وعن الصوم أنه سبب التقوي ، فالفوائد الدينية في العبادات هي الأصل والدنيوية ثانوية ، لكن عندما نتكلم عند عامة الناس ، فإننا نخاطبهم بالنواحي الدينية ، وعندما نتكلم عند من لا يقتنع إلا بشيء مادي ، فإننا نخاطبه بالنواحي الدينية والدنيوية ، ولكن مقام مقال .
وقال الله تعالى : ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها ) [ هود : 15 ] الآية .
قوله تعالى : ( من كان يريد الحياة الدنيا ) . أي : البقاء في الدنيا .
قوله : ( وزينتها ) . أي المال ، والبنين ، والنساء ، والحرث ، والأنعام ، والخيل المسومة ، كما قال الله تعالى : { زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا } [ آل عمران : 14] .
قوله : ( نوف إليهم ) . فعل مضارع معتل الآخر مجزوم بحذف حرف العلة الياء ، لأنه جواب الشرط .
والمعني : أنهم يعطون ما يريدون في الدنيا ، ومن ذلك الكفار لا يسعون إلا للدنيا وزينتها ، فعجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا ، كما قال تعالى : { ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمعتم بها } [ الأحقاف : 20] .
ولهذا لما بكي عمر حين رأي النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أثر في جنبه الفراش ، فقال : " ما يبكيك ؟ " . قال يا رسول الله ! كسري وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من نعيم وأنت على هذا الحال . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم " (1)، وفي الحقيقة هي ضرر عليهم ، لأنهم إذا انتقلوا من دار النعيم إلى الجحيم ، صار عليهم أشد وأعظم في فقد ما متعوا به في الدنيا .
__________
(1) البخاري : كتاب اللياس / باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتجور من اللياس ، ومسلم : كتاب الطلاق / باب في الإيلاء وأعتزال النساء .(11/93)
قوله : ( وهم فيها إلا يبخسون ) . البخس : النقص ، أي : لا ينقصون مما يجازون فيه ، لأن الله عدل لا يظلم ، فيعطعون ما أرادوه .
قوله : ( أولئك ) . المشار إليه يريدون الحياة الدنيا وزينتها .
قوله : ( ليس لهم في الآخرة إلا النار ) . فيه حصر وطريقة النفي والإثبات ، وهذا يعني أنهم لن يدخلوا الجنة ، لأن الذي ليس له إلا النار محروم من الجنة والعياذ بالله .
قوله : ( وحبط ما صنعوا فيها ) . الحبوط : الزوال ، أي : زال عنهم ما صنعوا في الدنيا .
قوله : ( وباطل ما كانوا يعملون ) . ( باطل ) : خبر مقدم لأجل مراعاة الفواصل في الآيات والمبتدأ " ما " في قوله : ( ما كانوا يعملون ) ، فأثبت الله أنه ليس لهؤلاء إلا النار ، وأن ما صنعوا في الدنيا قد حبط ، وأن أعمالهم باطلة .
وقوله تعالى : (من كان يريد الحياة الدنيا زينتها نوف إلهم إعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون ) مخصوصة بقوله تعالى : { من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها من نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً } [ الإسراء : 18] .
فأن قيل : لماذا لا نجعل آيه هود حاكمة على آية الإسراء ويكون الله توعد من يريد العاجلة في الدنيا أن يجعل له ما يشاء لمن يريد ؟ ثم وعد أن يعطيه ما يشاء؟
أجيب : إن هذا المعنى لا يستقيم لأمرين :
أولاً : أن القاعدة الشرعية في النصوص أن الأخص مقدم على الأعم ، وآية هود عامة ، لأن كل من أراد الحياة الدنيا وزينتها وفِّي إليه العمل وأعطي ما أراد أن يعطي ، أما آية الإسراء ، فهي خاصة : { عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد } [ الإسراء : 18] ، ولا يمكن أن يُحكَم بالأعم على الأخص .
الثاني : أن الواقع يشهد على ما تدل عليه آية الإسراء : لأن في فقراء الكفار من هو أفقر من فقراء المسلمين ، فيكون عموم آية هود مخصوصاً بآية الإسراء فالأمر موكول إلى مشيئة الله وفيمن يريده .
واختلف فيمن نزلت فيه آية هود :(11/94)
قيل : نزلت في الكفار ، لأن الكافر لا يريد إلا الحياة الدنيا ، ويدل لهذا سياقها والجزاء المرتب على هذا ، وعليه يكون وجه مناسبتها للترجمة أنه إذا كان عمل الكافرين يراد به الدنيا ، فكل من شاركهم في شيء من ذلك ، ففيه شيء من شركهم وكفرهم .
وقيل : نزلت في المرائين ، لأنهم لا يعملون إلا للدنيا ، فلا ينفعهم يوم القيامة .
وقيل : نزلت فيمن يريد مالاً بعمله الصالح .
والسياق يدل للقول الأول ، لقوله تعالى : { أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون } [ هود : 16] .
تنبيه :
اقتصر المؤلف رحمه الله على الإشارة إلى تكميل الآية الأولى ، وزدنا الآية التالية سهواً وعسى أن يكون خيراً .
وفي الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم ، تعس عبد الخميصة ، تعس عبد الخميلة ، إن أعطي ؛ رضي ، وإن لم يعط ، سخط ، تعس وأنتكس ، وإذا شيك فلا انتقش . طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله ، أشعت رأسه ، مغبرة قدماه ، إن كان في الحراسة ، كان في الحراسة ، وإن كان في الساقة ، كان في الساقة ، إن أستأذن ، لم يؤذن له ، وأن شفع ، لم يشفع " (1).
قوله : " وفي الصحيح عن أبي هريرة " . سبق الكلام على قول المؤلف : " وفي الصحيح في باب التفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله .
قوله : " تَعِس " . بفتح العين أو كسرها ، أي : خاب وهلك .
قوله : " عبد الدينار" الدينار : هو النقد من الذهب ، والدينار الإسلامي زنته مثقال ، وسماه عبد الدينار ، لأنه تعلق به تعلق العبد بالرب فكان أكبر همه ، وقدمه على طاعة ربه ، ويقال في عبد الدرهم ما قيل في عبد الدينار ، والدرهم هو النقد من الفضة ، وزنة الدرهم الإسلامي سبعة أعشار المثقال ، فكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل .
__________
(1) البخاري : كتاب الرقاق / باب ما يتقى من فتنة المال .(11/95)
وقد أراد المؤلف لهذا الحديث أن يتبين أن من الناس من يعبد الدنيا ، أي : يتذلل لها ويخضع لها ، وتكون مناه وغايته ، فيغضب إذا فقدت ويرضي إذا وجدت ، ولهذا سمي النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذا شأنه عبداً لها ، وهذا من يُعنى بجمع المال من الذهب والفضة ، فيكون مريداً بعمله الدنيا .
قوله : " تعس عبد الخميصة ، تعس عبد الخميلة " . وهذا من يعنى بمظهره وأثاثه ، لأن الخميصة كساء جميل والخميلة فراش وثير ، ليس له هم إلا هذا الأمر ، فإذا كان عابداً لهذه الأمور لأنه صرف لها جهوده وهمته ، فكيف بمن أراد بالعمل الصالح شيئاً من الدنيا فجعل الدين وسيلة للدنيا ؟ ! فهذا أعظم .
قوله : " إن أعطي رضي ، وإن لم يعط سخط " . يحتمل أن يكون المعطي هو الله فيكون الإعطاء قدرياً ، أي : إن قدر الله له الرزق والعطاء رضي وانشرح صدره ، وإن منع وحرم المال سخط بقلبه وقوله ، كأن يقول : لماذا كنت فقيراً وهذا غنياً ؟ وما أشبه ذلك ، فيكون ساخطاً على قضاء الله وقدرة لأن الله منعه .
والله سبحانه وتعالى يعطي ويمنع لحكمة ، ويعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب ، ولا يعطي الدين لمن يجب .
والواجب على المؤمن أن يرضي بقضاء الله وقدره ، إن أعطي شكر ، وإن منع صبر .
ويحتمل أن يراد بالإعطاء هنا الإعطاء الشرعي ، أي: إن أعطي من مال يستحقه من الأموال الشرعية رضي ، وإن لم يعط سخط ، وكلا المعنيين حق ، وهما يدلان على أن هذا الرجل لا يرضي إلا للمال ولا يسخط إلا له ، ولهذا سمّاه الرسول- صلى الله عليه وسلم - عبداً له .
قوله : " تعس وانتكس " . تعس ، أي : خاب وهلك ، وانتكس ، أي : أنتكست عليه الأمور بحيث لا تتيسر له ، فكلما أراد شيئاً انقلبت عليه الأمور خلاف ما يريد ، ولهذا قال :
وإذا شيك فلا أنتقش " . أي : إذا أصابته شوكة ، فلا يستطيع أن يزيل ما يؤذيه عن نفسه .(11/96)
وهذه الجمل الثلاث يحتمل خبراً منه - صلى الله عليه وسلم - عن حال هذا الرجل ، وأنه في تعاسة وانتكاس وعدم خلاص من الأذي ، ويحتمل أن يكون من باب الدعاء على من هذه حاله ، لأنه لا يهتم إلا للدنيا ، فدعا عليه أن يهلك ، وأن لا يصيب من الدنيا شيئاً ، وأن لا يتمكن من إزالة ما يؤذيه ، وقد يصل إلى الشرك عندما يصده ذلك عن طاعة الله حتى أصبح لا يرضي إلا للمال ولا يسخط إلا له .
قوله : " طوبي لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله " . هذا عكس الأول ، فهو لا يهتم للدنيا ، وإنما يهتم للآخرة ، فهو في استعداد دائم للجهاد في سبيل الله .
و" طوبى " فُعْلى من الطيب ، وهي اسم تفضيل ، فأطيب للمذكر وطوبي للمؤنث ، والمعني : أطيب حال تكون لهذا الرجل ، وقيل إن طوبي شجرة في الجنة ، والأول ، أعم ، كما قالوا في ويل : كلمة وعيد ، وقيل : واد في جهنم ، والأول أعم .
وقوله : " آخذ بعنان فرسه " . أي ممسك بمقود فرسه الذي يقاتل عليه .
قوله : " في سبيل الله " . ضابطه أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا لا للحمية أو الوطنية أو ما أشبه ذلك ، لكن إن قاتل وطنية وقصد حماية وطنه لكونه بلداً إسلامياً يجب الذود عنه ، فهو في سبيل الله ، وكذلك من قاتل دفاعاً عن نفسه أو ماله أو أهله ؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " من قتل دون ذلك ، فهو شهيد " ، فأما من قاتل للوطنية المحضة ، فليس في سبيل الله لأن هذا قتال عصبية يستوي فيه المؤمن والكافر ، فإن الكافر يقاتل من أجل وطنه .
قوله : " أشعت رأسه ، مغبرة قدماه " أي: رأسه أشعت من الغبار في سبيل الله ، فهو لا يهتم بحاله ولا بدنه مادام هذا الآمر ناتجاً عن طاعة الله عز وجل وقدماه مغبرة في السير في سبيل الله ، وهذا دليل على أن أهم شيء عنده هو الجهاد في سبيل الله ، أما أن يكون شعره أو ثوبه أو فراشه نظيفاً ، فليس له هم فيه .(11/97)
فوله : " إن كان في الحراسة ، فهو في الحراسة ، وإن كان في الساقة ، فهو في الساقة " . الحراسة والساقة ليست من مقدم الجيش ، فالحراسة أن يحرس الإنسان الجيش ، والساقة أن يكون في مؤخرته ، وللجمليتن معنيان :
أحدهما : أنه لا يبالي أين وضع ، إن قيل له : أحرس ، حرس ، وإن قيل له : كن في الساقة ، كان فيها ، فلا يطلب مرتبة أعلى من هذا المحل كمقدم الجيش مثلاً .
الثاني : إن كان في الحراسة أدي حقها ، وكذا إن كان في الساقة ، والحديث الصالح لمعنيين ، يحمل عليهما جميعاً إذا لم يكن بينهما تعارض ، ولا تعارض هنا .
قوله :" إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شفع لم يشفع " . أي : هو عند الناس ليس له جاه ولا شرف ، حتى إنه إن استأذن لم يؤذن له ، وهكذا عند أهل السلطة ليس له مرتبه ، فإن شفع لم يُشَفّع، ولكنه وجيه عند الله وله المنزلة العالية ، لأنه يقاتل في سبيله .
والشفاعة : هي التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة .
والاستئذان : طلب الإذن بالشيء .
والحديث قسم الناس إلى قسمين :
الأول : ليس له هم إلا الدنيا ، إما لتحصيل المال ، أو لتجميل الحال ، فقد استبعدت قلبه حتى أشغلته عن ذكر الله وعبادته .
الثاني : أكبر همه الآخرة ، فهو يسعى لها في أعلى ما يكون مشقة وهو الجهاد في سبيل الله ، ومع ذلك أدى ما يجب عليه من جميع الوجوه .
ويستفاد من الحديث :
أن الناس قسمان كما سبق .
أن الذي ليس له هم إلا الدنيا قد تنقلب عليه الأمور ، ولا يستطيع الخلاص من أدنى أذية وهى الشوكة ، بخلاف الحازم الذي لا تهمه الدنيا ، بل أراد أذية وهي الشوكة ، بخلاف الحازم الذي لا تهمه الدنيا ، وقنع بما قدره الله له .
أنه ينبغي لمن جاهد في سبيل الله ألا تكون همه المراتب ، بل يكون همه القيام بما يجب عليه ، إما في الحراسة ، أو الساقة ، أو القلب ، أو الجنب ، حسب المصلحة .(11/98)
أن دنو الإنسان عند الناس لا يستلزم منه دنو مرتبته عند الله عز وجل ، فهذا الرجل الذي إن شفع لم يشفّع وإن استأذن لم يؤذن له قال فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " طوبي له " ، ولم يقل : إن سأل لم يعط ، بل لا تهمه الدنيا حتى يسأل عنها، لكن يهمه الخير فيشفع للناس ويستأذن للدخول على ذوي السلطة للمصالح العامة .
فيه مسائل :
الأولى : إرادة الإنسان الدنيا بعمل الآخرة . الثانية : تفسير آية هود. الثالثة : تسمية الإنسان المسلم عبد الدينار والدرهم والخميصة . الرابعة : تفسير ذلك بأنه إن أعطى رضي وإن لم يعط سخط . الخامسة : قوله : تعس وأنتكس . السادسة : قوله " وإذا شيك ، فلا أنتقش ، السابعة : الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات .
فيه مسائل
الأولى : إرادة الإنسان بعمل الآخرة . وهذا من الشرك ، لأنه جعل علم الأخرة وسيلة لعمل الدنيا ، فيطغى على قلبه حب الدنيا حتى يقدمها على الآخرة ، والحزم والإخلاص أن يجعل عمل الدنيا للآخرة .
الثانية : تفسير آية هود . وقد سبق ذلك .
الثالثة : تسمية الإنسان المسلم عبد الدينار والدرهم والخميصة . وهذه العبودية لا تدخل في الشرك مالم يصل بها إلى حد الشرك ، ولكنها نوع أخر يخل بالإخلاص ، لأنه جعل في قلبه محبة زاحمت محبة الله عز وجل ومحبة أعمال الآخرة .
الرابعة : تفسير ذلك بأنه إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط . هذا تفسير لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " عبد الدينار ، عبد الدرهم ، عبد الخميصة ، عبد الخميلة إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط ، وهذه علامة عبوديته لهذه الأشياء أن يكون رضاه وسخطه تابعاً لهذه الأشياء .
الخامسة : قوله : " تعس وانتكس " .
السادسة : قوله : " وإذا شيك ، فلا أنتقش " يحتمل أن تكون الجمل الثلاث خبراً أو دعاء ، وسبق شرح ذلك .
السابعة : الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات .(11/99)
فقوله في الحديث : " طوبى لعبد - .." يدل على الثناء عليه ، وأنه هو الذي يستحق أن يمدح لا أصحاب الدراهم والدنانير وأصحاب الفرش والمراتب .
***
باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه فقد اتخذهم أرباباً
قوله : " من أطاع العلماء " . " من " يحتمل أن تكون شرطية ، بدليل قوله : " فقد اتخذهم " ، لأنها جواب الشرط ، ويحتمل أن تكون موصولة ، أي : "باب الذي أطاع العلماء " .
وقوله : " فقد أتخذهم " . خبر المبتدأ ، وقرنت بالفاء ، لأن الاسم الموصول كالشرط في العموم ، وعلى الأول تقرأ " بابٌ " بالتنوين ، وعلى الثاني بدون تنوين ، والأول أحسن .
والمراد بالعلماء : العلماء بشرع الله ، وبالأمراء : أولو الأمر المنفذون له ، وهذان الصنفان هم المذكوران في قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) [ النساء : 59 ]؛ فجعل الله طاعة مستقلة ، وطاعة رسوله مستقلة ، وطاعة أولي الأمر تابعة ، ولهذا لم يكرر الفعل ( أطيعوا ) ، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
وأولو الأمر هم أولو الشأن ، وهم العلماء ، لأنه يستند إليهم في أمر الشرع والعلم به ، والأمراء ، لأنه يستند إليهم في تنفيذ الشرع وإمضائه ، وإذا استقام العلماء والأمراء استقامت الأمور ، وبفسادهم تفسد الأمور ، لأن العلماء أهل الإرشاد والدلالة ، والأمراء أهل الإلزام والتنفيذ .
قوله : " في تحريم ما أحل الله " . أي في جَعْله حراماً ؛ أي : عقيدة أو عملاً .(11/100)
" أو تحليل ما حرم الله " . أي : في جعله حلالاً عقيدة أو عملاً ، فتحريم ما أحل الله لا ينقص درجة في الإثم عن تحليل ما حرم الله ، وكثير من ذوي الغيرة من الناس تجدهم يميلون إلى تحريم ما أحل الله أكثر من تحليل الحرام ، بعكس المتهاونين ، وكلاهما خطأ ، ومع ذلك ، فإن تحليل الحرام فيما الأصل فيه الحل أهون من تحريم الحلال ، لأن تحليل الحرام إذا لم يتبين تحريمه فهو مبني على الأصل وهو الحل ورحمة الله - سبحانه - سبقت غضبه؛ فلا يمكن أن نحرم إلا ما تبين تحريمه ، ولأنه أضيق وأشد ، والأصل أن تبقى الأمور على الحل والسعة حتى يتبين التحريم .
أما في العبادات فيشدد ، لأن الأصل المنع والتحريم حتى يبينه الشرع كما قيل:
والأصل في الأشياء حل ... ... وامنع عبادة إلا بإذن الشارع
قوله : " أرباباً " . جمع رب ، وهو المتصرف المالك .
والتصرف نوعان : تصرف قدري ، وتصرف شرعي .
فمن أطاع العلماء في مخالفة أمر الله ورسوله ، فقد اتخذهم أرباباً من دون الله باعتبار التصرف الشرعي ، لأنه اعتبرهم مشرعين وأعتبر تشريعهم شرعاً يعمل به ، وبالعكس الأمراء .
وقال ابن عباس : " يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ، أقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتقولون : قال أبو بكر وعمر ؟ ! " (1)
قول ابن عباس : " حجارة من السماء " . أي : من فوق تنزل عليكم عقوبة لكم ، ونزول الحجارة من السماء ليس بالأمر المستحيل ، بل هو ممكن ، قال تعالى في أصحاب الفيل : { وأرسل عليهم طيراً أبابيل * ترميهم بحجارة من سجيل } [ الفيل : 3،4] وقال تعالى في قوم لوط : { إنا أرسلنا عليهم حاصباً إلا آل لوط نجيناهم بسحر } [ القمر : 34] .
والحاصب : الحجارة تحصبهم من السماء .
__________
(1) الإمام أحمد في " المسند " بنحوه ، والخطيب في " الفقيه والمتفقة (1/145) .(11/101)
قوله : " أقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتقولون : قال أبو بكر عمر ؟ ! " . أبو بكر وعمر أفضل هذه الأمة وأقربها إلى الصواب ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا " . رواه مسلم (1) ، وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال : " أقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر " (2) ، وقال - صلى الله عليه وسلم - " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجد " (3)، ولم يعرف عن أبي بكر أنه خالف نصاً في رأيه ، فإذا كان قول أبي بكر وعمر إذا عارض الإنسان بقولهما قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه يوشك أن تنزل عليه حجارة من السماء ، فما بالك بمن يعارض قوله - صلى الله عليه وسلم - بمن هو دون أبي بكر عمر ؟ ! والفرق بين ذلك كما بين السماء و الأرض ، فيكون هذا أقرب للعقوبة .
وفي الأثر التحذير عن التقليد الأعمى والتعصب المذهبي الذي ليس مبنياً على أساس سليم .
__________
(1) مسلم : كتاب المساجد / باب قضاء الصلاة الفائته.
(2) الإمام أحمد في " المسند " (5/382) ، والترمذي : كتاب المناقب / باب في مناقب أبي بكر وعمر / وابن ماجة في " المقدمة " (1/37).
(3) الإمام أحمد في " المسند " (4/126) ، وأبو داود : كتاب السنة /باب في لزوم السنة ، وابن ماجة في " المقدمة " ( 1/15) ، وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية في " الفتاوي " (28/493)، والحاكم ووافقه الذهبي (1-150) ، وابن رجب في " جامع العلوم " (ص246) .(11/102)
وبعض الناس يرتكب خطأ فاحشاً إذا قيل له : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : لكن في الكتاب الفلاني كذا وكذا ، فعليه أن يتقي الله الذي قال في كتابه : { ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين } [ القصص : 65] ، ولم يقل ماذا أجبتم فلاناً وفلاناً ، أما صاحب الكتاب ، فإنه إن علم أنه يحب الخير ويريد الحق ، فإنه يدعي له بالمغفرة والرحمة إذا أخطأ ، ولا يقال : إنه معصوم ، يعارض بقوله قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وقال أحمد بن حنبل : " عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان ، والله تعالى يقول : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } [ النور : 63] ، أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة الشرك ، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قبله شيء من الزيغ فيهلك " (1).
قول أحمد رحمه الله : "عجبت " . العجب نوعان :
الأول : عجب استحسان ، كما في حديث عائشة رضي الله عنها : " كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في شأنه كله : في طهوره ، وترجله ، وتنعله " (2).
الثاني : عجب إنكار ، كما في قوله تعالى : ( بل عجبت ويسخرون ) [ الصافات : 12 ] ، والعجب في كلام الإمام أحمد هنا عجب إنكار .
قوله : " الإسناد " . المراد به هنا رجال السند لا نسبة الحديث إلى راويه أي عرفوا صحة الحديث بمعرفة رجاله .
قوله : " يذهبون إلى رأي سفيان " . أي سفيان الثوري ، لأنه صاحب المذهب المشهور وله أتباع لكنهم انقرضوا ، فهم يذهبون إلى رأي سفيان وهو من الفقهاء ويتركون ما جاء به الحديث !
قوله : " والله يقول : ( فليحذر ) " . الفاء عاطفة ، واللام للأمر ، ولهذا سُكِّنَت وجزم الفعل بها ، لكن حرك بالكسر ، لالتقاء الساكن .
__________
(2) البخاري ( كتاب الوضوء ، باب التمين في الوضوء ) ، ومسلم ( كتاب الطهارة ، باب التيمن في الطهور)(11/103)
قوله : ( عن أمره ) . الضمير يعود للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، بدليل أول الآية ، قال تعالى : { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاَ قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً فليحذر الذين يخالفون عن أمره } [ النور : 63] .
فإن قيل : لماذا عدي الفعل ب : ( عن ) مع أن ( يخالف ) يتعدى بنفسه ؟
أجيب : أن الفعل ضمن معنى الإعراض ، أي : يعرضون عن أمره زهداً فيه وعدم مبالاة به .
و ( أمره ) واحد الأوامر لأمره وليس واحد الأمور ، لأن الأمر هو الذي يخالف فيه ، وهو مفرد مضاف ، فيعم جميع الأوامر .
( فتنة ) : الفتنة فسرها الإمام أحمد بالشرك ، وعلى هذا يكون الوعد بأحد أمرين : إما الشرك ، وإما العذاب الأليم .
***
وعن عدي بن حاتم : أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هذه الآية : ( أتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا أله إلا هو سبحانه عما يشركون ) [ التوبة : 31] ، فقلت له : إنا لسنا نعبدهم . قال : " أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ، ويحلون ما حرم الله فتحلونه ؟ " . فقلت : بلي . قال : " فتلك عبادتهم " . رواه أحمد والترمذي وحسنه " (1).
قوله في حديث عدي بن حاتم : ( أتخذوا ) . الضمير يعود للنصارى ، لأن اليهود لم يتخذوا المسيح أبن مريم إلهاً ، بل أدعوا أنه ابن زانية وحاولوا قتله ، وأدعو ا أنهم قتلوه ، ويحتمل أن يعود الضمير لليهود والنصاري جميعاً ويختص النصاري باتخاذ المسيح ابن مريم ، وهذا هو المتبادر من السياق مع الآية التي قبلها .
قوله : ( أحبارهم ورهبانهم ) . الأحبار : جمع حبر ، وحبر بفتح الحاء وكسرها ، وهو العالم الواسع العلم ، والرهبان : جمع راهب ، وهو العابد الزاهد .
__________
(1) الترمذي : كتاب تفسير القرآن ، تفسير سورة التوبة .(11/104)
قوله : ( أرباباً من دون الله ) . أي : مشاركين لله عز وجل في التشريع ، لأنهم يحلون ما حرم الله فيحله هؤلاء الأتباع ، ويحرمون ما أحل الله فيحرمه الأتباع .
قوله " ( والمسيح ابن مريم ) أي : اتخذوه إلهاً مع الله ، بدليل قوله تعالى : ( وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً ) ، والعبادة : التذلل والخضوع ، واتباع الأوامر واجتناب النواهي .
قوله : ( إلهاً واحداً ) . هو الله عز وجل ، وإله ، أي : مألوه معبود مطاع ، وليس بمعني آله ، أي : قادر على الاختراع ، فإن هذا المعني فاسد ذهب إليه المتكلمون أو عامتهم ، فيكون معنى ( لا إله إلا الله ) على هذا القول : لا رب إلا الله ، وهذا ليس بالتوحيد المطلوب بهذه الكلمة ، إذ لو كان كذلك لكان المشركون الذين قاتلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موحدين ، لأنهم يقولون : لا رب إلا الله ، قال تعالى : { قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون الله } [ المؤمنون : 86 ] ، وهذه إحدى القرائتين ، وهي سبعية .
قوله : ( سبحانه عما يشركون ) . " سبحان " : أسم مصدر ، وهي معمول أو مفعول لفعل محذوف وجوباً تقديره يسبح سبحاناً ، أي : تسبيحاً ، لأن أسم المصدر بمعني المصدر ، فسبحان : مفعول مطلق عاملها محذوف وجوباً وهي ملازمة للإضافة : إما إلى مضمر ، كما في الآية : ( سبحانه ) ، أو إلى مظهر ، كما في ( سبحان الله ) .
والتسبيح : التنزيه ، أي : تنزيه الله عن كل نقص ، ولا يحتاج أن نقول : ومماثلة المخلوقين ، لأن المماثلة نقص ، ولكن إذا قلناها ، فذلك من باب زيادة الإيضاح حتى لا يظن أن تمثيل الخالق بالمخلوق في الكمال من باب الكمال ، فيكون المعنى : تنزيه الله عن كل ما لا يليق به من نقص أو مماثلة المخلوقين .
وقوله : ( عما يشركون ) . أي : مما سواه من المسيح ابن مريم والأحبار والرهبان ، فهو متنزه عن كل شرك وعن كل مشرك به .(11/105)
وقوله : ( عما يشركون ) هذا من البلاغة في القرآن لأنها جاءت محتملة أن تكون " ما " مصدرية ، فيكون المعنى عن شركهم ، أو موصولة ، ويكون المعني : سبحان الله عن الذين يشركون به ، وهي صالحة للأمرين ، فتكون شاملة لهما لأن الصحيح جواز استعمال المشترك في معنييه إذا لم يكن بينهما تعارض ، فيكون التنزية الشرك وعن المشرك به .
قوله : " إنا لسنا نعبدهم " . أي : لا نعبد الأحبار والرهبان ، ولا نسجد لهم ولا نركع ولا نذبح ولا ننذرهم لهم ، وهذا صحيح بالنسبة للأحبار والرهبان بدليل قوله : " أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ، ويحلون ما حرم الله فتحلونه ؟ ! " .
فإن هذا الوصف لا ينطبق على عيسى أبداً ، لأنه رسول الله ، فما أحله ، فقد أحله الله ، وما حرمه ، فقد حرمه الله ، وقد حاول بعض الناس أن يعل الحديث لهذا المعني مع ضعف سنده ، والحديث حسنه الترمذي والألباني وآخرون وضعفه آخرون .
ويجاب على التعليل المذكور بأن قول عدي : " لسنا نعبدهم " يعود على الأحبار والرهبان ، أما عيسى ابن مريم ، فالمعروف أنهم يعبدونه .
وبدأ بتحريم الحلال ، لأنه أعظم من تحليل الحرام ، وكلاهما محرم ، لقوله تعالى : { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب .. } [ النحل : 116] .
قوله : " فتلك عبادتهم " . ووجه كونها عبادة : أن من معني العبادة الطاعة ، وطاعة غير الله عبادة الله عبادة للمطاع ، ولكن بشرط أن تكون في غير طاعة الله ، أما إذا كانت في طاعة الله ، فهي عبادة لله ، لأنك أطعت غير الله في طاعة الله ، كما لو أمرك أبوك بالصلاة فصليت ، فلا تكون قد أباك أبوك بطاعتك له ، ولكن عبدت الله ، لأنك أطعت غير الله في طاعة الله ، ولأن أمر غير الله بطاعة الله وامتثال أمره هو امتثال لأمر الله .
ويستفاد من الحديث :
أن الطاعة بمعنى العبادة عبودية مقيدة .(11/106)
أن الطاعة في مخالفة شرع الله من عبادة المطاع ، أما في عبادة الله ، فهي عبادة الله .
أن اتباع العلماء والعباد في مخالفة شرع الله من اتخاذهم أرباباً . وأعلم أن أتباع العلماء أو الأمراء في تحليل ما حرم الله أو العكس ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول : أن يتابعهم في ذلك راضياً بقولهم ، مقدماً له ، ساخطاً لحكم الله ، فهو كافر لأنه كره ما أنزل الله فأحبط الله عمله ، ولا تحبط الاعمال إلا بالكفر ، فكل من كره ما أنزل الله ، فهو كافر .
الثاني : أن يتابعهم في ذلك راضياً بحكم الله وعالماً بأنه أمثل وأصلح للعباد والبلاد ، ولكن لهوي في نفسه أختاره ، كأن يريد مثلاً وظيفة ، فهذا لا يكفر ، ولكنه فاسق وله حكم غيره من العصاة .
الثالث : أن يتابعهم جاهلاً ، فيظن أن ذلك حكم الله ، فينقسم إلى قسمين :
أن يمكنه أن يعرف الحق بنفسه ، فهو مفرط أو مقصر ، فهو آثم ، لأن الله أمر بسؤال أهل العلم عند عدم العلم .
أن لا يكون عالماً ولا يمكنه التعلم فيتابعهم تقليداً ويظن أن هذا هو الحق ، فهذا لا شيء عليه لأنه فعل ما أمر به وكان معذوراً بذلك ، ولذلك ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : إن " من أفتي بغير علم ، فإنما إثمه على من أفتاه " (1)، لو قلنا : بإثمه بخطأ غيره ، للزم من ذلك الحرج والمشقة ، ولم يثق الناس بأحد لاحتمال خطئه .
فإن قيل : لماذا لا يكفر أهل القسم الثاني ؟
أجيب : إننا لو قلنا بكفرهم لزم من ذلك تكفير كل صاحب معصية يعرف أنه عاص لله ويعلم أنه حكم الله .
فائدة :
وصف الله الحاكمين بغير ما أنزل الله بثلاثة أوصاف :
قال تعالى : ( ومن لم يحم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) [ المائدة : 44]
__________
(1) الإمام أحمد في " المسند " (2/321، 365 ) ، وأبو داود : كتاب العلم / باب التوقي في الفتيا ، وابن ماجة : كتاب المقدمة / باب اجتناب الرأي : قال الألباني : " إسنادة حسن " ( المشكاة 242) .(11/107)
وقال تعالى : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) [ المائدة : 45] .
وقال تعالى : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) [ المائدة : 47] .
وأختلف أهل العلم مع ذلك :
فقيل : إن هذه الأوصاف لموصوف واحد ، لأن الكافر ظالم ، لقوله تعالى : ( والكافرون هم الظالمون ) [ البقرة : 254 ] ، وفاسق ، لقوله تعالى : ( وأما الذين فسقوا فمأواهم النار ) [ السجدة : 20] ، أي : كفروا .
وقيل : إنها لموصوفين مُتعدِّدين ، وإنها على حسب الحكم ، وهذا هو الراجح .
فتكون كافراً في ثلاثة أحوال :
أ)– إذا اعتقد جواز الحكم بغير ما أنزل الله ، بدليل قوله تعالى : ( أفحكم الجاهلية يبغون ) [ المائدة : 50] ، فكل ما خالف حكم الله ، فهو من حكم الجاهلية ، بدليل الإجماع القطعي على أنه لا يجوز الحكم بغير ما أنزل الله فالمُحل والمُبيح للحكم بغير ما أنزل الله مخالف لإجماع المسلمين القطعي، وهذا كافر مرتد، وذلك كمن اعتقد حلّ الزنا أو الخمر أو تحريم الخبز أو اللبن .
إذا أعتقد أن حكم غير الله مثل حكم الله .
ج) إذا اعتقد أن حكم غير الله أحسن من حكم الله .
بدليل قوله تعالى : ( ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون ) [ المائده : 50] ، فتضمنت الآية أن حكم الله أحسن الأحكام ، بدليل قوله تعالى مقرراً ذلك : (أليس الله بأحكم الحاكمين) [التين:8]، فإذا كان الله أحسن الحاكمين أحكاماً وهو أحكم الحاكمين؛ ، فمن أدعى أن حكم غير الله مثل حكم الله أو أحسن فهو كافر لأنه مُكذب للقرآن .
ويكون ظالماً : إذا أعتقد أن الحكم بما أنزل الله أحسن الأحكام ، وأنه أنفع للعباد والبلاد ، وانه الواجب تطبيقة ، ولكن حمله البغض والحقد للمحكوم عليه حتى حكم بغير ما أنزل الله ، فهو ظالم .(11/108)
ويكون فاسقاً : إذا كان حكمه بغير ما أنزل الله لهوي في نفسه مع اعتقادة أن حكم الله هو الحق ، لكن حكم بغيره لهوي في نفسه ، أي محبة لما حكم به لا كراهية لحم الله ولا ليضر أحداً به ، مثل : أن يحكم لشخص لرشوة رُشِيَ إياها ، أو لكونها قريباً أو صديقاً ، أو يطلب من ورائه حاجة ، وما أشبه ذلك مع اعتقاده بأن حكم الله هو الأمثل والواجب اتباعه ، فهذا فاسق ، وإن كان أيضاً ظالماً ، لكن وصف الفسق في حقه أولي من وصف الظلم .
أما بالنسبة لمن وضع قوانين تشريعية مع علمه بحكم الله وبمخالفة هذه القوانين لحكم الله ، فهذا قد بدل الشريعة بهذه القوانين ، فهو كافر لأنه لم يرغب بهذا القانون عن شريعة الله إلا وهو يعتقد أنه خير للعباد والبلاد من شريعة الله ، وعندما نقول بأنه كافر ، فنعني بذلك أن هذا الفعل يوصل إلى الكفر .
ولكن قد يكون الواضع له معدوراً ، مثل أن يغرر به كأن يقال : إن هذا لا يخالف الإسلام ، أو هذا من المصالح المرسلة ، أو هذا مما رده الإسلام إلى الناس .
فيوجد بعض العلماء وإن كانوا مخطئين يقولون : إن مسألة المعاملات لا تعلق لها بالشرع ، بل ترجع إلى ما يصلح الاقتصاد في كل زمان بحسبه ، فإذا اقتضي الحال أن نضع بنوكاً للربا أو ضرائب على الناس ، فهذا لا شيء فيه .
وهذا لا شك في خطئه ، فإن كانوا مجتهدين غفر الله لهم ، وإلا ، فهم على خطر عظيم ، واللائق بهؤلاء أن يلقبوا بأنهم من علماء الدولة لا علماء المللة .
ومما لا شك فيه أن الشرع جاء بتنظيم العبادات التي بين الإنسان وربه والمعاملات التي بين الإنسان مع الخلق في العقود والأنكحة والمواريث وغيرها ، فالشرع كامل من جميع الوجوه ، قال تعالى { اليوم أكملت لكم دينكم ) } [ المائدة : 3 ] .
وكيف يقال : إن المعاملات لا تعلق لها بالشرع وأطول آية في القرآن نزلت في المعاملات ، ولولا نظام الشرع في المعاملات لفسد الناس ؟ !(11/109)
وأنا لا أقول : نأخذ بكل ما قاله الفقهاء ، لأنهم قد يصيبون وقد يخطئون ، بل يجب أن نأخذ بكل ما قاله الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يوجد حال من الإحوال تقع بين الناس إلا في كتاب الله وسنة رسوله ما يزيل إشكالها ويحلها ، ولكن الخطأ إما من نقص العلم أو الفهم ، وهذا قصور ، أو نقص التدبر ، وهذا تقصير .
أما إذا وفق الإنسان بالعلم والفهم وبذل الجهد في الوصول إلى الحق ، فلابد أن يصل إليه حتى في المعاملات ، قال تعالى : ( أفلا يتدبرون القرآن ) [النساء : 82 ] وقال تعالى { أفلم يدبروا القول } [ المؤمنون : 68 ] ، وقال تعالى : { كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته } [ ص : 29] وقال تعالى { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء } [ النحل : 89] ، فكل شيء يحتاجه الإنسان في دينه أو دنياه ، فإن القرآن بينه بياناً شافياً .
ومن سَنَّ قوانين تخالف الشريعة وأدَّعي أنها من المصالح المرسلة ، فهو كاذب في دعواه لأن المصالح المرسلة والمقيدة إن أعتبرها الشرع ودل عليها فهي حق ومن الشرع ، وإن لم يعتبرها ، فليست مصالح ، ولا يمكن أن تكون كذلك ، ولهذا كان الصواب أنه ليس هناك دليل يسمي بالمصالح المرسلة ، بل ما اعتبره الشرع ، فهو مصلحة ، وما نفاه ، فليس بمصلحة ، وما سكت عنه ، فهو عفو .
والمصالح المرسلة توسع فيها كثير من الناس ، فأدخل فيها بعض المسائل المنكرة من البدع وغيرها ، كعيد ميلاد الرسول ، فزعموا أن فيه شحذاً للهمم وتنشيطاً للناس لأنهم نسوا ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا باطل ، لأن جميع المسلمين في كل صلاة يشهدون أن محمداً عبده ورسوله ويصلون عليه ، والذي لا يحيى قلبه بهذا وهو يصلي بين يدي ربه كيف يحيي قلبه بساعة يؤتي فيها بالقصائد الباطلة التي فيها من الغلو ما ينكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ ! فهذه مفسدة وليست بمصلحة.(11/110)
فالمصالح المرسلة وإن وضعها بعض أهل العلم المجتهدين الكبار ، فلا شك أن مرادهم نصر الله ورسوله ، ولكن استخدمت هذه المصالح في غير ما أراده أولئك العلماء وتوسع فيها ، وعليه ، فإنها تقاس بالمعيار الصحيح ، فإن أعتبرها الشرع قبلت ، وإلا ، فكما قال الإمام مالك : " كل أحد يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر " ، وهنالك قواعد كليات تطبق عليها الجزئيات .
وليعلم أن يجب على الإنسان أن يتقي ربه في جميع الأحكام ، فلا يتسرع في البت بها خصوصاً في التكفير الذي صار بعض أهل الغيرة والعاطفة يطلقونه بدون تفكير ولا رَويَّة ، مع أن الإنسان إذا كفر شخصاً ولم يكن الشخص أهلاً له ، عاد ذلك إلى قائله ، وتكفير الشخص يترتب عليه أحكام كثيرة ، فيكون مباح الدم والمال ، ويترتب عليه جميع أحكام الكفر ، وكما لا يجوز أن نطلق الكفر على شخص معين حتى يتبين شروط التكفير في حقه يجب أن لا َنجبُن عن تكفير من كفره الله ورسوله ، ولكن يجب أن نفرق بين المُعَيّن وغير المُعَيَّن ، فالمعين يحتاج الحكم بتكفيره إلى أمرين :
1 ) ثبوت أن هذه الخصلة التي قام بها مما يقتضي الكفر .
2 ) انطباق شروط التكفير عليه ، وأهمها العلم بأن هذا مُكفِّر ، فإن كان جاهلاً ، فإنه لا يكفر ، ولهذا ذكر العلماء أن من شروط إقامة الحد أن يكون عالماً بالتحريم ، هذا وهو إقامة حد وليس بتكفير ، والتحرز من التكفير أولى وأحرى .(11/111)
قال تعالى : { رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } [ النساء : 165 ] وقال تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } [ الإسراء : 15 ] ، وقال تعالى { وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } [ التوبة : 115] ، ولابد مع توفر الشروط من عدم الموانع ، فلو قام الشخص بما يقتضي الكفر إكراهاً أو ذهولا لم يكفر ، لقوله تعالى : { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من إكراه وقلبه مطمئن بالإيمان } [ النحل : 106] ، ولقول الرجل الذي وجد دابته في مهلكة : " اللهم ! أنت عبدي وأن ربك ، أخطأ من شدة الفرح " (1)، فلم يؤاخذ بذلك .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية النور . الثانية : تفسير آية براءة . الثالثة : التنبية على معني العبادة التي أنكرها عدي . الرابعة : تمثيل ابن عباس بأبي بكر وعمر ، وتمثيل أحمد بسفيان .الخامسة : تحول الأحوال إلى هذه الغاية ، حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال ، وتسمي الولاية ، وعبادة الأحبار هي العلم والفقه ، ثم تغيرت الأحوال إلى أن عُبِدَ من دون الله من ليس من الصالحين ، وعُبِدَ بالمعني الثاني من هو من الجاهلين .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية النور . وهي قوله تعالى : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) ، وسبق تفسيرها .
الثانية : تفسير آية براءة . وهي قوله تعالى : ( أتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله . . ) الآية ، وقد سبق ذلك .
الثالثة : التنبية على معني العبادة التي أنكرها عبدي . لأن العبادة هي التعبد لهم بالطاعة ، والتذلل لهم بالركوع والسجود والنذر وما أشبهه ، لكن بيَّن- صلى الله عليه وسلم - المراد من عبادتهم بأنها طاعتهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال .
__________
(1) البخاري : كتاب الدعوات / باب التوبة ، ومسلم كتاب التوبة /باب في الحض على التوبة .(11/112)
الرابعة : تمثيل ابن عباس بأبي بكر وعمر ، وتمثيل أحمد بسفيان : أي : إذا كان أبو بكر وعمر لا يمكن أن يُعَارَض قول النبي - صلى الله عليه وسلم - بقولهما ، فما بالك بمن عارض قول النبي - صلى الله عليه وسلم - بقول من دونهما ؟ ! فهو أشد وأقبح ، وكذلك مثل الإمام أحمد بسفيان الثوري وأنكر على مَن أخذ برأيه وترك ما صح به الإسناد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، واستدل بقوله تعالى : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره …….. ) الآية.
الخامسة : تحول الأحوال إلى هذه الغاية حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال .. إلخ .
يقول المؤلف رحمة الله تعالى : تغيرت الأحوال إلى هذه الغاية حتى صار عن الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال .. وهذا لا شك أنه أشد من معارضة قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقول أبي بكر وعمر .
ثم قال : " ثم تغيرت الأحوال إلى أن عبد من دون الله من ليس من الصالحين "، أي : يركع ويسجد له ، ويعظم تعظيم الرب ، ويوصف بما لا يستحق ، وهذا يوجد عند كثير من الشعراء الذين يمدحون الملوك والوزراء وهم لا يستحقون أن يكونوا بمنزلة أبي بكر وعمر .
ثم قال : " وعبد بالمعني الثاني " : وهو الطاعة والاتباع مَن هو من الجاهلين ، فأطيع الجاهل في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله ، كما يوجد في بعض النظم والقوانين المخالفة للشريعة الإسلامية ، فإن واضعيها جهال لا يعرفون من الشريعة ولا الأديان شيئاً ، فصاروا يعبدون بهذا المعني ، فيطاعون في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله .(11/113)
وهذا في زمان المؤلف ، فكيف بزماننا ؟ ! وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال : " لا يأتي زمان على الناس إلا وما بعده شر منه ، حتى تلقوا ربكم " (1) ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للصحابة : " ومن يعش منكم فسيرى أختلافاً كثيراً " (2)، وعصر الصحابة أقرب إلى الهدي من عصر من بعدهم .
والناس لا يُحسُّون بالتغير ، لأن الأمور تأتي رويداً رويداً، ولو غاب أحد مدة طويلة ثم جاء ، لوجد التغير الكثير المزعج نسأل الله السلامة ، فعلينا الحذر ، وأن نعلم أن شرع الله يجب أن يُحمَى وأن يُصان ، ولا يطاع أحد في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله أبداً مهما كانت منزلته ، وأن الواجب أن نكون عباداً لله عز وجل تذللاً وتعبداً وطاعة .
***
باب قول تعالى
( ألم تر الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً ) [ النساء : 60 ] الآيات .
هذا الباب له صلة قوية بما قبله ، لأن ما قبله فيه حكم من أطاع العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله ، وهذا فيه الإنكار على من أراد التحاكم إلى غير الله ورسوله ، وقد ذكر الشيخ رحمه الله فيه أربع آيات :
الآية الأولى ما جعلها ترجمة للباب ، وهي قوله تعالى : ( ألم تر ) .
الاستفهام يُراد به التقرير والتعجب من حالهم ، والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
قوله : ( يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ) . هذا يُعيّن أن يكون الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - هنا ، ولم يقل الذين آمنوا ، لأنهم لم يؤمنوا ، بل يزعمون ذلك وهم كاذبون .
__________
(1) البخاري : كتاب الفتن / باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه .
(2) تقدم تخريجه (ص 733)(11/114)
والذي أُنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - الكتاب والحكمة ، قال تعالى : { وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة } [ النساء : 113] ، قال المفسرون : الحكمة السنة ، وهم يزعمون أنهم آمنوا بذلك ، لكن أفعالهم تكذب أقوالهم ، حيث يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت لا إلى الله ورسوله .
قوله : ( إلى الطاغوت ) . صيغة مبالغة من الطغيان ، ففيه اعتداء وَبغي ، والمراد به هنا كل حكم خالف حكم الله ورسوله ، وكل حاكم يحكم بغير ما أنزل الله على رسوله ، أما الطاغوت بالمعني الأعم ، فقد حَدَّه ابن القيم بأنه : " كل ما تجاوز العبد به حده من معبود أو متبوع أو مطاع " ، وقد تقدَّم الكلام عليه في أول كتاب التوحيد .
قوله : ( وقد أُمروا أن يكفروا ) . أي أمرهم الله بالكفر بالطاغوت أمراً ليس فيه لبس ولا خفاء ، فمن أراد التحاكم إليه ، فهذه الإدارة على بصيرة ، إذ الأمر قد بين لهم .
قوله : ( ويريد الشيطان ) . جنس يشمل شياطين الإنس والجن .
قوله : ( أن يضلهم ضلالاً بعيداً ) . أي : يوقعهم في الضلال البعيد عن الحق ، ولكن لا يلزم من ذلك أن ينقلهم إلى الباطل مرة واحدة ، ولكن بالتدريج .
فقوله : ( بعيداً ) . أي ليس قريباً ، لكن بالتدريج شيئاً فشيئاً حتى يوقعهم في الضلال البعيد .
قوله : ( وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلي الرسول ) . أي : قال لهم الناس : أقبلوا ( إلى ما أنزل الله ) من القرآن ( وإلي الرسول ) نفسه في حياته وسنته بعد وفاته ، والمراد هنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - نفسه في حياته .
قوله : ( رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً ) الرؤية هنا رؤية حال لا رؤية بصر ، بدليل قوله : ( تعالوا ) ، فهي تدل على أنهم ليسوا حاضرين عنده .
والمعني : كأنما تشاهدهم .
وقوله : ( رأيت المنافقين ) . إظهار في موضع الإضمار لثلاث فوائد :
الأولى : أن هؤلاء الذين يزعمون الإيمان كانوا منافقين .(11/115)
الثانية : أن هذا لا يصدر إلا من منافق ، لأن المؤمن حقاً لابد أن ينقاد لأمر الله ورسوله بدون صدود .
الثالثة : التنبيه ، لأن الكلام إذا كان على نسق واحد قد يغفل الإنسان عنه ، فإذا تغير ، حصل له انتباه .
وقوله : ( رأيت المنافقين ) جواب " إذا " ، وكلمة " صد " تستعمل لازمة ، أي : يوصف بها الشخص ولا يتعداه إلى غيره ، ومصدرها صدود ، كما في هذه الآية ، ومتعدية ، أي : صد غيره ، ومصدرها صد ، كما في قوله تعالى : ( وصدوكم عن المسجد الحرام ) [الفتح : 25] .
وقوله : ( فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا أحساناً وتوفيقاً ) . الاستفهام هنا يراد به التعجب ، أي : كيف حالهم إذا أصابتهم مصيبة ، والمصيبة هنا تشمل المصيبة الشرعية والدنيوية لعدم تضاد المعنيين .
فالدنيوية مثل : الفقر ، والجدب ، وما أشبه ذلك ، فيأتون يشكون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فيقولون : أصابتنا هذا المصائب ونحن ما أردنا إلا الإحسان والتوفيق .
والشرعية : إذا أظهر الله رسوله على أمرهم ، خافوا وقالوا : يا رسول الله ! ما أردنا إلا الإحسان والتوفيق .
قوله : ( بما قدمت أيديهم ) . الباء : هنا للسببية ، ( ما ) اسم موصول ، و( قدمت ) صلته ، والعائد محذوف تقديره بما قدمته أيديهم ، وفي اللغة العربية يطلق هذا التعبير باليد ويراد به نفس الفاعل ، أي : بما قدموه من الإعمال السيئة .
وقوله : ( إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً ) . ( إن ) بمعني : " ما " ، أي : ما أردنا إلا إحساناً بكوننا نسلم من الفضيحة والعار ، وتوفيقاً بين المؤمنين والكافرين أو بين طريق الكفر وطريق الإيمان ، أي : نمشي معكم ونمشى مع الكفار ، وهذه حال المنافقين ، فهم قالوا أردنا أن نحسن المنهج والمسلك مع هؤلاء وهؤلاء ونوفق بين الطرفين .(11/116)
قوله : ( أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم ) . توعدهم الله بأنه يعلم ما في قلوبهم من النفاق والمكر والخداع ، فالله علام الغيوب ، قال تعالى : ( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ) [ الأنفال : 24 ] ، وهذا من أعظم ما يكون من العلم والخبرة أن الله يحول بين المرء وقلبه ، ولهذا قيل لأعرابي : " بم عرفت ربك ؟ قال : بنقض العزائم ، وصرف الهمم " .
فالإنسان يعزم على الشيء ثم لا يدري إلا وعزيمته منتقضة بدون سبب ظاهر .
قوله : (فأعرض عنهم ) . وهذا من أبلغ ما يكون من الإهانة والاحتقار .
قوله : ( وعظهم ) . أي : ذَكَّرهم وخَوَّفهم ، لكن لا تجعلهم أكبر همك ، فلا تخافهم ، وقم بما يجب عليك من الموعظة لتقوم عليهم الحجة .
قوله : ( وقل لهم في أنفسهم بليغاً ) . أختلف المفسرون فيها على ثلاثة أقوال :
الأول : أن الجار والمجرور في أنفسهم متعلق ببليغ ، أي قل لهم قولا بليغاً في أنفسهم ، أي: يبلغ في أنفسهم مبلغاً مؤثراً .
الثاني : أن المعني : أنصحهم سراً في أنفسهم .
الثالث : أن المعني : قل لهم في أنفسهم ( أي : في شأنهم وحالهم ) قولاً بليغاً في قلوبهم يؤثر عليها ، والصحيح أن الآية تشمل المعاني الثلاثة ، لأن اللفظ صالح لها جميعاً ، ولا منافاة بينها ، وهذه قاعدة في التفسير ينبغي التنبيه لها ، وهي أن المعاني المحتملة للآية والتي قال بها أهل العلم إذا كانت الآية تحتملها وليس بينها تعارض : فإنه يؤخذ بجميع المعاني .
وبلاغة القول تكون في أمور :
الأول : هيئة المتكلم بأن يكون إلقاؤه على وجه مؤثر .
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب ، احمرت عيناه ، وعلا صوته ، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيشاً ، يقول : صبَّحكم ومَسَّاكم (1) .
الثاني : أن تكون ألفاظه جزلة مترابطة محدودة الموضوع .
__________
(1) م : كتاب الجمعة / باب تخفيف الصلاة والخطبة .(11/117)
الثالث : أن يبلغ من الفصاحة غايتها بحسب الإمكان ، بأن يكون كلامه : سليم التركيب ، موافقاً للغة العربية ، مطابقاً لمقتضى الحال .
قال شيخ الإسلام ابن تيميه : " إن هذه الآية تنطبق تماماً على أهل التحريف والتأويل في صفات الله ، لأن هؤلاء يقولون : إنهم يؤمنون بالله ورسوله ، وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلي الرسول ، يعرضون ، ويصدون ويقولون : نذهب إلى فلان وفلان ، وإذا اعترض عليهم ، قالوا : نريد الإحسان والتوفيق ، وأن نجمع بين دلالة العقل ودلالة السمع " . ذكره رحمة الله في الفتوى الحموية.
قوله : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ) [ البقرة : 11] .
وقوله : ( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ) [ الأعراف : 56] .
وقوله : ( أفحكم الجاهلية يبغون ) [ المائدة : 50 ] .
الآية الثانية قوله تعالى : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ) .
الإفساد في الأرض نوعان :
الأول : إفساد حسي مادي : وذلك مثل هدم البيوت وإفساد الطرق وما أشبه ذلك .
الثاني : إفساد معنوي ، وذلك بالمعاصي ، فهي من أكبر الفساد في الأرض ، قال تعالى : ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ) [ الروم : 41] ، وقال تعالى : ( وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ) [ الشورى : 30 ] ، وقال تعالى : ( ولو أن أهل القري آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ) [ الأعراف : 96 ] ، وقال تعالى : ( ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ) [المائدة : 65-66] .
قوله : ( إنما نحن مصلحون ) . وهذه دعوي من أبطل الدعاوى ، حيث قالوا : ما حالنا وما شأننا إلا الإصلاح .(11/118)
ولهذا قال تعالى : ( ألا إنهم هم المفسدون ) . ( ألا ) : أداة استفتاح ، والجملة مؤكدة بأربع مؤكِّدات ، وهي : ( إلا ) ، و( إن ) . وضمير الفصل ( هم ) . والجملة الاسمية ، فالله قابل حصرهم بأعظم منه ، فهؤلاء الذين يُفسدون في الأرض ويدَّعون الإصلاح هم المفسدون حقيقة لا غيرهم
ومناسبة الآية للباب ظاهرة ، وذلك أن التحاكم إلى غير ما أنزل الله من أكبر أسباب الفساد في الأرض .
الآية الثالثة قوله تعالى : ( ولا تفسدوا في الأرض ) . يشمل الفساد المادي والمعنوي كما سبق .
قوله : ( بعد إصلاحها ) . من قبل المصلحين ، ومن ذلك الوقوف ضد دعوة أهل العلم والوقوف ضد دعوة السلف ، والوقوف ضد من ينادي بأن يكون الحكم بما في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله : ( بعد إصلاحها ) من باب تأكيد اللوم والتوبيخ ، إذا كيف يفسد الصالح وهذا غاية ما يكون من الوقاحة والخبث والشر ؟ فالإفساد بعد الإصلاح أعظم وأشد من أن يمضي الإنسان في فساده قبل الإصلاح ، وإن كان المطلوب هو الإصلاح بعد الفساد .
ومناسبة الآية للباب : أن التحاكم إلى ما أنزل الله هو الإصلاح ، وأن التحاكم إلى غيره هو الإفساد .
الآية الرابعة قوله تعالى : ( أفحكم الجاهلية يبغون ) . الاستفهام للتوبيخ ، و( حكم ) : مفعول مقدم لـ ( يبغون ) ، وقُدِّم لإفادة الحصر ، والمعني : أفلا يبغون إلا حكم الجاهلية.
و( يبغون ) : يطلبون ، والإضافة في قوله : ( حكم الجاهلية ) تحتمل معنيين : أحدهما : أن يكون المعنى : أفحكم أهل الجاهلية الذين سبقوا الرسالة يبغون ، فيريدون أن يعيدوا هذه الأمة إلى طريق الجاهلية التي أحكامها معروفة ، ومنها البحائر ، والسوائب ، وقتل الأولاد .
ثانيهما : أن يكون المعنى : أفحكم الجهل الذي لا يبنى على العلم يبغون ، سواء كانت عليه الجاهلية السابقة أو لم تكن ، وهذا أعم .
والإضافة للجاهلية تقتضي التقبيح والتنفير .(11/119)
وكل حكم يخالف حكم الله ، فهو جهل وجهالة .
فإن كان مع العلم بالشرع ، فهو جهالة ، وإن كان مع خفاء الشرع ، فهو جهل ، والجهالة هي العمل بالخطأ سفهاً لا جهلاً ، قال تعالى : ( إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ) [ النساء : 17 ] ، وأما مَن يعمل السوء بجهل فلا ذنب عليه ، لكن عليه أن يتعلم .
قوله : ( ومن أحسن من الله حكماً ) . ( من ) : اسم استفهام بمعنى النفي ، أي : لا أحد أحسن من الله حكماً ، وهذا النفي مُشرَب معني التحدي ، فهو أبلغ من قوله : " أحسن من الله حكماً " ، لأنه متضمن للنفي وزيادة .
وقوله : ( حكماً ) . تمييز ، لأنه بعد اسم التفضيل ، وهو مبهم ، فبيَّن هذا التمييز المبهم وميزه .
والحكم هنا يشمل الكوني والشرعي .
فإن قيل يوجد في الأحكام الكونية ما هو ضار مثل الزلازل والفيضانات وغيرها ، فأين الحُسن في ذلك ؟
أُجيب : أن الغايات المحمودة في هذه الأمور تجعلها حسنةً ، كما يضرب الإنسان ولده تربية له ، فيعد هذا الضرب فعلاً حسناً ، فكذلك الله يصيب بعض الناس بهذه المصائب لتربيتهم ، قال تعالى في القرية التي قلب الله أهلها قردة خاسئين : ( فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين ) [ البقرة : 66] ، وهذا الحسن في حكم الله ليس بيناً لكل أحد ، كما قال تعالى : ( لقوم يوقنون ) ، وكلما ازداد العبد يقيناً وإيماناً ازداد معرفة بحسن أحكام الله ، وكلما نقص إيمانه ويقينة أزداد جهلاً بحسن أحكام الله ، ولذلك تجد أهل العلم الراسخين فيه إذا جاءت الآيات المتشابهات بينوا وجه ذلك بأكمل بيان ولا يرون في ذلك تناقضاً ، وعلى هذا ، فإنه يتبين قوة الإيمان واليقين بحسب ما حصل للإنسان من معرفته بحسن أحكام الله الكونية والشرعية .(11/120)
وقوله : ( ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون ) . خبر لا يدخله الكذب ولا النسخ إطلاقاً ، ولذلك هدي الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، فجمعوا بين المتشابهات والمختلفات من النصوص ، وقالوا : ( كل من عند ربنا ) [آل عمران : 7] ، وعرفوا حسن أحكام الله تعالى ، وأنها أحسن الأحكام وأنفعها للعباد وأقومها لمصالح الخلق في المعاش والمعاد ، فلم يرضوا عنها بديلاً .
وعن عبد الله بن عمر ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به " (1). قال النووي : " حديث صحيح ، رويناه في كتاب " الحجة " ، بإسناد صحيح " (2).
قوله في حديث عبد الله بن عمر : " لا يؤمن أحدكم " . أي إيماناً كاملاً إلا إذا كان لا يهوي ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكلية ، فإنه ينتفي عنه الإيمان بالكلية ، لأنه إذا كره ما أنزل الله ، فقد حبط عمله لكفره ، قال تعالى ( ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ) [ محمد : 9] .
قوله : " حتى يكون هواه تبعاً لما جئب به " . الهوي بالقصر هو : الميل ، وبالمد هو : الريح ، والمراد الأول .
و" حتى " : للغاية ، والذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - هو القرآن والسنة .
وإذا كان هواه تبعاً لما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لزم من ذلك أن يوافقه تصديقاً بالأخبار ، وامتثالاً للأوامر ، واجتناباً للنواهي .
__________
(1) أبي عاصم في " السنة " (15) ، والخطيب في " التاريخ " (4/369) ، والبغوي في " شرح السنة " ( 1/212) ، وانظر كلام الشيخ حفظه الله ، ص 759.
(2) ربعون النووية " ( حديث رقم 41) .(11/121)
واعلم أن أكثر ما يطلق الهوى على هوى الضلال لا على هوى الإيمان ، قال تعالى : ( أفرايت من اتخذ إلهه هواه ) [الجاثية : 23] ، وقال تعالى : ( واتبعوا أهواءهم ) [ محمد : 14] ، وغيرها من الآيات الدالة على ذم من اتبع هواه ، ولكن إذا كان الهوى تبعاً لما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كان محموداً ، وهو من كمال الإيمان .
وقد سبق بيان أن مَن اعتقد أن حكم غير الله مساو لحكم الله ، أو أحسن ، أو أنه يجوز التحاكم إلى غير الله ، فهو كافر .
وأما مَن لم يكن هواه تبعاً لما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فإن كان كارهاً له ، فهو كافر وإن لم يكن كارهاً ولكن آثر محبة الدنيا على ذلك ، فليس بكافر ، لكن يكون ناقص الإيمان .
قوله :" قال النووي : حديث صحيح " . صححه النووي وغيره ، وضعفه جماعة من أهل العلم ، منهم ابن رجب في كتابه " جامع العلوم والحكم " ، ولكن معناه صحيح .
قوله في أثر الشعبي : " وقال الشعبي" . أي : في تفسير الآية .
قوله : " رجل من المنافقين " . هو من يظهر الإسلام ويبطن الكفر ، وسمي منافقاً من النافقاء ، وهي جُحر اليربوع ، واليربوع له جُحر له باب وله نافقاء – أي يحفر في الأرض خندقاً حتى يصل منتهي جحره ثم يحفر إلى أعلى ، فإذا بقي شيء قليل بحيث يتمكن من دفعه برأسه توقف ، فإذا حُجر عليه من الباب خرج من النافقاء .
قوله : " ورجل من اليهود " . اليهود هو المنتسبون إلى دين موسى عليه السلام ، وسموا بذلك إما من قوله : ( إنا هدنا إليك ) ، أي : رجعنا ، أو نسبة إلى أبيهم يهوذا ، ولكن بعد التعريب صار بالدال .
قوله : " إلى محمد " . أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يذكره بوصف الرسالة ، لأنهم لا يؤمنون برسالته ، ويزعمون أن النبي الموعود به سيأتي .
قوله : " عرف أنه لا يأخذ الرشوة " تعليل لطلب التحاكم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .(11/122)
والرشوة : مُثَلثةُ الراء ، فيجوز الرِّشوة ، والرَّشوة ، والرُّشوة، وهي : المال المدفوع للتوصل إلى شيء .
قال أهل العلم : " لا تكون محرمة إلا أذا أراد الإنسان أن يتوصل بها إلى باطل أو دفع حق ، أما مَن بذلها ليتوصل بها إلى حق له منع منه أو ليدفع بها باطلاً عن نفسه ، فليست حراماً على الباذل ، أما على آخذها ، فحرام " .
