من جهة التَّشَبُّه بالكفار، أوّل ما حدث الشرك في مكة هو بسبب التَّشَبُّه بالكفار، لأنه لما ذهب عمرو بن لُحَيْ إلى الشام، ووجد أهل الشام يعبدون الأصنام، أعجبه ذلك، وجلبها إلى الحجاز، ومن ذلك الوقت فشا الشرك في أرض(13/287)
ص -161- ... الحجاز، فهو أول من غير دين إبراهيم- عليه الصلاة والسلام-، فهذه هي الآفة، هذه هي السُّنَن التي تعجّب منها النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم بيّن صلى الله عليه وسلم خطر هذه المقالة، فقال: "قلتم والذي نفسي بيده" أقسم صلى الله عليه وسلم ففي هذا مشروعية القسم على الفتوى إذا تحقق من إصابة الحق.
"كما قالت بنوا إسرائيل لموسى: "{اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}" النبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن هذه عادة قديمة في العالم، وأنها حصلت على عهد موسى عليه السلام، وذلك أن الله لما نجّى بني إسرائيل من فرعون، وأغرق فرعون وقومه، ونجّى موسى وقومه، ومرّوا في طريقهم على قوم يعكفون على أصنام لهم.
{قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} طلبوا من موسى أنه يجعل لهم صنماً يعبدونه كهؤلاء الذين يعبدون الصنم، قال موسى عليه السلام: "{إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}" السبب الذي أوقعكم في هذا هو الجهل بالتّوحيد، وهذا- كما ذكرنا- يُوجب على المسلمين أن يتعلموا العقيدة، ولا يكتفوا بقولهم: نحن مسلمون، نحن في بلاد إسلام، نحن في بيئة إسلامية، كما يقوله الجهال أو الذين يُثَبِّطون عن تعلّم العقيدة.
ففيه آفة الجهل، وان الجهل قد يوقع في الكفر بالله عزّ وجلّ، وهذه خطورة عظيمة، ولا يُنجّي من هذا الجهل إلاَّ تعلّم العقيدة الصحيحة، والتأكُّد منها، وتدريسها، وتكرارها على الناس، وتعليمها للناس، ونشرها بكل وسيلة في المساجد، وفي المدارس، وفي وسائل الإعلام، وفي المجالس، وفي البيوت، وقوله: {إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ}، أي: عمل هؤلاء زائل وتالف {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} لأنه شرك بالله عزّ وجلّ، {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ(140)} أي: أنا لا أَشْرَع لكم الشرك، وهل هذا جزاء(13/288)
النعمة أن الله فضلكم على العالمين، يعني: عالم زمانهم، أما بعد بِعثة محمد صلى الله عليه وسلم فأفضل العالمين هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
فالحاصل؛ أن التبرّك بالأشجار والأحجار هو من سنة المشركين، ومن سنة الجاهلية، ومن فعله فهو متشبه بالكفار، وهو كافر مثلهم، لا فرق بين من يعبد القبر ومن يعبد اللات والعُزَّى، أو الذي يطلب البركة من الشجرة والذي يطلبها من الصنم، لا فرق بينهما.(13/289)
ص -162- ... ففي هذا: بُطلان التبرّك بالأشجار والأحجار، وأنه شرك، لأن موسى عليه السلام قال: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً}، فدلّ على أن من تبرّك بشجر أو حجر فقد اتخذه إلهاً، وهذا هو الشرك، واختلاف اللفظ لا يؤثر مع اتفاق المعنى، هؤلاء قالوا: "اجعل لنا ذات أَنْوَاط كما لهم ذات أَنْوَاط"، وبنوا إسرائيل قالوا: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}، والرسول صلى الله عليه وسلم جعل هذا مثل هذا، وإن اختلف اللفظ.
والآن عَبَدَة القبور يقولون: هذا ليس بشرك، هذا توسُّل، وهذا محبة للأولياء والصالحين. إن أولياء الله الصالحين لا يرضون بهذا العمل، ولا يرضون أن تُجعل قبورهم أوثاناً تُعبد من دون الله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، فدلّ على أن تعظيم القبور والتبرك بها يجعلها أوثاناً تُعبد من دون الله.
فالحاصل؛ أن هذا فيه دليل على أن العبرة في المعاني لا في الألفاظ، فاختلاف الألفاظ لا يؤثر، وإن سموه توسّلاً، أو سموه إظهاراً لشرت الصالحين، أو وفاءً بحقهم علينا- كما يقولون-، هذا هو الشرك، سواء بسواء، فالذي يتبرّك بالحجر أو بالشجر أو بالقبر قد اتخذه إلهاً، وإن كان يزعم أنه ليس بإله، فالأسماء لا تغير الحقائق، إذا سمّيت الشرك، توسلاً، أو محبة للصالحين، أو وفاءً بحقهم، نقول: الأسماء لا تغير الحقائق.
وفيه- أيضاً- مسألة مهمة: وهي أن حُسن المقاصد لا يغير من الحكم الشرعي شيئاً، هؤلاء لهم مقصد حسن، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبر مقاصدهم، بل أنكر هذا، لأن الوسائل التي تُفضي إلى المحاذير ممنوعة، صحابي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل السيف للجهاد، ما قصد إلاَّ الخير هو ومن معه، ومع هذا غضب النبي صلى الله عليه وسلم عند مقالتهم، وجعلها مثل مقالة بني إسرائيل، فدلّ على أن المقاصد الحسنة لا تبرِّر(13/290)
الغايات السيّئة والمنكرة.
وفيه- أيضاً-: القاعدة العظيمة، وهي: خطورة التَّشَبُّه بالكفار والمشركين، لأنها تؤدِّي إلى الشرك، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "لتركبن سُنَن من قبلكم " وهذا فيه- أيضاً- عَلَم من أعلام النبوة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه في المستقبَل سيكون في المسلمين من(13/291)
ص -163- ... يقلِّد الكفار، وهذا وقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم، فتقليد الكفار الآن على قدم وساق، إلاَّ من رحم الله سبحانه وتعالى وهذا خبر معناه التحذير وليس مجرد خبر.
فهذا الحديث فيه التحذير من التَّشَبُّه بالمشركين والكفار في أفعالهم وعاداتهم الخاصة وتقاليدهم وطقوسهم.
أما الأمور المباحة فلا بأس بالأخذ بها، نأخذ من المشركين الخِبْرات المفيدة، نأخذ منهم البضائع، نأخذ منهم الأسلحة، هذه أمور كانت في الأصل لنا، يقول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، هذه المنافع في الأصل للمسلمين، ولكن لما تكاسل المسلمون أخذها أعداؤهم، فلا مانع أن المسلمين يأخذون بهذه الأشياء المفيدة، وليس هذا من التَّشَبُّه، إنما لتَّشَبُّه هو تقليدهم في الأمور التي لا فائدة منها ولا قيمة لها، أو الأمور التي تدخل في العبادة والعقيدة والدين.
قد يُقال: أنتم تحرمون التبرّك بالأشجار والأحجار والقبور، في حين أن الصحابة -رضي الله عنهم -كانوا يتبرّكون بريق النبي صلى الله عليه وسلم وشعره ووضوئه، أليس هذا تبركاً بمخلوق.
فالجواب عن ذلك: أن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وبما انفصل من جسده صلى الله عليه وسلم لأنه مبارك، فما انفصل من جسده من ريق، أو عرق، أو شعر، أو وضوء، فإنه يُتبرّك به، أما التبرّك بغير النبي صلى الله عليه وسلم فهذا لم يَرِد حتى مع أفضل الأمة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، والعشرة المبشرين بالجنة، وأصحاب بدر، وأصحاب بيعة الرضوان، ما ذُكر أن المسلمين كانوا يتبرّكون بهؤلاء، لا بريقهم، ولا بعرقهم، ولا بشعورهم.
فالتبرك لا يجوز؛ لا بالأشجار، ولا بالأحجار، ولا بالأشخاص، ولا بالحُجْرة النبوية، ولا بقبر النبي صلى الله عليه وسلم، كل هذا لا يجوز،(13/292)
لأن هذه أمور لم تكن منفصلة عن النبي صلى الله عليه وسلم وليست من جسده صلى الله عليه وسلم فلابد أن نعرف الجواب عن هذه الشُّبَه، لأنهم يُدْلُون بها.(13/293)
ص -164- ... [الباب العاشر:] * باب ما جاء في الذبح لغير الله
وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162) لا شَرِيكَ لَهُ} الآية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب كالأبواب التي قبله في بيان أنواع من الشرك التي يمارسها بعض الناس في مختلف الأزمان، من عهد الجاهلية، ولا تزال مستمرَّة، وذلك من أجل أن يتميّز الخبيث من الطيّب، ولله الحكمة سبحانه وتعالى في بقاء هذا الشرك والكفر؛ من أجل أن يتميّز الخبيث من الطيّب، والموحِّد من المشرك، والمهتدي من الضال: {لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً}، ولكن لو هداهم جميعاً لم تكن هناك مِيزَة لأحد على أحد، ولكن اقْتَضَتْ حكمته سبحانه أن يُجري الامتحان من أجل أن يتميّز الخبيث من الطيّب.
قال: "وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162) لا شَرِيكَ لَهُ} تتمة الآيات: " {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ* قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}" ختم الله هذه السورة العظيمة بهذه الآيات، لأن السورة تدور كلها على التّوحيد وبيان الشرك، وبيان ما يفعله المشركون مع الأصنام، وما حرّموه من المزارع والأنعام لأصنامهم.
وختمها سبحانه وتعالى بالبراءة من كل ما يفعله المشركون، وهذا الغالب على السور المكية، فالسور المكية غالبها، بل تكاد تكون كلها في التّوحيد والنّهي عن الشرك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم مكث في مكة ثلاثة عشرة سنة يدعو إلى التّوحيد، وينهى عن الشرك، وينزل عليه القرآن في ذلك، ومن جُملة ما نزل عليه في مكة هذه السورة العظيمة: سورة ا لأنعام.
فقوله تعالى: "{قُلْ}" هذا أمر من الله جل(13/294)
وعلا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يُعلن للناس، ليس لناس وقته فقط، بل للناس جميعاً إلى أن تقوم الساعة، وليس لناس بلده، بل لناس العالم:(13/295)
ص -165- ... "{إنَّ صَلاتِي}" الصلاة في الشرع يُراد بها: العبادة المبتدئة بالتكبير المختتمة بالتسليم، التي تشتمل على عبادات قلبيّة وقوليّة وعملية، فالصلاة تشتمل على أنواع العبادة في القلب: من الخشوع، والخشية، والإقبال على الله سبحانه وتعالى، وباللسان: من التكبير، والتحميد، والثناء على الله، وتلاوة كتابه الكريم، ومناجاة الرب سبحانه وتعالى، وبالجوارح: من القيام، والرّكوع، والسجود، والجلوس. فالصلاة عبادة عظيمة، يجتمع فيها ما لا يجتمع في غيرها من أنواع العبادات، ولذلك جعلها الله عمود الإسلام، وجعلها الركن الثاني من أركان الإسلام.
"{وَنُسُكِي}" النُّسُك المُراد به: ما يذبح من بهيمة الأنعام على وجه التقرّب والعبادة، كهَدْي التمتُّع والقِران، وهَدْي التطوُّع، وهَدْي الجُبران، والأضاحي، والعقيقة، هذه كلها تُسمى نُسُكاً، فما ذُبح من بهيمة الأنعام على وجه التقرّب إلى الله تعالى بذبحه، فهو النُّسُك.
وكان الذبح على وجه التقرُّب موجوداً في الجاهلية، كانوا يذبحون للأصنام، ويذبحون للجن، ويذبحون للكواكب، يذبحون لغير الله عزّ وجلّ، ولهذا يقول النابغة في قصيدته:
لا والذي قد زردته حججا ... وما هريق على الأنصاب من جسد(13/296)
الأنصاب: الأصنام.
وهُرِيق، يعني: سُفك من الدماء من جسد، يعني: من ذبيحة.
فالنبي صلى الله عليه وسلم بيّن أن دينه مخالف لدين المشركين، فالمشركون يذبحون لغير الله، والنبي صلى الله عليه وسلم ومَن اتبعه يذبحون لله وحده لا شريك له، كما أنهم لا يصلُّون إلاَّ لله فكذلك لا يذبحون إلاَّ لله سبحانه وتعالى، وقَرْن النُّسُك بالصلاة يدلّ على أنه عبادة عظيمة، لا يجوز صرفها لغير الله، والنسك قد تساهل فيه كثير من الناس فصاروا يذبحون للجن طاعة للمُشَعْوِذِين من أجل العلاج بزعمهم.
"{وَمَحْيَايَ}": ما أحيا عليه في عمري من العبادة كله لله عزّ وجلّ.
"{وَمَمَاتِي}": ما أموت عليه- أيضاً- لله عزّ وجلّ، فيموت على التّوحيد، فمعنى الآية: أنه يحيا على التّوحيد، ويموت على التّوحيد، ثم أكد ذلك بقوله: {لا شَرِيكَ لَهُ} في ذلك وفي سائر أنواع العبادة.(13/297)
ص -166- ... وقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ(2)}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"{رَبِّ الْعَالَمِينَ}" الرب هو: المالك، والعالمين جمع عالَم، وهو: ما سوى الله عزّ وجلّ من المخلوقات، فكل المخلوقات ربها واحد، هو الله سبحانه وتعالى، لكن قد يُقال لمالك الشيء: ربه، مثل: رب البيت، رب الحاجة، رب السيارة، رب الدراهم، وهذا مقيّد، أما إذا قلت الرب، أو رب العالمين، فهذا لا يكون إلاّ لله سبحانه وتعالى.
أما هذه الأصنام وهذه الأوثان، فلا تستحق العبادة لأنها مملوكة لله سبحانه وتعالى، ومعبدة لله سبحانه وتعالى، والعبد لا يُعبد، حتى ولو كان من أشرف العباد كالملائكة والرسل والأولياء، كلهم عبيد لله سبحانه وتعالى.
وذكر عبادتين عظيمتين: الصلاة والنُّسُك، لأن الصلاة عبادة بدنيّة، والنُّسُك عبادة ماليّة، وهي من أفضل العبادات المالية.
قال: "{ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ}" أمرني ربي سبحانه وتعالى، فدلّ على أن العبادات توقيفيّة، لا يصلح منها شيء إلاَّ بأمر الله سبحانه وتعالى.
ثم قال: "{وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}" أي: من هذه الأمة، فالأوليّة هنا نِسْبِيَّة، وإلاَّ فالرسل والمؤمنون من قبل النبي صلى الله عليه وسلم كلهم مسلمون، بمعنى أنهم مخلصون العبادة لله عزّ وجلّ.
والإسلام هو الاستسلام لله بالتّوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك وأهله، هذا هو الإسلام، وهذا دين جميع الرسل- عليهم الصلاة والسلام، فقوله: " {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}" أي: من هذه الأمة.
كما أنّ الآية- أيضاً- تدلّ على أن الرسول أول من يبادر إلى امتثال أمر الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يتأخر عن امتثال أمر الله سبحانه وتعالى، فكذلك يجب على المسلم أن لا يتأخر عن الامتثال والمبادرة إذا أمره الله بشيء يكون من أول من يفعل ذلك، فمن أمر بشيء من المعروف والطاعة، فإنه يجب عليه أن يكون أول من يفعله.
قال: "وقوله:{فَصَلِّ(13/298)
لِرَبِّكَ وَانْحَرْ(2)}" هذا أمر من الله لنبيه أن يُخلص الصلاة لله عزّ وجلّ، وأن يخلص النحر- وهو: الذبح- لله عزّ وجلّ.
قالوا: وهذا شكر لله سبحانه وتعالى لما أعطاه الكوثر، فإن الله سبحانه وتعالى أمره أن يشكره على(13/299)
ص -167- ... عن علي رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله بأربع كلمات: "لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثاً، لعن الله من غير منار الأرض" رواه مسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذه النعمة العظيمة، بأن يصلِّي ويذبح لله عزّ وجلّ، ولهذا ربط بما قبله بفاء السببيّة.
والكوثر نهر في الجنة، وقيل: هو الخير الكثير، فهذا من باب الشكر لله سبحانه وتعالى على هذه النعمة، على إعطائه الكوثر، {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ(3)}، كان الكفار يذمّون الرسول صلى الله عليه وسلم ويقولون: إنه أبتر، ليس له ذرية، وليس له مال، وإنه إذا مات سينتهي ذكره. {شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ}، والله جل وعلا يقول: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ(3)}، أما أنت فلست بأبتر، سيستمر ذكرك، ويستمر عملك، وتستمر دعوتك إلى يوم القيامة.
وصدق الله العظيم، أين ذكر أبي جهل؟، وأين ذكر أبي لهب؟، وأين ذكر صناديد الكفار؟، انقطع، ولا يذكرون إلاَّ بالذم- والعياذ بالله، أما رسول الله فإنه يُذكر بالخير والثناء، ويُذكر بكل فضيلة، ودعوته باقية، ودينه باق -ولله الحمد- على مرّ الزمان، بينما تتهاوى المذاهب الأخرى وتتساقط، وإن قويت شوكتها في بعض الأحيان، إلاَّ أنها تتهاوى، ودين الرسول صلى الله عليه وسلم يتجدّد.
انظروا إلى الشيوعية في وقتنا الحاضر ماذا بلغت من القوة والإرهاب وإخافة العالم، وفي فترة وجيزة ذابت كما يذوب الملح في الماء، وأين هي الآن؟، لكن دين الإسلام لا يزال- ولله الحمد- يظهر ويتجدّد، ولو ضعف أهله، إلاَّ أنه هو بنفسه- ولله الحمد- دين يتجدّد ويظهر في مرّ الزمان، ومرّ المكان.
الشاهد من الآية: {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي}، ومن الآية: "{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ(2)}":
أن الله جل وعلا قَرَن النحر بالصلاة في الآيتين، فدلّ على أنه عبادة لا يجوز صرفها لغير الله.
قوله:(13/300)
"بأربع كلمات" يعني: أربع جُمَل، فالكلمات المراد بها الجمل.
وقوله: "لعن الله" اللعن معناه: الطرد والإبعاد عن رحمة الله سبحانه وتعالى.
"من ذبح لغير الله" أي: تقرَّب بالذبح لغير الله من الأصنام، ومن الأضرحة، ومن الأشجار والأحجار، والجن، وغير ذلك. فكل من تقرَّب بالذبح إلى غير الله فإنه قد لعنه الله سبحانه وتعالى، وهذا يدلّ على شدّة هذه الجريمة، فإن الله جل وعلا لا يلعن(13/301)
ص -168- ... إلا على جريمة خطيرة، فدلّ على شدة جريمة من ذبح لغير الله، أيًّا كان هذا الذبح كثيراً أو قليلاً جليلاً أو حقيراً.
وذلك بأن يذكر على الذبيحة غير اسم الله أو يكون في نيّته وقلبه واعتقاده أنه يتقرّب بهذه الذبيحة إلى غير الله، أو يريد بهذه الذبيحة دفع شر هذا المذبوح له، فيذبح للجن من أجل دفع شرهم، وخوفاً منهم، أو يذبح للصنم من أجل أن الصنم يجلب له الخير، كما يفعل بعض الجُهّال؛ إذا تأخر المطر ذهبوا بِثَوْر أو غيره من الحيوان وذبحوه في مكان معيّن، أو عند قبر يريدون نزول المطر، وقد يُبتلون فينزل المطر، وتحصل لهم حاجتهم ابتلاءً وامتحاناً من الله سبحانه وتعالى، وهذا لا يدلّ على جواز ما فعلوه، من الشرك والتقرّب لغير الله سبحانه وتعالى.
فمن فعل ذلك فهو مشرك وملعون، سواء تلفّظ وقال: هذه الذبيحة للقبر، أو للبدوي، أو للسيد الحسين، أو لفلان أو لفلان، أو ونوى بقلبه فقط. وهذه الذبيحة حرام، لأنها تدخل في قوله: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} فما أهلّ به لغير الله يشمل ما ذُبح باسم غير الله، ويشمل ما ذُبح باسم الله ويُنْوى به الصنم أو الجن أو العفاريت، والمُشَعْوِذُون الآن إذا جاءهم المرضى يأمرونهم بالذبح لغير الله لأجل أن يشفوا من مرضهم.
ويدخل في الذبح لغير الله أصناف: ما ذُبح لغير الله على وجه التقرّب، ولو قيل عليه: بسم الله، وهذا حرام بإجماع المسلمين، وهو شرك بالله عزّ وجلّ. وما ذُبح للّحم وسمي عليه بغير اسم الله. وما ذُبح من أجل التحيّة والتعظيم، مثل: ما يُذبح للملوك والرؤساء عند قدومهم إذا نزل من الطائرة، أو من السيارة، أو من الدابة؛ ذبحوا عند نزوله. وما يُذبح عند ابتداء المشروع، فبعض الجُهّال، أو بعض الذين لا يُبالون، إذا أنشؤوا مشروعاً- مصنعاً أو غير ذلك- يذبحون عند تحريك الآلة.
وما يُذبح عند أول نزول البيت خوفاً من الجن، وهذا شرك، لأنه مما ذُبح لغير الله عزّ وجلّ.(13/302)
أما إذا ذبح ذبيحة عند نزول البيت من باب الفرح والسرور، ودعوة الجيران والأقارب، فهذا لا بأس به.
فالحاصل؛ أن قوله سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} وقوله: "{فَصَلِّ لِرَبِّكَ(13/303)
ص -169- ... وَانْحَرْ(2)}" وقول الرسول: "لعن الله من ذبح لغير الله" يشمل كل هذه الأمور:
1- ما ذُبح للأصنام تقرّباً إليها.
2- ما ذُبح للحم وذكر عليه اسم غير الله سبحانه وتعالى.
3- ما ذُبح تعظيماً لمخلوق وتحيّة له عند نزوله ووصوله إلى المكان الذي تستقبل فيه.
4- ما ذُبح عند انحباس المطر في مكان معين أو عند قبر لأجل نزول المطر.
5- ما يُذبح عند نزول البيوت خوفاً من الجن أن تصيبه، كل هذا يدخل في الذبح لغير الله، ويكون شركاً بالله سبحانه وتعالى.
قوله: "لعن الله من لعن والديه" إن الله سبحانه وتعالى قَرَن حق الوالدين بحقه سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}، فحق الوالدين يأتي دائماً بعد حق الله سبحانه وتعالى، كذلك النهي عن الإساءة إلى الوالدين تأتي بعد الإساءة في حق الله سبحانه وتعالى كما في حديث السبع الموبقات. فالذبح لغير الله، إساءة في حق الله سبحانه وتعالى، ثم ذكر تنقّص الوالدين والإساءة إليهم بلعنهم، فلا يجوز للولد أن يشتم والديه، وهذا من الكبائر، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن من فعله، واللعن على الشيء يدل على أنه كبيرة، سواء لعنهما بالمباشرة أو بالتسبّب، فبعض الناس لا يلعن والديه مباشرة، لكن يتسبّب في ذلك، بأن يلعن والدي رجل آخر، ثم يرد عليه بالمثل، فيكون متسبّباً في لعن والديه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من الكبائر أن يشتم الرجل والديه"، قالوا: وكيف يشتم الرجل والديه يا رسول الله؟ قال: "يسبّ أبا الرجل فيسبّ أباه، ويسبّ أم الرجل فيسبّ أمه"، والمسلم لا يجوز أن يكون لعّاناً، ولا سبّاباً، ولا بذيئاً، المسلم يجب أن يكون مؤدباً، ويتكلم بالكلام الطيّب {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، هكذا ينبغي للمسلم أنه يحفظ لسانه عن القول البذيء، ولاسيّما إذا كان هذا القول من أقبح الكلام كاللعن(13/304)
والسبّ والشتم، حتى البهائم والدواب والدُّور والمساكن لا يجوز لعنها، فقد لعنت امرأة ناقة لها وهي تسير مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ ما على الناقة وتركها تمشي، لا يتعرّض لها أحد، من باب(13/305)
ص -170- ... التأديب والتعزير فلا يجوز لعن الآدميين، ولا لعن الدواب، ولا لعن المساكن، أو السيارات، أو غير ذلك.
وقوله: "لعن الله من آوى محدثاً" آوى معناها: حَمَى، فالإيواء معناه: الحَمَى والدفع. والمُحْدِث: هو الذي فعل جُرماً يستحق عليه إقامة الحد، فيأتي واحد من الناس ويَحُول دون هذا المجرم ودون إقامة الحد عليه، بجاهه، أو بقوته وسلطانه، أو بجنوده، أو بغير ذلك، فيمنع هذا المجرم من أن يقام عليه الحد. وهذا لعنه رسول الله.
وفي الحديث الآخر: "من حالت شفاعته دون حد من حدود الله؛ فقد ضادّ الله في أمره"، وفي حديث آخر: "تعافوا الحدود فيما بينكم، فإذا بلغت السلطان فلعن الله الشافع والمشفع".
ولما سرق رجل رِدَاء صفوان بن أُميّة، وهو بالمسجد، فأمسكه صفوان، وذهب به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يده، فقال صفوان: الرداء له يا رسول الله، أنا ما أردت هذا، قال: "هلاّ قبل أن تأتيني به"، يعني: هلا سمحت عنه قبل أن تأتني به؟.
فإذا تقرّر الحد في المحكمة الشرعية فلابد من تنفيذه، إلاَّ إذا كان في إقامة الحد عليه ضرر على غيره، كالحامل إذا أُقيم عليها الحد تأثّر الحمل، فيؤخّر إلى أن تلد، وتجد من يرضعه وإلاّ تركت حتى تفطمه.
الحاصل؛ أن إيواء أصحاب الجرائم التي تستوجب الحدود، ومنع إقامة الحدود عليهم، من الكبائر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن من فعله.
وفي بعض الروايات بفتح الدال "لعن الله من آوى محدثاً" والمحدَث معناه: البدعة، ومعنى آوى المحدَث أي: رضي به. فمن رضي بالبدعة، ولم يُنكرها وهو يقدر فقد آواها، يعني: من رأى البدع وسكت ولم يتكلم في إنكارها والبيان للناس أنها بدع، فقد آواها، يعني حماها بسكوته وتَرْكِه لها، فيكون مستوجباً للعنة، فكيف إذا دعا إليها ودافع عنها- والعياذ بالله-.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من غيّر منار الأرض" المنار: جمع منارة، وهي:(13/306)
العلامة. والمراد بمنار الأرض للعلماء فيه ثلاثة أقوال:(13/307)
ص -171- ... وعن طارق بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دخل الجنة رجلٌ في ذباب، ودخل ا لنار رجلٌ في ذباب"، قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: "مرّ رجلان على قوم ................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القول الأول: أن المراد بمنار الأرض: المراسيم، ومعنى غيّرها يعني: قدّمها أو أخرّها عن مكانها، وفي الحديث: "من اقتطع شبراً من الأرض بغير حق طُوِّقه يوم القيامة من سبع أرضين".
والقول الثاني: أن المراد بمنار الأرض: أعلام الحَرَم الذي يحرم قتل صيده وَتَنْفِيره، ويحرم قطع شجره وحشيشيه، وأخذ لُقَطَتِه فقد، جعل الله حول الكعبة حرماً من كل جانب، وهذه المنطقة، لا يدخلها مشرك، ولا يُنَفَّر صيدها، ولا يُخْتلى خلاها، ولا تُلْتَقَط لقطتها إلاَّ لمنشد، ولا يجوز القتال فيها إلاَّ دفاعاً، فالمراد بمنار الأرض على هذا القول: أنصاب الحَرَم، أي: الأعلام المجعولة على الحَرَم من كل جانب، من جهة التَّنْعيم، ومن جهة الحُدَيْبِيَة، ومن جهة عرفات ونَمِرة، ومن جهة الجِعْرانة، أنصاب مبنيّة وأعلام مقامة على حدود الحَرَم.
القول الثالث: أن المراد بمنار الأرض: العلامات التي على الطرق، وكانت معروفة، وفي وقتنا الحاضر اللوحات التي تجعلها المواصلات على الطريق، هذه من منار الأرض، فلا يجوز لأحد أن يغير هذه الأعلام، لأنه يضلل الناس والراجح من هذه الأقوال هو القول الأول.
قال: "وعن طارق بن شهاب" طارق بن شهاب البَجَلي الأَخْمَسي، صحابي جليل، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون حديثه عن الرسول مرسل صحابي، ومراسيل الصحابة مقبولة من غير شك، لأن الصحابي لا يرسل إلاّ عن صحابي مثله، فمراسيل الصحابة ليست كمراسيل غيرهم لأنهم كلهم عدول.
"دخل الجنة رجل في ذباب" هذا حديث عجيب، ولذلك تعجّب منه الصحابة، والرسول صلى الله عليه وسلم ساقه ولم(13/308)
يبيّنه من أجل أن ينتبهوا ويتشوقوا لمعرفة معناه.
"قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: "مرّ رجلان على قوم " يعني: من الأمم السابقة.(13/309)
ص -172- ... لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرِّب له شيئاً، فقالوا لأحدهما: قرِّب. قال: ليس عندي شيء أقرِّبه، قالوا به: قرِّب ولو ذباباً. فقرّب ذباباً، فخلَّوْ سبيله، فدخل النار. وقالوا للآخر: قرِّب. فقال: ما كنت لأقرِّب لأحد شيئاً دون الله عز وجل. فضربوا عنقه، فدخل الجنة" رواه أحمد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"لهم صنم" الصنم هو: ما كان على صورة حيوان، أما ما عُبد وهو على غير صورة حيوان، كالشجر والحجر والقبر فهذا يسمى وثناً، فالوثن أعم من الصنم، لأن الصنم لا يُطلق إلاَّ على التِّمثال، وأما الوثن فيُطلق على التِّمثال وغيره، حتى القبر وثن إذا عُبد، قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد"، فالوثن كل ما عُبد من دون الله على أي شكل كان.
"لا يجوزه أحد" أي: يتجاوزه ولا يمرّ عليه أحد، "حتى يقرِّب له شيئاً" يعني: يذبح له تعظيماً له.
"فقال لأحدهما: قرّب، قال: ليس عندي شيء أقرِّبه" اعتذر بالعدم، ولم يقل: إن الذبح لغير الله لا يجوز، أو هذا منكر- والعياذ بالله-، وهذا يدلّ على أنه لو كان عنده شيء لقربه.
"قالوا له: قرِّب ولو ذباباً" فقرب ذباباً، يعني: اذبحه للصنم، "فقرِّب ذباباً فخلوا سبيله" سمحوا له بالمرور، "فدخل النار" بسبب الشرك، وأنه ذبح لغير الله، والعبرة بالنيّة والقصد لا بالمذبوح.
والقصد أنه ما استنكر هذا الشيء، ولا تمنع منه، وإنما اعتذر بعدم وجود شيء فلذلك دخل النار- والعياذ بالله.
"وقالوا للآخر: قرِّب. فقال: ما كنت لأقرِّب لأحد شيئاً دون الله عزّ وجلّ" امتنع وأنكر الشرك، "فضربوا عنقه" يعني: قتلوه، "فدخل الجنة" بسبب التّوحيد.
فهذا الحديث حديث عظيم، فيه مسائل عظيمة:
المسألة الأولى: هذا الحديث فيه جواز الإخبار عن الأمم السابقة، والتحدّث عنها بما ثبت لأجل العظة والعبرة.
المسألة الثانية: في الحديث دليل على تحريم الذبح لغير الله، ومن ذبح(13/310)
ص -173- ... لغير الله فقد أشرك، لأن هذا الرجل الذي ذبح الذباب دخل النار، وحتى لو كان المذبوح شيئاً تافهاً، والرجل الثاني عظّم الشرك، وتجنبه ولو كان شيئاً حقيراً، فدخل الجنة.
المسألة الثالثة: كما قال الشيخ رحمه الله في مسائله: أن المدار على أعمال القلوب، وإن كان الشيء الظاهر تافهاً، لكن المدار على عمل القلب.
المسألة الرابعة: فيه دليل- كما قال الشيخ رحمه الله- على قُرب الجنة والنار من الإنسان، كما قال صلى الله عليه وسلم: "الجنة أقرب إلى أحدكم من شِراك نعله، والنار مثل ذلك"، هذا ضربوا عنقه فدخل الجنة، وذاك خلو سبيله فدخل النار.
المسألة الخامسة: أن هذا الرجل الذي ذبح الذباب كان مؤمناً، فدخل النار بذبحه الذباب، لأنه لو كان كافراً لدخل النار بكفره، لا بذبح الذباب، فدلّ على أنه كان مؤمناً، وهذه مسألة خطيرة جدًّا، فأين الذين يذبحون للقبور وللجن، وللشياطين، وللعفاريت، وللسخرة؟، فدلّ على أن الشرك الأكبر يخرج من الملة ولو كان شيئاً يسيراً، فأمور التّوحيد وأمور العقيدة لا يُتسامح فيها.(13/311)
ص -174- ... [الباب الحادي عشر: ] * باب لا يُذبح لله بمكان يُذبح فيه لغير الله
وقول الله تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} الآية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الشيخ رحمه الله: "بابٌ لا يُذبح لله بمكان يُذبح فيه لغير الله" هذا الباب تابعٌ للباب الذي قبله؛ لأن الباب الذي قبله: "ما جاء في الذبح لغير الله" يعني: أنه محرَّمٌ وأنه شرك، وهذا الباب فيه سدُّ الذريعة المُفْضية إلى الذبح لغير الله.
وقوله: "باب لا يذبحُ" بضم (الحاء) على أنّ (لا) نافية، ويصلُح: "لا يُذبحْ" بإسكانها على أنّ (لا) ناهية، وحتى لو أخذناها على أنها نافية فالنفي هنا معناه: النهي، فالنفي يأتي بمعنى النهي، بل إذا جاء النهي بصيغة النفي كان أبلغ، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلاَّ إلى ثلاثة مساجد" هذا نفيٌ معناه: النهي، ومثله قوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} هذا نفي معناه النهي عن هذه الأمور.
وقوله: "لا يذبحُ لله في مكان يذبح فيه لغير الله" لأن الذبح في هذا المكان وإن كان لله عزّ وجلّ، فإنه وسيلة إلى الشرك، وكذلك في الذبح في هذا المكان تعظيم له ومشابهة للمشركين، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسائل المُفْضية إلى الشرك، مثل: نهيه عن الصلاة إلى القُبور وإنْ كان المصلي لا يصلي إلاَّ لله عزّ وجلّ، ونهي عن الدعاء عند القُبور وإن كان الداعي لا يدعو إلاَّ الله وحده، لكن هذا المكان لا يصلُح التعبد لله فيه، لأنه وسيلةٌ إلى الشرك، وكذلك نهى عن الصلاة عند غروب الشمس لأنه وسيلة إلى عبادتها لأن المشركين كانوا يسجدون لها عند الغروب، ونهى عن الصلاة عند شروق الشمس لأن المشركين كانوا يسجدون لها في هذا الوقت؛ فكل موطن وكلُّ زمان قد اتخذه المشركون لعبادتهم فإننا نهينا أن نُشاركهم فيه، وأمرنا أن نبتعد عنه، من باب سدِّ الذرائع،(13/312)
ومن باب قطْع المشابهة للمشركين، ممّا يعطي دينَ الإسلام استقلالية تامّة عن كلِّ دين سواه في الأديان الباطلة.
قوله: "وقول الله تعالى: "{لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً}" أي: في مسجد الضرار، نهيٌ للنبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في هذا المسجد.(13/313)
ص -175- ... وقصته: أنّ أبا عامر الفاسق كان قد قرأ الكتب السابقة في الجاهلية، وتعبّد حتى صار يُقال له: "أبو عامر الراهب"، ويعظِّمه الناس لِمَا يظهر عليه من الدين؛ فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حسده وكفر به، وأبغض الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وسمّاه النبي بـ "أبي عامر الفاسق"، لأنه خرج عن طاعة الله وكفر برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم ذهب هذا الكافر إلى الشام يؤلِّب النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتب وهو في الشام إلى جماعة من المنافقين في المدينة: أنِ ابْنوا لنا مكاناً من أجل أن نجتمع فيه ونتشاور. يريدون أن يكون هذَا المكان محل اجتماع لأعداء الرسول صلى الله عليه وسلم، يتشاورون فيه للكيْد للإسلام، وكانوا لم يجرءوا على أن يبنوه على أنه مَجْمَع، فأظهروه بصورة المسجد، وقالوا: بنيناه من أجل الضعيف والمريض والليلة المطيرة أو الليلة الشاتَية، وطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصلّي فيه، يريدون من هذا التغطية والخديعة.
فوعدهم صلى الله عليه وسلم وقال: "إنا على سفر إلى غزوة تبوك، إنْ شاء الله إذا رجعنا نصلي فيه"، فلما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك ولم يبق على وصوله إلى المدينة إلاَّ ليلة - أو ليلتان- أتاه الوحي من السماء، قال الله سبحانه وتعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً}، وبيّن سبحانه مقاصدهم الخبيثة في هذا البناء.
وقوله: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} فيه: منع الرسول صلى الله عليه وسلم من الصلاة في هذا المسجد وتيئيس لهؤلاء.
ففي هذه الآيات: أن النّيات تؤثِّر في الأمْكنة والمباني، النيّات الخبيثة تؤثر في الأمكنة والبِقاع خبثاً، والنيّات الصالحة تؤثِّر فيها بركة وخيراً. ففيها: الحث على إصلاح المقاصد، وفيها: دليلٌ على أن الاعتبار بالمقاصد لا بالمظاهر؛ هؤلاء بنوا مسجداً في الظاهر، ولكن ليس مقصودهم المسجد، فدلّ على أن ما كل من أظهر الصلاح يُقبَل منه حتى(13/314)
تُعرف حقيقته. وفيه: التنبيه على خِداع المخادِعين، وأن يكون المؤمنون على حذر دائماً من المشبوهين ومن تضليلهم، وأنهم قد يتظاهرون بالصلاح، ويتظاهرون بالمشاريع الخيرية، ولكن ما دامت سوابقهم وما دامت، تصرُّفاتهم تشهد بكذبهم فإنه لا يُقبل منهم، ولا ننخدع بالمظاهر دون نظر إلى(13/315)
ص -176- ... وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: نذر رجل أن ينحر إبلاً ....................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المقاصد وإلى ما يترتب -ولو على المدى البعيد- على هذه المظاهر. ففيه: تنبيه المسلمين إلى الحذر في كل زمان ومكان من تضليل المشبوهين، وأن كل من تظاهر بالخير والصلاح والمشاريع الخيرية لا يكون صالحاً، إلاَّ من لم يكن له سوابق في الإجرام، ولم يُعرف عنه إلاَّ الخير؛ فهذا يُقبل منه، لكن من كان معروفاً بالسوابِق السيِّئة والمكائد الخبيثة، أو يظهر عليه أو على فلتات لسانه أو على كَلامه شيء؛ فإننا نأخذ الحذر منه ولا ننخدع، لأنّ الله جل وعلا نهى رسوله أن يصليَ في مكان أُعِدَّ للمعصية، فدلّ هذا على أنه لا يذبح لله في مكان يذبح فيه لغير الله، كما لا يصلى لله في مكان أُعِدَّ للمعصية والكفر، كذلك لا يُذبح لله في مكان أُعِدَ للمعصية. وقوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} هو مسجد قباء لصلاح نية أهله رضي الله عنهم.
وفيه: دليلٌ على فضيلة مسجد قباء، وفضل أهله رضوان الله عليهم، وأنّ هذا المسجد بقيَ له الفضل في الإسلام إلى أنْ تقوم الساعة، ويقصد للصلاة فيه ممّن كان في المدينة اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
قال: "وعن ثابت بن الضحّاك" الأشهلي رضي الله عنه، صحابيٌّ جليل.
"أن رجلاً نذر" النذر في اللغة هو: الالتزام-؛ يقال: نذر كذا إذا التزمه، ونذر دم فلان بمعنى أنه التزم أن يقتله. وأما في الشرع: فالنذر معناه: "إلزام المكلَّف نفسه طاعة لله لم تجب عليه بأصل الشرع" من صلاة وصيام وحجٍّ وعمرة وصدقة وغير ذلك.
والنذر -في الأصل- غير مشروع، ولا يُستحب للإنسان أنه ينذر لنهيه صلى الله عليه وسلم عن النذر وقال: "إن النذر لا يأتي بخير، وإنما يُستخرج به من البخيل"، وفي رواية: "لا تنذروا"- بالنهي- "فإن(13/316)
النذر لا يأتي بخير"، فما دام الإنسان على السَّعَة فإنه لا ينبغي له أن ينذر ليكون في سَعة، إنْ أراد أن يتعبّد ويأتي بالطاعة أتى بها، وإلاّ فليست لازمة له، ولكنه إذا نذر ورَّط نفسه، ووجب عليه الوفاء بالنذر، قال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً(7)}، وقال تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}، قال(13/317)
ص -177- ... ببوانة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: "هل كان فيها وثْن فن أوثان الجاهلية يُعبد؟ ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ}، وقال صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه".
"أن ينحر إبلاً" النحر معناه: ذبح الإبل في النحر -وهو اللَّبَّة-، يقال: نحر البعير، وذبح الشاة والبقرة. فالنحر خاصٌّ بالإبل، وأما الذبح فيكون لغير الإبل.
"ببُوانة" (بُوانة) اسم موضع بين مكة والمدينة، قيل: إن قريبٌ من مكة عند (السعديّة) التي هي (يَلَمْلَم) ميقات أهل اليمن، وقيل إنه قريبٌ من المدينة عند (ينبع). فالحاصل؛ أنه اسم موضع بين مكة والمدينة.
"فسَأل النبي صلى الله عليه وسلم" فيه دليل: على الرجوع إلى أهل العلم، وأن الإنسان لا يقدِم على شيء من العبادات حتى يعرف هل هو مشروع أو غير مشروع؟.
"فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هل كان فيها وَثنٌ من أوثان الجاهلية يعبد؟" يعني: هل كان في هذا المكان - ببُوانة- وثن من أوثان الجاهلية يُعبد، يعني: وأُزيل الآن.
والوثن: كل ما عُبد من دون الله من حجر ومن شجر أو صورة أو قبر، أما الصنم فهو خاصٌّ بما كان على صورة.
و"الجاهلية" المراد بها: ما كان قبل الإسلام. وقد زالتْ -بحمد الله- ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن قد يبقى منها أشياء في بعض الناس، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه: "إنك امرؤ فيك جاهلية"، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية؛ الطعن في الأنساب، والفخر بالأحساب والاستقاء بالنجوم والنياحة على الميِّت". فقد يبقى من أعمال الجاهلية شيء في بعض المسلمين.
أما الجاهلية العامة فقد زالتْ ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، لا كما يقول بعض الكُتّاب: (جاهلية القرن العشرين)، أو (الجاهلية الحديثة) فلا يجوز مثل(13/318)
هذا التعبير لما فيه من التعميم. فهذا فيه: دليلٌ على أنّ الصنم ولو زال وأن الوثن ولو زال من المكان أنّ هذا المكان يُترك ولا يُذبح فيه، لأنه قال: "هل كان فيها؟"، يعني: في الزمان الماضي؛ فدلّ على أنّ مكان الوثن يجب أن يُهجَر قال تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ(5)} الرجز الأصنام وهجرها: تركها وترك المكان الذي كانت فيه.(13/319)
ص -178- ... قالوا: لا، قال: "فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟"، قالوا: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم" رواه أبو داود، وإسناده على شرطهما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم قال: "فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟" العيد: اسم لِمَا يعود ويتكرّر من الزمان أو المكان. فالعيد الزماني مثل: عيد الفطر وعيد الأضحى. والعيد المكاني: وهو المكان الذي يجتمع الناس فيه للعبادة مثل: عرفة، ومزدلفة، ومنى، هذه أعياد للمسلمين المكانية والزمانية.
والشاهد من هذا الحديث للباب في قوله صلى الله عليه وسلم: "هل كان فيها وثنٌ من أوثان الجاهلية يُعبد... فهل كان فيها عيد من أعيادهم" فدلّ على أنه لا يُذبح لله في مكان كان في السابق يُذبح فيه لغير الله، لأن هذا وسيلةٌ إلى الذبح لغير الله عزّ وجلّ، كالصلاة عند القبر، وكالدعاء عند القبر، كل الوسائل التي تُفضي إلى الشرك ممنوعة؛ وكإسراج القبور نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه وسيلةٌ إلى الشرك، والبناء عنى القبور نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه وسيلة إلى الشرك؛ كل الوسائل التي تُفضي إلى الشرك نهى عنها صلى الله عليه وسلم، ومنها: الذبح لله في مكان يُذبح فيه لغير الله.
وقوله: "أوف بنذرك" فيه دليل على وجوب الوفاء بالنذر إذا كان نذر طاعة. وقوله: "فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله" فيه تحريم الوفاء بنذر المعصية ومنه نذر الذبح في مكان يذبح فيه لغير الله.
فهذا الحديث يدلُّ على مسائل عظيمة:
المسألة الأولى: أنّ الذبح عبادة لا تجوز لغير الله.
المسألة الثانية: فيه: مشروعية الرجوع إلى أهل العلم وسؤال أهل العلم؛ لأن هذا الرجل لم يُقدِم على تنفيذ النذر إلاَّ بعد أن سأل النبي صلى الله عليه وسلم.
المسألة الثالثة: في الحديث دليل على مشروعية تثبُّت المفتي من حال السائل، ومقاصده قبل إصدار(13/320)
الفتوى؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم تثبّت قبل الفتوى؛ وبعض الناس يتسرّع في الفتوى مباشرة قبل أن يكمِّل السائل السؤال أو قبل أن يعرف مقصده.
المسألة الرابعة: وهي الشاهد للباب: أنه لا يُذبح لله بمكان يُذبح فيه لغير الله عزّ وجلّ، لأن هذا من وسائل الشرك.(13/321)
ص -179- ... المسألة الخامسة: فيه: خطورة الذبح لغير الله؛ لأنه إذا كان لا يُذبح لله في المكان الذي يُذبح فيه لغير الله فكيف بالذبح لغير الله؟.
المسألة السادسة: فيه: وُجوب الوفاء بالنذر إذا كان نذر طاعة.
المسألة السابعة: فيه: أنّ النذر إذا كان نذر معصية أو أنه لا يجوز الوفاء به أو في شيء لا يملكه الناذر فإنه لا يلزمه؛ وإنما اختلف العلماء: هل عليه كفّارة يمين أو لا؟، على قولين أرجحهما ليس عليه شيء.
المسألة الثامنة: في الحديث: دليلٌ على تحريم نذر المعصية، كمن نذر أن يقتل فلاناً- أو نذر الذبح لغير الله، أو نذر الذبح في مكان يُذبح فيه لغير الله، وفيه: دليل على تحريم الوفاء بنذر المعصية.(13/322)
ص -180- ... [الباب الثاني عشر:] * باب من الشرك النذر لغير الله
وقول الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الشيخ رحمه الله: "باب من الشرك النذر لغير الله" النذر في اللغة: التزام فعل الشيء. وفي الشرع: التزام مكلّف فعل طاعة لم تجب عليه بأصل الشرع. وهذا منهيٌّ عنه؛ لما فيه من إحراج الإنسان لنفسه، وتحميلها شيئاً قد يشق عليها، وكان قبل أن ينذر في سعة من أمره؛ إن شاء فعل هذه الطاعة المستحبة، وإن شاء لم يفعلها، فلمَّا نذر فِعْلها لزمَتْه.
والدليل على أن الوفاء بنذر الطاعة عبادة: أن الله سبحانه ذكر أن من صفات الأبرار: أنهم {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}، وأمر بالوفاء به بقوله: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه".
وإذا كان كذلك فهو من أنواع العبادة، لأن العبادة كما عرّفها شيخ الإسلام ابن تيمية: "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة"، فكل أنواع الطاعات التي أمر الله بها، أو أمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم ومنها الوفاء بالنذر عبادة، فمن صرف شيئاً من هذه الأنواع لغير الله صار مشركاً الشرك الأكبر الذي يُخرجه من المَلَّة.
والشيخ رحمه الله في هذه الأبواب إنما يحكي أنواعاً تقع من بعض الناس وهي من الشرك، يريد أن يحذر المسلمين منها، ومن ذلك: النذر لغير الله من الجن، أو الأولياء والصالحين، أو أصحاب القبور، وهذا عبادة لغير الله عزّ وجلّ فهو شرك، وهذا واقع في هذه الأمة بكثرة، من حين وُجدت الأضرحة، وبُنيت على القبور، وصار كثير من الناس يتجهون إليها، لأنهم قيل لهم: إن هذه القبور فيها بركة، وفيها نفع، وفيها دفع ضرر، وإنها مجرَّبة، فمن نذر للقبر الفلاني، أو للشيخ الفلاني، فإنه يحصل له مقصوده، إن كان مريضاً يُشفى، وإن كانت امرأة تريد الحمل فإنها إذا نذرت للشيخ الفلاني أو للقبر(13/323)
الفلاني تحمل، وإذا حصل بالناس تأخر مطر ونذروا لهذه القبور نزل المطر، إلى غير ذلك من المُغْريات.(13/324)
ص -181- ... وقد يفعلون هذا ويحصل لهم مقصودهم ابتلاءً وامتحاناً من الله سبحانه وتعالى، أو أن هذا يصادف قضاءً وقدراً فيحصل، ويظنوا أنه بسبب النذر لهذا الميت أو لهذا القبر أو هذا الوليّ- بزعمهم-.
وحصول المقصود لا يدل على جواز الفعل، فيجب أن يُتنبّه لهذه الشبهة، لأنهم أهلكوا بها كثيراً من الناس، يقولون: القبر الفلاني مجرَّب، إذا فعل الإنسان عنده نذراً أو ذبح ذبيحة يحصل له مقصوده، فبذلك انصرفت قلوب كثير من العوام والجُهَّال، أو حتى بعض من العلماء غير المحقِّقين إلى فعل هذا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين"، فالخطر شديد من هذه الأمور، لأنها كثُرت في الأمة، بسبب وجود هذه الأوثان التي يسمونها الأضرحة: ضريح السِتِّ نفيسة، ضريح البدوي، ضريح لفلان، صُرفت لها العبادات، من نذور، وذبح لغير الله، وتبرّك بها، وطواف بها، ودعاء عندها، إلى غير ذلك، أو استغاثة بها من دون الله عزّ وجلّ، يدعونها: المدد يا فلان، المدد يا سيّدي فلان، أو يا رسول الله، أو يا عليّ، أو يا أي شخص ينادونه، حتى في حالة الشدائد التي كان المشركون الأولون يُخلصون فيها الدعاء لله، هؤلاء كلما اشتد بهم الكَرْب زاد شركهم، فصاروا يستغيثون بالأولياء، فالسفينة- أو المركب- إذا كرق في البحر- أو أشفى على الغرق- صاروا ينادون عليًّا، أو فلاناً، أو فلاناً؛ أدركنا، المدد يا فلان، ولا يقولون: يا الله، مع أن المشركين الأوّلين إذا مسّهم الضر في البحر ضل من يدعون إلاَّ الله سبحانه وتعالى، فينادون الله، ويُخلصون له الدين، فإذا أنجاهم إلى البر عادوا إلى الشرك .
والنذر على قسمين. نذر طاعة، ونذر معصية.
فنذر الطاعة مثل: الاعتكاف في المسجد الحرام، أو الصلاة في المسجد الحرام، أو المسجد الأقصى، أو المسجد النبوي أو غيرها من المساجد ينذر أن يصلي في أحد المساجد الثلاثة، ويسافر إليه من أجل ذلك، هذا نذر طاعة، وهو في(13/325)
الأصل غير واجب، لكن لما نذره وجب عليه بنذره، والدخول في النذر ابتداءً غير مرغّب فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر، قال: "لا تنذروا، فإن النذر لا يأتي(13/326)
ص -182- ... وقوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بخير، وإنما يُستخرج به من البخيل"، وذلك لأن الإنسان في سَعَة في أمور الطاعة غير الواجبة، إن شاء فعلها وله أجر، وإن شاء تركها ولا حرج عليه، والله لا يحب لنا أن نكلف أنفسنا شيئاً لم يوجبه علينا: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، وإدخال الإنسان نفسه في نذر غير واجب عليه في الأصل، قد يعجز، وقد يشق عليه، وعلى هذا تُنزَّل الأدلة التي تمدح الذين يوفون بالنذر، قال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7)} هذا مدح لهم، بعد أن ينذروا، ليس مدحاً للدخول في النذر، وإنما هو مدح للوفاء به بعد لزومه، فالإنسان إذا التزم شيئاً لله من الطاعة وجب عليه الوفاء، قال صلى الله عليه وسلم: "اقضوا الله، فالله أحق بالقضاء".
ونذر الطاعة دَين في ذمة المسلم؛ يجب عليه الوفاء به، ومن هنا مدحهم الله.
فوجه الاستدلال من الآية الكريمة على أن النذر لغير الله شرك: لأنها دلّت على أن النذر عبادة، لأن الله مدح الموفين به، وإذا كان عبادة فصرفه لغير الله شرك.
وفي الآية الثانية من سورة البقرة قوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} ولازم ذلك: أن يجازيكم عليه، وهذا من باب الحث على الوفاء بالنذر.
ووجه الاستدلال من الآية الكريمة من وجهين:
الوجه الأول: أن الله قرن النذر بالنفقة، والنفقة في سبيل الله طاعة، فدلّ على أن النذر طاعة.
الوجه الثاني: قوله: "{فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ}" وهذا من باب الحث على النفقة، وعلى الوفاء بالنذر؛ فدلّ على أنه طاعة، وإذا كان النذر طاعة، فإن صرفه لغير الله شرك. هذا وجه استدلال المصنّف رحمه الله.(13/327)
ص -183- ... وفي الصحيح: عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال: "وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها" عائشة هي أم المؤمنين، بنت أبي بكر الصديق- رضي الله تعالى عنها-، عقد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في سن السابعة، ودخل بها وهي في سن التاسعة.
وهذا فيه دليل على جواز تزويج الصغيرة وإن لم يكن لها إذن، لأنها في سن السابعة ليسن لها إذن، ولكن وليّها يقوم مقامها إذا رأى المصلحة أن يزوّجها وهي صغيرة، بأن يزوجها من رجل صالح، أو من عالم تقي، لأن لها مصلحة في ذلك، كما زوّج الصدِّيق رسول الله هذه الطفلة الصغيرة التي هي في سن السابعة، وهي في هذا السن ليس لها إذن، لكن وليّها يقوم مقامها إذا رأى المصلحة.
كما أن فيه دليلاً على تزوج الكبير بالشابة، والآن ينادون ويحذّرون منه، ويشنِّعون على تزويج الكبير، ويعتبرونه جريمة، ووحشيّة، ويندّدون بمن فعله في الصحف والمجلاّت ووسائل الإعلام، بل ربما في الخطب والمحاضرات، وهذا الرسول صلى الله عليه وسلم سيّد الخلق تزوّج عائشة وهو في سن الخمسين تقريباً، وهي في سن السابعة، فدلّ على أنه لا بأس به، بل يرغب في تزويج الكبير من الشابّة إذا كانت المصلحة في ذلك، وأن هذه سنة نبويّة، فمن أنكر تزويج الكبير من الشابّة فإنه يُنكر سنة نبويّة، هذا إذا كانت المصلحة في ذلك.
أما إذا لم يكن هناك مصلحة، وإنما هو استغلال من وليّ هذه الطفلة من أجل أن يأكل مهرها، ومن أجل أن يستغل تزويجها، وهي ليس لها مصلحة؛ فهذا لا يجوز.
إنما نقول: إذا كانت المصلحة في ذلك فلا حرج في تزويج الكبير من الشابة، إذا كان في ذلك مصلحة وخير، وأن هذا من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكانت رضي الله عنها أفضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما عدا خديجة رضي الله عنها، فهناك خلاف: هل خديجة أفضل من عائشة؟، أو عائشة أفضل من(13/328)
خديجة؟.
من العلماء من قال: بأن خديجة أفضل من عائشة، ومنهم من كال:. عائشة أفضل من خديجة. والحقيقة أن لكل منهما فضائل لا تشاركها فيها الأخرى، لعائشة فضائل لا تشاركها فيها خديجة، ولخديجة فضائل لا تشاركها فيها عائشة. والإجماع(13/329)
ص -184- ... "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصِه".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على أن خديجة وعائشة أفضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم، إنما الخلاف في أيِّهما أفضل.
وكانت عائشة فقيهة من فقهاء الصحابة، وكانت راوية للأحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان كبار الصحابة يرجعون إليها في الرّواية والفتوى،- رضي الله تعالى عنها وأرضاها-، فهي عالمة فقيهة، وهي أم المؤمنين، وهي بنت الصديق الذي هو أفضل الصحابة، فلها فضائل- رضي الله تعالى عنها-، ولها مزايا.
وقد روت "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" الحديث صريح في أن النذر يكون طاعة، وإذا كان طاعة فهو عبادة، وإذا كان عبادة، فصرفه لغير الله شرك أكبر.
هذا وجه استدلال المصنف رحمه الله بهذا الحديث للباب.
فقوله: "من نذر أن يطيع الله" بصلاة، بصيام، بحج، بعمرة، بصدقة، باعتكاف، أو بغير ذلك من أنواع الطاعات.
"فليطعه" بفعل هذا النذر.
فدلّ هذا على أن النذر عبادة، وعلى أنه يجب الوفاء به، لأنه دَين لله عزّ وجلّ في ذمة الناذر.
"ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" كان نذر أن يقطع رحمه، وأن لا يصل أباه أو أمه أو أخاه. فهذا نذر معصية لا يجوز له الوفاء به، أو نذر أن يقتل فلاناً؛ فهذا لا يجوز الوفاء به لأنه معصية، لأن القتل بغير حق معصية كبيرة، فلا يجوز الوفاء به، أو نذر أن يترك الصلاة، أو أن يشرب الخمر. كل هذه نذور معصية، سواء كانت المعصية بترك واجب أو بفعل محرّم، من نذر ذلك فإنه لا يجوز له الوفاء بهذا النذر، لأنه معصية لله.
ومن ذلك- بل أولى-: إذا نذر للقبور، لأن النذر للقبور شرك وهو من أعظم المعاصي، فلا يجوز له الوفاء به كما إذا نذر أن يذبح للبدوي، أن يذبح لأيّ ضريح من الأضرحة، أو أن يذبح للجن، أو أن يذبح للأولياء والصالحين يرجو نفعهم أو دفع الضرر(13/330)
عنه بالذبح لهم؛ فهذا من أعظم أنواع المعصية، ويدخل في قوله: "ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه"، لأن المعصية قد تكون شركاً، وقد تكون دون ذلك.(13/331)
ص -185- ... فالحديث إذاً دليل على أن النذر عبادة، وأنه إذا نذر عبادة وجب عليه الوفاء بها، ولو صرفها لغير الله صار مشركاً، وعلى أنه لو نذر فعل الشرك، فإنه لا يجوز له الوفاء به، وكذلك إذا نذر المعصية التي هي دون الشرك، لا يجوز له الوفاء بنذر المعصية، وهذا محل إجماع: أنه لا يجوز له الوفاء بنذر المعصية، ولكن اختلفوا: هل تجب عليه كفّارة يمين أو لا تجب؟، من العلماء من رأى أنه تجب عليه كفّارة يمين بدل النذر، ومنهم من يرى أنه لا يجب عليه كفّارة يمين، نظراً لأن نذر المعصية غير مُنْعَقِد أصلاً، فليس فيه كفّارة يمين. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث نهى عن فعله ولم يأمر بالكفارة.
وعلى كل حال؛ تبيّن لنا من خلال هذه الآيات الكريمة وهذا الحديث أن النذر عبادة، وإذا كان عبادة فصرفه لغير الله شرك.
فما يفعله عُبّاد القبور، والمتصوّفة، والمخرِّفون، من هذه النذور التي تقدّم للقبور، أو تقدّم للجن والشياطين، أو حتى للأولياء والصالحين، أنها عبادة لغير الله عزّ وجلّ، وشرك بالله عزّ وجلّ، فلا يجوز عملها، ويجب المنع منها، والتحذير منها، وأن هذه النذور باطلة، لا يجوز له الوفاء بها، فإن وَفَى بها ونفّذها صار مشركاً بالله الشرك الأكبر، فيجب عليه أن يتوب وأن يدخل في الإسلام من جديد. فهذا في النذر الواحد، فكيف بالذي أفنى عمره بالنذور، وضيع ماله بالنذور، كلما أحسَّ بشيء، أو خاف من شيء صار يَنْذُر للأولياء والصالحين؟!. فالمسألة خطيرة جداً.
ولكن مهما عمل الإنسان من الشرك والكفر إذا تاب، تاب الله عليه، ولو أفنى عمره في الشرك والكفر ثم تاب توبة صحيحة تاب الله عليه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} فلو أن هؤلاء القبوريّين تابوا إلى الله لتاب الله عليهم.(13/332)
ص -186- ... [الباب الثالث عشر:] * بابٌ من الشرك الاستعاذة بغير الله
وقول الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً(6)}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا كالأبواب التي قبله في بيان أنواع الشرك التي يمارسها بعض الناس في مختلف الأزمان، ولا تزال تُمارس عند كثير من الناس.
والاستعاذة معناها: الاعتصام والالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى في دفع المكروه والشرور.
وهو نوع من أنواع العبادة، لأن دفع الضرر، ودفع الشرور لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى، فكل ما لا يقدر عليه إلاَّ الله فإنه لا يُطلب إلاَّ من الله، فإن طُلب من غيره كان ذلك شركاً، هذا وجه كون الاستعاذة بغير الله من الشرك، لأن الاستعاذة عبادة، وصرف العبادة لغير الله شرك، لماذا كانت عبادة؟، لأنها طلب دفع الضرر الذي لا يقدر على دفعه إلاَّ الله، وطلب ما لا يقدر عليه إلاَّ الله من غير الله شرك، ولأن الله تعالى أمر بالاستعاذة به دون غيره، قال تعالى في آيات من القرآن: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(36)}، وقال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ(1)}، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ(1)}، كما أنه سبحانه بيّن أن الاستعاذة بغيره من الشرك وذلك في سورة الجن: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً(6)}، وفي سورة الأنعام: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ(13/333)
إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}، ففي هذه الآيات ما يبيّن أن الله أمر بالاستعاذة به وحده، ومنع من الاستعاذة بغيره، فدلّ على أن الاستعاذة عبادة، لا يجوز أن تُصرف لغير الله سبحانه وتعالى.
قال الشيخ رحمه الله: "وقول الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً(6)}" هذه من جُملة الانتقادات التي انتقدها الجن الذين استمعوا للقرآن(13/334)
ص -187- ... وآمنوا به، انتقدوها على قومهم من الجن، كما في قوله تعالى في أول السورة: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً(1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً (3)}، وبعد ما نزّهوا الله عن الشرك، وتبرءوا منه، جعلوا ينتقدون أقوامهم وما يفعلونه مما يخالف التّوحيد، ولهذا قالوا: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7)} إلى آخر السورة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى أهل الطائف يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى، فردُّوه ردًّا قبيحاً، وأَغْرَوْ عبيدهم وسفهاءهم يرجمونه بالحجارة عليه الصلاة والسلام رجع إلى مكة، وقد خرج من مكة على حالة شديدة: مات عمه الذي كان يدافع عنه، وماتت زوجته خديجة التي كانت تُؤَنِّسه، وكانت له نِعْم المعين على دعوته، ثم لما خرج إلى الطائف أُصيب بهذا الرد القبيح، اشتدت به الحال صلى الله عليه وسلم جدًّا، وبينما هو كذلك يسّر الله له من الجن من استمع إلى القرآن وآمن به، وذلك أنه لما رجع من الطائف، وبلغ وادي نَخْلَة - بين مكة والطائف-، قام يصلي الفجر ويقرأ القرآن، واستمع له الجن، فأُعجبوا بالقرآن- كما في هذه السورة، وفي سورة الأحقاف-: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ(29)(13/335)
قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} يعني: بعد التوراة، { يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ(31)}، وفي سورة الجن: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً(1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ}، فهذا فيه فرج من الله سبحانه وتعالى لنبيه، وتسلية لنبيه، وأن الله يقيِّض له من يتبعه ويؤمن به، لأنه مبعوث إلى الإنس والجن.
"{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ}" الإنس: بنو آدم.
"{يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ}" الجن المُراد بهم: عالم من عالم الغيب، يعيشون معنا في هذه الأرض، وهم مكلّفون، مأمورون بطاعة الله، ومَنْهِيُّون عن معصية الله، مثل الإنس، لكننا لا نراهم، قال تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ} يعني: إبليس {هُوَ وَقَبِيلُهُ}(13/336)
ص -188- ... يعني: جماعته من الجن {مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ}، فهم يروننا ونحن لا نراهم، وقد يتصوّرون بصور متشكّلة، ويتصوّرون بصور حيّات، وبصور حيوانات، وبصور آدميين، أعطاهم الله القُدرة على ذلك، وهم عالم مخلوق من نار، والإنس خُلقوا من الطين، كما قال تعالى: {خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ(14)} يعني: من الطين، {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ(15)} الجان: جمع جنِّي، سُمُّوا بالجن لاجتنانهم أي: استتارهم عن الأنظار، ومنه سُمِّي الجَنين في بطن أمه لأنه لا يُرى، فهو مُجْتَنّ في بطن أمه، ومنه المِجن الذي يتّخذ في الحرب يتوقّى به المقاتل سهام العدو، سُمِّي مِجَنًّا لأنه يُجِنُّه من السهام، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "الصوم جُنّة" بمعنى: أنه ساتر بين العبد وبين المعاصي، يستتر به من المعاصي، ومن كيد الشيطان، ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً} {جَنَّ عَلَيْهِ} يعني: غطّاه ظلام الليل.
فالحاصل؛ أن الجن عالم خفي، لا نراهم، وهم يعيشون معنا، وهم مكلّفون كما كُلِّفنا بالأوامر والنواهي.
والإيمان بوجودهم من الإيمان بالقلب، تصديقاً لخبر الله سبحانه وتعالى، وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، فوجود الجن ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، ومن جحد وجود الجن فهو كافر، لأنه مكذِّب لله ولرسوله ولإجماع المسلمين، وهل كل ما لا يراه الإنسان يُنكر؟.
وقد ظهرت طائفة من جهلة الأطباء- كما يقول الإمام ابن القيّم-، وكذلك من بعض المفكِّرين والكُتّاب المنتسبين للإسلام؛ ينكرون وجود الجن، لأنهم لا يؤمنون إلاَّ بما تقرّه عقولهم، وعقولهم لا تتّسع للتصديق بهذه المغيّبات، وكذلك الجن يمسُّون الإنس ويخالطونهم ويصرعونهم، وهذا شيء ثابت، لكن من جَهَلَة الناس من يُنكر صَرْع الجن للإنس، وهذا لا يَكْفُر، لأن هذه مسألة خفيّة، ولكنه يُخطّأ، فالذي يُنكر مسّ الجن للإنس لا(13/337)
يُكَفَّر، ولكن يضلّل، لأنه يُكذِّب بشيء ثابت، أما الذي يُنكر وجودهم أصلاً فهذا كافر، فقوله تعالى: "{ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ}" أي: يلتجئون إليهم ليدفعوا عنهم الشرور.
"{فَزَادُوهُمْ}" زاد الجن الإنس، "{رَهَقاً}" أي: خوفاً، فالجن تسلّطوا على(13/338)
ص -189- ... وعن خَوْلَة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات التّامّات من شر ما خلق؛ لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك" رواه مسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإنس لمّا رأوهم يعوذون بهم، وزادوهم خوفاً وقلقاً، وأُعجبوا بأنفسهم، وقالوا: إننا أَخَفْنا الإنس، وصاروا يستعيذون بنا.
وسبب نزول هذه الآية: أن العرب كانوا في الجاهلية إذا نزلوا منزلاً قال أحدهم: أعوذ بسيّد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فأنزل الله هذه الآية: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ}.
فهذه عقيدة جاهليّة، أبطلها الله سبحانه وتعالى بالأمر بالاستعاذة به وحده لا شريك له، وذلك في قوله: "عن خَوْلَة بنت حكيم"- رضي الله تعالى عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامّات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك"رواه مسلم.
هذه هي الاستعاذة الشرعية البديلة من الاستعاذة الشركية.
فقوله: "أعوذ بكلمات الله التّامّات من شر ما خلق" كلمات الله: المُراد. بها: كلامه سبحانه وتعالى المنزّل على رسوله صلى الله عليه وسلم. والاستعاذة بالقرآن مشروعة، لأن القرآن كلام الله، فالاستعاذة بالقرآن استعاذة بصفة من صفات الله، وهي الكلام، وليست استعاذة بمخلوق.
واستدلّ أهل السنّة والجماعة بهذا الحديث على أن القرآن غير مخلوق، لأنه لا تجوز الاستعاذة بالمخلوق، فلو كان القرآن مخلوقاً- كما تقوله الجهمية والمعتزلة- لصار هذا من الاستعاذة بالمخلوق، وهي شرك، كما دلّ هذا الحديث على مشروعية الاستعاذة بالله عزّ وجلّ، وترك الاستعاذة بغيره سبحانه وتعالى.
وقوله: "التّامّات" أي: الصادقات العادلات، التي لا يتطرّق إليها نقص، لأن كلام الله سبحانه وتعالى كامل، لأن الله جل وعلا كامل وصفاته كاملة، وكلامه كامل(13/339)
لا يتطرّق إليه النقص: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(42)}، {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)}.(13/340)
ص -190- ... فكلمات الله تامّة، لا يتطرّق إليها نقص بوجه من الوجوه، ولذلك كان القرآن الكريم كاملاً، لا يتطرّق إليه نقص، واف بحوائج الناس، والحكم فيما بينهم، وإزالة الشكوك والشرك والكفر والإلحاد، وبيان الأحكام والعدل بين الناس، كل هذا في القرآن، لأنه كلام الله سبحانه وتعالى، وفضل كلام الله على كلام غيره كفضل الله سبحانه وتعالى على خلقه.
فالحاصل؛ أن الكتاب والسنّة قد دلاّ على أن الاستعاذة عبادة، وما دام أنها عبادة، فالاستعاذة بغير الله تكون شركاً أكبر يَخرج به صاحبه من الملّة، فالذي يستعيذ بالجن أو بالشياطين يكون كافراً الكفر الأكبر، مشركاً بالله عزّ وجلّ، كالذين يكتبون الحُجُب والطلاسم، ويستعيذون بالشياطين وبِمَرَدَة الجن، ويكتبون أسماء الشياطين في كتاباتهم، وفي طلاسمهم، وكذلك الذين ينادون الجن عند الشدّة وعند الخوف هذا- أيضاً- كله من الشرك الأكبر لأنه استعاذة بغير الله سبحانه وتعالى، ومن هذا -أيضاً- من يستعين بالجن عندما يتخاصم مع أحد فيقول: يا جن خذوه، افعلوا به كذا وكذا. وهذا شرك بالله عزّ وجلّ إذا كان يقصد الاستعانة بهم، وكذلك الذي يعالج الناس بالاستعانة بالجن وسؤالهم عن المرض أو عن الذي سحر المريض.
وفي قوله تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ}، قال العلماء في تفسير هذه الآية: "استمتاع الإنس بالجن: أنهم يستعيذون بهم مما يكرهون، ويطلبون منهم ما يريدون، فالجن تخدمهم، وتحضّر لهم الغائب والبعيد، وتقضي بعض حوائجهم، لأن هناك أشياء لا يقدر عليها الإنس، فهم يستعيذون بالجن، ويستمتعون بالجن، بمعنى: أن الإنس يستخدمون الجن في بعض أمورهم، هذا استمتاع الإنس بالجن.
واستمتاع الجن بالإنس: أن الإنس يخضعون لهم ويعظمونهم ويجلّونهم، ففي هذا استمتاع للجن(13/341)
بالإنس، فكل من الفريقين استمتع بالآخر، هذا استمتع بحصول حوائجه، وهذا استمتع بتعظيمه، وصرفه هذا الإنسي إلى الكفر بدل الإيمان.
فدلّ على أن الاستعانة بالجن شرك أكبر، ولو سميت بغير الشرك، لو سميت: بالاستخدام، أو الزار، أو ما أشبه ذلك من الأسماء.(13/342)
ص -191- ... فالواجب أن الإنس يتوبون إلى الله سبحانه وتعالى من ممارسة هذه الأعمال مع الجن.
والواجب على الجن: أن يتوبوا إلى الله من إضلال الإنس وإغوائهم، لأن الكُل عباد من عباد الله، يجب عليهم مخافة الله وخشيته والرغبة إليه، وطاعته، وطاعة رسله، وترك ما حرّم الله.
وقد تلاعب بعض الأشرار من الإنس بعقائد الناس، وبأكله لأموالهم، وشعوذته عليهم، ولاسيما عند البوادي والقرى البعيدة عن حضور مجالس الذكر، فإن هذا يكثر كلما كثر الجهل، وحقيقة هذا أنه عَمِيل للجن، وأنه مشرك بالله عزّ وجلّ، ولا يقتصر شره على نفسه، بل يضلِّل الناس، ويُفسد عقائد الناس، ويأتي إليه الناس ويسألونه، ويُخبرهم بالمغيّبات، أو يأمرهم بالذبح لغير الله، أو غير ذلك من أنواع الشرك.
فهذه مسألة خطيرة، يجب على أهل العلم وعلى الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى أن يبيّنوها للناس، وأن يتجوّلوا في القرى، وفي البوادي، ويوضِّحوا هذا الأمر للناس، لأنهم - والله أمانة في أعناق طلبة العلم، وفي أعناق الدعاة-، هذا هو المطلوب.
أما أنك تتكلّم أمام الناس عن قضايا السياسة ونحوها؛ فهذه ما فائدة الناس منها؟، ما فائدة البدو في الصحراء، أو الناس في القرية، ما فائدتهم من هذه الأمور؟، وهم واقعون في الشرك، أو يجهلون قراءة الفاتحة التي هي ركن من أركان الصلاة؟!، يجب علينا أن نتقي الله سبحانه وتعالى، وأن نعلم أن منهج الرسول صلى الله عليه وسلم: دعوة، وتعليم، وإرشاد، وتوجيه فيما ينفع الناس، وأيضاً معالجة ما وقع فيه الناس في بلدهم وفي أنفسهم. أما أنك تجلب لهم مشاكل من بعيد، وتريد منهم أن يعالجوا قضية أمريكا، أو قضية الجزائر، أو قضية السودان؟، وهم مساكين، ما بيديهم شيء، وأيضاً هم واقعون فيما هو أخطر من ذلك وهو الجهل وفساد العقيدة، لماذا لا تعالج هذا الأمر؟.
وأنا ليس غرضي بهذا الكلام أن أتنقّص أحداً، لا والله، ولكن غرضي أن أبيّن الطريقة الصحيحة للدعوة، ونفع(13/343)
الناس.
فإن هذه الأبواب من أبواب "كتاب التّوحيد" تُعالج واقع الناس، لماذا(13/344)
ص -192- ... لا نشرحها للناس، ونبيّنها للناس، ونوضِّحها، ونحفِّظهم هذه الآيات وهذه الأحاديث ونشرحها لهم، ولو شرحاً وجيزاً على قدر أفهامهم، ينتفعون بها؟.
هذه هي الدعوة إلى الله عزّ وجلّ، وهذا العلم النافع.
تعلمون ما للدعاة من الأثر وماذا حصل بسبب دعوتهم من الخير:
فالشيخ: محمد بن عبد الوهاب، كيف أثر في دعوته من الإصلاح والنّفع للمسلمين، الذي لا نزال ننتفع به- ولله الحمد-.
الشيخ: عبد الله القرعاوي في الجنوب، كما تعلمون إلى عهد قريب، والآن تلاميذه وطلاّبه ماذا أثّر من الخير؟.
الشيخ: فيصل بن مبارك في الشمال، ماذا أثّر من الخير، ولا يزال تلاميذه الآن مصابيح هدى، يبيِّنون للناس الحق.
أما أن تجلب للناس مشاكل الخارج وتشغلهم بها؛ فهذه ما هي بدعوة إلى الله، وإنما هي اشتغال بأمور لا تفيد الناس، ولا تحل مشاكلهم، ولا تُصلح فسادهم، وإنما تُحْبِط أفهامهم، وقد تسبِّب سوء الظن بالمسلمين وبولاة الأمور، وتفرّق الكلمة. فالواجب علينا أن نتنبّه لهذا.
أنا ما أقول هذا من أجل الغَمْط من أحد، لا والله، ولكني أتأسف من واقع بعض الدعاة الذي تردّى إلى هذا المستوى.
ونسأل الله سبحانه أن يأخذ بأيدينا وأيديهم إلى الصلاح والفلاح والاستقامة، والسير على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم فيما ينفعنا وفيما ينفع الناس، كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}، {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(104)}، هذا منهج الرسل- عليهم الصلاة والسلام-.
نسأل الله عزّ وجلّ أن يوفقنا جميعاً لما فيه خيرنا وخير أمتنا، وصلاحنا وصلاحهم، وأن يصلح ولاة أمورنا، وأن يأخذ بأيديهم إلى ما فيه الخير للأمة، وما فيه صلاح الأمة.(13/345)
ص -193- ... [الباب الرابع عشر:] * بابٌ من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعوَ غيره
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب جاء في سياق الأبواب التي تبيّن أنواعاً من الشرك يقع فيها بعض الناس في مختلف العصور والأزمان.
فقوله: "من الشرك"، أي: من أنواع الشرك الأكبر: "أن يستغيث بغير الله" فيما لا يقدر عليه إلاَّ الله.
والاستغاثة: طلب الغوث، ولا تكون إلاَّ في وقت الشدّة.
وأما الدعاء فهو عام في وقت الشدّة وفي غيرها، فعطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص.
والاستغاثة بالمخلوق على قسمين:
القسم الأول: الاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلاَّ الله سبحانه وتعالى، فهذه هي الشرك الأكبر، لأنها صرف للعبادة لغير الله سبحانه وتعالى.
أما الاستغاثة بالمخلوق فيما يقدر عليه المخلوق كاستغاثة بغيره في الحرب ليساعده ويناصره على عدّوه؛ فهذا جائز، كما قال الله تعالى عن موسى عليه السلام: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}، فالاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه- كالاستغاثة بالأموات والغائبين- شرك أكبر، لأنه يستغيث بمن لا يقدرون على شيء أبداً، فالذين يستغيثون بالأضرحة، وبالأولياء وبالصالحين، والأموات، أو يستغيثون بالغائبين من الجن، أو بالشياطين، كل هذا من النوع الممنوع.
أما الدعاء، فهو أعم من الاستغاثة- كما سبق-، وهو نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة.
ودعاء العبادة هو: الثناء على الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته.
ودعاء المسألة هو: طلب الحاجات من الله سبحانه وتعالى.
ويجتمع النوعان في سورة الفاتحة، فقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(2)}، هذا دعاء عبادة، لأنه ثناء على الله، وقوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}(13/346)
ص -194- ... وقول الله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ(106)}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دعاء عبادة، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ(4)} دعاء عبادة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، دعاء عبادة، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} إلى آخر السورة دعاء مسألة.
ولهذا يقول الله جل وعلا في الحديث القدسي: "قسمت الصلاة" يعني: الفاتحة، سماها صلاة لأنها دعاء "بيني وبين عبدي نصفين" لأن أولها دعاء عبادة الله، وآخرها دعاء مسألة، والعلاقة بين دعاء العبادة ودعاء المسألة: أن دعاء العبادة مُسْتَلْزِم لدعاء المسألة، فإذا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ(4) } يلزم من هذا أنه يسأل الله سبحانه وتعالى، ودعاء المسألة متضمِّن لدعاء العبادة، بمعنى: أن دعاء العبادة داخل في دعاء المسألة، فالذي يسأل الله حوائجه يتضمّن سؤاله أنه يعبد الله بذلك.
قال: "وقول الله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106)}"، والآية التي تليها: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(107)} الآيتان من آخر سورة يونس.
يقول الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم: "{وَلا تَدْعُ}" هذا نهي من الله لنبيه عن دعاء غير الله، والخطاب الموجه للنبي صلى الله عليه وسلم موجه إلى أمته، إلاَّ إذا دلّ دليل على اختصاصه به، فهذا النداء عام للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته، ولأنه إذا نُهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فغيره من باب أولى.
"{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ}" أي: غير(13/347)
الله.
"{مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ}" "{مَا}" موصولة، أي: الذي لا ينفعك ولا يضرك، وذلك لأن المدعو إما أن يُطلب منه جلب خير، وإما أن يطلب منه دفع ضرر، وهذا إنما يختص بالله سبحانه وتعالى، فإنه هو الذي يقدر على دفع الضرر وجلب الخير، ودعاء الأموات وأصحاب القبور والأصنام والأوثان والأشجار والأحجار، لا يجلب خيراً ولا يدفع ضرراً. وكل ما يُدعى من دون الله فهو بهذه المثابة، لا ينفع ولا يضر،(13/348)
ص -195- ... لأنها إما أحجار جامدة، وإمّا صور وتماثيل، وإما قبور هامدة، وإما أشجار، أو غير ذلك، فهي مخلوقات لا تقدر على جلب نفع ولا دفع ضرر، فالدعاء إنما يصلح أن يوجه لمن يقدر على ذلك، وهو الله سبحانه وتعالى.
"{فَإِنْ فَعَلْتَ}" يعني: دعوت غير الله مما لا ينفعك ولا يضرك، وهذا من باب الافتراض، وإلاّ محال أن النبي صلى الله عليه وسلم سيفعل ذلك، ولكن لو قُذُّر أنه فعله وهو أكرم الخلق، فإنه يكون من الظالمين، فكيف بغيره، إذا دعا غير الله؟، وهذا مثل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(65)} يعني: أوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى غيره من الأنبياء السابقين أنه لو قُدِّر أن أحداً منهم- وحاشاهم عليهم الصلاة والسلام- دعا غير الله، وأشرك بالله حبط عمله، وصار من الخاسرين ولو كان من الأنبياء، فكيف بغيرهم؟، ولما ذكر الله سبحانه وتعالى إبراهيم وذريته، فقال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86)}، لما ذكر الله سبحانه وتعالى أنبياءه في هذه الآيات قال: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، لو أشرك هؤلاء الأنبياء {لَحَبِطَ} أي: لبَطَلَ {عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي: بطلت جميع أعمالهم. فدلّ على أن الشرك مُحبط للأعمال، ولو صدر من خير الخلق، وهم الأنبياء، فكيف إذا صدر ممن هو دونهم؟، إذا هو يُخرج من المِلّة، ويُحبط جميع الأعمال، فالدعاء عبادة، بل هو أعظم أنواع العبادة، قال صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو(13/349)
العبادة" كما قال صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة" يعني: أعظم أركان الحج عرفة، فكذلك أعظم أنواع العمادة الدعاء.
ثم قال تعالى: "{فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ}" يعني: من المشركين، لأن الشرك أعظم أنواع الظلم، كما قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، والظلم في الأصل: وضع الشيء في غير موضعه، والشرك وضع للعبادة في غير مستحقها، فلذلك صار أعظم أنواع الظلم.(13/350)
ص -196- ... {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} الآية.
وقوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: "{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ}" هذا تقرير لإبطال دعاء غير الله، "{فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ}" هذا- أيضاً- فيه إبطال دعاء غير الله، لأن هذه المدعوات لا تقدر على كشف الضر، ولا تقدر على جلب الخير، وهذا كما في قوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً(56)}، {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}، وفي قوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(2)}، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم: "واعلم أن الناس لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلاَّ بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلاَّ بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام، وجَفَّتِ الصحف".
فالنفع والضرر إنما هو من الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يستحق أن يُدعى لطلب الخير، ويُدعى- أيضاً- لرفع الشر، وكشف الضر، هو الذي يملك ذلك سبحانه وتعالى، لا تملكه جميع المخلوقات، وكذلك في سورة الأنعام: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(17)}، فالنفع والضر بيد الله سبحانه وتعالى، فيجب على العباد أن يتوجهوا إلى الله، وأن(13/351)
يدعو الله وحده، ولا يدعوا معه غيره سبحانه وتعالى.
قال: "وقوله: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ}" وكمال الآية: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} هذا من جملة ما ذكره الله تعالى عن خليله إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- مما خاطب به قومه قال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)}.(13/352)
ص -197- ... فقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً} لأن الرزق من الله سبحانه وتعالى فهو الرزاق: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ(58)}، {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ}، فلو أنّ الله منع المطر من السماء الذي هو سبب الرزق واجتمع أهل الأرض كلهم أن يُوجدوا المطر لن يستطيعوا أبداً.
"{فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ}" أي: اطلبوا الرزق من الله سبحانه وتعالى، فإن الله قريب مجيب لمن دعاه، ولا تطلبوا الرزق من الأوثان التي لا تملك شيئاً.
{وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} هذا فيه توجيه من الله سبحانه وتعالى لعباده أن لا يطلبوا الرزق من غيره، وأن يعبدوه ولا يعبدوا غيره، فإنهم إذا عبدوه رزقهم، كما قال تعالى: "{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ}، فالرزق إنما يُسْتَجْلَب بعبادة الله سبحانه وتعالى، وأما المعاصي فإنها تسبِّب منع الرزق، فما يحصل في الأرض من المجاعات ومن شُحّ الأرزاق إنما سببه الكفر والمعاصي، وما يحصل في الأرض من خيرات وأرزاق فسببه الطاعة والعبادة إلاَّ أن يكون استدراجاً.
فهذه الآية كالتي قبلها فيها وجوب التَّوَجُّه إلى الله سبحانه بالدعاء، وطلب الحاجات، وتفريج الكُرُبات، وطلب الرزق، وأن أحداً غيره لا يملك رزقاً: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً}، فكيف يطلب الرزق ممن لا يملكه.
وفاقد الشيء لا يعطيه.
وقوله: {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} في الدار الآخرة بعد(13/353)
الموت، فيجازيكم بأعمالكم.
وهذا تنبيه على أن هناك دار جزاء، وأنكم إن أحسنتم فستلقون الجزاء الحسن، وإن أسأتم فستلقون الجزاء السيء، فأنتم لستم بمهملين، ولا مضيّعين، ولا متروكين، لابد لكم من موعد مع الله سبحانه وتعالى في موقف الحساب، فاستدركوا لأنفسكم قبل الموت، وتوجهوا إلى الله، وأخلصوا له العبادة، وأصلحوا ا لأعمال، لأنكم تُرجعون إلى الله، وهذا الموعد ما أحد يتخلّف عنه، لا الكافر، ولا المسلم.(13/354)
ص -198- ... وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} الآية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال: "وقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}، وتتمة الآية: {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ(6)}، الآيات من سورة الأحقاف.
"{وَمَنْ أَضَلُّ}" لا أحد أشدّ ضلالاً، "{مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ} " أي: غير الله.
"{مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}" هل الصنم استجاب لأحد في يوم من الأيام؟، هل القبر استجاب لأحد في يوم من الأيام؟، هل الشجرة التي- تُعبد من دون الله استجابت لأحد؟، أبداً، ولو قُدِّر أنه يحصل للمشرك مقصوده، فهذا ليس من المعبود من دون الله، وإنما هو من الله سبحانه وتعالى، أجراه امتحاناً له، واستدراجاً له، حتى يظن أن هذا من القبر، فيستمر في الشرك- والعياذ بالله.
وقد ذكر شيخ الإسلام في إحدى رسائله- أو في كثير من رسائله- ما معناه: أن ما يحصل لعبّاد القبور من قضاء الحاجات، فليس ذلك دليلاً على صحة مذهبهم، لأن حصول المقصود يكون ابتلاءً وامتحاناً من الله سبحانه وتعالى، ويكون من أجل الاستدراج كما قال تعالى: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ(44)}، {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا}، فالله سبحانه وتعالى يُمْهِل ويستدرج، من أجل أن يزداد هذا الكافر وهذا المشرك آثاماً يُعَذَّب بها يوم القيامة، فليس هذا من صالحه، فإذا حصل لعبّاد القبور شيء من مقاصدهم، فهذا من إهانة الله لهم، واستدراجهم.
وذكر(13/355)
الشيخ- أيضاً- أنه يمكن أن الشياطين تتصوّر أحياناً بصورة المقبور، وتخرج على الناس الذين يدعون القبر بصورة المقبور وتخاطبهم، وتقول نحن نقضي حوائجك، والشيطان قد يأتي لهم بأشياء بعيدة، قد يسرق من أموال الناس أشياء ويأتي بها لهم، ويظنون أن هذا من الميت، والميت ما درى عن شيء من هذه الأمور، الميت مشغول بنفسه إما في نعيم وإما في عذاب في قبره، وإذا حشر الناس يوم القيامة، وبُعث هؤلاء المشركون، وبُعث هؤلاء الموتى يوم القيامة كانوا أعداءً لمن عبدهم يتبرءون من هؤلاء الذين عبدوهم في الدنيا أحوج ما يكونون إليهم، كما(13/356)
ص -199- ... وقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ(166)}، {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} يعني: الشياطين، {أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} لأن الشياطين هي التي دعتهم إلى هذا الشيء فأجابوا، فهم لم يعبدوا الملائكة، وإنما عبدوا الشياطين الذين أمروهم بذلك، فالحاصل؛ أنه في يوم القيامة يتبرّأ كل من عُبد من دون الله، ممن عبده، ويحصل بينهم عداوة، بين الداعين والمدعوين.
"وقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ}" هذا استفهام من الله تعالى للمشركين، يقول: أنتم تشركون بالله عزّ وجلّ في حالة الرخاء، ولكن إذا وقعتم في الشدة والاضطرار دعوتم الله مخلصين له الدين فأنقذكم، فلماذا تُشركون به في حالة الرخاء؟، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْأِنْسَانُ كَفُوراً (67)}"، فالله سبحانه وتعالى يقول: إذا كان لا ينقذكم من الشدائد إلاَّ الله باعترافكم-، فكيف تُشركون به في حالة الرخاء، هل هذا إلاَّ التناقض؟.
وقوله:"{وَيَكْشِفُ السُّوءَ}" أي: لا أحد يكشف السوء سواه، والمشركون يعترفون أنه لا أحد يكشف السوء إلاَّ الله سبحانه وتعالى، فلماذا يعبدون غيره؟.
وتمام الآية: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} من هو الذي يداول الدنيا بين الناس، يداول الغنى والفقر، ويداول(13/357)
العز والذل، ويداول الملك بين الناس، فقوله: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} تخلفون الجيل الذي قبلكم في الملك، وفي الأموال، وفي العقارات، وفي كل شيء، جيل يخلف جيلاً، من هو هذا الذي يدبر هذا التدبير؟، هل هي الأصنام؟، كلا، بل هو الله، وهم يعترفون بهذا.
ثم قال: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} هل يستحق أحد العبادة مع الله سبحانه وتعالى؟، هذا إلزام لهم ببطلان ما هم عليه من عبادة غير الله.
ولهذا قال: {تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: تنزه عن الشرك.
وفى الآية السابقة فائدة عظيمة وهي: أن الله سمّى الدعاء عبادة، فقال: {وَكَانُوا(13/358)
ص -200- ... روى الطبراني بإسناده أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم رجل منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، ......................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}، لأنه في أول الآية قال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو}، وإذا كان الدعاء عبادة فصرفه لغير الله شرك، كما في الآية الأخرى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي}، يعني: عن دعائي، فسمّي الدعاء عبادة، وإذا كان الدعاء عبادة فصرفه لغير الله شرك.
قوله: "كان رجل" لم يذكر اسمه هنا، وورد أنه عبد الله بن أبي، رأس المنافقين.
"منافق" النفاق هو: إظهار الخير وإبطان الشر، وهو نوعان: نفاق اعتقادي، ونفاق عملي.
والنفاق الاعتقادي كفر أكبر، وصاحبه في الدرك الأسفل من النار، ومعناه: أن يُظهر الإيمان ويُبطن الكفر.
وسبب النفاق: أنه لما اعتزّ الإسلام بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم صار هناك أُناس يريدون العيش مع المسلمين، ولكنهم لن يستطيعوا أن يعيشوا بين المسلمين إلاَّ إذا أظهروا الإسلام، وهم لا يريدون الإسلام ولا يحبُّون الإسلام، فلجأوا إلى حيلة النفاق، وهي: أن يُظهروا الإسلام من أجل أن يعيشوا مع المسلمين، ويبقوا في قرارة نفوسهم على الكفر. فسموا بالمنافقين، هذا هو النفاق الاعتقادي.
وأما النفاق العملي فمعناه: أن بعض المسلمين الذين عقيدتهم سليمة ومؤمنون بالله، لكنهم يتصفون ببعض صفات المنافقين، مثل: الكذب في الحديث، والغدر في العهد، وإخلاف الوعد، قال صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان"، هذا نفاق عملي، صاحبه مؤمن، ولكن فيه خَصْلَة من خصال المنافقين، وهي خطيرة جدًّا، ربما أنها تؤول إلى النفاق الأكبر إذا لم يتب(13/359)
منها.
"يؤذي المؤمنين" بمعنى: أنه يضايق المسلمين بكلامه وبتصرّفاته، يسخر من(13/360)
ص -201- ... فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المسلمين، يتلّمس معايب المسلمين، ينال من الرسول صلى الله عليه وسلم، وينال من المؤمنين، ويتتبّع العثرات. فدلّ على أن إيذاء المسلمين من النفاق.
"فقال بعضهم" لم يسمّ القائل، وقد ورد في بعض الروايات أنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
"قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم" يعني: نستجير به، ونحتمي به "من هذا المنافق" ليردعه عنا ويكفّه عنا.
والنبي صلى الله عليه وسلم استنكر هذه اللفظة، فقال: "إنه لا يستغاث بي، وإنما يُستغاث بالله عزّ وجلّ" مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قادراً على أن يَرْدَع هذا المنافق؟، وأن يُغيث المسلمين من شرّه؟، بلى، هذا من الاستغاثة الجائزة، لأنه استغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم فيما يقدر عليه، لكن الرسول تأدُّباً مع الله سبحانه وتعالى، وتعليماً للمسلمين أن يتركوا الألفاظ التي فيها سوء أدب مع الله عزّ وجلّ، وإن كانت جائزة في الأصل، فقال: "إنه لا يُستغاث بي" وهذا من باب التعليم وسدّ الذرائع لئلا يُتَطَرَّق من الاستغاثة الجائزة إلى الاستغاثة الممنوعة، فالرسول صلى الله عليه وسلم منع من شيء جائز خوفاً أن يُفضي إلى شيء غير جائز، مثل ما منع من الصلاة عند القبور، والدعاء عند القبور، وإن كان المصلي والداعي لا يدعو إلاَّ الله، ولا يصلِّي إلاَّ لله، لكن هذا وسيلة من وسائل الشرك، كذلك هنا؛ فالرسول أنكر هذه اللفظة سدًّا للذرائع، وتعليماُ للمسلمين، أن يتجنّبوا الألفاظ غير اللائقة.
فإذا كان الرسول أنكر الاستغاثة به فيما يقدر عليه، فكيف بالاستغاثة به فيما لا يقدر عليه إلاَّ الله سبحانه وتعالى؟، وكيف بالاستغاثة بالأموات؟. هذا أشد إنكاراً.
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم منع من الاستغاثة الجائزة به في حياته تأدُّباً مع الله، فكيف(13/361)
بالاستغاثة به بعد وفاته صلى الله عليه وسلم؟، وكيف بالاستغاثة بمن هو دونه من الناس؟. هذا أمر ممنوع ومحرّم. وهذا وجه استشهاد المصنف رحمه الله بالحديث للترجمة.
إذاً فقول البوصيري:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذاً ... بيدي فضلاً وإلاّ قل يا زلّة القدم(13/362)
ص -202- ... فإن من جودك الدنيا وضرّتها ... ومن علومك علم اللّوح والقلم
أليس هذا من أكبر الشرك؟
يقول: ما ينقذ يوم القيامة إلاَّ الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يخرج من النار إلاَّ الرسول، أين الله سبحانه وتعالى؟.
ثم قال: إن الدنيا والآخرة كلها من جود الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلم اللّوح المحفوظ والقلم الذي كتب في اللوح المحفوظ بأمر الله هو بعض علم الرسول، إذ الرسول يعلم الغيب.
وهذه القصيدة- مع الأسف- تُطبع بشكل جميل وحرف عريض، وتوزّع، وتُقرأ، ويُعتنى بها أكثر مما يُعتنى بكتاب الله عزّ وجلّ، فلا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلي العظيم.
الحاصل؛ أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كان أنكر على خواص أصحابه هذه الكلمة، وقال: "إنه لا يستغاث بي" وهذا في الدنيا، مع أنه قادر على أن يغيثهم من المنافق، فكيف يُستغاث به بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، كيف يُستغاث بمن هو دونه من الأولياء والصالحين؟، هذا أمر باطل، والاستغاثة لا تجوز إلاَّ بالله، فيكون في هذا شاهد للترجمة: "بابٌ من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعوَ غيره" والمناسبة ظاهرة ولله الحمد والمنة، وكل هذا من أجل حماية التّوحيد، وصفاء العقيدة، والمنع من كل ما يُفضي إلى الشرك ولو على المدى البعيد.
الشرك لا يُتساهل فيه أبداً، والطُّرُق التي توصِّل إلى الشرك لا يُتساهل فيها أبداً، وأنتم تعلمون ماذا حصل في قوم نوح، وأن الشرك حصل فيهم بسيف تعليق الصور، والغلو في الصالحين، وكانوا في وقتهم لم يشركوا، ولكن صار هذا وسيلة إلى الشرك فيما بعد؛ لما مات أولئك، ونُسي العلم أو نُسخ العلم عُبدت هذه الصور، فالوسائل إذا تُسوهل فيها أدّت إلى الشرك. فالواجب علينا منع الشرك، ومنع وسائله، وأسبابه، وأن لا نسمح بالألفاظ الشركية، ولا بأي شيء يُفضي إلى الشرك، وعلينا أن نحذر من ذلك صيانةً للعقيدة، وحماية للتّوحيد، وإشفاقاً على المسلمين من الضلال والكفر والإلحاد،(13/363)
فإنه ما حصل هذا الشرك في الأمة، وما(13/364)
ص -203- ... حصل هذا الضلال في الأمة إلاَّ لما تساهل الناس في أمر العقيدة، وسكت العلماء عن بيان خطر الشرك، والتحذير من أسباب الشرك، ورأو الناس على الشرك وعبادة القبور ولم ينهوهم. هذا إذا أحسنّا بهم الظن، وقلنا: إنهم ينكرون هذا بأنفسهم، ولكن ما قاموا بواجب الأنكار، إما إذا كانوا يرون هذا جائزاً، فهذا شرك وكفر لأن من رضي به صار مثل من يفعله.
نسأل الله عزّ وجلّ أن يحفظ لنا ديننا وعقيدتنا، وأن يجعلنا من الدعاة إليه بالحكمة، والدعوة إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن.(13/365)
ص -204- ... [الباب الخامس عشر:] * بابٌ قول الله تعالى
{أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً} الآية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما في هذا الباب من الأدلة من الكتاب والسنّة أراد الشيخ رحمه الله من سياقها بيان أدلة بُطلان الشرك، لأن القرآن الكريم جاء بالدعوة إلى التّوحيد، وعبادة الله وحدة لا شريك له، وجاء بالنهي عن الشرك، وهو عبادة غير الله سبحانه وتعالى، والنهي عن ذلك.
فقوله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} هذا استفهام، معناه: الإنكار.
"{مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً}" أي: هذا الشرك باطل؛ بدليل أن هذه المعبودات من دون الله لا تخلق شيئاً، فهي عاجزة لأن الذي يستحق العبادة هو الخالق، فالذي يقدر على الخلق هو الذي يستحق العبادة، أما الذي لا يقدر على الخلق فهذا لا يستحق العبادة، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} لا تجعلوا لله شركاء وأنتم تعلمون أن هذه الشركاء لا تقدر على خلق شيء، ولا على رَزْق، ولا على إحياء، ولا إماتة، فهي عاجزة، وكما في قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ(17)}، فالذي يستحق العبادة هو الخالق، أما الذي لا يقدر على الخلق فهذا عاجز لا يستحق العبادة، فكيف يُسَوَّى العاجز بالقادر؟، كيف يُسَوَّى المخلوق بالخالق سبحانه وتعالى؟: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ(20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ(13/366)
أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ(21)}، وقال تعالى في تعجيز المشركين وآلهتهم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ(73)}، فهذه المعبودات بجميع أنواعها سواءً كانت أحجاراً، أو أشجاراً، أو قبوراً وأضرحة، أو ملائكة، أو أنبياء، أو صالحين من المؤمنين، كلهم يدخلون تحت هذا الوصف؛ لا يقدرون على خلق شيء، لأن المخلوق لا يستطيع أن يخلق، فكيف يُتخذ معبوداً مع الله سبحانه وتعالى؟.(13/367)
ص -205- ... وفي هذه الآية يقول: "{لا يَخْلُقُ شَيْئاً}" وشيئاً نَكِرَة في سياق النفي تَعُم، يعني: لا يخلقون أي شيء ولو كان قليلاً، ولو يجتمع العالم كله بما فيهم المَهَرة والصنّاع والمهندسون والأطباء، ويُطلب منهم أن يخلقوا حبة شعير ما استطاعوا.
ثم قال: "{وَهُمْ يُخْلَقُونَ}" أي: هذه المعبودات التي تعبدونها مخلوقات لله سبحانه وتعالى: فهم لم يخلقوا أنفسهم، ولم يخلقوا غيرهم، فكيف تتّخذونهم مع الخالق سبحانه وتعالى؟، هل هذا إلاّ من باب المكابرة، ومن باب العِناد.
فالذي يُشرك بالله أيًّا كان هذا الشيء قد قامت عليه هذه الحجة في أن هذا المعبود عاجز، لكن أين العقول التي تفكِّر؟، هؤلاء الذين يزعمون أنهم مفكِّرون، وأنهم مَهَرَة، وأنهم مثقفون، وأنهم.. وأنهم، تجدهم يخضعون للقبور، ويعبدون الأموات، ويذبحون لها، وينذرون لها، ويستغيثون بها، وهم يسمعون هذا القرآن.
ثم قال سبحانه وتعالى: {وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً} أي: هذه المعبودات وهذه الأصنام لا تملك نصراً لمن دعاها، إذا وقع المشرك في كُربة، أو في ضيق، أو في مرض، لا يستطيع أحد من الخلق أن يُنقذه إلاّ بإذن الله: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلاّ إِيَّاهُ}، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (62)}، {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}، وهنا يقول: "{وَلا يَسْتَطِيعُونَ}" لا يملك المعبودون "{لَهُمْ}" للعابدين {نَصْراً} عندما يتسلط عليهم عدو، أو يتسلط عليهم سَبُع، أو يتسلط عليهم خوف، فإنها لا(13/368)
تستطيع هذه المعبودات أن تنصرهم على عدوهم، {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ}، {وَمَا النَّصْرُ إلاّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} فالنصر من الله سبحانه وتعالى، ولو كانت هذه المعبودات تُغني عن المشركين شيئاً ما انهزموا في بدر، ولا انهزموا في الأحزاب، ولا انهزموا يوم فتح مكة، وفي يوم حنين، وأما المؤمنون فالله نصرهم سبحانه وتعالى، وهم قِلّة، كانوا في بدر ثلاثمائة وبضعة عشر، والمشركون يزيدون على الألف، والمسلمون ليس معهم عُدّة ولا سلاح إلاّ قليل، والمشركون مُدَجَّجُون بالسلاح: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ(13/369)
ص -206- ... وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} الآية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ(13)}، حتى الشيطان لما تراءى الجمعان قال: {إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ}، أما الله جل وعلا فكان مع أوليائه، وكان مع عباده، فنصرهم على عدوّهم مع قلّة عددهم وضعف عُددهم، والمشركون لم يجدوا من ينصرهم، أين ذهبت آلهتهم؟
"{وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ}"أي: هذا المعبود الضعيف إذا نزل به آفة لا يستطيع أن يُنقذ نفسه، فكيف ينقذكم؟
هذا الميت المقبور المدفون لا يستطيع أن يتخلص من الموت ومن القبر ومما هو فيه، مشغول عنكم بنفسه؛ إما في عذاب وإما في نعيم، لا يسمع دعاءكم.
وهذه الأشجار والأحجار التي تعبدونها جمادات لا تستطيع نصركم ولا تنصر نفسها، الصنم الكبير يحطمه الطفل ولا يستطيع أن ينصر نفسه، يقع عليه الذباب ويقذِّره ولا يستطيع أن يَنْفي عن نفسه، الذباب الضعيف: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ}.
يُروى أن بعض المشركين له صنم، فجاء الثعلب وبال عليه، فلما رآه عابده فكّر وقال:
أرب يبول الثعلبان برأسه ... لقد هان من بالت عليه الثعالب(13/370)
فعند ذلك فكّر وترك عبادة الأصنام.
ويدخل في هذه الآية كل ما عُبد من دون الله من الملائكة، والأنبياء، والصالحين، والأشجار، والأحجار، كلها مخلوقات ضعيفة، لا تستطيع أن تنصر نفسها، فكيف تنصر غيرها؟
وقوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} أي: غير الله سبحانه وتعالى، وهذا يشمل كل ما عُبد من دون الله، لأن الاسم الموصول من صيغ العموم، فيشمل كل ما عُبد من دون الله من آدميِّين، أو أحجار، أو أشجار، أو ملائكة، أو غير ذلك. والقطمير هو الغشاء الرقيق الذي يكون على النواة وهو شيء حقير: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ}.(13/371)
ص -207- ... يُشترط في المدعُو ثلاثة شروط:
الأول: أن يكون مالكاً لما يطلب منه.
الثاني: أن يكون يسمع الداعي.
الثالث: أن يكون يقدر على الإجابة.
وهذه الأمور لا تتّفق إلاّ في الله سبحانه وتعالى، فإنه المالك، السميع، القادر على الإجابة، أما هذه المعبودات فهي أولاً: فقيرة، ليس لها ملك. ثانياً: لا تسمع من و دعاها. وثالثاً: لو سمعت فإنها لا تقدر على الإجابة.
ففي قوله تعالى: {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} انتفى الشرط الأول.
وفي قوله: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} انتفى الشرط الثاني.
وفي قوله: {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} انتفى الشرط الثالث.
إذاً بَطل دعاؤها.
ثم قال سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} إذا جاء يوم القيامة يتبرّؤون منكم، وكل المعبودات من دون الله تتبرّأ ممن عبدها يوم القيامة، حتى الشيطان يتبرأ: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ}، يعني: ما أنا بمغيثكم. والصريخ: المغيث. يعني: لا أقدر على إغاثتكم {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} أنتم لا تقدرون على إغاثتي، كقوله سبحانه: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}.
وكذلك الملائكة يتبرؤون ممن عبدهم يوم القيامة، قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ(41)}، يعني: يعبدون الشياطين التي دعتهم إلى هذا، أما نحن براء منهم، وحاشا وكلا أن ترضى ملائكة الرحمن(13/372)
بأن تُعبد من دون الله، فضلاً عن أن تدعَو إلى ذلك، وإنما هذا من عمل الشياطين.
وعيسى عليه السلام يقول الله له يوم القيامة: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ(13/373)
ص -208- ... وفي الصحيح عن أنس قال: شُجَّ النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وكُسِرت رباعيته،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ(116)مَا قُلْتُ لَهُمْ إلاّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)}.
وكذلك سائر المعبودات: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا} يتمنون {كَرَّةً} يعني: رجوعاً إلى الدنيا { فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} نتبرّأ من هذه الأصنام والمعبودات، {كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا} لكن أين؟، {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} نعوذ بالله.
{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ(5)} لا يسمعون دعاءهم في الدنيا، {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ(6)} هذا خبر من الله سبحانه وتعالى عن مصير هؤلاء المشركين يوم القيامة، يُخبرهم بما يكون إليه الأمر يوم القيامة من أجل أن يتوبوا إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا رحمة منه بعباده، ولهذا قال: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} لا ينبئك ويُخبرك عن الأشياء مثل خبير بها وهو الله سبحانه وتعالى، هو الذي يعلم الأشياء والعواقب، ويعلم المآل والمصير، وهو يُخبركم أيها الناس بأن من عبد غير الله فإنه سيتبرّأ(13/374)
منه يوم القيامة، فخذوا حذركم. وهذا رحمة من الله سبحانه وتعالى، وأخبر أنه لا ينبئك بالأمور وعواقبها ونتائجها وثمراتها إلاّ الخبير بالأمور، أما الجاهل فإنه لا يستطيع أن يُخبرك عن شيء، ولو أخبرك فإن خبره يكون غير صحيح، أما الله جل وعلا إذا أخبر بخبر فإنه يكون واقعاً لابد منه، وكذلك رُسُلُه، لأنهم يخبرون عن الله سبحانه وتعالى.
أما هؤلاء المشعوذون والصوفيّة والمخرّفون الذين يُدعون الناس إلى عبادة الأضرحة والمقامات، ويقولون: هذه فيها بركة، وفيها.. وفيها. هؤلاء كذبة، فلا تصدقوهم.
قال: "وفي الصحيح" يعني: الصحيحين.
"عن أنس قال: شُجَّ النبي صلى الله عليه وسلم" الشَّجَّة هي: الجرْح في الرأس والوجه خاصة،(13/375)
ص -209- ... أما الجرح إذا كان في البدن فهذا لا يُسمى شَجَّةً، وإنما يُسمى جراحة.
"يوم أحد": جبل يقع في الشمال الشرقي من المدينة، حصلت عنده وقعة أحد في السنة التي بعد وقعة بدر، فالمشركون تجمعوا وأرادوا الانتصار لأنفسهم، وجمعوا جنوداً بقيادة أبي سفيان بن حرب، وجاءوا يريدون الانتقام من الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، الذين أصابوهم يوم بدر، جاءوا ونزلوا عند هذا الجبل، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه الكرام من المهاجرين والأنصار، والْتقى بهم في هذا المكان، ونظّم صلى الله عليه وسلم المقاتلين، وجعل على الجبل الذي خلفهم جماعة من الرُّماة يحمون ظهور المسلمين، ودارت المعركة، والرُّماة على الجبل يحرسون المسلمين، وصار النصر في الأول للمسلمين لما كانوا يمشون على خُطّة الرسول صلى الله عليه وسلم، وشرعوا يجمعون الغنائم، فلما رآهم الرُّماة الذين على الجبل ظنُّوا أن المعركة انتهت، فقالوا: نَنْزِل نساعد إخواننا على جمع الغنائم، فقال لهم قائدهم عبد الله بن جبير رضي الله عنه: لا تنزلوا، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لنا: لا تتركوا الجبل، سواءً انتصرنا أو هُزمنا. ولكنهم خالفوا قائدهم ونزلوا، فلما رأى خالد بن الوليد- وكان يوم ذاك مشركاً-، لما رأى الجبل فَرَغ- وهو كان من الشُّجعان وساسة الحرب- عرف أن هذه الثغرة انفتحت لهم، فدار بمن معه، وانقضوا على المسلمين من الخلف، وما شعر المسلمون إلاّ والمشركون يضربونهم من الخلف، فحينئذ اختلط الجمعان: المسلمون والكفّار، ودارت المعركة من جديد، وأصيب المسلمون عقوبة لهم بسبب مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم. وفي هذا نزل قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ}، يعني: تقتلونهم، وهذا في أول المعركة، {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ(13/376)
مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} عقوبة لكم.
والنبي صلى الله عليه وسلم شُجَّ في رأسه، وهشم المغفرُ على رأسَه، وغاصت حلقتان في وجنته صلى الله عليه وسلم، وكُسِرت رُباعِيّته- عليه الصلاة والسلام-، ووقع في حفرة، وأشاع المشركون أن محمداً قد قُتل، فلما أشاع المشركون هذه الشائعة وصاح الشيطان بذلك، حصل على المسلمين مصيبة أكبر من مصيبة القتل، كل هذا بسبب المعصية.(13/377)
ص -210- ... فقال: "كيف يُفلح قوم شَجُّوا نبيهم؟" فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
انظروا يا عباد الله، معصية واحدة وليست من الجميع، وإنما هي من بعض الصحابة حصل بسببها هذه العقوبة على خير الخلق، فكيف بنا نحن، ونحن نرتكب من المعاصي والمخالفات الشيء الكثير؟، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، فهذا فيه خطورة المعاصي، ومخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} هذا تطمين لهم بع ما وَبَّخهم صلى الله عليه وسلم، لأنهم أحبابه وأولياؤه.
وقد "شُجَّ النبي صلى الله عليه وسلم" وهذا دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعاً، فلا تجوز عبادته.
وهذا من أدلة بطلان الشرك؛ أن المخلوق وإن بلغ من المنزلة العالية فإنه مخلوق، لا يستحق شيئاً من العبادة، فأشرف الخلق محمد صلى الله عليه وسلم وقع عليه الضرر، ج وجُرح- عليه الصلاة والسلام-، فدلّ على أنه لا تجوز عبادته من دون الله، وإذا كان كذلك فغيره من باب أولى، فلا تجوز عبادة الأولياء والصالحين ومَن دون ذلك، لأن كل الخلق لا تجوز عبادتهم، لا الملائكة، ولا النبييون، ولا الأولياء، ولا الصالحون. العبادة حق لله سبحانه وتعالى، لا يجوز صرفها لغيره، وقال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إلاّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إلاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(188)}.
فإذا كان الرسول لا تجوز عبادته من دون الله عزّ وجلّ، فكيف بغيره من الخلق؟، والرسول لم يستطع الدفع عن نفسه: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22)}.
ولما شُجَّ النبي صلى(13/378)
الله عليه وسلم يوم أحد قال- عليه الصلاة والسلام-: "كيف يُفلح قوم شَجُّوا نبيهم؟" استبعد صلى الله عليه وسلم فلاحهم، واستبعد استجابتهم للدعوة، لأنهم بلغوا من العناد، وبلغوا من المشاقة إلى هذا الحد، فهؤلاء بعيد أن يستجيبوا، وإذا لم يستجيبوا فلن يفلحوا، ولكن الله جل وعلا يعلم المستقبل وما يكون، فعاتبه وقال: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)} وهذا- أيضاً- دليل آخر على عدم استحقاقه لشيء من العبادة، الأمر في هذا الكون والتدبير لله سبحانه وتعالى،(13/379)
ص -211- ... وفيه عن ابن عمر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر: "اللهم العَنْ فلاناً وفلاناً" بعدما يقول: "سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد"، فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإنما الرسول صلى الله عليه وسلم مبلِّغ عن الله، والأمر لله سبحانه وتعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}، فالأمر لله {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}، وإنما الرسل- عليهم الصلاة والسلام- مبعوثون عن الله فقط، ودعاة إلى الله.
"{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}" لا أمر النصر، ولا أمر الهزيمة، ولا أمر التوبة، ولا أمر الفلاح، ولا أمر الدخول في الإسلام والهداية، وإنما كل هذا بيد الله سبحانه وتعالى، أنت ليس عليك إلاّ البلاغ: {إِنْ عَلَيْكَ إلاّ الْبَلاغُ}، {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}، هذه وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه مبلِّغ عن الله فقط، أما أنه يملك النفع والضَّر والنصر والرَّزق والحياة والموت؛ فهذا لا يملكه أحد إلاّ الله سبحانه وتعالى.
قال "وفيه" أي: في الصحيح، يعني: صحيح مسلم.
"عن ابن عمر" هو: عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنهما-، من فقهاء الصحابة، ومن العُبّاد.
"أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر: "اللهم العن فلاناً وفلاناً" يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم على فلان وفلان أن يطردهم الله من رحمته؛ بسبب أنهم أَلَّبُوا المشركين، وجاءوا لحرب الرسول صلى الله عليه وسلم، وأوْقعوا بالمسلمين هذه المصيبة.
فيه دليل على مشروعيّة القنوت في صلاة الفجر عند النوازل، أي:ما تنزل بالمسلمين نازلة من مداهمة عدو، أو حصول بلاء فيه خطورة على المسلمين،(13/380)
فإنهم يُشرع لهم أن يقنتوا في صلاة الفجر، بمعنى أنهم يدعون في صلاة الفجر لرفع هذا البلاء الذي عليهم، أو على إخوانهم من المسلمين، فالقنوت عند النوازل من سنّة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في هذا الحديث، أما القنوت في صلاة الفجر في غير النوازل على صفة مستمرّة؛ فهذا ليس بمشروع عند جمهور أهل العلم.(13/381)
ص -212- ... وفي رواية: يدعو على صفوان بن أُميّة، وسُهيل بن عمرو، والحارث بن هشام. فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال: "وفي رواية: يدعو على صفوان بن أُميّة، وسُهيل بن عمرو، والحارث بن هشام" هذا تفسير لقوله:
"اللهم العن فلاناً وفلاناً"، وأن المراد بهم هؤلاء الأشخاص، لأنهم من قادة المشركين يوم أحد مع أبي سفيان، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عليهم لمِا وقع منهم، ولكن الله يعلم من حال هؤلاء وما يؤول إليه أمرهم ما لا يعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن هؤلاء تاب الله عليهم وأسلموا، وحسُن إسلامهم رضي الله عنهم.
ولما ارتدّ الناس بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقف سهيل بن عمرو خطيباً في أهل مكة يُثبِّتهم على الإسلام، وقال لهم: يا أهل مكة لا تكونوا آخر من أسلم وأوّلُ من ارتد. فثبت أهل مكة على الإسلام، ولم يرتدُّوا بسب هذا الرجل الذي جعل الله فيه الخير.
فهذا دليل على أن الإنسان مهما بلغ من الضلال، ومهما بلغ من الكفر، فإنه لا ييأس من هدايته، لأن القلوب بيد الله سبحانه وتعالى.
وهذا دليل على أنه لا يعلم الغيب إلاّ الله سبحانه وتعالى، وأنك لا تحكم على المعينين بالنار إلاّ من حكم عليه الله سبحانه وتعالى في القرآن، أو حكم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولهذا من عقيدة أهل السنّة والجماعة: أنهم لا يشهدون لأحد بجنة ولا نار إلاّ من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم يرجون للمحسنين، ويخافون على المسيئين، ولا يجزمون لأحد لأن العواقب بيد الله سبحانه وتعالى، والإنسان مهما بلغ من الكفر والشرك والعناد، فإنه قد يهديه الله سبحانه وتعالى، ويُصبح من أولياء الله الصالحين.
فهؤلاء أسلموا، وحسُن إسلامهم- رضي الله تعالى عنهم-، مع أنهم آذوا الرسول، وقاتلوه، وآذوا المسلمين، ولكن منّ الله عليهم بالهداية.
فالحاصل؛ أن هذه الآية الكريمة وما(13/382)
جاء في سبب نزولها فيها دليل على بُطلان الشرك، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه سادة المهاجرين والأنصار حصل عليهم من الضرر والهزيمة في وقعة أحد ما حصل، وهم سادات الأولياء، فدلّ على أنه لا يجوز التعلق بغير الله سبحانه وتعالى، لأن هؤلاء لم يستطيعوا الدفع عن أنفسهم، فكيف يدفعون عن غيرهم، لأن المخلوق مهما كان فإنه مخلوق، وهو فقير إلى الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ(15)}.(13/383)
ص -213- ... وفيه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ(214)} فقال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "وفيه" يعني: في صحيح البخاري.
"عن أبي هريرة" أبو هريرة اشتهر بكنيته، أما اسمه فاختلف فيه العلماء على أقوال كثيرة، أصحها أنه: عبد الرحمن بن صخر، من قبيلة دوس المشهورة، قَدِم على النبي وأعلن إسلامه، ولازم النبي صلى الله عليه وسلم ملازمة تامة، يروي عنه الأحاديث، واهتمّ بذلك اهتماماً عظيماً، حتى أصبح من أكثر الصحابة رواية للحديث، فإنه يوجد له في كتب السنّة ما يزيد على خمسة آلاف حديث، فهو أكثر الصحابة رواية للحديث، لأنه تفرغ لذلك، تفرّغاً تامّاً، واهتم به، اهتماماً تاماً، فأعانه الله على ذلك، وحفظ لهذه الأمة قسماً كبيراً من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو راوية الإسلام- رضي الله تعالى عنه-.
وقد تعجّب بعض الجهّال في هذا العصر، الذين تأثروا بدعايات المستشرقين، أو بدعايات المبتدعة، فاستغربوا كثرة الأحاديث التي رواها هذا الصحابي الجليل، فصاروا يتكلمون كلاماً سيّئاً في حق أبي هريرة رضي الله عنه، ولكن الله قيِّض من علماء الإسلام من دحض هذه الشبهات، وردها في نحورهم، وبيّن منزلة هذا الصحابي الجليل من بين الصحابة، واهتمامه بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهناك كتابات كثيرة تدافع عن مرِويّات هذا الصحابي الجليل وتدحض شبهات المستشرقين والمبتدعة من الشيعة وغيرهم.
"قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم" جاء في الحديث الآخر: أنه قام على الصفا.
"حين أنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ(214)}" أمره الله سبحانه وتعالى أن يُنذر عشيرته الأقربين، كما أمره الله أن يُنذر الناس عامة، لأنه رسول إلى العالم كله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً}، رسالته صلى الله عليه وسلم(13/384)
عامة للثقلين الجن والإنس، وقد بلّغ البلاغ المبين، ولكنه اختص عشيرّته، لأمر الله له بذلك.
وفي هذا دليل على وجوب المبادرة إلى فعل الأوامر، فإنه صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه "{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ(214)}" بادر بتنفيذ ذلك وإبلاغه، ففيه دليل على وجوب المبادرة بامتثال أوامر الله سبحانه وتعالى، وأن الإنسان لا يتوانى إذا بلغه أمر من أوامر الله، أو(13/385)
ص -214- ... أمر من أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يبادر إلى تنفيذه، ولا يتوانى، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}.
والإنذار معناه: الإخبار والتحذير من وقوع أمر مكروه، وأما البشارة فهي الإخبار عن أمر سار، فالله جل وعلا بعث هذا النبي بشيراً ونذيراً، بشيراً للمؤمنين بالخير والجنة، ونذيراً للكافرين بالنار والعذاب إلاّ أن يتوبوا إلى الله سبحانه وتعالى.
والعشيرة: جماعة الرجل الذين ينتسب إليهم.
والأقربين يعني: أقرب الناس إلى الإنسان، لأن القرابة تتفاوت، منها القرابة القريبة كالآباء، والأمهات، والإخوان، والأخوات، والأعمام، والعمّات، ومنهم أقارب أباعد مثل أبناء الأعمام، وأبناء أبناء الأعمام إلى آخره، فهم أقارب، ولكنهم أقارب بعيدون.
وفى هذا دليل على أن الداعية والأمر بالمعروف والناهي عن المنكر يبدأ بأهل بيته وخاصته أوّلاً، ثم بجيرانه وأهل بلده، ثم يتمدّد بالخير إلى من حوله من البلاد، أما العكس وهو أن يذهب إلى الأباعد أو إلى البلاد البعيدة ويترك أهله، ويترك بلده، ويترك أقاربه، فهذا خلاف منهج الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أمره الله تعالى به في هذه الآية، فمن منهج الدعوة البداية بالأقارب، وبأهل البيت، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} أمر بوقاية النفس أوّلاً، ثم بوقاية الأهلين، وذلك لأن الأقارب لهم حق، ومن أعظم حقوقهم: إرشادهم إلى ما فيه خيرهم، وصلاحهم، وفلاحهم، فهذا أنفع من أن تعطيهم الذهب والفضة والأموال، بل تبدأ بإرشادهم، وتوجيهم، ودعوتهم إلى الله تعالى، لأن لهم حقًّا عليك، وليس حقهم مقصوراً على الإنفاق وإعطائهم المال.
وثانياً: لأجل القدوة، لأنك إذا دعوت الناس وتركت أهل(13/386)
بيتك، فإن الناس سينقمون عليك، ولا يقبلون دعوتك، ولا توجيهاتك، يقولون لو كان صادقاً لبدأ بأهل بيته، يذهب إلى الناس ويترك أهل بيته على المخالفات، وعلى المنكر، وعلى الجهل، ويذهب إلى الناس يدعوهم إلى الله، هذا ليس من منهج الدعوة، منهج الدعوة أن تبدأ بالأقربين، ثم ينتشر الخير شيئاً فشيئاً على من حولهم، هذا المنهج(13/387)
ص -215- ... "يا معشر قريش (أو كلمة نحوها) اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السليم، أما الذي يتعدّى بيته،. ويتعدّى بلده، ويذهب إلى الناس البعيدين يدعوهم إلى الله، وبيته فيه الجهل، وفيه الأخطاء الكثيرة، والمخالفات، أو في بلده وجماعته الأخطاء الكثيرة والمخالفات، فهذا ليس من منهج الدعوة.
هذا أمر يجب أن نتفطّن له، فمنهج الدعوة يُؤخذ من الكتاب والسنّة، لا يؤخذ من الاصطلاحات والآراء، كما عليه كثير من الدعاة اليوم، يأخذون مناهجهم من العادات والآراء والمقترحات، لا من الكتاب والسنّة، انظروا إلى هذه الآية: "{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ(214)}"، وانظروا إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، وانظروا إلى قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ(44)}، فهذا من أعظم مناهج الدعوة.
لما نزلت عليه هذه الآية الكريمة بادر -عليه الصلاة والسلام- بامتثال أمر الله، وصعد على الصفا، الجبل المعروف، وكونه "صعد الصفا" فيه مشروعية أن يكون الخطيب والمبلّغ على مُرْتَفَع من أجل أن يراه الناس، ومن أجل أن يَبْلُغ صوته إلى الحاضرين والمستمعين.
فقال: "يا معشر قريش" المعشر: الجماعة، أي: يا جماعة قريش، يقال: إنهم من العشرة فأكثر. وقريش: القبيلة المشهورة التي بُعث منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه صلى الله عليه وسلم من بني هاشم، وبنو هاشم من قريش، صميم العرب، وجيران بيت الله العتيق.
"اشتروا أنفسكم" أي: افتدوها من عذاب الله، أنقذوها من عذاب الله. بماذا يشترون أنفسهم؟، يشترون أنفسهم بالدخول في الإسلام، وتوحيد الله عزّ وجلّ، وترك عبادة ما سواه، هذا هو الذي يشترون به أنفسهم، فافتداء(13/388)
الإنسان نفسه من النار إنما يكون بطاعة الله، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وبدون ذلك لا يمكن أن ينجوَ من عذاب الله، ولو قدّم الأموال الطائلة، فمن مات على الكفر، فإنه لو قدّم ملء الأرض من الذهب يشتري نفسه من النار لا يمكن هذا، لكن لو مات على التّوحيد، وعلى العقيدة الصحيحة، فقد اشترى نفسه من النار، فلا نجاة من النار إلاّ بطاعة الله وطاعة(13/389)
ص -216- ... رسوله صلى الله عليه وسلم، والموت على عقيدة التّوحيد الخالص، والسلامة من الشرك: "من مات وهو لا يدعو لله نِدًّا دخل الجنّة، ومن مات وهو يدعو لله نِدًّا دخل النار".
"لا أُغني عنكم من الله شيئاً" أي: لا ينفعكم أني منكم، وأنتم قبيلتي، هذا لا ينفعكم عند الله شيئاً.
وفي هذا دليل على بُطلان التعلق على الأشخاص، والتعلق على الأولياء والصالحين، واعتقاد أنهم يقرِّبون إلى الله زُلفى، كما يفعله المشركون قديماً وحديثاً، الذين يتعلقون على الأولياء والصالحين، ويعتقدون أنهم يشفعون لهم عند الله، وأنهم يتوسّطون لهم عند الله، ويتقرّبون إلى الأولياء والصالحين بالذبح، والنذر، والاستغاثة، والاستعاذة، والدعاء، كما قال الله سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، هذا زعمهم.
ولا يزال هذا عند بعض الناس إلى اليوم، هناك طوائف كثيرة من عُبّاد القبور، والصوفية، وغيرهم يعتقدون أن الأولياء والسادة أنهم يُكْفونهم المؤنة، ويذهبون إلى أضرحتهم، ويتمسحون بها، ويذبحون عندها، وينذرون لها، ويهتفون بأسمائهم ويظنون أن هذا ينفعهم عند الله تعالى، وفي هذا الحديث وغيره ردٌّ على هؤلاء، لأنه إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الخلق، وأقرب الخلق إلى الله، وأكرمهم على الله يقول لعشيرته وأقاربه: "لا أُغني عنكم من الله شيئاً" فكيف يتعلق الناس على المخلوقين؟.
فالواجب أن يتعلق الناس بربهم سبحانه وتعالى، وأن يتقربوا إليه بالطاعة والعبادة، ويُخلصوا له التّوحيد، هذا هو طريق النجاة، أما التعدي عدى المخلوقين، ولو كانوا أنبياء أو صالحين أو أولياء، فإنهم لا ينفعون من تعلق بهم، وتوسل بهم، أو بجاههم أو(13/390)
بحقهم، هذا كله باطل، وتعبٌ بلا فائدة، بل هو ضلالة، وقد صرّح الله جل وعلا في القرآن بهذا، حينما قال لنبيه: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)}، قال تعالى: { قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ(13/391)
ص -217- ... يا عباس بن عند المطلب، لا أغني عنك من الله شيئاً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ}، هذا صريح لا يحتاج إلى كثير تأمّل، لأنه واضح من الكتاب والسنّة، ولكن الشيطان سَوَّل لهم وأملى لهم، اتبعوا العوائد، واتبعوا وقلّدوا أهل الضلال، ومشوا على طريقهم، وتركوا الكتاب والسنّة والله جل وعلا قريب مجيب، لا يحتاج إلى من يبلّغه عن خلقه، هو سبحانه وتعالى قريب مجيب: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ(186)}، "ينزل سبحانه وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: "هل من سائل فأعطيه؟، هل من مستغفر فأغفر له؟، هل من تائب فأتوب عليه؟"، لم يقل لنا قدِّموا حوائجكم إلى الأولياء والوسائط، وهم يقدِّمونها لي، بل إنه سبحانه هو الذي تكفّل بالإجابة، وطلب من عباده أن يتقرّبوا إليه، وأن يدعوه، وأن يستغفروه، وأن يسألوه، لماذا يذهب المخلوق إلى غير الله سبحانه وتعالى؟، هذا من غرور الشيطان، نسأل الله العافية والسلامة، الحق واضح - ولله الحمد-، ما فيه خفاء، لو أن الناس سَلِمُوا من دعاة الضلال، ومن المخرفين، ومن الدجالين، لو أن الناس استعملوا عقولهم وبصائرهم، وأقبلوا على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لوجدوا الحق واضحاً لا خفاء فيه.
فقوله: "يا معشر قريش، لا أُغني عنكم من الله شيئاً" عمّم صلى الله عليه وسلم في الإنذار لجميع قريش، وجميع بطونها، وجميع أفخاذها وقبائلها.
ثم خص صلى الله عليه وسلم الأقربين إليه، فقال: "يا عبّاس ابن عبد المطلب، لا أُغني عنك من الله شيئاً" العبّاس بن عبد المطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا(13/392)
كان لا يُغني عن عمه شيئاً، فكيف يغني عن غيره؟، وإذا كان أبو لهب عم الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً، ولكنه أبى أن يدخل في الإسلام، واستمر على الشرك وآذى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنزل الله فيه سورة تُقرأ إلى يوم القيامة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1)}، التَّبْ هو: الخسارة، {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ(2) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ(3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ(4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)}، هذا عمّ الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه كان كافراً، فلم ينفعه قرابته من الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك أبو طالب مع قُرْبِه من الرسول صلى الله عليه وسلم، وحمايته للرسول، ودفاعه عنه، لما أبى أن يُسلم، وقال: "هو على ملّه عبد المطلب" وأراد(13/393)
ص -218- ... يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أُغني عنك من الله شيئاً. ويا فاطمة بنت محمد؛ سليني من مالي ما شئت، لا أُغني عنك من الله شيئاً".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر له، أنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ(113)}. وقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}.
ثم قال: "يا صفية عمّة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أُغني عنك من الله شيئاً" مثل عمه العباس.
ثم خص أقرب من هؤلاء، وهي بنته، التي هي بَضْعَة منه، فقال: "يا فاطمة بنت محمد؛ سليني من مالي" يعني: اطلبي مني شيئاً أملكه وهو المال، أما النجاة من النار فهذه لا أملكها: "لا أُغني عنك من الله شيئاً" أما الآخرة، والنجاة من النار، والدخول في الجنة، فهذا إنما يُطلب من الله سبحانه وتعالى، ويحصل عليه بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
انظروا كيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم عمّم أوّلاً جميع قريش، ثم خصّ عمه وعمّته ثم خصّ بنته، فهذا بيان واضح بأنه صلى الله عليه وسلم لا يملك النجاة والإنقاذ من النار لمن هُم أقرب الناس إليه: قبيلته قريش، وعمه وعمته إخوان أبيه، بل ولده، عمّم وخصص صلى الله عليه وسلم في هذا. فأين من يقول:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم(13/394)
فهذا فيه دليل على مسألة مهمة وهي: أنه لا يجوز الاعتماد على النسب والقرابة من الأنبياء والصالحين، لأنه لا يُغني عند الله شيئاً: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ(101)}، هذا عام في كل الناس وقرابات الأنبياء وغيرهم، وقال صلى الله عليه وسلم: "من بَطَّأ به عمله لم يُسرع به نسبه"، قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، فالاعتبار بالتقوى لا بالنسب، النسب إنما يُستعمل في الدنيا: {لِتَعَارَفُوا} يعرف بعضكم بعضاً، كلٌّ يعرف قرابته وقبيلته، أما في الآخرة فلا {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ}، لا يبقى إلاّ الأعمال فقط، {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً}، فالله سبحانه وتعالى لا ينفع عنده إلاّ العمل الصالح.(13/395)
ص -219- ... وقال الخليل - عليه الصلاة والسلام-: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)}، يقول بعضهم: أنا من أهل البيت، ويتكّل على هذا، ولا يَحْفَل بالأعمال الصالحة، يظن أن كونه من أهل البيت يكفي، وهذا غرور من الشيطان، هذا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لابنته سيدة نساء العالمين، يقول لها: "سليني من مالي ما شئت، لا أُغني عنك من الله شيئاً" وهي بنته، أليست في مقدمة أهل البيت؟، "لا أُغني عنك من الله شيئاً" فكيف يأتي من يأتي ويقول: أنا من أهل البيت، ويتكِّل على هذا، ويتبرك الناس به، ويتمسّحون به، ويَلْحَسُون أقدامه، ويظنون أن هذا ينجيهم من عذاب الله، هذا باطل وغرور، ولا نجاة إلاّ بالأعمال الصالحة.
هذا أبو لهب، وأبو طالب، وهم أعمام الرسول صلى الله عليه وسلم، لما لم يؤمنوا لم ينفعهم قرابتهم من الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا بلال، وعمّار بن ياسر، وصُهَيب، وخبّاب موالي، وصاروا من سادات المهاجرين، ومن سادات المؤمنين، ما ضرهم أنهم موالي، وقال في سلمان الفارسي: "سلمان منّا أهل البيت" رضي الله تعالى عن الجميع، والسبب: الإيمان والعمل الصالح، فمجرد كون الرجل من أهل البيت، أو من قرابة الرسول لا يُغني عنه شيئاً، ولا ينفعه شيئاً، كما لم ينفع أبا طالب وأبا لهب وغيرهم من عشيرة الرسول صلى الله عليه وسلم لما لم يؤمنوا، بل إن بعض الغُلاة يقول: إن التسمي بمحمد يكفي، يقول صاحب "البُرْدة":
فإن لي ذمّة منه بتسميتي محمداً ... وهو أوفى الخلق بالذمم(13/396)
لا ينفع عند الله إلاّ العمل الصالح، لا الأسماء، ولا القبائل، ولا شرف النسب، ولا كون الإنسان من بيت النبوّة، كل هذا لا ينفع إلاّ مع العمل الصالح والاستقامة على دين الله عزّ وجلّ.
نعم، القرابة من الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كانت مع العمل الصالح لها فضل لا شك فيه، فأهل البيت الصالحون المستقيمون على دين الله لهم حق، ولهم شرف، ولهم كرامة، ويجب الوفاء بحقهم، طاعة للرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه أوصى بقرابته وأهل بيته، لكن(13/397)
ص -220- ... يريد القرابة وأهل البيت المستقيمين على طاعة الله عزّ وجلّ، أما المخرّف والدجّال والمشعوذ الذي يعتمد على قرابته من الرسول، ولكنه في العمل مخالف للرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا لا يُغنيه شيئاً عند الله، لو كان هذا ينفع لنفع أبا لهب، ونفع أبا طالب، ونفع غيرهم ممن لم يدخلوا في دين الله، وهم من قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالواجب أن نتنبّه لهذا.
فهدا الحديث اشتمل على مسائل عظيمة- كما ذكرت-:
المسألة الأولى: المبادرة إلى تنفيذ أمر الله، وأن الإنسان لا يتوانى في ذلك.
المسألة الثانية: أن الداعية يبدأ بأقرب الناس إليه، وبأهل بيته أوّلاً.
المسألة الثالثة: أنه لا يجوز الاعتماد على الأشخاص والأولياء والصالحين، واعتقاد أنهم يقرِّبون إلى الله، بل على الإنسان أن يعمل لنفسه، وأن يتقّي الله في نفسه، وأن يتقرّب إلى الله مباشرة، بدون واسطة أحد، لأن الله قريب مجيب.
المسألة الرابعة:- وهي مهمة جدًّا-: أن الانتساب إلى أهل البيت، أو القرابة من الرسول صلى الله عليه وسلم لا تنفع إلاّ مع العمل الصالح، أما بدون ذلك فإنها لا تنفع عن الله.
والواجب أن يتنبّه المسلمون لهذه الأمور.(13/398)
ص -221- ... [الباب السادس عشر:] *بابُ قول الله تعالى
{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}.
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء؛...............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مُراد الشيخ رحمه الله بهذا الباب: أن يبيّن تفسير هذه الآية، كما جاءت بذلك السنّة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هذه الآية فسّرتها السنّة بالأحاديث التي ذكرها الشيخ في هذا الباب، والغرض من ذلك إتمام ما سبق في الأبواب السابقة من بيان أدلة بُطلان الشرك.
ففي الأبواب السابقة بيّن الشيخ رحمه الله بيان بُطلان عبادة الأنبياء والصالحين من بني آدم، بالأدلة التي سبقت من الكتاب والسنّة.
وفي هذا الباب يبيّن بُطلان عبادة الملائكة، لأن الملائكة عُبدوا من دون الله، فهذا الباب مكمِّلٌ للأبواب السابقة التي قبله في بيان بُطلان عبادة كل من عُبد من دون الله من الأنبياء، والأولياء، والصالحين، والملائكة، لأنهم إذا بطلت عبادة هؤلاء، فبُطلان عبادة من دونهم من باب أولى، وإذا بطل ذلك في حق الملائكة وهم أقوى الخلق خِلقة، ومن أقربهم إلى الله سبحانه وتعالى منزلة فلأن تبطل عبادة من سواهم من الآدميين والجن والإنس من باب أولى، هذا فقه هذه الترجمة.
قوله: "إذا قضى الله الأمر" معناه: إذا تكلّم الله بالوحي، كما في حديث النواس بن سَمْعان الذي في آخر الباب بهذا اللفظ: "إذا تكلم الله بالوحي" وهذا معنى قوله: "قضى الله الأمر في السماء"، ففي ذلك إثبات الكلام لله سبحانه وتعالى، وأنه كلام يُسمع، تسمعه الملائكة، وإذا سمعوه صَعِقوا وخَرُّوا- كما يأتي-، خَرُّوا لله سُجّداً، تعظيماً لله عزّ وجلّ.
وفي قوله: "في السماء" هذا فيه إثبات(13/399)
علوّ الله سبحانه وتعالى، فهو كقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ(13/400)
ص -222- ... ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً}، والذي في السماء هو الله سبحانه وتعالى، أي: العلو، هو العلي الأعلى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ}، {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}، والعرش هو أعلى المخلوقات، وسقف المخلوقات وأعظمها.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: "أين الله؟" قالت: في السماء، قال لسيّدها: "أعتقها، فإنها مؤمنة" والأدّلة على ذلك كثيرة، وقد صنّف الحافظ الذهبي رحمه الله كتاباً سمّاه: "العلو للعليّ الغفّار" ساق فيه الأدلة على علو الله على عرشه، وهي كثيرة.
قال العلماء: إن أدلة علو الله على عرشه تبلغ ألف دليل أو أكثر من الوحي، ومن الفطرة، ومن الأدلة العقلية، وهذا ثابت لا شك فيه، ولا ينكره إلاّ الملاحدة من الجهميّة وغيرهم.
وقوله: "ضربت الملائكة بأجنحتها" الملائكة من أعظم المخلوقات، لا يعلم عِظَمِ خِلْقة الملائكة إلاّ الله سبحانه وتعالى، وإذا كانوا على هذه الحالة من العِظَم، ومع هذا لا تصلح عبادتهم من دون الله، فهم مع قوّتهم وعِظَم خِلْقَتهم يخافون من الله سبحانه وتعالى، إذا سمعوا كلامه ضربوا بأجنحتهم. وهذا فيه إثبات الأجنحة للملائكة، وهي ثابتة بالقرآن كما في قوله تعالى: {رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ}.
"خضَعاناً" هذا مفعول لأجله، يعني: لماذا ضربوا بأجنحتهم؟، لأجل الخضوع لله. وتعظيماً له، وخوفاً منه عزّ وجلّ.
فإن كانت هذه حالتهم فلا يجوز أن يُعبدوا مع الله: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ}، قال تعالى في حقهم: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} يعني: الملائكة {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}.
"لقوله" أي: لقول الله سبحانه وتعالى، فيه(13/401)
إثبات القول لله، وإثبات الكلام لله جلّ وعلا، وأنه يتكلّم كما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، كلاماً يُسمع، تسمعه الملائكة، ويسمعه جبريل، وإذا سمعه الملائكة أصابهم هذا الرُّعب والخوف من الله.
قوله: "كأنه" أي: كأن قوله تعالى ويكَلُّمه سبحانه بالوحي.
"سلسلة على صفوان " تشبيه لصوت الوحي الذي يأتي إلى المَلَك، أو صوت(13/402)
ص -223- ... ينفذهم ذلك {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}.فيسمعها مُسْتَرِق السمع، ومُسْتَرِق السمع هكذا بعضه فوق بعض" وصفه سفيان بكفه، فحرّفها وبدّد بين أصابعه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المَلَك نفسه بصوت السلسلة إذا جُرّت على حجر أمْلَس.
"ينفذهم ذلك" أي: أن كلام الله يبلغ إلى قلوبهم فيخافون.
"{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ}" يعني: أُزيل عنها الفزع، تساءلوا بينهم: ماذا قال ربكم؟.
"{قَالُوا الْحَقَّ}" أي قال بعضهم لبعض: قال الله الحق، لأن كلامه حق سبحانه وتعالى.
قال صلى الله عليه وسلم: "فيسمعها مسترق السمع" المسترق هو: الذي يأخذ الشيء بسرعة وخُفية، ومنه سمّي السارق الذي يأخذ المال على وجه الخُفية والسرعة حيث لا يراه أحد، ومسترق السمع، هو الشيطان الذي يخطف الكلمة من الوحي الذي تتكلم به الملائكة في السماء، قال تعالى: {إِلَّامَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)}.
"ومسترق السمع هكذا بعضهم فوق بعض" معناه: أن الشياطين يَعْلُو بعضها بعضاً حتى تصل إلى عنان السماء، كل واحد يركب على الآخر، من أجل استراق السمع.
"وصفه سفيان" يعني: راوي الحديث، وهو سفيان بن عيينة، أحد كبار المحدِّثين المشهورين الثقات الأثبات رحمه الله.
يعني: وصف تراكمهم ووصف ركوب بعضهم فوق بعض في الجو.
"بكفه، فحرّفها" يعني: أمالها، وفرّق أصابعها، والأصابع يكون بعضها فوق بعض، هذا معناه: أن سفيان أراد أن يوضّح لتلاميذه والرواة عنه بالمثال المحسوس المشاهد عملية الشياطين في الهواء، فهذا فيه من وسائل التعليم: ضرب الأمثلة للطلاّب حتى يفهموا، مثل ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يفسّر قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ(13/403)
بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}، فالنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يوضّح هذه الآية بمثال محسوس: خطّ خطّاً مستقيماً على الأرض، وخطّ عن يمينه وشماله خطوطاً، وقال للمستقيم: "هذا صراط الله" وقال للأخرى: " هذه سُبُل، على(13/404)
ص -224- ... "فيسمع الكلمة فيُلقيها إلى من تحته، ثم يُلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يُلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، .............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كل سبيل منها شيطان يدعو الناس إليها" هذا توضيح للمعاني بالمحسوسات، وهي طريقة شرعية، وطريقة ناجحة في الإفهام، وهذا ما أراده سفيان رضي الله عنه من وصفه عمليّة الشياطين في الهوى بكفه وجعْل أصابعه بعضها فوق بعض مفرِّجة من أجل أن يوضّح لهم.
وقوله: "فيسمع الكلمة" أي: يسمع مسترق السَّمع الكلمة مما تكلّمت به الملائكة، فيُلقيها إلى من تحته من الشياطين، والذي تحته يُلقيها إلى الآخر، واحداً بعد واحد، حتى يُلقيها الأخير على لسان الساحر أو الكاهن من بني آدم.
فهذا فيه دليل على أن السّحرة والكهان يتلقون عن الشياطين، ففيه إبطال لعمل السّحرة والكهان، قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)}، هذا خبر من الله سبحانه وتعالى أنّ الكهان والسحرة يتلّقون عن الشياطين، فهذا فيه بُطلان السحر والكهانة، وأن مصدرهما واحد؛ عن الشياطين الذين هم أكفر الخلق، وأَغَشُّ الخلق للخلق.
والسحر معروف، وهو: عملية يعلمها الساحر إما بالعُقَد والنَّفْث {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ(4)}، وإما بكلام الكفر والشرك، فهو عزائم ورُقى شيطانية، وإما بمواد خبيثة تركّب بعضها مع بعض ثم يتكوّن منها السحر، فالسحر عمل شيطاني، والسحر كفر، والساحر كافر، بدليل قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ(13/405)
فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ}، فدلّ على أن الذي يتعلم السحر يكفر، لأن السحر كفر.
وأما الكِهانة فمعناها: الإخبار عن المغيبات بسبب ما يتلقاه الكاهن عن الشيطان، لأن الشيطان يخبر الكاهن بأمور غائبة عن بني آدم، لأن الشيطان عنده قدرة أكبر من قدرة بني آدم، فهو يطير في الهواء، ويصل إلى السحاب، ويسترق السمع، ويطير بسرعة من الأمكنة البعيدة، فعنده مقدرة ليست عند الإنسي، فالإنسي يخضع للشيطان، ويتقرب إلى الشيطان بما يحب من الكفر بالله والشرك بالله حتى(13/406)
ص -225- ... فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيُقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟، فيُصرَّف بتلك الكلمة التي سُمعت من السماء".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يخدمه الشيطان بما يريد من الأمور الغائبة عن بني آدم، قال تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)}، هذا فيه أن الله سبحانه وتعالى إذا حشر الشياطين يوم القيامة وحشر الكهان وعملاء الشياطين يوبخهم: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ}، يعني : أهلكتم كثيراً من الإنس، {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ}، يعني: الكهان والسحرة وكل من يتعامل مع الشياطين {رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} هم خدمونا ونحن خدمناهم في الدنيا {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا} الآن وقفنا بين يديك يا ربنا، فيقول: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ}، هذا مآل السحرة والكهان مع أوليائهم من الشياطين.
وقال سبحانه: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً(6)} يقولون: نعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، {فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} أي: خوفاً. أما لو أنهم عاذوا بالله لأعاذهم وقوّاهم، وأذهب ما بهم من الفزع، ولا يضرهم أحد إذا توكلوا على الله وعاذوا بالله، لكن عاذوا بمخلوق فأذلهم الله سبحانه وتعالى.
وقوله: "حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن" دلّ على أنهما من فصيلة واحدة، وأنهم(13/407)
يتلقون عن الشياطين.
قال سبحانه مبيّناً سند الكهان والسحرة والمشعوذين: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)}.
قوله: "فيكذب معها مائة كذبة" هذا المقصود من استراق السمع؟، من أجل أن يخدعوا الإنس، ومن أجل أن يخلطوا الحق بالباطل، ويلبسوا الحق بالباطل، لأنهم لو جاءوا بالباطل الخالص المحض ما صدقهم أحد، لكن إذا خلطوه بشيء من الحق صدقهم الناس، فيكون هذا فيه فتنة لضعفاء الإيمان وضعفاء العقول، يأخذون الباطل الكثير بسبب حق يسير خالطه.(13/408)
ص -226- ... وهذا واقع في النّاس الآن فكثير من النّاس يتبع أئمة الضلال، ويتبع الفرق الضالة والجماعات المنحرفة بسبب أن عندهم شيئاً من الحسنات أو شيئاً من الحق، ولا ينظر إلى كثرة الباطل الذي هم عليه، وهذا بلاء وفتنة للناس، ليس هذا خاصًّا بالكهان والسحرة، بل هذا عام في كل من تقبل الباطل بسبب التباسه بشيء من الحق.
قوله: "فيقال: أليس قد قال يوم كذا وكذا: كذ وكذا؟. فيُصدّق بتلك الكلمة التي سُمعت من السماء" هذه الفتنة العظيمة: لبس الحق بالباطل، لأن الباطل لو كان مكشوفاً واضحاً خالصاً ما قبله أحد، وإنما يُقبل الباطل إذا لُبِّس معه شيء من الحق، وهذه فتنة عظيمة يجب أن نتنبه لها.
فالحاصل: أن هذا حديث عظيم، فيه فوائد عظيمة:
الفائدة الأولى: فيه أن السنّة النبوية تفسر القرآن، فهذا الحديث فسر هذه الآية: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ}، ففيه رد على الطائفة الخبيثة التي تريد رفض السنّة والاقتصار على القرآن، وإذا اقتصر على القرآن من أين نفسر القرآن؟، القرآن يفسر بأحد أربعة أمور:
أولاً: يفسّر القرآن بالقرآن.
ثانياً: إذا لم يكن فيه تفسير من القرآن يفسر بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: إذا لم يكن فيه تفسير من الرسول صلى الله عليه وسلم يفسر بأقوال الصحابة، لأنهم تلاميذ الرسول صلى الله عليه وسلم، وعنه تعلموا وتلقوا العلم فهم أدرى النّاس بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
رابعاً: إذا لم يكن هناك تفسير من الصحابة يفسر بمقتضى لغة العرب التي نزل بها، ينظر إلى معنى الكلمة في لغة العرب ويفسر بلغة العرب التي نزل بها.
أما أن يفسر القرآن بغير هذه الطرق فهذا باطل، إما بالقرآن، وإما بالسنّة، وإما بقول الصحابي، وإما بلغة العرب التي نزل بها، ولا يفسر القرآن بغير هذه الوجوه.