قوله : " فاتفقا أن يأتيا كاهناً في جهينة " . كأنه صار بينهما خلاف ، وأبي المنافق أن يتحاكما إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
والكاهن : مَن يدَّعي علم الغيب في المستقبل ، وكان للعرب كُهان تنزل عليهم الشياطين بخبر السماء ، فيقولون : سيحدث كذا وكذا ، فربما أصابوا مرة من المرات ، وربما أخطؤوا ، فإذا أصابوا أدَّعوا علم الغيب ، فكان العرب يتحاكمون إليهم ، فنزل قوله تعالى : ( ألم تر إلى الذين يزعمون ..) الآية .
وقيل : " نزلت في رجلين أختصما ، فقال أحدهما : نترافع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقال الآخر : إلى : كعب بن الأشرف ، ثم ترافعا إلى عمر ، فذكر له أحدهما القصة ، فقال للذي لم يرض برسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أكذلك ؟ : نعم . فضربه بالسيف فقتله " (1).
قوله : " وقيل " . ذكر هذه القصة بصيغة التمريض ، لكن ذكر في " تيسير العزيز الحميد " : أنها رُويت من طرق متعددة ، وأنها مشهورة متداولة بين السلف والخلف تداولاً يُغني عن الإسناد ، ولها طرق كثيرة ولا يضرها ضعف إسنادها . أ . هـ .
قوله : " رجلين " . هما مبهمان ، فيحتمل أن يكونا من المسلمين المؤمنين ، ويحتمل أن يكونا من المنافقين ، ويحتمل غير ذلك .
قوله : " إلى كعب بن الأشرف " . وهو رجل من زعماء بني النضير .
قوله : " أكذلك " . خبر لمبتدأ محذوف ، التقدير : أكذلك الأمر .
__________
(1) الحافظ في " الفتح " ( 5/37) : " رواه اكلبي في تفسيره عن ابن عباس .. ، وإسناده وإن كان ضعيفاً لكن تقوي بطريق مجاهد " .(11/123)
قوله : " فضربه بالسيف " . الضارب عمر .
وهذه القصة والتي قبلها تدل على أن من لم يرض بحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كافر يجب قتله ، ولهذا قتله عمر رضي الله عنه .
فإن قيل : كيف يقتله عمر رضي الله عنه والأمر إلى الإمام وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟
أجيب : أن الظاهر أن عمر لم يملك نفسه لقوة غَيرته فقتله ، لأنه عرف أن هذا ردة عن الإسلام ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من بدل دينه فاقتلوه " (1).
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية النساء وما فيها من الإعانة على فهم الطاغوت . الثانية : تفسير آية البقرة : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ) الآية : الثالثة : تفسير آية الأعراف : ( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ) . الرابعة : تفسير ( أفحكم الجاهلية يبغون ) . الخامسة : ما قال الشعبي في سبب نزول الآية الأولى . الأولى . السادسة : تفسير الإيمان الصادق والكاذب . السابعة : قصة عمر مع المنافق . الثامنة : كون الإيمان لا يحصل لأحد حتى يكون هواه تبعا لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
الأولى : تفسير آية النساء وما فيها من الإعانة على فهم الطاغوت . وهي قوله تعالى : ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ) .
وقوله : " وما فيها من الإعانة على فهم الطاغوت " . أي : أن الطاغوت مشتق من الطغيان ، وإذا كان كذلك ، فيشمل كل ما تجاوز به العبد حده من متبوع أو معبود أو مطاع ، فالأصنام والأمراء والحكام الذين يُحلون الحرام ويحرمون الحلال طواغيت .
الثانية : تفسير آية البقرة : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ) . ففيها دليل على أن النفاق فساد في الأرض ، لأنها في سياق المنافقين ، والفساد يشمل جميع المعاصي .
الثالثة : تفسير آية الأعراف : ( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ) . وقد سبق .
__________
(1) البخاري : كتاب استتابة المرتدين / باب حكم المرتد .(11/124)
الرابع : تفسير ( أفحكم الجاهلية يبغون ) . وقد سبق ذلك ، وقد بينا أن المراد بحكم الجاهلية كل ما خالف الشرع ، وأُضيف للجاهلية للتنفير منه وبيان قبحه وأنه مبني على الجهل والضلال .
الخامسة : ما قال الشعبي في سبب نزول الآية الأولى . وقد سبق .
السادسة : تفسير الإيمان الصادق والكاذب . فالإيمان الصادق يستلزم الإذعان التام والقبول والتسليم لحكم الله ورسوله ، والإيمان الكاذب بخلاف ذلك .
السابعة : قصة عمر مع المنافق . حيث جعل عدوله عن الترافع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مبيحاً لقتله لردته ، وأقدم على قتله لقوة غيرته فلم يملك نفسه .
الثامنة : كون الإيمان لا يحصل لأحد حتى يكون هواه تبعاً لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - . وهذا واضح من الحديث .
***
***
باب من جحد شيئاً من الأسماء والصفات
الجحد : الإنكار ، والإنكار نوعان :
الأول : إنكار تكذيب ، وهذا كفر بلا شك ، فلو أن أحداً أنكر أسماً من أسماء الله أوصفة من صفاته الثابتة في الكتاب والسنة ، مثل أن يقول : ليس لله يد ، أو أن الله لم يستو على عرشه ، أو ليس له عين ، فهو كافر بإجماع المسلمين ، لأن تكذيب خبر الله ورسوله كفر مخرج عن المللة بالإجماع .
الثاني : إنكار تأويل ، وهو أن لا ينكرها ولكن يتأولها إلى معني يخالف ظاهرها ، وهذا نوعان :
أن يكون للتأويل مُسَوِّغ في اللغة العربية ، فهذا لا يُوجب الكفر .
أن يكون له مُسَوِّغ في اللغة العربية ، فهذا حكمه الكفر لأنه إذا لم يكن له مسوغ صار في الحقيقة تكذيباً ، مثل أن يقول : المراد بقوله تعالى ( تجري بأعيننا ) [القمر : 14 ] تجري بأراضينا ، فهذا كافر لأنه نفاها نفياً مطلقاً ، فهو مُكذَّب .(11/125)
ولو قال في قوله تعالى : ( بل يداه مبسوطتان ) [المائدة : 64] المراد بيديه : السماوات والأرض ، فهو كفر أيضاً لأنه لا مسوغ له في اللغة العربية ، ولا هو مقتضى الحقيقة الشرعية ، فهو مُنكر ومكذب ، لكن إن قال : المراد باليد النعمة أو القوة ، فلا يكفر لأن اليد في اللغة تطلق بمعني ، قال الشاعر :
وَكَم لِظلام الليل عندك من يَد ... ... تُحَدّثُ أنَّ المانَويَّةَ تَكذبُ
فقوله : من يد ، أي : من نعمة ، لأن المانوية يقولون : إن الظلمة لا تخلق الخير ، وإنما تخلق الشر .
قوله : " من الأسماء " . جمع اسم ، واختلف في اشتقاقه ، فقيل : من السمو ، وهو الارتفاع ، ووجه هذا أن المسمي يرتفع باسمه ويتبين ويظهر .
وقيل : من السّمة وهي العلامة ، ووجهه : أنه علامة على مسماه ، والراجح أنه مشتق من كليهما .
والمراد بالأسماء هنا أسماء الله عز وجل ، وبالصفات صفات الله عز وجل ، والفرق بين الاسم والصفة أن الاسم ما تسمي به الله والصفة ما اتصف بها .
البحث في أسماء الله :
المبحث الأول :
أن أسماء الله أعلام وأوصاف ، وليست أعلاماً محضة ؛ فهي من حيث دلالتها على ذات الله تعالى أعلام ، ومن حيث دلالتها على الصفة التي يتضمنها هذا الاسم أوصاف ، بخلاف أسمائنا ، فالإنسان يسمي ابنه محمداً وعلياً دون أن يلحظ معني الصفة ، فقد يكون اسمه علياً وهو من أوضع الناس ، أو عبد الله وهو من أكفر الناس ، بخلاف أسماء الله ، لأنها متضمنة للمعاني ، فالله هو العلي لعلو ذاته وصفاته ، والعزيز يدل على العزة ، والحكيم يدل على الحكمة ، وهكذا .
ودلالة الاسم على الصفة تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأول : دلالة مطابقة ، وهي دلالته على جميع معناه المحيط به .
الثاني : دلالة تَضَمُّن ، وهي دلالته على جزء معناه .
الثالث : دلالة التزام على أمر خارج لازم .(11/126)
مثال ذلك : الخالق يدل على ذات الله وحدات ، وعلى صفة الخلق وحدها دلالة تضمن ، ويدل على ذات الله وعلى صفة الخلق فيه دلاله مطابقة ، ويدل على العلم والقدرة دلالة التزام .
كما قال الله تعالى : ( الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً ) [ الطلاق : 12] ، فَعَلمْنَا القدرة من كونه خلق السماوات والأرض ، وعَلّمنَا العلم من ذلك أيضاً ، لأن الخلق لابد فيه من علم ، فمن لا يعلم لا يخلق ، وكيف يخلق شيئاً لا يعلمه ؟ !
المبحث الثاني :
أن أسماء الله مترادفة متباينة ، المترادف : ما أختلف لفظه واتفق معناه ، والمتباين : ما اختلف لفظه ومعناه ، فأسماء الله مترادفة باعتبار دلالتها على ذات الله عز وجل لأنها تدل على مسمى واحد ، فالسميع ، البصير ، العزيز ، الحكيم ، كلها تدل على شيء واحد هو الله ، ومتباينة باعتبار معانيها ، لأن معنى الحكيم غير معني السميع وغير معني البصير ، وهكذا .
المبحث الثالث :
أسماء الله ليست محصورة بعدد معين ، والدليل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن مسعود الحديث الصحيح المشهور : " اللهم ! إني عبدك ، ابن عبدك ، ابن أمتك .. – إلى أن قال : أسألك بكل أسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحداً من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك " (1)، وما أستأثر الله به في علم الغيب لا يمكن أن يُعلَم به ، وما ليس بمعلوم فليس بمحصور .
__________
(1) الإمام أحمد في " المسند " (1/391 ، 452 ) ، وابن حيان (2372 ) ، والطيراني في " الكبير " ( 10352) ، والحاكم ( 1/509) ، الهيثمي (10/136) ، وقال : " رجال أحمد وأبي يعلي رجال الصحيح " ، وصححه ابن القيم في " شفاء العليل " (277) ، وأحمد شاكر في المسند (3712 ).(11/127)
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : " أن تسعة وتسعين أسماً من أحصاها دخل الجنة " (1)، فليس معناه أنه ليس له إلا هذه الأسماء ، لكن معناه أن مَن أحصى من أسمائه هذه التسعة والتسعين فإنه يدخل الجنة ، فقوله : " من أحصاها " تكميل للجمله الأولى ، وليست استئنافية منفصلة ، ونظير هذا قول القائل : عندي مئة فرس أعدتها للجهاد في سبيل الله ، فليس معناه أنه ليس عنده إلا هذه المئة بل معناه أن هذه المئة مُعدَّة لهذا الشيء .
المبحث الرابع :
الاسم من أسماء الله يدل على الذات وعلى المعنى كما سبق ، فيجب علينا أن نؤمن به اسماً من الأسماء ، ونؤمن بما تَضَمَّنه من الصفة ، ونؤمن بما تَدُلّ عليه هذه الصفة من الأثر والحكم إن كان الاسم معتدياُ ، فمثلاً : السميع نؤمن بأن من أسمائه تعالى السميع ، وأنه دال على صفة السمع ، وأن لهذا السمع حُكماً وأثراً وهو أنه يسمع به ، كما قال تعالى : ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله و الله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير ) [ المجادلة : 1] ، أما إن كان الاسم غير متعد ، كالعظيم ، والحي ، والجليل ، فتثبت الاسم والصفة ، ولا حكم له يتعدى إليه .
المبحث الخامس :
هل أسماء الله تعالى غيره ، أو أسماء الله هي الله ؟
إن أُريد بالاسم اللفظ الدال على المسمى ، فهي غير الله عز وجل ، وإن أُريد بالاسم مدلول ذلك اللفظ ، فهي المسمي .
__________
(1) البخاري : كتاب الدعوات / باب لله مائة اسم غير واحد، ومسلم : كتاب الذكر والدعاء / باب في أسماء الله تعالى .(11/128)
فمثلاً : الذي خلق السماوات والأرض هو الله ، فالاسم هنا هو المُسَمَّى ، فليست " اللام ، والهاء " هي التي خلقت السماوات والأرض ، وإذا قيل : اكتب باسم الله . فكتبت بسم الله ، فالمراد به الاسم دون المسمى ، وإذا قيل : اضرب زيداً . فضربت زيداً المكتوب في الورقة لم تكن ممتثلاً ، لأن المقصود المسمى ، وإذا قيل : اكتب زيد قائم فالمراد الاسم الذي هو غير المسمى .
البحث في صفات الله :
المبحث الأول :
تنقسم صفات الله إلى ثلاثة أقسام :
الأول : ذاتية ويقال معنوية .
الثاني : فعلية .
الثالث : خبرية .
فالصفات الذاتية : هي الملازمة لذات الله ، والتي لم يزل ولا يزال متصفاً بها ، مثل : السمع والبصر وهي معنوية ، لأن هذه الصفات معانٍ .
والفعلية : هي التي تتعلق بمشيئته إن شاء فعلها وإن لم يشأ لم يفعلها ،
مثل : النزول إلى السماء الدنيا ، والاستواء على العرش ، والكلام من حيث آحاده ، والخلق من حيث آحاده ، لا من حيث الأصل ، فأصل الكلام صفة ذاتية ، وكذلك الخلق .
والخبرية : هي أبعاض وأجزاء بالنسبة لنا ، أما بالنسبة لله ، فلا يقال هكذا ، بل يقال : صفات خبرية ثبت بها الخبر من الكتاب والسنة ، وهي ليست معنىً ولا فعلاً ، مثل : الوجه ، والعين ، والساق ، واليد .
المبحث الثاني :
الصفات أوسع من الأسماء ، لأن كل اسم متضمن لصفة ، وليس كل صفة تكون اسماً ، وهناك صفات كثيرة تطلق على الله وليست من أسمائه ، فيوصف الله بكلام والإرادة ، ولا يسمي بالمتكلم أو المريد .
المبحث الثالث:
إن كل ما وصف الله به نفسه ، فهو حق على حقيقته ، لكن ينزه عن التمثيل والتكييف ، أما التمثيل ، فلقوله تعالى : ? { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } [ الشورى : 11] ، وقوله : ( فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون ) [ النمل : 74] ، والتعبير بنفي التمثيل أحسن من التعبير بنفي التشبيه ، لوجوه ثلاثة :(11/129)
أحدهما : أن التمثيل هو الذي جاء به القرآن وهو منفي مطلقاً ، بخلاف التشبيه ، فلم يأت القرآن بنفيه .
الثاني : أن نفي التشبيه على الإطلاق لا يصح ، لأن كل مَوجودَيْن فلا بد أن يكون بينهما قَدُر مشترك يشتبهان فيه ويتميز كل واحد بما يختص به ، فـ : " الحياة " مثلاً وصف ثابت في الخالق والمخلوق ، فبينهما قدر مشترك ، ولكن حياة الخالق تليق به وحياة المخلوق تليق به .
الثالث : أن الناس اختلفوا في مسمى التشبيه ، حتى جعل بعضهم إثبات الصفات التي أثبتها الله لنفسه تشبيهاً ، فإذا قيل من غير تشبيه ، فَهمَ هذا البعض من هذا القول نفي الصفات التي أثبتها الله لنفسه .
وأما التكييف ، فلا يجوز أن نُكيِّف صفات الله ، فمن كيَّف صفة من الصفات ، فهو كاذب عاص ، كاذب لأنه قال بما لا علم عنده فيه ، عاص لأنه واقع فيما نهي كاذب عاص ، كاذب لأنه قال بما لا علم عنده فيه ، عاص لأنه واقع فيما نهي الله عنه وحَرّمه في قوله تعالى : { ولا تقف ما ليس لك به علم } [الإسراء : 36] ، وقوله تعالى : ( وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) بعد قوله : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن .. } [الأعراف : 33 ] الآية ، ولأنه لا يمكن إدراك الكيفية ، لقوله تعالى : ? { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً } [ طه : 110] وقوله : { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } [ الأنعام : 103] .(11/130)
وسواء كان التكييف باللسان تعبيراً أو بالجنان تقديراً أو بالبيان تحريراً ، ولهذا قال مالك رحمه الله حين سئل عن كيفية الاستواء : " الكيف مجهول ، والسؤال عنه بدعه " ، وليس معنى هذا أن لا نعتقد أن لها كيفية ، بل لها كيفية ، ولكنها ليست معلومة لنا ، لأن ما ليس له كيفية ليس بموجود ، فالاستواء والنزول واليد والوجه والعين لها كيفية ، لكننا لا نعلمها ، ففرق بين أن نثبت كيفية معينه ولو تقديراً وبين أن نؤمن بأن لها كيفية غير معلومة ، وهذا هو الواجب ، فنقول : لها كيفية ، لكن غير معلومة .
فإن قيل : كيف يُتَصَوَّر أن نعتقد للشيء كيفية ونحن لا نعلمها ؟
أجيب : إنه متصور ، فالواحد منا يعتقد أن لهذا القصر كيفية من داخله ، ولكن لا يعلم هذه الكيفية إلا إذا شاهدها ، أو شاهد نظيرها ، أو أخبره شخص صادق عنها .
***
وقوله الله تعالى : ( وهم يكفرون بالرحمن ) [ الرعد : 30 ] الآية .قوله تعالى : ( وهم يكفرون بالرحمن ) الآية :
( وهم ) . أي : كفار قريش .
( يكفرون بالرحمن ) . المراد أنهم يكفرون بهذا الاسم لا بالمسمي ، فهم يُقرِّون به ، قال تعالى : { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } [ لقمان : 25 ] ، وفي حديث سهيل بن عمر : " لما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكتب الصلح في غزوة الحديبية قال للكاتب : " اكتب بسم الله الرحمن الرحيم " ، قال سهيل : أما الرحمن ، فو الله ما أدري ما هي ولكن اكتب باسمك اللهم " (1)، وهذا من الأمثلة التي يراد بها الاسم دون المسمى .
وقد قال الله تعالى : { قل أدعوا الله الرحمن أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسني } [ الإسراء : 110] ، أي : بأي اسم من أسمائه تدعونه ، فإن له الأسماء الحسنى ، فكل أسمائه حسنى ، فادعوا بما شئتم من الأسماء ، ويراد بهذا الآية الإنكار على قريش .
__________
(1) البخاري : كتاب الشروط / باب الشروط في الجهاد .(11/131)
وفي الآية دليل على أن من أنكر اسماً من أسماء الله تعالى فإنه يكفر ، لقوله تعالى : { وهم يكفرون بالرحمن } [الرعد : 30] ، ولأنه مكذب لله ولرسوله ، وهذا كفر ، وهذا وجه استشهاد المؤلف بهذه الآية .
قوله : ( لا إله إلا هو ) . خبر " لا " النافية للجنس محذوف ، والتقدير : لا إله حق إلا هو ، وأما الإله الباطل ، فكثير ، قال تعالى : { ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل } [ لقمان : 30] .
قوله : ( عليه توكلت ) . أي عليه وحده ، لأن تقديم المعمول يدل على الحصر ، فإذا قلت مثلاً : " ضربت زيداَ " فإنه يدل على أنك ضربته ، ولكن لا يدل على أنك لم تضرب غيره ، وإذا قلت : " زيداً ضربت " دلت على أنك ضربت زيداً ولم تضرب غيره ، وسبق معنى التوكل وأحكامه .
قوله : ( وإليه متاب ) . أي : إلى الله . و( متاب ) أصلها متابي ، فحذفت الياء تخفيفاً ، والمتاب بمعني التوبة ، فهو مصدر ميمي ، أي : وإليه توبتي .
والتوبة : هي الرجوع إلى الله تعالى من المعصية إلى الطاعة ، ولها شروط خمسة :
الإخلاص لله تعالى بأن لا يحمل الإنسان على التوبة مراعاة أحد أو محاباته أو شيء من الدنيا .
أن تكون في وقت قبول التوبة ، وذلك قبل طلوع الشمس من مغربها ، وقبل حضور الموت .
الندم على ما مضى من فعله ، وذلك بأن يشعر بالتحسر على ما سبق ويتمنى أنه لم يكن .
الإقلاع عن الذنب ، وعلى هذا ، فإذا كانت التوبة من مظالم الخلق ، فلابد من رد المظالم إلى أهلها أو استحلالهم منها .(11/132)
العزم على عدم العودة ، والتوبة التي لا تكون إلا لله هي توبة العبادة ، كما في الآية السابقة ، وأما التوبة التي بمعنى الرجوع ، فإنها تكون له ولغيره ، ومنه قول عائشة حين جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجد نمرقة فيها صور ، فوقف بالباب ولم يدخل ، وقالت : " أتوب إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا لغيره من الخلق بل لله وحده ، ولكن هذه توبة رجوع ، ومن ذلك أيضاً حين يضرب الإنسان ابنه لسوء أدبه ، يقول الابن : أتوب .
وفي " صحيح البخاري " : قال علي " حدثوا الناس بما يعرفون ، أتريدون أن يكذب الله ورسوله ؟ ! " (1).
قوله في أثر على رضي الله عنه : " حدثوا الناس " . أي : كلموهم بالمواعظ وغير المواعظ .
قوله : " بما يعرفون " . أي بما يمكن أن يعرفوه وتبلغه عقولهم حتى لا يفتنوا ، ولهذا جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : " أنك لن تحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة " (2)، ولهذا كان من الحكمة في الدعوة ألا تباغت الناس بما لا يمكنهم إدراكه ، بل تدعوهم رويداً رويداً حتى تستقر عقولهم ، وليس معنى " بما يعرفون " ، أي : بما يعرفونه من قبل ، لأن الذي يعرفونه من قبل يكون التحديث به من تحصيل الحاصل .
قوله : " أتريدون أن يكذب الله ورسوله ؟ ! " الاستفهام للإنكار ، أي : أتريدون إذا حدثتم الناس بما لا يعرفون أن يكذب الله ورسوله ، لأنك إذا قلت : قال الله وقال رسوله كذا وكذا ، قالوا هذا كذب إذا كانت عقولهم لا تبلغه ، وهم لا يكذبون الله ورسوله ، ولكن يكذبونك بحديث تنسبه إلى الله ورسوله ، فيكونون مكذبين لله ورسوله ، لا مباشرة ولكن بواسطة الناقل .
فإن قيل : قل ندع الحديث بما لا تبلغه عقول الناس وإن كانوا محتاجين لذلك ؟
__________
(1) البخاري : كتاب العلم /باب من خص بالعلم قوماً دون قوم .
(2) البخاري : كتاب النكاح / باب هل يرجع إذا رأي منكراً في الدعوة .(11/133)
أجيب : لا ندعه ، ولكن نحدثهم بطريق تبلغه عقولهم ، وذلك بأن ننقلهم رويداً رويداً حتى يتقبلوا هذا الحديث ويطمئنوا إليه ، ولا ندع ما لا تبلغه عقولهم ونقول : هذا شيء مستنكر لا نتكلم به .
ومثل ذلك العمل بالسنة التي لا يعتادها الناس ويستنكرونها ، فإننا نعمل بها ولكن بعد أن نخبرهم بها ، حتى تقبلها نفوسهم ويطمئنوا إليها .
ويستفاد من هذا الأثر أهمية الحكمة في الدعوة إلى الله عز وجل ، وأنه يجب على الداعية أن ينظر في عقول المدعوين وينزل كل إنسان منزلته .
مناسبة هذا الأثر لباب الصفات :
مناسبته ظاهرة ، لأن بعض الصفات لا تحتملها أفهام العامة فيمكن إذا حدثتهم بها كان لذلك أثر سيئ عليهم ، كحديث النزول إلى السماء الدنيا مع ثبوت العلو، فلو حَدّثت العاميّ بأنه نفسه ينزل إلى السماء الدنيا مع علوه على عرشفه، فقد يفهم أنه إذا أنزل؛ صارت السماوات فوقه وصار العرش خالياً منه، وحينئذ لا بد في هذا من حديث تبلغه عقولهم فَتُبين لهم أن الله عز وجل ينزل نزولاً لا يماثله نزول المخلوقين مع علوه على عرشه، وأنه لكمال فضله ورحمته يقول: "من يدعوني فأستجيب له.." الحديث. والعامي يكفيه أن يتصور مطلق المعنى ، وأن المراد بذلك بيان فضل الله عز وجل في هذه الساعة من الليل. وَرَوَى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن ابن طاووس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " أنه رأى رجلاً انتفض لما سمع حديثاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصفات ، استنكار لذلك ، فقال : ما فرق هؤلاء ؟ يجدون رقة عند محكمة ، ويهلكون عند متشابهة ؟ ! " انتهي (1).
__________
(1) خاري : كتاب / التهجد / باب الدعاء والصلاة من آخر الليل ، ومسلم : صلاة المسافرين / باب الترغيب في الدعاء .(11/134)
قوله في أثر ابن عباس : " انتفض " . أي اهتز جسمه ، والرجل مبهم ، والصفة التي حُدث بها لم تبين ، وبيان ذلك ليس مهماً ، وهذا الرجل انتفض استنكاراً لهذه الصفة لا تعظيماً لله ، وهذا أمر عظيم صعب ، لأن الواجب على المرء إذا صح عنده شيء عن الله ورسوله أن يقر به ويصدق ليكون طريقه طريق الراسخين في العلم حتى وإن لم يسمعه من قبل أو يتصوره .
قوله : " ما فرق " . فيها : ثلاث روايات :
" فرَقُ " ، بفتح الراء ، وضم القاف .
" فرَّق " ، بفتح الراء مشددة وفتح القاف .
" فرَقَ " ، بفتح الراء مخففة ، وفتح القاف .
فعلى رواية " فرق " تكون " ما " استفهامية مبتدأ ، و" فرق " : خبر المبتدأ أي : ما خوف هؤلاء من إثبات الصفة التي تليت عليهم وبلغتهم ، لماذا لا يثبتونها لله عز وجل كما أثبتها الله لنفسه وأثبتا له رسوله ؟ وهذا ينصب تماماً على أهل التعطيل والتحريف الذين ينكرون الصفات ، فما الذي يخوفهم من إثباتها والله تعالى قد أثبتها لنفسه ؟
وعلي رواية " فرق " أو " فرق " تكون فعلاً ماضياً بمعني ما فرقهم ، كقوله تعالى : { وقرآناً فرقناه } [ الإسراء : 106] ، أي : فرقناه . و" ما " يحتمل أن تكون نافية ، والمعنى : ما فرق هؤلاء بين الحق والباطل ، فجعلوا هذا من المتشابه وأنكروه ولم يحملوه على المحكم ، ويحتمل أن تكون استفهامية والمعني : أي شيء فرقهم فجعلهم يؤمنون بالمحكم ويهلكون عند المتشابه ؟
قوله : " يجدون رقة عند محكمة " . الرقة : اللين والقبول ، و " محكمه " ، أي : محكم القرآن .
قوله : " ويهلكون عند متشابه " . أي : متشابه القرآن .(11/135)
والمحكم الذي اتضح معناه وتبين ، والمتشابه هو الذي يخفي معناه ، فلا يعلمه الناس ، وهذا إذا جمع بين المحكم والمتشابه ، وأما إذا ذكر المحكم مفرداً دون المتشابه ، فمعناه المتقن الذي ليس فيه خلل : لا كذب في أخباره ، ولا جور في أحكامه ، قال تعالى : { وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً } [الأنعام : 115] ، وقد ذكر الله الإحكام في القرآن دون المتشابه ، وذلك مثل قوله تعالى : { تلك آيات الكتاب الحكيم } [ يونس : 1 ] ، وقال تعالى : { كتاب أحكمت آياته } [ هود : 1].
وإذا ذكر المتشابه دون المحكم صار المعنى أنه يشبه بعضه بعضاً في جودته وكماله ، ويصدق بعضه بعضاً ولا يتناقض ، قال تعالى { الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني } [ الزمر : 23] ، والتشابه نوعان : تشابه نسبي ، وتشابه مطلق .
والفرق بينهما : أن المطلق يخفى على كل أحد ، والنسبي يخفي على أحد دون أحد ، وبناء على هذا التقسيم ينبني الوقف في قوله تعالى : { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم } [ آل عمران : 7 ] فعلى الوقوف على ( إلا الله ) يكون المراد بالمتشابه المطلق ، وعلى الوصل ( إلا الله والراسخون في العلم ) يكون المراد بالمتشابه المتشابه النسبي ، وللسلف في ذلك قولان :
القول الأول : الوقف على ( إلا الله ) ، وعليه أكثر السلف ، وعلى هذا ، فالمراد بالمتشابه المتشابه المطلق الذي لا يعلمه إلا الله ، وذلك مثل كيفية وحقائق صفات الله ، وحقائق ما أخبر الله به من نعيم الجنة وعذاب النار ، قال الله تعالى في نعيم الجنة : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } [ السجدة : 17 ] ، أي : لا تعلم حقائق ذلك ، ولذلك قال ابن عباس : " ليس في الجنة شيء مما في الدنيا إلا الأسماء " (1).
__________
(1) ابن حزم في " الفصل " ( 2/108) – وقال "هذا سند غاية في الصحة " . وقال المنذري في " الترغيب " ( 4/560) : " رواه البيهقي موقوفاً بإسناد جيد " .(11/136)
والقول الثاني : الوصل ، فيقرأ : ( إلا الله والراسخون في العلم ) ، وعلى هذا، فالمراد بالمتشابه المتشابه النسبي ، وهذا يعلمه الراسخون في العلم ويكون عند غيرهم متشابهاً ، ولهذا يروي عن ابن عباس ، أنه قال : " أنا من الراسخين في العلم الذي يعلمون تأويله " (1). ولم يقل هذا مدحاً لنفسه أو ثناء عليها ، ولكن ليعلم الناس أنه ليس في كتاب الله شيء لا يعرف معناه ، فالقرآن معانيه بينة ، لكن بعض القرآن يشتبه على ناس دون آخرين حتى العلماء الراسخون في العلم يختلفون في معنى القرآن ، وهذا يدل على أنه خفي على بعضهم ، والصواب بلا شك مع أحدهم إذا كان اختلافهم اختلاف تضاد لا تنوع ، أما إذا كانت الآية تحتمل المعنيين جميعاً بلا منافاة ولا مرجح لأحدهما ، فإنها تحمل عليهما جميعاً .
وبعض أهل العلم يظنون أن في القرآن ما لا يمكن الوصول إلى معناه ، فيكون من المتشابه المطلق ، ويحملون آيات الصفات على ذلك ، وهذا من الخطأ العظيم ، إذ ليس من المعقول أن يقول الله تعالى : { كتاب أنزلناه مبارك ليدبروا آياته } [ ص: 29] ، ثم تستثني الصفات وهي أعظم وأشرف موضوعاً وأكثر من آيات الأحكام ، ولو قلنا بهذا القول ، لكان مقتضاه أن أشرف ما في القرآن موضوعاً يكون خفياً ، ويكون معنى قوله تعالى : ( ليدبوا آياته ) ، أي : آيات الأحكام فقط ، وهذا غير معقول ، بل جميع القرآن يفهم معناه ، إذا لا يمكن أن تكون هذه الأمة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى آخرها لا تفهم معني القرآن ، وعلي رأيهم يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر وجميع الصحابة يقرؤون آيات الصفات وهم لا يفهمون معناها ، بل هي عندهم بمنزلة الحروف الهجائية أ ، ب ، ت .. والصواب أنه ليس في القرآن شيء متشابه على جميع الناس من حيث المعنى ، ولكن الخطأ في الفهم .
__________
(1) ر قوله في : " تفسير الطبري " (3/183)(11/137)
فقد يقصر الفهم عن إدراك المعني أو يفهمه على معنى خطأ ، وأما بالنسبة للحقائق ، فما أخبر الله به من أمر الغيب ، فمتشابه على جميع الناس .
ولما سمعت قريش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر الرحمن ، أنكروا ذلك ، فأنزل الله فيهم : ( وهم يكفرون بالرحمن ) [ الرعد : 30 ] " (1).
قوله : " ولما سمعت قريش رسول الله يذكر الرحمن " . أصل ذلك أن سهيل بن عمرو أحد الذين أرسلتهم قريش لمفاوضة النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلح الحديبية وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب : " بسم الله الرحمن الرحيم " ، فقال " أما الرحمن ، فلا والله ما أدري ما هي : وقالوا : إننا لا نعرف رحماناً إلا رحمن اليمامة . فأنكروا الاسم دون المسمى ، فأنزل الله : ( وهم يكفرون بالرحمن ) ، أي بهذا الاسم من أسماء الله .
وفي الآية دليل على أن من أنكر اسماً من أسماء الله الثابتة في الكتاب أو السنة ، فهو كافر لقوله تعالى : ( وهم يكفرون بالرحمن ) .
وقوله : " ولما سمعت قريش " . الظاهر والله أعلم أنه من باب العام الذي أريد به الخاص ، وليس كل قريش تنكر ذلك ، بل طائفة منهم ، ولكن إذا أقرت الأمة الطائفة على ذلك ولم تنكر ، صح أن ينسب لهم جميعاً ، بل أن الله نسب إلى اليهود في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما فعله أسلافهم في زمن موسى عليه السلام ، قال تعالى ( وإذ آخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة ) [ البقرة : 63] ، وهذا لم يكن في عهد المخاطبين .
فيه مسائل :
الأولى : عدم الإيمان بجحد شيء من الأسماء والصفات . الثانية : تفسير آية الرعد . الثالثة : ترك التحديث بما لا يفهم السامع . الرابعة : ذكر العلة : أنه يفضي إلى تكذيب الله ورسوله ولو لم يتعمد المنكر . الخامسة : كلام ابن عباس لمن استنكر شيئاً من ذلك ، وأنه أهلكه .
قوله فيه مسائل :
__________
(1) ابن جرير الطبري في " التفسير " (20397).(11/138)
الأولى : عدم الإيمان بجحد شيء من الأسماء والصفات . عدم بمعنى انتفاء أي : انتفاء الإيمان بسبب جحد شيء من الأسماء والصفات ، وسبق التفصيل في ذلك .
الثانية : تفسير آية الرعد . وهي قوله تعالى : ( وهم يكفرون بالرحمن ) . وسبق تفسيرها .
الثالثة : ترك التحديث بما لا يفهم السامع . وهذا ليس على إطلاقه ، وقد سبق التفصيل فيه عند شرح الأثر .
الرابعة : ذكر العلة أنه يفضي إلى تكذيب الله ورسوله ولو لم يتعمد المنكر .
وهي أن الذي لا يبلغ عقله ما حدث به يفضي به التحديث إلى تكذيب الله ورسوله ، فيكذب ويقول : هذا غير ممكن ، وهذا يوجد من بعض الناس في أشياء كثيرة مما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يكون يوم القيامة ، كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن الأرض يوم القيامة تكون خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفا أحدكم خبزته " (1)، وما أشبه ذلك ، وكما أن الصراط أحد من السيف وأدق من الشعرة وغير هذه الأمور لو حدثنا بها إنساناً عامياً لأوشك أن ينكر ، لكن يجب أن تبين له بالتدريج حتى يتمكن من عقلها مثل ما نعلم الصبي شيئاً فشيئاً .
وقوله : " ولو لم يتعمد المنكر " . أي : ولو لم يقصد المنكر تكذيب الله ورسوله ، ولكن كذب نسبة هذا الشيء إلى الله ورسوله ، وهذا يعود بالتالي إلى رد خبر الله ورسوله .
الخامسة : كلام ابن عباس لمن استنكر شيئاً من ذلك وأنه أهلكه . وذلك قوله : " ما فرق هؤلاء ؟ يجدون رقة أي ليناً عند محكمه فيقبلونه ، ويهلكون عند متشابه فينكرونه ؟ " .
******
باب قول الله تعالى
{ يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها } (النحل:83)
قوله تعالى : { يعرفون } . أي : يدركون بحواسهم أن النعمة من عند الله .
__________
(1) البخاري : كتاب الرفاق / باب يقبض الله الأرض يوم القيامة ، ومسلم : كتاب صفات المنافقين / باب منزل أهل الجنة .(11/139)
قوله : { نعمة الله } . واحدة والمراد بها الجمع ، فهي ليست واحدة ، بل هي لا تحصى ، قال تعالى : { وأن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } [ إبراهيم : 34] ، والقاعدة الأصولية : أن المفرد المضاف يعم ، والنعمة تكون بجلب المحبوبات ، وتطلق أحياناً على رفع المكروهات .
قوله : { ثم ينكرونها } . أي : ينكرون إضافتها إلى الله لكونهم يضيفونها إلى السبب متناسين المسبب الذي هو الله – سبحانه - ، وليس المعنى أنهم ينكرون هذه النعمة ، مثل أن يقولوا : ما جاءنا مطر أو ولد أو صحة ، ولكن ينكرونها بإضافتها إلى غير الله ، متناسبين الذي خلق السبب فوجد به المسبب .
قوله : " الآية " . أي : إلى آخر الآية ، وهي منصوبة بفعل محذوف تقديره أكمل الآية .
قوله { وأكثرهم الكافرون } . أي أكثر العارفين بأن النعمة من الله الكافرون ، أي الجاحدون كونها من الله ، أو الكافرون بالله عز وجل .
وقوله : { أكثرهم } بعد قوله : { يعرفون } الجملة الأولى أضافها إلى الكل ، والثانية أضافها إلى الأكثر ، وذلك لأن منهم من هو عامي لا يعرف ولا يفهم ، ولكن أكثرهم يعرفون ثم يكفرون .
مناسبة هذا الباب للتوحيد :
أن من أضاف نعمة الخالق إلى غيره ، فقد جعل معه شريكاً في الربوبية ، لأنه أضافها إلى السبب على أنه فاعل ، هذا من وجه ، ومن وجه آخر : أنه لم يقم بالشكر الذي هو عبادة من العبادات ، وترك الشكر مناف للتوحيد ، لأن الواجب أن يشكر الخالق المنعم – سبحانه وتعالى - ، فصارت لها صلة بتوحيد الربوبية وبتوحيد العبادة إضافتها إلى السبب على أنه فاعل هذا إخلال بتوحيد الربوبية ، ومن حيث ترك القيام بالشكر الذي هو العبادة هذا إخلال بتوحيد الألوهية .
قال مجاهد ما معناه : " هو قول الرجل : هذا مالي ، ورثته عن آبائي " .(11/140)
قوله : " قال مجاهد " . هو إمام المفسرين في التابعين ، عرض المصحف على ابن عباس رضي الله عنهما يوقفه عن كل آية ويسأله عن تفسيرها ، وقال سفيان الثوري : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به ، أي : كافيك ، ومع هذا ، فليس معصوماً عن الخطأ .
قوله : " ما معناه " . أي : كلاماً معناه ، وعلى هذا فـ " ما " : نكرة موصوفة ، وفيه أن الشيخ رحمة الله لم ينقله بلفظه .
قوله : " هو قول الرجل " . هذا من باب التغليب والتشريف ، لأن الرجل أشرف من المرأة وأحق بتوجيه الخطاب إليه منها ، وإلا ، فالحكم واحد .
قوله : " هذا مالي ورثته عن آبائي " . ظاهر هذه الكلمة أنه لا شيء فيها ، فلو قال لك واحد : من أين لك هذا البيت ؟ قلت : ورثته عن آبائي ، فليس فيه شيء لأنه خبر محض .
لكن مراد مجاهد أن يضيف القائل تملكه للمال إلى السبب الذي هو الإرث متناسياً المسبب الذي هو الله ، فبتقدير الله – عز وجل – أنعم على آبائك وملكوا هذا البيت ، وبشرع الله – عز وجل – انتقل هذا البيت إلى ملكك عن طريق الإرث - ، فكيف تتناسي المسبب للأسباب القدرية والشرعية فتضيف الأمر إلى ملك آبائك وإرثك إياه بعدهم ؟ ! فمن هنا صار هذا القول نوعاً من كفر النعمة .
أما إذا كان قصد الإنسان مجرد الخبر كما سبق ، فلا شيء في ذلك ولهذا ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له يوم الفتح : " أتنزل في دارك غداً ؟ " فقال : " وهل ترك لنا عقيل من دار أو رباع " (1) فبين - صلى الله عليه وسلم - أن هذه الدور انتقلت إلى عقيل بالإرث .
فتبين أن هناك فرقاً بين إضافة الملك إلى الإنسان على سبيل الخبر ، وبين إضافته إلى سببه متناسياً المسبب وهو الله - عز وجل .
وقال عون بن عبد الله : " يقولون : لولا فلان ، لم يكن كذا " .
__________
(1) البخاري : كتاب الحج / باب توريث دور مكة وبيعها ، ومسلم : كتاب الحج / باب النزول بمكة للحجاج .(11/141)
قوله : " وقال عون بن عبد الله : يقولون لولا فلان لم يكن كذا " .
وهذا القول من قائله فيه تفصيل إن أراد به الخبر وكان الخبر صدقاً مطابقاً للواقع ، فهذا لا بأس به ، وإن أراد بها السبب ، فلذلك ثلاث حالات :
الأولى : أن يكون سبباً خفياً لا تأثير له إطلاقاً ، كأن يقول : لولا الولي الفلاني ما حصل كذا وكذا ، فهذا شرك أكبر لأنه يعتقد بهذا القول أن لهذا الولي تصرفاً في الكون مع أنه ميت ، فهو تصرف سري خفي .
الثانية : أن يضيفه إلى سبب صحيح ثابت شرعاً أو حساً ، فهذا جائز بشرط أن لا يعتقد أن السبب مؤثر بنفسه ، وأن لا يتناسي المنعم بذلك .
الثالثة : أن يضيفه إلى سبب ظاهر ، لكن لم يثبت كونه سبباً لا شرعاُ ولا حساً ، فهذا نوع من الشرك الأصغر ، وذلك مثل : التوله ، والقلائد التي يقال أنها تمنع العين ، وما أشبه ذلك ، لأنه أثبت سبباً لم يجعله الله سببا ، فكان مشاركاً لله في إثبات الأسباب .
ويدل لهذا التفصيل أنه ثبت إضافة ( لولا ) إلى السبب وحده بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في عمه أبي طالب : " لولا أنا ، لكان فيا لدرك الأسفل من النار " (1)، ولا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبعد الناس عن الشرك ، وأخلص الناس توحيداً لله تعالى ، فأضاف النبي - صلى الله عليه وسلم - الشيء إلى سببه ، لكنه شرعي حقيقي ، فإنه أذن له بالشفاعة لعمه بأن يخفف عنه ، فكان في ضحضاح من النار ، عليه نعلان يغلي منهما دماغه لا يرى أن أحداً أشد منه عذاباً ، لأنه لو يرى أن أحداً أشد منه عذاباً أو مثله هان عليه بالتسلى ، كما قالت الخنساء في رثاء أخيها صخر :
ولولا كثرة الباكين حولي
علي إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن
أسلي النفس عنه بالتأسي
__________
(1) البخاري : كتاب فضائل الصحابة / باب قصة أبي طالب ومسلم : كتاب الإيمان / باب شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب(11/142)
وابن القيم رحمه الله – وإن كان قول العالم ليس بحجة لكن يستأنس به – قال في القصيدة اليمية يمدح الصحابة :
أولئك أتباع النبي وحزبه
ولولا همو ما كان في الأرض مسلم
ولولا همو كادت تميد بأهلها
ولكن رواسيها وأوتادها هم
ولولا همو كانت ظلاماً بأهلها
ولكن همو فيها بدور وأنجم
فأضاف ( لولا ) إلى سبب صحيح .
قوله : " وقال ابن قتيبة : يقولون هذا بشفاعة آلهتنا " . هؤلاء أخبث ممن سبقهم ، لأنهم مشركون يعبدون غير الله ، ثم يقولون : إن هذا النعم حصلت بشفاعة آلهتهم ، فالعزى مثلاً شفعت عند الله أن ينزل المطر ، فهؤلاء أثبتوا سبباً من أبطل الأسباب لأن الله – عز وجل – لا يقبل شفاعة ألهتهم ، لأن الشفاعة لا تنفع إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً ، والله – عز وجل – لا يأذن لهذه الأصنام بالشفاعة ، فهذا أبطل من الذي قبله لأن فيه محذورين :
الشرك بهذه الأصنام
إثبات سبب غير صحيح
وقال أبو العباس – بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه : " أن الله تعالى قال : " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر .. " الحديث (1) ، وقد تقدم : - " وهذا كثير في الكتاب والسنة ، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به " .
قوله : " وقال أبو العباس " . هو شيخ الإسلام أحمد بن تيمية .
قوله : " وهذا كثير في الكتاب والسنة يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره .. " وذلك مثل الاستسقاء بالأنواء ، وإنما كان هذا مذموماً ، لأنه لو أتى إليك عبد فلان بهدية من سيده فشكرت العبد دون السيد ، كان هذا سوء أدب مع السيد وكفراناً لنعمته ، وأقبح من هذا لو أضفت النعمة إلى السبب دون الخالق ، لما يأتي :
أن الخالق لهذه الأسباب هو الله ، فكان الواجب أن يشكر وتضاف النعمة إليه .
__________
(1) ص 519 ) .(11/143)
أن السبب قد لا يؤثر ، كما ثبت في " صحيح مسلم " أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " ليس السنة أن لا تمطروا ، ولكن السنة أن تمطروا وتمطروا ، ولا تنبت الأرض شيئاً "(1).
أن السبب قد يكون له مانع يمنع من تأثيره ، وبهذا عرف بطلان إضافة الشيء إلى سببه دون الالتفات إلى المسبب جل وعلا .
قال بعض السلف: هو كقولهم كانت الريح طيبة والملاح حاذقاً ونحو ذلك مما هو جارٍ على ألسنة كثيرة.
قوله : " كانت الريح طيبة " . هذا في السفن الشراعية التي تجري بالريح ، قال تعالى : { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها" [ يونس : 22 ] ، فكانوا إذا طاب سير السفينة قالوا : كانت الريح طيبة ، وكان الملاح _ هو قائد السفينة - حاذقاً ، أي : مجيداً للقيادة ، فيضيفون الشيء إلى سببه وينسون الخالق - جل وعلا .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير معرفة النعمة وإنكارها . الثانية : معرفة أن هذا جار على ألسنة كثيرة . الثالثة : تسمية هذا الكلام إنكاراً للنعمة . الرابعة : اجتماع الضدين في القلب .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير معرفة النعمة وإنكارها ، وسبق ذلك .
الثانية : معرفة أن هذا جار على ألسنة كثيرة . وذلك مثل قول بعضهم : كانت الريح طيبة ، والملاح حاذقاً ، وما أشبه ذلك .
الثالثة : تسمية هذا الكلام إنكاراً للنعمة . يعني : إنكاراً لتفضل الله تعالى بها وليس إنكاراً لوجودها ، لأنهم يعرفونها ويحسون بوجودها .
الرابعة : اجتماع الضدين في القلب . وهذا من قوله : { يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها } ، فجمع بين المعرفة والإنكار ، وهذا كما يجتمع في الشخص الواحد خصلة إيمان وخصلة كفر ، وخصلة فسوق وخصلة عدالة .
***
باب قول الله تعالى :
{ فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون } [ البقرة : 22]
قوله : { فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون } .
__________
(1) مسلم : كتاب الفتن / باب في سكني المدينة .(11/144)
لما ذكر سبحانه ما يقر به هؤلاء من أفعاله التي لم يفعلها غيره : { الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون . الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به الثمرات رزقاً لكم } [ البقرة : 21، 22] ، فكل من أقر بذلك لزمه أن لا يعبد إلا المقر له ، لأنه لا يستحق العبادة من لا يفعل ذلك ، ولا ينبغي أن يعبد إلا من فعل ذلك ، ولذلك أتى بالفاء الدالة على التفريع والسببية ، أي : فبسبب ذلك لا تجعلوا لله أنداداً .
و { لا } هذه ناهية ، أي : فلا تجعلوا له أنداداً في العبادة ، كما أنكم لم تجعلوا له أنداداً في الربوبية ، وأيضاً لا تجعلوا له أنداداً في أسمائه وصفاته ، لأنهم قد يصفون غير الله بأوصاف الله – عز وجل - ، كاشتقاق العزى من العزيز ، وتسميتهم رحمن اليمامة .
قوله : { أنداداً } . جمع ند ، وهو الشبيه والنظير ، والمراد هنا : أنداداً في العبادة.
قوله : { وأنتم تعلمون } . الجملة في موضع نصب حال من فاعل { تجعلوا } ، أي : والحال أنكم تعلمون ، والمعني : وأنتم تعلمون أنه لا أنداد له – يعني في الربوبية - ، لأن هذا محط التقبيح من هؤلاء أنهم يجعلون له أنداداً وهم يعلمون أنه لا أنداد له في الربوبية ، أما في الألوهية ، فيجعلون له أنداداً ، قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - : { أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا الشيء عجاب } [ ص : 5] ، ويقولون في تلبيتهم : "لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك" ، وهذا من سفههم ، فإنه إذا صار مملوكاً ، فكيف يكون شريكاً ، ولهذا أنكر الله عليهم في قوله { فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون } ، إذ الأنداد بالمعنى العام - - بقطع النظر عن كونه يخاطب أقواماً يقرون بالربوبية - - يشمل الأنداد في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات .(11/145)
وقال ابن عباس في الآية : " الأنداد هو الشرك ، أخفي من دبيب النمل على صفاة سوادء في ظلمة الليل ، وهو أن تقول : والله وحياتك يا فلان ، وحياتي ، وتقول : لولا كليبة هذا ، لآتانا اللصوص ، ولولا البط في الدار ، لأتى اللصوص ، وقول الرجل لصاحبة : ما شاء الله وشئت ، وقول الرجل : لولا الله وفلان ، لا تجعل فيها فلاناُ ، هذا كله به شرك " . رواه ابن أبي حاتم " (1).
قوله : " وقال ابن عباس في الآية " . أي : في تفسيرها .
قوله : " هو الشرك " . هذا تفسير بالمراد ، لأن التفسير تفسيران .
تفسير بالمراد ، وهو المقصود بسياق الجملة بقطع النظر عن مفرداتها .
تفسير بالمعني ، وهو الذي يسمى تفسير الكلمات ، فعندنا الآن وجهان للتفسير :
أحدهما : التفسير اللفظي وهو تفسير الكلمات ، هذا يقال فيه : معتاه كذا وكذا .
والثاني : التفسير بالمراد ، فيقال ، المراد بكذا وكذا ، والأخير هنا هو المراد .
فإذا قلنا : الأنداد الأشياه والنظراء ، فهو تفسير بالمعنى وإذا قلنا الأنداد الشركاء أو الشرك فهو تفسير بالمراد ، يقول رضي الله عنه : " الأنداد هو الشرك " فإذاً الند الشريك الشمارك لله _ سبحانه وتعالى _ فيما يختص به .
وقوله : " دبيب " . أي : أثر دبيب النمل – وليس فعل النمل .
وقوله : " على صفاة " هي الصخرة الملساء .
وقوله : " سوداء " . وليس على بيضاء ، إذ لو كان على بيضاء ، لبان أثر السير أكثر .
وقوله : " في ظلمة الليل " . وهذا أبلغ ما يكون في الخفاء .
__________
(1) ابن أبي حاتم ، كما في " تفسير ابن كثير " (1/63) .(11/146)
فإذا كان الشرك في قلوب بني آدم أخفى من هذا ، فتسأل الله أن يعين على التخلص منه ، ولهذا قال بعض السلف : " ما عالجت نفسي معالجتها على الإخلاص " . ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لما قال مثل هذا ، قيل له : كيف نتخلص منه ؟ قال : " قولوا : اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئاً بك شيئاً نعلمه ، ونستغفرك لما لا نعلم " (1).
وقوله : " والله وحياتك " . فيها نوعان من الشرك .
الأول : الحلف بغير الله .
الثاني : الإشراك مع الله بقوله : والله ! وحياتك ! فضمها إلى الله بالواو المقتضية للتسوية فيها نوع من الشرك ، والقسم بغير الله إن اعتقد الحالف أن المقسم به بمنزلة الله في العظمة ، فهو شرك أكبر ، وإلا ، فهو شرك أصغر .
وقوله : " وحياتي " . فيه حلف بغير الله ، فهو شرك .
وقوله : " لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص " . كليبة تصغير كلب ، والكلب ينتفع به للصيد وحراسة الماشية والحرث .
وقوله : " لولا كليبة هذا " يكون فيه شرك إذا نظر إلى السبب دون السبب ، وهو الله - عز وجل ، أما الاعتماد على السبب الشرعي أو الحسي المعلوم ، فقد تقدم أنه لا بأس به ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " لولا أنا ، لكان في الدرك الأسفل من النار " (2)، لكن قد يقع في قلب الإنسان إذا قال لولا كذا لحصل كذا أو ما كان كذا ، قد يقع في قلبه شيء من الشرك بالاعتماد على السبب بدون نظر إلى المسبب ، وهو الله عز وجل .
وقوله : " لولا البط في الدار لأتى اللصوص " . البط طائر معروف ، وإذا دخل اللص البيت وفيه بط ، فإنها يصرخ ، فينتبه أهل البيت ثم يجتنبه اللصوص .
__________
(1) الإمام أحمد في المسند ( 4/403) .
(2) تقدم ( ص 787)(11/147)
وقوله : " وقول الرجل لصاحبه : ما شاء الله وشئت " . فيه شرك ، لأنه شرك غير الله مع الله بالواو ، فإن اعتقد أنه يساوي الله عز وجل في التدبير والمشيئة ، فهو شرك أكبر ، وإن لم يعتقد ذلك واعتقد أن الله سبحانه وتعالى فوق كل شيء ، فهو شرك أصغر ، وكذلك قوله : " لولا الله وفلان " .
وقوله : " هذا كله به شرك " . المشار إليه ما سبق ، وهو شرك أكبر أو أصغر حسب ما يكون في قلب الشخص من نوع هذا التشريك .
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك " . رواه الترمذي وحسنه ، وصححه الحاكم (1).
حسب ما يكون في قلب الشخص من نوع هذا الشريك .
قوله : " وعن عمر " . صوابه عن ابن عمر ، نبه عليه الشارح في " تيسير العزيز الحميد ".
قوله في حديث ابن عمر رضي الله عنهما : " من حلف بغير الله " . " من " : شرطية ، فتكون للعموم .
قوله : " أو أشرك " . شك من الراوي ، والظاهر أن صواب الحديث " أشرك " .
وقوله : " من حلف بغير الله " . يشمل كل محلوف به سوى الله ، سواء بالكعبة أو الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو السماء أو غير ذلك ، ولا يشمل الحلف بصفات الله ، لأن الصفة تابعة للموصوف ، وعلي هذا ، فيجور أن تقول : وعزة الله ، لآفعلن كذا .
وقوله : " بغير الله " . ليس المراد بغير هذا الاسم ، بل المراد بغير المسمى بهذا الاسم ، فإذا حلف بالله أو بالرحمن أو بالسميع ، فهو حلف بالله .
__________
(1) الإمام أحمد في " المسند " ( 2/34 ، 86 ) ، وأبو داود : كتاب الإيمان / باب كراهية الحلف بالآباء ، والترمذي : كتاب الأيمان / باب ما جاء في كراهة الحلف بغير الله وحسنه ، وابن حبان (1177) ، والحاكم (1/18، 4/297) – وصححه ، ووافقه الذهبي – وصححه سماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز في " الفتاوي " ( 5/307 ) .(11/148)
والحلف : تأكيد الشيء بذكر معظم بصيغة مخصوصة بالباء أو التاء أو الواو . وحروف القسم ثلاثة : الباء والتاء ، والواو .
والباء : أعمها ، لأنها تدخل على الظاهر والمضمر وعلى اسم الله وغيره ، ويذكر معها فعل القسم ويحذف ، فيذكر معها فعل القسم ، كقوله تعالى : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } [ الأنعام : 109] ، ويحذف مثل قولك : بالله لأفعلن ، وتدخل على المضمر مثل قولك : الله عظيم أحلف به لأفعلن ، وعلى الظاهر كما في الآية وعلي غير لفظ الجلالة ، مثل قولك : بالسميع لأفعلن ، وأما الواو ، فإنه لا يذكر معها فعل القسم ، ولا تدخل على الضمير ، ويُحلف بها مع كل أسم ، وأما التاء ، فإنه لا يذكر معها فعل القسم وتختص بالله ورب ، قال ابن مالك : " والتاء لله ورب " .
والحلف بغير الله شرك أكبر إن أعتقد أن المحلوف به مساو لله تعالى في التعظيم والعظمة ، وإلا ، فهو شرك أصغر .
وهل يغفر الله الشرك الأصغر ؟
قال بعض العلماء :إن قوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } [ النساء : 116 ] أي : الشرك الأكبر { ويغفر ما دون ذلك } ، يعني : الشرك الأصغر والكبائر .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله : إن الشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر ، لأن قوله : { أن يشرك به } مصدر مؤول ، فهو نكره في سياق النفي ، فيعم الأصغر والأكبر ، والتقدير : لا يغفر شركاً به أو إشراكاً به .
وأما قوله تعالى : { والشمس وضحاها } [ الشمس : 1 ] وقوله { لا أقسم بهذا البلد } [ البلد : 1 ] وقوله : { والليل إذا يغشي } [الليل : 1 ] وما أشبه ذلك من المخلوقات التي أقسم الله بها ، فالجواب عنه من وجهين :
الأول : أن هذا من فعل الله والله لا يُسأل عما يفعل ، وله أن يقسم سبحانه بما شاء من خلقه ، وهو سائل غير مسؤول وحاكم غير محكوم عليه .(11/149)
الثاني : أن قسم الله بهذه الآيات دليل على عظمته وكمال قدرته وحكمته ، فيكون القسم بها الدال على تعظيمها ورفع شأنها متضمناً للثناء على الله عز وجل بما تقتضيه من الدلالة على عظمته .
وأما نحن ، فلا نقسم بغير الله أو صفاته ، لأننا منهيون عن ذلك .
وأما ما ثبت في " صحيح مسلم " من قوله - صلى الله عليه وسلم - : " أفلح وأبيه إن صدق " (1).
فالجواب عنه من وجوه :
الأول : أن بعض العلماء أنكر هذه اللفظة ، وقال : إنها لم تثبت في الحديث ، لأنها مناقضة للتوحيد ، وما كان كذلك ، فلا تصح نسبته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فيكون باطلاً .
الثاني : أنها تصحيف من الرواة ، والأصل : " أفلح والله إن صدق " .
وكانوا في السابق لا يشكلون الكلمات ، " وأبيه " تشبه ، " الله " إذا حذفت النقط السفلي .
الثالث : أن هذا مما يجري على الألسنة بغير قصد ، وقد قال تعالى : { ولا يؤاخذكم الله باللغوا في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } [ المائدة : 89] ، وهذا لم ينو فلا يؤاخذ .
الرابع : أنه وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أبعد الناس عن الشرك ، فيكون من خصائصه ، وأما غيره ، فهم منهيون عنه لأنهم لا يساوون النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإخلاص والتوحيد.
الخامس : أنه على حذف مضاف ، والتقدير : " أفلح ورب أبيه " .
السادس : أن هذا منسوخ ، وأن النهي هو الناقل من الأصل ، وهذا أقرب الوجوه ولو قال قائل : نحن نقلب عليكم الأمر ، ونقول : إن المنسوخ هو النهي ، لأنهم لما كانوا حديثي عهد بشرك نهوا أن يشركوا به كما نهي الناس حين كانوا حديثي عهد بشرك عن زيارة القبور ثم أُذن لهم فيها (2)؟
__________
(1) مسلم : كتاب الإيمان / باب بيان الصلوات التي هي أحد الأركان الإسلام .
(2) مسلم : كتاب الجنائز / باب استئذان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه زيارة أمه .(11/150)
فالجواب عنه : أن هذا اليمين كان جارياً على ألسنتهم ، فتركوا حتى استقر الإيمان في نفوسهم ثم نهوا عنه ، ونظيره إقرارهم على شرب الخمر أولاً ثم أمروا باجتنابه .
أما بالنسبة للوجه الأول ، فضعيف لأن الحديث ثابت ، وما دام يمكن حمله على وجه صحيح ، فإنه لا يجوز إنكاره .
وأما الوجه الثاني ، فبعيد وإن أمكن ، فلا يمكن في قوله - صلى الله عليه وسلم - لما سئل : أي الصدقة أفضل ؟ فقال : " أما وأبيك لتنبأنه " (1).
وأما الوجه الثالث ، فغير صحيح لأن النهي وارد مع أنه كان يجري على ألسنتهم كما جرى على لسان سعد فنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - (2)، ولو صح هذا ، لصح أن يقال لمن فعل شركاً اعتاده لاينهى ، لأن هذا من عادته ، وهذا باطل .
وأما الرابع ، فدعوى الخصوصية تحتاج إلى دليل ، وإلا ، فالأصل التأسي به .
وأما الخامس : فضعيف لأن الأصل عدم الحذف ، ولأن الحذف هنا يستلزم فهماً باطلاً ، ولا يمكن أن يتكلم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما يستلزم ذلك بدون بيان المراد ، وعلى هذا يكون أقربها الوجه السادس أنه منسوخ ، ولا نجزم بذلك لعدم العلم بالتاريخ ، ولهذا قلنا أقربها والله أعلم ، وإن كان النووي رحمه الله ارتضى أن هذا مما يجري على اللسان بدون قصد ، لكن هذا ضعيف لا يمكن القول به ، ثم رأيت بعضهم جزم بشذوذها لانفراد مسلم بها عن البخاري مع مخالفة راويها للثقات ، فالله أعلم .
وقال ابن مسعود : " لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلى من أن أحلف بغيره صادقاً " (3)
__________
(1) مسلم : كتاب الزكاة / باب أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح .
ج
(2) ه : " حلفت مرة باللات والعزي ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ثم انفث على يسارك ثلاثاً ، ثم تعوذ ولا تعد "
الأمام أحمد ( 1/ 183 ، 186 ، 187) ، وابن ماجة (2097).
(3) سبق ( ص 606) .(11/151)
قوله في أثر ابن مسعود : " لأن أحلف بالله كاذباً " . اللام : لام الابتداء ، و " أن " مصدرية ، فيكون قوله : " أن أحلف " مؤؤلاً بمصدر مبتدأ تقديره لحلفي بالله .
قوله : " أحب إلى " . خبر المبتدأ ، ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى : { وأن تصوموا خير لكم } [ البقرة : 184 ] .
قوله : " كاذباً " حال من فاعل أحلف .
قوله : " أحب إلى " . هذا من باب التفضيل الذي ليس فيه شيء من الجانبين ، وهذا نادر في الكلام ، لأن التفضيل في الأصل يكون فيه المعنى ثابتاً في المفضل وفي المفضل عليه ، وأحياناً في المفضل دون المفضل عليه ، وأحياناً لا يوجد في الجانبين ، فابن مسعود رضي الله عنه لا يحب لا هذا ولا هذا ، ولكن الحلف بالله كاذباً أهون عليه من الحلف بغيره صادقاً ، فالحلف كاذباً محرم من وجهين .
أنه كذب ، والكذب محرم لذاته .
أن هذا الكذب قرن باليمين ، واليمين تعظيم لله – عز وجل ، فإذا كان على كذب صار فيه شيء من تنقص الله – عز وجل ، حيث جعل اسمه مؤكداً لأمر كذب ، ولذلك كان الحلف بالله كاذباً عند بعض أهل العلم من اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار.(11/152)
وأما الحلف بغير الله صادقاً ، فهو محرم من وجه واحد وهو الشرك ، لكن سيئة الشرك أعظم من سيئة الكذب ، وأعظم من سيئة الحلف بالله كاذباً ، وأعظم من اليمين الغموس إذا قلنا : إن الحلف بالله كاذباً من اليمين الغموس ، لأن الشرك لا يغفر ، قال تعالى { إن الله لا يغفر أن يشرك به } [ النساء : 116] ، وما أرسل الله الرسل وأنزل الكتب إلا لإبطال الشرك ، فهو أعظم الذنوب ، قال تعالى : { إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13] ، وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - : أي الذنب أعظم ؟ قال : "أن تجعل لله نداً وهو خلقك " (1)، والشرك متضمن للكذب ، فإن الذي جعل غير الله شريكاً لله كاذب ، بل من أكذب الكاذبين ، لأن الله لا شريك له .
وعن حذيفة رضي الله عنه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تقولوا : ما شاء الله وشاء فلان ، ولكن قولوا : ما شاء الله ثم شاء فلان " رواه أبو داود بسند صحيح " (2)
قوله في حديث حذيفة رضي الله عنه : " لا تقولوا " . " لا " ناهية ، ولهذا جزم الفعل بعدها بحذف النون .
قوله : " ما شاء الله وشاء فلان " . والعلة في ذلك أن الواو تقتضي تسوية المعطوف بالمعطوف عليه ، فيكون القائل : ما شاء الله وشئت مسوياً مشيئة الله بمشيئة المخلوق ، وهذا شرك ، ثم إن اعتقد أن المخلوق أعظم من الخالق ، أو أنه مساو له ، فهو شرك أكبر ، وإن اعتقد أنه أقل ، فهو شرك أصغر .
__________
(1) البخاري : كتاب التوحيد / باب قوله تعالى : { فلا تجعلوا لله أنداداً }
(2) الإمام أحمد في " المسند " ( 5/ 384 ) ، وأبو داود : كتاب الأدب / باب لا يقال : خبثت نفسي والطيالسي (430) ، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " (991 ) . قال النووي في " الأذكار " (308) : " إسناده صحيح " .(11/153)
قوله : " ولكن قولوا : ما شاء الله ثم شاء فلان " . لما نهي عن اللفظ المحرم بين اللفظ المباح ، لأن " ثم " للترتيب والتراخي ، فتفيد أن المعطوف أقل مرتبة من المعطوف عليه .
أما بالنسبة لقوله : " ما شاء الله فشاء فلان " ، فالحكم فيها أنها مرتبة بين مرتبة ( الواو ) ومرتبة ( ثم ) ، فهي تختلف عن (ثم ) بأن (ثم ) للتراخي والفاء للتعقيب ، وتوافق (ثم ) بأنها للترتيب ، فالظاهر أنها جائزة ، ولكن التعبير بـ (ثم ) أولي ، لأنه اللفظ الذي أرشد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولأنه أبين في إظهار الفرق بين الخالق والمخلوق .
ويستفاد من هذا الحديث :
1 ) - إثبات المشيئة للعبد ، لقوله : " ثم شاء فلان " ، فيكون فيه رد على الجبرية حيث قالوا : إن العبد لا مشيئة له ولا اختيار .
2 ) أنه ينبغي لمن سد على الناس بابا محرماً أن يفتح لهم الباب المباح ، لقوله : " ولكن قولوا : ما شاء الله ثم شاء فلان " ، ونظير ذلك قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا أنظرنا } [ البقرة : 104] ، وكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جيء له بتمر جيد وأخبره الآتي به أنه أخذ الصاع بالصاعين والصاعين بالثلاثة ، قال : " لا تفعل ولكن بع الجمع بالدرهم ، ثم أشتر بالدراهم جنيباً " (1)، أي : تمراً جيداً . فأرشده إلى الطريق المباح حين نهاه عن الطريق المحرم .
وفي هذا فائدتان عظيمتان :
الأولى : بيان كمال الشرعية وشمولها ، حيث لم تسد على الناس باباً إلا فتحت لهم ما هو خير منه .
والثانية : التسهيل على الناس ورفع الحرج عنهم ، فعامل الناس بهذا ما استطعت ، كلما سددت عليهم باباً ممنوعاً ، فافتح لهم من المباح ما يغني عنه ما استطعت إلى ذلك سبيلاً حتى لا يقعوا في الحرج .
__________
(1) البخاري : كتاب البيوع / باب إذا أراد بيع تمر بتمر ، ومسلم : كتاب المساقاة / باب بيع الطعام مثلاُ بمثل.(11/154)
وجاء عن إبراهيم النخعي : " أنه يُكره : أعوذ بالله وبك ، ويجوز أن يقول : بالله ثم بك " . قال : " ويقول : لولا الله ثم فلان ، ولا تقولوا : لولا الله وفلان " .
قوله : " عن إبراهيم النخعي " . من فقهاء التابعين ، لكنه قليل البضاعة في الحديث ، كما ذكر حماد بن زيد .
قوله : " يكره أعوذ بالله وبك " . العياذ : الاعتصام بالمستعاذ به عن المكروه ، واللياذ بالشخص : هو اللجوء إليه لطلب المحبوب ، قال الشاعر :
يا من الوذ يه فيما أؤمله ... ... ... ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ... ... ولا يهيضون عظماً أنت جابره
وهذان البيتان يخاطب بهما رجلاً ، لكن كما قال بعضهم : هذا القول لا ينبغي أن يكون إلا لله.
وقوله : " أعوذ بالله وبك " . هذا محرم ، لأنه جمع بين الله والمخلوق بحرف يقتضي التسوية وهو الواو .
ويجوز بالله ثم بك ، لأن " ثم " تدل على الترتيب والتراخي .
فإن قيل : سبق أن من الشرك الأستعادة بغير الله ، وعلى هذا يكون قوله : أعوذ بالله ثم بك محرماً .
أجيب : أن الاستعاذة بمن يقدر على أن يعيذك جائزة ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في " صحيح مسلم " وغيره : " من وجد ملجاً ، فليعذبه " (1) لكن لو قال أعوذ بالله ثم بفلان . وهو ميت ، فهذا شرك أكبر لآنه لا يقدر على أن يعيذك ، وأما استدلال الإمام أحمد على أن القرآن غير مخلوق بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق : ثم قال رحمة الله : والاستعاذة لا يكون بمخلوق فيحمل كلامه عل أن الأستعاذ بكلام لا تكون بكلام مخلوق بل بكلام غير مخلوق ، وهو كلام الله ، والكلام تابع للمتكلم به ، إن كان مخلوقاً ، فهو مخلوق ، وإن كان غير مخلوق ، فهو غير مخلوق .
فيه مسائل :
__________
(1) تخريجه ، (ص ـــ ) .(11/155)
الأولى : تفسير آية البقرة في الأنداد . الثانية : أن الصحابة رضي الله عنهم يفسرون الآية النازلة في الشرك الأكبر أنها تعم الأصغر . الثالثة : أن الحلف بغير الله شرك . الرابعة : أنه إذا حلف بغير الله صادقاً فهو أكبر من اليمين الغموس . الخامسة : الفرق بين الواو و ( ثم ) في اللفظ .
فيه مسائل
الأولى : تفسير آية البقرة في الأنداد . وقد سبق .
الثانية : أن الصحابة يفسرون الآية النازلة في الشرك الأكبر أنها تعم الأصغر . لأن قوله تعالى : { فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون } نازلة في الأكبر ، لأن المخاطب بها هم المشركون ، وابن عباس فسرها بما يقتضي الشرك الأصغر ، لأن الند يشمل النظير المساوي على سبيل الإطلاق أو في بعض الأمور .
الثالثة : أن الحلف بغير الله شرك . لحديث ابن عمر رضي الله عنهما .
الرابعة : أنه إذا حلف بغير الله صادقاً ، فهو أكبر من اليمين الغموس .
واليمين الغموس عند الحنابلة أن يحلف بالله كاذباً ، وقال بعض العلماء وهو الصحيح : أن يحلف بالله كاذباً ليقتطع بها مال أمرىء مسلم .
الخامسة : الفرق بين الواو وثم في اللفظ . لأن الواو تقتضي المساواة ، فتكون شركاً ، وثم تقتضي الترتيب والتراخي ، فلا تكون شركاً .
***
باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله
مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد :
أن الأقتناع بالحلف بالله من تعظيم الله ، لأن الحالف أكد ما حلف عليه بالتعظيم باليمين وهو تعظيم المحلوف به ، فيكون من تعظيم المحلوف به أن يصدق ذلك الحالف ، وعلى هذا يكون عدم الاقتناع بالحلف بالله فيه شيء من نقص تعظيم الله ، وهذا ينافي كمال التوحيد ، والأقتناع بالحلف بالله لا يخلو من أمرين :
الأول : أن يكون ذلك من الناحية الشرعية ، فإنه يجب الرضا بالحلف بالله فيما إذا توجهت اليمين على المدعي عليه فحلف ، فيجب الرضا بهذا اليمين بمقتضي الحكم الشرعي .(11/156)
الثاني : أن يكون ذلك من الناحية الحسية ، فإن كان الحالف موضع صدق وثقة ، فإنك ترضي بيمينة ، وإن كان غير ذلك ، فلك أن ترفض الرضا بيمينه ، ولهذا لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لحويصة ومحيصة : " تبرئكم يهود بخمسين يميناً . قالوا : كيف نرضي يا رسول الله بأيمان اليهود ؟ " (1). فأقرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك .
عن ابن عمر ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تحلفوا بآبائكم ، من حلف بالله ؛ فليصدق ، ومن حلف له بالله ؛ فليرض ، ومن لم يرض ، فليس من الله " . رواه ابن ماجه بسند حسن (2).
قوله في الحديث : " لا تحلفوا " . " لا " ، ولهذا جزم الفعل بعدها بحذف النون ، وآباؤكم " : جمع أب ، ويشمل الأب والجد ، وإن علا فلا يجوز الحلف بهم ، لأنه شرك ، وقد سبق بيانه.
قوله - صلى الله عليه وسلم - : " من حلف بالله ؛ فليصدق ، ومن حلف له بالله ، فليرض " . هنا أمران :
الأمر الأول : للحالف ؛ فقد أُمر أن يكون صادقاً ، والصدق : هو الإخبار بما يطابق الواقع ، وضده الكذب ، وهو : الإخبار بما يخالف الواقع ، فقوله " من حلف بالله ، فليصدق " ، أي : فليكن صادقاً في يمينه ، وهل يشترط أن يكون مطابقاً للواقع أو يكفي الظن ؟
الجواب : يكفي الظن ؛ فله أن يحلف على ما يغلب على ظنه ؛ كقول الرجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني . فأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - .
الثاني : للمحلوف له ، فقد أمر أن يرضي بيمين الحالف له .
__________
(1) البخاري : كتاب الأدب / باب إكرام الكبير ، ومسلم : كتاب القسامة ، باب القسامة .
(2) ابن ماجة : كتاب الكفارات / باب من حلف له بالله فليرض ، وقال البوصيري في " مصباح الزجاجة " ( 2/143) : " هذا إسناد صحيح ، رجاله ثقاة " ، وقاله ابن حجر في " الفتح " (11/535) : " سنده حسن " .(11/157)
فإذا قرنت هذين الأمرين بعضهما ببعض ، فإن الأمر الثاني يُنَزّل على ما إذا كان الحالف صادقاً ؛ لأن الحديث جمع أمرين : أمراً موجهاً للحالف ، وأمراً موجها للمحلوف له ، فإذا كان الحالف صادقاً ؛ وجب على المحلوف له الرضا .
فإن قيل : إن كان صادقاً فإننا نصدقه وإن لم يحلف ؟
أُجيب : أن اليمين تزيده توكيداً .
قوله : "ومن " لم يرض ، فليس من الله " . أي : من لم يرض بالحلف بالله إذا حلف له ؛ فليس من الله ، وهذا تبرؤ منه يدل على أن عدم الرضا من كبائر الذنوب ، ولكن لا بد من ملاحظة ما سبق ، وقد أشرنا أن في حديث القسامة دليلاً على أنه إذا كان الحالف غير ثقة ؛ فلك أن ترفض الرضا به ؛ لأنه غير ثقة ، فلو أن أحداً حلف لك ، وقال : الله ؛ إن هذه الحقيبة من خشب . وهي من جلد ، فيجوز أن لا ترضي به لأنك قاطع بكذبه ، والشرع لا يأمر بشيء يُخالف الحس والواقع ، بل لا يأمر إلا بشيء يستحسنه العقل ويشهد له بالصحة والحسن ، وإن كان العقل لا يدرك أحياناً مدى حسن هذا الشيء الذي أمر به الشرع ، ولكن ليعلم علم اليقين أن الشرع لا يأمر إلا بما هو حسن ، لأن الله تعالى يقول : { ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } [ المائدة : 50 ] ، فإذا اشتبه عليك حُسن شيء / من أحكام الشرع ؛ فاتهم نفسك بالقصور أو بالتقصير ، أما أن تتهم الشرع ، فهذا لا يمكن ، وما صح عن الله ورسوله ، فهو حق وهو أحسن الأحكام .
فيه مسائل
الأولى : النهي عن الحلف بالآباء . الثانية : الأمر للمحلوف له بالله أن يرضي . الثالثة : وعيد من لم يرض .
فيه مسائل
الأولى : النهي عن الحلف بالآباء . لقوله " لا تحلفوا بآبائكم " ، والنهي للتحريم .
الثانية : الأمر للمحلوف له بالله أن يرضي . لقوله : " ومن حلف له بالله ، فليرض" ، وسبق التفصيل في ذلك .
الثالثة : وعيد من لم يرض . لقوله : " ومن لم يرض ، فليس من الله " .(11/158)
الرابعة : ولم يذكرها المؤلف أمر الحالف أن يصدق لأن الصدق واجب في غير اليمين ، فكيف باليمين ؟ !
وقد سبق أن من حلف على يمين كاذبة أنه آثم ، وقال بعض العلماء : أنها اليمين الغموس.
وأما بالنسبة للمحلوف له ، فهل يلزمه أن يصدق أم لا ؟
المسألة لا تخلو من أحوال خمس :
الأولى : أن يُعلم كذبه ؛ فلا أحد يقول : إنه يلزم تصديقه .
الثانية : أن يترجح كذبه ؛ فكذلك لا يلزم تصديقه .
الثالثة : أن يتساوي الأمران ؛ فهذا يجب تصديقه .
الرابعة : أن يترجع صدقه ، فيجب أن يصدق .
الخامسة : أن يعلم صدقه ؛ فيجب أن يصدقه .
وهذا في الأمور الحسية ، أما الأمور الشرعية في باب التحاكم ، فيجب أن يرضي باليمين ويلتزم بمقتضاها ،لأن هذا من باب الرضا بالحكم الشرعي ، وهو واجب .
باب قول : ما شاء الله وشئت
عن قتيلة : " أن يهودياً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : إنكم تشركون ، تقولون ما شاء الله وشئت ، وتقولون : والكعبة . فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا : ورب الكعبة ، وأن يقولوا : ما شاء الله ثم شئت " . رواه النسائي وصححه (1)
قوله : " أن يهودياً " اليهودي : هو المنتسب إلى شريعة موسى عليه السلام ، وسموا بذلك من قوله تعالى : { إنا هدنا إليك } ، أي : رجعنا ، أو لأن جدهم اسمه يهوذا بن يعقوب ، فتكون التسمية من أجل النسب ، وفي الأول تكون التسمية من أجل العمل ، ولا يبعد أن تكون من الاثنين جميعاً .
قوله : " إنكم تشركون " . أي : تقعون في الشرك أيها المسلمون .
قوله : " ما شاء الله وشئت " . الشرك هنا أنه جعل المعطوف مساوياً للمعطوف عليه ، وهو الله عز وجل حيث كان العطف بالواو المفيدة للتسوية .
__________
(1) الإمام أحمد في " المسند " ( 6/371 ، 372) والنسائي : كتاب الإيمان / باب الحلف بالكعبة ، والحاكم (4/315) وصححه ووافقه الذهبي .(11/159)
قوله : " والكعبة " . الشرك هنا أنه حلف بغير الله ، ولم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قال اليهودي ، بل أمر بتصحيح هذا الكلام ، فأمرهم إذا حلفوا أن يقولوا : ورب الكعبة ، فيكون القسم بالله.
وأمرهم أن يقولوا : ما شاء الله ، ثم شئت ، فيكون الترتيب بثم بين مشئية الله ومشيئة المخلوق ، وبذلك يتكون الترتيب صحيحاً ، أما الأول ، فلأن الحلف صار بالله ، وأما الثاني ، فلأنه جعل بلفظ يتبين به تأخر مشيئة العبد عن مشيئة الله ، وأنه لا مساواة بينهما.
ويُستفاد من الحديث :
1 ) - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر على اليهودي مع أن ظاهر قصده الذم واللوم للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، لأن ما قاله حق .
2 ) مشروعية الرجوع إلى الحق وإن كان من نبه عليه ليس من أهل الحق .
3 ) أنه ينبغي عند تغيير الشيء أن يغير إلى شيء قريب منه ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم أن يقولوا : " ورب الكعبة " ، ولم يقل : احلفوا بالله ، وأمرهم أن يقولوا : " ما شاء الله ، ثم شئت " .
إشكال وجوابه :
وهو أن يقال : كيف لم ينبه على هذا العمل إلا هذا اليهودي ؟
وجوابه : أنه يمكن أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يسمعه ولم يعلم به .
ولكن يقال : بأن الله يعلم ، فكيف يقرهم ؟
فيبقي الإشكال ، لكن يجاب : إن هذا من الشرك الأصغر دون الأكبر ، فتكون الحكمة هي ابتلاء هؤلاء اليهود الذين انتقدوا المسلمين بهذه اللفظة مع أنهم يشركون شركاً أكبر ولا يرون عيبهم .
وله أيضاً عن ابن عباس ، أن رجلاً قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ما شاء الله وشئت فقال : " أجعلتني لله نداًَ ؟ ! بل ما شاء الله وحده " (1).
قوله في حديث ابن عباس رضي الله عنهما : " أن رجلاً قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " . الظاهر أنه قاله للنبي - صلى الله عليه وسلم - تعظيماً ، وأنه جعل الأمر مُفوضاً لمشيئة الله ومشيئة رسوله .
__________
(1) سبق ( ص 608)(11/160)
قوله : " أجعلتني لله نداً ؟ ! " . الاستفهام للإنكار ، وقد ضمن معنى التعجب ، ومن جعل للخالق نداً ، فقد أتي شيئاً عجاباً .
والنِّد : هو النظير والمساوي ، أي : أجعلتني لله مساوياً في هذا الأمر ؟ !
قوله " بل ما شاء الله وحده " . أرشده النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ما يقطع عنه الشرك ، ولم يرشده إلى أن يقول ما شاء الله ثم شئت حتى يقطع عنه كل ذريعة عن الشرك وإن بَعُدَت .
يستفاد من الحديث :
أن تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ يقتضي مساواته للخالق شرك ، فإن كان يعتقد المساواة ، فهو شرك أكبر ، وإن كان يعتقد أنه دون ذلك ، فهو أصغر ، وإذا كان هذا شركاً ، فكيف بمن يجعل حق الخالق للرسول - صلى الله عليه وسلم - ؟ !
هذا أعظم ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - ليس له شيء من خصائص الربوبية ، بل يلبس الدرع ، ويحمل السلاح ، ويجوع ، ويتألم ، ويمرض ، ويعطش كبقية الناس ، ولكن الله فضله على البشر بما أوحي إليه من هذا الشرع العظيم ، قال تعالى : { قل إنما أنا بشر مثلكم } ، فهو بشر ، وأكد هذه البشرية بقوله : { مثلكم } ، ثم جاء التمييز بينه وبين بقية البشر بقوله تعالى : { يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد } [ الكهف : 110] ، ولا شك أن الله أعطاه من الأخلاق الفاضلة التي بها الكمالات من كل وجه أعطاه من الصبر العظيم ، وأعطاه من الكرم ومن الجود ، لكنها كلها في حدود البشرية ، أما أن تصل إلى خصائص الربوبية ، فهذا أمر لا يمكن ، ومن أدعى ذلك ، فقد كفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وكفر بمن أرسله .
فالمهم أننا لا نغلو في الرسول عليه الصلاة والسلام فننزله في منزلة هو ينكرها ، ولا نهضم حقه الذي يجب علينا فنعطيه ما يجب له ، ونسأل الله أن يعيننا على القيام بحقه ، ولكننا لا ننزله منزله الرب عز وجل .(11/161)
2 ) إنكار المنكر وإن كان في أمر يتعلق بالمنكر ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " أجعلتني لله نداً " ، مع أنه فعل ذلك تعظيماً للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعلي هذا إذا انحنى لك شخص عن السلام ، فالواجب عليك الإنكار .
3 ) أن من حسن الدعوة إلى الله عز وجل أن تذكر ما يباح إذا ذكرت ما يحرم ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - لما منعه من قوله : " ما شاء الله وشئت " أرشده إلى الجائز وهو قوله : " بل ما شاء الله وحده " .
ولابن ماجه عن الطفيل أخي عائشة لأمها قال : رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود ، قلت : إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : عزير ابن الله قالوا : وأنتم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : ما شاء الله وشاء محمد . ثم مررت بنفر من النصارى ، فقلت : إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : المسيح ابن الله . قالوا : وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : ما شاء اله وشاء محمد . فلما أصبحت ، أخبرت بها من أخبرت ، ثم أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأخبرته ، قال : " هل أخبرت بها أحداً ؟ . قلت نعم قال : فحمد الله ، وأثني عليه ، ثم قال : " أما بعد ، فإن طفيلاً رأي رؤيا أخبر بها من أخبر منكم ، وإنكم قلتم كلمة يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها ، فلا تقولوا : ما شاء محمد ، ولكن قولوا : ما شاء الله وحده " (1).
قوله في حديث الطفيل : " رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود " . أي : رؤيا في المنام
وقوله : " كأن " . اسمها الياء ، وجملة " أتيت " خبرها .
وقوله : " على نفر " . من الثلاثة إلى التسعة ، واليهود أتباع موسى .
قوله : " لأنتم القوم " . كلمة مدح ، كقولك : هؤلاء هم الرجال .
__________
(1) ابن ماجه : كتاب الكفارات / باب النهي أن يقال : ما شاء الله وشئت ، قال البوصيري في " المصباح " ( 2 / 152) : " على شرط البخاري " .(11/162)
وقوله : " عزير " . هو رجل صالح ادعى اليهود أنه ابن الله ، وهذا من كذبهم ، وهو كفر صريح ، واليهود لهم مثالب كثيرة ، لكن خصت هذه ، لأنها من أعظمها وأشهرها عندهم .
قوله : " ما شاء الله وشاء محمد " . هذا شرك أصغر ، لأن الصحابة الذين قالوا هذا ولا شك أنهم لا يعتقدون أن مشيئة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مساوية لمشيئة الله ، فانتقدوا عليهم تسوية الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمشيئة الله عز وجل باللفظ مع عظم ما قاله هؤلاء اليهود في حق الله جل وعلا.
قوله : " تقولون : المسيح ابن الله " . هو عيسى بن مريم وسمي مسيحاً بمعني ماسح ، فهو فعيل بمعني فاعل ، لأنه كان لا يسمح ذا عاهة إلا بريء بإذن الله ، كالأكمه والأبرص.
والشيطان لعب بالنصاري ، فقالوا : هو ابن الله ، لأنه أتى بدون أب ، كما في القرآن : { فنفخنا فيها من روحنا } [ الأنبياء : 91 ] ، قالوا : هو جزء من الله ، لأن الله أضافه إليه ، والجزء هو الابن .
والروح على الراجح عند أهل السنة : ذات لطيفة تدخل الجسم وتحل فيه كما يحل الماء في الطين اليابس ، ولهذا يقبضها الملك عن الموت وتكفن ويصعد بها ويرها الإنسان عند موته ، فالصحيح ، أنها ذات وإن كان بعض الناس يقول : إنها صفة ، ولكنه ليس كذلك ، والحياة صحيح أنها صفة ولكن الروح ذات ، إذاً نقول لهؤلاء النصارى : إن الله أضاف روح عيسى إليه كما أضاف البيت والمساجد والناقة وما أشبه ذلك على سبيل التشريف والتعظيم ، ولا شك أن المضاف إلى الله يكتسب شرفاً وعظمة ، حتى إن بعض الشعراء يقول في معشوقته :
لا تدعني إلا بيا عبدها ... ... ... فإنه أشرف أسمائي
قوله : " فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت " . المقصود بهذه العبارة الإبهام ، كقوله تعالى : { فغشيهم من اليم ما غشيهم } [ طه : 78] ، والإبهام قد يكون للتعظيم كما في الآية المذكورة ، وقد يكون للتحقير حسب السياق ، وقد يراد به معني آخر .(11/163)
قوله : " هل أخبرت بها أحداً ؟ " سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا السؤال ، لأنه لو قال : لم أخبر أحداً ، فالمتوقع أن الرسول عليه الصلاة والسلام سيقول له: لا تخبر أحداً هذا هو الظاهر ، ثم بين له الحكم عليه الصلاة والسلام ، لكن لما قال : إنه أخبر بها ، صار لا بد من بيانها للناس عموماً ، لأن الشيء إذا أنتشر يجب أن يعلن عنه ، بخلاف إذا كان خاصاً ، فهذا يخبر به من وصله الخبر .
قوله : " فحمد الله " . الحمد : وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم .
قوله : " وأثنى عليه " . أي : كرر ذلك الوصف .
قوله : " أما بعد " . سبق أنها بمعني مهما يكن من شيء بعد ، أي : بعد ما ذكرت ، فكذا وكذا .
قوله : " يمنعني كذا وكذا " أي : يمنعه الحياء كما في رواية أخري ، ولكن ليس الحياء من إنكار الباطل ، ولكن من أن ينهي عنها دون أن يأمره الله بذلك . هذا الذي يجب أن تحمل عليه هذه اللفظة إن كانت محفوظة : أن الحياء الذي يمنعه ليس الحياء من الإنكار لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستحي من الحق ولكن الحياء أن ينكر شيئاً قد درج على الألسنة وألفه الناس قبل أن يؤمر بالإنكار، مثل الخمر بقي الناس يشربونها حتى حرمت في سورة المائدة ، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - لما لم يؤمر بالنهي عنها سكت ، ولما حصل التنبيه على ذلك بإنكار هؤلاء اليهود والنصاري رأي - صلى الله عليه وسلم - أنه لابد من إنكارها لدخول اللوم على المسلمين بالنطق بها .
قوله : " قولوا ما شاء الله وحده " . نهاهم عن الممنوع ، وبين لهم الجائز .
فيه مسائل :
الأولى : معرفة اليهود بالشرك الأصغر . الثانية : فهم الإنسان إذا كان له هوى .(11/164)
الثالثة : قوله - صلى الله عليه وسلم - : " أجعلتني لله نداً ؟ ! فكيف بمن قال : " ما لي من ألوذ به سواك .. " والبيتين بعده ؟ الرابعة : أن هذا ليس من الشرك الأكبر ، لقوله : " يمنعني كذا وكذا " . الخامسة : أن الرؤيا الصالحة من أقسام الوحي . السادسة : أنها قد تكون سبباً لشرع الأحكام .
فيه مسائل :
الأولى : معرفة اليهود بالشرك الأصغر . لقوله : " إنكم لتشركون " .
الثانية : فهم الإنسان إذا كان له هوى . أي : إذا كان له هوى فهم شيئاً ، وإن كان هو يرتكب مثله أو أشد منه ، فاليهود مثلاً أنكروا على المسلمين قولهم : " ما شاء الله وشئت " وهم يقولون أعظم من هذا ، يقولون : عزير ابن الله ، ويصفون الله تعالى بالنقائض والعيوب .
ومن ذلك بعض المقلدين يفهم النصوص على ما يوافق هواء ، فتجده يحمل النصوص من الدلالات ما لا تحتمل ، كذلك أيضاً بعض العصريين يحملون النصوص ما لا تحمله حتى توافق ما اكتشفه العلم الحديث في الطب والفلك وغير ذلك ، كل هذا من الأمور التي لا يحمد الإنسان عليها ، فالإنسان يجب أن يفهم النصوص على ما هي عليه ، ثم يكون فهمه تابعاً لها ، لا أن يخضع النصوص لفهمه أو لما يعتقده ، ولهذا يقولون : استدل ثم اعتقد ، ولا تعتقد ثم تستدل ، لأنك إذا اعتقدت ثم أستدللت ربما يحملك اعتقادك على أن تحرف النصوص إلى ما تعتقده كما هو ظاهر في جميع الملل والمذاهب المخالفة لما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام ، تجدهم يحرفون هذه النصوص لتوافق ما هم عليه ، والحاصل أن الإنسان إذا كان له هوى ، فإنه يحمل النصوص ما لا تحتمله من أجل أن توافق هواه .
الثالثة : قوله - صلى الله عليه وسلم - : " أجعلتني لله نداً " ، هو قوله : " ما شاء الله وشئت " .
وقوله : " فكيف بمن قال : ما لي من ألوذ به سواك .. " يشير رحمه الله إلى أبيات للبوصيري في البردة القصيدة المشهورة - ، يقول فيها :(11/165)
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... ... ... سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن آخذاً يوم المعاد يدي ... ... عفواً وإلا فقل يا زلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ... ... ومن علومك علم اللوح والقلم
وهذا غاية الكفر والغلو ، فلم يجعل لله شيئاً ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - شرفه بكونه عبد الله ورسوله ، لا لمجرد كونه محمد بن عبد الله .
الرابعة : أن هذا ليس من الشرك الأكبر ، لقوله : " يمنعني كذا وكذا " ، لأنه لو كان من الشرك الأكبر ما منعه شيء من إنكاره .
الخامسة : أن الرؤيا الصالحة من أقسام الوحي . تؤخذ من حديث الطفيل ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : " الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة " (1)
لأن أول الوحي كان بالرؤيا الصالحة من ربيع الأول إلى رمضان ، وهذا ستة أشهر ، فإذا نسبت هذا إلى بقية زمن الوحي ، كان جزءاً من ستة وأربعين جزءاً ، لأن الوحي كان ثلاثاً وعشرين سنة وستة أشهر مقدمة له ,
والرؤيا الصالحة : هي التي تتضمن الصلاح ، وتأتي منظمة وليست بأضغاث أحلام .
أما أضغاث الأحلام ، فإنها مشوشة غير منظمة ، وذلك مثل التي قصها رجل على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إني رأيت رأسي قد قطع ، وإني جعلت أشتد وراءه سعياً . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا تحدث الناس بتلاعب الشيطان بك في منامك " (2)
__________
(1) البخاري : كتاب التعبير / باب الرؤيا الصالحة ، ومسلم :كتاب الرؤيا ، ( 2265) .
(2) م : كتاب الرؤيا / باب لا يخبر بتلاعب الشيطان به في المنام .(11/166)
، والغالب أن المرائي المكروهة من الشيطان ، قال الله تعالى : { إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئاً إلا بإذن الله } [ المجادلة : 10] ، ولذلك أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن رأي ما يكره أن يتفل عن يساره ، أو ينفث ثلاث مرات ، وأن يقول : " أعوذ بالله من شر الشيطان ومن شر ما رأيت . وأن يتحول إلى الجانب الآخر ، وأن لا يخبر أحداً " (1). وفي رواية : " أمره أن يتوضأ وأن يصلي " (2)3).
* السادسة : أنها قد تكون سبباً لشرع بعض الأحكام . من ذلك رؤيا إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه يذبح ابنه ، وهذا الحديث ، وكذلك أثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - رؤيا عبد الله بن زيد في الأذان ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنها رؤيا حق " (3)، وأبو بكر رضي الله عنه أثبت رؤيا من رأي ثابت بن قيس بن شماس ، فقال للذي رآه : إنكم ستجدون درعي تحت برمة ، وعندما فرس يستن . فلما أصبح الرجل ذهب إلى خالد بن الوليد وأخبره ، فذهبوا إلى المكان ورأوا الدرع تحت البرمة عندها الفرس (4)، فنفذ أبو بكر وصيته ، لوجود القرائن التي تدل على صدقها ، لكن لو دلت على ما يخالف الشريعة ، فلا عبرة بها ، ولا يلتفت إليها ، لأنها ليست رؤيا صالحة .
***
باب من سب الدهر ، فقد آذي الله
السب : الشتم والتقبيح والذم ، وما أشبه ذلك .
الدهر : هو الزمان والوقت .
وسب الدهر ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
__________
(1) مسلم " كتاب الرؤيا " (2260) .
(2) البخاري : كتاب التعبير / باب القيد في المنام .
(3) الإمام أحمد في " المسند " ( 4/43) ، وأبو داود ، كتاب الصلاة / باب كيف الأذن .
(4) الهيثمي في " مجمع الزوائد " ( 9/ 322)، وقال : " رواه الطبراني ، ورجاله رجال الصحيح " .(11/167)
الأول : أن يقصد الخبر المحض دون اللوم ، فهذا جائز ، مثل أن يقول : تعبنا من شدة حر هذا اليوم أو برده ، وما أشبه ذلك ، لأن الأعمال بالنيات ، ومثل هذا اللفظ صالح لمجرد الخبر ، ومنه قول لوط عليه الصلاة والسلام : { هذا يوم عصيب } [هود : 77] .
الثاني : أن يسب الدهر على أنه هو الفاعل ، ، كأن يعتقد بسبه الدهر أن الدهر هو الذي يقلب الأمور إلى الخير والشر ، فهذا شرك أكبر لأنه اعتقد أن مع الله خالقاً لأنه نسب الحوادث إلى غير الله وكل من اعتقد أن مع الله خالقاً فهو كافر ، كما أن من اعتقد أن مع الله إلهاً يستحق أن يعبد ، فإنه كافر .
الثالث : أن يسب الدهر لا لاعتقاد أنه هو الفاعل ، بل يعتقد أن الله هو الفاعل ، لكن يسبه لأنه محل لهذا الأمر المكروه عنده ، فهذا محرم ، ولا يصل إلى درجة الشرك ، وهو من السفه في العقل والضلال في الدين ، لأن حقيقة سبه تعود إلى الله سبحانه ، لأن الله تعالى هو الذي يصرف الدهر ويكون فيه ما أراد من خير أو شر ، فليس الدهر فاعلاً ، وليس السبب يكفر ، لأنه لم يسب الله تعالى مباشرة .
قوله : " فقد آذي الله " . لا يلزم من الأذية الضرر ، فالإنسان يتأذي بسماع القبيح أو مشاهدته ، ولكنه لا يتضرر بذلك ، ويتأذي بالرائحة الكريهة كالبصل والثوم ولا يتضرر بذلك ، ولهذا أثبت الله الأذية في القرآن ، قال تعالى : { إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً } [ الأحزاب : 57 ] ، وفي الحديث القدسي : " يؤذيني ابن آدم ، يسب الدهر وأنا الدهر ، أقلب الليل والنهار " (1)، ونفي عن نفسه أن يضره شيء ، قال تعالى : { إنهم لن يضروا الله شيئاً } [ آل عمران : 176] ، وفي الحديث القدسي : " يا عبادي ! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني " (2). رواه مسلم
__________
(1) يأتي ( ص 826) .
(2) مسلم : كتاب البر والصلة / باب تحريم الظلم .(11/168)
وقول الله تعالى { وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر - ... } ? [ الجاثية : 24 ] الآية .
قوله تعالى : { وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا } . المراد بذلك المشركون الموافقون للدهرية بضم الدال على الصحيح عند النسبة ، لأنه مما تغير فيه الحركة ، والمعني وما الحياة والوجود إلا هذا ، فليس هناك آخرة ، بل يموت بعض ويحيا آخرون ، هذا يموت فيدفن وهذا يولد فيحيا ، ويقولون ، ويقولون : إنها أرحام تدفع وأرض تبلغ ولا شيء سوى هذا .
قوله : { وما يهلكنا إلا الدهر } . أي : ليس هلاكنا بأمر الله وقدره ، بل بطول السنين لمن طالت مدته ، والأمراض والهموم والغموم لمن قصرت مدته ، فالمهلك لهم هو الدهر .
قوله : { وما لهم بذلك من علم } . { ما } : نافية ، و { علم } : مبتدأ خبره مقدم { لهم } ، وأكد ب ( من ) ، فيكون للعموم : أي ما لهم علم لا قليل ولا كثير ، بل العلم واليقين بخلاف قولهم .
قوله : { إن هم إلا يظنون } . { إن } : هنا نافية لوقوع { إلا } بعدها ، أي : ما هم إلا يظنون .
الظن هنا بمعني الوهم ، فليس ظنهم مبنياً على دليل يجعل الشيء مظنوناً، بل هو مجرد وهم لا حقيقة له ، فلا حجة لهم إطلاقاً ، وفي هذا دليل على أن الظن يستعمل بمعني الوهم ، وأيضا يستعمل بمعني العلم واليقين ، كقوله تعالى : { الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم } [ البقرة : 46] .
والرد على قولهم بما يلى :
أولاً : قولهم : { وما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا } .
وهذا يرده المنقول والمعقول .
أما المنقول ، فالكتاب والسنة تدل على ثبوت الآخرة ووجوب الإيمان باليوم الآخر ، وأن للعباد حياة أخرى سوى هذه الحياة الدنيا ، والكتب السماوية الأخرى تقرر ذلك وتؤكده .(11/169)
وأما المعقول ، فإن الله فرض على الناس الإسلام والدعوة إليه والجهاد لإعلاء كلمة الله ، مع في ذلك من استباحة الدماء والأموال والنساء والذرية ، فمن غير المعقول أن يكون الناس بعد ذلك تراباً لا بعث ولا حياة ولا ثواب ولا عقاب ، وحكمة الله تأبى هذا ، قال تعالى : { إن الذين فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } [ القصص : 85] ، أي : الذي أنزل عليك القرآن وفرض العمل به والدعوة إليه لابد أن يردك إلى معاد تجازى فيه ويجازى فيه كل من بلغته الدعوة .
ثانياً : قولهم : { وما يهلكنا إلا الدهر } ، أي : إلا مرور الزمن .
وهذا يرده المنقول والمحسوس :
فأما المنقول ، فالكتاب والسنة تدل على أن الإحياء والإمانة بيد الله عز وجل كما قال الله تعالى : { هو يحيى ويميت وإليه ترجعون } [ يونس : 56] ، وقال عن عيسى عليه الصلاة والسلام : { وأحي الموتي بإذن الله } [ آل عمران : 49] .
وأما المحسوس ، فإننا نعلم من يبقى سنين طويلة على قيد الحياة ، كنوح عليه السلام وغيره ولم يهلكة الدهر ، ونشاهد أطفالاً يموتون في الشهر الأول من ولادتهم ، وشباباً يموتون في قوة شبابهم ، فليس الدهر هو الذي يميتهم .
مناسبة الآية للباب
أن في الآية نسبة الحوادث إلى الدهر ، ومن نسبها إلى الدهر ، فسوف يسب الدهر إذا وقع فيه ما يكرهه .
وفي " الصحيح " عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال : " قال الله تعالى : يؤذيني ابن آدم ، يسب الدهر ، وأن الدهر ، أقلب الليل والنهار " (1).
__________
(1) البخاري : كتاب التوحيد / باب قوله تعالى : { يريدون أن يبدلوا كلام الله } ، تفسير سورة الجاثية ، ومسلم : كتاب الألفاظ / باب النهي عن سب الدهر .(11/170)
قوله : " وفي الصحيح " عن أبي هريرة .. إلى أخره " . هذا الحديث يسمي الحديث القدسي أو الإلهي أو الرباني ، وهو كل ما يرويه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه عز وجل ، وسبق الكلام عليه في باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب .
قوله : " قال الله تعالى " . تعالى من العلو ، وجاءت بهذه الصيغة للدلالة على ترفعه جل وعلا عن كل نقص وسفل ، فهو متعال بذاته وصفاته ، وهي أبلغ من كلمة علا ، لأنها معني الترفع والتنزه عما يقوله المعتدون علواً كبيراً .
قوله : " يؤذيني ابن آدم " . أي : يلحق بي الأذى ، فالأية لله ثابتة ويجب علينا إثباتها ، لأن الله أثبتها لنفسها ، فلسنا أعلم من الله بالله ، ولكنها ليست كأذية المخلوق ، بدليل قوله تعالى : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } [الشورى : 11] وقدم النفي في هذه الآية على الإثبات لأجل أن يرد الإثبات على قلب خال من توهم المماثلة ويكون الإثبات حينئذ على الوجه اللائق به تعالى ، وأنه لا يماثل في صفاته كما لا يماثل في ذاته ، وكل ما وصف الله به نفسه ، فليس فيه احتمال للتمثيل ، إذ لو كان احتمال التمثيل جائزاً في كلامه سبحانه وكلام رسوله فيما وصف به نفسه ، لكان احتمال الكفر جائزاً في كلامه سبحانه وكلام رسوله .
قوله : " ابن آدم " . شامل للذكور والإناث ، وآدم هو أبو البشر ، خلقه الله تعالى من طين وسواه ونفخ فيه من روحه وأسجد له الملائكة وعلمه الأسماء كلها.
واعلم أنه من المؤسف أنه يوجد فكرة مضلة كافرة ، وهي أن الآدميين نشؤوا من قرد لا من طين ، ثم تطور الأمر بهم حتى صاروا على هذا الوصف ، ويمكن على مر السنين أن يتطوروا حتى يصيروا ملائكة ، وهذا القول لا شك أنه كفر وتكذيب صريح للقرآن ، فيجب علينا أن ننكره إنكاراً بالغاً ، وأن لا نقره في كتب المدارس ، فمن زعم هذه الفكرة يقال له : بل أنت قرد في صورة إنسان ، ومثلك كما قال الشاعر :(11/171)
إذا ما ذكرنا آدماً وفعاله ... ... ... وتزويجه بنتيه بابنيه في الخنا
علمنا بأن الخلق من نسل فاجر ... ... ... وأن جميع الناس من عنصر الزنا
وأجابه بعض العلماء بجواب ، فقال : أنت الآن أقررت أنك ولد زنا ، وإقرارك على نفسك مقبول وعلى غيرك غير مقبول ، ومثلك كما قال الشاعر :
كذلك إقرار الفتى لازم له ... ... ... وفي غيره لغو كما جاء شرعنا
ولكن أنا في الحقيقة يؤلمني أن يوجد هذا بين أيدي شبابنا ، فبعض الناس أخذوا به على أنه أمر محتمل ، والواقع أنه لا يحتمل سوى البطلان والكذب والدس على المسلمين بالتشكيك بما أخبرهم الله به عن خلق آدم وبنيه .
وأيضاً مما يحذر عنه كلمة ( فكر إسلامي ) ، إذ معني هذا أننا جعلنا الإسلام عبارة عن أفكار قابلة للأخذ والرد ، وهذا خطر عظيم أدخله علينا أعداء الإسلام من حيث لا نشعر ، والإسلام شرع من عند الله وليس فكراً لمخلوق .
قوله : " يسب الدهر " . الجملة تعليل للأذية أو تفسير لها ، أي : بكونه يسب الدهر ، أي : يشتمه ويقبحه ويلومه وربما يلعنه والعياذ بالله يؤذي الله ، والدهر : هو الزمن والوقت ، وقد سبق بيان أقسام سب الدهر .
قوله : " وأنا الدهر " . أي : مدبر الدهر ومصرفه ، لقوله تعالى : { وتلك الأيام نداولها بين الناس } [ آل عمران : 140 ] ، ولقوله في الحديث : " أقلب الليل والنهار " ، والليل والنهار هما الدهر .
ولا يقال بأن الله هو الدهر نفسه ، ومن قال ذلك ، فقد جعل الخالق مخلوقاً ، والمقلِّب بكسر اللام مقلَّباً بفتح اللام .
فإن قيل : أليس المجاز ممنوعاً في كلام رسوله وفي اللغة ؟(11/172)
أجيب : إن الكلمة حقيقة في معناها الذي دل عليه السياق والقرائن ، وهنا في الكلام محذوف تقديره : وأنا مقلب الدهر ، لأنه فسره بقوله : " أقلب الليل والنهار " ، والليل والنهار هما الدهر ، ولأن العقل لا يمكن أن يجعل الخالق الفاعل هو المخلوق المفعول ، المقلِّب هو المقلَّب ، وبهذا عرف خطأ من قال : إن الدهر من أسماء الله ، كابن حزم رحمه الله ، فإنه قال : " إن الدهر من أسماء الله " ، وهذا غفلة عن مدلول هذا الحديث ، وغفلة عن الأصل في أسماء الله ، فأما مدلول الحديث ، فإن السابين للدهر لم يريدوا سب الله ، وإنما أرادوا سب الزمن ، فالدهر هو ا لزمن في مرادهم ، وأما الأصل في أسماء الله ، أن تكون حسنى، أي : بالغة في الحسن أكمله ، فلابد أن تشتمل على وصف ومعني هو أحسن ما يكون من الأوصاف والمعاني في دلالة هذه الكلمة ، ولهذا لا تجد في أسماء الله تعالى أسماً جامداً أبداً ، لأن الاسم الجامد ليس فيه معنى أحسن أو غير أحسن ، لكن أسماء الله كلها حسنى ، فيلزم من ذلك أن تكون دالة على معان ، والدهر اسم من أسماء الزمن ليس فيه معنى إلا أنه اسم زمن ، وعلي هذا ، فينتفي أن يكون أسماً لله تعالى لوجهين :
الأول : أن سياق الحديث يأباه غاية الإباء .
الثاني : أن أسماء الله حسنى ، والدهر اسم جامد لا يحمل معنى إلا أنه اسم للأقات.
فلا يحمل المعني الذي يوصف بأنه أحسن ، وحينئذ فليس من أسماء الله تعالى ، بل إنه الزمن ، ولكن مقلب الزمن هو الله ، ولهذا قال : " أقلب الليل والنهار " .(11/173)
قوله " أقلب الليل والنهار " . أي : ذواتهما وما يحدث فيهما ، فالليل والنهار يقلبان من طول إلى قصر إلى تساو، والحوادث تتقلب فيه في الساعة وفي اليوم وفي الأسبوع وفي الشهر وفي السنة ، قال تعالى : { قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز ومن تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير } [ آل عمران : 26] ، وهذا أمر ظاهر ، وهذا التقليب له حكمة قد تظهر لنا وقد لا تظهر ، لأن حكمة الله أعظم ، لأن حكمة الله أعظم من أن تحيط بها عقولنا ، ومجرد ظهور سلطان الله عز وجل وتمام قدرته هو من حكمة الله لأجل أن يخشى الإنسان صاحبه هذا السلطان والقدرة ، فيتضرع ويلجأ إليه
قوله : " وفي رواية : لا تسبوا الدهر ، فإن الله هو الدهر " . وفائدة هذه الرواية أن فيها التصريح في النهي عن سب الدهر .
قوله : " فإن الله هو الدهر " . وفي نسخة " فإن الدهر هو الله" ، والصواب : " فإن الله هو الدهر " .
وقوله " فإن الله هو الدهر " ، أي : فإن الله هو مدبر الدهر ومصرفه ، وهذا تعليل للنهي ، ومن بلاغة كلام الله ورسوله قرن الحكم بالعلة لبيان الحكمة وزيادة الطمأنينة ، ولأجل أن تتعدى العلة إلى غيرها فيما إذا كان المعلل حكماً ، فهذه ثلاث فوائد في قرن العلة بالحكم .
فيه مسائل :
الأولى : النهي عن سب الدهر . الثانية : تسميته أذىً لله . الثالثة : التأمل في قوله : " فإن الله هو الدهر " . الرابعة : أنه قد يكون ساباً ولو لم يقصده بقلبه .
فيه مسائل :
الأولى : النهي عن سب الدهر . لقوله : " لا تسبوا الدهر " .
الثانية : تسميته أذىً لله . تؤخذ من قوله : " يؤذيني ابن آدم " .
الثالثة : التأمل في قوله : " فإن الله هو الدهر " . فإذا تأملنا فيه وجدنا أن معناه أن الله مقلب الدهر ومصرفه وليس معناه أن الله هو الدهر ، وقد سبق بيان ذلك .(11/174)
الرابعة : أنه قد يكون ساباً ولو لم يقصده بقلبه . تؤخذ من قوله : " يؤذيني ابن آدم ،، يسب الدهر " . ولم يذكر قصداً ولو عبر الشيخ بقوله : أنه قد يكون مؤذياً لله وإن لم يقصده ، لكان أوضح وأصح ، لأن الله صرح بقول : " يسب الدهر " . والفعل لا يضاف إلا لمن قصده .
وقد فات على الشيخ رحمه الله بعض المسائل ، منها : تفسير آية الجاثية ، وقد سبق ذلك.
***
باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه
قوله : " باب التسمي بقاضي القضاة " . أي : وضع الشخص لنفسه هذا الاسم ، أو رضاه به من غيره .
قوله : " قاضي القضاة " . قاضي : بمعنى حاكم ، والقضاة ، أي : الحكام ، و " أل " للعموم .
والمعني : التسمي بحاكم الحكام ونحوه ، مثل ملك الأملاك ، وسلطان السلاطين ، وما أشبه ذلك ، مما يدل على النفوذ والسلطان ، لأن القاضي جمع بين الإلزام والإفتاء ، بخلاف المفتي ، فهو لا يلزم ، ولهذا قالوا : القاضي جمع بين الشهادة ، والإلزام ، والإفتاء ، فهو يشهد أن هذا الحكم حكم الله ، وأن الحق للمحكوم له على المحكوم عليه ، ويفتي ، أي : يخبر عن حكم الله وشرعه ، ويلزم الخصمين بما حكم به .
مناسبة الباب لكتاب التوحيد :
أن من تسمى بهذا الاسم ، فقد جعل نفسه شريكاً مع الله فيما لا يستحقه إلا الله ، لأنه لا أحد يستحق أن يكون قاضي القضاة أو حاكم الحكام أو ملك الأملاك إلا الله - سبحانه وتعالى ، فالله هو القاضي فوق كل قاض ، وهو الذي له الحكم ، ويرجع إليه الأمر كله كما ذكر الله ذلك في القرآن .
وقد تقدم أن قضاء الله ينقسم إلى قسمين :
قضاء كوني .
قضاء شرعي .(11/175)
والقضاء الكوني لابد من وقوعه ، ويكون فيما أحب الله وفيما كرهه ، قال تعالى : { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين } [ الإسراء : 4 ] فهذا قضاء كوني متعلق بما يكرهه الله ، لأن الفساد في الأرض لا يحبه الله ، والله لا يحب المفسدين ، وهذا القضاء الكوني لابد أن يقع ولا معارض له إطلاقاً .
وأما النوع الثاني من القضاء ، وهو القضاء الشرعي ، فمثل قوله تعالى { وقضى ربك إلا تعبدوا إلا إياه وبالوالديه إحساناً } [ الإسراء : 23] ، والقضاء الشرعي لا يلزم منه وقوع المقضي ، فقد يقع وقد لا يقع ، ولكنه يتعلق فيما يحبه الله ، وقد سبق الكلام عن ذلك .
فإن قلت : إذا أضفنا (القضاة) وحصرناها بطائفة معينة ، أو ببلد معين ، أو بزمان معين ، مثل أن يقال : قاضي القضاة في الفقه ، أو قاضي قضاه المملكة العربية السعودية ، أو قاضي قضاة مصر أو الشام ، أو ما أشبه ذلك ، فهل يجوز هذا ؟
فالجواب : أن هذا جائز ، لأنه مقيد ، ومعلوم أن قضاء الله لا يتقيد ، فحينئذ لا يكون فيه مشاركة لله - عز وجل ، على أنه لا ينبغي أيضاً أن يتسمى الإنسان بذلك أو يسمى به وإن كان جائزاً ، لأن النفس قد تصعب السيطرة عليها فيما إذا شعر الإنسان بأنه موصوف بقاضي قضاة الناحية الفلانية ، فقد يأخذه الإعجاب بالنفس والغرور حتى لا يقبل الحق إذا خالف قوله ، وهذه مسألة عظيمة لها خطرها إذا وصلت بالإنسان إلى الإعجاب بالرأي بحيث يرى أن رأيه مفروض على من سواه ، فإن هذا خطر عظيم ، فمع القول بأن ذلك جائز لا ينبغي أن يقبله اسماً لنفسه أو وصفاً له ، ولا أن يتسمى به .
فإذا قيد بزمان أو مكان ونحوهما ، قلنا : إنه جائز ، ولكن الأفضل ألا يفعل ، لكن إذا قيد بفن من الفنون ، هل يكون جائزاً ؟(11/176)
مقتضى التقييد أن يكون جائزاً ، لكن إن قيد بالفقه بأن قيل : ( عالم العلماء في الفقه ) ، وقلنا : إن الفقه يشمل أصول الدين وفروعه على حد قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين " (1)1)، صار فيه عموم واسع ، ومعنى هذا أن مرجع الناس كلهم في الشرع إليه ، فهذا في نفسي منه شيء ، والأولى التنزه عنه .
وأما إن قيد بقبيلة ، فهو جائز ، لكن يجب مع الجواز مراعاة جانب الموصوف أن لا يغتر ويعجب بنفسه ، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للمادح : " قطعت عنق صاحبك " (2).
وأما التسمي بـ ( شيخ الإسلام ) ، مثل أن يقال : شيخ الإسلام ابن تيميه ، أو شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ، أي أنه الشيخ المطلق الذي يرجع إليه الإسلام ، فهذا لا يصح ، إذ إن أبا بكر رضي الله عنه أحق بهذا الوصف ، لأنه أفضل الخلق بعد النبيين ، ولكن إذا قصد بهذا الوصف أنه جدد في الإسلام وحصل له أثر طيب في الدفاع عنه ، فلا بأس بإطلاقه .
وأما بالنسبة للتسمية بـ ( الإمام ) ، فهو أهون بكثير من التسمي بـ ( شيخ الإسلام ) ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمى إمام المسجد إماماً ولو لم يكن عنده إلا اثنان .
لكن ينبغي أن ينبه أنه لا يتسامح في إطلاق كلمة إمام إلا على من كان قدوة وله أتباع ، كالإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم ممن له أثر في الإسلام ، لأن وصف الإنسان بما لا يستحق هضم للأمة ، لأن الإنسان إذا تصور أن هذا إمام وهذا إمام هان الإمام الحق في عينه ، قال الشاعر :
ألم تر أن السيف ينقص قدره ... ... ... إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
__________
(1) البخاري : كتاب العلم / باب من يرد الله به خيراً ، ومسلم : كتاب الزكاة / باب النهي عن المسالة .
(2) البخاري : كتاب الآدب / باب ما يكره من التمادح ، ومسلم : كتاب الزهد / باب النهي عن المدح إذا كان فيه إفراط .(11/177)
ومن ذلك أيضاً : ( آية الله ، حجة الله ، حجة الإسلام ) ، فإنها ألقاب حادثة لا تنبغي لأنه لا حجة لله على عباده إلا الرسل .
وأما آية الله ، فإن أريد به المعنى الأعم ، فلا مدح فيه لأن كل شيء آية لله ، كما قيل :
وفي كل شيء له آية ... ... ... ... تدل على أنه واحد
وإن أريد المعنى الأخص ، أي : أن هذا الرجل آية خارقة ، فهذا في الغالب يكون مبالغاً فيه ، والعبارة السليمة أن يقال : عالم مفت ، قاض ، حاكم ، إمام لمن كان مستحقاً لذلك
في " الصحيح " عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى مالك الأملاك ، لا مالك إلا الله " (1).
قوله " في الصحيح " انظر الكلام عليها ( ص 146) .
قوله : " إن أخنع اسم " . أي : أوضع اسم ، والمراد بالاسم المسمى ، فأوضع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك ، لأنه جعل نفسه في مرتبة عليا ، فالملوك أعلى طبقات البشر من حيث السلطة ، فجعل مرتبته فوق مرتبتهم ، وهذا لا يكون إلا لله عز وجل ، ولهذا عوقب بنقيض قصده ، فصار أوضع اسم عن الله إذا قصده أن يتعاظم حتى على الملوك ، فأهين ، ولهذا كان أحب اسم عند الله ما دل على التذلل والخضوع ، مثل : عبد الله وعبد الرحمن ، وأبغض اسم عن الله ما دل على الجبروت والسلطة والتعظيم .
قوله : " لا مالك إلا الله " . أي لا مالك على الحقيقة الملك المطلق إلا الله تعالى .
وأيضا لا ملك إلا الله عز وجل ، ولهذا جاءت آية الفاتحة بقراءتين : { ملك يوم الدين } و { مالك يوم الدين } [ الفاتحة : 4 ] ، لكي يجمع بين الملك وتمام السلطان ، فهو سبحانه ملك مالك ، ملك ذو سلطان وعظمة وقول نافذ ، ومالك متصرف مدبر لجميع مملكته .
__________
(1) البخاري : كتاب الأدب / باب أبغض الأسماء إلى الله تعالى ، ومسلم : كتاب الآداب / باب تحريم التسمي بملك الأملاك .(11/178)
فالله له الخلق والملك والتدبير ، فلا خالق إلا الله ، ولا مدبر إلا الله ، ولا مالك إلا الله ، قال تعالى : { هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض } [ فاطر : 3] ، فالاستفهام بمعني النفي ، وقد أشرب معنى التحدي ، أي إن وجدتموه فهاتوه ، وقال تعالى : { إن ربك هو الخلاق العليم } [الحجر : 86] فيها توكيد وحصر ، وهذا دليل انفراده بالخلق ، وقال تعالى : { إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له } [الحج : 73] ، فـ { الذين } : اسم موصول يشمل كل من يدعى من دون الله { لن يخلقوا ذباباً } ، وهذا على سبيل المبالغة ، وما كان على سبيل المبالغة ، فلا مفهوم له كثرة أو قلة .
وقال تعالى : { تبارك الذي بيده الملك } [ الملك : 1] ، وقال تعالى : { قل اللهم مالك الملك } [ آل عمران : 26] ، وهذا دليل انفراده بالملك ، وقال تعالى : { قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله } [يونس:31] وقال تعالى : { قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون الله } [ المؤمنون : 88] .
قال سفيان : " مثل شاهان شاه " . وفي رواية : " أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه " (1)
قوله : " أخنع " ، يعني : أوضع .
قوله : " قال سفيان ( هو ابن عيينة ) : مثل شاهان شاه " . وهذا باللغة الفارسية ، فشاهان : جمع بمعنى أملاك ، وشاه مفرد بمعنى ملك ، والتقدير أملاك ملك ، أي : ملك الأملاك ، لكنهم في اللغة الفارسية يقدمون المضاف إليه على المضاف .
قوله : وفي رواية : " أغيط رجل على الله يوم القيامة وأخبثه " .
__________
(1) مسلم : كتاب الآداب / باب تحريم التسمي بملك الأملاك .(11/179)
أغيط : من الغيظ وهو الغضب ، أي : أغضب شيء عند الله عز وجل وأخبثه هو هذا الاسم ، وإذا كان سبباً لغضب الله وخبيثاً ، فإن التسمي به من الكبائر .
وقوله : " أغيظ " . فيه إثبات الغيظ لله عز وجل ، فهي صفة تليق بالله عز وجل كغيرها من الصفات ، والظاهر أنها أشد من الغضب .
فيه مسائل :
الأولى : النهي . عن التسمي بملك الأملاك ، الثانية : أن ما في معناه مثله ، كما قال سفيان .الثالثة : التفطن للتغليظ في هذا ونحوه مع القطع بأن القلب لم يقصد معناه " ، الرابعة : التفطن أن هذا لأجل الله سبحانه .
فيه مسائل :
*الأول : النهي عن التسمي بملك الأملاك . وتؤخذ من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " إن أخنع اسم عند الله عز وجل رجل تسمى ملك الاملاك " ، والمؤلف يقول: النهي عن التسمي - والنهي شرعاً لا يستفاد من الصيغة المعينة المعروفة. فحسب ، بل إذا ورد الذم عليه ، أو سب فاعله ، أو ما أشبه ذلك ، فإنه يفيد النهي ، وصيغة النهي ذم أو وعيد أو ما أشبه ذلك ، فهو متضمن للنهي وزيادة .
الثانية : أن ما في معناه مثله كما قال سفيان . والذي : في معناه : قاضي القضاة ، وحاكم الحكام ، وشاهان شاه في الفارسية .
الثالثة : التفطن للتغليظ في هذا ونحوه ، مع القطع بأن القلب لم يقصد معناه . أي لم يقصد أنه ملك الأملاك أو قاضي القضاة ، لعلمه أن هناك من هو أبلغ ملكاً وأحكم قضاء .
وإذا سمينا شخصاً بقاضي القضاة أو حاكم الحكام وهو ليس كذلك ، بل هو من أجهل القضاة ومن أضعف الحكام ، جمعنا بين أمرين : بين الكذب ، والوقوع في اللفظ المنهي عنه ، وأما إذا كان أعلم أهل زمانه ، أو أعلم أهل مكانه ، ويرجع القضاة إليه ، فهذا وإن كان القول مطابقاً للواقع لكنه منهي عنه ، مع أن القلب لم يقصد معناه .(11/180)
الرابعة : التفطن أن هذا لأجل الله سبحانه يؤخذ من قوله : " لا مالك إلا الله ، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أشار إلى العلة ، وهي : " لا مالك إلا الله " ، فكيف تقول : ملك الأملاك وهو لا مالك إلا الله عز وجل ؟ .
الفرق بين ملك ومالك :
ليس كل ملك مالكاً ، وليس كل مالك ملكاً ، فقد يكون الإنسان ملكاً ، ولكنه لا يكون بيده التدبير ، وقد يكون الإنسان مالكاً ويتصرف فيما يملكه فقط ، فالملك من ملك السلطة المطلقة ، لكن قد يملك التصرف فيكون ملكاً مالكاً ، وقد لا يملك فيكون ملكاً وليس بمالك ، أم المالك ، فهو الذي له التصرف بشيء معين ، كمالك البيت ، ومالك السيارة وما أشبه ذلك ، فهذا ليس بملك ، يعني : ليس له سلطة عامة .
ويستفاد من الحديث أيضاً :
1 - } إثبات صفة الغيظ لله عز وجل ، وأنه يتفاضل لقوله : " أغيظ " ، وهو اسم تفضيل
2 ) حكمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في التعليم ، لأنه لما بين أن هذا أخنع اسم وأغيظه أشار إلى العلة ، وهو : " لا مالك إلا الله " ، وهذا من أحسن التعليم والتعبير ، ولهذا ينبغي لكل إنسان يعلم الناس أن يقرن الأحكام بما تطمئن إليه النفوس من أدلة شرعية أو علل مرعية ، قال ابن القيم:
العلم معرفة الهدى بدليله ... ... ... ما ذاك والتقليد يستويان
فالعلم أن تربط الأحكام بأدلتها الأثرية أو النظرية ، فالأثرية ما كان من كتاب أو سنة أو إجماع ، والنظرية : العقلية ، أي : العلل المرعية التي يعتبرها الشرع .
***
باب احترام أسماء الله .. إلخ
أسماء الله عز وجل هي : التي سمى بها نفسه أو مساه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
وقد سبق لنا الكلام فيها في مباحث كثيرة منها :
هل أسماء الله مترادفة أو متباينة ؟(11/181)
وقلنا : باعتبار دلالتها على الذات ، مترادفة ، لأنها تدل على ذات واحدة ، وهو الله عز وجل ، وباعتبار دلالتها على المعني والصفة التي تحملها متباينة ، وإن كان بعضها قد يدل على ما تضمنه الآخر من باب دلالة اللزوم ، فمثلاً : ( الخلاق ) يتضمن الدلالة على العلم المستفاد من اسم العليم ، لكنه بالالتزام ، وعلى القدرة المستفاد من أسم التقدير ، لكن بالالتزام .
الثاني : أهل أسماء الله مشتقة أو جامدة ( يعني : هل المراد بها الدلالة على الذات فقط ، أو على الذات والصفة ) ؟
الجواب : على الذات والصفة ، أما أسماؤنا نحن ، فيراد بها الدلالة على الذات فقط ، فقد يسمى محمداً وهو من أشد الناس ذماً ، وقد يسمى عبد الله وهو من أفجر عباد الله .
أما أسماء الله عز وجل ، وأسماء الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وأسماء القرآن ، وأسماء اليوم الآخر ، وما أشبه ذلك ، فإنها أسماء متضمنة للأوصاف .
الثالث : أسماء الله بعضها معلوم لنا وبعضها غير معلوم بدليل قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح في دعاء الكرب : " أسالك اللهم بكل أسم هو لك سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحداً من خلقك ، أو أستأثرت به في علم الغيب عندك : أن تجعل القرآن العظيم ريبع قلبي .." (1). ومعلوم أن ما استأثر الله بعلمه لا يعلمه أحد .