نعم، اختلفوا في قول التابعي: هل يفسر به القرآن؟، منهم من يرى ذلك، فيكون(13/409)
وجهاً خامساً، لأن التابعي له خاصية، لأنه تتلمذ على صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، فله ميزة على غيره ممن تتلمذ على غير الصحابة.(13/410)
ص -227- ... أما تفسير القرآن بغير هذه الوجوه فلا يجوز، لأنه قول على الله بلا علم، فالذين يفسرون القرآن بالنظريّات الحديثة -أو ما يسمونه بالعلم الحديث- فهذا خطأ، وهذا قول على الله بلا علم، فالنظريّات هذه عمل بشر، تصدق وتكذب، وكثير منها يكذب، ويأتي نظرية أخرى تبطل هذه النظرية السابقة، مثل: ما عند الأطباء، ومثل: ما عند الفلاسفة، لأنه عمل بشر، فالنظريّات الحديثة لا يفسر بها كلام رب العالمين، ولا يقال: هذا من الإعجاز العلمي- كما يسمونه-، هذا ليس بإعجاز علمي أبداً، كلام الله يُصان عن نظريّات البشر، وعن أقوال البشر، لأن هذه النظريّات تضطرب ويكذب بعضها بعضاً، فهل يفسّر كلام ربنا بنظريّات مضطّربة؟، هذا باطل ولا يجوز، ويجب رفض هذا التفسير، والاقتصار على الوجوه الأربعة- أو الخمسة- التي نصّ عليها أهل العلم، كما ذكرها ابن كثير رحمه الله، في أول التفسير.
الفائدة الثانية: إثبات صفات الله سبحانه وتعالى، فقد أثبت في هذا الحديث علو الله على خلقه، وأنه في السماء سبحانه وتعالى، وأثبت أن الله يتكلم بكلام يُسمع، تسمعه الملائكة وترتعد عند سماعه.
الفائدة الثالثة: وهي التي عقد المصنف رحمه الله بهذا الباب من أجلها: بطلان التعلق على الملائكة، عكس ما كان عليه أهل الجاهلية من عبادة الملائكة، واعتقاد أنهم بنات الله، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيراً.
ففي هذا بطلان الشرك، لأنه إذا بطلت عبادة الملائكة وهم من هم في القوة والمكانة عند الله والقرب من الله، إذا بطل عبادتهم والتعلق عليهم وطلب الحوائج منهم فلأن يبطل ذلك في حق غيرهم من باب أولى، فالذين يتعلقون على القبور وعلى الأضرحة وعلى الأشجار والأحجار، ويتبركون بها، كل هذا باطل، لأن هذه مخلوقات ليس لها من الأمر شيء، مسخرة ليس لها من الأمر شيء، إنما التعلق يكون بالله عزّ وجلّ، والتوكل على الله، لأن الملائكة مفتقرون إلى الله، وكل المخلوقات مفتقرة إلى الله(13/411)
سبحانه وتعالى، وهو الغني الحميد، هو غني عن غيره، وأما غيره فهم فقراء إليه سبحانه وتعالى.(13/412)
ص -228- ... الفائدة الرابعة: في الحديث إثبات استراق السمع، وأن الشياطين قد يسترقون السمع، وهذا كان في الجاهلية كثيراً، فلما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم حُرست السماء بالشُّهب، وقلّ استراق السمع، قال بعضهم لبعض: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} يعني: هذا في الجاهلية، {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ} يعني: بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم { يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً * وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً(10)}.
الفائدة الخامسة: فيه بُطلان السحر والكِهانة، وأن مصدرهما واحد، التلقي عن الشياطين، فلا يُقبل السحر، ولا خبر الساحر، ولا تُقبل الكِهانة ولا خبر الكاهن لأن مصدرها باطل، وقد جاء في الحديث: "من أتى كاهناً أو عرّافًا لم تُقبل له صلاة أربعين يوماً" وفي الحديث الآخر: "من أتى كاهناً أو عرّافاُ فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمّد صلى الله عليه وسلم" فهذا فيه بطلان السحر والكِهانة، وأنه لا يجوز تصديق السحرة، ولا تصديق الكُهَّان، ولا الذهاب إليهم، لكن في وقتنا الحاضر السحرة والكهان خرجوا على الناس باسم أطباء ومعالجين، وفتحوا محلات، يعالجون فيها المرضى بالسحر والكهانة، لكن لا يقولون: هذا سحر، ولا يقولون: هذا كهانة، بل يُظهرون أنهم يعالجون النّاس بأمور مباحة، ويذكرون الله عند الناس، وقد يقرءون شيئاً من القرآن من أجل التلبيس، ولكن في الخفاء يقول للمريض اذبح شاة على صفة كذا وكذا، ولا تأكل منها، خذ من دمها واعمل كذا وكذا، أو اذبح ديكاً أو دجاجة، يصفه بأوصاف، ويقول له: ولا تذكر اسم الله عليه، أو يسأله عن اسم أمه واسم أبيه، أو يأخذ ثوبه وطاقيته من أجل أن يسأل عملاءه من الشياطين لأن الشياطين يخبر بعضهم بعضاً. ثمّ يقول الساحر أو الكاهن-: فلان هو الذي سحرك، وهو كله تدجيل، والواجب على المسلمين أن يتنبهوا(13/413)
لهذا، وأن يحذروا هؤلاء المشعوذين والدجالين الذين يفسدون عقائد الناس، ويأكلون أموالهم بالباطل.
الفائدة السادسة: ذكرها الشَّيخ رحمه الله في قوله: "قبول النفوس للباطل، كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة؟" بحيث تُقبل مائة كذبة بسبب كلمة واحدة من الحق، فالنفوس تقبل الباطل، حيث إنها تقبل مائة كذبة بسبب كلمة واحدة من الحق، وهذا فيه: التحذير من لبس الحق بالباطل، وأن لا نغتر بمن يلبس علينا،(13/414)
ص -229- ... وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر؛ تكلّم بالوحي، أخذت السماوات منه رجفة "أو قال: رعدة شديدة: خوفاً من الله عزّ وجلّ، .................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يأتي لنا بأشياء من الحق، ويدخل تحتها كثيراً من الباطل والخداع، والواجب على المؤمن أن يكون كَيِّساً فطناً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المؤمن كَيِّسٌ فطن" ويقول صلى الله عليه وسلم: "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين"، فالمؤمن لا يتسرع بقبول الأقوال أو المذاهب أو المناهج حتى يفحصها تماماً، وكيف يفحصها؟، يعرضها على الكتاب والسنّة إن كان يعرف، وإن كان لا يعرف يسأل عنها أهل العلم وأهل البصيرة، حتى يميزوا له الصحيح من السقيم، هذا واجب علينا جميعاً أننا لا ننخدع بالدعايات المُزَوَّقَة والمستورة والمغلّفة بشيء من المحسّنات حتى نَسْبُرَ غَوْرَها، وَنَخْبُرَ ما بداخلها إن كنا نستطيع ذلك فالحمد لله، وإلاَّ فإننا نسأل أهل العلم وأهل البصيرة الذين يميّزون بين الحق والباطل.
قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله أن يوحي بالأمر" فهذا فيه: إثبات الإرادة لله سبحانه وتعالى، وهي صفة من صفاته، دلّت عليها الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، فالله جل وعلا له إرادة، وإرادته على نوعين:
إرادة كونية، بها يخلق ويرزق، ويهدي ويضل، ويحيي ويميت.
وإرادة شرعية دينية بها يأمر عباده بما يصلحهم وينهاهم عما يضرهم، مثل قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، هذه إرادة دينية،(13/415)
كما فصّل ذلك أهل العلم.
"أن يوحي" الوحي هو: الإعلام بسرعة وخفاء، وهو على نوعين: وحي إلهام ووحي إرسال.
وحي الإلهام: يكون بإلهام الله بعض المخلوقات ببعض الأمور مثل قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} أي: ألهمها، ومثل قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} ألهم الله أم موسى أن تعمل هذا العمل(13/416)
ص -230- ... فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخرّوا لله سجّداً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بولدها لما ولدته، وكان فرعون يقتِّل الذكور، فالله ألهمها أن تعمل هذا العمل من أجل نجاة موسى من هذا الجبار.
وأما وحي الإرسال فهو الذي ينزل به جبريل عليه السلام إلى الرسل.
"بالأمر" أي: بالشأن من شؤون الكون والمخلوقات، أو بالأمر من الوحي المنزل على الرسل، فهو عام.
فالأمر على نوعين: كوني وشرعي.
"تكلم بالوحي" تكلماً يليق بجلاله، وهذا فيه: إثبات الكلام لله سبحانه وتعالى.
"أخذت السماوات منه رجفة (أو قال: رعدة شديدة)" هذا شك من الراوي، أي: إذا سمعت كلام الله يصيبها خوف وهيبة لكلام الله، وهذا فيه: أن الجمادات تدرك عظمة ربها، وتسبّحه، وتعظمه كما قال سبحانه وتعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ}، {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ}، وكما في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ(11)}، في هذا: أن السماوات والأرض تتكلم، وأنها تسبح كما قال تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}.
"فإذا سمع ذلك أهل السماوات" يعني: سمع الملائكة كلام الله أيضاً.
"صعِقُوا" بمعنى: أنهم يغشى عليهم من الخوف من الله عزّ وجلّ والهيبة والجلال.
" وخروا لله" يعني: ينحطّون لله"سُجّداً"على وجوههم تعظيماً لله وتعبدًّا لله.
قد يكون السجود قبل الصعق، وقد يكون بعد الصعق، لأن الواو لا تقتضي الترتيب.
وفي هذا دليل على أن الملائكة عباد لله، يخافونه ويهابونه.
وفي هذا ردٌّ على المشركين الذين يعبدون الملائكة،(13/417)
ويزعمون أن الملائكة تقرّبهم إلى الله، كما يقرب خاصة الملوك إلى الملوك من يريد قضاء حاجته منهم، قاسوا الخالق على المخلوقين، تعالى الله عما يقولون، فهذا فيه ردّ عليهم، وهو أن الملائكة عباد، كما قال تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)}، عباد من عباد الله، يخافون(13/418)
ص -231- ... فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من الله، ويسجدون له، والعبد لا يجوز أن يُعبد، ولا أن يُدعى، ويُستغاث به، وإنما يُعبد الله سبحانه وتعالى، وهذا هو الذي ساق المصنّف رحمه الله هذا الحديث من أجله، وهو: الرد على المشركين الذين يتعلقون على المخلوقين في قضاء الحاجات التي لا يقدر عليها إلاّ الله، وتفريج الكربات، وهو أنه إذا كانت الملائكة مع عظمتهم وقوتهم ومكانتهم -بما فيهم جبريل عليه الصلاة والسلام-، كانوا بهذه المثابة إذا سمعوا كلام الله، دلَّ على أنهم ليس لهم من الأمر شيء، وأنه لا يجوز أن يُدعوا، ويُستغاث بهم، وإذا كان هذا في حق الملائكة ففي حق غيرهم من باب أولى، فلا يجوز دعاء الصالحين، أو الاستغاثة بهم، أو التقرب إليهم بالعبادة، أو الذبح، أو النذر، أو غير ذلك، كل هذا باطل، وشرك أكبر.
وفيه دليل على أن السماوات متعددة وأنها سبع طِباق كما تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً(15)}، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ}، { الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ}، ولكل سماء سكان من الملائكة.
"فيكون أول من يرفع رأسه" يعني: من السجود.
"جبريل" وهو: أعظم الملائكة، وهو موكّل بالوحي كما أن ميكائيل موكّل بالقطر والنّبات، وإسرافيل موكّل بالنفخ في الصُّور، وكل نوع من الملائكة له عمل، منهم ملائكة الموت، ورئيسهم مَلَك الموت: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ}، {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ}.
وهناك ملائكة موكّلون بالأَجِنَّة في الأرحام، كما جاء في الحديث: "إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثمّ يكون عَلَقَة مثل ذلك، ثمّ يكون مُضْغَة مثل ذلك، ثمّ يُرسل(13/419)
إليه المَلَكَ في الطَّوْر الرابع "ويؤمر بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقيُّ أو سعيد" فهؤلاء موكّلون بالأَجنَّة في الأرحام.
وهناك ملائكة موكّلون بحفظ أعمال بني آدم، بكتابة الحسنات والسيّئات يلازمون بني آدم، إلاّ في الأحوال الخاصة، دائماً معهم في الليل والنهار يكتبون ما يصدر عنهم من أقوال وأفعال طيّبة أو رديئة، وهؤلاء يسمون بالحَفَظَة.(13/420)
ص -232- ... ثمّ يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: قال الحق وهو العلي الكبير. فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهناك ملائكة موكّلون بحفظ الإنسان نفسه، يحفظون الإنسان من المخاطر، ورفع المؤذيات: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}.
وهناك أنواع من الملائكة لا يعلمهم إلاّ الله.
" ثم يمر جبريل على الملائكة" هذا فيه: فضل جبريل عليه السلام، وأن الله اختصه بائتمانه على الوحي، وأن أهل السماوات يسألونه وهذا دليل على فضله كما قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ(40)} {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)}، يعني: ذا مكانة عند الله سبحانه وتعالى، {مُطَاعٍ ثَمَّ} أي: في الملأ الأعلى، تطيعه الملائكة {أَمِينٍ} أمين على الوحي، لا يزيد فيه ولا ينقص- عليه الصلاة والسلام-.
"كلما مر بسماء" هذا كما سبق فيه دليل على تعدّد السموات.
"سأله ملائكتها" هذا فيه دليل على أن لكل سماء ملائكة خاصّون بها.
"ماذا قال ربنا يا جبريل؟، فيقول: قال الحق وهو العلي الكبير. فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل" تعظيماً لله سبحانه وتعالى.
وهذا فيه دليل على أن كلام الله حق لا ريب فيه، وأن الملائكة لا تعلم الغيب ولذلك تسأل جبريل.
"وهو العلى" هذا فيه إثبات العلو لله عزّ وجلّ، والعلو ثلاثة أقسام: علو الذات. وعلو القدر. وعلو القهر. وكلها ثابتة لله سبحانه وتعالى.
فهو عليٌّ بذاته فوق مخلوقاته، وهو عليُّ القدر سبحانه وتعالى، وهو عليُّ القهر، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} بجميع أنواع العلو.
وأهل السنّة والجماعة يثبتون العلو بأنواعه الثلاثة.
أما المبتدعة فلا يُثبتون إلاّ علو القدر والقهر فقط، وأما علوّ الذات فينفونه، ولا يثبتون العلو لله عزّ وجلّ، تعالى الله عما يقولون(13/421)
علوًّ كبيراً.
{الكبير} الذي لا أكبر منه سبحانه وتعالى، كل المخلوقات صغيرة بالنّسبة إلى الله سبحانه وتعالى،(13/422)
ص -233- ... ليست بشيء: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}، هذا من عظمته سبحانه وتعالى.
فدلّ هذا الحديث على مسائل عظيمة:
المسألة الأولى: إثبات الكلام لله سبحانه وتعالى، وهذا بإجماع أهل السنّة والجماعة، لم يخالف فيه إلاّ المبتدعة.
المسألة الثانية: إثبات الإدراك للسماوات والخوف من الله، وأنها تُدرك عظمة الله، وتخافه، وهي جمادات، كما دلّت على ذلك الأدلة الأخرى فإذا كانت السماوات تخافه، فكيف لا يخافه ابن آدم هذا الضعيف المسكين؟، كيف لا يخاف من الله سبحانه وتعالى؟.
المسألة الثالثة: وهي المسألة التي ساق المصنف هذا الحديث من أجلها، فيه: أن الملائكة يخافون من الله، ويسجدون له، فدلّ على أنهم عباد محتاجون إلى الله سبحانه وتعالى فقراء إلى الله، فهذا يدل على بُطلان دعائهم من دون الله، واتخاذهم وسائط، وشفعاء عند الله عزّ وجلّ، الملائكة يشفعون، لكن لا يشفعون إلاّ بإذن الله سبحانه وتعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}، فلا تحصل الشفاعة عند الله إلاّ بشرطين: الإذن بالشفاعة، ورضاه عن المشفوع فيه، بأن يكون المشفوع فيه من أهل الإيمان، أما الكافر، فقال الله تعالى فيه: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)}، {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ}، وليس الله مثل ملوك الدنيا يشفع الشفعاء عندهم ولو لم يأذنوا، ويضَطَّرُّ الملوك إلى قبول الشفاعة من أجل تأليف الكلمة، ومن أجل حاجتهم للوزراء، أما الله جل وعلا فإنه4 غني عن عباده، ولا أحد يتقدّم بالشفاعة عنده إلاّ بإذنه، ومحمَّد صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق، في يوم القيامة في المحشر إذا تقدّمت الخلائق إلى محمَّد تطلب منه(13/423)
الشفاعة لفصل القضاء، لا يشفع إلاّ بعد أن يسجد لله عزّ وجلّ، ويحمد الله بمحامد عظيمة، ويدعوه بدعاء، ثمّ يقال له: يا محمَّد، ارفع رأسك، وسَلْ تُعط، واشفع تشفّع، فالشفاعة ملك لله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً}، وتُطلب الشفاعة من الله، تقول: اللهم شفِّع فيّ نبيّك محمداً صلى الله عليه وسلم، اللهم شفِّع فيّ عبادك الصالحين، تطلبها من الله، أما أن تقول بعد موت(13/424)
ص -234- ... الرسول: يا محمّد اشفع لي، أو يا فلان اشفع لي، تطلبها من الميّت فهذا لا يجوز.
فطلب الشفاعة من القبور شرك أكبر، أما الحي فتُطلب منه الشفاعة بأن يطلب منه أن يدعو الله عزّ وجلّ لمن احتاج إلى ذلك، أما الميّت فلا يقدر على دعاء، ولا يطلب منه شيء.
هذا هو المقصود من إيراد هذا الحديث، وهو بيان حالة الملائكة مع الله سبحانه وتعالى، وأنهم يخافونه، ويَصْعَقُون من هيبته سبحانه وتعالى، ومن سماع كلامه، ويخرُّون لله سجّداً، فدلّ على أنهم عباد فقراء إلى الله، ليس بيدهم شيء إلاّ ما أعطاهم الله سبحانه وتعالى، فلا تجوز دعوتهم من دون الله عزّ وجلّ، وإذا كان هذا في حق الملائكة ففي حق غيرهم من باب أولى وأحرى.
المسألة الرابعة: فيه دليل على تعظيم كلام الله، وتعظيم القرآن الكريم، لأنه كلام الله، ووحي من الله، فيجب تعظيمه، والخشوع عند سماعه، والخوف مما فيه من الوعيد، والتهديد، والرجاء بما فيه من الوعد الكريم، فكلام الله سبحانه وتعالى يكرّم، ويُهاب، ويعظّم، ليس مثل كلام المخلوقين، وكذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم يجلّ ويعظم، لأنه وحي من الله عزّ وجلّ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى(3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)}، فهو وحي من الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم .
المسألة الخامسة: فيه فضل جبريل- عليه الصلاة والسلام-، وأنّه موكّل بالوحي، وأن الملائكة كلهم يسألونه: ماذا قال ربنا؟، هذا دليل على فضله ومكانته عند الله عزّ وجلّ.
المسألة السادسة: فيه دليل على ما ذكرنا أن السماوات طِباق متعدِّدة إلى سبع سماوات، وفي كل سماء سكّان من الملائكة، يعمرونها بعبادة الله عزّ وجلّ من التسبيح والتهليل، وتعظيم الله عزّ وجلّ.
المسألة السابعة: في الحديث دليل- أيضاً- على أن الملائكة كلٌّ له عمل موكّل به، إذا كان جبريل موكلاً بالوحي، فكذلك ميكائيل موكل بالقطر والنبات كما جاء في الحديث، وكذلك إسرافيل(13/425)
موكل بالنفخ في الصُّور، وكذلك بقية الملائكة، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في استفتاحه إذا قام يتهجّد من الليل: "اللهم رب جبرائيل(13/426)
ص -235- ... وميكائيل وإسرافيل" لماذا خص هؤلاء، مع أن الله رب لكل شيء؟، لمكانة هؤلاء، لأن جبرائيل موكّل بالوحي الذي به حياة القلوب، وميكائيل موكّل بالفطر والنبات الذي فيه حياة الأرض بعد موتها، وإسرافيل موكّل بالنفخ في الصُّور الذي فيه حياة الأجسام بعد موتها، فكلّهم موكلون بالحياة، هذا بحياة القلوب بالوحي، وهذا بحياة الأرض بالماء والقطر، وهذا بحياة الأجساد يوم القيامة ونفخ الأرواح فيها. المسألة الثامنة: أن الملائكة لا يعلمون الغيب، ويسألون غيرهم عما خفي عليهم.(13/427)
ص -236- ... [الباب السابع عشر:] *بابُ الشفاعة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الشيخ الإمام رحمه الله: "باب الشفاعة" الشفاعة معناها: التوسط في قضاء حاجة المحتاج لدى من هي عنده. سميت بذلك لأن طالب الحاجة كان منفرداً في الأول، ثمّ لما انضم إليه الشافع صار شفعاً، لأن الشفع ضد الوتر. فلما كان طالب الحاجة منفرداً، ثمّ انضم إليه الواسطة شفعه في الطلب، ولذلك سمّي شافعاً، وسمّي هذا العمل شفاعة، قال الله سبحانه وتعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا}، فالذي يشفع عند السلاطين، أو عند الأغنياء، أو عند غيرهم لقضاء حاجة المحتاجين يعتبر عمله شفاعة طيبة يؤجر عليها، قال صلى الله عليه وسلم: "اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء".
أما إذا كانت الشفاعة في أمر محرّم، فهذه شفاعة سيئة، كالذي يشفع عند السلطان في تعطيل الحدود، إذا وجب الحد على شخص شفع عنده ليسقط الحد عنه، هذه شفاعة سيئة، ولهذا لما تقرر الحد على امرأة من بني مخزوم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كانت تستعير المتاع وتجحده، شقّ على أهلها وذويها قطع يدها، تراجعوا بمن يشفع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقرّر رأيهم أن يطلبوا من أسامة بن زيد رضي الله عنه، حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حِبَّه، ليشفع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في ترك قطع يد هذه المرأة، فكلم أسامة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً، وتغيّظ على أسامة رضي الله عنه، وقال له: "أتشفع في حد من حدود الله؟، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمَّد سرقت لقطعت يدها" وقال: "إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفّع".
والحاصل؛ أن هذا تعريف الشفاعة، وانقسامها إلى شفاعة حسنة وشفاعة سيئة، هذا فيما بين(13/428)
النّاس، والمراد هنا: الشفاعة عند الله تعالى.
ومراد المصنف رحمه الله من هذا الباب: أنه لما كان المشركون قديماً وحديثاً يعبدون من دون الله الأصنام والأشجار والأحجار والقبور والأضرحة والأولياء والصالحين والملائكة والأنبياء، فإذا أنكر عليهم ذلك قالوا: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}، نحن نعلم(13/429)
ص -237- ... أنهم مخلوقون، وأن الأمر بيد الله، ولكن هؤلاء لهم مكانة عند الله، ونريد منهم أن يشفعوا لنا عند الله. فيذبحون للأولياء والصالحين والأشجار والأحجار، ويستغيثون بهم، ويصرفون لهم أنواع العبادة، فإذا أنكر عليهم قالوا: غرضنا من ذلك هو الشفاعة فقط. فبين الله أن ذلك هو الشرك، وأن تلك هي عبادة غير الله، فقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}، يقولون: نحن نعلم أنهم مخلوقون، وأنهم ليس لهم من الأمر شيء، ولكننا فعلنا ذلك من أجل أن يشفعوا لنا عند الله لأن لهم مكانة عند الله، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} يعني: يعبدونهم، {مَا نَعْبُدُهُمْ}، اعترفوا أنهم يعبدونهم {إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} سَمَّى فعلهم هذا كذباً، وسَمّاه كفراً، ولم تنفعهم اعتذاراتهم، وذلك لأنهم قاسوا الخالق سبحانه وتعالى على ملوك الدنيا، فكما أنهم من عادتهم عند ملوك الدّنيا أنهم يوسطون الشفعاء بينهم وبين الملوك في قضاء حوائجهم، قاسوا الله جل وعلا بخلقه، اتخذوا عند الله الشفعاء كما يتخذونهم عند الملوك والرؤساء، وهذا باطل، لأنه تسوية بين الخالق والمخلوق، فإن ملوك الدنيا أو سلاطين الدّنيا أو رؤساء النّاس في الدّنيا يقبلون الشفاعة لحاجتهم إلى ذلك، وذلك لأن الملك أو الرئيس بحاجة إلى الوزراء والمستشارين ليعينوه على أمور الملك، فلو لم يقبل شفاعتهم لنفروا منه، ولم يعينوه، والله جل وعلا غني عن خلقه، ليس بحاجة إلى أن يعينه أحد، بخلاف الملوك والسلاطين فهم بحاجة.
وأيضاً ملوك الدّنيا والسلاطين لا يعلمون أحوال الرّعيّة، فهم بحاجة إلى هؤلاء ليبلغوا حاجات النّاس(13/430)
وأحوال الناس، فإذا بلغهم هؤلاء الوسائط والشفعاء، فقد بلّغوهم ما لم يعرفوا من أحوال رعيتهم، أما الله جل وعلا فإنه يعلم كل شيء، لا تخفى عليه أحوال عباده، يعلم المحتاجين والمرضى والفقراء وأصحاب الحاجات، يعلم ذلك بدون أن يخبره أحد سبحانه وتعالى، فلا يقاس الخالق بالمخلوق.
وأيضاً الملوك والرؤساء ولو علموا بأحوال الناس، فإنهم قد لا يلينون لهم، ولا يلتفتون إليهم، لكن إذا جاءهم هؤلاء الوسطاء، وتكلموا معهم أثّروا فيهم،(13/431)
ص -238- ... فقبلوا الشفاعة، أما الله جل وعلا فإنه لا يؤثر عليه أحد، الله جل وعلا يريد الزحمة لعباده، ويريد المغفرة، ويريد قضاء حاجات الناس، وإعطاءهم، ورزقهم، هو مريد لذلك سبحانه وتعالى بدون أن يؤثّر عليه أحد.
ففيه فرق بين الخالق والمخلوق من هذه الوجوه، من ناحية أن الله غني لا يحتاج إلى إعانة الشّفيع، ومن ناحية أن الله عليم لا يحتاج إلى إخبار الشفيع عن أحوال خلقه، ومن ناحية أن الله سبحانه وتعالى مريد للخير والرحمة لعباده، وقضاء حوائجهم، إذا هم طلبوا من الله بصدق، ولجؤا إليه لإخلاص قضى حوائجهم، بدون أن يكون هناك واسطة.
فتبيّن لنا إذاً الفرق بين الخالق والمخلوق، فغلِط المشركون في ذلك حيث سووا الخالق بالمخلوق، واتخذوا الشفعاء عنده كما يتخذون الشفعاء عند الملوك والرؤساء.
والشفاعة في كتاب الله جاءت على قسمين:
قسم منفي. وقسم مثبت.
فالقسم المنفي: هو الشفاعة التي تطلب من غير الله.
هذه الشفاعة منفية، لأن الشفاعة ملك لله، لا تطلب إلاّ منه، وكذلك الشفاعة التي تطلب فيمن لا تقبل فيه، وهو الكافر، فالكافر والمشرك لا تقبل فيه الشفاعة: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ}، وقال الله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ}.
والشفاعة المثبتة: هي التي توفر فيها الشرطان:
الشرط الأول: أن تُطلب من الله.
الشرط الثاني: أن تكون فيمن تقبل فيه الشفاعة، وهو المؤمن الموحِّد الذي عنده شيء من المعاصي دون الشرك، فهذا تُقبل فيه الشفاعة بإذن الله.
قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}، هذا الشرط الأول.
الشرط الثاني: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}، وهم أهل الإيمان.
وقال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ(13/432)
اللَّهُ} هذا الشرط الأول.
{وَيَرْضَى}، هذا هو الشرط الثاني.(13/433)
ص -239- ... والشافعة المثبتة ستة أنواع:
النوع الأول: الشفاعة العظمى، وهي المقام المحمود، وهي التي تكون من الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف، إذا طال الوقوف على أهل الموقف التمسوا من يشفع لهم إلى الله في القضاء بينهم، وإراحتهم من الموقف، فيأتون إلى آدم عليه السلام ثمّ إلى الأنبياء نبيًّا نبيًّا كلهم يعتذرون، حتى ينتهوا إلى محمَّد صلى الله عليه وسلم، فيقول: "أنا لها، أنا لها" ثمّ يخر ساجداً بين يدي ربه عزّ وجل، ويفتح الله عليه بمحامد، فلا يزال ساجداً حتى يقال له: "يا محمَّد ارفع رأسك، وسَلْ تعط، واشفع تشفّع"، هذا فيه أن الرسول لا يشفع ابتداءً، وإنما يشفع بعد الاستئذان، بعد أن يخر ساجداً لله، ولا يشفع إلاّ بعد أن يؤذن له، ويقال: اشفع تشفّع، ثمّ يشفع في أهل الموقف، فيحاسبون، ثمّ ينصرفون من الموقف إما إلى الجنة وإما إلى النار.
هذه الشفاعة العظمى، وهي المقام المحمود الذي قال تعالى فيه: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً}، لأنه يحمده عليه الأولون والآخرون -عليه الصلاة والسلام-، وهذه لم يخالف فيها أحد وحقيقتها أن الخلائق يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله لهم بأن يريحهم من الموقف الطويل.
النوع الثاني: شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الجنة في أن يدّخلوا الجنة.
النوع الثالث: شفاعته صلى الله عليه وسلم في بعض أهل الجنة في رفعة درجاتهم في الجنة.
النوع الرابع: شفاعته صلى الله عليه وسلم في عمّه أبي طالب، وذلك أن أبا طالب كانت مواقفه مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وتأييده له، وحمايته من أذى قومه، كلها معروفة، وأنه صبر معه على الأذى وعلى الحصار والضيّق، فهو بذل مع الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً عظيماً من الحماية والنُّصرة والدفاع عنه، وهذا من تسخير الله سبحانه وتعالى، وتيسير الله، حيث سخّر هذا الكافر لحماية النبي صلى الله عليه وسلم، وحرص النبي صلى الله(13/434)
عليه وسلم على هدايته، ودخوله في الإسلام، حتى إنه زاره وهو يُحتضر، وقال له: "يا عم، قل: لا إله إلاّ الله، كلمة أحاج لك بها عند الله" إلاّ أنه كان عنده حَضْرة من المشركين قالوا له: أترغب عن مِلّة عبد المطلب؟. فأخذته النّخوة- والعياذ بالله-، والحَمِيَّة الجاهلية وقال: هو على ملّة عبد المطلب، ومات ولم يقل لا إله إلاّ الله، فصار من أهل النار، فالنبي صلى الله عليه وسلم(13/435)
ص -240- ... وقول الله عزّ وجلّ: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يشفع له في تخفيف العذاب عنه يوم القيامة، لا في إخراجه من النار، فلا يتعارض هذا مع قوله: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ(48)}، لأنها لم تنفع أبا طالب بالخروج من النار، وإنما نفعته في تخفيف العذاب عنه.
النوع الخامس: الشفاعة فيمن استحق النار من أهل التّوحيد أن لا يدخلها.
النوع السادس: الشفاعة فيمن دخل النار من أهل التّوحيد أن يخرج منها، وهاتان الشفاعتان الأخيرتان ليستا خاصتين بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل هما عامتان في الأنبياء والأولياء، والصالحين، والأفراط. فالأولياء يشفعون، والصالحون، والأفراط- وهم الأولاد الصغار- يشفعون لآبائهم.
وهذه الشفاعة يثبتها أهل السنّة والجماعة للأحاديث الواردة الصحيحة فيها، ويخالف فيها المبتدعة من المعتزلة، والخوارج الذين يقولون إن من دخل النار لا يخرج منها، ويخالفون بذلك الأحاديث الصحيحة الواردة فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم، هذه أنواع الشفاعات الثابتة الصحيحة التي توفر فيها الشرطان المذكوران.
وأمر الشفاعة أمر عظيم، لأنه غلط فيها أمم من النّاس قديماً وحديثاً، وفهموها على غير المقصود، فجمهور المشركين- أو كل المشركين- فهموها على غير المقصود، وبعض المبتدعة من المسلمين أنكروا بعضها، فحصل الغلط، فلابد من التفصيل والإيضاح في أمر الشفاعة، لأنها أصبحت مزلة أقدام، يجب على طلبة العلم أن يهتموا بهذا الأمر، لأن فيها مغالطات عند القبوريين والخرافيين، لأنهم لا يفقهون معنى الشفاعة، أو أنهم يتعمّدون المعاندة والمخالفة، ويصرون على ما كان عليه آباؤهم وأجدادهم ومشايخهم من الضلال في هذا الباب.
فالشفاعة ليست منفية مطلقة، ولا مثبتة مطلقة، بل فيها تفصيل، وفيها(13/436)
إيضاح لابد من معرفته، ولذلك عقد المصنف رحمه الله هذا الباب لها من أجل هذا الغرض.
ثمّ ساق رحمه الله بعض الآيات والأحاديث في موضوع الشفاعة.
والآية الأولى: قوله تعالى: "{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ(13/437)
ص -241- ... لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ}، هذا أمر من الله للنبي صلى الله عليه وسلم.
يقول: "{وَأَنْذِرْ بِهِ}" الإنذار هو: الإعلام بشيء مَخُوْف. أما البشارة فهي: الإعلام بشيء محبوب، والنبي صلى الله عليه وسلم بشير ونذير، بشير لأهل الإيمان بالأجر والثواب والجنة، ونذير لأهل الشرك والمعاصي بالعذاب والنار.
{الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} الحشر معناه: الجمع، لأن الله يجمع الخلائق يوم القيامة أولهم وآخرهم في صعيد واحد، لا يخفى منهم أحد؛ لأجل فصل القضاء بينهم، وجزائهم بأعمالهم. وهذا الموقف لابد منه، فأنت أيها الرسول أنذر المؤمنين بهذا الموقف، ولماذا خص المؤمنين؟، لأنهم هم الذين يمتثلون، وإلاَّ فإنه مأمور بأن يبلغ النّاس كلهم، ولكنه- أحياناً- يؤمر بتخصيص المؤمنين، لأنهم هم الذين يمتثلون، وفي إنذارهم نفع لهم، أما المشركون والكفار فهم يبلغون من أجل إقامة الحجة عليهم، وأما المؤمنون فإنهم يبلغون من أجل نفعهم بذلك.
"{ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ}" أي: غير الله.
"{وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ}" لا أحد يتولاّهم يوم القيامة من الخلق، و{ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ(34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)}، يوم القيامة ما أحد يسأل عن أحد، قال تعالى: {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}،فـ {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} يوم القيامة ما أحد يلوي على أحد، ولا أحد يسأل عن أحد، بل إن القريب إذا رأى أقرب النّاس إليه يفر منه.
"{وَلا شَفِيعٌ}" أي: واسطة، يتوسط له عند الله، ما أحد يشفع له يوم القيامة إلاّ بإذن الله سبحانه وتعالى، وبشرط أن يكون هذا الشخص ممن يرضى الله عنه، هذه شفاعة منفيّة فبطل أمر هؤلاء الذين يتخذون الشفعاء ويظنون(13/438)
أنهم يخلصونهم يوم القيامة من عذاب الله كما يقول صاحب (البردة):
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذاً ... بيدي فضلاً وإلاَّ قل يا زلّة القدم
هذا على اعتقاد المشركين أن الرسول يأخذ بيده ويخلصه من النار، وهذا ليس بصحيح، لا يخلصه من النار إلاّ الله سبحانه وتعالى إذا كان من أهل الإيمان.(13/439)
ص -242- ... وقوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً}.
وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} هذا تعليل لقوله: "{وَأَنْذِرْ بِهِ}"، من أجل ماذا؟، أي: من أجل أن يتقوا ربهم سبحانه وتعالى، والتقوى معناها: أن يتخذوا ما يقيهم من عذاب الله يوم القيامة، وذلك بالأعمال الصالحة، بفعل الطاعات وترك المحرمات، ولا يقي من عذاب الله يوم القيامة إلاّ التقوى.
فهذا فيه الرد على المشركين الذين يتخذون الشفعاء بيّن الله أنه سيأتي يوم القيامة ولا أحد يشفع لهم كما يزعمون.
قوله: "{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً}" هذه الآية جزء من آية من سورة الزمر، وفي قوله تعالى: { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(44)}.
فقوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} {أَمِ} هنا بمعنى: بل، أي: بل اتخذوا، وهذا من باب الإنكار عليهم.
{اتَّخَذُوا} أي: المشركون.
{مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: غير الله.
{شُفَعَاءَ} أي: وسائط، يتوسّطون بينهم وبين الله في إجابة دعواتهم، وقضاء حاجاتهم.
{قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً} فالشفاعة ليست ملكاً لهم، فأنتم تطلبون منهم ما لا يملكون.
{قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} إذاً تُطلب الشفاعة من الله سبحانه وتعالى، ولم تطلب من غيره.
قال: وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} هذا جزء من آية الكرسي:
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا(13/440)
بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ(13/441)
ص -243- ... وقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الْعَظِيمُ(255)}، وهي أعظم آية في كتاب الله عزّ وجلّ، لماذا صارت أعظم آية في كتاب الله؟، لأنها اشتملت على النفي والإثبات: نفي النقائص عن الله تعالى، وإثبات الكمال لله عزّ وجلّ والشاهد منها قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} {مَنْ} نفي، أي: لا أحد، "{يَشْفَعُ عِنْدَهُ}" أي: عند الله تعالى، {إِلَّا بِإِذْنِهِ} فهو الذي يأذن للشفعاء أن يشفعوا، وبدون إذنه لا يمكن لأحد أن يشفع أبداً، لا الأنبياء، ولا الملائكة، ولا الأولياء، ولا الصالحين، وهذا محل الشاهد؛ أن الشفاعة لا تكون إلاّ بإذن الله، ففي هذا رد على المشركين الذين اتخذوا الشفعاء بدون إذنه سبحانه وتعالى في ذلك، وزعموا أن هؤلاء الشفعاء يقومون بما يريدون منهم عند الله عزّ وجلّ، ولذلك صرفوا لهم العبادة، فصاروا يذبحون للقبور، وينذرون لها، ويطوفون بها، ويتبركون بها، ويتمسحون بترابها، وبجدرانها، يعبدونها من دون الله، لأنهم يقولون: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}، تركوا الله عزّ وجلّ وعبدوا غيره، فعملهم هذا حابط باطل، لأنهم يضعونه في غير محله، وقاسوا الخالق على المخلوق.
ثم ساق رحمه الله آية النجم: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ}، كم هنا بمعنى: كثير، فهي خبريّة، أي: كثير من الملائكة.
{فِي السَّمَاوَاتِ} لأن موطن الملائكة: السماوات، ومع كثرتهم {لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً} هذا نفي، لأن {شَيْئاً}: نَكِرة في سياق النفي، أي: لا تغني شيئاً أبداً إلاّ بشرطين: {إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ} هذا الشرط الأول. {وَيَرْضَى} هذا الشرط الثاني.
ويأذن للشافع أن يشفع، ويرضى عن المشفوع فيه أن(13/442)
يُشفع فيه، وهو المؤمن الموحّد الذي عنده ذنوب يستحق بها العذاب، فإذا أذن الله جل وعلا في الشفاعة فيه، فإنه تنفعه الشفاعة، ويسلم من العذاب بإذن الله عزّ وجلّ.
فدلّ على أن الأمر كله الله سبحانه وتعالى، وتُطلب الشفاعة وغيرها من الله، ولا يُتعلّق على غيره، ولا تُصرف العبادة إلاّ له، ولا يُدعى إلاّ هو سبحانه وتعالى، ولا يجوز اتخاذ(13/443)
ص -244- ... الوسائط بين الخلق وبين الله في قضاء الحاجات وتفريج الكربات وإجابة الدعوات، لا يجوز هذا، وإنما العباد يجب عليهم أن يتوجهوا إلى الله سبحانه وتعالى في عباداتهم، وفي دعواتهم، وفي سائر أمورهم، ومهمّة الرسل هي: التبليغ عن الله سبحانه وتعالى، أما أنهم يكونون وسطاء بين الله وبين خلقه في قضاء الحوائج فهذا أمر باطل، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيميّة: "هناك واسطة من أثبتها كفر، وواسطة من أنكرها كفر" فالواسطة التي من أنكرها كفر: هم الرسل- عليهم الصلاة والسلام- في تبليغ أمر الله سبحانه وتعالى، يعني: من جحد رسالة الرسول كفر، فالرسول واسطة بين الله وبين النَّاس في تبليغ الرسالة، أما الواسطة التي من أثبتها كفر، فهي: جعل الوسائط بين الخلق وبين الله في قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، هذه من أثبتها كفر، لأن الله كفّر المشركين في ذلك، والله جل وعلا أمرنا أن نتوجّه إليه مباشرة بدون أن نوسّط أحداً، أو نسأل بجاه أحد، أو بحق أحد، حتى ولو كان هذا الأحد له مكانة عند الله كالرسل والملائكة لأن الله لم يشرع لنا أن نوسطهم في قضاء حوائجنا، بل الله قال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ما قال: ادعوني بواسطة فلان، أو وسّطوا فلاناً بيني وبينكم، قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، وفي الحديث: "ينزل ربنا سبحانه وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأستجيب له؟، هل من مستغفر فأغفر له؟" فالباب مفتوح بينك وبين الله عزّ وجلّ، لماذا هذا التعريج، وهذه الأباطيل التي تجعلها بينك وبين الله؟، اتصل بالله مباشرة، وهو سميع مجيب: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، فهذا إبطال الوسائط التي يضعونها بينهم وبين الله، ويزعمون أنها تقربهم إلى الله زلفى، لا أصحاب القبور، ولا الأشجار، ولا الأحجار، ولا الأصنام، ولا أي(13/444)
مخلوق حتى ولا الأنبياء ولا الملائكة ليسوا الواسطة بين الله وبين خلقه في قضاء الحاجات غير الأعمال الصالحة أمر منفي، أما الواسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ الرسالات، فهذا أمر ثابت.(13/445)
ص -245- ... وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} الآيتين.
قال أبو العباس: "نفى الله عما سواه كل ما يتعلّق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره مِلْكٌ أو قِسْط منه، أو يكون عوناً لله، ولم يبق إلاَّ الشفاعة، فبيّن أنها لا تنفع إلاّ لمن أذن له الرب، كما قال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم ذكر الشيخ قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ}، وتماماً الآيتين: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ* )وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}.
ثمّ ساقّ رحمه الله كلام شيخ الإسلام ابن تيميّة في توضيح هذه الآية وتفسيرها، وختم به هذا الباب العظيم، الذي هو: "باب الشفاعة".
وقد مضى الكلام في أول الباب وما فيه من آيات وأحاديث وما فيه من تفصيل في أمر الشفاعة، لأن أمر الشفاعة أمر مشكل من قديم الزمان وحديثه، لأن كثيراً - أو جميع- من يقع منهم الشرك في العبادة بدعاء الأولياء والصالحين والموتى إذا سُئلوا وقيل لهم: هذا شرك، قالوا: لا، هذا ليس بشرك، لأننا لم نقصد أن نعبد من دون الله أحداً، لأننا نعلم أن العبادة حق لله، ولكن هؤلاء أناس صالحون لهم مكانة عند الله، ومن العادة أن الإنسان إذا كان له حاجة عند السلطان أو عند الملك أنه لا يتقدم إليه بحاجته مباشرة، لأنه يخشى أن لا يُقبل منه أو لا يُعرف، فحتى لا يُرد طلبه يجعل بينه وبين المطلوب منه واسطة، فهذه الواسطة تشفع له عند من عنده طلب المحتاج. هذا حاصل ما يجيبون به.
وهو جواب باطل، لأن قياس الخالق على المخلوق قياس باطل، لأنّ الله سبحانه وتعالى ينزّه أن يقاس بأحد(13/446)
من خلقه، قال سبحانه: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(74)}، وقال سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، وقال سبحانه وتعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ(4)}، إلى غير ذلك مما بيّن الله سبحانه أنه لا يجوز أن يُقاس بخلقه أو أن يشبّه بخلقه لوجود الفرق(13/447)
ص -246- ... فهذه الشفاعة التي، يظنها المشركون في منتفية يوم القيامة، كما فناها القرآن، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده [لا يبدأ بالشفاعة أوّلاً] ثم يقال له: ارفع رأسك، وقل يُسمع، وسلْ تُعط، واشفع تشفَّع ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العظيم بين الخالق والمخلوق، فإذا كان ملوك الدنيا تسوغ عندهم شفاعة الشافعين بغير إذنهم، فإن الخالق جل وعلا لا تسوغ عنده لأنه أعظم من ذلك، لأن ملوك الدّنيا بحاجة إلى هؤلاء الشفعاء لإعانتهم على أمور الملك، فيشفعونهم من أجل أن يعينوهم على أمور الملك، أو لأن ملوك الدّنيا لا يعلمون أحوال الرعيّة، فهم بحاجة إلى من يبلّغهم، أو لأن ملوك الدّنيا لا يريدون قضاء الحوائج أحياناً، ولا يريدون الرحمة حتى يأتي من الشفعاء من يتكلم معهم، حتى تتأثر قلوبهم بالعطف، وهذه الأمور كلها منتفية عن الله سبحانه وتعالى، فهو ليس بحاجة إلى من يعينه على أمور الملك، لأنه غني كريم، قادر على كل شيء، وليس بحاجة إلى من يبلّغه عن أحوال خلقه، لأنه يعلم كل شيء، وليس بحاجة إلى من يؤثر عليه ويعطفه، لأنه بعباده رؤوف رحيم، يريد لهم الخير، ويريد لهم الإعانة، ويحب العفو والمغفرة، ويجود على خلقه بدون أن يؤثر عليه أحد أو يتوسط عنده أحد، فهذه الأمور كلها منتفية، وبذلك بطلت حجة المشركين، وتبيّن أن فعلهم هذا هو الشرك، سماه الله شركاً في قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}، {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} هذا هو الشرك، وفي الآية الأخرى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، ثمّ توعدهم بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي(13/448)
مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}، فسمّى فعلهم هذا كذباً وسماه كفراً، بل سماه مبالغة في الكفر، لأن كفّار صيغة مبالغة، فالذي يفعل هذا قد بلغ غاية الكفر وأعظم الكفر- والعياذ بالله-.
وفي هذه الآية يقول: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ(22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} هذه الآية والتي بعدها يقول العلماء عنها: إنها قطعت عروق الشرك من أصله.(13/449)
ص -247- ... أما قوله تعالى: {قُلِ} هذا أمر لرسوله محمَّد صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهؤلاء الذين يدعون الملائكة وغيرهم من دون الله ويزعمون أنهم يشفعون لهم عند الله بغير إذنه سبحانه وتعالى، قل لهم يا أيها الرسول، بلّغهم، أخبرهم، بيّن لهم.
{ادْعُوا} هذا أمر توبيخ وتعجيز، لأن الأمر يأتي- أحياناً- للتّوبيخ والتعجيز، لا لطلب الشيء أو تشريع الشيء، كما في قوله: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}، ليس هذا أمراً بالكفر، وإنما هذا أمر توبيخ وتهديد، وإلاّ فالله سبحانه وتعالى لا يأمر بالكفر، وإنما {َفلْيَكْفُرْ} معناه أمر تهديد وتوبيخ وقد يكون الأمر للتعجيز {يَمَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا} هذا أمر تعجيز.
{الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} هذا فيه رد عليهم وذلك لأنهم لتم يبنوا فعلهم هذا حتى دليل من الشرع النازل من عند الله، فالله لم يشرع دعاء غيره أبداً، وإنما أمر بدعائه وحده لا شريك له، فمن دعا غيره فهذا زعم منه، والزعم باطل، وكذلك لم يعتمدوا على دليل عقلي فطري، لأن العقل يدل على أن العبادة لا تكون إلاّ لمستحقها وهو الله سبحانه وتعالى، أما العبد الفقير العاجز، فإنه لا يستحق العبادة، هذا دليل العقل مع دليل الشرع بأن العبادة والدعاء لا يصلحان إلاّ لله سبحانه وتعالى، والزعم معناه: الكذب، دلّ على أنهم كاذبون في عملهم هذا، لأنه إذا لم يكن عليه دليل فهو كذب.
ومعنى: {زَعَمْتُمْ} أي: زعمتم أنهم ينفعون أو يضرون.
{مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: غير الله سبحانه وتعالى.
{لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ(22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}، وذلك أن المدعو لابد أن يتوفر فيه(13/450)
أحد هذه الأحوال:
الحالة الأولى: إما أن يكون مالكاً للمطلوب منه، فأنت إذا طلبت من أحد شيئاً فلابد أن يكون مالكاً له، وهؤلاء المدعوون لا يملكون شيئاً مما يطلب منهم؟ إذاً دعاؤهم باطل، كيف تطلبون من أناس لا يملكون ما تطلبونه منهم فهم: {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} أي: ليس لهم ملك ولو قلّ، والذّرّة معروفة هي أصغر شيء،(13/451)
ص -248- ... إما أنها؛ الهَبَاءَة التي تطير في الهواء، أو أنها: النملة الصغيرة التي لا وزن لها، ودائماً يضرب الله هذا المثل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ(8)}، أقل شيء من الخير والشر: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} فالظلم منتفٍ عن الله سبحانه وتعالى قليله وكثيره، إذاً كيف تدعونهم وتطلبونهم وهم لا يملكون ما تدعونهم له وتطلبونه منهم؟، هذا من العبث، كيف تُعرضون عن الذي يملك السماوات والأرض ومن فيها، وهو الله، وتنصرفون إلى دعاء من لا يملك شيئاً، {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ}.
الحالة الثانية: إذا لم يكن مالكاً فلا أقل من أن يكون شريكاً للمالك، وهذا منتفٍ في حق الخلق، لأنهم لا يشاركون الله في ملكه: {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، فلا أحد يشارك الله في ملك السماوات والأرض أبداً، لا الملائكة، ولا الأنبياء، ولا الأولياء، الملك لله.
الحالة الثالثة: إذا لم يكن مالكاً للشيء ولا شريكاً فيه فربما يكون معيناً للمالك، وإذا كان معيناً للمالك جاز أن يستشفع به إليه، والله نفى هذا وقال: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} لا أحد يعين الله من خلقه، لم يتخذ من خلقه من يعينه على تدبير خلقه سبحانه وتعالى، انفرد بخلق السماوات والأرض، وخلق المخلوقات، ولم يتخذ من يعينه على ذلك، لأنه قادر سبحانه وتعالى على كل شيء.
الحالة الرابعة: قد يكون شفيعاً عند المالك مثل ما يشفع الناس عند الملوك، وهم ليسوا ملوكاً، وليسوا شركاء للملوك، وليسوا وزراء للملوك وأعواناً، لكنهم شفعاء، يأتي ذو جاه ومكانة فيدخل على السلطان ويشفع عنده، وهو ليس معيناً له ولا شريكاً له، هذا جائز في حق المخلوقين، لكن في حق الخالق لا يجوز، لأن الشفاعة لا تكون(13/452)
إلاّ بإذنه {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ} أي: عند الله {إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}، هذا بخلاف المخلوقين، قد يشفع عندهم بدون أن يأذنوا، وهل الله أذن في الشفاعة في المشركين من المستحيل أن تقع، الشفاعة في مشرك أو كافر.
قال سبحانه وتعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ(48)}، {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ}، إذاً بطلت شفاعتهم من كل الوجوه الأربعة، فهي شفاعة باطلة، وإنما(13/453)
ص -249- ... وقال أبو هريرة له صلى الله عليه وسلم: من أسعد النّاس بشفاعتك؟، قال: "من قال: لا إله إلاّ الله؛ خالصاً من قلبه".
فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشفاعة الصحيحة هي الشفاعة التي يتوفر فيها شرطان: الشرط الأول: أن تكون بإذن الله. الشرط الثاني: أن تكون في أهل التّوحيد والإخلاص.
وفي حديث أبي هريرة لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أسعد النّاس بشفاعتك يا رسول الله؟، قال: "لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الحديث غيرك يا أبا هريرة لما أرى من حرصك على الحديث، أسعد النّاس بشفاعتي: من قال: لا إله إلاّ الله؛ خالصاً من قلبه".
فدلّ هذا الحديث على أن شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد إذن الله تعالى بها لا تكون إلاّ لأهل الإخلاص، لا تكون لأهل الشرك، وأهل الإخلاص هم: "من قال: لا إله إلاّ الله " أي: تلفّظ بها، "خالصاً من قلبه" لم يقلها بلسانه فقط، وإنما قالها عارفاً لمعناها، عاملاً بمقتضاها، معتقداً لها بقلبه.
أما الذي يقول: لا إله إلاّ الله، وهو لا يعرف معناها، ولا ما تدل عليه، أو يعرف معناها، ولكنه لا يعتقدها بقلبه، كحال المنافقين، فهذا لا تنفعه لا إله إلاّ الله، وليس له شفاعة عند الله سبحانه وتعالى، إنما الشفاعة لأهل الإخلاص، وهم الذين ينطقون بهذه الكلمة مخلصين لله عزّ وجلّ في قلوبهم ما تدل عليه هذه الكلمة من إفراد الله تعالى بالعبادة.
فدلّ هذا على أنه لا حظ لأهل الشرك في الشفاعة.
إذاً كل هؤلاء المشركون القدامى والمحدثون، هؤلاء الذين يأتون إلى القبور، ويجثون عندها على ركبهم، ويتمرّغون بجباههم على ترابها، ويذبحون لها، وينذرون لها، ويتمسحون بها، ويقولون: هؤلاء أولياء يشفعون لنا عند الله. هؤلاء كلهم محرومون من هذه الشفاعة، وفعلهم هذا تعب بلا فائدة، وضرر بلا منفعة، لأن هذا هو عين فعل المشركين السابقين.(13/454)
ص -250- ... وحقيقته: أن الله سبحانه يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع؛ ليُكرمه وينال المقام المحمود.
فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أُثبتت الشفاعة بإذنه مواضع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والآية: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، عامة في الملائكة، وفي الأولياء، والصالحين، وغيرهم، كل من دُعي من دون الله عزّ وجلّ، فهو بهذه المثابة، لا يملك شيئاً ولا مثقال ذرة، ولا يشارك المالك، وليس هو ظهير للمالك، وليس هو شفيع عند المالك بشفاعة أهل الشرك، وأهل عبادة القبور، والأضرحة، والأشجار، والأحجار، والأصنام، وغيرها، هؤلاء لا حظ لهم في الشفاعة، كل هؤلاء القطعان الضائعة، هؤلاء الذين يأتون إلى هذه الأضرحة، وينفقون الأموال، ويضيعون الأوقات، كلهم لا حظ لهم في الشفاعة عند الله سبحانه وتعالى، وإنما الشفاعة لأهل التّوحيد.
والسبب في جعل الله سبحانه وتعالى هذه الشفاعة أنها إكرام للشافع، يأذن الله لمن شاء من عباده أن يشفع إكراماً له، مثل ما يحصل لمحمد صلى الله عليه وسلم في المقام المحمود، إكراماً له صلى الله عليه وسلم، ورحمة للمشفوع فيه إذا كان من أهل الشفاعة والرحمة، هذا هو الحكمة في جعل الله هذه الشفاعة، فالأمر لله سبحانه وتعالى.
وبهذا يتبيّن لنا معنى الآيتين الكريمتين مع بيان شيخ الإسلام ابن تيمية بهذا الكلام الواضح.
وأبو العباس كنية شيخ الإسلام ابن تيمية، واسمه: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني، الحنبلي، الإمام المشهور. وليس له ولد.
وإنما يكنى أبا العباس من باب التكريم له، ويجوز أن يكنى الإنسان ولو لم يكن له ولد.
فالحاصل؛ أن هذه الآية الكريمة قد أبطلت ما يعتقده المشركون في معبوداتهم، وردّت عليهم ردًّا مفحماً: هل يستطيع المشركون أن يقولوا: إن معبوداتنا هذه تملك في السماوات أو في الأرض شيئاً؟(13/455)
لا يستطيعون.(13/456)
ص -251- ... وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلاّ لأهل الإخلاص والتّوحيد". انتهى كلامه رحمه الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هل يستطيعون أن يقولوا: إنها شريكة لله؟، لا يستطيعون.
هل يستطيعون أن يقولوا: إنها تعين الله في تدبير الملك؟، لا يستطيعون.
هل يستطيعون أن يقولوا إنها تشفع عند الله بغير إذنه؟، لا يستطيعون.
هل يستطيعون أن يقولوا: إن الشفاعة تنفع المشركين وتنفع الكفار؟ لا يستطيعون. كل هذا لا يستطيعونه أبداً.
هل أحد منهم عارض هذه الآية، وقال: إن معبوداتنا تملك، أو أنها شريكة لله، أو أنها معينة لله، أو أنها تشفع عنده بغير إذنه؟، ما أحد يستطيع أن يعارض كلام الله سبحانه وتعالى، لأن كلام الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، ولكن إذ عميت البصائر، وصار الناس يعملون على حسب أهوائهم، وحسب التقاليد الفاسدة؛ حينئذٍ يقعون في المهالك، يقعون فيما وقعوا فيه.
ولو سألت أي خرافي أو أي مشرك من عباد الأضرحة قلت له: أجب عن هذه الآيات؟. ما استطاع الجواب. وإذا لم يستطع الجواب، تبيّن أنه مكابر، وأن عمله باطل.
كان الواجب على من يدّعي الإسلام، ويشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله؛ الواجب أن يرجع إلى القرآن، وأن يتدبرّ القرآن، وأن يعمل به، وأن يراجع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعمل بها، ولا يذهب مع التقاليد الفاسدة، أو يتبع ما كان عليه الناس، أو الدعاوى الباطلة أن هذه القبور تنفع، أو أن هؤلاء الأموات ينفعون من دعاهم، أو من تقرّب إليهم، هذا كله إذا عُرِضَ على الكتاب والسنّة تبيّن بطلانه.
نعم، قد يقع لهؤلاء الذين يدعون الأولياء أو القبور أن تحصل لهم حاجاتهم التي طلبوها، لكن هذا لا يدل على صحة ما هم عليه، لأنهم قد يُعطون ما طلبوا من باب الفتنة، ومن باب الاستدراج، أو أنه يصادف ذلك قضاءً وقدراً من الله سبحانه وتعالى(13/457)
ص -252- ... في إعطائهم هذا الشيء، فيظنون أنه بسبب القبور، وهو في الواقع بقضاء الله وقدره، فحصول المطلوب لا يدل على صحة الطلب، إنما الاحتجاج يكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا بالعادات، والتقاليد، والحكايات، والمنامات، والخرافات، أو أن فلاناً قد حصل له كذا، فلان ذهب إلى القبر الفلاني، فلانة ذهبت إلى القبر الفلاني فحملت، هذا ليس بدليل أبداً، لأن إعطاء الإنسان شيئاً مما يحتاج إليه، لا يدل على صحة ما ذهب إليه، أو ما فعل من الشرك والعادات السيئة.
يقول شيخ الإسلام: "قد يرون عند القبور أو يسمعون عند القبور من يكلمهم، أو يخرج عليهم من القبر ويقول: أنا فلان الذي تطلب، وأنا أقضي حاجتك. يتمثل لهم الشيطان، ليس هو الميت، وإنما هو الشيطان، يتمثل لهم بصورة الميت، ويخاطبهم، وقد يجلب لهم شيئاً مما يطلبون من بعيد، وهو شيطان يريد أن يضلهم، ويريد أن يهلكهم، وأن يغرر بهم".
فحصول المقصود لا يدل على صحة العمل، وكذلك كونهم يشاهدون الشخص الذي بصورة الميت، أو يسمعون كلاماً يكلمهم، كل هذا ليس بحجة، لأن هذه أعمال شيطانية، يتمثل لهم الشيطان في صورة الميت، أو يكلمهم بصوت الميت، أو هو شيطان يريد أن يضلهم عن سبيل الله، أو يعطيهم بعض الحوائج، لأن الشيطان يستطيع أن يسير إلى الأمكنة البعيدة، وحمل الأشياء والمجيء بها، وتحضيرها، والجن يتعاونون على هذا الشيء ويحضرون مطلوب هؤلاء، ويعطونهم إياه.
الحاصل؛ أنها كلها أعمال شيطانية، لأنها مخالفة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه من البلايا، يعني: كونهم يحتجّون بأن فلاناً شفي لما ذهب إلى القبر، فلانة حملت لما ذهبت إلى القبر، فلان أعطي كذا وكذا، وهذا ليس بحجة أبداً. هذا فتنة وابتلاء وامتحان، وهو من أعمال الشياطين.
قد يقولون: إنه رأى الميّت في الرؤيا، وأنه قال له كذا وكذا، والرؤيا هذه من الشيطان، الشيطان قد يأتي النائم ويكلمه، أو يتمثل له(13/458)
بصورة من يعرف من الأموات، يأتيه في الرؤيا وهو شيطان، لأنه ليس كل رؤيا تكون صحيحة، الرؤيا على ثلاثة أقسام:(13/459)
ص -253- ... رؤياً هي حديث نفس، وأضغاث أحلام، لا أصل لها.
والقسم الثاني: من الشيطان، جاءه فقال له في الرؤيا: اعمل كذا، أو اطلب كذا، أو اذهب إلى كذا، وهي رؤيا شيطانية، خصوصاً إذا كان الإنسان نام على غير ورد؛ لم يقرأ آية الكرسي عند النوم، ولم يقرأ سورة الإخلاص والمعوذتين عند النوم، فإنه يتسلط عليه الشيطان من أجل أن يضله، أو من أجل أن يكدّر عليه نومه، ويزعجه، لأنه يأتيه بمزعجات، يرى أشياء يكرهها.
القسم الثالث: هي الرؤيا الصحيحة، وهي التي تجري على يد المَلَك، هذه الرؤيا الصحيحة وليس فيها تضليل، وإنما فيها خير، وهي جزء من النبوّة- كما في الحديث-، وهي من المبشرات، لكن هذه لا تحصل إلاّ لأهل الإيمان في الغالب، وقد تحصل الرؤيا للكفار لحكمة يريدها الله سبحانه وتعالى، كما حصلت للملك في قصة يوسف عليه السلام، والملك كان كافراً، هذه رؤيا صحيحة جرت لكافر لأمر أراد الله، وهو: الإرهاص ليوسف عليه السلام من أجل أن يكرمه الله بتأويل هذه الرؤيا، ويتبيّن عمله وفضله، ثمّ يُخرج من السجن، ثمّ يصل إلى درجة المُلك.
الحاصل؛ أن الرؤيا، لا يُعتمد عليها في العبادات لأن العبادات ولاسيّما التّوحيد- لا يُبنى إلاَّ على دليل من كتاب الله أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو إجماع المسلمين، أما المنامات والرؤى والحكايات هذه كلها لا تُبنى عليها الأحكام الشرعية.
لو جاءك واحد في الرؤيا وقال لك: صلِّ كذا وكذا من الصلوات، أو صُم، لم يجز العمل بهذه الرؤيا، لأن التشريع انتهى، ما هناك دليل إلاّ من الكتاب أو السنّة، فليس هناك تشريع بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولاسيّما في أمور التّوحيد، وأمور العقيدة، فهؤلاء الذين شرّعوا في أمور العقيدة، فبنوا الأضرحة على القبور، والرسول ينهى عن ذلك، وطافوا بها، وتقربوا إليها، كل هذا مناف للكتاب والسنّة، لأن الله سبحانه وتعالى لم يشرَع لنا هذه الشركيّات، وهذه الخرافات،(13/460)
وهذه البِدْعيّات والمحدثات.(13/461)
ص -254- ... [الباب الثامن عشر:] *باب قول الله تعالى
{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}الآية.
وفي الصحيح عن ابن المسيّب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
غرض المصنّف رحمه الله من عقد هذا الباب: الردّ على الذين غلو في النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى المشركين الذين يتعلّقون بالأولياء والصالحين، يدعونهم من دون الله، ويستغيثون بهم، لأنه إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يملك لعمه أبي طالب شيئاً، وأنه نُهي عن الاستغفار له، ففي حق غير النبي صلى الله عليه وسلم من باب أولى، فدلّ ذلك على أنه صلى الله عليه وسلم لا يُدعى من دون الله، ولا يُطلب منه شيء من الأمور التي لا يقدر عليها إلاّ الله، لأنه لم يملك هذا لعمه أبي طالب مع حرصه على نفعه، وعاتبه الله بقوله: "{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}"، وبقوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}، فإذا كان هذا في حق النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أفضل الخلق، دلّ على أنه لا يُدعى من دون الله، ولا يُطلب منه شيء من الأمور التي لا يقدر عليها إلاّ الله، فغيره من باب أولى من الأولياء، والصالحين، وأصحاب الأضرحة، مهما بلغوا من الصلاح، ومهما بلغوا من المكانة في الدين، فإنهم لا يُطلب منهم إلاّ ما يقدرون عليه من أمور الدنيا، إذا كانوا على قيد الحياة، أما أمور الهداية، وأمور قضاء الحاجات التي لا يقدر عليها إلاّ الله من شفاء المرضى، وإنزال المطر، وجلب الأرزاق، وإعطاء الأولاد، هذا كله لا يُطلب إلاّ من الله سبحانه وتعالى، ولا يطلب من غير الله، لا من نبي، ولا من ولي، ولا من أي مخلوق، ومن طلبه من غير الله فهو مشرك الشرك الأكبر المخرج من الملّة.
فهذا غرض المصنّف رحمه الله من عقد هذا الباب.
قال: "في الصحيح" يعني: في الصحيحين صحيح البخاريّ وصحيح مسلم.
"عن ابن المسيّب" هو:(13/462)
سعيد بن المسيّب بن حَزَن بن أبي وهب المخزومي، أحد أكابر التابعين، وكان له منزلة في العلم عظيمة، فهو من أكبر علماء التابعين، وهو أحد الفقهاء السبعة الذين انتهت إليهم الفتوى في الدّنيا في زمانهم.(13/463)
ص -255- ... الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أبي أمية، وأبو جهل، فقال له: "يا عم، قل: لا إله إلاّ الله؛ كلمة أحاجّ لك بها عند الله".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأبوه المسيّب بن حَزَن، صحابي، وجده الحَزَن- أيضاً- صحابي، فهو من كبار التابعين، وأبوه وجده صحابيّان.
"عن أبيه" المسيّب.
"قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة" معناه: قارب الوفاة، وليس المراد أنه نزل به الموت، لأنه إذا نزل الموت بالمحتضر، وبلغت الروح الغرغرة لا تُقبل منه توبة، كما جاء في الحديث: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر" فالمراد بهذا- والله أعلم- أنه لما حضرته الوفاة وظهرت عليه علامات الموت قبل أن تبلغ روحه الغرغرة، وقبل أن يأتي الوقت الذي لا تُقبل منه التوبة. ويَحتمل أنه حضرته الوفاة يعني: بلغ نزع الروح، فيكون هذا خاصًّا بأبي طالب، وأما غيره فإذا وصل إلى هذا الحد فإنه لا تُقبل منه توبة. والله اعلم.
وأبو طالب هو: أبو طالب بن عبد المطّلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم، كَفَل الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موت جدّه عبد المطّلب، وبقي أبو طالب حول الرسول صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعد البعثة، يدافع عنه، ويحميه، إلى سنة ثمان من البعثة، وهو لم يفارقه، يدافع عنه، ويحميه من أذى قومه، ويصبر معه على مضايقات المشركين، وبذل معه شيئاً كثيراً، وحرص النبي صلى الله عليه وسلم على هدايته، لعلّ الله أن ينقذه من النار، ومن ذلك أنه لما حضرته الوفاة جاء إليه، وهذا من حرصه صلى الله عليه وسلم على الدعوة إلى الله خصوصاً مع أقاربه، ففيه حرصه صلى الله عليه وسلم على الدعوة إلى الله، وصبره على ذلك.
"وعنده عبد الله بن أبي أمية المخزومي، وأبو جهل" المخزومي، أما عبد الله بن أبي أمية فقد منّ الله عليه بالإسلام فأسلم، وأما أبو جهل عمرو بن هشام - قبّحه الله- فهذا ألدّ أعداء الإسلام، وأعظم الذين آذوا رسول(13/464)
الله صلى الله عليه وسلم، وسمّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فرعون هذه الأمّة"، وقُتل يوم بدر، وهو الذي قاد المشركين إلى بدر، وهو الذي حرّضهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقُتل مع صناديد قريش في غزوة بدر كافراً- والعياذ بالله-.(13/465)
ص -256- ... فقالا له: أترغب عن ملّة عبد المطلب؟، فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فأعادا، فكان آخر ما قال: هو على ملّة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلاّ الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"فقال له" أي: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب.
"يا عم" هذا فمه استعطاف.
"قل: لا إله إلاّ الله" يعني: انطق بهذه الكلمة، معتقداً لها بقلبك.
"كلمة أحاج لك بها عند الله" "كلمة" منصوب على أنه بدل من: لا إله إلاّ الله، لأن لا إله إلاّ الله في محل نصب، مقول القول، وكلمة بدل منها، وبدل المنصوب منصوب، لأنه أحد التوابع الأربع.
"أحاج لك بها عند الله" يعني: أشهد لك بها عند الله يوم القيامة، من أجل نجاتك من النار، و"أحاج" مجزوم على أنه جواب الأمر، وحرّك بالفتح من أجل التقاء الساكنين، وإلاّ أصله: أحاجج، فأدغمت الجيم في الجيم فصارت أحاج، التقى ساكنان، فحرّك بالفتح للتخلّص من التقاء الساكنين.
بيّن له صلى الله عليه وسلم فائدة ذلك، ترغيباً له.
ففيه أن الداعية إلى الله يبيّن للناس الترغيب، يرغّبهم في الخير، ويبيّن لهم العواقب الحسنة إن استجابوا، ويحذرهم من العواقب الوخيمة إن لم يستجيبوا، فالداعية يبشر وينذر.
ولكن جلساء السوء- والعياذ بالله- تسببوا في شقاوة هذا الرجل: "فقالا له" قال: أبو جهل وعبد الله بن أمية لأبي طالب معارضين لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "أترغب عن ملة عبد المطّلب؟" أي: أتترك ملّة أبيك؟، وهذا من إثارة النخوة الجاهلية، والحميّة الجاهلية، وهي: التعصّب الممقوت، وأتيا بالحجة الملعونة، وهي: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ}، وهذه يحتج بها المشركون، إذا جاءتهم الرسل قالوا: نحن وجدنا آباءنا على هذا، لا نقدر أن نترك دين آبائنا ونتبعكم. وفرعون لما جاءه موسى وهارون عليهما السلام قال: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى}، يحتج عليهم بما كانت عليه القرون الأولى(13/466)
من الكفر والشرك، فهي حجة مطّردة عند المشركين، الاحتجاج بما عليه النّاس، والآباء، والأجداد، وهذه الحجة حالت بين كثير من النّاس وبين الإيمان- والعياذ بالله- إلاّ من هداه الله.(13/467)
ص -257- ... فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" فأنزل الله سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}.
وأنزل الله في أبي طالب: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"فأعاد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم" هذا فيه: أن الداعية لا ييأس، أي: طلب منه أن يقول: لا إله إلاّ الله.
"فأعادا عليه" أعاد عليه الرّجلان، قولتهم القبيحة: "أترغب عن ملّة عبد المطّلب؟".
فعند ذلك أخذته الحميّة الجاهلية، فقال: "هو على ملة عبد المطلّب".
"هو" هذا ضمير الغائب، يَحتمل أن الرّاوي صرفه، ولم يقل: أنا، من باب كراهة هذا اللّفظ.
وجاء في بعض الروايات:"أنا على ملّة عبد المطلب".
"وأبى أن يقول: لا إله إلاّ الله" ومات- والعياذ بالله- على الشرك.
فعند ذلك النبي صلى الله عليه وسلم من شفقته على عمه، ولما رأى أنه مات على الشرك، وكان منه في حياته من النُّصرة والتأييد قال: "لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك" هذا كله من كمال شفقته صلى الله عليه وسلم، ومن مجازاته على المعروف، ووفائه صلى الله عليه وسلم.
"فأنزل الله سبحانه: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}" نهاه الله عن ذلك، ونهى المؤمنين، لأن المسلمين لما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لعمّه قالوا: إذاً نستغفر لموتانا، فأنزل الله هذه الآية.
{مَا كَانَ} أي: لا يليق ولا ينبغي، وهذا خبر معناه: النهي والتحذير.
"{لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}" المشرك لا يجوز الاستغفار له ولا التّرحّم عليه إذا مات على الشرك، وكذلك في حالة الحياة فالمشرك لا يستغفر له وهو حي، ولا يُترحّم عليه، وإنما يطلب له الهداية، يُقال: اللهم اهده، أما الاستغفار(13/468)
والترحّم فإنه لا يجوز للمشركين، لا أحياءً ولا أمواتاً، لأنه لا تجوز محبتهم وموالاتهم ما داموا على الشرك، وإبراهيم عليه السلام استغفر لأبيه لأنه وعده أن يستغفر له، {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}.
"وأنزل الله في أبي طالب: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}" {إِنَّكَ} أيها الرسول،(13/469)
ص -258- ... {لا تَهْدِي} لا تملك هداية "{مَنْ أَحْبَبْتَ}" من أقاربك وعمك، والمراد بالمحبة هنا: المحبة الطبيعية، ليست المحبة الدينيّة، فالمحبة الدينيّة لا تجوز للمشرك، ولو كان أقرب الناس: { لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}، فالمودة الدينيّة لا تجوز، أما الحب الطبيعي فهذا لا يدخل في الأمور الدينيّة.
{وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} فنفى سبحانه وتعالى عن نبيه محمَّد صلى الله عليه وسلم أنه يملك الهداية لأحد، كما قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}، قال سبحانه: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ(103)}.
فإن قلت: أليس الله جل وعلا قال في الآية الأخرى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، فأثبت في هذه الآية أن الرسول يهدي إلى صراط مستقيم؟.
فالجواب عن ذلك: أن الهداية هدايتان: هداية يملكها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهداية لا يملكها.
أما الهداية التي يملكها الرسول فهي: هداية الإرشاد والدعوة والبيان ويملكها كل عالم يدعو إلى الخير.
أما الهداية المنفيّة فهي: هداية القلوب، وإدخال الإيمان في القلوب، فهذه لا يملكها أحد إلاّ الله سبحانه وتعالى.
فنحن علينا الدعوة، وهداية الإرشاد والإبلاغ، أما هداية القلوب فهذه بيد الله سبحانه وتعالى، لا أحد يستطيع أن يوجد الإيمان في قلب أحد إلاّ الله عزّ وجلّ، هذا هو الجواب عن الآيتين الكريمتين.
{وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} فلا يضع هداية القلب إلاّ فيمن يستحقّها، أما الذي لا يستحقّها فإن الله يحرمه منها، والله عليم حكيم جلّ وعلا، ما يُعطي هداية القلب لكل أحد، وإنما يُعطيها سبحانه من(13/470)
يعلم أنه يستحقّها، وأنه أهل لها، أما الذي يعلم منه أنه ليس أهلا لها، ولا يستحقّها، فإن الله يحرمه منها، ومن ذلك حرمان أبي طالب، حرمه الله من الهداية لأنه لا يستحقّها، فلذلك حرمه منها، والحرمان له أسباب:
ومنها: التعصّب للباطل، وحميّة الجاهلية تسبّبان أن الإنسان لا يوفّقه الله جل(13/471)
ص -259- ... وعلا، فمن تبيّن له الحق ولم يقبله فإنه يعاقب بالحرمان -والعياذ بالله-، يعاقب بالزّيغ والضلال، ولا يقبل الحق بعد ذلك، فهذا فيه الحثّ على أن من بلغه الحق وجب عليه أن يقبله مباشرة، ولا يتلكّأ ولا يتأخر، لأنه إن تأخر فحريّ أن يُحرم منه: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}، {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}.
وهذا الحديث مع الآية يدلان على مسائل عظيمة:
المسألة الأولى: فيه مشروعية الدعوة إلى الله عزّ وجلّ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أتى عمه وهو في سياق الموت، من أجل ماذا؟، من أجل الدعوة إلى الله عزّ وجلّ، ففيه: الدعوة إلى الله، وأن الداعية لا ييأس، ولا يقنط من القبول، أو يكسل عن مواصلة الدعوة، ويقول: النّاس ما هم بقابلين، النّاس ما فيهم خير، الإنسان يدعو إلى الله، من قَبِل فالحمد لله، ومن لم يقبل قامت عليه الحجّة، وحصل الأجر للداعية.
المسألة الثانية: في الحديث دليل على مشروعية عيادة المريض المشرك من أجل دعوته إلى الله عزّ وجلّ، فإن الرسول عاد عمه وهو مشرك من أجل دعوته إلى الله.
المسألة الثالثة: - وهي مهمة جدًّا-: أن من قال: لا إله إلاّ الله فإنه يُقبل منه، ويُحكم بإسلامه، ما لم يظهر منه ما يُناقض هذه الكلمة من قول أو فعل، فإن ظهر منه ما يناقض هذه الكلمة حُكم بردّته، أما ما لم يظهر منه ما يناقض هذه الكلمة، فإنه يُحكم بإسلامه، فإن كان صادقاً فيما بينه وبين الله، فهو مسلم حقًّا، وإن كان كاذباً فيما بينه وبين الله فهو منافق، أمره إلى الله عزّ وجلّ، أما نحن فليس لنا إلاّ الظاهر.
المسألة الرابعة: في الحديث دليل على أن الأعمال بالخواتيم، فأبو طالب عاش على الكفر والشرك، لكنه لو قال: لا إله إلاّ الله عند الوفاة، واستجاب للرسول صلى الله عليه وسلم لختم له بالإسلام، فدلّ على أن الأعمال بالخواتيم، وهذا يصدقه قول(13/472)
الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن مسعود: "إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وان أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" فالأعمال بالخواتيم.(13/473)
ص -260- ... المسألة الخامسة: فيه التحذير من جلساء السوء، ماذا جرّ على أبي طالب هؤلاء الجلساء، ومات على الكفر بسبب مشورتهما- والعياذ بالله-.
المسألة السادسة: في الحديث ردٌّ على من زعم إسلام أبي طالب من الشيعة والخرافيين لأن آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلاّ الله.
المسألة السابعة: وهي عظيمة جدًّا: تفسير لا إله إلاّ الله كما يقول الشيخ رحمه الله، وأن معناها: ترك عبادة غير الله، لأن أبا جهل وزميله فهما أنه إذا قال: لا إله إلاّ الله فقد ترك ملّة عبد المطّلب، وأن لا إله إلاّ الله ليست مجرّد كلمة تُقال، وإنما هي كفر بالطّاغوت وإيمان بالله عزّ وجلّ، بخلاف ما يعتقده كثير من الخرافيين في هذا الزمان، يقولون: لا إله إلاّ الله، ويقولون: يا حسين، ويا فلان، ويذبحون للموتى، ويستغيثون بهم، وهم يقولون: لا إله إلاّ الله!!، بل لهم أوراد صباحية ومسائية يقولونها بالمئات، ثم يذبحون للضريح ويطوفون به، ويستغيثون به.
فدلّ على أن أبا جهل أفهم منهم بمعنى لا إله إلاّ الله، لأن أبا جهل فهم أن معنى لا إله إلاّ الله: ترك عبادة الأوثان، وهؤلاء ما فهموا هذا، ما فهموا أن لا إله إلاّ الله معناها؛ ترك عبادة القبور، وهذا من الفقه العظيم، وهذه هي العقيدة الصحيحة، والداعي إلى الله يجب أن يفهم هذا الفقه، لأن هذا هو فقه الدعوة.
المسألة الثامنة: فيه الردّ على المرجئة، الذين يقولون: إن الإيمان هو مجرّد المعرفة أو الاعتقاد، فإذا عرف الإنسان بقلبه أو اعتقد أنه لا إله إلاّ الله وأن محمّداً رسول الله، ولو لم يعمل؛ فإنه يكون مسلماً، لأن الأعمال ليست شرطاً في الإيمان، بل مجرّد المعرفة أو الاعتقاد بالقلب يكفي عندهم، وهذا باطل، لأنها لم تعتبر معرفة أبي طالب لرسالة النبي صلى الله عليه وسلم، لم تعتبر إسلاماً، والله تعالى قال عن المشركين: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ(13/474)
بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}، فهم يعرفون أنه رسول الله، لكن الكبر والحمية الجاهلية، جعلتهم لا يقبلون الدعوة، مع أنهم يعرفونها بقلوبهم، والله جل وعلا حكى عن موسى عليه السلام أنه قال لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا(13/475)
ص -261- ... رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، ففرعون عارف بقلبه صحّة ما جاء به موسى، ولكن منعه الكبر والمعاندة، وقال تعالى عن المشركين: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً}، وأيضاً قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ}، فاليهود يعرفون أنه رسول الله - أيضاً- كما قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} يعرفون أنه رسول الله.
وكان أبو طالب يعرف أنه رسول الله، وصرّح بهذا في قصائده، يقول:
"ولقد علمت أن دين محمَّد ... من خير أديان البرية ديناً
لو لا الملامة أو حذار مسبة ... لرأيتني سمحاً بذاك مبيناً"(13/476)
فالذي منعه هو ما جاء في هذا الحديث: أبى أن يقول: لا إله إلاّ الله وقال: "وهو على ملّة عبد المطلب"، وهو يعرف أنه رسول الله.
المسألة التاسعة: فيه تحريم الاستغفار للمشركين، والترحّم عليهم، وموالاتهم، ومحبتهم، لأن الله جل وعلا يقول: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ(113)}.
المسألة العاشرة: فيه التحذير من التعصّب لدين الآباء والأجداد إذا كان يخالف ما جاءت به الرسل، فإن الذي حمل أبا طالب على ما وقع فيه هو التعصّب لدين عبد المطّلب، وأنه سبب لسوء الخاتمة- والعياذ بالله-، فليحذر المسلم من هذا. الواجب على المسلم أن يقبل الحق ولو خالف ما عليه آباؤه وأجداده، أما إذا كان آباؤه وأجداده على حق، فأتباعهم حق، ويوسف عليه السلام يقول: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ}.
فإتباع الآباء والأجداد على الحق مشروع.(13/477)
ص -262- ... المسألة الحادية عشرة: وهي المقصودة بالذات من عقد هذا الباب، وهي: الردّ على المشركين الذين يتعلّقون بالأولياء والصالحين، ويدعونهم من دون الله، لأنه إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يملك لعمه أبي طالب الهداية فغيره من باب أولى، وهذه هي المناسبة للتّرجمة.
والله تعالى أعلم.(13/478)
ص -263- ... [الباب التاسع عشر:]
*باب ما جاء في أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين
وقوا الله عزّ وجلّ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الشيخ رحمه الله: "باب ما جاء" يعني: ما ورد من الأدلة من أن "سبب كفر بني آدم" السبب في اللغة: ما يُتوصّل به إلى الشيء، ولذلك سمّي الحبل سبباً، قال تعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} يعني: فليمدد بحبل إلى السماء. أما السبب عند الأصوليين فهو: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته.
"كفر بني آدم" يعني : كفرهم بالله عزّ وجلّ.
"وتركهم" بالجر عطفاً على كفر المضاف إليه، لأن المعطوف على المجرور مجرور.
"دينهم" دينهم منصوب على المفعوليّة، لأن المصدر إذا أضيف أو دخلت عليه "ألـ" فإنه يعمل عمل فعله.
"هو الغلو في الصالحين" الغلو في اللغة: هو الزيادة عن الحد، يقال:. غلى القدر إذا زاد ومنه يقال: غلى السعر؛ إذا زاد في الأسواق، فالغلو في اللغة: هو الزيادة عن الحد.
أما في الشرع: هو الزيادة عن الحد المشروع، يسمّى غلوًّا، ويسمّى طُغياناً.
والغلو في الصالحين، هو: الزيادة في مدحهم، ورفعهم فوق مكانتهم؛ بأن يُجعل لهم شيءٌ من العبادة.
قال: "وقول الله عزّ وجلّ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}" المراد بأهل الكتاب: اليهود والنصارى، سُمّوا بأهل الكتاب: لأن الله سبحانه أنزل على أنبيائهم الكتب. اليهود أنزل الله على نبيهم موسى عليه السلام التوراة. والنصارى أنزل الله على نبيهم عيسى- عليه الصلاة والسلام- الإنجيل، فلذلك سُمّوا أهل الكتاب فَرْقاً بينهم وبين الأُميّيّن والوثنيّين الذين لا كتاب لهم.(13/479)
ص -264- ... وهذا فيه تنبيه على أن المطلوب منهم أن يتقيّدوا بالكتاب الذي أنزل عليهم، وعدم مجاوزته، وهو تنبيه لكل عالم بأن يلتزم الاعتدال.
"{لا تَغْلُوا}" هذا نهي من الله تعالى لهم عن الغلو، لأن الغلو أن يكون في شخص، أو يكون في دين.
والغلو في الشخص هو: المبالغة في مدحه، ورفعه فوق منزلته التي أنزله الله فيها.
وأما الغلو في الدين فهو: الزيادة عن الحد المشروع في العبادات، في مقاديرها، أو في كيفيّتها، كما في قصة الثلاثة الذي جاءوا يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا بها كأنهم تقالّوها، ولكنهم قالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر؟، فقال أحدهم: أما أنا فأصلي ولا أنام، قال الآخر: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الثالث: أما أنا فلا أتزوج النساء [يعني: يتبتّل]، وفي رواية: لا أكل اللحم [من باب التّقشّف وحِرمان النفس]. هذا غلو أيضاً، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟، أما والله إني لأرجو أن أكون أعرفكم بالله عزّ وجلّ، وأخشاكم لله، وإني أصلّي وأنام، أصوم وأفطر، وأتزوّج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس منّي"، هذا غلو نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمر بالتّوسّط وعدم الغلو.
ولما لُقطت له- عليه الصلاة والسلام - حصى الجمار أمثال حصى الخَذْف - يعني: أكبر من الحِمَّص بقليل- أخذها صلى الله عليه وسلم في كفّه وقال: "أمثال هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو".
واليهود والنصارى غلو في أنبيائهم، وغلو في دينهم- أيضاً-، غلو في أنبيائهم، حيث قالت النصارى للمسيح: ابن الله، فرفعوه فوق منزلة البشرية إلى منزلة الربوبية ويسمُّونه الرب. وأما اليهود فقد غلوا في عزير، قالوا: هو ابن الله.
وكذلك النصارى غلو في دينهم فابتدعوا الرهبانية، وهي: التّبتّل والتّعبدّ، ولزوم الصّوامع، وعدم(13/480)
الخروج منها، رهبانية ابتدعوها، كما قال الله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ}، هذا من الغلو في الدين، قال تعالى: {لا(13/481)
ص -265- ... وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنه في قول الله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً(23)}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ}، وفي الآية الأخرى في سورة النساء يقول: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً(171)}.
فكذلك الذين غلو في الصالحين من هذه الأمة حتى عبدوهم مع الله سبحانه وتعالى، وجعلوا لهم شيئاً من الرّبوبيّة والألوهيّة، سواءً بسواء.
قال: "في الصحيح" يعني: صحيح البخاريّ.
"عن ابن عباس رضي الله عنه في قول الله تعالى" يعني: في تفسير قوله تعالى: "{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً(23)}"، قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح...إلخ"
قوم نوح لما نهاهم نبي الله نوح- عليه الصلاة والسلام- عن الشرك وأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له؛ تواصوا فيما بينهم بهذه الوصية الكافرة:
"وقالوا لا نذرن آلهتكم" يعني: لا تطيعوا نوحاً عليه السلام، لا تتركوا آلهتكم التي تعبدونها من دون الله. "{وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً}" هذه أسماء رجال صالحين، وكان هذا في الأوّل، لأن النّاس كانوا بعد آدم عليه السلام على دين التّوحيد- كما قال ابن عباس-، كانوا على دين التّوحيد دين أبيهم(13/482)
آدم- عليه الصلاة والسلام- عشرة قرون، وكان هؤلاء الصالحون في هذا العهد- عهد التّوحيد-، فلما ماتوا - ويُروى: أنهم ماتوا في سنة واحدة- حزنوا عليهم حزناً شديداً، وبكوا عليهم، فاستغل الشيطان- لعنه الله- هذه العاطفة فيهم، وأشار عليهم بمشورة ظاهرها النصح، وباطنها الخديعة والمكر، أشار عليهم بأن يصوّروا تماثيلهم، يعني: يجعلوا لهم صوراً على شكل تماثيل، كل واحد له صورة، وأن ينصبوا هذه التماثيل على(13/483)
ص -266- ... قال: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تُعبد، حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلم عُبدت".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجالسهم؛ من أجل أن ينشطوا على العبادة، إذا رأوهم تذكّروا حالتهم فنشطوا على العبادة، فهو جاءهم من باب النصح، وأشار عليهم بمشورة ظاهرها الخبر، وأن هذه وسيلة للنشاط على العبادة، والتقوى، والصلاح، والإقتداء بهؤلاء، إذا رأوا صورهم تذكّروا صلاحهم وحالتهم فاقتدوا بهم، هذا ظاهر نصيحته، ولكنه في الباطن يمكر بهم، لأنه يرمي إلى مرمى بعيد- لعنه الله-، ينظر إلى العواقب، إلى الأجيال القادمة، يؤسس هذا الأساس للأجيال القادمة، وإلاَّ فإنه يعرف أن هؤلاء- ما دام العلم موجوداً، وما دام أنهم على التّوحيد- لن يتركوا عبادة الله عزّ وجلّ، فقبلوا هذه المشورة لأن ظاهرها أنها خير، وابتدعوا هذه البدعة.
وهذا دليل على أن البدع لا تجوز وإن كان ظاهرها الخير، وإن كانت نيّة أصحابها الخير.
ابتدعوا هذه البدعة، وصوّروا هذه التماثيل على مجالس هؤلاء الصالحين ولم تُعبد في هذا الجيل، لأنهم على علم وعلى دين، لكن لما مات هذا الجيل، ونُسي العلم- وفي رواية: نُسِخ العلم بموت العلماء-، لأن الشيطان لا يتسلّط- في الغالب- مع وجود العلماء، لأن العلماء يكافحونه، ويردّون كيده، إنما يتسلّط عند عدم العلماء.
"حتى إذا هلك أولئك، ونُسي العلم" يعني: بموت العلماء الذي يحذّرون من الشرك، "عُبدت" هذه الصور لأن الشيطان قال لهم: إن آباءكم ما نصبوا هذه الصور إلاّ من أجل أن يتقرّبوا إليها، ويسقون بها المطر، فصدّقوه في هذا.
ومقالته لهذا الجيل المتأخِّر تخالف مقالته للجيل السابق، هذا من باب المكر، فصدّقوه في هذا فعبدوهم، ومن حينها حدث الشرك في الأرض، وغُيّر دين آدم - عليه الصلاة والسلام-(13/484)
فبعث الله نبيّه نوحاً عليه السلام أول الرّسل.
وهذا أول شرك حدث في الأرض، وسببه هو الغلو في الصالحين ثمّ بعث الله(13/485)
ص -267- ... قال ابن القيم: "قال غير واحد من السلف: لما ماتوا؛ عكفوا على قبورهم، ثمّ صوّروا تماثيلهم، ثمّ طال عليهم الأمد، فعبدوهم".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نبيّه نوحاً عليه السلام ينهى عن ذلك، ويريد ردّهم إلى التّوحيد، ولكن لم يؤمن معه إلاّ القليل كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ}، كما قال كفّار قريش لما نهاهم محمّد صلى الله عليه وسلم عن الشرك: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ}، لا تطيعوا محمّداً فدين المشركين واحد من قديم الزمان وحديثه.
"قال ابن القيم" ابن القيّم هو: محمّد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي، الإمام الجليل، الحافظ، صاحب المصنّفات المشهورة في التّوحيد والأصول والفقه ومختلف العلوم، وهو أكبر تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيميّة- رحمهما الله- علماً وقدراً.
قال: "لما ماتوا" يعني: لما مات هؤلاء الصالحون. وهذا تفسير وتوضيح لما قاله ابن عباس رضي الله عنه.
"عَكَفوا على قبورهم" العُكوف هو: طول البقاء في المكان، ومنه: الاعتكاف في المساجد، كما عرّفه الفقهاء بأنه: لزوم مسجد لطاعة الله.
"ثم صوّروا تماثيلهم" هذه خطوة ثانية.
"ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم" هذه خطوة ثالثة.
فهذه الآثار مع الآية الكريمة تدلّ على مسائل عظيمة:
المسألة الأولى: تحريم الغلو في الصالحين، بمعنى ما ذكرناه في الغلو، وأنه يؤول إلى الشرك، فإن غلو قوم نوح في الصالحين آل بهم إلى الشرك- والعياذ بالله-، فهذا شاهد للتّرجمة: "باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين" وهذا ظاهر، فإن ما وقع في قوم نوح كان سببه الغلو في الصالحين.
وفيه ردٌّ على عبّاد القبور اليوم، الذين يقولون: البناء على القبور من باب المحبة للصالحين. وكوننا نستغيث بهم، ونستشفع بهم، ونذبح لهم، وننذر لهم، ونتبرّك بتربتهم، هذا ليس من الشرك،(13/486)
هذا من باب محبة الصالحين. ويقولون: للذين ينكرون هذا أنتم تبغضون الصالحين. هكذا فسروا المحبة والبُغض، بأن(13/487)
ص -268- ... المحبة: عبادتهم، والبغض: ترك عبادتهم، هذا من انتكاس الفِطَر- والعياذ بالله-.
فالآية والأثر يردّان عليهم، لأن هذا ليس من محبة الصالحين، وإنما هو من الغلو فيهم الذي يؤول إلى الشرك- والعياذ بالله-.
المسألة الثانية: في هذه الآثار دليل على أن الغلو في الصالحين من سنّة اليهود والنصارى، قال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}، فالغلو في الصالحين من سنة اليهود والنصارى، وليس من سنة المسلمين، فهؤلاء القبوريون سلفهم اليهود والنصارى، وبئس السلف.
المسألة الثالثة: فيه التحذير من التصوير، ونشر الصور، لأن ذلك وسيلة إلى الشرك، فأول شرك حدث في الأرض هو بسبب الصور المنصوبة، وهذه إحدى علّتي تحريم التصوير، لأن التصوير ممنوع لعلّتين:
العلّة الأولى: أنه وسيلة إلى الشرك.
العلّة الثانية: أن فيه مُضاهاة لخلق الله سبحانه وتعالى.
وقد قال تعالى كما في الحديث القدسي: "ومن أظلم ممّن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا حبّة، أو ليخلقوا شعيرة"، فالمصوّر يحاول أن يضاهي خلق الله تعالى بإيجاد الصورة، فلذلك يجعل لها أعضاء، ويجعل لها عينين، ويجعل لها أنفاً، ويجعل لها شفتين، ويجعل لها وجهاً، ويجعل لها يدين، ويجعل لها رجلين، يضاهي خلق الله، إلاّ أنه لا يقدر على نفخ الروح فيها، ويجعل الصورة على شكل ضاحكة، أو على شكل باكية، أو شكل مقطّبة الجبين، أو مسرورة، كل هذا مضاهاة لخلق الله، وإن كانوا يسمون هذا من باب الفنون، وهي فنون شيطانية، والجنون فنون، فتسميته من باب الفنون لا يسوغ عمله، والتصوير ملعون من فعله، ففيه: التحذير من التصوير ونصب الصور. لأن ذلك يؤول إلى الشرك بالله عزّ وجلّ، وهذا أعظم العلّتين في النهي عن التصوير ونصب الصور، لاسيّما صور المعظمين من الملوك والرؤساء ومن الصالحين والمشايخ إذا نُصبت فإن هذا يؤول إلى عبادتها، ولو على المدى البعيد، لأن الشيطان حاضر ويشغل الجهل(13/488)
والعواطف.
المسألة الرابعة: في الآية والآثار دليل على تحريم البدع في الدين، وأنها(13/489)
ص -269- ... تؤول إلى الشرك، ولذلك قال العلماء: البدعة توصل إلى الشرك ولو على المدى البعيد. وهذه بدعة قوم نوح وصَّلت إلى الشرك، وهذا شيء واضح.
المسألة الخامسة: فيه دليل على أن حسن النيّة لا يسوغ العمل غير المشروع، لأن قوم نوح نيّتهم حسنة، عندما صوّروا الصور يريدون النشاط على العبادة، وتذكر أحوال هؤلاء الصالحين، ولا قصدوا الشرك أبداً، وإنما قصدوا مقصداً حسناً، لكن لما كان هذا الأمر بدعة صار محرّماً لأنه يُفضي إلى الشرك ولو على المدى البعيد، فالنية الحسنة لا تسوغ العمل غير المشروع.
المسألة السادسة: وهي عظيمة جداً: فيه بيان فضيلة وجود العلم والعلماء في النّاس، ومضرّة فقدهم، لأن الشيطان ما تجزّأ على الدعوة إلى الشرك مع وجود العلم ووجود العلماء، إنما تجزّأ لما فُقد العلم ومات العلماء، فهذا دليل على أن وجود العلم ووجود العلماء فيه خير كثير للأمة، وأن فقدهم فيه شر كثير.
المسألة السابعة: فيه التحذير من مكر الشيطان، وأنه يُظهر الأشياء القبيحة بمظهر الأشياء الطيبّة حتى يغرِّر بالناس. هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أنه يتدرّج بالناس شيئاً فشيئاً، لأنه تدرّج بقوم نوح من تذكّر العبادة والنشاط والمقصد الحسن، تدرّج بهم إلى المقصد السيء والشرك بالله عزّ وجلّ.
وليسو هذا مقصوراً على شيطان الجن، بل وشيطان الإنس كذلك يعمل هذا العمل، فدعاة السوء ودعاة الضلال- أيضاً- يمكرون بالأمة الإسلامية مثل ما يمكر الشيطان: {شَيَطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً}.
المسألة الثامنة: فيه دليل على تحريم الغلو في قبور الصالحين،، فقول ابن القيم: "لما ماتوا عكفوا على قبورهم" فيه: التحذير من الغلو في قبور الصالحين، وذلك بالعكوف عندها، أو البناء عليها، أو غير ذلك من أي مظاهر الغلو، والنبي صلى الله عليه وسلم حذّر من البناء على القبور، وحذّر صلى الله عليه وسلم من(13/490)
الصلاة عند القبور، والدعاء عند القبور، لأن ذلك وسيلة إلى الشرك، وحذّر صلى الله عليه وسلم من إسراج القبور، فقال: "لعن الله زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسّرج" لأن هذا يغرّ العوام، ويقولون: ما عمل به هذا العمل إلاّ لأنه يضر أو ينفع، ولذلك أوصى النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه(13/491)
ص -270- ... وعن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله" أخرجاه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال: "لا تدع قبراً مشرفاً إلاّ سوّيته" المشرف: هو المرتفع بالبناء، "إلاَّ سوّيته" يعني: هدمت البناء الذي عليه، وكذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبور، وطلائها بالجص، أو بالنورة، أو بالبويات، أو الألوان المزخرفة، لأن هذا يغرّ العوام، ويظنون أنه ما عمل به هذا العمل إلاّ لأنه له خاصية، ونهى صلى الله عليه وسلم عن الكتابة على القبور، فلا يكتب على القبور اسم الميت، ولا تاريخ وفاته، ولا مكانته، فلا يقال: هذا قبر العالم الفلاني الذي عمل كذا وكذا، كل هذا لا يجوز، لأن هذا يغرر بالناس فيما بعد، ويقولون: ما كُتبت هذه الكتابة إلاّ لأن هذا الميّت له خاصيّة. كل هذه الأمور نهى عنها الشارع، لأنها وسائل إلى الشرك.
والمشروع في القبور أن تُدفن كما كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم تُدفن بترابها، وتُرفع عن الأرض قدر شبر بالتراب من أجل أن تُعرف أنها قبور فلا تُداس، ويجعل عليها نصائب من طرفيها لتحديد القبر، لأجل أن لا يوطأ، وما زاد عن ذلك فهو ممنوع.
هكذا كانت القبور في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم في دفن الأموات.
المسألة التاسعة: فيه أن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح، وهذه قاعدة مشهورة، لأن عمل قوم نوح فيه مصلحة جزئية وهي: تذكر حالة الصالحين، لكن المفسدة أكبر من هذا، وهو أن ذلك يؤول إلى الشرك- والعياذ بالله-.
قوله: "وعن عمر" المراد به: عمر بن الخطاب بن عمرو بن نُفَيْل العدوي القرشي، ثاني الخلفاء الراشدين، وأفضل هذه الأمة بعد أبي بكر الصدّيق، رضي الله تعالى عن الجميع.
فهو عمر بن الخطاب الذي أعزّ الله به الإسلام والمسلمين، وفتح الله على يديه الفتوحات في المشرق والمغرب،(13/492)
حتى اتسعت رُقْعة الإسلام في الأرض، وله من الفضائل الشيء الكثير، رضي الله تعالى عنه وأرضاه وعن جميع صحابة رسول الله والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُطْروني" هذا نهي منه صلى الله عليه وسلم عن الإطراء في حقهّ،(13/493)
ص -271- ... والإطراء هو: زيادة المدح والمبالغة فيه، كما هي عادة بعض المدّاحين من الشعراء وغيرهم، وهذه صفة ذميمة، فإن كثرة المدح والزيادة في ذلك منهي عنها في حق الرسول صلى الله عليه وسلم وفي حق غيره، ولكن في حق الرسول أعظم، لأن ذلك يؤدي إلى الشرك والكفر، فإن الغلو في مدح الأنبياء يؤدي إلى الشرك، كما حصل للنصارى واليهود حينما غلو في الأنبياء.
فمعنى قوله: "لا تُطروني" يعنني: لا تزيدوا في مدحي.
"كما أطرت النصارى ابن مريم" النصارى المراد بهم: أتباع عيسى عليه السلام، قيل: سُمُّوا نصارى نسبة إلى البلد: الناصرة في فلسطين، أو من قوله تعالى: {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ}، وهم أهل ملّة من الملل الكتابيّة، ويسمّون بالنصارى، أما أن يسمّوا بالمسيحيين- كما عليه النّاس الآن- فهذا غلط، لأنه لا يقال: المسيحيون إلاّ لمن اتبع المسيح عليه السلام، أما الذي لم يتبعه فإنه ليس مسيحيًّا، وإنما هو نصراني، فاسمهم في الكتاب والسنّة: النصارى.
كما أن اليهود نفروا من الاسم الخاص بهم في الكتاب والسنّة وهو اليهود فسموا أنفسهم إسرائيل، وإسرائيل هو نبي الله يعقوب - عليه الصلاة والسلام- فليسوا هم إسرائيل، وإنما هم اليهود. هذا هو اللفظ الموضوع لهم، الذي رُبطت به اللعنة والغضب من الله سبحانه وتعالى بسبب كفرهم بالله وعنادهم وتعنتّهم، فهم اليهود.
نعم، يُقال: بنو إسرائيل- كما سمّاهم الله بذلك- لأنهم من ذرية يعقوب عليه السلام في الغالب، وفيهم أناس يهود ليسوا من ذرية إسرائيل، لكن الغالب عليهم أنهم من بني إسرائيل.
وعلى كل حال؛ لا يجوز أن يُقال: إسرائيل، وإنما يُقال: اليهود، أو يقال: بنوا إسرائيل.
" كما أطرت النصارى" أي: كما غلت النصارى في مدح المسيح عليه السلام.
"ابن مريم"يُنسب إلى أمه عليها السلام لأنه ليس له أب، لأن الله خلقه من أم بلا أب بقوله: {كُن}، فهو تكوّن بالكلمة من قوله: {كُن}، ولذلك(13/494)
يُقال: (كلمة الله)، لأنه تكوّن بها من غير أب، فتكوّن بأمر الله سبحانه وتعالى حين قال له: "كُن" فكان بأمر الله، هذا(13/495)
ص -272- ... سبب تسميته كلمة الله، والله قادر على كل شيء، فالله خلق آدم من غير أب ولا أم، خلقه من تراب بشراً سوياً، وخلق حوّاء من غير أم، خلقها من آدم: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}، وخلق عيسى أم بلا أب، وخلق سائر البشر من أم وأب، ولهذا يقول الله جل وعلا: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ}، فإذا كنتم تعجبون من خلق عيسى من أم بلا أب، فآدم عليه السلام أولى بالعجب، لأن الله خلقه من تراب {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، فلا غرابة في قدرة الله سبحانه وتعالى، فالله قادر على كل شيء، لا تتحكّم فيه الأسباب، وإنما هو سبحانه يتحكّم في الأسباب والمخلوقات: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} سبحانه وتعالى، ولا حَجْر على قدرته سبحانه وتعالى.
وكيف أطرت النصارى ابن مريم؟، قالوا: إنه ابن الله، أو هو الله، أو ثالث ثلاثة. ولا يزالون على هذه المقالة إلى الآن، في إذاعاتهم، وفي كتاباتهم.
فسبب وقوعهم في هذا الكفر هو: الغلو- والعياذ بالله-، لأنهم لم يرتضوا أن يصفوا عيسى بأنه عبد الله ورسوله، وإنما زادوا وقالوا: إنه ابن الله جاء ليخلّص النّاس من الخطيئة، وقُتل وصُلب من أجل أن يخلّص النّاس من الخطيئة، ثمّ بعد قتله وصلبه قام وصعد إلى السماء.
وهذا كذب مَحْضٌ، كذبه الله وردّه بقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ}، فالذي قُتل وصُلب هو شخص غير المسيح، ألقى الله شبه المسيح عليه، فقُتل وصُلب، لأنه خان ودلَّ الكفرة على مكان المسيح، أما المسيح فإنه رفعه الله إليه، ولهذا لم يجزموا أن الذي قتلوه هو المسيح: قال تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ}.
فالحاصل؛ أن هذا هو غلو النصارى، أنهم مدحوا المسيح ورفعوه فوق منزلته، حتى عبدوه من دون الله، وادّعوا فيه الربوبية بسبب(13/496)
الغدو، وعيسى عليه السلام يقول: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً(31)}، وفي يوم القيامة يتبرّأ من هؤلاء: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}، فالعبادة حق الله ليست حقاً لمخلوق، {مَا يَكُونُ لِي} ما ينبغي ولا يليق ولا يصح {أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} لأن العبادة حق لله سبحانه وتعالى، ثمّ ردّ ذلك(13/497)
ص -273- ... إلى الله {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}، والله يعلم سبحانه وتعالى أن عيسى لم يقل هذه المقالة، وإنما هذا من باب التوبيخ لهؤلاء، ثمّ قال: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} هذا تصديق للمسيح عليه السلام على رؤوس الأشهاد يوم القيامة، حينما يجتمع الأولون والآخرون يوم القيامة، فهذا مآلهم -والعياذ بالله-، وهذا موقف المسيح - عليه الصلاة والسلام- في الدنيا والآخرة أنه عبد الله ورسوله، ليس له من الربوبية شيء، ولا يستحق من العبادة شيئاً، وإنما العبادة حق لله سبحانه وتعالى وحده لا شريك، وإذا كان المسيح ليس له حق في العبادة، ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس له حق في العبادة، وجميع الرسل، فكيف بغيرهم من الأولياء والصالحين.
ففي هذا الحديث دليل على ما ساقه المصنّف من أجله، وهو أن الغلو في الصالحين يسبِّبُ كفرَ بني آدم وتركهم دينهم.
وفي هذا شفقته صلى الله عليه وسلم بأمته، حيث حذّرهم مما وقعت فيه النصارى.
وفيه: النهي عن التشبّه بالكفار.
ثمّ قال صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله" "إنما" هذه كلمة حَصْر، أي: أن شأني ومكانتي أنني عبد الله سبحانه وتعالى، ليس لي من الربوبية شيء، والعبد لا يُغلى فيه ويُطرأ، ويُرفع فوق منزلته.
"فقولوا: عبد الله ورسوله" أرشدنا صلى الله عليه وسلم إلى أن نقول فيه(13/498)
الكلام الواقع واللاّئق به صلى الله عليه وسلم، وهو أنه عبد الله ورسوله. فدلّ هذا على أنه يُمدح صلى الله عليه وسلم بصفاته من غير زيادة ومن غير نقص، وهي: العبودية والرسالة، والله جل وعلا وصف محمّداً بأنه عبد في كثير من الآيات، في مقام التنزيل قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا(1)}، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً(1)}، وفي مقام الإسراء قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى}، والمعراج في قوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى(9)(13/499)
ص -274- ... فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى(10)}، وفي مقام التحدّي وصفه الله بالعبودية قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(23)}.
ففي قوله: "عبد الله" ردٌّ على الغلاة الذين يغلون في حقه صلى الله عليه وسلم.
وفي قوله: "رسوله" ردٌّ على المكذبين الذين يكذّبون برسالته صلى الله عليه وسلم، والمؤمنون يقولون: هو عبد الله ورسوله.
هذا وجه الجمع بين هذين اللّفظين، أن فيهما رداً على أهل الإفراط وأهل التفريط في حقه صلى الله عليه وسلم.
وفيه: ردٌّ على الذين غلو في مدحه صلى الله عليه وسلم من أصحاب القصائد، كقصيدة البُردة والهمزية وغيرهما من القصائد الشركية التي غلت في مدحه صلى الله عليه وسلم، حتى قال البوصيري:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم
فنسي الله سبحانه وتعالى.
ثم قال:
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي ... فضلاً وإلاّ قل يا زلة القدم
يعني: ما ينجيه من النار يوم القيامة إلاّ الرسول.
ثم قال:
فإن من جودك الدّنيا وضرّتها ... ومن علومك علم اللّوح والقلم
الدّنيا والآخرة كلها من جود النبي صلى الله عليه وسلم، أما الله فليس له فضل، هل بعد هذا الغلو من غلو؟؟.
واللّوح المحفوظ والقلم الذي كتب الله به المقادير هذا بعض علم النبي صلى الله عليه وسلم، ونسي الله تماماً- والعياذ بالله-.
وكذلك من نهج على نهج البردة ممن جاء بعده، وحاكاه في هذا الغلو، هذا كله من الغلو في مدح النبي صلى الله عليه وسلم ومن الإطراء.
أما المؤمنون فيمدحون الرسول صلى الله عليه وسلم بما فيه من الصفات الحميدة والرسالة(13/500)
ص -275- ... وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والعبودية، كما أرشد إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، كما عليه شعراء الرسول صلى الله عليه وسلم الذين مدحوه وأقرّهم، مثل: حسّان بن ثابت، وكعب بن مالك، وكعب بن زُهير، وعبد الله بن رواحة، وغيرهم من شعراء الرسول صلى الله عليه وسلم الذين مدحوه بصفاته صلى الله عليه وسلم، وردوا على الكفّار والمشركين.
هذا هو المدح الصحيح المعتدل، الذي فيه الأجر وفيه الخير، وهو وصفه صلى الله عليه وسلم بصفاته الكريمة من غير زيادة ولا نُقصان.
ثم قال المصنّف رحمه الله: "وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو"، هكذا ذكره المصنف رحمه الله من غير أن يذكر راويه، ومن غير أن يعزوه إلى مخرِّج من أصحاب الكتب، بل جعل مكان ذلك بياضاً.
والحديث رواه ابن عباس، وخرّجه أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه، وابن ماجه في سننه.
وهذا حصل في مُنْصَرَفه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع من مزدلفة إلى منى من أجل رمي جمرة العقبة، ولما كان في الطريق بين مزدلفة ومنى قال لابن عباس: "التقط لي الحصى"، فلقط له سبع حصيات مثل حصى الخَذَف، وهي الصغار التي تُخْذَف على رؤوس الأصابع، وهي أكبر من الحِمَّص بقليل، فأخذها صلى الله عليه وسلم بيده الكريمة، ثمّ نفضها والناس ينظرون إليه، ثمّ قال صلى الله عليه وسلم: "أمثال هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو"، وهذا يدل على أن الواجب علينا أن نتقيد بالعبادة كما جاءت.
فـ "إياكم" هذه كلمة تحذير.
"والغلو" تقدم معناه، وهو: الزيادة على الحد المشروع، وهذا لا يجوز، وهو مردود وهلاك، بل نتقيّد بضوابط العبادة كما جاءت في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس لنا تدخّل في تحديد العبادة ومواقيتها(14/1)
وصفاتها، وهيئاتها، وإنما يتبع في هذا ما دلّ عليه الدليل من كتاس الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، علينا الامتثال فقط.(14/2)
ص -276- ... "فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو" مثل النصارى غلو في عيسى عليه السلام، يعني: فأخرجهم الغلو من الدين إلى الكفر- والعياذ بالله- فهلكوا، وهم يريدون النجاة، لكن لما كانت طريقتهم غير مشروعة لم تحصل لهم النجاة، وإنما حصل لهم الهلاك، فكل أحد يريد النجاة من غير أن يسلك طريقها فإنه هالك، لا نجاة إلاّ بإتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، مهما كلّف الإنسان نفسه إذا خالف منهج الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه غالٍ وهالك، وهو مشابه لمن كان قبلنا من الغلاة.
ففي هذا: التحذير من الغلو في العبادات، والغلو في الأشخاص، والغلو في كل شيء، فالغلو في كل شيء ممنوع، والمثل يقول: "كل شيء جاوز حدّه انقلب إلى ضده"، كل غلو فهو طريق هلاك، وإنما طريق النجاة هو الاعتدال والاستقامة: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا}.
وما هلكت الخوارج والمعتزلة وعلماء الكلام إلاّ بسبب غلوهم.
فالخوارج عندهم عبادة عظيمة، حتى إن الصحابة يحقرون صلاتهم إلى صلاتهم، وعندهم قراءة للقرآن كثيرة، لكنهم لم يقتصروا على المشروع، زادوا -والعياذ بالله- حتى هلكوا، وكل من فعل هذا فإنه يهلك، والتجربة موجودة، وما وصل أحد من المتنطّعين والغلاة إلى النتيجة المطلوبة أبداً، وإنما يكون سبيلهم الهلاك في الدّنيا والآخرة.
فهذا مما يحذّر منه في هذا الزمان، لأن ظاهرة الغلو والتّنطع كثرت إلاّ من رحم الله عزّ وجلّ ، وذلك لما فشا الجهل في الناس جاء الغلو وجاءت المخالفات بتزيين شياطين الإنس والجن.
فالواجب علينا أن نحذر من هذا، وأن نلزم طريق الاستقامة في كل شيء.
أما المعتزلة فغلوا في تنزيه الله، حتى نفو صفات الله التي وصف بها نفسه.
والممثلة غلو في إثبات الصفات، حتى شبّهوا الخالق بالمخلوق، فغلو في ذلك، فَضَلّوا -والعياذ بالله-.
وأهل السنّة والجماعة توسطوا؛ فأثبتوا لله الأسماء والصفات كما جاءت، تنزيهاً بلا تعطيل، هذا نفي(14/3)
للغلو في التنزيه، وإثباتاً بلا تمثيل، هذا نفي للغلو في الإثبات، فهم توسطوا.(14/4)
ص -277- ... ولمسلم عن ابن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هلك المتنطّعون" قالها ثلاثاً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أما المعتزلة فهم غلو في التنزيه حتى نفو الصفات.
والممثلة غلو في الإثبات حتى شبهوا الله بخلقه، تعالى الله عما يقولون.
والخوراج والمعتزلة غلوا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى خرجوا على أئمة المسلمين، ومن أصولهم: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بمعنى: الخروج على الأئمة.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكرمطلوب، ولكن في حدود الشريعة، قال صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه" فجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مراتب حسب الاستطاعة، ولم يأمر بالخروج على الولاة، ونقض البيعة، والتفريق بين المسلمين، وهذه طريقة المعتزلة والخوراج.
والخوارج خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وانتهى بهم الأمر إلى أن قتلوه رضي الله عنه، هذا كله بسبب الغلو، بزعمهم أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فسبب لهم هذا الهلاك، وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم "فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو".
فالغلو هلاك في الدّنيا، وهلاك في الآخرة، ولا يأتي بخير أبداً، ودين الله بيّن الغالي فيه والجافي عنه، دين الله وسط: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً}، وسط بين الغلو وبين الجفاء، وهذه الأمة عدول خيار، ليس فيهم غلو، وليس فيهم جفاء، وإنما فيهم الاعتدال، هذا هو طريق النجاة دائما وأبداً.
قال "ولمسلم" يعني روى الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه.
"عن ابن مسعود" عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي، الصحابي الجليل، والعالم الكبير، الذي يُعد من أكابر علماء الصحابة، وإليه المرجع في الفتوى، ورواية الحديث، وغير ذلك، فهو من أكابر الصحابة، ومن السابقين الأولين إلى الإسلام، رضي الله تعالى عنه، وكان- أيضاً- من(14/5)
أشد الناس تحذيراً من البدع(14/6)
ص -278- ... "والغلو" ومواقفه من المبتدعة مشهورة، وكلماته رضي الله تعالى عنه في ذلك مأثورة.
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثا" المتنطعون: جمع متنطع، وأصل التنطع هو التقعّر في الكلام إظهاراً للفصاحة، هذا هو أصل التنطع في اللغة. والمراد هنا: التنطع في الكلام، والتنطع في الاستدلال، والتنطع في العبادة.
والتنطع في الكلام معناه: أن يتكلم الإنسان بالكلمات الغريبة من اللغة التي لا يفهمها الناس، فيأتي بأسلوب وألفاظ من وحشي اللغة لا يعرفها النّاس.
وكذلك من التنطع في الكلام: أن يخاطب الحاضرين بأشياء لا يفهمونها، فالنّاس بحاجة إلى أن يبيّن لهم عقيدتهم وعبادتهم وطهارتهم ومعاملاتهم، ثمّ يذهب يتكلم في أشياء بعيدة عنهم، بل بعيدة من مجتمعهم، يتكلم في أمور السياسة، والأمور البعيدة، وأمور الدول، والأمور وسائل الإعلام، ص وأمور بعيدة، العوام لا يعرفون منها شيئاً، ولا يستفيدون منها شيئاً، ويخرجون من عنده بجهلهم، لا يعرفون أمور دينهم، بل منهم من لا يعرف كيف يصلي، منهم من لا يعرف كيف يتوضأ، ومنهم من لا يعرف كيف يغتسل من الجنابة، فيخرجون بجهلهم، وما انتفعوا بهذا الكلام البعيد الغريب عن أسماعهم.. هذا من التنطع.
وغرض المتكلم أن يبيّن للناس أنه فاهم، وأنه مثقّف ولو على حساب الحاضرين، ولو ما فهموا، ولو ما عرفوا شيئاً.
وهذا من التنطع.
والمطلوب من الخطيب والمحاضر والمتكلم والمدرس: أن يتكلم في حدود ما يفهمه الحاضرون، وما هم بحاجة إليه في أمور دينهم، وفي أمور معاملاتهم وأخلاقهم، هذا هو المطلوب.
وأن يكون قصده نفع الحاضرين، وتعليم الحاضرين، لا يكون قصده إظهار شخصيته، وإظهار فصاحته، فهذا هالك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هلك المتنطعون".
فلنحذر من هذا حينما نتكلم في درس، حينما نخطب في الجمعة، أو عيد أو استسقاء، حينما نلقي محاضرة، علينا أن نراعي حالة الحاضرين، وأن نأتي(14/7)
من(14/8)
ص -279- ... الكلام بما يفهمونه، وما يستفيدون منه، وأيضاً يكون بأسلوب سهل، لا نتعمّد المجيء بأساليب لا يفهمونها، وكلمات لا يفهمونها، بل يختار الموضوع المناسب، والأسلوب المناسب، واللغة التي يفهمونها. هذا الذي يريد الخير للناس، ويريد تعليم الناس.
أما الذي يريد أن يُظهر نفسه على حساب الناس، فهذا هو المتنطع، وهذا لا يفيد شيئاً، ويَخرج كما دخل من غير فائدة.
فعلينا أن نتنبّه لذلك، لئلا نكون من المتنطعين في الكلام.
وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقول: "حدثوا النّاس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟".
أما التنطع في الاستدلال فهو: طريقة أهل الكلام وأهل المنطق الذين عدلوا عن الاستدلال بالكتاب والسنّة إلى الاستدلال بقواعد المنطق، ومصطلحات المتكلمين.
والمنطق هذا من أين جاء؟، وقواعد المنطق من أين جاءت؟، جاءت من اليونان، استجلبوها واستعملوها في الإسلام، وتركوا الاستدلال بالكتاب والسنّة، وقالوا: إن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين، وإنما الذي يفيد اليقين هو الأدلة العقلية - بزعمهم-، فبذلك هلكوا.
الواجب أن يكون الاستدلال بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنّة وإجماع المسلمين والقياس الصحيح كما عليه علماء أهل السنّة والجماعة، ولهذا يقول الإمام الشافعي رحمه الله: "حكمي في أهل الكلام: أن يضربوا بالجريد والنعال، وأن يطاف بهم في القبائل، وأن يقال: هذا جزاء من أعرض عن الكتاب والسنّة واشتغل بعلم الكلام".
فمن هؤلاء من يترك كلام الله وكلام رسوله ويأتي بقواعد المنطق، حتى في العقائد وهو ما يسمونه الآن علم التّوحيد، يسمون علم المنطق، وعلم الكلام: علم التّوحيد، ولذلك وقعوا في الهلاك، وضلوا وأضلوا، وقد انتهى أمرهم إلى الحيرة، كما شهد بذلك أكابرهم، وبعضهم عند الوفاة أشهد الحاضرين بأنه مات وهو(14/9)
ص -280- ... لا يعرف شيئاً، مع أنه أفنى عمره في علم الكلام والجدل والمنطق، هذا مآل المتنطعين- والعياذ بالله-، وشهاداتهم على أنفسهم موجودة، مما يدل على صدق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "هلك المتنطعون".
أما التنطع في العبادة فهو كما سلف، هو: أن يزيد الإنسان في العبادة على الحد المشروع، وهذه رهبانية النصارى، أما الحد المشروع فهو كما قال صلى الله عليه وسلم: "أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، ومن رغب عن سنتي فليس مني" هذا هو الاعتدال، وأما التبتّل وعدم التزوج، والصيام دائماً ولا يُفطر، والصلاة كل الليل ولا ينام، هذا كله من الغلو ومن التنطع الذي يَهْلك صاحبه كما هلكت النصارى في رهبانيتهم، والنبي صلى الله عليه وسلم حذّر من الغلو، وحذّر من رهبانية النصارى، وأمر بالاعتدال والتوسط، وقال: "هذا الدين متين، ولن يشاد الدين أحد إلاّ غلبه، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا}، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن المنبتّ لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى" والمنبت هو: الذي يكلّف نفسه بالسير ولا يستريح ولا يريح راحلته، هذا ينبت، يعني: ينقطع وتموت راحلته، ويقف في وسط الطريق: "فلا ظهراً أبقى" لأن راحلته ماتت، ولا أرضاً قطع لأن المسافة باقية. أما لو أخذ الطريق على مراحل، وشيئاً فشيئاً، وأراح نفسه، وأراح راحلته لقطع الطريق، وبلغ المقصود ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "أوغلوا فيه برفق".
فالحاصل؛ أن التنطع في العبادة هو: الزيادة فيها عن الحد المشروع، والمطلوب أن الإنسان يتوسط في العبادة من غير زيادة، ومن غير نقصان.
ونبيّن هنا ما يُستفاد من هذه الأحاديث لاختصار:
المسألة الأولى: التحذير من الغلو في مدحه صلى الله عليه وسلم، لأن ذلك يؤدي إلى الشرك، كما أدى بالنصارى إلى الشرك.
المسألة الثانية: فيه الرد على أصحاب المدائح النبوية التي غلوا فيها في حقه صلى الله عليه وسلم،(14/10)
كصاحب البردة، وغيره.
المسألة الثالثة: فيه النهي عن التشبه بالنصارى، لقوله: "كما أطرت النصارى ابن مريم".(14/11)
ص -281- ... .....................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم : إحياء المولد كل سنة، لأن النصارى يحيون المولد بالنسبة للمسيح على رأس كل سنة من تاريخهم، فبعض المسلمين تشبّه بالنصارى فأحدث المولد في الإسلام بعد مضي القرون المفضلة، لأن المولد ليس له ذكر في القرون المفضلة كلها، وإنما حدث بعد المائة الرابعة، أو بعد المائة السادسة لما انقرض عهد القرون المفضلة، فهو بدعة، وهو من التشبه بالنصارى.
المسألة الرابعة: فيه مشروعية مدحه صلى الله عليه وسلم بصفاته الكريمة: عبد الله، ورسوله، الداعي إلى الله، بلّغ البلاغ المبين، جاهد في الله حق جهاده، كل هذا من صفاته صلى الله عليه وسلم؛ فذكره طيّب.
المسألة الخامسة: يُستفاد من ذلك: كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته، وأنه حذّرها من الإطراء في حقه صلى الله عليه وسلم، وحذّرها من الغلو، وحذّرها من التنطع.
ثلاثة أساليب جاء بها صلى الله عليه وسلم: الإطراء والغلو والتنطع. نوّعها صلى الله عليه وسلم من باب التأكيد والتحذير من الغلو.
المسألة السادسة: فيه أن من نهى عن شيء فإنه يذكر البديل الصالح عنه إن كان له بديل، فإنه صلى الله عليه وسلم لما نهاهم عن الإطراء قال: "إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله" هذا البديل الصالح.
المسألة السابعة: في الحديث: النهي عن الغلو في العبادات، ومنها حصى الجمار، قال فيها صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو"، والغلو في العبادات، هو: الزيادة فيها عن الحد المشروع: كميّة وكيفيّة ووقتاً، إلى غير ذلك، نحن لا نُحدث شيئاً من عند أنفسنا.
والبدعة تنقسم إلى قسمين: بدعة حقيقية، وبدعة إضافية.
البدعة الحقيقية: إذا أُحدث شيء لا أصل له، مثل المولد والتبرك بالآثار.
والإضافية: أن نُحدِث(14/12)
للعبادة المشروعة وقتاً أو صفة لم يشرعها الله ورسوله، كما لو قلنا: ليلة النصف من شعبان يصلون النّاس ويتهجّدون، أو نصوم النصف من شعبان.
فالصيام مشروع، وقيام الليل مشروع، لكن إذا حدّدناه بوقت لا دليل عليه فهذا(14/13)
ص -282- ... بدعة إضافية، لأن أصل العبادة مشروع، ولكن تقييدها بوقت محدّد، منه إضافة إلى العبادة وهي غير مشروعة، فهذه بدعة تسمى إضافية.
ذكر الله مشروع؛ التسبيح والتهليل والتكبير، لكن إذا قلنا للناس: سبِّحوا ألف تسبيحة، كبروا ألف تكبيرة، قولوا: كذا ألف مرة بدون دليل. فهذا يُعتبر بدعة إضافية.
المسألة الثامنة: فيه التحذير من التنطع في الكلام، والتنطع في الاستدلال، والتنطع في العبادة، وعرفنا بماذا يكون التنطع في الكلام، والتنطع في الاستدلال، والتنطع في العبادة.
المسألة التاسعة: فيه تكرار النصيحة حتى ترسخ وتثبت، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كرّر قوله: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثاً، من أجل أن ترسخ هذه النصيحة، وتثبت في قلوب السامعين.
والله تعالى أعلم.(14/14)
ص -283- ... [الباب العشرون: ]
باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح،فكيف إذا عبده؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال المؤلف رحمه الله : "باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح، فكيف إذا عبده" لما ذكر المؤلف رحمه الله في الباب الذي قبل هذا: التحذير من الغلو في الصالحين، وأنه سبب لكفر بني آدم، وتركهم دينهم، ذكر في هذا الباب الغلو في قبورهم، لأنه نوع من الغلو فيهم.
والتغليظ معناه: بيان شدّة الأمر، خلاف التسهيل أو التخفيف.
"فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح" عبد الله بدعاء الله عند القبر رجاء الإجابة، يظن أن الدعاء في هذا المكان سبب للإجابة، أو بالصلاة، يظن أن الصلاة عند القبر سبب للإجابة، أو الذبح عند القبر، وإن كان الفاعل يعبد الله بهذه العبادات ولكنه فعلها عند القبر رجاء أن تُقبل، وأن العبادة عند القبر لها مزية عن العبادة في مكان آخر، فهذا مبني على ظن فاسد، لأن القبور ليست مكاناً للعبادة، وأن العبادة عندها وإن كانت خالصة لله فإنها سبب للشرك، ولهذا حذّر النبي صلى الله عليه وسلم من العبادة عند القبور سدًّا للذريعة.
أما إذا كان يدعو القبر، ويستغيث بالميت؛ فهذا شرك أكبر.
وأما إذا كان يعبد الله مخلصاً له العبادة لكن عند القبر، فهذا وسيلة إلى الشرك، وطريق إلى الشرك، فهو محرّم، فكيف إذا عبده؟
والذي عليه القبوريون اليوم، أنهم يعبدون القبور صراحة؛ ويستغيثون بها، ويذبحون لها، وينادون الموتى: المدد يا فلان، المدد يا بدوي، المدد يا علي، يطلبون منهم المدد صراحة، ويذبحون لهم، وينذرون لهم، ويصرفون لهم أنواعاً من العبادة، فهم داخلون فيمن عبد القبر.(14/15)
ص -284- ... في الصحيح عن عائشة: أن أم سلمة رضي الله عنها، ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور، فقال: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح؛ بنوا على قبره مسجداً، وصوّروا فيه تلك الصور، أولئك شِرار الخلق عند الله".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال: "في الصحيح" يعني: في الصحيحين: صحيح البخاري وصحيح مسلم.
"عن عائشة" أم المؤمنين، بنت أبي بكر الصديق.
"أن أم سلمة" اسمها: هند بنت أبي أمية المخزومية، القرشية، زوج أبي سلمة، هاجرت هي وزوجها أبو سلمة الهجرتين: الهجرة إلى الحبشة، والهجرة إلى المدينة، وتوفي أبو سلمة رضي الله عنه في المدينة، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت من أمهات المؤمنين- رضي الله تعالى عنها-.
"أنها ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها في أرض الحبشة" الكنيسة هي معبد النصارى الذي يجتمعون فيه يوم الأحد لعبادتهم. أما الصومعة فهي معبد خاص لفرد من النصارى يخلو فيه، وينقطع عن الدنيا. فالصومعة للأفراد من النصارى، وأما الكنيسة فهي للجميع.
"وما فيها من الصور"يعني: من صور الصالحين.
"أولئكِ" بالكسر خطاب لأم سلمة، ويجوز الفتح: "أولئكَ" خطاب للمذكر، ولكن الكسر أشهر، لأنه يخاطب امرأة.
" أولئكِ إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح" هذا شك من الراوي: هل قال الرسول صلى الله عليه وسلم رجل أو عبد، وهذا من تحرّيهم رضي الله عنهم في الرواية، وأنه لم يجزم باللّفظ الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم.
"بنوا على قبره مسجداً" أي: مصلى، فالمراد بالمسجد هنا: المصلى والمتعبَّد، يعني: اتخذوا عليه كنيسة يتعبّدون فيها، فسمي مسجدا.
" وصوّروا فيه تلك الصور" أي: صور الصالحين، ينصبونها في هذا المكان، من باب الغلو في الصالحين وتخليد شخصياتهم، واتخاذ التماثيل تخليداً للشخصيات من هذا الباب، هو من باب تعظيم(14/16)
الصالحين، أو تعظيم العظماء، ولو كانوا من غير الصالحين كالرؤساء والسلاطين والملوك، وهذا لا يجوز في الإسلام، لأنه وسيلة(14/17)
ص -285- ... هؤلاء جمعوا بين فتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إلى الشرك، ولاسيّما في مواطن العبادة، كالمساجد ومحلات العبادة، فهذا الأمر أشد.
ثم قال صلى الله عليه وسلم "أولئكِ شرار الخلّق عند الله" فدلّ على أن من بنى المسجد على القبر، أو صوّر الصور ونصبها؛ أنه من شرار الخلق. وشرار: جمع شر، وهو أفعل تفضيل، والمراد به: أشد الناس شرًّا، فدلّ على أن الذي يبني المساجد على القبور أنه أشد الناس شرًّا- والعياذ بالله-، وفي الحديث الآخر الذي سيأتي: "إن من شرار الخلق من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يبنون المساجد على القبور" لأنهم فتحوا للنّاس باب الشرك بهذا الفعل، وتسبّبوا في انحراف الأمة، وما حدث الشرك في هذه الأمة إلاّ بسبب البناء على القبور.
وأول من بنى على القبور في الإسلام- كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- هم: الشيعة، الفاطميون، ثمّ قلدهم من قلدهم من المنتسبين إلى السنّة من الصوفية وغيرهم، فبنيت المساجد على القبور في الأمصار.
ولا تزال الأمة الإسلامية تعاني من شر هذه القبور وفتنتها، وحدوث الشرك في الأمة، الذي لا يقره من يؤمن بالله ورسوله، لأنه شرك صُراح، وأصبحت هذه المساجد المبنية على القبور أوثاناً تُعبد من دون الله، ويظن أصحابها أن ذلك من الإسلام، وأن من أنكره فهو خارج عن الإسلام، كالذين يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}، فهم شرار الخلق، وإن كانوا يزعمون في أنفسهم أن ذلك إصلاح، وأنهم خير الخلق.
ثم ذكر الشيخ عبارة لشيخ الإسلام ابن تيمية بعد الحديث وهي قوله: "فهؤلاء" يعني: اليهود والنصارى.
"جمعوا بين فتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل" فتنة القبور هي الغلو في القبور، وتعظيم القبور حتى تتخذ متعبدات، هذه فتنة عظيمة في الأمم السابقة وفي هذه الأمة.
والفتنة الثانية: فتنة التماثيل،(14/18)
وهي فتنة قديمة كما في قصة قوم نوح، فقوم نوح إنما وقع الشرك فيهم بسبب نصب التماثيل، ووقع الشرك في اليهود بسبب تمثال العِجل الذي عمله السامري، ووقع الشرك في النصارى بسبب نصب الصليب على(14/19)
ص -286- ... ولهما عنها قالت: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ طَفِق يطرح خميصة له على وجهه، فقال: وهو كذلك:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صورة المسيح بزعمهم، ويُخشى أن يقع الشرك في هذه الأمة بسبب نصب التماثيل للعلماء والعباد الصالحين، فهذه فتنة عظيمة، حذّر منها النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: "ولهما" أي: البخاريّ ومسلم.
"عنها قالت: لما نُزل برسول الله " يعني:. نزل به الموت -عليه الصلاة والسلام-.
"طَفِقَ" طَفِقَ: من أفعال الشروع عند أهل اللغة، أي: جعل يفعل كذا.
"يطرح خميصة" أي: يضعها، والخميصة: كساء له أعلام، أي فيه خطوط.
"على وجهه" يغطّي وجهه صلى الله عليه وسلم بها وهو في هذه الحالة.
"فإذا اغتم بها" أي: ضيّقت نفسه- عليه الصلاة والسلام-.
"كشفها" من أجل أن يتنفّس.
"فقال- وهو كذلك-" يعني: في هذه الحالة الحرجة، لم يشتغل عن الدعوة إلى التّوحيد، وإنكار الشرك، ونصيحة الأمة، صلوات الله وسلامه عليه.
والمناسبة: أنه لما شعر بالموت خشي على أمته أن تفعل عند قبره ما فعل من قبلها من الأمم عند قبور الأنبياء والصالحين، فلم يترك الفرصة تذهب، وإنما استغلها بالنصيحة للأمة- عليه الصلاة والسلام.
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحذّر من الشرك وهو في هذه الحالة، فهذا دليل على أن التحذير من الشرك أمر متعيّن، وأنه يجب على الدعاة أن يهتموا بهذا الأمر اهتماماً بالغاً قبل غيره، قبل أن يحثوا النّاس على الصلاة والصيام، وترك الربا، وترك الزنا، وترك شرب الخمر، قبل ذلك ينهوهم عن الشرك، لاسيّما إذا كان واقعاً في الأمة، فالسكوت عنه من الغش للأمة، فلابد أن يُبدأ به، وأن يُعمل على إزالته قبل كل شيء، لأنه إذا صلحت العقيدة صلحت بقية الأعمال.
أما إذا فسدت العقيدة فلا فائدة في الأعمال كلها، ولو ترك الربا، وتصدق بماله، وصلى الليل والنهار، وصام الدهر، وحج، واعتمر، وعنده شيء من الشرك الأكبر، فإن(14/20)
أعماله تكون هباءً منثوراً، لا فائدة منها، أما إذا كان موحّداً خالياً من(14/21)
ص -287- ... "لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
يحذِّر ما صنعوا، ولولا ذلك أُبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً. أخرجاه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشرك، فلو وقع في الكبائر، ولو وقع في الزنا، ووقع في الربا، ووقع في المحرمات التي دون الشرك، فإنه يُرجى له المغفرة، وإن عذب بذنوبه فإنه لا يخلد في النار وهو مؤمن موحد، حكمه حكم المؤمنين، ولابد له من دخول الجنة بتوحيده وإيمانه، وإن كان ضعيفاً، أما إذا كان عنده شرك أكبر، فهذا لا فائدة في أعماله، لو ترك المحرمات كلها، وأدى الواجبات كلها ولم يتجنب الشرك، فإنه لا فائدة في أعماله كلها.
فكيف إذاً نهتم بجوانب فرعية، أو جوانب جزئية، ونترك هذا الأمر الخطير يعجّ في جسم الأمة الإسلامية، ولا نحذّر منه، ولا ندعوا إلى تركه، ولا نسعى في إزالته عن الأمة؟؟ بحجة أننا نريد أن نجمع الأمة كما يقولون.
هذا هو صميم الدعوة، هذا هو الذي جاءت الرسل من أولهم إلى آخرهم للتحذير منه، كل رسول يقول لقومه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}، لان العبادة لا تنفع مع وجود الشرك، فهذا أمر عظيم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "لعنة الله على اليهود والنصارى" اللعنة هي: الطرد والإبعاد من رحمة الله.
واليهود: الأمة المغضوب عليها، والنصارى: الأمة الضالة.
{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} المغضوب عليهم: اليهود، ومن اقتدى بهم من هذه الأمة، ممن علم ولم يعمل بعلمه، والضالون هم: النصارى الذين يعبدون الله على غير علم، بل بالبدع والمحدثاث والخرافات من النصارى وكل من اقتدى بهم.
"اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يعني: أمكنة للعبادة يصلون عندها، يدعون الله عندها، ظنًّا منهم أن العبادة عند القبور أفضل من العبادة في الأمكنة الأخرى، مع أن العبادة عند القبور لا تجوز، لأنها وسيلة إلى الشرك.
قالت عائشة رضي الله عنها: "يحذّر(14/22)
ما صنعوا" أي: أن الذي حمل النبي صلى الله عليه وسلم على أن
يقول هذه الكلمة في هذه الحالة الحرِجة: أنه يحذّر أمته مما صنع اليهود والنصارى،(14/23)
ص -288- ... لئلا يفعلوا بقبر نبيهم ما فعل اليهود والنصارى مع قبور أنبيائهم. فالذي حمله على هذا تحذير هذه الأمة لئلا تعمل هذا العمل، فلا تتخذ القبور مساجد، سواء بُني عليها أو لم يُبن عليها، إذا بُني عليها فالأمر أشد، وإذا لم يُبن عليها، وصلّي عندها، ودعا عندها فكذلك، هذا من اتخاذها مساجد كما يأتي.
"ولو ذلك" أي: ولولا الخوف من أن يحصل عند قبره صلى الله عليه وسلم مثل ما حصل عند قبور أنبياء بني إسرائيل.
"أبرز قبره" أي: لدفن في مكان بارز يراه الناس.
"ولكنه خَشي" بالفتح، أو "خُشي" بالضم.
"أن يتخذ قبره مسجداً" يعني: مكان صلاة ودعاء، كما فعل اليهود والنصارى عند قبور أنبيائهم.
فقطعاً لهذه الذريعة وسدًّا لهذا الباب دُفِنَ - عليه الصلاة والسلام- في بيته في حجرة عائشة، داخل الجدران وتحت السقف، لا يراه أحد.
"ولا يزال- والحمد لله- في صيانة وأمانة، فلا يزال في بيته صلى الله عليه وسلم محاطاً بالجدران لا يراه أحد، صيانة لقبره أن يُفعل عنده كما فعلت اليهود والنصارى عند قبور أنبيائهم.
هذه هي الحكمة في دفنه صلى الله عليه وسلم في بيته، وعدم دفنه في المقبرة مع أصحابه في البقيع.
قال ابن القيم:
ودعا بأن لا يجعل القبر الذي ... قد ضمه وثناً من الأوثان
فأجاب رب العالمين دعاءه ... وأحاطه بثلاثة الجدران
حتى اغترت أرجاؤه بدعائه ... في عزة وحماية وصيان
فدلّ ذلك على تحريم الغلو في القبور، والبناء عليها، واتخاذ بقاعها أمكنة للصلاة عندها، والدعاء عندها.
ويُستفاد من هذين الحديثين مسائل عظيمة:
المسألة الأولى: تحريم البناء على القبور، لأن ذلك وسيلة إلى الشرك بالله عزّ وجلّ،(14/24)
ص -289- ... لأن القبر إذا بُني عليه بنيّة، أو جُعل عليه ستائر وزُخرف، فإن العوام والجهّال يفتتنون به، ويظنون أنه ما عُمل به هذا العمل إلاّ لأن فيه سراً، وأنه محل للعبادة والدعاء وطلب الحاجات -كما هو الواقع-، ولهذا كان هدي الإسلام في القبور أن الميت يُدفن في المقبرة العامة مع أموات المسلمين، ويُدفن في تراب قبره الذي حُفر منه، لا يزاد عليه، ويُرفع عن الأرض قدر شبر من التراب من أجل أن يعرف أنه قبر فلا يُداس، ولا يُبنى عليه شيء، هكذا كان قبر النبي وكانت قبور الصحابة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو هدي الإسلام في القبور، لا يُبنى عليها بنيّة، ولا يُكتب عليها، ولا تزخرف، ولا تجصّص، لأن هذه الأمور إذا فُعلت صارت وسيلة إلى الشرك، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدم القبور المشرفة، فقال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لا تدع قبراً مشرفاً [يعني: مرتفعاً] إلاّ سوّيته" يعني: هدمت ما عليه من البناء، حتى يصبح كسائر القبور لا يُلفت النظر، ولا يُفتتن به، فالقبور إذا كانت على الهدي الشرعي لا يُفتتن بها، أما إذا بُني على بعضها، وجصّص، وزُخرف، فإن النّاس سينصرفون إليه ولابد.
المسألة الثانية: في الحديث دليل على تحريم العبادة عند القبر، حتى ولو لم يُبْنَ عليه بنيّة، لا بدعاء، ولا بصلاة، ولا بذبح، ولا بنذر، ولا بغير ذلك، وإنما هدي الإسلام أن القبور تُزار من أجل السلام على الأموات، والدعاء لهم بالمغفرة والرحمة، واتعاظ الزائر بأحوال الموتى، هذا هو هدي الإسلام في القبور، وأن لا تُهان القبور- أيضاً-، ولا تُمتهن، بل يُحافظ عليها، فلا تُهان ولا تُداس.
فهدي الإسلام وسط بين إفراط وتفريط، بين الغلو فيها، وبين التساهل في شأنها وإهانتها، يُحافظ عليها الإسلام، ولكنه لا يغلو فيها، هدي الإسلام هو الوسط في كل شيء- والحمد الله-، لأن من النّاس من يمتهن القبور، ويبني عليها المساكن، أو يجعلها محلاً(14/25)
للقمامات والقاذورات، أو بِدَوْسِ الأقدام عليها، أو مرور الحيوانات عليها، أو يقضون حوائجهم ويبولون عليها، وهذا حرام لا يقرّه الإسلام.
المسألة الثالثة: فيه دليل على تحريم نصب الصور من التماثيل وغيرها، لأن(14/26)
ص -290- ... ذلك وسيلة إلى الشرك بهذه الصور ولو على المدى البعيد، كما حصل لقوم نوح.
المسألة الرابعة: فيه دليل على أن النيّة الصالحة لا تسوغ العمل السيء، فهؤلاء إنما فعلوا هذا لظنهم أن فيه خيراً، وفيه تذكراً لأحوال هؤلاء الصالحين، أو إكراماً للصالحين- كما يقولون-، أو تخليداً لذكراهم، فهذا وإن كان قصدهم فيه حسناً، فإن هذا العمل غير مشروع لأنه يُفضي إلى الشرك في العبادة، والشارع جاء بسدّ الذرائع المُفضية إلى الشرك دون نظر إلى نيات أصحابها.
المسألة الخامسة: فيه دليل على جواز لعن الكفار وأصحاب الكبائر على وجه العموم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى، وهذا لعن على العموم، فلعن الكفار وأصحاب الكبائر على العموم لا بأس به لأجل التنفير في فعلهم، وأما لعن المعيّن ففيه خلاف.
المسألة السادسة: في الحديثين دليل على التحذير من التشبه بالنصارى، لأن البناء على القبور والصلاة عندها من هدي النصارى، ونحن منهيون عن هدي النصارى، ففي قول عائشة رضي الله عنها: "يحذّر ما صنعوا" دليل على النهي عن التشبه بالنصارى، ولاسيما في أمور العقيدة.
المسألة السابعة: أن الذين يبنون على القبور والذين يذهبون إليها للتعبد عندها هم شرار الخلق، لا أحد شرٌّ منهم، لأن معصيتهم فوق كل معصية، فالزاني وشارب الخمر والسارق أخف من الذي يبني على القبور، ولو كان زاهداً عابداً.
فالزاني والشارب- الذي يشرب الخمر- ومعه أصل التّوحيد وأصل العقيدة هذا خير من الذين يبنون على القبور، والذين يذهبون للعبادة عندها، وإن كانوا يبكون الليل والنهار، ويصومون، فهم شرار الخلق- والعياذ بالله-.
المسألة الثامنة: فيه دليل على أن المصورين هم شرار الخلق، لأن فعلهم هذا وسيلة إلى الشرك، ولأنه مضاهاة لخلق الله، قال الله تعالى في الحديث القدسي: "ومن اظلم ممن ذهب يخلق كخلقي" يعني: المصورين، "فليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة"لما وهذا تعجيز لهم،(14/27)
فدلّ على أن المصورين هم شرار الخلق، سواء كانوا يصورون ببناء التماثيل، أو يصورون بالرسم، أو يصورون بالتقاط الصور بالآلة(14/28)
ص -291- ... الفوتوغرافية، كل ذلك داخل في الوعيد والنهي الشديد، وأنهم شرار الخلق عند الله. ومن أخرج التصوير بالكمرة عن حكم التصوير المنهي عنه فليس له دليل ولا عبرة بقوله.
المسألة التاسعة: في الحديث دليل على وجوب الاهتمام بأمر العقيدة، والدعوة إليها قبل كل شيء من أنواع الفساد، نبدأ بإصلاح العقيدة قبل إصلاح الأمور الأخرى، لأن هذا منهج الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-.
المسألة العاشرة: في الحديث دليل على كمال حرصه صلى الله عليه وسلم على أمته، ونصيحته لأمته، وأنه بلّغ البلاغ المبين حتى في آخر لحظة من حياته صلى الله عليه وسلم، بل في حالة حرِجة، وهي حالة الاحتضار.
المسألة الحادية عشر: فيه دليل على بيان الحكمة من دفنه صلى الله عليه وسلم في بيته.
وعدم دفنه في المقبرة العامة، وأن ذلك لأجل الحفاظ على عقيدة المسلمين من الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم، وأن يُفعل عند قبره كما فُعل عند قبور الأنبياء والصالحين في بني إسرائيل، هذا هو بيان الحكمة.
وهذا فيه بيان الإشكال الذي لا يزال يتردّد عند بعض الناس، ويقولون: إن مسجد الرسول مبني على القبر، فهذا دليل على جواز البناء على القبور بزعمهم.
ونقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدفن في المسجد، وإنما دفن في بيته خارج المسجد، والحكمة في ذلك ما ذكرته أم المؤمنين أنه خشي أن يتخذ مسجداً، فالبيت منفرد عن المسجد، وفي معزل عن المسجد، وإنما أدخل البيت في المسجد بعد عهد الخلفاء الراشدين في وقت الوليد بن عبد الملك؛ لما أراد أن يوسع المسجد عمّم التوسعة من جهة المشرق، فأدخل حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن هذا بمشورة أهل العلم، وإنما هذا عمل الخليفة بدون مشورة أهل العلم، ولكن مع هذا فالبيت لا يزال على شكله وحيازته، والمسجد لا يزال على وضعه والحمد لله، وما يحصل من النّاس الجهّال إنما يكون في مسجد الرسول وليس عند القبر، لأن القبر بعيد عنهم، ومَصُون(14/29)
عنهم، ولا يرونه، ولهذا لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه قال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد" استجاب الله دعاءه، فصانه في بيته، ولهذا يقول العلامة ابن القيم:(14/30)
ص -292- ... ولمسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلاً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فأجاب رب العالمين دعاءه ... وأحاطه بثلاثة الجدران
يعني: صار القبر داخل الجدران، فلا يُرى أبداً، وذلك صيانة له عن الغلو - عليه الصلاة والسلام-.
قوله: "ولمسلم عن جُندب بن عبد الله" هو: جُندب بن عبدالله البَجَلي، رضي الله تعالى عنه.
"قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس" يحتمل أن المراد: خمس سنين، ويحتمل أن المراد: خمس ليال.
"وهو يقول: إني أبرأ إلى الله" البراءة معناها: نفي الشيء والابتعاد عنه، كما يقال: برأ القلم إذا قطعه وأبعد جزءا منه، فالبرء هو: البعد والانقطاع، فـ "أبرأ إلى الله" أي: ابتعد عن ذلك وأكرهه.
"أن يكون لي منكم خليل" من الصحابة، فليس له من الصحابة خليل، والسبب في ذلك، أن الله اتخذه خليلاً، والخُلّة لا تقبل الاشتراك، فلا يمكن أن يكون خليل الله وخليل أحد من الخلق، لأن الخُلّة لابد أن تكون لواحد، لا تقبل الاشتراك، والخُلّة هي أعلى درجات المحبة، كما قال الشاعر:
تخللت مسلك الروح مني ... وبذا سمّي الخليل خليلاً(14/31)
وعباد الله وأنبياؤه كلهم يشتركون في المحبة، فالله يحب التوابين، ويحب المتطهرين ويحب المتقين، ويحب المحسنين، أما الخُلّة فهي لم تحصل إلاّ لاثنين فقط، هما: محمَّد صلى الله عليه وسلم وإبراهيم، كما في قوله تعالى {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً}، أما بقية الأنبياء والمؤمنين فإن الله يحبهم ويحبونه كما جاءت بذلك النصوص لكن لم يتخذ الله منهم خليلاً.