الرابع : أسماء الله ، هل هي محصورة بعدد معين ؟
والجواب : غير محصورة ، وقد سبق الكلام على ذلك ، والجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إن لله تسعة وتسعين اسماً ، من أحصاها دخل الجنة "(2).
__________
(1) تقدم ( ص 768).
(2) تقدم ( ص 768).(11/182)
الخامس : أن هذه التسعة والتسعين غير معينة ، بل موكولة لنا لنبحث حتى نحصل على التسعة والتسعين ، وهذا من حكمة إبهامها لأجل البحث حتى نصل إلى هذه الغاية ، ولهذا نظائر ، منها : أن الله أخفى ليلة القدر ، وساعة الإجابة يوم الجمعة ، وساعة الإجابة في الليل ، ليجتهد الناس في الطب .
السادس : معنى إحصاء هذه التسعة والتسعين الذي يترتب عليه دخول الجنة ليس معنى ذلك أن تكتب في رقاع ثم تكرر حتى تحفظ فقط ، ولكن معني ذلك:
أولاً : الإحاطة بها لفظاً .
ثانياً : فهمها معنى .
ثالثاً : التعبد لله بمقتضاها ، ولذلك وجهان :
الوجه الأول : أن تدعو الله بها ، لقوله تعالى : { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } [ الأعراف : 180] بأن تجعلها وسيلة إلى مطلوبك ، فتختار الاسم المناسب لمطلوبك ، فعند سؤال المغفرة تقول : يا غفور ! وليس من المناسب أن تقول : يا شديد العقاب ! اغفر لي ، بل هذا يشبه الاستهزاء ، بل تقول : أجرني من عقابك .
الوجه الثاني : أن تتعرض في عبادتك لما تقتضه هذه الأسماء ، فمقتضى الرحيم الرحمة ، فاعمل الصالح الذي يكون جالباً لرحمة الله ، ومقتضي الغفور المغفرة ، إذاً افعل ما يكون سبباً في مغفرة ذنوبك ، هذا هو معني إحصائها ، فإذا كان كذلك ، فهو جدير لأن يكون ثمناً لدخول الجنة ، وهذا الثمن ليس على وجه المقابلة ، ولكن على وجه السبب ، لأن الأعمال الصالحة سبب لدخول الجنة وليست بدلاً ، ولهذا ثبت في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله : " لن يدخل الجنة أحد بعمله . قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا ، إلا أن يتغمذني الله برحمته " (1)
__________
(1) البخاري : كتاب الرقاق / باب القصد والمداومة ، ومسلم : كتاب المنافقين / باب لن يدخل أحد الجنة بعمله .(11/183)
فلا تغتر يا أخي بعملك ، ولا تعجب فتقول : أنا عملت كذا وكذا وسوف أدخل الجنة ، قال تعالى : { يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان } [ الحجرات : 17] ، هذا باعتبار ما نراه نحن نحو أعمالنا ، فيجب أن نري لله ألمنه والفضل علينا ، لكن باعتبار الجزاء ، قال تعالى : { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } [الرحمن : 60 ] ، فنؤمن بأن الله تعالى يجزي الإحسان بالإحسان .
السابع : أسماء الله عز وجل ودلالتها على الذات والصفة جميعاً دلالة مطابقة ، ودلالتها على الذات وحدها أو على الصفة وحدها دلالة تضمن ، ودلالتها على أمر خارج التزام .
مثال ذلك : ( الخلاق ) دل على الذات ، وهو الرب عز وجل وعلي الصفة وهي الخلق جمعياً دلالة مطابقة ، ودل على الذات وحدها أو على الصفة وحدها دلالة تضمن ، ودل على القدرة والعلم دلالة التزام .
الثامن : أسماء الله عز وجل لايتم الإيمان بها إلا بثلاثة أمور إذا كان الاسم متعدياً : الإيمان بالاسم اسماً لله ، والإيمان بما تضمنه من صفة وما تضمنه من أثر وحكم فالعليم مثلاً لا يلم الإيمان به حتى نؤمن بأن العليم من أسماء الله ، ونؤمن بما تضمنه من صفة العلم ، ونؤمن بالحكم المرتب على ذلك ، وهو أنه يعلم كل شيء ، وإذا كان الاسم غير متعد ، فنؤمن بأنه من أسماء الله وبما يتضمنه من صفة .
التاسع : أن من أسماء الله ما يختص به ، مثل الله ، الرحمن ، رب العالمين ، وما أشبه ذلك ، ومنها ما لا يختص به ، مثل : الرحيم ، السميع العليم ، قال تعالى : { إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً } [ الإنسان : 2] وقال تعالى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : { بالمؤمنين رؤؤف رحيم } [التوبة : 128] (1).
__________
(1) أنظر أيضاَ : " رسالة القواعد المثلى " للمؤلف حفظه الله .(11/184)
قوله : " باب احترام أسماء الله " . أي وجوب أحترام أسماء الله ، لأن احترامها احترام لله عز وجل ومن تعظيم الله عز وجل ، فلا يسمى أحد باسم مختص بالله ، وأسماء الله تنقسم إلى قسمين :
الأول : ما لا يصح إلا الله ، فهذا لا يسمى به غيره ، وإن سمي وجب تغييره ، مثل : الله ، الرحمن ، رب العالمين ، وما أشبه ذلك .
الثاني : ما يصح أن يوصف به غير الله ، مثل : الرحيم ، والسميع والبصير ، فإن لوحظت الصفة منع من التسمي به ، وإن لم تلاحظ الصفة جاز التسمي به على أنه علم محض .
عن أبي شريح ، أنه كان يكنى أبا الحكم ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله هو الحكم ، وإليه الحكم ". فقال : إن قومي إذا اختلفوا في شيء ، أتوني ، فحكمت بينهم ، فرضي كلا الفريقين . فقال : " ما أحسن هذا ! فما لك من الولد ؟ " . قلت شريح ، ومسلم ، وعبد الله . قال : " فمن أكبرهم ؟ " . قلت : شريح . قال . " فأنت أبو شريح " . رواه أبو داود وغيره " (1).
قوله : " عن أبي شريح " . هو هانئ بن زيد الكندي ، جاء وافداً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مع قومه .
وقوله : يكنى أبا الحكم . أي ينادى به . والكنية ما صدر بأب أو أم أو أخ أو عم أو خال وتكون للمدح كما في هذا الحديث ، وتكون للذم كأبي جهل ، وقد يكون لمصاحبة الشيء مثل : أبي هريرة ، وقد تكون لمجرد العلمية كأبي بكر رضي الله عنه ، وأبي العباس شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله ، لأنه ليس له ولد .
قوله : " إن الله هو الحكم وإليه الحكم " . " وهو الحكم " ، أي المستحق أن يكون حاكماً على عباده ، حاكماً بالفعل ، يدل له قوله : " وإليه الحكم " .
وقوله : " وإليه الحكم " . الخبر فيه جار ومجرور مقدم ، وتقديم الخبر يفيد الحصر ، وعلى هذا يكون راجعاً إلى الله وحده .
__________
(1) أبو داود : كتاب الأدب / باب تغيير الاسم القبيح والنسائي : كتاب القضاء / باب إذا حكموا رجلاً فقضى بينهم .(11/185)
وحكم الله ينقسم إلى قسمين :
الأول : كوني ، وهذا لا راد له ، فلا يستطيع أحد أن يرده ، ومنه قوله تعالى : { فلن أبرح الأرض حتى بأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين } [ يوسف : 80] .
الثاني : شرعي ، وينقسم الناس فيه إلى قسمين : مؤمن وكافر ، فمن رضيه وحكم به فهو مؤمن ، ومن لم يرض به ولم يحكم به فهو كافر ، ومنه قوله تعالى : ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمة إلى الله } [ الشوري : 10 ] .
وأما قوله : { أليس الله بأحكم الحاكمين } [ التين : 8] ،وقوله تعالى : { ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } [ المائدة : 50] ، فهو يشمل الكوني والشرعي ، وإن كان ظاهر الآية الثانية أن المراد الحكم الشرعي ، لأنه في سياق الحكم الشرعي ، والشرعي يكون تابعاً للمحبة والرضا والكراهة والسخط ، والكوني عام في كل شيء .
وفي الحديث دليل على أن من أسمائه تعالى : ( الحكم ) .
وأما بالنسبة للعدل ، فقد ورد عن بعض الصاحبة أنه قال : " إن الله حكم عدل " ولا أعرف فيه حديثاً مرفوعاً ، ولكن قوله تعالى : { ومن أحسن من الله حكماً } [ المائدة : 50] لا شك أنه متضمن للعدل ، بل هو متضمن للعدل وزيادة . قوله : " فقال : إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني " . هذا بيان لسبب تسمية بأبي الحكم.
قوله : " ما حسن هذا " . الإشارة تعود إلى إصلاحه بين قومه لا إلى تسميته بهذا الاسم ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - غيَّره .
قوله : " شريح ومسلم وعبد الله " . الظاهر : أنه ليس له إلا الثلاثة ، لأن الولد في اللغة العربية يشمل الذكر والأنثى ، فلو كان عنده بنات لعدهن .
قوله : " فأنت أبو شريح " . غيره النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لأمرين :(11/186)
الأول : أن الحكم هو الله ، فإذا قيل : يا أبا الحكم ! كأنه قيل : يا أبا الله ! الثاني : إن هذا الاسم الذي جعل كنية لهذا الرجل لوحظ فيه معنى الصفة وهي الحكم ، فصار بذلك مطابقاً لاسم الله ، وليس لمجرد العلمية المحضة ، بل للعلمية المتضمنة للمعنى ، وبهذا يكون مشاركاً لله - سبحانه وتعالى - في ذلك ، ولهذا كناه النبي - صلى الله عليه وسلم - بما ينبغي أن يكنى به .
فيه مسائل :
الأولى : أحترام أسماء الله وصفاته ولو لم يقصد معناه . الثانية : تغيير الاسم لأجل ذلك . الثالثة . اختيار أكبر الأبناء للكنية .
فيه مسائل :
الأولى : أحترام أسماء الله وصفاته ولو لم يقصد معناه .
قوله : " ولو لم يقصد معناه " هذا في النفس منه شيء ، لأنه إذا لم يقصد معناه ، فهو جائز ، إلا سمي بما لا يصح إلا الله ، مثل : الله ، الرحمن ، رب العالمين ، وما أشبهه ، فهذه لا تطلق إلا على الله مهما كان ، وأما ما لا يختص بالله ، فإنه يسمى به غير الله إذا لم يلاحظ معنى الصفة ، بل كان المقصود مجرد العلمية فقط ، لأنه لا يكون مطابقاً لاسم الله ، ولذلك كان في الصحابة من اسمه " الحكم " (1) ولم يغيره النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لأنه لم يقصد إلا العلمية ، وفي الصحابة من اسمه " حكيم " (2) وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - فالذي يحترم من أسمائه تعالى ما يختص به ، أو ما يقصد به ملاحظة الصفة .
الثانية : تغيير الاسم لأجل ذلك . وقد سبق الكلام عليه .
الثالثة : اختيار أكبر الأبناء للكنية . تؤخذ من سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " فمن أكبرهم ؟ قال شرح . قال : فأنت أبو شريح: " .
ولا يؤخذ من الحديث استجاب التكني ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يغير كنيته إلى كنية مباحة ولم يأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكنى ابتداء .
__________
(1) انظر " الإصابة " لابن حجر ( 1/342)
(2) " الإصابة " لابن حجر ( 1 / 349)(11/187)
ويستفاد من الحديث ما يلي :
1 ) أنه ينبغي لأهل الوعظ والإرشاد والنصح إذا أغلقوا باباً محرماً أن يبنوا للناس المباح ، وقد سبق تقرير ذلك .
2 ) أن الحكم لله وحدة لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " وإليه الحكم " ، أما الكوني ، فلا نزاع فيه إذ لا يعارض الله أحد في أحكامه الكونية .
وأما الشرعي ، فهو محك الفتنة والامتحان والاختبار ، فمن شرع للناس شرعاً سوى شرع الله ورأى أنه أحسن من شرع الله وأنفع للعباد ، أو أنه مساو لشرع الله ، أو أنه يجوز ترك شرع الله إليه ، فإنه كافر لأنه جعل نفسه نداً لله عز وجل ، سواء في العبادات أو المعاملات ، والدليل على ذلك قوله تعالى : { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } [ المائدة : 50] ، فدلت الآية على أنه لا أحد أحسن من حكم الله ولا مساو لحكم الله ، لأن أحسن اسم تفضيل : معناه لا يوجد شيء في درجته ، ومن زعم ذلك ، فقد كذب الله عز وجل وقال تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } [ المائدة : 44 ] ، وهذا دليل على أنه لا يجوز العدول عن شرع الله إلى غيره ، وأنه كفر .
فإن قيل : قال الله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله أولئك هم الفاسقون } [ المائدة : 47]
قلنا : قال الله تعالى : { ألم تر الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أمزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدوداً } [ النساء : 60-61] وهذا دليل على كفرهم ، لأنه قال : { يزعمون أنهم آمنوا } ، وهذا إنكار لإيمانهم ، فظاهر الآية أنهم يزعمون بلا صدق ولا حق .
فقوله - صلى الله عليه وسلم - : " وإليه الحكم " يدل على أن من جعل الحكم لغير الله ، فقد أشرك .
فائدة :(11/188)
يجب على طالب العلم أن يعرف الفرق بين التشريع الذي يجعل نظاماً يمشى عليه ويستبدل به القرآن ، وبين أن يحكم في قضية معينة بغير ما أنزل الله ، فهذا قد يكون كفراً أو فسقاً أو ظلماً .
فيكون كفراً إذا اعتقد أنه أحسن من حكم الشرع أو مماثل له .
ويكون فسقاً إذا كان لهوى في نفس الحاكم .
ويكون ظلماً إذا أراد مضرة المحكوم عليه ، وظهور الظلم في هذه أبين من ظهوره في الثانية ، وظهور الفسق في الثانية أبين من ظهوره في الثالثة .
3 ) تغيير الاسم إلى ما هو أحسن إذا تضمن أمراً لا ينبغي ، كما غير النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض الأسماء المباحة ، ولا يحتاج ذلك إلى إعادة العقيقة كما يتوهمه بعض العامة .
***
باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول
هذه الترجمة فيها شيء من الغموض ، والظاهر أن المراد من هزل بشيء فيه ذكر الله مثل الأحكام الشرعية ، أو هزل بالقرآن أو هزل بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فيكون معطوفاً على قوله بشيء.
والمراد بالرسول هنا : اسم الجنس ، فيشمل جميع الرسل ، وليس المراد محمداً - صلى الله عليه وسلم - ، فـ ( أل ) للجنس وليست للعهد .
قوله : " من هزل " . سخر واستهزأ ورآه لعباً ليس جداً .
ومن هزل بالله أو بآياته الكونية أو الشرعية أو برسله ، فهو كافر ، لأن منافاة الاستهزاء للإيمان منافاة عظيمة .
كيف يسخر ويستهزئ بأمر يؤمن به ؟ ! فالمؤمن بالشيء لابد أن يعظمه وأن يكون في قلبه من تعظيمه ما يليق به .
والكفر كفران : كفر إعراض ، وكفر معارضة ، والمستهزئ كافر كفر معارضة ، فهو أعظم ممن يسجد لصنم فقط ، وهذه المسألة خطيرة جداً ، ورب كلمة أوقعت بصاحبها البلاء بل والهلاك وهو لا يشعر ، فقد يتكلم الإنسان بالكلمة من سخط الله عز وجل لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار .(11/189)
فمن استهزأ بالصلاة ولو نافلة ، أو بالزكاة ، أو الصوم ، أو الحج ، فهو كافر بإجماع المسلمين ، كذلك من استهزأ بالآيات الكونية بأن قال مثلاً : إن وجود الحر في أيام الشتاء سفه ، أو قال : إن وجود البرد في أيام الصيف سفه ، فهذا كفر مخرج عن الملة ، لأن الرب عز وجل كل أفعاله مبنية على الحكمة وقد لا نستطيع بلوغها بل لا نستطيع بلوغها .
ثم اعلم أن العلماء اختلفوا فيمن سب الله أو رسوله أو كتابه : هل تقبل توبته ؟ على قولين:
القول الأول : أنها لا تقبل ، وهو المشهور عن الحنابلة ، بل يقتل كافراً ، ولا يصلى عليه ، ولا يدعى له بالرحمة ، ويدفن في محل بعيد عن قبور المسلمين ، ولو قال : إنه تاب أو إنه أخطأ ، لأنهم يقولون : إن هذه الردة أمرها عظيم وكبير لا تنفع فيها التوبة .
وقال بعض أهل العلم : إنها تقبل إذا علمنا صدق توبته إلى الله ، وأقر على نفسه بالخطأ ، ووصف الله تعالى بما يستحق من صفات التعظيم ، وذلك لعموم الأدلة الدالة على قبول التوبة ، كقوله تعالى { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً } [ الزمر : 53] ، ومن الكفار من يسبون الله ، ومع ذلك تقبل توبتهم
وهذا هو الصحيح ، إلا أن ساب الرسول - صلى الله عليه وسلم - تقبل توبته ويجب قتله ، بخلاف من سب الله ، فإنها تقبل توبته ولا يقتل ، لا لأن حق الله دون حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، بل لأن الله أخبرنا بعفوه عن حقه إذا تاب العبد إليه بأنه يغفر الذنوب جميعاً ، أما ساب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فإنه يتعلق به أمران :
الأول : أمر شرعي لكونه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومن هذا الوجه تقبل توبته إذا تاب .(11/190)
الثاني : أمر شخصي لكونه من المرسلين ، ومن هذا الوجه يجب قتله لحقه - صلى الله عليه وسلم - ويقتل بعد توبته على أنه مسلم ، فإذا قتل ، غسلناه وكفناه وصلينا عليه ودفناه مع المسلمين .
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيميه ، وقد ألف كتاباً في ذلك اسمه : " الصارم المسلول في حكم قتل ساب الرسول " ، أو : " الصارم المسلول على شاتم الرسول " ، وذلك لأنه استهان بحق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وكذا لو قذفه ، فإنه يقتل ولا يجلد .
فإن قيل : أليس قد ثبت أن من الناس من سب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقبل منه وأطلقه ؟
أجيب : بلى ، هذا صحيح لكن هذا في حياته - صلى الله عليه وسلم - ، وقد أسقط حقه ، أما بعد موته ، فلا ندري ، فننفذ ما نراه واجباً في حق من سبه - صلى الله عليه وسلم - .
فإن قيل : احتمال كونه يعفو عنه أو لا يعفو موجب للتوقف ؟
أجيب : إنه لا يوجب التوقف ، لأن المفسدة حصلت بالسب ، وارتفاع أثر هذا السب غير معلوم ، والأصل بقاؤه .
فإن قيل : أليس الغالب أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عفا عمن سبه ؟
أجيب : بلى ، وربما كان في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا عفا قد تحصل المصلحة ويكون في ذلك تأليف ، كما أنه - صلى الله عليه وسلم - يعلم أعيان المنافقين ولم يقتلهم ، لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه ، لكن الآن لو علمنا أحداً بعينه من المنافقين لقتلناه ، قال ابن القيم : إن عدم قتل المنافق المعلوم إنما هو في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقط .
وقول الله تعالى : { ولئن سألتهم ليقولون إنما كنا نخوض ونعلب } [ التوبة : 67] الآية.
قوله تعالى : { ولئن سألتهم } . الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، أي سألت هؤلاء الذين يخوضون ويلعبون بالاستهزاء بالله وكتابه ورسوله والصحابة .
قوله : { ليقولن } . جواب القسم ، قال ابن مالك :(11/191)
واحذف لدى اجتماع شرط وقسم ... ... ... جواب ما أخرت فهو ملتزم
ولهذا جاءت اللام التي تقترن بجواب القسم دون الفاء التي تقع في جواب الشرط.
قوله : { ليقولون } ، أي : المسؤولون .
قوله : { إنما كنا نخوض ونعلب } . أي ما لنا قصد ، ولكننا نخوض ونعلب ، واللعب يقصد به الهزء ، وأما الخوض ، فهو كلام عائم لا زمام له .
هذا إذا وصف بذلك القول ، وأما إذا لم يوصف به القول ، فإنه يكون الخوض في الكلام واللعب في الجوارح .
وقوله : { إنما كنا نخوض ونلعب } : { إنما } : أداة حصر ، أي : ما شأننا وحالنا إلا أننا نخوض ونعلب .
قوله : { قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون } . الاستفهام للإنكار والتعجب ، فينكر عليهم أن يستهزئوا بهذه الأمور العظيمة ، ويتعجب كيف يكون أحق الحق محلاً للسخرية ؟
قوله : { أبالله } . أي بذاته وصفاته .
قوله : { وآياته } : جمع آية ، ويشمل : الآيات الشرعية ، كالاستهزاء بالقرآن ، بأن يقال : هذا أساطير الأولين والعياذ بالله ، أو يستهزئ بشيء من الشرائع ، كالصلاة والزكاة والصوم والحج .
والآيات الكونية ، كأن يسخر بما قدره الله تعالى ، كيف يأتي هذا في هذا الوقت ؟ كيف يخرج هذا الثمر من هذا الشيء ؟ كيف يخلق هذا الذي يضر الناس ويقتلهم ؟ استهزاء وسخرية .
قوله : { ورسوله } . المراد هنا محمد - صلى الله عليه وسلم - .
قوله : { لا تعتذروا } . المراد بالنهي التيئيس ، أي : انههم عن الاعتذار تيئيساً لهم بقبول اعتذارهم قوله { قد كفرتم بعد إيمانكم } أي بالاستهزاء وهم لم يكونوا منافقين خالصين بل مؤمنين ، ولكن إيمانهم ضعيف ، ولهذا لم يمنعهم من الاستهزاء بالله وآياته ورسوله .
قوله : { إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين } .
{ نعف } : ضمير الجمع للتعظيم ، أي : الله عز وجل .(11/192)
وقوله : { عن طائفة منكم } قال بعض أهل العلم : هؤلاء حضروا وصار عندهم كراهية لهذا الشيء لكنهم داهنوا فصاروا في حكمهم لجلوسهم إليه ، لكنهم أخف لما في قلوبهم من الكراهة ، ولهذا عفا الله عنهم وهداهم للإيمان وتابوا .
قوله : { نعذب طائفة } . هذا جواب الشرط ، أي : لا يمكن أن نعفو عن الجميع ، بل إن عفونا عن طائفة ، فلابد أن نعذب الآخرين .
قوله : { بأنهم كانوا مجرمين } . الباء للسببية ، أي : بسبب كونهم مجرمين بالاستهزاء وعندهم جرم والعياذ بالله ، فلا يمكن أن يوفقوا للتوبة حتى يعفى عنهم .
ويستفاد من الآيتين :
بيان علم الله عز وجل بما سيكون ، لقوله : { ولئن سألتهم ليقولن } ، وهذا مستقبل ، فالله عالم ما كان وما سيكون ، قال تعالى : { ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله } [ هود : 123] .
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحكم بما أنزل الله إليه حيث أمره أن يقول : { أبالله وآياته .. }
أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله من أعظم الكفر ، بدليل الاستفهام والتوبيخ .
أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله أعظم استهزاء وقبحاً ، لقوله : { أبالله وآياته .. } وتقديم المتعلق يدل على الحصر كأنه مابقي إلا أن تستهزؤا بهؤلاء الذين ليسوا محلاً للاستهزاء ، بل أحق الحق هؤلاء الثلاثة .
أن المستهزئ بالله يكفر ، لقوله : { لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } .
استعمال الغلظة في محلها ، وإلا ، فالأصل أن من جاء يعتذر يرحم ، لكنه هنا ليس أهلاً للرحمة .
قبول توبة المستهزئ بالله ، لقوله : { أن نعف عن طائفة .. } ، وهذا أمر قد وقع ، فإن من هؤلاء من عفي عنه وهدي للإسلام وتاب الله عليه ، وهذا دليل للقول الراجح أن المستهزئ بالله تقبل توبته ، لكن لابد من دليل بين على صدق توبته ، لأن كفره من أشد الكفر أو هو أشد الكفر ، فليس مثل كفر الإعراض أو الجحد .(11/193)
وهؤلاء الذين حضروا السب مثل الذين سبوا ، قال تعالى : { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم } [النساء : 14] وهم يستطيعون المفارقة ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - امتثل أمر الله بتبليغهم ، حتى إن الرجل الذي جاء يعتذر صار يقول له : { أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } [ التوبة : 67 ] ، ولا يزيد على هذا أبداً مع إمكان أن يزيده توبيخاً وتقريعاً .
عن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة ، دخل حديث بعضهم في بعض : " أنه قال رجل في غزوة تبوك : ما رأينا مثل قرائناً هؤلاء ، أرغب بطونا ً ، ولا أكذب ألسنا ، ولا أجبن عن اللقاء ( يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه القراء ) . فقال له عوف بن مالك : كذبت ، ولكنك منافق ، لأخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فذهب عوف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليخبره ، فوجد القرآن قد سبقه ، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أرتحل وركب ناقته ، فقال : يا رسول الله ! إنما كنا نخوض ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق " . قال ابن عمر : " كأني أنظر إليه متعلقاً بنسعة ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإن الحجارة تنكب رجليه ، وهو يقول : إنما كنا نخوض ونلعب . فيقول له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون } [ التوبة : 67] ، ما يلتفت إليه وما يزيده عليه " (1).
قوله : " عن ابن عمر " . هو عبد الله .
" ومحمد بن كعب ، وزيد بن أسلم وقتادة " . والثلاثة تابعيون ، فالرواية عن ابن عمر مرفوعة ، وعن الثلاثة الآخرين مرسلة .
__________
(1) ابن جرير الطبري في " تفسيره " ( 16912-16916) ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه كما في " الدار المنثور " ( 4/230) .(11/194)
قوله : " دخل حديث بعضهم في بعض " . أي : إن هذا الحديث مجموع من كلامهم ، وهذا يفعله بعض أئمة الرواة كالزهري وغيره ، فيحدثه جماعة بشأن قصة من القصص كحديث الإفك مثلاً ، فيجمعون هذا ويجعلون في حديث واحد ، ويشيرون إلى هذا ، فيقولون مثلاً : دخل حديث بعضهم في بعض ، أو يقول : حدثني بكذا وبعضهم بكذا ، وما أشبه ذلك .
قوله : " في غزوة تبوك " . تبوك في أطراف الشام ، وكانت هذه الغزوة في رجب حين طابت الثمار ، وكان مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذه الغزوة نحو ثلاثين ألفاً ، ولما خرجوا رجع عبد الله بن أبي بنحو نصف المعسكر ، حتى قيل : إنه لا يدرى أي الجيشين أكثر : الذين رجعوا ، أو الذين ذهبوا ؟ مما يدل على وفرة النفاق في تلك السنة ، وكانت في السنة التاسعة ، وسببها أنه قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إن قوماً من الروم ومن متنصرة العرب يجمعون له ، فأراد أن يغزوهم - صلى الله عليه وسلم - إظهاراً للقوة وإيماناً بنصر الله عز وجل .
قوله : " ما رأينا ". تحتمل أن تكون بصرية ، وتحتمل أن تكون علمية قلبية .
قوله : " مثل قرائنا " . المفعول الأول ، والمراد بهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .
قوله : " أرغب بطوناً " . المفعول الثاني ، أي : أوسع ، وإنما كانت الرغبة هنا بمعنى السعة ، لأنه كلما اتسع البطن رغب الإنسان في الأكل .
قوله : " ولا أكذب ألسناً " . الكذب : هو الإخبار بخلاف الواقع ، والألسن : جمع لسان ، والمراد : ولا أكذب قولاً ، واللسان يطلق على القول كثيراً في اللغة العربية ، كما في قوله تعالى : { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } [ إبراهيم : 4 ] أي : بلغتهم .(11/195)
قوله : " ولا أجبن عند اللقاء " . الجبن : هو خور في النفس يمنع المرء من الإقدام على ما يكره ، فهو خلق نفسي ذميم ، ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ منه (1) لما يحصل فيه من الإحجام عما ينبغي الإقدام إليه ، فلهذا كان صفة ذميمة ، وهذه الأوصاف تنطبق على المنافقين لا على المؤمنين ، فالمؤمن يأكل بمعي واحد : ثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه ، والكافر يأكل بسبعة أمعاء ، والمؤمن أصدق الناس لساناً ولا سيما النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، فإن الله وصفهم بالصدق في قوله : { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون } [الحشر : 8 ] .
والمنافقون أكذب الناس ، كما قال الله فيهم : { والله يشهد إنهم لكاذبون } [الحشر : 11] ، وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الكذب من علامات النفاق (2)، والمنافقون من أجبن الناس ، قال تعالى : { يحسبون كل صيحة عليهم .. } [المنافقون : 4] ، فلو سمعوا أحداً ينشد ضالته ، لقالوا : عدو عدو، وهم أحب الناس للدنيا ، إذ أصل نفاقهم من أجل الدنيا ومن أجل أن تحمي دماؤهم وأموالهم وأعراضهم .
قوله : " كذبت " . أي : أخبرت بخلاف الواقع ، وفي ذلك دليل على تكذيب الكذب مهما كان الأمر ، وأن السكوت عليه لا يجوز .
قوله : " ولكنك منافق " . لأنه لا يطلق هذه الأوصاف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رجل تسمي بالإسلام إلا منافق ، وبهذا يعرف أن من يسب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كافر ، لأن الطعن فيهم طعن في الله ورسوله وشريعته .
فيكون طعناً في الله ، لأنه طعن في حكمته ، حيث أختار لأفضل خلقه أسوأ خلقه .
__________
(1) البخاري : كتاب الدعوات / باب الاستعاذة من الجبن .
(2) البخاري : كتاب الإيمان /باب علامة المنافق ، ومسلم : كتاب الإيمان / باب بيان خصال المنافق .(11/196)
وطعناً في الرسول - صلى الله عليه وسلم - : لأنهم أصحابه ، والمرء على دين خليله ، والإنسان يستدل على صلاحه أو فساده أو سوء أخلاقه أو صلاحها بالقرين .
وطعناً في الشريعة : لأنهم الواسطة بيننا وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - في نقل الشريعة ، وإذا كانوا بهذه المثابة ، فلا يوثق بهذه الشريعة .
قوله : " فوجد القرآن قد سبقه " . أي : بالوحي من الله تعالى ، والله عليم بما يفعلون وبما يريدون وبما يبيتون ، قال تعالى : { يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضي من القول } [ النساء : 108] .
قوله : " وقد ارتحل وركب ناقته " . الظاهر أن هذا من باب عطف التفسير ، لأن ركوب الناقة هو الارتحال .
قوله : " كأني أنظر إليه " . كأن إذا دخلت على مشتق ، فهي للتوقع ، وإذا دخلت على جامد ، فهي للتشبيه ، وهنا دخلت على جامد ، والمعنى : كأنه الآن أمامي من شدة يقيني به .
قوله : " بنسعة " . هي الحزام الذي يربط به الرحل .
قوله : " والحجارة تنكب رجليه " . أي يمشي والحجارة تضرب رجليه وكأنه والله أعلم يمشي بسرعة ، ولكنه لا يحس في تلك الحال ، لأنه يريد أن يعتذر .
قوله : " وما يزيده عليه " . أي : لا يزيده على ما ذكر من توبيخ امتثالاً لأمر الله عز وجل ، وكفى بالقول الذي أرشد الله إليه نكاية وتوبيخاً .
فيه مسائل :
الأولى : وهي العظيمة ، أن من هزل بهذا كافر . الثانية : أن هذا هو تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائناً من كان . الثالثة : الفرق بين النميمة وبين النصيحة لله ولرسوله . الرابعة : الفرق بين العفو الذي يحبه الله وبين الغلظة على أعداء الله .الخامسة : أن من الأعتذار ما لا ينبغي أن يقبل .
فيه مسائل :
الأولى وهي العظيمة : أن من هزل بهذا كافر . أي من هزل : بالله وآياته ورسوله .(11/197)
الثانية : أن هذا هو تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائناً من كان . أي : سواء كان منافقاً أو غير منافق ثم استهزأ ، فإنه يكفر كائناً من كان.
الثالثة : الفرق بين النميمة والنصيحة لله ولرسوله . النميمة : من نم الحديث ، أي : نقله ونسبه إلى غيره : وهي نقل كلام الغير للغير بقصد الإفساد ، وهي من أكبر الذنوب ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " لا يدخل الجنة نمام " (1)وأخبر عن رجل يعذب في قبره ، لأنه كان يمشي بالنميمة (2) ، وأما النصحية لله ورسوله ، فلا يقصد بها ذلك ، وإنما يقصد بها احترام شعائر الله عز وجل وإقامة حدوده وحفظ شريعته ، وعوف بن مالك نقل كلام هذا الرجل لأجل أن يقام عليه الحد أو ما يجب أن يقام عليه وليس قصده مجرد النميمة .
ومن ذلك لو أن رجلاً اعتمد على شخص ووثق به ، وهذا الشخص يكشف سره ويستهزئ به في المجالس ، فإنك إذا أخبرت هذا الرجل بذلك ، فليس هذا من النميمة ، بل من النصيحة.
الرابعة : الفرق بين العفو الذي يحبه الله وبين الغلظة على أعداء الله . العفو الذي يحبه الله : هو الذي فيه إصلاح ، لأن الله اشترط ذلك في العفو فقال : { فمن عفا وأصلح فأجره على الله } [ الشوري : 40] أي : كان عفوه مشتملاً على الإصلاح ، وقال بعضهم : أي أصلح الود بينه وبين من أساء إليه ، وهذا تفسير قاصر والصواب أن المراد به أصلح في عفوه ، أي كان في عفوه إصلاح .
فمن كان عفوه إفساداً لا إصلاحاً ، فإنه آثم بهذا العفو ، ووجه ذلك من الآية ظاهر ، لأن الله قال : { عفا وأصلح } ، ولأن العفو إحسان والفساد إساءة ، ودفع الإساءة أولى ، بل العفو حينئذ محرم .
__________
(1) البخاري : كتاب الأدب / باب ما يكره من النميمة ) ومسلم : كتاب الإيمان / باب غلظ تحريم النميمة .
(2) البخاري : باب الجنائز / باب عذاب القبر من الغيبة ، ومسلم : كتاب الطهارة / باب الدليل على نجاسة البول .(11/198)
والنبي - صلى الله عليه وسلم - غلظ على هذا الرجل لكونه - صلى الله عليه وسلم - لم يلتفت إليه ، ولا يزيد على هذا الكلام الذي أمره الله به مع أن الحجارة تنكب رجل الرجل ، ولم يرحمه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يرق له ، ولكل مقام مقال ، فينبغي أن يكون الإنسان شديداً في موضع الشدة ، ليناً في موضع اللين ، لكن أعداء الله عز وجل الأصل في معاملتهم الشدة ، قال تعالى في وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه : { أشداء على الكفار رحماء بينهم } [ الفتح : 29] ، وقال تعالى { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير } [التحريم : 9] و[التوبة:73]، ذكرها الله في سوريتين من القرآن مما يدل على أنها من أهم ما يكون ، لكن استعمال اللين أحياناً للدعوة والتأليف قد يكون مستحسناً .
الخامسة : أن من الاعتذار ما لا ينبغي أن يقبل . الأصل في الاعتذار أن يقبل لا سيما إذا المعتذر محسناً ، لكن حصلت منه هفوة ، فإن علم أنه أعتذار باطل ، فإنه لا يقبل
***
باب قول الله تعالى :
{ ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي } [ فصلت : 50] .
مناسبة الباب لـ " كتاب التوحيد " : أن الإنسان إذا أضاف النعمة إلى عمله وكسبه ، ففيه نوع من الإشراك بالربوبية ، وإذا أضافها إلى الله لكنه زعم أنه مستحق لذلك وأن ما أعطاه الله ليس محض تفضل ، لكن لأنه أهل ، ففيه نوع من التعلي والترفع في جانب العبودية .
وقد ذكر الشيخ فيه آيتين :
قال مجاهد : " هذا بعملي ، وأنا محقوق به " ، وقال ابن عباس : يريد : من عندي " .
الآية الأولى ما ترجم به المؤلف ، وهي قوله تعالى : { ولئن أقناه } . الضمير يعود على الإنسان ، والمراد به الجنس . وقيل : المراد به الكافر .(11/199)
والظاهر أن المراد به الجنس ، إلا أنه يمنع من هذه الحال الإيمان ، فلا يقول ذلك المؤمن ، قال تعالى : { إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منا من شهيد . وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا ما لهم من محيص * لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيؤوس قنوط } [ فصلت : 47-49] ، هذه حال الإنسان من حيث هو إنسان ، لكن الإيمان يمنع الخصال السيئة المذكورة .
قوله : { منا } . أضافه الله ليه ، لوضوح كونها من الله ، ولتمام منته بها ، قوله { من بعد ضراء مسته } أي: أنه لم يذق الرحمة من أول أمره بل أصيب بضراء ، كالفقر وفقد الأولاد وغير ذلك ، ثم أذاقة بعد ذلك الرحمة حتى يحس بها وتكون لذتها والسرور بها أعظم مثل الذائق للطعام بعد الجوع .
قوله : { مسته } . أي : أصابته وأثرت فيه .
قوله : { ليقولن هذا لي } . هذا كفر بنعمة الله وإعجاب بالنفس ، واللام في قوله { ليقولن } واقعة في جواب القسم المقدر قبل اللام في قوله : { ولئن أذقناه } .
قوله : { وما أظن الساعة قائمة } . بعد أن أنغمس في الدنيا نسي الآخرة ، بخلاف المؤمن إذا أصابته الضراء لجأ إلى الله ، ثم كشفها ، ثم وجد بعد ذلك لذة وسروراً يشكر الله على ذلك ، أما هذا ، فقد نسي الآخرة وكفر بها .
قوله : { ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسني } .
( إن ) : شرطية وتأتي فيما يمكن وقوعه وفيما لا يمكن وقوعه ، كقوله تعالى : { لئن أشركت ليحبطن عملك } [ الزمر : 65] ، والمعنى : على فرض أن أرجع إلى الله لي عنده للحسنى .(11/200)
والحسنى : اسم تفضيل ، أي : الذي هو أحسن من هذا ، واللام للتوكيد . قوله : { فلننبئن الذين كفروا بما عملوا } . أي : فلننبئن هذا الإنسان ، وأظهر في مقام الإضمار من أجل الحكم على هذا القائل بالكفر ولأجل أن يشمله الوعيد وغيره .
قوله مجاهد : هذا بعملي ، وأنا محقوق به . أي هذا بكسبي وأنا مستحق له .
قوله ابن عباس : يريد من عندي . أي من حذقي وتصرفي وليس من عن الله .
وقوله : { إنما أوتيته على علم عندي } .
قال قتادة : " علي علم مني بوجوه المكاسب " ، وقال آخرون : علي علم من الله أني له أهل ، معني قول مجاهد : " أوتيته على شرف " (1).
الآية الثانية قوله تعالى : { إنما أوتيته على علم } .
في القرآن آيتان : آية قال الله فيها : { إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون } ، الثانية : { إنما أوتيته على علم عندي } ، والظاهر من تفسير المؤلف أنه يريد الاية الثانية .
قوله : { على علم } . في معناه أقوال :
الأول : قال قتادة : على علم مني بوجوه المكاسب ، فيكون العلم عائداً على الإنسان ، أي : عالم بوجوه المكاسب ولا فضل لأحد علي فيما أوتيته ، وإنما الفضل لي ، وعليه يكون هذا كفراً بنعمة الله وإعجاباً بالنفس .
الثاني : قال آخرون : على علم من الله أني له أهل ، فيكون بذلك مدلاً على الله ، وأنه أهل ومستحق لأن ينعم الله عليه ، والعلم هنا عائد على الله ، أي : أوتيت هذا الشيء على علم من الله أني مستحق له وأهل له .
الثالث : قول مجاهد : " أوتيته على شرف "، وهو من معنى القول الثاني ، فصار معنى الآية يدور على وجهين :
الوجه الأول : أن هذا إنكار أن يكون ما أصابه من النعمة من فضل الله ، بل زعم أنها من كسب يده وعلمه ومهارته .
__________
(1) " تفسير ابن جرير " ( 10/107) ، " الدر المنثور " ( 5/137) .(11/201)
الوجه الثاني : أنه أنكر أن يكون لله الفضل عليه ، وكأنه هو الذي له الفضل على الله ، لأن الله أعطاه ذلك لكونه أهلاً لهذه النعمة .
فيكون على كلا الأمرين غير شاكر الله - عز وجل ، والحقيقة أن كل ما نؤتاه من النعم فهو من الله ، فهو الذي يسرها حتى حصلنا عليها ، بل كل ما نحصل عليه من علم أو قدرة أو إرادة فمن الله ، فالواجب علينا أن نضيف هذه النعم إلى الله سبحانه ، قال تعالى : { وما بكم من نعمة فمن الله } [ النحل : 53] ، حتى ولو حصلت لك هذه النعمة بعلمك أو مهارتك ، فالذي أعطاك هذا العلم أو المهارة هو الله ، ثم أن المهارة أو العلم قد لا يكون سبباً لحصول الرزق ، فكم من إنسان عالم أو ماهر حاذق ومع ذلك لا يوفق بل يكون عاطلاً ؟!
وشكر النعمة له ثلاثة أركان :
الاعتراف بها في القلب .
الثناء على الله باللسان .
العمل بالجوارح بما يرضي المنعم .
فمن كان عنده شعور في داخل نفسه أنه هو السبب لمهارته وجودته وحذقه ، فهذا لم يشكر النعمة ، وكذلك لو أضاف النعمة بلسانه إلى غير الله أو عمل بمعصية الله في جوارحه ، فليس بشاكر لله تعالى .(11/202)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " أن ثلاثة من بني إسرائيل ، أبرص وأقرع وأعمي ، فأراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكاً فأتي الأبرص ، فقال : أي شيء أحب إليك ؟ قال : لو حسن وجلد حسن ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به " . قال : " فمسحه ، فذهب عنه قذرة ، فأعطي لونا حسناً وجلداً حسناً . قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال : الإبل أو البقر ( شك إسحاق ) . فأعطي ناقة عشراء ، وقال : بارك الله لك فيها " . قال : فأتي الأقرع ، فقال : أي شيء أحب أليك ؟ قال : شعر حسن ويذهب عني الذي قدرني الناس به ، فمسحه ، فذهب عنه قذرة ، وأعطي شعراً حسناً . فقال : أي المال أحب إليك ؟ قال : البقر أو الإبل . فأعطي بقرة حاملاً ، قال ، بارك الله لك فيها . فأتي الأعمى ، فقال أي شيء أحب إليك ؟ قال يرد الله إلى بصري فأبصر به الناس . فمسحه ، فرد الله إليه بصره . قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال الغنم . فأعطي شاه والداً . فأنتج هذان وولد هذا ، فكان لهذا واد من الإبل ، ولهذا واد من البقر ، ولهذا واد من الغنم " . قال : ثم إنه أتي الأبرص في صورته وهيئته ، قال : رجل مسكين وابن سبيل قد أنقطعت بي الحبال في سفري ، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك ، أسالك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال ، بعيراً أتبلغ به في سفري : فقال : الحقوق كثيرة . فقال له : كأني أعرفك ! ألم تكن أبرص يقذرك الناس ، فقيراً فأعطاك الله عز وجل المال ؟ فقال أنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر . فقال إن كنت كاذباً ، فصيرك الله إلى ما كنت " .
قوله : " وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : أن ثلاثة من بني إسرائيل " .(11/203)
جميع القصص الواردة في القرآن وصحيح السنة ليس المقصود منها مجرد الخبر ، بل يقصد منها العبرة والعظة مع ما تكسب النفس من الراحة والسرور ، قال الله تعالى : { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } [ يوسف : 111 ] .
قوله : " من بني إسرائيل " في محل نصب نعت لـ " ثلاثة " وبنو إسرائيل هم ذرية يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم عليم الصلاة والسلام .
قوله : " أبرص " . أي : في جلده برص ، والبرص داء معروف ، وهو من الأمراض المستعصية التي لا يمكن علاجها بالكلية ، وربما توصلوا أخيراً إلى عدم أنتشارها وتوسعها في الجلد ، لكن رفعها لا يمكن ولهذا جعلها الله آية لعيسى ، قال تعالى : { تبرىء الأكمه والأبرص بإذني } [المائدة : 110] .
قوله : " أقرع " . من ليس علي رأسه شعر .
قوله : " أعمى " من فقد البصر .
قوله : " فأراد الله " وفي بعض النسخ : " أراد الله " . فعلى إثبات الفاء يكون خبر (إن ) محذوفاً دل عليه السياق تقديره : إن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمي أنعم الله عليهم فأراد الله أن يبتليهم .
ولا يمكن أن يكون " أبرص وأقرع وأعمى " خبراً ، لأنها بدل ، وعلي حذف الفاء يكون الخبر جملة : " أراد الله " ، والإرادة هنا كونية .
قوله : " يبتليهم " . أي : يختبرهم ، كما قال الله تعالى : { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } [الأنبياء : 35] وقال تعالى : { هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر } [ النمل : 40] .
قوله : " ملكاً " . أحد الملائكة : هم عالم غيبي خلقهم الله من نور وجعلهم قائمين بطاعة الله ، لا يأكلون ، ولا يشربون ، يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، لهم أشكال وأعمال ووظائف مذكورة في الكتاب والسنة ، ويجب الإيمان بهم ، وهو أحد أركان الإيمان الستة .(11/204)
قال أهل اللغة : وأصل الـ ( ملك ) مأخوذ من الألوكة ، وهي الرسالة ، وعلي هذا يكون أصله مالك ، فصار فيه إعلال قلبي ، فصار ملأك ، ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام الساكنة وحذفت الهمزة تخفيفاً ، فصار ملك ، ولهذا في الجمع تأتي الهمزة : ملائكة .
قوله : " ويذهب " . يجوز فيه الرفع والنصب ، والرفع أولى .
قوله : " قذرني " . أي استقدرني وكرهوا مخالطتي من أجله .
وقوله : " به " الباء للسببية ، أي : بسببه .
قوله : فمسحه " ليتبين أن كل شيء سبباً وبرىء بإذن الله عز وجل ، " فذهب عنه قذرة " : بدأ بذهاب القذر قبل اللون قبل اللون الحسن والجلد الحسن ، لأنه يبدأ بزوال المكروه قبل حصول المطلوب ، كما يقال : التخلية قبل التحلية .
قوله : " قال : الإبل أو البقر - شك إسحاق -" . والظاهر : أنه الإبل كما يفيده السياق ، وإسحاق أحد رواة الحديث .
قوله : " عشراء . قيل : هي الحامل مطلقاً ، وقال في " القاموس " : هي التي بلغ حملها عشرة أشهر أو ثمانية ، سخرها الله عز وجل وذللها ولعلها كانت قريبة من الملك فأعطاه إياها .
قوله : " بارك الله لك فيها " . يحتمل أن لفظه لفظ الخبر ومعناه الدعاء وهو الأقرب ، لأنه أسلم من التقدير ، ويحتمل أنه الخبر محض ، كأنه قال : هذه ناقة عشراء مبارك لك فيها ويكون المعني على تقدير (قد ) ، أي : قد بارك الله لك فيها .
قوله : " فأتي الأقرع " . وهو الرجل الثاني في الحديث .
قوله : " فقال : أي شيء أحب إليك ؟ قال : شعر حسن " . ولم يكتف بمجرد الشعر ، بل طلب شعراً حسناً .
قوله : " الذي قذرني الناس به " . أي : القرع ، لأنه إذا كان أقرع كرهه الناس واستقذروه ، وهذا يدل على أنهم لا يغطون رؤوسهم بالعمائم ونحوها ، وقد يقال يمكن أن يكون عليه عمامة يبدو بعض الرأس من جوانبها فيكرهه الناس مما بدا منها .(11/205)
قوله : " فذهب عنه قذرة " . يقال في تقديم ذهاب القذر ما سبق ، وهذه نعمة من الله عز وجل أن يستجاب للإنسان .
قوله : " البقر أو الإبل " . الشك في إسحاق ، وسياق الحديث يدل على أنه أعطي البقر .
قوله : " فأتي الأعمى " . هذا هو الرجل الثالث في هذه القصة .
قوله : " فأبصره به الناس " . لم يطلب بصراً حسناً كما طلبه صاحباه ، وإنما طلب بصراً يبصر به الناس فقط مما يدل على قناعته بالكفاية .
قوله : " فرد الله إليه بصره " . الظاهر أن بصره الذي كان معه من قبل هو ما يبصر به الناس فقط .
قوله : " قال : الغنم " . هذا يدل على زهده كما يدل على أنه صاحب سكينة وتواضع ، لأن السكنية في أصحاب الغنم .
قوله : " شاة والداً " . قيل : إن المعني قريبة الولادة ، ويؤيده أن صاحبيه أعطيا أنثي حاملاً ، ولما يأتي من قوله : " فأنتج هذان وولد هذا " ، والشيء قد يسمي بالاسم القريب ، فقد يعبر عن الشيء حاصلاً وهو لم يحصل ، لكنه قريب الحصول .
قوله : " فأنتج هذان " . بالضم . وفيه رواية بالفتح : " فأنتج " ، وفي رواية : " فنتج هذان ".
والأصل في اللغة في مادة ( نتج ) : أنها مبنية للمفعول والإشارة إلى صاحب الإبل والبقر ، و" أنتج " أي : حصل لهما نتاج الإبل والبقر .
قوله : " وولد هذا " . أي : صار لشاته أولاد ، قالوا : والمنتج من أنتج ، والناتج من نتج ، والمولد من ولد ، ومن تولى النساء يقال له القابلة ، ومن تولي توليد غير النساء يقال له : منتج أو نتاج أو مولد .
قوله : " فكان لهذا واد من الإبل " . مقتضى السياق أن يقول : فكان لذلك ، لأنه أبعد المذكورين ، لكنه استعمل الإشارة للقريب في مكان البعيد ، وهذا جائز ، وكذا العكس .
قوله : " رجل مسكين " . خبر لمبتدأ محذوف تقديره : أنا رجل مسكين ، والمسكين : الفقير ، وسمي الفقير مسكيناً ، لأن الفقر أسكنة وأذلة ، والغني في الغالب يكون عنده قوة وحركة.(11/206)
قوله : " وأبن سبيل " . أي : مسافر سمي بذلك لملازمته للطريق ، ولهذا سمي طير الماء ابن الماء لملازمته له غالباً ، فكل شيء يلازم شيئاً ، فإنه يصح أن يضاف إليه بلفظ البنوة .
قوله : " انقطعت بي الحبال في سفري " الحبال الأسباب ، فالحبل يطلق على السبب وبالعكس ، قال تعالى : { فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع } [ الحج : 15] ، ولأن الحبل سبب يتوصل به الإنسان إلى مقصوده كالرشاء يتوصل به الإنسان إلى الماء الذي في البئر .
قوله : " بلاغ لي اليوم إلا بالله لم ثم بك " . " لا " نافية للجنس ، والبلاغ بمعين الوصول ، ومنه تبليغ الرسالة ، أي : إيصالها إلى المرسل إليه ، والمعنى : لا شيء يوصلني إلى بالله ثم بك ، فالمسألة فيها ضرورة .
السؤال هنا ليس سؤال استخبار بل سؤال استجداء ، لأن " سأل " تأتي بمعنى استجدى وبمعنى استخبر ، تقول : سألته عن فلان ، أي : استخبرته ، وسألته مالاً ، أي استجديته واستعطيته ، وإنما قال : " أسألك بالذي أعطاك " ، ولم يقل : أسألك بالله ، لأجل أن يذكره بنعمة الله عليه ، ففيه إغراء له على الإعانة لهذا المسكين ، لأنه جمع بين أمرين : كونه مسكيناً ، وكونه ابن سبيل ، ففيه سببان يقتضيان الإعطاء .
وقوله : " بعيراً " . يدل على أن الأبرص أعطي الإبل ، وتعبير إسحاق " الإبل أو البقر " من باب ورعه .
قوله : " أتبلغ به في سفري " . أي ليس أطيب الإبل وإنما يوصلني إلى أهلي فقط .
قوله : " الحقوق كثيرة " . أي : هذا المال الذي عندي متعلق به حقوق كثيرة ، ليس حقك أنت فقط ، وتناسى والعياذ بالله أن الله هو الذي مَنَّ عليه بالجلد الحسن واللون الحسن والمال .
قوله : " كأني أعرفك " . كأن هناك للتحقيق لا للتشبيه ، لأنها إذا دخلت على جامد فهي للتشبيه ، وإذا دخلت على مشتق ، فهي للتحقيق أو للظن والحسبان ، والمعنى : أني أعرفك معرفة تامة .(11/207)
قوله : " ألم تكن أبرص يقذرك الناس " . ذكّره الملك بنعمة الله عليه وعرفه بما فيه من العيب السابق حتى يعرف قدر النعمة ، والاستفهام للتقرير لدخوله على " لم " ، كقوله تعالى : { ألم نشرح لك صدرك } [ الشرح : 1] .
قوله : " كابراً عن كابر " . أنكر أن المال من الله ، لكنه لم يستطع أن ينكر البرص .
و" كابراً " منصوبة على نزع الخافض ، أي : من كابر ، أي : ممن يكبرني وهو الأب ، عن كابر له وهو الجد ، وقيل : المراد الكبر المعنوي ، أي أننا شرفاء وسادة وفي نعمة من الأصل ، وليس هذا المال مما تجدد ، واللفظ يحتمل المعنيين جميعاً .
قوله : " إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت " . " إن " : شرطية ولها مقابل ، يعني : وإن كنت صادقاً فأبقي الله عليك النعمة .
فإن قيل : كيف يأتي بـ " إن " الشرطية الدالة على الاحتمال مع أنه يعرف أنه كاذب؟
أجيب : إن هذا من باب التنزل مع الخصم ، والمعنى : إن كنت كما ذكرت عن نفسك ، فأبقي الله عليك هذه النعمة ، وإن كنت كاذباً وأنك لم ترثه كابراً عن كابر ، فصيرك الله إلى ما كنت من البرص والفقر ، ولم يقل : " إلى ما أقول " ، لأنه كان على ذلك بلا شك .
والتنزل مع الخصم يرد كثيراً في الأمور المتيقنة ، كقوله تعالى : { آلله خير أما يشركون } [ النمل : 59] ومعلوم أنه لا نسبة ، وأن الله خير مما يشركون ، ولكن هذا من باب محاجة الخصم لإدحاض حجته .
قوله : " وأتى الأقرع في صورته " . الفاعل الملك ، وهنا قال : " في صورته " فقط وفي الأول قال : " في صورته وهيئته " ، فالظاهر أنه تصرف من الرواة ، وإلا ، فالغالب أن الصورة قريبة من الهيئة ، وإن كانت الصورة تكون خلقة ، والهيئة تكون تصنعاً في اللباس ونحوه ، وقد جاء في رواية البخاري : " في صورته وهيئته " .
قوله : " فقال له مثل ما قال لهذا " . المشار إليه الإبرص .
قوله : " فرد عليه " . أي : الأقرع .(11/208)
قوله : " مثل ما رد عليه هذا " . أي : الأبرص .
فكلا الرجلين - والعياذ بالله - غير شاكر لنعمة الله ولا معترف بها ولا راحم لهذا المسكين الذي انقطع به السفر .
قوله : "فصيرك الله إلى ما كنت عليه " . أي : ردك الله إلى ما كنت عليه من القرع الذي يقذرك الناس به والفقر .
قوله : " فرد الله على بصري " . أعترف بنعمة الله ، وهذا أحد أركان الشكر ، والركن الثاني : العمل بالجوارح في طاعة المنعم ، والركن الثالث : الاعتراف بالنعمة في القلب ، قال الشاعر :
أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... ... ... يدي ولساني والضمير المحجبا
قوله : " فوالله ، لا أجهدك بشيء أخذته لله " . الجهد : المشقة ، والمعني : لا أشق عليكم بمنع ولا منة ، وأعترافه بلسانه مطابق لما في قلبه ، فيكون دالاً على الشكر بالقلب بالتضمن .
قوله : " خذ ما شئت ودع ما شئت " . هذا من باب الشكر بالجوارح ، فيكون هذا الأعمى قد أتم أركان الشكر .
قوله : " الله " . اللام للاختصاص ، والمعنى : لأجل الله ، وهذا ظاهر في إخلاصه لله فكل ما تأخذه لله فأنا لا أمنعك منه ولا أردك .
قوله : " إنما ابتليتم " . أختبرتم ، والذي ابتلاهم هو الله تعالى ، وظاهر الحديث أن قصتهم مشهورة معلومة بين الناس ، لأن قوله : " إنما أبتليتم " يدل على أن عنده علماً بما جرى لصاحبيه وغالباً أن مثل هذه القصة تكون مشهورة بين الناس .
قوله : " فقد رضي الله عنك " . يعني : لأنك شكرت نعمة الله بالقلب واللسان والجوارح .
قوله : " وسخط على صاحبيك " . لأنهما كفراً نعمة الله سبحانه وأنكرا أن يكون الله مَنّ عليهما بالشفاء والمال .
وفي هذا الحديث من العبر شيء كثير ، منها :
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقص علينا أنباء بني إسرائيل لأجل الاعتبار والاتعاظ بما جري ، وهو أحد الأدلة لمن قال : إن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه ، ولا شك أن هذه قاعدة صحيحة .(11/209)
بيان قدرة الله عز وجل بإبراء الأبراص والأقرع والأعمى من هذه العيوب التي فيهم بمجرد مسح الملك لهم .
أن الملائكة يتشكلون حتى يكونوا على صورة البشر ، لقوله : " فأتي الإبرص في صورته " ، وكذلك الأقرع والأعمى ، لكن هذا - والله أعلم - ليس إليهم وإنما يتشكلون بأمر الله تعالى .
أن الملائكة أجسام وليسوا أرواحاً أو معاني أو قوي فقط .
حرص الرواة على نقل الحديث بلفظه .
أن الإنسان لا يلزمه الرضاء بقضاء الله أي بالمقضي ، لأن هؤلاء الذين أصيبوا قالوا أحب إلينا كذا وكذا ، وهذا يدل على عدم الرضا .
وللإنسان عند المصائب أربع مقامات :
جزع ، وهو محرم .
صبر ، وهو واجب .
رضا ، وهو مستحب .
شكر ، وهو أحسن وأطيب .
وهنا إشكال وهو : كيف يشكر الإنسان ربه على المصيبة وهي لا تلائمة ؟
أجيب : أن الإنسان إذا آمن بما يترتب علي هذه المصيبة من الأجر العظيم عرف أنها تكون بذلك نعمة ، والنعمة تشكر .
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : " فمن رضي ، فله الرضا ، ومن سخط ، فعليه السخط " (1) ، فالمراد بالرضا هنا الصبر ، أو الرضا بأصل القضاء الذي هو فعل الله ، فهذا يجب الرضا به لأن الله عز وجل حكيم ، ففرق بين فعل الله والمقضي .
والمقضي ينقسم إلى : مصائب لا يلزم الرضا بها ، وإلي أحكام شرعيه يجب الرضا بها .
جواز الدعاء المعلق ، لقوله : " إن كنت كاذباً ، فصيرك الله إلى ما كنت " ، وفي القرآن الكريم قال الله تعالى : { والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين } [ النور : 7 ] ، { الخامسة أن غضب الله عليها إن كانت من الصادقين } [النور : 9 ] ، وفي دعاء الاستخارة : " اللهم ! إن كنت تعلم - .. الخ " .
__________
(1) تقدم ( ص 700)(11/210)
جواز التنزل مع الخصم فيما لا يقر به الخصم المتنزل لأجل إفحام الخصم ، لأن الملك يعلم أنه كاذب ، ولكن بناء على قوله : إن هذا ما حصل ، وإن المال ورثه كابراً عن كابر ، وقد سبق بيان وروده في القرآن ، ومنه أيضاً قوله تعالى : { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } [ سبأ : 24] ، ومعلوم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه على هدى وأولئك على ضلال ، ولكن هذا من باب التنزل معهم من باب العدل .
أن البركة لا نهاية لها ، ولهذا كان لهذا واد من الإبل ، ولهذا واد من البقر ، ولهذا واد من الغنم .
هل يستفاد منه أن دعاء الملائكة مستجاب أو أن هذه قضية عين ؟
الظاهر أنه قضية عين ، وإلا ، لكان الرجل إذا دعا لأخيه بظهر الغيب ، وقال الملك : آمين ولك بمثله ، علمنا أن الدعاء قد أستُجيب .
بيان أن شكر كل نعمة بحسبها ، فشكر نعمة المال أن يبذل في سبيل الله ، وشكر نعمة العلم أن يبذل لمن سأله بلسان الحال أو المقال ، والشكر الأعم أن يقوم بطاعة المنعم في كل شيء .
ونظير هذا ما مر أن التوبة من كل ذنب بحسبه ، لكن لا يستحق الإنسان وصف التوبة المطلق إلا إذا تاب من جميع الذنوب .
جواز التمثيل ، وهو أن يتمثل الإنسان بحال ليس هو عليها في الحقيقة ، مثل أن يأتي بصورة مسكين وهو غني وما أشبه ذلك إذا كان فيه مصلحة وأراد أن يختبر إنساناً بمثل هذا ، فله ذلك .
أن الابتلاء قد يكون عاماً وظاهراً يؤخذ من قوله : " فإنما ابتليتم ، وقصتهم مشهورة كما سبق .
فضيلة الورع والزهد ، وأنه قد يجر صاحبه إلى ما تحمد عقباه ، لأن الأعمى كان زاهداً في الدنيا ، فكان شاكراً لنعمة الله .
ثبوت الإرث في الأمم السابقة ، لقوله : " ورثته كابراً عن كابر " .
أمن من صفات الله عز وجل الرضا والسخط والإرادة ، وأهل السنة والجماعة يثبتونها على المعنى اللائق بالله على أنها حقيقة .
وإرادة الله نوعان : كونية ، وشرعية .(11/211)
والفرق بينهما أن الكونية يلزم فيها وقوع المراد ولا يلزم أن يكون محبوباً لله ، فإذا أراد الله شيئاً قال له كن فيكون .
وأما الشرعية : فإنه لا يلزم فيها وقوع المراد ويلزم إن يكون محبوباً لله ، ولهذا نقول : الإرادة الشرعية بمعني المحبة والكونية بمعني المشيئة ، فإن قيل : هل الله يريد الخير والشر كوناً أو شرعاً ؟
أجيب : أن الخير إذا وقع ، مراد لله كوناً وشرعاً ، وإذا لم يقع ، فهو مراد لله شرعاً فقط ، وأما الشر فإذا وقع ، فهو مراد لله كوناً لا شرعاً وإذا لم يقع ، فهو غير مراد كوناً ولا شرعاً ، وأعلم أن الشر لا ينسب إلى فعل الله سبحانه ولكن إلى مخلوقات الله ، فكل فعل الله تعالى خير ، لأنه صادر عن حكمة ورحمة ، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الخير كله في يديك ، والشر ليس إليك " (1)، وأما مخلوقات الله ، ففيها خير وشر .
وإثبات صفة الرضا لله - سبحانه - لا يقتضي انتفاء صفة الحكمة بخلاف رضا المخلوق ، فقد تنتفي معه الحكمة ، فإن الإنسان إذا رضي عن شخص مثلاً فإن عاطفته قد تحمله علي أن يرضى عنه في كل شيء ولا يضبط نفسه في معاملته لشدة رضاه عنه ، قال الشاعر :
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... ... كما أن عين السخط تبدي المساويا
لكن رضا الله مقرون بالحكمة ، كما أن غضب الخالق ليس كغضب المخلوق ، فلا تنتفي الحكمة مع غضب الخالق ، بخلاف غضب المخلوق ، فقد يخرجه عن الحكمة فيتصرف بما لا يليق لشدة غضبه .