ثمّ قال صلى الله عليه وسلم: "ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً" يعني: على فرض لو صحّ لي وجاز لي أن أتخذ من أمتي خليلاً.(14/32)
ص -293- ... ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، إلاّ فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"لاتخذت أبا بكر خليلاً" فهذا فيه فضيلة أبي بكر الصديق- رضي الله تعالى عنه-، وأنه أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأبو بكر كنيته، أما اسمه: فعبد الله بن عثمان، ولُقّب بالصديق لكثرة صدقه مع الله سبحانه وتعالى ومع رسوله صلى الله عليه وسلم ومع عباد الله، فهو كثير الصدق، رضي الله تعالى عنه.
وفي قوله: "ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً" هذا فيه إشارة إلى استخلاف أبي بكر من بعده لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا في آخر حياته، كما أنه صلى الله عليه وسلم في مرض موته أمر أبا بكر أن يصلي بالناس، ولما قيل له عن عمر؛ أبى وغضب، وأمر أن يُؤمر أبو بكر أن يصلّي بالناس، فهذا فيه إشارة إلى خلافته.
وفي ذلك رد على الرافضة الذين يُبغضون أبا بكر الصديق، ويطعنون في خلافته وخلافة إخوانه: عمر وعثمان، ويقولون: إن الخلافة لعلي بعد الرسول، وإنما الصحابة اغتصبوها، وظلموا عليًّا، هكذا يقولون- قبحهم الله-. فعلي رضي الله هو الخليفة الرابع وهذا بإجماع المسلمين.
ثمّ قال صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن من كان قبلكم "ألا": حرف تنبيه، "وإن من كان قبلكم يتخذون القبور مساجد" يعني أن اليهود والنصارى يغلون في قبور الأنبياء ويبنون عليها المساجد ويصلون عندها.
"ألا فلا تتخذوا القبور مساجد" كرّر كلمة "ألا" مرة ثانية لأجل التنبيه والتأكيد. ومعنى اتخاذها مساجد أي: مصليات.
ثمّ لم يقتصر على هذا، بل قال: "فإني أنهاكم عن ذلك" تأكيد بعد تأكيد، لأهمية هذا الأمر.
واتخاذ القبور مساجد على معنيين:
المعنى الأول: وهو المراد بهذا الحديث-: اتخاذها مصليات يُصلّى عندها وإن لم يُبن مسجد، كما يأتي.(14/33)
ص -294- ... فقد نهى عنه في آخر حياته، ثمّ إنه لعن- وهو في السيّاق - من فعله.
والصلاة عندها من ذلك، وإن لم يُبن مسجد، وهو معنى قولها: "خشي أن يتخذ مسجداً"، فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجداً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المعنى الثاني: أن يُبنى عليها مسجد كما حصل من اليهود والنصارى وكما حصل في القرون المتأخرة من هذه الأمة.
وأول من بني المساجد على القبور- كما يقول الشيَّخ: تقي الدين هم: الشيعة الفاطميون في مصر والمغرب، ثمّ قلّدهم الخرافيون الذين ينتسبون إلى أهل السنّة من الصوفية وغيرهم، وبنوا على القبور، وهذا إنما حدث بعد القرون المفضلة، التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم نقل الشَّيخ رحمه الله كلام شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: "فقد نهى عنه في آخر حياته" يعني: قبل أن يموت بخمس- كما في حديث جُندب-.
"ثم إنه لعن- وهو في السياق-" في سياق الموت، كما في حديث عائشة الذي سبق: أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل به جعل يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها، فقال وهو كذلك- يعني: في هذه الحالة الحرِجة-: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
قالت عائشة رضي الله عنها: يحذّر ما صنعوا، ولولا ذلك لأُبرز قبره، غير أنه خُشي أن يتخذ مسجداً.
قال الشيخ: "فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجداً" لأنهم معصومون عن ذلك رضي الله عنهم، ولا يمكن ذلك أبداً في حقهم، بل لم تبن المساجد في القرون الأربعة كلها، لأن القرون الأربعة أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "خيركم قرني، ثمّ الذين يلونهم، ثمّ الذين يلونهم"، فإذا كانت القرون الأربعة لم يبن فيها على القبور مساجد فكيف يُبنى في عهد الصحابة الذين هم القرن الأول، رضي الله تعالى عنهم؟، فدلّ على أن المراد باتخاذها مساجد: تحرّي الصلاة عندها ظنًّا أن(14/34)
ص -295- ... وكل موضع قُصد الصلاة فيه فقد اتُّخذ مسجداً، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجداً كما قال صلى الله عليه وسلم: "جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصلاة عندها فيها مزيّة، وأنها يُستجاب الدعاء عندها، لأن ذلك وسيلة من وسائل الشرك، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة عند القبور، واتخاذها مساجد سدًّا لذريعة الشرك، لأنه إذا صُلّي عندها، ودُعِيَ عندها، فإن ذلك يتطوّر وتُدعى من دون الله، وتُعبد من دون الله، كما حصل عند الأضرحة الآن حيث صارت تُعبد من دون الله؛ فيُذبح لها، وينذر لها، ويُستغاث بالموتى، ويُتمرّغ على تُربتها، ويُعكف عندها، ويُطاف حولها كما يُطاف بالكعبة، كل ذلك لأن الباب فُتح لما بُني عليها.
ثمّ قال رحمه الله: "وكل موضع قُصدت الصلاة فيه" أي: كل موضع يُتردّد عليه ويصلى فيه، سواء كان عنده قبر أو ليس عنده قبر "فقد اتَّخذ مسجداً" وإن لم يُبن، ولو كان صحراء فهو يسمّى مسجداً، يعني: مكان صلاة ومكان سجود.
"بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجداً" حتى لو لم يُبْنَ عليه.
"كما قال صلى الله عليه وسلم: "جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً" يعني: صالحة للصلاة فيها.
فدلّ على أن المكان الذي يُصلى فيه يسمى مسجداً، سواءٌ قُصد أو لم يُقصد، سواءٌ بُني عليه أولم يُبن.
فالحاصل؛ أن معنى اتخاذ القبور مساجد يشمل معنيين:
المعنى الأول: الصلاة عندها وإن لم يُبن مسجد، وهذا هو المعنى المراد من الأحاديث.
والمعنى الثاني: بناء المساجد فيها والقِباب، وهذا- أيضاً- منهي عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب: "لا تدع قبراً مشرفاً إلاّ سوّيته" يعني: إلاّ هدمته، وسوّيته بالأرض، لأن هذا يفتن الناس، ويصبح وسيلة من وسائل الشرك.(14/35)
ص -296- ... ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود مرفوعاً: "إن من شرار النّاس من تُدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد". رواه أبو حاتم في صحيحه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثمّ قال: "ولأحمد" أي: لأحمد بن حنبل رحمه الله.
"بسند جيد، عن ابن مسعود مرفوعاً" إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: وليس من كلام ابن مسعود، وإنما هو من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.
"إن من شرار النّاس" شرار جمع: شر، وشر أفعل تفضيل، بمعنى أشر، أي: أشدّ الناس شرًّا.
"الذين تدركهم الساعة" أي: قيام الساعة، وذلك عند نفخة الصعق التي يموت بها الخلق- إلاّ من شاء الله-، وهي المذكورة في قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} صعقوا أي: ماتوا مرة واحدة من أثر الصعقة، إذا نفخ إسرافيل في الصورة النفخة الأولى صعق كل الأحياء، إلاّ من استثنى الله سبحانه وتعالى بقوله: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ}، {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} وهذه نفخة البعث. الأولى نفخة الموت، والثانية: نفخة البعث، ينفخ إسرافيل عليه السلام في الصور مرّة ثانية، فيقومون من قبورهم أحياء يمشون: {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}، وهذا بقدرة الله سبحانه وتعالى، فهاتان نفختان: نفخة الصعق، ونفخة البعث.
وهناك نفخة ثالثة ذكرها الله في آخر سورة النمل: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} فهذه نفخة الفزع، وبعض العلماء -كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره- يرون أن النفخات ثلاثة:
نفخة الفزع، وهي المذكورة في سورة النمل.
ونفخة الموت. ونفخة البعث. وهما المذكورتان في سورة الزمر.
وبعض العلماء يرى أنه ليس هناك إلاّ نفختان: نفخة الصعق، ونفخة البعث، ونفخة الصعق هذه عندهم هي(14/36)
نفخة الفزع، يفزعون ثمّ يموتون.
فالذين يحضرون هذا الحدث الهائل- وهو: نفخة الصعق- هم شرار الناس، لأن المؤمنين يموتون قبل ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة وفي الأرض من يقول: الله، الله" لأنه إذا كان فيها من يقول: الله، الله، ويذكر الله فالحياة تبقى في(14/37)
ص -297- ... هذه الدنيا، لأن ذكر الله والتّوحيد والعبادة عِمارة لهذه الأرض، فإذا فُقد ذلك أستحق أهلها العقوبة، فيحصل بذلك الموت العام.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله" فالمراد بذلك أنهم يموتون قبل ذلك، يقبض الله أرواحهم قبل ذلك بريح يرسلها الله تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة، ولا يحضرون هذا الحدث المروّع، رحمة من الله تعالى بهم.
يُستفاد من هذين الحديثين مسائل عظيمة:
المسألة الأولى: يُستفاد من الحديثين إثبات المحبة الله سبحانه وتعالى، وأنها صفة من صفاته، وأنه يحب أولياءه ورسله، ويحب عباده المؤمنين، وهذه صفة من صفاته اللائقة بجلاله، كما يُبغض الكافرين والمنافقين، ويكره، ويمقت، ويغضب، ويرضى، ويضحك، كل هذه من صفاته سبحانه وتعالى، وهي صفات لائقة به جلّ وعلا.
وهذا مذهب أهل السنّة والجماعة أنهم يثبتون ما جاء في الكتاب والسنّة من صفاته الذاتية، ومن صفاته الفعلية سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله، ومن ذلك: أثبات المحبة، وأنه يحب. وتكرّر ذكر محبته لعباده في آيات كثيرة: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ(4)}، إلى غير من الآيات والأحاديث التي تثبت أن الله يحب عباده المؤمنين.
المسألة الثانية: في الحديث دليل على أن الخُلّة أعلى درجات المحبة، ولذلك لم تحصل إلاّ للخليلين: محمد وإبراهيم- عليهما الصلاة والسلام-، أما بقية الأنبياء والصالحين فإن الله يحبهم، لكن لم تصل محبتهم إلى مرتبة الخُلّة.
وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم يحب أصحابه؛ فيحب عائشة، ويحب أبا بكر، ويحب عمر، وقال لمعاذ: "يا معاذ إني أحبك" فهو يحب أصحابه- عليه(14/38)
الصلاة والسلام-، أما الخُلّة فإنه لم يخالل أحداً منهم حتى ولا أبا بكر، لأن الخُلّة لا تقبل الاشتراك، فلم(14/39)
ص -298- ... تكن إلاّ لله سبحانه وتعالى خالصة، فهذا فيه دليل على أن الخُلّة أعلى درجات المحبة. وقولا بعض الصحابة: خليلي رسول الله هذا من قبل الصحابي لا من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم.
المسألة الثالثة: فيه دليل على فضل الخليلين: محمَّد وإبراهيم - عليهما الصلاة والسلام-، حيث نالا هذه المرتبة التي لم ينلها أحد غيرهم.
المسألة الرابعة: في الحديث دليل على فضل أبي بكر الصدّيق، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: " لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً" فهذا فيه فضيلة أبي بكر، وفيه إشارة إلى استخلافه من بعده.
المسألة الخامسة: في الحديث دليل على تحريم الصلاة عند القبور، وبناء المساجد عليها، لأن قوله صلى الله عليه وسلم: "فلا تتخذوا القبور مساجد" يشمل المعنيين: الصلاة المجردة عن البناء، أو مع البناء على القبر، كله من اتخاذها مساجد، وذلك سدًّا لذريعة الشرك، لا كما يقوله من قل فهمه أو أراد التضليل ممن زعم أن العلة هي: نجاسة المكان، فهذه علة غير صحيحة، لأن المكان ليس فيه نجاسة. أو من قال: المراد لا يصلي فوق القبر.
المسألة السادسة: في الحديث دليل على بطلان الصلاة عند القبور، أو في المساجد المبنيّة على القبور، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، والنهي يقتضي الفساد عند الأصوليين، فالذي يصلي عند القبر صلاته غير صحيحة، فعليه أن يعيد الفريضة، لأن صلاته عند القبر أو في المسجد المبني على القبر غير صحيحة، لأنها صلاة منهي عنها، والصلاة المنهي عنها غير مشروعة، فهي لا تصحّ.
المسألة السابعة: في الحديث دليل على أن الذين يتخذون القبور مساجد شرار الخلق، فالذين يفعلون هذا الفعل سواء كانوا من اليهود أو من النصارى أو من المنتسبين إلى الإسلام هم شر الخلق، لا أحد شر منهم، والعياذ بالله.
المسألة الثامنة: أن الحديث يدل على أن الساعة لا تقوم على أهل الإيمان، وإنما تقوم على الكفار، لأن أهل(14/40)
الإيمان من خير الناس، وليسوا شر الناس،(14/41)
ص -299- ... فلا تقوم عليهم الساعة، وإنما يموتون قبل ذلك، تُقبض أرواحهم كما دلّت على ذلك الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الله يُرسل ريحاً قبل قيام الساعة تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة، فلا يبقى في الأرض إلاّ الكفّار وشرار الخلق، يتهارجون كما تتهارج الحُمُر، لأنهم ليس عندهم دين، ولا خلق، ولا مروءة.(14/42)
ص -300- ... [الباب الحادي والعشرون:]
* بابُ ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيّرها أوثاناً تعبد من دون الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله رحمه الله: "باب ما جاء" أي: من الوعيد.
"إن الغلو في قبور الصالحين" الغلو تقدم لنا معناه، وهو: الزيادة عن الحد المشروع.
والغلو في قبور الصالحين هو: الزيادة في تعظيمها، لأن ذلك يؤدي إلى الشرك، لأن المشروع في قبور الصالحين- وقبور المسلمين عموماً- احترامها، وعدم إهانتها، وصيانتها عن الأذى، وزيارتها للسلام على الأموات، والدعاء لهم، والاعتبار بأحوالهم، هذا هو المشروع، أما الغلو فهو قصدها للتبرّك، أو الدعاء عندها، أو الصلاة عندها رجاء الإجابة، هذا هو الغلو، لأن هذا لم يشرعه الله ولا رسوله، ولأنه وسيلة إلى الشرك.
"يصيّرها" أي: يجعلها في المستقبل، وعلى امتداد الزمان.
"أوثاناً تعبد" الأوثان: جمع وثن، والوثن ما عُبد من دون الله من قبر، أو شجر، أو حجر، أو بقاع، أو غير ذلك، أما الصنم فهو: ما عُبد من دون الله وهو على صورة إنسان أو حيوان، كما كان قوم إبراهيم يعبدون التماثيل: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ(52)}، والتماثيل جمع تمثال، وهو: ما كان على صورة إنسان، أو حيوان هذا هو الفرق بين الوثن والصنم، وقد يراد بالصنم الوثن، والعكس.
والشارع رحمه الله يقول: إذا ذكر أحدهما شمل الآخر، إذا ذكر الصنم فقط دخل فيه الوثن، وإذا ذُكر الوثن فقط دخل فيه الصنم، أما إذا ذُكرا جميعاً افترقا في المعنى، فصار الصنم: ما كان على شكل تمثال، وأما الوثن فيراد به: ما عبد من دون الله من الشجر، والحجر، والقبور والصور وغير ذلك، ولم يكن على صورة تمثال، فبينهما عموم وخصوص مطلق، يجمعها أنها تُعبد من دون الله عزّ وجلّ.(14/43)
ص -301- ... روى مالك في "الموطأ" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال "روى مالك" هو: مالك بن أنس إمام دار الهجرة واحد الأئمة الأربعة المجتهدين: الذين هم أبو حنيفة، ومالك، والشافعي وأحمد أصحاب المذاهب الأربعة الباقية.
وهناك مذاهب لأهل السنّة، لكن انقرضت، مثل:. مذهب سفيان الثوري، ومذهب ابن جرير الطبري.
فمالك هو أحد الأئمة الأربعة المقلَّدين، وهو إمام جليل، يسمى بإمام دار الهجرة -يعني: المدينة-، ويسمى عالم المدينة، واشتهر في وقته، حتى قيل: لا يُفتى ومالك في المدينة، وذلك لعظيم منزلته وثقة النّاس به، رحمه الله رحمة واسعة.
"في الموطأ" الموطأ: كتاب أَلَّفَه مالك في الحديث والفقه، حيث يذكر فيه الأحاديث ويذكر فقهها، وما يؤخذ منها، فهو كتاب عظيم من الكتب التي جمعت بين الفقه والحديث، ومرجع من مراجع الأمة الإسلامية، شرحه علماء كثيرون، لكن أشهر شروحه: "التمهيد" لابن عبد البر، وشرحه أبو الوليد الباجي في كتابه: "المنتقى"، وشرحه الزُّرقاني- أيضاً-، وشرحه السيوطي، وله شروح كثيرة، لكن أشهرها وأعظمها وأكثرها فائدة هو: كتاب: "التمهيد" للإمام ابن عبد البر النَّمَري رحمه الله.
سُمي الموطأ من التوطئة وهي: التسهيل والتقريب، لأنه رحمه الله سهَّله للناس، ووطّأه للناس بترتيبه وتبويبه، حتى أصبح سهلاً، هذا معنى تسميته بالموطأ.
"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد" هذا دعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم، دعا به ربه أن يصون قبره من الغلو به، كما حصل لقبور الأنبياء السابقين من اليهود والنصارى حيث غلوا في قبور أنبيائهم، فقال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد" فدلّ على أن الغلو في القبر يصيّره وثناً، وهذا الشاهد من الحديث للباب، ولكن الله حماه(14/44)
ولله الحمد، حماه بأن دفن في بيته، ومُنع النّاس من الوصول إليه وسيبقى مصوناً- بإذن الله- استجابة لدعوة رسوله صلى الله عليه وسلم، ودفن في بيته من أجل هذا، كما مر قول عائشة: "ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خُشي أن يُتخذ مسجداً" فدفنه صلى الله عليه وسلم في بيته له سرٌّ عظيم، هو: صيانته من قصد النّاس له بالدعاء، والصلاة عنده، والتبرّك به، يقول ابن القيم رحمه الله:(14/45)
ص -302- ... فأجاب ربُ العالمين دعاءه ... وأحاطه بثلاثة الجدران
والمشروع: السلام عليه من غير مكوث عنده وطول قيام ولا تكرر زيارة كما كان الصحابة يفعلون ذلك:
فقد كان ابن عمر يقف- إذا جاء من سفر- مقابل وجه النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: السلام عليك يا رسول الله، ثمّ يتأخر إلى جهة الشرق قليلاً فيقول: السلام عليك يا أبا بكر، ثمّ يتأخر قليلاً فيقول: السلام عليك يا أبت، ثمّ ينصرف.
وهكذا كان عمل المسلمين عند السلام على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه رضي الله عنهما، ما كانوا يجلسون، وما كانوا يتردّدون، حتى إن الصحابة في المدينة ما كانوا كلما دخلوا إلى المسجد راحوا يسلمون على الرسول، لأن هذا يُعتبر من الغلو، إنما كانوا يسلمون على الرسول إذا جاءوا من سفر- كما فعل ابن عمر رضي الله تعالى عنه-، فالصحابة يأتون إلى المسجد، ويتردّدون عليه للصلاة، ولطلب العلم، وللاعتكاف فيه، لكن ما كانوا كلما دخلوا ذهبوا يسلمون على الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنهم عرفوا أن هذا من الغلو الذي حذّر منه النبي صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم النّاس وافقه النّاس بمقاصد الرسول. ومن أجل ذلك ما كانوا يتردّدون على القبر، حتى إن مالكاً رحمه الله، كان يكره أن يقول الإنسان: زرت قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرِد بها دليل خاص، والأحاديث المروية في زيارة قبره كلها موضوعة أو ضعيفة شديدة الضعف، لم يثبت منها شيء، وإنما تدخل زيارة قبره صلى الله عليه وسلم في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "زوروا القبور، فإنها تذكركم الآخرة"، فزيارة قبره تدخل في عموم زيارة القبور التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم، أما أنه ورد لفظ خاص بزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا لم يثبت أبداً، كما نبّه على ذلك الحفاظ؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن حجر، وابن عبد الهادي، وغيرهم من الأئمة(14/46)
الحفاظ.
ولابن عبد الهادي كتاب مستقل اسمه: "الصارم المنكي في الرد على السبكي" تناول الأحاديث التي استدل بها السبكي على مشروعية السفر لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فبين ما فيها من المقال واحداً واحداً، حتى أتى على آخرها.
فهذا الكتاب- الصارم المنكي- كتاب نفيس جدًّا، يحتاجه طالب العلم،(14/47)
ص -303- ... ولابن جرير بسنده: عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19)} قال: "كان يَلُتُّ لهم السّويق، فمات، فعكفوا على قبره".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليتسلح به ضد الخرافيين الذي يحتجون بهذه الأحاديث التي لا تصلح للاحتجاج.
ثمّ قال صلى الله عليه وسلم: "اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" تحذير بعد تحذير، حيث سبق عدة مرات أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى وهو في سياق الموت لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد؛ يحذّر ما صنعوا، وقال- قبل أن يموت بخمس-: "ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد إلاَّ فلا تتخذوا القبور مساجد" وهنا يقول: "اشتد غضب الله". "غضب الله" والغضب صفة من صفاته سبحانه وتعالى فالله يغضب، كما أنه يفرح ويضحك ويحب، كما جاءت بذلك النصوص، وكل هذه الصفات تليق بجلاله، ليس كغضب المخلوق، ولا كفرح المخلوق، ولا كضحك المخلوق، ويحب كما يليق بجلاله لا كمحبة المخلوق.
ونُثبت لله ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله من الصفات من غير تحريف ولا تأويل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فنُثبت أن الله يغضب، وأنه يشتدّ غضبه، وأنه يمقت، والمقت أشد الغضب: {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ}، فالله يمقت بمعنى: أنه يشتد غضبه.
وهذا فيه أن من جعل القبر مسجداً فقد اتخذه وثناً يُعبد.
ودلّ على أن هذه الأضرحة المبنية على القبور التي يُطاف بها الآن، وينذر لها، ويُذبح لها، ويُستغاث بها أوثان، لا فرق بينها وبين اللاّت والعزّى ومناة الثالثة الأخرى، وإن سموها مساجد، أو سموها مقامات للصالحين، فالتسمية لا تغير المعنى، فهي أوثان كما سماها الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: "ولابن جرير" ابن جرير هو: الإمام الجليل، إمام المفسرين، محمَّد بن جرير الطبري، صاحب كتاب "التفسير" الذي أصبح مرجعاً للمفسرين الذين(14/48)
جاءوا من بعده، فأعظم التفاسير هو تفسير ابن جرير، أما تفاسير أهل الكلام وأهل المنطق فليس مرجعها كتب أهل السنّة، بل مرجعها قواعد المنطق وعلم الكلام،(14/49)
ص -304- ... مثل: "تفسير الرازي" و"تفسير الزمخشري" وفيها من الخلط، وفيها مر الشر الشيء الكثير، وإن كان فيها فوائد، "تفسير الزمخشري" فيه فوائد لغوية، وأسرار بلاغية، وبيان لتفسير الألفاظ من جهة اللغة، فهو جيد من هذه الناحية، ولكنه من ناحية العقيدة ومن ناحية التأويل يشتمل على كثير من الشر والقول بخلق القرآن، فهو من هذه الناحية تفسير مختلط، لا يصلح أن يطالع فيه إلاَّ طالب العلم المتأصّل من أجل أن يأخذ ما فيه من الفوائد، ويترك ما فيه من الأباطيل، أما المبتدئ والجاهل فلا يصلح أن يطالع في تفسير الزمخشري.
وأما: "تفسير الرازي" فهو أكثر شيئاً شرًّا من: "تفسير الزمخشري" لأنه كله جدل وافتراضات، وأحياناُ يأتي بإشكالات ولا يُجيب عليها.
إنما التفاسير الموثوقة هي التفاسير المبنية على كلام الله عزّ وجلّ على قواعد التفسير المعروفة: تفسير القرآن بالقرآن، أو تفسير القرآن بالسنّة، أو تفسير القرآن بأقوال الصحابة، أو تفسير القرآن بمقتضى اللغة العربية، هذه وجوه التفسير.
أما أن يُدخل فيها علم الكلام وعلم المنطق، فهذا ليس من التفسير.
فأوثق التفاسير هو: "تفسير ابن جرير" وكذلك: "تفسير ابن كثير"، وكذلك: "تفسير البغوي" هذه كتب موثوقة، تنهج منهج السلف، وتفسر القرآن بالوجوه المعروفة التي هي وجوه التفسير الصحيحة، وما عداها ففيه خلط.
وكل مفسر له اتجاه، بعضهم يتجه إلى النحو كأبي حيّان، وبعضهم يتجه إلى البلاغة كالزمخشري، وبعضهم يتجه إلى الأحكام الفقهية كالقرطبي.
قال: "عن سفيان" سفيان هذا يحتمل أنه: سفيان بن عيينة، الإمام المشهور، ويحتمل أنه: سفيان الثوري، وهذا هو الذي رجّحه الشارح.
وسفيان الثّوريّ إمام جليل في علم الحديث وفي علم الفقه، وله مذهب مستقلّ، لكنه انقرض.
"عن منصور" منصور هو: منصور بن المعتمر، إمام جليل وثقة.
"عن مجاهد" مجاهد بن جَبْر، التابعي الجليل، من أكبر تلاميذ عبد الله بن عباس- رضي الله(14/50)
تعالى عنهما-، وهو الذي يقول: "عرضت المصحف على ابن(14/51)
ص -305- ... وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: "كان يَلُتُّ السّويق للحاجّ".
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسُّرج " رواه أهل السنن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عباس من أوله إلى آخره، أقف عند كل آية، وأسأله عن معناها" هذا هو مجاهد بن جَبْر، من أكبر أئمة المفسرين، ومن أكبر تلاميذ عبد الله بن عباس- رضي الله تعالى عنهما-.
"في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى(19)}" هذه أسماء أصنام العرب.
اللاّت في الطائف، والعزى في مكّة عند عرفات، ومناة على طريق المدينة بالمشلّل عند قُدَيْد، كان يُحرِم منها المشركون إذا جاءوا للحج. والشاهد من ذلك: اللاّت.
"قال: كان يَلُتُّ لهم السّويق " ولَتُّ السويق هو: خلطه بالسمن.
كان هذا الرجل يعمل هذا العمل من أجل إطعام النّاس، يعني: يُحسن إلى النّاس، فأحبوه، وتعلقت قلوبهم به، لأنه يبذل الطعام، فلما مات عكفوا على قبره حتى صار وثناً.
"فمات، فعكفوا على قبره " دل على أن الغلو في قبور الصالحين يصيّرها أوثاناً تُعبد من دون الله، لان اللاّت رجل صالح ما صار قبره وثناً إلاَّ بسبب الغلو فيه، والعكوف عند قبره.
"وكذا قال أبو الجوزاء" وأبو الجوزاء هو: سفيان بن عبد الله الرَّبَعي.
"عن ابن عباس قال: كان يَلُتُّ السّويق للحاج" هذا مثل رواية ابن جرير، في أن اللات اسم رجل غلو في قبره حتى صار وثناً يعبد.
قال: "وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم"" اللعن هو: الطرد والإبعاد عن رحمة الله عزّ وجلّ.
ومعنى "لعن رسول الله": دعا عليهم باللعنة.
فهذا فيه دليل على لعن أصحاب الكبائر.
"زائرات القبور" أي: النساء اللاتي تزور القبور.(14/52)
ص -306- ... فدلّ هذا على تحريم زيارة النساء للقبور، وهذا مذهب الجمهور أهل العلم، أنه لا يجوز للنساء أن تزور القبور لهذا الحديث.
قال العلماء: لأن المرأة ضعيفة، فإذا رأت قبر قريبها من ابنها، أو أبيها، أو أخيها، أو زوجها، فإنها لا تملك نفسها من النياحة ومن الجزع.
وأيضاً: المرأة عورة، فإذا ذهبت إلى المقابر واختلطت بالرجال حصل من ذلك فواحش وزنى وشر، لأنها فتنة، كما هو الواقع الآن عند الأضرحة من اختلاط النساء بالرجال، وما يحصل من المفاسد.
وذهب بعض العلماء إلى جواز زيارة النساء -للقبور أخذاً من عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنها تذكر بالآخرة" قالوا: هذا لفظ عام يدخل فيه الرجال والنساء.
والجواب عن ذلك من وجهين:
الوجه الأول: أن قوله: "فزوروها" هذا الخطاب للرجال، وخطاب الرجال لا تدخل فيه النساء.
الوجه الثاني: أنه على فرض أن هذا الخطاب عام للرجال والنساء، فإنه مخصوص بهذا الحديث.
واحتجّوا- أيضاً- بأن عائشة رضي الله عنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن. قالوا: فهذا دليل على جواز زيارة النساء للقبور.
والجواب عن ذلك: أن فعل عائشة هذا محمول على أنها لم يبلغها النهي، ولو بلغها النهي لم تكن لتخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والجواب الثاني: وعلى فرض أنها بلغها هذا الحديث، فهذا اجتهاد منها، ولا شك أن الحجة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا في اجتهاد المجتهدين.
فبناءً على ذلك فالقول الصحيح الراجح هو: منع النساء من زيارة القبور، وأن كان بعض الباحثين في هذا العصر أظهر هذه المسألة وكتب فيها، وأباح للنساء زيارة القبور، فهذا قول مرجوح، ولم يأت بجديد وإنما أثار هذه المسألة فقط، ولا يجوز(14/53)
ص -307- ... لطالب العلم أنه يتتبّع المسائل الغريبة ويذهب يثيرها من جديد، ويبعثها على النّاس من جديد، لما يترتب على ذلك من المفاسد.
قوله: "زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسُّرج" أما لعنه المتخذين عليها المساجد فهذا سبق في قوله صلى الله عليه وسلم: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
وأما لعنة المتخذين عليها السّرج، فالمراد بذلك: إضاءة المقبرة بالأنوار. لأن هذا وسيلة إلى الغلو في القبور، ويُفضي إلى الشرك، فإن هذا يجلب إليها أنظار النّاس والجُهّال، ثمّ يزورونها، ويتردّدون عليها، ثمّ يؤول هذا إلى الشرك، فلا يجوز أن تُضاء المقابر، بل تُجعل المقابر خالية من الإضاءة، وإذا احتاج النّاس إلى دفن ميّت في الليل فإنهم يأخذون معهم سراجاً، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة عند الدفن بالليل.
وفي هذه النصوص فوائد عظيمة:
الفائدة الأولى: أن الغلو في قبور الأنبياء يصيّرها أوثاناً تُعبد من دون الله بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبد".
ومن الغلو فيها: اتخاذها مساجد، كما قال صلى الله عليه وسلم: "اشتدّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يعني: مصليات، يصلون عندها رجاء الإجابة.
الفائدة الثانية: أن الله سبحانه صان قبر رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجاب دعاءه، فحفظ من الغلو فيه، وأحيط بالجُدارن التي تمنع الوصول إليه، بل تمنع رؤيته والوصول إليه، كل ذلك من أجل منع الغلو في قبره صلى الله عليه وسلم.
الفائدة الثالثة: فيه أن العكوف على قبور الصالحين يصيّرها أوثاناً تُعبد من دون الله، كما حصل لقبر اللاّت، فإنه صار وثناً بسبب العكوف عنده بعد موته، كما أن الشرك حصل في قوم نوح بسبب الغلو في الصالحين، فسياسة إبليس- لعنه الله - واحدة مع الأولين والآخرين، يأتي النّاس من باب الغلو في الصالحين.
الفائدة الرابعة: فيه الردّ على من زعم أن(14/54)
البناء على قبور الصالحين من محبة(14/55)
ص -308- ... الصالحين، ويقولون: أنتم لا تبنون على قبور الصالحين لأنكم تبغضون الصالحين.
ففي هذا الحديث وهذه الآية ردٌّ عليهم وأن البناء على قبورهم والغلو فيها ليس من محبتهم، وإنما هو من اتخاذهم أوثاناً تُعبد من دون الله.
الفائدة الخامسة: في الحديث دليل على تحريم زيارة النساء للقبور، وهو مخصِّص لقوله صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها"، فالرسول صلى الله عليه وسلم في أول الأمر منع من زيارة القبور مطلقاً للرجال والنساء، لأنهم كانوا حديثي عهد بالشرك وبالجاهلية، فمنعهم من زيارة القبور خشية من أن يترسّب فيهم شيء من أمور الجاهلية عند القبور، فلما استقر التّوحيد في قلوبهم، وعرفوا التّوحيد، أَذِن للرجال في زيارة القبور خاصة، ومنع النساء، لأن المحذور باق في حقهن.
الفائدة السادسة: في الحديث دليل على تحريم إضاءة المقابر بالأنوار، بأي وسيلة، سواء كان بالسُّرج، أو كان بالكهرباء، أو غير ذلك، كل أنواع الإضاءة على حسب الأزمنة ممنوعة، والواجب أن تكون القبور خالية من الإضاءة، لأن الإضاءة وسيلة إلى اتخاذها أوثاناً، والرسول صلى الله عليه وسلم لعن من فعل ذلك، لأنه وسيلة إلى الشرك.(14/56)
ص -309- ... [الباب الثاني والعشرون:]
* بابُ ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التّوحيد وسدّه إلى طريق يوصل إلى الشرك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب عقده الشَّيخ رحمه الله في بيان حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم لجناب التّوحيد، والأبواب التي قبله- أيضاً- هي في حماية التّوحيد، لكن الأبواب التي قبله عامة، وما في هذا الباب أمور خاصة، وإلاَّ كل الأبواب السابقة: الغلو في الصالحين، وبناء المساجد على القبور، والغلو في القبور، كل هذا من الوسائل المُفضية إلى الشرك، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها سدّاً للطريق الموصِّل إلى الشرك، وهذه الأبواب كلها في موضوع واحد.
ولا تعجبوا من كون الشَّيخ كرّر هذه الأبواب واحداً بعد واحد، لأن هذه المسألة عظيمة، فالشرك إنما حصل في هذه الأمة بسبب الفتنة في القبور والغلو فيها، وبسبب الغلو في الصالحين، والغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم، فالشرك إنما حصل في هذه الأمة بسبب هذه ا لأمور، منذ أن بُنيت المساجد على القبور، ومنذ أن ظهر التصّوف في هذه الأمة، والشرك يكثر ويتعاظم في هذه الأمة، من رحم الله عزّ وجلّ، فالأمر خطير جدًّا، ولذلك كرّر الشَّيخ رحمه الله في هذا الموضوع، وأبدى وأعاد، لأنه هو المرض الذي أصاب الأمة في أجل أن ينبه العلماء، وينبه المسلمين على هذا الخطر الشديد ليقوموا بعلاجه، والدعوة إلى التّوحيد، ونفي الشرك من هذه الأمة، وإلاَّ إن سكت العلماء عن هذا الأمر فإنه يتعاظم، وبالتالي في النّهاية يكثر الجهل، وتعتبر هذه الأمور من الدين، ويعتبر من نهى عنها من الخارجين عن الدين كما حصل الآن؛ أن من ينكر هذه الأمور، وينبه النّاس إلى خطرها، ويدعو إلى التّوحيد يرمونه بأنه متشدد، وأنه خارج عن الأمة، لأن ا لأمة عندهم هم عباد القبور، ومن أنكر عبادة القبور صار خارجاً عن الأمة، وهذا من قلب الحقائق -والعياذ بالله-، فالدين(14/57)
الذي جاءت به الرسل هو إخلاص العبادة لله عزّ وجلّ، هذا هو الدين.
أما عبادة القبور فهي دين أبي جهل وأبي لهب ودين المشركين، ليست في دين الرسل- عليهم الصلاة والسلام-، ولكن إذا ظهر الجهل، وظهر إتباع الهوى حصل في الأمة ما حصل من جعل هذه الأمور الشركية من الدين، وجعل التّوحيد هو الخروج عن الدين، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله.(14/58)
ص -310- ... وقول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} الآية.
............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب ما جاء في حماية المصطفى" المصطفى معناه: المختار، من الصفوة، أصله: مصتفى بالتاء، ثم أُبدلت التاء طاء، فصار مصطفى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} يعني: يختار، {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ(47)}، أي: المختارين، ومنهم: نبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم، بل هو خيرهم وأفضلهم، فهو المصطفى صلى الله عليه وسلم، اختاره الله للرسالة، والقيام بدعوته على فترة من الرسل، وهو خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم.
وقوله: "جناب التّوحيد" الجناب هو: الجانب، فالجناب والجانب بمعنى واحد، أي: حمايته صلى الله عليه وسلم حدود التّوحيد من أن يدخل عليه الشرك بسبب وسائل الشرك والتساهل فيها، فالرسول صلى الله عليه وسلم حمى حدود التّوحيد حماية بليغة، بحيث أنه نهى عن كل سبب أو وسيلة توصِّل إلى الشرك، ولو كانت هذه الوسيلة في أصلها مشروعة كالصلاة، فإذا فُعلت عند القبور، فهو وسيلة إلى الشرك، ولو حسُنت نية فاعلها، فالنية لا تبرّر ولا تزكي العمل إذا كان يؤدي إلى محذور، والدعاء مشروع، ولكن إذا دعى عند القبر، فهذا ممنوع، لأنه وسيلة إلى الشرك بهذا القبر، هذا سدّ الوسائل.
فالرسول نهى عن الصلاة عند القبور، ونهى عن الدعاء عند القبور، ونهى عن البناء على القبور، ونهى عن العكوف عند القبور، واتخاذ القبور عيداً، إلى غير ذلك، كل هذا من الوسائل التي تُفضي إلى الشرك، وهي ليست شركاً في نفسها، بل قد تكون مشروعة في الأصل، ولكنها تؤدي إلى الشرك بالله عزّ وجلّ، ولذلك منعها صلى الله عليه وسلم.
قال: "وقول الله تعالى: {لَقَدْ(14/59)
جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} وتمام الآية: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}، هذه الآية في ختام سورة التوبة.
قوله تعالى: "{لَقَدْ جَاءَكُمْ}" اللاّم لام القسم، تدلّ على قسم مقدّر، تقديره: والله لقد جاءكم، وقد حرف تحقيق. والخطاب للعرب خاصة، وهو للناس(14/60)
ص -311- ... ............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عامة- أيضاً، لكن للعرب خاصة لأن الرسول عربي، بُعث بلسانهم، فالمنة عليهم به أعظم.
"{لَقَدْ جَاءَكُمْ}" أيها المسلمون عمومًا والعرب خصوصاً.
"{رَسُولٌ}" الرسول هو: من أوحي إليه بشرع وأُمر بتبليغه.
وأما النبي فهو: من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه.
هذا التعريف المشهور عند أهل العلم، ويذكره المفسرون عند قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ}، من سورة الحج، يذكرون هناك تعريف الرسول وتعريف النبي، والفرق بينهما، وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في كتبه، وأشهرها كتابه: "النبوات": "الرسول من أوحي إليه بشرع، بخلاف النبي فإن النبي يبعث بشريعة من قبله، كأنبياء بني إسرائيل، يُبعثون بالدعوة إلى التوراة التي نزلت على موسى عليه السلام".
وقد يوحى إلى النبي وحي خاص في بعض القضايا، لكن الغالب أنه يُبعث بشريعة سابقة، كأنبياء بني إسرائيل، أما الرسول فإنه يُبعث بشريعة مستقلّة.
والمراد بتبليغه هنا: الجهاد والإلزام، أي: أُمر أن يُلزم النّاس بإتباعه، ويجاهدهم على ذلك، خلاف النبي فإنه يؤمر بالتبليغ، بمعنى: تعليم النّاس شرع من قبله وإفتائهم فيه. وهذا مأمور به غير الأنبياء، حتى العلماء.
فالتبليغ الذي معناه التعليم والإفتاء، وبيان الحلال والحرام والحق من الباطل، هذا مأمور به كل من عنده علم، إنما المراد بالتبليغ هنا: التبليغ الخاص الذي هو الإلزام، والجهاد على ذلك. والنبي أيضاً يجاهد. لكن يجاهد على شرع من قبله.
"{مِنْ أَنْفُسِكُمْ}" أي: من جنسكم من العرب، تعرفون لسانه، ويخاطبكم بما تعرفون، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ(14/61)
لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}، فهذا من نعمة الله أن جعل هذا الرسول عربيًّا يتكلم بلغتنا، ولم يجعله أعجمياً لا نفهم ما يقول، ولهذا قال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ}.
فمن رحمة الله أن جعل هذا الرسول يتكلم بلغتنا، ونعرف نسبه، ونعرف لغته،(14/62)
ص -312- ... ولم يكن أجنبياً لا نعرفه، أو يكن أعجمياً لا نفهم لغته، هذا من تمام النعمة على هذه الأمة، ولم يكن من الملائكة، وهم جنس آخر من غير بني آدم، بل هو من جنسنا، ويتكلم بلغتنا.
"{عَزِيزٌ عَلَيْهِ}" أي: شاقٌّ.
"{مَا عَنِتُّمْ}" العنت معناه: العتب والمشقّة، ومعناه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يشق عليه ما يشق على أمته، وكان يحب لهم التسهيل دائماً، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يجب أن يأتي بعض الأعمال ولكنه يتركها رحمة بأمته خشية أن يشق عليهم، ومن ذلك: صلاة التراويح، فإنه صلاها بأصحابه ليالي من رمضان، ثم تخلف عنهم في الليلة الثالثة أو الرابعة، فلما صلّى الفجر، بيّن لهم صلى الله عليه وسلم أنه لم يتخلّف عنهم إلاَّ خوف أن تُفرض عليهم صلاة التراويح، ثمّ يعجزوا عنها، هذا من رحمته وشفقته بأمته.
وقال صلى الله عليه وسلم: "لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"، فلم يمنعه من ذلك إلاَّ خوف المشقة على أمته، وكان يحب تأخير صلاة العشاء إلى ثلث الليل، ولكنه خشي المشقة على أمته عليه الصلاة والسلام.
وهكذا كل أوامره-، يراعي فيها التوسيع على الأمة، وعدم المشقة، لا يحب لهم المشقة أبداً، ويحب لهم دائماً التيسير عليهم، ولذلك جاءت شريعته سمحة سهلة، كما قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ}.
ولما ذكر الإفطار في رمضان للمسافر والمريض ذكر أنه شرع ذلك من أجلا التسهيل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}.
هذا من صفة هذا الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يحب التيسير لأمته، ويكره المشقة عليها.
"{بِالْمُؤْمِنِينَ}" وخاصة.
"{رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}" الرأفة هي: شدّة الشفقة، {رَحِيمٌ} يعني : عظيم الرحمة بأمته صلى الله عليه وسلم، أما بالكفّار فإنه كان شديداً على(14/63)
الكفّار، كما وصفه الله تعالى بذلك: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، وكما قال الله سبحانه وتعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} يعني: رحماء، {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} يعني:(14/64)
ص -313- ... يتصفون بالغلظة والشدة على الكافرين، لأنهم أعداء لله وأعداء لرسوله، فتناسبهم الشدة والغلظة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} لأنهم كفار، لا تأخذكم بهم الرحمة والشفقة فلا تقاتلونهم، بل قاتلوهم، واقتلوهم، ما داموا مصرين على الكفر: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، الكافر ليس له جزاء إلاَّ القتل إذا أصر على الكفر، أو يخضع لحكم الإسلام ويدفع الجزية صاغراً، هذا في الدنيا. وأما في الآخرة فله النار -والعياذ بالله-، وهذا أشد من القتل، لأنه عدو لله، وعدو لرسوله، وعدو لدينه، فلا تناسب معه الرحمة والشفقة.
فهذه الآية الكريمة مناسبة إيراد الشَّيخ رحمه الله قي هذا الباب: أنه إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم متصفاً بهذه الصفات التي هي أنه: عربي، يتكلم بلساننا ونفهم لغته، وأنه يشق عليه ما يشق علينا، وأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم، فهل يليق بمن هذه صفاته أن يترك الأمة تقع في الشرك الذي يُبعدها عن الله، ويُسبب لها دخول النار؟، هل يليق بمن هذه صفاته أن يتساهل بأمر الشرك؟، أو أن يتركه ولا يهتم بالتحذير منه، ى لأن هذا هو أعظم الخطر على الأمة؟ وهذا هو الذي يشق على الأمة، لأنه يفسد عليها حياتها، ولا يجعل لها مستقبلاً عند الله عزّ وجلّ، لأن المشرك مستقبله النار، ليس له مستقبل إلاَّ العذاب، فهل يليق بهذا الرسول الذي هذه صفاته أن يتساهل في أمر الشرك؟، لا، بل اللاّئق به أن يبالغ أشد المبالغة في حماية الأمة من الشرك، وقد فعل صلى الله عليه وسلم، فقد سد كل الطرق الموصلة إلى الشرك بالأحاديث التي مرت في الأبواب السابقة.
هناك ناس الآن(14/65)
يقولون: لا تذكروا الشرك، ولا تذكروا العقائد، يكفي التسمّي بالإسلام، لأن هذا ينفّر النّاس ويفرق الناس، اتركوا كلاًّ على عقيدته، دعونا نجتمع ولا تفرقونا.
يا سبحان الله، نترك الشرك ولا نتكلم في أمر التّوحيد من أجل أن نجمع الناس؟!!.(14/66)
ص -314- ... عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليَّ؛ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم" رواه أبو داود بإسناد حسن، ورواته ثقات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا الكلام باطل من وجوه:
أولاً: لا يمكن اجتماع النّاس إلاَّ على العقيدة الصحيحة.
وثانياً: ما الفائدة من الاجتماع على غير عقيدة، هذا ماذا يؤدي إليه؟، لا يؤدي إلى نتيجة أبداً.
فلا بد من الاهتمام بالعقيدة، ولابد من تخليصها من الشرك، ع ولا بد من بيان التّوحيد، حتى يحصل الاجتماع الصحيح على الدين، لا يجتمع النّاس إلاَّ على التّوحيد، لا يوحد النّاس إلاَّ كلمة: لا إله إلاَّ الله؛ قولاً وعملاً واعتقاداً.
هذا هو الذي جمع العرب على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وجعلهم أمة واحدة هو الذي يجمعهم في آخر الزمان، أما بدون ذلك فلا يمكن الاجتماع مهما حاولتم، فلا تتعبوا أنفسكم أبداً، وهذا من الجهل أو من المغالطة.
فالتّوحيد ليس هو الذي يفرق الناس، بل العكس؛ الذي يفرق النّاس هو الشرك، والعقائد الفاسدة، والبدع والمنهجيات هذه هي التي تفرق الناس، أما التّوحيد والإتباع للرسول صلى الله عليه وسلم فهذا هو الذي يوحد الناس، كما وحّدهم في أول الأمر، ولا يُصلح آخر هذه الأمة إلاَّ ما أصلح أولها.
قوله: (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً" الحديث).
ثلاث كلمات قالها صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث:
الكلمة الأولى: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً" يعني: لا تعطلوا البيوت من ذكر الله، ومن صلاة النافلة، وتلاوة القرآن، لأنها إذا عُطلت صارت مثل القبور، لأن القبور ليس فيها عمل، خاوية خالية، حفر مظلمة، إلاَّ من نورها الله عليه بنور الإيمان الذي سبق لهم في الحياة الدنيا.
فهذا فيه العناية بالبيوت،(14/67)
بيوت المسلمين، وأن تُعمر بذكر الله، وبتلاوة(14/68)
ص -315- ... القرآن، وصلاة النافلة، والإكثار من ذكر الله، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بأن تُجعل النوافل التي لا تُشرع لها الجماعة كلها في البيوت، أما الفرائض فإنها تكون في المساجد، وذلك لعمارة البيوت، لأنها إذا عمرت بذكر الله ابتعدت عنها الشياطين، ونشأ أهل البيوت من النساء والذرية والساكنين فيها على طاعة الله، وصارت هذه البيوت مدارس خير، يتخرج منها المسلم الموحد.
أما إذا كانت هذه البيوت خالية من ذكر الله، فإن أهلها يعيشون في الجهل، ويعيشون في الغفلة، ويصيرون مثل الموتى، فما بالكم إذا خلت البيوت من ذكر الله، وجُلب إليها وسائل الشر من الأفلام الخليعة، وجلب إليها الجهاز الذي يستقبل محطات التلفزيون من العالم بما فيها من فساد وخلاعة ومجون وكفر وإلحاد وشرور عظيمة، كلها تدخل في هذا البيت بواسطة هذا الجهاز الشيطاني الذي ينُصبه صاحب البيت ماذا تكون هذه البيوت؟، تكون بيوتاً للشيطان، لا تكون مقابر فقط، وإنما تكون مآوي للشياطين- والعياذ بالله-، ويتخرج منها أشرار من الذرية والنساء، يصاحبهم عدم الحياء، وعدم الغيرة، وحب الشر، والحرص على تنفيذ ما يرونه في هذه المبثوثات من الشرور، وفساد الأخلاق، وفساد الأمور، سيطبقون هذه الأمور التي يرونها ويشاهدونها، وتؤثر على أخلاقهم وعلى عفتهم، ويتكاسلون عن الصلاة، بل يضيعون الصلاة بسببها، ويقولون: هذا العالم المتحضر، انظروا إلى العالم ماذا يفعلون؟.
هذه هي الحياة، وهذه الحضارة، وهذا هو الرُّقي، نحن مشتغلون بأمور بعيدة عن الحياة.
سيقولون هذا شئتم أم أبيتم أيها الآباء، وأنتم السبب في هذا، أنتم المسئولون أمام الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، الله قال لكم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، أنتم ما وقيتم أنفسكم، ولا وقيتم أهليكم من النار، بل جلبتم النار إلى بيوتكم.
اتقوا الله يا(14/69)
من ابتليتم بهذه الآلة الخبيثة؛ أزيلوها عن بيوتكم، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً" وأمركم بالعناية بالبيوت، بأن تعمروها بطاعة الله،(14/70)
ص -316- ... وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الشيطان يفرّ من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة، وقال: "إنها لا تطيقها البَطَلَة" أي: الشياطين، أي لا تطيق سماع سورة البقرة، فتنبهوا لبيوتكم "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً" هذا فيه العناية بالبيوت المسلمة، وأن لا تُهمل، ولا تُجلب إليها وسائل الشر والتدمير الخلقي، بل يُعتنى بها غاية الاعتناء، يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيها.
كما أن في الحديث الحث على عمارة البيوت بذكر الله فيه النهي عن الصلاة عند القبور؛ من مفهوم الحديث، لأن الذي لا يصلى عنده هو القبر، فالبيت الذي لا يصلى فيه نافلة، ولا يُقرأ فيه قرآن، ولا يُدعى فيه صار مثل القبر، لأنه ممنوع من الصلاة عنده، والدعاء عنده، فالحديث يدل بمفهومه على منع الصلاة عند القبر، ومنع الدعاء عند القبور.
الكلمة الثانية، قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تجعلوا قبري عيداً" العيد: اسم لما يعود ويتكرّر في اليوم أو في الأسبوع، أو في الشهر، أو في السنّة، سمي عيداً من العود، وهو التكرّر.
والعيد ينقسم إلى قسمين: عيد زماني، وعيد مكاني.
فالعيد الزماني المشروع: عيد الفطر، وعيد الأضحى، هذه أعياد الإسلام المشروعة. والعيد الزماني الممنوع: أعياد الموالد، فهي الأعياد الزمانية المحرمة، وأعياد الجاهلية التي كانوا يعملونها في الجاهلية، أعياد الفُرس: النيروز والمهرجان، وعيد الميلاد المسيحي، بل الميلاد النصراني ولا نقول المسيحي لأن الله برّأ المسيح من هذا، وإنما هو العيد النصراني، ومثله كل عيد فعله بعض المسلمين أو المنتسبين للإسلام مما لم يشرعه الله كعيد المولد للرسول، أو المولد للشيخ، أو الموالد للعظماء، أو لغير ذلك، كل هذه أعياد جاهلية، وهي أعياد زمانية جاهلية، لا يجوز عملها.
لأن الله شرع لنا عيدين: عيد الأضحى، وعيد الفطر، وكل عيد من هذين العيدين بعد أداء ركن من أركان الإسلام، فعيد الفطر بعد أداء ركن الصيام، وعيد الأضحى(14/71)
بعد أداء ركن الحج وهو الوقوف بعرفة، لأن الوقوف بعرفة هو الركن(14/72)
ص -317- ... الأعظم للحج كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "الحج عرفة" وما بعده من المناسك فهي تابعة له، فمن وقف بعرفة فقد أدّى الركن الأكبر للحج، ويتبعه بقية الأركان، أما من لم يقف بعرفة فقد فاته الحج، فلا فائدة من أنه يأتي ببقية الأركان، لأنه لم يأت بالأساس وهو الوقوف بعرفة، فجعل الله عيد الأضحى شكراً لله بعد أداء الركن الأعظم من أركان الحج، هذه أعياد الإسلام الزمانية.
أما الأعياد المكانية: فهي- أيضاً- تنقسم إلى قسمين:
أعياد شرعية، وأعياد محرّمة.
الأعياد الشرعية مثل الاجتماع في المساجد في اليوم والليلة خمس مرات، فهذا عيد مكاني مشروع.
كذلك الاجتماع في الأسبوع لصلاة الجمعة؛ هذا عيد الأسبوع عيد مكاني.
وكذلك من الأعياد المكانية المشاعر: المسجد الحرام، ومنى، وعرفة، ومزدلفة، التي يجتمع فيها المسلمون أيام الحج لأداء المناسك، هذه أعياد إسلامية مكانية.
أما الأعياد المكانية المحرمة، فهي: الاجتماع عند القبور، سواء قبر الرسول صلى الله عليه وسلم أو قبر غيره، والسفر إلى القبور، والتردد على القبور من أجل الدعاء عندها، والصلاة عندها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا قبري عيداً" أي: مكاناً للعبادة، تصلون عنده، وتدعون عنده، وترددون عليه. وهذا من حمايته صلى الله عليه وسلم لجناب التّوحيد، ففيه شاهد للباب من حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ قبره عيداً، أي: مكاناً يُجتمع عنده للعبادة، فالعبادة لا تُشرع عند القبور، لا قبور الأنبياء والرسل، ولا قبور غيرهم من الأولياء والصالحين أبداً، فالمقابر ليست محلاً للعبادة، فمن تردد عليها، وجلس عندها، أو وقف عندها للتبرك بها، أو للدعاء عندها، أو للصلاة عندها أو سافر إليها فقد اتخذها عيداً جاهليًّا وعيداً محرماً، ولهذا لما جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله بأنه نذر أن ينحر إبلاً ببوانة- اسم مكان-، فقال له النبي صلى الله عليه(14/73)
وسل: "هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يُعبد؟ " قالوا: لا، قال: "هل كان فيها عيد من أعيادهم؟" يعني: مكان لاجتماع أهل(14/74)
ص -318- ... الجاهلية، قالوا: لا، قال: "فأوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملكه ابن آدم" والشاهد منه: أنه قال: "هل كان فيها عيد من أعيادهم؟" يعني: هل هذا المكان الذي خصّصته هل كان الجاهليون يخصّصونه؟، فدلّ على أن تخصيص مكان للعبادة لم يخصصه الله ولا رسوله أنه من أعياد الجاهلية، لا تجوز العبادة فيه أبداً، ومن ذلك: القبور، فالترّدد عليها، والجلوس عندها من أجل التبرّك بتربتها، أو من أجل الدعاء عندها، أو الصلاة عندها، كل هذا من اتخاذها عيداً، وهو وسيلة من وسائل الشرك.
كما هو واقع الآن عند الأضرحة مما لا يخفاكم، وتسمعون عنه في البلاد الأخرى التي بُليت بهذه الفتنة -والعياذ بالله-، ولم تجد من دعاة التّوحيد من يقوم بنصيحة المسلمين عنها والأمر بإزالتها.
نرجو الله أن يهيء للمسلمين من يقوم بإصلاح عقيدتهم، وإزاحة هذه الفتنة العظيمة عنهم، كما منّ على هذه البلاد- ولله الحمد- بهذه الدعوة المباركة التي أزاحت عنها هذه الأوثان الجاهلية.
نسأل الله أن يثبتنا وإياكم وإخواننا المسلمين على هذا الدين، وأن يتم علينا هذه النعمة، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وإلاَّ فنحن معرضون للفتنة، ولا نزكي أنفسنا، ولا نأمن أن نصاب بمثل ما أصيب به أولئك، إذا تساهلنا وغفلنا وتركنا الدعوة إلى الله وتركنا بيان التّوحيد والتحذير من الشرك فإنه يدب إلينا ما وقع في البلاد المجاورة لنا.
الكلمة الثالثة الواردة في هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم" هذا أمر بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ، وقد أمر الله بذلك في محكم كتابه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً(56)}، أمرنا الله بالصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم ، وذكر سبحانه أنه هو وملائكته يصلّون(14/75)
عليه.
والصلاة من الله: ثناؤه على عبده في الملأ الأعلى. والصلاة من الملائكة: الاستغفار ومن الآدميين الدعاء كما ذكر الإمام البخاري عن أبي العالية.(14/76)
ص -319- ... وعن علي بن الحسين رضي الله عنه: أنه رأى رجلاً يجيء عند فُرْجة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها، فيدعو، فنهاه، وقال:.........................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: "صلّوا عليّ" هذا أمر يفيد الوجوب، فالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مشروعة ومتأكدة، وتجب في بعض المواضع.
فتجب في الخطبتين للجمعة والعيد وخطبة الاستسقاء، وتجب الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير في الصلاة، وكذلك تجب الصلاة على رسول الله عند ذكره صلى الله عليه وسلم، وتستحب في بقية الأحوال، وكلما أكثر الإنسان من الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم كثر أجره، كما قال صلى الله عليه وسلم: "من صلّى عليّ واحدة صلى الله عليه بها عشراً".
قوله: "فإن صلاتكم تبلغني" فالله جل وعلا وكّل بصلاة المصلين على النبي صلى الله عليه وسلم من يبلغ الرسول إياها وهو في قبره صلى الله عليه وسلم، ففي أي مكان صليت عليه فإن صلاتك تبلغه ولو كنت في المشرق أو في المغرب، وهذا من آيات الله سبحانه وتعالى، أنها تبلغه الصلاة عليه في قبره صلى الله عليه وسلم، وهذا من أمور البرزخ التي لا يعلمها إلاَّ الله سبحانه وتعالى.
فقوله: "فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم" أي: أينما كنتم في بر، أو في بحر، قريبين أو بعيدين، في المشرق أو المغرب.
وفي هذا الحديث دليل على أنه ليس للصلاة عليه عند قبره خاصية، بل إذا قصد الإنسان القبر لأجل الصلاة عليه فهذا منهي عنه، لكن إذا قصد قبره للسلام عليه ويصلى عليه فهذا مشروع، فتسلم وتصلي على الرسول عند قبره إذا قدمت من سفر، أما أن تقصده من أجل أن تجلس أو تقف وتصلي عليه دائماً فهذا غير مشروع، لأنه مطلوب منك الصلاة والسلام عليه في أي مكان.
قال: "عن علي بن الحسين" أحد أعلام التابعين، وهو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وجدّته فاطمة بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبو(14/77)
جدّته هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهو من بيت النبوّة، وهو يلقب بزين العابدين، وهو من كبار أئمة التابعين، رضي الله تعالى عنه.
"أنه رأى رجلاً يجيء إلى فُرْجَة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم" قبر الرسول صلى الله عليه وسلم في(14/78)
ص -320- ... ألا أحدثكم بحديث سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبورًا، وصلوا عليَّ؛ فإن تسليمكم ليبلغني أين كنتم" رواه في "المختارة".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بيته، في حجرة عائشة، وفي أحد الجدران فُرْجَة، أي: نَقْبٌ في الجدار، رآه هذا الرجل، فصار يتردد، ويأتي ويدخل من هذه الفُرْجَة، ويدعو عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه علي بن الحسين رحمه الله نهاه عن ذلك، قال له: لا تفعل هذا، لا تتردد على قبر الرسول، ولا تدع عنده. وهذا من إنكار المنكر، ولاسيما ما يؤدي إلى ا لشرك.
فالتردّد على قبر الرسول والدعاء عنده من وسائل الشرك به، فيجب إنكاره، ولذلك أنكر علي بن الحسين على هذا الرجل ونهاه.
ثمّ لم يكتف بهذا، بل بين الدليل والحجة على هذا الإنكار، فقال: "ألا أحدثكم حديثاً سمعته عن أبي" يعني: الحسين رضي الله عنه "عن جدَّي" يعني: علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيداً" هذا مثل ما في حديث أبي هريرة السابق ومعنى اتخاذ القبر عيداً: بأن يُتردّد عليه، ويجتمع عنده لأجل الدعاء أو التبرك أو الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم.
فهذا مثل حديث أبي هريرة الذي قبله إلاَّ أنه زاد عليه: الإنكار على من يأتي ويدعو عند قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو يعد مفسّراً لحديث أبي هريرة، يبين معنى اتخاذه عيداً، وأنه يكون في الدعاء عنده، والتردّد عليه.
ثم قال: "رواه في المختارة" المختارة: كتاب اسمه: الأحاديث الجياد المختارة" ومؤلفه هو: عبد الله بن محمَّد بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي، ألّف هذا الكتاب، وجمع فيه الأحاديث الجياد الزائدة على ما في الصحيحين، فهو كالمستدرك، لكنها أحسن من "مستدرك الحاكم".
ما يُستفاد من الآية الكريمة ومن الحديثين:
أولاً: يستفاد من الآية: امتنان الله على هذه(14/79)
الأمة ببعثة هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي نعمة عظيمة، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو(14/80)
ص -321- ... عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}، هذه أعظم منّة على الخلق، لأنه ببعثة هذا الرسول واتباعه خرجوا من الظلمات إلى النور، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن النار إلى الجنة.
المسألة الثانية: في الآية دليل على صفات عظيمة من صفاته صلى الله عليه وسلم:
الصفة الأولى:{رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}.
الثانية: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}.
الثالثة: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ}.
الرابعة: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ}.
الخامسة: {رَحِيمٌ}.
خمس صفات من صفاته صلى الله عليه وسلم.
المسألة الثالثة: في الحديث دليل على أنه صلى الله عليه وسلم قد سدّ الطريق المُفضية إلى الشرك، بمقتضى هذه الصفات العظيمة التي ذكرها الله جل وعلا فيه، ولهذا جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ما تركت شيئاً مما يقربكم إلى الله إلاَّ وبينته لكم، وما تركت شيئاً يُبعدكم عن الله إلاَّ وبينته لكم" أو كما قال صلى الله عليه وسلم، ويقول أبو ذر: "لقد توفي رسول الله وما طائر يقلب جناحيه إلاَّ وذكر لنا منه علماً، علمه من علمه، وجهله من جهله"، والله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}، فلا يمكن أنه يترك النّاس ولا يبين لهم أعظم خطر عليهم وهو الشرك.
المسألة الرابعة: حديث أبي هريرة يدلّ على وجوب العناية بالبيوت- بيوت المسلمين- وعمارتها بالعبادة، وإبعاد وسائل الشر عنها، وهذه مسألة عظيمة يجب التنبه لها في هذا الزمان أكثر من غيره.
المسألة الخامسة: فيه أن القبور لا تصلح للصلاة عندها من مفهوم حديث أبي هريرة، فدلّ على أن القبور لا تصلح للصلاة عندها، وللدعاء، ولا للعبادة، وإنما هذا إما أن يكون في بيوت المسلمين إذا كان نافلة وإما أن يكون في بيوت الله المساجد إذا كان فريضة.
المسألة السادسة: في حديث أبي هريرة النهي عن التردد على قبره صلى الله عليه وسلم،(14/81)
والقيام(14/82)
ص -322- ... أو الجلوس عنده، والدعاء والصلاة صلى الله عليه وسلم، لأن هذا من اتخاذه عيداً، فقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المسألة السابعة: في حديث أبي هريرة أن الرسول سدّ الطريق المُفضية إلى الشرك، بنهيه عن اتخاذ قبره عيداً، لأن هذا من وسائل الشرك، ومن الطرق الموصلة إلى الشرك.
المسألة الثامنة: في حديث أبي هريرة مشروعية الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في أي مكان.
المسألة التاسعة: في الحديث النهي عن التردّد على قبر الرسول صلى الله عليه وسلم من أجل الصلاة عليه والسلام عليه، لأن هذا وسيلة إلى الشرك، ومن اتخاذه عيداً، ولهذا ما كان الصحابة رضي الله عنهم كلما دخلوا المسجد يذهبون إلى قبر الرسول ليسلموا عليه أو يصلوا عليه، أبداً، إنما يفعلون هذا إذا جاءوا من سفر فقط، لأنك إذا أكثرت التردّد عليه صار من اتخاذه عيداً.
المسألة العاشرة: في حديث علي بن الحسين رحمه الله وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم الجاهل، لأنه لما رأى هذا الرجل وما يفعله من وسائل الشرك لم يسكت على هذا، بل نهاه عن ذلك، وحذّره من ذلك، وكان في ذلك الخير والبركة لهذه الأمة.
المسألة الحادية عشرة: في الحديث دليل على أن من أنكر شيئاً أو أمر بشيء فإنه يُطالب بالدليل، لأن علي بن الحسين لما نهى هذا الرجل ذكر له الدليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أجل إقامة الحجة، ومن أجل معرفة الحق بدليله، وهذا منهج من مناهج الدعوة: أن الداعية إلى الله إذا أمر بشيء أو نهى عن شيء يذكر الدليل ويوضحه للناس من أجل أن يقتنعوا، ومن أجل أن تقوم الحجة على المخالف.
المسألة الثانية عشرة: في عموم الآية والحديثين أن النبي صلى الله عليه وسلم سدّ الطرق المُفضية إلى الشرك، وهو الشاهد للباب من الآية والحديثين.
المسألة الثالثة عشرة: في الحديثين دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم تبلغه صلوات أمته عليه في أي مكان كانوا من الأرض،(14/83)
وهذا مما يحث المسلمين على الإكثار من الصلاة والسلام عليه، لأن هذا يبلغه صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من صلّى عليّ واحدة صلى الله عليه بها عشراً".(14/84)
ص -323- ... وفي الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم أُلّفت كتب، منها-أو من أحسنها- كتاب: "جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام" للإمام ابن القيم، فهو كتاب جيد في هذا الموضوع، حيث جمع فيه الأدلة وفقهها، وما تدل عليه، وبسط الكلام في هذا.
أما الكتب التي أُلفت في الصلاة والسلام عليه، والتبرّك به، والتوسل به، مثل كتاب "دلائل الخيرات"، ومثل كتب الخرافيين؛ فهذه يجب الحذر منها، وإن سموها كتب الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنهم دسوا فيها من الشرور والفتن والشركيّات الشيء الكثير- والعياذ بالله-.
وكذلك صلاة الفاتح عند التيجانية- أيضاً- هي من الأمور المحدثة، وفيها غلو في حقه صلى الله عليه وسلم، وهي صلاة لا دليل عليها من كتاب الله ولا من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، إنما من أراد أن يعرف أحكام الصلاة عليه وأدلتها مع الأمانة العلمية فيراجع كتاب "جلاء الأفهام" للإمام ابن القيّم، هذا هو الكتاب الذي يستفيد منه طالب العلم، ويأمن من الدسّ الذي في الكتب الأخرى.(14/85)
ص -324- ... [الباب الثالث والعشرون:]
*بابُ ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله رحمه الله : "باب ما جاء" أي: من الأدلة في الكتاب والسنّة.
"أن بعض هذه الأمة" يعني: وليس كلها، فالأمة لا تجتمع على ضلالة- ولله الحمد-، بل يبقى فيها من يثبت على الحق، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله "، فهذه الأمة لا تضل كلها، وإنما يضل الكثير، ولكن يبقى من هذه الأمة من يثبت على الحق إلى أن تقوم الساعة. فهذا من فضل الله ورحمته.
ولهذا قال المصنف رحمه الله: "أن بعض هذه الأمة"، وهذا من دقة فقهه رحمه الله ، وعدم تسرعه في الأحكام، بخلاف الذين يكفرون عوام الأمة كما عليه بعض الكتاب المعاصرين.
"يعبد الأوثان" أي: يشرك بالله عزّ وجلّ، والأوثان- كما سبق-: جمع وثن، والمراد به: كل ما عبد من دون الله من صنم، أو قبر، أو حجر، أو شجر، أو جن، أو إنس، كله يسمّى وثناً؛ فالوثن كل ما عبد من دون الله؛ مأخوذ من وثن بالمكان إذا ثبت وبقي فيه.
وقصد الشَّيخ رحمه الله من هذه الترجمة: الرد على من زعم أنه لا يقع في هذه الأمة شرك، وهم عباد القبور يقولون: هذا الذي نعمله ليس بشرك، لأن هذه الأمة لا يقع فيها شرك؟ وإنما هو من باب التوسل بالصالحين، أو محبة الصالحين، أو ما أشبه ذلك من الأعذار الباردة.
وهذه مقالة المشركين الأولين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}، لكن هؤلاء- والعياذ بالله- يقرأون القرآن ولا يفقهون معناه، أو يعرفون معناه، ويغالطون ويكابرون تبعاً لهواهم.(14/86)
ص -325- ... وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}.
............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال: "وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ}، هذا استفهام تقرير، أي: قد رأيت وعلمت يا محمَّد.
"{إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ}" أي: حظّاً من الكتاب فالنصيب: الحظ؛ والمراد بهم اليهود، لأن الله أعطاهم التوراة التي أنزلها على موسى- عليه الصلاة والسلام- من عند الله، فهو كتاب عظيم من عند الله.
وهذا من باب الإنكار عليهم، لأن المفروض أن الذي أوتي نصيباً من الكتاب وعلم الحق يجب عليه أن يعمل به: فكونهم يخالفون الحق - وعندهم الكتاب- هذا دليل على غِلظ كفرهم وعنادهم.
"{يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ}" أي: يصدقون بالجبت، وهو الشرك، أو السحر، أو الساحر، أو الكاهن، أو الشيطان، كل ذلك يسمى جبتاً.
"{وَالطَّاغُوتِ}" في اللغة: مأخوذ من الطغيان، وهو: مجاوزة الحد؛ والمراد به هنا: ما تجاوز به العبد حدّه من معبود، أو متبوع، أو مطاع في غير طاعة"الله، كله طاغوت.
ويقول العلامة ابن القيم: "الطواغيت كثيرون، ورؤوسهم خمسة: إبليس- لعنه الله- ومن عُبد وهو راض. ومن دعا النّاس إلى عبادة نفسه. ومن ادعى شيئاً من علم الغيب. ومن حكم بغير ما أنزل الله".
"{وَيَقُولُونَ}" أي: يقول هؤلاء اليهود.
"{لِلَّذِينَ كَفَرُوا}" وهم مشركوا قريش {هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} أي: هؤلاء الكفار أهدى من الذين آمنوا سبيلاً، أي: منهج الكفار أهدى من منهج المسلمين المتبعين لمحمد صلى الله عليه وسلم. وهذا وهم عندهم الكتاب، ويعرفون الحق من الباطل.
وسبب ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة، وبايعه الأنصار من الأوس والخزرج، وصارت للمسلمين(14/87)
دولة عظيمة في المدينة، اغتاظ اليهود الذين(14/88)
ص -326- ... كانوا في المدينة من المسلمين، وضاقوا بهم ذرعًا، فذهب كعب بن الأشرف وحيّي بن أخطب إلى المشركين في مكة يستنجدونهم على قتال الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فانتهز المشركون الفرصة وقالوا: أنتم أهل كتاب، تعرفون الحق من الباطل، بينوا لنا أنحن أهدى أم محمّد؟، فقالوا: وما أنتم وما محمّد؟ يعني: بينوا لنا صفتكم وصفة محمّد-، قالوا: محمَّد صنبور مبتور، قطّع أرحامنا وسب آلهتنا. ونحن نذبح الكوم، ونطعم الحجيج، ونسقي الحجيج، ونفك العاني، ونصل الأرحام. يصفون أنفسهم بهذه الصفات.
ومحمد قطع أرحامنا، وتبعه سراق الحجيج من غفار.
قالوا: أنتم خيرٌ وأهدى سبيلاً.
والشاهد من الآية للباب: أنه إذا كان في اليهود من يؤمن بالجبت والطاغوت فسيكون في هذه الأمة من يفعل ذلك تشبّهاً بهم، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم خبر أنه يكون في هذه الأمة من يتشبه باليهود والنصارى، ومن ذلك: التشبه بهم في الإيمان بالجبت والطاغوت.
وكذلك يوجد في هذه الأمة من يمجّد الكفار، وينتقّص المسلمين، كما كان اليهود يقولون: {هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً}، فمن النّاس من يثني اليوم على دول الكفر والإلحاد، ويصفهم بصفات الكمال والعظمة، ويتنقص المسلمين، ويصفهم بالتأخر والرجعية، إلى آخره، فهذا شيء موجود.
فدلّ على أن هذه الأمة يقع فيها ما وقع في اليهود من الإيمان بالجبت والطاغوت، ومن الشرك بالله عزّ وجلّ.
وكل ما وقع في اليهود أو في النصارى فإنه سيقع في هذه الأمة من بعض أفرادها أو طوائفها من يفعله تشبّهاً بهم، فها هي الأضرحة، والبناء على القبور، والطواف بها، وإقامة الموالد، والاستغاثة بالأموات، والذبح والنذر لهم موجود، كما كان في اليهود.
وهذا الشاهد من الآية للترجمة.(14/89)
ص -327- ... وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ}.
وقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال: "وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} تمام الآية: {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}، هذه الآية في الرد على الذين يسخرون من المسلمين ومن دينهم من اليهود والنصارى والوثنيين.
يقول تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ} أي: أخبركم والاستفهام هنا المراد به: التقرير والتوبيخ.
"{بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ}" : الذي زعمتم فينا.
"{مَثُوبَةً}" منصوب على التمييز، يعني جزاء عند الله سبحانه وتعالى.
"{مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ}" أي: طرده وأبعده من رحمته بسبب كفره، وهو أنتم أيها اليهود والنصارى.
"{وَغَضِبَ عَلَيْهِ}" والغضب ضد الرضا، فالله جلّ وعلا يرضى عق عباده المؤمنين ويغضب على الكافرين، وغضبه لا يقوم له شيء، والمغضوب عليهم هم الذين عندهم علم ولم يعملوا به، لأنهم عصوا الله على بصيرة.
"{وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ}" مسخهم قردة وخنازير، بسبب كفرهم.
والشاهد في قوله: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} دلّ على أن في أهل الكتاب من يعبد كل الطاغوت، فلا بد أن يكون في هذه الأمة من يتشبّه بهم ويعبد الطاغوت.
فالآية الأولى فيها: أنهم يؤمنون بالجبت والطاغوت، وهذه الآية فيها أن فيهم من عبد الطاغوت، فلا بد أن يكون من هذه الأمة من يتشبّه بهم في ذلك.
قال: "وقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى(14/90)
أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} هذا في قصة أصحاب الكهف، وذلك أن جماعة من الفِتيان في الزمان القديم آمنوا بالله، وأنكروا ما عليه أهل بلدهم من الشرك بالله، فلما ماتوا بنى قومهم عليهم مسجداً لأجل التبرك بهم.
{قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} فقالوا: هؤلاء رجال(14/91)
ص -328- ... عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القُذَّة بالقُذَّة، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلتموه" قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟، قال: "فمن؟" أخرجاه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صالحون، فيهم بركة، فيهم خير، نبني عليهم مسجداً من أجل التبرُّك بهم، والصلاة عندهم، والدعاء عندهم، لأنهم من أولياء الله، ونفّذوا ذلك بقوة السلطة لا بقوة الحجة، لأنهم غلبوا على أمرهم، أي: تمكنوا من تنفيذ ما أرادوا بقوتهم.
فالشاهد من الآية: أنه كان في أول الخليقة من يبني المساجد على القبور، فلا بدّ أن يكون في هذه الأمة من يبني المساجد على القبور، تشبُّهاً بهم، وقد وقع هذا، ووُجِد في هذه الأمة من يبني المساجد على القبور، فدلّ على وقوع الشرك في هذه الأمة كما وقع في الأمم السابقة عن طريق التشبُّه والمحاكاة.
قوله: "عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتتبعن،" سبق أن اللاّم هذه لام قسم، فهي على تقدير: والله لتتّبعن، وأكّده بالنون الثقيلة.
"سنن" أي: طريق.
فالسَّنن- بالفتح-: الطريق، أما السُّنن- بالضم- فهي جمع: سنَّة، وهي الطرق. فمن قرأه سَنَن فالمراد به: الطريق، وهذا هو المشهور.
ومن قرأه سُنَن فالمراد به: جمع: سُنّة وهي: الطرق.
والمعنى واحد.
"حَذْوَ القُذَّة بالقُذَّة" حَذْوَ: منصوب على الحال، والقُذَّة: ريشة السهم الذي يُرمى به، والمعنى: تُشبونهم كما أشبهت ريشة السهم ريشة السهم الأخرى.
"حتى لو دخلوا جُحْر ضب لدخلتموه" الجُحر- بالضم- هو: السَّرَب الذي يكون في الأرض، ومنه جُحر الضب، لأنه يحفر جحراً من أعسر الجحور، ومع هذا لو دخله اليهود والنصارى لكان في هذه الأمة من يفعل ذلك تقليداً لهم.
وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فالتقليد والتشبه بالكفار قائم على قدم وساق بأتفه الأشياء وأحقر الأشياء، لا(14/92)
لشيء إلاَّ لأنهم يفعلونه، والمقلد يرى أنهم أهل العقول، وأنهم أهل التقدم والحضارة، فيقلدهم من أجل ذلك.(14/93)
ص -329- ... وهذا الحديث خبر بمعنى النهي، أي: لا تتشبّهوا بهم، ولا تقلّدوهم، وقد جاء النهي عن التشبّه بهم بقوله: "لا تشبّهوا باليهود والنصارى"، وقوله: "ومن تشبه بقوم فهو منهم".
والشاهد من هذا الحديث واضح: أنه يكون في هذه الأمة من يتشبّه باليهود والنصارى في كل شيء، واليهود والنصارى يعملون الشرك فلا بد أن يوجد في هذه الأمة من يعمل الشرك مثلهم سواء بسواء.
نعم، اليهود والنصارى بنوا على القبور، فيؤخذ في هذه الأمة من يبني على القبور تشبُّهاً بهم، والنصارى يعملون عيد المولد للمسيح عليه السلام فيُوجد في هذه الأمة من يعمل عيد المولد لمحمد صلى الله عليه وسلم تشبُّهاً بالنصارى.
كما وُجد في اليهود والنصارى من يحلق لحيته ويُوَفِّر شاربه، فوُجد من هذه الأمة من يحلق لحيته ويوفّر شاربه، إلى غير ذلك من أنواع التشبُّه التي لا تُحصى مصداقاً لقوله من باب التحذير والنهي: "لتتبعن سَنن من كان قبلكم حَذْو القُذَّة بالقُذَّة، حتى لو دخلوا جُحْر ضب لدخلتموه".
فالشاهد منه: أنه لا بد أن يوجد في هذه الأمة من يتشبّه باليهود والنصارى في الشرك بالله عزّ وجلّ، كما أنهم {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} فلا بدّ أن يوجد في هذه الأمة من يغلو بالأئمة، ويتخذهم أرباباً من دون الله، كما عند الصوفية الذين يتخذون رؤساء الطرق والمشايخ أرباباً من دون الله، يحلّلون ويحرّمون، ويقولون: المريد ينبغي أن يكون مع الشَّيخ كالميّت بين يدي غاسله. وكذلك من يتعصّب لشيخه ولو خالف الدليل إلى غير ذلك.
أما فقه هذه النصوص، فإنها تدلّ على مسائل كثيرة:
المسألة الأولى: في الآية الأولى دليل على أن من اليهود والنصارى من والطاغوت، الذي هو: الشرك، والسحر، والكِهانة، والطِّيرَة، والتّنجيم، والحكم بغير ما أنزل الله. فسيوجد في هذه الأمة من يؤمن بالجبت والطاغوت؛ تشبُّهاً(14/94)
بهم.
المسألة الثانية: في الآية دليل على أن الموافقة لهم في الظاهر تسمّى إيماناً(14/95)
ص -330- ... ولو لم يوافقهم في الباطن، لأن اليهود لما قالوا كفّار قريش: أنتم أهدى من الذين آمنوا سبيلاً. هم في الباطن يعتقدون بُطلان هذا الكلام، لكنهم وافقوهم في الظاهر ليحصلوا على مناصرتهم لهم، ومع هذا سمّى الله هذا إيماناً بالجبت والطاغوت.
فالذي يمدح الكفر والكفار ولو بلسانه، ويفضّل الكفر والكفار على المؤمنين؛ يُعتبر مؤمناً بالجبت والطاغوت، ولو كان قلبه لا يوافق على هذا؛ ما لم يكن مُكرهاً، ففيه رد على مرجئة هذا العصر الذين يقولون: إن من تكلم بكلام الكفر لا يكفر حتى يعتقد بقلبه صحة ما يقول.
وهذه دقيقة عظيمة ذكرها الشَّيخ في المسائل، وهي عظيمة جداً.
المسألة الثالثة: في الآية الثانية بيان أن في أهل الكتاب من عبد الطاغوت، بمعنى: أنه دعا غير الله، أو ذبح لغير الله، أو نذر لغير الله، فلا بد أن يكون في هذه الأمة من يعبد الطاغوت تشبُّهاً بهم.
ففيه الرد على من زعم أنه لا يقع في هذه الأمة شرك، لأن الحديث يدلّ على أنه يوجد من يتشبّه باليهود والنصارى في عبادة الطاغوت التي منها عبادة القبور والأضرحة، ومنها الحكم بغير ما أنزل الله، ومنها الشيء الكثير الذي كله من عبادة الطاغوت.
المسألة الرابعة: في الآية الثانية دليل على ذكر عيوب المردود عليه، وذلك في قوله: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} ففيه ذكر معائب المردود عليه حتى يَخْتَزِى ويُفْحَم في الخصومة.
المسألة الخامسة: في الآية رد على من يقول : إنه ينبغي ذكر محاسن المردود عليه وهو ما يسمونه بالموازنات.
وذكر محاسن الطوائف الضالّة والأشخاص الضالين من المبتدعة وغيرهم، ووجه الرد: أن الله ذكر في هذه الآية معايبهم، ولم يذكر لهم شيئاً من المحاسن.
ففي الآية ردٌّ صريح على هذه المقالة التي يراد منها السكوت عن البدع(14/96)
والخرافات أو ذكر محاسن المبتدعة والمخالفين للحق.(14/97)
ص -331- ... ولمسلم عن ثوبان رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله زَوَى ليَ الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوِيَ لي منها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المسألة السادسة: في الآية الثالثة دليل على أنه كان في الأمم السابقة من يبني المساجد على القبور، فلا بد أن يوجد في هذه الأمة من يبني المساجد على القبور وقد وقع هذا.
ففيه ردٌّ على من زعم أنه لا يقع في هذه الأمة شرك، ووجه الرد: لأن بناء المساجد على القبور وسيلة إلى الشرك.
المسألة السابعة: في الحديث دليل على معجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم، حيث أخبر أنه سيكون في هذه الأمة من يتشبّه باليهود والنصارى، وقد وقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم.
المسألة الثامنة: في الحديث دليل على تحريم التشبّه باليهود والنصارى، لأن الحديث خبرٌ معناه النهي والإنكار على من فعل ذلك.
المسألة التاسعة: في الحديث دليل للتّرجمة: أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان، لأن في اليهود والنصارى من يعبد الأوثان، فلا بد أن يوجد في هذه الأمة من يتشبّه بهم فيعبد الأوثان، كما هو واقع وحاصل في عبادة القبور والأضرحة الآن لا بكثرة وعلى مَسْمع من علماء المسلمين ومرأى ولم ينكر ذلك الكثير منهم، بل بعضهم أجازه وشجع عليه.
ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلي العظيم.
هذا حديث عظيم فيه أمور مخيفة، وفيه أخبار عظيمة، وفيه بشارة:
فقوله: "عن ثوبان، ثوبان هو: مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمولى معناه ث العتيق، لازم الرسول صلى الله عليه وسلم، وله فضائل كثيرة رضي الله عنه.
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله زَوَى ليَ الأرض" يعني: جمعها، وحواها وطواها له صلى الله عليه وسلم حتى صارت حجماً صغيراً، يرى النبي صلى الله عليه وسلم أطرافه ما بعُد منها وما قرُب، والله قادر على كل شيء.
أو أن المراد- والله أعلم- أنه قوّى بصر(14/98)
رسوله صلى الله عليه وسلم فصار يري كل الأرض مشارقها ومغاربها، كما حصل له صلى الله عليه وسلم لما سأله المشركون عن بيت المقدس، حيث(14/99)
ص -332- ... وأُعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوّى بصر رسوله فصار ينظر إلى بيت المقدس وهو في مكّة يخطب في المشركين، ويصف لهم المسجد عن معاينة ومشاهدة، حتى ذكر لهم علاماته والأشياء التي يعرفونها فيه، وحتى إنه أخبرهم عن عيرهم التي في الطريق التي كانوا ينتظرونها، أخبرهم أين هي؟.
"فرأيت مشارقها ومغاربها" رأى المشرق والمغرب وجمعها لكثرة الطالع والغارب من الكواكب.
"وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زَوَى لي منها" بالبناء على الفاعل وهو الله سبحانه وتعالى، أو "ما زُوِي لي منها" بالبناء للمفعول، والفاعل هو الله سبحانه وتعالى.
ولم يذكر صلى الله عليه وسلم الشمال والجنوب من الأرض لقلة سكانها ولأن هذا لم تبلغه الفتوحات، وإنما الفتوحات امتدّت من المشرق إلى المغرب.
"وإن أمتي سيبلغ ملكها" هذا خبر عن المستقبل، وهو لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم.
ففيه دليل من أدلّة نبوّته صلى الله عليه وسلم.
الدّليل الأول: زَوي الأرض له. هذا دليل على نبوّته.
الدليل الثاني: أنه أخبر عن ملك أمته، وأنه سيتّسع ويبلغ المشرق والمغرب في يوم أن كان ملك المسلمين في المدينة وما حولها فقط.
فهذا من علامات نبوّته صلى الله عليه وسلم.
وقد وقع كما أخبر، فانتشرت الفتوحات في عهد الخلفاء الراشدين وخلفاء بني أمية وبني العباس حتى سقطت دولة الفُرْس بالمشرق، وسقطت دولة الروم بالمغرب، وامتدّ سلطان المسلمين في الشرق إلى أن وصل السّند، وفي المغرب إلى أن وصل إلى طَنْجَة في أقصى المغرب، بل امتدّ إلى أن وصل إلى جبال البَرَانِس وهي حدود فرنسا، حيث دخلت الأندلس في الخلافة الأمويّة في ملك المسلمين، وهذا مِصْداق لخبره صلى الله عليه وسلم: "وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها".
"وأُعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض" المراد بالكنزين: الأموال النّفيسة، "الأحمر": الذهب، "والأبيض": الفضة، وهذا عبارة عن أموال(14/100)
الفرس والروم. فأموال الفرس من الذهب، وأموال الروم من الفضة، أو العكس، قولان في المسألة.(14/101)
ص -333- ... وإني سألت ربي لأمتي أن لا يُهلكها بسنة بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم.
وإن ربي قال: يا محمَّد، إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يُرد، وإني أعطيتك لأمتك: أن لا أهلكهم بسنة بعامة، وأن لا أسلط عليهم عدوًّا من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فقد جيء بأموال الفرس والروم في خلافة عمر بن الخطاب، ووزّعت بين المسلمين في المدينة، حتى إنه جيء بتاج كسرى الذي يلبسه على رأسه، وجيء بسواريه الذين يلبسهما في يديه، وهذا مصداق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم.
وقوله: "وإني سألت ربي لأمتي" هذا من شفقته صلى الله عليه وسلم بأمته.
"أن لا يهلكها بسنة بعامة" المراد بالسنة: الجُدْب، أي: لا يعمّ الجدب والقحط كل بلاد المسلمين، فتَهلك أموالهم وزروعهم وما يأكلون منه، فالسنّة المراد بها: الجَدْب كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ}يعني: بالجَدْب.
دعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن لا يُنزل الجَدْب والقَحْط على أمة محمَّد كلهم، لأنه إذا نزل بهم كلهم هلكوا.
وقوله: "وأن لا يسلط عليهم عدَوّاً من سوى أنفسهم" يعني: من الكفار، أي: لا يسلط الكفار على المسلمين.
"فيستبيح بيضتهم" البيضة: الحوزة، يعني: لا يستبيح الكفار حوزة المسلمين وبلادهم، أو المراد بالبيضة اجتماع الكلمة. والمعنى عام ومعناه: لا يستبيح بلادهم وجماعتهم.
"وإن ربي قال: يا محمَّد" هذه إجابة الله لدعوة رسوله صلى الله عليه وسلم.
"إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يردّ" إذا قدّر الله قدراً فلا بد من نفاذه، فأقدار الله نافذة في المسلمين والكفّار وعموم الناس، لا أحد يستطيع رد القضاء والقدر، فهذا فيه إثبات القدر، وأن قدر الله نافذ، لا يستطيع أحد رده.
"وإني أعطيتك لأمتك: أن لا أهلكهم بسنة بعامة" استجاب الله الدعوة الأولى مطلقاً، وأنه سبحانه لا ينزل قحطاً(14/102)
عامًّا للبلاد كلها، وإنما ينزل القحط في بعض البلاد دون بعض بخلاف الأمم السابقة، فإن الله ينزل القحط العام عليهم فيضرهم،(14/103)
ص -334- ... سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يُهلك بعضاً، ويَسْبي بعضهم بعضاً".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كما حصل لقوم فرعون، أما هذه الأمة لكرامتها على الله فإن الله لا ينزل عليها القحط العام.
"وأن لا أسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يُهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً" استجاب الله له الدعوة الثانية استجابة معلّقة، يعني: ما دامت أمتك مجتمعة على الحق كلمتها واحدة، فإن الله لا يسلّط عليهم عدوًّا من الكفار، أما إذا حصل في الأمة افتراق كلمة، وحصل بينهم قتال فيما بينهم، وسبى بعضهم بعضاً، فحينئذ يعاقبهم الله عزّ وجلّ ويسلط عليهم الكفّار.
قوله: "ولو اجتمع عليهم من بأقطارها" أي: إذا اجتمعت كلمة المسلمين، ولم يكن بينهم اختلاف ولا تقاتل فيما بينهم، فلو اجتمع أهل الأرض كلهم على قتال المسلمين أو أراد سلب شيء من ملكهم فلن يستطيعوا، وأما إذا اختلفوا فيما بينهم، وتقاتلوا فيما بينهم، وأخذ بعضهم أموال بعض، فإن الله يعاقبهم، ويسلّط عليهم الكفّار.
وقد حصل مصداق هذا، فإنه لما كانت الأمة مجتمعة في عهد أبي بكر الصدّيق وعمر بن الخطاب، وأول خلافة أمير المؤمنين عثمان، وسلطان المسلمين ظاهر في الأرض، قد خافتهم الأمم، فصار الكفار يخافون من المسلمين.
ولما وقعت الفتنة بين المسلمين في خلافة عثمان- رضي الله تعالى عنه- بسبب اليهوديّ الذي ادّعى الإسلام وهو: عبد الله بن سبأ اليماني، وصار يحرّض المسلمين على الخليفة عثمان ذي النورين رضي الله عنه، واجتمع حوله من الأوباش وضعاف الإيمان من الشباب الطائش، اجتمعوا على هذه الطاغية، وفي النّهاية حاصروا عثمان رضي الله عنه وقتلوه، ولما قتلوا عثمان عاقب الله المسلمين فجعل بأسهم بينهم، وسلّط عليهم عدّوهم.
وما زالت المداولات والحروب بين المسلمين بعضهم مع بعض ح(14/104)
وبين المسلمين والكفار.(14/105)
ص -335- ... رواه البَرْقاني في "صحيحه"، وزاد: "وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلّين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيح أنها قامت دولة بني أمية بعد ذلك وانتشر الإسلام، ودولة بني العباس، ولكن لم تخل الأمة من اقتتال ومن فتن فيما بينها، إلى أن جاءت الداهية الدهياء في آخر خلافة بني العباس، فغزا التّتار بلاد المسلمين، واستباحوا عاصمة المسلمين بغداد، وقتلوا الخليفة العباس، وقتلوا من المسلمين مئات الألوف، واحرقوا -كتب المسلمين- وألقوها في نهر دِجلة حتى تغير الماء بمداد الكتب، وتسلّلوا إلى بقية البلاد، وحصل من الحروب الطاحنة ما سجّله التاريخ.
ما وكذلك الصليبيّون زحفوا على المسلمين واستولوا على الأندلس، وزحفوا إلى بلاد الشام واستولوا على بيت المقدس، وبقي بيت المقدس حوالي مائة سنة تحت أيدي الصليبيّين، حتى جاء صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، فخلّص بيت المقدس من أيدي الصليبيّين.
ولا يزال الخلاف وتسلط الكفار على المسلمين إلى وقتنا هذا، بل في وقتنا هذا اشتدّ فيه الأمر، والسبب في هذا هو اختلاف المسلمين فيما بينهم، كما في هذا الحديث: "حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً" ويسبي بعضهم بعضاً" فإذا حصل للمسلمين هذا سلّط الله عليهم الكفار بسبب الاختلاف، واستباحة حرمة المسلمين فيما بينهم، هذا يقتل هذا، وهذا يسبي هذا، مع أنهم إخوة مسلمون.
والواجب على المسلمين أن يكونوا أمة واحدة: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)}، {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا}، {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا}، {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}، فالاختلاف عذاب، وسبب لتسلّط الكفار، والاجتماع رحمة وقوة وعزّة للمسلمين ولن يحصل الاجتماع إلاَّ تحت عقيدة التّوحيد.
قوله: "رواه البَرْقاني في صحيحه" البَرْقاني هو: أبو(14/106)
بكر محمَّد الخوارزمي الشافعي، وكتابه يسمّى بالمسند الصحيح، جمع فيه الأحاديث الصحيحة، ويقول: أنه جمع فيه أحاديث الصحيحين وزاد عليهما ما صح عنده من الأحاديث.(14/107)
ص -336- ... "وزاد" يعني: على رواية مسلم.
أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين" هذا سبب آخر، السبب الأول: الاختلاف بينهم. السبب الثاني: وجود دعاة الفتنة، ودعاة الضّلال. فهؤلاء سبب آخر لهلاك المسلمين، وسبب لتفرق كلمتهم، وتسلط العدوّ عليهم، بأن يكون هناك دعاة ضلال، ودعاة فتنة، ودعاة فُرقة، وتحريش بين المسلمين، كما حصل من الداعية الخبيث الأول عبد الله بن سبأ.
والأئمة جمع: إمام، والإمام هو القدوة الذي يُقتدى به في الخير أو الشر.
فإذا كانت القدوة من أهل الضلال ضلّت الأمة، وحصل فيهم الشر، ويراد بهم الأمراء الضالون، والعلماء الضالون، والعُبّاد الضالون، والدُّعاة الضالون، كل هؤلاء من الأئمة المضلّين، فإذا قاد الأمة هؤلاء قادوها إلى الهلاك، أما إذا قاد الأمة دعاة الحق قادوها إلى الصلاح والسلامة.
ففي قوله: "أخاف على أمتي الأئمة المضلين" مفهومه؛ أن الأئمة المصلحين خير للأمة، يجمعون كلمتها، ويصلحون عقيدتها، ويردونها إلى منهج السلف الصالح، ويحصل بهم الخير.
أما دعاة الضلال فإنهم يصدونها عن الحق، ويدعونها إلى خلاف منهج السلف.
والآن فيما بيننا ظهر من يزهّد في منهج السلف ويعتبره من الأمور الرجعية، ومن الأمور القاصرة، ويريد من المسلمين أن ينهجوا مناهج حديثة، ابتكرها جهّال أو ضُلاّل، يريدون أن الدعاة يسيرون على هذا المنهج المبتكر المحدث، ويتركون منهج السلف الصالح الذي فيه الخير، وفيه الصلاح والفلاح، هذا ظهر وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه يكون في هذه الأمة دعاة على أبواب جهنم من أطاعهم قذفوه فيها، قالوا: صفهم لنا يا رسول الله، قال: "هم قوم من جِلْدَتنا، ويتكلمون بألسنتنا" فلنحذر من هؤلاء غاية الحذر.
لا نجاة لنا إلاَّ بإتباع دعاة الصلاح الذين يدعون إلى منهج السلف الصالح وإلى إتباع الكتاب والسنّة، هؤلاء هم الخير على الأمة.(14/108)
ص -337- ... وإذا وُضع عليهم السيف لم يُرفع إلى يوم القيامة. ولا تقوم الساعة حتى يلحق حيٌّ من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فِئَام من أمتي الأوثان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أما من أراد بالأمة خلاف ذلك، وابتكر لها منهجاً أو خطّط لها تخطيطاً جديداً يخالف منهج السلف، فهذا لا يريد للأمة خيراً سواءً كان متعمداً أو لم يتعمّد.
وأخطر ما على الأمة الآن الدعاة الجُهّال الذين لا يعرفون العلم، ويدعون النّاس بجهل وضلال، أو الدعاة المغرضون الذين يعرفون الحق لكنهم معرضون، يريدون صرف الأمة عن جادّة الصواب.
الحاصل، أن الأمة على خطر من هؤلاء، فعلينا أن نتنبّه لهذا الأمر، وأن نعالج هذا الأمر قبل أن يستحفل.
قوله: "وإذا وضع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة" كذلك خاف عليهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا بدأ القتال بين المسلمين فإنه لا يُرفع إلى يوم القيامة، وهذه بليّة أخرى.
البليّة الأولى: تسلُّط الكفار على المسلمين.
والبليّة الثانية: إذا وقع القتال بين المسلمين فإنه لا يُرفع إلى يوم القيامة عقوبة لهم.
وذلك حصل كما أخبر به صلى الله عليه وسلم فإنه لما قُتل الخليفة الراشد أمير المؤمنين عثمان فإنه لا يزال القتال مستمرًّا بين المسلمين، وسيستمر إلى يوم القيامة. ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: "ولا تقوم الساعة حتى يلحق حيٌّ من أمتي بالمشركين" الحي: المراد به: القبيلة، ومعنى يلحق: يتبع؛ إما بأن يذهبوا إلى بلادهم ويسكنوا معهم ويكونوا من دولتهم، وإما بأن يبقوا في بلاد المسلمين ولكن يكونون على منهج الكفار ويرتدّون عن الإسلام.
ووقع هذا كما أخبر به صلى الله عليه وسلم، ففيهم من ذهب إلى بلاد الكفار وثم يرجع وصار يوافق الكفار في أمورهم الدينية، ويجري عليهم حكمهم وهو مختار للإقامة بينهم. وفيهم من بقي في بلاد المسلمين ويعتنق مذاهب الكفر من شيوعية وبعثية(14/109)
وقومية وغير ذلك، وهؤلاء لحقوا بالمشركين في قلوبهم وعقائدهم كما أخبر صلى الله عليه وسلم وإن لم يلحقوا بهم في أبداًنهم.(14/110)
ص -338- ... وإنه سيكون في أمتي كذّابون ثلاثون، كلّهم يزعم أنه نبيّ. وأنا خاتم النبيّين، لا نبي بعدي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "وحتى تعبد فِئام من أمتي الأوثان" الفِئام: الجماعات، والأوثان: كل ما عبد من دون الله.
وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فعَبَدت جماعات من هذه الأمة القبور والأضرحة، واعتبروا هذا هو الدين الصحيح، وسموا دين التّوحيد الصحيح دين الخوارج.
وهذا مع ما قبله هو الشاهد من هذا الحديث للباب.
وفيه رد على من زعم أن هذه الأمة لا يقع فيها شرك، ووجه الرد: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر- وهو الصادق المصدوق- أنه لا بدّ أن تعبد جماعات وليسوا أفراداً من هذه الأمة الأوثان.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وإنه سيكون في أمتي كذّابون ثلاثون كلّهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيّين، لا نبي بعدي"، هذا فيه إخبار منه صلى الله عليه وسلم بظهور المتنبِّئين الكَذَبَة الذين يدعون النبوة.
وقد حصل ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، وأول من ظهر في حياته صلى الله عليه وسلم اثنان:
مُسَيْلِمة الكذّاب في اليمامة، والأسود العَنْسي في اليمن.
أما الأسود العَنْسي فقد قتله المسلمون قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما مُسَيْلِمة الكذّاب فإنه قد تبعه قوم من أهل اليمامة، ولما بُويع أبو بكر الصديق- رضي الله تعالى عنه- بالخلافة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم جهّز له الصديق جيشاً من المسلمين من المهاجرين والأنصار بقيادة خالد بن الوليد اليمامة، وحصل قتال شديد جدًّا، وقُتل فيه من المسلمين ومن أفاضلهم ومن قُرّاء القرآن العدد الكثير، ولكن في النّهاية قَتل الله مُسَيْلِمة الكذّاب على يد المسلمين في خلافة أبي بكر الصديق- رضي الله تعالى عنه-، وأراح الله المسلمين من شرِّه.
ثم ظهر طُليحة الأسدي وادّعى النبوّة، وظهرت سَجَاح التميمية وادّعت النبوة، ولكن الله منّ على طُلَيحة فتاب(14/111)
إلى الله عزّ وجلّ، وجاهد في سبيل الله، وتوفّي على الإسلام، وكذلك سَجَاح تابت إلى الله عزّ وجلّ.
ثمّ ظهر المختار بن أبي عُبيد الثقفي في خلافة عبد الملك بن مروان، وادّعى النبوّة، وقتله الله سبحانه وتعالى على أيدي المسلمين.(14/112)
ص -339- ... ولا يزال المتنبئون الكذَبَة يظهرون بين الحين والآخر، إلى أن ظهر منذ سنين رجل في الباكستان يسمّى غلام أحمد القادياني، ادّعى النبوّة، وتَبِعه قوم، وصار له أتباع الآن يسمّون القاديانية، وقد كفّرهم المسلمون، ونبذوهم- ولله الحمد-.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وأنا خاتم النبيّين، لا نبيّ بعدي" هذا كما قال الله سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}، والخاتم- بفتح التاء-: الذي يختم على الشيء فلا يزاد فيه، يقال: ختم الكتاب، يعني: وضع الختم عليه بحيث لا يُزاد فيه، وختم الكيس، بمعنى أنه أغلقه بحيث لا يُزاد فيه ولا يُنقص، فالرسول صلى الله عليه وسلم ختم الأنبياء، بمعنى انه هو آخرهم، ولا يأتي بعده نبي.
وأما لفظ خاتِم- بالكسر- فهو: اسم فاعل، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو خاتِم النبيّين، أي: الذي كمّلهم وانتهى به عددهم، فلا يُبعث نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة، كما أن شريعته لا تُنسخ إلى أن تقوم الساعة، وأرسله الله إلى العالمين كافّة: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً}، أرسله إلى العالم كافّة - عليه الصلاة والسلام-، إلى العرب والعجم، والجن والإنس {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً}، وأنزل عليه شريعة كاملة، شاملة لكل زمان ومكان إلى أن تقوم الساعة.
فالذي يدّعي النبوة بعد محمَّد صلى الله عليه وسلم فهو كافر، لأنه مكذِّب لله، لأن الله قال: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}، ومكذِّب لرسول الله في قوله: "أنا خاتم النبيين" ومكذِّب لإجماع المسلمين، لأن المسلمين أجمعوا على أنه لا نبيّ بعد محمَّد صلى الله عليه وسلم.
فإن قال قائل: "ليس المسيح عيسى بن مريم ينزل في آخر الزمان كما تواتر ذلك في الأحاديث؟.
قلنا: نعم، ينزل في آخر الزمان، ولكن لا ينزل بشريعة جديدة، وإنما(14/113)
ينزل ليعمل بشريعة محمَّد صلى الله عليه وسلم، فهو يُعتبر مجدِّداً من المجدِّدين، ومصلحاً من المصلحين، يحكم بشريعة الإسلام، ويتبع محمداً صلى الله عليه وسلم، فنزول عيسى عليه السلام لا يختلف مع قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا خاتم النبيين" وقول الله: {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}، لأنه لا ينزل بشريعة، ولا ينزل على أنه نبي يُبعث إلى الناس، وإنما ينزل على أنه حاكم بشريعة محمَّد صلى الله عليه وسلم، وتابع لمحمد - عليه الصلاة والسلام-.(14/114)
ص -340- ... ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم قال مبشراً لأمته بعد هذه الأخبار المروِّعة: "ولا تزال طائفة من أمتي على الحق" يعني: مع هذه الحوادث العظيمة، وهذا الابتلاء العظيم، ووقوع الشرك، ووقوع اللَّحاق بالمشركين من بعض القبائل وتسلّط الكفّار، وقلّة أهل الحق، وكثرة أهل الباطل، مع هذا يبقي في هذه الأمة بقية صالحة إلى أن يأتي أمر الله تبارك وتعالى.
والطائفة في الأصل الجماعة. والمراد هنا من كان على الحق ولو كان واحداً. بدليل قوله تعالى: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ} وهو واحد.
"على الحق ظاهرين" يعني: غالبين.
"لا يضرّهم من خذلهم" مع هذه الشرور كلها، وهذه الفتن كلها، هذه الطائفة لا تتضرّر، بل تبقى على الحق الذي بُعث به محمَّد صلى الله عليه وسلم، ولم يعيّن صلى الله عليه وسلم عددها، ولم يعيّن مكانها، لأن العدد قد يقلّ وقد يكثر، وكذلك المكان قد تكون تارة في المشرق، وتارة في المغرب، وتارة في العرب، وتارة في العجم، المهم أنها تبقى هذه الطائفة من الأمة، لتبقى حجّة الله سبحانه وتعالى على خلقه.
وقد قال أهل العلم- كالإمام أحمد وغيره-: "إن هذه الطائفة هم أهل الحديث"، أي: الذي يتمسّكون بسنّة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال صلى الله عليه وسلم - لما ذكر افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة-: "كلها في النار إلاَّ واحدة" قالوا: من هي يا رسول الله؟، قال: "من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي"، فهم أهل الحديث الذين يتمسّكون بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يتمسّكون بالآراء والأقوال وعلم الكلام والمنطق.
فهم الطائفة المنصورة وهم الفرقة الناجية وهم أهل الحديث وهم أهل السنّة والجماعة، لا كما يقول بعض المعاصرين: إن الفرقة الناجية غير الطائفة المنصورة، وهذا تفريق بغير(14/115)
علم.
وقوله: "حتى يأتي أمر الله" المراد بأمر الله ما يكون في آخر الزمان من قبض(14/116)
ص -341- ... أرواح أهل الإيمان، حين يبعث الله ريحًا طيّبة في آخر الزمان قبل قيام الساعة فتقبض روح كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى شرار الناس، وحينئذ تقوم الساعة.
ما يستفاد من هذا الحديث:
هذا الحديث يدلّ على مسائل عظيمة:
المسألة الأولى: في هذا الحديث دلائل من دلائل النبوة، وهي:
أولا: قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله زَوَى ليَ الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها".
ثانياً: قوله صلى الله عليه وسلم: "سيبلغ ملك أمتي ما زُوِيَ لي منها،.
ثالثاً: إخباره صلى الله عليه وسلم بأن هذه الأمة إذا افترقت وتقاتلت يتسلّط عليها العدّو. وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم.
رابعاً: إخباره صلى الله عليه وسلم عن وقوع الشرك في أمته. وقد وقع ما أخبر ول صلى الله عليه وسلم.
خامساً: إخباره بظهور المتنبّئين الكَذَبَة. وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فلا يزال المتنبئون الكَذَبَة يظهرون بين الحين والآخر، لكن منهم من له شوكة، ومنهم من ليس له شوكة.
سادساً: إخباره صلى الله عليه وسلم ببقاء الطائفة المنصورة على الحق. وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فلا تزال هذه الأمة- ولله الحمد- يبقى فيها من أهل الصلاح والإصلاح من يبقى بهم هذا الدين، وتقوم به حجّة الله على العالمين، مع اشتداد الغُربة، وعظيم الكُرْبة، ولكنهم يصبرون، ويثبتون على الحق.
المسألة الثانية: في هذا الحديث كمال شفقته صلى الله عليه وسلم بأمته، حيث دعا لهم صلى الله عليه وسلم بهذه الدعوات المباركات العظيمة، واستجاب الله له.
المسألة الثالثة: في هذا الحديث أن تفرّق الأمة وتناحرها فيما بينها سبب لتسلُّط العدوّ عليها، وأن اجتماعها وتوحّدها على الحق سبب لمنع الكفّار من الاستيلاء على شيء من بلادها.
المسألة الرابعة: في الحديث دليل على خطر الأئمة المضلّين، أي: القيادات الفاسدة من الأمراء والعلماء والعبّاد والدعاة الفاسدين، أما الأئمة المصلحون فهؤلاء خير على(14/117)
الأمة وصلاح لها.(14/118)
ص -342- ... المسألة الخامسة: في الحديث دليل على أنه إذا وقع في هذه الأمة قتال فيما بينهم أنه سيستمرّ إلى أن تقوم الساعة، ولا يُرفع، ولكن يكثر ويقل أحياناً.
المسألة السادسة: في الحديث دليل فيما ترجم له المصّنف رحمه الله من وقوع الشرك والردّة في بعض هذه الأمة، فهذا شاهد لقول المصنِّف: "باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان".
المسألة السابعة: في الحديث دليل على خَتْم النبوة به صلى الله عليه وسلم، وأن من ادّعى النبوة بعده فهو كافر، لأنه مكذِّب لله ولرسوله ولإجماع المسلمين ولما عُلم بالدين بالضرورة.
المسألة الثامنة: في الحديث دليل على بقاء الفرقة الناجية المنصورة، مع كثرة الفتن والمحن والشرور، فإن الله سبحانه وتعالى لا يُخلي الأرض من الدعاة إلى الحق القائمين عليه من الأئمة المصلحين.(14/119)
ص -343- ... [ الباب الرابع والعشرون:]
* باب ما جاء في السحر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مناسبة هذا الباب للأبواب السابقة: أن الشَّيخ رحمه الله في الأبواب السابقة ذكر أنواعاً من الشرك، ووسائل الشرك.
ولما كان السحر نوعاً من أنواع الشرك عقد له هذا الثالث؟ لأن السحر لا يمكن الوصول إليه إلاَّ عن طريق الشياطين، فالسحرة يخضعون للشياطين، ويستعينون بهم في سحرهم، وهذا شرك بالله عزّ وجلّ.
والسحر في اللغة هو: كل ما لَطُفَ وخَفِيَ سببه، ومنه سُمّي السَّحَر سَحَراً في آخر الليل، لأنه خفيٌّ وكل ما لَطُف يعني: دقّ، وخَفِيَ سببه عن النّاس يُسمّى سحراً في اللغة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "إن من البيان لسحراً" البيان معناه: الكلام البليغ، لأنه يستميل النفوس ويؤثّر فيها كما يؤثر السحر، إلاَّ أنه ليس حراماً وكذلك النميمة، سُميّت سحراً1 لأنها تعمل عمل السحر في الإفساد بين الناس، وأحداث البغضاء في القلوب، وإن لم تكن سحراً في الحقيقة، لكنها سحر لغوي، هذا تعريف السحر في اللغة.
أما تعريفه في الشرع: فالسحر عبارة عن عزائم ورُقى وعُقد يؤثر في بدن المسحور بالقتل أو بالمرض، أو بالإخلال بعقله، أو يفرِّق بين الزوجين، أو يأخذ الزوج عن زوجته فلا يستطيع الوصول إليها، قال تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ(4)} يعني: السواحر.
فالساحر يعقد العقد بالخيط ثمّ ينفث فيها من ريقه، ويستعين بالشيطان، ويؤثِّر هذا بإذن الله في المسحور إما قتلاً، وإما مرضاً، وإما تفريقاً بينه وبين حبيبه، وإما أن يمنعه عن زوجته فلا يستطيع الوصول إليها.
وقد سُحر النبي صلى الله عليه وسلم2، وأثر فيه السحر، وصار- عليه الصلاة والسلام - يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يكن فعله، ورقاه جبريل فبرئ بإذن الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم ما العضة- يعني(14/120)
السحر- هي النميمة القالة بين الناس".
2 كما في الصحيح ولا عبرة بمن أنكر ذلك من العقلانيين لأن السحر مرض والنبي صلى الله عليه وسلم بشر يجري عليه ما يجري على البشر من الأمراض.(14/121)
ص -344- ... فالسحر له حقيقة، ويؤثر في بدن المسحور، ولكنه لا يؤثِّر إلاَّ بإذن الله القدريّ، كما قال تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}، أي: إذن الله القدريّ الكونيّ.
وقد ذكر العلماء أن السحر المحرم على نوعين:
سحر حقيقي، وهو هذا الذي ذكرنا.
والنوع الثاني: سحر نخييلي، ليس له حقيقة، وإنما هو خيال وشعوذة، وهو ما يسمّى بالقُمْرة، فالساحر يخيِّل للناس شيئاً وهو ليس حقيقة، كأن يخيِّل للناس أنه دخل في النار، وليس كذلك، أو يخيِّل للناس أنه يمشي على حبل، وهو ليسق كذلك، أو يخيِّل للناس أن السيارة تمشي على بطنه، وليس كذلك، أو يخيِّل للناس أنه يطعن نفسه بالسلاح ولا يؤثِّر فيه، وليس كذلك، والحقيقة أنه عمل شيئاً من التخيل والقُمْرة فأثر على الأبصار. كما قال الله تعالى ني قوم فرعون: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}، فسحروا الأعين فقط، وذلك بما يعملونه من الحِيَل، ويجعلون في العِصِيّ التي معهم مواد تحرّكها، وتجعل العصى كأنها حيّة، وهي ليست كذلك كما قال تعالى عن موسى عليه السلام: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}، حيث حشوها بشيء من الزِّئْبق وشيء من الأمور التي لا يراها الناس، وظنوا أنها تتحرك.
وأنكرت المعتزلة النوع الأول، مع أن النوع الأول هو الخطير، وقالوا: السحر كله تخييلي.
وهذا غير صحيح، لأنه لو كان كذلك لما أثّر في المسحور ولما قتل المسحور، ولما أمرضه، ولما فرّق بينه وبين زوجه، فدلّ على أنه حقيقي، وعمل شيطاني، لأنه عُقد وعزائم، ولهذا يقول تعالى لنبيه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ(1)}، إلى قوله: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ(4)} فدل على أنه حقيقي.
والذي ذكره الشَّيخ في هذا الباب من النصوص على نوعين:
النوع الأول: في حكم السحر.
والنوع(14/122)
الثاني: في حكم الساحر.(14/123)
ص -345- ... وقول الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}.
وقوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}.
قال عمر: "الجبت: السحر. والطاغوت: الشيطان".
وقال جابر: "الطواغيت: كُهَّان كان ينزل عليهم الشيطان، في كل حيٍّ واحد".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال: "وقول الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا}" أي: اليهود، لأن الآية في سياق الآيات التي تتحدّث عن اليهود، أي: تحققوا.
"{لَمَنِ اشْتَرَاهُ}" أي: استبدل السحر بالتوراة.
"{مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}" أي: الساحر ليس له نصيب من الجنة.
وهذا دليل على أنه كافر، فالسحر كفر بالله عزّ وجلّ، وذلك من عدة مواضع في الآية:
أولاً: قوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}.
ثانياً: قوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا} أي: الملكان {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ}.
ثالثاً: قوله: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ} أي: السحر {مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}، أي: نصيب من الجنة.
قال المصنِّف- رحمه الله تعالى-: " وقوله {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}" ثمّ ذكر تفسير الجبت والطاغوت بقوله: "قال عمر: الجبت: السحر" فاليهود يؤمنون بالسحر، وهو كفر بالله عزّ وجلّ.
"والطاغوت: الشيطان " أي: هو رأس الطواغيت، والطاغوت مشتق من الطغيان، وهو مجاوزة الحد، كما سبق.
في قوله: "وقال جابر: الطواغيت: كُهَّان تنزل عليهم الشياطين، في كل حيٍّ منهم واحد" الكاهن هو الذي يدّعي علم الغيب، وكانوا في الجاهلية يتخذون حُكّاماً من الكهّان، يحكمون بين الناس.(14/124)
ص -346- ... وكان هؤلاء الكُهَّان تنزل عليهم الشياطين التي تسترق السمع، كما قال الله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ(221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)}، وكما جاء في الحديث أن مسترق السمع قد يسمع الكلمة من السماء فيُلقيها على الكاهن، فيكذب الكاهن معها مائة كذبة، فيصدِّقه النّاس بسبب هذه الكلمة التي سُمعت من السماء.
فالكاهن هو: الذي يخبر النّاس عن المُغَيّبات، بسبب أنه يسأل الشياطين، وتُخبره الشياطين عن الأشياء الغائبة، والأشياء المسروقة والمفقودة، والأشياء البعيدة، فهو يخبر الناس، فيظنون أن هذا الكاهن يعلم الغيب، وهو ليس كذلك، لا يعلم الغيب، وإنما أخبرته الشياطين بأشياء غائبة، لأن الشياطين لهم قدرة على الطيران السريع، والوصول إلى الأمكنة البعيدة، حتى إنهم يصعدون إلى السحاب، ويطيرون في الآفاق، فهم يجوبون الآفاق بسرعة، فيأتون بالأخبار ويُخبرون الكهّان، ويرون الأشياء المغيبة في البيوت أو في الأمكنة، لأنهم يدخلون بعض البيوت، وعندهم مقدرة ليست عند الإنس، فإذا تقرّب إليهم الإنسي بما يريدون من الشرك والذبح لغير الله والسجود لهم؛ فإنهم يخدمونه بما يريد، فيظن الإنس أن هذا الكاهن عنده خبر من الغيب، وأنه له خاصّية، والحقيقة أن هذا كله من الشيطان.
وكانوا يحكِّمونهم في المنازعات والخصومات، وكان عند كل حي كاهن، يعني: عند كل قبيلة كاهن يحكم بينهم.
فلما جاء الإسلام أبطل الله ذلك كله، لكن لا يزال عند بعض البوادي والجهّال نوع من هذا الشيء، يسألون الكُهّان، ويحكّمونهم، ويرجعون إليهم وقد جاء في الحديث: "من أتى كاهناً أو عَرَّافاً فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمَّد صلى الله عليه وسلم"
فلا يجوز الذهاب إلى الكُهَّان والمشعوذين والدجّالين لا للعلاج، ولا للسؤال عن الأشياء الضائعة، ولا(14/125)
الأشياء الغائبة، وهذا كفر بما أنزل الله سبحانه وتعالى، ولا يجوز إقرارهم وتركهم، بل يجب القضاء عليهم، وإراحة البلاد والعباد منهم، لأنهم دُعاة كفر وشرك، يُفسدون العقائد، ويأكلون أموال النّاس بالباطل ويُحدثون الشر في(14/126)
ص -347- ... وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات" قالوا: يا رسول الله، وما هنّ؟، قال: "الشرك بالله..........
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأمة، فلا يجوز تركهم وإقرارهم، فضلاً عن الذهاب إليهم وتصديقهم فيما يقولون، إنما هذا من عادات الجاهلية كما قال جابر رضي الله عنه.
فالكُهَّان لا يأتون بالأخبار من عند أنفسهم، وإنما جاءتهم بها الشياطين؛ لما عبدوهم من دون الله، وأطاعوهم في معصية الله، وتقرّبوا إليهم بالعبادة.
قال: "وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اجتنبوا" أي: ابتعدوا، ولفظة: "اجتنبوا" أبلغ من: لا تفعلوا، لأن الاجتناب يعني: ترك الشيء وترك الأسباب الموصلة إليه.
"السبع" أي: المعاصي السبع.
"الموبقات" يعني: المهلكات.
"قالوا: يا رسول الله، وما هن؟" سألوه صلى الله عليه وسلم: ما هي هذه السبع حتى نتجنبها؟، لأن الإنسان لا يمكن يتجنّب الشيء إلاَّ بعد أن يعرفه.
ففي هذا دليل على أنه يجب على المسلم أن يسأل عن الأمور المحرّمة، ويعرف الأمور الشركيّة، حتى يتجنبها.
وهناك من يقولون: علّموا النّاس التّوحيد واتركوا الكلام في الشرك، والكلام في المحرّمات، علِّموهم الخير فقط، ولا تبيّنوا لهم الشرك والأمور المحرّمة.
وهذا خداع من الشيطان، لأنه لا بد أن يعرف الإنسان الخير ويعرف الشر من أجل أن يعمل بالخير ويترك الشر، والله قدّم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله فقال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}وكيف يكفر بالطاغوت وهو لا يعرفه؟، لا بدّ أن يعرفه من أجل أن يكفر به، إلاَّ إذا لم يعرفه ظنّه خيراً.
"قال: الشرك بالله" هذا أكبر الكبائر، وأعظم الموبقات، وأعظم ذنب عُصي الله به.
وما هو الشرك؟، الشرك هو عبادة غير الله سبحانه وتعالى، بأن يصرف(14/127)
له شيئاً من العبادة(14/128)
ص -348- ... والسحرّ. وقتل النفس التي حرّم الله إلاَّ بالحق..........
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إما دعاءاً أو استغاثة: كأن يقول: يا سيدي فلان أغثني اشفني من المرض، أو يذهبون إلى القبور والأضرحة ويقولون: يا سيدي فلان أنا بحسبك، أغثني، أو اشفني من المرض، أو اعطني ولداً، أو هب لي زوجة... إلى آخره. وهذا شرك بالله عزّ وجلّ، لأنه دعاء لغير الله.
كذلك الذبح لغير الله، كان يذبح للقمر أو الضريح من أجل أن يُعطى ولداً، أو يُدفع عنه البلاء، أو يُشفى من المرض، ينذر للقبور، هذا هو الشرك بالله عزّ وجلّ.
فليس الشرك مقصوراً على عبادة الأصنام، بل الشرك في كل ما صُرف لغير الله من العبادة أياً كان المصروف له، سواء كان صنماً أو قبراً أو شجراً أو حجراً أو غير ذلك.
والشرك لا يغفره الله عزّ وجلّ كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}.
والمشرك لا يدخل الجنة أبداً، ومأواه النار، قال تعالى: {فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ}، {حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} يعني: منعه من دخولها منعاً باتاً، {وَمَأْوَاهُ النَّارُ} مقرّه ومصيره الأبدي {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "والسحر" وهذا محل الشاهد من الحديث، لأن السحر كفر وشرك بالله عزّ وجلّ، وعطفه على الشرك من باب عطف الخاص على العام، وإلاَّ فالسحر نوع من أنواع الشرك، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم خصّه بالذكر، وعطفه على الشرك من باب عطف الخاص على العام من أجل الاهتمام بتجنبه.
"وقتل النفس التي حرّم الله إلاَّ بالحق" النفس التي حرم الله هي نفس المؤمن ونفس المعاهد، فالمؤمن عصم الله دمه وماله وعرضه، فلا يجوز الاعتداء عليه، قال صلى الله عليه وسلم: "أُمرت أن أُقاتل النّاس حتى يقولوا: لا إله إلاَّ الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاَّ بحقها،(14/129)
وحسابهم على الله عزّ وجلّ"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا،ألاَّ هل بلغت؟".
فالمؤمن حرّم الله قتله بغير الحق، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً(14/130)
ص -349- ... وأكل الربا........
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً(93)}.
وكذلك الكافر المعاهَد، لا يجوز قتله، فقد جاء في الحديث: "من قتل معاهَداً لم يَرَحْ رائحة الجنة".
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إلاّ بالحق" أي: إلاَّ بسبب يبيح قتل المؤمن أو المعاهد، وقد بيّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا يحل دم امرئ مسلم إلاَّ بإحدى ثلاث: الثّيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة".
و"الثيب الزاني" المراد به: المُحْصَن الذي تزوج ووطئ زوجته بنكاح صحيح، ثمّ زنى فإنه يُقتل، وكيفيّة قتله: أنه يُرجم بالحجارة حتى يموت، كما تواترت بذلك سنّة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك حماية للأعراض.
"والنفس بالنفس" والمراد به: القصاص، إذا قتل مُكافِئاً له عمداً عدواناً، فإنه يُقتل قصاصاً، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}، وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(179)}، وذلك حماية للأنفس.
"والتارك لدينه المفارق للجماعة" وهو المرتد، وهو الذي ارتكب ناقضاً من نواقض الإسلام، فهذا يُستتاب، فإن تاب ورجع إلى الإسلام وإلاَّ قُتل مرتداً، حماية للدين من العبث.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "وأكل الربا" والربا لغة: الزيادة، والمراد به هنا: زيادة مخصوصة في مال مخصوص، وهي الأصناف التي حرم الرسول صلى الله عليه وسلم الزيادة فيها بقوله: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُرّ بالبُرّ، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، سواءً بسواء، يداً بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيفما شئتم إذا كان يداً بيد" وألحق جمهور العلماء بهذه الستة ما شابهها في العلة.
والربا من أكبر(14/131)
الكبائر بعد الشرك، قد توعّد الله عليه بأشد الوعيد، كما في آخر سورة البقرة: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ(14/132)
ص -350- ... وأكل مال اليتيم. والتَّوَلِّي يوم الزَّحْف. وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ(276)} إلى قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه، فالربا من أعظم الكبائر بعد الشرك.
قوله: "وأكل الربا" ليس المراد خصوص الأكل، وإنما كل الاستعمالات: من أكله ولبسه وإهدائه، إلى غيره، كل استعمالات الربا حرام، وكذلك من ادّخره عنده أو جعله رصيداً له في البنك.
وإنما ذكر الأكل لأنه غالب وجوه الانتفاع، وإلاَّ فكل وجوه استعمالات الريا محرّمة.
قال صلى الله عليه وسلم: "وأكل مال اليتيم" المراد باليتيم: من مات أبوه وهو دون البلوغ، والواجب الإحسان إلى اليتيم، لأنه فقد أباه وعطفَه، فيجب على المسلمين أن يسدّوا محلّ والده بالإحسان إليه ورعايته، وإن كان له مال فيجب أن يحافظ عليه حتى يبلغ رشيداً، ويسلم له ماله بالتمام، كما قال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا} إلى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً(10)}.
لأن اليتيم ضعيف لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، فإذا تسلّط عليه ظالم وأكل ماله فهذا من أعظم الظلم، وليس المراد خصوص الأكل، بل كل استعمالات مال اليتيم حرام، إلاَّ ما فيه مصلحة له.
قال صلى الله عليه وسلم: "والتولِّي يوم الزحف" التولي يوم الزحف، هو: الفرار من القتال بين المسلمين والكفار إذا حضر(14/133)
المعركة.
فمن حضر المعركة بين المسلمين والكفار وهو يستطيع القتال فلا يجوز له أن ينصرف، بل يجب عليه أن يقاتل مع المسلمين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(16)}.
قال صلى الله عليه وسلم: "وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" المراد بالقذف: الرمي(14/134)
ص -351- ... وعن جندت مرفوعاً: "حَدّ الساحر ضربة بالسيف" رواه الترمذي، وقال: "الصحيح أنه موقوف".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بالفاحشة، من زنا أو لواط. والمراد بالمحصنات: العفيفات عن الزنا من الحرائر، ومثلهن الرجال العفيفون.
والواجب على المسلم أن يحفظ لسانه، ولا يرمي أحداً بالزنى، أو باللواط، وإذا قذفه ولم يُقم البيّنة فإنه يُجلد ثمانين جلدة، قال تعالي: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}.
والشاهد من هذا الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم عدّ السحر من السبع الموبقات.
أما ما يُستفاد من هذه النصوص فهو كما يلي:
أولاً: يُستفاد من هذه النصوص تحريم تعلّم السحر، وتعليمه، والعمل به، وأنه من السبع الموبقات، وأنه من الإيمان بالجبت وأنه كفر يخرج من الملة.
ثانياً: في هذه النصوص الأمر بالابتعاد عن الكبائر خصوصاً، والمعاصي عموماً، وترك أسبابها، لأن كلمة "اجتنبوا" معناها: أن الإنسان يترك الأسباب الموصِّلة إلى الحرام.
ثالثاً: يُستفاد من الحديث أن الشرك أكبر الكبائر، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بدأ به في هذا الحديث، فدلّ على أن الشرك بالله أكبر الكبائر.
قوله: "عن جُندب" قيل هو: جُندب بن عبد الله البَجَلي، وقيل غيره. والله أعلم.
"حدّ الساحر ضربه بالسيف" المعنى: أن حكم الساحر وجوب قتله، لأنه يُفسد في الأرض، كما قال تعالى: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}، فالساحر مفسد في الأرض، يجب قتله، وأيضاً هو كافر، والكافر يجب قتله، إن كان كافراً أصلياً وجب قتله بكفره وإفساده، وإن كان مسلماً ثمّ استعمل السحر وجب قتله لردّته.
والسحر ناقض(14/135)
من نواقض الإسلام، كما ذكر ذلك الشَّيخ في نواقض الإسلام العشرة، قال: "ومنها تعلّم السحر، وتعليمه".(14/136)
ص -352- ... في صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة، قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أن اقتلوا كل ساحر وساحرة"، قال: فقتلنا ثلاث سواحر.
وصحَّ عن حفصه رضي الله عنها: "أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها، فقُتلت". وكذلك صح عن جندب.
قال أحمد: "صحّ عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "وفي صحيح البخاريّ: عن بَجَالة بن عَبَدة، قال: كتب عمر بن الخطاب" أمير المؤمنين، ثاني الخلفاء الراشدين، رضي الله عنهم أجمعين.
"أن اقتلوا كل ساحر وساحرة" فهذا يؤيِّد حديث جُنْدب: "حدّ الساحر: ضربه بالسيف".
إذا كان عمر بن الخطاب- أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين- كتب إلى الأمصار وإلى ولاته: "أن اقتلوا كل ساحر وساحرة" واشتهر ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدييّن من بعدي"؛ إذاً فقتل الساحر دلّ عليه الحديث، وفعل عمر بن الخطاب.
وكان بَجَالة بن عَبَدة كاتباًَ لبعض الوُلاة، فهو يذكر ما وصلهم من عمر.
قال: "فقتلنا ثلاث سواحر" يعني: نفّذنا ما كتب به أمير المؤمنين، وسواحر: جمع ساحرة، وهي المرأة التي تتعاطى السحر.
قال: "وصحّ عن حفصة" هي: حفصة بنت عمر بن الخطاب، أم المؤمنين رضي الله عنها.
"أنها أمرت بقتل جارية لها" أي: مملوكة لها.
"سحرتها"سحرت حفصة رضي الله عنها فأمرت بقتلها.
وهذا أيضاً فعل صحابيّة، وهي أم المؤمنين، أمرت بقتل مملوكتها لما سحرت.
ولذلك "قال أحمد" هو أحمد بن حنبل، إمام أهل السنّة، والصابر على المحنة، أحد الأئمة الأربعة المشهورين في الإسلام الذين بقِيت مذاهبهم حيّة، وله من الفضائل رحمه الله الشيء الكثير، وكُتب في مناقبه وترجمته مؤلّفات، كان إماماً في(14/137)
ص -353- ... السنّة، ومناصراً للحق، وصابراً على المحنة، حتى ثبّته الله، وثبّت به عقيدة المسلمين من الزيغ حينما امتُحن النّاس بالقول بخلق القرآن، فثبت، وصبر على الجلد، وعلى السجن، وعلى الإهانة حتى أظهره الله، ونشر به الحق.
قال: "صح عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم" يعني: صح قتل الساحر عن عمر بن الخطاب، وحفصة أم المؤمنين، وجُنْدب، وهو جُنْدب بن كعب الأزدي الغامدي، وله قصة، وهي:
أن الوليد كان يلعب عنده ساحر، ومن جملة سحره أنه يُظهر للناس بأنه يقتل الرجل ثمّ يحييه، حيث يستعمل القُمْرة، أي: السحر التخييلي، فيخيّل إلى النّاس أنه يقطع رأس الرجل ثمّ يعيد الرأس مكانه، فيما يظهر للنّاس، فجاء جُنْدب بن كعب رضي الله عنه مُخْفيًّا السيف، فلما وصله قطع رأسه، وقال: إن كان صادقاً فليحيي نفسه.
قتله غَيْرة على دين الله عزّ وجلّ، وتحدِّياً لهذا الساحر الذي يُحيي الموتى بزعمه، فبذلك بطلت هذه الحيلة الشيطانية، وانقشعت هذه القُمْرة، وتبيّن أنه كاذب.
ويُستفاد من هذه الآثار فوائد عظيمة:
الفائدة الأولى: كُفر الساحر، لأن الصحابة قتلوه، وما قتلوه إلاَّ لكفره.
هذا مع الآيات التي تدل على كفره، كقوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ}، يعني: ما استعمل السحر كما يظن اليهود، فدلّ على أن استعمال السحر كفر، {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ}، يعني: سبب كفرهم أنهم {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} فدلّ على أن تعليم السحر كفر.
وأن الله قال في الملكين: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى} ينصحاه {يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} يعني: نحن امتحان واختبار، فمن قبل السحر فهو كافر، {فَلا تَكْفُرْ} بتعلُّم السحر.
{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا} يعني: من الملكين، {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ(14/138)
الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}، هذا دليل على أن السحر له حقيقة، وأنه يؤثِّر ويفرِّق بين المرء وزوجه بإحداث البغضاء، فهو دليل لمذهب أهل السنّة على أن السحر له حقيقة يؤثِّر، ولو لم يكن له حقيقة لم يؤثِّر البغضاء.(14/139)
ص -354- ... ثمّ قال تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}، أي: القدري الكوني، لأن الإذن على نوعين:
النوع الأول: القدري الكوني، الذي تنتج عنه المقدَّرات، خيرها وشرّها.
والنوع الثاني: الإذن الشرعي المذكور في هذه الآية: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} أي: بشرعه.
وهذا فيه: أن الإنسان يتوكّل على الله، ومن توكّل على الله كفاه شرّ السحرة وغيرهم، ولهذا أمر الله بالاستعاذة به من السحرة: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ(4)} أي: من شر السواحر.
ثمّ قال جل وعلا: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ}، دلّ على أن تعلم السحر ضرر محض، ليس فيه مصلحة، لأن الأمور على خمسة أقسام:
ما كان ضرراً محضاً: ومنه السحر، والكفر والمعاصي.
النوع الثاني: ما كان مصلحة محضة، ليس فيه ضرر البتّة كالطاعات.
النوع الثالث: ما كان فيه مضرّة ومصلحة، لكن مضرّته أكثر من مصلحته.
النوع الرابع: ما كان مصلحته أكثر من ضرره، كالجهاد في سبيل الله على ما فيه من القتل والجراح.
النوع الخامس: ما تساوى ضرره ومصلحته.
الموضع الرابع: مما يدل عدى كفر الساحر:وقوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} أي: قد علم اليهود أن من تعلم السحر وعلمه ما له نصيب في الجنة، وهذا هو الكافر.
والموضع الخامس: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ* وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ}، قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا}، أي: تركوا السحر، وهذا دليل على أن السحر كفر ينافي الإيمان، لكنهم لم يتركوا السحر بل اتخذوه بدل الإيمان فكفروا.
فهده خمسة مواضع من هذه الآيات تدل على كفر الساحر، مع عمل الصحابة، وقتلهم للسحرة.(14/140)
ص -355- ... وفي قوله تعالى: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى}، دليل على كفر الساحر، حيث نفي فلاحه، والمؤمن يفلح ولو كان إيمانه ضعيفاً، ولو لم يكن عنده إلاَّ ذرّة من الإيمان فإنه يُفلح، وإن عُذِّب، والله نفى عن الساحر الفلاح مطلقاً، فدلّ على أنه كافر، والعياذ بالله.
هذه المسألة الأولى، وهي مسألة مهمة جدًّا، ذكرنا فيها الأدلة التي تدلّ على كفر الساحر.
وكفر الساحر مطلقاً كما ذكر الشارح هو مذهب الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة، ومالك، وأحمد؛ يرون كفر الساحر، وقد سبقهم جمع من الصحابة.
والإمام الشافعي يقول: "نقول للساحر: صف لنا سحرك، فإن وصفه بما يُقتضى الكفر فهو كافر، وإلاَّ فلا".
ولكن هذا المذهب مرجوح، لأنه لا يمكن السحر إلاَّ بالتعاون مع الشياطين، والخضوع لهم، وحينئذ يكون كافراً.
الفائدة الثانية: في الحديث دليل على وجوب قتل الساحر قتل ردّة، لأنه صحّ عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: عمر وحفصة وجُنْدب، ولم يظهر لهم مخالف من الصحابة، فدلّ على وجوب قتله، لأنه مرتدّ، والمرتدّ يجب قتله لقوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحلّ دم امرئ مسلم إلاَّ بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة" فالساحر من هذا القسم الأخير التارك لدينه المفارق لجماعة المسلمين. فيجب قتله.
الفائدة الثالثة: في هذه الآثار دليل على أنه يُقتل ولا يُستتاب، لأنه لم يذكر في هذه الآثار أن الصحابة استتابوه، وإنما فيها أنهم قتلوه، ولم يذكر أنهم استتابوه.
وأيضاً إذا تاب في الظاهر فعلم السحر لا يزول من قلبه، فهو وإن أظهر التوبة فإنه يُقتل في كل حال، لأن التوبة لا تزيل السحر من قلبه بعدما تعلّمه، ومن أجل دفع فساده، لأنه قد يُظهر التوبة وهو غير صادق، بل من أجل أن يتّقي القتل.
قال الشارح: "هذا قول الإمام(14/141)
مالك، ورواية عن الإمام أحمد".(14/142)
ص -356- ... والقول الثاني -وهو قول الشافعي-، ورواية عن أحمد-: أنه يُستتاب كغيره من المرتدّين، لأن المشرك يُستتاب، فالساحر- أيضاً- يُستتاب.
ولكن الرأي الأول أرجح، فيُقتل ولا يُستتاب لِغِلَظ ردّته، ولأجل كفِّ شرِّه عن المسلمين، ولأنه يُظهر التوبة ويخدع النّاس.
لكن إن كان صادقاً في توبته فهذا فيما بينه وبين الله، أما الحد فلا يسقط عنه. وهذا حكمه في الدنيا.
وعلى كل حال؛ أمر السحر أمرٌ خطير.
وفي هذا الزمان كثر شرّ السحرة، وصاروا يستعملون السحر من أجل ابتزاز أموال الناس، واللعب عليهم، وأمر الأموال أخف من أمر العقيدة، وإن كانت الأموال شيئاً مهمًّا يجب الحفاظ عليه، ولكن العقيدة أهمّ، ووجود السحرة في المجتمعات الإسلامية وباء خطير فتَّاك، يجب علاجه، ويجب القضاء عليه.
فالسحرة في العالم في هذا الزمان يقيمون نوادي، يجتمعون فيها، ومؤتمرات يعقدونها من أجل إهلاك البشر، وتعاظَم شرّهم وخطرهم، فيجب على المسلمين أن يحذروا منهم غاية الحذر، ويجب على من علم بوجود ساحر في البلد أن يبلِّغ ولاة الأمور عنه.
ولا يجوز الذهاب إلى السحرة وتصديق السحرة، فالسحرة مثل الكُهَّان أو شرّ من الكُهَّان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أتى كاهناً لم تُقبل له صلاة أربعين يوماً"، وقال صلى الله عليه وسلم: "من أتى كاهناً أو عرّافاً فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمَّد صلى الله عليه وسلم"، والسحر من الطاغوت ومن الجبت- كما سبق-، وهو شرّ من الكِهانة.
وإذا كان الكاهن يجب على المسلمين هجره والابتعاد عنه، وأن من أتاه لا تُقبل صلاته أربعين يوماً، ومن صدقه يكفر بما أنزل على محمَّد صلى الله عليه وسلم، فكيف يذهب بعض النّاس إلى السحرة والمشعوذين، وقد يأمرونه بالشرك، فيأمرونه بالذبح لغير الله؟! فالأمر خطير جدًّا
فيجب على المسلمين أن يحذروا من هذا البلاء، ومن هذا الوباء، وهذا الخطر؛ أن لا يتفشَّى بين المسلمين.(14/143)
ص -357- ... [الباب الخامس والعشرون:]
* باُب بيان شيء من أنواع السحر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مناسبة هذا الباب بعد الباب الذي قبله ظاهرة، لأنه في الباب الذي قبله بَيّن ما جاء من الأدلة في كتاب الله وسنّة رسوله في حكم السحر وحكم الساحر، فتطلَّعت الأنظار إلى أن يعرف النّاس ما هو السحر، وما هي أنواعه حتى يتجنّبوه.
ومن ثَمّ يتعيّن على العلماء وطلبة العلم أن يبيّنوا للناس الحق والباطل، أن يبينوا للناس الحق وأدلّته، وأن يبيّنوا للناس الباطل وأدلّته وأنواعه؛ من أجل أن يأخذوا بالحق على بصيرة، وأن يتركوا الباطل على بصيرة، وإلاَّ فإنه إذا لم يبيّن الحق والباطل التبس على الناس، وظنوا الحق باطلاً والباطل حقّاً.
ومن هنا يتعيّن على الدعاة وعلى الخطباء في المساجد وعلى المدرِّسين أن يعتنوا بهذا الأمر، وأن يبيّنوا للناس أمور عقيدتهم، وأمور دينهم.
ومما حمل المصنِّف- أيضاً- رحمه الله على عقد هذا الباب: أن هناك خوارق تجري على أيدي بعض النّاس خارجة عن الأسباب المعروفة، مثل: المشي على الماء، والطَّيَران في الهواء، والإخبار عن الأشياء الغائبة، وإحضار الشيء البعيد.
وهذه الخوارق إن جرت على أيدي الصالحين فهي كرامات من الله سبحانه وتعالى، والكرامات ثابتة عند أهل السنّة والجماعة، تجري على أيدي الصالحين إكراماً لهم من الله سبحانه وتعالى، وقد تجري على أيدي الكفرة، والفسّاق، والمنافقين، فتكون هذه الخوارق شيطانية، يفتِنون بها الناس، ويلبِّسون بها على الناس، وهي إما سحر، وإما بسبب استخدام هؤلاء الفسّاق للشياطين، فيخدمهم الشياطين بهذه الأمور التي ليست من مقدور بني آدم، وإما أن لها أسباباً خفيّة لم تظهر للنّاس من حِيَل، يعملونها.
فمن أجل التباس الحق بالباطل في هذه الخوارق أراد الشَّيخ أن يعقد هذا الباب ليبيّن أن هذه الخوارق من السحر، وليست من الكرامات.
فيجب أن نعرف هذا الباب، والفرق بين(14/144)
الكرامات وخوارق الشيطان، لئلا يلتبس الأمر، ولئلا يتخذ المخرِّفون والمنحرفون الخوارق الشيطانية دليلاً على الولاية لله عزّ وجلّ، فيعبدون هؤلاء من دون الله عزّ وجلّ.(14/145)
ص -358- ... قال أحمد: حدّثنا محمَّد بن جعفر، حدّثنا عوف، وحدّثنا حَيَّان بن العلاء، حدّثنا قَطَن بن قَبِيصة، عن أبيه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العِيافة والطَّرْق والطِّيَرة من الجبت".
ال عوف: العِيافة: زجر الطير. والطَّرْق: الخطُّ يُخطُّ بالأرض.
والجبت: قال الحسن: رنّة الشيطان. إسناده جيّد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "قال أحمد: حدَّثنا محمَّد بن جعفر" المراد به: غُنْدُر.
"حدثنا عوف " هو: عوف بن أبي جميلة، المسمى بعوف الأعرابي، إمام ثقة مشهور.
"حدثنا حيان بن العلاء" حيان- بالياء المثنّاة- بن العلاء، بصريٌّ مقبول.
"حدثنا قَطَن بن قَبِيصة" قَطَن بن قَبِيصة تابعي، بصري ثقة.
"عن أبيه": قَبِيصة بن المُخَارق الهلالي، صحابي معروف.
"أنه" يعني: قبيصة- رضي الله عنه-.
"سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن العِيافة والطَّرْق والطِّيَرة من الجبت".
وتفسير هذه الألفاظ مروي عن: "عوف"، وهو: عوف بن أبي جميلة، المسمى بعوف الأعرابي؛ أحد رواة هذا الحديث.
قال: "العيافة: زَجْر الطير" ومعناه: التشاؤم بأصواتها وأسمائها ومسارها.
"والطَّرْق: الخطُّ يخطّ في الأرض" من أجل استطلاع الأمور الغائبة، وهي طريقة جاهلية، وهم لا يعلمون بها الغيب بذاتها، وإنما الشياطين هي التي تأتي لهم بما يريدون إذا تقرّبوا إليهم بالعبادة، وكفروا بالله عزّ وجلّ، لأن الشياطين تريد إضلال بني آدم مهما استطاعت. قوله:
"قال الحسن " هو الحسن البصري إمام التابعين.
"الجبت: رنّة الشيطان" أي: صوت الشيطان، وصوت الشيطان يشمل أشياء كثيرة، منها: الأغاني والمزامير، قال تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ}.
وصوت الشيطان: كل كلام باطل، وكل كلام كفر أو شرك.
فهذا فيه بيان الشيء من أنواع السحر:(14/146)
ص -359- ... ولأبي داود والنسائي وابن حبّان في "صحيحه" المسند منه.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اقتبس شُعبة من النجوم، فقد اقتبس شُعبة من السحر، زاد ما زاد" رواه أبو داود، وإسناده صحيح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فالعِيافة نوع من أنواع السحر.
والطَّرْق نوع من أنواع السحر.
والطِّيَرة نوع من أنواع السحر.
كلها من أنواع السحر؛ لأنها من الجبت، والجبت السحر كما سبق، فالسحر إذاً كلمة عامة تجمع شروراً كثيرة، إما قولية، وإما عمليّة.
ثم قال المصنِّف رحمه الله: "إسناده جيّد" أي: إسناد الإمام أحمد جيد، لأن رواته ليس فيهم أحد مجروح.
قال: "وروى أبو داود والنسائي وابن حيان في صحيحه المسنَدَ منة" أي: رووا أصل الحديث، دون التفسير المذكور الذي ذكره عوف.
"وأبو داود"، هو الإمام المشهور، سليمان بن الأشعث، صاحب السنن المشهورة بسنن أبي داود وهي إحدى السنن الأربع.
"والنسائي" هو: أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، الإمام الجليل، صاحب "السنن الكبرى" إحدى السنن الأربع.
"وابن حبّان في صحيحه" ابن حبّان هو: أبو حاتم، محمَّد بن حبان البُسْتي، صاحب الصحيح المسمّى بـ"صحيح ابن حبان".
قال: "وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اقتبس شُعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد" رواه أبو داود، وإسناده صحيح".
قوله صلى الله عليه وسلم: "من اقتبس شُعبة" يعني: تعلَّم. والشُّعبة: الطائفة أو القطعة.
"من النجوم" يعني: من علم التنجيم.
والتنجيم معناه: اعتقاد أن النجوم تؤثِّر في الكون،- كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية- هو: نسبة الحوادث الأرضيّة إلى الأحوال الفلكيّة.(14/147)
ص -360- ... وللنسائي من حديث أبي هريرة: "من عقد عُقْدة ثمّ نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلَّق شيئاً وُكِل إليه".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولا تزال آثار هذه الخصلة الجاهلية في عصرنا الحاضر فيما يظفر عند المنجِّمين والذين يذهبون إليهم، وبما يُكتب في بعض الصُّحف والمجلاّت من أحوال البُرُوج، لأن نسبة هذه الأمور إليها في طلوعها أو غروبها، أو إلى الأفلاك في تحرُّكها؛ شرك بالله عزّ وجلّ، لأن الذي يدبِّر النجوم، ويدبِّر الأفلاك، ويدبِّر الكون كله هو الله سبحانه وتعالى، فيجب أن نؤمن بذلك. أما النجوم، وأما الأفلاك، وأما جميع المخلوقات فليس لها تدبير، وليس لها إحداث شيء، أو جَلْبُ نفع، أو دفع ضر إلاَّ بإذن الله سبحانه وتعالى، فالأمر يرجع كلّه إلى الله. ويجب على المسلم أن يعتمد على الله، وأن يتوكّل على الله، ولا يتأثّر بما يقوله المنجِّمون والفلكيُّون.
أما تعلّم حساب منازل القمر من أجل معرفة مواقيت العبادات، ومواقيت الزراعة والبذور؛ فلا بأس به، وهذا ما يسمِّيه العلماء بعلم التَّسْيِير.
وأما الاعتقاد بالنجوم بأنها تؤثِّر فهو علم التَّأْثير، وهو المحرّم.
قوله: "فقد اقتبس شُعبة من السحر" وهذا هو الشاهد من الحديث للباب، حيث دلّ على أن التنجيم نوع من أنواع السحر، لأن كلاًّ من المنجِّم والساحر يدّعي علم الغيب الذي اختص الله تعالى بعلمه.
وقوله: "زاد ما زاد" يعني: كل ما زاد من الاقتباس زاد من السحر، فمُقِلٌّ ومُسْتَكْثِر. فهذا تحذير من الرسول صلى الله عليه وسلم.
فالإنسان لا يجوز له أن يتعلم التنجيم الذي عليه المشركون، لأنه سحر وشرك بالله سبحانه وتعالى، وادِّعاءٌ لعلم الغيب الذي لا يعلمه إلاَّ الله سبحانه وتعالى.
والنجوم إنما خُلقت لفوائد بيّنها الله سبحانه وتعالى في كتابه
قال: "وللنسائي من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من عقد عُقدة" هذا من(14/148)
عمل السحرة؛ يعقدون الخيوط ثمّ ينفثون فيها، والنفث هو: النفخ مع الرِّيق، ينفث فيها من ريقه الخبيث، لأنه متكيِّف بالشيطان، فريقه ممزوج بالخُبث وتأثير الشيطان.(14/149)
ص -361- ... وقد يضرّ من وُجّه إليه بإذن الله عزّ وجلّ، كما قال تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}.
وقد أمر الله نبيّه بالاستعاذة منه في سورة الفلق، قال تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ(4)}، {النَّفَّاثَاتِ}: السواحر، و {الْعُقَدِ} هي: العُقد التي في الخيوط.
وقوله: "فقد سحر" يدل على أن هذا العمل سحر.
وقوله: "ومن سحر فقد أشرك" هذا هو الشاهد من الحديث؛ أن من أنواع الشرك: عقد العُقد والنفث فيها بقصد السحر، لأن الساحر لا يتوصّل إلى سحره إلاَّ بالاستعانة بالشياطين، وإذا استعان بالشياطين فقد أشرك بالله عزّ وجلّ.
قوله: "ومن تعلّق شيئاً وُكِل إليه" أي: من اعتقد في شيء من دون الله أنه ينفع أو يضر وَكَله الله إلى ذلك الشيء.
فمن اعتقد في السحرة والكُهّان والمشعوذين والمنجِّمين والأموات والأولياء أنهم ينفعون أو يضرُّون من دون الله وُكِل إليهم؛ عقوبةً له، وتخلّى الله سبحانه وتعالى عنه، وَوَكَله إلى هؤلاء الذين لا يملكون ضرًّا ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، ولا وتنقطع صلته بالله الذي بيده المُلْك، والذي بيده الخير، والذي يرحم عباده ويرزقهم، ويكلِه الله إلى هذه المخلوقات الضعيفة، لأنه اعتمد عليها، وتوكّل عليها، وخاف منها، ورجاها، فيوكل إليها.
فمن ذهب إلى مشعوذ يريد منه العلاج والشفاء من المرض وَكَله الله سبحانه وتعالى، ومن سأل كاهناً أو عرَّافاً عن شيء من الأشياء وَكَله الله إليه إذ اعتمد عليه.
ومن توكّل على الله، وتعلّق بالله سبحانه وتعالى، وخاف الله ورجاه فإن الله يتولّى أمره، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}، فالذي يتوكّل على الله، ويؤمن بالله، ويعتمل! على الله؛ فإن الله يكفيه، ويصونه من شر عباده، قال(14/150)
تعالى{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}،.
فمن توكّل على الله كفاه، ومن تركل على غير الله وَكَله الله إلى ضعيف، عاجز لا يُغني عنه من الله شيئاً، لا في الدّنيا ولا في الآخرة.(14/151)
ص -362- ... وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا هل أنبئكم ما العَضْةُ؟ هي النميمة، القالة بين الناس" رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أما في الدّنيا فيكِله الله إلى هؤلاء الذي يضلُّونه، ويُفسدون عقيدته، أو يوهِّمونه، ويتسلَّطون عليه حتى يعيش عيشة القلق والأوهام والضّعف والخَوَر.
ولذلك نجد الخرافيّين والقبوريين دائماً في قلق، ودائماً في خوف، ودائماً في ذلّ، لأنهم تعلَّقوا بغير الله.
أما في الآخرة فمعلوم مصيره إن لم يتب.
ونجد الموحِّدين الصادقين في قوة وفي أمن، وفي سرور بال وراحة نفس وطُمأنينة، لأنهم توكّلوا على الله.
ومن عبد الله وحده تولى الله أمره في الدُنيا والآخرة، ونجاه من العذاب، وأدخله الجنة.
ومن عبد الشياطين والمخلوقين والقبوريين وغير ذلك وَكَله الله إليهم يوم القيامة، يقول لهم: اذهبوا إلى من كنتم تعبدونهم في الدنيا، وإذا ذهبوا إليهم تبرأوا منهم: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا}، {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)}، هذا في الدّنيا.
وفي الآخرة: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ(6)}، وقت الحاجة ووقت الخطر كفروا بعبادتهم وتبرأوا منهم، فيذهبون إلى النار، لأنهم لم يعقدوا مع الله صلة تصلهم بالله عزّ وجلّ، ولم يعبدوا الله ويوحِّدوه، بل عبدوا غيره.
قال: "وعن ابن مسعود" رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا هل أنبئكم ما العَضْةُ؟""العضه: السحر، أي: ما هو السحر؟.
وهذا فيه التعليم وطريقة السؤال الجواب، لأن ذلك أوقع في النفس، إذا صار الشيء مهمًّا وخطيراً فإنه يُلقى على النّاس بطريق السؤال، من أجل أن يتنبّهوا.
ثمّ قال صلى الله عليه(14/152)
وسلم في الجواب: "هي النميمة" وهذا لبيان خطر النميمة، كأن النبي صلى الله عليه وسلم حصر السحر فيها تحذيراً منها.
ولماذا صارت النميمة بهذه الخطورة؟، لأن النميمة تعمل عمل السحر، فتفرِّق(14/153)
ص -363- ... ولهما عن ابن عمر رضي الله عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن من البين لسحراً".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بيّن النّاس كما يفرِّق بينهم السحر، بل هي أشد، كما قال بعضهم: "يُفسد النمّام في ساعة ما يُفسده الساحر في سنة"، فالنميمة أشدّ تأثيراً من السحر، لأنها تفرِّق بين المسلمين والسحر إنما يؤثر فيمن وقع عليه.
والنميمة معناها: نقل الحديث بين النّاس على وجة الوشاية والإفساد، يذهب إلى شخص فيقول له: إن فلاناً يسبُّك ويتنقَّصك، ويقول فيك كيت وكيت. ثمّ يغضب هذا الشخص على فلان. ثمّ يذهب إلى الثاني، ويقول: إن فلاناً يقول فيك كذا وكذا، ويسبّك، ويتنقّصك. فيغضب هذا على هذا، وهذا على هذا، ثمّ تقوم القطيعة بين الوالد وولده، وبين الأخ وأخيه، وبين المسلم وأخيه المسلم، حتى ربّما تقوم الحروب الطاحنة بين النّاس بسبب النميمة.
والنميمة من الكبائر، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن النميمة من أسباب عذاب القبر، كما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بقبرين فقال: "إنهما ليعذّبان، ما يعذّبان في كبير، أما إنه كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستبرئ من بوله".
فدلّ على أن النميمة تسبِّب عذاب القبر.
وفي الحديث الصحيح: "لا يدخل الجنة نمّام" وفي رواية: "لا يدخل الجنة قتّات".
والنمام ليس له حكم الساحر، فلا يكفر كما يكفر الساحر.
وإنما النميمة محرَّمة كما يحرُم السحر، إلاَّ أن السحر كفر، والنميمة فسق.
قال: "ولهما" أي للشيخين: البخاري ومسلم.
"من حديث ابن عمر رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من البيان لسحراً"" البيان هو: البلاغة والفصاحة، لأن النّاس يُصغون إلى المتكلِّم إذا كان فصيحاً في كلامه، وبليغاً في منطقه، بخلاف ما إذا كان ثَرْثَاراً، فإنهم لا يُصغون إلى كلامه، ويستثقلونه، ويملُّون من سماعه، فإن استعمل هذه(14/154)
القوّة البيانيّة في الخير والدفاع عن(14/155)
ص -364- ... الحق، والردّ على الباطل، فهو مأجور، أما إن استعملها بضدّ ذلك، فاستعملها في نُصرة الباطل، وهدم الحق فهو آثم، وهذا هو المذموم.
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يذم البيان مطلقاً، وإنما ذم البيان الذي يقلب الحق باطلاً والباطل حقًّا، فإن البليغ الفصيح يستطيع بأسلوبه أن يزيّن للناس الباطل، وان يزوّره بكلامه حتى يظنّوه صحيحاً، ويستطيع أن يؤثِّر على الحق حتى يخيّل إلى النّاس أنه باطل.
فالواجب على المسلم إذا أعطاه الله مقدرة في الكلام والمحاورة أن يستعمل هذا في طاعة الله سبحانه وتعالى، وفي الدعوة إلى الخير، وترغيب النّاس في الخير، وتنفيرهم من الشرّ.
أما أن يستعمله بضدّ ذلك بأن يستعمله بالكلام في أعراض العلماء الربانيين وتبديعهم، وتجهيلهم؛ فهذا من السحر.
أو يستعمله في تزيين الشرك، وعبادة القبور، وتزيين البدع والخرافات والمحدثات؛ فهذا من السحر، لأن السحر يقلب الحق باطلاً والباطل حقًّا، كذلك البليغ الذي يستعمل فصاحته في الدعوة إلى الشر.
وما ضلّ كثير من النّاس إلاَّ بسبب الدعاة البُلغاء المنحرفين إما في الإذاعات، وإما في الصحف، وإما فوق المنابر، وإما في مدرّجات الجامعات، إذا تكلموا استمالوا الحاضرين، وملئوا أدمغتهم بكلام مزوّر، حتى يخرجوا وهم يُبغضون الحق ويحبون الباطل- والعياذ بالله-، فهذا خطر عظيم.
ما يًستفاد من هده الأحاديث:
أولاً: في حديث قبيصة رضي الله عنه أن العِيَافة والطَّرْق والطِّيُرة من الجبت، والجبت هو السحر، وكما سبق: أن الجبت كلمة عامة تشمل السحر، وتشمل الكهانة، وتشمل العِيَافة، وتشمل الخطّ يخطّ في الأرض. يعني: تشمل كل ما فيه ادّعاءٌ لعلم الغيب.
ثانياً: في حديث ابن عباس تحريم تعلّم التنجيم، وأنه نوع من أنواع السحر.
ثالثاً: في حديث أبي هريرة أن عقد الخيوط والنفث فيها بقصد التأثير(14/156)
ص -365- ... والإضرار بالنّاس أن هذا سحر، ومن سحر فقد أشرك، فالسحر نوع من أنواع الشرك، لأن الساحر يستعين بالشيطان، ويتقرّب إلى الشيطان، وهذا هو الشرك.
رابعاً: في حديث أبي هريرة أن من تعلّق على السحرة والمشعوذين والدجّالين أنه يوكل إليهم، ويتخلى الله سبحانه وتعالى عنه، وإذا تخلى الله عنه وَوَكَله إلى غيره هلك.
خامساً: في حديث ابن مسعود رضي الله عنه تحريم النميمة، وأنها من الكبائر، وأنها نوع من أنواع السحر.
سادساً: في حديث ابن عمر تحريم البلاغة التي تُستخدم لنصر الباطل والدعوة إليه، والتنفير من الحق، وتشويه الحق، وأن هذا نوع من أنواع السحر.(14/157)
ص -366- ... [ الباب السادس والعشرون: ]
* بابُ ما جاء في الكهان ونحوهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مناسبة هذا الباب لما قبله: أن ما قبله في بيان السحر وحكم الساحر، وبيان بعض أنواع السحر. وهذا في حكم الكُهّان، وذلك للتشابه بين الكُهّان والسحرة، لأن كلاًّ من السحر والكهانة عمل شيطاني يُنافي العقيدة ويضادّها.
والشيخ رحمه الله في هذا الكتاب يبيّن العقيدة الصحيحة، ويبيّن ما يضادّها من الشركيّات والكفريّات أو ينقصها من البدع والمحدثات.
وهذه هي الطريقة الصحيحة المتمشِّية مع الكتاب والسنّة؛ أنه يبيّن الخير ويوضِّحه، ثمّ يبيّن ضدّه من الشر؛ من أجل أن يكون المسلم على حذر، لأنه لا يكفي أن الإنسان يعرف الخير فقط، بل لابد مع معرفته للخير أن يعرف الشر؛ من أجل أن يتجنّبه، وإلاَّ إذا لم يعرف الشر فإنه حريٌّ أن يقع فيه وهو لا يدري بل قد يظنه خيراً.
فقوله: "باب ما جاء في الكُهّان ونحوهم " يعني: ومن كان مثلهم من العرّافين والرّمّالين وغير ذلك، لأن هذا باب يشمل كل ما هو من نوع الكِهانة.
والكِهانة معناها: ادّعاء علم الغيب، بطرق شيطانية.
فالكاهن هو: الذي يُخبر عن المغيبّات من الأشياء المستقبَلَة، والأشياء المفقودة والضالّة، بسبب أنه يخضع للشياطين، لأن الشياطين عندهم مقدرة ليست عند الإنس، فهم يرتفعون في الجوّ ويحاولون استراق السمع من السماء، ثمّ يُخبرون بما يسمعون من يخضع لهم من الإنس، ثمّ هذا الإنسي يأخذ الكلمة التي سُمعت من السماء، ويكذب معها مائة كذبة، من أجل أن يلبِّس على النّاس.
ولا تُخبره الشياطين إلاَّ إذا أطاعهم، وكفر بالله سبحانه وتعالى، وأشرك بالله، ونفّذ ما تمليه عليه الشياطين من الكفر والشرك، وإلاَّ فالشياطين لا تطيع المؤمن، الموحّد لأنه لا يطيعها، وإنما تطيع من يأتي على رغبتهم في الكفر بالله والشرك بالله.
وكانت الكهانة سوقاً رائجة عند العرب في الجاهلية، وكان الكُهّان(14/158)
لهم شأن عند العرب، كل قبيلة لها كاهن يتحاكمون إليه، وكانت الشياطين تسترق السمع،(14/159)
ص -367- ... روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى عرّافاً فسأله عن شيء فصدّقه بما يقول، لم تُقبل له صلاة أربعين يوماً".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وتُخبر به هؤلاء الكُهّان، فلما أراد الله بعثة نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم حُرست السماء بالشُّهب، ومنعوا من استراق السمع. كما قال تعالى حكاية عن الجن في أول سورة الجن: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً(9)}.
فلما بعث الله نبيّه محمّداً صلى الله عليه وسلم قَلّت الكِهانة عمّا كانت عليه في الجاهلية، وذلك لظهور الإسلام، ومعرفة الحق من الباطل، لكن لهم وجود مستمرّ إلى يومنا هذا.
وكلما فشا الجهل في الأمة ظهر الكُهّان، وكلما كثر العلم والتمسك بالدين والعقيدة الصحيحة قلّ الكُهّان، أو انقرضوا.
فالجهات التي فيها توحيد، وفيها إسلام صحيح، لا يوجد فيها كُهّان، وإن وُجدوا فإنهم لا يظهرون، ولا يُعرفون إلاَّ نادراً.
أما المجتمعات الهمجيّة، والمجتمعات التي فشا فيها الجهل والخرافات، فإن الكُهّان يكثرون فيها، وتكون لهم سوق رائجة فيها، كما كانت لهم في الجاهلية.
فمن أجل ذلك عقد الشَّيخ رحمه الله هذا الباب في موضوع الكُهّان، وبيان حكمهم، وحكم من يأتي إليهم وحكم من يسألهم ويصدّقهم؛ من أجل أن يكون المسلمون على حذر منهم، وأن لا يغتروا بهم، ولو ظهروا للناس باسم أطبّاء أو معالجين أو أصحاب خِبرة، فإن هذه الأسماء أسماء خدّاعة، لا تغيّر الحقيقة، فالكاهن كاهن مهما تسمّى بالأسماء التي يستتر بها.
قال: "روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم" ورد في رواية أخرى بأنها حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
"عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى عرَّافاً" العرّاف قيل: هو الذي يُخبر عن الأمور(14/160)
الغائبة عن طريق الحَدْس والتّخمين والظّن. وقيل: هو الكاهن. فلا فرق بينهما -كما سيأتي في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية-؛ أن العرَّاف اسم عام يدخل فيه كلّ من أخبر عن المغيّبات، سواء عن طريق الشياطين، أو عن طريق الحَدْس والتّخمين،(14/161)
ص -368- ... وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى كاهناً فصدَّقه بما يقول؛ فقد كفر بما أُنزل على محمَّد صلى الله عليه وسلم" رواه أبو داود.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أو عن طريق الخطّ في الرّمل، أو قراءة الكف والفِنْجَان، أو غير ذلك.
"فصدَّقه بما يقول لم تُقبل له صلاة أربعين يوماً" هذه اللَّفظة (فصدَّقه) ليست في صحيح مسلم، وإنما وردت في رواية الإمام أحمد في المسند، والذي في صحيح مسلم: "من أتى عرَّافاً لم تُقبل له صلاة أربعين يوماً"، فالحكم مرتّب على مجيء العرَّاف فقط، لأن إتيان العرّاف والذهاب إليه جريمة ومحرم حتى ولو لم يصدِّقه.
ولهذا لما سأل معاوية بن الحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العرَّافين قال: "لا تأتهم" فالنبي صلى الله عليه وسلم نهاه عن مجرّد إتيانهم.
فهذا الحديث يدلّ على تحريم الذهاب إلى العرَّافين، حتى ولو لم يصدِّقهم، ولو قال: أنا أذهب من باب الإطلاع، فهذا لا يجوز.
"لم تُقبل له صلاة أربعين يوماً" في رواية: "أربعين يوماً وليلة".
فدلّ هذا على شدّة عقوبة من يأتي العرَّاف، وأن صلاته لا تُقبل عند الله، ولا ثواب له عند الله فيها، وإن كان لا يؤمر بالإعادة، لأنه صلّى في الظاهر، لكن فيما بينه وبين الله صلاته لا ثواب له فيها لأنها غير مقبولة.
وهذا وعيد شديد يدلّ على تحريم الذهاب إلى العرَّافين مجرّد الذهاب، ولو لم يصدِّق، أما إذا صدّقهم فسيأتي في الأحاديث ما عليه من الوعيد الشديد، والعياذ بالله.
قال: "وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى كاهناً... إلخ" هذا الحديث فيه شيئاًن:
الشيء الأول: المجيء إلى الكاهن.
والشيء الثاني: تصديقه بما يخبر به من أمر الكِهانة.
وحكمه: أنه يكون كافراً بما أنزل على محمَّد صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يجتمع التصديق بما أنزل على محمَّد والتصديق بما عند الكُهّان من عمل الشياطين.(14/162)
ضدّان لا يجتمعان، لا يمكن أن يصدِّق بالقرآن ويصدِّق بالكِهانة.(14/163)
ص -369- ... وللأربعة والحاكم- وقال: صحيح على شرطهما- عن أبي هريرة: "من أتى عرَّافاً أو كاهناً فصدّقه بما يقول؛ فقد كفر بما أُنزل على محمَّد صلى الله عليه وسلم".
ولأبي يعلى بسند جيّد عن ابن مسعود مثله موقوفاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وظاهر هذا أنه يخرج من الملّة.
وعن أحمد روايتان في نوع هذا الكفر: رواية أنه كفر أكبر يُخرج من الملّة.
ورواية أنه دون ذلك. وفيه قول ثالث: وهو التوقّف، وأن يُقرأ الحديث كما جاء من غير أن يفسِّر بالكفر الأكبر أو الكفر الأصغر، فنقول ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ويكفي.
ولكن الظاهر- والله أعلم- هو القول الأول؛ أنه كفر يُخرج من الملّة، لأنه لا يجتمع التصديق بالقرآن والتصديق بالكهانة، لأن الله أبطل الكِهانة، وأخبر أنها من عمل الشياطين، فمن صدّقها وصوّبها كان كافراً بالله كفراً أكبر. هذا هو الظاهر من الحديث.
قال: "وللأربعة والحاكم وقال: صحيح على شرطهما- عن أبيص هريرة: من أتى عرَّافاً أو كاهناً... الخ" في هذا الحديث جمع بين الاثنين: العرَّاف والكاهن، فإذا جُمع بينهما فالكاهن هو: الذي يُخبر عن المغيّبات بسبب ما تُلقيه عليه الشياطين. وأما العرّاف فهو الذي يُخبر عن المغيّبات بسبب الحَدْس والتّخمين والخطّ في الأرض، وما أشبه ذلك.
فإذا ذُكر الاثنان جميعاً صار لكل واحد معنى.
أما إذا ذُكر الكاهن وحده دخل فيه العرّاف، وإذا ذُكر العراف وحده دخل فيه الكاهن.
قال: "ولأبي يعلى" أبو يعلى هو: أبو يعلى الموصلي، الإمام الحافظ.
"بسند جيّد عن ابن مسعود مثله" أي: مثل حديث أبي هريرة: "من أتى عرَّافاً أو كاهناً فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمَّد صلى الله عليه وسلم" إلاَّ أنه موقوف على ابن مسعود، ولم يُرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والموقوف: ما كان من كلام الصحابي.
فهذا يؤيّد ما سبق.(14/164)
ص -370- ... الأحاديث كلها تدل على تحريم الذهاب إلى الكهان والعرّافين، وتصديقهم بما يقولون.
فقد دلت هده الأحاديث على مسائل:
المسألة الأولى: بُطلان الكِهانة ومشتقّاتها من العِرافة وغير ذلك من دعاوى علم الغيب، وأن هذا كله باطل، لأن الغيب لا يعلمه إلاَّ الله سبحانه وتعالى، قال تعالى{قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول الله عنه:{وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ}، فالرسول لا يعلم الغيب إلاَّ ما علمه الله، كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً(26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27)}، فقد يطلع الله أنبياءه على شيء من الغيب من أجل إقامة الحجّة على الخلق، وتكون معجزة لهذا الرسول.
المسألة الثانية: في الحديث دليل على وجوب تكذيب الكُهّان ونحوهم، وأن لا يقع في نفس الإنسان أدنى شك في كذبهم، فمن صدّقهم، أو شك في كذبهم، أو توقّف؛ فقد كفر بما أُنزل على محمَّد صلى الله عليه وسلم، لأنه يجب الجزم بكذبهم.
المسألة الثالثة: فيه دليل على تحريم الذهاب إلى الكهّان ولو لم يصدِّقهم، وأنه إذا فعل ذلك لم تُقبل له صلاة أربعين يوماً.
المسألة الرابعة: فيه دليل على أن تصديق خبر الكُهّان كفر بما أنزل الله على رسوله محمَّد صلى الله عليه وسلم، والذي أنزل الله على رسوله هو الكتاب والسنّة.
المسألة الخامسة: تدلّ هذه الأحاديث على وجوب معاقبة الكهان ومن يذهب إليهم من قِبَل ولاة الأمور، لأجل إراحة المسلمين من شرّهم، ووقاية المجتمع من خطرهم، لأن خطر الكُهّان في المجتمع خطر شديد يقضي على عقيدة التّوحيد، وينشر الخوف والرّعب بين الناس، لأن هؤلاء الكُهّان يُرهبون النّاس بما يقولون لهم من الكذب والوعيد والترهيب حتى(14/165)
يخيفوهم، كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً(6)}، يعني: خوفاً.
فهؤلاء وجودهم في المجتمع يسبب الإرهاب، ويسبب التشويش على عقول الناس، والخوف، ويروِّجون الكذب والشر، حتى يُصبح النّاس في خوف وقلق(14/166)
ص -371- ... عن عمران بن حصين مرفوعًا: "ليس منا من تَطَيَّر أو تُطُيِّر له، أو تَكَهَّن أو تُكُهِّن له، أو سَحَر أو سُحِر له، ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمَّد صلى الله عليه وسلم" رواه البزار بإسناد جيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسبب الكهّان، يأتونهم ويقولون لأحدهم: إن فلاناً عمل لك سحراً، أو ربطك، أو ربط فيك الجن، أو غير ذلك من أكاذيبهم وإرجافاتهم.
قال: "وعن عمران بن حصبن مرفوعاً: "ليس منا من تطيّر أو تطيّر له" الطيرة: سيأتي لها باب خاص. وهذا الحديث كالذي سبقه، يدل على تحريم الكِهانة، والذهاب إلى الكهان، لأنهم يفسدون عقيدة من يذهب إليهم، وبعضهم ربما تظاهر بذكر اسم الله أو يصلي، أو غير ذلك، حتى يقول من رآه: رأيته يصلي، رأيته يذهب للمسجد.
وما كل مَنْ يصلي يصير مسلماً، قد يصلي الإنسان ويزكِّي ويصوم ويحج وهو كافر، إذا فعل ذلك نفاقاً أو ارتكب ناقضاً من نواقض الإسلام، فالكاهن لو صلى ولو صام ولو حج، ولو تصدّق ولو زكّى لا تُقبل أعماله لأنه مشرك كافر، وكذلك الساحر.
وبعضهم يقول: أنا انتفعت من ذهابي إلى هؤلاء، أنا كنت مريضاً وانتفعت، وحصول الحاجة أو حصول الغرض ليس دليلاً على الجواز، فقد يُعطى الإنسان حاجته من باب الفتنة ومن باب الاستدراج والاختبار، والعبرة في كونه دلّ الدليل الشرعي على جواز هذا الشيء أو على تحريمه هذا هو الشأن.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس منّا من تكهّن أو تُكُهِّن له، أو سحر أو سُحر له"، ويقول: "ومن أتى كاهناً فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمَّد صلى الله عليه وسلم".
ومعنى: "تكهّن" فعل الكهانة. ومعنى: "تُكُهِّن له" فعلت الكهانة من أجله بطلبه.
فمن ذهب إلى الكهّان فله حالتان:
الحالة الأولى: أن لا يصدِّقهم، ولكن يقول: أريد أن أرى ماذا عندهم؟.
فهذا لا تُقبل له صلاةٌ أربعين يوماً، لأن ذهابه إليهم محرّم، فعوقب(14/167)
بأنه لا تُقبل له صلاةٌ أربعين يوماً، إلاَّ إذا ذهب إليهم من أجل التثبت في شأنهم مي أجل منعهم والقضاء على فسادهم.(14/168)
ص -372- ... ورواه الطبراني في "الأوسط" بإسناد حسن من حديث ابن عباس، دون قوله: "ومن أتى..." إلى آخره.
قال البغوي: "العرّاف: الذي يدّعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة، ونحو ذلك".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أما إذا صدّقهم فقد كفر بما أُنزل على محمَّد صلى الله عليه وسلم، فهو لا يرجع سالماً أبداً، ممّا يدل على تحريم الذهاب إلى الكُهّان والمشعوذين والمدجِّلين.
وقوله "رواه البزّار بإسناد جيِّد" البزّار هو: أبو بكر أحمد البزّار،: صاحب "المسند" المعروف بـ "مسند البزّار"، وهو إمامٌ جليل، توفي على رأس القرن الثالث رحمه الله، ومسنده يعرف عند العلماء بـ "مسند البزّار".
وقوله: "ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث ابن عبّاس" أي: روى الطبراني هذا الحديث الذي رواه عمران بن حُصين من حديث ابن عباس.
"دون قوله: ومن أتى" إلى آخره" يعني: روى منه أوله: "ليس منا من تكهّن أو تُكُهِّن له، أو تطيّر أو تُطيِّر له، أو سحر أو سُحر له"، وبإسناد حسن، فهو يؤيِّد رواية البزّار عن عمران بن حُصين.
ثم ذكر الشَّيخ رحمه الله تفسير هذه الألفاظ التي وردتْ في الباب نقلاً عن "البغوي" وهو: الإمام الحافظ الجليل، محيي السنّة، الحسين بن مسعود البغوي، نسبة إلى "بَغْ" من بلاد المشرق، لأنها من حرفين، فإذا نُسب إلى اسم من حرفين تُزاد فيه (واو) فيقال: (بغوي) مثلاً.
وهو: إمام جليل، سلفي العقيدة، وله مؤلَّفات جليلة، منها: "تفسير البغوي" المطبوع المعروف المتداوَل، وهو يشبه "تفسير ابن كثير" في التحقيق والأصالة وسلامة العقيدة، إلاَّ أنه أخصر من "تفسير ابن كثير"، ومنها: "شرح السنّة" الذي يتكوّن من حوالي أربعة عشر مجلّد، وقد طُبع والحمد لله، ومنها: "مصابيح السنّة" التي رتّبها وزاد عليها التِّبْريزي في كتاب "مِشْكاة المصابيح".
فهو إمامٌ جليل رحمه الله، وهو من أئمة الشافعية ويُلقّب(14/169)
بمحيي السنّة، لأنه إمامٌ مجدِّد رحمه الله.(14/170)
ص -373- ... وقيل: هو الكاهن. والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل.
وقيل: الذي يخبر عما في الضمير.
وقال أبو العباس ابن تيمية: العرّاف: اسم للكاهن والمنجّم والرمّال ونحوهم؛ ممن يتكلّم في معرفة الأمور بهذه الطرق".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"العرّاف: الذي يدّعي معرفة الأمور بمقدِّمات يستدلُّ بها على المسروق ومكان الضالة، ونحو ذلك" وهذا من الشيطان، فالشياطين تأتيه بذلك، لكن يتظاهر بعمل أشياء يظن النّاس أنّ هذه الأشياء من الأمور المباحة، لكن هذه رموز فقط، وإلاَّ في الحقيقة هو يتعامل مع الشيطان، وإلاَّ ما الذي يدريه عن مكان المسروق، وما الذي يدريه عن مكان الضالّة لولا أنه يتعامل مع الجن ومع الشياطين.
قال: "وقيل: هو: الكاهن" أي: العرَّاف والكاهن سواء، لأنّ كلاًّ منهما يخبر عن الأمور الغائبة بواسطة الشياطين، فكلهم عملاء للشياطين، وإنِ اختلفوا في الاسم، هذا عرّاف، وهذا كاهن، فالمعنى واحد، والمهنة واحدة، وهي ادّعاء علم الغيب، وإن اختلف اللفظ.
"والكاهن هو: الذي يُخبر عن المغيِّبات في المستقبل" بسبب أن الشياطين تُخبره بما تعلَم ممّا لا يعلمه الإنسان، لأن الشياطين تدري عن أشياء لا يعرفها الناس، فيخبرون النّاس في مقابل إن النّاس يخضعون لهم، ويفعلون ما يطلبونه منهم من الشرك والكفر بالله عزّ وجلّ، ويتقرّبون إليهم، فإذا تقرّب الإنسي إلى الجنيّ بما يريد خدمه الجني بما يطلبه منه من الأمور الغائبة.
"وقيل: هو الذي يُخبر عمّا في الضمير"يعني: عمّا في النفس، ولا يعلم ما في القلوب إلاَّ الله سبحانه وتعالى، لكن الشيطان قد يعرف شيئاً من هواجس الإنسان، لأنه هو الذي يوسوس للإنسان، ولأنه يجري من ابن آدم مجرى الدم، فيعرف الشيطان من الإنسان ما لا يعرفه الإنسان عن الإنسان.
هذا تفسير البغوي رحمه الله.
قال: "وقال أبو العبّاس ابن تيمية" أبو العبّاس هذه كنيته، وليس له ابن اسمه(14/171)
ص -374- ... العباس، لأنه لم يتزوّج رحمه الله، ولكن يجوز أنّ الإنسان يُكَنَّى بأبي فلان ولو لم يكن له ابن.
وهو: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، شيخ الإسلام، الإمام المجدِّد المشهور، الذي نفع الله بعلومه، ولا يزال نفعه مستمرَّاً ولله الحمد، وكتبه لا تزال موضع تنافُس طلاب العلم للحصول عليها والإطلاع عليها، وهذا ممّا كتبه الله من الكرامة لهذا العالم الجليل؛ لصدْق نيّته، وإخلاصه وجهاده في سبيل الله عزّ وجلّ، وصبره واحتسابه.
قال: "العرّاف: اسم للكاهن والمنجِّم والرمّال ونحوهم " لأن كلمة العرّاف عامّة، يدخل تحتها كل من يدّعي معرفة المستقبل، سواءٌ بِكِهانة أو بتنجيم، أو بخط في الرمل، فكلهم يتعاملون مع الشياطين ويتقربون إليهم. ولهذا يقول الله تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ(221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ(222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ(223)}، وهذا يدخل فيه الكاهن والمنجِّم والرمّال والعرّاف، كلهم يدخلون تحت كلمة {أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}، وتتنزّل عليهم الشياطين، بخلاف الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- فإنهم تتنزّل عليهم الملائكة، ولهذا قال: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ(210)}، يعني: القرآن، {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ(211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)}، فالأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- تتنزّل عليهم الملائكة من الرحمن، وأما الكهّان فتتنزّل عليهم الشياطين.
فهذا يشمل كل من يتكلّم في معرفة الأمور بهذه الطرق ممّن يُخبر عن هذه الأشياء بتلك الأمور التي يسمونها خطًّا في الرمل، إلى آخره.
فهذا تفسير جامع.
وأما اختلاف الوسائل؛ هذا يستعمل كذا، وذا يستعمل كذا فلا عبرة بها، لأن النتيجة وهي ادّعاء علم الغيب؛ نتيجة واحدة.
والذي يهمنا النتيجة والحكم، فالنتيجة: الإخبار بعلم الغيب، وادعاء مشاركة(14/172)
الله سبحانه وتعالى في علم الغيب.
والحكم: أن كل هؤلاء كفرة، لأنهم يدّعون مشاركة الله تعالى في صفة من أعظم صفاته وهي علم الغيب.(14/173)
ص -375- ... وقال ابن عباس في قوم يكتبون (أبا جاد)، وينظرون في النجوم: "ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الشَّيخ رحمه الله "وقال ابن عبّاس في قوم يكتبون (أبا جاد) وينظرون في النجوم" (أبا جاد) المراد بها: حروف الجُمَّل، التي هي: (أبْجَدْ، هَوِّزْ، حُطِّيْ، كَلِمَنْ) إلى آخره، وهي حروف مقطّعة يكتبونها لتمييز الجمل، والمشعوذ إذا كتب هذه الحروف قال: يحدث كذا ويكون كذا. وهذه في الحقيقة طلاسِم.
وهؤلاء هم الذين قال فيهم عبد الله بن عباس رضي الله عنه: "ما أرى مَنْ فعَل ذلك" أي: كتب هذه الحروف، ونظر في النجوم، وأخبر أنه سيحدث كذا وكذا.
"له عند الله من خَلاق" أي: ليس له نصييبٌ من الجنّة عند الله عزّ وجلّ، ومعناه: أنه كافر، لأن الذي ليس له عند الله مِنْ خلاق هو الكافر، كما قال تعالى في السَّحَرة:{وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}.
فهذا حكم عبد الله بن عبّاس رضي الله عنه على أصحاب الطلاسم الذين يكتبون الحروف المقطّعة، وينظرون في النجوم، ويقولون: سيحدث كذا. فهذا من ادّعاء علم الغيب، وهو طريقة من طرق الكِهانة أو العِرافة أو التنجيم أو السحر، سمِّها ما شئت، لا يهمّنا الأسماء، الذي يهمّنا النتيجة والحكم الشرعي.
أما الذي يكتب (حروف الجُمل) لتمييز الجُمَل فقط وهو تمييز الفقرات؛ فهذا لا بأس به، مثلاً يقول: الفقرة (أ)، الفقرة (ب)، الفقرة (ج)، الفقرة (د) لا يدّعي به علم الغيب، وإنما يريد ترتيب الجمل فقط. والحاصل؛ أن هذا بابٌ عظيم؛ لأنه يعالج أمراضاً واقعة في العالم اليوم، لا أقول في العالم الكافر، لأنه ليس بعد الكفر ذنب، لكن في العالم الإسلامي، وربما يسمونه أعمالاً رياضية وفنوناً تشكيلية، ووُجود هذا الوباء؛ وباء السحرة والمشعوذين والدّجالين والكَهَنة والمنجِّمين، ويسمون هذا من باب الفنون، أو يسمونهم(14/174)
بأسماء تدلُّ على تبجيلهم، وعلى أنهم أصحاب علم، وأصحاب خبرة، أو أشد من ذلك يدّعون أنهم أولياء الله، وأنّ هذه كرامات تدلُّ على أنهم من أولياء الله، وهذه ليستْ كرامات، وإنما هي خوارق شيطانية، لأن الكرامات هي التي تجري على أيدي الصالحين، وليس لهم فيها تصرُّف منهم، وإنما هي من الله سبحانه وتعالى.(14/175)
ص -376- ... فالكرامات تجري على أيدي رجال صالحين مستقيمين على الكتاب والسنّة. والخوارق الشيطانية تجري على أيدي كفرة مشعوذين.
وأيضاً الكرامات لا صنع للآدمي فيها، وإنما يجريها الله سبحانه وتعالى، بخلاف هذه الخوارق الشيطانية، فهي حِيَل ومِهَن وحِرَف وتدجيل يعملونه هم، ويتظاهرون أمام النّاس أنه بسبب هذه الأشياء حصل ما حصل. وهو في الحقيقة إنما هو من عمل الشياطين الذين لا يراهم الناس.
فالحاصل؛ أنّ هذا بابٌ عظيم، ويشتمل على علاج لمرض خطير يتفشّى الآن في العالم الإسلامي، وهو مرض الكهنة والسحرة والمنجِّمين والعرّافين؛ الذين صار لهم صوْلة وجولة في العالم، وأشدّ من ذلك إذا ادُّعِي أن هؤلاء من أولياء الله، وأنّ هؤلاء لهم كرامات، مع أنهم كفرة لا يصلون ولا يصومون ولا يتطهّرون من الجنابة!، وربما يقولون: هذا دليل على كرامتهم، وكونه لا يصلي لأنه وُضِعَتْ عنه التكاليف، ووصل إلى الله، والتكاليف هذه على النّاس العوام!!
فالحاصل؛ أن هذا الباب إذا تأمّلته وجدت أن الشَّيخ رحمه الله لم يكتبه من فراغ، وإنما كتبه ليعالِج به أمراضاً متفشِّية، وازدادت الآن بحكم تأخر الزمان، وبحكم فُشُوُّ الجهل، وبحكم تقارب العالم وارتباط بعضه ببعض، وسريان الشرور في العالم بسرعة.
فيجب على طلبة العلم أن يتنبّهوا لهذه الأمور ويقوموا بالتحذير منها وإنكارها، لأن أكثر النّاس سُذَّج لا يعرفون هذه الأمور، فيغرِّرون بهم.
وأيضاً هم محتاجون للعلاج من الأمراض، فيقولون: هذه فيها منافع، وفيها علاج، ولا يدرون أن المضار التي فيها أكبر من المنافع، إن كان فيها منافع أو يدخلونها في قسم الفنون والمهارات.
فيجب على طلبة العلم أن يهتمُّوا بهذا الأمر وأن يتفهّموا هذا الأمر، ويتفقهوا فيه، ويعالجوا هذه الأمراض المتفشيِّة التي تقضي على العقيدة، وتقضي على دين الإسلام، والعياذ بالله.(14/176)
ص -377- ... [الباب السابع و العشرون:]
* بابُ ما جاء في النُّشرة
عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن النُّشرة؟ فقال: "هي من عمل الشيطان" رواه أحمد بسند جيد، وأبو داود، وقال: سئل أحمد عنها؟، فقال: "ابن مسعود يكره هذا كله".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مناسبة هدا الباب لما قبله: أن الشَّيخ لَمّا ذكر في الأبواب السابقة السّحر وما جاء فيه، وذكر أنواعاً من السحر، وذكر ما يعمّ السحر وغيره من أعمال الشياطين؛ وهو الكِهانة والعِرافة وكل ما هو من هذا القبيل من الشعوذات؛ انتقل إلى بيان حكم النُّشرة، فقال:
"باب ما جاء في النُّشرة" يعني: من الأحاديث والآثار التي تدلّ على حكمها في الشرع.
وهذا في غاية المناسبة؛ لأن النّاس في حاجة إلى معرفة ذلك، لأن السحر موجود، ومن النّاس من يُبتلى به ويقع عليه السحر ويتضرّر به، والله تعالى ما أنزل داء إلاَّ أنزل له شفاء، علِمه مَنْ علِمه وجهله مَن جهِله، فلابد أن نعرف ما هو الدواء الصحيح للسحر، الدواء الذي لا يمس العقيدة، ونعرف- أيضاً ما يخالف العقيدة فنتجنّبه، وأيضاً: هناك من السحرة من يقول للناس: أنا أُعالج السحر، وأنا.. وأنا؛ فهذا أمرٌ واقع لابد من معرفته وبيان حكمه للناس.
والنُّشرة- بضم النون وسكون الشين- مأخوذة من (النّشر) وهو التفريق؛ وهي - كما فسّرها الإمام ابن القيم-: حلّ السحر عن المسحور. وهي ضرب من العلاج، سمي نشرة: لأنه يُنشر به، أي: يزال ما أصاب المريض وما خامره من الداء.
وقوله في حديث جابر: "أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن النُّشرة" أي: النُّشرة المعهودة في الجاهلية، وهي التي كانت من عمل الشيطان.
"فقال: "هي من عمل الشيطان""، لأنها سحر، والسحر من عمل الشيطان- كما مرّ في الأبواب السابقة-.(14/177)
ص -378- ... وفي البخاري عن قتادة: قلت لابن المسيّب: رجل به طب، أو يؤخذ عن امرأته؛ أَيُحَلُّ عنه أو يُنْشَر؟، قال: "لا بأس به؛ إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم يُنَه عنه".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"رواه" الإمام "أحمد" في مسنده بسند جيِّد، وأبو داود" في سننه.
"وقال" أي: أبو داود، لأن أبا داود من تلاميذ الإمام أحمد، وروى عنه كثيراً من المسائل في المذهب، ويوجد الآن مجلّد مطبوع اسمه "مسائل أبي داود" وهي المسائل التي رواها أبو داود من أجوبة الإمام أحمد على الأسئلة التي تَرِدُ عليه.
"قال: سُئل أحمد عنها" يعني: عن النُّشرة؛ ما حكمها؟ "فقال: "ابن مسعود يكره هذا كله"" أي: يحرم النُّشرة، لأن السلف يريدون بالكراهة التحريم، والمراد النُّشرة التي هي من عمل الجاهلية.
قال: "وفي البخاري" أي: في "صحيح البخاري".
عن قَتادة هو: قتادة بن دِعامة السدوسي، نسبةً إلى جده سَدوس، وكان من أكبر علماء التابعين، ويُقال: إنه وُلد أكْمه يعني: ليس له عينان. وكان نادراً في الحفظ والذّكاء والفقه رحمه الله، حتى كان من كبار التّابعين.
"قلت لابن المسيّب" المراد به: سعيد بن المسيّب، أحد أعلام التّابعين وأحد الفقهاء السبعة الذين اتتهت إليهم الفتوى في زمانهم، وهو عالِم المدينة وفقيهها.
"رجلٌ به طِب" يعني: أنّ قتادة بن دِعامة سأل شيخه سعيد بن المسيّب عن رجل به طبّ.
والطِّبّ معناه: السحر، يقال: مطبوب يعني: مسحور، قالوا: وهذا من باب التّفاؤل، لأنّ الطب معناه العلاج، كما يقولون للديغ: سليم، من باب التفاؤل بالشّفاء.
"أو يؤخّذ عن امرأته" يؤخّذ: معناه: يُمنع عن جماع امرأته فلا يستطيع جماعها بسبب السّحر.
"أَيُحَلُّ عنه أو يُنشر" يُحَل وينشَّر بمعنىً واحد، يعني: هل يجوز أن يحلّ عن هذا المطبوب أو هذا المؤخَّذ ما أصابه؟.
فأجابه ابن المسيّب رحمه الله بقوله: "لا بأس" لا بأس أن يحلّ عنه أو ينشّر.(14/178)
ص -379- ... ورويَ عن الحسن؛ أنه قال: "لا يحل السحر إلاَّ ساحر".
قال ابن القيم: "النُّشرة: حلّ السحر عن المسحور، وهي نوعان:
حلٌّ بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان. وعليه يحمل قول الحسن. فيتقرّب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب؛ فيبطل عمله عن المسحور.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: "إّنما يريدون به الإصلاح" أي: حلّ السحر يراد به ا الإصلاح، بخلاف السحر نفسه فإنّما يُراد به الضّرر، أما حلّه فيُراد به الإصلاح وإزالة المرض عن الإنسان.
"فأمّا ما ينفع فلم يُنْهَ عنه" أي: أنّ الشارع جاء بإباحة ما ينفع وتحريم ما يضرّ، والنُّشرة من القسم الثني، أي: من الشيء النّافع.
قوله: "ورويَ عن الحسن" الحسن هو: ابن أبي الحسن البصري، أحد أعلام التّابعين بالفقه والعلم والوَرع والعبادة- رحمه الله.
وقوله: "لا يحلّ السحر إلاَّ ساحر" هذا يتّفق مع الحديث ومع قول ابن مسعود، ويختلف مع قول ابن المسيب.
قوله: "قال ابن القيم: "النُّشرة حلّ السحر عن المسحور، وهي نوعان".
جمع ابن القيم- رحمه الله- بين هذا الحديث وهذه الآثار في كتابه: "زاد المعاد" فقال: "وهي نوعان: أحدهما: حلٌّ بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يُحمل قول الحسن" يعني: في قوله السابق: "لا يحلّ السحر إلاَّ ساحر" وقصده: حلّ السحر بسحر مثله، وهذه هي النُّشرة التي سُئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
"قوله: "فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب" النّاشر هو: الذي يعمل النُّشرة. والمنتشر هو: الذي تُعمل له النُّشرة، كلٌّ منهما- المريض والساحر- يتقرّب إلى الشيطان بما يحبّه، فيخضعان له، فيطيعانه فيما يريده منهما من الشرّك والكفر بالله عزّ وجلّ، وفعل المحرّمات، فيبطل الشيطان عمله عن المسحور، لأنّ السحر من عمل الشيطان، وذلك في مقابل إفساد دينهم وعقيدتهم. فهذا هو الممنوع.
فلا يجوز لمن أصابه السحر أن يذهب إلى السحرة،(14/179)
لأنّه إذا ذهب إلى السّحرة(14/180)
ص -380- ... والثاني: النُّشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة. فهذا جائز".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فإنه حينئذ يتقرّب إلى الشيطان بما يحبّ، وحينئذ يُزيل الشيطان عمله عن المسحور، لكن بعدما يفسد عقيدته ودينه، فيخسر الدّنيا والآخرة.
قال الإمام ابن القيم: "والثاني: النُّشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة؛ فهذا جائز" أي: النّوع الثّاني من النُّشرة: حلّ السحر بغير السّحر ممّا أباحه الله عزّ وجلّ، فالله ما أنزل داء إلاَّ أنزل له دواء، علمه من علمه وجهله من جهله، والسحر داء ولابد أن الله أنزل له شفاء والرقية المباحة أنواع:
النوع الأول: حلُّ السحر "بالرقية" بأن يُقرأ على المسحور من كتاب الله عزّ وجلّ، فتُقرأ عليه الفاتحة التي هي أعظم الرقى، ويقرأ عليه الآيات التي تتعلّق بذكر السحر وإبطاله، مثل قوله تعالى في سورة الأعراف: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ(117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ(119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ(120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ(121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ(122)}، وفي سورة يونس: {قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ(82)}، وفي سورة طه: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى(69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى(70)}.
هذه الآيات من سورة الأعراف ومن سورة يونس ومن سورة طه، يقرأها الرّاقي على المسحور بقلب حاضر(14/181)
وتوكّل على الله سبحانه وتعالى، وحسن ظنّ بالله، واعتقاد أنّ الله يشفي هذا المريض.
ثم على المقروء عليه أن يعتقد هذه العقيدة؛ فيرجو الشفاء من الله، ويثق بالله عزّ وجلّ، ويتوكّل عليه، ويعتقد أنّ كلام الله جل وعلا فيه الشّفاء.
فإذا حصل هذا التوجه إلى الله والتوكّل عليه من الرّاقي والمرقي حصلت النتيجة بلا شكّ ولا رَيْب.
وإنّما تتخلّف النتيجة إذا تخلّف اعتقاد الإنسان، أو غفل عن ذلك.
النوع الثاني: حلّ السِّحر "بالتعوذات"، وهي الأدعية التي وردت عن(14/182)
ص -381- ... النبي صلى الله عليه وسلم، فإننا نذكر بعضاً منها: "أعيذك بكلمات الله التامّات من شرّ ما خلَق"، أُعيذك بكلمات الله التامّة من كلّ شيطان وهامّة ومن كلّ عين لامّة"، "أُعيذك بكلمات الله التّامّات التي لا يجاوزهنّ بَرّ ولا فاجر، من شرّ ما خلق وذَرَأ وبرأَ، ومن شرّ طوارق اللّيل والنهار، إلاَّ طارقاً يطرق بخير يا رحمن"، "باسم الله أرقيك، من كلّ داء يؤذيك، من شر كلّ نفس وعين حاسد، الله يشفيك"، "باسم الله، أذهب البأس ربّ النّاس، واشفه أنت الشّافي لا شفاء إلاَّ شفاءُك، شفاء لا يغادر سقماً"، "ربّنا الله الذي في السّماء، تقدّس اسمك، أمرُك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء، اجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت ربّ الطيّبين، أنزل رحمةً من رحمتك وشفاءً من شفائك على هذا المرض. فيبرأ بإذن الله". هذه هي التعوّذات.
النوع الثالث: الرقية بـ "الأدوية المباحة" فهناك أدوية مباحة يُذهب الله بها السّحر، يعرفها الحُذّاق وأهل التجربة وأهل العقيدة السليمة تنفع بإذن الله في إزالة السحر، مع ذكر الله، ومع التعوّذ، ومع الرّقية، ومع قراءة القرآن، فإذا اجتمعت هذه الأمور المباحة نفع الله بها، لكن بشرط حسن الظنّ بالله عزّ وجلّ واعتقاد أن الشّفاء من الله سبحانه وتعالى.
فالحاصل؛ أنّ النشرة كما ذكر ابن القيِّم: منها شيء محرّم، وهي النّشرة التي كانت تُعمل في الجاهليّة، وهي ما يعمله السحرة.
ومنها شيء مباح وهي النشرة الشرعية، لكن يشترط لها أن يتولاها من يوثق بعلمه ودينه، لا أن يتولاها أصحاب المطامع الدنيوية، أو المشعوذين الذين يفسدون عقائد الناس، ويرهبونهم بالكذب والتدجيل.
انتهى الجزء الأول
ويليه بإذن الله تعالى الجزء الثاني، وأوله:
"باب ما جاء في التطيّر"
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد - الجزء الثاني
الشيخ صالح بن فوزان الفوزان(14/183)
ص -5- ... [الباب الثامن والعشرون:]
* باب ما جاء في التطيُّر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قول الشيخ رحمه الله: "باب ما جاء في التطيُّر" أي: ما ورد في التطيُّر من الوعيد، وبيان أنه شرك.
ومناسبة هذا الباب لِمَا قبله: أنّ فيه بيان نوع من أنواع الشرك والاعتقاد الباطل المُخِلُّ بالتّوحيد.
وكان الشيخ رحمه الله يذكُر في هذا الكتاب حقيقة التّوحيد وما يناقضه أو ينقِّصه من العقائد والأقوال والأفعال الباطلة، ومن ذلك: التطيُّر.
والتطيُّر مصدر: تطيّر تطيُّراً وطِيَرة، وهو: التشاؤم بالأشياء، واعتقاد أنه يصيب الإنسان منها شيء من الشر.
وأصله مأخوذٌ من الطير، لأنهم كانوا في الجاهلية يتشاءمون بالطيور وفي طَيَرانها؛ إذا رأوها تطير على جهةٍ مخصوصة عندهم تشاءموا بها، ورجعوا عمّا عزموا عليه من الأسفار أو الزيجات أو غيرها، ثمّ عَمَّ هذا وصاروا يتطيّرون بكل شيء، فيتطيّرون بالبِقاع، ويتطيّرون بالآدمييِّن، ويتطيّرون بالبهائم، ويتطيّرون بكل شيء.
لكن أصل التطيُّر مأخوذٌ من الطير؛ لأنهم كانوا في الجاهلية يتطيّرون من الطير في حركاتها وطيَرانها وتحريكها لأجنحتها واتّجاهاتها في الطَيران، إلى غير ذلك.
فهو عقيدة جاهلية، بل إنه موجود في الأمم القديمة؛ فهؤلاء قوم فرعون تطيّروا بموسى ومن معه، يعني: تشاءموا بموسى عليه السلام وبمن معه من المسلمين، قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ} الحسنة المراد بها هنا: الخصْب والأرزاق ونزول الأمطار، {قَالُوا لَنَا هَذِهِ} استحقيناها على الله بأفعالنا، فنحن نستحقُّ هذا، ولا يعترفون أنه فضلٌ من الله تعالى، بل ينسبون هذا إلى استحقاقهم، وأنهم حصلوا على هذه الشيء بسبب أنهم ناسٌ أهل خير، فما يصيبهم من الحسنات قي السنين يقولون: هذا بسبب أفعالنا، وبسبب صفاتنا، وبسبب كسبنا وكدِّنا، جحدوا نعمة الله عليهم.(14/184)
ص -6- ... وقول الله تعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} المراد بالسيئة هنا: الجدْب، وانحباس الأمطار، وشُحُّ الآبار، وتلف الثمار. فإنهم ينسبون هذا إلى موسى عليه السلام، ومنْ معه من المؤمنين، فيقولون هذا الذي أصابنا بسببهم، فيتطيّرون بخير النّاس- والعياذ بالله-.
والحق أنّ موسى ومن معه من المؤمنين هم سبب الخيرات، وهم سبب البركات، لأن الرسل- عليهم الصلاة والسلام- يُصلحون في الأرض بالطاعات فتنزل الخيرات، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(96)}.
فالمؤمنون هم سبب الخير لا سبب الشر كما يظنه أهل الجاهلية، إنما سبب الشر هم العُصاة والمشركون والكَفَرة، فما يصيب أهل الأرض من الكوارث والمصائب إنما هو بسبب العُصاة، وما يصيبها من الخيرات فهو بفضل الله، وسببه أهل الطاعات وأهل الصلاح والتقوى؛ ولهذا إذا خَلَت الأرض من الصالحين في آخر الزمان تقوم القيامة وتخرب الدنيا، "ولا تقوم الساعة وفي الأرض من يقول: الله، الله"، و"لا تقوم الساعة إلاَّ على شرار الخلق". فإذا خلت الأرض من الصالحين قامت القيامة، أما ما دام الصالحون موجودين فإن الله سبحانه وتعالى ينزل على أهل الأرض الخيرات والبركات بسبب وجودهم، عكس ما يعتقده آل فرعون من التطيُّر بالرسل- عليهم الصلاة والسلام-.
وكذلك ثمود، تطيّروا بصالح عليه السلام لَمّا دعاهم إلى الله سبحانه وتعالى. من {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ}.
وكذلك أهل القرية الذين ذكرهم الله في سورة "يس" لَمّا جاءتهم الرسل قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا(14/185)
الْمُرْسَلُونَ(13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ(15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ(16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ(17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} يعني: تشاءمنا بكم، وما جئتمونا بخير، {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} هدّدوا الرسل وقالوا: ما رأينا منكم إلاَّ الشرّ(14/186)
ص -7- ... وقوله: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ(19)} الآية.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى، ولا طَيرة، ولا هامة، ولا صفر" أخرجاه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فرد عليهم الرسل: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} أي: ما أصابكم فأنتم سببه، لأن سببه الذنوب والمعاصي التي تصدُر منكم والكفر، فأنتم السبب، ونحن سبب الخير، نحن رسلٌ من عند الله جئناكم، لو أطعتمونا لحصلتم على الخير؛ فهذا ردٌ عليهم، فهذا فيه: بيان أن الشر والشؤم سببه المعاصي والكفر والشرك بالله.
وكذلك المشركون تطيّروا بمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل وأفضل الرسل، تطيّروا به، كما قال تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم، {تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} يعني: خير وخصب ونبات وزروع وخيرات، يقولون: هذه من عند الله، نعم، صحيح أنها من عند الله، الله هو الذي أنزلها، {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ}: قحطٌ جدْب شُحٌّ في الأرزاق {يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} بسببك يا محمد، وبسبب أتباعك، {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} كلٌّ بقضاء الله وقدره، الخصب والخيرات والجدب والقحط كله من عند الله وبقضائه وقدره، ولكن الخصب والخيرات سببها الطاعات، وأما الجدْب والقَحْط وانحباس الأمطار فسببه المعاصي والسيّئات، فالسبب من قِبل بني آدم وأما المقدِّر فهو الله تعالى، هو الخالق وهو الموجِد سبحانه وتعالى، ويعطي كلاًّ على حسب عمله؛ المحسِن يحسن إليه، والمسيء يعاقبه إذا شاء سبحانه وتعالى، فالأمر كله بيد الله.
فالحاصل؛ أن التطيُّر عادةٌ جاهلية، ذكرها الله سبحانه وتعالى عن الأمم الكافرة من قوم فرعون، وثمود، وأصحاب ياسين، وأهل الجاهلية(14/187)
الذين بُعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤمنوا به، بل تطيّروا به.
وهذه العادة الجاهلية لا تزال في النّاس إلى أن تقوم الساعة.
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى"المراد بالعدوى: انتقال المرض من شخص إلى شخص، أو من بهيمة إلى بهيمة، أو من مكان إلى مكان.
...(14/188)
ص -8- ... والمرض يتعدّى من محل إلى محل، ويتعدّى من المريض إلى السليم، ويتعدّى من الجربى إلى الصحيحة، هذا شيءٌ موجود.
والرسول صلى الله عليه وسلم لا ينفي هذا، وإنما ينفي العدوى التي كان يعتقدها أهل الجاهلية من أنّ المرض يتعدّى بنفسه بدون تقدير الله سبحانه وتعالى، فالعدوى وهي: انتقال المرض من محل إلى محل بسبب قرب الصحيح من المريض، والمقدر لها هو الله تعالى، فقد يقرُب الصحيح من المريض ولا يصيبه شيء، وقد يقرُب ويُصاب، والسبب: أن هذا راجعٌ إلى الله، إن شاء سبحانه وتعالى انتقل هذا المرض، وإنْ شاء لم ينتقل، فمجرّد مقاربة المريض أو القدوم على المحل الموبوء هذا سبب، أما التأثُّر فهو بيد الله سبحانه وتعالى، فقد يدخل الإنسان في الأرض الموبوءة ولا يصاب، وقد يورِد الممرض على المُصح ولا يُصاب، قد ينام المريض بجانب الصحيح ولا يصاب، وقد يصاب، فما وجه التفريق بين الحالتين؟ وجه التفريق: أن هذا راجعٌ إلى مشيئة الله تعالى.
أما أهل الجاهلية فلا يفرِّقون بل عندهم: أن كل من قارب المرض- أو كل من قارب المريض- أنه يُصاب، ولا ينسبون هذا إلى قضاء الله وقدره، ولا يتوكّلون على الله سبحانه وتعالى، ويفرِطون في التشاؤم والتطيُّر وانتقال العدوى، ويعملون أعمالاً تُضحك.
فقوله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى" يعني: على ما كان يعتقده أهل الجاهلية، أما أنّ العدوى تحصُل بإذن الله فهذا أمرٌ واقع، ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم عن مخالطة المجذوم، ونهى صلى الله عليه وسلم عن القدوم على الأرض الموبوءة، ونهى من كان في أرض فيها وباء أن يخرج منها ومن كان خارجها لا يدخل فيها، لأن هذه أسبابٌ لانتشار المرض، والامتناع عنها أخذٌ بالأسباب الواقية، والإقدام عليها إلقاءٌ إلى التَّهْلُكة، والله نهى عن ذلك، إلاَّ من قَوِيَ إيمانه وتوكُّله على الله تعالى؛ فهذا قد يُقدم على الوباء ويخالط المرضى ولا يصاب، لأنه متوكِّلٌ على الله سبحانه(14/189)
وتعالى، لكن هذا لا يكون إلاَّ لأهل الإيمان القوي، أما أهل الإيمان الضعيف فهؤلاء يبتعدون عن هذه المواطن لئلا يصابوا، ثمّ تسوء عقيدتهم.(14/190)
ص -9- ... والإقدام على محلاَّت الخطر من الإلقاء إلى التهلُكة، والله تعالى يقول: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}، إلاَّ إذا كان هناك مصلحة راجحة من الإقدام على هذه الأمور فيُقدم عليها، أما إذا لم يكن فيه مصلحة راجحة فالأخذ بالأسباب الواقية أحسن، وإذا كان هناك مصلحة راجحة فالإقدام أحسن، على حسب الأحوال.
وقوله: "ولا طَيرة"هذا نفيٌ معناه: النهي، يعني: لا تتطيّروا، وإنْ كان الإنسان يجد في نفسه شيئاً فلا يمنعه ما يجد في نفسه من المُضي والعزم، لأن إيمانه يسوقه، بخلاف ضعيف الإيمان فإن التشاؤم يتغلّب عليه فيتراجع، ويكون هذا من الخلل في العقيدة، وضعف التوكُّل على الله سبحانه وتعالى.
وإذا وجدت في نفسك تشاؤماً أو كراهية فتوكّل على الله وأقدِم.
والطيرة ليس لها أصل، بخلاف العدوى، وإنما هي من الشيطان، فهي تخيُّلٌ من الإنسان بسبب وسوسة الشيطان.
فالتطيُّر ليس له أصل، ومن وجد في نفسه شيئاً من الكراهية فليتوكّل على الله وليعزم، ولا ترده الطيَرة عن مقصوده.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا هامَة" الهامة: طائر يسمّى البومة، وكان العرب يتشاءمون به إذا وقع على بيت أحدهم قال: نعى إليَّ نفسي أو أحداً من أهلي. كانوا يتشاءمون بها، ويقولون: البوم لا يقع إلاَّ على الخراب. فهذا من عقيدة الجاهلية.
وبعض أهل الجاهلية يزعمون أنه إذا قُتل القتيل ولم يؤخذ له بالثأر فإنه يخرج منه طائر يسمّى الهامة، ويصوِّت: أسقوني، أسقوني" يعني: خذوا بالثأر، ولهذا يقول الشاعر:
يا عمرو إن لم تدع ذمي ومثلبتي
أضربك حتى تقول الهامة أسقوني
قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا صَفَر" هذا فيه قولان لأهل العلم:
القول الأول: أن المراد بالصفر: شهر صفر، لأنهم كانوا في الجاهلية يتشاءمون بهذا الشهر، فلا يتزوّجون فيه، ولا يسافرون، ولا يتاجرون، ويعتقدون أنه شهرٌ مشؤوم.(14/191)
ص -10- ... وزاد مسلم: "ولا نوء، ولا غول ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فردّ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ليس هناك صفر مشؤم، وإنما صفرٌ شهر من أشهر الله، ليس فيه شؤم ولا شرٌّ.
فهذا فيه: إبطال لتشاؤمهم بشهر صفر.
والقول الثاني: أن المراد بصفر: مرض يكون في المعدة، يزعمون أنه يُعْدي غير المصاب به.
ولكن سواءٌ قيل هذا أو هذا، كله منفي سواء تشاءموا من الشهر أو تشاءموا من المرض، كله لا أصل له، فليس في الشهر شؤم ولا في المرض،. وإنما الأمراض بيد الله سبحانه وتعالى، هو الذي ينزلها، وهو الذي يرفعها، هو الذي يُمرض، وهو الذي يشفي سبحانه وتعالى، لا دخل للشهور، ولا دخل لغيرها في هذا الأمر.
قوله: "أخرجاه" أي: أخرجه البخاري ومسلم.
ومناسبة الحديث للباب ظاهرة حيث إنه قال: "ولا طيرة"، ففيه: النهي عن الطيّرة.
قوله: "زاد مسلم" أي: في روايته، يعني: زاد على الأربعة المذكورة فصارت "لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر، ولا نوء، ولا غول" فصارت ستة أشياء.
والنوء المراد به: أحد الأنواء، وهو: النجم، لأنهم كانوا يعتقدون أنّ نزول الأمطار وهُبوب الرياح بسبب طلوع النجوم، ويُسندون هذا ا إلى النجوم والكواكب، وهذا من اعتقاد الجاهلية، لأن نزول الأمطار وحصول الرياح وغير ذلك إنما هو بقضاء الله وقدره، أما هذه النجوم وهذه الكواكب فإنها لا تُحْدِثُ شيئاً، نعم، وقت طلوع النجم وقت للمطر بإذن الله، أو هبوب الرياح، هذا من ناحية الوقت لا من ناحية الخلق والإيجاد، فهي لا توجِد ولا تسبب ولا تحدِث، ولكن يكون طلوعها وقتاً لنزول الأمطار إذا شاء الله، وقد يطلع النجم ولا يحصل مطر، وهذا راجع إلى مشيئة الله وقدره، فقد يكون هناك مواقيت للأمطار ولا ينزل مطر، قد يكون هناك مواقيت لهبوب الرياح ولا تهب الريح لأن هذا بيد الله سبحانه وتعالى، وكم من بلاد كانتْ تنزل عليها الأمطار صيفاً وشتاءً، وامتنع عنها المطر وأجدبتْ،(14/192)
كما تسمعون الآن بما يسمونه بالجفاف في بلاد كانتْ تدوم عليها الأمطار، فإذا أراد الله مَنَعَه(14/193)
ص -11- ... وحَبَسَهُ منعه وحبسه، وبلاد مجدبة قاحلة يابسة يسوق الله إليها المطر فتمطر فتهتز بالنبات والزهور، هذا بيد الله سبحانه وتعالى، فنزول المطر لا تصرُّف لأحد فيه لا النجوم ولا غير النجوم.
وسيأتي مزيد بيان للتنجيم في "باب بيان ما جاء في التنجيم".
ولَمّا صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر بأصحابه يوم الحديبية على إِثّر سماء كانت من الليل قال صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ماذا قال ربكم؟ "، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته؛ فذلك مؤمنٌ بي كافرٌ بالكوكب. وأما من قال: مُطرنا بنوء كذا وكذا؛ فذاك كافرٌ بي مؤمنٌ بالكوكب"، فالذي ينسب الأمطار إلى الكواكب أو الأنواء مشركٌ بالله.
أما الذي يقول: إن الأنواء وقت للأمطار، فلا شيء فيه، لأن الله جعل للأشياء مواقيت، قد تحصل في هذه المواقيت وقد لا تحصل.
فالحاصل؛ أن هذا حديثٌ عظيم، جمع فيه النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً من عقائد الجاهلية وأبطلها ونفاها، وقرّر صلى الله عليه وسلم عقيدة التّوحيد.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا غول"- بضم الغين-: أحد الغيلان، والغيلان من أعمال شياطين تتشكّل أمام النّاس في الفلوات، خصوصاً إذا استوحش الإنسان تتشكّل أمامه أشياء تضله عن الطريق، إما بإنْ يرى أمامه ناراً تتنقّل، أو أصواتاً يسمعها، أو غير ذلك، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: "إذا تغوّلت الغيلان فبادروا بالأذان" بمعنى: أنه إذا تغوّل الغول أمامك فبادر إلى ذكر الله، فإن ذكر الله يطرد الشيطان، فإذا ذكرت الله أو تلوت القرآن ذهب عنك هذا العمل الشيطاني.
فالنبي صلى الله عليه وسلم نفى هذا- أيضاً-.
وكانوا في الجاهلية يعتقدون في هذه الغيلان أنها تُحدِث لهم شرًّا، والنبي صلى الله عليه وسلم نفى هذا، وقال: لا أصل لها، وهي أعمال شيطانية لا تضر أحداً إلاَّ بإذن الله، وذكر لها علاجاً شافياً وهو:(14/194)
ذكر الله.
فهذه أمراضٌ جاهلية عالجها النبي صلى الله عليه وسلم -عليه الصلاة والسلام-.(14/195)
ص -12- ... ولهما عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى، ولا طيرة، ويعجبني الفأل"، قالوا: ما الفأل؟ قال: "الكلمة الطيبة".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذه الأحاديث والآثار في موضوع حكم الطيرَة، والفرق بينهما وبين الفأل، وبيان ما تُعالَج به الطيرة.
فقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس رضي الله عنه: "لا عدوى" العدوى سبق الكلام فيها، وأن معناها: انتقال المرض من شخص إلى شخص بحكم مقاربته له، أو ملامسته له، ونحو ذلك.
ولذلك كان أهل الجاهلية يعملون أعمالاً فظيعة خوفاً من العدوى، والرسول صلى الله عليه وسلم نفى ذلك، وأمر باتّخاذ الأسباب الواقية مع التوكُّل على الله سبحانه وتعالى.
فقوله: "لا عدوى" يعني: على ما كان تعتقده الجاهلية، وإنما العدوى بأمر الله سبحانه وتعالى ومشيئته، فإذا توكلت على الله، وآمنت بالله، وقوِيَ يقينك بالله، واتخذت الأسباب التي أمر الله بها؛ فحينئذ تكون قد فعلت المشروع، والتوكل ليس معناه أنك تترك الأسباب، بل تأخذ بالأسباب الواقية، ولا تقْدم على البلد الذي فيه الوباء، ولا تخرج منه إذا وقع وأنت فيه، ولا تخالط الممرضين وأنت تقدر على الابتعاد عنهم، إلاَّ إذا دعت الضرورة إلى ذلك، بأن كان المريض ليس له أحدٌ يعالجه، والمصاب ليس له أحد يعالجه ويقوم بشؤونه؛ فتوكل على الله وقُم بمعالجة المريض، وقُم بخدمته وتوكّل على الله سبحانه وتعالى، وأنت مأجور، فالله جل وعلا إذا علم من نيّتك الإيمان والإخلاص كفاك سبحانه وتعالى، أما ما دمت في غنىٌ عن مخالطته فلا حاجة بك إلى مخالطته، فأنت لا تُقدِم عليه من باب أخذ الأسباب.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ويعجبني الفأل" الفأل: تأميل الخير. والطيرة: تأميل الشر.
وتأميل الخير مطلوب، والطيرة ممنوعة لأن الطيرة سوء ظنٍّ بالله، والفأل حسن ظنٍّ بالله جل وعلا.
فإذا سمع الشخص كلمة طيِّبة انشرح صدره، أو رأى شخصاً طيِّباً جاء(14/196)
إليه انشرح صدره وأمّل خيراً، وأحسن الظن بالله سبحانه وتعالى، فهذا أمرٌ طيِّب، ولهذا(14/197)
ص -13- ... ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر قال: ذُكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أحسنها الفأل، ولا ترد مسلماً، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلاَّ أنت، ولا يدفع السيئات إلاَّ أنت، ولا حول ولا قوة إلاَّ بك".
وعن أبي مسعود مرفوعاً: "الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلاّ...، ولكن الله يذهبه بالتوكل"رواه أبو داود والترمذي وصححه، وجعل آخره من قول ابن مسعود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كان الفأل يعجب الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا سمع صلى الله عليه وسلم اسماً حسناً، أو كلمة طيبة، أو مرّ بمكان طيّب، انشرح صدره صلى الله عليه وسلم من حسن الظن بالله جل وعلا.
ولِمّا أقبل سُهيل بن عمرو في قصة الحديبية ليتفاوض مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ورآه مقبلاً قال صلى الله عليه وسلم: "سُهِّل لكم من أمركم"، وكان كما أمّل الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان مجيئه سبب خير.
قوله. "فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل" إلخ فيه ما تعالج به الطيرة وهو هذا الدعاء الذي ذكره.
وفي حديث ابن مسعود قال: "الطيرة شرك، الطيرة شرك" كرِّر هذا مرّتين أو ثلاثاً تأكيداً، وقد قدّمنا بيان معنى كونها شركاً.
قوله: "وما منّا إلاّ... ولكن الله يُذهبه بالتوكُّل" هذا من كلام ابن مسعود، يقول: يقع في قلوبنا شيء من الطَيرة، فإذا رأى الإنسان شيئاً يكرهه يقع في نفسه شيء، لأنه لا يقدر على ردِّ هذا، وهذا لا يؤاخذ عليه الإنسان، كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما حدَّثتْ بها أنفسها ما لم تتكلّم أو تعمل"، فكونه يقع في نفس الإنسان شيءٌ إذا رأى شيئاً يكرهه، أو يخاف شيئاً ثمّ لا يتأثر ولا يتصرّف تصرُّفاً يخالف ما شرعه الله؛ لا يؤاخذ على هذا.
"ولكن الله يُذهبه بالتوكُّل" هذا هو العلاج، فالمؤمن يتوكل على الله ولا يضره ما وقع في نفسه، ويذهب بإذن الله إذا(14/198)
توكّل على الله.
فهذا إشارةٌ إلى ما تُعالجَ به الطيَرة أيضاً وهو: التوكُّل على الله سبحانه(14/199)
ص -14- ... ولأحمد من حديث ابن عمرو: "من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك"، قالوا: فما كفارة ذلك؟، قال: "أن تقولوا: اللهم لا خير إلاَّ خيرك، ولا طير إلاّ طيرك، ولا إله غيرك ".
وله من حديث الفضل بن العباس: "إنما الطيرة ما أمضاك أو ردّك".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وتعالى، ثم المُضي وعدم التردُّد، فإن تأثر بالطيَرة التي وقعتْ في نفسه وقعد عن الخروج، أو فرّ من المكان الذي تطيّر منه؛ فهذا هو الطيَرة المذمومة، لأنها أثّرْت فيه فمضى أو رجع.
وقوله: "من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك" فيه أن التطير الذي يرد ويمنع الإنسان عن حاجته شرك.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "الطيرة: ما أمضاك أو ردّك" "ما أمضاك" يعني، ما نفّرك من المكان، أو من الشخص، أو من المرئي الذي رأيته، وفررْت منه تأثراً بالطيْرة فهو شرك.
"أو ردّك" أي: عن حاجتك، كأن تريد أن تسافر ولَمّا رأيت الثعلب أو الغراب أو فلاناً الذي تكره قلت: هذا سفر ليس بحسن أو طيّب. ورجعت عنه وهذا هو التطيُّر، وهو شرك. والواجب عليك حينما حصل لك هذا الشيء وكرهته في نفسك أن ترفضه متوكِّلاً على الله تعالى وأنْ تمضيَ في حاجتك.
ثم بيّن صلى الله عليه وسلم ما تُعالجَ به الطيَرة، وهو ثلاثة أمور:
الأمر الأول:- وهو الأصل-: التوكُّل على الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يأتي بالخير ولا يدفع الشر إلاّ هو سبحانه وتعالى، وهو الذي يأتي بالخير ويدفع الشر، وهو الذي يضرُّ وينفع، وهو الذي يتصرف في الكون فإذا توكّل على الله فإن الطيرة لا تضره.
الأمر الثاني: أنْ يمضيَ في حاجته التي أرادها، ولا يرجع عنها بسبب الطيَرة.
الأمر الثالث: الدعاء، بأن يدعوَ الله بالدعاء الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن يقول: "اللهم لا يأتي بالحسنات إلاَّ أنت، ولا يدفع السيّئات إلاَّ أنت، ولا حول(14/200)
ص -15- ... ولا قوة إلاَّ بك" وهذا دعاءٌ عظيم، فيه توكُّل على الله، رفيه اعتراف بأن الذي يأتي بالحسنات ويدفع السيّئات هو الله تعالى وليست الطيَرة، وأنه لا حول ولا قوة إلاَّ بالله، لا أحد يحوِّل من حال إلى حال إلاَّ الله سبحانه وتعالى، ولا أحد يقوى على شيء إلاَّ بقوة الله سبحانه وتعالى.
والدعاء الثاني: "اللهم لا خير إلاَّ خيرك، ولا طير إلاَّ طيرك، ولا إله غيرك" "لا خير إلاَّ خيرك" أي: لا أحد يجلب الخير إلاَّ الله سبحانه وتعالى.
"ولا طير إلاَّ طيرك" لا يصيبك شيء إلاَّ بإذن الله وقدره ومشيئته، وبسبب ذنوبك.
"ولا إله غيرك" لا معبود بحقٍّ سواك، وهذا اعتراف بالتّوحيد ونفي للشرك.
فالحاصل؛ أن الطيرة تُعالج بهذه الأمور الثلاثة:
أولاً: التوكُّل على الله.
ثانياً: المضي وعدم التأثر بها، ولا تظهر على تصرُّفاتك، وما كأنها وُجدت.
والثالثة: أن تدعوَ بهذه الدعوات الواردة في الأحاديث، فإذا دعوتَ الله بهذه الدعوات فإن الله يعافيك من الطيرة ويُمدُّك بإعانته ونصره وتوفيقه.
والله تعالى أعلم.(14/201)
ص -16- ... [الباب التاسع والعشرون:]
* باب ما جاء في التنجيم
قال البخاري في "صحيحه": قال قتادة: "خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يُهتدى بها، فمن تأوّل غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلّفٌ ما لا علم له به" انتهى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الشيخ رحمه الله: "الباب ما جاء في التنجيم" أي: ما ورد من الأدلة على تحريم ذلك، والنهي عنه.
والتنجيم المراد به: اعتقاد أن للنجوم تأثيراً في الحوادث وما يجرى في هذا الكون، وقد يُراد بالتنجيم معاني أُخَر يأتي تفصيلها.
وهذا اعتقادٌ قديم كان في قوم نُمرود، الذين بُعث إليهم الخليل إبراهيم- عليه الصلاة والسلام-، وهم الصابئة الذين يعبدون الكواكب، ويبنون لها الهياكل وبيوت العبادة، يعتقدون أنها تدبِّر أمر العالم، ولا يزال هذا الشر موجوداً في العالم.
قوله: "قال البخاري في صحيحه" هذا الحديث يُعتبر من البخاري رحمه الله من التعليق، والتعليق هو: أن يذكُر الأثر بدون إسناد، فإذا قال: (قال فلان) بدون إسناد؛ فهذا يسمُّونه بالتعليق، وهو على نوعين عند البخاري:
النوع الأول: تعليقٌ بصيغة الجزم، مثل هذا الأثر: "قال قتادة"، (قال فلان).
النوع الثاني: تعليقٌ بغير صيغة الجزم، كأنْ يقول: (يُروى عن فلان)، فهذا يسمّى تعليقاً بغير صيغة الجزم، وهو أقل درجة من الأول.
وقد جاء الحافظ ابن حجر رحمه الله فذكر أسانيد هذه المعلّقات التي علقها "البخاري" في صحيحه واستقصاها في كتاب سمّاه "تغليق التعليق"، يتكوّن من ثلاثة مجلّدات ضخمة، وقد طبع الكتاب والحمد لله.
قوله: "قال قتادة" قتادة هو ابن دِعامة السدوسي، الإمام الجليل في التفسير والحديث وغيره.
"خلق الله هذه النجوم لثلاث "يعني: لثلاث حِكَم.(14/202)
ص -17- ... الفائدة الأولى: "زينة للسماء" كما قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} لأنها سُرُج تتلألأ، قال تعالى: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ(6)}.
الفائدة الثانية: "رجوماً للشياطين "وذلك لأن الشياطين يحاولون استراق السمع من الملائكة في السماء، وبأتون بما يسترقونه إلى الكُهّان من بني آدم، ولكن الله جل وعلا حفِظ السماء بهذه الشهب التي تنطلق من هذه الكواكب فتُحرِق هذا المارد فتُهلكه، خصوصاً عند بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فإنها حُرست السماء بالشهب، كما قال تعالى عن الجن: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً(9) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً(10)}، استغربوا هذه الحراسة وهذه الشهب، وكان ذلك مُؤْذِناً ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن بقي من هذا شيء لكنه قليل.
الفائدة الثالثة: "علامات يُهتَدى بها" قال تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(15) وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ(16)}، فالله جعل للمسافرين علامات يستدلُّون بها في الأرض وعلامات في السماء. والعلامات التي في الأرض: السبل والفِجاج والطرق التي جعلها الله في الأرض والجبال والأعلام الواضحة، وأما في السماء فهي: النجوم والشمس والقمر، فالنّاس يستدلُّون بسيرهم في الطرق، ولاسيما في البحار التي ليس فيها جبال وليس فيها علامات وكذلك في الليل، يسيرون على النجوم، ينظرون إلى النجوم ويعرفون بها الجِهات، فيسيرون إلى الجهة التي يريدونها، وكذلك يُستدل بهذه النجوم والشمس والقمر على القِبْلة في الصلاة، لانهم إذا نظروا إلى هذه النجوم عرفوا الجهات واهتدوا إلى جهة(14/203)
القبلة.
فهذا من حكمة الله سبحانه وتعالى من خلق هذه النجوم، خلقها لهذه النجوم.
أما من أراد أن يزيد على هذه الأمور الثلاثة التي ذكرها الله في كتابه فكما قال قتادة: "فمن تأول غير ذلك أخطأ"، لان الله لم يخلقها لهذا، لأنه أراد أن يحمِّلها شيئاً لم تُخلق من أجله، كأن يعتقد فيها أنها تدلُّ على حوادث في الأرض، أو(14/204)
ص -18- ... وكره قتادة تعلّم منازل القمر. ولم يرخِّص ابن عيينة فيه.
ذكره حربٌ عنهما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هُبوب رياح، أو نُزول مطر، أو موت أحد، أو حياة أحد، أو توفيق في أمر، أو انخذال في أمر؛ فهذا كله من التقوَّل والتطاوُل، والخَرْص والتخمين، وادّعاء لعلم الغيب الذي ما أنزل الله به من سلطان.
والنجوم لا تدلُّ على هذا لأنها لم تُخلق لهذا، وإنما هذا يرجع إلى علاَّم الغيوب سبحانه وتعالى.
فقوله: تأوّل فيها- يعني: اعتقد فيها غير ذلك من هذه الأمور الثلاثة التي دلّ عليها كتاب الله؛ فقد اخطأ.
"وأضاع نصيبه" يعني: من الدِّين، وهذا يقتضي أنه يكفُر.
"وتكلّف ما لا علم له به" لأن هذه خَرْصٌ وتخمين وحَدْسٌ وظن لا يُغنى من الحق شيئاً أبداً.
وقوله: "انتهى" يعني: كلام قتادة.
وقوله: "وكره قتادة تعلُّم منازل القمر، ولم يرخِّص ابن عيينة فيه" يعني: سفيان بن عيينة، الإمام الجليل، المحدِّث المشهور.
ومنازل القمر المراد بها: المنازل التي ينزلها في الشهر، وهي ثمانية وعشرون منزلة؛ أربع عشرة منزلة يمانية، وأربع عشرة منزلة شامية، ينزل في كل ليلة منزلة1، وعلامة هذه المنزلة نجمٌ من النجوم المعروفة يقطعها القمر في شهر، بينما تقطعها الشمس في سنة.
وكل منزلة ثلاثة عشرة يوماً، وواحدة منها أربعة عشر يوماً، وهي القلب. وهل يجوز تعلم هذه المنازل لمعرفتها من أجل الحساب.
على قولين:
القول الأول: المنع، وهو قول قتادة وسفيان بن عيينة، لأن هذا- وإنْ كان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ويستسر في ليلة أو ليلتين حسب تمام الشهر ونقصانه. ويستسر بمعنى أنه يختفي في ضوء الشمس.(14/205)
ص -19- ... ورخّص في تعلُّم المنازل: أحمد وإسحاق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا شيء فيه في نفسه- إلاَّ أنه وسيلة لأن يُعتقد فيها ما لا يجوز، فهذا من سدِّ الذرائع، فلا يتعلّم منازل القمر عندها، لأنه ربما يتدرّج إلى اعتقاد أنها تؤثِّر في الكون وأنها..، وأنها..، ولأنه زائد على الفوائد الثلاث السابقة.
والقول الثاني: أنه لا بأس بتعلّم منازل القمر، وهذا ما يسمّى بعلم التسيير.
وهو مذهب الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه، وقول كثير من أهل العلم.
وهذا هو الصحيح- إن شاء الله- لأجل ما فيه من الفوائد وعدم المحذور.
أما الممنوع فهو علم التأثير، وهو: اعتقاد أن هذه النجوم تؤثِّر في الكون، هذا هو الممنوع، أما معرفة حسابها من أجل الفوائد من غير اعتقاد أنّ لها تأثيراً في الكون؛ فهذا لا بأس به، ولا يزال العلماء يتعلّمونه ويعلِّمونه للناس لفوائده العظيمة.
وعلم التأثير ينقسم إلى ثلاثة أقسام، كلها محرّمة، لكن بعضها أشدّ من بعض.
القسم الأول: اعتقاد أنّ هذه الكواكب هي التي تُحدِث هذه الحوادث الكونية، وأنّ مصدر الحوادث هو حركات الكواكب وتَشَكُّلاتها.
وهذا اعتقاد الصابئة، وهو جُحودٌ للخالق سبحانه وتعالى، واعتقاد أنّ هذه الكواكب هي التي تُحدِث هذه الحوادث، وأنها هي التي بتشَكُّلاتها وأحوالها ينتجُ عنها ما يحدُث في هذا الكون من خير أو شرّ، ومن صحة ومرض، ومن خُصْب وجَدْب، وغير ذلك، فهذا هو اعتقاد الصابئة، وهذا كفرٌ صريحٌ بإجماع المسلمين.
والقسم الثاني: أن لا يعتقد أنها هي التي تُحْدِث هذه الحوادث، ولكن يعتقد أنها سبب للتأثير، وأما الذي يُحدِث هذا الشيء فهو الله سبحانه وتعالى، ولكن هذه أسباب، فينسب إليها الأمور من باب الأسباب.
وهذا- أيضاً- باطل ولا يجوز وهو شرك أصغر، لأن الله لم يجعلها أسباباً، ولا علاقة لها بما يجري في هذا الكون أبداً؛ من نزول مطر، أو هُبوب رياح، أو غير ذلك، وإنما هذا راجعٌ(14/206)
إلى تدبير الله سبحانه وتعالى، لأمره وإذنه سبحانه وتعالى وليس للكواكب علاقة بهذا، غير أنّ الله خلقها للأمور الثلاثة التي سبق بيانها.
والقسم الثالث: الاستدلال بها على الحوادث المستقبَلة.(14/207)
ص -20- ... وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن خمر، وقاطع رحم، ومصدِّق بالسحر"رواه أحمد وابن حبّان في "صحيحه".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا من ادّعاء علم الغيب، ومن الكهانة ومن السحر، وهو كفر بإجماع المسلمين.
وكلُّ هذه الأمور الثلاثة اعتقاد أنها هي التي تخلُق هذه الأشياء، واعتقاد أنها أسباب لما يجري في الكون من الحوادث، واعتقاد أنها تدلُّ مجرّد دلالة على أنه سيحصل كذا؛ رُخص أو غلاء، ومن تزوّج في النجم الفلاني فإنه يوفّق، ومن تزوج في النجم الفلاني أو البُرْج الفلاني فإنه يُخْفِق، وما يسمونه بالبَخْت والنَّحْس.
هذا كله باطل، وهذا يُنشر في بعض المجلاَّت التي تصدُر من جهات غير ملتزمة بالإسلام يُنشر فيها أبوابٌ خاصّة بالنجوم، وأنّ في البُرج الفلاني يحصُل كذا من تزوّج فيه، أو باع أو اشترى يربح، والنجم الفلاني نحسٌ ولا يصلح فيه شيء.
هذا من اعتقاد الجاهلية.
وأما علم الحساب المستفاد من منازل القمر لمعرفة مواقيت الصلاة، ووقت بذر الزرع، وغرس الأشجار، وغير ذلك من المصالح. فهذا ليس من الاستدلال بالنجوم على المحرّم، إنما هو من علم الحساب، والله خلق الشمس والقمر للحساب.
وهذه المفكِّرات التي تعلق على الجُدران ويتداولها النّاس لمعرفة مواقيت الصلوات هي من هذا النوع، من العلم المرخّص فيه، والذي رخّص فيه: الإمام أحمد، وإسحاق، وغيرهما، سواء كان من الحساب الشمسي أو القمري، كله من هذا النوع، لا بأس به لأنه فيه مصالح للناس وليس فيه اعتقاد سيء.
قال: "وعن أبي موسى" هو الصحابي الجليل عبد الله بن قيس الأشعري، نسبة إلى جماعة في اليمن يقال لهم "الأشعريين".
وأبو موسى هذا من أفاضل الصحابة وأجلاَّئهم وفُضلائهم، قد تولّى أعمالاً جليلة في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم وفي أيام الخلفاء الراشدين، فله مكانةٌ عظيمة في(14/208)
ص -21- ... الإسلام، رضي الله تعالى عنه وأرضاه وكان حسن الصوت بالقرآن واستمع إليه النبي صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه.
قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يدخلون الجنة" هذا وعيد يُجرى على ظاهره ولا يُؤَوّل ولا يُفَسّر، لأن تفسيره وتأويله يقلِّل من أهميِّته، فيُترك على ظاهره للزجر والوعيد، وإن كان أصحاب هذه الجرائم لا يخرجون من الإسلام، ولكن هذا من باب الوعيد الشديد لهم.
وهم: "مدمن الخمر" والمراد بالمدمن: الذي يداوِم على شرب الخمر، ولا يتوب إلى الله منها.
فشرب الخمر كبيرة من كبائر الذنوب، ومن استحلّه فقد كَفر، ومن اعتقد تحريمه وشَرِبَه من باب الشهوة النفسانية فقد فعل كبيرة من كبائر الذنوب، ويُعتبر فاسقاً ناقص الإيمان، إذا ثبت عليه الشرب بإقراره أو بشهادة الشهود يُقام عليه الحد ثمانين جلدة، لأن حدّ الخمر شرع لصيانة العقل، الذي هو أشرف شيء في الإنسان، يميّز به الضار من النافع، والطيِّب من الخبيث، وبه يعقل أمور دينه، وبه يُمسك عن الأذى، فإذا فقد العقل صار أحطّ من البهيمة، فيؤذي، ويضيِّع أخلاقه ومصالحه ومصالح غيره، فلذلك زجر الله عن شُرب الخمر، ووضع لها حدًّا في الدنيا ووعيداً في الاخرة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يدخل الجنة، فهذا وعيدٌ شديد.
والثاني: "قاطع الرحم" والرحم هي: القرابة من جهة الأب، أو من جهة الأم.
وصلة الأرحام واجبةٌ في الإسلام بعد بِرِّ الوالدين، وهم: الأولاد وأولادهم، والإخوة والأخوات وأولادهم، والأعمام والعمّات وأولادهم، والأخوال والخا لات وأولادهم، والآباء والأجداد.
فأول من تَجبُ صلته: الوالدان بالبر بهما، ثمّ الأولاد، ثمّ الإخوة وأولادهم، ثمّ الأعمام والعمّات وأولادهم ثمّ الأخوال والخالات وأولادهم، قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شيئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى}، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا(14/209)
إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} إلى قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ}.(14/210)
ص -22- ... فالقربى لها حق واجب، ومن قطع هذا الحق فإنه يكون قاطعاً للرحم، وقاطع الرحم مرتكبٌ لكبيرة من كبائر الذنوب، وملعونٌ في القرآن، كما قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ(22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)}.
والله جل وعلا يقول للرحم في الحديث القدسي: "من وصلكِ وصلته، ومن قطعكِ قطعته"، وفي هذا الحديث: أنه لا يدخل الجنة. وهذا وعيدٌ شديد.
والثالث: "مصدِّقٌ بالسحر" وهذا محل الشاهد من الحديث.
فإنْ قلتَ: الحديث في مصدِّق السحر، والباب في باب التنجيم، فما المناسبة؟
قلنا: المناسبة أن التنجيم نوعٌ من السحر؛ لما يأتي في الحديث: "من اقتبس شُعبة من النجوم فقد اقتبس شُعبة من السحر زاد ما زاد"، فالتنجيم نوعٌ من السحر، فلذلك أورده المصنِّف في هذا الباب.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنّ المصدِّق بالسحر- ومنه المصدِّق بالنجوم- أنه لا يدخل الجنة، وهذا وعيدٌ شديد، قد لا يدخل الجنة لكفره، وقد لا يدخلها لمعصيته.
وهذا من أحاديث الوعيد التي تُجرى على ظاهرها ولا تُفسَّر.
والشاهد منه قوله: "مصدِّقٌ بالسحر" الذي منه التنجيم.
وعلى كل حال؛ فالواجب على المسلم أن يحذَر من هذه المشكلة، وهي مسألة التنجيم التي لا يزال شرها موجوداً في النّاس.(14/211)
ص -23- ... [الباب الثلاثون:]
* باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء
وقول الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ(82)}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الشيخ رحمه الله: "باب الاستسقاء بالأنواء" أي: طلب السقيا بالنجوم. ما حكمه؟ وما دليله؟.
وهذا الباب يُعتبر نوعاً من أنواع الباب الذي قبله، وهو "باب ما جاء في التنجيم"، فالباب الأول عامٌّ في كلِّ ما يُعتقد في النجوم من الكفر والضلال والباطل من استسقاء وغيره، وهذا الباب خاصٌّ بمسألة واحدة، وهي الاستسقاء بالنجوم.
قوله: "باب ما جاء" أي: من الوعيد في الكتاب والسنّة، وبيان أنّ ذلك كفر بالله تعالى، لأنه اعتقادٌ في غير الله في أنه يخلق أو يرزق أو يدبِّر شيئاً من هذا الكون، وهذا كفرٌ بالله سبحانه وتعالى، لأن الله سبحانه هو الخالق المتصرِّف المدبِّر لهذا الكون ليس له شريك، وكلُّ هذه المخلوقات كلها مدبَّرةٌ بأمره سبحانه وتعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ}، {أَلا لَهُ الْخَلْقُ} الذي هو: التدبير والإيجاد والتصرُّف، {وَالْأَمْرُ} الذي هو الشرع، فكما أنه الخالق فهو الذي يشرع سبحانه وتعالى، ويأمر وينهى، {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}.
لَمّا قرأ عبد الله بن عمر هذه الآية قال: "من كان له شيء فليطلبه".
وقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(12)}، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا(14/212)
لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ(37)}، فلا يجوز أن يُعتَقد في مخلوق من المخلوقات أيًّا كان شكله وقوته ونوعه أن يُعتقد فيه أنه يدبِّر مع الله سبحانه وتعالى، وانما يدبِّر بأمر الله: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً(5)} يعني: الملائكة يدبِّرون بأمر الله سبحانه وتعالى، الله يأمرها وهي تدبِّر ما أمرها به سبحانه.
قال: "وقول الله تعالى: "{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ(82)}" هذه الآية في سياق(14/213)
ص -24- ... الآيات التي قبلها، وهي قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ(77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ(78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ(79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(80)أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ(81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ(82)}.
والشاهد في قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} إلى قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ(82)}.
وقد ذكر العلماء في تفسيرها قولين:
القول الأول: أن المراد بالنجوم الكواكب، والمراد بمواقعها طلوعها وغروبها، طلوعها من المشرق وغروبها من المغرب، لأن هذا من أعظم آيات الله سبحانه وتعالى.
والمقسم عليه هو: أحقيّة القرآن.
وقوله تعالى: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ} هو القرآن {أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} يعني: تكذِّبون بهذا القرآن، وتقولون: إنه من قول محمد، أو من قول فلان أو علاَّن، بعد هذا البيان، وبعد هذا التوضيح.
{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ(82)} {رِزْقَكُمْ} يعني: المطر، {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} فتقولون: مُطرنا بنوء كذا وكذا، فتنسبون المطر إلى الأنواء.
والأنواء جمع نوء، من: ناء ينوء إذا نهض، والنوء عبارة عن أحد منازل القمر الثمانية والعشرين.
وذلك أن العرب تزعم في الجاهلية أن المطر إنما ينزل بسبب طلوع النجم، وبعضهم يقول: المطر يحصل بسبب غروب النجم الذي يغرب في الفجر. والخلاف بينهم يسير.
المهم أنهم يضيفون نزول المطر إلى طلوع النجم أو غروبه، يظنون أن غروب النجم أو طلوع النجم في الفجر هو الذي يسبِّب نزول المطر، فيقولون: مُطرنا بنوء كذا وكذا، مطرنا بنوء الثريا، بنوء القلب، بنوء العُوّاء، بنوء الغَفْر، بنوء الزُّبانة، إلى آخره، هكذا تقول العرب في جاهليتها.
وقد أكذبهم الله فقال(14/214)
تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} أي: المطر {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} فتنسبونه إلى الطالع أو الغارب من النجوم، وهذا كذب، لأن الذي ينزل المطر(14/215)
ص -25- ... وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم والنياحة".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هو الله سبحانه وتعالى، وليس طلوع النجم أو غروبه، فيكذبون على الله سبحانه وتعالى، وينكرون نعمة الله ويجحدونها، وكان الواجب عليهم أن يشكروا نعمة الله، وأن يضيفوا النعمة إلى الله، لكنهم أضافوها إلى غيره، وقالوا: مُطرنا بالنوء الفلاني، فأنكر الله عليهم: قولهم: مطرنا بنوء كذا وكذا وسمّاه الله كذباً، وهو كذبٌ في الاعتقاد، وأشد الكذب هو الكذب في الاعتقاد، قال تعالى{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ (32)}، فالذي يكذب على الله وينسب نعمه لغيره، وينسب المطر إلى مخلوق من خلقه فقد كذب على الله أعظم الكذب، بدل أن يشكر الله يكذب عليه، وينسب نعمه إلى غيره، وهذا جُحودٌ للنعمة، وكُفرانٌ بها.
وقد فصّل العلماء حكم ذلك فقالوا: إن اعتقد أنّ النجم هو الذي يوجد المطر؛ فهذا كفرٌ أكبر، وشركٌ أكبر مخرجٌ من الملَّة.
أما إذا اعتقد أنّ المطر ينزل بأمر الله وبتقدير الله سبحانه، ولكنه نسبه إلى النجم، أو إلى الطالع أو الغارب من باب المجاز أو السبيبة -كما يقولون- فهذا كفرٌ أصغر، وشركٌ أصغر، لكنه وسيلةٌ إلى الشرك الأكبر، لأن الله لم يجعل النجوم سبباً في نزول الأمطار، وإنما الأمطار تنزل بأمره سبحانه وتعالى، فالأمطار إنما تنزل بأمره وبسبب رحمته سبحانه وتعالى كما دلّتْ على ذلك آياتٌ كثيرة من القرآن: {فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ}، {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ(9)}، {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً(14/216)
فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ}.
والحاصل؛ أن المنزِّل للمطر هو الله سبحانه وتعالى، والرياح والسحاب إنما هي مخلوقات لله سبحانه وتعالى.
قوله صلى الله عليه وسلم: "أربع" أي: أربع خِصال.
"في أمتي" يعني: أمة الإجابة، لأن أمة الدعوة تشمل كل الثقلين الجن والإنس، لأن الرسول بُعث إليهم.(14/217)
ص -26- ... وأما أمة الإجابة فهم الذين آمنوا به صلى الله عليه وسلم وصدّقوه واتّبعوه.
"من أمر الجاهلية" المراد بالجاهلية: ما قبل الإسلام، سُمي جاهلية من الجهل وهو عدم العلم، لخلو هذا الوقت -وقت الفتْرة- من آثار الرسالات السماوية، لأن بين بِعثة محمد صلى الله عليه وسلم وبين عيسى- آخر أنبياء بني إسرائيل- أربعمائة سنة وزيادة، كانتْ قد اندثرتْ فيها آثار الرسالات، ونظر الله إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلاَّ بقايا من أهل الكتاب انقرضوا قبل البِعثة.
فهذا الوقت الذي قبل الإسلام سمّي بالجاهلية لعدم وجود العلم فيه.
أما ما بعد الإسلام فلا يقال له: جاهلية، لأن الجاهلية زالت والحمد لله بالإسلام، والعلم موجود، ورّثه الرسول لله، فبعد بعثة هذا الرسول زالت الجاهلية العامّة، أما بقايا من الجاهلية أو خصال من أمور الجاهلية فقد تبْقى في أفراد من الناس أو طوائف من الناس المسلمين، لكن أن يقال: الناس كلهم في جاهلية -كما يطلقه بعض الكتّاب الجهال- فهذا باطل.
فقد يُبالغ بعض الكُتّاب الجُهّال فيصفون هذا الوقت بوقت الجاهلية، فيقول بعضهم: "جاهلية القرن العشرين"، وهذا تعبير خاطئ، وقول باطل، كما نبّه على هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: "اقتضاء الصراط المستقيم".
فقوله صلى الله عليه وسلم: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية" دلّ على أنه تبقى أشياء من الجاهلية تتسرّب في الناس، وقد تكون في بعض المؤمنين الصادقين.
وقد تكثُر الجاهلية في بعض الأشخاص وتعظُم، ولكنه لا يخرج بها من الإسلام ما دام أنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولم يشرك بالله، ولم يرتكب ناقضاً من نواقض الإسلام، فليس كل من فيه جاهلية يكون كافراً.
فالحاصل؛ أن المبالغات في وصف الزمان بأنه جاهلية والناس كلهم في جاهلية؛ فهذا باطل، ولا يصدُر من عالم محقِّق، إنما يصدُر من بعض الجُهّال.
وقوله: "من أمر الجاهلية لا يتركونهن" دلّ هذا على(14/218)
مسألتين.
الأولى: يُنسب إلى الجاهلية، وعلى أنه محرّم، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر هذا من باب الذم والتحذير منه، وقال الله تعالى لنساء نبيه: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ(14/219)
ص -27- ... الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، فكل ما يُنسب إلى الجاهلية فإنه محرّم ومذموم يجب التخلِّي عنه والابتعاد عنه.
المسألة الثانية: فيه- أيضاً-: أنه قد يبقى شيءٌ من الجاهلية في بعض المسلمين، فيجب عليه الحذَر منه، والتحذير منه، والتوبة إلى الله ممّن وقع في شيء من ذلك من أمور الجاهلية. وهذه الأربع التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم هي: الأولى: "الفخر بالأحساب" والمراد بالحسَب: شرف الإنسان ومكانته في المجتمع، فلا يفخر بحسبه، لأن الله سبحانه يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، فالكرم عند الله هو بالتقوى لا بالحسب.
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "إذا كان لا يجوز للإنسان أنه يفخر بعمله هو، فكيف يفخر بعمل أبيه وجده".
قال الشاعر:
لعمرك ما السعادة جمع مال ... ولكن التقي هو السعيد
وقال آخر:
وليس على عبد تقيِّ غضاضة ... إذا حقق التقوى وإنْ حاك أو حجم(14/220)
الثانية من أمور الجاهلية: "الطعن في الأنساب" بأن يتنقّص أنساب النّاس.
لأنه يعظّم نفسه، ولأنه يتنقّص الآخرين وكلاهما مذموم.
الثالثة: "والاستسقاء بالأنواء" وهذا محل الشاهد من الحديث.
والاستسقاء (استفعال)، أصله: طلب السقيا، قال الله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} {اسْتَسْقَى} يعني: طلب السقيا.
والاستسقاء بالنجوم هنا ليس معناه: أنهم يطلبون من النجوم أن تسقيهم، لكن معناه: أنهم ينسبون المطر إلى النجوم، فيقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا.
وكما فصّل العلماء: إنْ كان يعتقد أن النجوم هي التي أنزلت المطر وأثّرت؛ فهذا كفر مخرِج من الملّة. وإن كان يعتقد أن المنزل للمطر هو الله، وأن النجوم إنما هي أسباب وأضاف ذلك إليها من باب التساهل في التعبير؛ فهذا يُعتبر شركاً وكفراً أصغر لا يخرج من الملة. ولكنه محرّم شديد التحريم، لأنه وسيلة إلى الشرك(14/221)
ص -28- ... وقال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها تُقام يوم القيامة وعليها سِربال من قَطِران ودرْعٌ من جَرَب"رواه مسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأكبر، ولأن الشرك وإن كان أصغر فهو خطير، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
قال العلماء: أما لو قال: سُقينا في نوء كذا، فأتى بـ (في)، فلا بأس بذلك، لأن هذا ليس فيه نسبة المطر إلى النجم، وإنما يقول: سُقينا في هذا الوقت، سُقينا في نوء كذا يعني: في وقت كذا.
الرابعة: قوله صلى الله عليه وسلم: "والنياحة على الميت" والنياحة: رفع الصوت على الميِّت من باب الجزَع والتسخُّط، وإذا صحبه شقّ للثوب، أو لطم للخد، أو تعداد لمحاسن الميِّت، أو نياحة وندْب وجزَع؛ فهذا كبيرة من كبائر الذنوب.
والواجب عند نزول المصيبة: الصبر والاحتساب لا الجزَع والتسخُّط.
والنياحة دليل على عدم الرضى بقضاء الله وقدره، ودليلٌ على عدم الصبر والاحتساب. وهي من أمور الجاهلية، ويكفي أنها من أمور الجاهلية، لأن أمور الجاهلية محرّمة.
قوله: "وقال: النائحة إذا لم تتب" يعني: ترجع عن النياحة، وتندم على ما حصل منها، وتعزم على أن لا تعود إلى النياحة في مستقبلها.
وهذه شروط التوبة:
فالتوبة لغة: الرجوع، وشرعاً هي: الرجوع من معصية الله إلى طاعة الله.
وشروطها ثلاثة: الإقلاع عن الذنب، والندم على ما حصل، والعزم أن لا يعود إليه. فإذا توفّرت هذه الشروط فالتوبة صحيحة، وإذا اختلّ شرطٌ منها فهي توبة غير صحيحة.
ودلّ هذا على أن التوبة تمحو المعصية ولو كانتْ كبيرة، ولو كانت شركاً وكفراً بالله جل وعلا، فالتوبة تَجُبُّ ما قبلها من النياحة وغيرها.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "قبل موتها" دليل على أنه عند الموت لا تُقبل التوبة، فإذا بلغت الروح الحُلْقوم فحينئذ لا تُقبل التوبة.(14/222)
ص -29- ... ولهما عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانتْ من الليل، فلما انصرف أقبل على النّاس فقال: "أتدرون ماذا قال ربكم؟".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "تُقام يوم القيامة" يعني: من قبرها.
"وعليها سِرْبال" السِّربال هو: الثوب.
"من قطران" هو النحاس المذاب.
"ودِرْعٌ من جَرَب" الدرع كذلك هو: الثوب، والجَرَب: مرض جلدي، يكون في الإبل ويكون في الإنسان.
فدلّ هذان الحديثان على مسائل:
أولاً: فيه تحريم أمور الجاهلية وذمها عموماً.
ثانياً: فيه أن أمور الجاهلية لا ترتفع بالكلية، بل يبقى منها شيءٌ في بعض المسلمين.
ثالثاً: وهي مسألة مهمة جدًّا-: أن من كان فيه شيء من أمور الجاهلية لا يقتضي ذلك كفره، لكن يكون هذا ذنباً مذموماً يجب عليه التخلِّي عنه والتوبة منه، لكنه لا يقتضي الكفر، لأنه قال: "من أمتي"، فمن كان فيه شيء من أمور الجاهلية فهذا لا يقتضي كفره، إلاَّ إذا بلغ مبلغ المكفِّرات كالشرك بالله جل وعلا، أو بلغ ناقضاً من نواقض الإسلام المعروفة فهذا يكفُر به.
رابعاً: فيه دليل على تحريم المسائل الأربع المذكورة: "الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة"، وأن هذه الأمور من كبائر الذنوب.
والخامسة: فيه دليلٌ على أن التوبة تمحوا ما قبلها.
سادساً: فيه أن قبول التوبة محدّد بما قبل الموت.
والله تعالى أعلم.
قوله رحمه الله: (ولهما) أي البخاري ومسلم في صحيحهما: "عن زيد بن خالد" الجهني، صحابي جليل مشهور، والجهني نسبة إلى جُهينة القبيلة المعروفة، وهي قبيلة كبيرة من قبائل العرب.
"قال: صلى لنا" المراد: صلى بنا، فاللام هنا بمعنى الباء.(14/223)
ص -30- ... قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: "قال: أصبح من عبادي مؤمنٌ بي وكافرٌ. فأما من قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمنٌ بي كافرٌ بالكوكب. وأما من قال: مُطرنا بنوء كذا وكذا؛ فذلك كافرٌ بي مؤمن بالكوكب".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح" يعني: صلاة الفجر، سُمِّيت صلاة الصبح لأنها تجب عند طلوع الفجر، كما قال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} يعني: صلاة الصبح.
"بالحديبية" اسم مكان على حدود الحرم من جهة الغرب، قريب من التنعيم، يقال له الآن (الشميسي)، وهو عند مدخل الحرم للقادم من جدّة.
يقال الحديبيةَ - بالتخفيف-، ويقال بالحديبيّة، بالتشديد والمشهور الأول.
"فلما انصرف أقبل على النّاس" لأن هذا من السنّة؛ أن الإمام إذا فرغ من الصلاة فإنه لا يبقى مستقبل القبلة، بل ينصرف إلى النّاس ويُقبِل عليهم بوجهه كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك.
"فقال صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ماذا قال ربكم؟" هذا فيه: مشروعية الموعظة بعد الصلاة إذا صار لها مناسبة، كتنبيهٍ على خطأ وقع، أو بيان لواجب، أو موعظةٍ عامة، وحثِّ على تقوى الله، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يعظ النّاس أحياناً، ولم يكن يداوم على ذلك، وإنما يفعل ذلك أحياناً خشية المَلَل، فكان يتخوّلهم بالموعظة صلى الله عليه وسلم، خصوصاً إذا حصل شيءٌ يحتاج إلى تنبيه، مثل هذه القضية.
وفي هذا مشروعة التعليم من خلال السؤال والجواب، فالمعلِّم يسأل الطالب أوّلاً من أجل أن ينتبه للجواب، لأن هذا يكون أبلغ في التعليم وأنبه للطالب، لأنه إذا سُئل أولاً ثمّ أُجيب فإنه يكون هذا أثبت في ذهنه، بخلاف ما لو أُلقيَ إليه العلم ابتداءً فإنه قد لا ينتبه له تماماً.
"قالوا: الله ورسوله أعلم" هذا فيه أن المسؤول إذا لم يكن عنده علم ولا جواب أنه لا يتخرّص، وإنما يكِل العلم إلى عالمه، فيقول: الله ورسوله أعلم، وهذا في(14/224)
حياته صلى الله عليه وسلم، أما بعد موته فيقول: الله أعلم فقط. ففيه: مشروعية تفويض العلم إلى الله سبحانه وتعالى.
فأجاب صلى الله عليه وسلم: و"قال" أي: الرسول صلى الله عليه وسلم "قال" أي: الله.(14/225)
ص -31- ... وهذا من الأحاديث القدسية، نسبة إلى القدس وهو الطهارة، والتقديس هو التطهير، سُمي بذلك تشريفاً له لأنه من كلام الله.
فالحديث القدسي من كلام الله لفظه ومعناه.
أما الحديث غير القدسي فهو من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن المعنى من الله، لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى(3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4)}.
إلاّ أن الحديث القدسي مع أنه من كلام الله لا يأخذ حكم القرآن من كل وجه، بحيث يُتعبد بتلاوته مثل القرآن، وبحيث لا يمسه إلاَّ طاهر مثل القرآن، أو أنه يُشترط له التواتر مثل القرآن، ومن حيث إنه تجوز روايته بالمعنى. أما القرآن فلا تجوز روايته بالمعنى.
الحاصل؛ أن بين الحديث القدسي وبين القرآن فروقاً كثيرة، وإن كان يجتمع مع القرآن في أنه كلام الله سبحانه وتعالى لفظاً ومعنى.
وفي قوله: "قال" إثبات أن الله يتكلّم، فصفة الكلام ثابتةٌ لله، يتكلّم متى شاء إذا شاء سبحانه وتعالى؛ كلاماً يليق بجلاله، ليس مثل كلام المخلوقين، فكيفيّته وكُنْهُه لا يعلمهما إلاَّ الله سبحانه وتعالى، لكنه ثابتٌ لله من صفات الأفعال التي يفعلها الله إذا شاء سبحانه وتعالى.
ففيه: ردٌّ على الجهمية والمعتزلة والأشاعرة الذين ينفون الكلام عن الله سبحانه وتعالى.
"أصبح من عبادي" يعني: بسبب نزول المطر.
"مؤمنٌ بي وكافر" "مؤمن بي" بسبب هذه النعمة، "وكافر" بسببها.
دلّ على أنّ حصول النعم ابتلاء من الله سبحانه، يبتلي به عباده، فمنهم من يشكر الله فيكون مؤمناً، ومنهم من ينكر نعمة الله فيكون كافراً بنعمه.
ثمّ بيّن صلى الله عليه وسلم سبب ذلك فقال فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: "فأما من قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته"يعني: نسب النعمة إلى الله سبحانه وتعالى.
والتفضُّل والرحمة صفتان من صفات الله، فالله هو الذي يتفضل وهو الذي يرحم، ونزول المطر أثرٌ من آثار رحمة الله، كما قال تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ(14/226)
رَحْمَتِ(14/227)
ص -32- ... اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} يعني بإنزال المطر وإنبات النبات.
"فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب" لأنه لم ينسب نزول المطر إلى طلوع الكواكب أو غروبها، وهو ما يسمى بالنوء.
"وأما من قال: مُطرنا بنوء كذا وكذا" والنوء سبق لنا أنه هو النجم إذا طلع من المشرق وقت الفجر، أو غاب في المغرب وقت الفجر.
كان أهل الجاهلية ينسبون المطر إلى طلوع النجم أو غروبه، فيزعمون أنه إذا طلع النجم أو غرب ينزل المطر، ويعتقدون أن هذا بسبب الكواكب، ولا ينسبونه لله تعالى. وهذا كفر، لأنهم نسبوا النعمة إلى المخلوق، وهذا شرك بالله سبحانه وتعالى؛ شركٌ في الربوبية، وكل مشرك كافر.
وهذا فيه دليل على كفر من استسقى بالأنواء ونسب نزول المطر إليها، أو أنّ نزول المطر بتأثيرها، لأن نزول المطر إنما هو بقدرة الله سبحانه وتعالى هو الذي ينزِّله متى شاء وأين شاء ويمنعه متى شاء وأين شاء، ويصرِّفه سبحانه وتعالى.
تطلُع الأنواء ولا يحصل مطر، ويحصل المطر في غير طلوع الأنواء، فيحصل المطر في أيِّ وقتٍ شاءه الله، وهذا شيءٌ مشاهَد أن المطر ينزل في جميع الأحيان ولا يتقيّد بظهور النجم، فهذا دليل على كذب هؤلاء.
وفيه مشروعية قول هذا الكلام عند نزول المطر: "مُطرنا بفضل الله وبرحمته".
وفيه التنبيه على شكر الله عند حدوث النعم من الأمطار وغيرها، فكل ما حصل للإنسان نعمة فإنه يجب عليه أن ينسبها إلى الله، وأن يشكر الله عليها، ولا ينسبها إلى غيره، لا إلى حوله وقوَّته، ولا إلى أحدٍ من خلقه، وإنما ينسب الفضل إلى المتفضِّل وهو الله سبحانه وتعالى.
وهذا الحديث فيه فوائد عظيمة:
فيه: مشروعية الموعظة بعد الصلاة خصوصاً إذا حصل مناسبةٌ لها.
وفيه: مشروعية صلاة الجماعة في السفر كما هي مشروعة في الحضَر.
وفيه: مشروعية التعليم عن طريق السؤال والجواب، لأن ذلك أبلغ في التفهيم وأيسر للتعليم، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا مراراً(14/228)
وتكْراراً.(14/229)
ص -33- ... ولهما من حديث ابن عباس معناه، وفيه: (قال بعضهم: لقد صدق نوء كذا.
فأنزل الله هذه الآيات: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ(77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ(78) لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ(79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ(81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ(82)}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفيه- وهو الشاهد من الحديث للباب-: أن نسبة المطر إلى الأنواء كفرٌ بالله صلى الله عليه وسلم وشرك، وأن نسبة النِّعم والأمطار إلى الله إيمان بالله وتوحيد.
وفيه: أن حصول النعم ابتلاء وامتحان من الله تعالى؛ ليتبيّن بذلك المؤمن من الكافر.
وفيه: مشروعية قول هذا الكلام عند نزول المطر: "مُطرنا بفضل الله وبرحمته" كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول ذلك، ويقول: "اللَّهم صيِّباً نافعاً".
وقوله: "ولهما" أي: للبخاري ومسلم.
"من حديث ابن عبّاس بمعناه... إلخ" هذا مثل الحديث الذي قبله؛ لما نزل عليهم المطر قالوا: "صَدَق نوء كذا وكذا" زعموا أن طلوع النجم هو الذي حصل به المطر، فهم نسبوا نزول المطر إلى النوء، فصدّقوه، فأنزل الله تعالى منكراً عليهم قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ}.
قوله تعالى: {فَلا} لا هذه نافية، أي: ليس الأمر كما زعمتم أنّ نزول المطر بسبب صدق النوء الفلاني، وإنما المطر بفضل الله.
ثمّ أقسم جل وعلا على هذا النفي. والمشهور- كما اختاره ابن جرير-: أن المراد بالنجوم هنا: الكواكب، لأن في طلوعها وغروبها آية عظيمة من آيات الله سبحانه وتعالى لمن يتدبّر ويتفكّر.
والله جل وعلا يقسم بما شاء من خلقه، وهو لا يقسم إلاَّ بشيء فيه سرٌّ عظيم يحتاج إلى تأمُّل، ويحتاج إلى نظر، فلو نظرت إلى تنظيم هذه النجوم في مسارها(14/230)
ص -34- ... وتعاقبها، وعدم تخلُّفها عن نظامها وانتظامها، ونظرت إلى زينتها وتلألئها وبهائها في السماء؛ لدلّك ذلك على قدرة الله سبحانه وتعالى وعظيم صنعته.
فالله أقسم بها لمِا فيها من العجائب.
أما المخلوق فلا يُقسم إلاَّ بالله، كما جاء في الحديث: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك "، فلا يجوز الحلف إلاَّ بالله.
قوله تعالى: { َإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيم(76)} هذا تنبيه على عظَم هذا القسم، ولا يتنبّه لهذا إلاَّ أهل العلم الذين يتدبّرون في آيات الله الكونية.
ثمّ ذكر سبحانه المقسَم عليه وهو القرآن فقال: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} من الكرم وهو الشرف والرِّفعة، فهو كريم في منزلته، عظيمٌ في معناه، جليلٌ في قدْره، لأنه كلام الله سبحانه وتعالى، فهو أعظم الكلام. وفضل كلام الله على غيره كفضل الله على خلقه.
{فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ(78)} يعني: محفوظ، والمشهور: أنّ المراد بالكتاب المكنون هنا: اللوح المحفوظ، لأن الله كتبه في اللوح المحفوظ، فهو مكتوبٌ في اللوح المحفوظ، ومكتوب في صحائف الملائكة، ومكتوبٌ في المصاحف التي في أيدي البشر، ومحفوظٌ في الصدور، فهو كلام الله بكل اعتبار.
{لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ(79)} يعني: الملائكة، وهذا فيه ردٌّ على المشركين الذين يزعمون أن القرآن ممّا تنزّلت به الشياطين، وأنه من كلام الشياطين، والله بيّن أن الشياطين لا تقرب القرآن، كما قال سبحانه: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ(212)} السمع يعني: الوحي.
{تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ(80)} نزل به جبريل- عليه الصلاة والسلام- إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وبلّغه محمد صلى الله عليه وسلم لأمته، كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ(193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ(194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ(195)}، وكما(14/231)
في الآية الأخرى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ(40)} يعني: جبريل عليه السلام، {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ(20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ(21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ(22)} يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم، وهذا توثيق لسند القرآن، لأن رواته عن الله هم: أمة محمد صلى الله عليه وسلم عن نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن ربه عزّ وجلّ، وليس كما يقوله المشركون: إنه من كلام الشياطين، أو من كلام(14/232)
ص -35- ... البشر، أو من صحائف الأولين. فهو كلام الله حقيقة وجبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام مبلغان عن الله تعالى.
ثمّ قال: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ(81)} يعني: تكذبون به، وتقولون: هذا من كلام محمد، أو من كلام فلان، أو مما تنزّلت به الشياطين التي تتنزّل على الكُهّان، أو ما أشبه ذلك من أقاويل باطلة.
{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ(82)} معناه: أنكم تنسبون الأمطار إلى الأنواء، سمّى الله ذلك كذباً وباطلاً لأن الأمطار ليستُ من الأنواء وإنما الأمطار من الله سبحانه وتعالى هو الذي ينزِّلها ويقدّشرها ويجعل فيها البركة والنماء، فهو الذي ينزِّلها سبحانه.
وفي هذا الأثر الذي رواه ابن عبّاس- مثل ما سبق-:
الرد على الذين ينسبون الأمطار إلى الأنواء، وأن هذا كذبٌ محْض، حيث أقسم الله سبحانه- وهو الصادق- أن هذا كذب، فدلّ على بُطلان الاستسقاء بالأنواء، وأنه يجب نسبة المطر إلى الله سبحانه وتعالى، لا إلى الأنواء، ومن نسبها إلى الأنواء فقد كفر بالله.(14/233)
ص -36- ... [الباب الواحد والثلاثون: ]
* باب قول الله تعالى
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أراد الشيخ رحمه الله، بهذا الباب أن يبين أن المحبة نوعٌ من أنواع العبادة، وأن من أحب مع الله غيره فقد أشرك بالله الشرك الأكبر المخرج من المِلة، كما كان عليه المشركون الذين قال الله فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}.
ولَمّا كانت المحبة من أنواع العبادة، بل هي أعظم أنواع العبادة، وكان من أحب مع الله غيره مشركاً الشرك الأكبر؛ ناسب أن يذكر الشيخ رحمه الله، هذا الباب في "كتاب التّوحيد"؛ لينبه على هذه المسألة المهمّة.
والمحبة- كما ذكر العلماء- تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: محبة العبودية، وهذه يجب أن تكون خالصةً لله عزّ وجلّ، ومحبة العبودية هي التي يكون معها ذل للمحبوب. وهذه لا يجوز صرفها لغير الله، كما لا يجوز السجود لغير الله والذبح لغير الله والنذر لغير الله فإنه لا تجوز محبة غير الله محبة عبودية يصحبها ذلٌّ وخضوع وطاعةٌ للمحبوب، وإنما هذه حقٌّ لله سبحانه وتعالى.
ولهذا يقول العلامة ابن القيم رحمه الله في "النونية":
وعبادة الرحمن غاية حبه ... مع ذلُّ عابده هما قطبان
وعليك فَلَك العبادة دائر ... وما دار حتى قامت القطبان
ومداره بالأمر أمر رسوله ... لا بالهوى والنفس والشيطان(14/234)
ويقول العلماء في تعريف العبادة هي: غاية الذل مع غاية الحب.
فالعبادة تترّكز على ثلاثة أشياء: على المحبة، وعلى الخوف، وعلى الرجاء.
فالمحبة والخوف والرجاء هي ركائز العبادة وأساسها، فإذا اجتمعتْ تحقّقت العبادة ونفعت كالصلاة والحج وسائر العبادات، أما إذا اختلّتْ هذه الثلاثة فإن الإنسان وإن صام وإن صلى وإن حج فإنها لا تكون عبادته صحيحة.
ويقول العلماء: "من عبد الله بالمحبة فقط فهو صوفي"، لأن الصوفية يزعمون(14/235)
ص -37- ... أنهم يعبدون الله لأنهم يحبونه فقط، ويقولون: لا نعبده نخاف من ناره ولا نرجو جنته، وإنما نعبده لأننا نحبه. وهذا ضلال.
"ومن عبد الله بالرجاء فقط فهو مرجئ" لأن المرجئة يخرجون الأعمال عن مسمى الإيمان.
"ومن عبد الله بالخوف فقط فهو خارجي" لأن الخوارج يكفرون المؤمنين بالمعاصي.
فالمرجئة أخذوا جانب الرجاء فقط، والصوفية أخذوا جانب المحبة فقط، والخوارج أخذوا جانب الخوف فقط.
وأهل السنّة والجماعة جمعوا بين الأمور الثلاثة -ولله الحمد-: المحبة مع الخوف والرجاء والذل والانقياد والطاعة، وبنوا على ذلك سائر أنواع التعبُّد والتقرُّب إلى الله سبحانه وتعالى.
النوع الثاني: محبة ليستْ محبة عبودية وهي أربعة أقسام:
القسم الأول: محبة طبيعية كمحبة الإنسان للطعام والشراب والمشتهيات المباحة، كالزوجة والملذات.
القسم الثاني: محبة إجلال، كمحبة الولد لوالده غير المشرك والكافر، فالولد يحب والده محبة إجلال وتكريم واحترام لأنه والده المحسن إليه والمربِّي له. وهذه محمودة ومأمور بها.
القسم الثالث: محبة إشفاق، كمحبة الوالد لولده، فالوالد يحب ولده محبة إشفاق.
القسم الرابع: محبة مصاحبة، كأن تحب شخصاً من أجل مصاحبتك له، إما لكونه زميلاً لك في العمل، أو شريكاً في تجارة، أو صاحباً لك في سفر، فأحببته من أجل المشاركة في شيء من الأشياء.
هذه الأقسام ليستْ من أنواع العبادة، لأنها ليس معها ذلّ، وليس معها خضوع.(14/236)
ص -38- ... وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ } {وَمِنَ النَّاسِ} يعني: المشركين، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ} أي: غير الله، {أَنْدَاداً} الند هو: الشبيه والنظير والعديل، سُمُّوا أنداداً لأنهم ساووهم بالله، فصاروا أنداداً لله بمعنى: شركاء مساوين له في اعتقاد المشركين.
{يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} أشركوهم مع الله في محبة العبودية، فعبدوا الأصنام والأوثان لأنهم يحبونها محبة ذل وانقياد وخضوع وطاعة فأشركوا في أعظم أنواع العبادة، وهو المحبة.
فالمشركون يحبون الله لأنهم يعترفون بربوبيته وخلقه لهم، فهم يحبونه، لكنهم لم يخلصوا محبتهم، بل أشركوا معه آلهةً أخرى يحبونها مع الله محبة عبودية وخضوع وذلُّ وتقرُّب إليها بالعبادة.
هذا هو الوجه الصحيح في تفسير الآية؛ أن المشركين يحبون الله ويحبون معه غيره من الأصنام والأوثان كما يحبُّون الله، فيعادِلون بين محبة الله ومحبة الأصنام ومحبة الأوثان.
ولا يزال المشركون على هذا، فالذين يعبدون القبور والأضرحة يحبُّونها، ولهذا يغارون ويغضبون إذا قيل لهم إن هذه المعبودات باطلة لا تُغني عنكم شيئاً، ولا تنفعكم بل تضركم فهم يغضبون، بل قد يقاتلون دونها، لأنهم يحبونها {كَحُبِّ اللَّهِ} أي: كما يحبون الله.
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} الذين أخلصوا المحبة لله وهم المؤمنون، هؤلاء أشدُّ حبًّا لله من محبة المشركين لله، لأن محبة المؤمنين خالصة ومحبة المشركين مشتركة، والمحبة الخالصة أشدُّ وأقوى من المحبة المشتركة، وهذه المحبة هي التي تنفع، أما محبة المشركين لله فإنها لا تنفعهم ما داموا يحبون مع الله غيره فلم يُخلصوا في محبتهم.
فدلت هذه الآية الكريمة على أن المحبة نوعٌ من أنواع العبادة، بل هي أعظم أنواع العبادة، وأن من أحب مع الله غيره فيها فقد(14/237)
أشرك بالله الشرك الأكبر واتّخذ هذا المحبوب نِدًّا، أي: شريكاً مع الله ومعادِلاً لله ومساوِياً لله، كما يقول أهل النار(14/238)
ص -39- ... وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يوم القيامة لمن أشركوهم مع الله: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ(97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ(98)}.
وقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ} الآية.
هذه الآية فيها: أن من قدّم محبة هذه الأشياء على محبة الله فإنه متوعّد بهذه الوعيد {فَتَرَبَّصُوا} أي: انتظروا، {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} حتى يأتيكم الله بالعقوبة {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} سمّاهم فاسقين، والفسق هو: الخروج عن طاعة الله جل وعلا، ومعنى {لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} يعني: لا يوفقهم للإيمان، مثل قوله: {لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالمين}، {لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}.
فالهداية المنفية هنا: هداية التوفيق، أما هداية البيان والإرشاد فهذه موجودة، فالله هدى كل النّاس، بمعنى: أنه بيّن لهم طريق الخير من طريق الشر، هدى الكفار وهدى المؤمنين بمعنى: بيّن لهم طريق الخير وطريق الشر.
أما هداية التوفيق والإيمان فهي خاصة بالمؤمنين.
أما الكافرون- إذا أصرُّوا على كفرهم وأصروا على طغيانهم- فإن الله يحرمهم هداية القلوب: {حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ}، عقوبة من الله سبحانه وتعالى أنّ من عاند وأصرّ بعد البيان وبعد الإرشاد وأصرّ على الباطل فإن الله يعاقبه بحرمانه من هداية قلبه، بل يزيغ ويبقى على زيغه وضلاله وعقوبة له: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} يعني: وأصروا على الكفر، {َسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ(14/239)
أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} لأنهم لم يقبلوا الهداية من أول الأمر، فلما لم يقبلوا الهداية من أول الأمر عاقبهم الله بالحرمان، {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ(110)}، فالذي يتبيّن له الخير والهدى والإيمان ولم يقبل، بل يستمر على ما هو عليه من الطغيان والكفر والعناد فإنه يعاقب بفساد قلبه -والعياذ بالله- وعدم هداية قلبه {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}.(14/240)
ص -40- ... وهذه الآية: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} يقول المفسِّرون: إنها نزلت في قوم من المسلمين كانوا في مكة، ولَمَّا هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة لم يهاجروا؛ لأنهم آثروا أن يبقوا في مكة محافظة على أموالهم وعلى مساكنهم وعلى أقاربهم، فهم قدّموا محبة هذه الأشياء على محبة الله ورسوله، فالله توعّدهم.
ويُروى: أنهم لَمّا أرادوا الهجرة تعلّق بهم أقاربهم وقالوا: كيف تدعوننا؟، ولمن تدعوننا؟ ولما تعلّقوا بهم، رقّوا لهم ورحموهم، فأقاموا في مكة وتركوا الهجرة إيثاراً لهذه ا لأشياء، فالله وبَّخهم وتوعّدهم، لأن الواجب عليهم أن يهاجروا، وأن يقدّموا الهجرة إلى الله ورسوله على هذه الأشياء كما فعل ذلك المهاجرون الذين قال الله تعالى فيهم: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}، فالمهاجرون تركوا هذه المحبوبات طاعة لله ورسوله ومحبة لله ورسوله، وإن كانوا يحبون هذه ا لأشياء، يحبون أولادهم، ويحبون بلدهم، ويحبون أموالهم، ولكنهم قدّموا عليها محبة الله سبحانه وتعالى فهاجروا، تركوا أموالهم، تركوا ديارهم وأوطانهم، تركوا أولادهم وذرّيتهم، تركوا مساكنهم، تركوا التجارات التي لهم في مكة، كل هذا تركوه لله جل وعلا، أما هؤلاء من المؤمنين فإنهم بقوا في مكة وآثروا أن يبقوا عند أقاربهم، وأن ينمُّوا أموالهم وتجاراتهم، وأن يبقوا في مساكنهم في مكة، فتوعّدهم الله، كما قال في الآية الأخرى في الذين لم يهاجروا من المسلمين: {} يعني: لِمَ تركتم الهجرة؟، {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً(97) إِلَّا(14/241)
الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً(98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً(99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً(100)}، فالهجرة من أفضل خصال الإيمان، والمهاجر لا يهاجر للنُّزهة أو يهاجر للبلد الذي فيه سعة ورفاهية من أجل الدنيا، ولكنه يهاجر من أرض يحبها ومن بلد يحبها، وقد يترك أمواله وأولاده ويخرج محبة لله ولرسوله، هذا هو المؤمن الصادق في إيمانه.(14/242)
ص -41- ... عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والنّاس أجمعين" أخرجاه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فقوله في هذه الأشياء إذا كانت {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} {أَحَبَّ} يدل على أن محبة هذه الأشياء في الأصل لا حرج فيها، فالإنسان يحب والده، ويحب ولده، ويحب أخاه، ويحب قبيلته، ويحب ماله، ويحب تجارته، ويحب مسكنه. فأصل المحبة لهذه الأشياء مباح لأنه من المحبة الطبيعية، لكن إنما يأتي اللوم إذا قدّم محبة هذه الأشياء على محبة الله فأخّرته هذه الأشياء عن طاعة الله ورسوله، وعن الهجرة إلى ا لله ورسوله.
قوله: "وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى كون أحبَّ إليه من ولده ووالده والنّاس أجمعين"" وذلك أنه بعد محبة الله تأتي محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، فالأولى: محبة الله عزّ وجلّ، وهي محبة عبادة، وهي الأصل والقاعدة. أما محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فهي تابعةٌ لمحبة الله عزّ وجلّ، تأتي بعد محبة الله وكذا محبة كل ما يحبه الله من الأشخاص والأعمال وهذه محبة في الله ولله فالمحبة المشروعة محبة الله والمحبة في الله، والمحبة الممنوعة هي المحبة مع الله. وتقديم ما تحبه النفس على ما يحبه الله.
وقوله: "لا يؤمن أحدكم" ليس نفياً لأصل الإيمان، وإنما هو نفيٌ لكمال الإيمان، أي: لا يكمُل إيمان أحدكم هذا إذا كان يحب الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن لا يقدم محبته على محبة غيره من الخلق.
أما إذا كان الإنسان لا يحب الرسول صلى الله عليه وسلم أصلاً، بل يبِغض الرسول، فهذا كافر، أما الذي يحب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه يقدِّم محبة ولده ووالده على محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا ناقصُ الإيمان، بل لا يكمُل إيمان العبد ولا يتم حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحبَّ إليه من نفسه التي بين جنبيه،(14/243)
وأحب إليه من ولده الذي هو بضْعَةٌ منه وجزءٌ منه، وأحب إليه من والده الذي هو أصله والمحسِن إليه، وأحب إليه من النّاس أجمعين أيًّا كانوا.
وهذا يقتضي أن الإنسان يقدِّم طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم على طاعة غيره: فإذا أمرك الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر وأمرك والدك أو ولدك أو أحد من النّاس بأمر يخالف أمر(14/244)
ص -42- ... الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يجب عليك معصية هذا الآمر وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الدليل على محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، أن لا تقدّم على محبته شيئاً، ولا تقدّم على طاعة الرسول شيئاً، فإذا أمرك أحد بمخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم فلا تطعه ولو كان أقرب النّاس إليك ولو كان أحب النّاس إليك، فطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم مقدَّمة، وهي ثمرة محبته ومن علامات محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ترك ما لم يشرعه الرسول من البدع والمحدثات لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" أي مردود عليه عمله هذا.
أما الذي يدّعي أنه يحب الرسول صلى الله عليه وسلم ويُقيم الموالد والاحتفالات المبتدعة، والرسول صلى الله عليه وسلم ينهاه عن البدع والمحدثات، فلا يطيعه، وإنما يطيع المخرِّفين والدجَّالين في هذا، فهذا كاذبٌ في محبّته للرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن البدع والمحدَثات والخُرافات ولو كان النّاس عليها ولو كان عليها أبوك أو ابنك أو أقرب النّاس إليك، فمن كان عنده بدعة ومخالفة للرسول صلى الله عليه وسلم وجب عليك معصيته، فإذا أطعته فإن هذا دليل على عدم صدق محبتك للرسول صلى الله عليه وسلم.
فالحاصل؛ أنه ليس الدليل على محبة الرسول صلى الله عليه وسلم دعوى تُقال، أو احتفال يُقام، لأن الدليل على محبة الرسول صلى الله عليه وسلم: متابعته، وطاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يُعبد الله إلاَّ بما شرع عليه الصلاة والسلام. هذا هو الدليل على محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، ونحن لا نقبل الدعوى، وإنما نقبل الدليل على الدعوى.
فالذين يعملون بالسنّة ويتركون البدع فهذا دليلٌ على محبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، أما الذين يدّعون أنهم يحبُّون الرسول صلى الله عليه وسلم ولكنهم يخالفونه فيرتكبون ما نهى عنه(14/245)
ويتركون ما أمر به طاعةً لأنفسهم أو طاعة لغيرهم فإن هذا دليل على عدم صدقهم في محبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والنّاس أجمعين" بل ومن نفسه.
فإذا أراد أحدٌ منّا أن يختبر إيمانه فلينظر إلى موقع هذا الحديث منه ويطبِّقه على نفسه، هل هو يحب الرسول، أحب إليه من نفسه، هل يحب الرسول أحب إليه من والده وولده والنّاس أجمعين؟، فإن كان كذلك فهو يحبُّ الرسول صلى الله عليه وسلم، والدليل(14/246)
ص -43- ... ولهما عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجد بهنّ حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلاَّ لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذْ أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذَف في النار".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على ذلك- كما ذكرنا-: الموافقة للرسول صلى الله عليه وسلم بتنفيذ أوامره وترك نواهيه واجتناب البدع والمحدثات التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان عليها أقرب النّاس إليه أو أحب النّاس إليه، يتركها طاعةً لله وطاعةً لرسوله، ومحبةً لله ومحبةً لرسوله صلى الله عليه وسلم.
فدل هذا الحديث: على وجوب محبة الرسول بعد محبة الله عزّ وجلّ، وأن محبة الله ومحبة رسوله تقتضيان المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم وعدم المخالفة، وأنه لو أمرك أيُّ أحدٍ من الناس بأمر يخالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وجب عليك معصيته ورفض ما يأمرك به، والأخذ بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فكما تجب محبة الله عزّ وجلّ تجب محبة رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}.
قوله: "أخرجاه" يعني: أخرجه البخاري ومسلم.
"ولهما" أي: البخاري ومسلم.
"عنه" أي: عن أنس رضي الله عنه.
"قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث"" أي: ثلاث خصال.
"مَنْ كُنّ فيه" اجتمعن فيه، ووُجدن فيه.
"وجد بهنَّ حلاوة الإيمان" هذا من ثمرات محبة الله ورسوله.
و"حلاوة الإيمان" أي: لذّته، لأن الإيمان الصادق له لذّة في النفوس، وله طُمأنينة في القلوب، هذا هو الإيمان الصادق: تجد المؤمن يتلذّذ بالإيمان، ويَطْعَم الإيمان أكثر ممّا يَطْعَم أيَّ أنواع الملذّات.
الخصلة الأولى: "أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما" أي: أحب(14/247)
إليه من نفسه، وأحبّ إليه من كل شيء، ومن الوالدين والأولاد والأقارب والأصدقاء وسائر النّاس. وهذا يقتضي تقديم قولهما على قول كل أحد.
الخصلة الثانية: "وأن يحب المرء لا يحبه إلاَّ لله" أي: يحب الإنسانَ من بني(14/248)
ص -44- ... آدم "لا يحبه إلاَّ لله"، لا يحبه من أجل طمع دنيا أو عَرض عاجل، هانما يحبه لله لأنه مطيعٌ لله، لأنه مؤمن، لأنه تقي. أما الذي يحب الشخص من أجل الدنيا أو من أجل الأطماع أو الشهوات أو الأغراض، فهذه محبة لا تنفعه عند الله شيئاً.
وهذا فيه فضل المحبة في الله بين المؤمنين، والمحبة في الله أوثق عُرى الإيمان- كما في الحديث: "أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله"، ومن السبعة الذين يظلُّهم الله في ظله يوم لا ظلّ إلاَّ ظله: "رجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وتفرّقا عليه"، وفي الحديث الصحيح: "أن رجلاً خرج إلى قرية ليزور أخاً له في الله فأرصد الله على مَدْرَجته" أي: طريقه "ملكاً" ليختبره، فلما مرّ عليه "قال له الملَك: أين تُريد؟، قال: أُريد قرية كذا وكذا، قال: وما غرضك فيها وما شأنك؟، قال: لأن فيها أخاً لي في الله أحبْبتُ زيارته، فقال له الملَك: هل له عليك نعمة تربُّها؟" يعني: هل هو قد أحسن إليك وأنت تحبُّه من أجل صنيعه معك ومعروفه معك، "قال: لا، إلاَّ أني أحببته في الله "يعني: ما زرته ولا خرجتُ إليه إلاَّ لأني أحبه في الله، لا من أجل أنه أحسن إليَّ أو من أجل أنه أعطاني شيئاً أو منّ عليَّ بشيء، "فقال له الملك: إني رسول الله إليك أن الله قد أحبك كما أحبَبْته فيه".
كثيرٌ من الناس يتحابُّون ويتآلفون من أجل أمور الدنيا، من أجل الرجاء والطمع وغير ذلك، إن أحسن إليه وأعطاه شيئاً أحبه، وإلاَّ فإنه لا يحبه وهذا موجود في البهائم والكلاب والقطط إذا أحسنت إليها فإنها تألفك وتحبك جِبِلّة وطبيعة، فقد جُبِلت القلوب على حب من أحسن إليها، لكن هذا ليس فيه مزيّة، إنما المَزيّة أن تحبه لا من أجل شيء أعطاك، وإنما تحبه من أجل الله عزّ وجلّ، هذه هي الدرجة العالية الرفيعة من المحبة في الله.
الخصلة الثالثة: التي يجد بهن العبد حلاوة الإيمان: "وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه؛(14/249)
كما يكره أن يُقذف في النار" كل النّاس ينفرون من النار - والعياذ بالله- لأنها مؤلمة، ولا أحد يصبر على حرها، فكلٌّ يفرُّ من النار ويبتعد عنها، والكفر نار، والمسلم الذي منّ الله عليه بالإسلام يكره أن يعود إلى الكفر، ويكره الرِّدّة عن دين الإسلام، كما يكره أن يُلقى في النار، هذا هو المؤمن حقًّا،(14/250)
ص -45- ... الذي تمكَّن الإيمان من قلبه فلا يساوِم عليه، ولا يتنازل عن شيء منه أبداً مهما كلّفه الأمر، بل يتمسّك بدينه. لأنه وجد حلاوة الإيمان ولذته.
أما الذي يدّعي الإيمان ولكنه يتنازل عن الإيمان- أو عن شيء منه- من أجل الخوف أو الطمع أو غير ذلك فهذا دليل إما على عدم إيمانه أو على نقصان إيمانه {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ}، أما المؤمن فإنه يصبر ولو ناله شيء من المكاره، ولو حاول النّاس أن يصرفوه عن دينه، أعطوه أموالاً، وأعطوه ما يعطونه، أو حاولوا صرفه عن دينه، أو التنازل عن دينه بالتخويف والتهديد بالقتل، والتهديد بالتعذيب، فإنه يصبر، ولا يتنازل عن دينه حتى يلقى الله سبحانه متمسِّكاً بدينه، هذا هو المؤمن حقًّا.
وقوله: "وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذْ أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذَف في النار" قالوا: هذا فيه دليل على أن المكره إذا صبر على الإكراه وصبر على القتل أنه يكون من هذا النوع- ممّن وجد حلاوة الإيمان، ولَمّا وجد حلاوة الإيمان ما رضيَ أن يتنازل عنها أبداً.
ولهذا جاء في قصة الرجلين اللذين مرَّا على صنم لا يجوزه أحدٌ حتى يقرِّب إليه شيئاً، "فقالوا لأحدهما: قرِّب"، يعني: اذبح للصنم حتى نتركك تَمُر، "فقال: ما كنتُ لأقرّب لأحد شيئاً دون الله عزّ وجلّ، فضربوا عنقه. فدخل الجنة"، وقالوا للآخر: قرِّب. فقال: ليس عندي شيء أقَرِّب. قالوا: قرِّب ولو ذباباً، فقرّب ذباباً فدخل النار". الأول أبى أنْ يذبح لغير الله، والثاني استجاب. فالأول قُتل ودخل الجنة، والثاني ذبح لغير الله، فمر مع الطريق ودخل النار، لأنه رجع إلى الكفر بعد إذْ أنقذه الله منه، أما الأول فأبى أن يرجع إلى الكفر وصبر على القتل فدخل الجنة، وهذا الإيمان إذا باشر القلب ووجد حلاوته.
فهذا الحديث ميزان يزن العبد به إيمانه:
"أن يكون الله(14/251)
ورسوله أحبّ إليه مما سواهما" فإذا عرض شيءٌ من العوارض فإنه يقدِّم محبة الله ورسوله على محبة ذلك العارض.
"وأن يحب المرء لا يحبه إلاَّ لله" لا يحبه من أجل طمع الدنيا ومرغِّباتها.(14/252)
ص -46- ... وفي رواية: "لا يجد أحدٌ حلاوة الإيمان حتى..." إلى آخره.
وعن ابن عبّاس قال: "من أحبّ في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله وعادى في الله، فإنما تُنال ولاية الله بذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه" قال العلماء: هذا فيه تكميل المحبة وتفريعها ودفع ضدها.
فتكميل المحبة: أن يكون الله ورسوله أحب إليه ممّا سواهما.
وتفريعها: أن يحب المرء لا يحبه إلاَّ لله.
ودفع ما يضادها: يكره أن يعود في الكفر بعد إذْ أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار.
فهذا حديثٌ عظيم.
قوله: وفي رواية: "لا يجد أحدٌ طعم الإيمان" هذه الرواية في "صحيح البخاري" وفائدتها: أنها نَفَتْ بمنظومها وجود طعم الإيمان عمن لم يتّصف بهذه الصفات الثلاث: "أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه ممّا سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلاَّ لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذْ أنقذه الله منه"، أما الرواية الأولى فهي دلّت بالمفهوم -مفهوم المخالفة- على أنّ من لم تكن فيه هذه الخصال فإنه لا يجد طعم الإيمان، وإنْ كان فيه إيمان، لكنه لا يتلذّذ به ويجد طعمه فالرواية الثانية دلّت بالمنطوق، والأولى بالمفهوم، ولهذا ساقها الشيخ رحمه الله، بعد الحديث.
قال رحمه الله: "وعن ابن عباس قال: "من أحب في الله" يعني: من أجل الله، فأحب المؤمنين لأنهم أولياء الله، لا يحبهم من أجل طمع دنيا أو رغبة عاجلة، وإنما يحبهم في الله.
"وأبغض في الله" أبغض الكفّار والمنافقين والعصاة من أجل الله لا من أجل أنهم ضربوه أو أنهم حرموه من شيء، أو أنهم تعدّوا عليه، أو ظلموه، لا يبغضهم من أجل هذه الأمور، لأن هذا بغض طبيعي ليس بعضاً يتعلّق بأمور العبادة.
"ووالى في الله" أي: أحب وناصر. فالموالاة: المحبة والمناصرة والمعاونة.
"وعادى في الله" أي: أبغض الكفار والمنافقين والفاسقين من أجل الله، لأن الله يبغضهم.(14/253)
ص -47- ... ولن يجد عبدٌ طعم الإيمان- وإن كثُرت صلاته وصومه- حتى يكون كذلك.
وقد صارتْ عامّة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يُجدي على أهله شيئاً" رواه ابن جرير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"فإنما تُنَال ولاية الله" ولاية الله محبته ونصرته. أما الوِلاية- بالكسر-: فهي الإمارة والوظيفة، وِلاية القضاء، وِلاية الملك، وِلاية حسبة، وولاية الله تعني: محبة الله. فمن اتصف بهذه الصفات أحبه الله، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ}، فإنما تنال محبة الله بطاعة رسوله كما في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}، فمن اتّبع الرسول صلى الله عليه وسلم أحبه الله، ومن عصى الرسول صلى الله عليه وسلم أبغضه الله.
فقوله: "فإنما تُنال ولاية الله بذلك" أي لا يحصل الإنسان على محبة الله ونُصرته إلا بهذه الأمور: المحبة في الله، والبغض في الله، والموالاة في الله، والمعاداة في الله. أما الذي يتّخذ الدنيا هي المقياس عليها يعادي وعليها يوالي، من أحسن إليه أحبه ولو كان عدوًّا لله عزّ وجلّ. ومن أساء إليه أبغضه ولو كان ولياً لله فهذا لا ينال ولاية الله، ولهذا قال ابن عباس في آخر الحديث: "وقد صارتْ عامّة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا".
فابن عباس يستنكر في وقته أن الناس صاروا يوالون ويعادون من أجل الدنيا فكيف بوقتنا هذا؟، لا شك أن الأمر قد زاد، فكثير من الناس فقدوا هذه الصفات: المعاداة في الله، والموالاة في الله، والمحبة في الله، والبُغض في الله، إلا من شاء الله سبحانه وتعالى، ولكن قلّ هذا في الناس اليوم، لا نقول(14/254)
إنه مفقود، بل هو موجود -ولله الحمد، ولكنه قلّ، وما دام أنه قليلٌ فليفتّش كل واحد منا عن نفسه بأن لا يكون مع الكثرة التي ضيّعتْ هذا الأصل العظيم كالذين لا يوالون، إلا على الحزبية والمنهجية فمن وافقهم على حزبيتهم ومنهجيتهم أحبوه ولو كان عدو الله ورسوله ومن خالفهم أبغضوه ولو كان ولياً لله ورسوله.(14/255)
ص -48- ... وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} قال: "المودّة".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال رحمه الله: "وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} قال: "المودة""هذه نهاية من عبد غير الله يوم القيامة، فعبدة غير الله في الدنيا يحبون ما عبدوه كما قال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}، وكذلك التابعون في الدنيا يحبون المتبوعين على الضلالة، فتوجد المحبة بين الكفار بعضهم مع بعض، وبين المشركين ومعبوداتهم في الدنيا، لكن يوم القيامة تنعكس الأمور، وتصير هذه المحبة عدواة كما قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} يعني: يوم القيامة، {إِلَّا الْمُتَّقِينَ} فلا يبقى إلاَّ المحبة التي كانت في الله والله هي التي تبقى يوم القيامة: {إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}، ويقول إبراهيم - عليه الصلاة والسلام- للمشركين يحذِّرهم: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ} فهم يوم القيامة يتلاعنون ويتباغضون، لأنهم يقولون لمن أضلوهم أنتم السبب في إضلالنا وإغوائنا وصرفنا عن دين الله.
أما محبة المؤمنين بعضهم لبعض من أجل الإيمان والموالاة في الله والمعاداة في الله فإنها تبقى، بل تزيد يوم القيامة، وتستمرُّ إلى أبد الآباد {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ(47)}.
فدلّت هذه الآية على أن المحبة التي لغير الله أنها تزول يوم القيامة، وتنقلب عداوة، وأن محبة التابعين على الضلال لأتباعهم وقادتهم ورؤسائهم تنقلب عداوة يوم القيامة فيما بينهم(14/256)
ويتلاعنون ويتلاومون فيما بينهم، من باب التحسُّر- والعياذ بالله- والتألُّم.
فهذا الباب بابٌ عظيم، يجب على المسلم أن يَزِن نفسه به، ولهذا يسمى بباب الامتحان، فكلٍّ يَدّعي الإيمان، وكلٌّ يَدّعي الإسلام، وكلٌّ يدّعي الزهد والورع ولكن الميزان ما ذكر في هذا الباب.(14/257)
ص -49- ... [الباب الثاني والثلاثون:]
* باب قول الله تعالى:
{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(175)}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب عقده الشيخ رحمه الله في موضوع الخوف.
والخوف من الله هو أحد ركائز العبادة، كما سبق أن المحبة والخوف والرجاء أعظم أنواع العبادة، وهي أعمال قلبية، فلما ذكر المحبة في الباب السابق ذكر في هذا الباب الخوف؛ ليدلّ على أن المحبة لا تكفي وحدها، لأن التعبُّد بالمحبة وحدها منهج الصوفية الضُلاّل، أما منهج الرسل وأتباعهم فإنه ينبني على المحبة والخوف والرجاء، محبة الله سبحانه مع خوفه ورجائه وغير ذلك من أعمال القلوب كالتوكُّل والرغبة والرهبة والخشية كل هذه من أعمال القلوب، وهي عباداتٌ عظيمة.
والخوف ثلاثة أنواع:
النوع الأول: خوف السر وهو الخوف الذي يكون معه عبادة لغير الله أو ترك لما أوجب الله. ومعناه: أن يخاف الإنسان من غير الله من الأصنام والأوثان وما عُبد من دون الله، من القبور والأضرحة، أو يخاف الشياطين والجن، ويتقرّب إليهم بما يحبون من الشرك بالله من أجل أن يسلَم من شرهم، فهذا شركٌ أكبر يُخرج من الملّة، والله سبحانه وتعالى ذكر عن خليله إبراهيم عليه السلام أنه قال: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً}، ثمّ قال بعد ذلك: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً} كأنهم توعّدوه بآلهتهم ومعبوداتهم أن تصيبه. فهذا ردٌّ عليهم، كيف لا تخافون من الله وأنتم تهدِّدونني بأن أخاف من معبوداتكم التي لا تُغني عني شيئاً، {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} هل هو أنا الذي أعبد الله وحده لا شريك له، أو أنتم الذين(14/258)
أشركتم؟.