ومن فسر الرضا بالثواب أو إرادته ، فتفسيره مردود عليه ، فإنه إذا قيل : إن معنى " رضي " ، أي : أراد أن يثيب ، فمقتضاه أنه لا يرضى ، ولو قالوا : لا يرضى لكفروا ، لأنهم نفوها نفي جحود ، لكن أولوها تأويلاً يستلزم جواز نفي الرضا ، لأن المجاز معناه نفي الحقيقة ، وهذا أمر خطير جداً .
__________
(1) مسلم : كتاب الصلاة المسافرين / باب الدعاء في صلاة الليل .(11/212)
ولهذا بين شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم : أنه لا مجاز في القرآن ولا في اللغة ، خلافاً لمن قال : كل شيء في اللغة مجاز .
أن الصحابة تطلق على المشاكلة في شيء من الأشياء ولا يلزم منها المقارنة ، لقوله : " وسخط على صاحبيك " ، فالصاحب هنا : من يشبه حاله في أن الله أنعم عليه بعد البؤس.
اختبار الله عز وجل بما أنعم عليهم به .
أن التذكير قد يكون بالأقوال أو الأفعال أو الهيئات .
أنه يجوز للإنسان أن ينسب لنفسه شيئاً لم يكن من أجل الاختبار ، لقول الملك : إنه فقير وابن سبيل .
أن هذه القصة كانت معروفة مشهورة ، لقوله : " فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك " .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير الآية . الثانية : ما معنى : { ليقولن هذا لي } . الثالثة : ما معني قوله . { إنما أوتيته على علم } . الرابعة : ما في هذه القصة العجيبة من العبر العظيمة .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير الآية : وهي قوله تعالى : { ولئن أقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي } ، وقد سبق أن الضمير في قوله : { أذقناه } يعود علي الإنسان باعتبار الجنس .
الثانية : ما معني : { ليقولن هذا لي } . اللام للاستحقاق ، والمعنى : إني حقيق به وجدير به .
الثالثة : ما معني قوله : { إنما أوتيته على علم } . وقد سبق بيان ذلك .
الرابعة : ما في هذه القصة العجيبة من العبر العظيمة . وقد سبق ذكر عبر كثيرة منها ، وهذا ليس استيعاباً ، ومن ذلك الفرق بين الأبرص والأقرع والأعمى ، فإن الأبرص والأقرع جحداً نعمة الله عز وجل والأعمى أعترف بنعمة الله ، عندما طلب الملك من الأعمى المساعدة ، قال : " خذ ما شئت " ، فدل هذا على جوده وإخلاصه ، لأنه قال : " فو الله ، أجهدك اليوم بشيء أخذته لله عز وجل " . وبخلاف الأبرص والأقرع حيث كانوا أشحاء بخلاء منكرين نعمة الله عز وجل .
***
باب قول الله تعالى :(11/213)
{ فلما أتاهما صالحاً جعلاً له شركاء فيما آتاهما } [ الأعراف : 190]
قوله : " فلما آتاهما " . الضمير يعود على ما سبق من النفس وزوجها ، ولهذا ينبغي أن يكون الشرح من قوله تعالى : { هو الذي خلقم من نفس واحدة .. } .
قوله : { خلقكم من نفس واحدة } فيها قولان :
الأول : أن المراد بالنفس الواحدة : العين الواحدة ، أي : من شخص معين ، وهو آدم عليه السلام ، وقوله : { وجعل منها زوجها } أي حواء ، لأن حواء خلقت من ضلع آدم .
الثاني : أن المراد بالنفس الجنس ، وجعل من هذا الجنس زوجه ، ولم يجعل من جنس آخر ، والنفس قد يراد بها الجنس ، كما في قوله تعالى : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } [ آلا عمران : 164] ، أي : من جنسهم .
قوله : { ليسكن إليها } . سكون الرجل إلى زوجته ظاهر من أمرين :
أولاً : لأن بينهما من المودة والرحمة ما يقضي الأنس والاطمئنان والاستقرار .
ثانياً : سكون من حيث الشهوة ، وهذا سكون خاص لا يوجد له نظير حتى بين الأم وابنها .
وقوله : { ليسكن إليها } تعليل لكونها من جنسه أو من النفس المعينة .
قوله : { فلما تغشاها } . أي : جامعها ، وعبارة القرآن والسنة التكنية عن الجماع ، قال تعالى : { أو لامستم النساء } [ النساء : 43 ] وقال : { اللاتي دخلتم بهن } [النساء : 23] ، وقال تعالى : { وقد أفضى بعضكم إلى بعض } [ النساء : 21] ، كأن الاستحياء من ذكره بصريح اسمه أمر فطري ، ولأن الطباع السليمة تكره أن تذكر هذا الشيء باسمه إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك ، فإنه قد يصرح به ، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - لماعز وقد أقر عنده بالزني : " أنكتها لا يكني "(1) ، لأن الحاجة هنا داعية للتصريح حتى يتبين الأمر جلياً ، ولأن الحدود تدراً بالشبهات .
__________
(1) البخاري : كتاب المحاربين / باب هل يقول الإمام للمقر لعلك لمست .(11/214)
وتشبيه علو الرجل المرأة بالغشيان أمر ظاهر ، كما أن الليل يستر الأرض بظلامه ، قال تعالى { والليل إذا يغشي } [ الليل : 1] وعبر بقوله : { تغشاها } ولم يقل : غشيها ، لأن تغشى أبلغ ، وفيه شيء من المعالجة ، ولهذا جاء في الحديث : " إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها " (1)، الجلوس بين شعبها الأربع هذا غشيان ، و"جهدها " هذا تغشى .
قوله : { حملت حملاً خفيفاً } . الحمل في أوله خفيف : نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة .
قوله : { فمدت به } . بالمرور بالشيء تجاوزه من غير تعب ولا إعياء والمعنى : تجاوزت هذا الحمل الخفيف من غير تعب ولا إعياء .
قوله : { فلما أثقلت } . الإثقال في آخر الحمل .
قوله : { دعوا الله } ولم يقل : دعيا ، لأن الفعل واوي ، فعاد إلى أصله .
قوله : { الله ربهما } أتي بالألوهية والربوبية ، لأن الدعاء يتعلق به جانبان :
الأول : جانب الألوهية من جهة العبد أنه داع ، والدعاء عبادة .
الثاني : جانب الربوبية ، لأن في الدعاء تحصيلاً للمطلوب ، وهذا يكون متعلقاً بالله من حيث الربوبية .
والظاهر أنهما قالا : اللهم ربنا ، ويحتمل أن يكون بصيغة أخرى .
قوله : { لئن آتيتنا صالحاً } . أي : أعطيتنا .
وقوله : صالحاً ، هل المراد صلاح البدن أو المراد صلاح الدين ، أي : لئن آتيتنا بشراً سوياً ليس فيه عاهة ولا نقص ، أو صالحاً بالدين ، فيكون تقياً قائماً بالواجبات ؟
الجواب : يشمل الأمرين جميعاً ، وكثير من المفسرين لم يذكر إلا الأمر الأول ، وهو الصلاح البدني ، لكن لا مانع من أن يكون شاملاً للأمرين جميعاً .
قوله : { لنكونن من الشاكرين } . أي : من القائمين بشكرك على هذا الولد الصالح .
__________
(1) البخاري : كتاب الغسل / باب إذا التقي الخناتان ، ومسلم : كتاب الحيض / باب نسخ الماء من الماء.(11/215)
والجملة هنا جواب قسم وشرط ، قسم متقدم وشرط متأخر ، والجواب فيه للقسم ولهذا جاء مقروناً باللام : لنكونن .
قوله : { فلما آتاهما صالحاً } . هنا حصل المطلوب ، لكن لم يحصل الشكر الذي وعداً الله به ، بل جعلا له شركاء فيما آتاهما .
وقوله : { جعلا له شركاء فيما آتاهما } ، هذا هو جواب " لما " .
والجواب متعقب للشرط وهذا يدل على أن الشرك منهما حصل حين إتيانه وهو صغير ، ومثل هذا لا يعرف أيصلح في دينه في المستقبل أم لا يصلح ؟ ولهذا كان أكثر المفسرين على أن المراد بالصلاح الصلاح البدني .
فمعاهدة الإنسان ربه أن يفعل العبادة مقابل تفضل الله عليه بالنعمة الغالب أنه لا يفي بها ، ففي سورة التوبة قال تعالى : { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين * فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون } [التوبة : 75-76] ، وفي هذه الآية قال تعالى : { لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين * فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء } ، فكانا من المشركين لا من الشاكرين ، وبهذا نعرف الحكمة من نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النذر ، لأن النذر معاهدة مع الله عز وجل ولهذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المنذر وقال : " إنه لا يرد شيئاً ، وإنما يستخرج به من البخيل " (1)، وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى تحريم النذر ، وظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيميه أنه يميل إلى تحريم النذر ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه ونفي أنه يأتي بخير .
إذا ما الذي نستفيد من أمرٍ نهى عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقال إنه لا يأتي بخير ؟
__________
(1) البخاري : كتاب القدر / باب إلقاء العبد النذر إلى القدر ، ومسلم : كتاب النذر / باب النهي عن النذر .(11/216)
الجواب : لا نستفيد إلا المشقة على أنفسنا وإلزام أنفسنا بما نحن منه في عافية ، ولهذا ، فالقول بتحريم النذر قول قوي جداً ، ولا يعرف مقدار وزن هذا القول إلا من عرف أسئلة الناس وكثرتها ورأى أنهم يذهبون إلى كل عالم لعلهم يجدون خلاصاً مما نذروا .
فإن قيل : هذا الولد الذي آتاهما الله عز وجل كان واحداً ، فكيف جعلاً في هذا الولد الواحد شركاً بل شركاء ؟
فالجواب أن نقول هذا على ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : أن يعتقدا أن الذي أتي بهذه الولد هو الولي الفلاني والصالح ونحو ذلك ، فهذا شرك أكبر لأنهما أضافا الخلق إلى غير الله .
ومن هذا أيضا ما يوجد عند بعض الأمم الإسلامية الآن ، فتجد المرآة التي لا يأتيها الولد تأتي إلى قبر الولي الفلاني ، كما يزعمون أنه ولي الله والله أعلم بولايته ، فتقول : يا سيدي فلان ! ارزقني ولداً .
الوجه الثاني : أن يضيف سلامة المولود ووقايته إلى الأطباء وإرشاداتهم وإلى القوابل وما أشبه ذلك ، فيقولون مثلاً سلم هذا الولد من الطلق ، لأن القابلة امرأة متقنة جيدة ، فهنا أضاف النعمة إلى غير الله ، وهذا نوع من الشرك ولا يصل إلى حد الشرك الأكبر ، لأنه أضاف النعمة إلى السبب ونسي المسبب وهو الله عز وجل .
الوجه الثالث : أن لا يشرك من ناحية الربوبية ، بل يؤمن أن هذا الولد خرج سالماً بفضل الله ورحمته ، ولكن يشرك من ناحية العبودية ، فيقدم محبته على محبة الله ورسوله ويلهية عن طاعة الله ورسوله ، قال تعالى : { إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم } [ التغابن : 15] ، فكيف تجعل هذا الولد نداً لله في المحبة وربما قدمت محبته على محبة الله ، والله هو المتفضل عليك به ؟ !
وفي قوله : { فلما آتاهما } نقد لاذع أن يجعلا في هذا الولد شريكاً مع الله ، مع إن الله هو المتفضل به ، ثم قال : { فتعالى الله عما يشركون } ، أي : ترفع وتقدس عما يشركون به من هذه الأصنام وغيرها .(11/217)
ومن تأويل الآية وحدها دالة على أن قوله : { خلقكم من نفس واحدة } ، أي : من جنس واحد ، وليس فيها تعرض لآدم وحواء بوجه من الوجوه ، ويكون السياق فيها جارياً على الأسلوب العربي الفصيح الذي له نظير في القرآن ، كقوله تعالى : { لقد من الله علي المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } [ آل عمران : 164] ، أي : من جنسهم ، وبهذا التفسير الواضح البين يسلم الإنسان من إشكالات كثيرة .
أما على القول الثاني بأن المراد بقوله تعالى : { من نفس واحدة } ، أي : آدم ، { وجعل منها زوجها } [النساء : 1] : حواء ، فيكون معني الآية خلقكم من آدم وحواء .
فلما جامع آدم حواء حملت حملاً خفيفاً ، فمرت به ، فلما أثقلت دعوا أي آدم وحواء الله ربهما : { لئن أتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين * فلما أتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما } ، فأشرك أدم وحواء بالله ، لكن قالوا إنه إشراك طاعة لا إشراك عبادة ، { فتعالى الله عما يشركون } ، وهذا التفسير منطبق على المروي عن ابن عباس رضي الله عنه ، وسنبين إن شاء الله تعالى وجه ضعفه وبطلانه .
وهناك قول ثالث : أن المراد بقوله تعالى : { من نفس واحدة } ، أي : آدم وحواء ، { فلما تغشاها } انتقل من العين إلى النوع ، أي : من آدم إلى النوع الذي هم بنوه ، أي : فلما تغشي الإنسان الذي تسلل من آدم وحواء زوجته .. إلخ ، ولهذا قال تعالى : { فتعالى الله عما يشركون } الجمع ولم يقل عما يشركان ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى: { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين } [ الملك : 5 ] ، أي : جعلنا الشهب الخارجة منها رجوماً للشياطين وليست المصابيح نفسها ، وقوله تعالى : { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة } [ المؤمنون : 12-13] ، أي : جعلناه بالنوع ، وعلى هذا فأول الآية في آدم وحواء ، ثم صار الكلام من العين إلى النوع .(11/218)
وهذا التفسير له وجه ، وفيه تنزيه آدم وحواء من الشرك ، لكن فيه شيء من الركاكة لتشتت الضمائر .
وأما قوله تعالى : { فتعالى الله عما يشركون } ، فجمع لأن المراد بالمثني اثنان من هذا الجنس ، فصح أن يعود الضمير إليهما مجموعاً ، كما في قوله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9] ولم يقل : اقتتلتا ، لأن الطائفتين جماعة .
قال ابن حزم : " اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله ، كعبد عمرو ، وعبد الكعبة ، وما أشبه ذلك ، حاشا عبد المطلب " .
قوله : " اتفقوا " . أي : أجمعوا ، والإجماع أحد الأدلة الشرعية التي ثبتت بها الأحكام ، والأدلة هي : الكتاب ، والسنة والإجماع ، والقياس .
قوله : " وما أشبه ذلك " . مثل : عبد الحسين ، وعبد الرسول ، وعبد المسيح ، وعبد علي .
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : " تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم .. " (1) الحديث ، فهذا وصف وليس علماً ، فشبه المنهمك بمحبة هذه الأشياء المقدم لها على ما يرضي الله بالعابد لها ، كقولك : عابد الدينار ، فهو وصف ، فلا يعارض الإجماع .
قوله : " حاشا عبد المطلب " . حاشا الاستثنائية إذا دخلت عليها (ما) وجب نصب ما بعدها ، وإلا جاز فيه النصب والجر .
وبالنسبة لعبد المطلب مستثنى من الإجماع على تحريمه ، فهو مختلف فيه ، فقال بعض أهل العلم : لا يمكن أن نقول بالتحريم والرسول - صلى الله عليه وسلم - قال :
" أنا النبي لا كذب ... ... ... أنا ابن عبد المطلب " (2)
__________
(1) تقدم تخريجه ( ص 724).
(2) البخاري : كتاب المغازي / باب قوله تعالى "ويوم حنين " ومسلم: كتاب الجهاد/ باب غزوة حنين.(11/219)
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يفعل حراماً ، فيجوز أن يعبد للمطلب إلا إذا وجد ناسخ ، وهذا تقرير ابن حزم رحمة الله ، ولكن الصواب تحريم التعبيد للمطلب ، فلا يجوز لأحد أن يسمي ابنه عبد المطلب ، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : " أنا ابن عبد المطلب " ، فهو من باب الإخبار وليس من باب الإنشاء ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن له جداً اسمه عبد المطلب ، ولم يرد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه سمى عبد المطلب ، أو أنه أذن لأحد صحابته بذلك ، ولا أنه أقر أحداً على تسميته عبد المطلب ، والكلام في الحكم لا في الإخبار ، وفرق بين الإخبار وبين الإنشاء والإقرار ، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنما بنو هاشم وبنو عبد المطلب شيء واحد " (1) ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : " يا بني عبد مناف " (2) ولا يجوز التسمي بعبد مناف .
وقد قال العلماء : إن حاكي الكفر ليس بكافر ، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يتكلم عن شيء قد وقع وانتهى ومضى ، فالصواب أنه لا يجوز أن يعبد لغير الله مطلقاً لا بعبد المطلب ولا غيره ، وعليه ، فيكون التعبد لغير الله من الشرك .
وعن ابن عباس في الآية ، قال : " لما تغشاها آدم ، حملت ، فأتاهما إبليس ، فقال : إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة ، لتطيعاني أو لآجعلن له قرني أيل ، فيخرج من بطنك ، فيشقه ، ولأفعلن ، يخوفهما ، سمياه عبد الحارث ، فأبيا أن يطيعاه ، فخرج ميتا .
__________
(1) البخاري : كتاب المناقب / باب مناقب قريش .
(2) البخاري : كتاب الوصايا / باب هل يدخل النساء والولد في الأقارب ، ومسلم : كتاب الإيمان / باب قوله تعالى : { وأنذر عشيرتك } .(11/220)
ثم حملت ، فأتاهما ، فذكر لهما ، فأدركهما حب الولد ، فسمياه عبد الحارث ، فذلك قوله : { جعلا له شركاء فيما آتاهما } " . رواه ابن أبي حاتم (1).
وله بسند صحيح عن قتادة ، قال : " شركاء في طاعته ، ولم يكن في عبادته " (2).
وله سند صحيح عن مجاهد ، في قوله : { لئن آتيتنا صالحاً } ، قال : " أشفقا أن لا يكون إنساناً " ، وذكر معناه عن الحسن وسعيد وغيرهما " (3).
قوله : " إبليس " . على وزن إفعيل ، فقيل : من أبلس إذا يئس ، لأنه يئس من رحمة الله تعالى .
قوله : " لتطيعانني " . جملة قسمية ، أي : والله لتطيعاني .
قوله : " أيل " . هو ذكر الأوعال .
قوله : " سمياه عبد الحارث " . اختار هذا الاسم ، لأنه اسمه ، فأراد أن يعبداه لنفسه .
قوله : " فخرج ميتاً " . لم يحصل التهديد الأول ، ويجوز أن يكون من جملة : " ولأفعلن " ، و لأنه قال : ولأخرجنه ميتاً " .
قوله : " شركاء في طاعته " . أي : أطاعاه فيما أمرهما به ، لا في العبادة لكن عبداً الولد لغير الله ، وفرق بين الطاعة والعبادة ، فلو أن أحداً أطاع شخصاً في معصية لله لم يجعله شريكاً مع الله في العبادة ، لكن أطاعه في معصية الله .
قوله : " أشفقا أن لا يكون إنساناً " . أي خاف آدم وحواء أن يكون حيواناً أو جنياً أو غير ذلك.
قوله : " وذكر معناه عن الحسن " . لكن الصحيح أن الحسن رحمه الله قال : إن المراد بالآية غير آدم وحواء ، وإن المراد بها المشركون من بني آدم كما ذكر ذلك ابن كثير رحمه الله في " تفسيره " وقال : " أما نحن ، فعلي مذهب الحسن البصري رحمه الله في هذا ، وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء ، وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته " أ. هـ .
وهذه القصة باطلة من وجوه :
__________
(1) ابن أبي حاتم كما في " تفسير ابن كثير " (2/275) ، وابن جرير في " تفسيره " ( 15516) .
(2) ابن جرير الطبري في " التفسير " ( 15521)
(3) تفسير ابن كثير (3/531)(11/221)
الوجه الأول : أنه ليس في ذلك خبر صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا من الأخبار التي لا تتلقي إلا بالوحي ، وقد قال ابن حزم عن هذه القصة : إنها رواية خرافة مكذوبه موضوعة .
الوجه الثاني : أنه لو كانت هذه القصة في أدم وحواء ، لكان حالهما إما أن يتوبا من الشرك أو يموتا عليه ، فإن قلنا : ماتا عليه ، كان ذلك أعظم من قول بعض الزنادقة :
إذا ما ذكرنا آدما وفعاله ... ... وتزويجه بنتيه بابنيه بالخنا
علمنا بأن الخلق من نسل فاجر ... ... وأن جميع الناس من عنصر الزنا
فمن جوز موت أحد من الأنبياء على الشرك فقد أعظم الفرية ، وإن كان تابا من الشرك ، فلا يليق بحكمة الله وعدله ورحمته أن يذكر خطاهما ولا يذكر توبتهما منه ، فيمتنع غاية الامتناع أن يذكر الله الخطيئة من آدم وحواء وقد تابا ، ولم يذكر توبتهما ، والله تعالى إذا ذكر خطيئة بعض أنبيائه ورسله ذكر توبتهم منها كما في قصة آدم نفسه حين أكل من الشجرة وزوجه وتابا من ذلك .
الوجه الثالث : أن الأنبياء أن ثبت معصومون من الشرك باتفاق العلماء .
الوجه الرابع : أنه ثبت في حديث الشفاعة أن الناس يأتون إلى آدم يطلبون منه الشفاعة ، فيعتذر بأكله من الشجرة (1). وهو معصية ، ولو وقع منه الشرك ، لكان اعتذاره به أقوى وأولى وأحرى .
الوجه الخامس : أن في هذه القصة أن الشيطان جاء إليهما وقال : " أنا صاحبكما الذي أخرجكما من الجنة " ، وهذا لا يقوله من بريد الإغواء ، وإنما يأتي بشيء يقرب قبول قوله ، فإذا قال : " أنا صاحبكما الذي أخرجكما من الجنة " ، فسيعلمان علم اليقين أنه عدو لهما ، فلا يقبلان منه صرفاً ولا عدلا .
__________
(1) البخاري : كتاب التفسير / باب قوله تعالى : { ذرية من حملنا مع نوح } ، ومسلم : كتاب الإيمان / باب أدني أهل الجنة منزلة .(11/222)
الوجه السادس : أن في قوله في هذه القصة : " لآجعلن له قرني أيل " : إما أن يصدقا أن ذلك ممكن في حقه ، فهذا شرك في الربوبية لأنه لا يقدر على ذلك إلا الله ، أولا يصدقا ، فلا يمكن أن يقبلا قوله وهما يعلمان أن ذلك غير ممكن في حقه .
الوجه السابع : قوله تعالى : { فتعالى الله عما يشركون } بضمير الجمع ، ولو كان آدم وحواء ، لقال : عما يشركان .
فهذه الوجوه تدل على أن هذه القصة باطلة من أساسها ، وأنه لا يجوز أن يعتقد في آدم وحواء أن يقع منهما شرك بأي حال من الأحوال ، والأنبياء منزهون عن الشرك مبرؤون منه باتفاق أهل العلم ، وعلى هذا ، فيكون تفسير الآية كما أسلفنا أنها عائدة إلى بني أدم الذين أشركوا شركاً حقيقياً ، فإن منهم مشركاً ومنهم موحداً .
فيه مسائل :
الأولى : تحريم كل أسم معبد لغير الله . الثانية : تفسير الآية . الثالثة : أن هذا الشرك في مجرد تسمية لم تُقصد حقيقتها . الرابعة : أن هبة الله للرجل البنت السوية من النعم . الخامسة : ذكر السلف بين الشرك في الطاعة والشرك في العبادة .
فيه مسائل:
الأولى : تحريم كل اسم معبد لغير الله . تؤخذ من الإجماع على ذلك ، والإجماع الأصل الثالث من الأصول التي يعتمد عليها في الدين ، والصحيح أنه ممكن وأنه حجة إذا حصل ، لقوله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } [ النساء : 58] و { إن } هذه شرطية لا تدل على وقوع التنازع ، بل إن فرض ووقع ، فالمرد إلى الله ورسوله ، فعلم منه أننا إذا أجمعنا فهو حجة .(11/223)
لكن ادعاء الإجماع يحتاج إلى بينة ، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيميه : الإجماع الذي ينضبط ما كان عليه السلف الصالح ، إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة ، ولما قيل للإمام أحمد : إن فلاناً يقول : أجمعوا على كذا ، أنكر ذلك وقال : وما يدريه لعلهم اختلفوا ، فمن ادعي الإجماع ، فهو كاذب . ولعل الإمام أحمد قال ذلك ، لأن المعتزلة وأهل التعطيل كانوا يتذرعون إلى إثبات تعطيلهم وشبههم بالإجماع ، فيقولون : هذا إجماع المحققين ، وما أشبه ذلك .
وقد سبق أن الصحيح أنه لا يجوز التعبيد للمطلب ، وأن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - " أنا ابن عبد المطلب " (1) أنه من قبيل الإخبار وليس إقرار ولا إنشاء ، والإنسان له أن ينتسب إلى أبيه وإن كان معبداً لغير الله ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :
" يا بني عبد مناف " (2)، وهذا تعبيد لغير الله لكنه من باب الإخبار .
الثانية : تفسير الآية . يعني قوله تعالى : { فلما آتاهما صالحاً .. } الآية ، وسبق تفسيرها.
الثالثة : أن هذا الشرك في مجرد تسمية لم تقصد حقيقتها . وهذا بناء على ما ذُكر عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية ، والصواب : أن هذا الشرك حق حقيقة ، وأنه شرك من إشراك بني آدم من آدم وحواء ، ولهذا قال تعالى في الآية نفسها : { أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون } ، فهذا الشرك الحقيقي الواقع من بني آدم .
__________
(1) تقدم ( ص 891)
(2) تقدم تخريجه ( ص 891)(11/224)
الرابعة : أن هبة الله لرجل البنت السوية من النعم : هذا بناء على ثبوت القصة ، وأن المراد بقوله : { صالحاً } ، أي : بشراً سوياً ، وأتي المؤلف بالبنت دون الولد ، لأن بعض الناس يرون أن هبة البنت من النقم ، قال تعالى : { وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب إلا ساء ما يحكمون } [ النحل : 58-59] ، وإلا ، فهبة الولد الذكر السوي من باب النعم أيضاً ، بل هو أكبر نعمة من هبة الأنثي ، وإن كانت هبة البنت بها أجر عظيم فيمن كفلها ورباها وقام عليها .
الخامسة : ذكر السلف الفرق بين الشرك في الطاعة والشرك في العبادة وقبل ذلك نبين الفرق بين الطاعة وبين العبادة ، فالطاعة إذا كانت منسوبة لله ، فلا فرق بينهما وبين العبادة ، فإن عبادة الله طاعته .
وأما الطاعة المنسوبة لغير الله ، فإنها غير العبادة ، فنحن نطيع الرسول - صلى الله عليه وسلم - لكن لا نعبده ، والإنسان قد يطيع ملكاً من ملوك الدنيا وهو يكرهه .
فالشرك بالطاعة : أنني أطعته لا حباً وتعظيماً وذلاً كما أحب الله وأتذلل له وأعظمة ، ولكن طاعته اتباع لأمره فقط ، هذا هو الفرق .
وبناء على القصة ، فإن آدم وحواء أطاعا الشيطان ولم يعبداه عبادة ، وهذا مبني على صحة القصة .
***
باب قول الله تعالى :
{ ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه } الآية [ الأعراف : 180] .
هذا الباب يتعلق بتوحيد الأسماء والصفات ، لأن هذا الكتاب جامع لأنواع التوحيد الثلاثة :توحيد العبادة ، وتوحيد الربوبية ، وتوحيد الأسماء والصفات .
وتوحيد الأسماء والصفات : هو إفراد الله عز وجل بما ثبت له من صفات الكمال على وجه الحقيقة ، بلا تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل .(11/225)
لأنك إذا عطلت لم تثبت ، وإن مثلت لم توحد ، والتوحيد مركب من إثبات ونفي ، أي : إثبات الحكم للموحد ونفيه عما عداه ، فمثلاً إذا قلت : زيد قائم ، لم توحده بالقيام ، وإذا قلت : زيد غير قائم ، لم تثبت له القيام، وإذا قلت: لا قائم إلا زيد، وحدته بالقيام وإذا قلت لا إله إلا الله وحده بالألوهية وإذا اثبت الله الأسماء والصفات دون أن يماثله أحد فهذا هو توحيد الأسماء والصفات ، وإن نفيتها عنه ، فهذا تعطيل ، وإن مثلت ، فهذا إشراك .
***
قوله تعالى : { ولله الأسماء الحسنى } . طريق التوحيد هنا تقديم الخبر لأن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر ، ففي الآية توحيد الأسماء لله .
وقوله : { الحسنى } . مؤنث أحسن ، فهي اسم تفضيل ، ومعنى الحسنى ، أي : البالغة في الحسن أكمله ، لأن اسم التفضيل يدل على هذا ، والتفضيل هنا مطلق ، لأن اسم التفضيل قد يكون مطلقاً مثل زيد الأفضل وقد يكون مقيداً مثل : زيد أفضل من عمرو .
وهنا التفضيل مطلق ، لأنه قال : { ولله الأسماء الحسنى } .
فأسماء الله تعالى بالغة في الحسن أكمله من كل وجه ، ليس فيها نقص لا فرضاً ولا احتمالاً .
وما يخبر به عن الله أوسع مما يسمي به الله ، لأن الله يخبر عنه بالشيء ويخبر عنه بالمتكلم والمريد ، مع أن الشيء لا يتضمن مدحاً والمتكلم والمريد يتضمنان مدحاً من وجه وغير مدح من وجه ، ولا يسمي الله بذلك ، فلا يسمي بالشيء ولا بالمتكلم ولا بالمريد ، لكن يخبر بذلك عنه .
وقد سبق لنا مباحث قيمة في أسماء الله تعالى :
الأول : هل أسماء الله تعالى أعلام أو أوصاف ؟
الثاني : هل أسماء الله مترادفة أو متباينة ؟
الثالث : هل أسماء الله هي الله أو غيره ؟
الرابع : أسماء الله توفيقية .
الخامس : أسماء الله غير محصورة بعدد معين .(11/226)
السادس : أسماء الله إذا كانت متعدية ، فإنه يجب أن تؤمن بالاسم والصفة وبالحكم الذي يسمى أحياناً بالأثر ، وإن كانت غير متعدية ، فإنه يجب أن تؤمن بالاسم والصفة .
السابع : إحصاء أسماء الله معناه :
الإحاطة بها لفظاً ومعني .
دعاء الله بها ، لقوله تعالى : { فادعوا بها } ، وذلك بأن تجعلها وسيلة لك عند الدعاء ، فتقول : يا ذا الجلال والإكرام ، يا حي يا قيوم ! وما أشبه ذلك .
أن تتعبد لله بمقتضاها ، فإذا علمت أنه رحيم تتعرض لرحمته ، وإذا علمت أنه غفور تتعرض لمغفرته ، وإذا علمت أنه سميع اتقيت القول الذي يغضبه ، وإذا علمت أنه بصير أجتنبت الفعل الذي لا يرضاه .
قوله : { فادعوه بها } . الدعاء هو السؤال ، والدعاء قد يكون بلسان المقال ، مثل : اللهم ! إغفر لي يا غفور وهكذا ، أو بلسان الحال وذلك بالتعبد له ، ولهذا قال العلماء : إن الدعاء داء مسألة ودعاء عبادة ، لأن حقيقة الأمر أن المتعبد يرجو بلسان حاله رحمة الله ويخاف عقابه .
والأمر بدعاء الله بها يتضمن الأمر بمعرفتها ، لأن لا يمكن دعاء الله بها إلا بعد معرفتها .
وهذا خلافاً لما قاله بعض المداهنين في وقتنا الحاضر : إن البحث في الأسماء والصفات لا فائدة فيه ولا حاجة إليه .
أيريدون أن يعبدوا شيئاً لا أسماء له ولا صفات ؟ !
أم يريدون أن يداهنوا هؤلاء المحرفين حتى لا يحصل جدل ولا مناظرة معهم ؟ ! وهذا مبدأ خطير أن يقال للناس لا تبحثوا في الأسماء والصفات ، مع أن الله أمرنا بدعائه بها ، والأمر للوجوب ، ويقتضي وجوب علمنا بأسماء الله ، ومعلوم أيضاً أننا لا نعلمها أسماء مجردة عن المعاني ، بل لابد أن لها معاني فلا بد أن نبحث فيها ، لأن علمها ألفاظاً مجردة لا فائدة فيه ، وإن قدر أن فيه فائدة بالتعبد باللفظ ، فإنه لا يحصل به كمال الفائدة .
واعلم أن دعاء الله بأسمائه له معنيان :(11/227)
الأول : دعاء العبادة ، وذلك بأن تتعبد لله بما تقتضيه تلك الأسماء ، ويطلق على الدعاء عبادة ، قال تعالى : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي } [ غافر : 60] ، ولم يقل : عن دعائي ، فدل على أن الدعاء عبادة .
فمثلاً الرحيم يدل على الرحمة ، وحينئذ تتطلع إلى إسباب الرحمة وتفعلها .
والغفور يدل على المغفرة ، وحينئذ تتعرض لمغفرة الله عز وجل بكثرة التوبة والاستغفار كذلك وما أشبه ذلك .
والقريب : يقتضي أن تتعرض إلى القرب منه بالصلاة وغيرها ، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد .
والسميع : يقتضي أن تتعبد لله بمقتضي السمع ، بحيث لا تسمع الله قولاً يغضبه ولا يرضاه منك .
والبصير : يقتضي أن تتعبد لله بمقتضي ذلك البصر بحيث لا يرى منك فعلاً يكرهه منك.
الثاني : دعاء المسألة ، وهو أن تقدمها بين يدي سؤالك متوسلاً بها إلى الله تعالى .
مثلاً : يا حي ، يا قيوم أغفر لي وأرحمني ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : " فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم " (1)، والإنسان إذا دعا وعلل ، فقد أثني على ربه بهذا الاسم طالباً أن يكون سبباً للإجابة ، والتوسل بصفة المدعو المحبوبة له سبب للإجابة ، فالثناء على الله بأسمائه من أسباب الإجابة .
قوله تعالى : { وذروا الذين يلحدون } .
{ ذروا } : اتركوا { الذين } : مفعول به ، وجملة يلحدون صلة الموصول .
ثم توعدهم بقوله : { سيجزون ما كانوا يعملون } ، وهو الإلحاد ، أي : سيجزون جزاءه المطابق للعمل تماماً ، ولهذا يعبر الله تعالى بالعمل عن الجزاء إشارة للعدل ، وأنه لا يجزى الإنسان إلا بقدر عمله .
__________
(1) البخاري : كتاب الأذان / باب الدعاء قبل السلام ، ومسلم : كتاب الذكر والدعاء / باب استجباب خفض الصوت بالذكر .(11/228)
والمعني ذروهم ، أي : لا تسلكوا مسلكهم ولا طريقهم : فإنهم على ضلال وعدوان ، وليس المعني عدم مناصحتهم وبيان الحق لهم ، إذ لا يترك الظالم على ظلمه ، ويحتمل أن المراد بقوله { ذروا } تهديداً للملحدين .
والإلحاد : مأخوذ من اللحد ، وهو الميل ، لحد وألحد بمعنى مال ، ومنه سمي الحفر بالقبر لحداً ، لأنه مائل إلى جهة القبلة .
والإلحاد في أسماء الله : الميل بها عما يجب فيها ، وهو أنواع :
الأول : أن ينكر شيئاً من الأسماء أو مما دلت عليه من الصفات أو الأحكام ، ووجه كونه إلحاداً أنه مال بها عما يجب لها ، إذ الواجب إثباتها وإثبات ما تتضمنه من الصفات والأحكام .
الثاني : أن يثبت لله أسماء لم يسم الله بها نفسه ، كقوله الفلاسفة في الله : إنه علة فاعلة في هذا الكون تفعل ، وهذا الكون معلول لها ، وليس هناك إله .
وبعضهم يسميه العقل الفعال ، فالذي يدير هذا الكون هو العقل الفعال ، وكذلك النصاري يسمون الله أباً وهذا إلحاد .
الثالث : أن يجعلها دالة على التشبيه ، فيقول : الله سميع بصير قدير ، والإنسان سميع بصير قدير ، اتفقت هذه الأسماء ، فيلزم أن تتفق المسميات ، ويكن الله سبحانه وتعالى ممائلاً للخلق ، فيتدرج بتوافق الأسماء إلى التوافق بالصفات .
ووجه الإلحاد : أن أسماء دالة على معان لائقة بالله لا يمكن أن تكون مشابهة لما تدل عليه من المعاني في المخلوق .
الرابع : أن يشتق من هذه الأسماء للأصنام ، كتسمية اللات من الإله أو من الله ، والعزى من العزيز ، ومناة من المنان حتى يلقوا عليها شيئاَ من الألوهية ليبرروا ما هم عليه .
واعلم أن التعبير بنفي التمثيل أحسن من التعبير بنفي التشبيه ، لوجوه ثلاثة :
أنه هو الذي نفاه الله في القرآن ، فقال : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } [ الشوري :11] .
أنه ما من شيئين موجودين إلا وبينهما تشابه من بعض الوجوه ، واشتراك في المعني من بعض الوجوه .(11/229)
فمثلاً : الخالق والمخلوق اشتركاً في معني الوجود ، لكن وجود هذا يخصه ووجود هذا يخصه ، وكذلك العلم والسمع والبصر ونحوها اشترك فيها الخالق والمخلوق في أصل المعنى ، ويتميز كل واحد منهما بما يختص به .
أن الناس اختلفوا في معنى التشبيه حتى جعل بعضهم إثبات الصفات تشبيهاً ، فيكون معنى بلا تشبيه ، أي : بلا إثبات صفات على اصطلاحهم .
قوله تعالى : { سيجزون ما كانوا يعملون } لم يقل يجزون العقاب إشارة إلى أن الجزاء من جنس العمل ، وهذا وعيد ، وهو كقوله تعالى : { سنفرغ لكم أيه الثقلان } [ الرحمن : 31] ، وليس المعنى أن الله عز وجل مشغول الآن وسيخلفه الفراغ فيما بعد .
قوله : { يعملون } . العمل يطلق على القول والفعل ، قال تعالى : { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } [ الزلزلة : 7-8] وهذا يكون في الأفعال والأقوال .
ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس : { يلحدون في أسمائه } : " يشركون " . وعنه : " سموا اللات من الإله ، والعزي من العزيز " . وعن الأعمش : " يدخلون فيها ما ليس منها" (1)
قول ابن عباس : " يشركون " . تفسير للإلحاد ، ويتضمن الإشراك بها في جهتين :
أن يجعلوها دالة على المماثلة .
أو يشتقوا منها أسماء للأصنام ، كما في الرواية الثانية عن ابن عباس التي ذكرها المؤلف ، فمن جعلها دالة على المماثلة ، فقد أشرك لأنه جعل لله مثيلاً ، ومن أخذ منها أسماء لأصنامه ، فقد أشرك لأنه جعل مسميات هذه الأسماء مشاركة لله عز وجل .
وقوله : " وعنه " . أي : ابن عباس .
قوله : " سموا اللات من الإله - .. " وهذا أحد نوعي الإشراك بها أن يشتق منها أسماء للأصنام .
تنبيه :
فيه كلمة تقولها النساء عندنا وهي : ( وعزالي ) ، فما هو المقصود بها ؟
__________
(1) ابن أبي حاتم في " تفسير ه " كما في " الدر المنثور " (3/615)(11/230)
الجواب : المقصود أنها من التعزية ، أي : أنها تطلب الصبر والتقوية وليست تندب العزى التي هي الصنم ، لأنها قد لا تعرف أن هناك صنماً اسمه العزى ولا يخطر ببالها هذا ، وبعض الناس قال : يجب إنكارها ، لأن ظاهر اللفظ أنها تندب العزى ، وهذا شرك ، ولكن نقول : لو كان هذا هو المقصود لوجب الإنكار ، لكننا نعلم علم اليقين أن هذا غير مقصود ، بل يقصد بهذا اللفظ التقوي والصبر والثبات على هذه المصيبة .
قوله : " عن الأعمش : يدخلون فيها ما ليس منها " . هذا أحد أنواع الإلحاد ، وهو أن يسمى الله بما لم يسم به نفسه ، ومن زاد فيها فقد ألحد ، لأن الواجب فيها الوقوف على ما جاء به السمع .
تتمة :
جاءت النصوص بالوعيد على الإلحاد في آيات الله تعالى كما في قوله تعالى : { إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا } [ فصلت : 40] ، فقوله : { لا يخفون علينا } فيها تهديد ، لأن المعني سنعاقبهم ، والجملة مؤكدة بأن .
وآيات الله تنقسم إلى قسمين :
آيات كونية : وهي كل المخلوقات من السماوات والأرض والنجوم والجبال والشجر والدواب وغير ذلك ، قال الشاعر :
فواعجباً كيف يعصي الإله ... أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية ... ... تدل على أنه واحد
والإلحاد في الآيات الكونية ثلاثة أنواع :
اعتقاد أن أحداً سوى الله منفرد بها أو ببعضها .
اعتقاد أن أحداً مشارك لله فيها .
اعتقاد أن لله فيها معيناً في إيجادها وخلقها وتدبيرها .
والدليل قوله تعالى : { قل أدعو الذين زعمتهم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير } [ سبأ : 22] ، ظهير ، أي : معين .
وكل ما يخل بتوحيد الربوبية ، فإنه داخل في الإلحاد في الآيات الكونية .
آيات شرعية ، وهو ما جاء به الرسل من الوحي كالقرآن ، قال تعالى : { بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم } [ العنكبوت : 49] .(11/231)
والإلحاد في الآيات الشرعية ثلاثة أنواع :
تكذيبها فيما يتعلق بالأخبار .
مخالفتها فيما يتعلق بالأحكام .
التحريف في الإخبار والأحكام .
والإلحاد في الآيات الكونية والشرعية حرام .
ومنه ما يكون كفراً ، كتكذيبها ، فمن كذب شيئاً مع اعتقاده أن الله ورسوله أخبرا به ، فهو كافر .
ومنه ما يكون معصية من الكبائر ، كقتل النفس والزنا .
ومنه ما يكون معصية من الصغائر ، كالنظر لأجنبية لشهوة .
قال الله تعالى في الحرم : { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب إليم } [ الحج : 25] ، فسمي الله المعاصي والظلم إلحاداً ، لأنها ميل عما يجب أن يكون عليه الإنسان ، إذ الواجب عليه السير على صراط الله تعالى ، ومن خالف ، فقد ألحد .
فيه مسائل :
الأولى : إثبات الأسماء . الثانية : كونها حسنى . الثالثة : الأمر بدعائه بها .الرابعة : ترك من عارض من الجاهلين الملحدين . الخامسة : تفسير الإلحاد فيها . السادسة : وعيد من ألحد.
فيه مسائل :
الأولى : إثبات الأسماء . يعني لله تعالى ، وتؤخذ من قوله : { ولله الأسماء } ، وهذا خبر متضمن لمدلوله من ثبوت الأسماء لله ، وفي الجملة حصر لتقديم الخبر ، والحصر باعتبار كونها حسنى لا باعتبار الأسماء .
وأنكر الجهمية وغلاة المعتزلة ثبوت الأسماء لله تعالى .
* الثانية : كونها حسنى . أي بلغت في الحسن أكمله ، لأن " حسنى " مؤنث أحسن ، وهي أسم تفضيل .
الثالثة : الأمر بدعائه بها . والدعاء نوعان : دعاء مسألة ، ودعاء عبادة وكلاهما مأمور فيه أن يدعي الله بهذه الأسماء الحسنى ، وسبق تفصيل ذلك . (1).
الرابعة : ترك من عارض من الجاهلين الملحدين . أي : ترك سبيلهم ، وليس المعنى أن لا ندعوهم ولا نبين لهم ، والآية تتضمن أيضاً التهديد .
الخامسة : تفسير الإلحاد فيها . وقد سبق بيان أنواعه .
السادسة : وعيد من ألحد . وتؤخذ من قوله تعالى : { سيجزون ما كانوا يعملون }
__________
(1) أنظر : ( ص 901)(11/232)
باب لا يقال : السلام على الله
هذه الترجمة أتى بها المؤلف بصيغة النفي ، وهو محتمل للكراهة والتحريم ، لكن استدلاله بالحديث يقتضي أنه للتحريم وهو كذلك .
والسلام له عدة معان :
التحية ، كما قال : سلم على فلان ، أي : حياة بالسلام .
السلامة من النقص والآفات ، كقولنا : " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ".
السلام : اسم من أسماء الله تعالى ، قال تعالى : { الملك القدوس السلام } [ الحشر : 23] .
قوله : " لا يقال السلام على الله " . أي : لا تقل : السلام عليكم يا رب ، لما يلي :
أ ) أن مثل هذا الدعاء يُوهم النقص في حقه ، فتدعو الله أن يسلم نفسه من ذلك ، إذ لا يدعي لشيء بالسلام من شيء إلا إذا كان قابلاً أن يتصف به ، والله سبحانه منزه عن صفات النقص .
ب ) إذا دعوت الله أن يسلم نفسه ، فقد خالفت الحقيقة ، لأن الله يدعى ولا يدعى له ، فهو غني عنا ، لكن يثني عليه بصفات الكمال مثل غفور ، سميع ، عليم …
ومناسبة الباب لتوحيد الصفات ظاهرة ، لأن صفاته عليا كاملة كما أن أسماءه حسنى ، والدليل على أن صفاته عليا قوله تعالى : { للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلي } [النحل : 60] وقوله تعالى : { وله المثل الأعلي في السماوات والأرض } [الروم : 27] .
والمثل الأعلى : الوصف الأكمل ، فإذا قلنا : السلام على الله أوهم ذلك أن الله سبحانه قد يلحقة النقص ، وهذا ينافي كمال صفاته .
ومناسبة هذا الباب لما قبله ظاهرة ، لأن موضوع الباب الذي قبله إثبات الأسماء الحسنى لله المتضمنة لصفاته ، وموضوع هذا الباب سلامة صفاته من كل نقص ، وهذا يتضمن كمالها ، إذ لا يتم الكمال إلا بإثبات صفات الكمال ونفي ما يضادها ، فإنك لو قلت : زيد فاضل أثبت له الفضل ، وجاز أن يلحقه نقص ، وإذا قلت : زيد فاضل ولم يسلك شيئاً من طرق السفول ، فالآن أثبت له الفضل المطلق في هذه الصفة .(11/233)
والرب سبحانه وتعالى ينصف بصفات الكمال ، ولكنه إذا ذكر ما يضاد تلك الصفة صار ذلك أكمل ، ولهذا أعقب المؤلف رحمه الله الباب السابق بهذا الباب إشارة إلى أن الأسماء الحسنى والصفات العلى لا يلحقها نقص .
والسلام اسم ثبوتي سلبي .
فسلبي : أي أنه يراد به نفي كل نقص أو عيب يتصوره الذهن أو يتخيله العقل ، فلا يلحقه نقص في ذاته أو صفاته أو أفعاله أو أحكامه .
وثبوتي : أي يراد به ثبوت هذا الاسم له ، والصفة التي تضمنها وهي السلامة .
في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : كنا إذا كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة ، قلنا : السلام على الله من عباده ، السلام على فلان وفلان . فقال - صلى الله عليه وسلم - : " لا تقولوا : السلام على الله ، فإن الله هو السلام " (1).
قول : " في الصحيح " . هذا أعم من أن يكون ثابتاً في " الصحيحين " ، أو أحدهما ، أو غيرها ، وأنظر : ( ص 146) باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله ، وهذا الحديث المذكور في " الصحيحين " .
قوله : " كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة " . الغالب أن المعية مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة " لا تكون إلا في الفرائض ، لأنها هي التي يشرع لها صلاة الجماعة ، ومشروعية صلاة الجماعة في غير الفرائض قليلة ، كالاستسقاء .
قوله : " قلنا : السلام على الله من عباده " . أي : يطلبون السلامة لله من الآفات ، يسألون الله أن يسلم نفسه من الآفات ، أو أن اسم السلام على الله من عباده ، لأن قول الإنسان السلام عليكم خبر بمعني الدعاء ، وله معنيان :
اسم السلام عليك ، أي : عليك بركاته باسمه .
السلامة من الله عليك ، فهو سلام بمعني تسليم ، ككلام بمعني تكليم .
__________
(1) البخاري : كتاب الأذان / باب التشهد في الآخرة ، ومسلم : كتاب الصلاة / باب التشهد في الصلاة.(11/234)
قوله : " السلام على فلان وفلان " . أي : جبريل وميكائيل ، وكلمة فلان يكني بها عن الشخص ، وهي مصروفة ، لأنها ليست علماً ولا صفة ، كصفوان في قوله تعالى : { كمثل صفوان عليه تراب } [ البقرة : 264] .
وقد جاء في لفظ آخر : " السلام على جبريل و ميكال " (1) كانوا يقولون هكذا في السلام . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا تقولوا : السلام على الله ، فإن الله هو السلام " .
وهذا نهي تحريم ، والسلام لا يحتاج إلى سلام ، هو نفسه عز وجل سلام سالم من كل نقص ومن كل عيب .
وفيه دليل على جواز السلام على الملائكة ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينه عنه ، ولأنه عليه الصلاة والسلام لما أخبر عائشة أن جبريل يسلم عليها قالت : " عليه السلام " (2).
فيه مسائل :
الأولى : تفسير السلام . الثانية : أنه تحية . الثالثة : أنها لا تصلح لله . الرابعة : العلة في ذلك . الخامسة : تعليمهم التحية التي تصلح لله .
الأولى : تفسير السلام : فبالنسبة كونه اسماً من أسماء معناه السالم من كل نقص وعيب ، وبالنسبة لكونه تحية له معنيان :
الأول : تقدير مضاف ، أي ، اسم السلام عليك ، أي : اسم الله الذي هو السلام عليك .
الثاني : أن السلام بمعني التسليم اسم مصدر كالكلام بمعني التكليم ، أي : تخبر خبراً يراد به الدعاء ، أي : أسأل الله أن يسلمك تسليماً .
الثانية : أنه تحية . وسبق ذلك .
الثالثة : أنها لا تصلح لله . وإذا كانت لا تصلح له كانت حراماً .
الرابعة : العلة في ذلك . وهي أن الله هو السلام ، وقد سبق بيانها .
__________
(1) البخاري : كتاب صفة الصلاة / باب التشهد في الآخرة .
(2) البخاري : كتاب فضائل الصحابة / باب فضل عائشة ، ومسلم : كتاب فضائل الصحابة / باب فضل عائشة .(11/235)
الخامسة : تعليمهم التحية التي تصلح لله . وتؤخذ من تكملة الحديث : " فإذا صلي أحدكم ، فليقل : التحيات لله .. " ، وفيه حسن تعليم الرسول - صلى الله عليه وسلم - من وجهين الأول : أنه حينما نهاهم علل النهي .
وفي ذلك فوائد :
طمأنينة الإنسان إلى الحكم إذا قرن بالعلة .
بيان سمو الشريعة الإسلامية وأن أوامرها ونواهيها مقرونة بالحكمة ، لأن العلة حكمة.
القياس على ما شارك الحكم المعلل بتلك العلة .
الثاني : أنه حين نهاهم عن ذلك بين لهم ما يباح لهم ، فيؤخذ منه أنه المتكلم إذا ذكر ما ينهي عنه فليذكر ما يقوم مقامه مما هو مباح ، ولهذا شواهد كثيرة من القرآن والسنة سبق شيء منها .
ويستفاد من الحديث : أنه لايجوز الإقرار على المحرم ، لقوله : " لا تقولوا : السلام على الله " ، وهذا واجب على كل مسلم ، ويجب على العلماء بيان الأمور الشرعية لئلا يستمر الناس فيما لا يجوز ويرون أنه جائز ، قال تعالى : { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه } [ آل عمران : 187] .
باب قول : اللهم اغفر لي إن شئت
قوله : " باب قول : اللهم اغفر لي إن شئت " .
عقد المؤلف هذا الباب لما تضمنه هذا الحديث من كمال سلطان الله وكمال جوده وفضله ، وذلك من صفات الكمال .
قوله : " اللهم " . معناه : يا الله ، لكن لكثرة الاستعمال حذفت يا للنداء وعوض عنها الميم ، وجعل العوض في الآخر تيمناً بالابتداء بذكر الله .(11/236)
قوله : " اغفر لي " . المغفرة : ستر الذنب مع التجاوز عنه ، لأنها مشتقة من المغفر ، وهو ما يستر به الرأس للوقاية من السهام ، وهذا لا يكون إلا بشيء ساتر واق ، ويدل له قول الله عز وجل للعبد المؤمن حينما يخلو به ويقرره بذنوبه يوم القيامة : " قد سترها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم " (1) .
قوله : " إن شئت " . أي : أن شئت أن تغفر لي فاغفر ، وإن شئت فلا تغفر .
في الصحيح عن أبي هريرة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يقل أحدكم : اللهم أغفر لي أن شئت . اللهم ارحمني إن شئت . ليعزم المسألة ، فإن الله لا مكره له " (2)
ولمسلم : " وليعظم الرغبة ، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه " (3)
قوله : " في الصحيح " . سبق الكلام على مثل هذه العبارة في كلام المؤلف ، والمراد هنا الحديث الصحيح ، لأن الحديث في " الصحيحين " كليهما .
قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يقل أحدكم " . لا ناهية بدليل جزم الفعل بعدها .
قوله : " اللهم اغفر لي ، اللهم ارحمني " . ففي الجملة الأولى : " أغفر لي " النجاة من المكروه ، وفي الثانية : " ارحمني " .الوصول إلى المطلوب ، فيكون هذا الدعاء شاملاً لكل ما فيه حصول المطلوب وزوال المكروه .
قوله : " ليعزوم المسألة " . اللام الأمر ، ومعني عزم المسألة : أن لا يكون في تردد بل يعزم بدون تردد ولا تعليق . و"المسألة " : السؤال ، أي : ليعزم في سؤاله فلا يكون متردداً بقوله : إن شئت .
__________
(1) البخاري : كتاب المظالم / باب قوله تعالى : { إلا لعنة الله على الظالمين } ، ومسلم : كتاب التوبة / باب توبة العاقل .
(2) البخاري : كتاب التوحيد / باب المشيئة ، ومسلم : كتاب الذكر والدعاء / باب العزم بالدعاء .
(3) مسلم : كتاب الذكر /باب العزم بالدعاء .(11/237)
قوله : " فإن الله لا مكره له " . تعليل للنهي عن قول : " اللهم أغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت " ، أي : لا أحد يكرهه على ما يريد فيمنعه منه ، أو ما لا يريد فيلزمه بفعله ، لأن الأمر كله لله وحده .
والمحظور في هذا التعليق من وجوه ثلاثة :
الأول : أنه يُشعر بأن الله له مكره على الشيء وأن وراءه من يستطيع أن يمنعه ، فكأن الداعي بهذه الكيفية يقول : أنا لا أكرهك ، إن شئت فاغفر وإن شئت فلا تغفر .
الثاني : أن قول القائل : " إن شئت " كأنه يرى أن هذا أمر عظيم على الله فقد لا يشابه لكونه عظيماً عنده ، ونظير ذلك أن تقول لشخص من الناس والمثال للصورة بالصورة لا للحقيقة بالحقيقة ، أعطني مليون ريال إن شئت ، فإنك إذا قلت له ذلك ، ربما يكون الشيء عظيماً يتثاقله ، فقولك : إن شئت ، لأجل أن تهون عليه المسألة ، فالله عز وجل لا يحتاج أن تقول له : إن شئت ، لأنه سبحانه وتعالى لا يتعاظمه شيء أعطاه ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : " وليعظم الرغبة ، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه " .
قوله : " وليعظم الرغبة " ، أي : ليسأل ما شاء من قليل وكثير ولا يقل : هذا كثير لا أسال الله إياه ، ولهذا قال : " فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه " ، أي : لا يكون الشيء عظيماً عنده حتى يمنعه ويبخل به سبحانه وتعالى كل شيء يعطيه ، فإنه ليس عظيماً عنده ، فالله عز وجل يبعث الخلق بكلمة واحدة ، وهذا أمر عظيم ، لكنه يسير عليه ، قال تعالى : { قل بلي وربي لتبعثن ثم لتنبئن بما علمتم وذلك على الله يسير } [التغابن : 7 ] وليس بعظيم ، فكل ما يعطيه الله عز وجل لأحد من خلقه فليس بعظيم يتعاظمه ، أي : لا يكون الشيء عظيماً عنده حتى لا يعطيه ، بل كل شيء عنده هين .(11/238)
الثالث : أنه يشعر بأن الطالب مستغن عن الله ، كأنه يقول : إن شئت فافعل ، وإن شئت فلا تفعل لا يهمني ، ولهذا قال : " وليعظم الرغبة " ، أي : يسأل برغبة عظيمة ، والتعليق ينافي ذلك ، لأن المعلق للشيء المطلوب يشعر تعليقه بأن مستغن عنه ، والإنسان ينبغي أن يدعوا الله تعالى وهو يشعر أنه مفتقر إليه غاية الأفتقار ، وأن الله قادر على أن يعطيه ما سأل ، وأن اله ليس يعظم عليه شيء ، بل هو هين عليه ، إذا من آداب الدعاء أن لا يدعو بهذه الصيغة ، بل يجزم فيقول : اللهم إغفر لي ، الهم ارحمني ، اللهم وفقني ، وما أشبه ذلك ، وهل يجزم بالإجابة ؟
الجواب : إذا كان الأمر عائدا إلى قدرة الله ، فهذا يجب أن يجزم بأن الله قادر على ذلك ، قال الله تعالى : { ادعوني أستجب لكم } [ غافر : 60] .
أما من حيث دعائك أنت باعتبار ما عندك من الموانع ، أو عدم توافر الأسباب ، فإنك قد تتردد في الإجابة ، ومع ذلك ينبغي أن تحسن الظن بالله ، لأن الله عز وجل قال { ادعوني أستجب لكم } ، فالذي وفقك لدعائه أولاً سيمن عليك بالإجابة آخراً ، لا سيما إذا أتي الإنسان بأسباب الإجابة وتجنب الموانع ، ومن الموانع الاعتداء في الدعاء ، كأن يدعو بإثم أو قطيعة رحم .
ومنها أن يدعو بما لا يمكن شرعاً أو قدراً :
فشرعاً كأن يقول : اللهم اجعلني نبياً .
وقدراً بأن يدعو الله تعالى بأن يجمع بين النقيضين ، وهذا أمر لا يمكن ، فالاعتداء بالدعاء مانع من إجابته ، وهو محرم ، لقوله تعالى : { ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين } [ الأعراف : 55 ] ، وهو أشبه ما يكون بالاستهزاء بالله سبحانه .
مناسبة الباب للتوحيد : من وجهين :(11/239)
من جهة الربوبية ، فإن من أتى بما يشعر بأن الله له مكره لم يقم بتمام ربو بيته تعالى ، لأن من تمام الربوبية أنه لا مكره له ، بل إنه لا يسأل عما يفعل ، كما قال تعالى : { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } [ الأنبياء : 23] . وكذلك فيه نقص من ناحية الربوبية من جهة أخرى وهو أن الله يتعاظم الأشياء التي يعطيها فكان فيه قدح في جوده وكرمه.
من ناحية العبد ، فإنه يشعر باستغنائه عن ربه ، وهذا نقص في توحيد الإنسان ، سواء من جهة الألوهية أو الربوبية أو الأسماء والصفات ، ولهذا ذكره المصنف في باب الذي يتعلق بالأسماء والصفات .
فإن قلت : ما الجواب عما ورد في دعاء الأستخارة : " اللهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب ، اللهم ! إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ، فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه ، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ، فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به "(1) ؟ وكذا ما ورد في الحديث المشهور "اللهم احيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي"(2)
__________
(1) البخاري : كتاب الدعوات / باب الدعاء عند الأستخارة .
(2) . البخاري: كتاب الدعوات/ باب الدعاء بالموت والحياة ومسلم كتاب الذكر والدعاء/ باب كراهة تمني الموت.(11/240)
فالجواب : أنني لم أعلق هذا بالمشيئة ، ما قلت : فاقدره لي إن شئت ، لكن لا أعلم أن هذا خير لي أو شر والله يعلم ، فأقول : إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي فاقدره لي ، فالتعليق فيه لأمر مجهول عندي لا أعلم هل هو خير لي أو لا ؟ وكذا بالنسبة للحديث الآخر ، لأن الإنسان لا يعلم هل طول حياته خير أو شر ؟ ولهذا كره أهل العلم أن تقول للشخص : أطال الله بقاءك ، لأن طول البقاء لا يعلم ، فقد يكون خيراً ، وقد يكون شراً ، ولكن يقال : أطال الله بقاءك على طاعته وما أشبه ذلك حتى يكون الدعاء خيراً بكل حال ، وعلي هذا ، فلا يكون في حديث الباب معارضة لحديث الاستخارة ولا حديث : " اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي " لأن الدعاء مجزوم به وليس معلقاً بالمشيئة ، والنهي إنما هو عما كان معلقاً بالمشيئة .
لكن لو قال : اللهم أغفر لي إن أردت وليس إن شئت ، فالحكم واحد لأن الإرادة هنا كونية ، فهي بمعني المشيئة ، فالخلاف باللفظ لا يعتبر مؤثراً بالحكم .
فيه مسائل :
الأولى : النهي عن الاستثناء في الدعاء . الثانية : بيان العلة في ذلك الثالثة : قوله : " ليعزم المسألة " . الرابعة : إعظام الرغبة . الخامسة : التعليل لهذا الأمر .
فيه مسائل :
الأولى : النهي عن الاستثناء في الدعاء والمراد بالاستثناء هنا الشرط ، فإن الشرط يسمي استثناء بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - لضباعة بنت الزبير " حجي واشترطي ، فإن لك على ربك ما استثنيت " (1)، ووجهه أنك إذا قلت : أكرم زيداً إن أكرمك ، فهو كقولك : أكرم زيداً إلا ألا يكرمك ، فهو بمعني الاستثناء في الحقيقة .
الثانية : بيان العلة في ذلك . وقد سبق أنها ثلاث علل :
أنها تشعر بأن الله له مكره ، والأمر ليس كذلك .
أنها تشعر بأن هذا أمر عظيم على الله قد يثقل عليه ويعجز عنه ، والأمر ليس كذلك.
__________
(1) البخاري : كتاب النكاح / باب الأكفاء في الدين ، ومسلم : كتاب الحج/ باب جواز اشتراط المحرم .(11/241)
أنها تشعر باستغناء الإنسان عن الله ، وهذا غير لآئق وليس من الأدب .
الثالثة : قوله : " ليعزم المسألة " . تفيد أنك إذا سألت فاعزم ولا تردد .
الرابعة : إعظام الرغبة . لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " وليعظم الرغبة " ، أي : ليسأل ما بدا فلا شيء عزيز أو ممتنع على الله .
الخامسة : التعليل لهذا الأمر. يستفاد من قوله : " فإن الله لا يتعاظمه شيء أو لا مكره له " وقوله : " وليعظم الرغبة " ، وفي هذا حسن تعليم الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر شيئاً قرنه بعلته .
وفي ذكر علة الحكم فوائد :
الأولى : بيان سمو هذه الشريعة ، وأنه ما من شيء تحكم به إلا وله علة وحكمة .
الثانية : زيادة طمأنينة الإنسان ، لأنه إذا فهم العلة مع الحكم اطمأن ، ولهذا آما سئل - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الرطب بالتمر لم يقل حلال أو حرام ، بل قال : " أينقص إذا جف ؟ " . قالوا : نعم . فنهي عنه (1).
والرجل الذي قال : إن آمراتي ولدت غلاماً أسود لم يقل - صلى الله عليه وسلم - الولد لك ، بل قال : هل لك من إبل ؟ قال : نعم . قال : ما ألوانها ؟ قال : حمر . قال : هل فيها من أورق الأورق : الأشهب الذي بين البياض والسواد ؟ قال : نعم .
قال : من أين ؟ قال : لعله نزعه عرق ، قال : لعل ابنك نزعة عرق " (2)، فاطمأن ، وعرف الحكم ، وأن هذا هو الواقع ، فقرن الحكم بالعلة يوجب الطمأنية ومحبة الشريعة والرغبة فيها .