ثمّ ذكر الله الحكم في ذلك فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ(82)} والظلم معناه هنا: الشرك، فبيّن أنّ الأمن إنما يحصل لأهل التّوحيد، وأما المشركون فليس لهم أمن، وليس لهم إلاَّ العذاب، هذا حكم من الله سبحانه وتعالى.(14/259)
ص -50- ... وكما ذكر الله عن نبيه هود أنّ قومه قالوا: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ}، يخوِّفون هوداً لَمّا دعا إلى التّوحيد وترك عبادة الأصنام يخوِّفونه بالأصنام أن تُصيبه ويهدِّدونه بها. {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ(54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ(55)} وهذا تحدِّ من فردٍ واحد يتحدّى أمة كاملة، وهذا من المعجزات.
ثمّ قال: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(56)} أعلن البراءة منها، وتحدّاها وتحدّى جميع الأمة التي تعبدها أن تكيده، وأن تصل إليه بسوء فلا يستطيعون، ثمّ علّل ذلك بقوله: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ}.
وكذلك المشركون قالوا لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ما ذكره الله عنهم بقوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}، فالمشركون يخوِّفون الرسول صلى الله عليه وسلم، بمعبوداتهم من دون الله فرد الله عليهم بقوله: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}.
فهذا النوع من الخوف يسمّى: خوف السر، وهو خوف العبادة، بأن يخاف من المعبودات التي تُعبد من دون الله عزّ وجلّ، فالمؤمن لا يخاف هذه المعبودات أبداً، لا يخاف من الأصنام، لا يخاف من القبور والأضرحة التي تُعبد من دون الله، لا يخاف من الشياطين والجن أن تصيبه إلاَّ بإذن الله سبحانه وتعالى، وكذلك الخوف من كل مخلوق أن يصيبه بما لا يقدر عليه إلاَّ الله سبحانه وتعالى من الإصابة بالمرض، أو قطع الرزق، أو غير ذلك، وهذا أحد أنواع الشرك الأكبر.
والآن عُباد القبور يهددون النّاس بهذه الأضرحة، ويقولون: الولي الفلاني يصيب من(14/260)
لم يخضع له ويعبده، يصيبه في نفسه أو في ولده، ثمّ الجهال ينخدعون بهذا التخويف، ويتقرّبون إلى هذه القبور وهذه الأضرحة بما يُطلب منهم، وغرض عُبّاد القبور والسَّدَنة: أكل أموال النّاس بالباطل، يهدِّدون النّاس إذا لم ينذروا لهذه القبور ولم يقرِّبوا لها شيئاً من الأموال، فأنها تصيبهم، أو تصيب زروعهم، أو تُصيب حروثهم، أو أولادهم، ثمّ الجهال يتقرّبون إلى هذه الأضرحة بأموالهم، ثمّ يأخذها هؤلاء السدنة وهؤلاء القائمون على هذه الأوثان ويقتسمون هذه الأموال،(14/261)
ص -51- ... فالشر باقٍ من قديم الزمان إلى آخر الزمان، وطريقة المشركين واحدة.
وأما أهل الإيمان فإنهم لا يخافون إلاَّ الله تعالى، لأنه هو الذي يملك النفع والضر، وهو الذي بيده الأمور، وأنه لا يصيب المؤمن إلاَّ ما قدّره الله له {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(51)}.
النوع الثاني من أنواع الخوف المذموم: أن يترك الإنسان ما أوجب الله عليه من الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوفاً من النّاس أن يؤذوه أو يضايقوه أو يعذِّبوه فيترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله وبيان الحق خوفاً من النّاس، فهذا شركٌ أصغر، وهو محرّمٌ، وقد جاء في الحديث: "أن الله يحاسب العبد يوم القيامة: لِمَ لَمْ تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟. فيقول: يا رب خشيتُ النّاس، فيقول: إيّايَ أحقُّ أن تخشى". ونعنى بذلك: القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقادر على الدعوة إلى الله، أما الذي لا يقدر -أو ليس عنده استطاعة- فهذا معذور.
النوع الثالث: الخوف الطبيعي، الذي ليس معه عبادة للمخوف ولا ترك لواجب. كأن يخاف الإنسان من العدو، أو من السَّبُع، أو من الحيَّة، ويخاف الإنسان من أعدائه، أو يخاف من السّباع، أو يخاف من الهوام، فهذا الخوف خوفٌ طبيعي لا يُلام عليه الإنسان لأنه ليس عبادة وليس تركاً لواجب، ولا يُؤاخذ عليه الإنسان. وموسى عليه السلام لَمّا تآمر عليه الملأ ليقتلوه وأُنذر أن يخرج من البلد {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(21)}.
ثمّ أورد الشيخ قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(175)} وهذه الآية بعد قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ(14/262)
جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ(173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ(174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(175)} وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لَمّا حصلَتْ وقعة أحد، وحصل على المسلمين ما حصل من الابتلاء والامتحان،(14/263)
ص -52- ... واستشهد من المسلمين من استُشْهد وانصرف المشركون إلى مكة أرادوا أن يُرعبوا المسلمين، فأرسلوا إليهم يهدِّدونهم ويقولون: إننا سنرجع إليكم، فنقضي على بقيّتكم، فلما بلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين قالوا: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} لم يؤثِّر عليهم هذا التهديد، وأمر صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يخرجوا وفيهم الجراح، وفيهم التعب بعد المعركة، فنهضوا مسرعين وخرجوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ونزلوا في مكان يُقال له: (حمراء الأسد) ينتظرون المشركين، فلما علِم المشركون بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخروج المسلمين أصابهم الرعب، وقالوا: ما خرجوا إلاَّ وفيهم قوة، فهربوا إلى مكة وألقى الله الرعب في قلوبهم لَمّا صدَق المسلمون وصبروا وتوكّلوا على الله، ولم يؤثّر فيهم تهديد هؤلاء: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} رجعوا إلى المدينة سالمين غانمين الأجر والثواب من الله سبحانه وتعالى، {لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} أي: ما أصابهم ما يكرهون، بل حصلوا على الأجر والثواب {وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}.
ثمّ قال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ} أي: الذي حصل من المشركين من التهديد إنما هو من الشيطان.
والمراد بالشيطان: إبليس اللعين الذي هو رأس الكفر.
{يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} أي: يخوِّفكم بأوليائه من الكفار، فالشيطان هو الذي خطّ هذه الخطة من أجل أن يخوِّفكم بأوليائه، يعني: المشركين، لأن المشركين أولياء الشيطان، كما أن المؤمنين أولياء الرحمن، كما قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(257)}.
فمعنى قوله تعالى:(14/264)
{يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} أي: يخوِّفكم أيها المسلمون بأوليائه من الكفّار.
ثمّ قال تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} لا تخافوا من الكفّار بل توكلوا على الله، وخافوا من الله، وفي الأثر: "من خاف الله خافه كلُّ شيء، ومن خاف غير الله أخافه من كلُّ شيء".
{فَلا تَخَافُوهُمْ} هذا نهيٌ من الله سبحانه وتعالى عن خوف أولياء الشيطان، ثمّ أمر بخوفه وحده سبحانه وتعالى.
ومن خاف الله فإن الله يكفيه ويعينه وينصره خلاف العكس: من خاف غير الله وترك طاعة الله من أجل خوف النّاس فإن الله يسلِّط عليه، فالواجب على المسلمين(14/265)
ص -53- ... وقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ(18)}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصادقين في إيمانهم: أن لا يخافوا إلاَّ الله سبحانه وتعالى، وأن لا يخافوا من أعدائهم بل يخافون من ربهم ويخافون من ذنوبهم، أما الكفار وغيرهم فإنهم عبيد، نواصيهم بيد الله سبحانه وتعالى، هو الذي يسلِّطهم، وهو الذي يكفُّهم فنحن لا نخاف من الكفار، وإنما نخاف من الله، ونخاف من عواقب الذنوب، فإذا خِفْنا الله وأصلحنا أعمالنا فإنّ أحداً لن يضرّنا إلاَّ بإذن الله سبحانه وتعالى.
وليس معنى ذلك: أن المسلمين لا يخافون من شر الكفّار ويتركون الأخذ بالأسباب الواقية، بل عليهم أن يستعدوا بالسلاح والقوّة والعُدّة التي يُرهبون بها عدو الله وعدوهم، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}، وأمر الله المسلمين في صلاة الخوف أن يحملوا معهم السلاح وهم في الصلاة، من أجل أن يدافعوا عن أنفسهم: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً}، وقال تعالى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ}، فالحِذْر وإعداد العُدّة للعدو أمرٌ مطلوب، إنما الممنوع: أن نخافهم الخوف الذي يمنعنا من الجهاد في سبيل الله ومن إعداد العدة، ومن(14/266)
الدعوة إلى الله، هذا هو الممنوع.
والشاهد من الآية: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} نهى عن خوف الكفّار وأولياء الشيطان خوفاً يمنع من الدعوة والجهاد في سبيل الله، والقيام بواجبات الدين، وأمر بخوفه سبحانه وتعالى.
فدلّ على أن الخوف عبادةٌ عظيمة، يجب أن تُخلص لله عزّ وجلّ.
ثمّ قال الشيخ رحمه الله: "وقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ(18)} هذه الآية بعد قوله تعالى: { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ(14/267)
ص -54- ... شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ(17)}.
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ} أي: لا يسوغ ولا في جوز للمسلمين أن يمكنوا المشركين من دخول المساجد لأجل أن يتعبّدوا فيها العبادة الشركية، ويدعوا غير الله فيها، فلا يجوز للمسلمين أن يمكِّنوا المشركين من إظهار الشرك في المساجد ولا أن يكونوا من عُمّارها والمتردِّدين عليها وهم يُعلنون الشرك بالله تعالى، لأن المساجد إنما بنيت لعبادة الله وإخلاص الدين له كما قال الله سبحانه وتعالى في المشركين: {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}، فالمشرك ليس له حقٌّ في مساجد الله سبحانه وتعالى لأن مساجد الله بيوت الله بُنِيَتْ لعبادة الله وحده لا شريك له ولم تُبْنَ لعبادة غيره، وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً(18)}.
وقوله: {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} هذا محل الشاهد من الآية للباب، أي: لم يخش من غير الله، لا من المعبودات، ولا من سائر المخلوقات، وإنما الخشية حقٌّ لله سبحانه وتعالى لا يجوز أن يُشرك معه فيها غيره، وهي عملٌ قلبي- من العبادات القلبية-. وهذا حصر للخشية لله سبحانه وتعالى، فلا يخشى الإنسان غير الله عزّ وجلّ، ومن خشيَ غير الله خشية العبادة فقد أشرك بالله. وهذا مثل قوله: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، فمن شرط الإيمان: إخلاص الخوف من الله، كذلك من شرط الإيمان: إخلاص الخشية من الله سبحانه وتعالى.
{فَعَسَى أُولَئِكَ} أي: الذين اتّصفوا بهذه الصفات: الإيمان بالله واليوم الآخر، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والخشية من الله وحده، {فَعَسَى} عسى حرف ترجٍّ، ولكنها من الله واجبة، لأنها وعدٌ من الله(14/268)
سبحانه وتعالى، والله لا يخلف وعده، ولهذا يقول العلماء: كلُّ "عسى" من الله فهي واجبة.
{أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} المهتدين إلى الحق، أما من لم يتّصف بهذه الصفات فليس من المهتدين، بل هو من الضالِّين.(14/269)
ص -55- ... وقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} الآية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثمّ قال: "وقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} هذه الآية في المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويُبطِنون الكفر.
فقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} يقول مجرّد قول ويدّعي، ما ليس له حقيقة.
{فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ} إذا جاء الامتحان، لأن المؤمنين يُمتحنون، ولا يتركون على قول: {آمَنَّا بِاللَّهِ}، فيظهر الصادق في إيمانه من الكاذب، قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ(2)} يعني: يُختبرون ويُمتحنون، {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ(3)}، فإذا قال: (آمنت بالله) فإنه يُمتحن، بأن يصاب بالأذى من الكفار والمنافقين والفُسّاق، فإن صبر وثبت على إيمانه وتحمّل الأذى في سبيل الله عزّ وجلّ، فهذا دليلٌ على صِدْق إيمانه. أما إنِ انْحرف وذهب مع الفتنة فإنّ هذا دليلٌ على نفاقه.
وموقف المنافقين في الشدائد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم معلوم، كموقفهم يوم غزوة الأحزاب ماذا كان. كان كما ذكر الله عنهم في قوله: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً(12)}، وفي وقعة أحد انصرفوا ورجعوا مع عبد الله بن أُبي وتركوا رسول الله والمسلمين. فالفتن تكشف المنافقين وتبيِّن الصادقين في إيمانهم، قال الله تعالى: {وَلَمَّا رَءا الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا(14/270)
اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً(22)}، فمواقف الفتن والشدائد هي التي تبيّن أهل الإيمان الصادق من النفاق الكاذب، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ}، فوقت الرخاء كلٌّ يقول: {آمَنَّا بِاللَّهِ}، ويتظاهر بالإسلام وبالدين، لكن إذا جاءت الفتن فالمنافق ينعزل، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} يعني: على طَرَف {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}.(14/271)
ص -56- ... فالفتن والشدائد والمواقف الصعبة هي التي تبيِّن الإيمان الصادق من النفاق، والله سبحانه وتعالى حكيمٌ عليمٌ يُجري هذه الابتلاءات وهذه الامتحانات وهذه الهزّات ليتبيّن أهلُ الإيمان الصادق من أهل النفاق: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ}، قال صلى الله عليه وسلم: "أشد النّاس بلاءً: الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) ثمّ الأمثل فالأمثل، يُبتلى المؤمن على حَسَب إيمانه"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله إذا أحبّ قوماً ابتلاهم" يعني: امتحنهم "فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فعليه السخط". والدنيا دار امتحان، ودار ابتلاء، وهذه سنة الله سبحانه وتعالى في خلقه أنه يبتلي العباد بعضهم ببعض، ويبتليهم بالمحن والشدائد والخوف {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ(155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ(157)}.
وقوله تعالى: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ} أي: ناله أذى بسبب إيمانه بالله.
{جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ} أي: أذاهم.
{كَعَذَابِ اللَّهِ} أي: مساوية لعذاب الله، مع الفرق العظيم، لأن فتنة النّاس زائلة ومنتهية وخفيفة، بخلاف عذاب الله- والعياذ بالله- فإن عذاب الله شديد وباق ومستمر، فهو سوّى بين الأمرين، وهذا من جهله وعدم إيمانه.
ومعنى هذا: أنه يُطاوع الكفار، فينسلخ من دينه، لأنه ليس له دين أصلاً وإنما تظاهر به، فإذا جاءت المحن انكشف وتبيّن أنه ليس في قلبه إيمان، أو كان في قلبه إيمان ضعيف، ثمّ زال، {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ(14/272)
مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} أي: إذا حصل للمسلمين فرج وحصل لهم خير قال: أنا معكم، أنا مسلم. أما إنْ حصل على المسلمين أذى وامتحان فإنه ينعزل ويصير مع الكفار ويطاوع الكفار. هذه مواقف المنافقين وضِعاف الإيمان عند الشدائد والمحن.
والشاهد من الآية: {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} أي: أنه يخشى النّاس ولا يخشى الله سبحانه وتعالى، فهذا هو موضع اللوم.(14/273)
ص -57- ... عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً: "إنّ من ضعف اليقين: أن ترضي النّاس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمُّهم على ما لم يؤتك الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال: "عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً" يعني: إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فالحديث المرفوع:
ما نُسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والحديث الموقوف: ما كان من كلام الصحابي، والحديث المرسل: ما نسبه التابعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
"إنّ من ضعف" بفتح الضاد ويجوز الضم: والضَعف ضدّ القوة.
"اليقين" واليقين هو أعلى درجات العلم.
"أن ترضي النّاس بسخط الله" هذا من ضعف اليقين، وهذا مثل ما ذكر في الآية: {جعل فتنة النّاس كعذاب الله}، فمن أرضى النّاس بما يُسخط الله إذا طلبوا منه ذلك إرضاءً للناس بما يُسخط الله من المخالفات والمعاصي، فهذا من ضعف اليقين، لأنه لو كان يقينه قويًّا لكان العكس، فكان يُرضي الله سبحانه وتعالى بسخط النّاس. أما إذا جاء العكس فأرضى النّاس بسخط الله، فهذا من ضعْف اليقين.
"وأن تَحْمَدَهم على رزق الله" أي: ومن ضعف اليقين: أن تَحْمَدَ النّاس على رزق الله، إذا جاءك رزق وجاءك خير تنسب هذا إلى النّاس وتحمدهم عليه، مع أن الرزق من الله سبحانه وتعالى، فالواجب: أن تحمد الله لا أن تحمد النّاس، إنما تحمد الله عزّ وجلّ لأنه هو الرزّاق، وإذا كان لأحدٍ من النّاس تسبُّب في هذا الرزق، فإنّ هذا المتسبِّب يُشكر على قدْر ما فعل، لا أن يُنسب الرزق إليه، وإنما يُشكر على قدر سعيه وعلى ما بذل من السبب فقط، مع الاعتراف أن الرزق من الله، وتعتقد أن هذا الشخص إنما هو سبب فقط، وفي الحديث: "من لا يشكر النّاس لا يشكر الله"، وفي الآخر: "من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تُرَوْا أن قد كافأتموه"، فالنّاس إنما تجري على أيديهم أسباب يُشكرون عليها ويُدعى لهم، أما أن(14/274)
يُنسب الرزق إليهم، ويقال: هذا من فلان، فهذا كفرٌ بنعمة الله سبحانه وتعالى ومن ضعف اليقين، لأن القوي اليقين يعتقد أن الأرزاق بيد الله، فيكون الحمد المطلق لله عزّ وجلّ.
"وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله" يعني: إذا سعيت تطلب شيئاً محبوباً من أمور الدنيا ولم يحصل لك فلا تذمّ النّاس، لأن هذا بيد الله، لو شاء الله لحصل لك، والنّاس ليس بيدهم شيء، وإنما هذا بيد الله، لو أراد هذا لحصل لك، فكونه لم(14/275)
ص -58- ... إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يحصل لك هذا دليل على أن الله لم يُرده لك، فعليك أن ترضى، وربما يكون امتناع هذا الشيء عنك في صالحك، وأنت لا تدري ماذا تكون الخيرة، فأنت تبذل السبب فإن حصل المطلوب فالحمد لله ، وإن لم يحصل المطلوب فإنك ترضى عن الله سبحانه وتعالى وتحمده وتحاسب نفسك عن التقصير، وتعلم أنك ما حُرمت هذا الشيء إلاَّ لأحد أمرين: إما لأنك مقصِّرٌ في حق الله سبحانه وتعالى، وأن الله حرَمك هذا الشيء بسبب ذنوبك ومعاصيك، أو أن الله سبحانه وتعالى منعه لمصلحتك، وأنه لو جاءك سبّب لك شرًّا، هذا موقف المؤمن عندما لا يحصل له مطلوبه.
ثمّ قال: "إن رزق الله لا يجُرُّه حرص حريص، ولا يَرُدُّه كراهية كاره"، مهما حرِص الإنسان وحرصت الواسطة التي عمدها، فالحرص لا يجلب لك المطلوب إذا لم يقدِّره الله سبحانه وتعالى.
"ولا يردُّه كراهية كاره" لو أراد الله لك شيئاً فلو اجتمع أهل الأرض أن يمنعوه لم يستطيعوا كما قال صلى الله عليه وسلم: "واعلم أن النّاس لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلاَّ بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضرُّوك لم يضروك إلاَّ بشيء قد كتبه الله عليك".
إذا علِّق قلبك بالله سبحانه وتعالى وأحسِن المعاملة مع الله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}.
وهذا هو حقيقة التّوحيد؛ أن يكون العبد معتمداً على الله ومتوكِّلاً على الله، ويعتقد أن النّاس مجرّد أسباب، والأسباب إن شاء الله نفعتْ وإنْ شاء لم تنفع، فلا يجعل(14/276)
الحمد والذم للناس، وإنما يجعل الحمد لله سبحانه وتعالى، وإذا لم يحصل له مطلوبه فليصبر وليعلم أن ما قُدِّر له لا بد أن يكون فليحمد الله أيضاً.
وليس معنى ذلك أن الإنسان لا يحرص على طلب الخير، قال صلى الله عليه وسلم: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله"، فجمع بين الأمرين: الحرص والاستعانة. فالحرص ليس مذموماً، وإنما المذموم: الاعتماد على الحرص واعتقاد أنه يحصل به المطلوب.
وحديث أبي سعيد رواه أبو نعيم في "الحلية"، ورواه البيهقي، وهو حديث ضعيف، ولكنّ الشيخ رحمه الله من قاعدته أن لا يذكر الحديث الضعيف إلاَّ إذا كان له ما يؤيِّده، وهذا الحديث تؤيِّده الآية التي قبله وهي قوله تعالى: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ(14/277)
ص -59- ... وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من التمس رضا الله بسخط النّاس رضيَ الله عنه وأَرْضى عنه النّاس، ومن التمس رضا النّاس بسخط الله سخِط الله عليه وأسخط عليه النّاس" رواه ابن حبان في "صحيحه".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ}، "إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله".
فالشيخ رحمه الله قد يذكر بعض الأحاديث الضعيفة إذا كان لها ما يؤيِّدها من القرآن أو من السنّة.
وهذه قاعدة معروفة عند أهل العلم.
قوله: "وعن عائشة رضي الله عنها أدن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من التمس" إلخ" لحديث عائشة رضي الله عنها هذا قصة، وهي: أن معاوية رضي الله عنه لَمّا وَلِيَ المُلْك كتب إلى أم المؤمنين يطلُب منها النصيحة، لأنها زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندها من العلم الشيء الغزير الذي حملته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي فقيهة النساء فكتبت إليه: "السلام عليكم، أما بعد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من التمس رضا الله بسخط النّاس رضي الله عنه وأرضى عنه النّاس، ومن التمس رضا النّاس بسخط الله سخِط الله عليه وأسخط عليه الناس".
هذا الحديث إذا سار عليه الحكّام وغير الحكّام حصل الخير الكثير، فهو منهج عظيم، وهذه الكلمات اليسيرة منهج تسير عليه الأمة، حُكّامها ومحكوموها، الراعي والرعية، ولذلك نصحت به عائشة معاوية رضي الله عنهما، وهذا من فقهها رضي الله عنها حيث اختارت هذا الحديث لمعاوية لأنه وال وإمام، فهو بحاجة إلى هذا الحديث ليجعله منهجاً له في سياسة المُلْك.
وهذا الحديث فيه: أن الإنسان يقدِّم خشية الله على خشية النّاس، ويقدِّم رضى الله على رضى النّاس، كالحديث الذي قبله.
فإذا جمعتْ هذه الآيات وهذه الأحاديث دلّتْ على أن الخوف عبادة يجب إفراد الله تعالى بها، ونعني بالخوف النوع الأول الذي هو خوف(14/278)
العبادة الخوف الذي يترتب عليه العمل بطاعة الله وترك معصية الله، أما الخوف المعكوس الذي تترتب عليه معصية الله لإرضاء النّاس، فهذا مذموم.
ودلّ حديث أبي سعيد -كما يقول الشيخ في مسائله- على أن اليقين يقوى ويضعُف، بدليل قوله: "إن من ضعف اليقين".(14/279)
ص -60- ... [ الباب الثالث والثلاثون:]
* باب قول الله تعالى:
{وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التوكل هو: التفويض، فالتوكل على الله: تفويض الأمور إليه سبحانه، وهو من أعظم أنواع العبادة.
ومناسبة هذا الباب لكتاب التّوحيد: أنه لَمّا كان التوكل على الله عبادةً لله عزّ وجلّ وجب إخلاصه لله وترك التوكُّل على مَن سواه، لأن العبادة حقٌّ لله، فإذا صُرفت لغيره صار ذلك شركاً؛ فالتوكُّل على غير الله شرك- كما يأتي بيانه وتفصيله-.
وهذا الكتاب المبارك ألّفه الشيخ رحمه الله لبيان التّوحيد وبيان الشرك؛ فالتوكلُّ على الله وحده توحيد، والتوكُّل على غيره شرك.
فهذا مناسبة هذا الباب لكتاب التّوحيد.
قوله رحمه الله: "بابُ قول الله" أي: تفسير هذه الآيات؛ فهذا الباب يبيَّن فيه تفسير هذه الآيات الكريمات.
فقوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} هذه الآية في سورة المائدة في قصة موسى عليه السلام مع قومه لَمّا قال لقومه: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ} يعني: أرض فلسطين، ليخلِّصوها من الوثنيين لأنها كانت بيد الوثنيِّين، وموسى عليه السلام أُمر بالجهاد لنشر التّوحيد ومحاربة الشرك والكفر بالله وتخليص الأماكن المقدَّسة من قبضة الوثنييِّن، وهذا من أغراض الجهاد في سبيل الله.
{الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} لأن الله كتب أن المساجد والأراضي المقدَّسة للمؤمنين من الخلق من بني إسرائيل وغيرهم، {كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} شرع أن تكون الولاية عليها للمؤمنين، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ(105)}، فالوِلاية على المساجد خصوصاً المساجد المبارَكة وهي المسجد الحَرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى وسائر المساجد(14/280)
تكون الولاية عليها للمؤمنين، ولا يجوز أن يكون للكفار والمشركين من الوثنيِّين والقبوريِّين سلطة على مساجد الله سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ(14/281)
ص -61- ... بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ(17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}، وهذا سبق في الباب الذي قبل هذا.
قال تعالى في المسجد الحرام: {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.
فمساجد الله- خصوصاً المساجد الثلاثة- يجب أن تكون الولاية عليها للمسلمين، ولا يكون للمشركين عليها سلطة، ويجب على المسلمين أن يجاهدوا حتى يخلِّصوا هذه المساجد من أيدي المشركين.
فموسى عليه السلام خرج ببني إسرائيل يريد تخليص بيت المقدس، ولكن بني إسرائيل كانوا قوماً جبناء: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} يقال كان فيها حينذاك قبيلة يقال لها: العماليق، كانوا شِداداً في خلقهم أقوياء، {وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا} وهذا منتهى المهانة ومنتهى السُّخرية، لأن الكفار ليسوا بخارجين إلاَّ بالجهاد والجلاد والاستشهاد في سبيل الله.
{قَالَ رَجُلانِ} يعني: من بني إسرائيل من أهل الرأي والإيمان والعزيمة.
{مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} يخافون الله سبحانه وتعالى.
{أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا} أنعم الله عليهما بالإيمان والعزيمة الصادقة.
{ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} يعني: اعزموا واهجموا عليهم حتى يروا منكم القوة، فإذا رأوا منكم القوة فإنهم يخرجون.
{فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} لا شك أنه إذا حصل هجوم صحيح ودخل المجاهدون عليهم الباب أنه سيقع الرعب في قلوبهم ويخرجون منها، لكن هذا لا يكون إلاَّ من أهل الإيمان وأهل الصدق والعزيمة والبأس كما في رجال محمد صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يجاهدون ويهجمون على الكفار ويقتحمون الأبواب ويخاطِرون بأنفسهم.
وأيضاً فإنه لا(14/282)
يكفي دخول الباب، بل {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فهذا لا يحصل إلاَّ بالعزيمة الصادقة، والإقدام في سبيل الله، وتقديم النفس في سبيل الله، مع التوكُّل على الله وعدم الاعتماد على القوة، بل يعتمد على الله مع الأخذ بالقوة المناسبة.(14/283)
ص -62- ... وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا محل الشاهد من الآية؛ حيث قدّم المعمول وهو الجارّ والمجرور {وَعَلَى اللَّهِ}، وأخّر العامل وهو {تَوَكَّلُوا} ممّا يفيد الحصْر، أي: توكّلوا على الله ولا تتوكّلوا على غيره.
ففيه: وجوب إخلاص التوكُّل على الله عزّ وجلّ، وأنه سببٌ من أسباب النصر على الأعداء مثل قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(5)} قدّم المعمول وأخّر العامل، أصله: نعبدك ونستعين بك، ولكن قدّم المعمول وهو الضمير المنفصل {إِيَّاكَ} في الموضعين على العامل {نَعْبُدُ} و {نَسْتَعِينُ} ليفيد الحصر أي لا نعبد إلاَّ إياك ولا نستعين بغيرك، وهذا هو الإخلاص والتّوحيد.
قال: "وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية" أي: إذا خُوِّفوا بالله خافوا، وإذا ذكّروا بالله تذكّروا، وإذا قيل لهم: {اتَّقُوا اللَّهَ} خافوا من الله عزّ وجلّ وأشفقوا من عذابه، إذا وُعظوا وذُكِّروا فإنهم يخشون الله سبحانه وتعالى، بخلاف الذين قال الله تعالى فيهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ}، وقوله تعالى: {وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ(13)}، وقوله تعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى(10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى(11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى(12)}، وقال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ(55)}، فإن المؤمن ينتفع بالموعظة والتذكير ويخاف من الله سبحانه وتعالى إذا ذُكِّر به وخُوِّف به، وهذه علامة الإيمان؛ أما المنافق فهو وإن ادّعى الإيمان فإنه إذا ذُكِّر بالله ازداد عُتُوًّا ونفوراً وازداد طُغياناً فتأخذَه العزّة بالإثم.
{وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ} القرآنية(14/284)
{زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} وهذه علامة الإيمان؛ أن المؤمن إذا تُليت عليه آيات الله وسمع القرآن يزيد إيمانه ويقينه، وينتفع بالقرآن الكريم، خلاف المنافق؛ فإنه إذا تُليَ عليه القرآن لا يستفيد منه شيئاً، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ(125)}.
{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} هذا محل الشاهد من الآية للباب، فهي مثل الآية التي قبلها: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا}.(14/285)
ص -63- ... وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} الآية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهنا يقول: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} قدم المعمول أيضاً وهو الجار والمجرور على العامل وهو {يَتَوَكَّلُونَ} ليُفيد الحصر، وبيان أن التوكّل عبادة يجب إفراد الله سبحانه وتعالى فيها، ولا يجوز التوكُّل على غير الله؛ لأن من توكّل على غير الله فقد أشرك.
وقد جعل سبحانه التوكل شرطاً في صحة الإيمان؛ فقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، فمن توكّل على غير الله فليس بمؤمن.
قال: "وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} الآية" هذا خطاب من الله سبحانه وتعالى لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم.
فقوله: "يا أيها النبي" ناداه بصفته الكريمة: {النَّبِيُّ}، والله تعالى لم يناد محمداً باسمه أبداً في القرآن بل يقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ}، فيناديه باسم النبوة وباسم الرسالة تكريماً وتشريفاً له صلى الله عليه وسلم.
أما الإخبار عنه فإن الله يذكره باسمه، كقوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ}، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}، فهذا من باب الإخبار، فإذا جاء باب الإخبار يأتي باسمه صلى الله عليه وسلم، وإذا جاء بالنداء فيناديه بصفاته الكريمة: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ}، {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ}.
ولذلك: عاب الله على الأعراب الذين وقفوا على الحُجُرات وقالوا: يا محمد؛ اخرج إلينا، قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ(2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ(14/286)
الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ(3)}، ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ(4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(5)} فيجب التأدُّب مع الرسول صلى الله عليه وسلم حيًّا وميِّتاً.
قوله: {حَسْبُكَ اللَّهُ} {حَسْبُكَ} يعني: كافيك، فالحسب هو: الكافي.
{وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي: وحسب من اتبعك من المؤمنين؛ فالـ (واو) عاطفة، {وَمَنِ اتَّبَعَكَ} معطوف على ضمير المخاطَب المضاف إليه في قوله:(14/287)
ص -64- ... وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} الآية.
عن ابن عبّاس قال: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، قالها إبراهيم عليه السلام حين أُلْقيَ في النار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{حَسْبَكَ}: حسبك وحسب من اتّبعك، فحَذف المضاف في الكلمة الثانية اعتماداً على ما جاء في الأولى من باب الاختصار والإيجاز؛ فقوله: {وَمَنْ} (الواو) عاطفة و {مَن} في محل جر، عطف على ضمير المخاطَب المضاف إليه في قوله: {حَسْبُكَ}، هذا هو الصواب الذي رجّحه الإمام ابن القيّم وأبطل ما سواه، فليس {وَمَنِ اتَّبَعَكَ} معطوف على الله، فيكون مرفوعاً.
ومحل الشاهد من الآية: {حَسْبُكَ اللَّهُ}، فإذا كان حسبك الله فيجب التوكُّل على الله سبحانه وتعالى والاعتماد عليه سبحانه وتعالى وحده. لأنه يكفي من توكّل عليه، كما في الآية التي بعدها وهي قوله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} أي: يفوِّض أمره إلى الله ويعتمد على الله فإن الله حسبه، أي: كافيه جميع الأمور.
أما من لم يتوكّل على الله فإن الله يَكِلُه إلى من اعتمد عليه كما في الحديث: "من تعلّق شيئاً وُكِل إليه"؛ فمن تعلّق بالله كفاه، ومن تعلّق بغيره خذله الله ووكله إلى ضعيف.
قوله: "{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}" أي: لا على غيره.
"{فَهُوَ}" أي: الله سبحانه وتعالى.
"{حَسْبُهُ}" أي: كافيه.
فهذا فيه: ثمرة التوكُّل على الله سبحانه وتعالى، وأن الله يكفي من توكّل عليه، ومن كان الله كافيه فإنه هو الرابح والمفلح في الدنيا والآخرة، ولا يخاف من غيره أبداً، إنما يخاف من الله سبحانه وتعالى.
قال: "وعن ابن عباس" هو: عبد الله بن عباس، حَبْرُ الأمة، وترْجُمان القرآن.
"قال: "{حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}" قالها إبراهيم عليه السلام حين أُلْقيَ في النار، وقالها محمدٌ صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: {إِنَّ(14/288)
النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} الآية" هذه كلمة عظيمة قالها الخليلان: إبراهيم ومحمد- صلى الله عليهما وسلم-(14/289)
ص -65- ... وقالها محمدٌ صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} الآية"رواه البخاري والنسائي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في أضيق الأحوال وأحرج المواقف، وهكذا الأنبياء عند تأزُّم الأمور؛ لا يعتمدون إلاَّ على الله سبحانه وتعالى، ولا يلجئون إلاَّ إليه، وتزيد رغبتهم في الله عند الشدائد، ويُحسنون الظن بالله سبحانه وتعالى دائماً وأبداً.
فالأنبياء وأتباعهم لا يعتمدون إلاَّ على الله، خصوصاً عند المضائق وتأزُّم الأمور؛ يتوكّلون على الله ولا يضعُفون أو يخضعون لغير الله سبحانه وتعالى، أو يتنازلون عن شيء من عقيدتهم ودينهم أبداً.
قوله: "قالها إبراهيم عليه السلام حين أُلقيَ في النار" إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعثه الله في قوم وثنيِّين في أرض (بابل)، يعبدون الكواكب، ويبنون لها الهياكل، وينحتون الأصنام التي على صورها، وكان أبوه يصنع الأصنام، ويبيعها على النّاس ويأكل من ثمنها.
فبعث الله إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- في هذه الأمة الوثنية يدعوها إلى التّوحيد وإخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى، ويُنكر عليهم عبادة الأصنام، وبدأ بأبيه وقال: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً(43) يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ}، انظر التلطُّف، يكرِّر: يا أبت، يا أبت. وهكذا الداعية يتلطّف بالمدعو، كما قال تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى(44)}، لا يأتيه بعنف وقسوة وشدة، ويقول: هذا غَيْرة لله.
"حين ألقي في النار" أي: قال هذه الكلمة حينما ألقاه قومه في النار انتصاراً لآلهتهم، فقال الله للنار: {كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى(14/290)
إِبْرَاهِيمَ}.
والشاهد في قوله: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، فهذا فيه: التوكُّل على الله سبحانه وتعالى، وبيان ثمراته، وأن ثمرة التوكُّل على الله حوّلت النار إلى برْدٍ وسلام على إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
فهذا فيه: فضيلة هذه الكلمة، وثمرة التوكُّل على الله سبحانه وتعالى.
قوله: "وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} الآية" لَمّا حصلت غزوة بدر في السنّة الثانية من الهجرة، وانتصر(14/291)
ص -66- ... المسلمون فيها، وقتلوا صناديد الكفُار ورؤساءهم، وغَنِموا أموالهم؛ عند ذلك تشاور المشركون في مكة بقيادة أبي سفيان بن حرب، وأرادوا غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم انتقاماً لرؤسائهم الذين قُتلوا في بدر، ولآبائهم ولأموالهم التي أُخذت، فاجتمعوا بقيادة أبي سفيان بن حرب، وجاءوا بجيوش عظيمة -ونزلوا عند أحد، وهو الجبل الذي يقع شمالي شرق المدينة، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه بعد التشاوُر معهم: هل يخرج إليهم، أو يبقى في المدينة؟.
فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يميل إلى البقاء في المدينة، وهو رأي عبد الله بن أُبي، ولكنّ الصحابة الذين لم يحضروا بدْراً ندِموا ندامة شديدة وعزَموا على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرج إليهم ليخرجوا كما خرج إخوانهم في بدر، ليستدركوا ما حصل وما فات عليهم في بدر.
فالرسول صلى الله عليه وسلم نزل على رغبة هؤلاء الصحابة وخرج، وخرج المسلمون معه، ورجع عبدالله بن أبي المنافق مع جماعة من المنافقين، وانخذل من العسكر.
فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم بأصحابه وعسكر عند أحد، ونظّم أصحابه، وجعل جماعةً من الرُّماة على الجبل ليحموا ظهور المسلمين أن يأتيهم الكفّار من الخلف.
ثمّ دارت المعركة وصار النصر للمسلمين، فصاروا يجمعون المغانم، فلما رأى الذين على الجبل أن أصحابهم يجمعون المغانم ظنوا أن المعركة قد انتهتْ؛ أرادوا النزول من الجبل ليشاركوا في جمع الغنائم، فمنعهم قائدهم عبد الله بن جُبَيْر، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهم: "لا تتركوا الجبل سواء انتصرنا أو هُزمنا"، ولكنهم رضي الله عنهم اجتهدوا ونزلوا من الجبل، وأما رئيسهم فبقي طاعةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما رأى خالد بن الوليد- وكان يومَ ذاك على الشرك- الجبل قد فرغ، وكان قائداً محنَّكاً يعرف السياسة الحربية؛ دار بمن معه من كتيبة الخيل، وانقضّوا على المسلمين من خلف ظهورهم،(14/292)
والمسلمون لم يشعروا، فدارت المعركة من جديد، وعاقب الله المسلمين بسبب هذه المخالفة التي حصلتْ من بعضهم والعقوبة شملت المخالفين وغير المخالفين، لأن العقوبة إذا نزلت تَعُمّ، قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}.(14/293)
ص -67- ... فدارت المعركة من جديد، وأصاب المسلمين ما أصابهم من القرْح، واستُشهد منهم سبعون من خيار الصحابة من المهاجرين والأنصار، وعلى رأسهم حمزة بن عبد المطّلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم أصابه ما أصابه؛ فكُسِرتْ رَباعيّته، وشُجَّ في رأسه، وسقط في حفرة، وأُشيع أنه قد مات. فأصاب المسلمين مصيبة عظيمة، ولكن أهل الإيمان لا يتغيّر موقفهم ولا يتزحزح أبداً مهما بلغ الأمر، لا تضعُف عزيمتهم، اجتمعوا حول الرسول صلى الله عليه وسلم يَذُبُّون عنه، ويحمونه من سهام المشركين، والمعركة لا تزال مستمرة، والرسول مشجوج، والمِغْفَر قد هشم على رأسه صلى الله عليه وسلم.
ثمّ انتهت المعركة، وأُعلن أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم لم يُقتل، فحينئذ فرح المسلمون فرحاً شديداً، واغتاظ المشركون غيظاً شديداً.
فانصرف المشركون إلى مكّة، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يدفنوا الشهداء، وأن يدفنوا الاثنين والثلاثة في قبرٍ واحد، لكثرة الأموات، ولضعف المسلمين في هذه الحالة، فدفنوهم في مكان الشهداء المعروف عند أحد، وحملوا الجرْى إلى المدينة.
ولَمْا وصلوا إلى المدينة جاءهم مندوب من أبي سفيان بأنه سيعيد الكرّة عليهم، ويرجع عليهم ويستأصل بقيّتهم، فما زادهم ذلك إلاَّ إيماناً، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم الذين خرجوا معه إلى أُحُد أن يخرجوا ولا يخرج معهم غيرهم، فخرجوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم بجراحهم ونزلوا في مكان يقال له: (حمراء الأسد)- قريب من المدينة - ينتظرون الكفّار.
لما بلغ أبا سفيان ومن معه أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج في أَثَرهم وفي طلبهم أصابهم الرعب، وقالوا: ما خرجوا إلاَّ وفيهم قوة. فمضوا إلى مكة خائفين من الرسول صلى الله عليه وسلم، ورجع المسلمون إلى المدينة سالمين.
وأنزل الله سبحانه وتعالى قوله: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا(14/294)
أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ(172) )الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}.
هذا قول أبي سفيان أننا نأتي ونقضي على بقيّتهم {فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا(14/295)
ص -68- ... اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * )فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ(174)}.
هذه ثمرات التوكُّل على الله سبحانه وتعالى، وهذه ثمرات الاعتماد على الله، كما صارت النار برْداً وسلاماً على إبراهيم؛ صارت هذه المعركة وهذه التخويفات برداً وسلاماً على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقه الباب وما يُستفاد من النصوص، وذلك في مسائل:
المسألة الأولى: يؤخَذ من هذه الآيات وأثر ابن عباس رضي الله عنهما أن التوكُّل على الله عبادة يجب إخلاصها لله سبحانه وتعالى، وأن التوكُّل من أعظم أنواع العبادة.
المسألة الثانية: التوكُّل على غير الله فيما لا يقدر عليه إلاَّ الله شركٌ أكبر، كالذين يتوكّلون على الأصنام، أو على أصحاب القبور، أو على الأولياء والصالحين في جَلْب الأرزاق، ودفع المضار، وشفاء المرضى، وغير ذلك.
المسألة الثالثة: يؤخَذ من هذه النصوص: أنّ التوكُّل على الله شرط في صحّة الإيمان لقوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ...} إلى قوله تعالى: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}؛ فدلّ على أن التوكل على الله شرطٌ لصحّة الإيمان.
المسألة الرابعة: يُؤْخذ من هذه النصوص: أن الإيمان يزيد وينقص كما هو مذهب أهل السنّة والجماعة خلافاً للمرجئة الذين يقولون: الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص.
وهذه مسألة عظيمة معروفة عند أهل السنّة والجماعة، ومن أدلتها: هذه الآية: {زَادَتْهُمْ إِيمَاناً}، فدلّ على أن الإيمان يزيد، وإذا كان يزيد فهو ينقص، لأن كل شيء يزيد فهو ينقص، فمن لازِم الزيادة النُّقصان.
وكما في قوله تعالى: {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا(14/296)
فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بِضْعُ وسبعون شُعبة، أعلاها: قولُ: "لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق" دلّ على أن الإيمان يتفاوت، منه ما هو أعلى ومنه ما هو دون ذلك.(14/297)
ص -69- ... وقال صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"دلّ على أن الإيمان يضعُف.
وفي الحديث الآخر: "أنه يُخرج من النار من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان" فدلّ على أن الإيمان ينقص حتى يصير كوزن الحبة من الخردل، وأنه يزيد حتى يكون كالجبال.
فالإيمان يزيد وينقص، هذا مذهب أهل السنّة والجماعة، وفي ذلك أيضاً رَدٌّ على الخوارج والمعتزلة الذين يكفّرون بالذنوب الكبائر.
المسألة الخامسة: في الحديث دليلٌ على وجوب الأخذ بالأسباب مع التوكُّل على الله سبحانه؛ لأنه لَمّا ذكر التوكُّل على الله ذكرت الأعمال، فقال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(3)}، فالتوكُّل على الله لا يكفي، لا بد من الأعمال الصالحة، لا بد من الصلاة والصيام والحج والجهاد في سبيل الله، وفعل الأسباب التي تنفع مع التوكُّل على الله سبحانه وتعالى.(14/298)
ص -70- ... [الباب الرابع والثلاثون:]
* باب قول الله تعالى:
{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ(99)}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب وضعه المصنف رحمه الله في "كتاب التّوحيد" لأن الأمن من مكر الله والقنوط من رحمته ينقِّصان التّوحيد، ويُنافيان كماله، وهذا الكتاب كله في موضوع التّوحيد ومكمِّلاته وبيان مناقضاته ومنفِّصاته.
ومكر الله سبحانه وتعالى هو: إيصال العقوبة إلى من يستحقُّها من حيث لا يشعر. وهو عدلٌ منه سبحانه وتعالى، والله تعالى يقول: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ(54)}، وقال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ(50)}؛ فالمكر في حق الله سبحانه وتعالى عدل وجزاء يحمد عليه.
أما المكر من المخلوقين فهو مذموم لأنه بغير حق.
والمكر من الله نظير الاستهزاء: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ(15)}، ونظير السخرية: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ}، ونظير الكيد: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً(15) وَأَكِيدُ كَيْداً(16)}، ونظير النسيان في مثل قوله: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}.
فهذه أمور تُنسب إلى الله جل وعلا لأنها من باب المقابلة والجزاء، فهي عدلٌ منه سبحانه وتعالى حيث إنه ينزِّلها فيمن يستحقُّها، فهي عدلٌ منه سبحانه؛ بخلاف هذه الصفات من المخلوقين فإنها مذمومة لأنها في غير محلها ولأنها ظلمٌ للمخلوقين.
قوله تعالى: "{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ}" هذه الآية في سِياق ما ذكره الله عن الأمم الكافرة التي أحلّ الله بها عقوباته من قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، الذين ذكرهم الله في سورة الأعراف، ثمّ قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ(14/299)
وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ(94)}، {بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} الشدائد من الجوع والخوف والقحط وغلاء الأسعار، يفعل الله ذلك بهم لعلهم يدعونه، ولعلهم يرجعون إلى الله ويتوبون، ويعلمون أن ما أصابهم بسبب ذنوبهم؛ لكنهم لم يرجعوا.
ثمّ إن الله سبحانه استدرجهم بالنعم، لَمّا لم يرجعوا عند النِّقَم استدرجهم(14/300)
ص -71- ... بالنعم قال تعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ} أي: بدل الشدة والجوع والخوف، بـ {الْحَسَنَةَ} وهي: الغناء والسَّعَة والثروة؛ استدراجاً من الله سبحانه لهم.
{حَتَّى عَفَوْا} يعني حتى كثروا وزادت قوتهم ونموا وصار لهم قوة واغتروا بهذه النعمة؛ فهم لم يتوبوا عند النقمة ولم يشكروا عند النعمة.
{وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} قالوا: هذه الأمور تجري عادة، مرّة رخاء ومرّة شدة، لم يُرْجِعوا الأمر إلى الله سبحانه وتعالى ويعلموا أن ما أصابهم من العقوبات يسبب ذنوبهم وأن ما أصابهم من النعمة فهو فضلٌ من الله؛ بل نسبوا هذا إلى العادة.
{فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} هذا هو المكر، وهو: أن الله أخذهم في مأمنهم حيث لم يتوقعوا العقوبة.
وفي هذا تحذير لنا من الله سبحانه وتعالى أننا لا نغتر بهذه النعم، وهذه الثروات، وهذه السَّعَة؛ فنغفلُ عن شكر الله عزّ وجلّ، ولا نعمل بطاعة الله، ولا نخاف من العقوبة ومن زوال هذه النعم.
ثمّ قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(96)}؛ فالنعم إذا كانت مع المعاصي فهي استدراج، وإذا كانت مع الطاعات فإنها نعمةٌ من الله تعالى وعون على طاعته.
ثمّ قال تعالى: "{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ}" هذا استنكار من الله سبحانه وتعالى على من يغترّ بالنعم وينسى العقوبة أن يأخذهم على غِرّة وهم آمنون منعَّمون، ثمّ ينقلهم من النعمة إلى النِّقْمة، ومن الصحة إلى الألم والمرض، ومن الوجود إلى العدم.
{فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ} أي: لا يأمن عقوبة الله التي تنزل على خُفْية ومن غير تأهُب ومن غير توقع لها.
{إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} الذين حقّتْ عليهم الخسارة التي لا رِبْح معها أبداً(14/301)
ولا نجاة منها أبداً.
والشاهد في قوله: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ} فهو استفهام إنكار على من يقع منه مثل ذلك.(14/302)
ص -72- ... وقوله: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فالأمن من مكر الله يستلزم عدم الخوف من الله سبحانه وتعالى، كما يستلزم الاستمرار في المعاصي والزيادة منها، ويستلزم ترك التوبة والرجوع إلى الله عزّ وجلّ. وهذه حالة الأشقياء من الخلق.
والأمن من مكر الله ينافي التّوحيد؛ لأنه يدل على عدم الخوف من الله عزّ وجلّ.
قال: "وقوله: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ}"هذا استفهام إنكار من الله سبحانه وتعالى، وهو بمعنى النفي، أي: لا أحد يقنط من رحمة ربه.
"{إِلَّا الضَّالُّونَ}" التائهون عن الحق.
وهذه الجملة قالها إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- لَمّا جاءته الملائكة في صورة أضياف يريدون إهلاك قوم لوط، وكان إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- كريماً مِضْيافاً، فلما جاءه هؤلاء الرجال بادر إلى ضيافتهم وجاء بعجل حنيذ -وفي آية أخرى بعجل سمين، وقرّبه إليهم، لكنهم لم يأكلوا لأنهم ملائكة، والملائكة لا يأكلون؛ فإبراهيم خاف أنهم أعداء، لكنهم طمأنوه، وأخبروه بمهمتهم، وأنهم جاءوا لإهلاك هذه القرية.
وزادوه -أيضاً- بالبشرى بالولد، وكان لا يُولد له فاستبعد ذلك وقالوا له: {فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ}.
"{قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ(56)}" هذا محلّ الشاهد، أي: لا أحد يقنط من رحمة ربه "{إِلَّا الضَّالُّونَ}" عن الحق؛ لأن المؤمنين -وخاصّة الأنبياء- يعلمون من قدرة الله سبحانه وتعالى وفضله وإحسانه ما لا يعلمه غيرهم، ويعلمون من قُرب رحمته وفرجه ما لا يعلمه غيرهم.
هذا إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء يقول: "{وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}" مهما كانتِ الحال من الشدّة ومن الضيق ومن الحرج؛ فإن المؤمن لا يقنط من رحمة الله، لأن الله قادرٌ على كل شيء، لا يعجزه شيء، وهو أرحم الراحمين.
ففي(14/303)
هذه الآية: أن الذي يقنط من رحمة ربه يكون من الضالين، والضلال ضدُّ الهدى.
وفي هاتين الآيتين: مشروعية الجمع بين الخوف والرجاء؛ فالخوف في قوله:(14/304)
ص -73- ... "{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ(99)}"، وفي الآية الثانية: "{وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}" ففيهما وجوب الرجاء وعدم القنوط من رحمة الله؛ فيجب الجمع بينهما، بأن يكون خائفاً راجياً، لا يكون خائفاً فقط، لأن هذا يقنِّطه من رحمة الله سبحانه وتعالى، ولا يكون راجياً فقط، لأن هذا يؤمِّنه من مكر الله؛ فإذا خاف الإنسان وقنِط من رحمة الله لم يتب، وإذا أمِن من مكر الله فإنه لا يترُك المعاصي بل يزيد منها.
ولهذا يقول العلماء: "من عبد الله بالخوف فقط فهو حروري"، يعني: من الخوارج، لأن الخوارج وعيديّة يأخذون بآيات الوعيد -والعياذ بالله-، ويخرجون العاصي من الإسلام ويخلِّدونه في النار، وهذا يأس من رحمة الله، نسأل الله العافية.
"ومن عبد الله بالرجاء فقط فهو مرجئ" لأن المرجئة هم الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فطريقة الخوارج فيها يأسٌ من رحمة الله، وطريقة المرجئة فيها أمنٌ من مكر الله.
أما أهلُ السنّة والجماعة فإنهم يجمعون بين الخوف من عذاب الله، مع رجاء رحمة الله؛ فالخوف يمنعهم من المعاصي، ورجاء رحمة الله يحملهم على التوبة والاستغفار والندم على ما حصل منهم؛ هذه طريقة أهل السنّة والجماعة وكما قال الله تعالى في الأنبياء: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} {رَغَباً وَرَهَباً} الرغب هو الرجاء، والرهب هو الخوف؛ يعني: يجمعون بين الخوف والرجاء، وكما في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً(57)}، {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} يجمعون(14/305)
بين الأمرين بين الخوف والرجاء.
قال أهل العلم: "فيجب على المؤمن أن يكون معتدلاً بين الخوف والرجاء، لا يرجو فقط حتى يأمن من مكر الله، ولا يخاف فقط حتى ييأس من رحمة الله، بل يكون معتدلاً".(14/306)
ص -74- ... وعن ابن عبّاس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر؟، فقال: "الإشراك بالله، واليأس من رَوْح الله، والأمن من مكْر الله ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويقولون: "الخوف والرجاء للمؤمن كجناحي الطائر، إذا اعتدلا استطاع الطيران في الجو، وإذا اختلّ واحدٌ منهما سقط فلا يستطيع الطيران"، كذلك المؤمن، إذا تعادل فيه الخوف والرجاء استطاع السير إلى الله سبحانه وتعالى، وإذا اختلّ أحدُ الركنين اختلّ إيمانه.
قوله: "وعن ابن عبّاس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر؟" أي: عن الذنوب الكبائر؛ جمع كبيرة وهي: العظيمة.
فقال: "الإشراك بالله" هذا اكبر الكبائر. فأكبر الكبائر: الإشراك بالله عزّ وجلّ، وهو: عبادة غير الله بأيِّ نوع من أنواع العبادة وأيًّا كان هذا المعبود صنماً أو شجراً أو حجراً أو حيًّا أو ميِّتاً أو قبراً أو غير ذلك.
وهذا هو الذي لا يُغفر إلاَّ بالتوبة، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، وهذا هو الذي يحبط الأعمال جميعها، قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
قوله صلى الله عليه وسلم: "واليأْس من رَوْح الله" هذا مثل قوله تعالى: "{وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}"؛ فالقنوط من رحمة الله من أكبر الكبائر، لأن فيه إساءة ظنٍّ بالله سبحانه وتعالى، ولأنه يحمل صاحبه على عدم التوبة لأنه يقول: لا يغفر الله لي وإن تبت، والله سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا(14/307)
تُنْصَرُونَ(54)}: توبوا إلى الله عزّ وجلّ؛ والتوبة تَجُبُّ ما قبلها مهما كان الذنب الشرك والكفر وقتل النفس والزنا وشرب الخمر وأكل الربا؛ فالتوبة لا يبقى معها ذنب إذا كانت توبة صحيحة، والتائب من الذنوب كمن لا ذنب له: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}، فالكفّار إذا كانوا يُغفر لهم ما قد سلف فكيف بُعصاة المؤمنين إذا تابوا؟، هم أولى بالمغفرة؛ فعَفْوُ الله أعظم من ذنوبهم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "والأمن من مكر الله" أي: ومن أكبر الكبائر: الأمن من مكر الله،(14/308)
ص -75- ... وعن ابن مسعود قال: "أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله "رواه عبد الرزّاق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أي: من عقوبته عند المعصية من حيث لا يشعر. والغفلة عن طاعة الله سبحانه وتعالى.
وهذا الحديث رواه البزّار وغيره.
وبعضهم يرى أنه من كلام ابن عبّاس، وأنه موقوف، وبعضهم يضعِّفه.
وقد ذكرت لكم أن الشيخ رحمه الله إذا ذكر مثل هذا الحديث الذي في سنده مقال لا يذكره إلاَّ وقبله أو بعده ما يؤيِّده من الآيات أو الأحاديث التي يسوقها في الباب.
وهذا الحديث تؤيِّده الآيتان السابقتان: "{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ(99)}"، "{وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}"، وكذلك الآيات التي في التحذير من الشرك وأنه أكبر الكبائر.
فالحديث هذا وإن كان في سنده مقال إلاَّ أنه تؤيِّده الأدلة الصحيحة، خصوصاً ما ذكره المؤلف رحمه الله من هاتين الآيتين، وبعضهم أثنى على سنده، فهو ليس مُجْمَعاًَ على ضعفه.(14/309)
قال: "وعن ابن مسعود قال: "أكبر الكبائر" هذا فيه دليل على أن الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر والكبائر تختلف، بعضها أكبر من بعض كما في الحديث: أن النبي سُئل أيُّ الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله نِدًّا وهو خلقك"، قلت: ثمّ أيٌّ؟ قال: "أن تقتُل ولدك خشية أن يَطْعَم معك"، قلت: ثمّ أيٌّ؟، قال: "أن تُزانيَ بحليلة جارك".
فهذه أعظم الكبائر: الشرك بالله، وقتل النفس التي حرّم الله إلاَّ بالحق، ولاسيّما قتل القريب، مثل: قتل الابن. كذلك: الزنا بحليلة الجار، فالزنا محرّم عموماً، وهو كبيرة، ولكن الزنا بحليلة الجار أشد من الزنا بغيرها لحرمة الجيرة، ومِصْداق ذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً(68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً(69) إِلَّا مَنْ تَابَ}.
وقوله: "والأمن من مكر الله" سبق معنى الأمن من مكر الله.(14/310)
ص -76- ... .....................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"والقنوط من رحمة الله" هذا سبق أيضاً معناه.
"واليأس من رَوْح الله" القنوط واليأس متقارِبان، وكلاهما فيه استبعادٌ لرحمة الله عزّ وجلّ وسوءُ ظنٍّ بالله عزّ وجلّ.
"واليأس من روح الله" قال الله سبحانه وتعالى على لسانه نبيه يعقوب عليه السلام: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}، أما المؤمنون فلا ييأسون من روح الله مهما بلغ بهم الكرب والشدة؛ لعلمهم بالله عزّ وجلّ وأسمائه وصفاته، وقُرب فَرَجِه، وقُرب رحمته من عباده؛ فهم لا ييأسون من رَوْح الله مهما اشتدت بهم الخُطوب، وضاق بهم الحال. بل كلما اشتد الخطب عظم رجاؤهم بالله.
ومواقفهم معروفة، كموقف إبراهيم عليه السلام، وموقف يعقوب لَمّا فقد أولاده الثلاثة، وموقف أيّوب عليه السلام الذي بلغ منه الضُّرُّ مبلَغاً شديداً، لم ييأسوا من رحمة الله.
ومحمد صلى الله عليه وسلم لَمّا أُخْرِجَ هو وصاحبه أبو بكر يوم الهجرة واختفيا في الغار، وجاء المشركون في طلبهما، ووقفوا على الغار والرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر تحت أقدامهم، يقول أبو بكر: يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لأبصرنا، قال: "يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما؟"، فأعمى الله أبصارهم ولم يروا رسول الله وصاحبه، كما قال تعالى: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(40)}.
ولَمّا خرج(14/311)
إلى الطائف يدعوهم إلى الله، وردّوا عليه ردًّا قبيحاً، وأغروا عبيدهم وسفاءهم برميه بالحجارة، هو ومولاه زيد بن حارثة؛ ورجع وأهل مكة كلهم أعداء له؛ فجاء من الطائف وقد قابلوه أسوأ مقابلة، وأهل مكة -أيضاً- خرج منهم لشدّة أذاهم، فقال له مولاه زيد بن حارثة: يا رسول الله، كيف ترجع إليهم وهم قد أخرجوك، قال: "يا زيد، إن الله جاعلٌ لِمَا ترى فرجاً ومخرَجاً".
هكذا مواقف أنبياء الله -عليهم الصلاة والسلام-، لا ييأسون مهما بلغ الأمر ومهما بلغت الشدة لعلمهم برحمة الله عزّ وجلّ وقدرة الله عزّ وجلّ وعلم الله عزّ وجلّ بحالهم وأنه(14/312)
ص -77- ... لا تخفى عليه خافية ولا تخفى عليه أحوالُ عباده أبداً، ولكنه يبتليهم ويمتحنهم ليكفِّر عنهم سيِّئاتهم وليختبر إيمانهم وليعظُم رجاؤهم بالله عزّ وجلّ وليتوبوا إلى الله عزّ وجلّ. وله الحكمة في ذلك سبحانه وتعالى.
قوله: "رواه عبد الرزاق" عبد الرزاق بن هَمَّام الصنعاني، الإمام الجليل، شيخ العلماء والمحدِّثين، روى عنه: الإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهوَيْه، وغيرهما من كبار الأئمة- رحمهم الله-.
وقوّى إسناد هذا الحديث: ابن جرير الطبري.
فهذه النصوص في هذا الباب يُستفاد منها الأحكام التالية:
أولاً: تحريم الأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله، وأنهما ينقِّصان كمال التّوحيد وقد ينافيان التّوحيد.
ثانياً: أنه يجب على المسلم أن يجمع بين الخوف والرجاء، فلا يخاف فقط ولا يرجو فقط، وإنما يكون خائفاً راجياً دائماً وأبداً، هذا هو التّوحيد، وهو صفة أولياء الله.
ثالثاً: في هذه النصوص أن المعلِّم والداعية يبدأ بالأهم فالأهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لَمّا أراد أن يعلِّم أصحابه الكبائر بدأ بأهمها وهو الشرك بالله عزّ وجلّ، لأن الشرك أكبرُ الكبائر فبدأ به، ثمّ ذكر بعده الأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله.
رابعاً: في الحديثين: أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر، وقد عرّف العلماء الكبيرة بأنها: "ما رُتِّبَ عليها حدٌّ في الدنيا، أو وعيدٌ في الآخرة، أو خُتم بغضب، أو لعنة، أو نار، أو تبرّأ النبي صلى الله عليه وسلم من صاحبها، بأن قال: "ليس منا من فعل كذا"، أو نفى عنه الإيمان كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن". هذه ضوابط الكبيرة.
أما الصغائر فهي ما ليس كذلك مما حرّمه الله ونهى عنه، ولم يصل إلى حدّ الكبيرة.
ولكن لا يحمل هذا الإنسان على أنه يتساهل بالصغائر، لأن الصغائر إذا تُسوهِل بها جرَّتْ إلى الكبائر؛ والصغيرة تعظُم حتى تكون(14/313)
كبيرة مع الإصرار؛(14/314)
ص -78- ... فلا يُتساهل فيها؛ لكن: ليست الذنوب على حدٍّ سواء، بل هي فيها صغائر وفيها كبائر. والصغائر تسمى اللَّمَم، كما قال الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ}.
والصغائر تكفَّر بالأعمال الصالحة، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} يعني: الصغائر.
وقال صلى الله عليه وسلم: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفّارات لِمَا بينهن إذا اجْتُنِبَتِ الكبائر".
فالصغائر تُكَفَّر بالأعمال الصالحة، أما الكبائر فإنها لا تكفَّر إلاَّ بالتوبة، إلاّ إذا شاء الله أن يعفوَ عن صاحبها وهي دون الشرك فإنها قابلة للعفو من الله سبحانه وتعالى؛ فهي تكفَّر إما بعفو الله وإما بالتوبة، بخلاف الشرك فإنه لا يكفَّر إلاَّ بالتوبة، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.(14/315)
ص -79- ... [الباب الخامس والثلاثون:]
* بابٌ مرا الإيمان بالله الصبر على أقدار الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مناسبة هذا الباب لكتاب التّوحيد: أن الصبر على أقدار الله من مكمِّلات التّوحيد، وأنّ عدم الصبر على أقدار الله يكون من منقِّصات التّوحيد؛ وهذا الكتاب المبارك صنفه الشيخ في بيان التّوحيد ومكمِّلاته وفي بيان منافياته ومنقِّصاته.
فقوله: "بابٌ" مرفوع على أنه مبتدأ محذوف تقديره: هذا بابٌ.
"من الإيمان بالله" أي: من خصال الإيمان بالله، ومن شعب الإيمان بالله عزّ وجلّ: الصبر على أقداره سبحانه وتعالى، أي: أن ذلك يدخل في الإيمان بالله، الذي هو أول أركان الإيمان الستة.
والإيمان- كما عرّفه أهل السنّة والجماعة-: "قول باللسان، وعمل بالأركان" يعني: الجوارح "واعتقاد بالجَنان" يعني: بالقلب "يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية". هذا هو الإيمان.
"الصبر على أقدار الله" الصبر لغة: الحبْس، قال الله تعالى لنبيه: {وَاصْبرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} أي: احبسها مع هؤلاء.
وأما في الشرع فالصبر هو: حبس النفس على طاعة الله سبحانه وتعالى وترك معصيته.
وذكر العلماء: أن الصبر له ثلاثة أنواع: صبرٌ على طاعة الله، وصبرٌ عن محارم الله، وصبرٌ على أقدار الله المؤلِمة.
فالأول: صبرٌ على طاعة الله: بأن يؤدي الإنسان ما أمر الله تعالى به؛ وإن كان فيه مشقّة عليه، وإن كانت نفسه تريد الراحة؛ فإنه يصبر، فيقوم للصلوات الخمس، ويقوم لصلاة الفجر ويترك النوم، ويقوم لصلاة الليل ويترك النوم، ويصوم ويترك الطعام والشراب، ويترك الأهل؛ طاعة لله سبحانه وتعالى، ويجاهد في سبيل الله ويصبر على الجراح وعلى الآلام وعلى ملاقاة الأعداء، ويصبر على طاعة الله سبحانه وتعالى، لأن الطاعة لابد فيها من تعب.
الثاني: صبرٌ عن محارم الله: فيتجنّب ما نهى الله تعالى عنه، والنفس تنازعه تريد الشهوات المحرَّمة، فهو يصبر على(14/316)
حبسها عنها وإمساكها عنها، وإن كانت(14/317)
ص -80- ... تنازعه وتدعوه، وكذلك شياطين الإنس والجن يدعونه ويرغِّبونه ويحسِّنون له القبيح، لكن يمسك نفسه ويحبسها عن محارم الله.
والثالث: صبرٌ على أقدار الله المؤلِمة: فإن أصابه مرض أو أصابته مصيبة في ماله أو ولده أو في قريبه فإنه يصبر ولا يجزع. هذا من الإيمان بالله، قال- تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ(156)}، يعرفون أن هذا من الله، وأنه بقضاء الله وقدره؛ فلا يجزعون ولا يتسخّطون.
أما أقدار الله غير المؤلمة التي تلائم النفس فهذه لا تحتاج إلى صبر، لأن النفس تميل إليها.
وهذا النوع الأخير- الصبر على أقدار الله المؤلمة- ذكروا أنه ثلاثة أنواع - أيضاً-:
النوع الأول: حبس النفس عن الجزع.
والنوع الثاني: حبس اللسان عن التشكِّي لغير الله سبحانه وتعالى.
والنوع الثالث: حبس الجوارح عن لطم الخدود وشقِّ الجيوب.
ويقول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: "الصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد؛ فلا إيمان لمن لا صبر له"، ويقول الإمام أحمد رحمه الله: "وجدت أنّ الله ذكر الصبر في القرآن في تسعين موضعاً"؛ مما يدلّ على أهميّته، وعلى عِظَم شأنه.
فالصبر له مقامٌ عظيمٌ في الدين، ولابد للمؤمن من الصبر لِمَا يواجه في هذه الحياة من المشاكل ومن المشاق والصعوبات لكنه يصبر عليها طاعة لله سبحانه وتعالى.
وقوله: "على أقدار الله" أقدار جمع قدر، والقدر: ما قضاه الله سبحانه وتعالى في خلقه، فإن كلَّ شيء يجري في هذا الكون فإنه مقدَّر، ليس هناك شيء يجري بدون تقدير الله سبحانه وتعالى؛ فالله علِمه وقدّره وكتبه ووقّته بوقت يحدُث فيه، فإنه سبحانه وتعالى أول ما خلق القلم قال له: "اكتب"، قال: ما أكتب؟ قال: "اكتب ما هو كائنٌ إلى يوم القيامة"، فكتب في اللوح المحفوظ كلَّ شيء؛ فما من شيء يجري إلاَّ وهو مقدّرٌ من الله سبحانه وتعالى ومؤقّتٌ(14/318)
بوقت لا يتقدّم عليه ولا يتأخّر عليه ومكتوب في اللوح المحفوظ.
والإيمان بالقضاء والقدر أحد أركان الإيمان الستّة. كما قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم:(14/319)
ص -81- ... وقول الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}.
قال علقمة: "هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلِّم".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أخبرني عن الإيمان؛ قال: "الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"؛ فجعل الإيمان بالقدر ركناً من أركان الإيمان؛ والله تعالى يقول: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ(49)}، وكما في "الصحيح": "قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء". فما من شيء يجري في هذا الكون من صغير أو كبير إلاَّ وقد قدّره الله سبحانه وتعالى.
قال: "وقول الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}"هذا بعض آية من سورة التغابُن، وأولها قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(11)}.
فقوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ} يعني: أن جميع المصائب التي تنزل بالنّاس من أول الخليقة إلى آخرها، فإن الله قدّرها، ليس هناك مصيبة تحدُث في العالم إلاَّ وقد قّدرها الله سبحانه وتعالى.
{إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي: بقضائه وقدره؛ لأن إذن الله على نوعين:
إذنٌ قدري كوني، مثل قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي: بتقديره ومشيئته.
والنوع الثاني: الإذن الشرعي، مثل: قوله تعالى: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} أي: بشرعه.
قوله: "قال: علقمة" هو: علقمة النخعي التابعي من كبار التابعين، وأحد النَّخَعييِّن الثلاثة الذين هم: علقمة والأسود وإبراهيم من تلاميذ ابن مسعود.
ومعنى قوله: "هو الرجل تصيبه المصيبة" يعني: تنزل به المصيبة، إما في نفسه وإما في ماله وإما في(14/320)
ولده وإما في أهله وإما في أقاربه، فلا يجزع، ولكن يعلم أنها من عند الله، يعلم أن الله قد قدّرها وقضاها، وما قضاه الله وقدّره فلابد أن يقع، فلا يقول: لو أني فعلت كذا، لو أني عملت كذا ما نزلت بيَ المصيبة. فالمؤمن(14/321)
ص -82- ... وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اثنتان في النّاس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يعلم هذا فيهون عليه الأمر، يعلم أنها من عند الله فيرضى بقضاء الله، ولا يجزع ولا يسخط، ويسلِّم لله عزّ وجلّ، ولقضاء الله وقدره.
وقد سمّى الله هذا التسليم وهذا الرضى إيماناً، فقال: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ} يعني: يرضى بقضاء الله ويسلِّم له، وهذا هو الشاهد: إن الله سمى الصبر على المصيبة والرضى بقضاء الله وقدره إيماناً.
{يَهْدِ قَلْبَهُ} فثمرة الرضاء بقضاء الله والصبر والاحتساب: هداية قلبه، لأن الله يجعل في قلبه الإيمان والبصيرة والنور، وهذه ثمرة الصبر على قضاء الله وقدره.
أما الذي يجزع فإن ذلك يسبِّب العكس، يسبِّب عمى قلبه، واضطراب نفسه، فهو يكون دائماً في اضطراب وقلق. أما المؤمن فهو مرتاح، من هذا كله.
فدلّت الآية على مسائل عظيمة:
المسألة الأولى: أن المصائب كلها بقضاء الله وقدره.
المسألة الثانية: أن الرضى بها والصبر عليها من خصال الإيمان، لأن الله سمّاه إيماناً.
المسألة الثالثة: أنّ ذلك يُثمر هداية القلب إلى الخير وقوة الإيمان واليقين.
قال: وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اثنتان من النّاس" إلخ.
قوله صلى الله عليه وسلم: "اثنتان" يعني: خَصْلتان.
"في النّاس" في بني آدم حتى ولو كانوا مسلمين فإنه يوجد في بعض المسلمين بعض خصال الجاهلية وبعض خصال الكفر الذي لا يخرج من الملة.
" هما بهم كفر" هو كفر أصغر، لأن الكفر إذا نُكِّر فإنه يُراد به: الكفر الأصغر، أما إذا عُرِّف بـ (الألف واللام) فإنه يُراد به: الكفر الأكبر، كما في قوله: "بين العبد وبين الكفر والشرك: تركُ الصلاة"، وليس كلُّ من قام به خصلة من خصال الكفر يكون كافراً خالصاً، وإنما يكون فيه خصلة من خصال الكفر، كما(14/322)
أنه(14/323)
ص -83- ... ولهما عن ابن مسعود مرفوعاً: "ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليس كلُّ من فيه خصلة من خصال النفاق يكون منافقاً خالصاً، وإنما تكون فيه خصلة من خصال النفاق.
فالخصلة الأولى: "الطعن في النسب" تقدم الكلام عليه في باب سابق.
والخصلة الثانية: "النِّياحة على الميِّت" والنياحة معناها: إظهار الجَزَع على الميت، كما كان أهل الجاهلية يفعلونه.
والمطلوب والواجب: الصبر على موت الأقارب أو موت الأحباب.
ولا يمنع هذا أن الإنسان يتألّم ويبكي، فالبكاء لا مانع فيه، والنبي صلى الله عليه وسلم بكى على ابنه إبراهيم، وقال: "إن العين تَدْمَع، والقلب يحزن، ولا نقول إلاَّ ما يُرضي الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون". وهذا من الرحمة، وأيضاً هذا لا يستطيع الإنسان حبسه.
فالآية دلّت على أن الصبر والرضى من خصال الإيمان، والحديث دلّ على أن الجزع من المصيبة وإظهار الجزع أنه من خصال الكفر؛ فهما متضادّان.
قال: ولهما عن ابن مسعود مرفوعاً "ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب" إلخ.
قوله: "ولهما" أي: البخاري ومسلم.
"عن ابن مسعود مرفوعاً" أي: إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
"ليس منا" هذه الكلمة كثيراً ما تأتي عن الرسول صلى الله عليه وسلم على معاص تصدُر من النّاس من باب التحذير منها، مثل قوله: "من غشّنا فليس منا"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من تشبّه بغيرنا"، ومنه هذا الحديث.
وهذه الكلمة "ليس منا" معناها: البراءة ممّن فعل ذلك، ولكن ليس معناها أنه يخرُج من الإسلام، وإنما معناها: التنفير من هذا العمل. وأحسن ما يُقال فيها: أنها من ألفاظ الوعيد، ولا تُفسّر، لكن مع اعتقاد أنّ هذا لا يدل على الخروج من الدين لأدلّة أخرى دلَّت على أن أصحاب الكبائر التي دون الشرك لا يخرجُون من الدين.(14/324)
ص -84- ... والنياحة من الكبائر، لكنها دون الشرك؛ فلا تُخرِج من الدين.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "من ضرب الخدود" ضرب الخدود جزعاً من المصيبة كفعل الجاهلية. لأن المشروع الصبر، وهذا عكسه، وهذا من باب الغالب.
"وشَقَّ الجيوب" أي: جيوب الثياب؛ جزعاً من المصيبة.
"ودعا بدعوى الجاهلية"يعني: نادى عند المصيبة بالألفاظ التي تقولها الجاهلية، والمراد بالجاهلية: ما كان قبل بِعْثة الرسول صلى الله عليه وسلم في وقت الفترة. فلا يجوز أن نقول بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم: النّاس في الجاهلية، أو النّاس في جاهلية جهلاء. هذا لا يجوز أبداً، لأن الله رفع الجاهلية ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن: قد تبقى خصالٌ من خصال الجاهلية، فيقال- مثلاً-: هذا من الجاهلية، وهذا من خصال الجاهلية. وليس مَنْ قام به خصلة من خصال الجاهلية يكون من أهل الجاهلية. فلا يجوز إطلاق الجاهلية بعد بِعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن دعوى الجاهلية: أن يتلفّظ بألفاظ الجاهلية، كأن ينادي وبقول: واعضداه، وانصيراه، واكذا وكذا. وكذا إثارة العصبيات والقوميات والحزبيات، وما إلى ذلك. كل ذلك من دعوى الجاهلية. وكذا التعصب للأقوال والمذاهب التي لا دليل عليها.
قال ابن القيِّم رحمه الله: "المراد بدعوى الجاهلية: كل من تعصّب إلى مذهب، أو تعصّب إلى قبيلة".
فالعصبية الجاهلية والنخوة الجاهلية كلُّه يدخل في دعوى الجاهلية، فلا يجوز للمسلم أنه يتعصّب لأحد العلماء أو لأحد المذاهب ولا يقبل غير هذا المذهب أو لا يقبل غير هذا الرجل من العلماء، فهذه عصبية جاهلية. أو يتعصّب لقبيلته إذا كانت على خطأ، كما يقول الشاعر:
وهل أنا إلاَّ من غَزِيّة إنْ غَوَتْ ... غَوَيْتُ وإن تَرْشَد غزية أَرْشَد(14/325)
والواجب على المسلم: أن يَتْبع الحق سواء كان مع إمامه أو مع غيره، وسواء كان مع قبيلته أو مع غيرها، والله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}.(14/326)
ص -85- ... وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أراد الله بعبده الخير عجّل له بالعقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فلا تجوز العصبية للمذاهب، ولا تجوز العصبية للأشخاص، ولا تجوز العصبية للقبائل، وإنما المسلم يَتْبَع الحق مع من كان، ولا يتعصّب، ولا يترك الحق الذي مع خصمه. فالمسلم يدور مع الحق أينما كان، سواءً كان في مذهبه، أو مع إمامه، أو مع قبيلته، أو حتى مع عدوه. والرجوع إلى الحق خيرٌ من التمادي في الباطل، والله تعالى يقول: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "قل الحق ولو كان مُرًّا".
قال: "وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أراد الله" إلخ".
قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله بعبده الخير" أي: من علامة إرادة الله بعبده الخير: أن يعجِّل له العقوبة على ذنوبه؛ لأن الذنوب تصدُر من الإنسان بكثرة، ليس هناك أحدٌ معصوم إلاَّ الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فيما عصمهم الله منه، "كلكم خطّاء وخير الخطّائين التوّابون"؛ والإنسان تصدُر منه ذنوب كثيرة ومخالفات؛ فإذا أراد الله بعبده خيراً عجّل له العقوبة على هذه المعاصي في الدنيا حتى يطهِّره، وحتى ينتقل إلى الدار الآخرة ليس عليه ذنوب فيدخل الجنة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه" فلا تنزل به عقوبة، مع أنه يعصي ويزني ويخالف أوامر الله سبحانه وتعالى، ومع هذا يُنَعَّم ويُصَحّ في جسمه، ولا يمرض. وهذه علامة شر، من أجل أن تبقى عليه ذنوبه.
"حتى يوافي به يوم القيامة" يعني: يرجع إلى الله في الدار الآخرة وذنوبه عليه لم يُحَطُّ عنه منها شيء، فيعذَّب بها يوم القيامة، فدلّ هذا على أن صحّة الإنسان الدائمة ليستْ علامة خير.
ودلّ هذا على أن الخير والشر كلُّه(14/327)
مقدَّرٌ من الله سبحانه وتعالى وبقضاء الله وقدره، وهو قدّر الشر لحكمة وقدّر الخير لحكمة لا يقدِّر شيئاً إلاَّ لحكمة عظيمة، ابتلاءً وامتحاناً.(14/328)
ص -86- ... وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن عِظَم الجزاء من عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم؛ فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط"حسّنه الترمذي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن عظم الجزاء" إلخ.
قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم" هذا حديث آخر، والمؤلف رحمه الله قرن بينهما لأن راويهما واحد وهو أنس، والذي خرّجهما واحد وهو الترمذي، فلذلك ساقهما المصنِّف سياقاً واحداً.
"إن عِظَم الجزاء" أي: عند الله سبحانه وتعالى.
"مع عِظَم البلاء" وذلك أن المبتَلى إذا صبر ورضيَ بقضاء الله وقدره فإن الله يجزيه على ذلك الخير العاجل والآجل، فيجزيه الجزاء العظيم آجِلاً وعاجلا ًكما قال تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، وهذا مع الصبر والاحتساب.
والمراد بالبلاء هنا: الابتلاء والامتحان، فيصاب الإنسان بالشدّة، ويصاب بالمرض ويصاب بضياع المال ويصاب بموت القريب. ومن النّاس من تتكاثر عليه المصائب وتتابع، وهذه علامة خير إذا كان مؤمناً وصبر.
وقوله:هذه- أيضاً- حِكمة أخرى، وهِي: أن وجود الابتلاء والامتحان الذي يصيب المسلمين د "وإن الله تعالى ذا أحبَّ قوماً ابتلاهم" ليلٌ على محبة الله لهم، ولَمّا أحبهم ابتلاهم من أجل أن يخفِّف عنهم، ومن أجل أن ينتقلوا إليه وهم مخلِّصون من الذنوب.
ومفهوم الحديث: أن الله إذا لم يحب قوماً يُمسك عنهم الابتلاء، من أجل أن ينتقلوا إلى الآخرة بذنوبهم فيعاقَبون عليها.
"فمن رضي" بقضاء الله وقدره "فله الرضا" من الله سبحانه وتعالى. وهذا دليل على أنّ الجزاء من جنس العمل.
"ومن سخِط" على قضاء الله وقدره "فله السخط" من الله سبحانه وتعالى جزاءً وفاقاً.
فهذا فيه دليل على أن الجزاء من جنس العمل، ران من رضي بالقضاء والقدر، وصبر على المصائب؛ فإن الله يرضى عنه ويحبُّه، وأن من(14/329)
لم يرضَ بالقضاء والقدر فإن الله يبغضه.(14/330)
ص -87- ... وهذه المصائب إنما هي ابتلاء وامتحان ليظهر الصابر من غير الصابر، وليترتّب الجزاء على ذلك من الله سبحانه وتعالى.
فيُستفاد من هذه النصوص التي ساقها المصنِّف فوائد كثيرة:
الفائدة الأولى: أن جميع المصائب بقضاء الله وقدره: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}.
الثانية: أن الرضى بقضاء الله وقدره من الإيمان: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ} يعني: يرضى ويصبر، سمى ذلك إيماناً.
الثالثة: أن الإيمان له خصال، منها: الرضى بقضاء الله وقدره، وكما قال صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بِضْعٌ وسبعون شُعبة أعلاها: قولٌ لا إله إلاَّ الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شُعبةٌ من الإيمان".
الرابعة: أن الرضى بقضاء الله وقدره يسبِّب هداية القلوب: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}.
الخامسة: يُستفاد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الطعن في الأنساب والنياحة على الميّت من خصال الجاهلية.
السادسة: أنه ليس كلُّ من اتّصف بشيء من أمور الجاهلية يكون كافراً الكفر الأكبر.
السابعة: أن الكفر أنواع؛ كفرٌ أكبر يُخرج من الملة، وكفرٌ أصغر لا يُخرِج من الملّة.
الثامنة: يُستفاد من حديث ابن مسعود: أن شق الحبوب ولطم الخدود ودعوى الجاهلية أنها كبائر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم تبرأ ممّن فعلها.
التاسعة: فيه أنه يجب على المسلم الابتعاد عن خصال الجاهلية، وأنّ كل ما كان من أمور الجاهلية فهو مذموم.
العاشرة: في حديث أنس رضي الله عنه: وصفُ الله سبحانه وتعالى بالرضى والسخط؛ وهما صفتان من صفاته سبحانه وتعالى تليقان بجلاله، ليس كرضى المخلوق ولا كسخط المخلوق.
الحادية عشرة: في حديث أنس الأول: أنّ من علامة إرادة الخير بالمؤمن: أن(14/331)
ص -88- ... يُصاب في بدنه أو في ماله أو في قريبه، وأن من علامة إرادة الشر به: أن يُمسك عنه فلا يقع به مصيبة حتى يوافي بذنوبه؛ ومن هنا يؤخذ الرد على هؤلاء الذين يقولون: المسلمون لا يزالون متخلِّفين وفيهم تأخُّر، وفيهم..، وفيهم..، وفيهم المصائب. وأما الكفّار فإنهم عندهم تقدُّم وحضارة ورُقي وأسلحة، وإلى آخره. فهذا الحديث يبيِّن أنّه ليست السلامة من المصائب والسلامة من النَّكَبات دليلٌ على رضى الله سبحانه وتعالى، وإنما هذا من باب الاستدراج لهم: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}، وأما المسلمون فإنهم يصابون بهذه الأمور ليكفِّر الله بها عنهم، ومن أجل أن يحاسبوا أنفسهم ويرجعوا عن أخطائهم.(14/332)
ص -89- ... [الباب السادس والثلاثون:]
* بابُ ما جاء في الرياء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قول الشيخ رحمه الله: "باب ما جاء في الرياء" أي: ما جاء فيه من الوعيد، وبيان أنه شرك يحبط العمل الذي خالطه.
ومناسبة هذا الباب لكتاب التّوحيد: أنّ فيه بيان نوعٍ من أنواع الشرك الأصغر، وذلك أن هذا الكتاب صنّفه الشيخ رحمه الله في بيان التّوحيد وبيان ما يضادُّه من الشرك الأكبر أو ينقِّصه من الشرك الأصغر.
ولَمّا كان الشرك على نوعين: شركٌ ظاهر، وشرك خفي.
فالشرك الظاهر هو: ما يكون في الأعمال الظاهرة كالذي يذبح لغير الله أو ينذر لغير الله أو يستغيث بغير الله إلى غير ذلك من أنواع الشرك الأكبر الذي يراه النّاس ويسمعونه.
أما النوع الثاني وهو: الشرك الخفي، فهذا لا يراه النّاس ولا يعلمونه؛ لأنه في القلوب.
فالشرك الأول يكون في الأعمال الظاهرة، وهذا في النيّات والمقاصد القلبية التي لا يعلمها إلاَّ الله سبحانه وتعالى. فلهذا عقد له الشيخ رحمه الله هذا الباب.
فكلُّ ما سبق من أنواع الشرك فهو من الشرك الظاهر، ولهذا يقول العلاّمة ابن القيم رحمه الله:
والشرك فاحذره فشرك ظاهر ... ذا القسم ليس بقابل الغفران
وهو اتّخاذ النِّدِّ للرحمن أيًّا ... كان من حجر ومن إنسان
يدعوه أو يرجوه ثمّ يخافه ... ويحبه كمحب الديّان
فعبادة الأصنام، وعبادة الأضرحة، وعبادة الأشجار والأحجار، كل هذا شرك ظاهر.
أما الرياء فإنه شرك خفي لأنه في المقاصد والنيّات التي لا يعلمها إلاَّ الله سبحانه وتعالى.
والرياء مأخوذٌ من: الرؤية، وذلك بأن يزيِّن العمل ويُحَسِّنه من أجل أن يراه النّاس ويمدحوه ويُثنوا عليه، أو لغير ذلك من المقاصد، فهذا يسمّى رياءً، لأنه يقصد رؤية النّاس له.(14/333)
ص -90- ... والفرق بين الرياء والسمعة: أن الرياء فيما يُرى من الأعمال التي ظاهرها لله وباطنها لغيره كالصلاة والصدقة. أما السمعة فهي لِمَا يُسْمَع من الأقوال التي ظاهرها لله والقصد منها لغير الله كالقراءة والذكر والوعظ وغير ذلك من الأقوال، وقصد المتكلِّم أن يسمع النّاس كلامه فيثنوا عليه، ويقولوا هو جيِّد في الكلام، جيِّد في المحاورة، جيِّد في الخُطْبة، إنه حسن الصوت في القرآن، إذا كان يحسِّن صوته بالقرآن، لأجل ذلك فإذا كان يُلقي المحاضرات والندوات والدروس من أجل أن يمدحه النّاس فهذا سُمعة.
والرياء على قسمين:
القسم الأول: شركٌ أكبر وهو: إذا كان قصد الإنسان بجميع أعماله مراءاة النّاس، ولا يقصد وجه الله أبداً، وإنما يقصد العيش مع المسلمين، وحقن دمه، وحفظ ماله، فهذا رياء المنافقين، وهو شركٌ أكبر، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً(142)}، وهذا لا يصدر من مؤمن.
القسم الثاني: قد يصدر من مؤمن، ويكون في بعض الأعمال، وهو: أن يكون العمل فيه قصدٌ لله وفيه قصدٌ لغير الله.
وهذا هو الشرك الأصغر.
وهذا النوع من الرياء له ثلاثة حالات:
الحالة الأولى: إن كان مقصوداً في العمل من أوله واستمرّ معه إلى آخره فإنّ هذا عملٌ مردود، لا يقبله الله سبحانه وتعالى. فمن صلّى لله وهو يحب أن يُمدح وأن يُثنى عليه، واستمرّ معه الرياء إلى آخر صلاته؛ فهذا لا تُقبل منه صلاته، بدليل الحديث الآتي.
الحالة الثانية: أن يكون أصل العمل لله ثمّ يطرأ عليه الرياء. فهذا إن تاب منه صاحبه في الحال ودفعه، وأخلص العمل لله؛ فإنه لا يضر صاحبه قولاً واحداً، لأن أصل العمل لله وطرأ الرياء، ثمّ دفعه وأخلص العمل لله وعاد إلى الإخلاص، فهذا لا يضرُّه.(14/334)
ص -91- ... وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} الآية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحالة الثالثة: أن يطرأ في أثناء العمل ويستمر معه. فهذا موضع خلاف بين أهل العلم؛ منهم من قال: إنه يحبط العمل كالنوع الأول، ومنهم من قال: إنه يثاب على قدر نيّته لله في هذا العمل. ذكر هذا التفصيل الحافظ ابن رجب في شرح الأربعين.
قال: "وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}" وتمام الآية: "{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}" هذه الآية ختام سورة الكهف.
{قُلْ} أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ}، فالرسول صلى الله عليه وسلم بشر، وكلُّ الرسل من البشر.
فالرسل قسمان: رسلٌ من الملائكة ورسلٌ من البشر، كما قال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ}.
فالرسل من الملائكة يكونون واسطة بين الله وبين الرسل من البشر، لأن البشر لا يطيقون مقابَلة الملك ورؤيته على صورته الملَكية، وإنما يطيقون رؤية البشر الذي هو مثلهم، ولذلك يبعث الله الرسل من البشر إلى البشر، لأن هذا مقتضى رحمته بعباده، من أجل أن يفقهوا عنهم، ويتعلّموا منهم ويألفوهم، ولو كانوا من الملائكة ما استطاعوا أن يروهم، لأن صورة الملَك مخالِفة لصورة البشر.
وقوله: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ} يعني: ليس لي من الربوبية شيء ولا من العبادة شيء.
{أَنَا بَشَرٌ} عبدٌ من عباد الله.
فهذا فيه: ردٌّ على الذين يغلون في حق الرسول صلى الله عليه وسلم، ويدعونه من دون الله، ويستغيثون به من دون الله، أو يقولون: إنه مخلوقٌ من نور، أو من كذا وكذا، ولم يُخلق ممّا خُلق منه بنو آدم وأنه مخلوق(14/335)
قبل آدم.
وهذا -والعياذ بالله- من أعظم أنواع الغلو والكفر بالله عزّ وجلّ.
ثمّ قال: {مِثْلُكُمْ} يعني: مثلكم في أمور البشريّة، فهو بشر يجوع، ويمرض، ويتعب في السفر مثل البشر وتجري عليه العوارض البشرية كما تجري على البشر، فيُصيبه صلى الله عليه وسلم الهم، ويصيبه الحَزَن، ويصيبه ما يصيب البشر: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ(14/336)
ص -92- ... لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ}، {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ}، {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ}، فهو يهْتَمُّ ويحزن لما يرى من مخالفة النّاس لعبادة الله سبحانه وتعالى، لأنه يريد للناس الخير، ويريد لهم النجاة، فيُحزنه إذا رآهم على سبيل الهلاك لكمال شفقته صلى الله عليه وسلم.
وإنما امتاز- عليه الصلاة والسلام- عن البشر بالرسالة والفضيلة وكمال العبودية لله، فهو أكمل الخلق عبودية لله، وأخشاهم لله، وأتقاهم له.
{يُوحَى إِلَيَّ} من الله سبحانه وتعالى بواسطة جبريل عليه السلام كغيري من الرسل. فكل ما جاء به من الشرع وحي من الله.
{أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} يعني: معبودكم بحق. فالإله معناه: المعبود.
والمعبود بحق هو الله وحده. وما سواه فهو معبود بالباطل كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}.
فهذا فيه: أن زبْدة رسالة الرسول وأصل دين الرسول والذي جاء به وبدأ به هو: التّوحيد والإنذار عن الشرك، وكلُّ الرسل كذلك أول ما يبدؤون بالدعوة إلى التّوحيد وإنكار الشرك.
وهذا فيه ردٌّ على الذين يقولون في هذا الزمان: إن الرسل جاءوا لتحقيق الحاكمية في الأرض.
وهذا كلام محدَث باطل، فالرسل جاءوا لتحقيق العبودية بجميع أنواعها لله عزّ وجلّ.
كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ(25)}، هذا هو الذي جاءتْ به الرسل، ويدخل فيه بقية أوامر الدين ومنها الحاكمية، أما أن تُجعل هي الأصل فهذا باطل، وهذا معناه: إهمال التّوحيد وعدم الاهتمام بأمر الشرك وعدم الالتفات(14/337)
إليه، وأن الرسل جاءوا لطلب الحكمة والرئاسة.
{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا} معناه: يخشى ويخاف، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} أي: يؤمِّل رؤية الله يوم القيامة، لأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، ويتنعّمون برؤيته صلى الله عليه وسلم أعظم مما يتنعّمون بنعيم الجنة".(14/338)
ص -93- ... {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} لأنه لا يمكن أن تحصُل هذه الرؤية إلاَّ لمن عمل عملاً صالحاً.
والعمل لا يكون صالحاً إلاَّ إذا توفّر فيه شرطان:
الشرط الأول: الإخلاص لله عزّ وجلّ من الرياء والسمعة، ومن جميع أنواع الشرك الأكبر والأصغر.
والشرط الثاني: أن يكون موافقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، خالياً من البدع والمحدَثات والخُرافات.
أما إنِ اختلّ شرطٌ من هذين الشرطين فليس عملاً صالحاً، وإنما هو عملٌ باطل.
فإن اختلّ الشرط الأول، صار العمل حابطاً لما دخله من الشرك.
وإنِ اختلّ الشرط الثاني صار بدعاً ومحدَثات ومخالَفات فهو مردود باطل، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من عمِل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"، وفي رواية: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد".
فلا يكون العمل صالحاً إلاَّ إذا توفّر فيه هذان الشرطان كما قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}. قال الفُضيل بن عياض رحمه الله: "أخلصه وأصوبه"، قالوا: يا أبا علي وما أخلصه وأصوبه؟، قال: "أخلصه: أن يكون خالصاً لوجه الله، وأصوبه: أن يكون صواباً على سنة رسول الله، فإن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يُقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يُقبل، وإنما يُقبل إذا كان خالصاً صواباً".
{وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} ومن ذلك: أن يرائي بعمله، أو يسمِّع بعمله، فإنه إذا راءى بعمله، أو سمّع به، أبطله اله وردّه عليه.
وقوله: {أَحَداً} نكرة في سياق النهي، تعمُّ كلَّ أحد، فالله لا يقبل أن يُشرك معه أحد لا من الملائكة، ولا من الرسل، ولا من الأولياء والصالحين، ولا من الأحجار والأشجار، ولا من الجن، ولا من الإنس.
فهذا فيه ردٌ على الذين يقولون: إنما الشرك عبادة الأصنام فقط، أما أن نتقرَّب(14/339)
ص -94- ... وعن أبي هريرة مرفوعاً: "قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري؛ تركته وشركه"رواه مسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إلى الله ونتوسّل إلى الله بأولياء وعبادٍ صالحين، فهذا ليس مثل عبادة الأصنام.
وهذا باطل، لأن الله يقول: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}، وهو عام يشمل كلُّ من عبد مع الله، سواءً كان من الجن، أو من الإنس، أو من الملائكة، أو من الأنبياء والرسل، أو من الصالحين والأولياء، أو أيًّا كان، فالله لا يقبل أن يُشرك معه في عبادته أحد كائناً من كان، ولا تفريق في ذلك بين الأصنام وبين الأولياء والصالحين والأضرحة كله داخل في قوله تعالى: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}.
قال: "عن أبي هريرة مرفوعاً. قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه" رواه مسلم.
قوله: "قال الله تعالى" هذا حديث قدسي، والحديث القدسي: ما يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربّه عزّ وجلّ، والقدسي: نسبة إلى القدْس، وهو التطهير والتنزيه، لأن الله مقدَّسٌ ومنزّهٌ عن صفات النقص.
والحديث القدسي: ما كان من كلام الله عزّ وجلّ لفظه ومعناه ورواه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم. فالفرق بينه وبين الحديث النبوي:
أن الحديث القدسي: ما كان لفظه ومعناه مرويّاً عن الله سبحانه وتعالى.
وأما الحديث النبوي فهو: ما كان معناه من الله ولكن لفظه من الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى(3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4)}.
فقوله: "قال الله تعالى" هذا فيه إثبات أن الله يتكلّم كما يليق بجلاله سبحانه وتعالى.
"أنا أغنى الشركاء عن الشرك" الله سبحانه وتعالى غنيٌّ عن عبادة خلقه، وإنما أمرهم بعبادته لمصلحتهم هم، لأنهم محتاجون إلى الله عزّ وجلّ ولا يقربهم من الله إلاَّ العبادة، فعبادتهم لله من(14/340)
أجل مصلحتهم، من أجل أن يغفر الله لهم، وأن يرزقهم، وأن يُدخلهم الجنة، فالمصلحة من عبادتهم عائدةٌ إليهم، أما الله سبحانه وتعالى فإنه لا تنفعه طاعة الطائعين ولا تضرُّه معصية العاصين، وإنما هو النافع الضار، ولهذا يقول سبحانه وتعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}، ويقول سبحانه وتعالى(14/341)
ص -95- ... وعن أبي سعيد مرفوعاً: "ألا أخبركم بما هو أخوف عندي من المسيح الدجال؟ "قالوا: بلى. قال: "الشرك الخفي، يقوم الرجل فيزين صلاته لِما يرى من نظر رجل إليه"رواه أحمد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حكاية عن موسى- عليه الصلاة والسلام-: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ(8)}.
وفي الحديث القدسي الذي رواه أبو ذر رضي الله عنه: أن الله سبحانه وتعالى يقول: "يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخِركم وإنْسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو كان أولكم وآخركم وجنكم وإنسكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً".
إذاً، فعبادة النّاس لله يرجع ثوابها ويرجع خيرها إليهم، أما الله جل وعلا فهو غنيٌّ عنها، ومن باب أولى: من عمل عملاً أشرك مع الله فيه فإنه سبحانه وتعالى غنيٌّ لا يقبل ما فيه شرك، وإنما يتقبّل الخالص لمصلحة العباد.
وهذا يدخل فيه الرياء، فمن عمل عملاً ودخله الرياء والقصد لغير الله سبحانه وتعالى فإن الله يردُّه عليه ولا يقبله منه.
وهذا وجه الشاهد من الحديث للباب.
وفي قوله: "تركته وشركه" دليل على أن الشرك يُحْبِط العمل سواءً كان أكبر أو أصغر.
والشاهد منه للباب: أن الرياء نوعٌ من الشرك يرد العمل الذي خالطه على صاحبه، ولا يقبله الله.
قال: وعن أبي سعيد مرفوعاً: "ألا أخبركم بما هو أخوف عندي من المسيح الدجال قالوا: بلى. قال الشرك الخفي. يقوم الرجل فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل إليه".
قوله: "وعن أبي سعيد" أبو سعيد هو أبو سعيد الخدري، مالك بن سِنان الخُدْري الصحابي الجليل المشهور، رضي الله تعالى عنه.
"مرفوعاً" المرفوع: ما كان من كلام النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "إلاَّ أخبركم بما هو أخوفُ عليكم عندي من المسيح الدّجال؟" هذا الحديث له سبب وهو:(14/342)
أنّ النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أصحابه وهم يتحدّثون عن الدجال(14/343)
ص -96- ... وعن فتنته، وكانوا خائفين منه، فقال: "ألا أنبِّئكم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟" الحديث.
فأجابوا و"قالوا: بلى" وهذا فيه: مشروعية التعليم عن طريق السؤال والجواب، لأنه يكون أوقع في الذهن، فإذا أراد أن يعلِّم أصحابه شيئاً مهمًّا ألقاه على طريقة السؤال حتى يتطلّعوا إلى الجواب ثمّ يُلقي عليهم الجواب.
"قال: "الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي فيُزَيِّن صلاته لِمَا يرى من نظر رجل إليه" هذا فيه: أن الرياء شركٌ خفي، ووجهُ كونه خفياًّ: أنه في النيّات والمقاصد وأعمال القلوب، وهذه لا يعلمها إلاَّ الله سبحانه وتعالى، لا أحد يعلم النيّات ويعلم المقاصد إلاَّ الله سبحانه وتعالى.
وفي الحديث دليلٌ على خطورته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم خافه على أفضل هذه الأمة وهم الصحابة، فكيف بغيرهم، وأنه صلى الله عليه وسلم يخافه عليهم أشد مما يخاف عليهم من فتنة المسيح الدّجال، لأنه قَلّ من يسلم منه.
أما المسيح الدجال مع عِظَم فتنته -وقانا الله وإيّاكم من فتنته- فإنما ضرره على الذين يعاصِرونه ويخرج وهم أحياء، أما الرياء فهذا خطره على الجميع في كل عصر، في كل وقت.
والمسيح الدجّال هو: مسيح الضّلالة الذي يخرُج في آخر الزمان، وخروجه من علامات الساعة، وسُمي بالمسيح لأنه ممسوح العين، أعور، وقيل: سمّي بالمسيح لسُرعة سيره في الأرض، يعني: يمسح الأرض بسرعة، وهو: مسيح الضلالة، الأعور الدجّال، وما من نبي إلاَّ حذّر أمته من الدجّال، وكان تحذير نبيّنا صلى الله عليه وسلم أكثر وأشد من تحذير من سبقه، لأنه أقرب إلى عهده ممن سبقه، فهو يخرج في آخر الزمان، ويتبعه اليهود، ثمّ ينزل المسيح عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- مسيح الهداية فيقتل هذا الدّجال بباب لُدٍّ- في فلسطين، وعند ذلك يكفي الله المسلمين شرّه، وعند ذلك ينتصر المسلمون على اليهود، ويظهر حكم الإسلام في الأرض، ويظهر الحق، لكن بعد المحنة وبعد(14/344)
الشدّة.
والنبي صلى الله عليه وسلم شرع لنا أن نستعيذ منه في كل تشهُّد أخير في الصلاة، فقال:(14/345)
ص -97- ... "استعيذوا بالله من أربع: من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال".
فهذه النصوص- الآية والحديثان- يدلان على مسائل عظيمة:
المسألة الأولى: الآية تدلّ على أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر، ليس له من الربوبية والألوهية شيء، ففيه: الرد على الذين يغلون في حق النبي صلى الله عليه وسلم، ويعتقدون فيه شيئاً من صفات الربوبية، ويتعلّقون به صلى الله عليه وسلم من دون الله بالدعاء والاستغاثة وطلب الحاجات، وتفريج الكربات، وهذا شركٌ أكبر.
المسألة الثانية: يُستفاد من الآية مسألة عظيمة وهي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم بُعث بالدعوة إلى التّوحيد والنهي عن الشرك بالله عزّ وجلّ، كمُهِمّة غيره من الأنبياء والمرسلين. وهذه هي المهمّة العظمى، وهي قضية القضايا.
المسألة الثالثة: تدُلُّ الآية الكريمة على وجُوب الإخلاص في العمل لله، وهذا محل الشاهد منها للباب.
المسألة الرابعة: في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الله سبحانه وتعالى غنيٌّ عن عبادة الخلق، ولو أشرك النّاس كلهم، أو كفروا كلهم، لم ينقُص ذلك من ملكه شيئاً.
المسألة الخامسة: في حديث أبي هريرة: التحذير من الشرك في العمل، وأنه سببٌ لِرَدِّه وعدم قَبوله سواء كان شركاً أكبر أو شركاً أصغر، ومنه الرياء.
المسألة السادسة: فيه إثبات أن الله جل وعلا يتكلّم كما يشاء سبحانه وتعالى، والكلام ثابتٌ له سبحانه، صفةٌ فعليّة كسائر صفاته الفعلية تليق بجلاله، ليس مثل كلام المخلوقين، بل هو كلامٌ يليق بجلاله سبحانه وتعالى.
المسألة السابعة: في حديث أبي سعيد رضي الله عنه: التحذير من الرياء، وبيان تفسيره، فإن النبي صلى الله عليه وسلم فسّره في قوله: "يقوم الرجل فيصلي فيُزَيِّن صلاته لِمَا يرى من نظر رجل إليه".
المسألة الثامنة: في حديث أبي سعيد: أن الشرك ينقسم إلى شرك ظاهر وشرك خفي، حيث قال صلى الله عليه وسلم: "الشرك الخفي" فهذا(14/346)
دليل على أنّ هناك شركاً ظاهراً، وهو الشرك في الأعمال الظاهرة كالركوع والسجود والدعاء والذبح والنذر. فإذا صرفت هذه العبادات لغير الله صار شركاً ظاهراً.(14/347)
ص -98- ... أما الرياء فإنه شركٌ خفي يكون في القلوب والمقاصِد، ولهذا جاء في الحديث: "الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النملة السوداء على صَفاةٍ سوداء في ظُلمة الليل"، وكفّارته أن يقول: "اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم، وأستغفرك من الذنب الذي لا أعلم".
وكان الصحابة يخافون من هذا الشرك.
وهكذا كلما قويَ إيمان العبد قويَ خوفه من الرياء، وخوفه من جميع الشرك،(14/348)
ص -99- ... [الباب السابع والثلاثون:]
* باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا
وقول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} الآية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله رحمه الله: "بابٌ" هذا- كما سبق وتكرّر- أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره:هذا بابٌ.
"من الشرك" أي: من أنواع الشرك، والمراد: الشرك الأصغر.
"إرادة الإنسان بعمله الدنيا" ومعناه: أن يعمل العمل الذي شرع للآخرة وهو لا يريد به إلاَّ طمع الدنيا، كأن يجاهد من أجل المغنم، أو يتعلم من أجل الرئاسة والوظيفة، أو يحج أو يعتمر من أجل أخذ المال، وهكذا.
والفرق بين هذا الباب والذي قبله: أن الباب الذي قبله في الرياء وهذا في إرادة الإنسان بعمله الدنيا، وهما يجتمعان في العمل لغير وجه الله، وفي أنهما شرك خفي، لأن الإرادة والقصد من أعمال القلوب، فهما يجتمعان في هذا، لكن يفترقان في أن الرياء يراد به الجاه والشهرة، وأما طلب الدنيا فيراد به الطمع والعرض العاجل، قالوا: والذي يعمل من أجل الطمع والعرض العاجل أعقل من الذي يعمل للرياء، لأن الذي يعمل للرياء لا يحصل له شيء، وأما الذي يعمل من أجل الدنيا فقد يحصل له طمع في الدنيا و منفعة في الدنيا، ولكن كلاهما خاسر عند الله سبحانه وتعالى، حيث أن كلاً منهما أشرك في نيته وقصده، فهما يجتمعان من وجه ويفترقان من وجه.
قوله: "وقول الله تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي: من كان يقصد بعمل الآخرة عرض الدنيا.
"{وَزِينَتَهَا}" زينة الدنيا وهي المال والولد، كما قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
{نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} هذا جواب الشرط، أي: نعطه من الدّنيا ما أراد وما(14/349)
ص -100- ... وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تَعِسَ عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة؛ إنْ أُعطيَ رضي، وإن لم يُعْط سخِط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتَقش.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قصد إذا شئنا ذلك، استدراجاً له، ومعاملةً له بما قصد، كما في قوله تعالى: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ}.
{وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ}: لا يُنقصون.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} بيان لعاقبتهم، حيث ذكر أنهم يُعطون في الدنيا ما أرادوا وما طلبوا، وأما في الآخرة فإنهم يُحْرَمون من الثواب، لأنهم لم يريدوا الآخرة، والآخرة إنما تحصُل لمن أرادها: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً(19)}.
{وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا} أي: في الآخرة ما صنعوه في الدنيا.
{وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} البُطلان يكون في الدنيا، والحُبوط يكون في الآخرة، في الدنيا أعمالهم باطلة لأنها بدون قصدٍ خالصٍ لوجه الله، فإذا جاءت الآخرة حبطتْ أعمالهم. والحَبَط في اللغة: انتفاخ الشيء، ومنه: انتفاخ البعير، إذا أكل من أول الربيع فإنه ينتفخ ويموت.
قال: "وفي الصحيح" أي: في "صحيح البخاري" في باب الجهاد.
"عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تَعِس" يعني: هلك، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ} يعني: هلاكاً، فالتعس: الهلاك.
"عبد الدينار، تعس عبد الدرهم" الدينار هو: النَّقْد المضروب من الذهب، والدرهم هو: النقد المضروب من الفضة.
"عبد الخميصة" الخميصة: كساءُ يُلبس، لونه أسود وفيه خطوط حُمُر.
"عبد الخميلة" الخميلة: القطيفة، سُمِّيت خميلة لأنها ذات خُمُل يعني: ذات أهداب، سمّاهم عبيداً لهذه الأشياء لأنهم يعملون(14/350)
لها، فصاروا عبيداً لها، أما الذي يعمل من أجل وجه الله فهو عبدٌ لله سبحانه وتعالى.(14/351)
ص -101- ... ثم ذكر علامتهم، فقال: "إنْ أُعطيَ رضي، وإن لم يُعط سخط" هذه علامة الذي يعمل من أجل الدنيا، أنه إنْ أُعطيَ منها رضي وإن لم يعط منها لم يرض، كما قال الله سبحانه وتعالى في المنافقين: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ(58)}.
أما المؤمن فإنه إنْ أُعطي شكر، وإن لم يعطَ فإنه يصبر ولا يسخط، لأنه يعمل لله لا يعمل من أجل الدنيا، وبعضهم يحب أن يُعطى من الدنيا شيئاً، فقد كان بعض الصّحابة لا يرضى أن يُعطى من الدنيا شيئاً، ولا يطلب شيئاً، لأنه يريد الدار الآخرة، من باب حفظ أعمالهم ورجاء ثوابها في الدار الآخرة، فلا يحبون أن يتعجّلوا من حسناتهم شيئاً، ولكن من أُعطي من غير تشوُّف، ومن غير طمع، ومن غير طلب، فإنه يأخذ، كما في الحديث: "ما جاءك من هذا المال وأنت غير مستشرِفٍ له فخذه، وما لا فلا تُتْبِعْهُ نفسك".
فالمؤمن سِيَّان عنده؛ يعطى من الدنيا أو لا يعطى، ولا ينقص ذلك من عمله لله شيئاً، لأنه يحب الله ورسوله، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي بعض النّاس وهو يبغضهم من أجل تأليفهم، والخوف عليهم من النفاق والرِّدة، ويمنع ناساً هم أحب النّاس إليه ويَكِلُهم إلى إيمانهم، لأنه واثقٌ من إيمانهم وعقيدتهم، وأنهم لا يتأثّرون إذا لم يُعطوا، وهذه علامة المؤمن: أنه باقٍ على إيمانه ويقينه أعطيَ من الدنيا أو لم يعط، أما صاحب الدنيا فهذا إنْ أُعطي منها رضي وإن لم يعط منها سخط، فهو يرضى لها ويغضب لها.
وهذا هو الشاهد من الحديث: أنه سمّاه عبداً لهذه الأشياء مع أنه مسلم مؤمن، ولكن لَمّا كان يعمل ويريد هذه الأشياء صار عبداً لها، وهذه عبودية شرك، لكنه شركٌ أصغر لا يُخرِجه من الإيمان، ولكنه ينقِّص توحيده وينقِّص إيمانه.
ثم أعاد الدعاء عليه مرّة ثانية فقال: "تعس وانْتَكَس" يعني: كلما تماثل للشفاء عاد(14/352)
إليه المرض وعاد عليه الهلاك.
"وإذا شيك فلا انتَقش" أي: أنه يصاب بالعجز حتى إذا ضربته الشوكة في رجله أو في يده لا يستطيع أخذها من العجز الذي أصابه، عقوبةً له في أنه إنما يعمل من أجل الدنيا.(14/353)
ص -102- ... طوبى لعبدٍ آخذٍ بعِنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرّة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إنِ استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفَّع".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم بيّن الفرق بين الذي يعمل للآخرة والذي يعمل للدنيا فقال صلى الله عليه وسلم: "طوبى" قيل: إنها شجرة في الجنة ظلها مسيرة مائة عام منها ثياب أهل الجنة، وقيل: إنها الجنة نفسها، فالجنة يقال لها طوبى، فطوبى من أسماء الجنة أو شجرة فيها.
وهذا دعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الشخص بأن يكون من أهل الجنة.
"لعبد آخذٍ بعِنان فرسه" العِنان: اللِّجام.
"في سبيل لله" يعني: للجهاد في سبيل الله، دائماً مُعِدٌّ نفسه ومُعِدٌّ فرسه للجهاد في سبيل الله، يترقّب الغزوات والسرايا، ويحب الجهاد في سبيل الله، ولا يحب الراحة والرفاهية، وإنما يحب الجهاد في سبيل الله، فهذا على أجر وإن لم يجاهد، لأن له ما نوى، ما دام أنه حبس نفسه وفرسه وأعدّ نفسه، فإنه في سبيل الله وإن لم يجاهد، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيّات".
"أشعث رأسه، مغبرة قدماه" هذه الصفة الأولى لهذا العبد المجاهد لم يتفرغ للرفاهية ويعتني بنفسه عليه آثار الجهاد في سبيل الله من الشعث والغبار.
"إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة" هذه صفة ثانية، أي: أنه لا يبالي بنوع العمل الذي يشتغل فيه، بل يطيع وليّ الأمر وقائد الجيش، سواءٌ أمره أن يكون في الحراسة أو أمره أن يكون في الساقة- يعني: في آخر الجيش-، لا يقول: أكون مع أول النّاس، بل يمتثل الأوامر، ويطيع وليّ أمر المسلمين في الجهاد، ولا ينظر إلى مكانه هل هو مكان مشقة أو مكان راحة، هل هو مكان بروز، أو مكان خُمول، لأنه يجاهد لأجل الله سبحانه وتعالى.
"والحراسة": حماية الجيش من أن يهجم عليهم العدو، سواء بالليل أو في النهار(14/354)
يتطلّع إلى العدو، ويكون حارساً للجيش أن يُهجم عليه من الجهة المَخُوفة. "
"والساقة" آخر الجيش من أجل أن يتفقّد العاجز ويتفقّد من يحتاج إلى إعانة من المجاهدين، لأنه لا يريد لنفسه العز في الدنيا والظهور والبُروز أمام النّاس، ولا يريد لها الراحة والرفاهية، وإنما يريد الجهاد في سبيل الله على أيِّ سبيلٍ كان،(14/355)
ص -103- ... لا يهمُّه في أيِّ موقع وقع ما دام أنّ هذا في الجهاد في سبيل الله وفي صالح المسلمين وفي طاعة وليّ الأمر.
وقوله: "إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع" أي: هو- أيضاً- غير معروف عند النّاس، لأنه لا يحب الظهور أمام النّاس، ولا يحب البُروز، لا يحب المدح، بل يحرص على الاختفاء، لأنه يعمل لله، ولكونه غير معروف إنِ استأذن للدخول على وُلاة الأمور، أو على السلاطين، أو على أصحاب الجاه، لم يُؤذن له، لأنه غير معروف، والنّاس إنما يأذنون للإنسان المعروف الذي له جاه وله مكانة. وهذا لا يضره عند الله سبحانه لأنه معروف عند الله عزّ وجلّ لأن الله يعلمه وبعلم مكانه.
"وإن شفع لم يشفع" إن توسط في قضاء حاجة أحد لم تقبل وساطته، وفي الحديث: "رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبرّه "، فهو إنسان ما له هيئة عند النّاس، منظره ليس منظر صاحب هيئة، ومخبره أيضاً غير معروف عند النّاس، لكنه عند الله عزيز لأنه يعمل فيما بينه وبين الله بإخلاص، فلو أقسم على الله - يعني: لو حلف على الله- أن يُعطيه كذا وكذا لأبرّه- يعني: لأعطاه ما طلب مع أنه مدفوع بالأبواب عند النّاس.
هذه صفات هذا المؤمن، وهي باختصار:
أولاً: أنه مُعِدٌّ نفسه للجهاد، والجهاد دائماً يرغب فيه.
ثانياً: أنه لا يتفرغ لإصلاح هيئته من إصلاح شعره ودهنه وتجميل هيئته لأنه مشغول بالجهاد.
وثالثاً: أنه لا يبالي بالعمل الذي يتولاّه في الجهاد سواءً كان شاقًّا أو غير شاق، سواءً كان بارزاً أو غير بارز، لأنه يعمل لله، ولا يعمل من أجل الظهور، ومن أجل مراءاة النّاس.
رابعاً: أنه غير معروف عند النّاس وعند أصحاب الجاه، إنِ استأذن لم يُؤذن له في الدخول، وإن شفع لم يشفَّع، أي: إن توسَّط لأحد لم تُقبل وساطته، لأنه غير معروف.(14/356)
ص -104- ... فهذا فيه: فضل عدمُ الظهور، وفضل الاختفاء بالأعمال الصالحة.
وقد ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بعض أجوبته لَمّا سُئل عن هذه الآية: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا}، أنها تشمل أنواعاً:
النوع الأول: المشرك والكافر الذي يعمل أعمالاً صالحة في هذه الدنيا من إطعام الطعام وإكرام الجار وبرِّ الوالدين والصدقات والتبرُّعات ووجوه الإحسان، ولا يُؤْجَر عليها في الآخرة لأنها لم تُبْنَ على التوحيد، فهو داخلٌ في قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ(15)}، فالكافر إذا عمل حسنات فإنه قد يجازى بها في الدنيا، وأما الآخرة فليس له جزاء عليها عند الله لأنها لم تُبْنَ على التوحيد والإخلاص لله عزّ وجلّ.
النوع الثاني: المؤمن الذي يعمل أعمالاً من أعمال الآخرة، لكنه لا يريد بها وجه الله، وإنما يريد بها طمع الدنيا، كالذي يحج ويعتمر، عن غيره، يريد أخذ العِوَض والمال، وكالذي يتعلّم ويطلب العلم الشرعي من أجل أن يحصل على وظيفة. فهذا عمله باطلٌ في الدنيا، وحابطٌ في الآخرة، وهو شركٌ أصغر.
النوع الثالث: مؤمن عمل العمل الصالح مخلصاً لله عزّ وجلّ لا يريد به مالاً أو متاعاً من متاع الدنيا ولا وظيفة، لكن يريد أن يجازيه الله به، بأن يشفيه الله من المرض، ويدفع عنه العين، ويدفع عنه الأعداء. فإذا كان هذا قصده فهذا قصد سيِّء، ويكون عمله هذا داخلاً في قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ(15)}. والمفروض في المسلم: أن يرجو ثواب الآخرة، يرجو أعلى ممّا في الدنيا، وتكون همّته عالية. وإذا أراد الآخرة أعانه الله على أمور الدنيا، ويسّرها له: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ(14/357)
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}.
النوع الرابع: من يعمل أعمالاً صالحة ثم يفسدها بالشرك، كأن يدعو غير الله من الموتى وأصحاب الأضرحة، كما عليه كثير من المنتسبين للإسلام اليوم.
فيُستفاد من هاتين الآيتين ومن هذا الحديث الشريف فوائد عظيمة:
الفائدة الأولى: التحذير من إرادة الإنسان بعمله الدنيا، وأنّ ذلك من الشرك(14/358)
ص -105- ... في النيّات، وهو: الشرك الخفي، وهذا هو الذي عقد الشيخ رحمه الله هذا الباب من أجله.
الفائدة الثانية: يؤخذ من الآيتين: أن إعطاء الله الدنيا لبعض الناس ليس دليلاً على رضى الله عنهم، ولهذا قال: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} ثم قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ}، فهذا دليل على أن هذا العطاء عن غير رضى، وأنّ منع الدنيا عن العبد المؤمن ليس دليلاً على عدم رضى الله عنه، فالدنيا ليست مقياساً لرضى الله وغضبه وجوداً وعدماً.
الفائدة الثالثة: يؤخذ من الآيتين الكريمتين: أن العبرة ليستْ في صورة العمل، وإنما العبرة في نية العامل، فإنْ كانت نيّة العامل خالصة لله عزّ وجلّ فهذا العمل عملٌ صالح، وإن كانت نية العامل غير خالصة لوجه الله عزّ وجلّ فهذا عملٌ فاسد وإن كانت صورته صورة عمل صالح، فلا تنظر إلى كثرة الإنفاق والتبرُّعات والمشاريع، فربما يكون من يتصدّق بشيء قليل مع نيّة صالحة ينال به أجراً عظيماً، كما قال صلى الله عليه وسلم: "اتقوا النار ولو بِشِقِّ تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيِّبة"، فالعمل القليل مع الإخلاص يكون كثيراً، وربما يكون العمل كثيراً لكن فائدته قليلة أو ليس فيه فائدة أصلاً نظراً لنيّة عامله، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"، فمحل نظر الله سبحانه وتعالى إلى القلوب والأعمال؛ أعمال القلوب من المقاصد والنيّات، وأعمال الجوارح أيضاً، فالعبرة ليست بصورة العمل وإنما هي بنية العامل.
الفائدة الرابعة: في الحديث دليل على الفرق بين العبد الذي يعمل لوجه الله والعبد الذي يعمل لأجل الدنيا، لأنه ذكر عبدين: واحداً يعمل لأجل الدنيا وواحداً يعمل لأجل الآخرة، فالذي يعمل لأجل الدنيا إن أُعطي رضي، وإن لم يُعْطَ لم يرضَ، هذه علامته، بخلاف المؤمن فإنه(14/359)
لا يؤثِّر عليه العطاء وعدم العطاء للإيمان الذي في قلبه، فالحديث فيه: الفرق بين من يعمل من أجل الله ومن يعمل لأجل الدنيا.
الفائدة الخامسة: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمّى العبد الذي يعمل من أجل مطامع الدنيا(14/360)
ص -106- ... عبداً لها، وهذا يقتضي الشرك، ولكنه في حق المؤمن يكون شركاً أصغر ينقِّص توحيده ويبطل أعماله التي خالطها هذا القصد السيء.
الفائدة السادسة: في الحديث: بيان علامات الذي يعمل من أجل الآخرة، وهي كما يلي:
أولاً: أنه مُعِدٌّ نفسه للجهاد دائماً وأبداً، ينتظر الجهاد، ويرغب فيه "آخذ بعِنان فرسه في سبيل الله" في أيّة ساعة تدعو الحاجة فإنه يبادِر بالجهاد في سبيل الله.
ثانياً: أنه لا يتفرّغ للعناية بنفسه والرفاهية بحيث يرجِّل شعره ويدهن شعره، بل هو أشعث: "مغبرة قدماه"، فالغبار عنده مرغوب لأنه في سبيل الله، وهذا يدل على أن هذا العبد ليس مُتْرَفاً في هذه الدنيا.
الصفة الثالثة: أنه لا يبالي بنوع العمل الذي يؤذِّيه في الجهاد سواء كان شاقًّا أو سهلاً، سواءً كان فيه ظهور أمام الناس أو ليس فيه ظهور أمام الناس، "إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة" يعني: يعمل حيثُ وُضع، لا يتبرّم ولا يتكرّه لذلك ولا يقول للقائد: أنت تهينني، وأنت، وأنت، لأنه لا يعمل من أجل القائد، ولا من أجل الناس، وإنما يعمل من أجل الله سبحانه وتعالى.
الصفة الرابعة: أنه غير معروف عند الناس، لأنه يخفي نفسه، ولا يريد الظهور، وإنما يريد إخفاء نفسه وإخفاء عمله. وليس معناه: أنه يَنْزَوي ويقعُد في داره في زاوية من الزوايا، بل هو يشتغل ويعمل، ولكنه لا يحب أن يظهر عمله، ولا أن تظهر شجاعته، ولا أن يظهر إقدامه، ولا أن يُعرف جهاده، ولا يرغب هذا، لأنه يعمل من أجل الآخرة، لا يريد مَحْمَدة عند الناس أو مدحاً عند الناس، وإنما يريد ثواب الله سبحانه وتعالى بحيث إنه إذا استأذن في الدخول على العظماء لا يُؤذن له لأنه غير معروف، والناس عادة لا يأذنون في الدخول إلاّ لمن كان معروفاً عندهم، وإن شفع لأحدٍ لا تُقبل شفاعته، لأن الناس لا يشفِّعون إلا أصحاب الجاه، وهذا ليس له جاه، لكن هذا لا يضرُّه عند الله سبحانه(14/361)
وتعالى.
هذه صفات الذي يعمل من أجل الآخرة، ويعمل لوجه الله سبحانه وتعالى.(14/362)
ص -107- ... [الباب الثامن والثلاثون:]
* بابٌ من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحلَّ الله أو تحليل ما حرّمه الله فقد اتخذهم أرباباً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الشيخ رحمه الله: بابٌ "من أطاع العلماء والأمراء" هذا شرط وجوابه، وذلك لأن التحليل والتحريم حقٌّ لله سبحانه وتعالى لا يشاركه فيه أحد، فمن حلّل أو حرّم من غير دليلٍ من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جعل نفسه شريكاً لله، ومن أطاعه فقد أشركه مع الله في التشريع. وليس في الآية التي سيوردها المصنف ذكر للأمراء. وإنما هو إشارة إلى قوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67)}.
وهذا ما يسمى بشرك الطاعة، لأن العبادة معناها: طاعة الله سبحانه وتعالى بفعل أوامره وترك نواهيه، ومن ذلك: مسألة التحليل والتحريم، فهي داخلة في العبادة، بدليل قوله تعالى لَمّا ذكر ما يفعله المشركون من استباحة ما حرّمه الله من الميتة التي حرّمها وهم يستحلُّونها ويقولون: هي أولى بالأكل من المُذَكّاة، لأن المذكّاة أنتم ذبحتموها، وأمّا الميتة فإن الله هو الذي ذبحها، وكانوا تلقّوا هذه المقالة من المجوس، فأنزل الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ(118)} إلى قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ(121)} أي: إنْ أطعتموهم في استباحة الميتة وخالفتم أمرَ الله سبحانه وتعالى بتركها، {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} مع الله في التحليل والتحريم.
فطاعة العلماء والأمراء في مثل هذا شرك، في تحليل ما حرّم الله أو تحريم ما أحل الله. فإن كان الذي أطاعهم يعلم(14/363)
أنهم خالفوا أمر الله في ذلك وتعمّد طاعتهم واستباح هذا، فهذا شركٌ أكبر يُخرِج من الملّة.
وإنْ كان الذي أطاعهم يعتقد أن هذا حرام، ويعترف أن هذا خطأ، ولكنه أطاعهم لهوىً في نفسه أو رغبة في نفسه مع اعترافه بالمعصية، فهذا شرك أصغر.
وإن كان أطاعهم وهو لا يعلم أنهم خالفوا شرع الله، بل ظن أنهم على حق، فهذا معذور إن كان مثله يجهل ذلك.
وأما طاعة العلماء والأمراء في غير معصية الله فهذا أمرٌ واجب، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}، فطاعة العلماء(14/364)
ص -108- ... وقال ابن عبّاس: "يوشِك أن تنزل عليكم حجارةٌ من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟! ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وطاعة وُلاة الأمور في غير معصية الله أمرٌ أوجبه الله على الناس.
و {وَأُولِي الْأَمْرِ} قيل: هم الأمراء، وقيل: هم العلماء.
والصواب: أن الآية تعني العلماء والأمراء معاً، فكلهم من أولي الأمر، فالعلماء يبيِّنون الأحكام الشرعية، والأمراء ينفِّذونها.
فليست طاعة وُلاة الأمور ممنوعة مطلَقاً ولا جائزة مطلقاً، بل فيها هذا التفصيل الذي لابد منه. والشيخ رحمه الله خصص تحريم طاعتهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال فقال: "من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أرباباً" ولم يعمم تحريم طاعتهم.
قوله: "وقال ابن عبّاس" هو: حَبْر الأمة، وترجُمان القرآن، عبد الله بن عبّاس بن عبد المطّلب، ابن عمّ النبي صلى الله عليه وسلم.
"يوشِكُ" معناه: يقرُب.
"أن تنزل عليكم حجارة من السماء" عقوبةً لكم كما نزلت الحجارة على من كان قبلكم ممن خالفوا الرسل.
"أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر" هذا هو السبب الذي يوجِب نزول الحجارة وهو طاعة العلماء والأمراء فيما يخالف شرع الله.
قال ابن عبّاس رضي الله عنهما هذه المقالة لَمّا بلغه أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما الخليفتين الراشدين، كانا لا يريان فسخ الحج إلى العمرة، بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بفسخ الحج إلى العمرة لمن لم يَسُقِ الهدي.
فهذا عند عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما يدلُّ على وجوب فسْخ الحج إلى العمرة لمن لم يَسُقِ الهدي، عملاً بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه أمر بذلك أصحابه وأكّد عليهم، ولَمّا خالف ذلك الخليفتان الراشدان أبو بكر وعمر، ورأيا أنه لا يجب فسْخ الحج إلى العمرة، بل المُضي في الإفراد أفضل، من(14/365)
أجل أن لا يُهْجَر البيت في بقية السنّة، لأن الحاج إذا جمع بين الحج والعمرة في سفر واحد، فهذا مما يسبِّب أن لا يأتي الناس مّرة أخرى للعمرة، بل يكتفون بسفرٍ واحد.(14/366)
ص -109- ... وقال أحمد بن حنبل: "عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحّته يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذه وِجهة نظرهما رضي الله عنهما، وهي مسألة اجتهادية، ولكن الاجتهاد إذا خالف الدليل فإنه لا يجوز العمل به.
فإذا كان ابن عبّاس يُنكر على من أخذ برأي الخليفتين الراشدين أبي بكر وعمر، لأنه اجتهاد مخالف للنص، وأن ذلك يوجِب العقوبة، فكيف بطاعة العلماء والأمراء في التحليل والتحريم من غير دليل؟.
وهذا مما يدل على وجوب احترام سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنها هي المنتهى بعد كتاب الله عزّ وجلّ، وأنه إذا حصل اجتهاد من المجتهدين يجب عرضه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فما قام عليه الدليل أخذناه، وما خالف الدليل تركناه، وإنْ كان قائله من أفضل الناس، كأبي بكر وعمر، فضلاً عن غيرهما.
والاجتهاد سائغ، وهو "استنباط الأحكام الشرعية من أدلة الكتاب والسنّة"، ولكن عند التطبيق لا يجوز لنا أن نأخذ إلا ما قام عليه الدليل من أقوال أهل العلم، فلا يجوز لنا أن نأخذ ما خالف الدليل إمّا تعصُّباً لصاحبه، وإما لأنه يوافق أهواءنا، ويوافِق رغباتنا، بل المدار على الكتاب والسنّة: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}.
والعامي يسأل أهل العلم، ويأخذ بقولهم، لقوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.
قوله: "وقال أحمد" هو: الإمام أحمد بن حنبل، إمام أهل السنّة، الصابر على المحنة.
قال رحمه الله: "عجبت" تعجُّب استنكار.
"لقوم عرفوا الإسناد وصحّته" يعني: عندهم علم بالأدلّة، والإسناد هو: سلسلة(14/367)
الرُّواة الذين يروون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من لَدُن الراوي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، سواءٌ قصُر السند أو طال، وهو ما يسمى بالعالي والنازل.(14/368)
ص -110- ... والإسناد يحتاج إلى دراسة لمعرفة رُواته من حيث الثقة والحفظ والإتقان، وعدم ذلك، فإذا توفّر في السند أن راويه عدل تام الضبط من بداية السند إلى نهايته مع السلامة من الشذوذ والعلل فهو صحيح وإن نقص شيءٌ من ذلك نزل عن درجة الصحيح إلى الحسن أو إلى الضعيف.
والعلماء هم الذين يميِّزون ذلك ويعرفونه، فالذين بلغوا من العلم بحيث أنهم يعرفون صحّة الإسناد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم يجب عليهم الأخذ بالدليل، لأن صحة الإسناد تدلّ على صحة المُسْنَد، فصحة السند تدلُّ على صحة المتن، كما هو مدلول عبارة الإمام أحمد هذه.
وفي هذا ردٌّ على بعض المتشدِّقين من بعض العصْريِّين العقلانيِّين الذين يقولون: حتى لو صحّ الإسناد فهذا لا يدل على صحة المتن، وينتقدون أحاديث في "صحيح البخاري" صحّتْ أسانيدها لأنها تخالف عقولهم القاصرة.
وهذا لجهلهم، أو لتجرّئهم على كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه يخالف أهواءهم ويخالف عقولهم.
يا سبحان الله! كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يُخضع للعقول، إنه يجب على من يؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلم أن يقدِّم قوله ويعتقده ويعمل به بدون مناقشة، وبدون جدال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}.
ومن معنى شهادة أن محمداً رسول الله: تصديقه فيما أخبر. فمن لم يصدِّق ما أخبر به وإنما يُخضعه لهواه، ويُخضعه لقواعده المنطقية أو العقلية أو للعلم الحديث -كما يسمُّونه-؛ فهذا كأنه لم يؤمن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالأمر خطيرٌ جدًّا، مع العلم أن النقل الصحيح لا يخالف العقل الصريح، فإن اختلفا ففي أحدهما خلل، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وقوله: "يذهبون إلى رأي سفيان" يعني: يتركون ما صحّ به الإسناد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذهبون إلى رأي سفيان، وهو(14/369)
الإمام الجليل الفقيه الزاهد المتقن، سفيان بن سعيد الثوري، كان فقيهاً، محدِثاً، وله اجتهاد، وله مذهب في الفقه، لكنه انقرض بسبب أنه لم يكن له أتباع يحفظونه ويتدارسونه كما كان للأئمة الأربعة، وقد(14/370)
ص -111- ... نقل كثير من مذهبه في موسوعات الفقه، كـ "المغني"، وكـ "المحلّى" لابن حزم، وكتب التفسير، وشروح الحديث، لأنه إمامٌ مجتهد، وله باعٌ طويلٌ في الفقه والحديث والتفسير، رحمه الله.
ولكن هو كغيره من الأئمة، لا يجوز أن يقدَّم قوله على قول الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو رحمه الله لا يرضى بذلك، كغيره من الأئمة لا يرضون بذلك.
ولهذا يقول الإمام مالك: "كلنا رادٌّ ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر" يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقول الإمام الشافعي: "إذا صحّ الحديث فهو مذهبي"، ويقول: "إذا خالف قولي قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوا بقول رسول الله واضربوا بقولي عرْض الحائط"، ويقول رحمه الله: "أجمع المسلمون على أنّ من استبانتْ له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد كائناً من كان".
ويقول الإمام مالك رحمه الله: "أَوَ كلَّما جاءنا رجلٌ أَجْدَلَ من رجل تركنا ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم لجدل هؤلاء؟".
والإمام أحمد يقول هذه المقالة: "عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحّته يذهبون إلى رأي سفيان".
والإمام أبو حنيفة رحمه الله يقول: "إذا جاء القولُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن الصّحابة فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن التابعين فنحن رجال وهم رجال"، لأنه رحمه الله كان من أتباع التابعين، وتتلمذ على التابعين، فأبو حنيفة هو أقدم الأئمة الأربعة، بل يُقال: إنه أخذ عن بعض الصّحابة، ولكن هذا لم يَثْبُت، فهو يقول هذه المقالة، يقدِّم قول الرسول صلى الله عليه وسلم على الرأس والعين، ولا يقدِّم عليه قول أحد، ثم بعد قول الرسول صلى الله عليه وسلم يقدِّم قولَ الصحاب. ولا يعدِل بالصحابي أحداً ممّن جاء بعده، وأما من بعد الصّحابة فيقول: "نحن رجال وهم رجال"، يعني: متساوين في المدارك والعلم.
هذه مقالاتهم- رحمهم الله- تدلُّ على أن الواجب هو(14/371)
الأخذ بما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن اجتهادات العلماء يُستفاد منها وتُدْرَس، ولكن إذا خالف الدليل(14/372)
ص -112- ... شيءٌ منها فيجب الأخذ بالدليل، ولا يجوز التعصُّب لقائله، فإن تعصّب أحدٌ لقولٍ يخالف الدليل وقع في هذا المحظور، وصار من الذين اتّخذوا أحبارهم ورُهبانهم أرباباً من دون الله.
ونحن لا نرفض الفقه كما يظن بعض الجهال أو بعض المبتدئين، بل نعتبره ثروة عظيمة، فيها علمٌ غزير، فندرسُ الفقه ولكن لا نأخذ منه إلا ما قام دليله، وما علمنا أنه خلاف الدليل حرُم علينا الأخذ به، مع اعتذارنا لقائله، واحترامه، لأنه لم يتعمّد المخالفة، والمجتهد يخطئ ويصيب، فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد. والخطأ مغفور، كما صحّ بذلك الحديث.
والناس على أربعة أقسام:
القسم الأول: من يستطيع الاجتهاد المطلق بأن يأخذ من الكتاب والسنّة ويستنبط من الكتاب والسنّة ولا يقلِّد أحداً.
وهذا أعلى الطبقات، ولكن هذا إنما يكون لمن توفّرتْ فيه شروط الاجتهاد المعروفة، بأن يكون عالماً بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون عالماً بلغة العرب التي نزل بها القرآن، وأن يكون عالماً بالمحكم والمتشابه وبالناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيَّد، والخاص والعام، ويكون عنده معرفة بمدارك الاستنباط، أعني: لديه مؤهِّلات، فهذا يجتهد. وهذا الصنف كالأئمة الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وسفيان الثوري، والأوزاعي، هؤلاء أعطاهم الله مَلَكة الاجتهاد.
الصنف الثاني: من لا يستطيع الاجتهاد المطلَق، ولكنه يستطيع الترجيح بين أقوال أهل العلم بأن يعرف ما يقوم عليه الدليل وما لا يقوم عليه الدليل من أقوالهم.
فهذا يجب عليه الأخذ بما قام عليه الدليل وترك ما خالف الدليل وهذا العمل يسمى بالترجح ويسمى بالاجتهاد المذهبي.
الصنف الثالث: من لا يستطيع الترجيح.
فهذا يُعتبر من المقلدِّين، ولكن إذا عرف أنّ قولاً من الأقوال ليس عليه دليل(14/373)
ص -113- ... فلا يأخذ به، أما ما دام لا يعرف ولم يتبيّن له مخالفة، فلا بأس أن يقلِّد ويأخُذ بأقوال أهل العلم الموثوقين.
والصنف الرابع: من لا يستطيع الأمور الثلاثة: لا الاجتهاد المطلق، ولا الترجيح، ولا التقليد المذهبي كالعامي- مثلاً-.
فهذا يجب عليه أن يسأل أهل العلم كما قال الله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}، فيسأل أوثق من يرى، ومن يطمئن إليه من أهل العلم، ممّن يثق بعلمه وعمله ويأخذ بفتواه.
هذه أقسام الناس في هذا الأمر.
ومن هنا علِمنا أن الأمر ليس بمتروك ومُفْلَت، كل واحد ينصب نفسه منصب الأئمة ومنصب المجتهدين، ويغلِّط العلماء، ويرجّح من غير علم.
أو يزهِّد في الفقه وأقوال الفقهاء، ويعتبرها شيئاً مرفوضاً. وهذا ليس من آداب طلبة العلم المريدين للحق.
والواجب على الإنسان: أن يعرف قدْر نفسه، فلا يجعل نفسه في مكانة أعلى مما تستحقُّها، بل الأمر أخطر من ذلك وهو أن يخاف من الله سبحانه وتعالى لأن الأمر أمر تحليل وتحريم وجنة ونار، فلا يورِّط نفسه في أمور لا يُحسن الخروج منها.
والمجتهد إذا توفّرت فيه شروط الاجتهاد فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجرٌ واحد، لأنه يريد الحق، ولكنه لم يستطع الوصول إليه بعد بذْل مجهوده، بذَل مجهوده وتحرّى الحق ولم يصل إليه، فهو معذور، قال صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحد"، لكن مع كونه معذوراً ومأجوراً في الخطأ لا يجوز لنا أن نأخذ بقول نرى أنه خطأ، بل يجب علينا أن نأخذ بالقول الصواب، سواء كان هذا القول الصواب في المذهب الذي نقلّده، أو في مذهب آخر، هذا هو طريق أهل الحق، أنهم لا يقلِّدون على خطأ، بل يأخذون ما ترجّح بالدليل ولو لم يكن عليه إمامهم.
ولهذا- ولله الحمد- إمام هذه الدعوة ومؤلِّف هذا الكتاب الشيخ محمد بن عبد الوهّاب وتلاميذه ومَن جاء بعده من علماء هذه البلاد ينهجون(14/374)
هذا المنهج،(14/375)
ص -114- ... ويقولون: نحن حنابلة، ولكن ليس معنى هذا أننا نأخذ كل ما في المذهب الحنبلي بدون تمحيص، بل إذا قام الدليل على قول من الأقوال أخذنا به ولو لم يكن في المذهب الحنبلي، كالمذهب المالكي، أو المذهب الشافعي، أو المذهب الحنفي، لأننا ننشُد الدليل، ولا يمنع هذا أن يكون الإنسان حنبليًّا وإذا أخذ بقول قام عليه الدليل يخالف قول ابن حنبل أخذ به لأن إمامه أرشده إلى هذا، فقال له: خذ ما قام عليه الدليل، ولا تقلِّدني على خطأ، كلُّ الأئمة يقولون هذا، ما أحد منهم ادّعى العصمة أو ادّعى الكمال أو قال للناس لا تخالِفوا مذهبي أبداً، بل هم يحذِّرون من هذا، فأنت إذا أخذت بالدليل فإنك موافِقٌ لإمامك الذي تقلِّده، أما إذا أخذت الخطأ فأنت مخالفٌ لإمامك وإن كنت تزعُم التعصُّب له.
فهذه مسألة يجب علينا أن نهتمّ بها، فنتجنّب الإفراط والتفريط، لا نكون مع الذين يرفضون الفقه، ويقولون: هذه أقوال رجال، فيضيعون، فلا هم الذين أخذوا بالفقه، ولا هم الذين يُحسنون الاستنباط والاستدلال، فضاعوا وضيعوا من تبعهم.
ولا نحن مع الذين يقلِّدون تقليداً أعمى، ويتعصّبون لمذاهبهم، ويأخذون بقول إمامهم، ولو خالف الحديث، ويقول: آخذ بقول إمامي ولو خالف الدليل، لأن إمامي أعلم بالدليل. فهذان على طرفي نقيض.
والصواب الوسط، أننا نأخذ بالفقه، ونأخذ بأقوال الأئمة، وندرُس الفقه، لأن دراسته طريقٌ إلى معرفة الحق، ولكن لا نقلِّد تقليداً أعمى، وإنما نميِّز بين الأقوال التي عليها دليل والتي ليس عليها دليل، وإذا كنا لا نعرف هذا علينا أن نسأل أهل العلم عن ذلك.
هذا هو الحق والوسط في هذه المسألة التي خاض فيها الناس في وقتنا الحاضر على غير هدى إلا من رحم الله.
قال الإمام أحمد: "والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} هذا أمرٌ من الله سبحانه وتعالى(14/376)
وتهديد: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}.
والضمير في {أَمْرِهِ} يرجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي مرّ ذكره في أول الآية.(14/377)
ص -115- ... أتدري ما الفتنة؟، الفتنة الشرك، لعلّه إذا ردّ بعضَ قوله أن يقع في قلبه شيءٌ بلا من الزيغ فيهلِك".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} فسّرها الإمام أحمد بالزيغ والشرك، قال: "أتدري ما الفتنة؟، الفتنة الشرك، لعله إذا ردّ بعض قوله" أي: بعض قول الرسول صلى الله عليه وسلم، "أن يقع في قلبه شيءٌ من الزَّيْغ فيَهْلِك".
فمن ردّ قول الرسول صلى الله عليه وسلم متعمِّداً تَبَعاً لهواه، أو تعصُّباً لشيخه الذي يقلِّده، فإنه مهدّد بعقوبتين:
العقوبة الأولى: الزيغ في قلبه، لأنه إذا ترك الحق ابتُلي بالباطل، قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}، وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ}، لَمّا انصرفوا عن تلقِّي القرآن عند نزوله وتعلُّمه صرف الله قلوبهم عن الحق عقوبةً لهم، وقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، لَمّا رفضوه أول الأمر عند ذلك ابتلاهم الله بتقليب أفئدتهم وأبصارهم عقوبةً لهم، فلا تقبل الحق بعد ذلك. وهذا خطرٌ شديد، بخلاف الذي يقبل الحق ويرغب فيه، فإن الله يهديه ويزيده علماً وبصيرة، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ(125)}، فالمؤمن يَتْبع الدليل ويفرح به إذا حصل عليه، والحق ضالّة المؤمن أنّى وجده أخذه، أما الذي في قلبه زيع أو نفاق فهذا إنما يتّبع هواه ولا يتّبع الدليل، وهذا يُصاب بالزيغ(14/378)
والانحراف في العقيدة والانحراف في الدين والانحراف في الأخلاق وفي كلِّ شيء، عقوبةً له من الله سبحانه وتعالى.
والعقوبة الثانية: {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في أبدانهم، بالقتل في الدنيا، بأن يسلِّط الله عليهم من يستأصِل شَأْفَتهم ويقتلهم، إما من المؤمنين، وإما من غير المؤمنين، عقوبةٌ لهم {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، إن ماتوا ولم يُقتلوا بأن يعذبوا في النار. فهذا وعيدٌ شديد على مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم.
فترك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، والأخذ بأقوال العلماء والأمراء المخالِفة لِمَا قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في التحليل والتحريم يسبب الفتنة، أو العذاب الأليم.(14/379)
ص -116- ... وعن عديّ بن حاتم: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية، فقلت له: إنا لسنا نعبدهم. قال: "أليس يحرِّمون ما أحل الله فتحرِّمونه، ويُحِلُّون ما حرّم الله فتُحلُّونه؟ " فقلت: بلى. قال: "فتلك عبادتهم" رواه أحمد والترمذي وحسّنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا هو الشاهد من الآية للباب.
قوله: "وعن عدي بن حاتم: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ} الأحبار جمع حَبر أو جمع حِبر وهو: العالِم.
"{وَرُهْبَانَهُمْ}" جمع راهب، وهو: العابد، والغالب أن الأحبار من اليهود، والرهبان من النصارى.
"{أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}" أي: يطيعونهم في التحليل والتحريم.
{وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} غلوا فيه واتخذوه رباً يعبدونه.
{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} فسمّاه شركاً، ونزّه نفسه عنه، فدلّ على أنّ طاعة الأحبار والرُّهبان في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرّم الله أنه يُعتبر شركاً بالله عزّ وجلّ، ويعتبر حديث عديّ هذا تفسيراً للآية.
فَلمّا سمع عديّ رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية قال: "إنا لسنا نعبدهم"، فَهِمَ رضي الله عنه أن عبادتهم تعني الركوع لهم والسجود لهم، والذبح لهم فقط.
قال صلى الله عليه وسلم: "أليس يحرِّمون ما أحل الله فتحرِّمونه، ويحلون ما حرّم الله فتحلُّونه؟"، قال: بلى، قال: "فتلك عبادتهم" فدلّ هذا على أن طاعة الأحبار والرُّهبان في تحريم الحلال وتحليل الحرام عبادة لهم، ويُعتبر هذا من شرك الطاعة، لأن التحليل والتحريم حقٌّ لله سبحانه وتعالى، فليست العبادة قاصرة على السجود والركوع والدعاء والذبح والنذر وغير ذلك مما يفعله الوثنيُّون، بل(14/380)
ويشمل طاعة المخلوقين في معصية الخالق سبحانه وتعالى ومخالفته في تشريعه، يدخل هذا في ضِمْن العبادة، فالعبادة عامة ليست مقصورة على نوع أو أنواع من العبادة، بل هي شاملة لكل ما هو من حق الله، ومن ذلك: التحليل والتحريم.(14/381)
ص -117- ... ما يُستفاد من هذه النصوص:
أولاً: تحريم طاعة العلماء والأمراء في تحريم الحلال وتحليل الحرام، وأنه إن استباح ذلك فهذا هو الشرك الأكبر، وإن لم يستبحه فإنه يُعتبر معصيةً عظيمة من المعاصي، وهو من الشرك الأصغر.
ثانياً: أن طاعة العلماء والأمراء في غير معصية الله واجبة لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}، وذلك لأنه لا يتمّ نظام العالَم وقيام المصالح إلاّ بطاعة وُلاة الأمور ما لم يأمروا بمعصية الله عزّ وجلّ، فإن أمروا بمعصية الله فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق في تلك المعصية، ويُطاعون فيما ليس بمعصية.
ثالثاً: في قول ابن عبّاس رضي الله عنهما أن قولَ العالم إذا خالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يجب الأخذ بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك قولَ العالم مهما بلغ من الفضل، كأبي بكر وعمر، وسفيان الثوري. والعالم إذا أخطأ عن اجتهاد فخطأه مغفور، لكن لا يجوز لنا تقليده على خطأ.
رابعاً: يؤخذ من قول الإمام أحمد رحمه الله: أن الذي بلغ رُتبة الاجتهاد ومعرفة صحة الإسناد أنه لا يجوز له أن يقلِّد، بل يجب عليه الاجتهاد للتوصُّل إلى الحق بنفسه، ولا يسعه إلاّ ذلك، لأن التقليد لا يجوز إلاّ عند الحاجة، وهذا غير محتاج للتقليد.
خامساً: يؤخذ من قول الإمام أحمد: أن من لا يعرف الإسناد وصحته يجب عليه التقليد لمن يثق بعلمه وعمله، لئلا يضيع في دينه.
سادساً: أن صحة الإسناد تدلُّ على صحة المتن خلافاً لمن قال من العقلانيِّين: إنه وإنْ صحّ الإسناد فهو لا يدل على صحة المتن.
سابعاً: يؤخذ من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه أن العبادة ليستْ قاصرةً على الركوع والسجود والدعاء والاستغاثة، بل تشمل طاعة الأوامر وترك النواهي.
ثامناً: أنّ مَن أطاع العلماء والأمراء أو غيرهم في تحريم الحلال أو تحليل الحرام أنه قد اتّخذهم(14/382)
شركاء لله سبحانه وتعالى في عبادته، وهذا محلّ الشاهد من الآية الكريمة وحديث عدي للترجمة.
والله تعالى اعلم.(14/383)
ص -118- ... [الباب التاسع والثلاثون:]
* باب قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60)} الآيات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب من جنس الباب الذي قبله كلاهما في تغيير شرع الله، لكن هذا الباب يخص التحاكم في الخصومات خاصة والباب الذي قبله في التحليل والتحريم عموماً.
وقولُ المصنف- رحمه الله تعالى-: "باب قول الله تعالى" يعني: ما جاء في تفسير هذه الآيات ممّا ذكره أهلُ العلم في تفسيرها؛ ممّا يدلّ دَلالة واضحة على أنّ التحاكُم إلى ما أنزل الله من التّوحيد والعبادة، وأنّ التحاكُم إلى غيره شركٌ بالله عزّ وجلّ وكفرٌ به، لأنّ الحكم لله وحده: الحكم القدَري، والحكم الشرعي، والحُكم الجزائي كلّه لله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ}، {لَهُ الْخَلْقُ}، هو الذي خلق، (وله الأمر)، فهو الذي يأمر وينهى، ويحلِّل ويحرِّم، ليس لغيره شركٌ في ذلك. وقال تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
فالتحاكم إلى ما أنزل الله داخلٌ في التوحيد، والتحاكُم إلى غيره من أنواع الشرك، لأنّ من معنى {لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} ومقتضاها ومدلولها: التحاكُم إلى كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومَن تحاكَم إلى غير كتاب الله وسنّة رسوله فإنّه قد أخلّ بكلمة التّوحيد فأخلّ بمقتضى "لا إله إلا الله، محمد(14/384)
رسول الله".
فمدلول الشّهادتين: أن نتحاكَم إلى كتاب الله وإلى سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع أُمورنا، ليس المُراد: التحاكُم في المنازعات فقط، بل التحاكُم في المقالات والاجتهادات الفقهيّة أيضاً، فلابدّ أن نحكِّم كتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أقوال المجتهدين، ونأخذ منها ما دلّ عليه الدليل، ونترك ما لم يدل عليه دليل، ولا نتعصّب(14/385)
ص -119- ... لرأي فلان أو للإمام فُلان، فمن تعصّب لم يكن متحاكماً إلى ما أنزل الله وإلى الرّسول، وإنما تحاكم إلى هذا الشخص الذي تعصّب له وجَمَد على رأيه، مع مخالفته، وهو اجتهاد اجتهد فيه، لكن إذا خالف الدليل فلا يجوز لنا أن نتعصّب لرأي إمام أو لرأي عالم أو لرأي مفت من المفتين، ونحنُ نعلم أنّه مخالِفٌ للدّليل، لكن ذلك العالم معذور لأنّه مجتهِد، ولكنّه لم يصادف الدّليل، فهو معذور له أجرٌ على ذلك، لأنّ هذا منتهى اجتهادِه، أما مَن تبيّن له أن هذا الاجتهاد غير مطابِق للدّليل فلا يسعه أن يأخذ بهذا الاجتهاد، ولا يجوز له. والأئمّة ينهون عن ذلك، ينهوننا أن نأخُذ بآرائهم دون نظرٍ إلى مستندها من كتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلاّ كنا- كما سبق في الباب الذي قبل هذا- أطعنا العلماء والأمراء في تحريم ما أحلّ الله وتحليل ما حرّم الله.
وكذلك التحاكُم في المناهِج التي يسمّونها الآن: مناهج الدّعوة، ومناهج الجماعات هي من هذا الباب، يجب أن نحكِّم فيها كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فما كان منها متمشِّياً مع الكتاب والسنّة فهو منهجٌ صحيح يجب السّير عليه، وما كان مخالِفاً لكتاب الله وسنّة رسوله يجب أن نرفُضه وأن نبتعد عنه.
ولا نتعصّب لجماعة أو لحزب أو لمنهج دَعَوِيّ ونحنُ نرى أنه مخالِف لكتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالدعاة منهم من هو داعية ضلال.
فالذي يَقْصُر هذا التحاكُم إلى الكتاب والسنّة على المحاكم الشرعيّة فقط غَالِط، لأن المراد: التحاكُم في جميع الأمور وجميع المنازَعات: في الخُصومات وفي الحُقوق المالية، وغيرها، وفي أقوال المجتهدين، وأقوال الفقهاء، وفي المناهج الدّعويّة، والمناهج الجماعيّة، لأن الله تعالى يقول: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ} و{شَيْءٍ} نكِرة في سياق الشرط، فتعتمّ كل نزاع وكل خِلاف في شيء، سواءً في الخُصومات، أو في المذاهب، أو(14/386)
في المناهِج. وفي أقوال الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والقدرية.
يجب أنّنا نعرف هذا، لأن بعض الناس وبعض المنتسبين للدّعوة يَقْصُر هذا على وجوب التحاكُم في المنازعات والخُصومات إلى المحاكِم الشرعية، ويقول: يجب تحكيم الشريعة ونَبْذِ القوانين، نعم، يجب هذا، ولكن لا يجوز الاقتصار(14/387)
ص -120- ... عليه، بل لابُدّ أن يتعدّى إلى الأُمور الأخرى، إلى تحكيم الشريعة في كلّ ما فيه نزاع، سواءً كان هذا النّزاع بين دُول، أو كان هذا النّزاع بين جماعات، أو كان هذا النزاع بين أفراد، أو كان هذا النّزاع بين مذاهب واتّجاهات، لابدّ من تحكيم الكتاب والسنّة. نحن نُطالِب بهذا في كلّ هذه الأُمور.
أما أن نَقْصُرَهُ على ناحية ونسكُت عن النّاحية الأخرى، فنقول: النواحي الأخرى دعوا الناس إلى رغباتهم، دعوا كلاًّ يختار له مذهباً، وكلاًّ يختار له منهجاً.
نقول: هذا قُصور عظيم، لأنه يجب أن نحكِّم الشريعة في المحاكِم، ونحكّمها في المذاهب الفقهيّة، ونحكّمها في المناهج الدّعويّة، لابد من هذا، فلا يجوز لنا أن نَقْصُر كلام الله وكلام رسوله على ناحية ونترُك النواحي الأخرى، لأنّ هذا إمّا جهل وإمّا هوى.
كثيرٌ من النّاس اليوم ينادون بتحكيم الشريعة في المحاكِم وهذا حق؛ لكن هم متنازِعون ومختلفون في مناهجهم وفي مذاهبهم، ولا يريدون أن يحكِّموا الشّريعة في هذه الأمور، بل يقولون: اتركوا الناس على ما هم عليه، لا تتعرّضوا لعقائدهم، لا تتعرضوا لمصطلحاتهم، لا تتعرّضوا لمناهجهم، اتركوهم على ما هم عليه، وهذا ضلال، بل هذا من الإيمان ببعض الكتاب والكفر بالبعض الآخر، مثل قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ}.
فهذا أمر يجب التنبُّه له، لأنّ هذه مسألة عظيمة غفل عنها الآن الأكثرون.
فالذين ينادون بتحكيم الشريعة إنما يريدون تحكيمَها في المخاصَمات، في الأموال، والأعراض، والخلافات بين الناس، والأمور الدّنيوية دون العقائد والمذاهب. ومناسبة عقد هذا الباب في كتاب التوحيد: أن التّحاكُم إلى ما أنزل الله هو من التّوحيد والتحاكُم إلى غيره شركٌ(14/388)
بالله عزّ وجلّ، شركٌ في الحكم والتّشريع.
ثم ذكَر الآيات، وهي قولُ الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} هذا تعجُّب استنكار.
{إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ(14/389)
ص -121- ... يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} هل يتّفق هذا مع دعوى الإيمان؟، لا يتّفق، لأنهم يريدون أن يجمعوا بين الإيمان والكُفر، ولا يمكن هذا، فالمؤمن بالله وبرسوله يحكِّم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أما الذي يدّعي الإيمان ولكنّه في الحكم لا يرجع إلى الله ولا إلى رسول الله، فهذا ليس بمؤمن، ولهذا قال: {يَزْعُمُونَ} والزّعمُ هو: أكذبُ الحديث، وهذا يدلّ على أنهم كاذبون في دعواهم الإيمان، والدليل على كذبهم: أنّهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطّاغوت، ولو كان إيمانهم صادقاً لم يتحاكموا إلاّ إلى كتاب الله وسنّة رسول الله.
فدلّ هذا على أن إرادة التحاكُم إلى غير كتاب الله وسنة رسول الله- مجرّد الإرِادة- يتنافى مع الإيمان، فكيف إذا فَعل؟، كيف إذا تحاكَم إلى غير كتاب الله وسنّة رسوله؟، إذا كان مَن نوى بقلبه واستباح هذا الشيء ولو لم يفعل أنّه غير مؤمن، فكيف بمن نفّذ هذا وتحاكَم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله في أموره كلها، أو في بعضها؟.
وقوله: {آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} وهو القُرآن.
{وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} وهو: الكُتُب السابقة، لأنّ الإيمان بالكُتُب كلها هو أحد أركان الإيمان الستّة، الإيمان بالكُتب التي أنزلها الله سبحانه وتعالى على رُسله، يجب الإيمان بها، ما سمّى الله منها وما لم يسمّ. أما الذي يؤمن بكتابٍ ويكفُر بالكتب الأخرى فهذا كافرٌ بالجميع، فاليهود إذا قيل لهم: آمنوا بما أنزل الله، {قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ}، فالذي يقول: لا نؤمن إلاّ بالكتاب الذي نزل على رسولنا فقط، أما الكتاب الذي نزل على غير رسولنا فلا نؤمن به. فهذا كافر بالكتاب الذي نزل على رسوله، لأنّ الكتب مصدرها واحد، يصدِّق بعضها بعضاً، وكلّها من الله سبحانه وتعالى، والرُّسل إخوة، كلّهم- عليهم الصلاة والسلام-(14/390)
إخوة، دعوتهم واحدة، ومنهجهم واحد، فالذي يؤمن بكتاب ويجحد غيره، أو يؤمن بالكتب إلا واحداً منها، أو يؤمن بالرسل ويكفر ببعضهم فهذا كافر ٌبالجميع، ولهذا قال: { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ(105)}، {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ(123)}، {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ(141)}، {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ(160)}، مع أنهم لم يكذُبوا إلا رسولهم، لكن لَمّا كفروا(14/391)
ص -122- ... برسولهم صاروا مكذبين للمرسلين جميعاً، لأنّ الرسل- عليهم الصلاة والسلام- دينهم واحد، ومنهجهم واحد، وهم إخوة، يجب الإيمان بهم جميعاً.
وقوله: {يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} ادّعوا هذا، لكن لَمّا جاء التنفيذ اختلف الفعل عن القول، وتبيّنت حقيقتهم.
{يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} الطّاغوت: مشتقٌّ من الطُّغيان، وهو: مجاوزة الحدّ، قال الشيخ الإمام ابن القيِّم: (الطّاغوت: ما تجاوز به العبدُ حدّه من معبود أو متبوعٍ أو مُطاعٍ في معصية الله، والطّواغيتُ كثيرون، ورؤوسهم خمسة: إبليسٌ- لعنه الله، ومَن عُبد وهو راضٍ، ومَن دعا الناس إلى عبادة نفسه، ومَن حكم بغير ما أنزل الله، ومن ادّعى علم الغيب".
هؤلاء رؤوس الطواغيت، ومنهم: مَن حكم بغير ما أنزل الله، الذي هو موضوع هذا الباب، وهم الذين يحكمون ويتحاكمون بغير شريعة الله سبحانه وتعالى من القوانين والأنظِمَة، والعادات والتقاليد، وأمور الجاهلية والقَبَلِيّة، لأن هناك قوانين وَضْعِيّة وضعها البَشَر، وهناك عادات وتقاليد في المجتمعات، يمشي بعضُ الناس عليها، وهُناك أعرافٌ جاهليّة بين القبائل يسمّونها (السُّلُوم)، وشيوخ القبائل (العوارِف)، كل قبيلة لها عارفة يحكم بينهم، إمّا كاهن، وإِمّا ساحر، وإمّا رجل عادي، وهذا كلَّه منبوذ، وكلّه مطروح بعد بِعثَة الرّسول صلى الله عليه وسلم، ويَجب الرُّجوع إلى كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلّ من حكم بغير كتاب الله وسنّة رسوله مستحلاً لذلك فإنه طاغوت يجب الكُفر به. ولهذا قال: {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ}، وكذلك في قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا}،(14/392)
فالإيمان بالله لا يصحّ إلاّ بعد الكفر بالطّاغوت، فالكفر بالطّاغوت ركن الإيمان، فلا يصحّ أن يجمع بين الإيمان بالله والإيمان بالطّاغوت، لأن هذا جمعٌ بين نقيضين، والله قدّم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله. وهذا معنى "لا إله إلاّ الله"، لأنّ "لا إله إلاّ الله" إيمانٌ بالله وكُفرٌ بالطّاغوت، فقولنا: "لا إله" هذا نفيٌ، ينفي جميع المعبودات والطّواغيت، وقولُنا: "إلاّ الله" هذا إيمانٌ بالله سبحانه وتعالى وحده.(14/393)
ص -123- ... وقوله: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} بيّن سبحانه وتعالى أنّ عملهم هذا إنما هو إملاءٌ من الشيطان، فهو الذي سوّل لهم هذه الإرادة- إرادة التحاكُم إلى الطّاغوت-، هو الذي سوّل لهم وأملى عليهم هذه الفكرة الخبيثة، يريد أن يُبعدهم ويُغوِيَهم، وليس ضلالاً عاديًّا، بل {ضَلالاً بَعِيداً} عن الحقّ، يُبعدهم غاية البُعد، فلا يكفيه أنّه يتركهم في مكان قريب، لأنّهم إذا كانوا في مكان قريب ربّما يرجعون، لكن يُبعدهم بُعداً لا يرون معه الحق أبداً. هذا الذي يريده الشيطان، فهو الذي يبعد الناس عن تحكيم كتاب الله وسنّة رسوله، لأنّ الشيطان يريد لهم الشّرّ ولا يُريد لهم الخير، ولا يكفيه الانحراف اليسير، لا يرضى إلاّ بالانحراف الكُلِّي والبعيد عن منهج الله سبحانه وتعالى.
ثم- أيضاً- من علاماتهم: أنهم لا يقبلون النّصيحة، لأنّ الشيطان أضلّهم ضلالاً بعيداً، ولهذا قال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} طُلب منهم ونُصحوا أن يرجعوا إلى الحق لا يقبلون، لأنهم تعمّدوا مخالفة الحق، فهم ما تركوا الحقّ عن جهل، ولكنّهم تركوه عن تعمُّد، فلذلك لا يقبلون النّصيحة، ولهذا قال: {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} يعرضون إعراضاً كلياً.
والمنافقون: جمع منافق، وهو: الذي أظهر الإسلام وأبطن الكفر، لأنه لَمّا رأى قوة الإسلام لم يستطع معارضته، فلجأ إلى حيلة وهي أن يُظهِر الإيمان من أجل أن يعيش مع المسلمين ويسلَم على دمه وماله، ويَبقَى على الكفر في باطن أمره، فهو أظهر الإسلام خداعاً ومكْراً، فصار شرًّا من الكافر الخالص، لأنّ الكافر الخالص أخفّ من المنافق، لأنّ الكافر الخالص معلوم ومعروف عداوته، معروف موقفه من الإسلام، لكن هذا موقفه من الإسلام متذبذب، لا هو مع الكفّار ولا هو مع المسلمين {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى(14/394)
هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ}، إن صارت الغلبة للكفّار فرح وعاش معهم، وإن صارت العزّة والغَلَبة للمؤمنين عاش معهم، فيُريد أن يعيش مع القوي، وهذا أخسّ المذاهب، وأحطّ المذاهِب، لأنّ الإنسان يجب أن يكون صريحاً، لا يخادع، لكن هؤلاء يخادعون، ولذلك صاروا في الدَّرْك الأسفل من النار {وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا}.(14/395)
ص -124- ... وقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً(62)} يعني: إذا نزلت بهم كارثة، أو أنزل الله فيهم قرآناً يفضحهم جاءوا إلى الرّسول يعتذرون، ويحلفون بالله، وهم أكثرُ الناس حلفاً بالله وهم كاذبون، يحلفون على الكذب وهم يعلمون.
{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} يقولون: ما أردنا مخالفتك، ولا أردنا مخالفة كتاب الله، ولكن عملنا هذا للمصلحة، وتوفيقاً بين الناس، وهذا ممّا يدلّ على غباوتهم، وعلى قُبْح سجيّتهم، فالاعتذار أخسّ من الفعل، لأنهم يدّعون أن تحكيم غير كتاب الله إحسان وتوفيق، فهذا عذرٌ أقبح من فعل، لأن الإحسان والتوفيق هو بإتّباع كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولَمّا قالوا في إحدى الغزوات: "ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطوناً، وأكذب ألسناً، وأجبن عند اللّقاء" يعنون: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكان قد حضر مجلسهم واحدٌ من المسلمين فذهب وبلّغ الرسول صلى الله عليه وسلم، فلمّا علموا جاءوا يركضون يريدون الاعتذار، فوجدوا الوحي قد سبقهم، فأنزل الله على رسوله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}، ما يزيد الرسول على أن يقرأ هذه الآية، وهم متعلِّقون بناقته صلى الله عليه وسلم يعتذرون، ولا يلتفت إليهم.
ثم بيّن الله أنهم كاذبون، وأنهم يقولون ما ليس في قلوبهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ}، فهم يعتذرون إليك في الظّاهر ويحلفون في الظّاهر، وما جاءوا تائبين ونادمين، وإنّما جاءوا مخادعين.
{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} لا تقبل اعتذارهم، لأنّه اعتذارٌ كاذب، وإنما يُقبل الاعتذار من الإنسان النّادم والإنسان(14/396)
التّائب، والإنسان المخطئ من غير تعمّد، أما الإنسان المتعمِّد للباطل فلا يُقبَل اعتذارُه إلاّ إذا رجع إلى الصواب.
{وَعِظْهُمْ} يعني: الواجب عليك تجاههم: الموعظة، بأن تخوِّفهم بالله عزّ وجلّ، وتحذّرهم من النّفاق والكذب، وتأمُرهم بالتّوبة، وتبيِّن لهم عقوبة مَن فعل هذا الفعل.
{وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} {فِي أَنْفُسِهِمْ} قيل: معناه: بيِّن لهم ما(14/397)
ص -125- ... في أنفسهم، وما يبيِّتونه ممّا بيّنه الله لك، وأطلعك عليه. وقيل: معناه: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ} أي: قل لهم خالياً بهم وحدهم وأسِرَّ إليهم بالنصيحة. {قَوْلاً بَلِيغاً} يعني: كلاماً جَزْلاً فاصلاً يؤثِّر فيهم، ومعنى هذا: أنّك لا تقابلهم باللّين أو بالكلام اللّيّن أو بالملاطفة، لأنهم ليسوا أهلاً لذلك، ولكن قابلهم بالكلام البليغ الزّاجر المخوِّف المروِّع، لأنهم فعلوا فعلاً قبيحاً لا يناسِب معهم الملاطفة والملايَنة.
ثم قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ} يعني: جميع الرّسل- عليهم الصلاة والسلام- ومنهم: محمد صلى الله عليه وسلم.
{إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} بشرعه ودينه، أو بتوفيقه سبحانه وتعالى، فالواجب: طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم مخالفته، ومن طاعته: التحاكُم إليه.
ثم بيّن سبحانه وتعالى: أنّ هؤلاء لو تابوا ورجعوا إلى الله لتاب الله عليهم، فقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} يعني: لَمّا حصل منهم ما حصل من التحاكُم إلى غير كتاب الله وسنّة رسوله {جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} هذا عَرْضٌ للتّوبة. {وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} لأنّ استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم شفاعةٌ منه صلى الله عليه وسلم. وهذا في حياته صلى الله عليه وسلم، فهو يستغفر للمذنبين والمسيئين، ويدعو للمسلمين في قضاء حوائجهم، فهو صلى الله عليه وسلم في حياته يستغفر ويدعو للمسلمين، أما بعد مماته صلى الله عليه وسلم فلا يُذهب إلى قبره، ولا يُطلب منه الاستغفار ولا الدّعاء، لأنّ هذا انتهى بموته صلى الله عليه وسلم، ولكن بقي- ولله الحمد- كتابُ الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم فيهما الخير، وفيهما البَرَكة، وما كان الصّحابة رضي الله عنهم يذهبون إلى قبره، ويطلبون منه ذلك.
أما الذين يستدلّون بهذه الآية على المجيء إلى قبر الرّسول صلى الله عليه وسلم والدعاء عنده،(14/398)
وطلب الاستغفار من الرّسول وهو ميّت، فهذا باطل، لأن الصّحابة رضي الله عنهم لم يفعلوا هذا، وهم أعلم الأمة وأحرص الأمة على الخير، وما كانوا يأتون إلى قبر الرّسول صلى الله عليه وسلم إذا أشكل عليهم شيء، أو نزلت بهم نازلة، أو أصابهم قحط، أو انحباس مطر، أو أصابتهم شدّة من الشّدائد، ما كانت القرون المفضّلة يأتون إلى قبر الرّسول صلى الله عليه وسلم، وإنما يطلُبون من الله، وإذا كان فيهم أحدٌ من أهل الصلاح أو من قَرابة الرّسول صلى الله عليه وسلم طلبوا منه أن يدعوَ الله لهم، كما فعل عمر رضي الله عنه مع العبّاس بن(14/399)
ص -126- ... عبد المطّلب- عمّ الرّسول صلى الله عليه وسلم- لَمّا انحبس المطر واستسقوْا، قال عمر رضي الله عنه: "اللهم إنّا كنا نتوسّل إليك بنبيّك فتسقينا" يعني: يوم أنْ كان حيًّا- عليه الصّلاة والسلام، "وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا، ادع يا عبّاس".
هذا عمل الصّحابة رضي الله عنهم، ما كانوا يأتون إلى قبر الرّسول صلى الله عليه وسلم، بل عدَلوا إلى العبّاس لأنّ العباس حيّ موجود بينهم والرّسول صلى الله عليه وسلم ميّت، والحي يقدر على الدعاء والاستغفار، والميت لا يقدر، ومن لم يفرّق بين الحي والميت فهو ميّت القلب.
وكذلك معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لَمّا استسقى، طلب من أبي يزيد الجُرَشي أن يدعوَ الله، فدعا، هذا عمل الصّحابة، وهم أفقهُ الأمة وأعلم الأمة، ما كانوا يأتون إلى قبر الرّسول صلى الله عليه وسلم، وإنما كانوا إذا قدِموا من سفر يأتون إلى قبر الرّسول صلى الله عليه وسلم للزّيارة والسلام على الرّسول صلى الله عليه وسلم ثم ينصرفون، ما كانوا يأتون ويدعون عند القبر، أو يطلُبون من الرّسول صلى الله عليه وسلم الشّفاعة، أو يطلُبون منه الاستغفار بعد موته هذا لا يجوز، لأنّه من وسائل الشّرك.
وتدلّ الآية على أن المنافقين لو تابوا تاب الله عليهم، وأنّ مَن تحاكَم إلى غير شريعة الله أنه يجب عليه التّوبة، وإذا تاب تاب الله عليه.
أما المخادَعة، وأما الكلام الفارغ، وأنّنا ما أردنا بهذه الأُمور إلاّ الخير والإصلاح بين الناس، وما أردنا مخالفة الكتاب والسنّة، فهذا لا يُقبل، ولا اعتذار فيه أبداً. وتنميق الألفاظ، وتنميق الاعتذارات والحُجج المزخرفة، كل هذا لا يُقبل إلاّ مع التّوبة الصّادقة، وترْك هذا الذنب العظيم.
كثيرٌ ممّن يحكِّمون القوانين اليوم ممّن يدّعون الإسلام يعتذرون بأعذار باطلة فيقال لهم: إنْ كنتم تريدون الحق فارجعوا عمّا أنتم عليه وتوبوا إلى الله كما عرض الله التّوبة على مَن كان(14/400)
قبلكم. أزيلوا هذه القوانين، وهذه الطاغوتيّة إنْ كنتم صادقين وتوبوا إلى الله، والله يتوب على مَن تاب. أما الاستمرار على الذّنب مع إظهار التّوبة والاستغفار، فهذه مخادَعة لا تجوز، لأن شروط التّوبة: الإقلاع عن الذّنب، والعزم أن لا يعود إليه، والنّدم على ما فات.
ثم قال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} هذا ردٌّ على دعواهم الإيمان، وهو ردّ مؤكّد بالقسم.(14/401)
ص -127- ... {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} من النِّزاع والاختلاف، وهذا- كما ذكرنا- عامٌّ للاختلاف في الخُصومات الّتي تنشَبُ في الأموال أو غيرها، وفي العقائد، وعامٌّ في الخُصومات في المذاهب والآراء الفقهية، وعام في الخصومات في المناهج الدّعويّة التي انقسم فيها النّاس اليوم، يجب أن يحكَّم فيها كتاب الله وسنّة رسوله، فإن لم يُفعلوا فليسوا بمؤمنين، لأن الله أقسم سبحانه على نفي الإيمان عن من لم يعمل هذا العمل.
ثم قال تعالى: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} أما مَن تحاكَم إلى الشّريعة ولكنّه قَبِل الحُكم على مَضَض، وهو يجد في نفسه كراهية لهذا الحكم فهذا ليس بمؤمن، لابدّ أن يقبَل هذا الحُكْم عن اقتناع، أما إنْ قَبِلَه مضطّرًّا وأغمض عليه إغماضاً فهذا ليس بمؤمن.
ثم قال تعالى: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} ينقادون انقياداً تاماً.
فهذه ثلاثة أمور:
أولاً: يحكِّموك فيما شَجَر بينهم.
ثانياً: أن لا يجدوا في أنفسهم حرجاً من حكم الله ورسوله.
ثالثاً: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} ينقادون انقياداً لحكم الله ورسوله.
فبهذه الأمور الثلاثة يثبُت الإيمان بها ويتحقّق.
فالذي لا يحكِّم كتاب الله وسنّة رسوله ليس بمؤمن، والذي يحكِّم كتاب الله وسنّة رسوله ولا يرضى به، وإنما يقبَله مجامَلة، أو لأجل غَرضٍ من الأغراض هذا ليس بمؤمن، والّذي لا ينقاد ولا يسلِّم، هذا ليس بمؤمن.
ثم- أيضاً- ليس المقصود من التحاكُم إلى الشريعة هو مجرّد تحقيق الأمن والعَدالة بين الناس، فهذا لا يكفي، لابدّ أن يكون تحكيم الشريعة تعبُّدا ًوطاعةً لله، فالّذين يحكِّمون الشّريعة من أجل ما فيها من المصالح والعدل بين الناس فقط، فهذا لا يدلّ على الإيمان، لابد أن يكون تحكيم الشّريعة صادراً عن إيمان وتعبُّد لله عزّ وجلّ وطاعةً لله عزّ وجلّ، لأنّ هذا من التّوحيد، أمّا الذي لا يقبل من الشّريعة إلا(14/402)
المصالح الدنيويّة والعدالة الحاصلة بين الناس في هذه الدنيا فهذا لا يكفي، بل يحكِّم الشريعة(14/403)
ص -128- ... وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)}.
وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
طاعةً وتعبُّداً، وخُضُوعاً لحكم الله سبحانه وتعالى، ولهذا صار تحكيم الشّريعة من التّوحيد.
والشّاهد من الآيات للباب واضح، أنّها تدلّ على أنّ تحكيم الشّريعة والتحاكُم إليها من توحيد الله عزّ وجلّ، وأنّ ترْكَ ذلك من الشّرك بالله ومن صفات المنافقين.
قوله رحمه الله: "وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ(11)}" هذه الآية في سياق الآيات التي ذكرها الله في مطلَع سورة البَقرة في المنافقين أي إذا قيل للمنافقين: لا تُفسدوا في الأرض بالمعاصي، ومن أشدّ المعاصي: التحاكُم إلى غير ما أنزل الله، وهذا وجه إيراد الآية في هذا الباب وهو أنّ تحكيم غير شريعة الله من الإفساد في الأرض، وأن تحكيم شريعة الله هو صَلاح الأرض، فكذلك بقيّة الطّاعات، فصلاح الأرض إنّما يكون بطاعة الله عزّ وجلّ وفساد الأرض إنّما يكون بمعصية الله عزّ وجلّ، فالمعاصي تُحدِثُ الفساد في الأرض من نُضوب المياه، وانحباس الأمطار، وغلاء الأسعار، وظُهور المعاصي والمنكَرات، كلّ هذا فسادٌ في الأرض، ولا صلاح للأرض إلا بطاعة الله عزّ وجلّ، ولا عِمارة للأرض إلاّ بطاعة الله عزّ وجلّ.
فالمنافقون إذا قيل لهم: اترُكوا النّفاق لأنّ النفاق فساد، {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}، وهذا من فساد الفِطْرة، حيث يعتقدون أنّ ما هم عليه هو الإصلاح، وأنّ ما عليه المؤمنون هو الفساد. وهكذا كلّ صاحب مذهب فاسد، يدّعي أن مذهبه إصلاح في ا لأرض، وأنّه تقدّم، وأنه رُقيّ، وأنّه حضارة، وأنّه، وأنه، إلى آخره.
وكما ذكرنا: أنّ التحاكُم إلى كتاب الله من الإصلاح في الأرض، والتحاكُم إلى غير كتاب(14/404)
الله من الإفساد في الأرض، فيكون هذا وجه سِياق المصنِّف رحمه الله لهذه الآية في هذا الباب.
قال رحمه الله: "وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}" هذه الآية من سورة الأعراف.(14/405)
ص -129- ... وقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذه كآية سورة البقرة تماماً ومعناها لا تُفسدوا في الأرض بالمعاصي، والشّرك بالله عزّ وجلّ، وتحكيم غير ما أنزل الله، {بَعْدَ إِصْلاحِهَا} بإرسال الرُّسل وإنزال الكتب والإيمان بالله عزّ وجلّ، فالله أصلح الأرض بإرسال الرُّسل وإنزال الكُتب وحُصول الإيمان فيها، فلا يجوز أن تُغَيَّر نعمةُ الله عزّ وجلّ وتُسْتَبْدَل بضدّها، فيكون بعد التّوحيد الشرك، ويكون بعد تحكيم كتاب الله تحكيم القوانين الوضعيّة والعوائد الجاهليّة، ولا يكون بعد الطّاعات المعاصي والمخالفَات.
قال رحمه الله: "وقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} المراد بالجاهلية: ما كان قبل الإسلام، كان أهل الجاهليّة على ضلالة، ومن ذلك: التّحاكم، كانوا يتحاكمون إلى الكُهّان، وإلى السحرة، وإلى الطّواغيت، وإلى العوارِف القَبَليّة.
فهؤلاء المنافقون الذين ادّعوا الإسلام يريدون حكم الجاهليّة، ولا يريدون حكم الله سبحانه وتعالى، ولا يريدون أن ينتقلوا من حكم الجاهلية إلى حكم الشريعة، بل يريدون البقاء على حكم الجاهلية، وهذا مذهب المنافقين دائماً ومَن سار في رَكْبِهم.
وهذا استنكارٌ من الله سبحانه وتعالى لمن يريد أن يستبدل الشّريعة بالقوانين الوضعيّة، لأنّ القوانين الوضعيّة هي حكم الجاهليّة، لأنّ حكم الجاهلية أوضاع وضعوها ما أنزل الله بها من سلطان، والقوانين الوضعيّة أوضاع وضعها البشر، فهي وحكم الجاهليّة سواء لا فرق، فالذي يريد أن يحكم بين الناس بالقوانين الوضعيّة يريد حكم الجاهليّة الذي أراده المنافقون من قبل.
ثم قال: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} {مَنْ} بمعنى: لا، أي: لا أحد أحسنُ من الله حكماً، لأنّ الله سبحانه وتعالى، عليم حكيم خبير، يعلم ما يصلُح به العباد، ويعلم حوائج النّاس،(14/406)
ويعلم ما يُنْهِي النزاعات بين النّاس، ويعلم العواقب وما تؤول إليه، فهو تشريعٌ من عليم حكيم سبحانه وتعالى، لا يستوي هو والقوانين التي وضعها البشر، الذين عقولهم قاصرة وتدخُلهم الأهواء والرّغبات، وعلمهم محدود، إنْ كان عندهم علم، لا يشرِّع للبشر إلاّ خالق البشر الذي يعلم مصالحهم، وبعلم ما تنتهي إليه أُمورهم، ولهذا قال: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ} أي: لا أحد أحسنُ حكماً من الله،(14/407)
ص -130- ... وعن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لَمّا جئت به" قال النووي: (حديث صحيح، رويناه في كتاب "الحجة" بسند صحيح".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأفعل التفضيل هنا على غير بابه، فليس هناك طرفان، أحدهما أفضل من الآخر، فحكم البشر ليس فيه حسن أبداً، وإنما حكم الله هو الحسن وحده.
قال: "وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لِمَا جئت به".
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدُكم" هذا نفيٌ للإيمان الكامل، وليس نفياً للإيمان كلِّه، لأنّه قد يأتي نفي الإيمان، ويُراد نفي الإيمان الكامل كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبّ لنفسه"، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزّاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرِق السّارق حين يسرِق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" فالمراد بهذَا: نفيُ الإيمان الكامل، لا نفي مطلَق الإيمان، فإنّ الفاسق يكون معه من الإيمان ما يصحّ به إسلامُه، أمّا الذي ليس معه إيمان أصلاً، فهذا كافرٌ خارجٌ من الملّة. وهذا مذهب أهل السنّة والجماعة: أن الفاسق لا يُسْلَب مطلَق الإيمان، ولا يعطى الإيمان المطلَق، فلا يُسلب لمطلق الإيمان بحيث يكون كافراً كما تقوله الخوارج والمعتزلة، ولكنه لا يُعطى الإيمان المطلق كما تقوله المرجئة، وإنما يُقال: "مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته"، أو يُقال: "مؤمنٌ ناقص الإيمان"، لأنّ الذين يقولون: إن صاحب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان، هم المرجئة، والذين يقولون: إن صاحب الكبيرة كافرٌ خارجٌ من الإيمان وليس معه من الإيمان شيء، هؤلاء هم الخوارج والمعتزلة.
وأهل السنّة- ولله الحمد- وسط بين هذين المذهبين، فلا يسلِبون مرتكب الكبيرة الإيمان بالكُلِيّة، ولا يُعطونه الإيمان الكامل، وإنما يسمّونه(14/408)
مؤمناً فاسقاً أو مؤمناً ناقص الإيمان.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "حتى يكون هواه" الهوى مقصور، معناه: تكون محبّته ورغبته تابِعةً لِمَا جئتُ به، فما جاء به الرّسول صلى الله عليه وسلم أحبّه، وما خالف ما جاء به الرّسول صلى الله عليه وسلم أبغضه، هذا هو المؤمن الذي يحبّ ما جاء به الرّسول صلى الله عليه وسلم ويُبغض ما خالفه.(14/409)
ص -131- ... "تبعاً لِمَا جئتُ به" من الشّريعة والكتاب والسنّة، فهذه علامةٌ واضحة بين أهل الإيمان وأهل الكفر.
قوله: "قال النّووي" الإمام أبو زكريّا يحيى بن شَرَف النّووي، صاحب التصانيف العظيمة في الإسلامِ كـ "شرح صحيح الإمام مسلم"، "وروضة الطالبين" في الفقه، وغير ذَلك من المصنّفات العظيمة، وقد تُوفّي رحمه الله وهو شابّ في الأربعين من عُمُره.
وقوله: "رَوَيْنَاهُ في كتاب الحُجّة" وهو كتابٌ لأبي الفتح نصرْ بن إبراهيم المقدِسي الشّافعي، سماه: "الحُجّة على تارك المَحَجَّة"، وهو كتابٌ في التوحيد يردّ فيه على المبتدعة وأصحاب المقالات الباطلة في العقيدة، فيُعتبر من كتب العقيدة وهو مطبوع محقق.
"بسند صحيح" الإسناد تؤيِّده الأدلّة من الكتاب والسنّة، فإنّ المؤمن يجب أن يكون محبًّا وراغباً فيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ومبغضاً لِمَا سواه، قال الله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ}، وقال سبحانه وتعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} فالذي لا يأخذ من الشرع إلاّ ما يوافق هواه ويترك ما خالف هواه ورغبته إنَّما يتّبع هواه، وقد اتّخذ هواه إلهاً يطيعُه فيما يريد وفيما يكره، أما الذّي يتّخذ الله جل وعلا إلهاً فإنه يتبع ما جاء عن الله سواءً وافق رغبته أو خالف رغبته، فإنّ الله وصف المنافقين بأنهم لا يأخذون إلاّ ما وافق أهواءهم، قال صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ(48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ(49)} يعني: إذا كان الحكم لهم جاءوا، وإذا كان الحكم عليهم لم يأتوا ولا يقبلون، وهذا نفاق، وفي(14/410)
آخر الآيات السابقة: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً(65)}.
وهذا كلّه يشهد لهذا الحديث الذي رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
ثم ذكر المؤلِّف- رحمه الله تعالى- سببين من أسباب نُزول قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ}:(14/411)
ص -132- ... وقال الشعبي: كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد. عرف أنه لا يأخذ الرشوة، وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود. لعلمه أنهم يأخذون الرشوة، فاتفقا أن يأتيا كاهناً في جهينة فيتحاكما إليه، فنزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السبب الأول:
قوله: "قال الشّعبي: كان بين رجلٍ من المنافقين ورجل من اليهود خُصومة، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد" لأنّه يعرف أن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يأخذ الرشوة.
"وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود. لعلمه أنهم يأخذون الرشوة" والرّشوة مثلّث الرّاء، يقال: رِشوة، ورَشوة، ورُشوة، هي: ما يدفعه أحدُ الخصمين للحاكم من أجل أن يقضي له، وما يدفعه للموظّف أحدُ المراجعين من أجل أن يقدِّم معاملته على معاملة غيره من المستحقِّين، أو من أجل أن يعطيه ويحرِم المستحقِّين، أو من أجل أن يعطيه حقّه الذي ليس فيه ضرر على أحد، فهذه رشوة، سواء كانت للقاضي في المحكمة، أو كانت لموظّف في أحد الدوائر الحُكوميّة، من أجل أن يتلاعب بحقوق المراجعين، ويقدِّم من لا يستحقّ التقديم، ويؤخّر من يستحقّ التقديم، أو يعطي من لا يستحقّ، ويحرِم المستحقّ في الوظائف أو في أيّ شيء من المراجَعات.
والرّشوة سُحْتٌ: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الراشي والمرتشي" الراشي هو: الذي يدفع الرّشوة، والمرتشي هو: الذي يأخُذ الرشوة، وقد سمّاها الله سُحْتاً في قوله عن اليهود: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}، والمراد بالسُّحت: الرّشوة، لأنّ الرشوة تُفسد المجتَمَع، فتفسد الحُكّام، والقُضاة، والموظّفين، وتضرّ أهل الحق، وتقدِّم الفُسّاق، ويحصُل بها خللٌ عظيم في المجتمع.
فالرشوة وَباءٌ خطير، إذا فَشَتْ في المجتمع خَرب نظامُه، واستطال الأشرار على الأخيار، وأُهين الحقّ، فهي سُحْتٌ وباطلٌ، وهي من أعظم الحرام-(14/412)
والعياذ بالله- قال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا(14/413)
ص -133- ... وقيل: نزلت في رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف، ثم ترافعا إلى عمر، فذكر له القصة، فقال للذي لم يرضَ برسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذلك؟، قال: نعم. فضربه بالسيف فقتله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(188)} قيل: هذه الآية نزلت في الرّشوة التي تُدفع للحُكّام من أجل أكل أموال النّاس بالباطل، سُمِّيت رشوة؛ مأخوذة من الرِّشاء وهو الحبل الذي يُتَوَصِّل به إلى استنباط الماء من البئر، فكأن مقدِّم الرشوة يريد سحب الحكم أو جذب الحكم لنفسه دون غيره، من ذلك سمّيت رشوة.
فهذا اليهودي طلب التحاكم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم لعلمه أن الرسول لا يأخذ الرشوة لأن الرشوة سُحْتٌ وحرام وباطل، والرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالحقّ والعدل بين الناس.
وأما المنافق- مع أنه يزعُم الإيمان- طلب أن يتحاكم إلى اليهود لعلمه أنّ اليهود يأخذون الرشوة، فقد قال الله تعالى فيهم: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}.
"ثم اتّفقا أن يأتيا كاهناً" والكاهن هو الذي يتلقّى عن الشّياطين في استراق السمع، فالكاهن يستخدم الشياطين، وتُخبره بأشياء من الأمور الغائبة، فيُخبِر بها الناس ويكذب معها.
"في جُهينة" وجهينة: قبيلة معروفة، وبقال: إنها حيٌّ من قُضاعَة، وهي قبيلة كبيرة.
"فنزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ}".
فيكون هذا أحد القولين في سبب نزول الآية الكريمة.
والسبب الثاني لنزول الآية:
أنها: "نزلت في رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الآخَر: إلى كعْب بن الأَشْرف" وكعب بن الأشرف زعيمٌ من زعماء اليهود، وهو عربيّ من قبيلة طَيِّء، ولكن كان أخوالُه من اليهود من بني النّضير، فتهوّد، وكان من أَلَدِّ خُصوم رسول الله صلى(14/414)
الله عليه وسلم، وهو الذي ذهب إلى أهل مكّة بعد غزوة بدر يرثي قتلى(14/415)
ص -134- ... المشركين، ويحرّض أهل مكّة على غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أنزل الله تعالى فيه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً(50)}، ثم رجع إلى المدينة وجعل يُنشد الأشعار في ذمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحرِّض الناس عليه، فقال النّبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لي بكعب بن الأشْرَف فقد آذى الله ورسوله؟" فانتدب محمد بن مَسْلَمة الأنصاري رضي الله عنه، واستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله، فخرج هو ورجالٌ معه إلى كعب بن الأشرَف باللّيل، فدعوه فنزل إليهم، فقتلوه وأراحوا المسلمين من شرّه، لأنّه لَمّا خان الله ورسوله، وصار يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم انتقض عهده، فأهدر النّبي صلى الله عليه وسلم دمه، وأَمر هؤلاء بقتله، فقتلوه بأمر النّبي صلى الله عليه وسلم، وأراح الله المسلمين من شرّه.
"ثم ترافعا إلى عمر" وكلّ هذا محاولة للابتعاد عن حكم الله ورسوله.
"فذكر له" أحدُهما "القصّة" يعني: سبب مجيئهما.
"فقال": عمر رضي الله عنه: "للّذي لم يرضَ برسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذلك؟، قال: نعم. فضربه بالسّيف فقتله" لأنّه مرتدّ عن دين الإسلام، أو لأنّه لم يُسْلِم من الأصل، ولكنّه أظهر الإسلام نفاقاً، والمنافق إذا ظهر منه ما يعارِض الكتاب والسنّة وَجَب قتلُه دفعاً لشرّه، ولكنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقتل المنافقين كعبد الله بن أُبيّ وغيره، درْءاً للمفسدة، لئلاّ يتحدّث الناس أنّ محمداً يقتُل أصحابه. فالرّسول صلى الله عليه وسلم ارتكب أخفّ، المفسدتين- وهي: ترك قتله- لدفع أعلاهما وهو قول الناس: محمد يقتل أصحابه.
هذا وجه كون الرّسول لم يقتل المنافقين مع عداوتهم لله ولرسوله، لأنّه خشي من مفسدة أكبر.
فدلّت هذه النّصوص في(14/416)
هذا الباب العظيم على أحكام عظيمة:
أوّلاً: في الآيات والحديث: وُجوب التحاكُم إلى كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنّ هذا هو مقتضى الإيمان.
ثانياً: وُجوب تحكيم الكتاب والسنّة في كلّ المنازَعات، لا في بعضها دون بعض، فيجب تحكيمها في أمر العقيدة، وهذا أهمّ شيء، وفي المنازعات الحقوقيّة(14/417)
ص -135- ... بين الناس، وفي المنازعات المنهجيّة والمذاهب والمقالات، وفي المنازعات الفقهية: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}"، أما الذي يريد أن يأخُذ جانباً فقط، ويترك ما هو أهمّ منه، فهذا ليس تحاكُماً إلى كتاب الله، فما يقوله دعاة الحاكميّة اليوم ويريدون تحكيم الشريعة في أُمور المنازعات الحقوقيّة، ولا يحكِّمونها في أمر العقائد، ويقولون: النّاس أحرار في عقائدهم، يكفي أنّه يقول: أنا مسلم، سواءً كان رافضيّاً أو كان جهمياً أو معتزليّاً، أو.. أو.. إلى آخره، "نجتمع على ما اتفقنا عليه، ويعذُر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه" هذه القاعدة التي وضعوها، ويسمونها: القاعدة الذهبية. وهي في الحقيقة: تحكيم للكتاب في بعض، وترك له فيما هو أهمّ منه، لأنّ تحكيم الشريعة في أمر العقيدة أعظم من تحكيمها في شأن المنازعات الحُقوقية، فتحكيمُها في أمر العقيدة وهدم الأضرحة ومشاهد الشرك، ومقاتلة المشركين حتى يؤمنوا بالله ورسوله، هذا أهمّ، فالذي إنما يأخذ جانب الحاكميّة فقط ويُهمِل أمر العقائد، ويُهمِل أمر المذاهب والمناهج التي فرّقت الناس الآن، ويُهمل أمر النّزاع في المسائل الفقهيّة، ويقول: أقوال الفقهاء كلها سواء، نأخذ بأيّ واحدٍ منها دون نظر إلى مستنده. فهذا قول باطل، لأن الواجب أن نأخذ بما قام عليه الدليل، فيحكَّم كتاب الله في كلّ المنازَعات العَقَديّة، وهذا هو الأهم، والمنازَعات الحُقوقيّة، والمنازَعات المنهجيّة، والمنازَعات الفقهيّة، {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} هذا عامّ، {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ} هذا عام أيضاً.
وهؤلاء الذين جعلوا الحاكميّة بدل التوحيد غالطون، حيث أخذوا جانباً وتركوا ما هو أعظم منه، وهو العقيدة، وتركوا ما هو مثله- أو هو أعظم منه- وهو المناهج التي فرّقت بين الناس، كلّ جماعة لها منهج، كل(14/418)
جماعة لها مذهب، لم لا نرجع إلى الكتاب والسنّة ونأخذ المنهج والمذهب الذي يوافق الكتاب والسنّة ونسير عليه.
والحاصل؛ أنّ تحكيم الكتاب والسنّة يجب أن يكون في كلّ الأُمور، لا في بعضها دون بعض، فمن لم يحكِّم الشريعة في كلّ الأمور كان مؤمناً ببعض الكتاب وكافراً ببعض شاء أم أبى، {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}.(14/419)
ص -136- ... المسألة الثالثة: في هذه النصوص تفسير الطّاغوت، وأنّ من معانيه: كل بغير ما أنزل الله.
المسألة الرّابعة: في هذه النصوص دليل على أنّ مَن اختار حكم الطاغوت على حكم الله، أو سوّى بين حكم الله وحكم الطّاغوت وادّعى أنّه مخيّر بينهما أنّه كافر بالله خارجٌ من الملّة، لأن الله تعالى قال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا} فكذّبهم في دعواهم الإيمان ما داموا يتحاكمون إلى الطّاغوت، لأنّه لا يمكن الجمع بين النّقيضين، فمن اختار حكم الطّاغوت على حكم الله أو سوّى بينهما وقال: هما سواء، إنْ شئنا أخذنا بهذا، وإنْ شئنا أخذنا بهذا، أو قال: تحكيم الطاغوت جائز، أو حَكَم بالشريعة في بعض الأمور دون بعض، فهذا كافر بالله. كالذين يحكِّمون الشريعة في الأحوال الشخصية فقط. أما من حَكَم بغير ما أنزل الله لهوىً في نفسه، وهو يعترف ويعتقد أن حكم الله هو الحق، وحكم غيره باطل، ويعترف أنه مخطئ ومذنب، فهذا يكفر كفراً أصغر لا يخرج من المِلّة.
المسألة الخامسة: في حديث عبد لله بن عمرو وفي آخر الآيات: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} دليل على أنّ علامة الإيمان: أن يقتنع بحكم الله ورسوله، فإن لم يقتنع وكان في نفسه شيء من عدم الاطمئنان فهذا دليلٌ على ضعف إيمانه، أو على عدم إيمانه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدُكم حتى يكون هواهُ تَبعاً لِمَا جئتُ به"، قال تعالى: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}. فمن علامة الإيمان: الاطمئنان لحكم الله ورسوله، سواءً كان له أو عليه، فلا يجد في نفسه شيئاً من التّبرُّم أو الكراهية حتى ولو كان الحكم عليه.
المسألة السّادسة: في سبب نزول الآية: دليل على تحريم الرّشوة، لأنّها من أكل المال بالباطل، ولأنّها تسبّب تغيير الأحكام عن مجراها الصحيح،(14/420)
وأنّها من صفة اليهود، فمن أخذها من هذه الأمّة فقد تشبّه باليهود، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من تشبّه بقوم فهو منهم"، مع ما فيها من أكل المال بالباطل مع ما فيها من إفساد الحكم، ونشر الفوضى في الحُقوق، وهي شرٌّ كلّها.(14/421)
ص -137- ... المسألة السّابعة: في الحديث دليل على وُجوب قتل المنافق إذا ظهر منه ما يعارض الكتاب والسنّة، لأنّه أصبح مفسداً في الأرض، فيجب على ولي الأمر قتله إلاّ إذا ترتب على قتله فساد أكبر.
المسألة الثامنة: في قوله: {ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} أنّه لا يُقبل اعتذار من تحاكَم إلى غير الكتاب والسنّة، لأنّ الله أنكر عليهم ذلك، وهم {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً}، فلا يُقبل اعتذار مَن حكّم غير الكتاب والسنّة، ولو اعتذر بما اعتذر فإنّه لا عُذر له، لأنّ الله لم يقبل منهم هذا الاعتذار.
المسألة التاسعة: في قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} فيه: قَبول التّوبة من المرتدّ، فإنّ الله عرَض عليهم التّوبة مع ردّتهم في تحكيم غير ما أنزل الله أنهم لو تابوا تاب الله عليهم.
والمسألة العاشرة: فيه أن طلب الدّعاء من الرّسول صلى الله عليه وسلم إنما هو في حال حياته، بدليل أن الصّحابة رضي الله عنهم ما كانوا يأتون إلى قبره صلى الله عليه وسلم يطلبون منه الاستغفار والدعاء، وهم القدوة، وخير القرون، وأعلم الناس بتفسير القرآن ولأنه سبحانه قال: {إِذْ ظَلَمُوا} وإذ ظرف لما مضى من الزمان. ولم يقل: "إذا ظلموا" لأن إذا ظرف لما يستقبل من الزمان.
وما يذكرونه من قصة الأعرابي الذي جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وطلب منه الاستغفار بعدما تلا الآية: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا...}، فهي قصة مختلقة لا أصل لها، ولو صحّت لم يجز الاستدلال بها، لأنها فعل أعرابي جاهل مخالف لما عليه الصّحابة، وهم أعلم الأمة بما يُشرع وما لا يُشرع. وديننا لا يُؤخذ من القصص والحكايات، وإنما يُؤخذ من الكتاب والسنّة وهدي السلف الصالح.
قال الشيخ رحمه الله: "فيه(14/422)
مسائل:
المسألة الأولى: تفسير آية النساء، وما فيها من الإعانة على فهم الطاغوت" أي: أنّ الطاغوت هو من يحكُم بغير ما أنزل الله، سمّاه الله طاغوتاً.
الثانية: تفسير آية البقرة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ...} الآية" أي:(14/423)
ص -138- ... ومن أعظم الإفساد في الأرض: التحاكُم إلى غير ما أنزل الله.
"الثّالثة: تفسير آية الأعراف: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}" أي: أن مِن أعظم الإفساد في الأرض بعد إصلاحها: تحكيم غير الشّريعة.
"الرّابعة: تفسير: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}" أي: أنّ حكم الجاهلية هو الحكم بغير ما أنزل الله، فكلّ حكم يخالف حكم الله فإنّه حكم الجاهلية في أيّ وقت، ولو سُمّي قانوناً، أو نظاماً، أو دستوراً، أو سُمّي ما سُمّي، فإنّه حكم الجاهليّة.
"الخامسة: ما قال الشّعبي في سبب نزول الآية" أي: أن الشّعبي ذكر سبب نزول الآية الأولى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ}، وأنّها نزلت في رجلين أرادا التحاكم إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم فنفى الله الإيمان عمن أراد ذلك؛ مجرد نية فكيف إذا نفذ هذا!.
"السّادسة: تفسير الإيمان الصادق والإيمان الكاذب" أي: أن من الإيمان الصّادق: تحكيم ما أنزل الله عزّ وجلّ، والإيمان الكاذب هو تحكيم الطاغوت ولو ادعى الإيمان بالله.(14/424)
ص -139- ... [الباب الأربعون:]
* باب من جحد شيئاً من الأسماء والصّفات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قول الشيخ رحمه الله: "بابُ مَنْ جَحَد شيئاً من الأسماء والصّفات" أي: ما حكمُه؟، وما دليل ذلك؟.
ومناسبة الباب: أنه لَمّا كان التّوحيد ثلاثة أنواع: توحيد الرُّبوبية، وتوحيد الأُلوهيّة، وتوحيد الأسماء والصّفات، وكان غالبُ هذا الكتاب في النّوع الثّاني وهو توحيد العبادة، لأن فيه الخُصومة بين الرُّسل والأُمم، وهو الذي كثرُ ذكره في القرآن الكريم وتقريرُه والدّعوة إليه، فهو الأساس، وهو معنى شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وهو الذي خلق الله الخلْق من أجله كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56)}.
وأما النّوع الأوّل وهو توحيد الرّبوبيّة: فهذا أكثرُ الأُمم مقرّة به، خصوصاً الذين كانوا في وقت نُزول القرآن من كُفّار قريش وكُفّار العرب كانوا مقرِّين بتوحيد الرّبوبيّة، فهم يعتقدون أنّ الله هو الخالق الرّازق، المحيي، المميت، المدبِّر يعترفون بذلك كما جاءت آياتٌ في القرآن الكريم تبيّن ذلك: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ(9)}، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}، {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ}، { قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ}، هذا شيءٌ متقرِّر، ولكنّه لا يُدخِلُ في الإسلام، فمن أقرّ به واقتصر عليه ولم يقرّ بالنوع الثّاني وهو توحيد العبادة، ويأت به فإنه لا يكون مسلِماً ولو أقرّ بتوحيد الرّبوبيّة.
أمّا النوع الثّالث: وهو توحيد الأسماء والصّفات، فهو في الحقيقة داخل في توحيد الربوبية.
ومن(14/425)
أجل هذا؛ بعض العلماء يُجمِل ويجعل التوحيد نوعان:
توحيدٌ في المعرفة والإثبات، وهو توحيد الرّبوبية والأسماء والصّفات وهو التوحيد العلمي.
وتوحيد في الطّلب والقصد وهو التوحيد الطَّلَبي العملي، وهو توحيد الأُلوهيّة.(14/426)
ص -141- ... "{يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ}" أي: ينكرون هذا الاسم الكريم، ويجحدونه.
ويوضّح ذلك سبب نزول الآية، وهو: أنّ كُفّار قريش لَمّا سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكُر الرحمن، قالوا: وما الرّحمن؟، لا نعرف الرّحمن إلاَّ رحمن اليمامة. يَعْنُون: مسيلِمة الكذّاب، وذلك عندما صالح النّبي صلى الله عليه وسلم المشركين في الحديبيَة، وأراد أن يكتُبَ الصُّلْح، ونادى عليَّ بن أبي طالب ليكتُب الصُّلْح، فقال له: "اكتب: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}"، قالوا: لا نعرف الرّحمن إلاَّ رحمن اليمامة، ولكن اكتُب باسمك اللهم. فأنزل الله تعالى: "{وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ}".
وكذلك لَمّا كان النّبي صلى الله عليه وسلم في مكّة، وكان يصلِّي ويدعو في سُجوده: "يا الله، يا رحمن"، فقال المشركون لَمّا سمعوه: انظروا إلى هذا يزعُم أنّه يعبُد ربًّا واحداً وهو يدعو ربّين: الله والرّحمن، قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}.
بيّن سبحانه أنّ أسماءه كثيرة، وتعدُّد الأسماء لا يدلّ على تعدُّد المسمّى، بل تعدُّد الأسماء يدّل على عظمة المسمّى، والله جل وعلا له أسماء كثيرة، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(180)}، وقال سبحانه وتعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى(8)}، وقال تعالى في آخر سورة الحشر: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ...} إلى قوله: {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}، فالله له أسماءٌ كثيرة، كلّها حسنى، يعني: تامّة عظيمة، تشتمِل على معان جليلة.
وفي الحديث الصحيح: أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ لله تسعة وتسعين اسماً مَنْ أحصاها دخل الجنّة"، وفي دعاء(14/427)
النّبي صلى الله عليه وسلم: "أسألُك بكل اسم هو لك سمّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحداً من خلقك"، فدلّ على أنّ أسماء الله كثيرة لا يعلمها إلاَّ الله سبحانه وتعالى.
وكثرة الأسماء الحسنى تدلّ على عظمة المسمّى.
فكل اسم يُدعى به ويُطلب منه تعالى ما يتضمّنه ذلك الاسم من الرحمة والمغفرة والتّوبة وغيرها.(14/428)
ص -142- ... وفي صحيح البخاري: قال علي: "حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكَذَّب الله ورسوله؟!".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: {فَادْعُوهُ بِهَا} يعني: توسّلوا إليه بها في دعائكم، كأن تقول: يا رحمن ارحمني، يا غفور اغفر لي، يا توّاب تُب عليّ، يا رازق ارزقني.. وهكذا.
{وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} يعني: يُنكرونها، أو ينكرون معانيها ويحرفونها، توّعدهم الله بقوله: {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
والإيمان بأسماء الله وصفاته هو مذهب أهل السنّة والجماعة من الصّحابة والتّابعين، وأتباعهم إلى يوم القيامة، فأهلُ السنّة والجماعة يؤمنون بأسماء الله وصفاته التي سمّى الله تعالى بها نفسه، أو سمّاه بها رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، يؤمنون بها، ويُثبتون معانيها وما تدلّ عليه، ولكنّ كيفيّتها لا يعلمها إلاّ الله سبحانه وتعالى.
أما الفرقُ الضالّة من الجهميّة والمعتزلة والأشاعرة ومشتقّات هؤلاء فإنّهم يجحدونها، فمنهم مَن يجحد الأسماء والصّفات وهم الجهميّة، ولذلك كفّرهم كثيرٌ من علماء هذه الأُمة، يقول الإمام ابن القِّيم رحمه الله في "النّونيّة":
ولقد تقلَّدَ كفرهم خمسون في ... عشر من العلماء في البُلدان(14/429)
يعني: كفّر الجهميّة خمسمائة عالِم من هذه الأُمة، لأنّهم يجحدون الأسماء والصّفات، فلا يُثبتون لله اسماً ولا صفَة.
والمعتزلة أثبتوا الأسماء ولكنهم جحدوا معانيَها، وجعلوها أسماء مجرّدة، ليس لها معاني.
والأشاعرة: اثبتوا الأسماء وبعض الصّفات، وجحدوا كثيراً من الصّفات، فأثبتوا سبع صفات، وبعضهم يُثبت أربع عشرة صفة، والبقيّة يجحدونها ويُنكرونها.
وكلّ هؤلاء فرقٌ ضالّة، وهم يتفاوتون في ضلالهم.
قال: "وفي صحيح البخاري: قال عليّ": علي بن أبي طالب يخاطِب العلماء، ويقول لهم: "حدِّثوا النّاس بما يعرفون" أي: تكلّموا عندهم بما يعرفون، أي: بما لا تستنكِرُه عقولهم، بل حدِّثوهم بما تتحمّله عقولهم، وتُدركه أفهامُهم، ولا تُسمعوهم شيئاً لا يفهمون معناه، أو يجهلونه، فيبادِرون إلى تكذيبه فتوقعونهم في الحَرج.(14/430)
ص -143- ... وكأنّه قال هذه المقالة لَمّا كثُر القُصّاص في وقته، وهم: الوُعّاظ، والوُعّاظ يحرصون على أن يخوِّفوا الناس، فيذكُرون لهم كلّ ما قرأوا أو سمعوا من الأخبار والأحاديث، سواءً كانت صحيحة أو غير صحيحة، وسواء كان النّاس يفهمونها أو لا يفهمونها. وهذا أمرٌ لا يجوز، فالحاضرون يحدِّثون بما تتحمّلُه عقولهم، ربما ينفعُهم، أما ذكر الأشياء التي تشوِّش عليهم- وقد تحمِل بعضَهم على التكذيب- فهذا أمرٌ محرّمِ، فينبغي للقاصّ والواعظ والخطيب والمتحدِّث أن يراعيَ أحوال السّامعين، فيتكلّم معهم بما يُناسِب حالهم: إنْ كان يتكلّم في وسط علماء يتكلّم بالكلام اللاّئق بأهل العلم، وإن كان يتكلّم في وسط عوام فيتكلّم بما يناسبهم وبما تتحملّه عقولهم، ويحرص على ما ينفعهم أيضاً، ويعلِّمهم أُمور دينهم: أمور عقيدتهم وصلاتهم، وأُمور عبادتهم، ويحذّرهم من المعاصي ومن المحرّمات، ولا يدخُل في المواضيع العلميّة البعيدة عن أفهام العوامّ.
وهذه حكمةٌ عظيمة من أمير المؤمنين رضي الله عنه: أنه أمر أن يراعى أحوال الحاضرين وأحوال السّامعين، فيحدّثون بما يتناسب مع مستواهم العلميّ.
ويا ليت المتحدِّثين في وقتنا هذا والخُطباء يمشون على هذا النّظام وهذه القاعدة التي قالها أميرُ المؤمنين عليّ بن أبي طالب.
فهذه قاعدة للمتحدِّثين في كل وقت: أنّ المتحدِّث يراعِي أحوالَ السّامعين: إنْ كان في وسطٍ علمي يتحدّث بما يناسِبه، وإن كان في وسط عامِّي يتحدّث بما يناسبه، وإنْ كان في وسط مختَلِط من العلماء ومن الجُهّال ومن العوام فإنه يلاحظ الواقع، فيتحدّث بحديث يستفيدُ منه الحاضرون ويفهمونه من أُمور دينهم، ويدرِّسون العقائد والعلوم شيئاً فشيئاً حتى تتسع لها عقولهم، وتتقبلها أفهامهم.
ولا يدخل في هذا ذكر نصوص الأسماء والصّفات بدليل قول ابن عباس الآتي لما ذكر حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصّفات. وإنما هذا خاص بأحاديث القصاص(14/431)
التي قد تكون مكذوبة أو لا تتحملها عقول الناس.(14/432)
ص -144- ... وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس: "أنه رأى رجلاً انتفض لمّا سمع حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصّفات؛ استنكاراً لذلك، فقال: ما فَرَقَ هؤلاء؟، يجدون رِقّة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه؟!" انتهى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال: "وروى عبد الرزّاق " عبد الرزّاق: هو عبد الرزّاق بن همّام الصنعانيّ: الإمام الجليل، صاحب "المصنّف" المسمّى بـ "مصنّف عبد الرزّاق ".
"عن معمَر" هو معمَر بن راشد الأزدي: من تلاميذ محمد بن شهاب الزُّهريّ، الإمام الجليل.
"عن ابن طاووس عن أبيه" طاووس هو: طاووس بن كَيْسان، من أئمّة العلم في اليمن. وابنُه هو: عبد الله بن طاووس: كان إماماً جليلاً، يروي عن أبيه طاووس.
"عن عبد الله بن عبّاس: أنّه رأى رجلاً انتفض لَمّا سمعَ حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصّفات؛ استنكاراً لذلك، فقال: ما فَرَقُ هؤلاء؟!، يجدون رقّة عند مُحكمه، ويهلكون عند متشابهه" الفَرَق: الخوف. والمحكَم من النّصوص هو: الذي يُفهم معناه من لفظه، ولا يحتاج إلى دليل آخر يفسّره. والمتشابه هو: الذي لا يُفهم معناه من لفظه، ويحتاج إلى دليل آخر يفسّره، كالنّاسخ والمنسوخ، والمطلَق والمقيَّد، والعام والخاص، والمجمل والمبيّن.
فقاعدة أهل السنّة والجماعة: أنّهم يردوّن المتشابه إلى المحكَم، فيفسّرون بعض النّصوص ببعض، لأنّها كلها كلامُ الله أو كلامُ رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأمّا أهل الزّيغ فإنّهم يأخذون المتشابهِ، ويترُكون المحكَم.
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي(14/433)
الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} فيردّون المتشابه إلى المحكم، ويفسِّرون كلام الله بكلام الله أو بكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، و {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ} يعني: المحكَم والمتشابه، {مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} فيفسّرون بعضه ببعض، فلا يأخذون المتشابه فقط ويترُكون المحكَم.(14/434)
ص -145- ... ولَمّا سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن، انكروا ذلك، فأنزل الله فيهم: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومنهم: هذا الرجل الذي لما سمع حديثاً في الصّفات استنكره وانتفض خوفاً من ذكره ولا يحدث ذلك منه عند المتشابه.
فدلّ قولهُ رضي الله عنه: "يجدون رِقّة عند محكَمه" على أنّ آيات الصّفات من المحكَم وليست من المتشابه. وفي هذا ردٌّ على أهل الضّلال الذين يجعلون نصوص الصّفات من المتشابهِ، ويفوِّضون معناها إلى الله. وهذا ضلالٌ وغلط، بل هي من المحكَم الذي يُعرف معناه ويفسَّرُ، ولذلك بيّن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما أنها من المحكَم، وهذا هو الحقّ، وهو مذهب السّلف: يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "ما وجدتّ أحداً من أهل العلم من السلف جعل آيات الصّفات من المتشابه" على كثرة إطّلاعه وتتبُّعه.
ويُستفاد من نصوص الباب فوائد عظيمة:
الفائدة الأولى: أن إنكار الأسماء والصّفات كفر لقوله تعالى: "{وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ}"، ولكنّه كفرٌ فيه تفصيل قد يكون كفراً أكبر مخرج من المِلّة، وقد يكون كفراً أصغر لا يُخرج من الملّة لكنّه ضلال، وهذا بحسب حال النّافي للأسماء والصّفات: هل هو مقلِّد أو غير مقلِّد؟، هل هو متأوِّل أو غير متأوِّل؟.
الفائدة الثانية: في قول عليّ رضي الله عنه: "حدِّثوا الناس بما يعرِفون" فيه: أنه يجب على المتحدِّث في خطبة أو في درس أو في موعظة أو في محاضرة أن يتحدّث بما يناسِب حال المستمعين وما ينفعهم، ولا يأتي لهم بالغرائب والأشياء التي لا يفهمونها، لأنّ هذه الأشياء إن لم تكن صحيحة فقد كذَب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كالذي يروِّجه بعضُ القُصّاص من الأحاديث المكذوبة والموضوعة، وإن كانت ثابتة عن الرّسول صلى الله عليه وسلم فإنّه يكون قد تسّبب في استنكار الحاضرين لها وجحدهم لها، فيكون هو السّبب الذي(14/435)
حملهم على ذلك.
الفائدة الثالثة: أيضاً في قول عليّ رضي الله عنه طلب التدرُّج في تعليم النّاس، فيبدأ بصغار المسائل، ثم يُنتَقل إلى كِبارها، هذا هو الطّريق الصحيح للتّعليم، أما أن يؤتى بكبار المسائل للمبتدئين فهذا خطأ في طريقة التعليم.(14/436)
ص -146- ... الفائدة الرابعة: في قول ابن عبّاس رضي الله عنهما دليلٌ على أنّ نصوص الصّفات من المحكَم، وأنّها تُذكَر عند الناس، لا يُتحاشى من ذكرها، لأنّها واضحة المعاني، لا إشكال فيها، ولذلك جاءت في القُرآن، والقرآن يتلوه العوام ويتلوه المتعلِّمون.
الفائدة الخامسة: فيه دليل على أنّ أهل الزيغ يتبعون المتشابه ويترُكون المحكَم.
الفائدة السّادسة: فيه- أيضاً- دليل على إنكار المنكَر، لأنّ ابن عبّاس رضي الله عنهما ما استنكر على هذا الرّجل، وبيّن السبب الذي حمله على ما حصل منه من الرِّعدة، وأنّه من أهل الزّيغ الذين ينكرون المحكَم ويتّبعون المتشابه.
الفائدة السابعة: أنّ أوّل مَن جحد الأسماء والصّفات هم المشركون، فيكونون أئمّة للجهميّة والمعتزلة ومَن نحا نحوَهم، وبئْس الأئمَّة والقُدوة، نسأل الله العافية والسّلامة.
هذا، وبالله التّوفيق.(14/437)
ص -147- ... [الباب الواحد والأربعون:]
* باب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب ذكره الشيخ رحمه الله بعد باب "مَن جحد شيئاً من الأسماء والصّفات"، لأنّه مِن جنسه، فيه تنقُّصٌ للرُّبوبيّة، فالذي يجحد الأسماء والصّفات قد تنقَّص الربوبيّة، وكذلك الذي يُضيفُ النّعم إلى غير الله سبحانه وتعالى قد تنقّص الرّبوبيّة.
فهذه الآية التي ذكرها في الترجمة، وهي قولُه سبحانه وتعالى: "{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ(83)}" هي من سورة النّحل، وسورة النّحل تسمّى سورة النِّعَم، لأنّ الله سبحانه وتعالى عدّد فيها كثيراً من نعمه على عباده، وقال فيها: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(18)}، وأوّل النِّعمَ التي ذكرها الله في هذه السّورة نعمة إرسال الرُّسل، وإنزال الوحي لهداية عباده.
ثم النعمة بخلق الإنسان، وما جعل فيه من الأعضاء الكبيرة والصغيرة الدّقيقة، وما جعل فيه من بديع الصّنعة.
ثم النّعم في خلق بهيمة الأنعام التي فيها الجمال، وفيها منافعهم من الرُّكوب والحمل والألبان واللحوم، وغير ذلك.
وكذلك: المراكِب البحريّة التي تقطَعُ بهم عُباب الماء.
وكذلك: ما أنبت في الأرض من صُنوف النباتات التي فيها أرزاق العباد وفيها أدويتُهم وفيها مراعي لأنعامهم.
وكذلك: ما جعل فيها من العلامات التي يهتدي بها المسافرون في البرّ والبحر: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ(16)}.
ومن ذلك: نعمة المشارب من الماء واللَّبَن والعسل.
وكذلك: نعمة المساكن التي يسكُنون فيها فتُؤويهم من الحرّ والبرْد، فيتحصّنون بها من عدوّهم: البيوت الثّابتة، والبُيوت المتنقِّلة: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ(14/438)
الْأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ}.
وكذلك: نعمة الملابس التي يلبسونها: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ(14/439)
ص -148- ... وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} ملابس الأبداًن التي يستُرون بها عوراتهم، ويُجمِّلون بها هيئاتهم، وملابس الدُّروع التي تقيهم من سلاح العدو.
كلُّ هذه النعم من الله سبحانه وتعالى.
ثم قال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ(82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ(83)}.
والمفسِّرون- رحمهم الله- ذكروا أقوالاً في تفسير هذه الآية، وكلّها صحيحة، ولا تناقُض بينها، لأنّها كلّها تدخُل في نعمة الله، وكلُّ منهم يذكُر مثالاً من هذه النعم. فأقوال المفسّرين لا تناقض بينها، واختلافهم- كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية-: اختلافُ تنوُّع، وليس هو اختلاف تضادّ، لأنّ الآية - أو الآيات- تحتمِل عدّة معان، فكلّ واحدٍ من المفسِّرين يأخذ معنىً من هذه المعاني، فإذا جمعتها وجدتّ أنّ الآية- أو الآيات- تتضمّن هذه المعاني الّتي قالوها جميعاً.
فمنهم مَن قال: المراد بقوله: "{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ}": بِعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا شكّ أنّ هذه النعمة هي أكبرُ النعم، ولذلك صدّر السّورة بذكر بعثة الرُّسل: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ(2)}، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ(107)}.
ومنهم مَن قال: المراد بالنعمة: كلّ ما ذكره الله في هذه السّورة من أصناف النِّعَم.
لأن قوله: "{نِعْمَتَ اللَّهِ}" مفرد مضاف، فيعم جميع النِّعم، فقولُه تعالى: "{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ}" أي: يعرفون نِعَمَ الله المذكورة في هذه السورة، ولا يجحدونها في قَرارة أنفسهم، فيعرفون بقلوبهم أنّها من الله، ولكنّهم بألسِنَتهم ينسِبونها إلى غير الله سبحانه وتعالى، أو بالعكس؛ يتلفّظون بأنّ هذه النِّعَم من الله(14/440)
ولكنّهم في قلوبهم يعتقدون أنها من غيره.
ولهذا يقولُ العلماء: أركانُ الشكر ثلاثة لا يصحّ الشّكر إلاّ بها:
الركن الأوّل: التحدُّث بها ظاهراً، كما قال تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ(11)}.(14/441)
ص -149- ... قال مجاهدٌ- ما معناه-: "هو قول الرجل: هذا مالي ورثته عن آبائي".
وقال عونُ بن عبد الله: "يقولون: لولا فلان لم يكن كذا".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الركن الثاني: الاعتراف بها باطناً، يعني: تعتَرِف في قَرارة نفسك أنّها من الله سبحانه وتعالى، فيكون قلبُك موافِقاً للسانك من الاعتراف بأنّها من الله.
الرُّكن الثالث: صرفُها في طاعة موليها ومُسْدِيها وهو الله سبحانه وتعالى، بمعنى: أن تستعين بها على طاعة الله، فإنِ استعنْتَ بها على معصية الله فإنك لا تكون شاكراً لها.
"{ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا}" المُراد بإنكارها: جُحودُها، إما باللّسان وإمّا بالقلب، بأن تُنسَب إلى غير مَن أنعم بها، إما أن تُنسب إلى الأسباب، وإمّا أن تُنسب إلى الأصنام والآلِهة، وإمّا أن تُنسب إلى الآباء والأجداد، وإمّا أن تُنسب إلى كَدِّ العبد وكسبِه وحِذْقِه ومعرِفَته وإما بصرفها في معصية الله.
فما ذكره الشيخ رحمه الله في هذا الباب إنّما هو أمثلة لكُفران النعمة.
قوله: "قال مجاهد" وهو مجاهد بن جَبْر، الإمام التّابعي الجليل، يفسِّر الآية بقول الرجل: "هذا مالي ورثته عن آبائي"، فلا يَنْسب حصول المال إلى الله سبحانه وتعالى، وإنما ينسِبُه إلى آبائه وأجداده.
وكذلك إذا نسبه إلى كَدِّه وكسبه وحِذْقِه ومعرفته، فإنّ هذا جُحود لنعمة الله، لأنّ المال فضلٌ من الله سبحانه وتعالى، أما الحِذْق والكسب ومعرفة الصنعة فهذه أسباب قد تُنْتِجْ مسبَّباتِها وقد لا تُنْتِج، فكم من حاذِق وكم من عالم وكم من صانع يُحْرَم من الرّزق ولا تُغنيه صنعته شيئاً، فهذا فضلٌ من الله سبحانه وتعالى، وأما هذه فهي أسبابٌ إن شاء الله نفعتْ وإنْ شاء لم تنفع.
قوله: "وقال عونُ بن عبد الله، هو: عَوْن بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود الهُذَلي: إمامٌ جليل.
"يقولون: لولا فلان لم يكن كذا" وهذا لا يجوز، لأن فيه نِسبة النعمة إلى(14/442)
ص -150- ... وقال ابنُ قُتيبة: "يقولون: هذا بشفاعة آلهتنا".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
غير الله، والذي يجوز ما أرشد إليه النّبي صلى الله عليه وسلم، أن تقول: "لولا الله، ثُمَّ فلان"، لأنّك نسبت النعمة إلى الله، وذكَرْتَ أنّ فلاناً إنّما هو سببٌ فقط، لأنّ (ثُمَّ) للترتيب والتعقيب.
قوله: "وقال ابنُ قُتَيْبَة" ابن قُتيبة هو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قُتيبة الدِّيْنَوَرِي، إمامٌ في النحو، واللّغة، والتّفسير، وله كتبٌ مشهورة، منها: "كتاب التفسير"، وكتاب " المعارِف".
"يقولون: هذا بشفاعة آلِهتَنا" يعني: يقول المشركون: هذا الذي حصل من الخير ومن النّفع إنما هو بشفاعة آلهتنا. يعني: أنّ آلهتهم شفعتْ عند الله في حصولها، لأنّ المشركين الذين يعبُدون غير الله لا يعتقدون أن معبوداتهم هي التي تخلُق وترزُق، وإنما يعبدونها لاعتقاد أنّها تشفَع لهم عند الله، كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}، وقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، فهم يعتقدون أنّ هذه المعبودات تشفع لهم عند الله، وهذا كذِب، لأنّ الله بيّن الشفاعة الصحيحة، وهي ما توفّر فيها شرْطان: إذْنُ الله للشّافع أن يشفع، ورضاهُ عن المشفوع فيه بأن يكون من أهل التّوحيد.
والمشركون يتقرّبون بأنواع القربات إلى هذه الأوثان، ويذبحون لها، وينذُرون لها، ويطوفون بها، ويقولون: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}، مثل حالة عُبّاد القبور ا ليوم، يذبحون للقُبور، وينذُرون للقبور، ويهتِفون بها، ويستغيثون بها، ويستصرخون بها، ويقولون: نحن لا نعتقد أنها تخلُق وترزُق، إنما هي شفعاء عند الله. وكذَبوا في ذلك، فإنّ الله سبحانه وتعالى لا يرضى بهذا ولم يكن هؤلاء شفعاء عنده سبحانه وتعالى.
ومن ذلك قولهم: هذا(14/443)
بشفاعة آلِهَتنا. يقولون: إنّ هذه النعم إنما هي بسبب آلهتنا وبشفاعتها عند الله، كما يقول القبوريّ: هذا بسبب الوليّ فلان، بسبب عبد القادر، بسبب العَيْدَرُوس، بسبب البَدَويّ، وهذا يدخُل في قوله: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} بمعنى: أنهم ينسِبون نعمة الله إلى هذه المعبودات من دون الله عزّ وجلّ. فهذه طريقة المشركين قديماً وحديثاً.(14/444)
ص -151- ... وقال أبو العبّاس بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه: أنّ الله سبحانه وتعالى قال: "أصبح من عبادي مؤمنٌ بي وكافر..." الحديث- وقد تقدّم-:
وهذا كثير في الكتاب والسنّة؛ يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "قال أبو العبّاس" أبو العبّاس كنية شيخ الإسلام أحمد بن تيميّة.
"بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه: أنّ الله سبحانه وتعالى قال: "أصبَحَ مِنْ عبادي مؤمنٌ بي وكافر فأمّا مَنْ قال: مُطِرْنا بفضل الله وبرحمته، فذلك مؤمنٌ بي كافرٌ بالكوكب.وأما مَن قال: مُطِرْنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافرٌ بي مؤمنٌ بالكوكب".
ثم قال أبو العبّاس رحمه الله: "يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به" فكل من أضاف نعم الله إلى غيره فقد كفر نعمة الله، وأشرك به.
وهذا الشرك وكفر النعمة ليس من الكفر والشرك المخرِج من الملّة، إذا كان الإنسان يعتقد أنّ إضافة النعمة إلى الشيء من إضافة المسبّب إلى سببه، وإنّما المنعم هو الله، وأضافها إلى السبب مجرّد مجاز، فهذا كفرٌ أصغر.
أما إذا اعتقد أنّ النعم من إحداث المخلوق ومن صُنع المخلوق، فإنّ هذا كفرٌ أكبر يُخرِجُ من الملّة.
فالواجب أن تُضاف النعم إلى الله سبحانه وتعالى.
فكلّ مَن أضاف النعمة إلى غير الله، فإنّ هذا كفرٌ بالله، إما أنْ يكون كفراً أكبر، وإما أن يكون كفراً أصغر، بحسَب ما يقوم باعتقاد الشّخص وقَرارة نفسه، فليحاسِب الإنسان نفسه عند ذلك.
ومن ذلك: ما يجري على ألسنة بعض الصحفييّن وكثير من الإعلاميِّين الذين ينسِبون الأشياء إلى أسبابها، فيقولون: "المطر ناتج عن انخفاض جويّ، أو عن المناخ" وما أَشبه ذلك. فالذي يُضيف المطر إلى وقته أو إلى الكوكب أو إلى النّوء، فهو من هذا الباب، كما في حديث زيد بن خالد: "أصبَحَ مِن عبادي مؤمنٌ بي وكافر" نعم: المناخ أو الانخفاض الجويّ سبب، لكن الذي ينزِّل المطر ويكوِّن المطر هو(14/445)
الله سبحانه وتعالى، ليس لهذه الأسباب تدخُّلٌ في إيجاد المطر أو إحداث المطر.(14/446)
ص -152- ... قال بعضُ السلف: هو كقولهم: كانت الرّيح طيِّبة والملاّح حاذِقاً... ونحو ذلك ممّا يجري على السنّة كثير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد حصل- ويحصُل- أنّ هناك مناخات كانت تهطُل فيها الأمطار بكثرة، ولكن يأتي وقتٌ من الأوقات تُقْفِر هذه المناخات وتُجْدِب، فكثير من القارّات وإنْ كانت معروفة بكثرة المطر وتواصُل المطر عليها يحصُل فيها الجدْب، كما يقولون عنه: الجفاف، في أمريكا وفي أوروبّا وفي أفريقيا حصل جفافٌ كثير، وهلكت خلائق كثيرة من الأموال ومن الأنفُس، وما نفعهم المناخ، هذا بيد الله سبحانه وتعالى، وفي تقدير الله سبحانه وتعالى.
قال المصنف: "قال بعضُ السَّلف" المراد بالسَّلَف: القُرون المفضَّلة، وصَدْر هذه الأمة، وهم محلّ القُدوة، لقُرْب عهدهم من النّبي صلى الله عليه وسلم ومن صحابته الكِرام.
وأمّا مَن جاء بعدهم فيُقال لهم: الخَلَف، فمن كان من الخَلَف يسير على منهج السلَف فهو لاحقٌ بهم، ومن تخلَّف عن منهج السَّلَف فإنّه هالك، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا}، ويقول سبحانه: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ}.
قوله: "هو كقولهم: كانت الريح طيِّبة، والملاّحُ حاذقاً" يعني أن من إنكارهم لنعمة الله أنهم إذا ساروا في البحر في السُّفُن التي كانت تسير بالرِّيح إذا نجوا من البحر وخرجوا إلى البر يُثنون على الرِّيح وعلى الملاّح، ولا يقولون: هذا بفضل الله، بل يقولون: كانت الريح التي حملت السفينة طيِّبة.
"وكان الملاّح حاذِقاً" الملاّح هو: قائد السفينة، سمّى ملاّحاً لملازمته للماء المِلْح، لأنّ مياه البحار مالحة، فالذي يقود السفينة يقال له:(14/447)
ملاّح، لأنّه يسير على الماء المِلْح والحاذق: الذي يجيد المهنة.
وكان الواجب عليهم أن يقولوا: أنّ الله هو الذي نجّانا، وهو الذي سخّر لنا الرّيح الطيِّبة، وهو الذي أقدر قائد السّفينة وألهمه أن يقودها إلى برّ السلامة. أما أن يقولوا: إنّ نجاتنا وخُروجنا إلى البر بسبب طيب الريح وحِذْق القائد، فهذا كفرٌ بنعمة الله سبحانه وتعالى.
وقوله: "ونحو ذلك ممّا يجري على ألسنة كثير" يعني: نحو هذه الألفاظ ممّا يجري على ألسنة كثيرٍ من النّاس من نِسْبة النِّعَم إلى غير الله سبحانه وتعالى، إمّا من باب التساهُل في التعبير، وإمّا من باب سوء الاعتقاد، فإنْ كان من سوء الاعتقاد فهو كفرٌ(14/448)
ص -153- ... يخرج من الملّة، وإنْ كان من باب الإساءة في التعبير مع الاعتقاد بأنّ الله هو الذي أوجد هذا الشيء: فهذا كفرٌ أصغر، يسمّى بكفر النّعمة.
فهذا الباب باب جليل لأنّه يعالِج مشكلة يقع فيها كثيرٌ من النّاس ولا يحسِبون لها حساباً، ويتكلّمون بكلام يظنّونه هيّناً وهو عند الله عظيم: حيث إنّهم ينسبون نعم الله تعالى إلى غيره، ولا يشكرون الله سبحانه وتعالى، ولهذا قال: "ونحو ذلك ممّا يجري على ألسنة كثير" فهذا تنبيهٌ لنا أن لا نقع في هذه المزالِق، حتى إنّ ابن عبّاس رضي الله عنه فسّر قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} قال: "هو قول الرّجل: "لولا الله وفلان"، "ما شاء الله وشئت"، "لو لا كُلَيْبَةُ هذا لأتانا اللُّصوص"، "لولا البّط في الدّار لأتانا اللّصوص"، وما أشبه ذلك من الألفاظ وعد هذا من اتّخاذ الأنداد لله تعالى.
فهذه مسائل هي في عُرْف النّاس سهلة، ولكنّها خطيرة جدًّا، لأنها كفرٌ بنعمة الله سبحانه وتعالى وإساءةُ أدبٍ مع جَناب الرّبوبيّة.
فيُستفاد من هذه الآية بتفاسير السلف التي ذكرها الإمام رحمه الله مسائل:
المسألة الأولى: أنّ إضافة النعم إلى الله سبحانه وتعالى من الإيمان بالله.
المسألة الثانية: أنّ إضافة النعم إلى غير الله من الكفر بالله سبحانه وتعالى.
المسألة الثالثة: في الآية وأقوال السلف: دليلٌ على عدم جواز نِسبة الأشياء إلى أسبابها، وأنّ ذلك من كفر النعمة، لأنّه معلومٌ أنّ الريح الطيِّبة سببٌ لجريَان السفينة، وأنّ حِذْق الملاّح سبب لجريَان السفينة، ولكن إذا أضاف النتيجة الطيِّبة إلى هذين السّببين صار ذلك من الكفر بنعمة الله.
المسألة الرّابعة: كما قال الشيخ رحمه الله في مسائل الباب: "فيه: اجتماعُ الضّدين في القلب؛ الكفر والإيمان" أخذاً من قوله تعالى: "{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا}"، ففيها: اجتماع الإقرار والإنكار،(14/449)
والكفر والإيمان في القلب، فأيّهما غلب على صاحبه صار من أصحابه.
المسألة الخامسة: أنّ كفر النعمة يكثُر وُقوعه في النّاس، ولهذا قال: "مما يجري على ألسنة كثير"، فهذا ممّا يوجِب الحذر منه، وأن الإنسان لا يجري على العوائد المخالفة للشرع.(14/450)
ص -154- ... [الباب الثاني والأربعون:]
* بابُ قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
............................................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الشيخ رحمه الله: "باب قول الله تعالى" أي: ما جاء في تفسير هذه الآية من أقوال الصّحابة.
والتّفسير إنّما يُعرف من كلام الله، فكلام الله يفسِّر بعضه بعضاً، أو يُعرف من كلام الرّسول صلى الله عليه وسلم أو من كلام أصحابه، أو من كلام التّابعين الذين هم تلاميذ الصّحابة، هذه مصادر التّفسير، لا يفسِّر القرآن بالرأي أو بكلام المتأخِّرين الذين لم يأخذوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يأخذوا عن أصحابه الذين أخذوا عنه، لأنّ الله أنزل القرآن ووَكَل بيانَه إلى الرّسول صلى الله عليه وسلم:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} من ربهم.
فالمصدر في تفسير القرآن- كما ذكر العلماء- خمسة أشياء:
المصدر الأوّل: تفسير القرآن بالقرآن، لأن القرآن يفسِّرُ بعضهُ بعضاً.
المصدر الثّاني: تفسير القرآن بكلام الرّسول صلى الله عليه وسلم، لأنّه هو المبيِّن.
المصدر الثّالث: تفسير القرآن بتفسير الصّحابة، لأنّهم تلاميذ الرّسول صلى الله عليه وسلم.
المصدر الرّابع: عند بعض العلماء تفسير القرآن بأقوال التّابعين، لأنّهم أخذوا عن الصّحابة، وهم أدرى بمعاني القرآن الكريم من غيرهم.
المصدر الخامس: تفسيره بمقتضى اللغة العربية لأنه نزل بها.
فلهذا تجدون المصنف في هذا الباب وفي غيره يسوق في تفسير الآيات كلام الصّحابة أو كلام التّابعين، لأنها من مصادر التفسير.
قوله: "{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}" هذا آخرُ آيةٍ من سورة البقرة، وأولها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي(14/451)
خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)}.
قال العلماء: هذا أوّلُ نداءٍ في المصحف الشريف: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا(14/452)
ص -155- ... رَبَّكُمُ}. لأنّ الله سبحانه وتعالى ذكر في مطلَع هذه السّورة انقسامَ النّاس أمامَ القرآن الكريم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الذين آمنوا بالقرآن ظاهراً وباطناً، وهم المتّقون المذكورون في قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} إلى قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ}.
القسم الثاني: الذين كفروا بالقرآن ظاهراً وباطناً، وهم المذكورون في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(7)}.
الصّنف الثّالث: الذين آمنوا بالقرآن ظاهراً وكفروا به باطناً وهم المنافقون، وهم شرٌّ من الكُفّار الذين كفروا بالقرآن ظاهراً وباطِناً، ولهذا أنزل الله فيهم بِضعَ عشر آية، بينما ذكر في الكفّار آيتين، لأنّهم أخطر من الكُفّار، وذلك في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ(8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ(9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ(13)} إلى قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، هذه(14/453)
الآيات كلّها في المنافقين، وهم الصّنف الثّالث.
ثم قال بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} نادى النّاس جميعاً، المؤمن والكافر، والعربي والعجمي، ناداهم جميعاً وأمرهم بعبادته. وهذا دليل على عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه بعث إلى النّاس كافة، كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً(1)}، ووصف القرآن بأنه هدىً للنّاس وأنّه هدًى للعالَمين، فرسالتُه صلى الله عليه وسلم عامّة لجميع الثّقَلين.
وقوله تعالى: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} هذا أمرٌ من الله سبحانه وتعالى بعبادته وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه.(14/454)
ص -156- ... ومعنى: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} وحِّدوا ربّكم، وأفردوه بالعبادة، لأنّ العرب في وقت نُزول القرآن كثيرٌ منهم يعبُدون الله، ولكنّهم يعبُدون معه غيرَه، فإذا كانت العبادة غير خالِصة لله فإنّها تكون عبادة باطلة، ولهذا أمرهم أن يُفردوه بالعبادة، ويُخلِصوا له العبادة.
ثم ذكر الدليل على وُجوب عبادة الله تعالى فقال: {الَّذِي خَلَقَكُمْ} لأنّ العبادة لا تصلُح إلا للخالِق سبحانه وتعالى، فالذي لا يخلُق لا يصحّ أن يُعبَد، وهذا فيه: إبطال عبادة الأصنام، وعبادة الموتى، وعبادة الأولياء والصّالحين، وعبادة الأشجار والأحجار، لأنّها لا تقدر على الخلْق، وما لا يقدر على الخلق لا يصحّ أن يُعبَد، ولهذا قال في سورة الحج: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ}، الخالق وهو الذي يستحق العبادة، وهم لا يجحدون هذا، بل يُقرِّون بأن الله هو الذي خلق: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}.
{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} إذا ذكرتم بأنّه هو الخالق لكم ولمن قبلكم، لعلّ تذكُّركم لذلك يبعثكم على تقوى الله سبحانه وتعالى، فتعبدونه وتتقون عذابه، لأنّه لا يقي من عذاب الله إلاَّ عبادة الله سبحانه وتعالى، فهو الذي خلقكم، وخلق لكم المصالح التي تستعينون بها على عبادته سبحانه وتعالى، خلقكم وخلق لكم هذه الأشياء، لستم أنتم خلقتم لأنفسكم شيئاً، لستم الذين أنبتم الزرع، ولستم الذين أنزلتم المطر، ولستم الذين خلقتم الأرض وجعلتموها صالحة للنبات والإنبات، ولستم الذين خلقتم السماء وجعلتموها سقفاً للعالم، وفيها مصالحُ العباد.
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً} تجلسون عليها، وتنامون عليها، وتعيشون على ظهرها، وتدفنون في بطنها إذا متم، وتبعثون منها: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا(14/455)
نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى(55)}،{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً(6)}.
ثم هذه الأرض الواسعة أثبتها الله وأرساها بالجِبال الرواسي من أجل أن لا تميد بالنّاس وتضطرب.
{وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} يعني: سقفاً، لأنّ السماء فوق الأرض، وجعل الله فيها(14/456)
ص -157- ... الكواكِب والشمس والقمر التي بها مصالح العباد، وحفظها من الشياطين، ولهذا قال تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً}.
{وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} هو المطر، والسماء هو السّحاب، لأنّ السماء على قسمين: السماء بمعنى: العلوّ والارتفاع، فكلّ ما علا وارتفع يقال له: سماء، والثّاني: السموات المبنيّة، وهي: الطِّبَاق السبع.
{فَأَخْرَجَ بِهِ} بهذا المطر.
{مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ} هذا المطر ماءٌ واحد ومع هذا يُخرج الله به ثمرات مختلِفة ومتنوّعة، والتُّربة واحدة، ومع هذا يُخرِجُ في هذه التُّربة ومن هذا الماء أصنافاً من الثمرات مختلفة الطُّعوم، ومختلفة الألوان، مختلفة الرّوائح، مَن الذي نظّمها هذا التنظيم؟، هو الله سبحانه وتعالى.
{رِزْقاً لَكُمْ} تأكُلون منه قوتاً وتتفكّهون به فواكه متنوّعة، من الذي أوجد هذه الأشياء؟، بل إنّ الجنس الواحد تحته أنواعٌ لا يعلم حصرها إلاّ الله سبحانه.
{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} هذا نهيٌ من الله سبحانه وتعالى عن الشرك بعد الأمر بالتوحيد.
والأنداد: جمعُ نِدّ، والمراد به: المثيل، والشّبيه، والنّظير.
أي: فلا تجعلوا لله نُظراء وأمثالاً تشبِّهونهم به، وتُشركونهم معه في العبادة، وهم خلْقٌ مثلُكم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرًّا ولا موتاً ولا حياةً ولا نُشوراً.
{وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه لا نِدّ له سبحانه وتعالى، وتعلمون أنّ أحداً لم يشارك الله في خلقه وفي تدبيره.
أقام سبحانه وتعالى الدليل في هاتين الآيتين بعدّة أُمور: خلقُه لهم، وجعله الأرض فراشاً، والسماء بناءً، وإنزال المطر، وإخراج الثمرات، كلّها أدلّة عقليّة واضحة هم يعترفون بها، فهذا من إلزامهم بالحُجّة، على التوحيد. وإبطال الشّرك الذي هم عليه، وبيان أنّه لا بُرهان له ولا دليل عليه، وإنما الدليل والبُرهان على وُجوب عبادة الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ(14/457)
اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ(117)}، {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} لا بُرهان لهم على الشّرك(14/458)
ص -158- ... وقال ابن عبّاس في الآية: "الأنداد هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أبداً، وإنما البراهين القاطعة هي على توحيد الله سبحانه وتعالى وإفراده بالعبادة.
ودلَّ ذلك على أن الإقرار بتوحيد الربوبية لا يكفي، فالذين يقولون: بأنّ التوحيد هو الإقرار بأنّ الله هو الخالق الرازق المحيي المميت.
هؤلاء مخطئون، لم يعرفوا التّوحيد، لأنّ هذا لو كان توحيداً كافياً لكان المشركون موحِّدين، لأنّ الله أخبر بأنهم يعلمون أنّ الله هو الخالق الرّازق الذي ينزّل المطر والذي فعل هذه الأفعال، يعلمون هذا ولم يكونوا موحِّدين، بل أمرهم بعبادته فقال: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}، فدلّ على أن علمهم بهذه الأشياء لا يكفي حتى يُفردوا الله سبحانه وتعالى بالعبادة، إذاً: فالتوحيد هو إفراد الله تعالى بالعبادة، وليس التوحيد هو الإقرار بتوحيد الرّبوبيّة كما يقوله علماء الكَلام الذين لم يفهموا التّوحيد، بل جعلوا كلّ همّهم ومناظَراتهم واستدلالهم على توحيد الرّبوبية، وهذا تحصيل حاصل، وموجود عند أبي لَهب وأبي جهل وغيرهما، فهم يقرّون بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت.
قال: "وقال ابن عبّاس في الآية: الأنداد هو الشرك" الشرك منه نوعٌ جليٌّ واضحٌ كالذبح لغير الله، والنّذر لغير الله، ودُعاء غير الله، والاستغاثة بغير الله، هذا شرك واضحٌ جلي، لأنّه يُرى ويُسمَع.
وهُناك شركٌ خفي، وهو نوعان:
النوع الأول: شركٌ في المقاصد والنيّات، وهذا خفيّ لأنّه في القُلوب، والقُلوب لا يعلم ما فيها إلاَّ سبحانه وتعالى، كالذي يصلِّي، لكن يصلّي رياءً وسُمعة، وهذا لا يعلمُه إلاّ الله.
والنوع الثاني: شركٌ خفيّ، لأنّه لا يعلمه كثيرٌ من النّاس، وهو الشرك في الألفاظ دون الاعتقاد، وهو المذكور هنا.
قال ابن عبّاس: "الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلُمة الليل" سُمّي خفياً:(14/459)
لأنه قَلَّ من يتنبّه له.(14/460)
ص -159- ... وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلان، وحياتي، وتقول: لو لا كُلَيْبَة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص.
وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان. لا تجعل فيها فلاناً؛ وهذا كله به شرك".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم ضرب له أمثلة بكلمات يقولها بعض النّاس بألسنتهم.
"وهو أن يقول: والله وحياتِك يا فلان، وحياتي" فالحلف بغير الله من الشرك الذي يجري على ألسنة كثيرٍ من النّاس، ولا يعلمون أنه شرك، فكثيراً ما يقول بعضهم: والنبي، والأمانة، وحياتك. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:" من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك".
والحلف بغير الله شركٌ أصغر، إنْ كان لا يقصد تعظيم المحلوف به كما يعظِّم الله.
وإنْ كان يقصد تعظيم المحلوف به مثل ما يعظِّم الله فإن الحلف يكون شركاً أكبر.
والذين يحلفون بالقُبور والأضرحة، ويعظِّمونها كما يعظِّمون الله، هو من هذا النوع.
لأنّ كثيراً منهم يتساهل بالحلف بالله، ولا يتساهل بالحلف بالضريح أو الوليّ، إذا قيل له: احلف بالله؛ بادَر بالحلف، إذا قيل له: احلف بمعبودك وبمعظِّمك وبالوليّ الذي أنت تعظِّمه؛ ارتعد وأبى أن يحلِف، يخاف من البطش من هذا الولي، فهذا شرك أكبر بلا شك.
ومن الشرك في الألفاظ قول الرّجل: ما شاء الله وشئت، لولا الله وفُلان. لأنه لا يجوز، الجمع بين الله وغيره بالواو، لأنّ الواو تقتضي التشريك.
والصواب: ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن تقول: ما شاء الله، ثُمَّ شاء فلان. لأنّ "ثُمَّ" ليست للتشريك، وإنّما هي للترتيب، وجعل مشيئة المخلوق بعد مشيئة الخالق، كما قال تعالى: "{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(29)}"، فالعبد له مشيئة بلا شك، ولكنها تابعة لمشيئة الله سبحانه.
هذا ما قاله ابن عبّاس في تفسير هذه الآية: "{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ(14/461)
تَعْلَمُونَ}"، فالآية نهت عن اتّخاذ الأنداد، وهذا يشمل الشرك الأكبر والشرك الأصغر.(14/462)
ص -160- ... وابن عبّاس رضي الله عنهما مثَّل بالشرك الأصغر لينبِّه به على ما هو أشدّ منه وهو الشرك الأكبر، فإذا كان الشرك الأصغر لا يجوز فكيف بالشرك الأكبر؟، والسّلف يستدلون بالآيات النّازلة في الشرك الأكبر على منع الشرك الأصغر، لأنّه نوعٌ من الشّرك، وقوله تعالى: "{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً}" يشمل هذا وهذا.
يُستفاد من هاتين الآيتين مع قول ابن عبّاس رضي الله عنهما مسائل كثيرة:
المسألة الأولى: أن التّوحيد هو أعظمُ مأمورٍ به، لأن الله بدأ به في أوّل نداء في المصحف الشريف.
المسألة الثانية: في الآية دليلٌ على أنّ الإقرار بتوحيد الرُّبوبية لا يكفي في التّوحيد، لأن الله أخبر أنّ المشركين يعلمون هذا فقال: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}. أنه لا خالق لهذه الأشياء المذكورة وغيرها إلا الله فلماذا تعبدون معه غيره ممن لا يخلق شيئاً.
المسألة الثالثة: في الآيتين الاستدلال بتوحيد الرّبوبيّة على توحيد الإلهيّة، وأنّ توحيد الرّبوبيّة وسيلة وتوحيد الألوهيّة غاية، لأنّه هو المقصود وهو المطلوب من الخلْق، لأنّه لَمَّا أمر بعبادته ذكر توحيد الرّبوبية، ففيه الاستدلال بتوحيد الرّبوبية على توحيد الأُلوهية.
المسألة الرابعة: أنّه لا يكفي الأمر بالتوحيد، بل لابد من النّهي عن الشّرك، لأنّ الله قال في الآية الأولى: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}، وقال في ختام الآية الثانية: "{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً}"، فدلّ على أنّه لابد من الجمع بين الأمرين: الأمر بالتوحيد والنّهي عن الشرك، فالذي يقتصر على الأمر بالتّوحيد ولا ينهى عن الشّرك لم يقم بالمطلوب لأن ذلك لا يحقِّق شيئاً، وهذا في القرآن كثير دائماً بجانب الأمر بالتّوحيد النّهي عن الشّرك، قال تعالى: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} هذا أمر ونهي، {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} هذا فيه: الكفر بالطّاغوت، والإيمان بالله،(14/463)
فالإيمان بالله لا يكفي، بل لابد من الكفر بالطّاغوت، وكلّ رسول يقول لقومه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}، {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، فلابد من الجمع بين الأمر بالتوحيد والنّهي عن الشّرك.
المسألة الخامسة: أنّ هذه الألفاظ التي ذكرها ابن عبّاس تجري على ألسنة(14/464)
ص -161- ... وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك" رواه الترمذيّ وحسّنه، وصححه الحاكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كثيرٍ من النّاس وهي من الشّرك، لكنه شرك أصغر، ويسمّى شرك الألفاظ، ولو لم يقصد بقلبه، وهو من اتّخاذ الأنداد.
المسألة السّادسة: فيه أنّ السلف يستدلّون بالآيات النازلة في الشرك الأكبر على الشرك الأصغر، لأنّ ابن عبّاس استدلّ بالآية على ذلك، لأنّ الشرك الأصغر يجُرُّ إلى الشرك الأكبر، ففيه: الابتعاد عن الشّرك من كلّ الوُجوه، باللّفظ، وبالنّيّة، وبالفعل.
قوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف بغير الله" أي: أقسم بغير الله، كأن يقول: والنّبي، أو يقول: والأمانة، أو يقول: وحياتِكَ ما فعلتُ كذا، أو ما أشبه ذلك، بأن يقسم بمخلوق. فالحلف والقسم: تأكيد شيء بذكر معظّم على وجه مخصوص.
وهو تعظيمٌ للمُقْسَم به، والتعظيم إنّما يكون لله سبحانه وتعالى، فالمخلوق لا يُقْسِمُ إلاّ بالله أو بصفةٍ من صفات الله سبحانه وتعالى.
أمّا الله سبحانه وتعالى فإنّه يُقْسِمُ بما شاء مِن خلقه، أمّا المخلوق فلا يقسِم إلاّ بالله، ولا يجوز له أن يقسم بغيره كائناً مَنْ كان: لا يقسِم بالأنبياء، ولا بالملائكة، ولا بالصالحين، ولا يُقسم بالكعبة، ولا يقسم بأي شيء إلا بالله سبحانه وتعالى.
وفي هذا الحديث: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَن حلَف بغير الله" كائناً مَنْ كان من ملائكة، أو أنبياء، أو أولياء، أو مشاعر مقدّسة، أو غير ذلك.
"فقد كفر أو أشرك" وهذا إمّا شكٌ من الراوي، يعني: هل قال الرّسول: كفر، أو قال: أشرك، أو أنّ (أو) بمعنى (الواو)، لأنّ (أو) تأتي أحياناً بمعنى (الواو) في لغة العرب، يعني: فيكون المعنى: "فقد كفر وأشرك"، يعني: جمع بين الكفر والشّرك، لأنّ بين الشرك والكفر عموم وخُصوص، فكل مشرك كافر وليس كل كافر يكون(14/465)
مشركاً.
وقد يَرِد سؤال هنا وهو: أنّه جاء في بعض الأحاديث الحلف بغير الله، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أَفْلح َوأبيه إنْ صدَق"، مع قوله: "مَن حلَف بغير الله فقد كفر أو أشرك". فما الجواب؟.(14/466)
ص -162- ... وقال ابن مسعود: "لأنْ أحلِف بالله كاذباً أحبُّ إليّ من أنْ أحلِف بغيره صادقاً".
وعن حُذيفة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثُمَّ شاء فلان" رواه أبو داود بسند صحيح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أجاب عنه العلماء بجوابين:
الجواب الأوّل: أن هذا وأمثاله لا يُقصد به اليمين، وإنما يجري على الألسنة من غير قصد اليمين.
والجواب الثاني: أنّ هذا كان قبل النّهي، فكان في الأوّل يجوز الحلِف بغير الله، وبعد ذلك نُهي عن الحلِف بغير الله، فقوله: "أفلح وأبيه" وأمثاله يكون منسوخاً بالنّهي عن الحلف بغير الله، وهذا هو الذي رجّحه في الشرح.
والشاهد من الحديث للتّرجمة: أن الحلف بغير الله من اتّخاذ الأنداد لله سبحانه وتعالى، لأنّ النّد معناه: النّظير والشّبيه، فالذي يحلف بغير الله يجعل المحلوف به نِدًّا لله وشبيهاً لله سبحانه وتعالى.
قوله: وقال ابن مسعود: "لأن أحلِف بالله كاذباً أحبُّ أليّ من أنْ أحلِف بغيره صادقاً" الكذب حرام، وكبيرة من كبائر الذّنوب، ولكنّه أسهل من الحلف بغير الله، لأنّ الحلف بغير الله شرك، والحلف بالله كاذباً محرّم ومعصية، ولكنه دون الشرك، لأن الشرك أكبر الكبائر. وسيِّئة الكذب أخف من سيِّئة الشرك.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لأن الحلف بالله كاذباً فيه توحيد، والحلف بغير الله صادقاً شرك، وحسنة التّوحيد أعظم من حسنة الصّدق" وسيِّئة الشرك أشدّ من سيِّئة الكذب.
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثُمَّ شاء فلان" هذا نهيٌ من الرّسول صلى الله عليه وسلم عن الجمع بين الله وبين المخلوق في المشيئة بأن يقول: "ما شاء الله وشاء فلان"، لأنّ (الواو) لمطلق الجمع والتّشريك، فكأنّك جعلت المشيئة صادرة من الله ومن المخلوق، وهذا شركٌ في(14/467)
اللّفظ، وتصحيح العبارة أن يقال: "ما شاء الله، ثُمَّ شاء فُلان".(14/468)
ص -163- ... وجاء عن إبراهيم النخعي: "أنه يكره: أعوذ بالله وبك، ويجوز أن يقول: بالله ثم بك". قال: "ويقول: لولا الله ثم فلان، ولا تقولوا: لولا الله وفلان".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فهذا فيه مسألتان:
المسألة الأولى: النّهي عن عطف مشيئة المخلوق على مشيئة الخالق بـ (الواو)، وجواز عطفها بـ (ثُمَّ)، والفرق: أنّ (الواو) تقتضي التشريك، و (ثُمَّ) تقتضي الترتيب والتعقيب، فتجعل مشيئة المخلوق بعد مشيئة الخالق ومترتِّبةً عليها.
المسألة الثانية: فيه دليل على إثبات المشيئة للمخلوق، رَدًّا على الجبريّة الذين يقولون إنّ المخلوق ليس له مشيئة وإنّما هو مجبَر ومسيَّر، ليس له اختيار ولا مشيئة، وهو مذهبٌ باطل، فالمخلوق له مشيئة، لكنها بعد مشية الله: قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً(30)}، {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ(28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً(30) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(29)} فأثبت سبحانه وتعالى للمخلوق مشيئة، وجعلها بعد مشيئة الله سبحانه وتعالى، فمشيئة المخلوق مترتّبة على مشيئة الخالق سبحانه وتعالى.
وفي حديث حذيفة مسألة ثالثة: وهو أنّه مَن منع من شيء فإنّه يذكُر البديل الصّحيح عنه إن كان له بديل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لَمّا مَنع من هذه العبارة ذكر البديل الصحيح عنها وهو قولُ: "ما شاء الله ثم شاء فلان".
قوله: "وجاء عن إبراهيم النخعي: أنه يكره: أعوذ بالله وبك" الاستعاذة نوعٌ من أنواع العبادة، لا يجوز صرفُها إلاَّ لله سبحانه وتعالى، فلا يجوز أن تقول: "أعوذ بالله وبك"، لأنّك إذا قلتَ هذا شرَّكت بين الخالق والمخلوق، والتجأت إليها جميعاً، وهذا شرك، لكن تصحيح العبارة أن تقول: (أعوذ بالله، ثُمَّ بك)(14/469)
فتأتي بـ (ثُمَّ)، والفرق بين (ثُمَّ) وبين (الواو): أن (ثُمَّ) تجعل الالتجاء إلى المخلوق بعد الالتجاء إلى الخالق سبحانه وتعالى، فالمخلوق يلتجأ إليه فيما يقدر عليه، فتذهب إلى شخص وتطلُب منه أنه يمنع عدوّك عنك، إذا كان هذا الشخص حياً يقدر على منع عدوّك عنك. أمّا العياذ المطلَق فإنّه لا يكون إلاَّ بالله سبحانه وتعالى ولا يجوز العياذ بالميت مطلقاً.
وقوله: "ويقول: لولا الله ثُمَّ فلان، ولا تقولوا: لولا الله وفُلان" سبق شرحه.(14/470)
ص -164- ... وهذا مما يدل على أنه يجب تعليم النّاس أُمور العقيدة، وما يُخِلُّ بها وما ينقِّصُها، لأنّ أغلب النّاس الآن - إلاّ ما شاء الله- أعرضوا عن تعليم العقيدة وتعلُّمها، ولا يعتنون بها، ولا يدعون إليها إلاّ ما شاء الله، وإلاّ فالأكثر يركِّزون على أمورٍ أخرى جانبيّة لا تُفيد شيئاً إذا اختلّت العقيدة، حتى ولو صحّت هذه الأغلاط الجانبية التي يريدون إصلاحها، لو صلحت وصحّت ما نفعت بدون إصلاح العقيدة، فالعقيدة هي الأساس، يجب أن نتعلّمها أوّلاً، وأن ندعوَ إليها أوّلاً، وأن نصحِّح الأخطاء فيها قبل تصحيح الأخطاء في المعامَلات، وتصحيح الأخطاء في الآداب والأخلاق. وما انتشرت هذه الأُمور في النّاس إلاَّ لَمّا قَلّ تدريس التوحيد وشرح العقيدة والدعوة إليها في المحاضرات والندوات والصُّحف والمجلات فانتشرت هذه الأمور، بسبب شياطين الإنس والجن الذين يريدون إفساد عقائد النّاس، فالاهتمام بأمر العقيدة وتصحيحها هو أمّ المهمّات: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} بدأ بالعلم بمعنى {لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} قبل العمل والاستغفار، لأنّه هو الأساس الذي تنبني عليه أمور الدين كلّها.(14/471)
ص -165- ... [الباب الثالث والأربعون:]
* باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله
عن ابن عمر: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليَصْدُق، ومن حُلِف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله " رواه ابنُ ماجه، بسند حسن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب ما جاء فيمن لم يَقنع بالحلف بالله" يعني "ما جاء فيه من الوعيد، وأنّه ينقِّص التّوحيد، لأنّ الذي لا يقنع بالحلف بالله لا يعظِّم الله سبحانه وتعالى حق التّعظيم، لأنّه لو كان يعظِّم الله حقّ التعظيم لرضيَ بالحلف به، فكونه لا يرضى ولا يقنع بالحلف بالله دليلٌ على نُقصان تعظيمه لله، وهذا ينقِّص التوحيد، كما أنّ كمال تعظيم الله كمالٌ في التّوحيد.
هذا وجه المناسبة لعقد هذا الباب في كتاب التوحيد.
ثم ذكر الحديث عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحلفوا بآبائكم" سبق في الباب الذي قبله النهي عن الحلف بغير الله، وأنه شرك أو كفر، كما قال صلى الله عليه وسلم: "مَن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك"، لأنّ الحلف تعظيمٌ للمحلوف به، ومَن عظّم غيرَ الله بالحلف به فإنّ هذا شركٌ بالله عزّ وجلّ، وهو يختلف باختلاف الحالفين: من كان يعظِّم المحلوف به كما يعظِّم الله فهو شركٌ أكبر، ومن كان لا يعظِّمه كتعظيم الله بل عنده نوعُ تعظيم لا يساوي تعظيم الله، فإنّه يكون شركاً أصغر.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحلفوا بآبائكم" ليس هذا خاصًّا بالآباء، فالحلف بغير الله لا يجوز، سواء كان بالآباء أو بغيرهم، وسواء كان بالآدميِّين من الرُّسل والصالحين، أو كان بالكعبة، أو غير ذلك، فالمخلوق لا يجوز له أن يحلف إلاّ بالله عزّ وجلّ، فذكره الآباء هو من باب ذكر بعض أفراد المنهي عنه، لأنّ عادتهم أن يحلفوا بالآباء.
قوله: "ومن حلف بالله فليصدُق " هذا أمرٌ من النبي صلى الله عليه وسلم أنّ الحالف بالله يجب عليه أن يصدُق،(14/472)
فلا يحلف بالله كاذباً، لأنّ من حلف بالله وهو كاذب فقد استهان(14/473)
ص -166- ... بعظمة الله سبحانه وتعالى، وإذا انضاف إلى ذلك: أن يأخذ مالاً بغير حق بموجب هذه اليمين، فهي يمين فاجِرة، يقتطع بها مال امرئ مسلم.
والحلف بالله كاذباً هي اليمين الغَموس، سُمِّيت بذلك لأنّها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النّار- والعياذ بالله-، كالذي يحلف على السِّلع في البيع والشّراء أنها جيّدة، وهي ليست كذلك، أو أنها سليمة وهي ليست كذلك، أو أن قيمتَها كذا وكذا، ليرغِّب النّاس فيها وهو كاذب، فإذا حلف على أمرٍ ماضٍ كاذباً متعمِّداً فهذه هي اليمين الغَموس، وهي كبيرة من كبائر الذنوب، لأنّ الكذب في حد ذاته كبيرة: قال الله تعالى: {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}، وقال تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ(105)}، فالكذب في حدّ ذاته كبيرة، فإذا انضاف إليه يمين كاذبة صار أشدّ وأعظم، وجاء في الحديث: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكِّيهم، ولهم عذابٌ أليم: المُسْبِل، والمنّان، والمنفِّق سلعته باليمين الكاذبة".
وقوله: "ومن حُلف له بالله فليرضَ" هذا محل الشاهد من الحديث للباب، ومعناه: فليرضَ باليمين بالله تعظيماً لله سبحانه، وهذا يدل على كمال التوحيد. ثم الحالف إنْ كان صادقاً فهو على ما حلف، وإنْ كان كاذباً فإثُمه عليه.
قوله: "ومن لم يرض فليس من الله" هذه براءة من الله ممن لم يقنع بالحلف به، وهذا وعيد شديد.
فيجب تعظيم اليمين بالله والرّضا بها، سواءً كانت في الخُصومات أو كانت في الاعتذارات، فالمسلم يحسن الظنّ بأخيه المسلم.
وهذا الحديث يدلّ على مسائل:
المسألة الأولى: تحريم الحلف بغير الله، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحلفوا بآبائكم".
والمسألة الثّانية: وُجوب الصدق في الأيمان وعدم الكذب فيها، لأنّ الصدق في الأيمان تعظيمٌ لله سبحانه وتعالى، وتعظيمٌ لعهده.
والمسألة(14/474)
الثالثة: وجوب القناعة بالحلف بالله، وتحريم عدم القناعة بالحلف بالله، لأنّ ذلك تعظيمٌ لجانب الله سبحانه وتعالى، وثقةٌ بالحلف به، وأن لا يُستهان باليمين بالله، لا من الحالف ولا من المحلوف له، بل تعظَّم من الجانبين، وهذا من حقوق التوحيد، وعدمُه من نُقصان التّوحيد.(14/475)
ص -167- ... [الباب الرابع والأربعون:]
* باب قول: ما شاء الله وشئت
عن قتيلة: أن يهودياً أتى للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون؛ تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الشيخ رحمه الله: "باب قول: ما شاء الله وشئت" يعني: ما ورد في ذلك من النّهي، وأنّه شركٌ وتنديد؛ لأنّك إذا قلت ذلك شرَّكْتَ بين الخالق والمخلوق في المشيئة، حيث عطفتَ بالواو، والواو تقتضي التشريك، فهذا شرك في الرّبوبيّة، وهو لا يجوز، وإنْ كان القائل لا يعتقد هذا في قلبه، فهو شركٌ في اللّفظ منهيٌّ عنه، فكيف إذا اعتقد هذا في قلبه؟، فالأمر أشدّ.
قوله: "عن قُتَيْلة" هي قُتَيْلَة بنت صَيْفِي الأنصاريّة، وبعضُهم يقول: الجُهَنِيَّة.
قوله: "أن يهودياً أتى للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تُشركون؛ تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة" هذا اليهودي عرف أنّ هذا شرك، وأقرّه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ووجّه أمّته أن يستبدلوا هذه الألفاظ بألفاظٍ صحيحة، فيقولوا "ورب الكعبة، وأن يقولوا ما شاء الله ثم شئت".
فقوله: (قولوا: وربّ الكعبة) وربُّ الكعبة هو الله سبحانه وتعالى، والكعبة: بَيْتُ الله، فلا يحلف بالكعبة، وإنّما يحلف بربّ الكعبة، هذا هو البديل الصحيح الخالي من الشرك.
وإذا كان الحلف بالكعبة شركاً ومنهياً عنه؛ فكيف بالحلف بغيرها من المخلوقات؟. وقوله: قولوا: "ما شاء الله ثم شئت"، هذا هو اللّفظ الصحيح: أن تأتي بـ(ثُمَّ) بدل (الواو)، لأنّ (الواو) للتشريك بين الخالق والمخلوق في المشيئة، أما (ثُمَّ) فإنّها للتّرتيب حيث جعلت مشيئة المخلوق بعد مشيئة الخالق، لأنّ المخلوق لا يشاء إلاّ إذا شاء الله سبحانه وتعالى، فمشيئته تابعة لمشيئة الله وليست مستقلّة، فهذا هو فرقُ ما بين اللّفظتين لفظة: "ما شاء الله وشئت" وبين: "ما شاء الله، ثُمَّ شئت"، فلفظة "ما شاء الله وشئت"(14/476)
شركٌ، ولفظة: "ما شاء الله، ثُمَّ شئت" توحيد.(14/477)
ص -168- ... فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا:"ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت" رواه النسائي وصححه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والمخلوق له مشيئة، خلافاً للجَبْرِيَّة الضُّلاَّل الذين يقولون: إنّ المخلوق ليس له مشيئة، بل هو مجبور، يفعل الكفر والمعاصي والشرك من غير اختياره، مثل الآلة التي تُحَرَّك والريشة التي تحرِّكُها الريح، ولو كان كذلك لم يستحقّ العذاب على المعصية، ولم يستحقّ الثواب على الطاعة.
ويقابلهم المعتزلة الذين قالوا: العبد له مشيئة مستقلة لا تتعلّق بمشية الله، فهو يفعل الكفر والمعاصي بغير مشيئة الله، وإنّما بمشيئته مستقلاً بها. تعالى الله عمّا يقولون، وهذا معناه: أنه يحدُث في ملك الله ما لا يشاؤُه. وليس من لازم مشيئة الله: محبته لكل ما يشاؤه سبحانه؛ فهو يشاء كفر الكافر ولا يحبه، وإنما يشاؤه ويخلقه لحِكمة بالغة وهي الابتلاء والامتحان. وإلاَّ فـ "لو يشاء الله لهدى النّاس جميعاً" ولكن اقتضت حكمته أن يفاوت بينهم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "أجعلتني لله نِدًّا؟!، قل: ما شاء الله وحده" الند هو: الشّبيه والمثيل والنّظير، يعني: أجعلتني شبيهاً لله ومثيلاً لله وشريكاً له في المشيئة، ثم أمره أن يستبدل هذه اللفظة بلفظة التّوحيد فيقول: ما شاء الله وحده.
وهذا إرشاد إلى الأكمل أن يقول: ما شاء الله وحده، وإذا قال: ما شاء الله، ثُمَّ شئت. فهذا بيانٌ للجائز، فلا تعارُض بين الحديثين.
وهذا من سدّ الطُرُق الموصلة إلى الشرك، فإنّه صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرك ونهى عن الطرق التي توصل إليه، فإذا تلفظ بذلك- ولو كان لا يعتقد- فهذا وسيلةٌ إلى الاعتقاد فيما بعد، فيُمنَع اللفظ وإنْ كان لا يعتقد بمعناه لئلا يفضي هذا إلى الاعتقاد.
وهذان الحديثان فيهما فوائد عظيمة:
الفائدة الأولى: ما ذكره الشيخ رحمه الله في مسائله قال: "فيه فَهْمُ الإنسان(14/478)
إذا كان له هوى"، فهذا اليهودي مع كونه يهوديًّا مغضوباً عليه فهم أنّ هذا من الشّرك، لأنّه يريد أن يتنقّص هذه الأُمّة، ومع هذا تقبّل الرّسول صلى الله عليه وسلم هذه الملاحظة، وأرشد إلى تصحيحها.(14/479)
ص -169- ... وله- أيضاً- عن ابن عبّاس: أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، فقال: "أجعلتني لله نداً؟!، بل ما شاء الله وحده".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فهذا فيه فائدة ثانية وهي: قَبول الحقّ ممّن جاء به ولو كان عدوًّا.
وفيه فائدة ثالثة: نبّه عليها الشيخ رحمه الله وهي: أن اليهود على ضلالهم يفهمون الشّرك، وبعض علماء هذه الأُمّة لا يفهمون الشرك، ولذلك يرون جواز عبادة ا لأضرحة والقُبور، ولا يستنكرونها، ويقولون: هذا من التوسُّل بالصالحين، وليس شركاً، أو هذا يدلّ على محبة الصالحين. ويحبِّذون هذا الشيء، ويرون أنّه ليس بشرك، مع أنه شركٌ مخرجٌ من الملّة، والذي ذكره هذا اليهودي شركٌ أصغر لا يُخرِجُ من الملّة، وبعض المنتسبين إلى العلم من هذه الأمة لا يُنكرون الشرك المخرِج من الملّة الذي يَعُجُّ الآن في العالم الإسلامي بعبادة غير الله، ففيه أن بعض اليهود أفهم من بعض العلماء المنتسبين إلى الإسلام، نسأل الله العافية والسلامة.
الفائدة الرابعة: النّهي عن قول: (ما شاء الله وشئت)، والنّهي عن الحلف بالكعبة، وبغيرها من المخلوقات، لأنّ الحلف بغير الله شرك، لأنّه تعظيمٌ لغير الله سبحانه وتعالى، ولا يستحقّ التعظيم على الوجه الأكمل إلاّ الله سبحانه وتعالى، ففيه: أن الحلف بغير الله شرك، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ هذا اليهودي على قوله: "إنكم تُشركون"، فدل على أنّ هذه الألفاظ شرك.
الفائدة الخامسة: التّوجيه أنّ العالِم إذا منع من شيء؛ فإنّه يوجِّهُ إلى البديل الصّالح، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم وجّه إلى أن يُقال: "وربّ الكعبة"، وأن يقال: "ما شاء الله، ثُمَّ شئت"، فمن أفتى بتحريم شيء أو بمنع شيء وهُناك له بديلٌ صالح فإنّه يوجِّه إليه، كما فعل النّبي صلى الله عليه وسلم.
الفائدة السادسة: وفي حديث ابن عبّاس في الرّجل الذي قال للنّبي صلى الله عليه وسلم: "ما شاء(14/480)
الله وشئت، قال له: "أجعلتني لله نِدًّا" فيه: إنكار المنكر، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم أنكر عليه، لاسيّما إذا كان هذا المنكر شركاً يُخِلُّ بالعقيدة فإنّه لا يجوز السُّكوت عليه، بل يجب أن يبيِّن ويُنبِّه، وهذا يشهد لِمَا قاله ابن عبّاس رضي الله عنهما في تفسير الآية التي سبقت، وهي قولُه: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} قال ابن عبّاس هو قولُ الرّجل: "لولا الله وفلان، لو كُلَيْبَة هذا لأتانا اللّصوص، لولا البطّ لأتى اللُّصوص"،(14/481)
ص -170- ... ولابن ماجه: عن الطفيل -أخي عائشة لأمها- قال:
رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود، قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله. قالوا: وأنتم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ففسّر اتّخاذ الأنداد بهذه الأشياء، وها هو الرّسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث يقول: "أجعلتني لله نِدًّا؟"، فدلّ على أنّ قول: (ما شاء الله وشئت) اتّخاذ للنِدّ مع الله سبحانه وتعالى وإنْ كان من الشّرك الأصغر.
قوله: "ولابن ماجه: عن الطُّفيل- أخي عائشة لأمّها-" الطُّفَيل هو: الطُّفَيْل بن عبد الله بن سَخْبَرَة الأَزْدي، نِسْبَةَ إلى الأَزْد؛ قبيلةٌ عربيّة مشهورة، وأبوه: عبد الله بن سَخْبَرَة جاء إلى مكّة قبل البِعْثة وحالَف أبا بكر الصدِّيق، كما كان عليه الأمر في الجاهلية أنهم يتحالفون، ويصبح الحليِف أخاً لحليفه يدافِع عنه ويناصره ويحميه، بل إذا مات يَرِثُه، ويصبح الحليف مختلطاً بحلفائه كأنّه واحدٌ منهم، ثم نسخ الإسلام الأحْلاف وأبطل الميراث الذي يكون بالحِلْفِ، وقال الله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}، فجعل الميراث لأولى الأرحام، يعني: الأقارب دون الحلفاء، ثم مات عبد الله بن سَخْبَرَة، وكانت زوجته يقال لها: (أُمْ رُوْمَان)، فتزوجها أبو بكر الصدِّيق بعد حليفه عبد الله بن سَخْبَرَة، وأنجبت منه عبد الرحمن بن أبي بكر، وعائشة بنت أبي بكر زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان الطّفيل بن عبد الله أخاً لعائشة من أمها.
"قال: رأيت" يعني: في النّوم. والرؤيا حقّ، وهي جزء من ستّة وأربعين جزءاً من النّبوّة.
قد ذكر ابن القِّيم رحمه الله في كتاب "الروح" أن الرؤيا على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: حق، وهو ما يجري على يد ملَك الرؤيا، يأتي إلى النائم فيُريه أشياء عجيبة، فيستيقظ النائم وقد(14/482)
رأى هذه الرؤيا فتقع كما رآها.
النوع الثّاني: يكون من الشيطان، وذلك: أنّ الإنسان إذا نام ولم يذكر الله عند النوم، ولم يقرأ آية الكرسي، ولم يقرأ سور الإخلاص والمعوِّذتين، ولم يتعوّذ بالله(14/483)
ص -171- ... ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله. قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من الشيطان الرجيم، ويأتي بالأدعية المشروعة عند النّوم، فإنّ الشيطان يتسلّط عليه، ويكدِّر عليه نومه، ويُريه أشياء باطلة لا حقيقة لها من أجل أن يكدِّره. والسبب: أنه لم يتحصّن بالله من الشيطان قبل النوم.
النوع الثالث: حديث نفس، وذلك أنّ الإنسان يفكِّر في أشياء في اليَقظة، أو تُهِمُّه أشياء، فإذا نام فإنّ هذه الأشياء تَعْرِضُ له في نومِه، لأنّه كان مهتمًّا بها في اليقظة. وهذا حديث نفس ليس له حقيقة، وإنما هو أضغاث أحلام.
قوله: "كأنِّي أتيتُ على نَفَرٍ من اليهود" النفر: الجماعة، واليهود: هم أتباع موسى- عليه الصلاة والسلام- في الأصل. قيل: إنّهم سُمُّوا باليهود نسبة إلى (يهودا ابن يعقوب)، وقيل: سُمُّوا يهوداً أخذاً من قول موسى: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} يعني: تُبْنا إليك، من (الهَوْد) وهو التّوبة والرُّجوع إلى الله سبحانه وتعالى. هذا في الأصل، ثم صار يُطلق لفظ اليهود على المنتسبين إلى إتِّباع موسى، وإن كانوا قد خالفوه في أشياء كثيرة، وكذبوا عليه، وأَحْدَثوا في دينِه الأشياء القبيحة من الشرك بالله والكلام في حق الله سبحانه وتعالى.
قوله: "قلت: إنكم لأنتم القوم" هذا مدحٌ لهم، لأنهم كانوا في الأصل على دين صحيح.
"لولا أنّكم تقولون: عُزير ابن الله" ينسبون الولد إلى الله سبحانه وتعالى، و"عُزَيْر" اسم رجلٍ منهم، قيل: إنّه نبي، وقيل: إنّه رجلٌ صالح وعالِمٌ من علمائهم.
"لولا أنكم" يعني: لولا هذه المقولة الكافرة فيكم.
"قالوا" ردًّا على الطُّفيل.
"وأنتم لأنتم القوم" يمدحون المسلمين.
"لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد" فيه: أن الإنسان يرى عيب غيره، ولا يرى عيب نفسه، وإن كان عيبه أكبر من(14/484)
عيب غيره. وفيه: قبول الحق ممن جاء به.
قال: "ثم مررت على نفرٍ من النصارى" النصارى: أتباع عيسى عليه السلام في الأصل. قيل: سُمُّوا نصارى نسبةً إلى البَلد (الناصرة) بفلسطين، وقيل: سُمُّوا نصارى من قولهم: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ}.(14/485)
ص -172- ... فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، قال: "هل أخبرتَ بها أحداً؟ "، قلت: نعم، قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد: فإن طفيلاً رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها، فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله" وهو عيسى ابن مريم، سُمِّي بالمسيح لأنّه يمسح بيده على ذي العاهة فيبرأ بإذن الله. فالنصارى غلوا في المسيح كما غَلَت اليهود في عُزير.
ثم رد عليه النصارى بمثل ما قاله اليهود، قال طُفيل: "فلما أصبحتُ أخبرتُ بها مَن أخبرت، ثم أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرتُه، قال: "هل أخبرتَ بها أحداً؟ "، قلت: نعم، قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أمّا بعد" هذا فيه: دليل على مشروعية حمد الله والثّناء عليه في بداية الكلام، لقوله صلى الله عليه وسلم: "كلّ أمر ذي بال لا يُبدأُ في بالحمد لله فهو أبتر"، ولهذا افتتح الله كتابه العظيم القرآن بـ{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(2)}، وفيه استحباب الإتيان بأما بعد، وهي كلمة يُؤتَى بها للانتقال من أسلوب إلى آخر.
"فإن طُفيلاً قد رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنّكم قلتم كلمة يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها" قيل: كان يمنع النبي صلى الله عليه وسلم الحياء، لأنّه لم ينزل عليه وحيٌ في المنع منها.
"فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده" لَمّا نبّههم على خطأ هذه الكلمة أرشدهم إلى البديل الصالح منها، وهو أن يقولوا: ما شاء الله وحده.
فهذه القصة فيها فوائد عظيمة ودُروس وعِبَر:
الفائدة الأولى: أن الرؤيا حقّ، ولذلك: لا يجوز الكذب في الرؤيا، وجاء في الحديث الوعيد على ذلك.
الفائدة الثّانية: فيه: فهم الإنسان(14/486)
إذا كان له هوى، فهؤلاء اليهود والنصارى لَمّا كان لهم هوى في حق المسلمين؛ لاحظوا هذه المسألة، لا حُبًّا في الخير أو حِرْصاً على التّوحيد، ولكنّهم يريدون بذلك تنقُّص المسلمين، والتماس عيوبهم، وإن كان في اليهود والنصارى عيوب أكثر منها.(14/487)
ص -173- ... الفائدة الثالثة: قَبول الحقّ ممّن جاء به ولو كان عدوًّا، لأنّ الحق ضالّة المؤمن، والرُّجوع إلى الحقّ فضيلة.
الفائدة الرّابعة: في الحديث دليل: على أنّ من نهى عن شيء أو منع من شيء وكان له بديل صالح أن يأتيَ بالبديل، فالنّبي صلى الله عليه وسلم لَمّا منع من هذه الكلمة "ما شاء الله وشاء محمد" أتى بالبديل الصالح الذي ليس فيه محذور وهو أن يقال: "ما شاء الله وحده".
الفائدة الخامسة- وهي التي ساق المصنّف الحديث من أجلها-: أنّ كلمة "ما شاء الله وشاء فلان" ولو كان نبيًّا من الأنبياء؛ شركٌ بالله عزّ وجلّ يجب تركُه، ولكنّه من الشّرك الأصغر، بدليل قوله: "يمنعني كذا وكذا"، فإذا كان الإنسان لم يقصد معناه؛ فإنّه شركٌ في الألفاظ، فيجب تركُه واجتنابُه والابتعاد عنه.
الفائدة السادسة: أنه لا يجوز الغلو بالنبي صلى الله عليه وسلم وإشراكه مع الله في شيء، ودعاؤه، والاستغاثة به من دون الله عزّ وجلّ لأنه نهى أن يقال "ما شاء الله وشاء محمد" فما بالك بما هو أشد من ذلك من أنواع الغلو.(14/488)
ص -174- ... [الباب الخامس والأربعون:]
* باب من سب الدهر فقد آذى الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الشيخ رحمه الله: "باب من سبّ الدهر" السبّ معناه: الذّم والتنقُّص، والدهر المراد به: الزمان والوقت.
ومعنى: "آذى الله": أن الله سبحانه وتعالى يبغض ذلك ويكرهه، لأنّه تنقُّصٌ لله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى يتأذّى ببعض أفعال عباده وأقوالهم التي فيها إساءةٌ في حقّه، ولكنّه لا يتضرّر بذلك، لأنه الله لا يضرُّه شيء: قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً(57)}، وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْأِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(177)}.
وفي الحديث: "يا عبادي إنّكم لن تبلُغوا ضرّي فتضرّوني" ففرقٌ بين الضرر والإيذاء.
ووجهُ كونه يتأذّى بسبّ الدهر: لأن السبب يكون متوجهاً إليه، لأنّه هو المتصرِّف الذي يجري في قدَره وقضائه الخير والشّرّ والمكروه والمحبوب، أما الدهر فإنّما هو زمانٌ ووقتٌ للحوادث، لا أنّ الدهر نفسه هو الذي يتصرّف ويُحدِث هذه الحوادث التي تجري فيه، وإنّما الدهر زمانٌ ووقتٌ للأعمال كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً(62)}، بل إنّ الله جعل بعض الأزمان له خاصيّة وفضيلة في مضاعفة الأعمال مثل شهر رمضان، وعشر ذي الحجّة، ويوم عرفة، وبوم الاثنين والخميس من كلّ أسبوع، ويوم الجمعة الذي هو سيّد أيّام الأسبوع وهو عيد الأسبوع، وآخر ساعة من يوم الجمعة، ووقت السّحر. هذه أوقات فاضلة تُضاعَف فيها الأعمال، ويُستجاب فيها الدّعاء أكثر من غيرها، فالدهر في الحقيقة نعمةٌ من الله سبحانه وتعالى لمن حفظه فيما ينفعه، أما مَن ضيّعه(14/489)
فإنّه يكون حَسْرةً عليه يوم القيامة، فالدّهر إنما هو وقتٌ للأعمال، يَجري فيه الخير والشرّ، والطاعة والمعصية، والكفر والإيمان. فلا يتعلّق بالدهر مدح ولا ذم، لأنّه مجرّد زمان ومجرّد وقت للأعمال خيرها وشرِّها، ومَن علّق الذم بالدهر فإنّما يذمّ الخالِق سبحانه وتعالى لأنّ الدهر مخلوق لا يخلق ولا يُحْدِث شيئاً، وإنّما الذي يخلُق هو الله سبحانه وتعالى.(14/490)
ص -175- ... وقول الله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إلاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إلاّ الدَّهْرُ} الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم ساق الشيخ رحمه الله الآية، وهي قولُه تعالى عن المشركين: "{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ(24)}" ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية عن المشركين، الذين بُعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّهم يُنكرون البعث ويستبعدونه، ويزعمون أنّه لا يمكن حصول البعث لأنّ الأجسام تتفتّت وتضيع وتذهب، فمن أين الإعادة لشيء قد ضاع وتفتّت وذهب: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ(78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ(79)}، {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً(49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً(50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً(51)}، {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَخِرَةً(11) قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ(12)}، {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ(16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ(17)}، {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ(3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ(4)}، فيا سبحان الله أين العُقول؟!، فالذي خلقهم من لا شيء، وأوجدهم من العَدَم في أوّل مرّة؛ ألا يقدر على(14/491)
إعادتهم مرّة ثانية؟، بل من ناحية العُقول: أنّ الإعادة أسهل من البداءة: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(27)}، مع أن الله لا يصعُب عليه شيء سبحانه وتعالى، لا الإعادة ولا البداءة، الكلّ سهلٌ عليه ويسيرٌ عليه لكن هذا من جهة التصور العقلي.
ثم- أيضاً-: لو لم يكن بعثٌ ونُشور للزِم أن يكون خلق الخلق عبثاً لا نتيجة له، وهذه الأعمال لا نتيجة لها: الإيمان والطاعة والاستقامة والعبادة لا نتيجة لها إذا لم يكن هُناك بعث، الكفر والمعاصي والإلحاد والفُسوق والظُّلم والعُدوان لا نتيجة له، لأنّنا نرى أنّ النّاس يموتون الطائع والعاصي المؤمن والكافر، الكافر يموت على كفره، والمطيع يموت على طاعته، وقد يكون المطيع في هذه الدنيا في فقر وحاجة ومرض وآلام، وقد يكون الكافر في نعيم وفي رفاهية وفي أُبَّهة من العيش مع كفره، إذاً: أين النتيجة؟، لا بدّ أن هناك داراً أُخرى تظهر فيها النتائج،(14/492)
ص -176- ... تظهر فيها نتيجة الطّاعة، ونتيجة المعصية، وإلاّ للزِم أن يكون خَلْقُ الخلْق عبثاً، كما قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ(115)}، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ(22)}، وقال سبحانه وتعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(36)}، وقال سبحانه وتعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ(28)}؟، هذا تأباه حكمة الله سبحانه وتعالى، فكون المطيع الصالح العابد يعيش في هذه الدنيا في ضيق ومرض وفقر وفاقة؛ لأنّ الله ادّخر له جزاءً يوم القيامة، وكون العاصي والكافر يعيش في سُرور وفي رغَدٍ من العيش مع كفره؛ هذا لأنّ الله أعدّ له النّار يوم القيامة؛ {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ}، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ}، تأبى حكمة الله سبحانه وتعالى أن يُضيع أعمال العباد سُدى، وأن يسوِّي بين المؤمن والكافر والمطيع والعاصي، تأبى حكمة أحكم الحاكمين أن تتّصف بذلك، فلولا أنّ هناك بعثاً يحاسَب فيه العباد ويجزى كلُّ عامل بعمله للزم العبث وللزم الجور والظُّلم من الله، تعالى الله عن ذلك، دلّ هذا على أن هناك داراً أُخرى غير هذه الدّار، أخبر الله عنها، وتواترت بها أخبارُ الرُّسل- عليهم الصلاة والسّلام-، لكنّ المشركين الذين بُعث(14/493)
إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستبعدون البعث لجهلهم بقدرة الله سبحانه وتعالى، ويقيسون قدرة الخالق على قدرتهم، ولهذا استصعبوا البعث، ورأوه مستحيلاً؛ أن يبعث الله هذه الأجسام بعد تفتُّتها وضياعها في الأرض، ولكنّ الله سبحانه وتعالى يعلم مستقرّها ومستودَعها ويعلم مصيرها، ولو فنَيتْ وصارت تُراباً فالله يعلم هذه الأجسام وما تحلّل منها وقادرٌ على إعادتها: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ(4)}، بل إنّ كل جسم الإنسان يفنى إلاَّ عَجْبَ الذَّنب، وهو: حبّة صغيرة، منها يركَّبُ خلقُ الإنسان يوم القيامة.
فهم ينكرون البعث والنشور ويقولون: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} ما هناك حياةٌ أُخرى بعد هذه الحياة، ما هناك إلاّ الحياة التي نحن فيها.(14/494)
ص -177- ... {نَمُوتُ وَنَحْيَا} يعني: يموت ناس ويولَد ناس، كما يقولون: أرحام تدفع، وأرض تبلع.
{وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} أي: أنّ سبب الموت إنما هو طول العمر طول الحياة، الإنسان يعمّر ثم يَهْرَم ثم يموت، أو سبب الموت هو: حوادث الدهر، فينسبون الهلاك إلى الدهر.
لماذا أصابهم قحط أو انحباس مطر نسبوه إلى الدّهر، وإذا أصابتهم مجاعة أو أصابهم قتلٌ أو مرض نسبوه إلى الدهر، ويزعمون أنّ هذا من تصرُّف الدهر، ولذلك يهجون الدهر في إشعارهم.
وهذا في الحقيقة إنّما هو ذمٌّ لله سبحانه وتعالى، لأنّ الدهر ليس في مقدوره شيء، فليس هو الذي يصدرُ هذه المجريات، وإنما هي صادرة عن الله سبحانه وتعالى، فمن ذَمّ الدهر فقد ذمّ الله سبحانه.
قال الله تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} الواجب أن الإنسان إذا ادّعي دعوى أن يقيم عليها الدليل، وما عندهم دليل، ولهذا قال: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} يعني: ما لهم دليل على هذا، بل الدليل على العكس، على أن الدهر ليس له تصرُّف وإنّما التصرُّف هو للخالق سبحانه وتعالى.
ثم قال: {إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} يعتمدون على الظّن، والظن {لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}.
هذا هو المنطق الصحيح في لسان المناظرات، أما مجرّد الوهم ومجرّد الظنّ، فلا يُبنى عليه مثل هذا الأمر العظيم، وهو إنكار البعث.
ثم ساق الشيخ الحديث، وهو من الأحاديث القدسيّة، والحديث القدسي: هو الذي يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربّه، فهو كلام الله جل وعلا.
يقول جل وعلا: "يؤذيني ابن آدم" الله يتأذّى ببعض أفعال عباده، لكنّه لا يتضرّر بها.(14/495)
ص -178- ... وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم؛ يسبب الدهر، وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار".
وفي رواية: "لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم فسّر ذلك الأذى بقوله: "يسبُّ الدّهر" والدهر ليس محلاًّ للسّب، فيكون محلّ السب هو الله سبحانه وتعالى، لأنّه هو الذي خلق أو أوجد هذا الأمر الذي يكرهه هذا الإنسان، فإذا سبّ الدهر فقد سبّ الفاعل وهو الله سبحانه وتعالى، والواجب على أهل الإيمان أنه إذا أصابهم ما يكرهون أن يعتبروا أن هذا قضاء من الله وقدر، وأنّه من الله جل وعلا، وأنّه لم يخلُقه عبثاً، وأنّه بسبب الذّنوب والمعاصي، فيتوب المؤمن، ويصبر على المصيبة، ويحتسب الأجر عند الله سبحانه وتعالى، ولا يُطلق لسانه بذمّ الساعة واليوم والوقت الذي حصل فيه هذا المكروه، وإنما يحمد الله ويشكره ويرضى بقضائه وقدَره، ويعلم أنّه ما أُصيب إلاّ بسبب ذُنوبه، فيحاسب نفسه ويتوب إلى الله تعالى.
ثم بيَّن معنى قوله: "أنا الدهر" فقال: "أقلّب الليل والنهار"، وليس معناه: أن الله يُسمّى الدهر، فليس الدّهر من أسماء الله، والحديث يفسِّر بعضه بعضاً، فمن زعم أن (الدهر) من أسماء الله فقد غلِط.
"وفي رواية:"لا تسبُّوا الدهر" هذا نهي، والنّهي يقتضي التحريم.
ثم علّل ذلك بقوله: "فإنّ الله هو الدهر" يعني: مَن سبّ الدهرَ فقد سبّ الله، لأنّ الله هو الخالق سبحانه وتعالى، وهو الذي أجرى هذا الحادث الذي يكرهه العبد ويتألّم منه، فإذا سبّ الدهر فقد سبّ الفاعل وهو الله سبحانه وتعالى.
ونخلص من هذا كله إلى مسائل نستنبطها من هذه الآية، ومن الحديث:
المسألة الأولى: تحريم مسبّة الدهر، ومسبّة الدهر على نوعين:
النوع الأوّل: ما يكون كفراً وشركاً أكبر، وذلك إذا اعتقد أنّ الدهر هو الفاعل، وهو الذي أحدث المصيبة، فذمّه من أجل ذلك، فهذا شركٌ أكبر،(14/496)
لأنّه أثبت شريكاً لله تعالى.
النّوع الثاني: أن يعتقد أنّ الفاعل هو الله ولكنّه ينسِب الأذى إلى الدهر، أو ينسب الذمّ إلى الدهر من باب التساهُل في اللّفظ: فهذا أيضاً محرّم، ويُعتبر من(14/497)
ص -179- ... الشّرك الأصغر، حتى ولو لم يقصد المعنى وإنما جرى على لسانه، فيُعتبر من الشرك في الألفاظ.
المسألة الثانية: فيه: أنّ الله سبحانه وتعالى يتأذّى ببعض أفعال عباده السيِّئة، ولكنّه جل وعلا لا يتضرّر بذلك.
المسألة الثالثة: في الحديث بيان معنى أنّ الله هو الدّهر، وأنّ معناه: أنّه هو الذي يخلُق، ويدبِّر ويُجري هذه الحوادث في هذا الزمان، وليس معناه أن الدهر من أسماء الله، والحديث يفسِّر بعضُه بعضاً.(14/498)
ص -180- ... [الباب السادس و الأربعون:]
* باب التسمّي بقاضي القضاة ونحوه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب مشابهٌ للباب الذي قبله "باب من سب ّالدهر فقد آذى الله"؛ لأن الباب الذي قبله فيه النّهي عن مسبّة الدهر، لأنّ ذلك يؤذي الله سبحانه وتعالى. وهذا الباب في النّهي عن التسمِّي بالأسماء الضخمة التي فيها العَظَمة التي لا تليق إلاّ بالله سبحانه وتعالى، لأنّ هذا يغيظُ الله سبحانه وتعالى، فسبّ الدهر يؤذي الله، وهذا يغيظ الله سبحانه وتعالى، وكلا الأمرين محرّم شديد التحريم.
ثم يأتي بعد هذا الباب: "باب احترام أسماء الله"، وهو كذلك يُشبِه هذين البابين.
فهذه الأبواب الثلاثة بعضُها يشبه بعضاً، لكنّها لَمّا كانت متنوِّعة نوّعها المؤلِّف رحمه الله، من أجل أن يُعرف كلُّ شيء على حِدَته مفصَّلاً، لأنّ أمور التّوحيد لا بدّ فيها من التّفصيل والبيان، ولا يكفي فيها الإجمال والاختصار.
قوله: "التّسّمي بقاضي القُضاة ونحوه" يعني: كلّ اسم فيه تعظيمٌ شديد للمخلوق من الألقاب والأسماء التي فيها التعظيم الذي لا يليق إلاّ بالله سبحانه وتعالى، مثل: "ملِك الأملاك" و "سيِّد السادات"، وما أشبه ذلك من الألقاب الضّخمة التي يتلقّب أو يتسمّى بها بعض الجبابرة أو المستكبرين.
وكلُّ هذا محرَّم ومنهيٌّ عنه، لأنّ المطلوب من المخلوق التواضُع مع الله سبحانه وتعالى، وتجنُّب ما فيه تزكيةٌ للنفس أو تعظيمٌ للنفس، لأنّ هذا يحمل على الكِبْر والإعجاب، وخروج الإنسان عن طَوره ووضعه الصحيح.
وكلُّ هذا يُخلُّ بعقيدة التّوحيد، لأنّ عقيدة التّوحيد تدور على توحيد الله سبحانه وتعالى، وعلى تنزيه الله عن المشابَهة والمماثَلة، فمن تسمّى باسم لا يليق إلاّ بالله على وجه التعاظُم فهذا فيه تشبيه بأسماء الله سبحانه وتعالى.
فمثلاً: (قاضي القُضاة) هذا لا يليق إلاّ لله عزّ وجلّ، لأنّ الله سبحانه وتعالى الذي يقضي النّاس يوم(14/499)
القيامة القضاء النهائي، يقضي بين جميع الخلْق، ملوكهم وعامّتهم وعلمائهم وعوامّهم، يقضي بين جميع خلقه سبحانه وتعالى، فالقضاء المطلَق هو لله سبحانه وتعالى، فلا يليق أن يقال للمخلوق: "قاضي القُضاة"، لأنّ الله هو الذي يقضي بين جميع(14/500)
ص -181- ... في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخنع اسم عند الله رجُلٌ تَسَمَّى: ملك الأملاك، لا مالك إلاّ الله ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النّاس يوم القيامة، يقضي بينهم بحكمه: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ}، فهو الذي يقضي بين النّاس سبحانه وتعالى.
أما القاضي من النّاس فإنه يقضي بين فئاتٍ قليلة من النّاس، لا يقضي بين كلّ النّاس، وإنما يقضي بين عدد قليل محصور، إما في بلد وإما في قضيّة خاصّة، ثم قضاؤه- أيضاً- قد يكون صواباً وقد يكون خطئاً، أما قضاء الله جل وعلا فإنّه لا يكون إلاّ حقًّا وصواباً، ولا يتطرّق إليه الخطأ والنقص جل وعلا.
ففي هذه الكلمة "قاضي القُضاة" تعظيم زائد، ومنحٌ للمخلوق لصفةٍ لا يستحقُّها ومرتبة لا يرقى إليها.
فالمناسب أن يُقال: "رئيس القُضاة"، بمعنى: أنه يُرجع إليه في أُمور القضاء وتنظيماته ومُجرياته.
وكذلك: "ملِك الأملاك"، لأن المُلك المطلق لله عزّ وجلّ، وهو المُلْك الدائم الشامل، أما ملك المخلوق فهو مُلك جزئي ومؤقت.
فالشيخ رحمه الله ترجم بقاضي القُضاة لأن كلمة "قاضي القُضاة" تدخل في "ملِك الأملاك"، فإذا نُهي عن كلمة "ملِك الأملاك" فإنّ "قاضي القُضاة" تأخُذ حكمها، لأنّ كلًّ من اللّفظتين فيهما التعظيم الزائد عن حقّ المخلوق.