__________
(1) الإمام أحمد في " المسند " (1/175، 176) ، وأبو داود : كتاب البيوع / باب في التمر بالتمر ، والترمذي : كتاب البيوع / باب في النهي عن المحاقة ، والنسائي : كتاب البيوع باب اشتراء التمر بالرطب ، وابن ماجه : كتاب التجارات / باب بيع الرطب بالتمر ، والحاكم في " المستدرك " (2/38) وصححه ووافقه الذهبي ، وصححه أحمد شاكر في " المسند " (1515) .
(2) البخاري : كتاب الطلاق / باب إذا عرض بنفي الولد ، ومسلم : كتاب اللعان .(11/242)
الثالثة : القياس إذا كانت المسألة في الحكم من الأحكام ، فليحق بها ما شراكها في العلة .
***
باب لا يقول : عبدي وأمتي
في الصحيح عن أبي هريرة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يقل أحدكم : أطعم ربك ، وضيء ربك ، وليقل : سيدي ومولاي . ولا يقل أحدكم : عبدي وأمتي . وليقل : فتاي وفتاتي وغلامي " (1).
هذه الترجمة تحتمل كراهة هذا القول وتحريمه ، وقد اختلف العلماء في ذلك ، وسيأتي التفصيل فيه .
قوله : في " الصحيح " . سبق التنبيه على مثل هذه العبارة في كلام المؤلف ، وهذا الحديث في " الصحيحين " ، فيكون المراد بقوله " في الصحيح " ، أي : في الحديث الصحيح ، ولعله أراد " صحيح البخاري " لأن هذا لفظه ، أما لفظ مسلم ، فيختلف عنه .
قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يقل " . الجملة نهي .
" عبدي " ، أي : للغلام .
و " أمتي " ، أي : للجارية .
والحكم في ذلك ينقسم إلى قسمين :
الأول : أن يضيفه إلى غيره ، مثل أن يقول : عبد فلان أو أمة فلان ، فهذا جائز قال تعالى : { وأنكحوا الأيامي منكم والصالحين من عبادكم وإمانكم } [ النور : 32] ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة " (2).
الثاني : أن يضيفه إلى نفسه ، وله صورتان :
الأولى : أن يكون بصيغة الخبر ، مثل : أطعمت عبدي ، كسوت عبدي ، أعتقت عبدي ، فإن قاله في غيبة العبد أو الأمة ، فلا بأس به ، وإن قاله في حضرة العبد أو الأمة ، فإن ترتب عليه مفسدة تتعلق بالعبد أو السيد منع ، وإلا ، فلا لأن قائل ذلك لا يقصد العبودية التي هي الذل ، وإنما يقصد أنه مملوك .
__________
(1) البخاري : كتاب العتق / باب كراهة التطاول على الرقيق ، ومسلم : كتاب الأدب / باب حكم إطلاق لفظ العبد والأمة .
(2) البخاري : كتاب الزكاة / باب ليس على المسلم في عبده صدقة ، ومسلم : كتاب الزكاة / باب لا زكاة على المسلم في عبده وفرسه .(11/243)
الثانية : أن يكون بصيغة النداء ، فيقول السيد : يا عبدي ! هات كذا ، فهذا منهي عنه ، وقد اختلف العلماء في النهي : هل هو للكراهة أو التحريم ؟ والراجح التفصيل في ذلك ، وأقل أحواله الكراهة .
قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يقل أحدكم : أطعم ربك - .. ألخ " أي : لا يقل أحدكم لعبد غيره ، ويحتمل أن يشمل قول السيد لعبده حيث يضع الظاهر موضع المضمر تعاظماً .
واعلم إن إضافة الرب إلى غير الله تعالى تنقسم إلى أقسام :
القسم الأول : أن تكون الإضافة إلى ضمير المخاطب ، مثل : أطعم ربك ، وضيء ربك ، فيكره ذلك للنهي عنه ، لأن فيه محذورين :
من جهة الصيغة ، لأنه يوهم معنى فاسداً بالنسبة لكلمة رب ، لأن الرب من أسمائه سبحانه ، وهو سبحانه يطعم ولا يطعم ، وإن كان بلا شك إن الرب هنا غير رب العالمين الذي يطعم ولا يطعم ، ولكن من باب الأدب في اللفظ .
من جهة المعني أنه يشعر العبد أو الأمة بالذل ، لأنه إذا كان السيد رباً كان العبد أو الأمة مربوباً .(11/244)
القسم الثاني : أن تكون الإضافة إلى ضمير الغائب ، فهذا لا بأس به ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أشراط الساعة ، " أن تلد الأمة ربها " (1)، وأما لفظ " ربتها " (2) ، فلا إشكال فيه لوجود تاء التأنيث ، فلا اشتراك مع الله في اللفظ ، لأن الله لا يقال له إلا رب ، وفي حديث الضالة وهو متفق عليه : " حتى يجدها ربها " (3). وقال بعض أهل العلم أن حديث الضالة في بهيمة لا تتعبد ولا تتذلل ، فليست كالإنسان ، والصحيح عدم الفارق ، لأن البهيمة تعبد الله عبادة خاصة ، قال تعالى : { ولله يسجد من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب } ، وقال في الناس : { وكثير من الناس } ليس جمعيهم : { وكثير حق عليه العذاب } [ الحج : 18] ، وعلى هذا ، فيجوز أن تقول : أطعم الرقيق ربه ، ونحوه ..
القسم الثالث : أن تكون الإضافة إلى ضمير المتكلم ، بأن يقول العبد : هذا ربي ، فهل يجوز هذا ؟
قد يقول قائل : إن هذا جائز ، لأن هذا من العبد لسيده ، وقد قال تعالى عن صاحب يوسف : { إنه ربي أحسن مثواي } [ يوسف : 23] أي : سيدي ، ولأن المحذور من قول { ربي } هو إذلال العبد ، وهذا منتف ، لأنه هو بنفسه يقول : هذا ربي .
القسم الرابع : أن يضاف إلى الاسم الظاهر ، فيقال : هذا رب الغلام ، فظاهر الحديث الجواز ، وهو كذلك ما لم يوجد محذور فيمنع ، كما لو ظن السامع أن السيد رب حقيقي خالق ونحو ذلك .
__________
(1) البخاري : كتاب الإيمان / باب سؤال جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومسلم : كتاب الإيمان / باب بيان الإيمان .
(2) البخاري : كتاب التفسير / باب { إن الله عنده علم الساعة } ، ومسلم : كتاب الإيمان / باب بيان الإيمان .
(3) البخاري : كتاب اللقطة / باب ضالة الإبل ، ومسلم كتاب اللقطة.(11/245)
قوله : " وليقل : سيدي ومولاي " . المتوقع أن يقول : وليقل سيدك ومولاك ، لأن مقتضى الحال أن يرشد ما يكون بدلاً عن اللفظ المنهي عنه بما يطابقه ، وهنا ورد النهي بلفظ الخطاب ، والإرشاد بلفظ التكلم ، وليقل : " سيدي ومولاي " ، ففهم المؤلف رحمة الله كما سيأتي في المسائل أن فيه إشارة إلى أنه إذا كان الغير قد نهي أن يقول للعبد : أطعم ربك ، فالعبد من باب أولي أن ينهي عن قول : أطعمت ربي ، وضأت ربي ، بل يقول : سيدي ومولاي .
وأما إذا قلنا بأن أطعم ربك خاص بمن يخاطب العبد لما فيه من إذلال العبد بخلاف ما إذا قال هو بنفسه : أطعمت ربي ، فإنه ينتفي الإذلال ، فإنه يقال : إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما وجه الخطاب لمن يخاطب العبد وجه الخطاب إلى العبد نفسه ، فقال : " وليقل : سيدي ومولاي " ، أي عن قوله : أطعمت ربي ، وضأت ربي .
وقوله " سيدي " . السيادة في الأصل علو المنزلة ، لأنها من السؤدد والشرف والجاه وما أشبه ذلك .
والسيد يطلق على معان ، منها : المالك ، الزوج ، والشريف المطاع .
وسيدي هنا مضافة إلى ياء المتكلم وليست على وجه الإطلاق فالسيد على وجه الإطلاق لا يقال إلا اله عز وجل قال - صلى الله عليه وسلم - : " السيد الله " (1).
وأما السيد مضافة ، فإنها تكون لغير الله ، قال تعالى : { وألفيا سيدها لدي الباب } [ يوسف : 25] ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة " (2)، والفقهاء يقولون : إذا قال السيد لعبده ، أي : سيد العبد لعبده .
تنبيه :
__________
(1) الإمام أحمد في " المسند " ( 4/24، 35) والبخاري في " الإدب المفرد " (211) ، وأبو داود : كتاب الأدب / باب في كراهة التمادح . قال ابن حجر في " الفتح " ( 5/179) :رجاله ثقات ، وقد صححه غير واحد .
(2) مسلم : كتاب الفضائل / باب تفضيل النبي - صلى الله عليه وسلم - على جميع الخلائق .(11/246)
اشتهر عند بعض الناس إطلاق السيدة على المرأة ، فيقولون مثلاً : هذا خاص بالرجال ، وهذا خاص بالسيدات ، وهذا قلب للحقائق ، لأن السادة هم الرجال ، قال تعالى : { وألفيا سيدها لدي الباب } ، وقال : { الرجال قوامون على النساء } [ الأنعام : 62] ، وقال - صلى الله عليه وسلم - : " إن النساء عوان عندكم " (1)3)، أي : بمنزلة الإسير : وقال في الرجل : " راع في أهله ومسؤول عن رعيته " (2)، فالصواب أن يقال للواحدة أمراة وللجماعة منهن نساء .
قوله : " ومولاي " . أي : وليقل مولاي ، والولاية تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : ولاية مطلقة ، وهذه لله عز وجل لا تصلح لغيره ، كالسيادة المطلقة .
وولاية الله نوعان :
النوع الأول : عامة ، وهي الشاملة لكل أحد ، قال الله تعالى : { ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون } [الأنعام : 62] ، فجعل له ولاية على هؤلاء المفترين ، وهذه ولاية عامة .
النوع الثاني : خاصة بالمؤمنين ، قال تعالى : { ذلك بأن الله مولي الذين آمنوا وأن الكافرون لا مولي لهم } [ محمد : 11] ، وهذه ولاية خاصة ، ومقتضي السياق أن يقال : وليس مولي الكافرين ، لكن قال : { لا مولي لهم } ، أي : لا هو مولي للكافرين ولا أولياؤهم الذين يتخذونهم آلهة من دون الله موالي لهم لأنهم يوم القيامة يتبرءون منهم .
القسم الثاني : ولاية مقيدة مضافة ، فهذه تكون لغير الله ، ولها في اللغة معان كثيرة ، منها الناصر ، والمتولي للأمور ، والسيد ، والعتيق .
__________
(1) الإمام أحمد (5/72) ، والترمذي : كتاب الرضاع / باب في حق المرأة على زوجها ، وابن ماجة : كتاب النكاح / باب حق المرأة على زوجها ، 1 / 594.
(2) البخاري : كتاب الجمعة / باب الجمعة في القري : ومسلم : كتاب الإمارة / باب فضيلة الإمام العادل .(11/247)
قال تعالى : { وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين } [ التحريم : 4] وقال - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عنه : " من كنت مولاه ، فعلي مولاه " - صلى الله عليه وسلم - (1)، وقال - صلى الله عليه وسلم - : " إنما الولاء لمن أعتق " (2).
ويقال للسلطان ولي الإمر ، وللعتيق مولي فلان لمن أعتقه ، وعليه يعرف أنه لا وجه لاستنكار بعض الناس لمن خاطب ملكاً بقوله : مولاي ، لأن المراد بمولاي أي متولي أمري ، ولا شك أن رئيس الدولة يتولي أمورها ، كما قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } [ النساء : 59] .
قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي } . هذا خطاب للسيد أن لا يقول : عبدي وأمتي لمملوكه ومملوكته ، لأننا جميعاً عباد الله ، ونساؤنا إماء لله ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا تمنعوا إماء الله مساجد الله " (3).
فالسيد منهي أن يقول ذلك ، لأنه إذا قال : عبدي وأمتي ، فقد تشبه بالله عز وجل ولو من حيث ظاهر اللفظ ، لأن الله ، عز وجل يخاطب عباده بقوله : عبدي ، كما في الحديث : " عبدي استطعمتك فلم تطعمني (4).. " وما أشبه ذلك .
وإن كان السيد يريد بقوله : " عبدي " ، أي : مملوكي ، فالنهي من باب التنزه عن اللفظ الذي يوهم الإشراك ، وقد سبق بيان حكم ذلك.
وقوله : " وأمتي " . الأمة : الأنثي من المملوكات ، وتسمي الجارية .
__________
(1) الإمام أحمد في " المسند " ( 1/84).
(2) البخاري : كتاب العتق / باب ما يجوز من شرط المكاتب ، ومسلم : كتاب العتق / باب إثما الولاء لمن أعتق .
(3) البخاري : كتاب الجمعة / باب هل على من لم يشهد الجمعة غسل .. ، ومسلم : كتاب الصلاة / باب خروج النساء .
(4) مسلم : كتاب البر والصلة / باب فضل عيادة المريض .(11/248)
والعلة من النهي : أن فيه إشعاراً بالعبودية ، وكل هذا من باب حماية التوحيد والبعد عن التشريك حتى في اللفظ ، ولهذا ذهب بعض أهل العلم ومنهم شيخنا عبد الرحمن السعدي رحمه الله إلى أن النهي في الحديث ليس على سبيل التحريم ، وأنه على سبيل الآدب والأفضل والأكمل ، وقد سبق بيان حكم ذلك مفصلاً .
قوله : " وليقل : فتاي وفتاتي " . مثله جاريتي وغلامي ، فلا بأس به .
وفي هذا الحديث من الفوائد :
حسن تعليم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، حيث إنه إذا نهي عن شيء فتح للناس ما يباح لهم ، فقال : " لا يقل : عبدي وأمتي : ، وليقل : فتاي وفتاتي " ، وهذه كما هي طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهي طريقة القرآن أيضاً ، قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا } [ البقرة : 104] وهكذا ينبغي لأهل العلم وأهل الدعوة إذا سدوا على الناس باباً محرماً أن يفتحوا لهم الباب المباح حتى لا يضيقوا على الناس ويسدوا الطرق أمامهم ، لأن في ذلك فائدتين عظيمتين :
الأولى : تسهيل ترك المحرم على هؤلاء ، لأنهم إذا عرفوا أن هناك بدلاً عنه هان عليهم تركه .
الثانية : بيان أن الدين الإسلامي فيه سعة ، وأن كل ما يحتاج إليه الناس ، فإن الدين الإسلامي يسعه ، فلا يحكم على الناس أن يتكلموا بشيء أو لا يفعلوا شيئاً إلا وفتح لهم ما يغني عنه ، وهذا من كمال الشريعة الإسلامية .
أن الأمر يأتي للإباحة ، لقوله : " وليقل : سيدي ومولاي " ، وقد قال العلماء : إن الأمر إذا أتي في مقابلة شيء ممنوع صار للإباحة ، وهنا جاء الأمر في مقابلة شيء ممنوع ، ومثله قوله تعالى : { وإذا حللتم وإذا فاصطادوا } [ المائدة : 2 ] .
فيه مسائل :(11/249)
الأولى : النهي عن قول : عبدي وأمتي . الثانية : لا يقول العبد : ربي ، ولا يقال له : أطعم ربك . الثالثة : تعليم الأول قول : فتاي وفتاتي وغلامي . الرابعة : تعليم الثاني قول : سيدى ومولاي . الخامسة : التنبيه للمراد ، وهو تحقيق التوحيد ، حتى في الألفاظ .
فيه مسائل :
الأولى : النهي عن قول : عبدي وأمتي . تؤخذ من قوله : " ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي " . وقد سبق بيان ذلك .
الثانية : لا يقول العبد : ربي ، ولا يقال له أطعم ربك . تؤخذ من الحديث ، وقد سبق بيان ذلك .
الثالثة : تعليم الأول ( وهو السيد ) قول : فتاي وفتاتي وغلامي .
الرابعة : تعليم الثاني ( وهو العبد ) قول : سيدي ومولاي .
الخامسة التنبيه للمراد ، وهو تحقيق التوحيد حتى في الألفاظ . وقد سبق ذلك .
وفي الباب مسائل أخري لكن هذه المسائل هي المقصود.
***
باب لا يرد من سأل الله
قوله : " باب لا يرد " . " لا " نافية بدليل رفع المضارع بعدها ، والنفي يحتمل أن يكون للكراهية ، وأن يكون للتحريم .
وقوله : " من سأل بالله " . أي : من سأل غيره بالله ، والسؤال بالله ينقسم إلى قسمين:
أحدهما : السؤال بالله بالصيغة ، مثل أن يقول : أسألك بالله كما تقدم في حديث الثلاثة حيث قال الملك : " أسالك بالذي أعطاك الجلد الحسن واللون الحسن بعيراً " (1)
الثاني : السؤال بشرع الله عز وجل ، أي : يسأل سؤالاً يبيحه الشرع ، كسؤال الفقير من الصدقة ، والسؤال عن مسألة من العلم ، وما شابه ذلك .
وحكم من رد من سأل بالله الكراهة أو التحريم حسب حال المسؤول والسائل ، وهنا عدة مسائل :
المسألة الأولى : هل يجوز للإنسان أن يسأل بالله أم لا ؟
__________
(1) تقدم تخريجه ( ص 877).(11/250)
وهذه المسألة لم يتطرق إليها المؤلف رحمه الله ، فتقول أولاً : السؤال من حيث هو مكروه ولا ينبغي للإنسان أن يسأل أحداً شيئاً إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك ، ولهذا كان مما بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن لا يسألوا الناس شيئاً ، حتى إن عصا أحدهم ليسقط منه وهو على راحلته ، فلا يقول لأحد : ناولينه ، بل ينزل ويأخذه (1).
والمعنى يقتضيه ، لأنك إذا أعزرت نفسك ولم تذلها لسؤال الناس بقيت محترماً عن الناس ، وصار لك منعة من أن تذل وجهك لأحد ، لأن من أذل وجهه لأحد ، فإنه ربما يحتاجه ذلك الأحد لأمر يكره أن يعطيه إياه ، ولكنه إذا سأله اضطر إلى أن يجيبه ، ولهذا روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ازهد فيما عند الناس يحبك الناس " (2)، فالسؤال أصلاً مكروه أو محرم إلا لحاجة أو ضرورة .
فسؤال المال محرم ، فلا يجوز أن يسأل من أحد مالاً إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك ، وقال الفقهاء رحمهم الله في باب الزكاة : " إن من أبيح له أخذ شيء أبيح له سؤاله " ، ولكن فيما قالوه نظر ، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حذر من السؤال ، وقال : " إن الإنسان لا يزال يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وما في وجهه مزعة لحم " (3)، وهذا يدل على التحريم إلا للضرورة .
وأما سؤال المعونة بالجاه أو المعونة بالبدن ، فهذه مكروهة ، إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك .
وأما إجابة السائل ، فهو موضوع بابنا هذا ، ولا يخلو السائل من أحد أمرين :
الأول : أن يسأل سؤالاً مجرداً ، كأن يقول مثلاً : يا فلان ! أعطني كذا وكذا ، فإن كان مما أباحه الشارع له فإنك تعطيه ، كالفقير يسأل شيئاً من الزكاة .
__________
(1) مسلم : كتاب الزكاة / باب كراهة المسألة للناس .
(2) ابن ماجة : كتاب / الزهد في الدنيا .
(3) البخاري : كتاب الزكاة / باب من سأل الناس تكثراً ، ومسلم : كتاب الزكاة / باب كراهة المسألة(11/251)
الثاني : أن يسأل بالله ، فهذا تجيبه وإن لم يكن مستحقاً ، لأنه سأل بعظيم فإجابته من تعظيم هذا العظيم ، لكن لو سأل إثماً أو كان في إجابته ضرر على المسؤول ، فإنه لا يجاب .
مثال الأول : أن يسألك بالله نقوداً ليشتري بها محرماً كالخمر .
ومثال الثاني : أن يسألك بالله أن تخبره عما في سرك وما تفعله مع أهلك ، فهذا لا يجاب لأن في الأول إعانة على الإثم ، وإجابته في الثاني ضرر على المسؤول .
عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من سأل بالله ، فأعطوه ، ومن استعاذ بالله ، فأعيذوه ، ومن دعاكم ، فأجيبوه ، ومن صنع إليكم معروفاً ، فكافئوه ، فإن لم تجدوا ما تكافئوه ، فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه " . رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح (1).
قوله - صلى الله عليه وسلم - : " من سأل بالله " . " من " : شرطية للعموم .
قوله : " فأعطوه " . الأمر هنا للوجوب ما لم يتضمن السؤال إثماً أو ضرراً على المسؤول ، لأن في إعطائه إجابة لحاجته وتعظيماً لله عز وجل الذي سأل به .
ولا يشترط أن يكون سؤاله بلفظ الجلالة بل بكل اسم يختص بالله ، كما قال " الملك الذي جاء إلى الأبرص والأقرع والأعمى : " أسألك بالذي أعطاك كذا وكذا " (2)
قوله : " من استعاذ بالله فأعيذوه " . أي قال : أعوذ بالله منك ، فإنه يجب عليك أن تعيذه ، لأنه استعاذ بعظيم ، ولهذا لما قالت ابنة الجون للرسول - صلى الله عليه وسلم - : أعوذ بالله منك ، قال لها " لقد عذت بعظيم أو معاذ ، الحقي بأهلك " (3).
لكن يستثني من ذلك لو استعاذ من أمر واجب عليه ، فلا تعذه ، مثل أن تلزمه بصلاة الجماعة ، فقال أعوذ بالله منك .
__________
(1) تقدم ( ص 110)
(2) قدم ( ص 877)
(3) البخاري : كتاب الطلاق / باب من طلق وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق .(11/252)
وكذلك لو ألزمته بالإقلاع عن أمر محرم ، فاستعاذ بالله منك ، فلا تعذه لما فيه من التعاون على الإثم والعدوان ، ولأن الله لا يعيذ عاصياً ، بل العاصي يستحق العقوبة لا الانتصار له وإعادته .
وكذلك من استعاذ بملجأ صحيح يقتضي الشرع أن يعيذه وإن لم يقل أستعيذ بالله ، فإنه يجب عليك أن تعيذه كما قال أهل العلم : لو جني أحد جناية ثم لجأ إلى الحرم ، فإنه لا يقام عليه الحد ولا القصاص في الحرم ، ولكنه يضيق عليه ، فلا يبايع ، ولا يشتري منه ، ولا يؤجر حتى يخرج .
بخلاف من انتهك حرمة الحرم بأن فعل الجناية في نفس الحرم ، فإن الحرم لا يعيذه لأنه انتهك حرمة الحرم .
قوله : " ومن دعاكم فأجيبوه " . " من " شرطية للعموم ، والظاهر أن المراد بالدعوة هنا الدعوة للإكرام ، وليس المقصود بالدعوة هنا النداء .
وظاهر الحديث وجواب إجابة الدعوة في كل دعوة ، وهو مذهب الظاهرية .
وجمهور أهل العلم : أنها مستحبة إلا دعوة العرس ، فإنها واجبة لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيها : " شر الطعام الوليمة ، يدعي إليها من يأباها ويمنعها من يأتيها ومن لم يجب ، فقد عصي الله ورسوله" (1)
وسواء قيل بالوجوب أو الاستحباب ، فإنه يشترط لذلك شروط :
أن يكون الداعي ممن لا يجب هجره أو يسن .
إلا يكون هناك منكر في مكان الدعوة ، فإن كان هناك منكر ، فإن أمكنه إزالته ، وجب عليه الحضور لسببين :
إجابة الدعوة .
وتغيير المنكر .
وإن كان لا يمكنه إزالته حرم عليه الحضور ، لأن حضوره يستلزم إثمه ، وما استلزم الإثم ، فهو إثم .
__________
(1) البخاري : كتاب النكاح / باب من ترك الدعوة فقد عصي الله ورسوله ، ومسلم : كتاب النكاح / باب الأمر بإجابة الداعي .(11/253)
3. أن يكون الداعي مسلماً ، وإلا لم تجب الإجابة ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " حق المسلم على المسلم خمس .. " ، وذكر منها : " إذا دعاك فأجبه " (1) . قالوا : وهذا مقيد للعموم الوارد .
4. أن لا يكون كسبه حراماً ، لأن إجابته تستلزم أن تأكل طعاماً حراماً ، وهذا لا يجوز ، وبه قال بعض أهل العلم .
وقال آخرون : ما كان محرماً لكسبه ، فإنما إثمه على المكاسب لا على من أخذه بطرق مباح من الكاسب ، بخلاف ما كان محرماً لعينه ، كالخمر والمغصوب ونحوهما ، وهذا القول وجيه قوي بديل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - اشتري من يهودي طعاماً لآهله (2)، وأكل من الشاة التي أهدتها له اليهودية بخيبر (3)، وأجاب دعوة اليهودي (4)، ومن المعلوم أن اليهود معظمهم يأخذون الربا ويأكلون السحت ، وربما يقوي هذا القول قوله - صلى الله عليه وسلم - في اللحم الذي تصدق به على بريرة : " هو لها صدقة ولنا منها هدية " (5).
وعلى القول الأول ، فإن الكراهة تقوي وتضعف حسب كثرة المال الحرام وقلته ، فكلما كان الحرام أكثر كانت الكراهة أشد ، وكلما قال كانت الكراهة أقل .
5. أن لا تتضمن الإجابة إسقاط واجب أو ما هو أوجب منها ، فإن تضمنت ذلك حرمت الإجابة .
6. أن لا تتضمن ضرراً على المجيب ، مثل أن تحتاج إجابة الدعوة إلى سفر أو مفارقة أهله المحتاجين إلى وجوده بينهم .
__________
(1) البخاري : كتاب الجنائز / باب الأمر باتباع الجنائز ، ومسلم : كتاب السلام / باب من حق المسلم للمسلم .
(2) البخاري : كتاب البيوع / باب شراء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنسيئة ، ومسلم : كتاب المساقاة / باب الرهن .
(3) البخاري : كتاب الهبة / باب قبول الهدية من المشركين ، ومسلم كتاب السلام / باب السم .
(4) الإمام أحمد في " المسند " (3/ 210، 211)
(5) البخاري : كتاب الزكاة /باب إذا تحولت الصدقة ، ومسلم كتاب الزكاة / باب إباحة الهدية للنبي عليه الصلاة والسلام.(11/254)
مسألة : هل إجابة الدعوة حق الله أو للآدمي ؟
الجواب : حق للآدمي ، ولهذا لو طلبت من الداعي أن يقيلك فقبل ، فلا إثم عليك ، لكنها واجبة بأمر الله عز وجل ، ولهذا ينبغي أن تلاحظ أن إجابتك طاعة لله وقيام بحق أخيك ، لكن لصاحبها أن يسقطها كما أن لها أن لا يدعوك أيضاً ولكن إذا أقالك حياء منك وخجلاً من غير اقتناع ، فإنه لا ينبغي أن تدع الإجابة .
مسألة : هل بطاقات الدعوة التي توزع كالدعوة بالمشافهة ؟
الجواب : البطاقات ترسل إلى الناس ولا يدري لمن ذهب إليه ، فيمكن أن نقول : إنها تشبه دعوة الجفلي لا تجب الإجابة ، أما إذا علم أو غلب على الظن أن الذي أرسلت إليه مقصود بعينه ، فإنه لها حكم الدعوة بالمشافهة .
قوله : " من صنع إليكم معروفاً ، فكافئوه " . المعروف : الإحسان فمن أحسن إليك بهدية أو غيرها ، فكافئه ، فإذا أحسن إليك بإنجاز معاملة وكان عمله زائداً عن الواجب عليه ، فكافئه ، وهكذا ، ولكن إذا كان كبير الشأن ولم تجر العادة بمكافأته ، فلا يمكن أن تكافئه ، كالملك والرئيس .. مثلاً إذا أعطاك هدية ، فمثل هذا يدعي له ، لأنك لو كافآته لرأي أن في غضاً من حقه فتكون مسيئاً له ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن تكافئه لإحسانه.
وللمكافأة فائدتان :
تشجيع ذوي المعروف على فعل المعروف .(11/255)
إن الإنسان يكسر بها الذل حصل له بصنع المعروف إليه ، لأن من صنع إليك معروفاً فلابد أن يكون في نفسك رقة له ، فإذا رددت إليه معروفه زال عنك ذلك ، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " اليد العليا خير من اليد السفلي " (1)، واليد العليا هي يد المعطي ،وهذه فائدة عظيمة لمن صنع له معروف ، لئلا يري لأحد عليه منة إلا الله عز وجل ، لكن بعض الناس يكون كريماً جداً ، فإذا كافآته بدل هديته أكثر مما أعطيته ، فهذا لا يريد مكافأة ، ولكن يدعي له ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " فإن لم تجدوا ما تكافئونه ، فادعوا له " ، وكذلك الفقير إذا لم يجد مكافأة الغني ، فإنه يدعو له .
ويكون الدعاء بعد الإهداء مباشرة ، لأنه من باب المسارعة إلى أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولأن به سرور صانع المعروف .
قوله : " حتى تروا أنكم قد كافأتموه " . " تروا " ، بفتح التاء بمعني تعلموا ، وتجوز بالضم بمعني تظنوا ، أي : حتى تعلموا أو يغلب على ظنكم أنكم قد كافأتموه ، ثم أمسكوا .
فيه مسائل :
الأولى : إعاذة من استعاذ بالله . الثانية : إعطاء من سأل بالله . الثالثة : إجابة الدعوة . الرابعة : المكافأة على الصنيعة . الخامسة : أن الدعاء مكافأة لمن لا يقدر إلا عليه . السادسة : قوله : " حتى تروا أنكم قد كافأتموه " .
فيه مسائل :
الأولى : إعاذة من استعاذ بالله . وسبق أن من استعاذ بالله وجبت إعاذته ، إلا يستعيذ عن شيء واجب فعلاً أو تركاً ، فإنه لا يعاذ .
الثانية : إعطاء من سأل بالله . وسبق التفصيل فيه .
الثالثة : إجابة الدعوة . وسبق كذلك التفصيل فيها .
الرابعة : المكافأة على الصنيعة . أي : على صنيعة من صنع إليك معروفاً ، وسبق التفصيل في ذلك .
__________
(1) البخاري : كتاب الزكاة / باب لا صدقة إلا عن ظهر غني ، ومسلم : كتاب الزكاة / باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلي .(11/256)
الخامسة : أن الدعاء مكافأة لمن لا يقدر إلا عليه . وسبق أنه مكافأة في ذلك ، وفيما إذا كان الصانع لا يكافا مثله عادة .
السادسة : قوله : " حتى تروا أنكم قد كافأتموه " . أي : أنه لا يقصر في الدعاء ، بل يدعو له حتى يعلم أو يغلب على أظنه أنه قد كافأه.
وفيه مسائل أخري ، لكن ما ذكره المؤلف هو المقصود .
***
باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة
عن جابر، قال : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" لا يسأل بوجه الله إلا الجنة ". رواه أبو داود (1).
مناسبة هذا الباب للتوحيد : أن فيه تعظيم وجه الله عز وجل ، بحيث لا يسأل به إلا الجنة .
قوله : " لا يسأل بوجه الله إلا الجنة . اختلف في المراد بذلك على قولين :
القول الأول : أن المراد : لا تسألوا أحداً من المخلوقين بوجه الله ، فإذا أردت أن تسأل أحداً من المخلوقين ، فلا تسأله بوجه الله ، لأنه لا يسأل بوجه الله إلا الجنة والخلق لا يقدرون على إعطاء الجنة فإذاً لا يسألون بوجه الله مطلقاً ، ويظهر أن المؤلف يرى هذا الرأي في شرح الحديث ، ولذلك ذكره بعد " باب لا يرد من سأل بالله " .
القول الثاني : أنك إذا سألت الله ، فإن سألت الجنة وما يستلزم دخلولها ، فلا حرج أن تسأل بوجه الله ، وإن سألت من أمور الدنيا ، فلا تسأله بوجه الله ، لأن وجه الله أعظم من أن يسأل به لشيء من أمور الدنيا .
فأمور الآخرة تسأل بوجه الله ، كقولك مثلاً : أسألك بوجهك أن تنجيني من النار ، والنار والنبي - صلى الله عليه وسلم - استعاذ بوجه الله لما نزل قوله تعالى : { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم } ، قال : أعوذ بوجهك ، { أو من تحت أرجلكم } ، قال أعوذ بوجهك ، { أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض } [ الأنعام : 65] ، قال : هذه أهون أو أيسر " (2).
__________
(1) أبو داود : كتاب الزكاة / باب كراهية المسألة بوجه الله .
(2) البخاري : كتاب التفسير / باب { قل هو القادر .. }(11/257)
ولو قيل : إنه يشمل المعنيين جميعاً ، لكان له وجه .
وقوله : " بوجه الله " . فيه إثبات الوجه لله عز وجل ، وهو ثابت بالقرآن والسنة وإجماع السلف ، فالقرآن في قوله تعالى : { كل شيء هالك إلا وجهه } [ القصص : 88] ، وقوله تعالى : { والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم } [ الرعد : 22] ، والآيات كثيرة .
والسنة كما في الحديث السابق : " أعوذ بوجهك " .
واختلف في هذا الوجه الذي أضافه الله إلى نفسه : هل هو وجه حقيقي ، أو أنه وجه يعبر به عن الذات وليس لله وجه بل له ذات ، أو أنه يعبر به عن الشيء الذي يراد به وجهه وليس هو الوجه الحقيقي ، أو أنه يعبر به عن الجهة ، أو أنه يعبر به عن الثواب ؟
فيه خلاف ، لكن هدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، فقالوا : إنه وجه حقيقي ، لأن الله تعالى قال : { ويبقي وجه ربك ذو الجلال والإكرام } [ الرحمن : 27] ، ولما أراد غير ذاته ، قال : { تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام } [الرحمن : 78] ، فـ { ذي } صفة لرب وليست صفة لاسم ، و { ذو } صفة لوجه وليست صفة لرب ، فإذا كان الوجه موصوفاً بالجلال والإكرام ، فلا يمكن أن يراد به الثواب أو الجهة أو الذات وحدها ، لأن الوجه غير الذات .
وقال أهل التعطيل : إن الوجه عبارة عن الذات أو الجهة أو الثواب ، قالوا : ولو أثبتنا لله وجهاً حقيقاً للزم أن يكون جسماً ، والأجسام متماثلة ، ويلزم من ذلك إثبات المثل لله عز وجل والله تعالى يقول ليس كمثله شيء، وإثبات المثل تكذيب للقرآن ، وأنتم يا أهل السنة تقولون : إن من اعتقد أن لله مثيلاً فيما يختص به فهو كافر ، فنقول لهم :(11/258)
أولاً : ما تعنون بالجسم الذي فررتم منه ، أتعنون به المركب من عظام وأعصاب ولحم ودم بحيث يفتقر كل جزء منه إلى الآخر ؟ إ، أردتم ذلك ، فنحن نوافقكم أن الله ليس على هذا الوجه ولا يمكن أن يكون كذلك ، وإن أردتم بالجسم الذات الحقيقية المتصفة بصفات الكمال فلا محذور في ذلك والله تعالى وصف نفسه بأنه أحد صمد ، قال تعالى : { قل هو الله أحد * الله الصمد } [ الإخلاص : 1-2] ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : الصمد : الذي لا جوف له (1).
ثانياً : قولكم : إن الأجسام متماثلة قضية من أكذب القضايا ، فهل جسم الدب مثل جسم النملة ؟ فبينهما تباين عظيم في الحجم والرقة واللين وغير ذلك . فإذا بطلت هذه الحجة بطلت النتيجة وهي استلزام مماثلة الله لخلقه .
ونحن نشاهد البشر لا يتفقون في الوجوه ، فلا تجد اثنين متماثلين من كل وجه ولو كانا توأمين ، بل قالوا : إن عروق الرجل واليد غير متماثلة من شخص إلى آخر .
ويلاحظ أن التعبير بنفي المماثلة أولي من التعبير بنفي المشابهة ، لأنه اللفظ الذي جاء به القرآن ، ولأنه ما من شيئين موجودين إلا ويشتبهان من وجه ويفترقان من وجه آخر ، فنفي مطلق المشابهة لا يصح ، وقد تقدم .
__________
(1) ابن جرير ( 30/742).(11/259)
وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله خلق آدم على صورته"(1) ووجه الله لا يماثل أوجه المخلوقين فيجاب عنه بأنه لا يراد به صورة تماثل صورة الرب عز وجل بإجماع المسلمين والعقلاء ، لأن الله عز وجل وسع كرسيه السماوات والأرض ، والسماوات والأرضون كلها بالنسبة للكرسي موضع القدمين كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض ، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة ، فما ظنك برب العالمين ؟ فلا أحد يحيط به وصفاً ولا تخييلاً ، ومن هذا وصفه لا يمكن أن يكون على صورة آدم ستون ذراعاً ، وإنما يراد به أحد معنيين :
الأول : أن الله خلق آدم على صورة اختارها وجعلها أحسن صورة في الوجه ، وعلي هذا ، فلا ينبغي أن يقبح أو يضرب لأنه لما أضافه إلى نفسه اقتضي من الإكرام ما لا ينبغي معه أن يقبح أو أن يضرب .
الثاني : أن الله خلق آدم على صورة الله عز وجل ولا يلزم من ذلك المماثلة بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر ، ثم الذين يلونهم على أضوء كوكب في السماء " (2)، ولا يلزم أن يكون على صورة نفس القمر ، لأن القمر أكبر من أهل الجنة ، وأهل الجنة يدخلونها طول أحدهم ستون ذراعاً ، وعرضه سبعة أذرع كما في بعض الأحاديث .
وقال بعض أهل العلم : على صورته ، أي : صورة آدم ، أي : أن الله خلق آدم أول أمره على هذه الصورة ، وليس كبنيه يتدرج في الإنشاء نطفة ثم علقة ثم مضغة .
لكن الإمام أحمد رحمه الله أنكر هذا التأويل ، وقال : هذا تأويل الجهنمية ، ولأنه يفقد الحديث معناه ، وأيضاً يعارضه اللفظ الآخر المفسر للضمير وهو بلفظ : " علي صورة الرحمن " .
__________
(1) البخاري: كتاب بدأ الخلق باب ما جاء في صفة الجنة، ومسلم كتاب الجنة ونعيمها/ باب أول زمرة تدخل الجنة.
(2) البخاري : كتاب الاستئذان / باب بدء السلام ، ومسلم : كتاب البر /باب النهي عن ضرب الوجه .(11/260)
فيه مسائل :
الأولى : النهي عن أن يسأل بوجه الله إلا غاية المطالب . الثانية : إثبات صفة الوجه.
فيه مسائل :
الأولى : النهي عن أن يسأل بوجه الله إلا غاية المطالب .
تؤخذ من حديث الباب ، وهذا الحديث ضعفه بعض أهل العلم ، لكن على تقدير صحته ، فإنه من الأدب أن لا تسأل بوجه الله إلا ما كان من أمر الآخرة : الفوز بالجنة ، أو النجاة من النار .
الثانية : إثبات صفة الوجه . وقد سبق الكلام عليه .
***
باب ما جاء في الـ (لو )
قوله : في " اللو " .
دخلت " آل " على " لو" وهي لا تدخل إلا على الأسماء ، قال ابن مالك :
بالجر والتنوين والندا وال ... ... ... ومسند للأسماء تمييز حصل
لأن المقصود بها اللفظ ، أي : باب ما جاء في هذا اللفظ .
والمؤلف رحمه الله جعل الترجمة مفتوحة ولم يجزم بشيء ، لأن " لو" تستعمل على عدة أوجه :
الوجه الأول : أن تستعمل في الأعتراض على الشرع ، وهذا محرم ، قال الله تعالى : { لو أطاعونا ما قتلوا } [ آل عمران : 168] في غزوة أحد حينما تخلف أثناء الطريق عبد الله بن أبي في نحو ثلث الجيش ، فلما استشهد من المسلمين سبعون رجلاً اعترض المنافقون على تشريع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وقالوا : لو أطاعونا ورجعوا كما رجعنا ما قتلوا ، فرأينا خير من شرع محمد ، وهذا محرم وقد يصل إلى الكفر .
الثاني : أن تستعمل في الاعتراض على القدر ، وهذا محرم أيضاً ، قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزي لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا } [ آل عمران : 156] ، أي : لو أنهم بقوا ما قتلوا ، فهم يعترضون على قدر الله .(11/261)
الثالث : أن تستعمل للندم والتحسر ، وهذا محرم أيضاً ، لأن كل شيء يفتح الندم عليك فإنه منهي عنه ، لأن الندم يكسب النفس حزناً وانقباضاً ، والله يريد منا أن نكون في انشراح وانبساط ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز ، وإن أصابك شيء ، فلا تقل : لو أني فعلت كذا لكان كذا ، فإن لو تفتح عمل الشيطان " (1).
مثال ذلك : رجل حرص أن يشتري شيئاً يظن أن فيه ربحاً فخسر ، فقال لو أني ما اشتريته ما حصل لي خسارة ، فهذا ندم وتحسر ، ويقع كثيراً ، وقد نهي عنه.
الرابع : أن تستعمل في الاحتجاج بالقدر علي المعصية ، كقول المشركين : { لو شاء الله ما أشركنا } [ الأنعام : 148] ، وقولهم : { لو شاء الرحمن ما عبدناهم } [ الزخرف : 20] ، وهذا باطل .
الخامس : أن تستعمل في التمني ، وحكمه حسب التمني : إن كان خيراً فخير ، وإن كان شراً فشر ، وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة النفر الأربعة قال أحدهم : " لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان ، فهذا تمني خيراً ، وقال الثاني : " لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان " فهذا تمنى شراً فقال النبي صلى الله عليه وسلم في الأول فهو بنيته فأجرهما سواء، وقال في الثاني : " فهو بنيته ، فوزرهما سواء " (2).
السادس : أن تستعمل في الخبر المحض .
وهذا جائز ، مثل : لو حضرت الدرس لاستفدت ، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ، لأحللت معكم " (3)، فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لو علم أن هذا الأمر سيكون من الصحابة ما ساق الهدي ولأحل ، وهذا هو الظاهر لي .
__________
(1) يأتي (ص 952).
(2) الإمام أحمد (4/230،231)
(3) البخاري : كتاب التمني / باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت "، ومسلم : كتاب الحج / باب بيان وجوه الإحرام .(11/262)
وبعضهم قال : إنه من باب التمني ، كأنه قال : ليتني استقبلت من أمري ما استدبرت حتى لا أسوق الهدي .
لكن الظاهر : أنه خبر لما رأي من أصحابه ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتمني شيئاً قدر الله خلافه .
وقوله الله تعالى : { يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا } [ آل عمران : 154] .
وقوله : { الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا } [ آل عمران : 168] .
وقد ذكر المؤلف في هذا الباب آيتين :
الآية الأولى قوله تعالى : { يقولون } . الضمير للمنافقين .
قوله : { ما قتلنا } . أي : ما قتل بعضنا ، لأنهم لم يقتلوا كلهم ، ولأن المقتول لا يقول .
قوله : { لو كان لنا من الأمر } . { لو } : شرطية وفعل الشرط : { كان } ، وجوابه : { ما قتلنا } ، ولم يقترن الجواب باللام ، لأن الأفصح إذا كان الجواب منفياً عدم الاقتران ، فقولك : لو جاء زيد ما جاء عمرو أفصح من قولك : لو جاء زيد لما جاء عمرو ، وقد ورد قليلاً اقترانها مع النفي ، كقول الشاعر :
ولو نعطي الخيار لما افترقنا ... ... ولكن لا خيار مع الليالي
قوله : { ها هنا } . أي : في أحد .
قوله : { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } . هذا رد عليهم ، فلا يمكن أن يتخلفوا عما أراد الله بهم . وقولهم : { لو كان لنا من الأمر شيء } . هذا من الاعتراض على الشرع ، لأنهم عتبوا على الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث خرج بدون موافقتهم ، ويمكن أن يكون اعتراضاً على القدر أيضاً : أي لو كان لنا من حسن التدبير والرأي شيء ما خرجنا فنقتل .
قوله : { وقعدوا } . الواو إما أن تكون عاطفة والجملة معطوفة على { قالوا } ، ويكون وصف هؤلاء بأمرين :
بالاعتراض على القدر بقولهم : { لو أطاعونا ما قتلوا } .(11/263)
وبالجبن عن تنفيذ الشرع " الجهاد " بقولهم : { وقعدوا } ، أو تكون الواو للحال والجملة حالية على تقدير " قد " ، أي : والحال أنهم قد قعدوا ، ففيه توبيخ لهم حيث قالوا مع قعودهم ، ولو كان فيهم خير لخرجوا مع الناس ،لكن فيهم الاعتراض على المؤمنين وعلى قضاء الله وقدره .
قوله : { لإخوانهم } . قيل : في النسب لا في الدين ، وقيل : في الدين ظاهراً ، لأن المنافقين يتظاهرون بالإسلام ، ولو قيل : إنه شامل للأمرين ، لكان صحيحاً .
قوله : { لو أطاعونا ما قتلوا } . هذا غير صحيح ، ولهذا رد الله عليهم بقوله : { قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين } ، وإن كنتم قاعدين ، فلا تستطيعون أيضاً أن تدرؤوا عن أنفسكم الموت .
فهذه الآية والتي مثلها تدل على أن الإنسان محكوم بقدر الله كما أنه يجب أن يكون محكوماً بشرع الله .
مناسبة الباب للتوحيد .
أن من جملة أقسام (لو) الاعتراض على القدر ، ومن اعترض على القدر ، فإنه لم يرض بالله رباً ، ومن لم يرض بالله رباً ، فإنه لم يحقق توحيد الربوبية .
والواجب أن ترضي بالله رباً ، ولا يمكن أن تستريح إلا إذا رضيت بالله رباً تمام الرضا ، وكأن لك أجنحة تميل بها حيث مال القدر ، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - : " عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن : إن أصابته سراء شكر ،فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر ، فكان خيراً له " (1)، ومهما كان ، فالأمر سيكون على ما كان ، فلو خرجت مثلاً في سفر ثم أصبت في حادث ، فلا تقل : لو أني ما خرجت في السفر ما أصبت ،لأن هذا مقدر لابد منه .
__________
(1) مسلم : كتاب الزهد / باب المؤمن أمره كله خير .(11/264)
وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي اله عنه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " احرص على ما ينفعك واستعن بالله ، ولا تعجزن ، وإن أصابك شيء ،فلا تقل : لو أني فعلت كذا ، لكان كذا وكذا ، ولكن قل : قدَّر الله وما شاء فعل ، فإن (لو تفتح عمل الشيطان ) (1).
قوله : " وفي الصحيح " . أي : صحيح مسلم ، وانظر ما سبق في : باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله ( ص 146).
والمؤلف رحمه الله حذف منه جملة ، وأتي بما هو مناسب للباب ، والمحذوف قوله : " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير " .
قوله : " القوي " . أي : في إيمانه وما يقتضيه إيمانه ، ففي إيمانه ، يعني : ما يحل في قلبه من اليقين الصادق الذي لا يعتريه شك ، وفيما يقتضيه ، يعني : العمل الصالح من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحزم في العبادات وما أشبه ذلك .
وهل يدخل في ذلك قوة البدن ؟
الجواب : لا يدخل في ذلك قوة البدن إلا إذا كان في قوة بدنه ما يزيد إيمانه أو يزيد ما يقتضيه ، لأن " القوي " وصف عائد على موصوف وهو المؤمن ، فالمراد : القوي في إيمانه أو ما يقتضيه ، ولا شك أن قوة البدن نعمة ، إن استعملت في الخير فخير ، وإن استعملت في الشر فشر .
قوله : " خير وأحب إلى الله " . خير في تأثيره وآثاره ، فهو ينفع ويقتدي به ، وأحب إلى الله باعتبار الثواب .
قوله : " من المؤمن الضعيف " . وذلك في الإيمان أو فيما يقتضيه لا في قوة البدن .
قوله : " وفي كل خير " . أي : في كل من القوي والضعيف خير ، وهذا النوع من التذييل يسمي عند البلاغيين بالاحتراس حتى لا يظن أنه لا خير في الضعيف .
فإن قيل : إن الخيرية معلومة في قوله : " خير وأحب " ، لأن الأصل في اسم التفضيل اتفاق المفضل والمفضل عليه في أصل الوصف ؟
__________
(1) مسلم : كتاب القدر / باب في الأمر بالقوة وترك العجز .(11/265)
فالجواب : أنه قد يخرج عن الأصل ،كما في قوله تعالى : { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً } [ الفرقان 24] مع أن أهل النار لا خير في مستقرهم .
كذلك الإنسان إذا سمع هذه الجملة : " خير وأحب " صار في نفسه انتقاص للمؤمن المفضل عليه ، فإذا قيل : " وفي كل خير " رفع من شأنه ، ونظيره قوله تعالى : { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى } [ الحديد : 10] .
قوله : " احرص على ما ينفعك " . الحرص : بذلك الجهد لنيل ما ينفع من أمر الدين أو الدنيا .
وأفعال العباد بحسب السبر والتقسيم لا تخلو من أربع حالات :
نافعة ، وهذه مأمور بها .
ضارة ، وهذه محذر منها .
فيها نفع وضرر .
لا نفع فيها ولا ضرر ، وهذه لا يتعلق بها أمر ولا نهي ، لكن الغالب أن لا تقع إلا وسيلة إلى ما فيه أمر أو نهي ، فتأخذ حكم الغاية ، لأن الوسائل لها أحكام المقاصد.
فالأمر لا يخلو من نفع أو ضرر ، إما لذاته أو لغيره ، فحديثنا العام قد لا يكون فيه نفع ولا ضرر ، لكن قد يتكلم الإنسان ويتحدث لأجل إدخال السرور على غيره فيكون نفعاً ، ولا يمكن أن تجد شيئاً من الأمور والحوادث ليس فيها نفع ولا ضرر ، إما ذاتي ، أو عارض إنما ذكرناه لأجل تمام السير والتقسيم .
والعاقل يشح بوقته أن يصرفه فيما لا نفع فيه ولا ضرر ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليقل خيراً أو ليصمت " (1).
واتصال هذه الجملة بما قبلها ظاهر جداً ، لأن من القوة الحرص على ما ينفع .
__________
(1) البخاري : كتاب الأدب / باب إكرام الضيف ، ومسلم : كتاب الإيمان / باب الحث على إكرام الجار .(11/266)
و" ما " : اسم موصول بفعل (ينفع) ، والاسم الموصول يحول بصلته إلى اسم الفاعل ، كأنه قال : احرص على النافع ، وإنما قلت ذلك لأجل أن أقول : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرنا بالحرص على النافع ، ومعناه أن نقدم الأنفع على النافع ، لأن الأنفع مشتمل على أصل النفع وعلى الزيادة ، وهذه الزيادة لابد أن نحرص عليها ، لأن الحكم إذا علق بوصف كان تأكد ذلك الحكم بحسب ما يشتمل عليه تأكد ذلك الوصف ، فإذا قلت : أنا أكره الفاسقين كان كل من كان أشد في الفسق إليك أكره ، فنقدم على النافع لوجهين :
أنه مشتمل على النفع وزيادة .
أن الحكم إذا علق بوصف كان تأكد ذلك الحكم بحسب تأكد ذلك الوصف وقوته .
ويؤخذ من الحديث وجود الابتعاد عن الضار ، لأن الابتعاد عنه انتفاع وسلامة لقوله : " احرص على ما ينفعك " .
قوله : " واستعن بالله " . الواو تقتضي الجمع فتكون الاستعانة مقرونه بالحرص ، والحرص سابق على الفعل ، فلابد أن تكون الاستعانة مقارنة للفعل من أوله .
والاستعانة : طلب العون بلسان المقال ، كقولك : اللهم أعني ، أو : لا حول ولا قوة إلا بالله " عند شروعك بالفعل .
أو بلسان الحال ، وهي أن تشعر بقلبك أنك محتاج إلى ربك عز وجل أن يعينك على هذا الفعل ، وأنه إن وكلك إلى نفسك وكلك إلى ضعف وعجز وعورة .
أو طلب العون بهما جميعاً ، والغالب أن من استعان بلسان المقال ، فقد استعان بلسان الحال .
ولو احتاج الإنسان إلى الاستعانة بالمخلوق كحمل صندوق مثلاً ، فهذا جائز ولكن لا تشعر نفسك أنها كاستعانتك بالخالق ، وإنما عليك أن تشعر أنها كمعونة بعض أعضائك لبعض ، كما لو عجزت عن حمل شيء بيد واحدة ، فإنك تستعين على حمله باليد الأخري ، وعلي هذا ، فالاستعانة بالمخلوق فيما يقدر عليه كالاستعانة ببعض أعضائك ، فلا تنافي قوله - صلى الله عليه وسلم - : " استعن بالله " .(11/267)
قوله : " ولا تعجزن " . فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الخفيفة ، و" لا " : ناهية ، والمعني : لا تفعل فعل العاجز من التكاسل وعدم الحزم والعزيمة ، وليس المعني : لا يصيبك عجز ، لأن العجز عن الشيء غير التعاجز ، فالعجز بغير اختيار الإنسان ، ولا طاقة له به ، فلا يتوجه عليه نهي ، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " صل قائماً ، فإن لم تستطع ، فقاعداً ، فإن لم تستطع ، فعلي جنب " (1).
فإذا اجتمع الحرص وعدم التكاسل ، اجتمع في هذا صدق النية بالحرص والعزيمة بعدم التكاسل .
لأن بعض الناس يحرص على ما ينفعه ويشرع فيه ، ثم يتعاجز ويتكاسل ويدعه ، وهذا خلاف ما أمر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فما دمت عرفت أن هذا نافع ، فلا تدع ، لأنك إذا عجَّزت نفسَك خسرت العمل الذي عملت ثم عودت نفسك التكاسل والتدني من حال النشاط والقوة إلى حال العجز والكسل ، وكم من إنسان بدأ العمل ولا سيما النافع ثم أتاه الشيطان فثبطه ؟ !
لكن إذا ظهر في أثناء العمل أنه ضار ، فيجب عليه الرجوع عنه ، لأن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل .
وذكر في ترجمة الكسائي أنه بدأ في طلب علم النحو ثم صعب عليه ، فوجد نملة تحمل طعاماً تريد أن تصعد به حائطاً ، كلما صعدت قليلاً سقطت ، وهكذا حتى صعدت ، فأخذ درساً من ذلك ، فكابد حتى صار إماماً في النحو .
قوله : " إن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا " .
هذه هي المرتبة الرابعة مما ذكر في هذا الحديث العظيم إذا حصل خلاف المقصود .
فالمرتبة الأولى : الحرص علي ما ينفع .
والمرتبة الثانية : الاستعانة بالله .
والمرتبة الثالثة : المضي في الأمر والاستمرار فيه وعدم التعاجز وهذه المراتب إليك .
__________
(1) البخاري : كتاب تقصير الصلاة / باب إذا لم يطق قاعداً صلي على جنب .(11/268)
المرتبة الرابعة : إذا حصل خلاف المقصود ، فهذه ليست إليك ، وإنما هي بقدر الله ، ولهذا قال : " وإن أصابك .. " ، ففوض الأمر إلى الله تعالى .
قوله : " وإن أصابك شيء " . أي : مما تحبه ولا تريده ومما يعوقك عن الوصول إلى مرامك فيما شرعت فيه من نفع .
فمن خالفه القدر ولم يأت على مطلوبه لا يخلو من حالين :
الأول : أن يقول : لو لم أفعل ما حصل كذا .
الثاني : أن يقول : لو فعلت كذا لأمر لم يفعله لكان كذا .
مثال الأول قول القائل : لو لم أسافر ما فاتني الربح .
وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الثاني دون الأول ، لأن هذا الإنسان عامل فاعل ، فهو يقول : لو أني فعلت الفعل الفلاني دون هذا الفعل لحصلت مطلوبي ، بخلاف الإنسان الذي لم يفعل وكان موقفه سلبياً من الأعمال .
قوله : " كذا " ، كناية عن مبهم ، وهي مفعول لفعلت . قوله : " لكان كذا " . فاعل كان ، والجملة جواب لو .
قوله : " قدر الله " . خبر لمبتداً محذوف ، أي : هذا قدر الله .
وقدر بمعني مقدور ، لأن قدر الله يطلق على التقدير الذي هو فعل الله ، ويطلق علي المقدور الذي وقع بتقدير الله ، وهو المراد هنا ، لأن القائل يتحدث عن شيء وقع عليه ، فقدر الله أي مقدوره ، ولا مقدر إلا بتقدير ، لأن المفعول نتيجة الفعل .
والمعني : إن هذا الذي وقع قدر الله يطلق على التقدير الذي هو فعل الله ، ويطلق على المقدور الذي وقع بتقدير الله ، وهو المراد هنا ، لأن القائل يتحدث عن شيء وقع عليه ، فقدر الله أي مقدوره ، ولا مقدر إلا بتقدير ، لأن المفعول نتيجة الفعل .
المعني : إن هذا الذي وقع قدر الله وليس إلى ، أما الذي إلى فقد بذلت ما أراه نافعاً كما أمرت ، وهذا فيه التسليم التام لقضاء الله عز وجل ، وأن الإنسان إذا فعل ما أمر به على الوجه الشرعي ، فإنه لا يلام على شيء ويفوض الأمر إلى الله .(11/269)
قوله : " وما شاء فعل " . جملة مصدرة بـ " ما " الشرطية ، و" شاء : فعل الشرط وجوابه : " فعل " ، أي : ما شاء الله أن يفعله فعله، لأن الله لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه ، قال تعالى : { والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب } [ الرعد : 41] ، وقد سبق ذكر قاعدة ، وهي أن كل فعل لله تعالى معلق بالمشيئة ، فإنه مقرون بالحكمة ، وليس شيء من فعله معلقاً بالمشيئة المجردة ، لأن الله لا يشرع ولا يفعل إلا الحكمة ، وبهذا التقرير نفهم أن المشيئة يلزم منها وقوع المشاء ، ولهذا كان المسلمون يقولون : ما شاء الله كان ومالم يشأ لم يكن .
وأما الإرادة ووقوع المراد ، ففيه تفصيل :
فالإرادة الشرعية لا يلزم منها وقوع المراد ، وهي التي بمعني المحبة ، قال تعالى : { والله يريد أن يتوب عليكم } [ النساء : 27] بمعني يحب ، ولو كانت بمعني يشاء لتاب الله علي جميع الناس .
والإدارة الكونية يلزم منها وقوع المراد ، كما قال الله تعالى : { ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد } [ البقرة : 253] .
قوله : " فإن لو تفتح عمل الشيطان " . " لو" اسم إن قصد لفظها ، أي : فإن هذا اللفظ يفتح عمل الشيطان .(11/270)
وعمله : ما يلقيه في قلب الإنسان من الحسرة والندم والحزن ، فإن الشيطان يحب ذلك ، قال تعالى : { إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس يضارهم شيئاً إلا بإذن الله } [ المجادلة : 10] ، حتى في المنام يريه أحلاماً مخيفة ليعكر عليه صفوه ويشوش فكره ، وحينئذ لا يتفرغ للعبادة على ما ينبغي ، ولهذا نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة حال تشوش الفكر ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " لا صلاة بحضرة طعام ، ولا وهو يدافعه الأخبثان " (1)، فإذا رضي الإنسان بالله رباً ، وقال : هذا قضاء الله وقدره ، وأنه لابد أن يقع ، أطمأنت نفسه وانشرح صدره ويستفاد من الحديث :
إثبات المحبة لله عز وجل ، لقوله : " خير وأحب " .
اختلاف الناس في قوة الإيمان وضعفه ، لقوله : " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف " .
زيادة الإيمان ونقصانه ، لأن القوة زيادة والضعف نقص ، وهذا هو القول الصحيح الذي عليه عامة أهل السنة .
وقال بعض أهل السنة : يزيد ولا ينقص ، لأن النقص لم يرد في القرآن ، قال تعالى : { ويزداد الذين آمنوا إيماناً } [ المدثر : 31] وقال تعالى : { ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم } [ الفتح : 4] .
والراجح القول الأول ، لأنه مع لازم ثبوت الزيادة ثبوت النقص عن الزائد ، وعلي هذا يكون القرآن دالاً على ثبوت نقص الإيمان بطريق اللزوم ، كما أن السنة جاءت به صريحة في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ما رأيت ما ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن " (2)، يعني : النساء .
__________
(1) مسلم : كتاب المساجد / باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام .
(2) البخاري : كتاب الحيض / باب ترك الحائض للصوم ، ومسلم : كتاب الإيمان / باب نقصان الإيمان .(11/271)
والإيمان يزيد بالكمية والكيفية ، فزيادة الأعمال الظاهرة زيادة كمية ، وزيادة الأعمال الباطنة كاليقين زيادة كيفية ، ولهذا قال إبراهيم عليه السلام : { رب أرني كيف تحيي الموتي قال أو لم تؤمن قال بلي ولكن ليطمئن قلبي [ البقرة 260] .
والإنسان إذا أخبره ثقة بخبر ، ثم جاء آخر فأخبره نفس الخبر ، زاد يقينه ، ولهذا قال أهل العلم : إن المتواتر يفيد العلم اليقيني ، وهذا دليل على تفاوت القلوب بالتصديق ، وأما الأعمال ، فظاهر ، فمن صلي أربع ركعات أزيد ممن صلي ركعتين .
أن المؤمن وإن ضعف إيمانه فيه خير ، لقوله : " وفي كل خير" .
أن الشريعة جاءت بتكميل المصالح وتحقيقها ، لقوله : " أحرص على ما ينفعك " ، فإذا امتثل المؤمن أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فهو عبادة وإن كان ذلك النافع أمراً دنيوياً.
أنه لا ينبغي للعاقل أن يمضي جهده فيما لا ينفع ، لقوله : " احرص على ما ينفعك " .
أنه ينبغي للإنسان الصبر والمصابرة ، لقوله : " ولا تعجزن " .
أن ما لا قدرة للإنسان فيه فله أن يحتج عليه بالقدر ، لقوله : " ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل " . وأما الذي يمكنك ، فليس لك أن تحتج بالقدر . وأما محاجة آدم وموسى حيث لام موسى آدم عليهما الصلاة والسلام ، وقال له : " لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة ؟ فقال : أتلومني على شيء قد كتبه الله على" (1)، فهذا احتجاج بالقدر .
فالقدرية الذين ينكرون القدر يكذبون القدر يكذبون هذا الحديث ، لأن من عادة أهل البدع أن ما خالف بدعتهم إن أمكن تكذيبه كذبوه ، وإلا حرفوه ، ولكن هذا الحديث ثابت في " الصحيحين " وغيرهما .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : إن هذا من باب الاحتجاج بالقدر على المصائب لا على المعائب ، فموسى لم يحتج على آدم بالمعصية التي هي سبب الخروج بل احتج بالخروج نفسه .
__________
(1) البخاري : كتاب القدر / باب تحاج آدم وموسى ، ومسلم : كتاب القدر / باب حجاج آدم وموسى .(11/272)
معناه أن فعلك صار سبباً لخروجنا ، وإلا فإن موسى عليه الصلاة والسلام أبعد من أن يلوم أباه على ذنب تاب منه واجتبا ربه وهداه ، وهذا ينطبق على الحديث .
وذهب ابن القيم رحمة الله إلى وجه آخر في تخريج هذا الحديث ، وهو أن آدم احتج بالقدر بعد أن مضي وتاب من فعله ، وليس كحال الذين يحتجون على أن يبقوا في المعصية ويستمروا عليها ، فالمشركون لما قالوا : { لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا } [ الأنعام : 148] كذبهم الله ، لأنهم لا يحتجون على شيء مضي ويقولون : تبنا إلى الله ، ولكن يحتجون علي البقاء في الشرك .
أن للشيطان تأثيراً على بني آدم ، لقوله : " فإن لو تفتح عمل الشيطان " ، وهذا لا شك فيه ، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجري الدم " (1).
فقال بعض أهل العلم : إن هذا يعني الوساوس التي يلقيها في القلب فتجري في العروق .