وكذلك ملك المخلوق مِنْحَة من الله سبحانه وتعالى، وعاريّة، لم يملك هذا المُلك بحوله ولا قوّته، وإنّما الله هو الذي ملّكه: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(26)}، فالذي يملِّك الملوك هو الله سبحانه وتعالى، هو الذي يعطي الملك لمن يشاء، وينزع الملك ممّن يشاء، أمّا ملك الله جل وعلا فإنّه مُلكٌ حقيقيٌّ عام دائم.
"في(15/1)
الصحيح" يعني: "صحيح مسلم ".
"أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أَخْنَع " فسّرها المؤلِّف في آخر الباب: " أَخْنَع" يعني: أَوْضَع" فهذه الكلمة إذا أُطلقت على المخلوق "ملِك الأملاك" فإنّها تكون وضيعةً(15/2)
ص -182- ... قال سفيان: "مثل: شاهان شاه".
وفي رواية: "أغيظ على الله يوم القيامة وأخبثه".
قوله: "أخنع" يعني: أوضع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عند الله سبحانه وتعالى، وإن كان مقصود صاحبها الرِّفعة والعُلُوّ، فإنّ الله يجازيه بنقيض قصدِه، ويجعله وضيعاً، كما جاء في الحديث: أن المتكبِّرين يوم القيامة يُحشرون أمثال الذّرّ، وذلك معامَلةً لهم بنقيض قصدِهم.
"رجل تسمّى" وفي رواية: "يُسمّى" بالياء، والفرقُ بينهما "تَسَمّى" يعني: سمّى نفسه، و "يُسَمّى" يعني: سمّاهُ غيرهُ ورضيَ هو بذلك ولم يُنكره.
فهذا فيه سوءُ أدب مع الله سبحانه وتعالى، وتعاظُمٌ ورفعةٌ لا يستحقُّها المخلوق، والله جل وعلا يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(83)}، فالمؤمن لا يريد العلوّ في الأرض، وإنما يريد التواضُع لله سبحانه وتعالى، وإن تولّى ومَلَك فإنّه لا يُريد العلو، وإنّما يريد بالوِلاية والمُلك الإصلاح والعدل بين النّاس، فإذا كان هذا قصدُه صار من أحبِّ الخلق إلى الله تعالى، وصار من السّبعة الذين يظلُّهم الله في ظِلِّه يوم القيامة، فالملك العادل من السبعة الذين يظلّهم الله في ظلّه يوم القيامة.
فليس معنى هذا النّهي عن تولِّي المُلك، لأن تولِّي السلطة والحكم مطلوب إذا كان القصد الإصلاح، فلا عيب في ذلك، إنما العيب في القصد السيّء، فإنْ كان قصدُه من تولِّي الملك العَظَمة والكبرياء والتجبُّر صار مُهاناً عند الله عزّ وجلّ، وإن كان قصدُه الإصلاح والعدل وإقامة الحق في الأرض صار مأجوراً عند الله سبحانه وتعالى، بل أجرُه عظيم، ومن الذين تُستجاب دعوتهم عند الله سبحانه وتعالى ولا تُردُّ دعوتُه.
"قال سُفيان " هو: سفيان بن عُيينة: الإمام، المحدِّث، الجليل.
"مثل: شاهان شاه" يعني: عند العجم، فمعنى هذا اللقب عندهم:(15/3)
"ملك الملوك".
ومقصود سفيان رحمه الله بهذا أن يبيِّن أنّ هذا اللّقب ممنوعٌ في جميع اللّغات، سواء بالعربيّة أو بالأعجميّة، سواء سُمّي "ملك المُلوك" أو "شاهان شاه"، فالمعنى واحد، وكذلك "قاضي القُضاة" أو ما أشبه ذلك، فهذا منهيٌّ عنه في جميع اللُّغات.
"وفي رواية: أَغْيَظُ" هذا أفعل تفضيل، والغيظ: شدّة الغضب.(15/4)
ص -183- ... [الباب السابع والأربعون:]
* باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم من أجل ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه رحمه الله: "بابُ احترام أسماء الله" أي: إكرامُها وإجلالُها، وعدم إهانتها، أو استعمالها في شيء يُمْتهن.
والأسماء: جمع اسم، والاسم: ما يوضَع علامةً على الشيء مميِّزاً له عن غيره، مأخوذ من السُّمُو وهو الارتفاع، أو من السِّمَة وهي العلامة.
والله سبحانه وتعالى له أسماء سمّى بها نفسَه في كتابه، وسمّاهُ بها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنّته، وله أسماء لا يعلمها إلاَّ هو سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}، وقال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى(8)}، وقال سبحانه وتعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}، وقال تعالى في آخر سورة الحشر:{لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} والنّبي صلى الله عليه وسلم في دعائه يقول: "اللهم إنّي أسألك بكلّ اسم هو لك سمّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك أو علّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك"، فأسماء الله لا يعلمها إلاّ هو سبحانه وتعالى، وكلّها حسنى.
وتعدُّد الأسماء يدلّ على عظم المسمّى، فهي أسماءٌ عظيمة، يجب على العباد: احترامُها، وإجلالُها، ودُعاء الله تعالى بها، والتوسّل إليه تعالى بأسمائه وصفاته، فيقول في الدّعاء: "يا رحمن يا رحيم، يا حيّ يا قيّوم، يا ذا الجلال والإكرام"، لأنّ ذلك من أسباب الإجابة، فدلّ على عظمها.
فلا يجوز أن تُمْتَهَن وأن تُبْتَذَل، أو توضَع في أشياء تُستعمَل وتُهان، كأن تُكتب على أشياء تُداس بالأقدام، أو تقع في الشّوارع والقاذورات، ومَن وجد شيئاً من ذلك وجب عليه رفعُه أو إتلافه، أو إزالة اسم الله تعالى منه، فهذا من احترام أسماء الله سبحانه(15/5)
وتعالى.
وقوله: "وتغيير الاسم" أي: إذا سُمّي شيء من المخلوقات باسم من أسماء الله الخاصّة به، كـ (الله) أو (الرحمن) أو ما أشبه ذلك من أسمائه الخاصّة به التي لا يُسمّى بها غيرُه؛ فإنّه يجب تغيير الاسم احتراماً لأسماء الله.(15/6)
ص -184- ... عن أبي شُريح: أنّه كان يُكنى أبا الحكم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله هو الحَكم وإليه الحُكم".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"من أجل ذلك" أي: من أجل احترام أسماء الله تعالى.
أما الأسماء التي يُسمّى بها المخلوق ويسمّى بها الخالق مثل: الملِك، والعزيز، وأشباه ذلك؛ فهذه ليست من هذا الباب، فالله له أسماء تختصّ به، والمخلوق له أسماء تختصّ به، فالله سمّى نفسه: (الرؤوف، الرحيم)، وقال عن نبيّه بأنّه: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}، وسمّى نفسه بالعليم، ووصف وسمّى عبده {بِغُلامٍ عَلِيمٍ} وسمّى نفسه بالحليم، وسمّى عبده: {بِغُلامٍ حَلِيمٍ}، فهذه أشياء مشتركة يجوز أن يسمّى بها المخلوق، ولكن يُعلم أنّها ليست كأسماء الله سبحانه وتعالى.
ثم ذكر رحمه الله الدليل فقال: "عن أبي شريح" اسمه- على الراجح-: هانئ بن يزيد الكِنْدي، صحابي، له رواية عن الرّسول صلى الله عليه وسلم.
"أنه كان يُكنى" الكنية: ما صُدِّر بأبٍ أو أُم، كأبي عبد الله، وأمّ هانئ، وما أشبه ذلك، والكنية تكون للتشريف والتكريم، أما اللَّقب فإنه يكون للمدح وللذّمّ، والغالب أنّه للذمّ، ولذلك يقول الله جل وعلا: {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ}.
"أبا الحَكَم" الحكم هو: الذي يُحكم بين النّاس ويُفصِل النِّزاع، ومنه سُمِّي الحاكم حاكماً لأنّه يفصل بين النّاس، فالحكم- بالألف واللاَّم- لا يُطلق إلاّ على الله سبحانه وتعالى، أما أن يُقال: (حكم) بدون تعريف فلا بأس، فالله جل وعلا يقول: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا}.
وقوله: "إن الله هو الحَكَم، وإليه الحُكْم" بمعنى: أنّه هو الذي يحكُم بين عباده، في الدُّنيا يحكُم بينهم بوحيه الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنّة: قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}، قال تعالى:(15/7)
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} والرّدّ إلى الله هو: الرّدّ إلى كتابه، والردّ إلى الرّسولِ صلى الله عليه وسلم هو: الرّد إليه في حياته وإلى سنّته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وكذلك هو الحَكَم في الآخرة الذي يحكُم بين النّاس فيما كانوا فيه يختلفون، ففي الآخِرة ليس هناك حاكم سواه سبحانه وتعالى، هو الذي يتولَّى الفصل بين عباده،(15/8)
ص -185- ... فقال: إنّ قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمتُ بينهم، فرضيَ كِلا الفريقين. فقال: "ما أحسن هذا!، فما لك من الولد؟ " قلت: شُريح، ومسلم، وعبد الله، قال: "فمن أكبرُهم؟ "، قلت: شُريح، قال: "فأنتَ أبو شُريح " رواه أبو داود وغيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويحكم للمظلومين على الظَّلَمة، ويردّ المظالِم إلى المظلومين، فلا يُنهي النّزاع بين العالَم إلاّ الله سبحانه، أما الحكم الذي في الدّنيا يحكُم به الحُكّام من القُضاة؛ فهذا يُخطئ ويُصيب، والنّبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد وأخطأ فله أجرٌ واحد"، أما إذا لم يجتهد أو اجتهد وهو ليس أهلاً للاجتهاد وحكم فإنه على كل حال مخطئ وآثم، لأنه ليس من حقّه أن يحكم وهو ليس أهلاً للاجتهاد، إلاَّ في مسألة الصُّلْحِ.
والنّبي قال: "إنّ الله هو الحكَم، وإليه الحُكم " على سبيل الإنكار على أبي شريح.
ثم إنّ ابا شريح أراد أن يبيِّن السبب للرّسول صلى الله عليه وسلم، وأنّه لم يسمِّ نفسَه بذلك، وإنّما النّاس هم الذين سمّوه به، والسبب في هذا: أنّه إذا اختلف قومُه في شيء رجعوا إليه فحكم بينهم فرضيَ كلاَ الفريقين، بمعنى: أنّه يُصْلِح بينهم برضاهم، وليس في هذا ظلمٌ لأحد، وإنّما فيه إنهاء للنّزاع وقطع للخُصومة وإرضاء لكلا الطَّرَفين، وهذا عملُ خير، ولهذا قال النّبي صلى الله عليه وسلم: "ما أحسن هذا"، والله جل وعلا يقول: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} وقال تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}، وقال النّبي صلى الله عليه وسلم: "الصلح جائز بين المسلمين، إلاّ صلحًا أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً".
فالإصلاح بين النّاس أمرٌ مرغَّبٌ فيه، وعملٌ صالح، وصدقة من الإنسان على نفسه أن يعدِل بين النّاس ويسوِّي الخلافات بين النّاس، بعكس الذي(15/9)
يُثير النّزاع ويُحدث الفتنة بين النّاس، ويحرِّش بعضهم على بعض، فهذا مفسد- والعياذ بالله-، خلاف الذي إذا وجد النّاس مختلفين فإنّه يصلح بينهم ويقارِب بين وجهات نظرهم، ويُذهِب ما في نفوسهم من الكراهية بعضهم لبعض، فهذا مصلِح وله أجرٌ عند الله سبحانه وتعالى، ولهذا قال النّبيُّ سبحانه وتعالى: "ما أحسن هذا! "، تعجُّباً وثناءً على عمل هذا الرّجل،(15/10)
ص -186- ... وتشجيعاً له على ذلك، وإنما أنكر التكنّي بأبي الحكم، وأراد تغييره، حيث قال صلى الله عليه وسلم: "فما لَك من الولد؟"، ليجعل له بديلاً صالحاً.
قال أبو شريح: "قلت: شريح، ومسلم، وعبد الله ".
قال النّبي صلى الله عليه وسلم: "من أكبرُهم؟".
قال: شُريح.
فقال النّبي صلى الله عليه وسلم: "أنت أبو شريح" بَدَّل "أبا الحَكَم"، وكنّاه بأكبر أولاده، فدلّ على أنّ الكنية تكون بأكبر الأولاد.
فهذا الحديث يدلّ على مسائل عظيمة:
المسألة الأولى: فيه: احترامُ أسماء الله سبحانه وتعالى، وإجلالُها، وتغيير الاسم من أجل إجلالها، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم غيّر اسم (أبي الحَكَم) إلى (أبي شُريح) احتراماً لأسماء الله سبحانه وتعالى.
المسألة الثانية: في الحديث دليلٌ على تعليم الجاهل، فإنّ النّبي صلى الله عليه وسلم علّم أبا شُريح، وبيّن له أنّ هذه الكُنْيَة خطأ.
المسألة الثالثة: في الحديث دليل على أنَّ مَن مَنع من شيء سيّء وله بديلٌ صالح فإنّه يأتي بالبديل، فإنّ النّبي صلى الله عليه وسلم لَمّا مَنع من التكنِّي بـ (أبي الحكَم) جعل بديلاً له وهو (أبو شريح).
وهذه قاعدة للمعلِّمين والدُّعاة أنَّهم إذا نهوا النّاس عن شيء محرّم وهناك ما يحلُّ محلَّه من الطيِّب الحلال؛ فإنُّهم يأتون به ويبيِّنونه للنّاس.
المسألة الرابعة: في الحديث دليلٌ على مشروعيّة الصلح بين النّاس فيما يختلفون فيه، وأنّ الصلح مبنيٌّ على التراضي ليس إلزاميًّا فإنَّ أبا شُريح قال: (فرضيَ كلاَ الفريقين،، فالمصلح لا يُلْزم وإنّما يَعْرِض الحلّ النافع، فإن قُبل فالحمد لله، وإلاَّ فإنّ المَرَاد إلى كتاب الله وسَنّة رسوله صلى الله عليه وسلم لحسم النّزاع.
أمّا الذي يُلْزِم النّاس بغير حكم الله؛ فهذا طاغوت، كالذي يُلزم النّاس بحكم الأعراف القَبَليّة التي يتحاكم إليها بعض القبائل، فهذا من حكم الجاهلية.
المسألة الخامسة: في الحديث دليل على أنّ(15/11)
الكنية تكون بأكبر الأولاد.(15/12)
ص -187- ... [الباب الثامن الأربعون:]
* بابُ من هَزل بشيء فيه ذكرُ لله أو القرآن أو الرّسول
وقول الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}.
عن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة - دخل حديثُ بعضهم في بعض-:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب بابٌ عظيم، إذا تأمّله الإنسان وعرَف واقِع النّاس فإنّه ينفعه الله به.
فقوله: "بابُ من هزَل" الهزْل هو: اللعب والاستهزاء، ضدّ الجدّ.
"بشيءْ فيه ذكرُ الله أو القرآن أو الرّسول صلى الله عليه وسلم يعني: من استهزأ بشيء من هذه الأشياء فما حكمُه؟، حكمُه: أنّه يرتدُّ عن دين الإسلام، لأن هذا من نواقِض الإسلام بإجماع المسلمين، سواءٌ كان جادًّا أو هازلاً أو مازحاً، حيث لم يستثن الله إلاَّ المُكْرَه، قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ(107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ(108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ(109)}، فالأمر شديد جدًّا.
وقد بيّن الشيخ أن هذا الحكم في كتاب الله مع سبب نزوله فقال: ""وقول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}.
ثم ذكر سبب نُزول الآية، فقال: "عن ابن عمر" هو: عبد الله بن عمر.
"ومحمد بن كعب" هو: محمد بن كعب القُرظيّ من بني قُرَيْظة.
"وزيد بن أَسْلم" هو: مولى عمر بن الخطاب.
"وقَتادة” هو: قتادة بن دَعامة بن قَتادة(15/13)
السُّدُوسيّ.
"دخل حديثُ بعضهم في بعض" يعني: كلّ هؤلاء رووا هذا الحديث، ولكن لَمّا كانت ألفاظُهم متقارِبة والمعنى واحد دخل حديثُ بعضهم في بعض، فسِيْق سياقاً واحداً، من باب الاختصار.(15/14)
ص -188- ... أنه قال رجلٌ في غزوة تبوك: ما رأينا مثل قُرَّائنا هؤلاء؛ أرْغَبَ بطوناً، ولا أكذبَ ألسناً، ولا أجْبَنَ عند اللَّقاء "يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَهُ القُرّاء".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"أن رجلاً" يعني: من المنافقين.
"كان في غزوة تبوك " تبوك: اسم موضع، شماليّ المدينة من أدنى الشّام.
وغزوة تبوك سبُبها: أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم بَلغه أنّ الروم يُعِدُّون العُدّة لغزو المسلمين، وكان هذا في الصيف وفي شدّة الحرّ ووقت مَطِيْب الثمار، فالوقت وقتٌ حَرِج جدًّا، والمسافة بعيدة، والعدوّ عدده كبير، والوقت حارّ، ووقت مَطِيب الثمار والنّاس بحاجة إليها، والمسلمون عندهم عُسرة، فليس عندهم استعداد للتجهُّز للغزو، ولذلك سُمّي هذا الجيش بـ "جيش العُسرة"، وسُمّيت هذه الساعة: "ساعة العُسْرة".
وقد جهّز عثمان رضي الله عنه من ماله ثلاثمائة بعير بجميع لوازمها، فهو الذي جهّز جيش العُسرة من ماله الخاصّ، وهذا من أعظم فضائله، رضي الله عنه وأرضاه.
وكذلك شارَك مَن شارك من الصّحابة بما عندهم من مال، فجهّزوا الجيش، وخرجوا، وكانت آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمنافقون صاروا يتكلّمون، واعتذروا عن الخُروج، لأنّهم ليس معهم إيمان، والغزوة هذه صعبة، لا يصبر عليها إلاَّ أهلُ الإيمان، وهذه حكمة من الله تعالى، واختبار في آخر عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، أراد الله أن يختبر المسلمين ليظهَر الصادِق من المنافق، فالصادقون ما تردّدوا ولا تلكّأوا، وأمّا المنافقون فإنهم تلكّأوا وجعلوا يتكلّمون ويقولون: يحسبون أن غزو بني الأصفر مثل غزو العرب، كأنّنا بهم يقرَّنون في الأصفاد، وما أشبه ذلك من الكلام القبيح، واعتذروا عن الخُروج، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى عنهم: {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ}(15/15)
لأنّ المسافة بعيدة، {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ(43)}.(15/16)
ص -189- ... فقال عوفُ بن مالك: كذبتَ، ولكنّك منافق، لأُخبرنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذهب عوفُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُخبره، فوجد القرآن قد سبقه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خرج المسلمون وصبروا على المشقّة وفيهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يصيبُه ما أصابهم من الشدّة ومن الرمضاء ومن الحرّ.
خرجوا وذهبوا ووصلوا إلى تبوك ونزلوا فيه، فلمّا عَلِم العدو بقدومهم إلى تبوك أصابه الرُّعب، وتقهقر.
فنزل النّبي صلى الله عليه وسلم أيّاماً في تبوك ينتظر قُدومهم ومجيئَهم، ولكنهم جَبُنوا، وألقى الله الرعب في قلوبهم، ورجع المسلمون سالمين مأجورين، وخاب المنافقون.
وأنزل الله في هذه الغزوة سورةً كاملة هي سورة التوبة التي فضح الله فيها المنافقين وأثنى فيها على المؤمنين، وهكذا حكمةُ الله سبحانه وتعالى يبتلي عبادَه.
فكان للمنافقين كلمات، منها ما في هذا الحديث، حيث قال رجلٌ منهم: "ما رأينا مثل قُرَّائنا هؤلاء" يعني بالقُرّاء: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
"أرْغَبَ بطوناً، ولا أكذبَ ألسناً، ولا أجْبَنَ عند اللَّقاء" وهذه الصّفات في الواقع هي صفات المنافقين، لكنّهم وصفوا بها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَه.
فقال عوف بن مالك: "كذبت، ولكنك منافق، لأخبرنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم" وهذا مِن أنكار المنكر، ومن النصيحة لوُلاة الأُمور، فالمسلم يبلِّغهم مقالات المفسدين والمنافقين من أجل أنْ يأخُذوا على أيدي هؤلاء، لئلا يُخِلُّوا بالأمن ويفرِّقوا الكلِمة، فتبليغ وُلاة أمور المسلمين كلمات المنافقين ودعاة السوء، الذين يريدون تفريق الكلمة، والتحريش بين المسلمين؛ هو من الإصلاح ومن النَّصيحة، لا من النّميمة.
"فذهب عوفٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُخبره فوجد القرآن قَدْ سَبَقه" لأنّ الله سبحانه وتعالى سَمِعَ مقالتهم وأنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم(15/17)
الخبر قبل أن يصل إليه عوف.
فهذا فيه: سَعَةُ علم الله سبحانه وتعالى.
وفيه: علامةٌ من علامات النبوّة، وأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان يوحى إليه ويبلُغه الخبر بسرعة.
ثم جاء ذلك الرجل الذي تكلّم بهذا الكلام- والعياذُ بالله-، ووجد النّبي صلى الله عليه وسلم:(15/18)
ص -190- ... فجاء ذلك الرجلُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله، إنّما كنا نخوضُ ونتحدث حديث الرَّكْب، نقطع به عناء الطريق.
قال ابن عمر: كأني أنظُر إليه متعلِّقاً بِنِسْعَة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنَّ الحجارة تنكُبُ رجليه، وهو يقول: إنّما كنا نخوض ونلعب، فيقولُ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "{أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}"، ما يلتفتُ إليه وما يزيدُه عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"قد ارتحل وركِب ناقته" من أجل أن يُفسد على المنافقين خُطّتهم، ومن أجل أن يُنهيَ هذه الخُطّة الخبيثة.
"فقال: يا رسول الله، إنما كنّا نخوض ونتحدّث حديثَ الرَّكْب، نقطع به عناء الطّريق. قال ابن عمر: كأنّي أنظرُ إليه متعلِّقاً بِنِسْعَة ناقة النّبي صلى الله عليه وسلم" النِّسْعَة هي الحبل الذي يُشَدُّ به الرحل.
وهو يقول: يا رسول الله، إنّما كنا نخوض ونلعب" فالرسول صلى الله عليه وسلم يرُدُّ عليه بقوله تعالى: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}.
فهذه القصّة فيها فوائد عظيمة:
الفائدة الأولى: أن من استهزأ بالله أو برسوله أو بالقرآن ارتدّ عن دين الإسلام رِدّةً تنافي التّوحيد، وهذا وجه المناسبة من عقد المصنِّف لهذا الباب؛ أنّ مَنِ استهزأ بالله أو برسوله أو بالقرآن، أو استهان بشيء من ذلك؛ أنّه يرتدّ عن دين الإسلام رِدّة تنافي التّوحيد وتُخرج من دين الإسلام، لأن هؤلاء كانوا مؤمنين، فارتدّوا عن دينهم بهذه المقالة، بدليل قوله تعالى: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}.
الفائدة الثانية: أن نواقض الإسلام لا يُعفى فيها عن اللّعب والمزح، سواءً كان جادّاً أو هازلاً، بل يُحكم عليه بالردّة والخُروج من دين الإسلام، لأنّ هؤلاء زعموا أنّهم(15/19)
يمزحون ولم يقبل الله جل وعلا عذرهم، لأنّ هذا ليس موضع لعب ولا موضع مزح.
الفائدة الثالثة: وُجوب إنكار المنكر، لأنّ عوف بن مالك رضي الله عنه أنكر ذلك وأقرّه الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك.(15/20)
ص -191- ... الفائدة الرابعة: أنّ مَن لم يُنكر الكفر والشرك فإنّه يكون كافراً، لأنّ الذي تكلّم في هذا المجلس واحد والله نسب هذا إلى المجموع فقال:
{أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}، لأنّ الراضيَ كالفاعل، وهذه خطورة عظيمة.
الفائدة الخامسة: أنّ إبلاغ وليّ الأمر عن مقالات المفسدين من المنافقين ودُعاة السوء الذين يريدون تفريق الكلمة والتحريش بين المسلمين من أجل الحَزْم يُعَدُّ من النصيحة الواجبة، وليس هو من النّميمة، لأنّ عوف بن مالك رضي الله عنه فعل ذلك ولم يُنكر عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، فدلّ على أنّ هذا من النّصيحة، وليس من النّميمة المذمومة.
الفائدة السادسة: فيه احترام أهلِ العلم وعدم السخرية منهم، أو الاستهزاء بهم، لأنّ هذا المنافق قال: "ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء" يريد بذلك العلماء، والعلماء وَرَثَةُ الأنبياء، وهم قُدوة الأُمَّة، فإذا طعنَّا في العلماء فإنَّ هذا يُحْدِثُ الخَلْخَلَةَ في المجتمع الإسلاميّ، ويقلِّل من قيمة العلماء، ويُحْدِث التشكيك فيهم.
نسمع ونقرأ من بعض دُعاة السوء من يقول: "هؤلاء علماء حيض، علماء نفاس، هؤلاء عُمَلاء للسلاطين، هؤلاء علماء بغْلَة السلطان"، وما أشبه ذلك، وهذا القول من هذا الباب- والعياذُ بالله- وليس للعلماء ذنب عند هذا الفاسق إلاّ أنهم لا يوافقونه على منهجه المنحرف.
فالوقيعة بالمسلمين عُموماً ولو كانوا من العوامّ لا تجوز، لأنّ المسلم له حُرمَة، فكيف بوُلاة أُمور المسلمين وعلماء المسلمين.
فالواجب الحذر من هذه الأمور، وحفظ اللّسان، والسّعي في الإصلاح، ونصيحة مَن يفعل هذا الشيء.
الفائدة السابعة: في الحديث دليلٌ على معجزة من معجزات الرّسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث إنّه بلغه الوحي عن القصّة قبل أن يأتيَ إليه عَوفُ بن مالك، وهذا مصداق قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ(15/21)
عَنِ الْهَوَى(3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4)}.
الفائدة الثامنة: في الحديث دليلٍ على أنّ نواقِض الإسلام لا يُعذَر فيها بالمزح(15/22)
ص -192- ... واللّعب، لأنها ليست مجالاً لذلك، وإنّما يُعذر فيها المُكْره على القول خاصة كما في آية النحل: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ}.
الفائدة التاسعة: في الحديث دليلٌ على وُجوب الغِلْظة على أعداء الله ورسوله من المنافقين والكُفّار ودُعاة الضّلال، وأنّ الإنسان لا يَلِين لهم، لأنّه إنْ لان معهم خدعوه ونفّذوا شرّهم، فلا بُدّ من الحَزْم من وليّ الأمر ومن العالِم نحو المنافقين والكُفّار ودُعاة السوء.(15/23)
ص -193- ... [الباب التاسع والأربعون:]
* باب قول الله تعالى:
{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} الآية.
قال مجاهد: "هذا بعملي، وأنا محقوقٌ به ".
وقال ابن عبّاس: "يريد: من عندي ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب بابٌ عظيم، تقدّم نظيره في باب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا}.
وقوله: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ} الضمير في {أَذَقْنَاهُ} ضمير الغائب راجعٌ إلى الإنسان المذكور في الآية التي قبلها في قوله تعالى: {لا يَسْأَمُ الْأِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ(49)}، والمراد بالإنسان هنا: جنس الإنسان، يعني: لا يملّ الإنسان من طلب الدنيا، {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ} يعني: إذا أصابته مصيبة في ماله أو في بدنه، {فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ} يستبْعِد الفَرَج من الله عزّ وجلّ ويقنط من رحمة الله، {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ} يعني: هذا الإنسان، أي: أعطيناه، {رَحْمَةً مِنَّا} عافية وصحّة في بدنه وغنىً من فقره، {مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ}مشته في بدنه من المرض والمصائب، أو في ماله من الفقر والإعواز. {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} ينسى الضرّاء التي مسّته، وينسى من أين جاءت هذه النعم، ويظنّ أنّ ما في يده إنما هو بحوله وقوّته، فيقول: {هَذَا لِي}، فلا يشكُر الله عزّ وجلّ ويعترف بنعمته، بل ينسِب هذه النعمة إليه هو وإلى كَدِّه وكسْبه، أو إلى آبائه وأجدادِه.
"قال مجاهد" هو مجاهد بن جَبْر، الإمام الجليل، من كبار التابعين.
"هذا بعملي، وأنا محقوقٌ به" يعني: هذه النعمة إنما حصلتُ عليها بعملي وكَدِّي وكسبي واحترافي، وأنا محقوق بها، أي: أستحقها، وأنا الذي حصّلتُها، وأنا الذي جمعتُها.
"وقال ابن عبّاس: يريد: هذا مِن عندي" يعني: بعملي وبسببي، أنا الذي حصّلتُه وتعبْتُ فيه.(15/24)
ص -194- ... وقوله:{إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}.
قال قتادة: "على علمٍ منِّي بوُجوه المكاسب".
وقال آخرون: "على علم من الله أنّي له أهل ".
وهذا معنى قولِ مجاهد: "أوتيتُه على شَرَف ".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: "إن ثلاثةً من بني إسرائيل: أبرص، وأقرع، وأعمى، فأراد الله أن يبتليَهم، فبعث إليهم مَلَكاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"وقوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} قال قتادة: على علم منّي بوجوه المكاسب. وقال آخرون: على علم من الله أني له أهل" القول الأول معناه: أنّني رجلٌ عالم بالاقتصاد وطُرق الكسب، كما يقوله اليوم الاقتصاديِّون، حيث يتباهون بالحِذْق بعلم الاقتصاد، ويظنون أنّ الأموال والثّروات التي يحُصلون عليها بسبب حِذْقهم ومعرفتهم وخِبْرَتهم، ولا ينسبون هذا إلى الله سبحانه وتعالى.
والقولُ الثاني معناه: أن الله أعطاني هذا المال لأنّه يعلم أنّي أستحقُّه، ولا فضل لله عليّ فيه.
قال الشيخ: "وهذا معنى قول مجاهد: أوتيتُه على شرف" أي: أن الله علم أنني رجل شريف وذو مكانة ومنزلة، فالله أعطانيه لمنزلتي، ومعنى هذا: إنكار الفضل من الله سبحانه وتعالى.
قال العلماء: "هذه الأقوال لا تنافيَ بينَها"، لأنّ الآيتين تشملان كلّ هذه الأقوال، فاختلافهم إنّما هو اختلاف تنوُّع وليس اختلاف تضادّ.
قال: "عن أبي هريرة رضي الله عنه: إنّ ثلاثةً من بني إسرائيل" بنوا إسرائيل هم ذرية يعقوب، وإسرائيل، ومعناه: عبد الله.
"أبرص" الأبرص: مَن أُصيب بالبَرَص، وهو داءٌ يُصيب الجلد فيتحوّل إلى أَبْيَض كَريه المنظر، وهذا المرض لا يُمكِن علاجه في الطِبَّ البشري، ولذلك كان من معجزة عيسى- عليه الصلاة والسلام- أنه يُبْرئ الأبرص والأكمَهْ ويُحيي الموتى بإذن الله، وهذا ما لا يقوى عليه الطب البشري.(15/25)
ص -195- ... فأتى الأَبْرَص فقال: أيُّ شيءٍ أحبُّ إليك؟، قال: لونٌ حسن، وجِلْدٌ حسن، ويَذْهَبُ عني الذي قد قَذِرَنِي النّاس به. قال: فمسحه فذهب عنه قذره، فأُعطي لوناً حسناً وجِلْداً حسناً. قال: فأيُّ المالِ أحبُّ إليك؟، قال: الإبل، أو البقر [شكَّ إسحاق]. فأُعطيَ ناقة عُشراء، وقال: باركَ الله لك فيها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"وأقرع" وهو الذي لا ينبُت لرأسه شعر، لأنّ هذا الشعر الذي ينْبَت على الرأس فيه فوائد عظيمة منها: الجمال، ومنها منافع صحيّة، وغير ذلك، فمن فقد شعر الرأس فإنّه يفقد منافع كثيرة أعظمُها الجمال، ويُصبح كريه المنظر.
وأما "الأعمى" فهو الذي ذهب بصرهُ كلُّه، أمّا الذي ذهب منه بصرُ عينٍ واحدة؛ فهذا يسمّى أعور.
وقوله: "فأراد الله" الله جل وعلا يوصَف بالإرادة، والمخلوق- أيضاً- يوصف بالإرادة، ولكنْ إرادةُ الله خاصّةٌ به، وإرادة المخلوق خاصّة به، وإرادة الله تنقسم إلى قسمين: إرادة كونيّة، وإرادة شرعيّة.
"أن يبتليهم" يعني: أن يختبرهم.
"فبعث إليهم مَلَكاً" المَلك: واحدُ الملائكة، وهم: خَلْقٌ من خَلْق الله ومن عالم الغيب، خلقهم الله جل وعلا لعبادته، وخلقهم- أيضاً- لتنفيذ أوامره تعالى في مُلْكه، فمنهم الموكّل بالوحي، ومنهم الموكّل بالقَطْر والنّبات، ومنهم الموكّل بالنفخ في الصّور، ومنهم الموكّل بالأجنّة، ومنهم الموكّل بحفظ أعمال بني آدم، كُلُّ من الملائكة له عمل: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}.
فأتى الأَبْرَص فقال: أيُّ شيءٍ أحبُّ إليك؟، قال: لونٌ حسن، وجِلْدٌ حسن، ويَذْهَبُ عني الذي قد قَذِرَنِي النّاس به. قال: فمسحه الملَك" مسح على هذا الأبرص فبرئ، وعاد إليه لونٌ حسن وجلدٌ حسن، وهذا بقدرة الله تعالى لأنّ المَلك رسولُ الله.
" قال: فأيُّ المالِ أحبُّ إليك؟، قال: الإبل، أو البقر [شكَّ إسحاق]" المراد: إسحاق بن عبد الله(15/26)
بن أبي طلحة، راوي الحديث، شكّ هل قال الرّسول صلى الله عليه وسلم الإبل، أو قال البقر؟، وهذا من التحفُّظ والدِّقة في الرواية.(15/27)
ص -196- ... قال: فأتى الأقرع فقال: أيُّ شيءٍ أحبُّ إليك؟، قال: لونٌ حسن وشعر حسن، ويَذْهَبُ عني الذي قد قَذِرَنِي النّاس به، فمسحه فذهب عنه قدّره، وأُعطِي شعراً حسناً. فقال: أيُّ المالِ أحبُّ إليك؟، قال: البقر، أو الإبل. فأُعْطيَ بقرة حاملاً، قال: بارك الله لك فيها.
فأتى الأعمى فقال: أيُّ شيءٍ أحبُّ إليك؟، قال: يردّ الله إليَّ بَصري فأُبصر به النّاس، فمسحه فردّ الله إليه بصره. قال: فأيُّ المال أحبُّ إليك؟، قال: الغنم، فأُعطي شاةً والداً.
فأنتج هذان وولَّد هذا، فكان لهذا وادٍ من الإبل، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا وادٍ من الغنم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"فأُعطيَ ناقة عُشراء" العُشَراء هي: الحامل التي تمّ لها ثمانية أشهر، لأنّها أنفس الأموال، قال تعالى: {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ(4)}، عند قيام الساعة يذهلون فيتركون أنفس الأموال، ويعطِّلونها من شدّة الهَوْل.
"وقال: بارك الله لك فيها" دعا له بالبركة، ودعوةُ المَلك مستجابة، وهذا بأمر الله سبحانه وتعالى من أجل الامتحان والابتلاء.
"ثم أيُّ شيءٍ أحبُّ إليك؟، قال: لونٌ حسن وشعر حسن، ويَذْهَبُ عني الذي قد قَذِرَنِي النّاس به، فمسحه فذهب عنه قدّره، وأُعطِي شعراً حسناً. فقال: أيُّ المالِ أحبُّ إليك؟، قال: البقر، أو الإبل. فأُعْطيَ بقرة حاملاً" البقرة الحامل هي التي في بطنها جَنين.
"وقال: بارك الله لك فيها" دعا له مثل الأوّل.
"فأتى الأعمى فقال: أيُّ شيءٍ أحبُّ إليك؟، قال: يردّ الله إليَّ بَصري فأُبصر به النّاس، فمسحه فردّ الله إليه بصره. قال: فأيُّ المال أحبُّ إليك؟، قال: الغنم، فأُعطي شاةً والداً" يعني: قد ولدت حملَها.
"فأنتج هذان" أنتج أصحاب الإبل والبقر.
"وولّد هذا" أي: صاحب الشّاة.
"فكان لهذا وادٍ من الإبل، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا وادٍ من الغنم" بسبب بركة دعوة المَلك ولأجل الابتلاء والامتحان.(15/28)
ص -197- ... قال: ثم إنّه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجلٌ مسكين وابن سبيل، قد انقطعت بيَ الحبال في سفري، فلا بلاغ ليَ اليوم إلاّ بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجِلْد الحسن والمال؛ بعيراً أتبلّغ به في سفري. فقال: الحُقوق كثيرة. فقال له: كأنِّي أعرِفُك!، ألم تكن أبرص يقذِرك النّاس، فقيراً فأعطاك الله عزّ وجلّ تامال؟ فقال: إنما ورثتُ هذا المال كابِراً عنْ كابر. فقال: إن كنت كاذباً فصيّرك الله إلى ما كنت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"ثم إنّه أتى الأبرص في صورته وهيئَته" أي: في صورة رجل أبرص، لأنّ الله أعطى الملائكة القُدرة على التشكُّل، فيظهَرون في صور مختلفة.
"فقال: رجلٌ مسكين " يَعْرِض حالَه عليه ليتصدّق عليه.
"وابنُ سبيل" ابنُ السّبيل هو: المسافر الذي انقطع ما معه من الزّاد، وقد جعل الله له حقًّا في الزكاة ما يوصِّلُه إلى بلده، ولو كان غنيّاً في بلده.
"قد انقطعت بيَ الحبال" يعني: الأسباب، جمعُ حبل وهو السّبب، وفي رواية: "انقطعت بيَ الحيال" -بالياء- يعني: الحِيَل.
ثم ذكّره بحالته الأولى فقال: "أسألُك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال؛ بعيراً أتبلغ به في سفري. فقال: الحقوق كثيرة" يعني: أن الحقوق التي عليّ كثيرة وينفد المال لو أعطيتك، وأعطيت هذا ممّن لهم عليّ حقوق، وهذا اعتذارٌ منه.
ثم ذكّره المَلَك مرّة ثانية وقال له: "كأنِّي أعرِفُك!، ألم تكن أبرص يُقْذُرُك النّاس، فقيراً فأعطاك الله عزّ وجلّ المال؟ ".
ثم إنه جحد نعمة الله عليه، وجحد هذه الحالة التي مرّت به، وقال: "إنما وَرثْتُ هذا المال كابِراً عن كابر" يعني: هذا ليس بمال جديد كما تقول، بل هو معي من قديم ومع آبائي من قبل، وهذا جُحود لنعمة الله عزّ وجلّ.
فدعا عليه المَلَك، وقال: "إن كنت كاذباً فصيّرك الله إلى ما كُنت " يعني: صيّرك الله فقيراً أبرص.(15/29)
ص -198- ... قال: وأتى الأقرع في صورته، فقال له مثل ما قال لهذا، وردّ عليه مثل ما ردّ عليه هذا. فقال: إن كنت كاذباً فصيّرك الله إلى ما كنت.
قال: وأتى الأعمى في صورته، فقال: رجلٌ مسكين وابن سبيل، قد انقطعتْ بِيَ الحبال في سفري، فلا بلاغ ليَ اليوم إلاّ بالله ثم بك، أسألُك بالذي ردّ عليك بصرك؛ شاةً أتبلّغ بها في سفري. قال: كنتُ أعمى فردّ الله عليَّ بصري، فخُذ ما شئتَ، فوالله لا أجْهَدُك اليوم بشيء أخذته لله، فقال له الملَك: أَمْسِكْ عليك مالك، فإنّما ابتُلِيتُم؛ فقد رضيَ الله عنك وسخِط على صاحبيْك" أخرجاه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"قال: وأتَى الأقرع في صورته، فقال له مثل ما قال لهذا" أي: رجل مسكين وابن سبيل... إلى آخره.
"وردّ عليه مثل ما ردّ عليه هذا" قال له: الحقوق كثيرة.
وذكّره المَلَك بحالته من قبل، فأنكر ذلك، فدعا عليه الملك كما دعى على الأبرص بأن يصيره الله إلى ما كان عليه من قبل.
قال: " وأتى الأعمى في صورته، فقال: رجلٌ مسكين وابن سبيل، قد انقطعتْ بِيَ الحبال في سفري، فلا بلاغ ليَ اليوم إلاّ بالله ثم بك، أسألُك بالذي ردّ عليك بصرك؛ شاةً أتبلّغ بها في سفري"، فاعترف الأعمى بنعمة الله وقال: "كنتُ أعمى فردّ الله عليّ بصري، فخذ ما شئتَ" يعني: خذ الذي تريده.
"فوالله لا أجْهَدُك" أي: لا أمنعك، "بشيء أخذته لله"، وفي رواية: "لا أَحْمَدُك على شيء أخذته لله" لأنّه ليس مالي وإنما هو مالُ الله سبحانه وتعالى.
ثم ظهرت نتيجة الامتحان: "فقال له الملَك: أَمْسِكْ عليك مالك، فإنّما ابتُلِيتُم" يعني: اختُبِرْتُم أنت وصاحباك.
"وقد رضي الله عنك" بسبب شكرك لنعمة الله عزّ وجلّ.
"وسخِط على صاحبيْك" بسبب كفرهم بنعمة الله عزّ وجلّ.
فهذا الأعمى فاز برضى الله تعالى وسلم عليه مالُه، أمّا أولئك فعاقبهم الله وسَخِط عليهم، وهذه نتيجة الابتلاء والامتحان.(15/30)
ص -199- ... وهذا عامٌّ في كلِّ من كفر نعمة الله ومَن شكر نعمة الله عزّ وجلّ.
فدلّت هاتان الآيتان وهذا الحديث العظيم على مسائل:
المسألة الأولى: فيه: أنّ نسبة النعم إلى الله عزّ وجلّ توحيد، وأنّ نسبتها إلى غيرِه شرك، لكن إن اعتقد أنّ غيرَه هو الذي أوجدَها فهو شركٌ أكبر، وإن اعتقد أنّ غيرَه سبب والله هو الذي أوجدها، ولكن نسبها إلى السبب فهو شركٌ أصغر، لأنّه لا يجوز النِّسبة إلى الأسباب، حتى ولو كانت أسباباً صحيحة، وإنّما تُضاف النّعم إلى الله سبحانه وتعالى، ولهذا مَرّ بنا الحديث: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، أنّه قولُ الرجل: "لولا كُليبة هذا لأتانا اللّصوص، لولا البطّ في الدّار لأتانا اللصوص" لولا كذا، لولا كذا، فلا تجوز النّسبة إلى الأسباب، وإنّما تُنسب النعم إلى مسبِّب الأسباب، وهو الله سبحانه وتعالى.
المسألة الثانية: فيه: أنّ النعم والنِّقَم ابتلاءُ واختبارٌ من الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}.
المسألة الثالثة: فيه: أنّ الله سبحانه أعطى الملائكة القُدرة على التشكُّل بأشكال مختلفة، وهذا ثابتٌ من النُّصوص الكثيرة، فتشكُّلُهم لأجل مصالح العباد، لأنَّهم لا يُطيقون رؤية الملائكة.
المسألة الرابعة: في الحديث دليلٌ على مشروعيّة ذكر قَصَص الأوّلين من بني إسرائيل وغيرِهم من أجل الاعتبار والاتّعاظ إذا كانت القصص صحيحة.
المسألة الخامسة: في الحديث دليل على أنّ من شكر نعمة المال: إخراج الحقوق الواجبة فيه من زكاة وإطعام جائع وكسوة عارٍ، وما أشبه ذلك من الحقوق الواجبة والحقوق المستحبّة، وأنّ البُخْل بحقوق المال من كفر النعمة.
المسألة السّادسة: في الحديث دليل على أنّ الجزاء من جنس العمل؛ فقد رضيَ الله عن هذا الأعمى بسبب إحسانه، وسخِط على صاحبيه بسبب بخلهما بحقوق الفقراء والمساكين.
المسألة السّابعة: فيه وصفٌ(15/31)
الله جل وعلا بالرِّضا والسخط، صفتان من صفاته اللاَّئقة به سبحانه وتعالى، ليس كرضى المخلوق ولا كسخط المخلوق.(15/32)
ص -200- ... [الباب الخمسون:]
* باب قول الله تعالى:
{فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب المقصود به: بيان أنّ تعبيد الأسماء لغير الله شرك ينافي كمال التّوحيد، إنْ كان المقصود مجرّد التسمية، أما إنْ كان المقصود تعبيد التألُّه لغير الله فإنّه شرك أكبر ينافي التّوحيد.
وقولُه رحمه الله: "بابُ قول الله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}" يريد: بيان ما جاء في تفسير الآية.
والآية التي قبلها قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} يعني آدم وحواء عليهما السلام. {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} يعني وطئها.
{حَمَلَتْ} يعني: عَلِقَتْ رَحِمُها بالنُّطْفَة.
{حَمْلاً خَفِيفاً} هذا شأن الحمل في أوّل أطواره: كونُه نُطفة، ثم عَلَقَة، ثم مُضْغَة، ويكون خفيفاً في هذه الأطوار.
{فَمَرَّتْ بِهِ} يعني: ما أجلسها ولا عوّقها عن العمل، فهي تمرّ وتمشي وتقوم وتقعد.
{فَلَمَّا أَثْقَلَتْ} يعني: في طور نفخ الروح فيه.
{دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} دعا آدم وحواء، وطلبا من الله جل وعلا.
{لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً} رزقتنا مولوداً سَوِيًّا في خِلْقَتِهِ.
{لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} لأنّ هذا هو الواجب في النعمة أن تُشكر.
{فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً} استجاب الله دعوتهما وآتاهُما ولداً إنساناً سوياًّ صالحاً.
{جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} بأن سمّياهُ (عبد الحارث)، فعبّداهُ لغير الله.
وهذا من الشّرك في التسمية، حيث عبّداه لغير الله.
ثم ذكر عن ابن حزْم، وهو الإمام الجليل، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حَزْم، الأندلسي، القُرطبيّ، الظاهريّ، له المؤلَّفات العظيمة مثل:(15/33)
ص -201- ... قال ابنُ حزم: "اتّفقوا على تحريم كلّ اسم مُعَبَّدِ لغير الله؛ كعبد عمرٍو، وعبد الكعبة، وغير ذلك، حاشا عبد المطّلب".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"المحلّى" و"الفِصَل في الملل والنِّحل"، و"الأنساب"، و"جوامع السيرة"، فهو إمامٌ جليل خصوصاً في علم الحديث، إلاّ أنه رحمه الله يؤخذ عليه سلاطة اللسان في ردّه على المخالفين، واعتناقه لمذهب الظاهرية، والظاهرية معناها: الأخذ بظواهر النُّصوص دون النظر في معانيها وأسرارها، وعدم القول بالقياس، وهذا نقصٌ في هذا المذهب.
ولكن على كلّ حال هو إمامٌ جليل، له نفعٌ عظيم في الإسلام، ومؤلَّفاتُه خصوصاً "المحلّى" وما فيه من الآثار والأحاديث والرواية بالأسانيد، ففضائلُه كثيرة رحمه الله.
قال: "اتّفقوا" يعني: أجمعوا، وليس المراد الاتّفاق عند المتأخِّرين الذي هو قولُ جماعةٍ من أهل العلم.
"على تحريم كلِّ اسم مُعَبَّدٍ لغير الله" كـ (عبد الحُسين)، و (عبد الرّسول) و (عبد الكعبة)، و (عبد الحارث) وغير ذلك، لأنّ التعبيد يجب أن يكون لله سبحانه وتعالى، لأنّ الخلْق كلهم عبادُ الله كما قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً(93)}، فكلُّ الخلق عباد الله المؤمن والكافر.
ولكن العبودية على قسمين:
عبوديّة عامّة: وهذه تشمل جميع الخلق المؤمن والكافر كلُّهم عبادُ لله تعالى، بمعنى: أنّهم مملوكون لله، مخلوقون لله، يتصرّف فيهم، ويدبِّرُ أمورَهم، لا يخرُج عن هذا أحد من الخلق.
النوع الثاني: عبوديّة خاصّة: وهي عبوديّة التألُّه والمحبّة، وهذه خاصّة بالمؤمنين: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}، {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ(68)}، فهذه عبوديّة خاصّة بالمؤمنين.
قال: "حاشا" حاشا: كلمة استثناء.
"عبد(15/34)
المطّلب" هو جدّ الرّسول صلى الله عليه وسلم، لأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم هو: محمد بن عبد الله بن عبد المطلِب بن هاشم بن عبد مناف بن قُصي بن كِلاب، فـ (عبد المطلِّب) هذا استثناهُ ابن حزم من التحريم.(15/35)
ص -202- ... وعن ابن عبّاس في الآية، قال: "لَمّا تغشّاها آدمُ حملت، فأتاهُما إبليس فقال: إني صاحبُكما الذي أخرجكما من الجنّة، لتُطيعانني، أو لأجعلنّ له قرنْي أيِّل، فيخُرج من بطنك فيشقه، ولأفعلنَّ –يخوِّفهما-، سمِّياه عبد الحارث. فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميِّتاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولكن ليس الأمر كما قال رحمه الله فلا يجوز أن يسمّى أحد الآن عبد المطّلب، فلا وجه للاستثناء، وإنّما يقال عبد المطّلب لجد الرسول خاصة، حكاية للماضي، كما يقال؛ (عبد الكعبة) و (عبد شمس)، و (عبد مناف)، حكاية لِمَا مضى.
أما بعد الإسلام فلا يجوز أن يسمّى أحد بهذه الأسماء.
أما حكاية شيء مضى وانتهى فلا بأس بذلك، وقد قال النّبي صلى الله عليه وسلم: "أنا النّبي لا كذب، أنا ابن عبد المطّلب" هذا من ناحية.
النّاحية الثانية: يقولون: إنّ عبد المطّلب ليس اسم جد الرسول، وإنما اسمُه: (شَيْبَة الحمد)، ولكن قيل له: عبد المطّلب لأنّ عمّه المطّلب بن عبد مناف جاء به وهو صغير من أخواله بني النجار في المدينة، وكان تأثّر لونه بالسواد بسبب السفر، فظنوه عبداً مملوكاً للمطلب، فقالوا: عبد المطّلب.
قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: "فأتاهما" أي آدم وحواء" إبليس فقال: إني صاحبُكما الذي أخرجكما من الجنّة "يشير إلى القصة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه من وَسْوَسَة الشيطان لآدم عليه السلام لَمّا حرّم الله عليه أن يأكُل من شجرة معيَّنة في الجنة، وجاءه الشيطان وزيّنها له وأغراهُ بالأكل منها، فعصى ربَّه وأكل منها، فحصلت المصيبة، وأُخرج من الجنّة بسبب ذلك، وأُهْبِط إلى الأرض. ولكنّ آدم وحوّاء تابا إلى الله- عليهما السلام- تابا إلى الله فتاب الله عليهما.
"لتُطِيعاني" أي: تمتثلان ما آمركما به.
"أو لأجعلنّ له قرنْي أيِّل" الأَيِّل هو ذكر الأوعال. "فيخرج من بطنك فيشقه" يعني: بقرنيه.
" ولأفعلنَّ –يخوِّفهما-" من(15/36)
التخويفات والتهديدات، فلم يلتفتا إليه، ولم يطيعاه لأنه عدوهما.(15/37)
ص -203- ... ثم حملت، فأتاهُما، فذكر لهما، فأدركُهما حبُّ الولد، فسمّياه عبد الحارث.
فذلك قوله تعالى: {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} رواه ابن أبي حاتم.
وله بسند صحيح عن قتادة: "شركاء في طاعته، ولم يكن في عبادته".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"فخرج ميِّتاً" وهذا من باب الامتحان والابتلاء من الله سبحانه وتعالى.
"ثم حملت فأتاهُما فذكر لهما" ذلك، لأن الشيطان- لعنه الله- يحاوِل مع الإنسان ولا ييأس.
"فأدركهما حُبّ الولد، فسمّياه عبد الحارث" والحارث قيل: هو اسم إبليس، قبل أن تحصل عليه اللعنة، ولكن بعد أن حصلت عليه اللعنة وطُرد من الملأ الأعلى سمّي بإبليس.
"فذلك قولُ الله تعالى: {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}" أي: هذا تفسير هذه الآية.
"رواه ابن أبي حاتم".
"وله" أي: ابن أبي حاتم.
"بسند صحيح عن قتادة: شركاء في طاعته، ولم يكن في عبادته" وشركُ الطاعة شركٌ أصغر لا يُخرِج من الملّة، لاسيّما وأنّهما لم يفعلا هذا قصداً للمعنى، وإنّما فعلاه من باب حُبّ الولد، ومن أجل سلامته فقط، ومع هذا سمّاه الله شركاً، فيكون شركاً ولو لم يقصده الإنسان. فدلَّ هذا على أنَّ مَن تكلَّم بالشّرك أو فعل الشرك فإنّه يسمّى مشركاً، ولو لم يقصده ولم ينوِّه، فيُحكَم عليه بأنّ فعله هذا شرك، سواء من الشرك الأصغر أو الشرك الأكبر، ولهذا قال الرّسول صلى الله عليه وسلم للذي قال له: ما شاء الله وشئتَ: "أجعلتني لله نِدًّا؟" مع أنّ القائل ما أراد أن يجعل لله نِدًّا، ولكن هذا اللّفظ لا يجوز، فهو شرك ولو لم يقصده، فكيف إذا قصده؟(15/38)
ص -204- ... وله بسند صحيح عن مجاهد في قوله: { لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً} قال: أشفقا أن لا يكون إنساناً.
وذكر معناه عن الحسن وسعيد وغيرِهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ففيه ردٌّ على من يقول: أن من قال كلمة الشرك أو فعل الشرك لا يُحكم عليه أنه مشرك حتى يعتقده بقلبه كما هو قول مرجئة هذا العصر.
"وله" أي: ابن أبي حاتم.
"بسند صحيح عن مجاهد في قوله: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً} قال: أشفقا أن لا يكون إنساناً" أي: خافا من ذلك.
"وذكر معناه عن الحسن" هو: الحسن البصري.
"وسعيد" هو: سعيد بن المسيِّب، وهما من أئمّة التّابعين، أي: ورُوِيَ هذا التفسير عن هذين الإمامين، بل هذا قولُ أكثر المفسِّرين، كما ذكر ذلك الشوكاني في "فتح القدير"، ورجحه شيخُ المفسرين الإمام ابن جرير رحمه الله في "تفسيره " وقال: "هو أولى القولين في تفسير الآية الكريمة".
وهو الذي اختاره الشيخ المصنِّف: محمد بن عبد الوهاب، واختاره الشارح الشيخ: سليمان بن عبد الله، وأنّ هذا الشرك المذكور في الآية وقع من آدم وحوّاء، لكنه شركٌ في الطاعة وليس في العبادة.
وذهب بعض المفسِّرين- وهو القول الثّاني-: إلى أنّ الآية من أوّلها إلى آخرها لا تعني آدم ولا حوّاء، وإنّما تعني المشركين من بني آدم، واعتمدوا في هذا على شيئين:
الشيء الأوّل: أنّه لا يجوز أن يقع من آدم وحوّاء مثل هذا، لأنّ آدم- عليه الصلاة والسلام- نبي من أنبياء الله، ولا يقع منه هذا الشيء.
الشيء الثاني: أنّ الله خَتَم الآية بقوله: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، وهذا لفظُ جمع، فيُراد به المشركون من بني آدم.
واختار هذا القول ابن كثير في تفسيره، وَطَعَنَ فيما روي عن ابن عبّاس، وقال: "لعلّه من الإسرائيليّات".(15/39)
ص -205- ... ولكن الإمام ابن جرير يقول: "أولى القولين هو القول الأوّل" وهو الذي عليه أكثرُ المفسرين.
ويرجّح القولُ الأوّل: أنّ الله سبحانه وتعالى ذكر الضّمير بلفظ التثنية، وأوّل الآية لا شك في آدم وحوّاء، وهو قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}، ولا شك أن المراد: آدم وحوّاء، ثم أعاد الضمائر إليهما، وهذا أُسلوب العرب؛ أنهم يذكرون الاسم في الأوّل ثم يعيدون الضمائر إليه، إنْ كان مفرَداً مفرداً، وإنْ كان مثنى مثنى، وإنْ كان جمعاً فجمعاً، هذا الأسلوب العربي.
والضمائر هي: {دَعَوَا}، {رَبَّهُمَا}، {لَئِنْ آتَيْتَنَ}، {فَلَمَّا آتَاهُمَا}، {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ}، كلُّ هذه الضمائر ترجع إلى آدم وحوّاء.
أمّا آخِر الآية فهو التفاتٌ إلى الذريّة، وهذا أسلوبٌ عربي معروف في لغة العرب، وذلك أنه لَمّا ذكر قصة آدم وحوّاء وفرغ منها انصرف إلى الذريّة فقال: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: المشركون من العرب الذين بُعث إليهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فمعظم الآية في آدم وحوّاء، وآخِرُها التفاتٌ إلى ذريّة آدم وحوّاء، فكأنّ الله سبحانه وتعالى يستنكر الشرك من أصله، الشرك الذي وقع من آدم وحوّاء، وهو شركٌ أصغر، والشرك الأكبر الذي وقع من عَبَدَة الأوثان من ذريّة آدم.
فيترجّح القول الأوّل من عِدّة وجوه:
أوّلاً: أن الضمائر كلُّها مثنّاة، والقول بأنّ المراد الذريّة تعسُّفٌ في الألفاظ لا يجوز.
ثانياً: إنّ ما فسّر به ابن عبّاس ورد من عدّة جهات، فهو تفسير صحيح من مجموع طُرُقِه.
ثالثاً: أنّ عليه الأكثر من أهل العلم، كما قال الشوكاني.
رابعاً: أنّه هو المعنى الذي رجّحه الإمام أبو جعفر ابن جرير، شيخ المفسِّرين، حيث قال: "أولى القولين: القولُ الأوّل"، وهذا الذي اختاره المصنِّف في هذا الباب.
أمّا قول المخالفين: أنّ آدم عليه السلام لا يليقُ به(15/40)
ذلك.
فنقول: هذا ليس بشرك أكبر، إنما هو شركٌ أصغر، وهو شركٌ في الطاعة والألفاظ، لا في المعاني والمقاصد والنيّات، وقد يقع من الأنبياء بعض الذنوب(15/41)
ص -206- ... الصغار التي عاتبهم الله عليها، ثم يتوبون منها ويتوب عليهم، والعِصمة إنما هي من الذنوب الكبائر، ومن الاستمرار على الصغائر. كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية.
هذا، ويُستفاد من هذه القصة التي ذكرها الله في القرآن عدّة فوائد:
الفائدة الأولى: بيان الحكمة من خلق الزوجات لبني آدم، وأن المقصود من ذلك السَّكَن والاستيلاد، وغير ذلك من الفوائد، والقوامة من الرجل على المرأة: وصيانتُها، إلى غير ذلك، لكن أهمّ شيء هو السَّكَن، كونُ الإنسان يأتي إلى بيتٍ فيه زوجة طيِّبة ملائِمة يسكُن إليها ويرتاح معها.
الفائدة الثانية: أن حصول الأولاد الأسوياء في خِلْقَتِهم، الصالحين في دِينهِم؛ من أكبر النعم: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ}، {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}.
الفائدة الثالثة: في الآية دليل على بيان الحكمة من الزواج، وأنّها السكَن والاستيلاء، ويَتْبَعْ ذلك بقية الأغراض من الصيانة، والقوامَة، والنّفقة، وغير ذلك، فالمرأة بلا رجل تكون معذَّبة، والرجل بلا امرأة يكون معذّباً، أما إذا اجتمع زوجان متناسِبان فهذا من تمام النِّعمة.
الفائدة الرابعة: في الحديث دليلٌ على أن تعبيد الأسماء لغير الله شرك.
الفائدة الخامسة: التحذير من كَيْد إبليس، فإذا كان فعل جمع الأبوين ما فعل فإنّه سيفعل مع الذريّة أشدّ: {قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً}، {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ(83)}، فهو يهدِّد ويتوعّد.
الفائدة السادسة: أن تعبيد الأسماء لغير الله يُعتبر من الشرك الأصغر، وهو شرك الطّاعة، إذا لم(15/42)
يقصد به معنى العُبودية، فإنْ قصد به معنى العبوديّة والتألُّه صار من الشرك الأكبر، كما عليه عُبّاد القُبور الذين يسمّون أولادهم: (عبد الحسين) أو (عبد الرَّسول) أو غير ذلك، هؤلاء في الغالب يقصدون التألُّه، لا يقصدون مجرّد التّسمية وإنما يقصدون التألُّه بذلك والتعبُّد لهذه الأشياء لأنهم يعبدونها، فهذا يعتبر من الشرك الأكبر.(15/43)
ص -207- ... [الباب الواحد والخمسون:]
* باب قول الله تعالى:
{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب عقده الشيخ رحمه الله في كتاب التّوحيد من أجل بيان وجوب إثبات أسماء الله وصفاته، ومن أجل أن يبيّن التوسُّل المشروع والتوسُّل الممنوع، لأن مسألة التوسُّل ضلَّ فيها خلقٌ كثير من قديم الزّمان، فالمشركون يعبُدون غيرَ الله ويسمّون معبوداتهم وسائل إلى الله، فيقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}، فهم لا يعبدون هذه المعبودات لذاتها، لأنّهم يعلمون أنّها لا تخلُق ولا تَرزُق ولا تُحيي ولا تُميت، وإنّما زعموا أنّها تتوسّطُ لهم عند الله سبحانه وتعالى، من باب الوسيلة، فردّ الله تعالى عليهم في القرآن بأنّ هذا التوسُّل وهذا العمل كفرٌ وشركٌ، وأنّه لم يَشْرَعْهُ سبحانه وتعالى لعباده.
وجاء مِن بعدهم القبوريُّون والصوفيّة ومن قبلهم الرّافضة والباطنيّة كلُّهم نَحَوا هذا المنحى الذي نحاه المشركون، فصاروا يعبدون الموتى، ويستغيثون بهم، ويدعونهم من دون الله، ويذبحون لهم، وينذُرون لهم، ويقولون: نحن نعلم أنّهم مخلوقون، وأنهم لا يخلُقون ولا يرزُقون، ولكننّا اتّخذناهم وسائل بيننا وبين الله، وربّما يحتجّون بقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}، وبقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(35)}، فظنّوا أنّ الوسيلة التي أمر الله باتخاذها إليه أنّها جعل وسائط بينهم وبين(15/44)
الله.
وهذا فهمٌ باطل، لم يُرِدْهُ الله سبحانه وتعالى، بل أنكره على المشركين، وحكم بأنّه كُفر، وأنّه شرك، ونزّه نفسَه عنه فقال: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}، بيَّن أنّه كفر وأنه شرك، ونزّه نفسَه عنه، فهو لم يَشْرَع لعباده أبداً أن يجعلوا بينه وبينهم وسائط من الخلْق يبلِّغونه حاجات عبادِه، وإنما أمر بدعائه مباشَرة: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.(15/45)
ص -208- ... "ينزل كلّ ليلة إلى سماء الدّنيا حين يبقى ثُلث الليل الآخر فيقول: هل من سائل فأعطيَه؟، هل من داعٍ فأستجيب له؟، هل من مستغفرٍ فأغفر له".
فأمر بدعائه واستغفاره وسؤاله مباشرة، لأنه سبحانه وتعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}، ويعلم أحوال عبادِه، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
إنّما تُتّخذ الوسائل والوسائط عند من لا يعلم أحوالَ النّاس ولا يعلم أحوال الرعيّة من المُلوك والرؤساء من البشر الذين تخفى عليهم أحوال الرعايا وأحوال النّاس وحاجات النّاس ويحتاجون إلى مَنْ يبلِّغُهم، أما الله جل وعلا فإنّه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ويعلم كلَّ شيء، ويسمع كلَّ شيء، يسمع السر، ويعلم ما في القلب، ولو لم يتكلّم الإنسان، فهو ليس بحاجة إلى اتّخاذ مبلِّغين ومتوسِّطين بينه وبين عباده.
أما استدلالُهم بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}، وبقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}، فالآيتان لم يُرِد منها اتّخاذ وسائط بين الله وبين عباده.
وإنّما معنى التوسُّل في اللغة: التقرُّب، يقال: توسّل إليه: تقرَّب إليه، ووسَل إليه: قَرُب منه، والواسل: اسم فاعل من وسل، هو المتقرِّب، والوسيلة هي: السبب والطريق الذي يوصل إلى الله سبحانه وتعالى، والذي يوصل إلى الله طاعتُه سبحانه وتعالى، وعبادته، وما شرعه على أَلْسُن أنبيائه ورسله. هذه الوسيلة.
والمخلوق وإن كان له منزلة عند الله كالأنبياء والرُّسل- عليهم الصلاة والسلام- والصالحين والأولياء، لكنّ الله لم يَشْرَعْ لنا أن نسأل بمكانتهم ومنزلتهم عنده، وإنما أمرنا أن نتوسّل إليه بعملنا نحن لا بعمل غيرِنا، بأن نطيع الله ونتقرّب إليه، أما أنّ فلاناً له عند الله مكانة وله جاه، فهذا ليس من عملنا وليس لنا فيه شيء، هذا خاصٌ بهم،(15/46)
والله لم يشرع لنا أن نسأله بجاه أحد، ولا بذات أحد، ولا بمنزلة أحدٍ عنده سبحانه وتعالى، هذا كلُّه باطل.
وإذا تبيَّن أنّ الوسيلة المذكورة في القرآن هي الطّاعة، وهي التي تقرِّب إلى الله عزّ وجلّ وتُدني من الله عزّ وجلّ، وأن اتّخاذ الوسائط من الخلْق بين الله وبين عبادِه لم(15/47)
ص -209- ... يَشْرَعْهُ الله ولا رسولُه؛ وجب علينا التقرّب إلى الله بطاعته. والتوسّل بالخلق إن صحِبَه شيءٌ من التقرُّب إلى المخلوق كالذبح له والنّذر له؛ صار شركاً أكبر، وإن لم يصحبه شيءٌ من التقرُّب إلى المخلوق، وإنما هو مجرّد توسُّط بالجاه ونحوه؛ فهذا بدعة ووسيلة إلى الشرك، كالسؤال بالجاه، والسؤال بحقّ النّبي، أو بمنزلة النّبي، أو بالنّبي ذاته.
فهذا يُعتَبر بدعة في الدعاء لم يشرعها الله، وهي وسيلة من وسائل الشرك، لأنّه إذا بدأ يتوسّل بجاه المخلوق أو بمنزلته أو بحقِّه عند الله؛ فإنّه يتدرّج إلى أن يعبُد هذا المخلوق، مثل ما حصل للمشركين قديماً وحديثاً، حيث بدأتْ مسألتهم من مجرّد التوسُّل، وانتهت بالشّرك الأكبر المخرج من المِلّة، نسأل الله العافية والسلامة.
وقد تعلّق بعض المغالطين بكلمة جاءت في بعض رسائل الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، أنه قال: "إن التوسل من مسائل الفقه والاجتهاد التي لا إنكار فيها"، هكذا قالوا!!، ونسبوه إلى الشيخ!!
والواقع أن الشيخ رحمه الله فصّل فقال: "إن التوسّل الخالي من عبادة المتوسِّل به، وإنما هو توسل بحق الشخص، أو جاهه؛ فهذا بدعة، وليس بشرك. وأما التوسل الذي معناه التقرب إلى المتوسِّل به بالذبح له، والنذر له، وغير ذلك من أنواع العبادة؛ فهذا شرك أكبر".
هذا معنى ما قاله الشيخ، وهو ما قرّره المحققون من أهل العلم، وليس المراد: أن التوسل كله من مسائل الفقه؛ لأن منه ما هو شرك أكبر.
وهذا بابٌ عظيم، لأنّ هذه الشبهة ضلّ بها أكثرُ الخلق قديماً وحديثاً، لأنّهم لم يفرقوا بين الوسيلة الممنوعة والوسيلة المشروعة.
فالتوسُّل على قسمين:
توسُّل ممنوع، وهو: التوسُّل بجاه المخلوق، أو بحق المخلوق ومنزلته، أو بذاته وهو إمّا شركٌ، وإما بدعة ووسيلة إلى الشرك.
أما التوسُّل المشروع فهو: الذي جاء في الكتاب والسنّة ذكرُه والأمرُ به، ومن(15/48)
ص -210- ... ذلك: هذه الآيةُ الكريمة التي صدّر بها الشيخ هذا الباب: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}.
والتوسُّل المشروع أنواع:
النوع الأول: التوسُّل بأسماء الله وصفاته، تقول: (يا رحمن ارحمني)، (يا غفور اغفر لي)، (يا توّاب تُبْ عليّ)، (يا غنيّ اغنني)، وهكذا، تذكُر في دعائك كلَّ اسم يناسِب حاجتك.
ولا يناسِب أنك تأتي باسم غير مناسب لحاجتك: فلا تقل: اللهم اغفر لي إنّك شديد العقاب.
النوع الثاني: التوسُّل إلى الله جل وعلا بدعاء الصالحين: إذا كان هناك صالحٌ من الصالحين، حيٌّ موجود تأتي إليه وتقول: (ادعُ الله لي أن يغفر لي)، (أن يرزقني)، (أن يشفِيَني)، أو إذا قَحِطّ النّاس طلبوا من الصالحين أن يدعوا الله تعالى لهم بالغيث، فهذا مشروع.
وقد استسقى عمر بن الخطّاب- رضي الله تعالى عنه- بدعاء العبّاس عمّ الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: "اللهم إنّا كُنّا نستسقي بنبينا فتسقينا، وإنا نستسقي بعمّ رسولك، قم يا عبّاس فادعو"، فيدعو العبّاس والنّاس يؤمنِّون.
وهذا توسُّل بدعاء الصالحين، وكما توسّل معاوية رضي الله عنه بيزيد الجُرْشي، وغيرُهم.
أما الميِّت فلا يجوز أن تطلُب منه شيئاً، فلا يجوز أن تذهب إلى قبر الرُسول صلى الله عليه وسلم أو قبر غيره من الصالحين وتقول: (ادعُ الله لنا)، لأنّ الصّحابة ما كانوا يذهبون إلى قبر الرّسول صلى الله عليه وسلم، بل إنّهم لَمّا أجدبوا وما بينهم وبين قبر الرّسول إلاّ أمتار ما ذهبوا إليه، إنّما طلبوا من العبّاس، لأنّ العبّاس حيٌّ حاضر يستطيع أن يدعو، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فإنّه ميِّت، ولا يجوز أن يُطلب من الميِّت شيء لا دُعاء ولا غيره.
النوع الثالث: التوسُّل إلى الله بالأعمال الصالحة، مثل حديث أصحاب الغار الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصّخرة وسدّت عليهم المَخْرَجْ فكلٌّ منهم توسّل إلى الله(15/49)
ص -211- ... بالعمل الذي قدّمه لله عزّ وجلّ: هذا توسَّل بعِفّته عن الحرام، وهذا توسّل ببرِّه بوالديه، وهذا توسَّل بأمانته وحِفظه لحقّ الأجير حتى جاء وأعطَاه إيَّاه، ففرّج الله عنهم، وكما قال الله سبحانه وتعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ(193)} توسّلوا إلى الله بإيمانِهم بالرّسول صلى الله عليه وسلم: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ(53)} توسّلوا إلى الله بإيمانهم وإتّباعهم للرّسول صلى الله عليه وسلم. والتوسُّل بالتّوحيد: (أسألك بأنّك أنت الله لا إله إلاَّ أنت)، وكما توسّل ذو النون - عليه الصلاة والسلام- وهو في بطن الحوت: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}.
قال: وقولُه تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} إخبارٌ من الله جلا وعلا أنّ له الأسماء وأنّها حُسنى.
والحسنى: أي: البالغة في الحُسن أعلاه، لا شيء أحسن منها، فالحسنى هي: المتناهِيّة في الحُسن، فكلُّ أسماء الله حسنى.
ولا يعلم عددها إلاّ الله سبحانه وتعالى كما قال النّبي صلى الله عليه وسلم: "أسألُك بكلّ اسمٍ هو لك سمَّيْتَ به نفسَك، أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحداً من خلقك، أو استأثرْتَ به في علم الغيب عندك"، فالله جل وعلا له أسماء كثيرة، منها ما أنزله في كتابه، ومنها ما علّمه بعضَ خلْقه ولم يُنزله في كتابه.
وأمّا قولُه صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله تسعةً وتسعين اسماً، مَن أحصاها دخل الجنّة" فليس المراد الحصر، وإنّما هذه التسعة والتسعين موصوفة بأنّ مَن أحصاها دخل الجنّة، وليس المعنى: أنّها منتهى أسماء الله(15/50)
تعالى، وأن أسماء الله محصورة فيها.
ومعنى إحصائها: عدها، ومعرفة معناها، والعمل بمقتضاها. أما مجرّد أنه يكتُبها، أو يعدّها عدّاً فقط، وهو لا يعرف معانيها، أو أنّه يعرف معانيها لكنّه لا يعمَلُ بها فإنَّه لا يحصُل على هذا الوعد الكريم.
أما ما جاء في رواية التّرمذي من عدّ هذه الأسماء، فهذا لم يَثْبُت عن النّبي صلى الله عليه وسلم، وإنّما هو مُدْرَجٌ في الحديث من عمل بعض الرواة.(15/51)
ص -212- ... فهذه الآية تدلُّ: على إثْبات الأسماء لله تعالى رَدًّا على المشركين وعلى الجهميّة ومَن نفى أسماءَ الله سبحانه وتعالى.
وفي الآية: أنها كلُّها حسنى.
وفيها: مشروعيَّة التوسُّل إلى الله تعالى بها، ودعائه بها: {فَادْعُوهُ بِهَا} يعني: توسّلوا إلى الله بها، بأن تقول: يا رحمن ارحمني، يا غفور اغفر لي، يا كريم أكرِمني، يا توّاب تُبْ عليّ. إلى آخره، بأنْ تأتي بكل اسمٍ يناسب حاجتك.
ثم قال: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} {وَذَرُوا} يعني: اترُكوا.
والإلحاد في اللغة: المَيْل عن الشيء، ومنه سُمي اللحد في القبر لحداً لأنّه مائل عن سَمْت القبر.
أما الإلحاد في أسماء الله: فذكروا له عدّة معانٍ:
النوع الأول: جُحودها ونفيُها كما نفتْها الجهميّة.
وهذا أعظم الإلحاد فيها، فالذي يقول: "إن الله ليس له أسماء، لأنّ الأسماء موجودة في المخلوقين، فإذا أثبتناها صار تشبيهاً".
فهذا جاحدٌ لأسماء الله، ملحِدٌ فيها- والعياذُ بالله- أعظم الإلحاد، وهذا كُفرٌ بالله عزّ وجلّ.
النوع الثاني: تأويلُها عما دلّت عليه، كما فعلت المعتزلة فإنهم يُثبتون الأسماء ولكنّهم ينفون معانيها وما تدل عليه من الصّفات، لأنّ هذه الأسماء كلُّ اسم منها يدلّ على صفة؛ {الرحمن} يدلّ على الرحمة، {الغفور} يدلّ على المغفرة، {العزيز} يدلّ على العزّة والقوة والمَنَعة والغَلَبة، وهكذا، كلُّ اسم يُشتَقُّ منه صفة من صفات الله تعالى: {السميع} يدلّ على السمع، {البصير} يدلّ على البصر، {العليم} يدلّ على العلم، {القدير} يدلّ على القدرة، وهكذا، كلُّ اسم منها يدلُّ على صفة. فالذي لا يُثْبِتُ الصّفات مُلحدٌ في أسماء الله، لأنّه جحد معانيها، وجعلها ألفاظاً مجرَّدة لا تدلّ على شيء.
النوع الثالث: تسمية المخلوقين بأسماء الله، مثل ما فعل المشركون من تسمية اللات من اسم الإله، والعُزّى من اسم العزيز، فجعلوا أسماء الله أسماءً لمعبودات(15/52)
المشركين، وهذا من الإلحاد في أسماء الله سبحانه وتعالى.(15/53)
ص -213- ... ذكر ابنُ أبي حاتم عن ابن عبّاس: {يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}: "يُشركون ".
وعنه: "سموا اللآت من الإله، والعُزّى من العزيز".
وعن الأعمش: "يُدخلون فيها ما ليس منها".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النوع الرابع: أن يدخل فيها ما ليس منها.
فدلّ على أنّ الذي يُنكر أسماء الله، أو يؤوِّلها بغير معانيها الصحيحة، أو يدخل فيها ما ليس منها أو يحرِّفها إلى مسمّيات الأصنام؛ أنّه ملحدٌ متوعَّدٌ بأشدّ الوعيد.
ثم ذكر عن ابن أبي حاتم رحمه الله، عن ابن عبّاس: " {يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}: يُشركون " أي: يُشركون في أسماء الله.
"وعنه" أي: ابن عبّاس.
" سَمُّوا اللآت من الإله، والعُزّى من العزيز" أي: أنهم سمّوا الأصنام الكبار المعروفة عند العرب (اللات) و (العُزّى) اشتقّوا لها من أسماء الله.
"وعن الأعمش" هو: سُليمان بن مَهْران، الإمام الجليل في الحديث والفقه والتفسير.
"يدخلون فيها ما ليس منها" لأنّ القاعدة في أسماء الله: أن لا يُسمّى إلاّ بما سمّى به نفسَه، أو سمّاه به رسولُه صلى الله عليه وسلم، فما لم يسمِّ الله به نفسَه ولم يسمِّه به رسولُه صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن يُطلَق على الله، لكن المشركون سمّوا الله بما لم يسمِّ به نفسَه، وهذا من الإلحاد في أسماء الله، كما سمّت النصارى الله عزّ وجلّ بالأَبْ.
فهذه الآية الكريمة وما جاء في تفسيرها عن ابن عبّاس وعن الأعمش تدلّ على مسائل:
المسألة الأولى: بيان التوسُّل المشروع، وهو التوسُّل بأسماء الله وصفاته.
المسألة الثانية: بيان التوسُّل الممنوع، وهو التوسُّل إلى الله بجعل واسطة في(15/54)
ص -214- ... الدعاء بين الداعي وبين الله عزّ وجلّ، كأنه يقول: أسألُك بنبيِّك، أو بجاه نبيِّك، أو بمنزلة نبيِّك، أو ما أشبه ذلك.
المسألة الثالثة: فيه إثبات الأسماء الله سبحانه وتعالى.
المسألة الرابعة: أن أسماء الله كلها حسنى، قوله: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}، فليس فيها اسمٌ غير حسن.
المسألة الخامسة: فيه: النّهي عن الإلحاد في أسماء الله عزّ وجلّ.
المسألة السادسة: أن أسماء الله توقيفيّة، لا يجوز أن يُذكر فيها ما ليس ثابتاً في كتاب الله ولا سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، لأنّ هذا من الإلحاد في أسماء الله، كما قال الأعمش: "يدخلون فيها ما ليس منها".(15/55)
ص -215- ... [الباب الثاني والخمسون:]
* باب لا يقال: السلام على الله
في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كُنا إذا كنا مع النّبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة؛ قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان، فقال النّبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا: السلام على الله؛ فإن الله هو السلام".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مناسبة هذا الباب الكتاب التّوحيد: أنّه لَمّا كان السلام من أسماء الله سبحانه وتعالى فإنّه لا يقال: "السلامُ على الله" لأنّه هو السلام سبحانه وتعالى".
وأيضاً: لَمّا كان معنى السلام الدعاء للمسلَّم عليه بالسّلامة من الآفات، والله جل وعلا منزّه عن أن ينالَه شيءٌ من النقص أو من الآفات أو من المكروهات، فليس بحاجة أن يدعى له سبحانه وتعالى لغِنَاهُ عن كلِّ شيء وحاجة كلِّ شيء إليه سبحانه وتعالى، بل هو المدعو، ولا يُدعى له سبحانه وتعالى، لأنّ الدعاء إنّما يكون للمخلوق المحتاج، أمّا الله جل وعلا فإنّه غنيٌّ لا يحتاج إلى شيء، فمن دعا لله فقد تنقّص الله عزّ وجلّ، وهذا يُخِلُّ بالتّوحيد.
قال: "في الصحيح " يعني: في "الصحيحين ".
"عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: في بعض الروايات: "السلامُ على جبريل وميكائيل"، فقال النّبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا: السلام على الله، فإنّ الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيَّاتُ لله، والصلوات، والطيِّبات " إلى آخر الحديث في التشهُّد.
فقولُه: "لا تقولوا: السلامُ على الله" هذا نهيٌ منه صلى الله عليه وسلم عن هذه الكلمة، والنّهيُ يقتضي التحريم.
ثم بيَّن صلى الله عليه وسلم السبب في هذا النّهي فقال: "فإن الله هو السلام" أي: أنّ "السلام" من أسماء الله تعالى، كما قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ}.
و"السلامُ" من أسمائه سبحانه وتعالى معناه: السالم من(15/56)
الآفات والعُيوب والنقائص، فالله جل وعلا سالمٌ من الآفات والعُيوب والنقائص لذاتِه سبحانه وتعالى لا أنّ أحداً يسلِّمه، وإنّما(15/57)
ص -216- ... هو سالم بذاته سبحانه وتعالى.
وأيضاً: "السلام" هو الذي يُطلَبُ منه السلام، كما كان النّبي صلى الله عليه وسلم إذا سلَّم من الصلاة قبل أن ينصرف إلى أصحابه يستغفرُ الله ثلاثاً وهو متوجِّهٌ إلى القبلة، ثم يقول: "اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام" "ومنك السلام ": أنت الذي تمنحُ السلام لعبادِك، وأنت الذي يُطلَب منك السلام، بمعنى: أنّ العباد يسألونك أن تسلِّمهم من الآفات والنقائص والمكاره.
"السلام" من أسماء الله له معنيان كما ذكر أهلُ العلم:
المعنى الأوّل: السالم من النقائص والعيوب.
والثاني: المسلِّم لغيره.
أي: السالم في نفسه، المسلِّّم لغيره، سبحانه وتعالى.
فحينما يقول المسلِّم على النّاس: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) فمعناه: أنّه يقول: أدعوا لكم بالسَلامة من الله سبحانه وتعالى، أو (السلام عليكم) أي: اسمُ الله عليكم، بمعنى: أن الله يحفظُكم ممّا تكرهون.
فهذا الحديث فيه مسائل:
المسألة الأولى: أنه لا يُقال: "السلام على الله" من عبادِه، لأنّ هذا معناه: الدعاء، والله جل وعلا لا يدعى له.
المسألة الثانية: في الحديث بيان الحكمة في النّهي عن أنْ يقال: "السلام على الله" لأنّ الله جل وعلا هو السلام، يعني: وإذا كان هو السلام فليس بحاجة إلى أن يسلَّم عليه.
المسألة الثالثة: أنّ مَن نهى عن شيء فإنّه يبيِّن السبب في هذا النّهي، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم لَمّا نهى بقوله: "لا تقولوا: السلام على الله" بيّن المعنى الذي من أجلِه نهى عنه فقال: "إن الله هو السلام"، ففيه: بيان الحكم بعِلَّته، لأنّ هذا أثبت في ذِهْنِ السامع وأدعى للامتثال.
المسألة الرابعة: في الحديث دليلٌ على أنّ مَن نهى عن شيء وكان لهذا(15/58)
ص -217- ... الشيء بديلٌ صالح فإنه يأتي بالبديل، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم لَمّا نهى عن هذه الصِّيغة أتى بالصيغة اللائقة فقال: "قولوا: التحيّات" إلى آخره، ففيه: أنّ مَن نهى عن شيء وله بديلٌ صالح فإنّه يأتي بالبديل، ولا يترُك الشخص لا يدري ماذا يفعل.
المسألة الخامسة: في الحديث دليلٌ على أن الله جل وعلا يحيّي ولا يسلَّم عليه، لأن التحيّة تعظيم له والسلام دعاء له، والله جلّ وعلا يعظَّم ولا يُدعى له.
المسألة السادسة: في الحديث دليل: على الفرق بين التحيّة والسلام: التحيّة تُقال في حقّ الله تعالى التحيات لله، وأمّا السلام فلا يقال في حق الله، وقد عرفنا الفرق: أن التحيّة تعظيم، والله مستحقٌّ للتعظيم، وأمّا السلام فإنّه دعاء والله ليس بحاجة إلى الدعاء.(15/59)
ص -218- ... [الباب الثالث والخمسون:]
* باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت
في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت". اللهم ارحمني إن شئت. ليعزِم المسألة؛ فإن الله لا مُكرِهَ له".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب من جنس الباب الذي قبله، لأنّ الذي يدعو الله تعالى يجب أن يعزم الدعاء، ولا يعلِّقه بالمشيئة، لأنّه إذا علّقه بالمشيئة تضمّن ذلك أمرين:
الأمر الأوّل: أنّ هذا يدلّ على فُتوره في طلب الدعاء من الله سبحانه وتعالى، كأنّه غنيّ عن الله، يقول: إن حصل شيء وإلاَّ ما هو بلازم، فكأنّه فاترٌ في طلبه، وكأنّه غنيّ عن الله سبحانه وتعالى.
ولا شكّ أن العبد مفتقرٌ إلى الله جل وعلا في كلّ أحواله، لأنّه فقيرٌ إلى الله، ولا ينظُر إلى ما عنده من الأسباب ومن الإمكانيّات، فإنّ هذه الإمكانيّات يمكن أن تزول في لحظة، لا ينظُر إليها ولا يعتمد عليها، فهو فقيرٌ إلى الله مهما كان، ولو كان من أكثر النّاس مالاً وأولاداً ومُلكاً فهو فقيرٌ إلى الله في أن يُبقيَ عليه هذه النعمة وأن ينفعه بها، وإلاَّ فهي عُرضة للزوال في أسرع وقت. هذا معنى.
والأمر الثاني: كأنّه يرى بأن الله جل وعلا قد يُجيب الدعاء وهو كاره، فـ "إنْ شئتَ"؛ معناه: أنا لستُ ملزماً لك، أخشى أن يشقّ عليك، لكن إنّ شئتَ اغفر لي وارحمني، وهذا لا يليق بالله سبحانه وتعالى لأنه تنقص له. والله جل وعلا لا مُكْره له، وهذا المعنى عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن الله لا مكره له".
"في الصحيح" أي: في "الصحيحين".
"عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقل أحدكُم: اللهم اغفر لي إنْ شئتَ، اللهم ارحمني إنْ شئتَ، وليعزم المسألة، فإنّ الله لا مُكرِهَ له "علّل النّبي صلى الله عليه وسلم هذا النّهي بأمرين: الأمر الأوّل: أنّ هذا يدلّ على الفُتور من السائل، والمطلوب من السّائل(15/60)
العزم: "وليعزم المسألة".
الأمر الثّاني: أنّ هذا يُشعر بأنّ السائل يخاف أنّ الله يفعل هذا وهو كارهٌ من(15/61)
ص -219- ... ولمسلم: "وليعظِم الرغبة؛ فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
باب المجامَلة، والله جل وعلا لا مُكْرِهَ له، يفعل ما يشاء ويختار سبحانه، لا أحد يُكرهه أو يؤثِّر عليه، أو أنّه يجامِل أحداً، أو يخافُ من أحد.
"وفي رواية لمسلم: "وليعظِّم الرغبة" مثل: "وليعزم المسألة" يعني: يلحّ على الله في الدعاء.
"فإنّ الله لا يتعاظمه شيء أعطاه" يعطي سبحانه وتعالى ما يشاء ما لا يعلمُه إلاّ هو، بلا حصر ولا حساب، ولا تنفد خزائنُه سبحانه، بخلاف المخلوق فإنّه قد يعطي العطاء ولكن هذه العطيّة تكون ثقيلةً عليه وتُجحف بماله، قد يكون معسِراً ليس عنده شيء.
أمّا الله جل وعلا فإنّه غنيّ لا يتعاظمه شيءٌ أعطاه، ولذلك: يعطي الجنّة التي هي غاية المطالب، ويعطي الدنيا والآخرة سبحانه وتعالى، يعطي بلا حساب، ولا تنفد خزائنه، كما في الحديث القدسي: "يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيتُ كلّ واحدٍ ما سألني ما نقص ذلك ممّا عندي إلاَّ كما ينقُص المِخْيَط إذا أُدخل البحر، ذلك بأنِّي جواد واجد ماجد عطائي كلام وعقابي كلام، أفعلُ ما أشاء"، هذا شأنه سبحانه وتعالى.
فدلّ هذا الحديث على مسائل:
المسألة الأولى: النّهي عن أن يقول: "اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إنْ شئت"، والنّهي للتحريم.
المسألة الثانية: بيان علّة النّهي، وهي أنّ الله جل وعلا لا مكره له حتى يحتاج إلى أن تقول: "إنْ شئت"، ولا يتعاظمه شيء أعطاه ولو كان كثيراً، فإنّ هذا بالنسبة لله كلا شيء، خزائنُه ملأى لا تغيض مع كثرة الإنفاق، كلّ ما في الدنيا والآخرة فإنّه من جودِه سبحانه وتعالى، ومع هذا لا تغيضُ خزائنُه سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}، كلّ ما في الدنيا وكلّ ما في الآخرة وكلّ ما في السموات وكلّ ما في الأرض من الخيرات والنعم فإنّه من خزائن(15/62)
الله سبحانه وتعالى.
المسألة الثالثة: في الحديث دليلٌ على كمال غناه سبحانه وتعالى، وأنّ خزائنه لا مع كثرة الإنفاق وإعطاء السّائلين، أرأيتم ماذا أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنّه لم يَغِض ما في يمينه سبحانه وتعالى، كما في الحديث عن النّبي صلى الله عليه وسلم.(15/63)
ص -220- ... [الباب الرابع والخمسون:]
* باب لا يقول: عبدي وأمتي
في "الصحيح" عن أبي هريرة أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضّئ ربّك. وليقل: سيّدي ومولاي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب عقده المصنِّف رحمه الله كالباب الذي قبلَه، من أجل احترام أسماء الله وصفاتِه، ومن أجل سدّ الطّرق التي تُفضي إلى الشرك وحماية جانب التّوحيد، وذلك: بتجنُّب الألفاظ الموهمة التي قد يُفهم منها شيءٌ من الشرك، ولو كان المتكلِّم بها لا يقصد المعنى، ولكنّه يتجنّب ذلك من أجل سدّ الباب من أصلهِ، هذا هو المقصود.
وقد سبق له نظائر في هذا الكتاب من حماية النّبي صلى الله عليه وسلم حمَى التّوحيد وسدّ الطُرق التي تُفْضي إلى الشرك، وهذا منها.
ومن ذلك: لا يقُلْ السيِّد والمالك لرقيقه: عبدي وأَمَتي. لأنّ العباد عباد الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً(93)}، فليس هناك عبدٌ لأحد إلاّ لله سبحانه وتعالى، فالعبوديّة والتعبيد خاصٌّ بالله سبحانه وتعالى، أما المخلوقون فليس بعضُهم عبيداً للبعض، فالعباد كلّهم عبادُ الله، مؤمنُهم، وكافرُهم، هذه العبوديّة العامّة، أما العبودية الخاصّة فهي خاصّة بالمؤمنين: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}، {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}، {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ(68)}، هذه عبوديّة خاصّة بالمؤمنين، وهي عبوديّة تقرُّب إلى الله تعالى وإنابةٍ إليه، وجزاؤها الجنة. فالعبودية إذاً خاصّة لله.
قوله: "أَمَتي": الأَمّة معناها- أيضاً- العبدة، فلا يقال: هذه أَمَة فلان، وإنّما يُقال: هذه أَمَةُ الله،. وهذا تأدُّبٌ مع التّوحيد ومع جناب الرّبوبيّة.(15/64)
هذا وجه عقد المصنِّف للترجمة.
قوله: "في الصحيح" أي: الصحيحين: صحيح البخاري، وصحيح مسلم.
"أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقل أحدكم"! هذا نهيٌ من الرّسول صلى الله عليه وسلم.(15/65)
ص -221- ... ولا يقل: عبدي وأَمَتي. وليقل: فتاي وفتاتي وغُلامي".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"أطعم ربّك" أي: ناوِلْه الطعام.
"وضِّئ ربّك" أي: ائتِه بالوضوء، أو أعنه على الوُضوء.
ثم بيّن النّبي صلى الله عليه وسلم اللفظ الذي يقوله المملوك لمالكه، وهو: "سيدي ومولاي"، كما بيّن اللفظ الذي يقوله المالك لمملوكه، وهو: "فتاي، وفتاتي وغلامي"، لأن هذه الألفاظ لا محذور فيها، فتكون بدائل للألفاظ المحذورة.
فدلّ هذا الحديث على مسائل:
المسألة الأولى: فيه ما ترجم المصنِّف من أجلِه، وهو عدم جواز قول "عبدي" و"أَمتي"، لأنّ هذا ورد منصوصاً عليه في الحديث: "لا يقل: عبدي وأمتي".
المسألة الثانية: فيه: أنّ لفظ (الرّبّ) لا يُطلق إلاّ على الله، لأنّه هو الرب سبحانه وتعالى الذي له الربوبيّة على عباده: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ(1)}، وهكذا لم يَرِد إطلاق لفظ (الربّ) في القرآن إلاّ على الله سبحانه وتعالى، فلا يجوز استعمالُه لغيره، وإنْ كان المتكلَّم لا يقصد المعنى وإنّما يقصد مجرّد الملكيّة والرِّق، لكن من باب سدّ الذرائع- كما سبق- أما إذا قُيِّد لفظ الرب فإنه يجوز إطلاقه على المخلوق مثل رب الدار، وكقوله تعالى: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ}.
المسألة الثالثة: فيه: القاعدة المعروفة وهو سدّ الذرائع التي تقضي إلى المحذور، كلّ ذريعة ووسيلة تُفضي إلى محذور فإنّها ممنوعة، وهي قاعدة عظيمة، تُسمّى عند الأُصولييّن: "قاعدة سدّ الذرائع"، قد تكلّم عليها بإسهاب الإمام ابن القيِّم في كتابَيْه: "إعلام الموقِّعين" و"إغاثة اللّهفان"، وذكر لها تسعة وتسعين مثالاً.
المسألة الرّابعة: في الحديث: دليلٌ على أنّ مَن نهى عن شيء وله بديل صالح فإنّه يأتي بالبديل، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم لَمّا نهى عن قول: "عبدي" و"أَمَتِي" قال: "وليقل: فتاي(15/66)
وفتاتي وغلامي" هذا البديل الصّالح الذي لا محذور فيه، فإذا كان هناك بديل يقوم مقام هذا المنهي عنه فإنّه يُؤتى بالبديل الذي لا محذور فيه، مهما أمكن ذلك.
وسبق لهذا نظائر، وتكرّر لهذا أمثلة في الأبواب السّابقة.
المسألة الخامسة: في الحديث: دليلٌ على جواز لفظ "سيدي ومولاي" بالنسبة(15/67)
ص -222- ... للمخلوق، لأنّهما يحتملان معاني لا محذور فيها، فإذا كان اللفظ له معنى غير محذور فلا بأس به، لأنّ السيّد يُراد به الرّئيس.
والمالك يقال له (سيد)، والزوج يقال له (سيد).
والمولى يراد به المعتق، ويُراد به المناصِر، ويُراد به المحبوب، ويُراد به المالِك، كلّ هذا يقال له: (مولى).(15/68)
ص -223- ... [الباب الخامس والخمسون:]
* باب لا يُرد من سأل بالله
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل بالله فأعطوه، ومن استعاذ بالله فأعيذوه، ومَن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإنْ لم تجدوا ما تكافئونَه فادعوا له حتى تُرَوا أنكم قد كافأتموه" رواه أبو داود والنسائيّ بإسناد صحيح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قول الشيخ رحمه الله: "باب لا يُرد مَن سأل بِالله" لأنّ هذا فيه تعظيمٌ لله سبحانه وتعالى، وهو من كمال التّوحيد، أمّا إذا رُدّ السائل بالله ففيه إساءة في حقّ الله سبحانه وتعالى.
وفي ردّه نقصٌ في التّوحيد.
والسؤال بالله جائز، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ} ومعنى {تَسَاءَلُونَ بِهِ} يعني: يسأل بعضُكم بعضاً بالله، وفي هذا الحديث: "مَن سأل بالله فأعطوه " فدلّ على جواز السّؤال بالله.
لكن من سُئل بالله لا يجوز له أن يردّ السائل إجلالاً لله سبحانه وتعالى.
قوله صلى الله عليه وسلم: "مَن سأل بالله" كأن يقول: أسألُك بالله، وهذا معناه: الإقسام بالله عزّ وجلّ، كأنّه قال: والله لتُعطينِّي هذا الشيء، لأنّ الباء باء القسم، فإذا قال: أسألُك بالله أي: أُقسم عليك بالله لتعطينِّي كذا وكذا.
"فأعطوه" هذا أمرٌ من النّبي صلى الله عليه وسلم بإعطاء مَن سأل بالله، وظاهرُه الوُجوب.
ولكن هذا فيه تفصيل؛ فإذا سأل بالله شيئاً له فيه حقّ كالذي يسأل من بيت المال؛ فكلّ مسلم له حقٌّ في بيت المال، فإذا سأل بالله وجب إعطاؤه، وكذلك إذا سألك مضطرٌ إلى شيء من طعام أو كسوة أو غير ذلك مضطراً، وأنت عندك فضل زائد عن حاجتك؛ فإنّه يجب عليك أن تُعطيه دفعاً لضرورته، وإنْ لم تعطه فقد عصيتَ الله.
وقد جاء في الحديث الذي سبق في قصّة الأعمى والأقرع والأبرص: أن الله غضب على اللذين سُئِلا في حالة ضرورة ولم يُعطيَا، فسؤال المضطّر(15/69)
والمحتاج من شيء فاضل عن حاجة المسؤول يجب بذلُه له، فإن لم يبذله فقد عصى الله.(15/70)
ص -224- ... حتّى إنّه إذا كان مضطّراً فإنّه له الحق في أنْ يأخُذ من مال غيرِه ما يدفع ضرورته.
أما إذا سأل شيئاً ليس له فيه استحقاق، وهو ليس محتاجاً ولا مضطراً؛ فهذا يستحبّ للمسؤول أن يُعطيَه، فإن لم يعطِه في هذه الحالة الأخيرة يكون فاعلاً لمكروه، وإذا أعطاه كان فاعلاً لمستحبّ.
"ومن استعاذ بالله فأعيذوه" استعاذ: طلبَ العوذ، وهو: اللُّجوء.
فمن استعاذَ بالله عن شرك فإنّه يجب عليك أن تُعيذَه، ولا يجوز لك أن لا تُعيذَه.
"ومن دعاكم" أي: طلب منكم حضور مناسبة عنده؛ كأن دعاكم إلى حُضور طعام وليمة، فإنه يجب عليكم الإجابة، إلاّ إذا كان هُناك مانع، لأنّ هذا من حقّ الأُخوة.
وظاهرُ الحديث عامٌّ في كلّ دعوة، ولكن العلماء يقولون: إجابة الدعوة إنّما هي خاصّة بوليمة العُرس، أما ما عداها من الولائم فيستحبّ حُضورُها، أمّا وليمة العُرس فيجب حُضورُها لقوله صلى الله عليه وسلم: "شرُّ الطعام طعامُ الوليمة؛ يُدعى إليها الأغنياء ويُمنع منها الفقراء" وقال: "ومن لا يجب فقد عصى الله ورسولَه" الشَّاهدُ في قوله: "عصى الله ورسولَه"، فدلّ على وجوب الحُضور لولائم الزّواج.
وإن لم يحضُر من غير عُذر يكون آثِماً.
أمّا إذا كان هناك عُذر كأن يكون في الوليمة منكَر ولا يستطيع إزالة هذا المنكر فإنّه لا يحضُر، لأنّ هذا مانع من إجابة الدعوة؛ فإنْ كان يستطيع إزالته وجب عليه الحُضور، حتى إنّ الصائم يجب عليه الحُضور، ولكن إنْ كان صيامُه واجباً فإنّه يدعو وينصرِف، وإنْ كان صيامُه مستحباً فإنّه يخيّر بين أنْ يُفطِر ويأكُل أو يدعو وينصرف.
"ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه" يعني: مَن أحسن إليك بإحسان مالي أو عملي أو قولي.
والمعروف: ضدّ المنكر، والمراد به هنا: الخير، يعني: من أسدى إليك خيراً من مال أو جاه أو كلام طيِّب أو غير ذلك، فكلّ هذا من المعروف، فإنّه يجب عليك أن تكافئه، بمعنى: أن تفعل له من المعروف مثل ما عمِل لك،(15/71)
وتقابل إحسانه بالإحسان، وهذا من باب المكافأة من ناحية، وأيضاً فيه قطعٌ للمنّة من ناحية أُخرى، لأنك لو لم تكافئه بقيَ له منّة عليك، ورِقٌّ منك له.(15/72)
ص -225- ... حتى ولو كان صانعُ المعروف كافراً فإنّك تكافئه على معروفه، لأنّ هذا من باب مكارم الأخلاق ومن باب قطع المنّة ومن باب جزاء الإحسان بالإحسان: {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ(60)}، وقال تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(8)}، هذا في الكافر الذي يحسن إلى المسلم فالمسلم يكافئه، بل يتأكَّد في حقّ المسلم مكافأة الكافر على صنيعهِ ليقطع منّتَهُ عليه، ولا يكون منه رقٌّ للكافر، ولأنّ هذا يدخل في باب الدعوة إلى الله عزّ وجلّ، فإذا رأى الكفّار من المسلمين هذه الأخلاق الطيِّبة والفاضلة كان ذلك مدعاة لدخولهم في الإسلام.
"فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له" أي: ادعوا له بالخير والتيسير والتوفيق.
"حتى تُرَوْا" بضمّ التّاء، يعني: تظنُّوا، ويجوز الفتح، بمعنى: تعلَموا.
فدلّ هذا: على أنّ المحسِن يكافأُ على إحسانِه إمّا بالقول وإمّا بالفعل.
فهذا الحديث فيه مسائل عظيمة:
المسألة الأولى: فيه ما ترجم له المصنِّف وهو: لا يُرَدّ مَن سأل بالله، لقوله: "من سألكم بالله فأعطوه"، لأنّ في هذا إجلالاً لله سبحانه وتعالى الذي سَأل به، وفي ردِّه إساءة في حقّ الله تعالى ونقصٌ في التّوحيد، وفي إعطائِه احترامٌ لحقّ الله تعالى، وتكميلٌ للتّوحيد.
المسألة الثانية: فيه وُجوب إعاذة من استعاذ بالله وعدم المساس به بمكروه، لأن هذا يكون تعدِّياً على من استجارَ بالله سبحانه وتعالى، وذلك من نقص التّوحيد، وفي إعاذَتِه إكمالٌ للتّوحيد.
المسألة الثالثة: فيه وُجوب إجابة دعوة المسلم لأخيه المسلم، لِمَا، في ذلك من جَبْر القُلوب وتثبيت المحبّة وإزالة النُّفرة بين الإخوة، أمّا إذا لم يُجب فهذا يسبِّب العكس، يسبِّب النُّفرة ويسبِّب التباغُض(15/73)
بين النّاس والقطيعة.
المسألة الرابعة: في الحديث دليلٌ على وجوب مكافأة صانع المعروف بمثل معروفِه إذا أمكن، فإن لم يمكن فإنّه يكافئه بالدعاء له بالخير.
المسألة الخامسة: في الحديث: النّهي عن عدم مكافأة صانع المعروف، لأنّ ذلك من صفات اللّئيم التي لا تليق بالمسلم.(15/74)
ص -226- ... [الباب السادس والخمسون:]
* بابٌ لا يُسأل بوجه الله إلاَّ الجنة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب عقده الشيخ رحمه الله في "كتاب التّوحيد" لأنّ تعظيم صفات الله سبحانه وتعالى من تعظيم الله، وتعظيمُها من التّوحيد، لأنه تعظيمٌ لله سبحانه وتعالى، وأمّا عدمُ تعظيمِها فإنّه تنقُّصٌ للتّوحيد، لأنّه تنقُّصٌ لله عزّ وجلّ.
"ووجهُ الله" صفةٌ من صفاتِه سبحانه وتعالى الذّاتيّة، تواتَرتْ بإثباتِه الأدلّة في كتاب الله وفي سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه علماء السنّة والجماعة: قال الله تعالى:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ(26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ(27)} فأثبت له وجهاً ووصفه بالجلال ووصفه بالإكرام.
كذلك قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}، فقوله:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} مثل قوله تعالى:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإكْرَامِ(27)}.
والسنّة: فيها أحاديث كثيرة في إثبات الوجه لله عزّ وجلّ، مثل الحديث الذي ساقَه المصنِّف: "لا يُسأل بوجه الله إلاَّ الجنة"، ومثل حديث: "أعوذُ بنور وجهك الذي أشرقت له الظُّلُمات، وصلح عليه أمرُ الدنيا والآخرة".
ومثل أحاديث في هذا الباب كثيرة، ذكرها علماء السنّة والمصنِّفون في العقائد، الذين يسوقون الآيات والأحاديث، مثل كتاب "التّوحيد" لابن خُزيمة و "كتاب السنّة" للآجري، وكتاب "السنة" لابن أبي عاصم، وغيرها من الكتب المؤلَّفة في التّوحيد، كلُّهم يذكُرون النُّصوص الدّالة على صفاتِ الله سبحانه وتعالى، الصّفات الذّاتية كالوجه واليدين، والصّفات الفعليّة كالاستواء والنُّزول إلى سماء الدُّنيا، وغير ذلك من صفات الأفعال.
فالوجه من الصّفات الذّاتيّة وهو أعظمُها، ولكن مع العلم واليقين والقطع بأنّ صفاتِ الله ليست كصفات خلْقِه، فالله له(15/75)
وجه والمخلوق له وجه، والله له يدان والمخلوق له يدان، والله جل وعلا له سمع وله بصر، والمخلوق له سمع وله بصر، ولكن صفات الله جل وعلا لائقةٌ به وبعظمتِه، وصفات المخلوقين تليقُ بهم وبخلقتهم، فلا تُشبه صفات المخلوقين صفات الخالق جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ(15/76)
ص -227- ... عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يسأل بوجه الله إلاّ الجنة" رواه أبو داود.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً}، {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ(4)}، كلّ هذا ينفي المماثَلة والمشابهة بين صفات الخالق وصفات المخلوق، فلا تشابُه وإن اشتركَتْ في المعنى، فإنّها لا تشترك في الكيفيّة والحقيقة.
ومَن شَبّه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسَه فقد كفَر، كما قال نُعيم بن حماد -شيخ البخاري- وغيرُه علماء السلف: من شبّه الله بخلقه فقد كَفر، لأنّ الله جل وعلا يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ومَن جحد ما وصف الله به نفسَه فقد كفَر، لأنّ الله تعالى يقول: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ويقول: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإكْرَامِ(27)}، فأثبت له الوجه، فمن نفى ما أثبته الله لنفسه فهو مكذِّبٌ لله، ويكون كافراً بالله عزّ وجلّ، لأنّ الإيمان أنْ تؤمن بالله عزّ وجلّ وملائكته، وكُتبه، ورُسله، واليوم الآخِر، وبالقدَر خيرِه وشرِّه، ومن الإيمان بالله: الإيمان بأسمائه وصفاتِه سبحانه وتعالى على الوجه اللائق به.
فالله جل وعلا له وجهٌ كما أثبته لنفسه، ولكنه لا يشبه وجه المخلوق، ولا يدور بخلَد المؤمن- أو في ظنّ المؤمن- هذا الظنّ السيّء وهو المشابهة بين الله وبين خلقه، فمن دار بخلده ذلك فإنّه يكون ناقصَ الإيمان، فإنْ نفى ما وصف الله به نفسَه فإنّه يكون عديم الإيمان، نسأل الله العافية.
ولذلك يقولون: المشبّه يعبُد صنماً، والمعطِّل يعبُد عدماً، والموحِّد يعبُد رباً فَرْداً صمَداً.
فقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يُسأل بوجه الله" يثبت أنّ لله وجهاً، لكن هذا الوجه عظيم يعظَّم، ولا يُسأل به الأشياء الحقيرة كمتاع الدنيا(15/77)
وأطماع الدنيا، وإنّما يُسأل به شيءٌ عظيم يليق بعظمتِه وهو الجنّة، لأنّ الجنة هي أعظم المطالِب، وهي غاية المطالب، فهي شيءٌ عظيم، أو ما يوصِّلُ إلى الجنة من الأعمال الصالحة، وفي الحديث: "أسألُك الجنة وما قرّب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرّب إليها من قول وعمل".(15/78)
ص -228- ... فلا يُسأل بوجه الله إلاَّ الجنّة تعظيماً له أن يُسأل به شيءٌ من المحقَّرات.
وكلُّ ما دون الجنّة فإنّه حقير، إلاَّ إذا كان يوصِّل إلى الجنّة من الأعمال الصّالحة، فإنّه يُسأل بوجه الله.
ففي هذا الحديث مسألتان:
المسألة الأولى: فيه إثبات الوجه لله سبحانه وتعالى.
المسألة الثانية: فيه النّهي عن سؤال الأشياء الحقيرة بوجه الله عزّ وجلّ، وكلّ ما عدا الجنّة فإنّه حقير، فلا يُسأل بوجه الله عزّ وجلّ.
بقي أنّ هذا الحديث رواه أبو داود، وفي إسناده: سليمان بن معاذ، وهو ضعيف، فهو حديث ضعيف فكيف أورده المصنِّف هنا؟.
فنقول: المصنِّف رحمه الله في هذا الكتاب يستدل بالأحاديث الصحيحة أو الأحاديث الحسنة، أو الأحاديث الضعيفة التي لها شواهد تؤيدها، وهذا الحديث له شواهد في إثبات الوجه لله عزّ وجلّ من الكتاب والسنّة.(15/79)
ص -229- ... [ الباب السابع والخمسون:]
* باب ما جاء في اللّو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وله: "باب ما جاء في اللّو" لو: حرفٌ، يسمِّيه النُّحاة حرف امتناع لامتناع، تقول- مثلاً-: لو جاء زيدٌ لأكرمتُك، لو أطعتني لأكرمتُك، فامتنع الإكرام لامتناع المجيء أو امتناع الطّاعة.
أما دُخول (ألـ) عليه فليس هو للتعريف، لأنّ الحرف لا يعرَّف، وإنّما التعريف من خواصّ الأسماء، فـ(ألـ) هنا زائدة، فقولُه: "باب ما جاء في اللو" يعني: من النّهي عن ذلك، وذلك: لأنّ الإيمان بالقدَر هو أحد أركان الإيمان الستة، قال صلى الله عليه وسلم: "الإيمان: أنّ تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدَر خيرِه وشرِّه"، فقوله: "تؤمن بالقدَر خيرِه وشرِّه"، دليلٌ على أنّ الإيمان بالقدَر من أركان الإيمان الستّة.
قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ(49)}، كلُّ شيءٍ فإنّ الله خلقه بقدَر، مقدَّرٌ خلقُه ومقدَّرٌ إيجادُه، ومقدَّرٌ كلُّ تفاصيلِه، لا يوجد في هذا الكون شيء إلاّ وهو مقدَّر من خير أو شر، من ضرر أو نفع، من صلاح أو فساد، من كفر أو إيمان، كلُّه مقدّر من الله سبحانه وتعالى.
وفي الحديث الصحيح: "إن الله كتب مقادير الأشياء في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء".
وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ} يعني: في اللوح المحفوظ، {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} أي: أنّها مكتوبة في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقها الله عزّ وجلّ، وقبل أن تحدُث في وقتها، {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}، وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} إذن الله الكوني القدري، يعني: بقدره ومشيئته سبحانه وتعالى، فكل شيء مقدّر من الله سبحانه وتعالى.
فالإيمان بالقدر هو أحد أركان الإيمان(15/80)
الستّة، وهو داخل في التّوحيد، وعدم الإيمان بالقدر يتنافى مع التّوحيد ويتنافى مع الإيمان، فمن كفر بالقدر فإنّه كافرٌ بالله عزّ وجلّ ولا توحيد له ولا دين له، لأنّه جحد القدر، وهذا سيأتي له بابٌ خاصٌّ سيعقده المصنِّف فيما بعد.(15/81)
ص -230- ... وقول الله تعالى: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا وجه إيراد المصنف لهذا الباب في "كتاب التّوحيد"، أن جحود القدر ينافي التّوحيد، لأنه كفر بالله سبحانه وتعالى.
وكلمة "لو إذا جاء بها الإنسان في سياق الجزع والسخط على ما يحصل له، فإن هذا نقص في التّوحيد، وجزع من القدر، لأن الواجب على المسلم: أن يرضى بقضاء الله وقدره، ولا يجزع ولا يسخط، وأن يعلم أنه لابد أن يحصل له ذلك شاء أم أبى جرخ أم لم يجزع، لابد أن يحصل ما قدره الله سبحانه وتعالى.
قال: "وقول الله تعالى: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}" {يَقُولُونَ} يعني: المنافقين.
وهذه الآية جاءت في سياق غزوة أحد في سورة آل عمران، وما حصل على المسلمين فيها من المصيبة التي حلت بهم من استشهاد كثير منهم وانتصار عدوهم عليهم بسبب أنهم خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في تنظيم العسكر، فالرسول صلى الله عليه وسلم نظم العسكر قبل القتال، وجعل جماعة من الرماة على جبل يحمون ظهور المسلمين، وقال لهم: "لا تتركوا الجبل سواءً انتصرنا أو هزمنا"، ثم بدأت المعركة فصار المسلمون يقاتلون الكفار وظهورهم محمية، فاندفعوا على الكفار وقتلوا منهم وفتكوا بهم، فكان النصر للمسلمين.
ولما شرعوا في جمع الغنائم رءاهم الذين على الجبل فقالوا: ننزل نشارك في الغنائم، فنهاهم قائدهم عبدالله بن جبير وذكرهم بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تتركوا الجبل سواء انتصرنا أو هزمنا"، فأبوا ونزلوا.
فلما نزلوا جاء الكفار من خلف المسلمين مع الجبل وانقضوا على المسلمين، وما شعر المسلمون إلاّ وهم بين الكفار من هنا وهنا، فدارت المعركة من جديد، وصارت على المسلمين المصيبة بسبب معصيتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ(15/82)
اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} يعني: تقتُلونهم، {بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ}، يعني: الرُّماة، { مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} من النّصر { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ(15/83)
ص -231- ... وقول: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} هذا تطمينٌ للمسلمين، بعد العتاب طمأنهم بأنّهم قد عفي عنهم لِمَا لهم من السّوابق والفضل، لكن هذه عقوبة على المعصية، {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، إلى قوله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} كان المسلمون في حالة الخوف الشديد، وقد أنزل الله عليهم النّوم، لأنّ النّوم أمان، فصار النوم فارقاً بين المؤمنين وبين المنافقين، المؤمنون أصابهم النوم وهذا أمانٌ من الله سبحانه وتعالى، والمنافقون ما ذاقوا غَمْضاً من الفزع ومن الخوف والجُبُن.
{يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} هذا هو السّبب، المؤمن يظنّ بالله ظنّ الحقّ وأنّه قادمٌ على ربّه، وما عند الله خيرٌ له وأبقى، فهو يظنّ بربّه ظنّ الحق يحسِن الظنّ بالله عزّ وجلّ، فلذلك لا يخاف من الموت، لأنّه يؤمن بالله عزّ وجلّ، ويحسن الظنّ بالله وأنّه قادمٌ على ربٍّ كريم ووعدٍ من الله سبحانه وتعالى، فهو مطمئنّ، وأما المنافقون فإنهم يظنون بالله ظن السوء.
{يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} هذا هو محلّ الشّاهد: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}، أرجعوا سبب القتل إلى أنهم ليس لهم تدبير، ولو كان لهم تدبير ما قُتلوا. فردّ الله عليهم بقوله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ(15/84)
الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} فالبقاء في البيوت لا يمنع من الموت، فالذي مكتوبٌ عليه الموت في أيّ مكان سيخرجُ ويذهب إلى مكانه الذي مكتوبٌ أنه يقتل أو يموت فيه.
فهذا هو محل الشاهد: "لو"، لأنه قال هذه الكلمة من باب الجزع والتسخُّط لقضاء الله وقدره وعدم الرضى بقضاء الله وقدره.
وإذا قيلت "لو" في مثل هذا الحال فإنَّها لا تجوز.
قال: "وقوله: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}" هذه قالها عبد الله بن أُبيّ -رأس المنافقين-.
{قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ} يعني: من المؤمنين الذين خرجوا وقُتلوا في أُحد، وكيف(15/85)
ص -232- ... وفي "الصحيح" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "احرص على ما ينفعك، واستعِن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قُل: قدّر الله وما شاء فعل. فإن لو تفتح عمل الشيطان".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سمّاهم إخوانهم؟، هل يكون المؤمن أخاً للمنافق؟، هذا حسَب الظّاهر، لأنّ المنافق في الظّاهر مؤمن، فهي أُخوّة بحسَب الظّاهر، لأنّ المنافق يعامَل معاملة المؤمن في الظّاهر، وتوكَل سريرَته إلى الله سبحانه وتعالى، فهو سمّاهم إخوانهم بحسب ما أظهروا من الإيمان.
وقيل: إخوانهم في النّسب؛ لأنّ عبد الله بن أُبيّ من قبيلة الأنصار ومن أهل المدينة فهم إخوانهم في النّسب، والله أعلم.
وقد ردّ الله عليه بقوله: {قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} إذا كنتم تزعمون أنكم تمنعون الموت من هؤلاء فامنعوه عن أنفسكم.
{قُلْ فَادْرَأُوا} أي: امنعوا، {عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} من أنهم لو كانوا عندكم ما ماتوا وما قتلوا.
الشّاهد في قوله: {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا}، هذا فيه استعمال {لَوْ} في مقام الجزع والتسخُّط وعدم الإيمان بالقدر، فالموت الذي حصل عليهم- بزعمه- ليس هو بقضاء الله وقدره وإنّما هو بسبب الخُروج، وأنّ البقاء في المدينة سببٌ للسلامة، ولا يرجِع هذا إلى القضاء والقدر، والسلامة والقتل كلاهما راجع إلى القضاء والقدر سواء بقوا في المدينة أو خرجوا إلى أُحد، فمن كتب الله أنّه يموت فإنّه سيموت في المدينة أو في أُحد، ومن كتب الله أنّه يبقى فسيبقى سواءً في المعركة أو في المدينة، فالأمر راجع إلى قضاء الله وقدره.
قال: "وفي الصحيح" يعني: في "صحيح مسلم".
قوله: "المؤمن القويّ" المراد بالقويّ هنا: قوّة الإيمان أي: القويّ في إيمانه، وكذلك القويّ في بدنه ورأيِه وتدبيرِه،(15/86)
فالقوّة تشمل قوّة الإيمان، وهذا هو الأصل والأساس، وقوّة الرأي والتدبير، وقوّة البدن أيضاً، لأنّه ينفع بقوّته، ينفع نفسَه وينفع غيرَه، فنفعُهُ يكون متعدِّياً، فهو "خيرٌ" أفعل تفضيل، يعني: أكثرُ خيراً.(15/87)
ص -233- ... "وأحبُّ إلى الله" هذا فيه: إثبات المحبّة لله عزّ وجلّ، وأنّه يحبّ المؤمن القويّ. والمحبّة من صفات الله سبحانه وتعالى.
"من المؤمن الضّعيف" الضعيف في إيمانه، وكذلك الضعيف في إرادتِه وتدبيرِه وبدنه، لأنّ نفعَه يكون قليلاً لنفسه ولغيره.
قال: "وفي كلٍّ خير" المؤمن كلُّه خير، المؤمن القويّ والمؤمن الضعيف، كلّهم فيه خير، لكن المؤمن القويّ خيرهُ متعدٍّ إلى غيره، والمؤمن الضعيف خيرهُ قاصرٌ على نفسه لا يتعدّاه.
وقوله: "احرص" بكسر الرّاء، ويجوز الفتح، والحرص معناه: المبالَغة في طلب الشيء.
ومعنى قوله: "احرص على ما ينفعك" يعني: بالغ في طلبهِ، وابذل الوُسع في تحصيلِه، فإنّ النفع مطلوب.
وفي ضمن ذلك النّهي عن الحرص على الشيء الذي لا ينفع.
ثم قال: "واستعن بالله" يعني: لا تعتمد على الحرص فقط ولكن مع الحرص استعن بالله سبحانه وتعالى، لأنّه لا غنى لك عن الله، ومهما بذلْت من الأسباب فإنّها لا تنفع إلاّ بإذن الله سبحانه وتعالى، فلذلك جمع بين الأمرين: فعل السبب مع الاستعانة بالله عزّ وجلّ.
ثم قال: "ولا تعجَزن" بفتح الزاي، ويجوز الكسر، والنون: نون التوكيد الثّقيلة. هذا نهي، نهيٌ عن العجز.
والعجز معناه: الكسل والإهمال، وليس العجز الجسمي، فالإنسان إذا عجز عجزاً جسميّاً لا يؤاخَذ لأنّه لشيء باختيارِه، لكن المراد: عجز الكسل وعجز الإهمال وإيثار الرّاحة هذا هو المنهيّ عنه، لأنّه يفوِّت على المسلم خيراً كثيراً، ولهذا: كان النّبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من العجز والكسل ومن الجُبُن والبُخل ومن غلبة الدَّيْن وقهر الرجال.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "وإنْ أصابك شيءٌ" يعني: ممّا تكره، بعدما تحرص على ما ينفعك وتستعين بالله وتترُك العجز، بعدما تعمل هذه الأسباب إذا أصابك شيء عكس ما تُريد وعكس ما تطلُب فلا تجزع واعلم أنّ هذا بقضاء الله وقدره، وأنّ الله لو قدّر(15/88)
ص -234- ... لك شيئاً لحصل ولكنّه لم يقدِّر لك، ولا تدري ما الخيرة فيه، لعلّ الله حبسه عنك لخير أرادَه بك، ربّما أن الإنسان يحرص على شيء لو حصل له لأهلَكه، فالله يمنعه عنه رحمةً به: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.
"فلا تقل: لو أنّي فعلتُ كذا لكان كذا وكذا" لا ترجع هذا إلى تقصيرِك، ولكن أرجِعه إلى قضاء الله وقدرِه.
"ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل" يعني: أرجِع هذا إلى قضاء الله وقدره، فالذي منعه عنك ليس هو فعلُك أو تركك، وإنّما الذي منعه عنك هو الله سبحانه وتعالى، ولا تدري لعلّ الله أراد بك خيراً وصرف عنك شرًّا، فارْض بقضاء الله وقدره.
هذا هو شأن المؤمن الذي يؤمن بالقضاء والقدر، أما المنافق وضعيف الإيمان فإنّه إذا أصابَه شيء يكرهُه جزع وتسخّط وقال: هذا بسبب فلان أو هذا بسبب أنّي ما علمت كذا أو كذا. هذا جُحودٌ للقدر، أو عدم إيمان بالقدر، أو ضعف إيمان بالقدر، وما هكذا المؤمن.
فقول: "قدر الله وما شاء فعل" يحلّ عن المسلم مشاكل كثيرة.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "فإنّ لو" أي: قول:"لو".
"تفتح عمل الشيطان" إذا أرجعتَ هذا إلى غير القضاء والقدر دخل الشيطان، وصار يوسوس لك ويلقي عليك الأوهام ويُلقي عليك القلق النفسي، وتُصبح في همٍّ وغم وحزن، أما إذا أغلقتَ هذا الباب وقلتَ: "قضاءُ الله وقدرُه"، أو "قدَّر الله وما شاء فعل" فإنّك تُغلق باب الشيطان.
فـ "لو" مفتاح لباب الشيطان، و"قدّر الله وما شاء فعل" إغلاق لباب الشيطان، تستريح من شرِّه ومن هُمومه وأحزانِه ووساوسه.
يبقى إشكالٌ وهو: أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأصحابهِ في حجّة الوداع: "لو استقبلْتُ من أمري ما استدبرت لَمَا سُقت الهدي ولأحللتُ معكم وجعلتها عمرة" أليس في هذا استعمال "لو" في شيء تبيّن للرّسول صلى الله(15/89)
عليه وسلم أنّه فاته وهو فضيلة التمتُّع بالعْمرة إلى الحج؟، ألاَ يتعارض مع قوله: "وإنْ أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلتُ كذا وكذا"؟.(15/90)
ص -235- ... الجواب: لا تعارض، لأنّ "لو أني فعلتُ كذا وكذا لكان كذا وكذا" هذا من باب الجزع على شيءٍ حصل وانتهى، أما "لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت" فهو إخبارٌ عن المستقبَل لا عن الماضي، وأنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم لو تبيّن له فضل العُمرة والتّمتّع بها إلى الحج لتمتّع صلى الله عليه وسلم ولَمَا ساق الهدي، فهو إخبارٌ عمّا يفعله في المستقبَل.
فهذا هو الجمع بين الأحاديث؛ فالرّسول صلى الله عليه وسلم يُخبر عن مستقبَل، وأيضاً هو يتمنّى عمل طاعة وعمل قُربة إلى الله سبحانه وتعالى، وليس يتجزّع على شيء فات أو شيء مضى، فلا تعارُض بين هذا وهذا.
وفي الباب مسائل:
المسألة الأولى: وُجوب الإيمان بالقضاء والقدر، وأنّه الركن السّادس من أركان الإيمان، وهو من علامات التّوحيد. وعدم الإيمان بالقضاء والقدر يتنافى مع التّوحيد وهو من علامات النفاق.
المسألة الثانية: يُستفاد من الآيتين والحديث: وُجوب ترك "لو" عند نُزول المصائب والمكروهات، لا يقول: "لو أنّي فعلتُ كذا وكذا ما حصلت هذه المصائب"، بل يقول: هذه المصائب مقدَّرةٌ من الله سبحانه وتعالى، فيرضى بقضاء الله وقدره.
المسألة الثالثة: فيه الحثّ على فعل الأسباب، لقوله صلى الله عليه وسلم: "احرص على ما ينفعُك".
المسألة الرابعة: فيه النّهي عن الاعتماد على الأسباب ووُجوب الاستعانة بالله تعالى: "واستعن بالله".
المسألة الخامسة: فيه النّهي عن الإهمال والكسل وتعطيل الأسباب.
المسألة السادسة: فيه علة النّهي عن قول "لو" وهو لأنّها تفتح عمل الشّيطان، وأمّا الاستعانة بالله والحرص على ما ينفع وترك التلوُّم بقول "لو" فإنّ هذا يُغلق باب الشّيطان عن الإنسان.
المسألة السابعة: فيه فضل المؤمن عموماً، وأن المؤمن القوي أفضل من المؤمن الضعيف.
المسألة الثامنة: فيه إثبات محبة الله للمؤمنين وأنها تتفاضل بحسب قوتهم وضعفهم في الإيمان وغيره.(15/91)
ص -236- ... [الباب الثامن والخمسون:]
* بابُ النّهي عن سبّ الريح
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب من جنس الأبواب السابقة التي فيها النّهي عن سبّ الدهر، والنّهي عن قول: "لو" وغير ذلك، والنّهي عن التنجيم، كلّ ما فيه إضافة الأشياء إلى غيرِ الله عزّ وجلّ فإنّه منهيٌّ عنه، لأنّ الأُمور كلّها بيد الله سبحانه وتعالى، وهو خالقُها ومدبِّرها فتُضاف إليه سبحانه وتعالى ولا تُضاف إلى غيره لا إضافة سبّ ولا إضافة مدح، لأنّ في هذا تنقُّصاً لله عزّ وجلّ وإسناد الأمور إلى غيرِه.
وكما سبق: أنّه إذا اعتقد أنّ هذه الأشياء تصنع هذه الأشياء أو تُحدثها؛ فهذا شركٌ أكبر، لأنّه شركٌ في الرّبوبيّة.
وإنْ كان لا يعتقد ذلك، بل يعتقد أنّ الله هو الخالق المدبِّر، وإنّما نسب هذه الأشياء إلى هذه المخلوقات من باب أنّها أسبابٌ فقط: فهذا يكون محرَّماً ويكونُ من الشرك الأصغر، حتى إنّ ابن عبّاس- كما سبق- جعل قولَ الرجل: "كانت الريح طيِّبة، وكان الملاّح حاذقاً"، جعل هذا من اتّخاذ الأنداد لله عزّ وجلّ، وفسّر به قولَه تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، فرُكّاب السفينة إذا خرجوا من البحر ولم يحصل عليهم مكروه ونسبوا هذا إلى حِذْق الملاّح أو إلى طيب الريح التي وجّهت سفينتَهم فإنّ ذلك من اتّخاذ الأنداد لله عزّ وجلّ، لأنّ الواجب: أن يشكُروا الله عزّ وجلّ، لأنّه هو الذي سخّر الريح وهو الذي سخّر الملاّح وعلّمه ووفّقه، فتُنسب الأشياء إلى مصدرها وهو الله سبحانه وتعالى. هذا هو التّوحيد.
أما نسبة الأشياء إلى غيرِه فهذا شركٌ إمّا أكبر وإمّا أصغر.
والواجب على المسلمين أن يتنبّهوا لذلك، لأنّه يكثُر على الألسنة الآن مدح الأشياء وأنّه بفضلها حصل كذا وكذا، بفضل الطبِّ بفضل كذا وكذا، بفضل تضافُر الجهود، بفضل المجهودات الفلانية حصل كذا وكذا، والله لا يُذكر أبداً، ولا يُثنى عليه في(15/92)
هذه الأُمور، وهذا خطأُ كبيرٌ في العقيدة، ويُخشى على مَنْ قالَه من الشّرك الأكبر، هو لا يسلم من الشرك: إمّا الشرك الأصغر وإمّا الشرك الأكبر.
أو يَنسب الأشياء إلى الظّواهر الطبيعيّة، كما يقولون من نِسبة الأمطار إلى(15/93)
ص -237- ... عن أُبيّ بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبُّوا الرّيح، فإذا رأيتم ما تكرهون، فقولوا: اللهم إنّا نسألُك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أُمرت به، ونعوذ بك من شرّ هذه الرّيح وشرّ ما فيها وشرّ ما أُمرت به" صحّحه الترمذي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المناخ، أو المنخفض الجوي، أو إلى الرّياح، أو ما أشبه ذلك؛ كلّ هذا من سوء الأدب مع الله سبحانه وتعالى.
نعم؛ الله جعل للأشياء أسباباً، ولكن مَن هو الذي خلق الأسباب ومَن هو الذي سخّرها وأودع فيها الأسرار؟ هو الله سبحانه وتعالى، فالواجب: أن تُسند الأُمور إلى الله عزّ وجلّ، هذه عقيدة المسلم دائماً وأبداً، وهذا هو التّوحيد.
إلاّ الأُمور التي من أفعال الإنسان مثل الطاعات ومثل الكفر والمعاصي والفُسوق والتعدِّي على النّاس؛ فهذه تُنسب إلى المخلوق لأنّها أفعالُه وجنايَتُه، وهو محاسَبٌ عليها، وإنْ كان الله قدّرها سبحانه وتعالى، ولكن الذي فعلها وقام بها المخلوق باختياره وإرادته، فيذمّ عليها، ويعاقَبُ عليها، أو يُثاب عليها إن كانت صالحة، فهي من ناحية القدَر تنسب إلى الله، أمّا من ناحية الفعل فهي تُنسب إلى المخلوق، وهو الذي فعلها وهو الذي قام بها باختياره وإرادته ومشيئَته، وهو يعاقَب أو يُثاب على أفعاله، لا على قدر الله.
قال: "عن أُبيّ بن كعب" هو: أبو المنذر أبيّ بن كعب الخزرجي الأنصاري، كان مشتهراً بجودة القراءة للقرآن، فهو أقرأ الصّحابة لكتاب الله عزّ وجلّ.
"أن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبّوا الريح" هذا نهي من الرّسول صلى الله عليه وسلم، ومعنى: "تسبّوا" يعني: لا تشتموا الرّيح وتذمّوها وتلعنوها، كما كان عليه أهل الجاهليّة أنهم يسبّون الريح إذا جاءت على غير رغبتهم، والواجب أن الإنسان عندما يصيبُه ما يكره: أن يحاسب نفسَه، لأنّه ما أصابه هذا المكروه إلاّ بسببه وبفعلِه،(15/94)
فيحاسب نفسَه ويتوب إلى الله عزّ وجلّ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}.
فالواجب أنّ الإنسان لا يلوم الرّيح ولا يلوم غيرها وإنّما يلوم نفسَه، بأن يرجع إلى الله ويتوب إلى الله ويعلم أنّ الله ما قدّر عليه هذه المصيبة إلاّ بسبب فعلِه ومعصيته، فيتوب إلى الله عزّ وجلّ ويحاسِب نفسه، ثم ينسب الأشياء إلى الله وأنّ الله هو(15/95)
ص -238- ... الذي قدّرها بسبب فعله عقوبة له وأوجدَها وهو الذي أمرها بذلك، فهي مأمورة مدبّرة: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ}، فالله جل وعلا هو الذي يُرسل الرّياح: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} تلقِّح السحاب، {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ}، {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ}، فالرّياح إنّما هي بأمر الله سبحانه وتعالى يُرسلها بالخير، ويُرسلها- أيضاً- بالشرّ والعذاب، كما أرسلها على عاد: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ(41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ(42)}، {أَرْسَلْنَا} هو الذي أرسلها، ليست هي التي جاءت وأهلكتْ عاداً، وإنّما الله هو الذي أرسلها، {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ(19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ(20)}، {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ(24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ }، كلّ هذا بأمر الله سبحانه وتعالى.
وقوله: "فإذا رأيتم ما تكرَهون" يعني: إذا رأيتم من الرّيح ما تكرهون: رأيتم شدّة الريح وقوّتها وخشيتُم من أنّها تضرّكم أو تضرّ بأموالكم أو تقتلع أشجارَكم أو تهدِّم بيوتكم، أو ما تكرهون من برودتها، لأنها قد تكون باردة شديدة(15/96)
البُرودة، أو تكون حارّة شديدة الحرارة، تُهلك النبات وتُهلك الثّمار.
"فإذا رأيتم ما تكرهون" منها من قوّتها، أو من برودتها، أو من حرارتها فتوجهوا إلى الله سبحانه وتعالى، لا تتوجّهوا إلى الرّيح تذمّونها وتسبّونها، هذا ليس فيه جدوى من ناحية، وهو- أيضاً- شركٌ بالله عزّ وجلّ، ووضعٌ للشيء في غير موضعه.
"فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا" هذا هو العلاج.
"اللهم إنّا نسألك من خير هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أُمرت به، ونعوذُ بك من شرّ هذه الريح، وشرّ ما فيها، وشرّ ما أُمرت به" هذا هو العلاج: إسنادُ الأُمور إلى الله ودعاءُ الله جل وعلا لدفع المكروه وجلْب الخير.
فدلّ على أنّ الريح تؤمَر بالخير وتُؤمر بالشّر، وفي الحديث: "الريح من(15/97)
ص -239- ... رَوْح الله تأتي بالخير وتأتي بالشرّ"، فهي مأمورة من الله سبحانه وتعالى ومدبّرة مرسلة.
يُستفاد من هذا الحديث مسائل:
المسألة الأولى: فيه النّهي عن سبّ الريح، لأنّ ذلك يُخِلُّ بالتّوحيد من حيث إنّه ينسِب الأُمور إلى غير الله عزّ وجلّ.
المسألة الثانية: فيه أنّ الريح مدبّرة مخلوقة، تأتي بالخير وتأتي بالشرّ بأمر الله سبحانه وتعالى، وما دامت كذلك فإنّها لا يُتوجّه إليها لا بذمٍّ ولا بمدح، وإنّما يُتوجّه إلى الله تعالى بالتضرُّع والدعاء عند الشدائد والشُّكر والحمد عند الرخاء والنعمة.
المسألة الثالثة: في الحديث دليلٌ على أنّ المسلمين عند الشدائد يتوجّهون إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء والتضرُّع والتّوحيد، ولا يترُكون الدعاء، ولا يتوجّهون إلى غيرِه، كحالة مشركي هذا الزّمان الذين إذا وقعوا في شدّة فإنّهم ينادون بالشّرك، ويدعون غيرَ الله سبحانه وتعالى، يدعون مَن يخلِّصهم من الموتى ومن الأولياء والصّالحين، يهتفون بأسمائهم، ويذكرون أسماءهم حتى يخلِّصوهم، ويتواصون بذلك.
فالواجب على الدعاة: أن يهتمّوا بهذا الأمر، أن يحذِّروا النّاس، وأن يبيِّنوا للناس، وأن يدعوا النّاس إلى توحيد الله، وأن يقوموا بتبليغ هذا الدين إلى النّاس ويوضحوا العقيدة على الوجه الصحيح الخالص، هذا هو الحلّ، فالذي يريد أن يحلّ مشاكل المسلمين هذا هو الحل.
ولو قام بهذا واحدٌ مخلص لأنقذ الله به أمّة من الأمم أو أجيالاً من النّاس، كما حصل على أيدي الدّعاة المخلصين وهم أفراد، والآن هناك جماعات للدعوة وهناك إمكانيّات هائلة وهناك أموال وهناك وهناك، لكن أين الآثار؟، لو كان هناك داعيةٌ واحد يقوم على المنهج الصحيح ويدعو إلى الله على المنهج الصحيح لحصل به النفع الكثير.
والآن كثر الدعاة وكثرت الجماعات وكثرت التنظيمات، ولكن أين الجدوى وأين الثمرة؟، الشر يزيد، والشرك ينتشر، لأنّ الدعوات هذه في الغالب ليست على أساس صحيح،(15/98)
ولو كانت على أساس صحيح ومنهج سليم فواحد من المخلصين يكفي عن ألف داعية، كما هو معروف من سير الدعاة المصلحين السّابقين.(15/99)
ص -240- ... [الباب التاسع والخمسون:]
* باب قول الله تعالى:
{يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا بابٌ عظيم، فقولُه- رحمه الله تعالى-: "باب قول الله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}.
مناسبة هذا الباب لكتاب التّوحيد: أنّ حسن الظنّ بالله سبحانه وتعالى من واجبات التّوحيد، وسوء الظنّ بالله عزّ وجلّ ينافي التّوحيد، هذا وجه المناسبة لهذا الباب في كتابه التّوحيد.
قولُه: "باب قول الله تعالى" يعني: ما جاء في تفسير هذه الآية الكريمة من آل عمران والآية الثانية من سورة الفتح، كلاهُما في موضوع واحد، وهو: سوء الظنّ بالله سبحانه وتعالى وما توعّد الله عليه من العذاب والعُقوبة، لأنّه ينافي التّوحيد.
والقصّة حصلت في وقعة أُحد لَمّا حصل على المسلمين ما حصل من إدالة العدو عليهم بسبب المخالفة التي حصلت في الجيش.
لَمّا حصل ما حصل تكلّم المنافقون بكلام سيّئ، لأنّ المنافق دائماً ينتهز الفرص التي يرى أنّ فيها غضاضةً على المسلمين ويشغلّها ويفسّرها ويكيّفُها على حسب هواه، دائماً هذا في المنافقين إلى آخر الزمان، كلّما حصل على المسلمين شدّة أو كُربة أو ضائقة فرح المنافقون وجعلوا يفسِّرونها ويحلِّلونها بأن المسلمين ليسوا على شيء وأن دينهم ليس بشيء، ويظنون بالله غير الحق ظنّ الجاهلية، وظنّ السوء.
ففي سورة آل عمران سمّاه ظنّ الجاهليّة، وفي سورة الفتح سمّاه ظنّ السّوء.
قال في سورة آل عمران: {ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} لأنّ الجاهلية عدم العلم، فالذي ظنّ هذا الظنّ الخاطئ سببه عدم العلم بالله سبحانه وتعالى وبأسمائه وصفاته وحمْدِه وحكمته.(15/100)
ص -241- ... وقوله: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} الآية.
قال ابن القيم في الآية الأولى: "فُسِّر هذا الظنّ بأنه سبحانه لا ينصُر رسولَه، وأن أمره سيضمحل.
وفسّر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته.
ففُسّر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يُتِمّ أمرَ رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يُظهره على الدين كلِّه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال في سورة الفتح: {ظَنَّ السَّوْءِ} يعني: إساءة الظنّ بالله عزّ وجلّ، وهو يخالف حسن الظنّ بالله عزّ وجلّ، فحسن الظنّ بالله توحيد وسوء الظنّ بالله كفر.
ثم ذكر الشيخ رحمه الله كلام ابن القيِّم في تفسير الآيتين، وساقه من "زاد المعاد في هدي خيرِ العباد" باختصار.
"قال ابن القيِّم: فُسِّر هذا الظن في الآية الأولى" يعني: آية آل عمران.
"بأنّه سبحانه لا ينصُر رسولَه" وهذا ظنّ الجاهليّة.
"وأنّ أمرَه سيضمحلّ" وهذا تكذيبٌ لقوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}، والتكذيب لوعد الله كفر.
"وفسّر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته. ففُسّر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يُتِمّ أمرَ رسولِه صلى الله عليه وسلم، وأن يُظهره على الدين كلِّه " يعني في ذلك ثلاثة تفاسير: إنكار الحكمة في أفعاله سبحانه وتعالى، وإنكار الحكمة: كفرٌ وضلال، لأنّ الله وصف نفسَه بالحكمة، وسمّى نفسَه بالحكيم: {حَكِيمٍ خَبِيرٍ}، {حَكِيمٍ عَلِيمٍ}، في كثيرٍ من الآيات، والحكمة: وضعُ الشيء في موضعه.
فمن أنكر حكمة الله فإنّه يكفر بذلك، بخلاف من أثبتها وأوّلها فإنّه يُعتبر ضالاً في هذا التأويل، لأنّ الله جل وعلا حكيم لا يفعل شيئاً إلاّ لحكمة عظيمة، قد تظهر لنا وقد لا تظهر، والله جل وعلا لا يفعل شيئاً عبثاً، ولا يفعل شيئاً لمجرّد المشيئة من غير حكمة، إنّما يفعل الأفعال لحكمة وغايةٍ عظيمة،(15/101)
كلُّ أفعاله سبحانه وتعالى معلَّلة وكلُّها لحكمة.(15/102)
ص -242- ... وليس من لازم ذلك: أن تظهر لنا الحكمة أو يظهر لنا التعليل، لكنّنا نقطع ونؤمن ونتيقّن أنّ أفعال الله جل وعلا ليس فيها عبث.
وفسّر بـ"إنكار القدر" وهذا- أيضاً- كفرٌ بالله، لأنّ القدر- كما سبق- هو الركن السّادس من أركان الإيمان.
وفسّر بـ "إنكار أن يُتِمّ أمرَ رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يُظهره على الدين كلِّه" وهذا هو التفسير الثالث، وهو أنّ الله لا ينصر رسوله، وهذا تكذيبٌ لقوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ(51)}.
قوله: "وأنّ أمرَه سيضمحلّ" يعني: أنّ هذا الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم سيزول نهائيّاً ولا يبقى منه شيء، مثل سائر الدعوات والمذاهب الباطلة، تعيش فترة من الزمن ثم تنقطع وتذهب بذهاب أصحابها وذهاب أحزابها وجماعاتها وهذا التفسير باطل، لأن الحق لابد أن يبقى مهما جرى عليه من الامتحان والضعف أحياناً والمداولة لكنِ الحق يبقى ويستمرّ، فمن ظنّ أنّ أمرَ الرّسول صلى الله عليه وسلم سيضمحلّ بسبب ما جرى من النكَبات التي جرت على المسلمين، من ظنّ هذا فقد ظنّ بربّه ظنّ السَّوء.
والله لم يُجرِ هذه النكبات لأجل أن يُزيل أهل الدين ويُزيل الدين، إنّما أجرى هذه النكبات على الدين وعلى أهل الدين ابتلاءً وامتحاناً من أجل الرّجوع إليه سبحانه وتعالى أو لخطأ ارتكبوه ووقعوا فيه، فالله يريد أن ينبِّههم من أجل أن ينقُّوا صفوفهم من الدّخيل ومن الخطأ، فيرجعوا إلى الله سبحانه وتعالى، فيُعيد لهم الله النصر والتمكين، هذه سنّة الله جل وعلا في خلقه.
وكذلك يريد أن يمحِّص الذين آمنوا، يخلِّصهم من الذّنوب والمعاصي ليقدموا على الله مطهّرين ليس عليهم سيّئات.
هذه حكمة الله سبحانه وتعالى، لا يريد بالنكبات التي تجري على عباده المؤمنين أن يُزيلَهم وأن يُزيل حقّهم الذي هم عليه، أبداً، تأبى حكمة الله ذلك،(15/103)
وإنّما يُريد أن يثبِّت هذا الحق وأن يُزيل عنه الدّخيل وأن يُزيل عنه ما أصاب أصحابه من الأُمور المخالفة حتى يرجعوا إلى الله سبحانه وتعالى ويثوبوا إليه، فعند ذلك تعود إليهم عزّتهم ومكانتُهم.(15/104)
ص -243- ... وهذا هو ظنّ السوء الذي ظنّه المنافقون والمشركون في سورة الفتح.
وإنّما كان هذا ظنّ السوء؛ لأنّه ظنّ غير ما يليق به سبحانه، وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذه سنّة الله في خلقه من قديم الخليقة إلى أن تقوم الساعة، كم جرى على الرّسل؟، وكم جرى على أتباعهم من النكبات ومن المُعضلات؟، ولكن العاقبة تكون لهم دائماً وأبداً، والحق لا يزال ولله الحمد.
قوله: "وهذا هو ظن السوء" أي: من نفى القدر، وأن حدوث الأشياء بدون إرادته سبحانه وتعالى، وبدون قدره؛ فقد ظنّ بربّه ظنّ السّوء، ووصف ربّه بالعجز والجهل وعدم العلم، تعالى الله عمّا يقولون.
قوله: "وإنّما كان هذا ظنّ السَّوء؛ لأنّه ظنّ غير ما يليق به سبحانه" ظنّ ما لا يليق به سبحانه وتعالى وهو العَبث.
"وما لا يليق بحكمته وحمدِه ووعده الصّادق" لأنّه سبحانه وتعالى محمودٌ على كلّ حال، على ما يكره العباد وعلى ما يحبّون، لأنّه من قِبَل الله محمود، فإيقاعُ العقوبة فيمن يستحقّها عدلٌ منه سبحانه وتعالى يُحمد عليه، وإيقاع الهلاك بالأُمم الكافرة يُحمد عليه سبحانه وتعالى لأنّه جزاء، ونزول النعم بأهل الإيمان والنصر والتوفيق وأهل الإتّباع فضلٌ من الله سبحانه وتعالى، فهو المحمود على كلّ حال على المحامد وعلى المكاره، لأنّه ليس من قِبَله شيء عبث أبداً.
فالذي يعرف الله ويعرف أسماءه وصفاته ومقتضى حمدِه؛ فإنّه لا يقع في هذه الأغلاط أبداً، حتّى ولو بلغ به الأمر والشدّة ما بلغت، لأنّه يعلم أنّ الله لا يفعل إلاّ ما فيه خير له، فيصبر ويرضى بقضاء الله وقدره وينتظر الفرج، ولا ييأس من رحمة الله، بل ينتظر رحمة الله، كلّما اشتدّ الكرب انتظر رحمة الله، بل يزيد الرجاء عند شدّة الكرب، كما قال صلى الله عليه وسلم: "واعلم أنّ النصر مع الصبر، وأنّ الفرج مع الكرب، وأنّ مع العُسر يُسراً"، والله جل وعلا يقول: {فَإِنَّ مَعَ(15/105)
الْعُسْرِ يُسْراً(5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6)}، {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً}، فكلّما اشتدّ الأمر انفرج.(15/106)
ص -244- ... فمن ظنّ أنّه يُديل الباطل على الحقّ إدالةً مستقرّة يضمحلّ معها الحقّ، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحقّ عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئةٍ مجرّدة؛ فذلك ظنّ الذين كفروا، فويلٌ للذين كفروا من النّار.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أما أهلُ النفاق وأهلُ الكفر وأهل الجهل فإنّهم عند الكَرْب يكفُرون بالله عزّ وجلّ ويقنطون من رحمة الله، ولهذا لَمّا أصاب المسلمين في أُحد ما أصابَهم كانت هذه كلماتهم القبيحة.
قال ابن القيِّم: "فمن ظنّ أنّه يُديل الباطل على الحقّ إدالة مستقرّة يضمحلّ معها الحقّ، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره" هذا إعادة من الإمام ابن القيِّم رحمه الله لتقرير هذه المسألة العظيمة.
"أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحقّ عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجرّدة؛ فذلك ظنُّ الذين كفروا" من ظنّ أن الله يُديل الباطل على الحق إدالةً مستقرّة، الله قد يُديل الباطل على الحقّ أحياناً، لكن هذه الإدالة مؤقتّة وليست مستقرّة، وإدالتُه على الحقّ لحكمة، وهي أنّ أهل الحق يتنبّهون ويتداركون الخطأ والنقص الذي حصل فيهم: {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا}، يعني: يطهِّرهم من رجس الذنوب والمعاصي بما نزل عليهم من العُقوبة، كما قال سبحانه وتعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ}، ولَمّا شقّ على أبي بكر- رضي الله تعالى عنه- قال: أيُّنا لم يعمل سوءاً يا رسول الله؟، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ألستَ تحزَن؟، ألستَ تَنْصَب؟، ألستَ تُصيبُك اللأوى؟"، قال: بلى، قال: "فذلك ما تُجزون به".
فالله جل وعلا قد يُجازي عبدَه المؤمن وهو يحبُّه، ويعاقبه لأنّه يحبّه؛ من أجل أن يخلِّصه من هذا الذنب، حتى يوافيَ ربّه طاهراً نقيًّا ويدخُل الجنّة.
أمّا الكافر عدوُّ الله فإنّ الله يصبُّ عليه النعم للاستدراج ويُمسكُ عنه العُقوبة(15/107)
حتى يوافي القيامة وهو محمّلٌ بالذّنوب فيكون من أهل النّار، هذه حكمة الله سبحانه وتعالى.
بعض النّاس يقول: لماذا الكُفّار ينعَمون بالحضارة والصناعات، والجوّ الطيِّب، والبيئة الطيِّبة، والفواكه، والأشجار، والمحاصيل، والمسلمون في هذه الحالة، ثم يذهب به ظنّ السَّوء إلى أن يظنّ أنّ الكفّار على الحقّ، وأنّ الله راضٍ(15/108)
ص -245- ... وأكثرُ النّاس يظنّون بالله ظنّ السّوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلاَّ من عرف الله وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده.
فليعتَنِ اللّبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله، وليستغفره من ظنّه بربّه ظنّ السوء.
ولو فتّشت مَن فتّشت؛ لرأيت عنده تعنُّتاً على القدر وملامةً له، وأنّه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عنهم، وأنّ المسلمين ليسوا على حق وأنّ الله ساخطٌ عليهم، ثم قد يرتدّ عن الدين.
فالله جل وعلا يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحبّ، وأما الدين فإنّه لا يُعطيه إلاّ لمن يحبّ.
وليس إنزال النعم أو إنزال النِّقَم دليلاً على المحبّة أو على البُغض والكرَاهة وإنّما هو ابتلاء وامتحان، فقد يعاقبُ الله من يحبُّه وقد يُنعم على من يُبغِضُه في هذه الدّنيا: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ(178)}.
فهذا يجب أن يكون من المؤمن على بال، لكن ما يُدرك هذا إلاّ أهل الفقه وأهل العلم وأهل البصيرة وأهل النظر الصّائب.
ثم قال ابن القيم رحمه الله: "فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا" فيتأمّله تأمُّلاً جيِّداً، وهو أمر أفعالِ الله تعالى في عِباده، وليعلم أنّه لا يفعل شيئاً إلاّ لحكمة وقضاءٍ وقدر، ما يجري في هذا الكون شيء إلاّ لحكمة وقضاء وقدر، ولم يعد الله سبحانه وتعالى بوعد إلاّ ولابدّ أن يقع، ويتأمّل الإنسان نفسه حِيال هذه الحوادث: ماذا تقولُ نفسُه إذا رقع شيء ممّا يكره به أو بغيره، ولهذا يقول الإمام ابن القيِّم: "وأكثر النّاس يظنون بالله ظنّ السَّوء فيما يختص بهم، وفيما يفعلُه بغيرهم".
وهذا موجودٌ في بعض بني آدم: "ولو فتَشتَ من فتّشت؛ لرأيت عنده تعنُّتاً على القدر وملامَة له" كما كان من إبليس، وما نتج عن تكبُّر(15/109)
إبليس وتعنُّته على الله جل وعلا.(15/110)
ص -246- ... فمستقل ومستكثر، وفتّش نفسَك هل أنت سالم؟
فإنْ تنجُ منها تَنْجُ من ذي عظيمة ... وإلاَّ فإنّي لا إخالُك ناجياً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وكذلك بالنسبة لمن تشبّه به في الاعتراض على الله في أفعاله سبحانه وتعالى وفي تصرُّفه في ملكه جل وعلا، وأنّه ينبغي أن يكون كذا وكذا.
ثم قال: "وفتِّش نفسَك هل أنت سالم؟ " يجب على الإنسان أن لا يزكِّي نفسه أبداً، يقول الله جل وعلا: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ}، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49)}، فالإنسان لا يزكِّي نفسه، بمعنى: يمدح نفسه ويُعجب بنفسه، ويظنّ أنه كامل، وأنّه من الأخيار، بل دائماً الإنسان يتّهم نفسَه بالتقصير في حقّ الله تعالى.
أمّا التزكية التي أثنى الله تعالى على أصحابها في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9)} فالمراد بتزكية النفس هنا تطهيرُها بالأعمال الصالحة وترك الأعمال السيّئة، هذه تزكية النفس، شغلُها بالأعمال الصّالحة وتجنيبُها للأعمال السيّئة.
فهناك تزكيةٌ منهيٌّ عنها وهي: الإعجاب والمدح للنفس، وهناك تزكية مأمورٌ بها وهي الإصلاح والتوبة والعمل الصالح: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9)}، وتوعّد الله الذين لا يزكون أنفسهم قال تعالى:{وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ(6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} قال بعض المفسرّين: المراد بالزّكاة هنا: تزكية النفس، لأن الآية مكية، والزكاة بالأموال لم تكن نزلت إلاّ في المدينة، وفي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ(4)} قالوا: والمراد بالزكاة هنا: زكاة النفس، لأنّ الآية مكيّة- أيضاً-، فتزكية النفس بالأعمال الصالحة مطلوبة مأمور بها.
وقوله: "فتِّش نفسك هل أنتَ سالم؟" يعني: لا تشتغل بعيوب النّاس وتنسى نفسك، فتِّش نفسك هل أنت سالم من هذا التعنُّت والملامة على(15/111)
القدر والاعتراض على الله سبحانه وتعالى في الحوادث؟.
قوله: "فإنْ تنجُ منها" يعني: من هذه المصيبة.
فإنْ تنجُ منها تَنْجُ من ذي عظيمة ... وإلاَّ فإنّي لا إخالُك ناجياً
يعني: لا أظنُّك تنجو من هذه الفتنة.
فهذا الباب في الحقيقة بابٌ عظيم، وبابٌ جليل، ومن أحب المزيد من هذا(15/112)
ص -247- ... الكلام الطيِّب فليراجع "زاد المعاد" في كلامه على غزوة أُحد، وما جرى فيها من المحنة على المسلمين، وما قاله المنافقون في هذه الغزوة.
فيُستفاد من هاتين الآيتين وتفسيرهما:
أولاً: أنّ حسن الظنّ بالله عزّ وجلّ واجبٌ من واجبات التّوحيد.
ثانياً: أن سوء الظنّ بالله سبحانه وتعالى ينافي التّوحيد أو ينافي كمالَه، ينافي أصلَه إذا زاد وكثُر واستمرّ، أو ينافي كمالَه إذا كان شيئاً عارضاً أو شيئاً خفيفاً أو خاطراً في النّفس فقط ولا يتكلّم به بلسانِه، أمّا إنْ تكلّم به بلسانِه فإنّه يكونُ منافياً للتّوحيد.
ثالثاً: فيه: إثبات القضاء والقدر، وأنّ ما يجري من المصائب والمحابّ والمكروهات والملاذ كلُّه بقضاء الله وقدره.
رابعاً: أن النّبي صلى الله عليه وسلم ليس له من الأمر شيء، فلا يتعلق به صلى الله عليه وسلم، وأنّما يُتعلّق بالله، لأنّ الأمر كلَّه لله جل وعلا، لا للرسول ولا لغيره، قد قال الله جل وعلا له: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ(128)}، لما دعا صلى الله عليه وسلم على أقوام من أهل مكّة فعاتبه الله قال:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ(128)}، وقد تاب الله عليهم وأسلموا، وحسُن إسلامُهم، وصاروا من قُوّاد الجهاد في الإسلام.
فهذا فيه: أنّ الأمر لله سبحانه وتعالى، فلا يُتعلّق إلاّ بالله جل وعلا، أمّا الرّسول- عليه الصلاة والسلام- فإنّه رسولُ الله، هو مبلِّغٌ عن الله تعالى رسالاته، وهذه وظيفة الرّسل عليهم الصلاة والسلام البلاغ والأمر بيد الله.
خامساً: فيها: إثبات الحكمة في أفعال الله سبحانه وتعالى، وأنّ الله لا يفعل شيئاً عبثاً.
سادساً: فيها: أنّ وعد الله جل وعلا لابدّ أن يتحقّق، ولا يتخلّف وعدُ الله سبحانه وتعالى أبداً، وهو وعد بأنّ هذا الدين سيظهر،(15/113)
وماذا كان الواقع؟، أليس الدين ظهر في المشارق والمغارب؟، أليس بلغ هذا الدين مبلغ الليل والنّهار؟، أليستْ دخلتْ فيه دول الأرض الكبرى: فارس والرّوم وبلاد الشّرق والغرب، هل بقي في الأرض مكان لم يصل إليه هذا الدين؟، هذا وعد الله عزّ وجلّ: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} ولم ينته أمره بوقعة أحد كما ظن ذلك المنافقون.(15/114)
ص -248- ... [ الباب الستون:]
* باب ما جاء في منكري القدر
وقال ابن عمر: "والذي نفس ابن عمر بيده؛ لو كان لأحدهم مثل أحد ذهباً، ثم أنفقه في سبيل الله؛ ما قبله الله منه، حتى يؤمن بالقدر".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب عقده الشيخ رحمه الله ليبيِّن أنّ الإيمان بالقدَر من الإيمان بربوية الله، وأنّ مَن أنكر القدر فقد أشرك في توحيد الربوبيّة، فالإيمان بالقدر من الإيمان بالربوبيّة، فالذي لا يؤمن به فإنه لا يؤمن بربوبيّة الله سبحانه وتعالى، لأنّه جَحد قدره وعلمَه وأنكر أن يكون ما يجري في هذا الكون بتقدير الله ومشيئَتِه، ووصف الله تعالى بالجهل وبالعجز، إلى غير ذلك.
والقدَر: مصدرُ (قدَرْتُ الشيء أقدره): إذا أحطت بمقداره.
فالقدَر هو: إحاطة الله سبحانه وتعالى بالأشياء وعلمُه بها قبل كونِها، ثم كتابتهُ لها في اللّوح المحفوظ، فكلّ ما يقع في هذا الكون فهو داخلٌ في علم الله سبحانه وتعالى الأزلي وفيما كتبه في اللّوح المحفوظ: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}، {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}، فكلُّ شيءٍ بقضاء الله وقدره ومشيئته وإرادته، لا يخرُج عن ذلك شيءٍ من الأشياء، وهو- أيضاً- مكتوبٌ في اللّوح المحفوظ.
وفي السنّة النبويّة أحاديث في الصّحاح وغيرها، ساق المصنِّف منها طَرَفاً في هذا الباب.
وأجمع على ذلك المسلمون، إلاّ من ضلّ وانحرف عن منهج السّلف مع الفرق الضالّة، وهؤلاء محجوجون بالكتاب والسنّة وإجماع الأُمّة.
قال: "وقال ابن عمر" ابن الخطاب رضي الله عنهما
"والذي نفسُ ابن عمر بيده" أقسم عبد الله بن عمر بالله سبحانه وتعالى لتأكيد الأمر وأهميته.
"لو كان لأحدهم مثلُ أحدٍ ذهباً ثم أنفقَه في سبيل الله ما قبِلَهُ الله منه حتى يؤمن بالقدر"(15/115)
سببُ مقالة ابن عمر هذه: أنّه لَمّا وُجد في آخر حياته رضي الله عنه مَنْ يُنكر القدَر، وسُئل عن ذلك، أجاب بهذا الجواب.(15/116)
ص -249- ... ثم استدل لقول النّبي صلى الله عليه وسلم: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره ". رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وذلك أنّه ظهر بالبصرة في آخر عصر الصّحابة بعد عهد الخلفاء الراشدين وبعد خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وفي آخر حياة ابن عمر وابن عبّاس وغيرِهما من الصّحابة ظهر بالبصرة رجلٌ يُقال له: مَعْبَد الجُهَني، يُنكر القدر، وكان يَحْيَى بن عمر وحُمَيْد بن عبد الرحمن الحِمْيَري: لَمّا ظهرت هذه المقالة بالبصرة قدمِا إلى الحجاز حاجّين أو معتمِرين، وقالا: "سنسأَل أوّل مَن نلقى من الصّحابة"، وهكذا المسلمون قديماً وحديثاً إذا أشكل عليهم شيء يرجعون إلى علمائهم ويسألونهم، ولا يستقلّون بالأمر، أو يكون لكلّ واحد منهم رأي، أو ينقسمون إلى جماعات وأحزاب، كلٌّ له قول، هؤلاء جاءوا من البصرة إلى مكّة المكرّمة بقصد مسألة واحدة مع ما في ذلك من مشقّة السفر وطول المسافة، لأنّ الأمر عظيم، يجب الرّجوع إلى أهل العلم فيه، فكان أوّل من لقيا: عبد الله بن عمر- رضي الله تعالى عنهما-، وقد وفّقهما الله لهذا الصحابي، العالِم الجليل، لقياه وهو يدخُلِ إلى المسجد الحرام، فأمسكا بكتفَيْه، فقالا: يا أبا عبد الرحمن، حَدَث عندنا في البصرة رجلٌ يقول كذا وكذا.
فكان جواب عبد الله بن عمر: أنّه أقسم بالله: "لو كان لأحدهم" أي: هؤلاء الذين يُنكرون القدر.
"مثل أحد ذهباً" هذا أبلغ تقدير وأكثر تقدير.
"ثم أنفقه في سبيل الله" النفقة في الجهاد في سبيل الله من أعظم النفقات أجراً، فهو مبلغٌ كبيرٌ صُرِف في مصرفٍ عظيم، يُرجى لصاحبِه الأجر العظيم، ولكن هؤلاء إذا أنفقوا هذا المبلغ في هذا المصرِف العظيم وهم يُنكرون القدر فإنّ الله لا يتقبّلُه منهم، لأنّهم لم يؤمنوا بالله عزّ وجلّ، والله لا يقبل إلاّ من المؤمنين: "ما قبله الله منه حتى يؤمن(15/117)
بالقدر" فدلّ هذا على كفرهم، لأنهم لم يؤمنوا بالقضاء والقدر.
وقوله: "ثم استدل " إلخ.. أي: لم يقل هذا القول من عنده بل لَمّا قال هذه المقالة العظيمة، ذكر دليلَها من سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلُّ مَن قال قولاً في الإسلام فلابدّ أن يذكُر دليلَه من كتاب الله أو من سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن له دليل فإنْه مردودٌ عليه.(15/118)
ص -250- ... ولذلك ابن عمر لَمّا ذكر هذه المقالة وهذا الجواب ذكر دليلَه من سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "حدّثني أبي" عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، "قال: بينما نحن جلوسٌ عند النّبي صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجلٌ شديدُ سواد الشعر، شديدُ بياض الثّياب، لا يُرى عليه أثرُ السفر، ولا يعرفُه منّا أحد، فجلس إلى النّبي صلى الله عليه وسلم، وأسند ركبتيه إلى ركبتيه" يعني: أسند ركبتيه إلى ركبتي النّبي صلى الله عليه وسلم مقابِلاً له جلوسَ المتعلِّم من المعلِّم، "ووضع يديه على فخذيه" تأدُّباً مع رسول الله، "وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟، قال: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسولُ الله، وتقيمَ الصلاة، وتؤتي الزّكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت إن استطعتَ إليه سبيلاً، فقال: صدقت، قال: فعجبنا له يسألُه ويصدِّقُه"، لأن من العادة أنّ السائل لا يكون عنده علم، فكونُه قال: "صدقتَ"، هذا دليلٌ على أنّه كان عالماً بالجواب.
ثم قال: "أخبرني عن الإيمان؟، قال: الإيمان أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتُبه، ورُسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدَر خيرِه وشرِّه، قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسألُه ويصدِّقُه.
ثم قال: أخبرني عن الإحسان؟، قال: الإحسان: أن تعبُد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك، قال: صدقت، فأخبرني عن السّاعة؟" يعني: متى قيام السّاعة؟، قال الرّسول صلى الله عليه وسلم: "ما المسؤولُ عنها بأعلم من السّائل" أي: أنا لا أدري وأنت لا تدري متى تقومُ السّاعة، لأنّ هذا من علم الله سبحانه وتعالى الذي اختصّ به، لا يعلمُه أحد، لا ملَك مقرّب ولا نبيٌّ مرسل، لا أفضل الملائكة وهو جبريل، ولا أفضل البشر وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
"قال: فأخبرني عن أماراتها؟" أي: "علامات السّاعة التي إذا حصلت فإنّ قيام السّاعة قريب، "قال: أن تَلِد الأَمَة ربَّتَها، وأن ترى الحُفاة العُراة العالة رعاة(15/119)
الشاة يتطاولون في البُنيان. قال: ثم خرج الرّجل، ولبثنا مليَّاً، ثم قال الرسول: "اطلبوا السّائل"، فخرجوا يطلُبونه فلم يجدوه. قال: "هذا جبريل أتاكُم يعلِّمكم دينكم" تمثّل صورة بشرٍ، وجاء من أجل أن يعلِّم الصّحابة دينهم عن طريق السّؤال والجواب يبنه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يسمعون.(15/120)
ص -251- ... والشّاهد من هذا الحديث: قولُه: "أخبرني عن الإيمان" وذكر في آخره: "وأن تؤمن بالقدَر خيرِه وشرَّه"، ذكر ستّة أركان للإيمان، وخمسة أركان للإسلام، وركناً واحداً للإحسان.
فأركان الإيمان: الإيمان بالله، وهو: التصديق الجازم بوحدانيّة الله سبحانه وتعالى، واستحقاقِه للعبادة وحدَه لا شريك له، وذلك يشمل أنواع التّوحيد الثلاثة: الإيمان بتوحيد الرّبوبيّة، والإيمان بتوحيد الأُلوهية، والإيمان بتوحيد الأسماء والصّفات.
فمن جحد نوعاً من هذه الأنواع لم يكن مؤمناً بالله عزّ وجلّ.
ويدخُل في ذلك: الإيمان بالقدَر، لأنّه من توحيد الرّبوبيّة، ومن أفعال الله سبحانه وتعالى، فهو داخلٌ في توحيد الرّبوبيّة، لكنه أفرده بالذكر تأكيداً له.
"وملائكته": تؤمن أنّ لله ملائكة، خلقهم سبحانه وتعالى من نور، خلقهم لعبادته: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ(20)}، ينفّذون أوامره سبحانه وتعالى في مُلكه، كلّ نوعٍ من الملائكة له عملٌ خاص في هذا الكون يأمر الله تعالى به، فمنهم من هو موكّل بالوحي، وهو جبريل عليه الصّلاة والسلام، ومنهم من هو موكّل بالقطر والنّبات، وهو ميكائيل، ومنهم من هو موكّل بالنفخ في الصّور، وهو إسرافيل، ومنهم من هو موكّل بالأجنّة في البُطون- بطون الأُمّهات-، وهو الملك الذي يأتي إلى الجنين في بطن أُمِّه حينما يكمل الشهر الرّابع فينفخ فيه الرّوح، ثم يُؤمر بأربع كلمات: بكتْب رزْقِه، وأجلِه، وعملِه، وشقيٌّ أو سعيد.
ومنهم من هو موكّل بحفظ أعمال بني آدم خيرِها وشرِّها، وكتابتها: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ(10) كِرَاماً كَاتِبِينَ(11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ(12)}.
ومنهم من هو موكّل بحفظ بني آدم من المؤذيات: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}.
إلى غير ذلك من الأعمال التي لا يعلمُها إلاّ الله سبحانه وتعالى.
فالإيمان(15/121)
بالملائكة من الإيمان بالغيب، لأننا لا نراهم ولكن الله أخبرَنا عنهم وأخبرنا عنهم رسولُه صلى الله عليه وسلم، فنحنُ نؤمن بهم.
ومن لم يؤمن بالملائكة أو لم يؤمن ببعضهم؛ فإنّه كافرٌ بالله عزّ وجلّ.(15/122)
ص -252- ... "وكتبه" وهي: الكتب التي أوحاها الله تعالى إلى رُسله، مثل: التوراة والإنجيل والقُرآن والزَّبور، وصحف إبراهيم، إلى غير ذلك من الكتب التي ينزّلها الله على رسله بواسطة جبريل- عليه الصلاة والسلام-، فيها أوامرُ الله سبحانه وتعالى ونواهيه، وفيها إصلاح البشريّة.
فمن لم يؤمن بالكتب من أوّلها إلى آخرها فإنّه كافر: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ(136)}، فلابدّ من الإيمان بجميع الكُتب.
فمن لم يؤمن بالكتب أصلاً وهم الدهريّون والوثنيّون فهم أكفرُ الخلْق.
ومن آمن ببعض الكتب وكفر ببعضها كاليهود والنصارى فهم كفّار أيضاً.
إنّما الإيمان هو: الإيمان بجميع الكتب من أوّلها إلى آخرِها: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
فالذي يكفُر بكتابٍ واحد من كتب الله يكون كافراً بالجميع.
"ورسله" كذلك يجب الإيمان بجميع الرّسل من أوّلهم إلى آخرهم، من سمّى الله منهم ومن لم يسمِّ، نؤمن بجميع الرّسل- عليهم الصّلاة والسلام-.
فمن آمن ببعضهم وكفرَ ببعضهم فهو كافرٌ بالجميع، كحالة اليهود والنصارى الذين يكفُرون بمحمّد صلى الله عليه وسلم، واليهود يكفُرون بعيسى وبمحمَد- عليهما الصّلاة والسّلام-.
وكذلك من لم يؤمن بالرّسل أصلاً كالوثنيين والدهريّين والملاحدة: أغرقُ في الكفر وأبعد في الكفر -والعياذ بالله-.
"واليوم الآخر" يوم القيامة، يجب الإيمان باليوم الآخِر، وهو: ما بعد الموت ممّا أخبر الله تعالى به وأخبر به رسولُه صلى الله عليه وسلم من أحوال البَرْزَخ، ثم البعث(15/123)
والنُّشور، والقيام من القُبور، ثم الوُقوف في المحشَر، ثم الحساب، ثم الميزان، ثم تطايُر الصحُف فالمؤمن يأخُذ كتابه بيمينِه وغير المؤمن يأخذ كتابه بشمالِه، ثم المُرور على(15/124)
ص -253- ... الصّراط، ثم الاستقرار في الجنّة أو في النّار، هذا كلُّه يشمله الإيمان باليوم الآخِر.
فمن لم يؤمن باليوم الآخر فإنّه ولو امن بالله وملائكته وكتبه ورسله إذا جحد البعث واليوم الآخر كان كافراً بالجميع.
"وتؤمن بالقدر" هذا هو محلّ الشّاهد، وهو أن تؤمن بقضاء الله وقدره، وأنّه لا يجري في هذه الكون شيءٌ إلاّ وقد علمه الله في الأزَل وكتبه في اللّوح المحفوظ وشاءه وأراده سبحانه وتعالى ثم خلقَه وأوجَدَه.
فالإيمان بالقضاء والقدر يتضمن أربع مراتب:
المرتبة الأولى: الإيمان بعلم الله الأزَلي بكل شيء، وأنّه يعلم سبحانه وتعالى ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، كلُّ ذلك يعلمُه الله سبحانه، لا يخفى عليه شيء: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}، {أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً}، والله جل وعلا لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ(5)}، {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(3)} فالإيمان بأنّ الله عالمُ بكلّ شيء لابدّ منه. ومن جحد علمَ الله فهو كافر.
المرتبة الثانية: أن الله كتب في اللّوح المحفوظ كلّ شيء. فالذي يُنكر الكتابة في اللّوح المحفوظ لم يكن مؤمناً بالله سبحانه وتعالى ولم يكن مؤمناً بالقدَر.
المرتبة الثالثة: إرادة الله ومشيئتُه للأشياء، فكل شيء يقع ويوجد فهو بإرادة الله.
المرتبة الرّابعة: خلْق الأشياء، فكلّ شيء في هذا الكون فهو من خلْق الله سبحانه {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ(96)}، {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ(62)}، فكلّ شيء في هذا الكون فهو من خلْقه سبحانه وتعالى، من خيرٍ أو شر، من كفرٍ وإيمان، طاعة ومعصية، غنىً أو فقر، مرض أو صحّةً، حياة أو موت، إلى غير(15/125)
ذلك.
لكنِ الشر بالنسبة إليه لا يكون شرَّاً، لأنّه خلقه لحكمة ووضعه في موضعه، فهو بالنسبة إليه ليس شرَّاً، وإنّما هو شرِّ بالنسبة لمن وقع عليه ومن قُدِّر عليه بذُنوبه ومعاصيه، فإنّه شرٌّ بالنسبة للمحلّ الذي يقع عليه، أما بالنسبة لله فهو خير، لأنّه عدلٌ منه سبحانه.(15/126)
ص -254- ... فالحاصل؛ أنّ كل ما يقع في هذا الكون فهو عدلٌ ورحمةٌ وخيرٌ من الله سبحانه وتعالى وإنْ كان ضرراً وعقوبةً وشرَّاً بالنسبة لمن وقع عليه ذلك.
هذه مراتب الإيمان بالقدر، وأهل السنّة والجماعة يؤمنون بها كلّها.
أمّا القدرية النُّفاة فهم على قسمين- والعياذ بالله-:
القسم الأول:- وهم القدماء منهم- ويسمّون (غُلاة القدريّة): فإنّهم يُنكروا علمَ الله، ويقولون: (إنّ الله لا يعلم الأشياء قبلَ وقوعِها، إنّما يعلمها إذا وقعت وحصلت"، ويُنكرون عِلمَ الله القديم الأزَلي بالأشياء قبلَ كونِها.
فيكونون بذلك: قد كفروا وخرجوا من الملّة، لأنهم أنكروا علم الله سبحانه وتعالى، ومن أنكر علم الله فهو كافر.
القسم الثاني: من يقرّ بعلم الله الأزليّ، لكن يقول: إنّ الله لم يقدِّر هذه الأشياء وإنّما النّاس هم الذين يفعلونها ويستقلّون بإيجادها وخلقها، كلٌّ يخلق فعل نفسه وهؤلاء أخفّ من الأوّلين، لكنّهم ضلاّل، لأنّهم أنكروا خلق الله، وهم متأخِّروا القدرية.
ولذلك سمّوا (مجوس هذه الأمة)، لأنّ المجوس يقولون: "إنّ الكون له خالقَان: خالق الخير والشر".
والمعتزلة الذين يقولون: "إنّ الله لم يخلق أفعال العباد، وإنّما هم الذين خلقوها"، أثبتوا خالقِيْن كثيرين، وصاروا شرًّا من المجوس، لأنّ المجوس إنّما أثبتوا خالقَيْن وهؤلاء أثبتوا خالقِيْن كثيرين.
ولا يجوز للمسلم أن يدخل في تفاصيل القدر ويفتح على نفسه باب الشُّكوك والأوهام، بل يكفيه أن يؤمن بالقدَر كما أخبر الله سبحانه وتعالى وكما أخبر رسولُه صلى الله عليه وسلم أنّ كلَّ شيء بقضاء الله وقدره، ولا يدخل في التفاصيل والأسئلة: لماذا كذا ولماذا كذا، لأنّه لن يصل إلى نتيجة، لأنّ الأمر كما يقول عبد الله بن عبّاس- رضي الله تعالى عنهما-: "القدر سِرُّ الله " سِرٌّ لا يعلمه إلاّ الله سبحانه وتعالى.
فالواجب علينا: أن نؤمن به، ولا ندخل في تفاصيله، بل نكتفي بالإيمان به على ما(15/127)
جاء في الدليل من كتاب الله وسنّة رسوله.(15/128)
ص -255- ... وعن عبادة بن الصامت؛ أنه قال لابنه: يا بني، إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعلينا العمل بطاعة الله وامتثال أمره واجتناب نهيه. هذا الذي كلّفنا به، ولم نكلّف بالبحث عن القدر، ولا نترك العمل ونقول: ما قُدّر لنا فسيحصل.
لذلك لَمّا أخبر النّبي صلى الله عليه وسلم أنّ كلّ أحد مقرّرٌ مكانه من الجنّة أو من النّار قالوا: يا رسول الله إلاَ نتكل على كتابنا؟، قال صلى الله عليه وسلم: "اعملوا فكلّ ميسّر لِمَا خُلِق له"، وأنزل الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى(6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى(7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى(8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى(9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى(10)}.
فأنت المطلوب منك: العمل والإيمان بالقضاء والقدر، وأنت قادرٌ على العمل، وممكّنٌ من العمل، فعليك أن تعمَل الخير وتترك الشّر، وتتوب من السيّئات وتكثر من الحسنات، هذا المطلوب منك، أمّا البحث في هذه الأمور التي لا يعلمها إلاّ الله سبحانه وتعالى والدّخول في هذه المخاصمات فهذا يؤدِّي إلى الضّلال ويؤدِّي إلى التِّيه، لأنّ الله سبحانه وتعالى لم يطلُب منّا هذه الأشياء، وإنّما أمرنا بالعمل، هذا الذي أمرنا الله به، أمرنا بالإيمان وأمرنا بالعمل، هذا المطلوب من المسلم.
قوله: "وعن عُبادة بن الصّامت" الصحابي الجليل، من السّابقين الأوّلين إلى الإسلام، وأحد النقباء المعروفين.
"أنه قال لإبنه" وهو الوليد بن عُبادة بن الصامت قال له ذلك عند وفاته لما قال له ابنه الوليد: يا أبت أوصني، فقال: أقعدوني، فأقعدوه، فقال هذا الحديث في القدر.
"يا بني" (يا): هذه حرف نداء، و (بُني) تصغير (ابن)، وذلك من أجل العطف والشَّفقة، مثل قول لقمان: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ(15/129)
وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ}، فالأب يوصي أولاده بتقوى الله عزّ وجلّ، وبالتمسّك بالدين والعقيدة، هذا من واجب الآباء نحو أبنائهم، أن يوصوهم بتقوى الله وبإصلاح العقيدة وبالتمسُّك بالدين والأخلاق الفاضلة.(15/130)
ص -256- ... سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب. فقال: رب، وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"إنّك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أنّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليُصيبك" طعم الإيمان: حلاوته ولذته، وذلك لأنّ الإنسان إذا آمن أنّ ما يجري عليه فهو بقضاء الله وقدره؛ فإنّه يستريح، لا يجزع عند المصيبة، ولا يفرح فَرَح بَطَرٍ عند النعمة، لأنّه يؤمن أنّ هذا بقضاء الله وقدره، فيرتاح ضميرُه وتطمئنّ نفسُه ولا يجزع ولا يسخط، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(11)}، قال علقَمة: "هو الرجل تُصيبه المصيبة فيعلم أنّها من عند الله فيرضى ويسلِّم".
فمن آمن بالقضاء والقدر فإنّه يجد طعم الإيمان وراحة الإيمان عند الشدائد والمصائب والمنغِّصات، فلا يكون فيه جزع ولا تسخُّط ولا تضايُق، وإنّما يؤمن أنّ هذا قضاء وقدر وأنّه لابدّ منه.
أمّا الذي لا يؤمن بالقضاء والقدر فإنّه يُصبح في قلق وفي همْ. فإذا أصابه شيء فإنّه يجزع ويسخط ويلوم نفسَه: لماذا لم أعمل كذا؟، ليتني عملت كذا، ليتني فعلتُ كذا، ثم يُصبح في عذاب أشدّ من ألم المصيبة.
ثم قال: "سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّ أوَّلَ ما خلَق الله القلم، فقال له: اكتب، فقال: ربِّ، وماذا أكتبُ؟" القلم هو: خلق من خلق الله سبحانه وتعالى، لا يعلم مقداره وصفته وكيفيّته إلاّ الله سبحانه وتعالى، لأنّه من عالم الغيب.
والمكتوب فيه هو: اللوح المحفوظ، ففيه: قلم، وفيه كتابة، وفيه مكتوب فيه وهو اللّوح المحفوظ.
"فقال له: اكتب مقادير كلّ شيء حتى تقوم السّاعة" فهذا فيه: أنّ كلّ ما يجري في هذا الكون فهو مكتوبٌ بالقلم- بقلم المقادير- في اللّوح(15/131)
المحفوظ، من أوّل الخلق إلى آخر الخلق، حتّى تقوم السّاعة، لا يخرُج عن هذا شيءٌ في هذا الكون أبداً، لا في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل، لا من الخير ولا من الشّر، لا من المحبوب ولا من المكروه، كلّه مكتوبٌ ولابدّ أن يقع.(15/132)
ص -257- ... يا بني، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات على غير هذا فليس مِنِّي ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنّ أوّل ما خلق الله القلم" يدلّ بظاهره على أنّ القلم أوّل المخلوقات، ولكن هناك أحاديث تدلّ على أنّ العرش هو أوّل المخلوقات مثل حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألفَ سنة وكان عرشُه على الماء"، وكذلك في حديث عِمران بن حُصين في "الصحيحين" وغيرهما ما يدلّ على أنّ أوّل المخلوقات هو العرش، وهذا الحديث دلَّ على أن أوّل المخلوقات هو القلم، فكيف الجمع بين الأحاديث؟.
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأوّل: أنّ أوّل المخلوقات هو العرش، وأنّ القلم خُلق بعده، فيكون قوله صلى الله عليه وسلم: "إنّ أوّل ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب"" أن الكتابة متعقِّبة لخلق القلم، فهي جارية من أوّل ما خلق الله القلم.
والقول الثّاني: العمل بظاهر هذا الحديث، وأنّ القلم هو أوّل المخلوقات مطلقاً، قبل العرش، لأنّ هذا هو ظاهر هذا الحديث، وهذا قولٌ لجمعٍ من أهل العلم.
ولكن الراجح الذي رجّحه شيخُ الإسلام ابن تيمية وابن القيِّم وغيرُها هو: أنّ العرش هو أوّل المخلوقات، وأنّ القلم بعده1.
ثم قال عُبادة رضي الله عنه: "يا بُني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات على غيرِ هذا فليس مِنِّي"" من مات على غير الإيمان بالقضاء والقدر ولم يتب إلى الله سبحانه وتعالى قبل موته فإنّ محمداً صلى الله عليه وسلم بريءٌ منه. فهذا وعيدٌ شديد حيث تبرّأ منه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال ابن القيم:
والنّاس مختلفون في القلم الذي ... كتب القضاء به من الديان
هل كان قبل العرش أو هو بعده ... قولان عند أبي العلا الهمذاني(15/133)
والحق أن العرش كان قبل لأنه ... وقت الكتابة كان ذا أركان(15/134)
ص -258- ... وفي رواية لأحمد: "إن أوّل ما خلق الله تعالى القلم، فقال له: اكتب. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة".
وفي رواية لابن وهب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره؛ أحرقه الله بالنار".
وفي "المسند" و"السنن " عن ابن الديلمي؛ قال: "أتيت أبيّ بن كعب فقلت: في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال: "وفي رواية لأحمد: "إنّ أوّل ما خلق الله تعالى القلم، فقال له: اكتب. فجرى في تلك الساعة بما هو كائنٌ إلى يوم القيامة"" رواية أحمد مثل رواية أبي داود والترمذي، وفيها: أنّ الله جل وعلا أمر القلم عندما خلقه أن يكتب مقادير الأشياء، إلاّ أنّ لفظة رواية أحمد: "إلى يوم القيامة"، والرواية التي قبلها: "إلى أن تقوم الساعة" والمعنى واحد، الساعة ويوم القيامة بمعنىً واحد، ولكن هذا من باب التأييد للروايات بعضها ببعض.
"ولابن وهب" عبد الله بن وهب: الإمام المحدِّث، من أصحاب الإمام مالك، توفّي على رأس المائة الثّانية، وله مؤلّفات مشهورةٌ في الحديث والرّواية.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنّار" هذا نوعٌ آخر من الوعيد، وهو أنّ من أنكر القضاء والقدر فإنّ الله يُحرقه بالنّار، فدلّ على أنّ الإيمان بالقضاء والقدر أمرٌ واجب، وأنّ إنكاره موجبٌ لدخول النّار إمّا لكفره وإمّا لبدعته، فالمنكر للقضاء والقدر إنْ كان مع هذا يجحد علم الله جل وعلا فهذا كفر كما عليه غُلاة القدرية، لأنّهم ينكرون علم الله جل وعلا، ويقولون: "إنّ الله لا يعلم الأشياء إلاّ إذا وقعت، والأمرُ أُنُف" يعني: مستأنَف لم يسبق له تقديرٌ ولا علم، هذا كفرٌ صريح.
أمّا إن كانوا يقرّون بالعلم ويُنكرون القدر فهذا بدعة شنيعة والعياذ بالله، قد تقرُب من الكفر، وهو ما عليه متأخِّروهم.
قال: "وفي المسند(15/135)
والسنن" المسند هو: "مسند الإمام أحمد"، والمراد بالسنن هنا: "سنن أبي داود" و"سنن ابن ماجه".(15/136)
ص -259- ... فقال: لو أنفقت مثل أحد ذهباً ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو متّ على غير هذا لكنت من أهل النار.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"عن ابن الدَّيْلَمي" ابن الدَّيْلَمي هو: عبد الله بن فَيْرُوز الدَّيْلَمي، أحد كبار التّابعين، وأبوه فيروز الذي قتل الأسود العَنْسي الذي ادّعى النبوّة في اليمن، والديلمي نسبة إلى جبل الدَّيْلَم في بلاد فارس، فأصلُه فارسيّ، ممّن جاءوا إلى اليمن من الفُرس، وأسلم وحسُن إسلامُه، وابنُه من كبار التّابعين والأئمّة المشهورين رحمه الله.
قال: " أتيتُ أُبيَّ بن كعب" الأنصاري، الصحابيّ الجليل، أقرأ الصّحابة لكتاب الله عزّ وجلّ.
"فقلتُ: في نفسي شيءٌ من القدَر" هكذا طلبةُ العلم الذين يبحثون عن الحقيقة، ويبحثون عن العلم النّافع إذا أشكل عليهم شيء، لا يَعْتَمدون على رأيِهم، وإنّما يرجعون إلى أهل العلم، فهذا ابن الدّيلمي رجع إلى الصّحابة لَمّا أشكل عليه أمرُ القدر.
"فحدِّثني بشيء" يعني: أخبرني بشيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنّ أُبيّ بن كعب من خواصّ صحابة الرّسول صلى الله عليه وسلم.
"لعلّ الله أن يُذهبُه من قلبي" هذا دليلٌ على أنّ الإشكال يزول بالعلم، وعلى أن الوساوس تزول بالعلم النّافع، لا شفاء لها إلاّ العلم، والعلم إنّما يطلب عند أهله، لا يطلب من المتعالمين والمبتدئين والصحافيّين الذين يعتمدون على قراءة الكتب، هؤلاء قُرّاء، وليسوا علماء، وما يُخطئون فيه أكثر ممّا يصيبون، فلابدّ من الرّجوع إلى أهل العلم الرّاسخون في العلم.
"فقال: لو أنفقتَ مثل أُحدٍ ذهباً ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدَر" لأنّ العمل وإن كان جليلاً فإنّه لا يُقبل إلاّ إذا صحّت العقيدة، ومن صحّة العقيدة: الإيمان بالقضاء والقدر، لأنّه من أركان العقيدة، كما مرّ في حديث عمر بن الخطّاب في سؤالات جبريل(15/137)
للنّبي صلى الله عليه وسلم.
"وتعلم أنّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليُصيبك" الله(15/138)
ص -260- ... قال: فأتيت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت؛ فكُلُّهم حدثني بمثل ذلك عن النّبي صلى الله عليه وسلم "حديث صحيح، رواه الحاكم في "صحيحه".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أكبر!، تطابقت كلمة أبيّ بن كعب مع كلمة ابن عمر ومع كلمة عُبادة بن الصّامت - رضي الله عن الجميع-، لأنّهم يأخذون من مصدر واحد وهو سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يقولون شيئاً من عند أنفسهم.
"ولو مِتّ على غير هذا لكنتَ من أهل النار" هذا- أيضاً- مطابِق لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي مرّ قريباً: "من لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنّار".
قال: "فأتيت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت " هؤلاء أقطاب من أقطاب العلم، من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويُروى: أنّ أُبيّ بن كعب أحاله إلى عبد الله بن مسعود، ولَمّا أجابه عبد الله بن مسعود أحاله على حُذيفة بن اليمان، ولَمّا أجابه حُذيفة بن اليمان أحاله على زيد بن ثابت، فكلّ واحد منهم يُحيلُه على أخيه لأجل أن يزول ما في قلبِه.
يقول ابن الديلمي: "فكلهم حدّثني بمثل ذلك عن النّبي صلى الله عليه وسلم" أنّ الإيمان بالقضاء والقدر أمرٌ لابدّ منه، ولا يقبل الله من أحدٍ عملاً إلاّ به، ومن لم يؤمن به فهو من أهل النّار، نسأل الله العافية والسّلامة.
فيُستفاد من هذه الأحاديث التي أوردها المصنِّف رحمه الله في هذا الباب فوائد عظيمة:
الفائدة الأولى: وُجوب الإيمان بالقضاء والقدر، وأنّ ذلك من أركان الإيمان الستّة.
الفائدة الثانية: أنّ الله سبحانه وتعالى كتب مقادير الأشياء في اللوح المحفوظ بعد علمه بها سبحانه وتعالى أزَلاً، ففيه: ثُبوت كتابة القدر في اللّوح المحفوظ.
الفائدة الثالثة: أنّ القلم من أوّل المخلوقات، وهل هو قبل العرش أو بعده؟، على القولين السّابقين، والرّاجح: أن العرش هو السّابق.
الفائدة الرابعة: أنّ من لم(15/139)
يؤمن بالقضاء والقدر فهو إمّا كافر وإمّا مبتدع، إمّا كافر إنْ كان ينكر العلم، أو مبتدع إنْ كان لا يُنكر العلم، وذلك لأُمور:(15/140)
ص -261- ... أوّلاً: أنّ الله لا يقبَلُ منه النفقة في سبيله ولو كثرت.
ثانياً: براءة الرّسول صلى الله عليه وسلم منه.
ثالثاً: أنّ الله توعّده بالنّار: "أحرقه الله بالنّار"، "لو مِتّ على غير هذا لكنت من أهل النّار".
فهذه الأمور الثلاثة كلّها تدلّ على شناعة إنكار القضاء والقدر.
الفائدة الخامسة: في الحديث دليلٌ على وُجوب الرُّجوع إلى أهل العلم عندما يعرِض للإنسان مشكِلة، فإنّها لا تزول إلاّ بالرجوع إلى أهل العلم، وذلك لقوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.
الفائدة السادسة: في هذه الأحاديث دليلٌ على أنّ أهل العلم لا يقولون إلاّ بما دلّ عليه الدّليل من كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فابن عمر استدلّ بالحديث الذي رواه أبوه في دخول جبريل على النّبي صلى الله عليه وسلم وسؤاله إيّاه، وفي آخره: "وتؤمن بالقدر خيرِه وشرِّه"، وحذيفة بن اليَمان يقول: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات على غير هذا فليس مِنِّي".
كذلك الصّحابة الذين ذهب إليهم ابنُ الدّيلمي، وهم: أُبيّ بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليَمان، وزيد بن ثابت، كلُّهم يحدِّثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدلّ على أنّ أهلَ العِلم إذا أفتوا بفتوى أو قالوا مقالاً أو أجابوا بإجابة علميّة أنّهم يُسندونها إلى الدّليل من كتاب الله ومن سنّة رسولِه صلى الله عليه وسلم، لاسيّما إذا كانت من أُمور العقائد، فإنّ العقائد توقيفيّة لا يصلُح فيها شيءٌ من الاجتهاد، وإنّما هي أمورٌ توقيفيّة.(15/141)
ص -262- ... [الباب الواحد والستون:]
* باب ما جاء في المصورين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب عقده المصنِّف رحمه الله في "كتاب التّوحيد" لأنّ التصوير سببٌ من أسباب الشّرك، ووسيلةٌ إلى الشّرك الذي هو ضدّ التّوحيد، كما حدث لقوم نوح لَمّا صوّروا صور الصالحين ونصبوها في مجالسهم وآل بهم الأمر إلى أنْ عبدوهم من دون الله، فأوّلُ شركٍ حصل في الأرض كان بسبب الصور وبسبب التّصوير.
وكذلك قوم إبراهيم الذين بعث إليهم الخليل- عليه الصلاة والسلام- كانوا يعبدون التماثيل التي هي صور مجسّمة لذوات الأرواح، وكذلك بنو إسرائيل عبدوا التمثال الذي هو على صورة عجل صنعه لهم السامري.
فدلّ هذا: على أنّ التصوير سببٌ لحُدوث الشرك ووسيلةٌ إلى الشّرك، وذلك أنه إذا صنعت الصورة وعلِّقت أو نُصبت وهي صور للزُّعماء والصّالحين والعلماء فإنّها في النهاية تعظُّم، ثم الشيطان يأتي النّاس ويقول لهم: إنّ هذه الصور فيها نفعٌ لكم، وفيها دفعُ ضرر، فيعظِّمونها ويتبرّكون بها، ويذبحون لها وينذرون لها، حتى تُصبح أوثاناً تعبد من دون الله.
فلهذا السبب عقد المصنِّف رحمه الله هذا الباب في "كتاب التّوحيد"، لأنّ هذا الكتاب في بيان التّوحيد وبيان الشرك ووسائل الشرك، ومن أعظم وسائل الشرك وأسبابِه التّصوير ونصب الصور وتعليقها.
فقوله رحمه الله: "باب ما جاء في المصوِّرين" يعني: من الوعيد الشديد والنّهي والزّجر عن ذلك.
قال: "عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى"" مثل هذا الحديث الذي يرويه النّبي صلى الله عليه وسلم عن ربّه يسمّى بالحديث القُدْسي، نسبةً إلى القدس وهو الطهر، لأنّه من كلام الله سبحانه وتعالى الذي رواه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم.
والأحاديث القدسيّة معروفة عند أهل العلم، وأُلِّفتْ فيها مؤلّفات، جُمعت فيها الأحاديث القدسيّة، منها ما هو صحيح، ومنها ما هو دون(15/142)
ذلك.
وهذا الحديث من الأحاديث القدسيّة الصحيحة لأنّه في "الصحيحين ".(15/143)
ص -263- ... عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: ومن أظلم ممّن ذهب يخلُق كخلقي؛ فليخلقوا ذرّة، أو ليخلُقوا حبّة، أو ليخلُقوا شعيرة" أخرجاه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فقوله: "قال الله تعالى" هذا فيه إثبات الكلام لله عزّ وجلّ، وأنّه يقول ويتكلّم كما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، ليس ككلام المخلوق، وإنّما هو كلام الخالق جل وعلا.
"ومن أظلم ممّن ذهب يخلق كخلقي" هذا استفهام إنكار بمعنى النفي، أي: لا أحد أشدُّ ظلماً من المصوِّر، مثل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً}، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْأِسْلامِ} أي: لا أحد اظلم من هذا، فهو أظلمُ الظّالمين.
قوله تعالى: "يخلُق كخلقي" يعني بذلك المصوِّر، لأنّ المصور يحاول أن يوجد صورة تشبه الصورة التي خلقها الله سبحانه وتعالى، لأنّ الله جل وعلا تفرّد بالخلْق، وتفرّد بالتّصوير: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ}، {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ}، {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}، فالله جل وعلا هو المصوِّر، فالذي يحاول أن يضع شكلاً يشبه الصورة التي خلقها الله جل وعلا يجعل نفسَه شريكاً لله في التّصوير، ولهذا يجعل الصورة على شكل المصوِّر من إنسان أو حيوان، فيجعل لها رأساً ووجهاً وعينين وأنفاً وشفتين وأُذنين ويدين ورجلين، ثم يلوِّنُها بالتلوينات إذا كانت رسماً، وإن كانت بناءً فإنّه يبني تمثالاً مكوّناً من أعضاء وتقاطيع يحاولُ بها مشابهة خلق الله سبحانه وتعالى ومشاركة الله جل وعلا فيما اختصّ به وتفرّد به، فإنّ الله جل وعلا هو الخالق وحدَه، لا أحد يخلُق غيرُه: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ(15/144)
الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ}.
هو يستطيع أن يرسم شكلاً أو يبني تمثالاً، ولكنّه لا يستطيع أن يجعله حيَّاً متحركاً عاقلاً مفكِّراً يأكُل ويشرب ويعمل كما يعمل خلقُ الله سبحانه وتعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}.
وقوله: "فليخلقوا ذرة" هذا أمر تعجيز وتحدٍّ، وهو تحدٍّ قائم إلى يوم القيامة.(15/145)
ص -264- ... ولهما عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أشدُّ النّاس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"أو ليخلُقوا حبّة" حبّة من النّبات: حبّة بُرّ أو دخن أو غير ذلك من الحبوب.
"أو ليخلُقوا شعيرة" أي: حبّة شعير، هم يستطيعون أن يعملوا صورة حبّة، صورة شعيرة، صورة ذرّة، لكن لا يستطيعون أن يجعلوا فيها الخواصّ التي يجعلها الله في هذا المخلوق، وإنّما عمله أن يستطيع أن يجعل مجرّد شكل ورسم أو تمثال فقط.
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى}، فالله وحده يجعل حبّة فيها خصائص الحبّة من الحياة والنموّ والطعم، لأنّ الحبّة فيها حياة، ولذلك إذا بُذِرَتْ نبتَتْ، وتسمّى حياة نموّ، أمّا حياة الحيوان فإنّها تسمّى حياة حركة، فالحياة على قسمين: حياةُ حركة، وهذه في ذوات الأرواح، وحياةُ نموّ وهي في الحبُوب والبُذور التي جعلها الله سبحانه وتعالى لإنباتِ الأشياء.
ولو أن هذا الإنسان الذي يسمّونه الفنّان صرف جهده لأشياء نافعة، صرف جهده لاختراع، صناعة تنفع، ينفع نفسه وينفع النّاس بها لكان هذا عملاً جيِّداً، ومع النيّة والإيمان يكون عبادة ويؤجَرُ عليها.
أمّا أنْ يصرف جُهده ووقته وتعلُّمه في إيجاد هذه الصور ونحت هذه الصور فهذا عبثٌ فارغ وعملٌ محرّم، وهو ملعون على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أشدّ النّاس عذاباً يوم القيامة، فبئسما اختار لنفسه من هذا الفنّ الممقوت.
"أخرجاه" أي: أخرجه البخاري ومسلم- رحمهما الله-.
"ولهما" أي: البخاري ومسلم: "أشدّ النّاس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله ".
قوله صلى الله عليه وسلم: "أشدّ النّاس عذاباً يوم القيامة" في الحديث الأوّل: "ومن أظلم"، وفي هذا أنّهم أشدّ النّاس عذاباً يوم القيامة، فيدلّ على أنّ التصوير حرامٌ مغلّظ التحريم وأنّه كبيرة من كبائر(15/146)
الذُّنوب، فهذا الذي يعتبرونَه فنَّاً ويتعلّمونه ويتفاخرون به هو أعظم الذُّنوب.(15/147)
ص -265- ... ولهما عن ابن عبّاس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلُّ مصوِّرٍ في النّار، يُجعل له بكلّ صورة صوّرها نفسٌ يعذّب بها في جهنّم ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهم أشدّ النّاس عذاباً يوم القيامة إن لم يتوبوا إلى الله عزّ وجلّ.
"الذين يضاهئون بخلق الله" "يضاهئون" يعني: يحاولون أنْ يوجدوا صورة تشبه خلق الله سبحانه وتعالى، فالمضاهاة معناها: المشابهة، كما قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} يعني: يشابهون من سبقهم من الكُفّار.
فهذا فيه: بيان علّة تحريم التصوير؛ أنّ فيه مضاهاة لخلق الله تعالى وإساءة أدب مع الله عزّ وجلّ.
قال: "ولهما عن ابن عبّاس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلُّ مصوِّرٍ في النّار، يُجعل له بكلّ صورة صوّرها نفسٌ يعذّب بها في جهنّم".
هذا الحديث- أيضاً- فيه وعيدٌ شديد؛ فقوله: "كلّ مصوّر" هذا يشمل جميع أنواع التصوير، سواءً كان نحتاً وتمثالاً، وهو ما يسمّونه: مجسّماً، أو كان رسماً على ورق، أو على لوحات، أو على جُدران، أو كان التقاطاً بالآلة الفوتوغرافية التي حدَثت أخيراً، لأنّ من فعل ذلك يسمّى مصوِّراً، وفعله يسمّى تصويراً، فما الذي يخرج التصوير الفوتوغرافي كما يزعم بعضهم.
فما دام أنّ عمله يسمّى تصويراً فما الذي يُخرِجُه من هذا الوعيد؟.
وكذلك قوله: "بكل صورة صوّرها" عامٌّ أيضاً لكل صورة أيًّا كانت، رسماً أو نحتاً، أو التقاطاً بالآلة، غاية ما يكون أنّ صاحب الآلة أسرع عملاً من الذي يرسُم، وإلا فالنتيجة واحدة، كلٌّ من هؤلاء قصده إيجاد صورة، فالذي ينحت أو يبني التمثال قصده إيجاد صورة، والذي يرسم قصده إيجاد صورة، والذي يلتقط بالكاميرا قصده إيجاد الصّورة، لماذا نفرّق بينهم(15/148)
والرّسول صلى الله عليه وسلم يقول: "كلُّ مصوِّرٍ في النّار؟"، ما هو الدليل المخصص إلاّ فلسفة يأتون بها، وأقوالاً يخترعونها يريدون أن يخصّصوا كلام الرّسول صلى الله عليه وسلم برأيهم، والمحذور الذي في الصور الفوتوغرافية والتمثاليّة أو المرسومة هو محذور واحد، وهو أنّها وسيلةٌ إلى الشرك، وأنّها مضاهاةٌ لخلق الله تعالى، كلٌّ منهم مصوِّر، والنتيجة واحدة، والمقصود واحد، فما الذي(15/149)
ص -266- ... يخصّص صاحب الآلة عن غيره؟، إن لم يكن صاحب الآلة أشد، لأنّ صاحب الآلة يأتي بالصورة أحسن من الذي يرسم، فهو يحمّضُها ويلوّنُها، ويتعب في إخراجها حتى تظهر أحسن من التي تُرسم، فالمعنى واحد، ولا داعي لهذا التكلُّفَ أو هذا التمحُّل في التفريق بين الصور.
ومعلومٌ أنّ كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يخصّص إلاّ بدليل من كلام الله أو كلام رسوله، لا باجتهادات البشر وتخرُّصات البشر وفلسفات البشر، هذا مردود على صاحبه، وهذا معروف من أُصول الحديث وأُصول التفسير أنّ العامّ لا يخَصَّص إلاّ بدليل، ولا يخصّص العامّ باجتهادات من النّاس يقولونها، هذه قاعدة مسلّمةٌ مجمَعٌ عليها، فما بالُهم تغيب عنهم هذه القاعدة ويقولون: "إن التصوير بالآلة الفوتوغرافية لا يدخل في الممنوع" إلى آخره؟، كلّ هذا كلام فارغ لا قيمة له عند أهل العلم وعند الأُصوليّين. القواعد الأُصولية تأبى هذا كلّه، وهم يعرفون هذا، ولكن- سبحان الله- الهوى والمغالَطة أحياناً يذهبان بصاحبهما مذهباً بعيداً.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "كل مصوِّرٍ في النّار" ويأتي فلان ويقول: "لا، المصوِّر بالفوتوغرافي ليس في النّار".
وقوله: "يُجعل له بكلّ صورة صوّرها نفسٌ يعذّبُ بها في جهنّم" أي: كلّ صورة صوّرها بأي وسيلة إمّا بنحت وإمّا برسم وإمّا بالتقاطٍ بالآلة الفوتوغرافية، كثرت الصور أو قلّت، تحضر هذه الصور التي صوّرها يوم القيامة، ويُجعل في كل صورة نفس يعذّب بها في جهنّم، هذه الصور تصلاه بالعذاب يوم القيامة، كما أنّ صاحب المال الذي لا يزكِّيه يجعل الله مالَه ثُعباناً يوم القيامة- أو في القبر- فيسلِّطُه عليه: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، كذلك الصور هذه تجعل فيها نفوس وتسلّط(15/150)
عليه تعذّبه في نار جهنّم، فما بالُكم بالذي صنع آلات الصّور؟، سيعذّب بها يوم القيامة- والعياذُ بالله- كلِّها. وهل يخلصه الذي يقول: الصورة الفوتوغرافية لا يعذب بها.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "يُجعل له بكل صورة " قيل: إنّ الباء سببيّة، أي: بسبب كلّ(15/151)
ص -267- ... ولهما عنه مرفوعاً: "من صوّر صورة في الدنيا؛ كُلِّف أن ينفُخ فيها الروح، وليس بنافخ ".
ولمسلم عن أبي الهيّاج قال: قال لي عليّ: "ألا أبعثُك على ما بعثني عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟: أن لا تدع صورةً إلاّ طمستها، ولا قبراً مشرِفاً إلاّ سوّيتَه".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صورة، وقيل: إنّ الباء بمعنى (في)، أي: في كل صورة نفس يعذب بها.
قوله: "ولهما عنه مرفوعاً: من صوّر صورة" هذا نوعٌ آخر من الوعيد.
"كُلِّف أن ينفُخ فيها الرّوح، وليس بنافخ" أي: تحضّر الصور كلّها التي صنعها، ويؤمر بأن ينفخ فيها الأرواح، وهل يستطيع أن ينفخ الأرواح؟، ولكن هذا من باب التعجيز والعذاب، بأن يُحمّل ما لا يستطيع وما لا يُطيق- والعياذ بالله- فيطولُ عذابُه.
ولولا أنّ في التصوير خُطورة وفيه فتنة لَمَا رأيتُم فتنة النّاس به وكثرتُه، لأنّ الشيطان يحثّ عليه ويحرِّض عليه، لأنّ فيه ضرراً على بني آدم، فهو يحثُّهم على فعله وعلى صنعتِه من أجل أن يتحمّلوا هذه الأوزار
- والعياذُ بالله-.
وتتلخص أنواع الوعيد التي وردت في حق المصور فيما يلي: أنه لعنه صلى الله عليه وسلم أنه أشد النّاس ظلماً، أنه أشد النّاس عذاباً، أنه يجعل له بكل صورة صوّرها نفس يعذب بها في النار، أنه يكلّف نفخ الروح بكل صورة صوّرها ويقال له: أحي ما خلقت؟.
قوله: "عن أبي الهيّاج" الأسدي: تابعيّ جليل، وهو كاتب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
"قال: قال لي عليّ: "لا أبعثُك" أي: أُرسلك.
"على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟" أي: أرسلني إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وكلّفني به، فعليّ رضي الله عنه يريد أن يكلِّف أبا الهيّاج بهذه المهمة التي كلّفه بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.
"أن لا تدع صورةً" "صورة" نكرة في سياق النفي، فتعُمّ كلّ صورة مجسّمة أو مرسومة أو ملتقطة بالآلة.(15/152)
ص -268- ... "إلاَّ طمستَها" وطمسُها يكون بإتلافها، أو بقطع رأسها، حتى تصبح مجّرد شكل بدون رأس، لأنّ الصورة تتمّ وتتكامل بالرأس والوجه.
وليس معنى طمس الصورة كما يفعله بعض الجُهّال أو المتحيِّلين أنّه يجعل خطَّاً في عُنُق الصورة فيُصبح كالطّوق، لأن الطمس: أن تُزيل الرأس إمّا بقطعهِ، وإمّا بتلطيخِه وإخفائه تماما.
فقوله: "ولا قبراً مشرِفاُ إلاّ سوّيته" المشرف: المرتفع، بأن يُبنى على القبر بناية من أجل تعظيم القبر، كما يفعل من بناء الأضرحة، أو يزاد عليها غير ترابها حتى تصبح مرتفعة أكثر من شبر، أو تجصص القبور ويكتب عليها، وما أشبه ذلك، فهذا كله حرام، لأنّه وسيلة إلى الشرك.
ولاحظوا كون الرسول صلى الله عليه وسلم جمع بين طمس الصورة وتسوية البناء على القبور مما يدلُّكم على أنّ من العلل العظيمة في منع التصوير أنّه وسيلة إلى الشرك، فكما أن البناء على القبور وسيلة إلى الشرك، فكذلك التصوير وسيلة إلى الشرك. وأيضاً كون الرسول صلى الله عليه وسلم كلف علي بن أبي طالب رضي الله عنه بهذه المهمة مما يرد به على الذين يغلون في أهل البيت ويزعمون أن لهم خاصية تسوغ الغلو في قبورهم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا قبراً مشرِفاً" يعني: مرتفعاً بالبناء، أو بالتّراب، ففي هذا: الأمر بهدم القباب التي على القبور والأمر بهدم الأضرحة، وأنّ هذا من مهمّة ولاة الأُمور ومن مهمّة كلّ مسلم أن يعمل على إزالة هذا الشيء فإن كان له سلطة وقدرة فيزيله باليد، وإن كان ليس له سُلطة فإنّه يتصل بولاة الأمور ويبلِّغ ويبِّين أن هذا أمر يلزمهم إزالته، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بإزالته. ويحذر المسلمين من البناء على القبور ويبيِّن لهم السنّة في دفن الموتى وما يلزم اتخاذه وعمله نحو القبور مما هو مشروع.
فهذه الأحاديث فيها فوائد ومسائل عظيمة:
المسألة الأولى: فيها إثبات الكلام لله عزّ وجلّ، وأنه يتكلم، وكلامه سبحانه وتعالى(15/153)
كسائر صفاته، يليق بجلاله سبحانه وتعالى ليس ككلام المخلوق.
المسألة الثانية: في الحديث دليلٌ على تحريم التّصوير بجميع أنواعه، لا يُستثنى شيءٌ من التصوير، لقوله صلى الله عليه وسلم: "كلُّ مصوّرٍ في النار"، "من صوّر صورة"، "لا تدع(15/154)
ص -269- ... صورة"، "أشدّ النّاس عذاباً يوم القيامة المصورون" وهذا عام في كل مصور، وكل صورة بأي وسيلة كان إيجادها، لكن ما دعت الضّرورة إليه من التصوير؛ فإنه يرخص فيه، مثل: الصورة التي توضع في الجواز، أو إثبات الشخصية، لأنّ النّاس يُمنعون من حوائجهم ومن أسفارهم ومن وظائفهم، بل حتّى من دخولهم في المدارس والمعاهد إلاّ بهذا، فكان هذا من باب الضّرورة، فيجوز بقدر الضّرورة فقط، وما عداه من التصوير فهو حرام، سواء كان للذكريات- كما يقولون-، أو لأجل الفنّ أو لغير ذلك من الأغراض أو لتجميل الجدران أو ما أشبه ذلك، فكلّه حرام.
المسألة الثالثة: في الأحاديث بيان علّة تحريم التصوير، وهي: أنّه مضاهاة لخلق الله، وأيضاً هو وسيلةٌ من وسائل الشرك وهذه أشّد.
المسألة الرابعة: في الأحاديث: دليل على أنّ التصوير من كبائر الذّنوب، وذلك لأمور:
أوّلاً: الرسول صلى الله عليه وسلم قال عن ربِّه: "من أظلمُ ممّن ذهب يخلُق كخلقي"، هذا يدلّ على أنّ التصوير كبيرة.
وثانياً: وعيدُه بالنّار، والوعيد بالنّار إنّما يكون على كبيرة.
المسألة الخامسة: في الحديث دليلٌ على وجوب طمس الصور، والرّسول صلى الله عليه وسلم لَمّا رأى في بيت عائشة قراماً فيه تصاوير؛ تغيّظ صلى الله عليه وسلم وأبى أن يدخُل البيت حتى هُتِك هذا القِرام وأُزيلت الصور المعلقة.
ففي هذه الأحاديث: وُجوب إتلاف الصّور أو امتهانُها، لأنّ الصورة إذا كانت ممتهنة توطأ وتُداس ويُجلس عليها فإنها تكون ممتهنة، كما إذا كانت في فِراش أو في إناء يُشرب به أو يُطبخ به فإنها ممتهنة لا قيمةَ لها، والرّسول صلى الله عليه وسلم لَمّا أُميط القِرام وجُعِل وسائد جلس عليه صارت الصور مهانة.
المسألة السادسة: في الحديث دليل على وُجوب هدم الأضرحة المبنيّة على القُبور، لأنّها وسيلةٌ من وسائل الشّرك فيجب هدمُها، ممن يقدِر على ذلك بسلطتِه، ومن لا سُلطة له فإنّه يبيِّن ويدعو إلى هدمِها(15/155)
ويراجع السلطة في هدمِها.(15/156)
ص -270- ... [الباب الثاني والستون:]
* باب ما جاء في ثرة الحلف
وقول الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مناسبة هذا الباب لكتاب التّوحيد: أنّ الاستهانة بالحلف بالله تنقِّصُ التّوحيد، كما أنّ تعظيم الحلف بالله من كمال التّوحيد.
قوله: "بابُ ما جاء" يعني: من الوعيد في حقّ من كثر حلفه.
والحلف- كما سبق- هو: تأكيد شيء بذكر معظَّم بأحد حروف القسم، التي هي: الواو والباء والتّاء.
وكثرة الحلف معناها ا لإكثار من الأيمان في كلّ مناسبة، وقد يكون في غير داع لليمين إلاّ التغرير بالنّاس وخداع النّاس كحالة المنافقين الذين قال الله تعالى فيهم: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} وقال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ(10)}، والحلاَّف: كثير الحلف.
والله جل وعلا ذكر ذلك من صفات المنافقين، فقال فيهم: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}، قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} يعني: سُتْرة يتستّرون بها أمام النّاس ليصدِّقوهم، وكلّما قل الإيمان أو عدم الإيمان في القلب حصل التهاوُن باليمين والحلف.
قال: "وقول الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} لَمّا ذكر الله سبحانه وتعالى كفّارة الأيمان في سورة المائدة في قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(89)} جعل في(15/157)
اليمين الكفّارة إذا حَنِثَ فيها وخالَفها ممّا يدلّ على عظمتها، لأنّ الكفّارة لا تكون إلاَّ من ذنبٍ وقع فيه الإنسان، فنقض اليمين يحتاج إلى كفّارة ممّا يدلّ على عِظَم اليمين.
ثم قال: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} ذكر العلماء عدّة تفاسير لهذه اللّفظة: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} على قولين:(15/158)
ص -271- ... عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب" أخرجاه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القول الأول: أنّ معنى {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}، أي: لا تحلفوا، نهيٌ عن الحلف، فلا يخلف الإنسان إلاّ إذا دعت إلى ذلك حاجة، ويكونُ صادقاً في يمينه، كما قال صلى الله عليه وسلم: "من حلف بالله فليصدُق، ومن حُلف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله".
فمعنى قوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} أمرٌ بحفظها يتضمَّن النّهي عن الحلف إلاّ إذا دعت إلى ذلك حاجة، كأن يطلب منه القاضي اليمين لخصمه، فإذا كان بارًّا وصادقاً فليحلف على نفي ما ادّعاه عليه خصمُه، أو دعت حاجةٌ إلى اليمين ليُزيل شكوكاً حصلت لأخيه فيه، فيريد أن يبرئ نفسَه وأن يُزيل ما في نفس أخيه بأن يحلف له وهو بارٌّ في يمينه فهذا لحاجة، أمّا غير ذلك فإنّه يحفظ يمينه كما يحفظ دينه.
والقول الثاني: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}، أي: بالكفّارة إذا حَنِثْتُم فاحفظوها، يعني: كفِّروا عنها، فالكفّارة حفظٌ لليمين واحترامٌ لها.
قال: "عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" الحلف" أي: اليمين.
"مَنْفَقَةٌ للسلعة" أي: مروِّجة للسِّلْعة وسببٌ لِنفَاقِها، وهو خُروجها من يد صاحبها إلى الزّبائن، لأنّ النَّفَاق، معناه: الخُروج، ومنه سُمّيت النفقة نفقة لأنّها تَخْرُج من مُلك صاحبها، ومنه سُمّي المنافق منافِقاً لأنّه يخرُج من الدِّين.
فنَفاقُ السلع: رواجُها وخُروجها من ملك صاحبها بالبَيْع، لأنّ النّاس يصدِّقون صاحبها فيشترونها، فإذا حلف أنّ هذه السلعة من النّوع الجيّد أو حلف أنّ هذه السلعة سميت بكذا وكذا أو حلف أنّه اشتراها بكذا فإنّ هذا سبب لأن يصدِّقه النّاس وأن يشتروها منه، لأنّ المسلمين يعظِّمون اليمين، فيُحسنون الظنّ بهذا الحالف ويثقون(15/159)
به، ويقولون لولا أنّه صادقٌ لَمَا حلف، فيقبلون ما يقول ويعملون به، فيكونُ ذلك سبباً لرواج سلعه.
وقوله في: "مَمْحَقَةٌ للكسْبِ" المَحْقُ معناه: الإزالة، أي: أنّ اليمين تُزيل(15/160)
ص -272- ... وعن سلمان: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أُشيمط زانٍ، وعائل مستكبر، ورجل جعل اللهَ بضاعته، لا يشترى إلاّ بيمينه، ولا يبيع إلاّ بيمينه" رواه الطبراني بسند صحيح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكسْب إمّا بأن تُزيل البركة منه، ولو بقي، ولا ينتفع به صاحبه، وإمّا بأن تُزيل أصل المال بالتلف والآفات، فلا يبقى عنده هذا الكسب بل يمحقُه الله كما قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}، فالمحق قد يكون معنوياً بمعنى محْقِ البركة من المال، فلا يكونُ مباركاً على صاحبه ولا ينتفع به ولا يتصدّق منه.
وقد يكون محقاً حسيًّا بأن يُتلف الله المال بآفةٍ، أو بسرقة، أو بنهب، أو بتسلُّط ظالم، أو غير ذلك.
"للكسب" الكسب الذي يكسبه بسبب اليمين التي هي ليس بارًّا فيها ولا صادقاً، يسِّبْ ذلك محق مالِه، مع ماله عند الله من العُقوبة الآجلة في الدّار الآخرة- كما يأتي في الحديث الذي بعده.
"أخرجاه" أي: أخرج هذا الحديث الإمام البخاري ومسلم في "صحيحيهما"، فهو متّفقٌ عليه، وهذا أعلى ما يكون من درجات الصحّة.
قوله: "وعن سلمان " هو: سلمان الفارسي: الصحابي الجليل.
"أن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاتةٌ" مبتدأ.
"لا يكلِّمهم الله" إلى آخره، خبر المبتدأ، والمعنى: لا يكلّمهم الله يوم القيامة كلامَ تكريم وتنعيم، فهم يُحرمون من كلام الله عزّ وجلّ لهم يوم القيامة، وقد جاء في الحديث: "ما منكم من أحد إلاّ سيكلّمه ربُّه، ليس بينه وبينَه ترجُمان"، أمّا هؤلاء فلا يكلّيهم الله غضباً عليهم، فيحرمهم الله من هذه النعمة العظيمة.
فهذا فيه: إثبات الكلام لله عزّ وجلّ، وأنّ الله يكلِّم عبادَه، ويتكلّم بما شاء من أمرِه سبحانه وتعالى.
والكلام من صفاته سبحانه، وهو من صفات الأفعال التي يفعلُها إذا شاء سبحانه.(15/161)
ص -273- ... وكلامُه قديمُ النّوع حادثُ الآحاد، بمعنى: أنّ نوع كلامه سبحانه قديم بقدمه سبحانه، ليس له بداية كسائر أفعاله، وحادث الآحاد بمعنى: أنه يتكلّم إذا شاء سبحانه وتعالى.
ونُثبتُ ذلك لله عزّ وجلّ، ومن كلامه: القرآن الكريم، فإنّه كلامُ الله جل وعلا.
"ولا يزكيهم" أي: لا يطهّرهم، لأنّ الزكاة تُطلق على عدّة معانٍ:
منها: النماء، والزيادة في الأموال، فإنّ الزكاة تنمِّي الأموال وتزيدُها.
ومنها: الطهارة قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} أي: تطهّرهم بها من الذُّنوب ومن البخل ومن الشُّحّ، فالزكاة تطهّر صاحبها من الصّفات الذميمة، وتطهِّرُ المال من الآفات ومن سائر الأشياء التي تُخَلُّ به.
كما أنّ الزكاة تدفع البلاء عن المسلم، وهي سببٌ لنُزول الغيث ونزول البركات، فتزيد في أرزاق النّاس، فهي خيرٌ كلُّها، ولذلك سُمّيت زكاة.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: موجِع، من (الألم) وهو: الوجع، فمعنى (أليم): مؤلِم.
فهذه ثلاثة أنواع من الوعيد: "لا يكلّمهم الله، ولا يزكِّيهم، ولهم عذاب أليم".
ثم بيّنهم صلى الله عليه وسلم بعدما أجملهم، وذكر وعيدَهم ولما تطلّعت الأنظار إلى معرفتهم من أجل أن يُجتنب ما هم عليه، لأجل أن لا يكون الإنسان مثلَهم وبينهم.
فقال: "أُشَيْمِطُ" خبر لمبتدأ مقدّر، تقديره: هم أُشيمط إلى آخره. والأُشَيْمِط: تصغير (أَشْمَط)، والأَشْمَطُ هو: الذي بدأَهُ الشَّيْب، وصغّره تحقيراً له.
"زان" أصله "زاني " بالياء، ثم حذفت الياء تخفيفاً، وهو صفةٌ لـ (أُشَيْمِط) مرفوع، وعلامة رفعه: الضمّة المقدّرة على الياء المحذوفة، منع من ظهورها الثِّقَل.
والزنا قبيح، وكبيرةٌ من كبائر الذّنوب، قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً(32)}، فهو قبيح، مستهجَن، ومرض فتّاك في المجتمعات، مدمِّرٌ للأخلاق، مدمٍّرٌ للمجتمع، مضيع(15/162)
للنسل، إلى غير ذلك من الآفات التي في الزنا، وهو موجبٌ لغضب الله، وموجبٌ للعقوبة الآجلة والأمراض الفتّاكة في المجتمع.
فالزّنا قبيح بكلّ معاني القُبح، ولكنّه يقبُح من بعض النّاس أكثر وأكثر، فالزنا من مثل هذا الأُشيمِط قبيح، لأنّ الأُشيمِط لَمّا أصابَه الشيب كان الواجب أن يكون(15/163)
ص -274- ... أبعد النّاس عن الزّنا، لأنّه ضعُفت فيه الشهوة وداعي الزنا، وأيضاً هو يتطلّع إلى الموت والانتقال إلى الدّار الآخرة، فكان الواجب عليه التّوبة والاستعداد للآخرة، والاستعداد للقاء الله، فإذا زنى وهو في هذه السنّ فهذا دليلٌ على قُبح أخلاقِه، وعلى أنّ الزنى سجيّةٌ فيه.
أمّا الشّاب وإنْ كان الزنا في حقِّه حرام وقبيح، لكن فيه دافع الشهوة وقوّة الشهوة.
الثّاني: "عائلٌ" المراد به: الفقير.
"مستكبر" الكبر قبيح، لأنّ الإنسان مطلوبٌ منه التواضُع، والتواضع لربّه سبحانه وتعالى، والتواضُع لخلق الله عزّ وجلّ، فالاستكبار ضدّ التواضع.
والاستكبار يحمل الإنسان على الكفر أحياناً وترك عبادة الله عزّ وجلّ استكباراً، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}، والذي سبّب لإبليس ما سبّب من الخزي والكفر هو الاستكبار{أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}، استكبر عن السّجود لآدم حسداً لآدم واستكباراً، فسبب عدم سجوده هو الكبر، استكبر عن أمرِ الله عزّ وجلّ.
وقد يستكبِر على عبادِ الله ويرى أنّه فوقهم، وأنّه أعلى منهم، هذا أيضاً من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله عزّ وجلّ، فالكبر كلّه قبيح من كلّ أحد، لأنّ المطلوب من الإنسان التواضع.
ولكنّ الكبر من العائل- أي: الفقير- أشدّ، لأنّه لا داعي للكبر فيه، لأنّ الغني قد يغترّ بمالِه ويستكبر من أجل المال ويرى أنّه له درجة ترفعُه عن النّاس بسبب مالِه، فيحملهُ المال والغنى على الكبر: {كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى(6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)(7)}.
لكن العائل ليس عنده سبب للكبر، فاستكبارُه من باب السجيّة القبيحة فيه، لأنّه استكبر من غير سبب، فدلّ على أنّ الكبر سجيّة فيه وطبيعةٌ فيه، لا من أجل سبب خارجيّ، فلذلك صار استكبارهُ أشدّ من استكبار الغنيّ.
والثّالث:- وهو محلّ الشّاهد من الحديث(15/164)
للباب-: "رجل جعلَ الله بضاعته" هذا عامٌّ للرجال وللنساء، ولكن ذكر الرّجال من باب التغليب، وإلاَّ فهو عامٌ للرجال وللنّساء".(15/165)
ص -275- ... "جعلَ الله بضاعَته"، "جعل" فعل ماض من الأفعال التي تنصبُ مفعولَيْن: المفعول الأول الحلف بالله والمفعول الثاني: "بضاعَتَه".
فمعنى "جعل الله بضاعتَه": أنّه لا يشتري إلاَّ بيمينه ولا يبيع إلاَّ بيمينه، كما فسّره صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا يشتري إلاَّ بيمينه ولا يبيع إلاَّ بيمينِه".
ومحلّ الشّاهد هو الجملة الأخيرة "ورجلٌ جعلَ الله بضاعَتَه، لا يشتري إلاّ بيمينه ولا يبيع إلاّ بيمينِه"، فهو يُكثر من الحِلف بالله تهاوُناً، فكان جزاؤه هذه العقوبات الثلاث: لا يكلِّمّه الله، ولا يزكِّيه، وله عذابٌ أليم- والعياذُ بالله-، وهذا مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(77)}.
الواجب على المسلم: أن يصدُق في معاملته مع النّاس في بيعِه وشرائه.
والدّنيا مهما حصّل منها فإنّها لا تُغنيه عن الآخرة، والكسب الحلال وإنْ كان يسيراً فإنّ فيه البركة وفيه الخير، والكسب الحرام وإنْ كان كثيراً فهو ممحوق لا خيرَ فيه.
فيُستفاد من الآية الكريمة ومن هذين الحديثين المسائل الآتية:
المسألة الأولى: وُجوب تعظيم اليمين بالله عزّ وجلّ، لأنّ تعظيمها كمالٌ في توحيد العبد.
المسألة الثانية: النّهي عن كثر الحلف لأنّ من كثُر حلفه كثُر كذبُه، وكثرة الحلف تدلّ على التهاوُن باليمين، ومن تهاوَن باليمين نقص توحيدُه: قال تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ(10)} وقال تعالى: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، هذا من صفات أهلِ النّفاق.
المسألة الثالثة: في الحديث دليلٌ على أنّ الصدق وتعظيمَ اليمين سببٌ للبركة، وأنّ الكذب والتهاوُن باليمين سببٌ لمحق البركة.
المسألة الرابعة: في الحديث(15/166)
الثاني دليلٌ على إثبات الكلام لله عزّ وجلّ، وأنّ الله جل وعلا يتكلَّم بكلامٍ يليقُ بجلالِه، ليس ككلام المخلوقين أو صفة المخلوقين، هذا(15/167)
ص -276- ... وفي "الصحيح" عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مذهب أهل السنّة والجماعة، خلافاً للجهميّة والمعتزلة ومَنْ درَج على سبيلهم.
المسألة الخامسة: في الحديث دليلٌ على الوعيد الشديد في حقّ مَن أكثَر من الحلف، وأنّ هذا من الكبائر، لأنّ الله توعّد عليه هذا الوعيد الشديد المغلّط، فدلّ على أنّ كثرة الحلف من كبائر الذّنوب.
المسألة السادسة: في الحديث دليلٌ على أنّ الكبائر بعضُها أشدُّ من بعض، فزنى الأُشَيْمِط أشدّ من زنى الشّاب، والكبر من الفقير أشدّ من الكبر من الغني، فالكبائر تتفاوت بحسب أحوال مرتكبيها.
قوله: "وفي الصّحيح" أي: في "صحيح مسلم"، وهو في "صحيح البخاري" بمعناه.
"عن عمران بن حُصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خيرُ أمّتي قرني"، القرن يراد به: الجيل من النّاس، ويُطلق على الزّمان، ومقدار القرن من الزّمان: مائة سنة، وقيل: أربعون سنة، وقيل: غيرُ ذلك.
والمراد: أهل القرْن، ليس المراد ذات القرن الذي هو الزّمان.
"خيرُ أمْتي قرني" يعني: أفضل أمّة محمد صلى الله عليه وسلم هم القرن الذين عاصروا الرَّسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا بإجماع الأمة أنّ قرن الصّحابة أفضل هذه الأُمة، لِمَا امتازوا به من مزايا لا توجَد في غيرِهم ممّن جاء يعدَهم، بل إنّ قرن الرّسول صلى الله عليه وسلم خير الأمم على الإطلاق، فأمّة محمد صلى الله عليه وسلم أفضلُ الأمم، وأفضلُ أمّة محمد القرن الأوّل لما امتازوا به من الفضائل، التي منها:
أوّلاً: أنهم شاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوه وآمنوا به، فهم أفضل ممّن آمن به ولم يرَه.
ثانياً: أنّهم جاهدوا مع الرّسول صلى الله عليه وسلم وناصروه، ودافعوا عنه بأنفسهم وأموالهم وهاجروا معه.(15/168)
ص -277- ... ثالثاً: أنّهم هم الذين تلقّوا هذا الدين عن الرّسول صلى الله عليه وسلم، تلقّوا القرآن وتلقّوا السنّة، وتلقّوا هذا الدين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بلّغوه لمن بعدَهم بأمانة وإخلاص.
رابعاً: أنّهم هم الذين نشروا هذا الإسلام في المشارق والمغارب، في وقت الرّسول وبعد وفاة الرّسول، فهم الذين جاهدوا وفتحوا الفتُوح، ونشروا هذا الدين في مشارق الأرض ومغاربها رضي الله عنهم فلا يحبهم إلاَّ مؤمن ولا يبغضهم إلاّ كافر أو منافق.
قال الله سبحانه وتعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً(29)}، قال سبحانه وتعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(100)}، قال سبحانه وتعالى في سورة الحشر: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ(8)} هذا في المهاجرين، ثم قال في الأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ(15/169)
مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(9)}.
وقال النّبي صلى الله عليه وسلم: "لا تسبّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدُكم مثل أحدٍ ذهباً ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفَه".
إلى غير ذلك من الأدلّة الدالّة على فضل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أثنى الله عليهم في محكم كتابه، وأثنى عليهم رسولُه صلى الله عليه وسلم، وأجمعت الأمة على فضلهم وسبْقِهم، وأنّهم خيرُ القرون، بل خيرُ الأمم، فمن سبّهم أو سبّ أحداً منهم فإنّه يكونُ مكذِّباً لله ولرسوله ولإجماع المسلمين.
قال صلى الله عليه وسلم: "ثم الذين يلونهم" يعني التّابعين، فجيلُ التابعين لهم فضلٌ عظيم، وهم في المرتبة الثّانية بعد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنّهم تتلمذوا على الصّحابة، وأخذوا علمَهم عن الصّحابة، فبذلك حصلوا على هذا الفضل العظيم وصاروا في المرتبة الثّانية في الفضيلة بعد صحابة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.(15/170)
ص -278- ... قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً؟، "ثم إن بعدكم قوم يشهدون ولا يُستشهدون، ويخونون، ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السّمن ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه مرّتين أو ثلاثاً؟" هذا من تحرِّيه في الرواية رضي الله عنه، وهذه عادتُهم رضي الله عنهم؛ أنّهم لا يقولون ولا يجزمون إلاّ بما يتأكدّون من صحّته وثُبوتِه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا من أمانتهم في الرّواية.
قال صلى الله عليه وسلم: "ثم إنّ بعدكم قومٌ" "قومٌ" بالرفع، هذا في كثيرٍ من الروايات، وهو مخالفٌ للوجه اللّغوي، لأنّ الوجه اللّغوي: أنّ يكون بالنصب، لأنّه اسم لـ (إنّ)، و (إنَّ) تنصب الاسم وترفع الخَبَر.
وبعض المحدِّثين يقول: (قوم) مرفوعٌ بفعلٍ محذوف، تقديره: (يجيء قومٌ)، فحُذفت (يجيء) ويقيت (قومٌ).
"يشهدون ولا يُستشهدون" أي: يشهدون بدون أن تُطلب منهم الشهادة، بل يبادرون بها، ويتسارَعون بالشهادة من دون أن تُطلب منهم، فهذا دليل على استخفافهم بالشهادة ومسارعتهم إليها لقلّة ديِنهم وقلّة أمانتهم، لأنّ الشّاهد يجب عليه أن يكون أميناً في شهادته ولا يشهد إلاّ بالحق: قال تعالى: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(86)} يعلمون ما شهدوا به، ويتيقّنونَه، ولا يشهدون بموجِب الخرْص والظنّ، وإنّما يشهدون بشيء يعلمونه ويتأكّدونه.
ثم أيضاً: لا يسارعون بالشهادة إلاّ إذا طُلبت منهم، فإذا سارعوا بالشهادة قبل أن تُطلب منهم فهذا دليلٌ على استخفافهم بها، وهذا نقضٌ في التّوحيد، فيكون فيه مطابقة للترجمة وهي قول الشيخ رحمه الله: "باب ما جاء في كثرة الحلف" لأنّ الشهادة حلف، كما قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ(15/171)
إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ(1) )اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً}، فسمّى الشهادة يميناً، وهذا يتضمّن كثرة شهاداتهم، لأنّهم ما داموا أنهم مستعدِّين للشهادة؛ فهذا دليلٌ على أنّهم ليس عندهم تمنُّع، فتكثُر شهاداتهم، وكثرة شهاداتهم دليلٌ على استخفافهم بالشهادة، وإلاّ فالشّاهد الحقّ لا يشهد إلاّ إذا طُلبت منه الشهادة واحتِيج إليها فحينئذ يشهد.(15/172)
ص -279- ... قال صلى الله عليه وسلم: "ويخونون ولا يؤتمنون" يخونون أماناتهم وعهودهم، إذا ائتمنوا على شيء من الأشياء فإنّهم لا يحفظون الأمانة.
والخيانة في الأمانة من صفات المنافقين: قال صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتُمِن خان"، فالخيانة في الأمانة سواءً كانت هذه الأمانة مالاً أو سرًّا من الأسرار أو عملاً من الأعمال: كموظّف وُكِل إليه أن يقوم بعمل فخان فيه، أو مقاول تعهّد بإقامة عمل أو مشروع من المشاريع فخان فيه وغشّ فيه هذا من الخيانة، فالخيانة قد تكونُ في الأموال وقد تكونُ في الأسرار التي يؤتمنُ عليها، إمّا من الأفراد وإمّا من وُلاة الأُمور.
وكذلك تكون الأمانة أيضاً في الأعمال والعُهَد التي يتعهّد بها، فيجب عليه أن يفيَ بما التزم به وما عُهد إليه القيامُ به، سواءً كان عملاً وظيفيًّا أو كان عملاً مهنيًّا، عهد إليه بعمل يقوم به من بناء أو غير ذلك أو مقاولة أو غير ذلك، فيجب أن يكون أميناً فيما اؤتمن عليه، فإن خان فإنّ الله سبحانه وتعالى توعّد الخائنين؛ قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ}، قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(27)}، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}، {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ(8)}، إلى غير ذلك من الآيات التي تعظِّم من شأن الأمانة، وتأمر بحفظها وأدائها كما تحمّلها الإنسان.
فأمر الأمانة أمرٌ عظيم، وصدرُ هذه الأُمّة كانوا أمناء، لكن يجيء بعدَهم قومٌ يخونون في أماناتهم، وهذا من علامات السّاعة: إذا اتُخذت الأمانة مغنَماً يفرح بها من أجل أن يتصرَّف فيها وأن يخون فيها، ولا يعتبر الأمانة حملاً تحمّله وعُهدة تعهّدها، بل يعتبرُها غنيمةً(15/173)
سيقت إليه ليتصرّف فيها حسب هواه ورغبته، فأمرُ الأمانة أمرٌ عظيم قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً(72)}، وقوله: "وينذرون ولا يوفون" النذر لغة: التزامُ الشيء. وشرعاً: التزام طاعةٍ لله لم تكن واجبةً بأصل الشّرع، فالتزام العبد طاعةً لله لم تكن واجبة بأصل الشرع وإنّما تجب عليه بالنذر.
فإذا التزم عبادةً لله فإنّها تجب عليه، ويجب عليه الوفاء بها لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَن(15/174)
ص -280- ... نذر أن يطيع الله فليطعه "، وقال سبحانه وتعالى في وصف الأبرار: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً(7)}، قال تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}، قال سبحانه وتعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ}، فالمسلم إذا نذر نذراً لله من صدقة أو صلاة أو صيام أو حجّأو عُمرة أو أيّ عبادة فإنّه يجب عليه الوفاء به، فإن لم يفِ به كان عاصياً وتاركاً لواجب يعاقَب عليه.
وإنْ كان الدخول في النذر منهيّاً عنه، لأنّه يحرج نفسه ويورِّط نفسه وهو في عافية وفي سعة، إنْ شاء فعل وله الأجر، وإنّ شاء ترك ولا إثم عليه، لكنّه إذا نذر فقد ألزم نفسه وأوجب على نفسِه فضاق عليه الأمر إن ترك هذا النذر ولم يفِ كان عاصياً وآثماً وكان قبل ذلك في سعة، ولهذا نهى النّبي صلى الله عليه وسلم عن النذر وقال: "إنّ النذر لا يأتي بخير، وإنّما يُستخرخ به من البخيل"، فقبل أن ينذر نكره له أن ينذر، والمجال أمامه مفتوح للطّاعات إنْ فعل فله أجر وإن لم يفعل فلا إثم عليه.
لكنّه إذا نذر والتزم فإنّه عاهد الله فيجب عليه الوفاء: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ(75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ(76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ(77)}، فالذي ينذر الطاعة ثم لا يفي بها هذه صفته عند الله، وتعتبر كاذباً فيما بيته وبين الله.
فهذا يدلّ على وُجوب الوفاء بالنّذر إذا كان نذر طاعة، وأن ترك الوفاء به من علامات النّفاق، وأن هذا يكْثُر في آخر الزّمان، أنّ النّاس ينذُرون ولا يوفون.
وما أكثر الآن ما يسأل النّاس: (أنا نذرتُ أصوم)،(15/175)
(أنا نذرت أتصدّق) يريد التخلّص من النّذر، يبحث له عن مخارج، وهذا ممّا يدلّ على وقُوع هذه الصفة في آخر الزمان، وإلاّ لو كان قويّ الإيمان صادقاً مع الله ما احتاج إلى أنّه يبحث عن المخارج.
ثم قال- عليه الصلاة والسلام- مبيِّناً علامة هؤلاء: "ويظهر فيهم السَّمَن" يظهر فيهم سِمَنُ الأجسام، وذلك لأنّهم يرفّهون أنفسهم ويشتغلون بملذّاتهم وشهواتِهم وينسون الآخرة وينسون الحساب، فهم يستعجلون ملذّاتهم وشهواتهم(15/176)
ص -281- ... وفيه: عن ابن مسعود: أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير النّاس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته".
قال إبراهيم: "كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويشتغلون بها عن طاعة الله سبحانه وتعالى، فيصيرون كالبهائم التي تأكُل وتسمَن.
فإذا كان السمَن سبُبُه هذا فهو مذموم، أمَّا إذا كان السِّمَن ليس من أجل هذا، وإنّما هو عارضٌ عرض للإنسان مع قيامِه بحقّ الله سبحانه وتعالى، وأدائِه لفرائضِ الله، وعمله لآخرته؛ فهذا ليس مذموماً.
قال: "وفيه" يعني: في "صحيح مسلم".
"عن ابن مسعود: أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير النّاس قرني"" في الحديث الأوّل:
"خيرُ أمّتي" وهنا "خير النّاس"، أي: جميع النّاس، من هذه الأمّة وغيرِها.
"ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" هذا فيه: الجزم بما شكّ فيه عمران رضي الله عنه، وأنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم ذكر ثلاثة قرون: قرن الصّحابة، ثم قرن التّابعين، ثم قرن أتباع التّابعين.
"ثم يجيء" يعني: من بعد القرون الثلاثة.
"قومٌ تَسبق شهادة أحدهم يمينَه، ويمينُه شهادَتَه" يعني: لا يبالون بالشهادة، ولا يبالون بالإيمان، بل سابقون إليها، ويسارعون إليها بدون تحفُّظ، وبدون خوفٍ من الله عزّ وجلّ، يحلفون ويشهدون بكثرة.
فهذا فيه: ذمّ كثرة الشهادة، وذمُّ كثرة اليمين، فيكون مطابِقاً للترجمة، لأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم ساقه مساق الذّم، ففيه: النّهي عن كثرة الشهادة وكثرة الحلف، لأنّ في ذلك: استخفافاً بهما، فيكونُ منقِّصاً للتوحيد.
وقوله: "قال إبراهيم" المراد به: إبراهيم النخعي، التّابعي الجليل، من تلاميذ عبد الله بن مسعود- رضي الله تعالى عنه-.
"كانوا يضربوننا" يعني: السلف الذين أدركهم، قيل: إنّه يريد: أصحاب ابن مسعود خاصّة،(15/177)
وقيل: إنّه يُريد أصحاب ابن مسعود وغيرَهم من السلف، كانوا(15/178)
ص -282- ... يضربون الأطفال إذا سمعوهم يشهدون أو يحلفون، تأديباً لهم ليربُّوهم على تعظيم الشهادة وتعظيم اليمين، حتى ينشأوا على ذلك، لأن الطفل ينشأ على ما عُوِّد عليه، فإذا عُوِّد الالتزام والطّاعة فإنّه ينشأُ على ذلك ويشبُّ عليه "ومن شَبَّ على شيءٍ شاب علي"، كما قال الشاعر:
وينشأ ناشئ الفتيان منا ... على ما كان عوّده أبوه
فالتربية لها شأن كبير ولها أثر بليغ، لاسيّما في صغير السنّ، فإنّك إذا نهيتَه عن شيء أو أمرتَه بشيء ينغرسُ هذا في ذاكرَتِه ولا ينساه أبداً، وإذا صحِب هذا تأديبٌ فإنّه يكون أبلغ.
فهذا فيه: العناية بالنّاشئة وتربيتهم وتأديبِهم.
وفيه- أيضاً-: أنّ الضرب وسيلةٌ من وسائل التربية، وأنّ السلف كانوا يستعملونَه، بل إنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم أَمر بالضّرب فقال: "مُروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضرِبوهم عليها لعشر"، بل الله جل وعلا أمر بالضرب أيضاً للتأديب في حقّ الزوجات: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ}، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يُضرب فوق عشرة أسواط إلاّ في حدّ من حدود الله"، فالضّرب وسيلة من وسائل التربية، فللمعلِّم أن يضرب، وللمؤدِّب أن يضرب، ولولّي الأمر أن يضرب تأديباً وتعزيراً، وللزوج أن يضرب زوجته على النشور.
فالذين يُنكرون الضّرب، ويمنعون منه، ويقولون: إنّه وسيلة فاشلة.
هؤلاء متأثِّرون بالغرب وبتربية الغرْب، وهم ينقلون إلينا ما تحمّلوه عن هؤلاء، لأنهم تعلّموا على أيديهم.
أمّا ما جاء عن الله وعن رسوله وعن سلفنا الصالح فهو أنّ الضرب وسيلة ناجحة، لكن يكون بحدود، لا يكون ضرباً مبرحاً يشقّ الجلْد أو يكسرُ العظم، وإنّما يكون بقدر الحاجة.
فيُستفاد من هذين الحديثين مع أثر إبراهيم الذي نقله عن السّلف فوائد عظيمة:
الفائدة الأولى: فيه فضلُ الصّحابة رضي الله عنهم، وأنّهم أفضلُ الأمّة، بل أفضل(15/179)
النّاس على الإطلاق.(15/180)
ص -283- ... ففيه ردٌّ على مَنْ يتنقَّصُهم، أو يتنقَّض أمراً منهم، أو يذمُّهم بأيِّ نوعٍ من الذم، لأنّهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو خير القرون.
الفائدة الثانية: فيه فضل القرون الثلاثة: قرن الصّحابة، وقرن التّابعين، وقرن أتباع التّابعين، لأنّ هذه القرون يكثُر فيها العلم والعلماء، وقد وُجدَ أكثرُ العلماء في هذه القرون؛ كالأئمة الأربعة، وكذلك كثير من الأئمة كلهم في القرون المفضّلة، الذين جعل الله لهم أثراً باقياً وقدم صِدْقٍ في الأُمّة.
ففيه: فضل القرون المفضّلة الثلاثة، لكثرة العلم فيهم، ولقلّة ظهور البدع فيهم، وما ظهر من البدع في عصرهم فإنّهم يُنكرونه، بل ربّما يقتُلون دُعاة البدع والضلال، بخلاف من جاء بعدهم فإنه يقلّ فيهم الإنكار، كلّما تأخّر الزمان تكُثر البدع ويقلّ الإنكار، بخلاف الإنكار في القرون المفضّلة فإنّه أكثر، وصاحبُ البدعة مغمور ومختفٍ، ولا ينتشر شرُّه.
الفائدة الثالثة: في هذا الحديث: فضلُ السلف على الخلف، وأنّ السلف بما فيهم القرون المفضَّلة- أفضل من الخَلف، في العلم، وفي العمل، وفي السَّمْت والأخلاق، ففي هذا ردٌّ على من يقول: "طريقة السلف أسلم، وطريقة الخَلفِ أعلم وأحكم"، بل: "طريقة السلف أسلم وأعلم وأحكم من طريقة الخلف"، لأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم أثنى عليهم وذمّ مَن يأتي يعدَهم، وإنّما ينجو مَن جاء بعدهم بإتّباعه لهم وإقتدائه بهم، فلا يسلم من الخلَف إلاّ من تمسّك بهدي السلف وسار على نهجهم، أمّا من خالفهم فإنّه يهيك، فيكون: السلف أعلم وأسلم وأحكم.
الفائدة الرابعة: في الحديث علَم من أعلام النبوة: حيث إنّه صلى الله عليه وسلم أخبر عن حُدوث أشياء وظهرت كما أخبر بها، فإنه بعد القرون المفضّلة كثُر الشرّ والفتن وظهرت البدع وحدث الشرك في الأمّة وبُنيت الأضرحة على القبور ونشأ التصوُّف، وغير ذلك من الشّرور التي لابست الأمّة ولا تزال الأمّة تعاني منها،(15/181)
كلّ هذا حدث بعد القرون المفضَّلة وظهر واشتهر، وصار له أتباعٌ وفِرَقٌ تنشُره وتدعو إليه.
ففي هذا: علَم من أعلام النبوّة.(15/182)
ص -284- ... الفائدة الخامسة: في الحديثين دليلٌ على النّهي عن كثرة الحلف وكثرة الشهادة، وهذا هو الشّاهد من الحديثين للترجمة.
الفائدة السادسة: في الحديثين دليلٌ على وُجوب حفظ الأمانة والنّهي عن الخيانة فيها.
الفائدة السابعة: في الحديثين دليلٌ على وجوب الوفاء بالنذر إذا كان نذر طاعة، لأنّ الرسول صلى الله عليه وسلم ذمّ الذين ينذُرون ولا يوفون، وهذا تدلّ عليه الأدلّة الأخرى.
الفائدة الثامنة: في الحديث: ذمٌّ للاشتغال بالشهوات وترفيه النّفس، لأنّ ذلك يكسِّل عن الطّاعة ويثبِّط عن الطّاعة، وعلامته: ظهور السِّمَن على أصحابه.
الفائدة التاسعة: في أثر إبراهيم دليلٌ على وجوب العناية بتربية الأولاد، وأنّ هذه طريقة السلف الصّالح، أمّا الآن فلا رادع ولا وازع للأولاد، يعملون ما يشاءون، ويسرحون ويمرحون في الشّوارع في أيِّ مكان، ويؤذون النّاس، ويترُكون الصلاة، ويتشاتمون، بل قد يتعاطون المحرَّمات، بل قد يخالطون الأشرار، ويذهبون مع الأشرار، ولا أحد يسأل عن أولاده، ولو كانت له غنم لرأيته يحافظ عليها ويُغلق الباب عليها ولا يترك شيئاً يخرجُ منها، لكن الأولاد لا يهمُّه أمرُهم، يدخُلون أو يخرُجون، يفسدون أو يصلُحون، لا يحاسبهم ولا يراقبهم.
وبهذا حصل فساد النشأ إلاّ من رحم الله عزّ وجلّ.
الفائدة العاشرة: في الحديث دليلٌ على أنّ الضرب وسيلةٌ من وسائل التربية، ففيه رد على من يمنع من الضّرب، ويقول: إنّه وسيلةٌ فاشلة بل هو وسيلة ناجحة، دينيّة، إسلامية، عمل بها السلف الصّالح، وأمر بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وأمَر الله بها في كتابه، فهو وسيلةٌ ناجحة، إذا استُعملت على الوجه المشروع، ووُضعت في موضعها.(15/183)
ص -285- ... [الباب الثالث والستون:]
* باب ما جاء في ذِمة الله وذمة نبيه
وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مناسبة هذا الباب لكتاب التّوحيد: أن نقض العهود فيه نقصٌ في التّوحيد، لأنّه يدلّ على عدم احترام عهدِ الله، ومن لم يحترم عهد الله، فإنّ هذا يدلّ على نقص توحيده، ومن وفى بعهد الله وعظم عهد الله فهذا يدلُّ على كمال توحيده. هذا وجه المناسبة.
وقول الشيخ رحمه الله: "باب ما جاء في ذمّة الله وذمّة نبيّه" الذِّمّة معناها: العهْد.
وما جاء يعني: من النّهي عن نقض العهود من كتاب الله وسنّة نبيّه، وما جاء من الوعيد في ذلك.
قال: "وقول الله تعالى: {وَأَوْفُوا}" هذا أمرٌ من الله سبحانه وتعالى بالوفاء بالعهود، والوفاء: ضدّ الغدر والخيانة.
{بِعَهْدِ اللَّهِ} المراد به: الميثاق الذي يُعقد بين النّاس، وأضافه إلى نفسه إضافة تشريف؛ ممّا يدلّ على تعظيم العهد، لأن الشيء إذا أضيف إلى الله فهذا دليلٌ على تعظيمه، مثل: بيتِ الله، وناقة الله، وعبد الله، فالإضافة هنا تقتضي تعظيم المضاف، فهي تدلّ على عظم العهد، ووجوب احترامه.
"{إِذَا عَاهَدْتُمْ}" أي: عاهدتم طرفاً آخر من النّاس، وهذا يشمل الذي بين الله وبين خلقه والعهد الذي بين المسلمين وبين الكُفّار، ويشمل العهد الذي بين وليّ أمر المسلمين وبين الرعيّة، ويشمل العهد الذي بين أفراد النّاس بعضهم مع بعض.
فهذه العهود العامّة والخاصّة يجب الوفاء بها، لأنّ نقض العُهود من علامات المنافقين، قال سبحانه وتعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ(75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ(76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي(15/184)
قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ(77)}،(15/185)
ص -286- ... قال صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".
فنقض العهود من صفات المنافقين، والوفاء بالعهود من صفات المؤمنين.
ثم نهى سبحانه وتعالى عن نقض العهود، فقال{وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ} يعني: العهود، لأنّ العهد يسمّى يميناً.
{بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} أي: بعد إبرامها وعقْدِها، لأنّها إذا عُقدت وأبرمت وجب الوفاء بها والالتزام بها من الطرفين، حتى ولو كانت مع كفّار، قال تعالى: "{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ(58)}" أي: أعلِن لهم أنّك تريد إنهاء العقد الذي بينك وبينهم، حتى يكونوا على بيِّنة وعلى بصيرة، ولا تفاجئهم بنقض العهد بدون سابقة إنذار{إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}، هذا مع الكفّار، فكيف مع المسلمين؟.
{وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} الواو: واو الحال، أي: والحال أنّكم إذا عاهدتّم فقد جعلتم الله كفيلاً عليكم.
والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى ينتقم ممّن نقض العهد، لأنّهم إنّما وثِقوا بكم ووثقتم بهم باسم الله سبحانه وتعالى، فصار الله سبحانه كفيلاً وحسيباً ورقيباً على الجميع، ومن كان الله حسيبَه ورقيبَه ومحاسبه فإنّه لن يفوت على الله جل وعلا، ولا يخفى ما في قلبه وفي نيّته من النّيات الباطلة والغدر، فالله يعلم ما في القلوب، فكيف إذا ظهر ووقع: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}، هذا الكفيل ليس كغيره من الكفلاء فالكفيل من الخلق قد يغفل وقد يجهل، ولا يعلم بما يحصل من المكفول، ولكنّ الله جل وعلا لا تخفى عليه أفعال خلقه وأعمال عباده، فهو يعلم أفعالكم ونيّاتكم ومقاصدكم وأهدافكم وما ترمون إليه، فاحذروا من الله سبحانه وتعالى، احذروا من هذا الكفيل العليم الخبير القدير الذي لا يخفى عليه شيء ولا يُعجزه شيء.
فهذه(15/186)
الآية فيها شاهدٌ واضح للترجمة وهي: النّهي عن إخفاء العهد ونقض العهد من غير مسوغ ومن غير سبب يقتضي ذلك.(15/187)
ص -287- ... وعن بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أَمَّر أميراً على جيش أو سريّة؛ أوصاه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيراً، فقال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم أورد الحديث الذي في "صحيح مسلم" وغيره، فقال:
"وعن بُرَيْدة" هو بُريدة بن الحُصَيْب الأسلمي، الصحابي الجليل- رضي الله تعالى عنه-.
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أَمَّر أميراً على جيش أو سَرِيَّة" النّبي صلى الله عليه وسلم كان يعقِد الجيوش والسرايا للجهاد في سبيل الله، بعدما هاجر إلى المدينة وقَوِيَ الإسلام وأمرهُ الله بالجهاد، كان صلى الله عليه وسلم يكوِّن الجيوش والسرايا لمحاربة المشركين، امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(73)}، {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}، {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}، إلى غير ذلك.
والجيش هو: العسكر العظيم الكثير، وأمّا السرية فهي القطعة من الجيش، تنطلق من الجيش وترجع إليه.
وكان صلى الله عليه وسلم يؤمِّر على السرايا، وأمّا الجيوش فكان يقودُها بنفسه في الغالب -عليه الصلاة والسلام-.
فقوله: "إذا أمّر أميراً" فيه: أنّه لابدّ من نصب الأمير على الجيوش والسرايا لأجل أن ترجع إليه ولأجل أن يتولّى أمرها ويحلّ مشاكلها ونزاعاتها، لابدّ من الإمارة في الجيوش والسرايا، ولابدّ من الإمامة العظمى للمسلمين، لأنّ الفوضى وعدم وُجود الوُلاة فيه مفاسد عظيمة، وفيه شرٌّ كبير.
وفيه: أنّ تأمير الأمراء سواء على الأقاليم أو على الجيوش أو على السرايا يُرجع فيه(15/188)
إلى وليّ الأمر، هو الذي يومِّر وهو الذي يعزل، لأنّ ذلك من صلاحيّاته في حدود ما شرعه الله سبحانه وتعالى.
"أوصاه بتقوى الله" هذا من عناية الرّسول صلى الله عليه وسلم بأمور المسلمين، وهكذا ينبغي لوُلاة أمور المسلمين أن يقتدوا الرّسول صلى الله عليه وسلم فيوصوا أمراءهم ومَن تحت أيديهم بتقوى الله.(15/189)
ص -288- ... "اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وتقوى الله هي: فعلُ أوامره وترك نواهيه. سُميت تقوى لأنّها تقي من عذاب الله.
فالتقوى معناها: اتّخاذ الوقاية من عذاب الله وسخطه وغضبه، وذلك إنّما يكون بطاعته وترك معصيته خوفاً من عقابه ورجاءً لثوابه.
وهي كلمةٌ جامعة تجمع خصال الخير كلّها، ولذلك أوصى الله بها في كتابه في مواضع كثيرة، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ}، وفي كثير من الآيات، فهي كلمة جامعة.
ومن اتقى الله فهو أشرف النّاس، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، فالتقيُّ هو الكريم عند الله سبحانه وتعالى دون نظرٍ إلى نسبه أو إلى ماله أو إلى جاهه.
"وبمَن معه من المسلمين خيراً" أي: وأوصاه بمن معه من المسلمين ممّن تحت يده من السريّة أو الجيش خيراً: بأن ينصح لهم ويتولّى أمرهم ويدبِّر شؤونهم وينظر في مصالحهم، ويحلّ مشاكلهم، ويرفُق بهم، فليست المسألة مسألة إمارة فقط، أو نيل مرتبة فقط، أو نيل لقب.
ثم يقول- عليه الصلاة والسلام- للأمير وللجيش وللسرية، يقول للجميع:
"اغزوا" الغزو هو: قصْد العدوّ والذّهاب إليهم.
"باسم الله" أي: مستعينين بالله، وهذا فيه: بَدَاءَة الأمور المهمّة باسم الله، وأنّ الإنسان إذا بدأ بشيء فإنّه يبدأ باسم الله، فإذا شَرَع في السفر، أو شرع في الغزو، أو شرع في الأكل أو الشُّرب، أو الدخول في البيت أو المسجد، وحتّى الدخول في محلّ قضاء الحاجة يقول: (باسم الله) قبل الدّخول، لأن هذا الاسم يعصمه من الشيطان، وتنزل عليه وعلى عمله وعلى فعله الرحمة والبركة، كما يُذكر اسم الله على الذّبائح عند التذكية، بل جاء في الحديث: "كلُّ أمرٍ ذي بال لا يُبْدأ فيه باسم الله فهو أَبْتَر" أي: ناقصُ البَرَكة، وتُبدأ به الرسائل والمؤلَّفات، وتُبدأ به الدروس والنصائح، وتُبدأ به سورة(15/190)
القرآن الكريم- ما عدا سورة براءة، فـ (باسم الله) كلمة عظيمة، تُبدأ بها مهامّ الأمور.(15/191)
ص -289- ... "في سبيل الله" يعني: أن الغزو لا يكون لطلب الملك أو لطلب المال أو التسلّط على النّاس، هذا شأن أهل الجاهلية، إنّما يكون الغزو لمصالح المغزوِّين، وليس للانتقام منهم إذا لم يصرُّوا على الكفر، وإنّما هي لمصالحهم، لأجل إنقاذهم من الكفر وإخراجهم من الظلمات إلى النور، فهو في سبيل الله، القصد منه: إعلاءُ كلمة الله سبحانه وتعالى، والمصلحة في هذا عائدة إلى المغزويّن، والى الغازين أيضاً، فالغازون يكون لهم أجر الجهاد في سبيل الله وأجر الشهادة والغنيمة، والمغزوّون يكون لهم إخراجهم من الكفر إلى الإيمان ومن الظّلمات إلى النّور، ومن الكفر إلى الإسلام.
"قاتلوا من كفر بالله" القصد من الغزو هو: قتال الكفّار، لكفرهم، لأن الله خلق النّاس لعبادته سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56)}، والمصلحة في العبادة راجعةٌ إليهم، لأنّهم إذا عبدوا الله أكرمهم الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة، أما إذا عبدوا غير الله فقد ضرّوا أنفسهم.
فالمقصود من الغزو في الإسلام هو: إزالة الكفر وإحلال التّوحيد محلّه، هذا هو المقصود من الغزو، ليس المقصود من الغزو الاستيلاء على البلاد، أو أخذ الأموال، أو توسيع الملك، أو ما أشبه ذلك، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}.
وهذا فيه دليلٌ على أنّ الجهاد يكون بالغزو والهجوم على الكفّار في ديارِهم بعد دعوتهم إلى الإسلام وليس المقصود منه- كما يقول بعض الكُتّاب العصريّين: إن المقصود به الدفاع، إنّما المقصود من الجهاد هو: إزالة الكفر والشرك من الأرض، كما قال سبحانه وتعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ(15/192)
نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ(40)}. فالمقصود من الغزو والجهاد في الأصل: هو طلب الكفّار في بلادهم، ونشر الإسلام، وإزالة الكفر.
أمّا قصة الدفاع فمعناه: أنّنا نبقى في ديارِنا، فإن جاءونا دافعناهم، وإن ما جاءونا تركناهم. وهذا باطل، ولم يأتِ الإسلام بهذا، إنما كان هو موجوداً في أوّل(15/193)
ص -290- ... اغزوا ولا تغُلّوا، ولا تغدروا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا وليداً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإسلام لَمّا كان المسلون قِلّة، ولم يكن للمسلمين دولة فعندما كانوا في مكّة، كانوا منهيِّين عن القتال لأنّ المفسدة فيه أعظم من المصلحة، لكن لّمّا قويَ المسلمون ووجُدت دولة المسلمين في المدينة أمر الله المسلمين بالجهاد والغزو وقتال الكفّار وغزوهم في ديارهم وفي بلادهم لنشر الإسلام، ونفّذ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما تُوفّي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلاّ والإسلام منتشر في معظم جزيرة العرب، وجاء النّاس ودخلوا في دين الله أفواجاً قبل وفاته صلى الله عليه وسلم، وكاتب الملوك- ملوك الأرض- يدعوهم إلى ا لإسلام، وكان ذلك مقدَّمة لجهادهم.
وجاء مِن بعده الخلفاء الرّاشدون فواصلوا الجهاد الذي بدأه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى انتشر الإسلام في مشارق الأرض وفي مغاربها، ودخلت دولة الفُرس ودولة الروم تحت حكم الإسلام، منهم من أسلم ومنهم من خضع لبذل الجزية، وصارت الغلبة والظهور لدين الإسلام كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ(33)}، فتحقّق وعدُ الله سبحانه وتعالى وظهر دينُ الإسلام على الدين كلّه، وبلغ مشارق الأرض ومغاربها، بجهاد المجاهدين في سبيل الله.
"اغزوا" هذا تكرارٌ منه صلى الله عليه وسلم للتأكيد.
"ولا تَغُلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا وليداً" يرسم لهم صلى الله عليه وسلم الخُطَّة التي يسيرون عليها في جهادهم، وهي خُطّة العدل والإنصاف والرِّفْق والحكمة.
"ولا تَغُلُّوا" الغُلول هو: أن يأخذ شيئاً من الغنيمة قبل القِسْمة، فالغنيمة تُجمع ثم يُقْسَم حسب ما شرعه الله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ(15/194)
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}.
فمن أخذ شيئاً منها بدون القسمة أو التنفيل الذي يمنحُه القائد لبعض المجاهدين لمزية فيه؛ فمن أخذ شيئاً بدون وجه شرعي من المغانم فهذا الغُلول، وهو كبيرة من كبائر الذّنوب، وقد قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ(161)}، ففي يوم القيامة يأتي الغالّ يحمل ما أخذه في الدنيا، يحمله على ظهره، إن أخذ بعيراً جاء(15/195)
ص -291- ... وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال [أو خلال]، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكُفّ عنهم:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بالبعير على رقبته، وإن أخذ بقرة جاء بها يحملها على رقبته، وإن أخذ مالاً جاء به يحملُه يوم القيامة فضيحةً له في هذا الموقف العظيم.
والغالُّ يؤدَّب بأن يُحْرَقُ رَحْلُه، والأثاث الذي معه، من باب العقوبة بالمال، ولا يصلِّي عليه الإمام إذا مات بل يتركُه يصلِّي عليه النّاس من أجل الردع للنّاس.
وحتّى العُمّال الذين يبعثهم وليّ الأمر لجباية الزكاة؛ إذا قبِلوا الهدايا من النّاس فهي غُلول، قال صلى الله عليه وسلم: "هدايا العُمّال غُلول".
"ولا تَغْدِرُوا" هذا الشّاهد من الحديث للباب، والغدر هو: الخيانة في العهد.
"ولا تُمَثِّلُوا" أ التمثيل معناه: تشويه جُثَث القتلى؛ بقطع آذانهم أو أُنوفهم أو أطرافهم، وهذا لا يجوز، لأنّ جُثة الآدمي لها حُرْمة حتى ولو كان كافراً، فلا يجوز التمثيل به.
"ولا تقتلوا وليداً" الوليد معناه: الصّغير من الكُفّار، لأنّه ليس منه خطرٌ على المسلمين، كما أنّها لا تُقتل -أيضاً- المرأة من الكُفّار، لأن النساء لسن من أهل القتال، وإنّما الأطفال والنساء يؤخذون أرقّاء للمسلمين، وكذلك الشيخ الكبير الهَرِم لا يُقتل، إلاّ إذا كان له رأي ومشورة في الخَرْب، مثَل ما قُتل دُرَيْد بن الصِّمَّة سيِّد هوازِن، وكان رجلاً كبيراً هَرِماً لكن قُتل في غزوة حُنين لأنّه كان يعطي الآراء للكُفّار، لأنّه كان سيِّداً من ساداتهم وشجاعاً من شجعانهم، وقد مارس الحروب وساس المعارك، فعنده خِبرة، وكانوا يرجعون إليه، فقتله المسلمون، لأنّه يصدُر منه ضررٌ على المسلمين، أمّا الشيخ الذي ليس له أهميّة، وكفره قاصرٌ على نفسه، فلا يقتل، إنّما يُقتل الكافر الذي يتعدّى ضرره وكفره إلى النّاس، وكذلك الرُّهبان الذين في الصوامع أيضاً لا يُقتلون، لأنّهم مشغولون(15/196)
بما هم فيه ولا يصدُر منهم أذى للمسلمين وكفرهم قاصر عليهم.
وقوله: "وإذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال [أو خِلال]" الخصال والخِلال بمعنىً واحد، ولكن هذا شكٌّ من الراوي، وهذا من الدقّة في الرواية، إذا كان الراوي لا يجزم باللّفظة التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنّه يأتي بالكلمة(15/197)
ص -292- ... ادعهم إلى الإسلام؛ فإن أجابوك فاقبل منهم. ثم ادعهم إلى التحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التي تشابهها تحرُّجاً من القول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل وإنْ كان المعنى صحيحاً، وهذا من احترام كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنّ أحداً لا يُضيف إليه شيئاً، ويقول: قال رسول الله كذا وهو لم يجزم.
"فأَيَّتَهُنَّ " بالنصب على أنّه مفعول للفعل المتأخِّر وهو "أجابوك".
"ما أجابوك فاقبل منهم وكُفَّ عنهم" إذا قبلوا أيّ واحدة من هذه الخلال الثلاث- أو الخصال- فاقبل منهم إجابتهم وكُفّ عنهم القتال، ولا تقاتلهم.
هذا فيه: أنّ القتال لا يجوز إلاّ بعد الدعوة إلى الإسلام، ولا تجوز مفاجأتهم وقتالهم وهم لم يسبق لهم دعوة من المسلمين.
"ادعهم إلى الإسلام" قوله في الحديث: "ثم ادعهم إلى الإسلام" هذه رواية مسلم: (ثم)، وفي رواية غير مسلم بحذف (ثمّ)، وهو الصحيح، ويكون: "ادعهم إلى الإسلام" بداية الكلام.
فالكفّار يجب أن يُدعوا إلى الإسلام أوّلاً، فإنّ قبلوا فالحمد لله، لأنّ هذا هو المقصود، نحن لا نقاتلهم إلاّ لأجل دخولهم في الإسلام، فمن شهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسولُ الله وجب الكفُّ عنه، واعتبرناه من المسلمين، له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، إلاّ أن يظهر منه بعد ذلك ما يخالف الشهادتين فنعتبرُه مرتدًّا، ونعامله معاملة المرتدّ، أمّا إذا لم يظهر منه شيء فإنّه يُقبل منه الإسلام، ولو مات بعد نُطقه بالشهادتين عاملناه معاملة المسلم في الميراث والجنازة وغير ذلك.
ثم إذا قبلوا الإسلام فـ"ادعهم إلى التحوّل من دارهم" يعني: من مكانهم الذي يقيمون فيه.
"إلى دار المهاجرين" وهي المدينة في ذاك الوقت.
والهجرة في اللغة هي: ترك الشيء، قال تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ(5)}(15/198)
أي: اترُك الشرك، وقال صلى الله عليه وسلم: "المهاجر: من هجر ما نهى الله عنه" الهجر هو: التَّرْك. هذا في اللغة.(15/199)
ص -293- ... فإن أبوا أن يتحوّلوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله تعالى، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء؛ إلاّ أن يجاهدوا مع المسلمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أمّا في الاصطلاح الشرعي فالهجرة صارت تُطلق على الانتقال من بلاد الكفر إلى بلاد المسلمين من أجل حفظ الدين.
والهجرة من أعظم الأعمال بعد الإسلام، ولهذا صار للمهاجرين ميزة على إخوانهم من الأنصار، وصاروا يقدّمون في الذّكر لشرفهم، لأنّهم تركوا أوطانهم وديارهم وأموالهم وخرجوا، بل تركوا أولادهم وأزواجهم، وخرجوا إلى المدينة من أجل الدين ومن أجل نُصرة الرّسول صلى الله عليه وسلم، فشكر الله لهم ذلك وأثنى عليهم ووعدهم بجزيل الثواب.
والهجرة باقية إلى أن تقوم السّاعة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} هؤلاء الذين تركوا الهجرة عن غير عذر فظلموا أنفسهم بذلك.
فالهجرة واجبة وباقية إلى أن تقوم السّاعة، وفي الحديث: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تخرُج الشمس من مغرِبها".
وأمّا قولُه صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهادٌ ونيّة" فالمراد به: الهجرة من مكّة، لأنّها بعد الفتح صارت دارَ إسلام، وأمّا الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام فهي باقية إلى قيام السّاعة.
والهجرة في هذا الحديث وهي الانتقال من دارهم إلى دار المهاجرين مستحبّة في حقّهم، إذا كانت البلاد بلاداً إسلامية فالانتقال منها إلى بلد أفضل منها مستحبّ، لأن الرّسول صلى الله عليه وسلم هنا خيَّرهم، فدلّ على أن الهجرة هنا غير واجبة عليهم، وإنّما هي أفضل في حقِّهم.
"فإن أبوا أن يتحوّلوا منها فأخبرهم أنّهم يكونون كأعراب المسلمين" يعني: إن آثروا البقاء في بلدهم ولم ينتقلوا إلى المدينة فأخبرهم أنّهم يكونون كأعراب ا لمسلمين، والأعراب: جمع أعرابي، وهو: ساكنُ(15/200)
البادية.
ولا شكّ أن سُكنى الحاضرة الإسلاميّة أفضل من سُكنى البادية الإسلامية لأنّ(15/201)
ص -294- ... فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكُفّ عنهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سُكنى البادية فيها جفاء، أمّا سُكنى الحاضرة الإسلاميّة ففيها في الغالب خير، وفيها تعلُّم العلم النّافع، وفيها مخالطة الصّالحين، فالتعرُّب فيه جهل، وفيه بعدٌ عن العلم، خلاف الهجرة ففيها خيرٌ كثير.
"يجري عليهم حكم الله تعالى" أي: حكم الإسلام، فيكونون مسلمين، ولكن "لا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء" الغنيمة هي: ما يستولي عليه المسلمون من أموال الكُفّار في أثناء القتال.
وقد تولّى الله تعالى قسمَتها في كتابه فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}، وأربعة الأخماس الباقية توزّع بين المقاتلين: للرّاجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم، سهمٌ له وسهمان لفرسه.
فهؤلاء الذين أسلموا ولكنّهم لم ينتقلوا إلى بلاد الهجرة، وبقوا في البادية؛ ليس لهم من الغنيمة شيء، لأنّهم لم يشاركوا المجاهدين ولم يكونوا في بلد المجاهدين رِدْءاً لهم، لأنّ الذين يقيمون في الحواضر يكونون رِداً للمجاهدين إذا احتاجوا إليهم.
"فإنْ أبَوا" يعني: أبوا الإسلام، فينتقل معهم إلى الخصلة الثانية، وهي: طلب الجِزْية.
والجزية: مقدارٌ من المال يدفعه الكافر حتى يُحْقَنَ دمه ويعيش تحت ظلِّ الإسلام وحكم الإسلام، ويبقى على كفره، لكن يكون خاضعاً لحكم الإسلام.
واختلف العلماء- رحمهم الله- هل تُؤخذ الجزية من كُلِّ كافر كما هو ظاهر هذا الحديث، أو أنّها تُؤخذ من أهل الكتاب فقط لقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ(15/202)
وَهُمْ صَاغِرُونَ(29)}، فخصّ الله في الآية أهلَ الكتاب: اليهود والنصارى، فالذين أوتوا الكتاب هم اليهود والنصارى، وأُلْحِقَ بهم المجوس بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "سُنُّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب" يعني: في أخذ الجزية، فهم يُسَنُّ بهم سنة أهل الكتاب في أَخذ الجزية، أمّا ذبائحهم فهي حرام، بخلاف ذبائح أهل الكتاب، ونسائهم.(15/203)
ص -295- ... فإن هم أبوا فاستعِن بالله وقاتلهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فتؤخذ الجزية من أهل الكتاب بنصَ الآية، وتؤخذ الجزية من المجوس بالسنّة النبويّة وفعل الخلفاء الراشدين، ويبقى الخلاف في بقيّة المشركين، فهذا الحديث يدلّ على أخذها منهم أيضاً.
والعلماء اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأوّل: وهو قولُ الإمام مالك رحمه الله، واختيار الإمام ابن القيِّم: أنّها تُؤخذ من كُلِّ كافر، بدليل هذا الحديث، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم عمّم أخذ الجزية، وقال: "إذا لقيتَ عدوّك من المشركين"، وهذا عامّ يعمّ جميع المشركين.
القول الثّاني: أنّها تؤخذ من كلّ مشرك من العجم. أما مشركو العرب فلا تؤخذ منهم الجزية، فلا يُقبل منهم إلاّ الإسلام أو القَتْل، وهذا قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله.
القول الثالث: أنّ أخذ الجزية خاصٌّ بأهل الكتاب وبالمجوس فقط من العرب ومن العجم، ومن عداهم من المشركين فلا يُقبل منهم جزية، وهذا قولُ الإمام الشافعي، وظاهر مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
والمسألة مفصّلة في كتب الفقه وفي "كتاب أحكام أهل الذمَّة" للإمام ابن القيِّم، وفي كلام شيخ الإسلام ابن تيميّة في "مجموع الفتاوى".
والحكمة في أخذ الجزية في مقابل تأمينهم ولإتاحة الفرصة لهم ليتأمّلوا في أحكام الإسلام ويعيشوا تحت حكمه، فتظهر لهم سماحة الإسلام، وفضك الإسلام فيكون ذلك دافعاً لدخولهم فيه، هذا من الحكمة في أخذ الجزية ليتأمّلوا في الإسلام، ويجرّبوا العيش تحت ظلّه وعدله، ويتمكّنوا من سماع القرآن والسنّة، ويكون ذلك دافعاً لهم للدّخول في الإسلام.
وقوله: "فإن هم أبوا" يعني: أبوا دفع الجزية.
"فاستعن بالله وقاتلهم" هذه الخصلة الثاّلثة، وهي المرحلة الأخيرة معهم، وهي: القتال، لأنّهم أبوا الدخول في الإسلام، وأبوا دفع الجزية، فلم يبق إلاّ(15/204)
ص -296- ... وإذا حاصرت أهل حِصن، فأرادوك أن تجعل لهم ذِمّة الله وذِمّة نبيه؛ فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمة أصحابك؛ فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القتال، وقد بلغتهم الدعوة، وقامت عليهم الحجة، وانقطعت معذرتهم فلم يبق إلاّ قتالُهم لأجل أن تكون كلمة الله هي العليا، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}، {لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} يعني: لا يكون شرك ولا يفتنون المسلمين عن دينِهم، لأنّهم إذا بقوا صاروا دُعاة إلى الكفر، وهم خطرٌ يهدِّد المسلمين لصرفهم عن دينهم، فالكفّار دائماً وأبداً يريدون صَرّْف المسلمين عن دينهم: قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً}، وقال سبحانه وتعالى: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ}، وقال سبحانه وتعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}، فالكفّار دائماً في كلِّ مكان وزمان يحاولون صرف المسلمين عن دينهم، وقوله: {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} هذا هو الواجب، لأنّ الله هو الخالق الرازق الرب المدبِّر الذي يستحقّ العبادة، وعبادة غيرِه باطلة، لأنّها بغير حقّ.
وقوله: "استعن بالله" هذا دليلٌ على وجوب الاستعانة بالله وعدم الاغترار بالقوّة، وأن المسلمين إنّما يقاتِلون بإعانة الله جل وعلا ويعتمدون على الله، ويطلُبون منه النصر والقوّة، ولا يعتمدون على قوّتهم وعبي كثرتهم، فإنهم إن اعتمدوا على ذلك هُزِموا، كما قال سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ* ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى(15/205)
رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ(26)}.
فالمسلمون يعتمدون على الله، ويتّخذون القوّة والسلاح: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}، ولكن هذه القوّة وهذا السلاح إنما هو سبب من الأسباب، وأمّا الاعتماد فهو على الله جل وعلا، فلا يُعتمد على القوّة ولا على الكثرة، فإنّ ذلك لا ينفع إذا لم يساعد الله جل وعلا بنصره وتأييده.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "وإذا حاصرت أهلَ حِصْن" والمراد بالحِصْن: واحد الحُصون، وهي: الأبنية والقِلاع التي يتحصَّن بها المقاتلون.(15/206)
ص -297- ... وإذا حاصرت أهل حصن، فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله؛ فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا؟ " رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأغلب من يتحصّن بالقلاع هم أهل الكتاب وأهل المدن والحضر، أمّا البادية فإنّهم يكونون في الصحراء، ليس لهم قلاع ولا حصون.
والحصار معناه: تطويق الحُصون من كلِّ المنافذ، ومنعهم من الخروج والدخول، ووصول الأمداد إليهم. من الحصر وهو: الحبْس. وهذه خُطَّة من خطط الحرب.
"فأرادوك أن تجعل لهم ذِمّة الله وذِمّة نبيه" الذمّة: العهد.
"فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه" هذا نهي عن ذلك؛ احتراماً لذمة الله وذمة نبيه من النقض وعدم الوفاء.
"فإنّكم أن تَخْفِرُوا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تَخْفروا ذمّة الله " "فإنكم أن تَخْفِرُوا" تنقضوا، الإخفار معناه: النّقص، والخفر معناه: الحماية. ولا يؤمن ممن أعطى ذمة أن ينقضها، فنقض ذمته أهون من نقض ذمة الله وذمة رسوله.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تُنزلهم على حكم الله فلا تُنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك" يعني: على اجتهادك، تقول لهم: أنا أجتهد فيكم فرب الحكم الذي أرى أنّه حق وصواب، فإن وُفِّقت وأصبت فذلك من الله سبحانه وتعالى، وإنْ أخطأتُ فهذا من اجتهادي ولا يُنسب إلى الله سبحانه وتعالى.
وإذا حصل خطأ في اجتهاد البشر فإنه لا يُنسب إلى حكم الله سبحانه وتعالى.
ولهذا قال في ختام الحديث: "فإنك لا تدوي أتصيب فيهم حكم الله أم لا".
قال الفقهاء: هذا فيه دليل على الاجتهاد في الأحكام الفقهيّة.
وفيه: دليل على أنّ المصيب من المختلفِين واحد، فليس كلُّ مجتهد مصيباً، وإنّما المصيب يكون واحداً والبقيّة يكونون مخطئين.
فهذا فيه دليل على أنّ المفتي إذا أفتى بفتوى لا يقول: هذا حكم الله، وإنّما يقول: هذا اجتهادي الذي أراه، لأنّه لا(15/207)
يدري هل أصاب الحقّ أو لا، فلا ينسب إلى الله شيئاً لا يدري هل هو حقّ، أو خطأ.(15/208)
ص -298- ... وفي هذا دليلٌ على أنّ الخطأ يتفاوت، وأنّ الذنب يتفاوت؛ بعضُه أعظم من بعض.
وفيه: الإرشاد إلى أخفّ الضررين، فإنّ نقض عهد الله سبحانه أشدّ من نقض عهد المخلوق، وإن كان الكلّ حراماً، سواء كان مضافاً إلى الله أو مضافاً إلى المخلوق، ولكن نقض عهد الله أشدّ من نقض عهد المخلوق.
وهذا في المسائل الاجتهادية.
أمّا المسائل التي نصّ الله على حكمها؛ فهذا لا إشكال فيه، يقال: هذا حكم الله، تقول: الزنا حرام، هذا حكم الله.
تقول: الرِّبا حرام، هذا حكم الله.
الشرك حرام، هذا حكم الله سبحانه وتعالى.
لأن الحكم في هذا واضح، وهذه أمور ليست من مسائل الاجتهاد، لأنّ الله نصّ على حكمها.
كذلك القاضي الذي يحكم بين النّاس لا يقول: هذا حكم الله، وإنّما يقول:
هذا حكمي واجتهادي، وهذا الذي توصّلتُ إليه.
فيؤخذ من الآية والحديث مسائل عظيمة:
المسألة الأولى: يؤخذ من الآية تحريم نقض العُهود، قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}.
والعهود عامّة، تشمل العهود التي بين العبد وبين ربِّه، العهود التي بين الرّاعي والرعيّة، العهود التي بين المسلمين والكُفّار، العهود التي بين المسلمين بعضهم مع بعض كلها يجب الوفاء بها، ويحرم نقضُها بدون سبب صحيح.
المسألة الثانية: في الحديث أنّ تكوين الجيوش والسرايا والغزو والجهاد من صلاحيَّات الإمام، هو الذي يأمر بذلك وهو الذي ينظِّم هذه الأمور ويُرجع إليه فيها، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم كان هو الذي ينظِّم الجيوش والسرايا ويؤمِّر الأمراء عليها، ويوصيهم، فدلّ هذا على أن هذا الأمر من صلاحيّات الإمام، وأنّه لا يجوز لأحدٍ(15/209)
ص -299- ... من النّاس أن يغزو أو يقاتِل أو يجمِّع جماعة في وسط ولاية الإمام ويأمر وينهى ويُصدر أوامر بدون إذن إمام المسلمين، هذا يُعتبر من الاعتداء على صلاحيّات الإمام ومن الفوضى في الإسلام، ويحصل بهذا مفاسد عظيمة.
المسألة الثالثة: في الحديث دليلٌ على أنّ الجهاد في الإسلام شرُع من أجل إعلاء كلمة الله ونشر الإسلام والقضاء على الكفر والشِّرك، لقوله صلى الله عليه وسلم: "قاتلوا مَن كفر بالله".
المسألة الرابعة: في الحديث دليلٌ على تحريم قتل من لا يقاتِل من الكفّار كالطفل الوليد: "لا تقتلوا وليداً"، وكذلك النساء، وكذلك الشيخ الكبير الهَرِم، وكذلك الرُّهبان في الصوامع، هؤلاء لا يجوز قتلُهم لأنّهم لا يقاتِلون، وكفرهم قاصرٌ على أنفسهم لا يتعدّى إلى غيرهم، أمّا إذا كان هؤلاء لهم رأيٌ ولهم دعوة إلى الكفر فإنّهم يُقتلون دفعاً لشرهم.
المسألة الخامسة: في الحديث دليلٌ على أنّ الكُفّار لا يقاتَلون إلاّ بعد دعوتهم إلى الإسلام، وأنّه لا تجوز بداءتهم بالقتال قبل الدعوة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ادعهم إلى الإسلام"، وهذا أوّل ما بدأ به صلى الله عليه وسلم.
المسألة السادسة: فيه أنّ من أظهر الإسلام ونطق بالشهادتين فإنّه يُقبَل منه ويُكَفُّ عنه، حتى يتبيّن منه ما يناقض الإسلام، فعند ذلك يُحكم عليه بحكم المرتد لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكُفَّ عنهم".
المسألة السابعة: في الحديث دليلٌ على مشروعية أخذ الجزية ممّن أبى أن يقبل الإسلام وبَذَل الجزية.
المسألة الثامنة: في الحديث دليلٌ على أن المسلمين يعتمدون في قتالهم للكفّار على الله سبحانه وتعالى، ولا يعتمدون على حولهم وقوّتهم وكثرة جنودهم ولا يغترون بذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: "فاستعن بالله وقاتلهم".
المسألة التاسعة: في الحديث دليلٌ على أنَّ المسلمين لا يُنزلون الكُفّار المحاصرين على ذمّة الله وذمّة رسوله، يعني: على عهد(15/210)
الله وعهد رسوله، وإنّما يُنزلونهم على ذممهم هم، لأنّه إنْ حصل خطأ فإنّه ينسب إليهم ولا ينسب إلى ذمة الله وذمة رسوله.(15/211)
ص -300- ... المسألة العاشرة: فيه دليلٌ على أنّ الذنوب تختلف، بعضها أشدّ من بعض، وذلك أنّ نقض عهد الله أشدّ من نقض عهد المخلوقين، وإنْ كان الكلُّ حراماً، ولكن الذنوب تتفاوت، وارتكاب أخفّ الذنوب أسهل من ارتكاب أعظمها.
المسألة الحادية عشرة: في آخر الحديث دليلٌ على مشروعية الاجتهاد في المسائل التي هي مَحَلٌّ للاجتهاد.
والمسألة الثانية عشر: في الحديث دليلٌ على أنّ الصواب يكون مع واحد من المجتهدين ولا يكون مع جميعهم، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنّك لا تدري"، وإذا كان هذا خطاباً للصحابة، وهم أقرب النّاس إلى العلم والإصابة، لأنّهم يتلّقون عن الرّسول صلى الله عليه وسلم، فغيرهم من باب أولى من المجتهدين، فلا يغترّ الإنسان برأيه وباجتهاده، لأنّه يحتمل أنّه مخطئ وأنّ الصواب مع مخالفه، فلا يغتّر الإنسان باجتهاده أو يتعصّب لرأيه أو يشتدّ عندما يناقَش، هذا لا يجوز، لأنك مجتهد وهذا مجتهد، والصواب محتمل أن يكون معك وأن يكون معه، فلا يجزع الإنسان من المناقشة ومن المساءلة في المسائل الخلافية، ويقول: هذا اجتهادي وهذا الذي أرى، والإنسان عُرْضة للخطأ، ولا يقول هذا حكم الله في المسألة.(15/212)
ص -301- ... [الباب الرابع والستون:]
* باب ما جاء في الإقسام على الله
عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان. فقال الله عزّ وجلّ: من ذا الذي يتألَّى عليَّ أن لا أغفر لفلان؟!، إني قد غفرت له وأحبطت عملك" رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الشيخ رحمه الله: "باب ما جاء في الإقسام على الله" الإقسام على الله هو: الحلف على الله، فإن كان هذا الحلف على الله. بأنّه لا يرحم عباده ولا يغفرُ لهم ولا يُدخل أحداً منهم الجنّة فهذا محرَّم، وهو سوء أدبٍ مع الله تعالى، لأنّ معناه: الحجّر على الله تعالى، ولا أحدٌ يمنع الله من أن يتصرّف في خلقه، وأن يرحم من شاء ويعذِّب من شاء، وأن يغفر لمن شاء؟.
فالذي يفعل هذا قد أساء الأدب مع الله، وتنقّص الله سبحانه وتعالى، فهذا النوع يُعتبر مُخلاً بالتّوحيد.
فلذلك عقد المصنِّف رحمه الله هذا الباب، وأجمل في الترجمة فقال: "باب ما جاء في الإقسام على الله" لأنّ الإقسام على الله له احتمالان أو وجهان:
الاحتمال الأوّل: هو ما ذكرنا، وهذا ممنوع وحرام، ومخلٌّ بالعقيدة.
النوع الثاني من الاقسام على الله: أن يكون على وجه حسن الظنّ بالله أن يفعل الخير، وأن يغفر لعباده وأن يسقيهم المطر، وأن ينصرهم على الأعداء، فهذا لا بأس به، لأنّه حسن ظنٍّ بالله، وقد جاء في الحديث: "إنَّ مِن عباد الله مَن لو أقسم على الله لأَبَرَّه"، وقال النّبي صلى الله عليه وسلم: "رُبَّ أشعث أغبر ذي طِمْرين، مدفوع بالأبواب؛ لو أقسم على الله لأبرَّه".
قال الشيخ رحمه الله: "عن جُنْدَب بن عبد الله" جندب: بفتح الدّال، ويجوز الضمّ. والمراد به: جندب بن عبد الله البَجَلي، صحابي جليل، رضي الله عنه.
"قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "قال رجل"" يعني: ممّن كان قبلنا من الأمم.
قولُه: "والله لا يغفر الله لفلان" هذا من(15/213)
النّوع الأوّل، وهو الحلف على الله أن لا يفعل الخير، وهو المحرَّم.(15/214)
ص -302- ... وفي حديث أبي هريرة: أن القائل رجل عابد.
قال أبو هريرة: تكلّم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"فقال الله عزّ وجلّ: "من ذا الذي يتألّى عليّ"، يتألّىيعني: يحلف، والأَلِيَّة هي الحَلِف، قال تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}، ومعنى {يُؤْلُونَ} يعني: يحلفون.
ثم قال جل وعلا: "إني قد غفرتُ له" الله جل وعلا يغفر الذنوب، يوفِّق العبد للتوبة ولو قبل الموت بلحظات، ثم يتوب الله عليه ويدخله الجنّة، وقد يكون الإنسان كافراً عدوًّا لله، ثم يمنّ الله عليه بالتوبة والإسلام، ويموت في لحظته ويدخُل الجنّة، وقد يكون الإنسان على عمل صالح وعلى عبادة ثم يرتد عن الإسلام في آخر لحظة ثم يدخل النّار، فالأعمال بالخواتيم: "إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتّى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع فيعمل بعلم أهل النّار فيدخلها، وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النّار حتّى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنّة فيدخلها"، فالأعمال بالخواتيم، والمدار على التوبة الصادقة، متى حصلت التوبة الصادقة قبل الغرغرة حصلت المغفرة، مهما كانت الذنوب والخطايا والسيِّئات.
ولهذا جاء في الحديث ا لآخر: "أنّ الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنّار مثل ذلك"، ما بينه وبين الجنّة إلاّ أن يموت على الإسلام والتوبة فيدخل الجنّة، وما بينه وبين النّار إلاّ أن يموت على الشرك أو على الذنوب الكبائر فيدخل النار إلاّ أن يعفو الله عمّا دون الشرك.
ولهذا قال المصنِّف رحمه الله في مسائله: "فيه: أنّ الجنة أقرب إلى أحدنا من شراك نعله، والنّار مثل ذلك".
قال جلّ وعلا للذي تألّى عليه سبحانه: "أحبطتُّ عملك" أي: أبطلته. فهذه الكلمة أبطلت عمله.
ففيه: خطر اللّسان، ولهذا قال أبو هريرة رضي الله عنه: "تكلّم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته" يعني: أهلكت(15/215)
دنياه وآخرته.
فهذا الحديث فيه مسائل:
المسألة الأولى: فيه تحريم الإقسام على الله إذا كان على وجه الحجْر على الله سبحانه وتعالى أن لا يفعل بعباده خيراً، وأنّه مخلٌّ بالتّوحيد.(15/216)
ص -303- ... المسألة الثانية: فيه خطرُ اللّسان، وأنّه قد يزلّ في كلمة تُهلكه في الدنيا والآخرة، فكيف بالذي يتكلّم بكلام كثير من سخَطِ الله؟، ماذا تكون حالته وعاقبته - والعياذ بالله-، كم يتكلمّ الإنسان من الكلام الذي عليه لا له، فلنتحفّظ من ألسنتنا.
المسألة الثالثة: فيه ما أشار إليه المصنِّف: أنّ الجنة أقرب إلى أحدنا من شِراك نعله وأنّ النار مثل ذلك.
المسألة الرابعة: في الحديث دليلٌ على تحريم إعجاب الإنسان بنفسه واحتقاره للآخرين.
المسألة الخامسة: في الحديث دليلٌ على وجوب التحفُّظ عند إنكار المنكر من الكلام الذي يكون وبَالاً على صاحبه، لأنّ بعض النّاس عند إنكاره المنكر قد تحمله الغَيْرة فيتكلّم على العُصاة والمخالفين بكلام لا يليق، فيكون إثم ذلك عليه ووبالُه عليه، ففيه: أنّ الإنسان ينكر المنكر بضوابط، ولا يندفع في الإنكار إلى حدٍّ يزلُّ فيه بلسانه أو بيده، فيقع في منكر أشدّ، فإنكار المنكر له ضوابط؛ يقول الله جل وعلا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، ويقول سبحانه وتعالى:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً}، ويقول جل وعلا: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا}، فالإنسان يتكلّم بالكلام الطيِّب الذي له تأثيرٌ حسن على المدعوِّين وعلى العُصاة، ولا يغلِّظ عليه بكلام يكون منفِّراً ويكون مُغْضِباً لله سبحانه وتعالى، ففيه: أنّه يجب على من يقومون بالإنكار على النّاس والدعوة إلى الله أن يتحفّظوا من الزلاّت التي تُوقعهم في منكر أعظم وتنفر النّاس من القبول.(15/217)
ص -304- ... [الباب الخامس والستون:]
*باب لا يُستشفع بالله على أحد من خلقه
عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: جاء أعرابي إلى النّبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، نهكت الأنفس، وجاع العيال، وهلكت الأموال؛ فاستسق لنا ربك، فإنا نستشفع بالله عليك، وبك على الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الاستشفاع: طلب الشفاعة.
والشفاعة: هي الوساطة في قضاء الحوائج عند من هي بيده.
وهي بحسب المشفوع فيه؛ فإن كان المشفوع فيه خيراً فالشفاعة حسنة وفيها أجر، قال سبحانه وتعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا}، وقال صلى الله عليه وسلم: "اشفعوا تؤجروا ".
أمّا إنْ كانت الشفاعة في أمر محرَّم فإنّها محرَّمة، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا}، كالذي يشفع في إسقاط حد من حدود الله كحدّ الزنا، وحدّ السرقة، وحدّ الشرب، فأراد أحدٌ أن يبُْطِلَه، وذهب إلى الحاكم من أجل أن يترك إقامة الحدّ بعدما تقرّر وثبت؛ فهذه شفاعة محرّمة، قال صلى الله عليه وسلم: "تعافوا الحدود فيما بينكم، وما بلغني من حدٍّ فقد وجب"، وقال: "إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشّافع والمشفَّع".
هذا في الشفاعة عند المخلوق:
أمّا الاستشفاع بالله على أحدٍ من خلقه: فهذا منكر عظيم، لأنّ المشفوع عنده يكون أعظم من الشّافع، فإذا استشفع بالله إلى أحدٍ من خلقه فمعناه: أن هذا المخلوق عنده أعظم من الله، فهذا تنقُّصٌ لجناب الله سبحانه وتعالى، وهذا مخلٌّ بالتّوحيد.
قوله: "جاء أعرابي" الأعرابي هو: ساكن البادية، والغالب على سُكّان البادية الجهل.
"نَهِكَت الأنفس" يعني: ضغُفت.
"وجاع العيال، وهلكت الأموال" وذلك بسبب تأخُّر المطر، لأنّ عيشة البادية(15/218)
ص -305- ... على ما ينزّله الله سبحانه وتعالى في الأمطار، والمطر لا يستغني عنه أحد لا أصحاب الحاضرة ولا أصحاب البادية، كلُّهم بحاجة إلى المطر، فإذا تأخّر المطر تضرّر النّاس، وإذا نزل المطر وأنزل الله فيه البركة انتفع النّاس وانتعشوا، فالأمطار فيها خيرٌ للعباد.
ولا يحبسها الله جل وعلا إلاّ بسبب الذنوب والمعاصي: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً(16)}.
"فاستسق لنا ربك" وهذه عادة الصّحابة رضي الله عنهم، أنهم كانوا إذا تأخّر المطر أو أنحبس المطر طلبوا من النّبي صلى الله عليه وسلم أن يستسقيَ لهم.
والاستسقاء هو: طلب السُّقيا.
والاستسقاء: سنّة قديمة فقد استسقى موسى- عليه الصلاة والسلام- لقومه، واستسقى سليمان لقومه، واستسقى نبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم لأمّته، فالاستسقاء مشروع.
وذلك بأن يأتوا إلى النّبي صلى الله عليه وسلم في حياتِه ويطلبوا منه أن يدعو الله لهم بنزول المطر، فالنّبي صلى الله عليه وسلم يُجيبُهم إلى ذلك، تارةً يدعو وهو جالس بين أصحابه، وتارة يدعو في خطبة الجمعة بنزول المطر، وتارة يخرُج إلى المصلَّى في الصحراء فيصلَّي بالنّاس صلاة الاستسقاء، ثم يخطُب ويدعو الله سبحانه وتعالى ويسقيهم الله عزّ وجلّ.
وبعد وفاة النّبي صلى الله عليه وسلم كانوا يأتون إلى الخلفاء الراشدين: يأتون إلى عمر فيطلُبون منه أن يدعوَ الله لهم، وعر يطلب من العبّاس عمّ النّبي صلى الله عليه وسلم أن يدعوَ الله لقرابَتِه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كذلك المسلمون يطلُبون من علمائهم ووُلاة أمورهم ومن الصالحين منهم أن يدعو ربّهم بالسقيا، وهذه سنّة ثابتة.
فمجيء هذا الأعرابي إلى النّبي صلى الله عليه وسلم وطلبه من الرّسول أن يستسقيَ لهم، أمرٌ معروف مستقرّ.
ولكن هذا الأعرابي لم يقتصر على ذلك بل قال: "فإننّا نستشفع بالله عليك" وهذه هي الكلمة المنكَرة، لأنه جعل الله(15/219)
شافعاً عند الرّسول صلى الله عليه وسلم، والشّافع أقلّ درجة من المشفوع عنده، فهذا تنقُّصٌ لله سبحانه وتعالى.
وقوله: "ونستشفع بك على الله" هذا أيضاً لا إنكار فيه في حياة النّبي صلى الله عليه وسلم،(15/220)
ص -306- ... فقال النّبي صلى الله عليه وسلم: "سبحان الله، سبحان الله" فما زال يسبِّح حتى عُرف ذلك في وجوه أصحابه.
ثم قال النّبي صلى الله عليه وسلم: "ويحك!، أتدري ما الله؟!، إن شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يُستشفع بالله على أحد من خلقه" وذكر الحديث. رواه أبو داود.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا بعد موته. ومعناه: طلب الدعاء من الرّسول لهم بالسقيا، كذلك طلب الدعاء من الصالحين الأحياء، لا بأس به.
ثم إنّه صلى الله عليه وسلم نزّه الله عن هذا التنقُّص وهذا الجهل الذي وقع من هذا الأعرابي في حقِّ الله، وقال: "سبحان الله! سبحان الله!" وهذه عادته صلى الله عليه وسلم، أنّه كان إذا استنكر شيئاً يسبِّح، أو أعجبه شيء يسبِّح أو يكبِّر.
قوله: "حتى عُرف ذلك في وجوه أصحابِه" لَمّا تأثَّر وغضب، غضبوا لغضب الرّسول صلى الله عليه وسلم، وتأثّروا من تأثُّر الرّسول صلى الله عليه وسلم، وظهر ذلك على وجوههم رضي الله عنهم.
ثم قال: "ويحك!" (ويح) كلمة يُراد بها العِتاب، أو يراد بها الشَّفَقة أحياناً.
"أتدري ما الله؟" هذا استنكار من النّبي صلى الله عليه وسلم وبيان لجهل هذا الأعرابي في حق الله.
"شأنُ الله أعظم من ذلك، إنّه لا يستشفع بالله على أحدٍ من خلقه" لَمّا أنكر صلى الله عليه وسلم ذلك ونزّه ربّه علّم هذا الجاهل ما يجب عليه من تعني الله.
فهذا الحديث فيه مسائل عظيمة:
المسألة الأولى: في الحديث دليل على مشروعيّة الاستسقاء عند تأخُّر المطر، فهو سُنّة ثابتة، وأن الطّلب من الصالحين الأحياء الحاضرين أن يدعو الله للمسلمين، لا بأس به، أمّا المِّيت فلا يُطلب منه شيء، لا شفاعة ولا دعاء.
والدليل على ذلك: أنّ الصّحابة رضي الله عنهم لَمّا تُوفّي الرّسول صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يذهبون إلى قبره إذا أجدبوا أو احتاجوا إلى شيء، ما كانوا يذهبون إلى قبره مثل ما كانوا يأتونه وهو حيّ ويطلبون منه الدعاء،(15/221)