وظاهر الحديث : أن الشيطان نفسه يجري من ابن آدم مجري الدم ، وهذا ليس بيعيد على قدرة الله عز وجل ، كما أن الروح تجري مجري الدم ، وهي جسم ، إذا قبضت تكفن وتحنط وتصعد بها الملائكة إلى السماء .
ومن نعمة الله أن الشيطان ما يضاده ، وهي لمة الملك ، فإن للشيطان في قلب ابن آدم لمة وللملك لمة ، ومن وفق غلبت عنده لمة الملك لمة الشيطان ، فهما دائماً يتصارعان نفس مطمئنة ونفس أمارة بالسوء ، وأما النفس اللوامة فهي وصف للنفسين جميعاً .
10.حسن تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قرن النهي عن قول " لو " ببيان علته ، لتتبين حكمة الشريعة ، ويزداد المؤمن إيماناً وامتثالاً .
فيه مسائل :
__________
(1) البخاري : كتاب الاعتكاف /باب زيارة المرأة زوجها في اعتكافه ، ومسلم : كتاب السلام / باب أنه يستحب لمن رؤي خالياً بامرأة .(11/273)
الأولى : تفسير الآيتين في آل عمران . الثانية : النهي الصريح عن قوله : (لو) ، إذا أصابك شيء : الثالثة : تعليل المسألة بأن ذلك يفتح عمل الشيطان . الرابعة : الإرشاد إلى الكلام الحسن . الخامسة : الأمر بالحرص على ما ينفع مع الاستعانة بالله . السادسة : النهي عن ضد ذلك ، وهو العجز .
الأولى : تفسير الآيتين في آل عمران . وهما :
الأولى : { الذين قالوا لأخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا } .
الثانية : { يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا } ، أي : ما أخرجنا وما قتلنا ، ولكن الله تعالى : أبطل ذلك بقوله : { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } ، والآية الأخري : { لو أطاعونا ما قتلوا } ، فأبطل الله دعواهم هذه بقوله : { فادرؤوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين } ، أي : أن كنتم صادقين في البقاء وأن عدم الخروج مانع من القتل ، فادرؤوا عن أنفسكم الموت ، فإنهم لن يسلموا من الموت ، بل لابد أن يموتوا ، ولكن لو أطاعوهم وتركوا الجهاد ، لكانوا على ضلال مبين.
الثانية : النهي الصريح عن قول " لو" إذا أصابك شيء . لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " فإن أصابك شيء ، فلا تقل : لو أني فعلت كذا لكان كذا " .
الثالثة : تعليل المسألة بأن ذلك يفتح عمل الشيطان . فالنهي عن قول " لو" علتها أنها تفتح عمل الشيطان وهو الوسوسة ، فيتحسر الإنسان بذلك ويندم ويحزن .
الرابعة : الإرشاد إلى الكلام الحسن . ويعني قوله : " ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل " .
الخامسة : الأمر بالحرص على ما ينفع مع الاستعانة بالله ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " احرص على ما ينفعك واستعن بالله ".(11/274)
السادسة : النهي عن ضد ذلك ، وهو العجز . لقوله : " ولا تعجزن " ، فإن قال قائل : العجز ليس باختيار الإنسان ، فالإنسان قد يصاب بمرض فيعجز ، فكيف نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أمر لا قدرة للإنسان عليه ؟
أجيب : بأن المقصود بالعجز هنا التهاون والكسل عن فعل الشيء ، لأنه هو الذي في مقدور الإنسان .
***
باب النهي عن سب الريح
المؤلف رحمه الله أطلق النهي ولم يفصح :هل المراد به التحريم أو الكراهية ، وسيتبين إن شاء الله من الحديث .
قوله : " الريح " . الهواء الذي يصرفه الله عز وجل ، وجمعه رياح .
وأصولها أربعة : الشمال ، والجنوب ، والشرق ، والغرب ، وما بينهما يسمي النكباء ، لأنها ناكبة عن الاستقامة في الشمال ، أو الجنوب ، أو الشرق ، أو الغرب .
وتصريفها من آيات الله عز وجل ، فأحياناً تكون شديدة تقلع الأشجار وتهدم البيوت وتدفن الزروع ويحصل معها فيضانات عظيمة ، وأحياناً تكون هادئة ، وأحياناً تكون باردة ، وأحياناً حارة ، وأحياناً عالية ، وأحياناً نازلة ، كل هذا بقضاء الله وقدره ، ولو أن الخلق اجتمعوا كلهم على أن يصرفوا الريح عن جهتها التي جعلها الله عليه ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً ، ولو أجتمعت جميع المكائن العالمية النفاثة لتوجد هذه الريح الشديدة ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً ، ولكن الله عز وجل بقدرته يصرفها كيف يشاء وعلي ما يريد ، فهل يحق للمسلم أن يسب هذه الريح ؟
الجواب : لا ، لأن هذه الريح مسخرة مدبرة ، وكما أن الشمس أحياناً تضر بإحراقها بعض الأشجار ، ومع ذلك لا يجوز لأحد أن يسبها ، فكذلك الريح ، ولهذا قال : " لا تسبوا الريح " .(11/275)
عن أبي بن كعب رضي الله عنه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا تسبوا الريح ، فإذا رأيتم ما تكرهون ، فقولوا : اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به ، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به " صححه الترمذي (1).
قوله : " لا تسبوا الريح " . " لا " ناهية ، والفعل مجزوم بحذف النون ، والواو فاعل ، والريح مفعول به .
والسب : الشتم ، والعيب ، والقدح ، واللعن ، وما أشبه ذلك ، وإنما نهي عن سبها لأن سب المخلوق سب لخالقه فلو وجدت قصراً مبنيّا وفيه عيب فسببته، فهذا السب ينصب على من بناه ، وكذلك سب الريح ، لأنها مدبرة مسخرة على ما تقتضيه حكمة الله عز وجل .
ولكن إذا كانت الريح مزعجة ، فقد أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ما يقال حينئذ في قوله : " ولكن قولوا : اللهم إنا نسألك .. ألخ " .
قوله : " من خير هذه الريح " . الريح نفسها فيها خير وشر ، فقد تكون عاصفة تقلع الأشجار وتهدم الديار وتفيض البحار والأنهار ، وقد تكون هادئة تبرد الجو وتكسب النشاط .
قوله : " وخير ما فيها " . أي : ما تحمله ، لأنها قد تحمل خيراً ، كتلقيح الثمار ، وقد تحمل رائحة طيبة الشم ، وقد تحمل شراً ، كإزالة لقاح الثمار ، وأمراض تضر الإنسان والبهائم .
قوله : " وخير ما أمرت به " . مثل إثارة السحاب وسوقه إلى حيث شاء الله .
قوله : " ونعوذ بك " . أي : نعتصم ونلجأ .
قوله : " من شر هذه الريح " . أي : شرها بنفسها ، كقلع الأشجار ، ودفن الزروع ، وهدم البيوت .
قوله : " وشر ما فيها " . أي : ما تحمله من الأشياء الضارة ، كالأنتان ، والقاذورات ، والأوبئة وغيرها .
__________
(1) الإمام أحمد في " المسند " ( 5/123) . والترمذي : كتاب الفتن / باب ما جاء في النهي عن سب الريح .(11/276)
قوله : " وشر ما أمرت به " . كالإهلاك والتدمير ، قال تعالى في ريح عاد : { تدمر كل شيء بأمر ربها } [ الأحقاف : 25] ، وتيبيس الأرض من الأمطار ، ودفن الرز وع ، وطمس الآثار والطرق ، فقد تؤمر بشر لحكمة بالغة قد نعجز عن إدراكها .
وقوله : " ما أمرت به " هذا الأمر حقيقي ، أي : يأمرها الله أن تهب ويأمرها أن تتوقف ، وكل شيء من المخلوقات فيه إدراك بالنسبة إلى أمر الله ، قال الله تعالى للأرض والسماء : { ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين } [ فصلت : 11] ، وقال للقلم : " أكتب . قال : ربي وماذا أكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة " (1)
فيه مسائل :
الأولى : النهي عن سب الريح الثانية : الإرشاد إلى الكلام النافع إذا رأي الإنسان ما يكره . الثالثة : الإرشاد إلى أنها مأمورة . الرابعة : أنها قد تومر بخير وقد تؤمر بشر .
فيه مسائل :
الأولى : النهي عن سب الريح . وهذا للتحريم ، لأن سبها سب لمن خلقها وأرسلها .
الثانية : الإرشاد إلى الكلام النافع إذا رأي الإنسان ما يكره . أي : منها ، وهو أن يقول : " اللهم إني أسألك من خيرها .. " الحديث ، مع فعل الأسباب الحسية أيضاً ، كالاتقاء من شرها بالجدران أو الجبال ونحوها .
الثالثة : الإرشاد إلى أنها مأمورة . لقوله : " ما أمرت به " .
الرابعة : أنها قد تؤمر بخير وقد تؤمر بشر . لقوله : " خير ما أمرت به ، وشر ما أمرت به " .
والحاصل : أنه يجب على الإنسان أن لا يعترض على قضاء الله وقدره ، وأن لا يسبه ، وأن يكون مستسلماً لأمره الكوني كما يجب أن يكون مستسلماً لأمره الشرعي ، لأن هذه المخلوقات لاتملك أن تفعل شيئاً إلا بأمر الله سبحانه وتعالى .
***
باب قول الله تعالى :
{ يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله } الآية [ أل عمران : 154]
ذكر المؤلف في هذا الباب آيتين :
__________
(1) يأتي تخريجه (ص 1006).(11/277)
الأولى قوله تعالى : { يظنون } . الضمير يعود على المنافقين ، والأصل في الظن : أنه الاحتمال الراجح ، وقد يطلق علي اليقين ، كما في قوله تعالى { الذين يطنون أنهم ملاقوا ربهم } [ البقرة : 46] ، أي : يتيقنون ، وضد الراجح المرجوح ، ويسمي وهما .
قوله : { ظن الجاهلية } . عطف بيان لقوله : { غير الحق } ، و { الجاهلية } : الحال الجاهلية : والمعني : يظنون بالله ظن الملة الجاهلية التي لا يعرف الظان فيها قدر الله وعظمته ، فهو ظن باطل مبني على الجهل .
والظن بالله عز وجل على نوعين :
الأول : أن يظن بالله خيراً .
الثاني : أن يظن بالله شراً
والأول له متعلقان :
متعلق بالنسبة لما يفعله في هذا الكون ، فهذا يجب عليك أن تحسن الظن بالله عز وجل فيما يفعله سبحانه وتعالى في هذا الكون ، وأن تعتقد أن ما فعله إنما هو لحكمة بالغة قد تصل العقول إليها وقد لا تصل وبهذا يتبين عظمة الله وحكمته في تقديره ، فلا يظن أن الله إذا فعل شيئاً في الكون فعله لإرادة سيئة ، حتى الحوادث والنكبات لم يحدثها الله لإرادة السوء المتعلق بفعله ، أما التعلق بغيره بأن يحدث ما يريد به أن يسوء هذا الغير ، فهذا واقع ، كما قال تعالى : { قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوء أو أراد بكم رحمه } [ الأحزاب : 17] .
متعلق بالنسبة لما يفعله بك ، فهذا يجب أن تظن بالله أحسن الظن ، لكن بشرط أن يوجد لديك السبب الذي يوجب الظن الحسن ، وهو أن تعبد الله على مقتضى شريعته مع الإخلاص ، فإذا فعلت ذلك ، فعليك أن تظن أن الله يقبل منك ولا تسيء الظن بالله بأن تعتقد أنه لن يقبل منك ، وكذلك إذا تاب الإنسان من الذنب ، فيحسن الظن بالله أنه يقبل منه ، ولا يسيء الظن بالله بأن يعتقد أنه لا يقبل منه .(11/278)
وأما إن كان الإنسان مفرطاً في الواجبات فاعلاً للمحرمات ، وظن بالله ظناً حسناً ، فهذا هو ظن المتهاون المتهالك في الأماني الباطلة ، بل هو من سوء الظن بالله ، إذ إن حكمة الله تأبي مثل ذلك .
النوع الثاني : وهو أن يظن بالله سوءً ، مثل أن يظن في فعله سفها أو ظلماً أو نحو ذلك ، فإنه من أعظم المحرمات وأقبح الذنوب ، كما ظن هؤلاء المنافقون وغيرهم ممن يظن بالله غير الحق .
قوله : { يقولون هل لنا من الأمر من شيء } . مرادهم بذلك أمران :
الأول : رفع اللوم عن أنفسهم .
الثاني : الاعتراض على القدر .
وقوله : { لنا } خبر مقدم .
وقوله : { من شيء } : مبتدأ مؤخر مرفوع بالضمة المقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد .
قوله : { إن الأمر كله الله } . أي : فإذا كان كذلك ، فلا وجه لاحتجاجكم على قضاء الله وقدره فالله – عز وجل يفعل ما يشاء من النصر والخذلان .
وقوله : { إن الأمر } واحد الأمور لا واحد الأوامر ، أي : الشأن كل الشأن الذي يتعلق بأفعال الله وأفعال المخلوقين كله لله سبحانه ، فهو الذي يقدر الذل والعز والخير والشر ، لكن الشر في مفعولاته لا في فعله .
قوله : { يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك } . أي : ما لا يظهرون لك ، فمن شأن المنافقين عدم الصراحة والصدق ، فيخفي في نفسه مالا يبديه لغيره ، لأنه يري من جبنه وخوفه أنه لو أخبر بالحق لكان فيه هلاكه ، فهو يخفي الكفر والفسوق والعصيان .
قوله : { ما قتلنا ها هنا } . أي : في أحد ، والمراد بمن " قتل " : من استشهد من المسلمين في أحد ، لأن عبد الله بن أبي رجع بنحو ثلث الجيش في غزوة أحد ، وقال : إن محمداً يعصيني ويطيع الصغار والشبان .
قوله : { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } . هذا رد لقولهم : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا.(11/279)
وهذا الاحتجاج لا حقيقة له ، لأنه إذا كتب القتل على أحد ، لم ينفعه تحصنه في بيته ، بل لابد أن يخرج إلى مكان موته ، والكتابة قسمان :
1 . كتابة شرعيه ، وهذا لا يلزم منها وقوع المكتوب ، مثل قوله تعالى : { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً } [النساء : 103] ، وقوله : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام } [ البقرة : 183] .
2. كتابة كونية ، وهذه يلزم منها وقوع المكتوب كما في هذه الآية ، ومثل قوله تعالى : { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } [ الأنبياء : 105] وقوله { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } [ المجادلة : 21] .
قوله : { وليبتلي الله ما في صدوركم } . أي : يختبر ما في صدوركم من الإيمان بقضاء الله وقدره والإيمان بحكمته . فيختبر ما في قلب العبد بما يقدره عليه من الأمور المكروهة ، حتى يتبين من استسلم لقضاء الله وقدره وحكمته ممن لم يكن كذلك.
قوله : { وليمحص ما في قلوبكم } . أي إذا حصل الابتلاء فقوبل بالصبر ، صار في ذلك تمحيص لما في القلب ، أي : تطهير له وإزالة لما يكون قد علق به من بعض الأمور التي لا تنبغي .
وقد حصل الابتلاء والتمحيص في غزوة أحد بدليل أن الصحابة لما ندبهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - (1)حين قيل له : { أن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم } [ آل عمران : 172] خرجوا إلى حمراء الأسد ولم يجدوا غزوا فرجعوا ، { فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم } [ آل عمران : 174] .
__________
(1) البخاري كتاب المغازي باب الذي استجابوا لله والرسول. مسلم: كتاب فضائل الصحابة/ باب فضائل طلحة والزبير وأما خروجهم إلى حمراء الأسد فأخرجه ابن كثير في تفسير 1/337 وصححه ابن حجر في الفتح 8/228.(11/280)
قوله : { والله عليم بذات الصدور } جملة خبرية فيها إثبات أن الله عليم بذات الصدور ، والمراد بها القلوب ، كما قال تعالى : { فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } [ الحج : 146] ، فالله لا يخفي عليه شيء فيعلم ما في قلب العبد وما ليس في قلبه متي يكون وكيف يكون .
وقوله : { الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء } الآية : [ الفتح : 6] .
الآية الثانية قوله تعالى : { الظانين بالله ظن السوء } . المراد بهم : المنافقون والمشركون ، قال تعالى : { ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله طن السوء } [ الفتح : 6 ] ، أي : ظن العيب ، وهو كقوله فيما سبق : { ظن الجاهلية } [ آل عمران : 154] .
ومنه ما نقله المؤلف عن ابن القيم رحمهما الله : أنهم يظنون أن أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - سيضمحل ، وأنه لا يمكن أن يعود ، وما أشبه ذلك .
قوله : { عليهم دائرة السوء } . أي : أن السوء محيط بهم جميعاً من كل جانب كما تحيط الدائرة بما في جوفها وكذلك تدور عليهم دوائر السوء ، فهم وإن ظنوا أنه تعالى تخلي عن رسوله وأن أمره سيضمحل ، فإن الواقع خلاف ظنهم ، ودائرة السوء راجعة عليهم .
قوله : { وغضب الله عليهم } . الغضب من صفات الله الفعلية التي تتعلق بمشيئته ويترتب عليها الانتقام ، وأهل التعطيل قالوا : إن الله لا يغضب حقيقة :
فمنهم من قال المراد بغضبه الانتقام .
ومنهم من قال : المراد إرادة الانتقام : قالوا : لأن الغضب غليان دم القلب لطب الانتقام ، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " إنه جمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم (1).
__________
(1) الإمام أحمد في " المسند " (3/61).(11/281)
فيجاب عن ذلك : بأن هذا هو غضب الإنسان ، ولا يلزم من التوافق في اللفظ التوافق في المثلية والكيفية ، قال تعالى : { ليس كمثله شيء } [ الشوري : 11] ، ويدل على أن الغضب ليس هو الانتقام قوله تعالى { فلما آسفونا انتقمنا منهم } [الزخرف : 55] . فـ { آسفونا } : بمعني أغضوبا { انتقمنا منهم } ، فجعل الانتقام مرتباً على الغضب ، فدل على أنه غيره .
وقوله : { ولعنهم } . اللعن : الطرد والإبعاد عن رحمة الله .
قوله : { وأعد لهم جهنم } . أي هيأها لهم وجعلها سكناً لهم ومستقراً .
قوله : { وساءت مصيراً } . أي : مرجعاً يصار إليه .
و { مصيراً } : تمييز ، والفاعل مستتر ، أي : ساءت النار مصيراً يصيرون إليه .
قال ابن القيم في الآية الأولى : " فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله ، وأن أمره سيضمحل ، وفسر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته .
ففسر بإنكار الحكمة وإنكار القدر وإنكار أن يُتِمَّ أمرَ رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن يظهره على الدين كله ، وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح
وأنما كان هذا ظن السوء ، لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق .
فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق ، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره ، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد ، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة ، فذلك ظن الذين كفروا ، فويل للذين كفروا من النار .
وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم ، وفيما يفعله بغيرهم ، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده .
فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا ، وليتب إلى الله ، وليستغفره من ظنه بربه ظن السوء .(11/282)
ولو فتشت من فتشت ، لرأيت عنده تعنتاً على القدر وملامة له ، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا ، فمستقل ومستكثر ، وفتش نفسك ، هل أنت سالم ؟
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ... ... وإلا فإني لا إخالك ناجياً
قوله : " قال ابن القيم " . هو محمد ابن قيم الجوزية ، أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيميه الكبار الملازمين له رحمهما الله ، وقد ذكره في " زاد المعاد " عقيب غزوة أحد تحت بحث الحكم والغايات المحمودة التي كانت فيها .
قوله : " في الآية الأولى " . يعني قوله { يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية } ، فسر بأن الله لا ينصر رسوله ، وأن أمره سيضمحل ، أي : يزول ، وفسر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته ، يؤخذ هذا التفسير من قولهم .
{ لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا } ، ففسر بإنكار الحكمة ، وإنكار القدر ، وإنكار أن يتم أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن يظهره الله على الدين كله .
ففسر بما يكون طعناً في الربوبية وطعناً في الأسماء والصفات ، فالطعن في القدر طعن في ربوبيتة الله عز وجل ، لأن من تمام ربو بيته عز وجل أن نؤمن بأن كل ما جري في الكون فإنه بقضاء الله وقدره ، والطعن في الأسماء والصفات تضمنه الطعن في أفعاله وحكمته ، حيث ظننا أن الله تعالى لا ينصر رسوله وسوف يضمحل أمره ، لأنه إذا ظن الإنسان هذا الظن بالله ، فمعني ذلك أن إرسال الرسول عليه الصلاة والسلام عبث وسفه ، فما الفائدة من أن يُرسَل رسولاً ويؤمر بالقتال وإتلاف الأموال والأنفس ، ثم تكون النتيجة أن يضمحل أمره وينسي ؟ فهذا بعيد .
ولا سيما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي هو خاتم النبيين ، فإن الله تعالى قد أذن بأن شريعته سوف تبقي إلى يوم القيامة .
قال ابن القيم رحمه الله : " وهذا هو ظن السوء الذي يظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح " .
وخلاصة ما ذكر ابن القيم في تفسير ظن السوء ثلاثة أمور :(11/283)
الأول : أن يظن أن الله يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق ، فهذا هو ظن المشركين والمنافقين في سورة الفتح ، قال تعالى : { بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً } [ الفتح : 12] .
الثاني : أن ينكر أن يكون ما جري بقضاء الله وقدره ، ، لأنه يتضمن أن يكون في ملكه سبحانه ما لا يريد ، مع أن كل ما يكون في ملكه فهو بإرادته .
الثالث : أن ينكر أن يكون قدره لحكمه بالغة يستحق عليها الحمد ، لأن هذا يتضمن أن تكون تقديراته لعباً وسفهاً ، ونحن نعلم علم اليقين أن الله لا يقدر شيئاً أو يشرعه إلا لحكمة ، قد تكون معلومة لنا وقد تقصر عقولنا عن إدراكها ، ولهذا يختلف الناس في علل الأحكام الشرعية اختلافاً كبيراً بحسب ما عندهم من معرفة حكمة الله سبحانه وتعالى .
ورأي الجهمية والجبرية أن الله يقدر الأشياء لمجرد المشيئة لا لحكمة ، قالو : لأنه لا يسأل عما يفعل ، وهذا من أعظم سوء الظن بالله ، لأن المخلوق إذا تصرف لغير حكمة سمي سفيهاً ، فما بالك بالخالق الحكيم ؟ !
قال تعالى : { وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا } [ ص : 27] ، فالظن بأنها خلقت باطلاً لا لحكمة عظيمة ظن الذين كفروا ، وقال تعالى : { وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين * ما خلقناهما إلا بالحق } [ الدخان : 38-39] الذي هو الباطل ، وهؤلاء قالوا : إن الله تعالى خلقهما باطلاً لغير حكمة ، قال الله : { ذلك ظن الذين كفروا } ، أي : الذين يظنون أن الله خلقهما باطلاً وعبثاً وسفهاً ولعباً .
والمعتزلة على العكس من ذلك ، يقولون : لا يقدر إلا لحكمة ، ويفرضون على الله ما يشاؤون ، وقد ذكر صاحب " مختصر التحرير" الفتوحي رحمه الله : أن في المسألة قولين في المذهب .
ولكن الصوب بلا ريب أنه لا يفعل شيئاً ولا يقدر على عبده ولا يشرع شيئاً إلا لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد والشكر .(11/284)
قوله : { فويل للذين كفروا من النار } [ ص : 27] . { ويل } : مبتدأ ، وساغ الابتداء بالنكرة : للتعظيم ، وخبر المبتدأ : { للذين كفروا } ، والجار والمجرور { من النار } بيان لويل ، وفي هذا دليل على أن كلمه { ويل } كلمة وعيد وليست كما قيل : واد في جهنم ، ولهذا نقول : ويل لك من البرد ، ويل لك من فلان ، ويقول المتوجع : ويلاه ، وإن كان قد يوجد واد في جهنم اسمه ويل ، لكن ويل في مثل هذه الآية كلمة وعيد .
قوله : " وأكثر الناس " . أي : من بني آدم لا من المؤمنين يظنون بالله ظن السوء ، أي : العيب فيما يختص بهم ، كما إذا دعوا الله على الوجه المشروع يظنون أن الله لا يجيبهم ، أو إذا تعبدوا الله بمقتضى شريعته يظنون أن الله لا يقبل منهم ، وهذا ظن السوء فيما يختص بهم .
قوله : " فيما يفعله بغيرهم " . كما إذا رأوا أن الكفار انتصروا على المسلمين بمعركة من المعارك ظنوا أن الله يديل هؤلاء الكفار على المسلمين دائماً ، فالواجب على المسلم أن يحسن الظن بالله مع وجود الأسباب التي تقضتي ذلك .
قوله : " ولا يسلم من ذلك " . أي : من الظن السوء .
قوله : " إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده " . صدق رحمه الله ، لا يسلم من ظن السوء إلا من عرف الله عز وجل وما له من الحكم والأسرار فيما يقدره ويشرعه ، وكذلك عرف أسماءه وصفاته معرفة حقة لا معرفه تحريف وتأويل .(11/285)
ولهذا حجب المحرفون والمؤولون عن معرفة أسماء الله وصفاته ، فتجد قلوبهم مظلمة غالباً ، تحاول أن تورد الإشكالات والتشكيك والجدل ، أما من أبقي أسماء الله وصفاته على ما دلت عليه وسلك في ذلك مذهب السلف ، فإن قلبه لا يَرِدُ عليه مثل هذه الاعتراضات التي ترد على قلوب أولئك المحرفين ، لأن المحرفين إنما أتوا من جهة ظنهم بالله ظن السوء ، حيث ظنوا أن الكتاب والسنة دلَّ ظاهرهما على التمثيل والتشبيه ، فأخذوا يحرفون الكلم عن مواضعه وينكرون ما أثبت الله لنفسه ، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية : إن كل معطل ممثل ، وكل ممثل معطل .
أما كون كل معطل ممثلاً ، فلأنه إنما عطل لكونه ظن أن دلالة الكتاب والسنة تقتضي التمثيل ، فلما ظن هذا الظن السيئ بنصوص الكتاب والسنة أخذ يحرفها ويصرفها عن ظاهرها ، فمثل أولاً ، وعطل ثانياً ، ثم أنه إذا عطل صفات الله تعالى خوفاً من تشبيهه بالموجود ، فقد شبهه بالمعدوم ، وأما كون كل ممثل معطلاً ، فلأن الممثل عطل الله تعالى من كماله الواجب حيث مثله بالمخلوق الناقص ، وعطل كل نص يدل على نفي مماثلة الخالق للمخلوق .
وعلي هذا ، فالذي عرف أسماء الله وصفاته معرفة على ما جري عليه سلف هذه الأمة وأئمتها ، وعرف موجب حكمة الله ، أي : مقتضى حكمة الله ، لا يمكن أن يظن بالله ظن السوء .
وقوله : " موجب " . موجب ، بالفتح : هو المسبب الناتج عن السبب بمعني المقتضي ، وبالكسر : السبب الذي يقتضي الشيء بمعني المقتضي ، والمراد هنا الأول .(11/286)
فالذي يعرف موجب حكمة الله وما تقتضيه الحكمة ، فإنه لا يمكن أن يظن بالله ظن السوء أبداً ، ولاحظ الحكمة التي حصلت للمسلمين في هزيمتهم في حنين وفي هزيمتهم في أحد ، فإن في ذلك حكماً عظيمة ذكرها الله في سورة آل عمران والتوبة ، فهذه الحكم إذا عرفها الإنسان لا يمكن أن يظن بالله ظن السوء ، وأنه أراد أن يخذل رسوله وحزبه ، بل كل ما يجريه الله في الكون ، كمنع الإنبات والفقر ، فهو لحكمة بالغة قد لا نعلمها ، ولا يمكن أن يظن أن الله بخل على عباده ، لأنه عز وجل أكرم الأكرمين ، وعلي هذا فقس .
قوله : " اللبيب " . على وزن فعيل ، ومعناه : ذو اللب ، وهو العقل .
قوله : " بهذا " . المشار إليه هو الظن بالله عز وجل ، ليعتني بهذا حتى يظن بالله ظن الحق ، لا ظن السوء وظن الجاهلية .
قوله : " وليتب إلى الله " . أي يرجع إليه ، لأن التوبة الرجوع من المعصية إلى الطاعة .
قوله : " وليستغفره " . أي : يطلب منه المغفرة ، واللام في قوله : " فليتب " وقوله : " وليستغفره " للأمر .
قوله : " تعنتاً على القدر وملامة له " . أي : إذا قدر الله شيئاً لا يلائمة تجده يقول : ينبغي أن ننتصر ، ينبغي أن يأتي المطر ، ينبغي أن لا نصاب بالحوائج ، وأن يوسع لنا في هذا الرزق وهكذا .
قوله : " فمستقل ومستكثر " . " مستقل " : مبتدأ ، خبره محذوف . و" مستكثر " : مبتدأ خبره محذوف ، والتقدير : فمن الناس مستقل ومنهم مستكثر" : مبتدأ خبره محذوف ، والتقدير : فمن الناس مستقل ومنهم مستكثر ، ونظير ذلك قوله تعالى : { فمنهم شقي وسعيد } [ هود ، 105] ، فـ { سعيد } مبتدأ خبره محذوف تقديره : ومنهم سعيد ، ولا يقال بأن { سعيد } معطوف على شقي ، لكونه يلزم أن يكون الوصفان لموصوف واحد .(11/287)
قوله : " وفتش نفسك : هل أنت سالم " . وهذا ينبغي أن يكون في جميع المسائل مما أوجبه الله ، فتش عن نفسك : هل أنت سالم من التقصير فيه ؟ ومما حرمه الله عليك : هل أنت سالم من الوقوع فيه ؟
قوله : " فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة " . " تنج " الأول فعل الشرط مجزوم بحذف الواو ، " تنج " الثانية جوابه مجزوم بحذف الواو .
وقوله : " من ذي عظيمة " . أي : من ذي بلية عظيمة .
قوله : " وإلا ، فإني لا إخالك ناجياً " . التقدير ، أي : وإلا تنج من هذه البلية ، فإني لا إخالك ناجياً .
ومعني إخالك : أظنك ، وهي تنصب مفعولين : الأول هنا الكاف ، والثاني ناجياً .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية آل عمران : الثانية : تفسير آية الفتح . الثالثة : الإخبار بأن ذلك أنواع لا تحصر . الرابعة : أنه لا يسلم من ذلك إلا من عرف الأسماء والصفات وعرف نفسه .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية آل عمران . وهي قوله تعالى : { يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية .. } وقد سبق ، والضمير فيها للمنافقين .
الثانية : تفسير آية الفتح . وهي قوله تعالى : { الظانين بالله ظن السوء .. } ، وقد سبق ، والضمير فيها للمنافقين .
الثالثة : الإخبار بأن ذلك أنواع لا تحصر . أي : ظن السوء والذي أخبر بذلك ابن القيم رحمة الله ، وضابط هذه الأنواع أن يظن بالله ما لا يليق به .
الرابعة : أنه لا يسلم من ذلك إلا من عرف الأسماء والصفات وعرف نفسه . أي : لا يسلم من ظن السوء بالله إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده وعرف نفسه ففتش عنها ، والحقيقة أن الإنسان هو محل النقص والسوء ، وأما الرب ، فهو محل الكمال المطلق الذي لا يعتريه نقص بوجه من الوجوه .
ولا تظنن بربك ظن سَوء ... ... ... فإن الله أولي بالجميل
مناسبة الباب للتوحيد :(11/288)
إن ظن السوء ينافي كمال التوحيد ، وينافي الإيمان بالأسماء والصفات ، لأن الله قال في الأسماء : { ولله الأسماء الحسني فادعوه بها } [ الأعراف : 180] ، فإذا ظن بالله ظن السوء ، لم تكن الأسماء حسني ، وقال في الصفات : { ولله المثل الأعلى } [ النحل : 60] ، وإذا ظن بالله ظن السوء ، لم يكن له المثل الأعلى .
***
باب ما جاء في منكري القدر
قوله : " منكري " . أصله منكرين جمع مذكر سالم فحذفت النون للإضافة كما يحذف التنوين أيضاً ، قال الشاعر :
كأني تنوين وأنت إضافة ... ... ... فأين تراني لا تحل جوارحي
وقيل : ( مكاني ) بدل ( جواري ) .
قوله : " القدر " . هو تقدير الله عز وجل للكائنات ، وهو سر مكتوم لا يعلمه إلا الله أو من شاء من خلقه .
قال بعض أهل العلم : القدر سر الله عز وجل في خلقه ، ولا نعلمه إلا بعد وقوعه سواء كان خيراً أو شراً .
والقدر يطلق على معنيين .
الأول : التقدير ، أي : إرادة الله الشيء عز وجل .
الثاني : المقدر ، أي : ما قدره الله عز وجل .
والتقدير يكون مصاحباً للفعل وسابقاً له ، فالمصاحب للفعل هو الذي يكون به الفعل ، والسابق هو الذي قدره الله عز وجل في الأزل ، مثال ذلك :
خلق الجنين في بطن الأم فيه تقدير سابق علمي قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وفيه تقدير مقارن للخلق والتكوين ، وهذا الذي يكون به الفعل ، أي : تقدير الله لهذا الشيء عند خلقه .
والإيمان بالقدر يتعلق بتوحيد الربوبية خصوصاً ، وله تعلق بتوحيد الأسماء والصفات ، لأنه من صفات الكمال لله عز وجل .
والناس في القدر ثلاث طوائف :(11/289)
الأولى : الجبرية الجهمية ، أثبتوا قدر الله تعالى وغلوا في إثباته حتى سلبوا العبد اختياره وقدرته ، وقالوا : ليس للعبد اختيار ولا قدرة في ما يفعله أو يتركه ، فأكله وشربه ونومه ويقظته وطاعته ومعصيته كلها بغير اختيار منها ولا قدرة ، ولا فرق بين أن ينزل من السطح عبر الدرج مختاراً وبين أن يلقي من السطح مكرهاً .
الطائفة الثانية : القدرية المعتزلة ، أثبتوا للعبد اختيارا وقدرة في عمله وغلوا في ذلك حتى نفوا أن يكون لله تعالى في عمل العبد مشيئة أو خلق ، ونفي غلاتهم علم الله به قبل وقوعه ، فأكل العبد وشربه ونومه ويقظته وطاعته ومعصيته كلها واقعة باختياره التام وقدرته التامة وليس لله تعالى في ذلك مشيئة ولا خلق ، بل ولا علم قبل وقوعه عند غلاتهم .
استدل الأولون الجبرية :
بقوله تعالى : { الله خالق كل شيء } [ الزمر : 62] ، والعبد وفعله من الأشياء ، وبقوله تعالى : { والله خلقكم وما تعملون } [ الصافات : 96] ، وبقوله تعالى : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } [ الأنفال : 17] ، فنفي الله الرمي عن نبيه حين رمي وأثبته لنفسه ، وبقوله تعالى : { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا و لا آباؤنا ولا حرمنا من شيء } [ الأنعام : 148] .
ولهم شبه أخري تركناها خوف الإطالة .
والرد على شبهاتهم بما يلي .
أما قوله تعالى : { الله خالق كل شيء } فاستدلالهم بها معارض بالنصوص الكثيرة التي فيها إثبات إرادة العبد وإضافة عمله إليه وإنابته عليه كرامة أو إهانة ، وكلها من عند الله ، ولو كان مجبراً عليها ما كان لإضافة عمله إليه وإثابته عليه فائدة .
وأما قوله تعالى : { والله خلقكم وما تعملون } ، فهو حجة عليهم ، لأنه أضاف العمل إليهم ، وأما كون الله تعالى خالقه ، فلأن عمل العبد حاصل بإرادته الجازمة وقدرته التامة ، والإرادة والقدرة مخلوقان لله عز وجل فكان الحاصل بهما مخلوقاً لله.(11/290)
وأما قوله تعالى : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } ، فهو حجة عليهم ، لأن الله تعالى أضاف الرمي إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، لكن الرمي في الآية له معنيان :
أحدهما : حذف المرمي ، وهو فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أضافه الله إليه .
والثاني : إيصال المرمي إلى أعين الكفار الذين رماهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتراب يوم بدر فأصاب عين كل واحد منهم ، وهذا من فعل الله ، إذ ليس بمقدور النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يوصل التراب إلى عين كل واحد منهم .
وأما قوله تعالى : { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء } ، فلعمر الله ، إنه الحجة على هؤلاء الجبرية ، فقد أبطل الله تعالى حجة هؤلاء المشركين الذي احتجوا بالقدر على شركهم حين قال في الآية نفسها : { كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا } ، وما كان الله ليذيقهم بأسه وهم على حق فيما احتجوا به .
ثم نقول : القول بالجبر باطل بالكتاب والسنة والعقل والحس وإجماع السلف ، ولا يقول به من قدر الله حق قدره وعرف مقتضى حكمته ورحمته .
فمن أدلة الكتاب :
قوله تعالى : { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة } [ آل عمران : 152] ، وقال تعالى : { يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم } [ آل عمران : 167] ، وقال : { إنه خبير بما تفعلون } [ النمل : 88] ، وقال : { والله خبير بما تعملون } [ المنافقون : 11] ، فأثبت للعبد إرادة وقولاً وفعلاً وعملاً .(11/291)
ومن أدلة السنة : قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امريء ما نوي (1)، وقوله : " ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به ، فأتوا منه ما أستطعتم " (2).
ولهذا إذا أكره المرء على قول أو فعل وقلبه مطمئن بخلاف ما أكره عليه ، لم يكن لقوله أو فعله الذي أكره عليه حكم فاعله اختياراً .
وأما إجماع السلف على بطلان القول بالجبر : فلم ينقل عن أحد منهم أنه قال به ، بل رد من أدرك منهم بدعته موروث معلوم .
وأما دلالة العقل على بطلانه : فلأنه لو كان العبد مجبراً على عمله ، لكانت عقوبة العاصي ظلماً ومثوبة الطائع عبثاً ، والله تعالى منزه عن هذا وهذا ، ولأنه لو كان العبد مجبراً على عمله لم تقم الحجة بإرسال الرسل ، لأن القدر باق مع إرسال الرسل ، وما كان الله ليقيم على العباد حجة مع انتفاء كونها حجة
وأما دلالة الحس على بطلانه : فإن الإنسان يدرك الفرق بين ما فعله باختياره ، كأكله وشربه وقيامه وقعوده ، وبين ما فعله بغير اختياره ، كارتعاشه من البرد والخوف ونحو ذلك .
واستدل الطائفة الثانية ( القدرية ) بقوله تعالى : { منكم من يريد الدنيا } { من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها } [ فصلت : 46] ، ونحوها من النصوص القرآنية والنبوية الدالة على أن للعبد إرادة ، وأنه هو العامل الكاسب الراكع الساجد ونحو ذلك .
والرد عليهم من وجوه :
الأول : أن الآيات والأحاديث التي استدلوا بها نوعان :
__________
(1) تقدم (ص 625).
(2) البخاري : كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة / باب الاقتداء بسنن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومسلم : كتاب الفضائل /باب توقيره - صلى الله عليه وسلم - .(11/292)
نوع مقيد لإرادة العبد وعمله بأنه بمشيئة الله ، كقوله تعالى : { لمن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين } [ التكوير : 28-29] وقوله : { إن هذه تذكره فمن شاء أتخذ إلى ربه سبيلاً * وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً } [ الإنسان : 29-30] ، وكقوله تعالى : في العمل : { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن يفعل ما يريد } [ البقرة : 253] .
والنوع الثاني : مطلق ، كقوله تعالى : { فأتوا حرثكم أني شئتم } [ البقرة : 223] ، وقوله : { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } [ الكهف : 29] ، وقوله : { من كان يريد العاجلة .. } إلى قوله { ومن أراد الآخرة وسعي لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً } [ الإسراء : 18-19] .
وهذا النوع المطلق يحمل على المقيد كما هو معلوم عند أهل العلم .
الثاني : أن إثبات استقلال العبد بعمله من كونه مملوكاً لله تعالى يقتضي إثبات شيء في ملك الله لا يريده الله ، وهذا نوع إشراك به ، ولهذا سمي النبي - صلى الله عليه وسلم - : " القدرية مجوس هذه الأمة " (1).
الثالث : أن نقول لهم : هل تقرون بأن الله تعالى عالم بما سيقع من أفعال العباد ؟ فسيقول غير الغلاة منهم : نعم ، نقر بذلك فنقول : هل وقع فعلهم على وفق علم الله أو علي خلافه ؟ فإن قالوا : على وفقه ، قلنا : إذن قد أرادة ، وإن قالوا : على خلافه ، فقد أنكروا علمه ، وقد قال الأئمة رحمهم الله في القدرية : ناظروهم بالعلم ، فإن أقروا به ، خصموا ، وإن أنكروه ، كفروا .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد وأبو داود ، وهو مشهور عند أهل العلم لكن فيه ضعف .(11/293)
وهاتان الطائفتان الجبرية والقدرية ضالتان طريق الحق ، لأنهما بين مفرط غال ومفرط مقصر ، فالجبرية غلوا في إثبات القدر وقصروا في إرادة العبد وقدرته ، والقدرية غلوا في إثبات إرادة العبد وقدرته وقصروا في القدر .
ولهذا كان الأسعد بالدليل والأوفق للحكمة والتعليل هم :
الطائفة الثالثة : أهل السنة والجماعة ، الطائفة الوسط ، الذين جمعوا بين الأدلة وسلكوا في طريقهم خير ملة ، فآمنوا بقضاء الله وقدره ، وبأن للعبد اختياراً وقدرة ، فكل ما كان في الكون من حركة أو سكون أو وجود أو عدم ، فإنه كائن بعلم الله تعالى ومشيئته ، وكل ما كان في الكون فمخلوق لله تعالى ، لا خالق إلا الله ولا مدبر للخلق إلا الله عز وجل ، وآمنوا بأن للعبد مشيئة وقدرة ، لكن مشيئته مربوطة بمشيئة الله تعالى ، كما قال تعالى : { لمن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين } ، فإذا شاء العبد شيئاً وفعله ، علمنا أن مشيئة الله تعالى قد سبقت تلك المشيئة .
وهؤلاء هم الذين جمعوا بين الدليل المنقول والمعقول ، فأدلتهم على إثبات القدر هي أدلة المثبتين له من الجبرية ، لكنهم استدلوا بها على وجه العدل والجمع بينها وبين الأدلة التي استدل بها نفاه القدر .
وأدلتهم على إثبات مشيئة العبد وقدرته هي أدلة المثبتين لذلك من القدرية ، لكنهم استدلوا بها على وجه العدل والجمع بينها وبين الأدلة التي استدل بها نفاه مشيئة العبد وقدرته.
وبهذا نعرف أن كلاً من الجبرية والقدرية نظروا إلى النصوص بعين الأعور الذي لا يبصر إلا من جانب واحد ، فهدي الله أهل السنة والجماعة لما اختلف فيه من الحق بإذنه ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
حكاية :(11/294)
مما يحكي أن القاضي عبد الجبار الهمذاني المعتزلي دخل على الصاحب ابن عباد وكان معتزلياً أيضاً ، وكان عنده الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني ، فقال عبد الجبار على الفور : سبحان من تنزه عن الفحشاء ! فقال أبو إسحاق فوراً : سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء ! فقال عبد الجبار وفهم أنه قد عرف مراده : أيريد ربنا أن يعصى ؟ فقال أبو إسحاق : أيعصى ربنا قهراً ؟ فقال له عبد الجبار : أرأيت إن منعني الهدي وقضي علي بالردي ، أحسن إلى أم أساء؟
فقال له أبو إسحاق : إن كان منعك ما هو لك ، فقد أساء ، وإن كان منعك ما هو له ، فيختص برحمته من يشاء . فأنصرف الحاضرون وهم يقولون : والله ، ليس عن هذا جواب . ا. هـ .
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن أهل السنة والجماعة وسط بين فرق المبتدعة في خمسة أصول ذكرها في " العقيدة الواسطية " ، فلتراجع هناك.
مراتب القدر :
المرتبة الأولى : العلم ، وذلك بأن تؤمن بأن الله تعالى علم كل شيء جملة وتفصيلاً ، فعلم ما كان وما يكون ، فكل شيء معلوم لله ، سواء كان دقيقاً أم جليلاً من أفعاله أو أفعال خلقه .
وأدلة ذلك في الكتاب كثير ، منها : قوله تعالى : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } [ الأنعام : 59] ، فالأوراق التي تتساقط ميتة أي ورقة كانت صغيرة أو كبيرة في بر أو بحر ، فإن الله تعالى يعلمها ، والورقة التي تخلق يعلمها من باب أولي .(11/295)
ولاحظ سعة علم الله عز وجل وإحاطته ، فلو فرض أنه في ليلة مظلمة ليس فيها قمر وفيها سحاب متراكم ممطر وحبة في قاع البحر المائج العميق ، فهذه ظلمات متعددة : ظلمة الطبقة الأرضية وظلمة البحر وظلمة السحاب وظلمة المطر وظلمة الأمواج وظلمة الليل ، فكل هذا داخل في قوله تعالى : { ولا حبة في ظلمات الأرض } ، ثم جاء العموم المطلق : { ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } ، ولا كتابة إلا بعد علم . ففي هذه الآيات غثبات العلم وإثبات الكتابة.
ومنها قوله تعالى : { ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير } [الحج : 70] ، ففي الآية أيضاً إثبات العلم وإثبات الكتابة .
المرتبة الثانية : الكتابة ، وقد دلت عليها الآيتان السابقتان .
المرتبة الثالثة : المشيئة ، وهي عامة ، ما من شيء في السماوات والأرض إلا وهو كائن بإرادة الله ومشيئته ، فلا يكون في ملكه ما لا يريد أبداً ، سواء كان ذلك فيما يفعله بنفسه أو يفعله المخلوق ، قال تعالى : { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } [ يس : 82] ، وقال تعالى : { ولو شاء ربك ما فعلوه } [ الأنعام : 112] ، وقال تعالى : { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم .. } الآية [ البقرة : 253] .
المرتبة الرابعة : الخلق ، فما من شيء في السماوات ولا في الأرض إلا الله خالقه ومالكه ومدبره وذو سلطانه ، قال تعالى : { الله خالق كل شيء } [الزمر : 62] ، وهذا العموم لا مخصص له ، حتى فعل المخلوق مخلوق لله ، لأن فعل المخلوق من صفاته ، وهو صفاته مخلوقان ، ولأن فعله ناتج عن أمرين :
إرادة جازمة .
قدرة تامة .
والله هو الذي خلق في الإنسان الإرادة الجازمة والقدرة التامة ، ولهذا قيل لأعرابي : بم عرفت ربك ؟ قال : بنقض العزائم ، وصرف الهمم .
والعبد يتعلق بفعله شيئان :
خلق ، وهذا يتعلق بالله .(11/296)
مباشرة ، وهذا يتعلق بالعبد وينسب إليه ، قال تعالى : { جزاء بما كانوا يعملون } [ الواقعة : 24] ، وقال تعالى { ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون } [النحل : 32] ولولا نسبة الفعل إلى العبد ما كان للثناء على المؤمن المطيع وإثابته فائدة ، وكذلك عقوبة العاصي وتوبيخه .
وأهل السنة والجماعة يؤمنون بجميع هذه المراتب الأربع ، وقد جمعت في بيت:
علم كتابه مولانا مشيئته ... ... ... وخلقه وهو إيجاد وتكوين
وهناك تقديرات أخري نسبية :
منها : تقدير عمري : حين يبلغ الجنين في بطن أمة أربعة أشهر يرسل إليه الملك ، فينفخ فيه الروح ، ويكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد .
ومنها : التقدير الحولي ، وهو الذي يكون في ليلة القدر ، يكتب فيها ما يكون في السنة ، قال الله تعالى : { فيها يفرق كل أمر حكيم } [ الدخان : 4] .
ومنها التقدير اليومي : كما ذكره بعض أهل العلم واستدل له بقوله تعالى : { يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن } [ الرحمن : 29] ، فهو كل يوم يغني فقيراً ، ويفقر غنياً : ويوجد معدوماً ، ويعدم موجوداً ، ويبسط الرزق ويقدره ، وينشئ السحاب والمطر ، وغير ذلك .
فإن قيل هل الإيمان بالقدر ينافي ما علم بالضرورة من أن الإنسان يفعل الشيء باختياره ؟
الجواب : لا ينافيه ، لأن ما يفعله الإنسان باختياره من قدر الله ، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أقبل على الشام ، وقالوا له : إن في الشام طاعوناً يفتك بالناس ، فجمع الصحابة وشاورهم ، فقال بعضهم : نرجع . فعزم على الرجوع ، فجاء أمين هذه الأمة أبو عبيده عامر بن الجراح ، فقال : يا أمير المؤمنين ! أفراراً من قدر الله ؟ فأجاب عمر : نفر من قدر الله إلى قدر الله (1) .
__________
(1) البخاري : كتاب الطب / باب ما يذكر في الطاعون ، ومسلم : كتاب السلام / باب الطاعون والطيرة .(11/297)
يعني : أن مضينا في السفر بقدر الله ورجوعنا بقدر الله ، ثم ضرب له مثلاً قال : أرأيت لو كان لك إبل فهبطت وادياً له شعبتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة ، أليس إن رعيت الخصبة فبقدر الله ، وإن رعيت الجدبة فبقدر الله ؟
وقال أيضاً : أرايت لو رعي الجدبة وترك الخصبة ، أكنت معجِّزه ؟ قال : نعم . قال : فسر إذن . ومعني معجزه : ناسباً إياه إلى العجز .
فالإنسان وإن كان يفعل ، فإنما يفعل بقدر الله .
فإن قيل : إذا تقرر ذلك ، لزم أن يكون العاصي معذوراً بمعصيته ، لأنه عصي بقدر الله ؟
أجيب : إن احتجاج العاصي بالقدر باطل بالشرع والنظر .
أما بطلانه بالشرع : فقد قال الله تعالى : { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا لا حرمنا من شيء } [ الأنعام : 148] ، فهم قالوا هذا على سبيل الاحتجاج بالقدر على معصية الله ، فرد الله عليهم بقوله : { كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا } ، ولو كانت حجتهم صحيحة ما أذاقهم الله بأسه ، وقال تعالى : { قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون } [ الأنعام : 148] ، وهذا دليل واضح على بطلان احتجاجهم بالقدر على معصية الله ، وقال تعالى : { رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } [ النساء : 165] ، فأبطل الله الحجة على الناس بإرسال الرسل ، ولو كان القدر حجة ما انتفت بإرسال الرسل ، لأن القدر باق حتى مع إرسال الرسل ، وهذا يدل على بطلان احتجاج العاصي على معصيته بقدر الله .
وأما بطلانه بالنظر ، فنقول : لو فرض أنه نشر في جريدة ما عن وظيفة مرتبها كذا وكذا ، ووظيفة أخري أقل منها ، فإنك سوف تطلب الأعلى ، فإن لم يكن ، طلبت الأخرى ، فإذا لم يحصل له شيء منها ، فإنه يلوم نفسه على تفريطه بعدم المسارعة إليها مع أول الناس .(11/298)
وعندنا وظائف دينية الصلوات الخمس كفارة لما بينها ، وهي كنهر على باب أحدنا يغتسل منه في كل يوم خمس مرات ، وصلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ، فلماذا تترك هذه الوظائف وتحتج بالقدر وتذهب إلى الوظائف الدنيوية الرفيعة ، فكيف لا تحتج بالقدر فيما يتعلق بأمور الدنيا وتحتج به فيما يتعلق بأمور الآخرة ؟ !
مثال آخر : رجل قال : عسي ربي أن يرزقني بولد صالح عالم عابد ، وهو لم يتزوج ، فنقول : تزوج حتى يأتيك . فقال : لا ، فلا يمكن أن يأتيه الولد ، لكن إذا تزوج ، فإن الله بمشيئته قد يرزقه الولد المطلوب .
وكذلك من يسأل الله الفوز بالجنة والنجاة من النار ، ولا يعمل لذلك ، فلا يمكن أن ينجو من النار ويفوز بالجنة لأنه لم يعمل لذلك .
فبطل الاحتجاج بالقدر على معاصي الله بالأثر والنظر ، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كلمة جامعة مانعة نافعة : " ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعدة من النار" . قالوا : يا رسول الله ! أفلا ندع العمل ونتكل ؟ قال : " اعملوا ، فكل ميسر لما خلق له " (1). فالنبي صلى الله عليه وسلم أعطانا كلمة واحدة فقال اعملوا وهذا فعل أمر فكل ميسرٌ لما خلق له.
وللإيمان بالقدر فوائد عظيمة ، منها :
أنه من تمام توحيد الربوبية .
أنه يوجب صدق الاعتماد على الله عز وجل ، لأنك إذا علمت أن كل شيء بقضاء الله وقدره صدق اعتمادك على الله .
أنه يوجب للقلب الطمأنينة ، إذا علمت أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطاك لم يكن ليصيبك ، اطمأننت بما يصيبك بعد فعل الأسباب النافعة .
__________
(1) البخاري : كتاب التفسير / باب { فأما من أعطي وأتقي } ، ومسلم : كتاب القدر / باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه .(11/299)
منع إعجاب المرء بعمله إذا عمل عملاً يشكر عليه ، لأن الله هو الذي من عليه وقدره له ، قال تعالى : { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم } [ الحديد : 22-23] ، أي : فرح بطر وإعجاب بالنفس
عدم حزنه على ما أصابه ، لأنه من ربه ، فهو صادر عن رحمة وحكمة .
أن الإنسان يفعل الأسباب ، لأنه يؤمن بحكمة الله عز وجل وأنه لا يقدر الأشياء إلا مربوطة بأسبابها .
وقال ابن عمر : " والذي نفس ابن عمر بيده ، لو كان لأحدهم مثل أحد ذهباً ، ثم أنفقه في سبيل الله ، ما قبله الله منه ، حتى يؤمن بالقدر ، ثم استدل بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ، ورسله ، واليوم الأخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره " (1).
قوله : " والذي نفس ابن عمر بيده " . الصيغة هنا قسم ، جوابه : جملة " لو كان لأحدهم مثل أحد ذهباً ، ثم أنفقه في سبيل الله ، ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر "
__________
(1) مسلم : كتاب الإيمان /باب بيان الإيمان والإسلام .(11/300)
وابن عمر رضي الله عنه وعن أبيه ذكر حكمهم بالنسبة لقبول عملهم ولم يقل هم كفار ، لكن حكمه بأن إنفاقهم في سبيل الله لا يقبل يستلزم الحكم بكفرهم ، وإنما قال ابن عمر ذلك جواباً على ما نقل إليه من أن أناساً من البصرة يقولون : إن الله عز وجل لم يقدر فعل العبد وإن الأمر أنف ، وأنه لا يعلم بأفعال العبد حتى يعملها وتقع منه ، فابن عمر حكم بكفرهم اللازم من قوله : " ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر " ، والذي لا تقبل منه النفقات هو الكافر ، لقوله تعالى : { وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله } [ التوبة : 54] ، ثم استدل ابن عمر بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الإيمان : أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره " ، فتؤمن بالجميع ، فإن كفرت بواحد من هذه الستة ، فأنت كافر بالجميع لأن الإيمان كل لا يتجزأ ، كما قال تعالى : { ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً أولئك هم الكافرون حقاً } [ النساء : 150-151] .
ووجه استدلال ابن عمر : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الإيمان مبنياً على هذه الأركان الستة ، وإذا فات ركن من الأركان ، سقط البنيان ، فإذا أنكر الإنسان شيئاً واحداً من هذه الأركان الستة ، صار كافراً ، وإذا كان كافراً ، فإن الله لا يقبل منه .
قوله : " أن تؤمن بالله " . والإيمان بالله عز وجل يتضمن أربعة أمور :
الإيمان بوجوده .
وبربو بيته .
وبألوهيته .
وبأسمائه وصفاته .
فمن أنكر وجود الله ، فليس بمؤمن ، ومن أقر بوجوده وأنه رب كل شيء ، لكنه أنكر أسماءه وصفاته ، أو أنكر أن يكون مختصاً بها ، فهو غير مؤمن بالله.
قوله : " وملائكته " . والإيمان بالملائكة يتضمن أربعة أمور :
الإيمان بوجودهم .
الإيمان باسم من علمنا اسمه منهم .
الإيمان بأفعالهم .
الإيمان بصفاتهم .(11/301)
فممن علمنا صفاته جبريل عليه السلام ، علمناه على خلقته التي خلق عليها له ستمائة جناح ، قد سد الأفق ، كما أخبرنا بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا يدل على عظمته ، وأنه كبير جداً ، فهو فوق ما نتصور ، ومع ذلك يأتي أحياناً بصورة بسر فأترة مرة بصورة دحية الكلبي وأترى مرة رجل شديد سواد الشعر شديد بياض الثياب لا يري عليه أثر سفر ولا يعرفه من الصحابة أحد ، فجلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - جلسة المتعلم المتأدب (1).
قوله : " وكتبه " . أي : الكتب التي أنزلها على رسله .
والإيمان بالكتب يتضمن ما يلي :
الإيمان بأنها حق من عند الله .
تصديق أخبارها .
التزام أحكامها ما لم تنسخ ، وعلي هذا ، فلا يلزمنا أن نلتزم بأحكام الكتب السابقة ، لأنها كلها منسوخة بالقرآن ، إلا ما أقره القرآن .
وكذلك لا يلزمنا العمل بما نسخ في القرآن ، لأن القرآن فيه أشياء منسوخة .
4.الإيمان بما علمناه معيناً منها ، مثل : التوراة ، والإنجيل ، والقرآن ، والزبور ، وصحف إبراهيم وموسى .
5.الإيمان بأن كل رسول أرسله الله معه كتاب ، كما قال تعالى : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب } [ الحديد : 25] ، وقال عيسى : { إني عبد الله آتاني الكتاب } [ مريم : 30] وقال عن يحيي { يا يحيي خذ الكتاب بقوة } [ مريم : 12].
تنبيه :
الكتب التي بأيدي اليهود والنصارى اليوم قد دخلها التحريف والكتمان ، فلا يوثق بها ، والمراد بما سبق الإيمان بأصل الكتب .
قوله : " ورسله " . هم الذين أوحي الله إليهم وأرسلهم إلى الخلق ليبلغوا شريعة الله .
والإيمان بالرسل يتضمن ما يلي :
أن نؤمن بأنهم حق صادقون مصدقون .
أن نؤمن بما صح عنهم من الأخبار ، وبما ثبت عنهم من الأحكام ، ما لم تنسخ .
__________
(1) تقدم ( ص 997) .(11/302)
أن نؤمن بأعيان من علمنا أعيانهم ، وما لم نعلمه ، فنؤمن بهم على سبيل الإجمال ، ونعلم أنه ما من أمة إلا خلا فيها نذير ، وأن الله سبحانه وتعالى أرسل لكل أمة رسولاً تقوم به الحجة عليهم ، كما قال تعالى : { رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } [ النساء : 165] .
والبشر إذا لم يأتهم رسول يبين لهم فهم معذورن ، لأنهم يقولون : يا ربنا ! ما أرسلت إلينا رسولاً ، كما قال تعالى : { ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى } [ طه : 134] ، فلابد من رسول يهدي به الله الخلق .
فإن قيل : قوله تعالى : { على فترة من الرسل } [ المائدة : 119] يدل على أنه فيه فترة ليس فيها رسول ، فهل قامت عليهم الحجة ؟
الجواب : إن الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام طويلة ، وقد قامت عليهم الحجة ، لأن فيها بقايا ، كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في " صحيحه " : إن الله نظر إلى أهل الأرض ، فمقتهم عربهم وعجمهم ، إلا بقايا من أهل الكتاب " (1)، وكما قال تعالى : { فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم } [ هود : 116] .
قوله : " واليوم الآخر " . اليوم النهائي الأبدي الذي لا يوم بعده ، وهو يوم القيامة الكبري .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : يدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يكون بعد الموت ، ذكر هذا في " العقيدة الواسطية " ، وهو كتاب مختصر ، لكنه مبارك من أفيد ما كتب في بابه .
وعلى هذا ، فالإيمان بفتنة القبر وعذابه ونعيمه من الإيمان باليوم الآخر .
__________
(1) مسلم : كتاب الجنة / باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة .(11/303)
والإيمان بالنفخ في الصور وقيام الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً بهما من الإيمان باليوم الآخر ، والإيمان بالموازين والصحف والصراط والحوض والشفاعة والجنة وما فيها من النعيم والنار وما فيها من العذاب الأليم ، كل هذا من الإيمان باليوم الآخر .
ومنها ما هو معلوم بالقرآن ، ومنه ما هو معلوم بالسنة بالتواتر وبالآحاد فكل ما صحت به الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أمر اليوم الآخر ، فإنه يجب علينا أن نؤمن به .
قوله : " وتؤمن بالقدر خيره وشره " . هنا أعاد الفعل ولم يكتف بواو العطف ، لأن الإيمان بالقدر مهم ، فكأنه مستقل برأسه .
والإيمان بالقدر : هو أن تؤمن بتقدير الله عز وجل للأشياء كلها ، سواء ما يتعلق بفعله أو ما يتعلق بفعل غيره ، وأن الله عز وجل قدرها وكتبها عنده قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، ومعلوم أنه لا كتابة إلا بعد علم ، فالعلم سابق على الكتابة ، ثم إنه ليس كل معلوم الله سبحانه وتعالى مكتوباً ، لأن الذي كتب إلى يوم القيامة ، وهناك أشياء بعد يوم القيامة كثيرة أكثر مما في الدنيا هي معلومة عند الله عز وجل ، ولكنه لم يرد في الكتاب والسنة أنه مكتوبة .
وهذا القدر ، قال بعض العلماء : إنه سر من أسرار الله ، وهو كذلك لم يطلع الله عليه أحداً ، لا ملكاً مقرباً ، ولا نبياً مرسلاً ، إلا ما أوحاه الله عز وجل إلى رسله أو وقع فعلم به الناس ، وإلا فإنه سر مكتوم ، قال تعالى : { وما تدري نفس ماذا تكسب غداً } الآية [ لقمان : 34] ، وإذا قلنا : إنه سر مكتوم ، فإن هذا القول يقطع احتجاج العاصي بالقدر على معصيته ، لأننا نقول لهذا الذي عصي الله عز وجل وقال : هذا مقدر على : ما الذي أعلمك أنه مقدر عليك حتى أقدمت ، أفلا كان الأجدر بك أن تقدر أن الله تعالى قد كتب لك السعادة وتعمل بعمل أهل السعادة لأنك لا تستطيع أن تعلم أن الله كتب عليك الشقاء إلا بعد وقوعه منك ؟(11/304)
قال تعالى : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } [ الصف : 5] ، فالقول بأن القدر سر من أسرار الله مكتوم لا يطلع عليه إلا بعد وقوع المقدور تطمئن له النفس ، وينشرح له الصدر ، وتنقطع به حجة البطالين .
وقوله : " خير وشره " . الخير : ما يلائم العبد ، والشر : ما لا يلائمه .
ومعلوم أن المقدورات خير و شر ، فالطاعات خير ، والمعاصي شر ، والغني خير ، والفقر شر ، والصحة خير ، والمرض شر ، وهكذا .
وإذا كان القدر من الله ، فكيف يقال : الإيمان بالقدر خيره وشره والشر لا ينسب إلى الله ؟
فالجواب : أن الشر لا ينسب إلى الله ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " والشر ليس إليك " (1)، فلا ينسب إليه الشر لا فعلاً ولا تقديراً ولا حكماً ، بل الشر في مفعولات الله لا في فعله ، ففعله كله خير وحكمة ، فتقدير الله لهذه الشرور له حكمة عظيمة ، وتأمل قوله تعالى : { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون } [ الروم : 41] ، تجد أن هذا الفساد الذي ظهر في البر والبحر كان لما يرجى به من العاقبة الحميدة ، وهي الرجوع إلى الله عز وجل ، ويظهر الفرق بين الفعل والمفعول في المثال التالي :
ولدك حينما يشتكي ويحتاج إلى كي تكويه بالنار ، فالكي شر ، لكن الفعل خير ، لأنك تريد مصلحته ، ثم إن ما يقدره الله لا يكون شراً محضاً ، بل في محله وزمانه فقط ، فإذا أخذ الله الظالم أخذ عزيز مقتدر ، صار ذلك شراً بالنسبة له ، وقد يكون خيراً له من وجه آخر ، أما لغيره ممن يتعظ بما صنع الله به ، فيكون خيراً ، قال تعالى في القرية التي اعتدت في السبت : { فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين } [ البقرة : 65] .
__________
(1) مسلم : كتاب صلاة المسافرين / باب الدعاء في صلاة الليل .(11/305)
وكذا إذا استمرت النعم على الإنسان حمله ذلك على الأشر والبطر ، بل إذا استمرت الحسنات ولم تحصل منه سيئة تكسر من حدة نفسه ، فقد يغفل عن التوبة وينساها ويغتر بنفسه ويعجب بعمله .
وكم من إنسان أذنب ذنباً ثم تذكر واستغفر وصار بعد التوبة خيراً منه قبلها ، لأنه كلما تذكر معصيته هانت عليه نفسه وحد من عليائها ، فهذا آدم عليه الصلاة والسلام لم يحصل له الاجتباء والتوبة والهداية إلا بعد أن أكل من الشجرة وحصل منه الندم ، وقال : { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } [ الأعراف : 23] ، فقال تعالى : { ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدي } [ طه : 122] .
والثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك فخلفوا ماذا كانت حالهم بعد المعصية وبعد المصيبة التي أصابتهم ، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، وضاقت عليهم أنفسهم ، وصار ينكرهم الناس حتى أقاربهم صار قريبه يشاهده وكأنه أجنبي منه ، ومن شدة ما في نفسه تنكرت نفسه عليه ، فبعد هذا الضيق العظيم صار لهم بعد التوبة فرح ليس له نظير أبداً ، وصارت حالهم أيضاً بعد أن تاب الله عليهم أكمل من قبل ، وصار ذكرهم بعد التوبة أكبر من قبل ، فقد ذكروا بأعيانهم ، قال تعالى : { وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم } [ التوبة : 118] ، فهذه آيات عظيمة تتلي في محاريب المسلمين ومنابرهم إلى يوم القيامة ويتقرب العبد إلى ربه بقراءة خبرهم واستماعه ، وهذا شيء عظيم .(11/306)
وسواء كان ذلك في الأمور الشرعية أو في الأمور الكونية ، ولكن ها هنا أمر يجب معرفته ، وهو أن الخيرية والشرية ليست باعتبار قضاء الله سبحانه وتعالى ، فقضاء الله تعالى كله خير ، حتى ما يقضيه الله من شر هو في الواقع خير ، وإنما الشر في المقضي ، أما قضاء الله نفسه ، فهو خير ، والدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " الخير بيديك ، والشر ليس إليك " (1)، ولم يقل : والشر بيديك ، فلا ينسب الشر إلى الله أبداً ، فضلاً عن أن يكون بيديه ، فلا ينسب الشر إلى الله لا إرادة ولا قضاء ، فالله لا يريد بقضاء الشر شراً ، لكن الشر يكون في المقضي ، وقد يلائم الإنسان وقد لا يلائمه ، وقد يكون طاعة وقد يكون معصية ، فهذا في المقضي ، ومع ذلك ، فهو وإن كان شراً في محله فهو خير في محل آخر ، ولا يمكن أن يكون شراً محضاً ، حتى المقضي وإن كان شراً ليس شراً محضاً ، بل هو شر من وجه خير من وجه ، أو شر في محل خير في محل آخر .
ولنضرب لذلك مثلاً : الجدب والفقر شر ، لكنهما خير باعتبار ما ينتج عنهما ، قال تعالى : { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون } [ الروم : 41] والرجوع إلى الله عز وجل من معصيته إلى طاعته لا شك أنه خير وينتج خيراً كثيراً ، فألم الفقر وألم الجدب وألم المرض وألم فقد الأنفس كله ينقلب إلى لذة إذا كان يعقبه الصلاح ، ولهذا قال : { لعلهم يرجعون } ، وكم ما أناس طغوا بكثرة المال وزادوا ونسوا الله عز وجل واشتغلوا بالمال ، فإذا أصيبوا بفقر ، رجعوا إلى الله ، وعرفوا أنهم ضالون ، فهذا الشر صار خيراً باعتبار آخر .
__________
(1) تقدم ( ص 1002).(11/307)
كذلك قطع يد السارق لا شك أنه شر عليه ، لكنه خير بالنسبة له وبالنسبة لغيره ، أما بالنسبة له ، فلأن قطعها يسقط عنه العقوبة في الآخرة وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، وهو أيضاً خير في غير السارق ، فإن فيه ردعاً لمن أراد أن يسرق ، وفيه أيضاً حفظ للأموال ، لأن السارق إذا عرف أنه إذا سرق ستقطع يده ، امتنع من السرقة ، فصار في ذلك حفظ لأموال الناس ، ولهذا قال بعض الزنادقة :
يد بخمس مئين عسجداً وديت ... ... ... ما بالها قطعت في ربع دينار
تناقض مالنا إلا السكوت له ... ... ... ونستجير بمولانا من النار
لكنه أجيب في الرد عليه رداً مفحماً ، فقيل فيه :
قل للمعري عار أيما عاري ... جهل الفتي وهو من ثوب التقي عاري
يد بمخس مئين عسجداً وديت ... ... لكنها قطعت في ربع دينار
حماية النفس أغلاها وأرخصها ... ... حماية المال فافهم حكمة الباري
وعن عبادة بن الصامت ، أنه قال لابنه : يا بني ! إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أم ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطاك لم يكن ليصيبك ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن أول ما خلق الله القلم ، فقال له : أكتب . فقال رب ! وماذا أكتب ؟ قال : أكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة " يا بني ! سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من مات على غير هذا ، فليس مني (1).
قوله في حديث عبادة : أنه قال لابنه : يابني ! .. " إلخ .
أفاد حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه ينبغي للأب أن يسدي النصائح لأبنائه ولأهله ، وأن يختار العبارات الرقيقة التي تلين القلب ، حيث قال " يا بني !" ، وفي هذا التعبير من اللطافة وجذب القلب ما هو ظاهر .
__________
(1) الإمام أحمد في " المسند " ( 5/317)، والترمذي ( 2156).(11/308)
قوله : " لن تجد طعم الإيمان " . هذا يفيد أن للإيمان طعماً كما جاءت به السنة ، طعم الإيمان ليس كطعم الأشياء المحسوسة ، فطعم الأشياء المحسوسة إذا أتي بعدها طعم آخر أزالها ، لكن طعم الإيمان يبقي مدة طويلة ، حتى إن الإنسان أحياناً يفعل عبادة في صفاء وحضور قلب وخشوع لله عز وجل ، فتجده يتطعم بتلك العبادة مدة طويلة ، فالإيمان له حلاوة وله طعم لا يدركه إلا من أسبغ الله عليه نعمته بهذه الحلاوة وهذا الطعم .
قوله : " حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك " . قد تقول : ما أصابني لم يكن ليخطئني ، هذا تحصيل حاصل ، لأن الذي أصاب الإنسان أصابه ، فلابد أن نعرف معني هذه العبارة ، فتحمل هذه العبارة على أحد معنيين أو عليهما جميعاً :
الأول : أن المعني " ما أصابك " ، أي : ما قدر الله أن يصيبك ، فعبر عن التقدير بالإصابة ، لأن ما قدر الله سوف يقع ، فما قدر الله أن يصيبك لم يكن ليخطئك مهما عملت من أسباب .
الثاني : ما أصابك ، فلا تفكر أن يكون مخطئاً لك ، فلا تقل : لو أنني فعلت كذا ما حصل كذا ، لأن الذي أصابك الآن لا يمكن أن يخطئك ، فكل التقديرات التي تقدرها وتقول : لو أني فعلت كذا ما حصل كذا هي تقديرات يائسة ، لا تؤثر شيئاً ، وأياً كان ، فالمعني صحيح على الوجهين ، فما قدره الله أن يصيب العبد فلابد أن يصيبه ولا يمكن أن يخطئه ، وما وقع مصيباً للإنسان ، فإنه لن يمنعه شيء ، فإذا آمنت هذا الإيمان ذقت طعم الإيمان ، لأنك تطمئن وتعلم أن الأمر لابد أن يقع على ما وقع عليه ، ولا يمكن أن يتغير أبداً .(11/309)
مثال ذلك : رجل خرج بأولاده للنزهة ، فدب بعض الأولاد إلى بركة عميقة ، فسقط ، فغرق ، فمات ، فلا يقول : لو أنني ما خرجت لما مات الولد ، بل لابد أن تجري الأمور على ما جرت عليه ، ولا يمكن أن تتغير ، فما أصابك لم يكن ليخطئك ، فحينئذ يطمئن الإنسان ويرضي ، ويعرف أنه لا مفر وأن كل التقدير أو التخيلات التي تقع في ذهنه كلها من الشيطان فلا تقل : لو أني فعلت كذا لكان كذا ، فإن " لو" تفتح عمل الشيطان ، وحينئذ يرضي ويسلم ، وقد أشار الله إلى هذا المعني في قوله : { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور } [ الحديد : 22-23] .
فأنت إذا علمت هذا العلم وتيقنته بقلبك ، ذقت حلاوة الإيمان ، واطمأننت ، واستقر قلبك ، وعرفت أن الأمر جار على ما هو عليه لا يمكن أن يتغير ، ولهذا كثيراً ما يجد الإنسان أن الأمور سارت ليصل إلى هذه المصيبة ، فتجده يعمل أعمالاً لم يكن من عادته أن يعملها حتى يصل إلى ما أراد الله عز وجل مما يدل على أن الأمور بقضاء الله وقدره .
قوله : " وما أخطأك لم يكن ليصيبك " . نقول فيه مثل الأول ، يعني : ما قدر أن يخطئك فلن يصيبك ، فلو أن أحداً سمع بموسم تجارة في بلد ما وسافر بأمواله لهذا الموسم ، فلما وصل وجد أن الموسم قد فات ، نقول له : ما أخطاك من هذا الريح الذي كنت تعد له لم يكن ليصيبك مهما كان ومهما عملت ، أو نقول : لم يكن ليصيبك ، لأن الأمر لابد أن يجري على ما قضاه الله وقدره ، وأنت جرب نفسك تجد أنك إذا حصلت على هذا اليقين ذقت حلاوة الإيمان .
ثم استدل لما يقول بقوله : " سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن أول ما خلق الله القلم " . القلم بالرفع ، وروي بالنصب .(11/310)
فعلي رواية الرفع يكون المعني : أن أول ما خلق الله هو القلم ، لكن ليس من كل المخلوقات ، كما سنبينه إن شاء الله تعالى .
وأما على رواية النصب ، فيكون المعني : أن الله أمر القلم أن يكتب عند أول خلقه له ، يعني : خلقه ثم أمره أن يكتب ، وعلي هذا المعني لا إشكال فيه ، لكن على المعني الأول الذي هو الرفع : هل المراد أن أول المخلوقات كلها هو القلم؟
الجواب : لا ، لأننا لو قلنا : إن القلم أول المخلوقات ، وإنه أمر بالكتابة عندما خلق ، لكنا نعلم ابتداء خلق الله للأشياء ، وأن أول بدء خلق الله كان قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، ونحن نعلم أن الله عز وجل خلق أشياء قبل هذه المدة بأزمنة لا يعلمها إلا الله عز وجل ، لأن الله عز وجل لم يزل ولا يزال خالقاً ، وعلى هذا ، فيكون : إن أول ما خلق الله القلم يحتاج إلى تأويل ليطابق ما علم بالضرورة من أن الله تعالى له مخلوقات قبل هذا الزمن .
قال أهل العلم : وتأويله : إن المعني : أن أول ما خلق الله القلم بالنسبة لما نشاهده فقط من المخلوقات ، كالسموات والأرض .. فهي أولية نسبية ، وقد قال ابن القيم في نونيته :
والناس مختلفون في القلم الذي ... ... كتب القضاء به من الديان
هل كان قبل العرش أو هو بعده ... ... قولان عن أبي العلا الهمذاني
والحق أن العرش قبل لأنه ... ... قبل الكتابة كان ذا أركان(11/311)
قوله : " فقال له : أكتب " القائل هو الله عز وجل : يخاطب القلم ، والقلم جماد ، لكن كل جماد أمام الله مدرك وعاقل ومريد ، والدليل على هذا قوله تعالى في سورة فصلت : { قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين * ثم استوي إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض أئتيا طوعاً أو كرهاً } ، أي لابد أن تنقادا لأمر الله طوعاً أو كرهاً ، فكان الجواب : { قالتا أتينا طائعين } (فصلت: 9-11) فقد خاطب الله السموات والأرض وأجابتها ودل قوله طائعين على أن لها إرادة وأنها تطيع ، فكل شيء أمام الله ، فهو مدرك مريد ويجيب ويمتثل .
قوله : " قال : ربي وماذا أكتب ؟ " . " ماذا " : اسم استفهام مفعول مقدم ، و " اكتب " : فعل مضارع مرفوع بالضمة الظاهرة ، هذا إذا ألغيت " ذا " ، أما إذا لم تلغ ، فنقول : " ما " اسم استفهام مبتدأ ، و " ذا " : خبره ، أي : ما الذي أكتب ؟ والعائد على الموصول محذوف تقديره : ما الذي أكتبه ؟
وفي هذا دليل على أن الأمر المجمل لا حرج على المأمور في طلب استبانته ، وعلى هذا ، فإننا نقول : إذا كان الأمر مجملاً ، فإن طلب استبانته لا يكون معصية ، فالقلم لا شك أنه ممتثل لأمر الله سبحانه وتعالى ، ومع ذلك قال " رب وماذا أكتب ؟ قال : اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة ، فكتب المقادير .
فإن قيل : هل القلم يعلم الغيب ؟
فالجواب : لا ، لكن الله أمره ، ولابد أن يمتثل لأمر الله ، فكتب هذا القلم الذي يعتبر جماداً بالنسبة لمفهومنا ، كتب كل شيء أمره الله أن يكتبه ، لأن الله إذا أراد شيئاً قا له : كن ، فيكون على حسب مراد الله .
و" كل " : من صيغ العموم ، فتعم كل شيء مما يتعلق بفعل الله أو بفعل المخلوقين .(11/312)
وقوله : " حتى تقوم الساعة " . الساعة هي القيامة ، وأطلق عليها لفظ الساعة ، لأن كل شيء عظيم من الدواهي له ساعة ، يعني : الساعة المعهودة التي تذهل الناس وتحيق بهم وتغشاهم حين تقوم ، وذلك عند النفخ في الصور .
قوله : " يابني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من مات على غير هذا " . أي : الإيمان بأن الله كتب مقادير كل شيء .
قوله : " فليس مني " . تبرأ منه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأنه كافر ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - برىء من كل كافر .
ويستفاد من هذا الحديث :
ملاطفة الأبناء بالموعظة ، وتؤخذ من قوله : " يا بني " .
أنه ينبغي أن يلقن الأبناء الأحكام بأدلتها ، وذلك أنه لم يقل : إن الله كتب .. وسكت ، ولكنه أسند إلى رسول - صلى الله عليه وسلم - ، فمثلاً : إذا أردت أن تقول لابنك : سم الله على الأكل ، واحمد الله إذا فرغت ، فإنك إذا قلت ذلك يحصل به المقصود ، لكن إذا قلت : سم الله على الأكل ، واحمد الله إذا فرغت ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالتسمية عند الأكل ، وقال : " إن الله ليرضي عن العبد يأكل الأكلة ويحمده عليها ، ويشرب الشربة ويحمده عليها " (1)، أذا فعلت ذلك استفدت فائدتين :
الأولى : أن تعود ابنك على اتباع الأدلة :
الثانية : أن تربيه على محبة الرسول عليه الصلاة والسلام ، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الإمام المتبع الذي يجب الأخذ بتوجيهاته ، وهذه في الحقيقة كثيراً ما يغفل عنها ، فأكثر الناس يوجه ابنه إلى الأحكام فقط ، لكنه لا يربط هذه التوجيهات بالمصدر الذي هو الكتاب والسنة .
وفي رواية لأحمد : " إن أول ما خلق الله تعالى القلم ، فقال له : اكتب ، فجري في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة " (2).
__________
(1) مسلم : كتاب الذكر والدعاء / باب استحباب حمد الله بعد الأكل والشرب .
(2) الإمام أحمد في " المسند " (5/317).(11/313)
قوله : " وفي رواية لأحمد : إن أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب .. " .
هذه الرواية تفيد أمراً زائداً على ما سبق ، وهو قوله : " فجرى في تلك الساعة " ، فإنه صريح في أن القلم امتثل ، والحديث الأول ليس فيه أنه كتب إلا عن طريق اللزوم بأنه سيكتب امتثالاً لأمر الله تعالى ، فيستفاد منه ما سبق من كتابة الله سبحانه وتعالى كل شيء إلى قيام الساعة ، وهذا مذكور في القرآن الكريم في قوله تعالى : { ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير } [ الحج : 70] ، وقال تعالى : { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها } ، أي : من قبل أن نبرأ الخليقة ، { إن ذلك على الله يسير } [ الحديد : 22] .
قوله : " إلى يوم القيامة " . هو يوم البعث ، وسمي يوم القيامة ، لقيام أمور ثلاثة فيه:
الأول قيام الناس من قبورهم لرب العالمين ، كما قال تعالى : { ليوم عظيم * يوم يقوم الناس لرب العالمين } [ المطففين : 5-6] .
الثاني : قيام الأشهاد الذين يشهدون للرسل وعلى الأمم ، لقوله تعالى : { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد } [ غافر : 51] .
الثالث : قيام العدل ، لقوله تعالى : { ونضع الموازين القسط ليوم القيامة } [ الأنبياء : 47] .
وفي رواية لابن وهب : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره ، أحرقه الله بالنار " (1).
__________
(1) ابن وهب في القدر (26).(11/314)
وفي " المسند " و" السنن " عن ابن الديلمي ، قال : " أتيت أبي بن كعب ، فقلت : في نفسي شيء من القدر ، فحدثني بشيء ، لعل الله أن يذهبه من قلبي . فقال : لو أنفقت مثل أحد ذهباً ، ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر ، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ، ولو مت على غير هذا ، لكنت من أهل النار. قال : فأتيت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت ، فكلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " حديث صحيح رواه الحاكم في " صحيحه " (1)
قوله : " وفي رواية لابن وهب " . ظاهره أن هذا في حديث عبادة ، وابن وهب أحد حفاظ الحديث .
قوله : " فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار " . في هذا دليل على أن الإيمان بالقدر واجب ولا يتم الإيمان إلا به ، وأما من لم يؤمن به ، فإنه يحرق بالنار.
وقوله : " أحرقه الله بالنار " بعد قوله : " فمن لم يؤمن " يدل على أن من أنكر أو شك فإنه يحرق بالنار ، لأن لدينا ثلاث مقامات :
الأول : الإيمان والجزم بالقدر بمراتبه الأربع .
الثاني : إنكار ذلك .
وهذان واضحان ، لأن الأول إيمان والثاني كفر .
الثالث : الشك والتردد .
فهذا يلحق بالكفر ، ولهذا قال : " فمن لم يؤمن " ، ودخل في هذا النفي من أنكر ومن شك .
__________
(1) الأمام أحمد في " المسند " (5/185) ، وأبو دواد / كتاب السنة / باب في القدر .(11/315)
وفي قوله : " أحرقه الله بالنار " دليل على أن عذاب النار محرق ، وأن أهلها ليس كما زعم بعض أهل البدع يتكيفون لها حتى لا يحسون لها بألم ، بل هم يحسون بألم وتحرق أجسامهم ، وقد ثبت في حديث الشفاعة أن الله يخرج من النار من كان من المؤمنين حتى صاروا حمما (1)، يعني : فحماً أسود ، وقد دل عليه القرآن في قوله تعالى : { وذوقوا عذاب الحريق } [ الحج : 22] ، وفي قوله تعالى : { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب } [ النساء : 56] .
قوله : " في نفسي شيء من القدر " . لم يفصح عن هذا الشيء لكن لعله لمَّا حَدَثَت بدعة القدر ، وهي أول البدع حدوثاً صار الناس يتشككون فيها ويتكلمون فيها ، وإلا، فإن الناس قبل حدوث هذه البدعة كانوا على الحق ، ولا سيما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج على أصحابه ذات يوم وهم يتكلمون في القدر ، فغضب النبي عليه الصلاة والسلام من ذلك ، وأمرهم بأن لا يتنازعوا وأن لا يختلفو ، فكف الناس عن هذا (2)، حتى قامت بدعة القدرية وحصل ما حصل من الشبه ، فلهذا يقول ابن الديلمي : " في نفسي شيء من القدر .. " .
قوله : " فحدثني بشيء لعل الله أن يذهبه من قلبى " . أي : يذهب هذا الشيء ، وهكذا يجب على الإنسان إذا أصيب بمرض أن يذهب إلى أطباء ذلك المرض ، وأطباء مرض القلوب هم العلماء ، ولا سيما مثل الصحابة رضي الله عنهم ، كأبي بن كعب ، فلكل داء طبيب .
قوله : " لو أنفقت مثل أحد ذهباً ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر " . هذا يدل على أن من لم يؤمن بالقدر فهو كافر ، لأن الذي لا تقبل منهم النفقات هم الكفار ، وسبق نحوه عن ابن عمر رضي الله عنهما .
__________
(1) البخاري : كتاب الرقاق / باب صفة الجنة والنار ، ومسلم كتاب الإيمان / باب معرفة طريق الرؤية .
(2) الإمام أحمد في " المسند" (2/178)، وصححه أحمد شاكر (6668).(11/316)
قوله : " حتى تؤمن بالقدر ، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك " . قد سبق الكلام على هذه الجملة .
قوله : " ولو مت " . " مت " بالضم ، لأنها من مات يموت ، وفيه لغة أخري بالكسر " مت " ، كما في قوله تعالى : { ولان متم أو قتلتم } [ آل عمران : 158] في إحدي القراءتين ، وهي على هذه القراءة من مات يميت بالياء .
قوله : " علي غير هذا ، لكنت من أهل النار " . جزم أبي بن كعب رضي الله عنه بأنه إذا مات على غير هذا كان من أهل النار ، لأن من أنكر القدر فهو كافر ، والكافر يكون من أهل النار الذين هم أهلها المخلدون فيها .
وهل هذا الدواء يفيد ؟
الجواب : نعم يفيد ، وكل مؤمن بالله إذا علم أن منتهى من لم يؤمن بالقدر هو هذا ، فلابد يرتدع ولا بد أن يؤمن بالقدر على ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله : " فأتيت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت ، فكلهم حدثني بمثل ذلك" . المشار إليه الإيمان بالقدر ، وأن يعلم الإنسان أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وهؤلاء العلماء الأجلاء كلهم من أهل القرآن .
فأبي بن كعب من أهل القرآن ومن كتبة القرآن ، حتى إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - دعاه ذات يوم وقرأ عليه سورة : { لم يكن .. } البينة ، وقال : " إن الله أمرني أن أقرأها عليك " ، فقال : يا رسول الله ! سماني الله لك . قال : " نعم " . فبكي رضي الله عنه بكاء فرح أن الله عز وجل سماه باسمه لنبيه ، وأمر نبيه أن يقرأ عليه هذه السورة (1).
__________
(1) البخاري : كتاب التفسير / باب تفسير سورة " لم يكن " ومسلم : كتاب فضائل الصحابة / باب من فضائل أبي .(11/317)
وأما عبد الله بن مسعود ، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من سره أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل ، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد " (1).
وأما زيد بن ثابت ، فهو أحد كتاب القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه (2).
وحذيفة بن اليمان صاحب السر الذي أسر إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسماء المنافقين (3).
والحاصل أن هذا الباب يدل على وجوب الإيمان بالقضاء والقدر بمراتبه الأربع
مسألة : الإيمان بالقدر هل هو متعلق بتوحيد الربوبية ، أو بالألوهية ، أو بالأسماء والصفات ؟ .
الجواب تعلقه بالربوبية أكثر من تعلقه بالألوهية والأسماء والصفات ، ثم تعلقه بالأسماء والصفات أكثر من تعلقه بالألوهية ، وتعلقه بالألوهية أيضاً ظاهر ، لأن الألوهية بالنسبة لله يسمي توحيد الألوهية ، وبالنسبة للعبد يسمي توحيد العبادة ، والعبادة فعل العبد ، فلها تعلق بالقدر ، فالإيمان بالقدر له مساس بأقسام التوحيد الثلاثة .
مسألة : هل اختلف الناس في القدر ؟
الجواب : نعم ، اختلفوا فيه على ثلاث فرق ، وقد سبق (4).
* فيه مسائل :
الأولى : بيان فرض الإيمان بالقدر . الثانية : بيان كيفية الإيمان . الثالثة : إحباط عمل من لم يؤمن به . الرابعة : الإخبار أن أحداً لا يجد طعم الإيمان حتى يؤمن به.
الخامسة : ذكر أول ما خلق الله . السادسة : أنه جرى بالمقادير في تلك الساعة إلى يوم قيام الساعة .
السابعة : براءته - صلى الله عليه وسلم - ممن لم يؤمن به . الثامنة عادة السلف في إزالة الشبهة بسؤال العلماء . التاسعة : أن العلماء أجابوه بما يزيل شبهته وذلك أنهم نسبوا الكلام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقط .
فيه مسائل :
__________
(1) الإمام أحمد في المسند (1/26)، والحاكم وصححه ، ووافقه الذهبي (3/295).
(2) البخاري : كتاب فضائل القرآن / باب جمع القرآن .
(3) البخاري : كتاب فضائل الصحابة / باب مناقب عمار وحذيفة .
(4) تقدم ( ص 985).(11/318)
الأولى : بيان فرض الإيمان بالقدر . دليله قوله : " الإيمان : أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره " .
الثانية : بيان كيفية الإيمان . أي : بالقدر ، وهو أن تؤمن بأن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطأك لم يكن ليصيبك .
ولم يتكلم المؤلف عن مراتب القدر ، لأنه لم يذكرها ، ونحن ذكرناها وأنها أربع مراتب جمعت اختصاراً في بيت واحد ، وهو قوله :
علم كتابة مولانا مشيئته ... ... وخلقه وهو إيجاد وتكوين
والإيمان بهذه المراتب داخل في كيفية الإيمان بالقدر .
الثالثة : إحباط عمل من لم يؤمن به . تؤخذ من قول ابن عمر : " لو كان لأحدهم مثل أحد ذهباً ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر " ، ويتفرع منه ما ذكرناه سابقاً بأنه يدل على أن من لم يؤمن بالقدر فهو كافر ، لأن الكافر هو الذي لا يقبل منه العمل .
الرابعة : الإخبار أن أحداً لا يجد طعم الإيمان حتى يؤمن به . أي : بالقدر ، وهو كذلك ، لقول عبادة بن الصامت لابنه : يا بني ! إنك لن تجد طعم الإيمان .. إلخ .
وقد سبق أن الإيمان بالقدر يوجب طمأنينة الإنسان بما قضاه الله عز وجل ويستريح ، لأنه علم أن هذا أمر لابد أن يقع على حسب المقدور ، لا يتخلف أبداً ، " و لا تقل : لو أني فعلت كذا لكان كذا ، لأن لو تفتح عمل الشيطان " (1)، ولا ترفع شيئاً وقع مهما قلت .
__________
(1) تقديم ( ص 1006).(11/319)
الخامسة : ذكر أول ما خلق الله . ظاهر كلام المؤلف : الميل إلى أن القلم أول مخلوقات الله ، ولكن الصحيح خلافه ، وأن القلم ليس أول مخلوقات الله ، لأنه ثبت في " صحيح البخاري " : " كان الله ولم يكن شيء قبله ، وكان عرشه على الماء ، ثم خلق السماوات والأرض وكتب في الذكر مقادير كل شيء " (1)، وهذا واضح في الترتيب ، ولهذا كان الصواب بلا شك أن خلق القلم بعد خلق العرش ، وسبق لنا تخريج الروايتين ، وأنه على الرواية التي ظاهرها أن القلم أول ما خلق تحمل على أنه أول ما خلق بالنسبة لما يتعلق بهذا العالم المشاهد ، فهو قبل خلق السماوات والأرض ، فتكون أوليته نسبية .
السادسة : أنه جري بالمقادير في تلك الساعة إلى يوم قيام الساعة . لقوله في الحديث : " فجري في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة " .
وفيه أيضاً من الفوائد : توجيه خطاب الله إلى الجماد ، وأنه يعقل أمر الله ، لأن الله وجه الخطاب إلى القلم ففهم واستجاب ، لكنه سأل في الأول وقال : " ماذا أكتب؟ " .
السابعة : براءته - صلى الله عليه وسلم - ممن لم يؤمن به . لقوله " من مات على غير هذا ، فليس مني " ، وهذه البراءة مطلقة ، لأن من لم يؤمن بالقدر فهو كافر كفراً مخرجاً عن المللة .
الثامنة : عادة السلف في إزالة الشبهة بسؤال العلماء . لأن ابن الديلمي يقول : " فأتيت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت " بعد أن أتي أبي بن كعب ، فدل هذا على أن عادة السلف السؤال عما يشتبه عليهم .
__________
(1) البخاري : كتاب التوحيد / باب وكان عرشه على الماء .(11/320)
وفيه أيضاً مسألة ثانية ، وهي جواز سؤال أكثر من عالم للتثبت ، لأن ابن الديلمي سأل عدة علماء ، أما سؤال أكثر من عالم للتتبع الرخص ، فهذا لا يجوز كما نص على ذلك أهل العلم ، وهذا من شأن اليهود ، فاليهود لما كان في التوراة أن الزاني يرجم إذا كان محصناً وكثر الزني في أشرافهم ، غيروا هذا الحد ، ولما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة ، وزني منهم رجل بامرأة قالوا : أذهبوا إلى هذا الرجل لعلكم تجدون عنده شيئاً آخر ، لأجل أن يتتبعوا الرخص .(11/321)
التاسعة : أن العلماء أجابوه بما يزيل شبهته ، وذلك أنهم نسبوا الكلام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقط . لقول ابن الديلمي : " كلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا مزيل للشبهة ، فإذا نسب الأمر إلى الله ورسوله ، زالت الشبهة تماماً ، لكن تزول عن المؤمن ، أما غير المؤمن ، فلا تنفعه ، فالله عز وجل يقول : { وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } [ يونس : 101] ، وقال : { إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم } [ يونس : 96،97] ، لكن المؤمن هو الذي تزول شبهته بما جاء عن الله ورسوله ، كما قال تعالى { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضي الله ورسوله أمراً أن يكون له الخيرة من أمرهم } [ الأحزاب : 36] ، ولهذا لما قالت عائشة للمرأة : " كان يصيبنا ذلك تعني الحيض ، فنؤمر بقضاء الصوم ، ولا نؤمر بقضاء الصلاة " (1) لم تذهب تعلل ، ولكن لا حرج على الإنسان أن يذكر الحكم بعلته لمن لم يؤمن لعله يومن ولهذا يذكر الله عز وجل إحياء الموتي ويذكر الأدلة العقلية والحسية على ذلك ، فقال في أدلة العقل : { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه } [ الروم : 27] ، فهذه دلالة عقلية ، فالعقل يؤمن إيماناً كاملاً بأن من قدر على الابتداء فهو قادر على الإعادة من باب أولى .
وذكر أدلة حسية ، منها قوله تعالى : { ومن آياته أنك تري الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتي } [ فصلت : 39] .
فإذا لا مانع أن تأتي بالأدلة العقلية أو الحسية من أجل أن تقنع الخصم وتطمئن الموافق .
__________
(1) البخاري : كتاب الحيض / باب لا تقضي الحائض الصلاة ، ومسلم : كتاب الحيض / باب وجود قضاء الصوم على الحائض .(11/322)
وفيه دليل رابع ، وهو دليل الفطرة ، فلا مانع أيضاً أن تأتي به للاستلال على ما تقول من الحق لتلزم الخصم به وتطمئن الموافق ، وما زال العلماء يسلكون هذا المسلك ، وقد مر علينا قصة أبي المعالي الجويني مع الهمداني ، حيث إن أبا المعالي الجويني غفر الله لنا وله كان يقرر نفي استواء الله على عرشه ، فقال له الهمداني : " دعنا من ذكر العرش، فما تقول في هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا : ما قال عارف قط : يا الله ! إلا وجد من قلبه ضرورة بطلب العلو " . فصرخ أبو المعالي ولطم على رأسه ، وقال : حيرني الهمداني ، حيرني الهمداني .
فإذا الأدلة سمعية وعقلية وفطرية وحسية .
وأشدها إقناعاً للمؤمن هو الدليل السمعي ، لأنه يقف عنده ويعلم أن كل ما خالف دلالة السمع فهو باطل ، وإن ظنه صاحبه حقاً .
***
باب ما جاء في المصورين
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " قال الله تعالى : ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ، فليخلقوا ذرة ، أو ليخلقوا حبة ، أو ليخلقوا شعيرة " أخرجاه (1).
قوله : " باب ما جاء في المصورين " . يعني : من الوعيد الشديد .
ومناسبة هذا الباب للتوحيد : أن في التصوير خلقاً وإبداعاً يكون به المصور مشاركاً لله في ذلك الخلق والإبداع .
قوله في الحديث : " ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي " . ينتهي سند هذا الحديث إلى الله عز وجل ، ويسمي حديثاً قدسياً ، وسبق الكلام عليه في باب فضل التوحيد ، وما يكفر من الذنوب (ص 69) .
قوله : " ومن اظلم " . " من " اسم استفهام والمراد به النفي ، أي : لا أحد أظلم ، وإذا جاء النفي بصيغة الاستفاهم كان أبلغ من النفي المحض ، لأنه يكون مشرباً معني التحدي والتعجيز.
__________
(1) البخاري : كتاب اللباس / باب نقض الصور ، ومسلم : كتاب اللباس والزينة / باب تحريم تصوير صور الحيوان .(11/323)
فإن قيل : كيف يجمع بين هذا الحديث وبين قوله تعالى : { ومن أظلم ممن منع مساجد الله } [ البقرة : 114] ، وقوله : { ومن أظلم ممن افتري على الله كذباً } [الأنعام : 21] وغير ذلك من النصوص ؟
فالجواب من وجهين :
الأول : أن المعني أنها مشتركة في الأظلمية ، أي أنها في مستوي واحد في كونها في قمة الظلم .
الثاني : أن الأظلمية نسبية ، أي أنه لا أحد أظلم من هذا في نوع هذا العمل لا في كل شيء ، فيقال مثلاً : من أظلم في مشابهة أحد في صنعه ممن ذهب يخلق كخلق الله ، ومن أظلم في منع حق ممن منع مساجد الله ، ومن أظلم في أفتراء الكذب ممن افتري على الله كذباً .
قوله : " يخلق " . حال من فاعل ذهب ، أي : ممن ذهب خالقاً .
والخلق في اللغة : التقدير ، قال الشاعر :
ولأنت تفري ما خلقت ... ... وبعض الناس يخلق ثم لا يفري
تفري ، أي : تفعل ، ما خلقت ، أي : ما قدرت .
ويطلق الخلق على الفعل بعد التقدير ، وهذا هو الغالب ، والخلق بالنسبة للإنسان يكون بعد تأمل ونظر وتقدير ، وأما بالنسبة للخالق ، فإنه لا يحتاج إلى تأمل ونظر لكمال علمه ، فالخلق بالنسبة للمصور يكون بمعني الصنع بعد النظر والتأمل .
قوله : " يخلق كخلقي " . فيه جواز إطلاق الخلق على غير الله ، وقد سبق الكلام على هذا والجواب عنه في أول الكتاب .
قوله : " فليخلقوا ذرة " . اللام للأمر ، والمراد به التحدي والتعجيز ، وهذا من باب التحدي في الأمور الكونية ، وقوله تعالى : { فليأتوا بحديث مثله } [ الطور : 34] من باب التحدي في الأمور الشرعية .
والذرة : واحدة الذر ، وهي النمل الصغار ، وأما من قال بأن الذرة هي ما تتكون منها القنبلة الذرية فقد أخطأ ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاطب الصحابة بلغة العرب وهم لا يعرفون القنبلة الذرية ، وذكر الله الذرة لأن فيها روحاً ، وهي من أصغر الحيوانات .(11/324)
قوله : " أو ليخلقوا حبة " . " أو " للتنويع ، أي : انتقل من التحدي بخلق الحيوان ذي الروح إلى خلق الحبة التي هي أصل الزرع من الشعير وغيره وليس لها روح .
قوله : " أو ليخلقوا شعيرة " . يحتمل أن المراد شجرة الشعير ، فيكون في الأول ذكر التحدي بأصل الزرع وهي الحبة ، ويحتمل أن المراد الحبة من الشعير ويكون هذا من باب ذكر الخاص بعد العام ، لأن حبة الشعير أخص من الحب . أو تكون " أو " شكاً من الرواي .
فالله تحدي الخلق إلى يوم القيامة أن يخلقوا ذرة أو يخلقوا حبة أو شعيرة .
فإن قيل : يوجد رز أمريكي مصنوع .
أجيب إن هذا المصنوع لا ينبت كالطبيعي ، ولعل هذا هو السر في قوله : " أو ليخلقوا حبة " ، ثم قال : " أو ليخلقوا شعيرة " ، لأن الحبة إذا غرست في الأرض فلقها الله ، قال تعالى : { إن الله فالق الحب والنوى } [ الأنعام : 95] ، وقال تعالى : { إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له } ، أي : اجتمعوا لخلقه متعاونين عليه وقد هيؤوا كل ما عندهم ، { وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب } [ الحج : 73] .
قال العلماء : لو أن الذباب وقع على هذه الأصنام فامتص شيئاً من طيبها ما استطاعوا أن يستنقذوه منه ، فيكون الذباب غالباً لها ، { ضعف الطالب } ، أي : العابد والمعبود ، { والمطلوب } ، أي : الذباب .
ويستفاد من هذا الحديث ، وهو ما ساقه المؤلف من أجله : تحريم التصوير ، لأن المصور ذهب يخلق كخلق الله ليكون مضاهياً لله في صنعه والتصوير له أحوال :(11/325)
الحال الأولى : أن يصور الإنسان ما له ظل كما يقولون ، أي : ما له جسم على هيكل إنسان أو بعير أو أسد أو ما أشبهها ، فهذا أجمع العلماء فيما أعلم على تحريمه ، فإن قلت : إذا صور الإنسان لا مضاهاة لخلق الله ، ولكن صور عبثاً ، يعني : صنع من الطين أو من الخشب أو من الأحجار شيئاً على صورة حيوان وليس قصده أن يضاهي خلق الله ، بل قصده العبث أو وضعه لصبي ليهدئه به ، فهل يدخل في الحديث ؟
فالجواب : نعم : يدخل في الحديث ، لأنه خلق كخلق الله ، ولأن المضاهاة لا يشترط فيها القصد ، وهذا هو سر المسألة ، فمتي حصلت المضاهاة ثبت حكمها ، ولهذا لو أن إنساناً لبس لبساً يختص بالكفار ثم قال : أنا لا أقصد التشبه بهم ، نقول : التشبه منك بهم حاصل أردته أم لم ترده ، وكذلك ، لو أن أحداً تشبه بامرأة في لباسها أو في شعرها أو ما أشبه ذلك وقال : ما أردت التشبه ، قلنا له : قد حصل التشبه ، سواء أردته أم لم ترده .
الحال الثانية : أن يصور صورة ليس لها جسم بل بالتلوين والتخطيط ، فهذا محرم لعموم الحديث ، ويدل عليه حديث النمرقة حيث أقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بيته ، فلما أراد أن يدخل رأي نمرقة فيها تصاوير ، فوقف وتأثر ، وعرفت الكراهة في وجهه ، فقالت عائشة رضي الله عنها : ما أذنبت يا رسول الله ؟ فقال : " إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ، يقال لهم : أحيوا ما خلقتم " (1)، فالصور بالتلوين كالصور بالتجسيم ، وقوله في " صحيح البخاري " : " إلا رقماً في ثوب " (2)، إن صحت الرواية هذه ، فالمراد بالاستثناء ما يحل تصويره من الأشجار ونحوها .
الحال الثالثة : أن تلتقط الصور التقاطاً بأشعة معينة بدون أي تعديل أو تحسين من الملتقط ، فهذا محل خلاف بين العلماء المعاصرين :
__________
(1) البخاري : كتاب اللباس / باب من كره القعود على الصور ، ومسلم : كتاب اللباس / باب تحريم تصوير صور الحيوان.
(2) جزء من الحديث السابق .(11/326)
فالقول الأول : أنه تصوير ، وإذا كان كذلك ، فإن حركة هذا الفاعل للآلة يعد تصويراً ، إذ لولا تحريكه إياها ما انطبعت هذه الصورة على هذه الورقة ، ونحن متفقون على أن هذه صورة ، فحركته تعتبر تصويراً ، فيكون داخلاً في العموم .
القول الثاني : أنها ليست بتصوير ، لأن التصوير فعل المصور ، وهذا الرجل ما صورها في الحقيقة وإنما التقطها بالآلة ، والتصوير من صنع الله .
ويوضح ذلك لو أدخلت كتاباً في آلة التصوير ، ثم خرج من هذه الآلة ، فإن رسم الحروف من الكاتب الأول لا من المحرك ، بدليل أنه قد يشغلها شخص أمي لا يعرف الكتابة إطلاقاً أو أعمي في ظلمة ، وهذا القول أقرب ، لأن المصور بهذه الطريقة لا يعتبر مبدعاً ولا مخططاً ، ولكن يبقي النظر : هل يحل هذا الفعل أو لا ؟
والجواب : إذا كان لغرض محرم صار حراماً ، وإذا كان لغرض مباح صار مباحاً ، لأن الوسائل لها أحكام المقاصد ، وعلي هذا ، فلو أن شخصاً صور إنساناً لما يسمونه بالذكري ، سواء كانت هذه الذكري للتمتع بالنظر إليه أو التلذذ به أو من أجل الحنان والشوق إليه ، فإن ذلك محرم ولا يجوز لما فيه من اقتناء الصور، لأنه لا شك أن هذه صورة ولا أحد ينكر ذلك.
وإذا كان لغرض مباح كما يوجد في التابعية والرخصة والجواز وما أشبهه ، فهذا يكون مباحاً ، فإذا ذهب الإنسان الذي يحتاج إلى رخصة إلى هذا المصور الذي تخرج منه الصورة فورية بدون عمل لا تحميض ولا غيره ، وقال : صورني ، فصوره ، فإن هذا المصور لا نقول : إنه داخل في الحديث ، أي : حديث الوعيد على التصوير ، أما إذ قال : صورني لغرض آخر غير مباح ، صار من باب الإعانة على الإثم والعدوان .
الحال الرابعة : أن يكون التصوير لما لا روح فيه ، وهذا على نوعين :(11/327)
النوع الأول : أن يكون مما يصنعه الآدمي ، فهذا لا بأس به بالاتفاق ، لأنه إذا جاز الأصل جازت الصورة ، مثل أن يصور الإنسان سيارته ، فهذا يجوز ، لأن صنع الأصل جائز ، فالصورة التي هي فرع من باب أولي .
النوع الثاني : ما لا يصنعه الآدمي وإنما يخلقه الله ، فهذا نوعان : نوع نام ، ونوع غير نام ، فغير النامي ، كالجبال ، والأودية ، والبحار ، والأنهار ، فهذه لا بأس بتصويرها بالاتفاق ، أما النوع الذي ينمو ، فاختلف في ذلك أهل العلم ، فجمهور أهل العلم على جواز تصويره لما سيأتي في الأحاديث .
وذهب بعض أهل العلم من السلف والخلف إلى منع تصويره ، واستدل بأن هذا من خلق الله عز وجل ، والحديث عام : " ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي " ، ولأن الله عز وجل تحدي هؤلاء بأن يخلقوا حبة أو يخلقوا شعيرة ، والحبة أو الشعيرة ليس فيها روح ، لكن لا شك أنها نامية ، وعلي هذا ، فيكون تصويرها حراماً ، وقد ذهب إلى هذا مجاهد رحمه الله أعلم التابعين بالتفسير ، وقال : إنه يحرم على الإنسان أن يصور الأشجار ، لكن جمهور أهل العلم على الجواز ، وهذا الحديث هل يؤيد رأي الجمهور أو يؤيد رأي مجاهد ومن قال بقوله ؟
الجواب : يؤيد رأي مجاهد ومن قال بقوله أمران :
أولاً : العموم في قوله : " ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي " .
ثانياً : قوله : " أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة " ، وهذه ليست ذات روح ، فظاهر الحديث هذا مع مجاهد ومن يري رأيه ، ولكن الجمهور أجابوا عنه بالأحاديث التالية ، وهي أن قوله : " أحيوا ما خلقتم " (1)، وقوله : " كلف أن ينفخ بها الروح " (2) يدل على أن المراد تصوير ما فيه روح ، وأما قوله : " أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة " ، فذكر على سبيل التحدي ، أي : أن أولئك المصورين عاجزون حتى عن خلق ما لا روح فيه .
__________
(1) تقدم ( ص 1023)
(2) البخاري : كتاب اللباس / باب من صور صورة .. ، ومسلم : كتاب اللباس / باب تحريم تصوير صورة حيوان .(11/328)
ولهما عن عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله " (1).
قوله : " أشد " . كلمة أشد اسم تفضيل بمعني أعظم وأقوي .
قوله : " الناس " للعموم . والمراد الذين يعذبون .
وقوله : " عذاباً " . تمييز مبين للمراد بالأشد ، لأن التمييز كما قال ابن مالك :
اسم بمعني من مبين نكرة ... ... ينصب تمييزاً بما قد فسره
والعذاب يطلق على العقاب ويطلق على ما يؤلم ويؤذي وإن لم يكن عقاباً ، فمن الأول قوله تعالى : { أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } [ غافر : 46] ، أي : العقوبة والنكال ، لأنه يدخل النار والعياذ بالله ، كما قال الله تعالى : { يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار } [ هود : 98] ، ومن الثاني قول النبي عليه الصلاة والسلام : " السفر قطعة من العذاب " (2)، وقوله " الميت يعذب بالنياحة عليه " (3).
قوله : " يوم القيامة " . هو اليوم الذي يبعث فيه الناس ، وسبق وجه تسميته بذلك .
وقوله : " أشد " مبتدأ ، " والذين يضاهئون " خبره ، ومعني يضاهئون ، أي : يشابهون
" بخلق الله " ، أي : بمخلوقات الله سبحانه وتعالى .
__________
(1) البخاري : كتاب اللباس / باب ما وطىء من التصاوير ، ومسلم : كتاب اللباس / باب تحريم تصوير صورة الحيوان .
(2) البخاري : كتاب العمرة / باب السفر قطعة من العذاب ، ومسلم : كتاب الإمارة /باب السفر قطعة من العذاب .
(3) البخاري : كتاب الجنائز / باب ما يكره من النياحة على الميت ، ومسلم : كتاب الجنائز / باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه .(11/329)
والذين يضاهئون بخلق الله هم المصورون ، فهم يضاهئون بخلق الله سواء كانت هذا المضاهاة جسمية أو وصفية ، فالجسمية أن يصنع صورة بجسمها ، والوصفية أن يصنع صورة ملونة ، لأن التلوين والتخطيط باليد وصف للخلق ، وإن كان الإنسان ما خلق الورقة ولا صنعها لكن وضع فيها هذا التلوين الذين يكون وصفاً لخلق الله عز وجل .
هذا الحديث يدل على أن المصورين يعذبون ، وأنهم أشد الناس عذاباً ، وأن الحكمة من ذلك مضاهاتهم خلق الله عز وجل وليست الحكمة كما يدعيه كثير من الناس أنهم يصنعونها لتعبد من دون الله ، فذلك شيء آخر ، فمن صنع شيئاً ليعبد من دون الله ، فإنه حتى ولو لم يصور كما لو أتي بخشبة وقال : اعبدوها ، فقد دخل في التحريم ، لقوله تعالى : { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } [ المائدة : 2 ] ، لأنه أعان على الإثم والعدوان .
وقوله : " يضاهئون " . هل الفعل يشعر بالنية بمعني أنه لابد أن يقصد المضاهاة ، أو نقول : المضاهاة حاصلة سواء كانت بنية أو بغير نية ؟
الجواب : الثاني ، لأن المضاهاة حصلت سواء نوي أم لم ينو ، لأن العلة هي المشابهة ، وليست العلة قصد المشابهة ، فلو جاء رجل وقال : أنا لا أريد أن أضاهي خلق الله ، أنا أصور هذا للذكري مثلاً وما أشبه ذلك ، نقول : هذا حرام ، لأنه متي حصلت المشابهة ثبت الحكم ، لأن الحكم يدور مع علته كما قلنا فيمن لبس لباساً خاصاً بالكفار : إنه يحرم عليه هذا اللباس ، ولو قال : إنه لم يقصد المشابهة ، نقول : لكن حصل التشبه ، فالحكم المقرون بعلة لا يشترط فيه القصد ، فمتي وجدت العلة ثبت الحكم .
فيستفاد من الحديث :
تحريم التصوير ، وأنه من كبائر ، لثبوت الوعيد عليه ، وأن الحكمة من تحريمه المضاهاة بخلق الله عز وجل .(11/330)
وجوب احترام جانب الربوبية ، وأن لا يطمع أحد في أن يخلق كخلق الله عز وجل ، لقوله : " يضاهئون بخلق الله " ، ومن أجل هذا حرم الكبر ، لأن فيه منازعة للرب ، عز وجل ، وحرم التعاظم على الخلق ، لأن فيه منازعة للرب سبحانه وتعالى ، وكذلك هذا الذي يصنع ما يصنع فيضاهي خلق الله فيه منازعة لله عز وجل في ربوبيته في أفعاله ومخلوقاته ومصنوعاته ، فيستفاد من هذا الحديث وجوب احترام جانب الربوبية .
قوله : " أشد الناس عذاباً " فيه إشكال ، لأن فيهم من هو أشد من المصورين ذنباً ، كالمشركين والكفار ، فيلزم أن يكونوا أشد عذاباً ، وقد أجيب عن ذلك بوجوه :
الأول : أن الحديث على تقدير "من " ، أي : من أشد الناس عذاباً بدليل أنه قد جاءما يؤيده بلفظ : " إن من أشد الناس عذاباً " .
الثاني : أن الأشدية لا تعني أن غيرهم لا يشاركهم ، بل يشاركهم غيرهم ، قال تعالى { أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } [ غافر : 46] ، ولكن يشكل على هذا أن المصور فاعل كبيرة فقط ، فكيف يسوي مع من هو خارج عن الإسلام ومستكبر ؟ !
الثالث : أن الأشدية نسبية ، يعني أن الذين يصنعون الأشياء ويبدعونها أشدهم عذاباً الذين يضاهئون بخلق الله ، وهذا أقرب .
الرابع : أن هذا من باب الوعيد الذي يطلق لتنفير النفوس عنه ، ولم أر من قال بهذا ولو قيل بهذا لسلمنا من هذه الإرادات وعلى كل حال ليس لنا أن نقول إلا كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله " .
ولهما عن ابن عباس : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم " (1).
قوله : ولهما " . أي : البخاري ومسلم .
__________
(1) مسلم : كتاب اللباس / باب تحريم تصوير صورة الحيوان .(11/331)
قوله : " كل مصور في النار " . " كل " : من أعظم ألفاظ العموم ، وأصلها من الإكليل ، وهو ما يحيط بالشيء ، ومنه الكلالة في الميراث للحواشي التي تحيط بالإنسان .
فيشمل من صور الإنسان أو الحيوان أو الأشجار أو البحار ، لكن قوله : " يجعل له بكل صورة نفساً " يدل على أن المراد صورة ذوات النفوس ، أي : ما فيه روح .
قوله : " يجعل له بكل صورة صورها نفس " . الحديث في " مسلم " وليس في " الصحيحين " ، لكنه بلفظ " يجعل " بالبناء للفاعل ، وعلي هذا تكون " نفساً " بالنصب ، وتمامه : " فتعذبه في جهنم " .
قوله : " يعذب بها " . كيفية التعذيب ستأتي في الحديث الذي بعده أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ .
وقوله : " كل مصور في النار " أي : كائن في النار .
وهذه الكينونة عند المعتزلة والخوارج كينونة خلود ، لأن فاعل الكبيرة عندهم مخلد في النار ، وعند المرجئة أن المراد بالمصور الكافر ، لأن المؤمن عندهم لا يدخل النار أبداً ، وعند أهل السنة والجماعة أنه مستحق لدخول النار وقد يدخلها وقد لا يدخلها ، وأن دخلها لم يخلد فيها .
وقوله : " بكل صورة صورها " . يقتضي أنه لو صور في اليوم عشر صور ولو من نسخة واحدة ، فإنه يجعل له في النار عشر صور يقال له : أنفخ فيها الروح ، وظاهر الحديث أنه يبقي في النار معذباً حتى تنتهي هذه الصور .
قوله : " كلف " . أي : ألزم ، والمكلف له هو الله عز وجل .
قوله : " وليس بنافخ " . أي : كلف بأمر لا يتمكن منه زيادة في تعذيبه ، وعذب بهذا العذاب ليذوق جزاء ما عمل ، وبهذا تزداد حسرته وأسفه ، حيث إنه عذب بما كان في الدنيا يراه راحة له ، إما باكتساب ، إو إرضاء صاحب ، أو إبداع صنعة .(11/332)
ولمسلم عن أبي الهياج ، قال : قال لي علي . " ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أن لا تدع صورة ، إلا طمستها ، ولا قبراً مشرفاً ، إلا سويته " (1).
قوله : " عن أبي الهياج " . هو من التابعين .
قوله : " قال لي على " . هو على بن أبي طالب رضي الله عنه .
قوله : " ألا أبعثك " . البعث : الإرسال بأمر مهم ، كالدعوة إلى الله ، قال تعالى : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً } [ النحل : 36] .
قوله : " علي ما بعثني " . يحتمل أن تكون " علي " على ظاهرها للاستعلاء ، لأن المبعوث يمشي على ما بعث عليه ، كأنه طريق له ، وهذا هو الأولى ، لأن ما وافق ظاهر اللفظ من المعاني فهو أولي بالاعتبار ، ويحتمل أن " علي " بمعني الباء ، أي : بما بعثني عليه .
وقد بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - علياً إلى اليمن بعد قسمة غنائم حنين ، وقدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في مكة في حجة الوداع (2).
قوله : " أن لا تدع " . "أن " مصدرية ، " لا " : نافية " " تدع " : منصوب بأن المصدرية وهي بدل بعض من كل من " ما " في قوله : " على ما بعثني " ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث على بن أبي طالب بأكثر من ذلك ، لكن هذا مما بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قوله : " صورة : . نكرة في سياق النفي فتعم .
وجمهور أهل العلم : أن المحرم هو صور الحيوان فقط ، لما ورد في " السنن " من حديث جبريل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " فمر برأس التمثال يقطع ، فيصير كهيئة الشجرة "(3)، وسبق بيان ذلك قريباً .
__________
(1) البخاري : كتاب المغازي / باب بعث على بن أبي طالب وخالد بن الوليد إلى اليمن ، ومسلم : كتاب الحج / باب بيان وجوه الإحرام .
(2) مسلم : كتاب الجنائز / باب الأمر بتسوية القبر .
(3) الإمام أحمد في المسند 2/305.(11/333)
قوله : " إلا طمستها " . إن كانت ملونة فطمسها بوضع لون أخر يزيل معالمها ، وإن كانت تمثالاً فإنه يقطع رأسه ، كما في حديث جبريل السابق ، وإن كانت محفورة فيحفر على وجهه حتى لا تتبين معالمه ، فالطمس يختلف ، وظاهر الحديث سواء كانت تعبد من دون الله أولا.
قوله : " ولا قبراً مشرفاً " . أي : عالياً .
قوله : " إلا سويته " . له معنيان :
الأول : أي سويته بما حوله من القبور .
الثاني : جعلته حسناً على ما تقتضيه الشريعة ، قال تعالى : { الذي خلق فسوى } [ الأعلي : 2] ، أي : سوي خلقه أحسن ما يكون ، وهذا أحسن ، والمعنيان متقاربان .
والإشراف له وجوه :
الأول : أن يكون مشرفاً بكبر الأعلام التي توضع عليه ، وتسمي عند الناس ( نصائل ) أو ( نصائب ) ، ونصائب أصح لغة من نصائل .
الثاني : أن يبني عليه ، وهذا من كبائر الذنوب ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لعن المتخذين عليها المساجد والسرج " (1).
الثالث : أن تشرف بالتلوين ، وذلك بأن يوضع على أعلامها ألوان مزخرفة .
الرابع : أن يرفع تراب القبر عما حوله فيكون بيناً ظاهراً .
فكل شيء مشرف ، أي : ظاهر على غيره متميز عن غيره يجب أن يسوي بغيره ، لئلا يؤدي ذلك إلى الغلو في القبور والشرك .
ومناسبة ذكر القبر المشرف مع الصور :
أن كلاً منهما قد يتخذ وسيلة إلى الشرك ، فإن أصل الشرك في قوم نوح أنهم صوروا صور رجال صالحين ، فلما طال عليهم الأمد عبدوها ، وكذلك القبور المشرفة قد يزداد فيها الغلو حتى تجعل أوثاناً تعبد من دون الله ، وهذا ما وقع في بعض البلاد الإسلامية ، وقد أطال الشارح رحمه الله في هذا الباب في البناء على القبور ، وذلك لأن فتنتها في البلاد الإسلامية قديمة وباقية ، ما عدا بلادنا ولله الحمد ، فإنها سالمة من ذلك ، نسأل الله أن يديم عليها ، وأن يحمي بلاد المسلمين من شرها .
عقوبة المصور ما يلي :
__________
(1) تقدم تخريجه (424).(11/334)
أنه أشد الناس عذاباً أو من أشدهم عذاباً .
أن الله يجعل له في كل صورة نفساً يعذب بها في نار جهنم .
أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ .
أنه في النار .
أنه ملعون ، كما في حديث أبي جحيفة في " البخاري " وغيره .
فائدتان :
الأولى : " كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ " يقتضي أن المراد التصوير تصوير الجسم كاملاً ، وعلى هذا ، فلو صور الرأس وحده بلا جسم أو الجسم وحده بلا رأس ، فالظاهر الجواز ، ويؤيده ما سبق في الحديث : " مر برأس التمثال فليقطع " ، ولم يقل : فليكسر ، لكن تصوير الرأس وحده عندي فيه تردد ، أما بقية الجسم بلا رأس ، فهو كالشجرة لا تردد فيه عندي .
الثانية : تؤخذ من حديث على رضي الله عنه ، وهو قوله : " أن لا تدع صورة إلا طمستها " أنه لا يجوز اقتناء الصور ، وهذا محل تفصيل ، فإن اقتناء الصور على أقسام:
القسم الأول : أن يقتنيها لتعظيم المصور ، لكونه ذا سلطان أو جاه أو علم أو عبادة أو أبوة أو نحو ذلك ، فهذا حرام بلا شك ، ولا تدخل الملائكة بيتاً فيه هذه الصورة ، لأن تعظيم ذوي السلطة باقتناء صورهم ثلم في جانب الربوبية وتعظيم ذوي العبادة باقتناء صورهم ثلم في جانب الألوهية .
القسم الثاني : اقتناء الصور للتمتع بالنظر إليها أو التلذذ بها ، فهذا حرام أيضاً ، لما فيه من الفتنة المؤدية إلى سفاسف الأخلاق .
القسم الثالث : أن يقتنيها للذكري حناناً أو تلطفاً ، كالذين يصورون صغار أولادهم لتذكرهم حال الكبر ، فهذا أيضاً حرام للحوق الوعيد به في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الملائكة لا تدخل بيتاً في صورة " (1).
__________
(1) البخاري : كتاب اللباس / باب من كره القعود علي الصور ، ومسلم : كتاب اللباس / باب تحريم تصوير صورة الحيوان .(11/335)
القسم الرابع : أن يقتني الصور لا لرغبة فيها إطلاقاً ، ولكنها تأتي تبعاً لغيرها ، كالتي تكون في المجلات والصحف ولا يقصدها المقتني ، وإنما يقصد ما في المجلات والصحف من الأخبار والبحوث العلمية ونحو ذلك ، فالظاهر أن هذا لا بأس به ، لأن الصور فيها غير مقصودة ، لكن إن أمكن طمسها بلا حرج ولا مشقة ، فهو أولي .
القسم الخامس : أن يقتني الصور على وجه تكون فيه مهانة ملقاة في الزبل ، أو مفترشة ، أو موطوءة ، فهذا لا بأس به عند جمهور العلماء ، وهل يلحق بذلك لباس ما فيه صورة لأن في ذلك امتهاناً للصورة ولا سيما إن كانت الملابس داخلية ؟
الجواب : نقول لا يحلق بذلك ، بل لباس ما فيه الصور محرم على الصغار والكبار ، ولا يلحق بالمفروش ونحوه ، لظهور الفرق بينهما ، وقد صرح الفقهاء رحمهم الله بتحريم لباس ما فيه صورة ، سواء كان قميصاً أو سراويل أم عمامة أم غيرها .
وقد ظهر أخيراً ما يسمي بالحفائظ ، وهي خرقة تلف على الفرجين للأطفال والحائض لئلا يتسرب النجس إلى الجسم أو الملابس ، فهل تلحق بما يلبس أو بما يمتهن ؟
هي إلى الثاني أقرب ، لكن لما كان امتهاناً خفياً وليس كالمفترش والموطوء صار استحباب التحرز منها أولي .
القسم السادس : أن يلجأ إلى اقتنائها إلجاء ، كالصور التي تكون في بطاقة إثبات الشخصية والشهادات والدراهم فلا إثم فيه لعدم إمكان التحرز منه ، وقد قال الله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج } [ الحج : 78] .
فيه مسائل :(11/336)
الأولى : التغليظ الشديد في المصورين . الثانية : التنبية على العلة ، وهي ترك الأدب مع الله ، لقوله : " ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي " . الثالثة : التنبية على قدرته وعجزهم ، لقوله : " فليخلقوا ذرة أو شعيرة " . الرابعة : التصريح بأنهم أشد الناس عذاباً . الخامسة : أن الله يخلق بعدد كل صورة نفساً يعذب بها المصور في جهنم .السادسة : أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح . السابعة : الأمر بطمسها إذا وجدت .
فيه مسائل :
الأولى : التغليظ في المصورين . تؤخذ من قوله : " أشد الناس عذاباً .. " الحديث .
الثانية : التنبيه على العلة ، وهي ترك الأدب مع الله ، تؤخذ من قوله : " ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي " .
فمن ذهب يخلق كخلق الله ، فهو مسيء للأدب مع الله عز وجل لمحاولته أن يخلق مثل خلق الله تعالى ، كما أن من ضاده في شرعه فقد أساء الأدب معه .
الثالثة : التنبيه على قدرته وعجزهم ، لقوله : " فليخلقوا ذرة أو شعيرة " .
لأن الله خلق أكبر من ذلك وهم عجزوا عن خلق الذرة أو الشعيرة .
الرابعة : التصريح بأنهم أشد الناس عذاباً . لقوله : " أشد الناس عذاباً .. " الحديث .
الخامسة : أن الله يخلق بعدد كل صورة نفساً يعذب بها المصور في جهنم .
لقوله : " يجعل له بكل صورة نفس يعذب بها في جهنم " .
السادسة : أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح . لقوله : " كلف أن ينفخ فيها الروح . لقوله " كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ " ، وهذا نوع من التعذيب من أشق العقوبات .
السابعة : الأمر بطمسها إذا وجدت . لقوله : " أن لا تدع صورة إلا طمستها " .
وتؤخذ من حديث الباب أيضاً : الجمع بين فتنة التماثيل وفتنة القبور ، لقوله : " أن لا تدع صورة إلا طمستها ، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته " ، لأن في كل منهما وسيلة إلى الشرك .
ويؤخذ منه أيضاً : إثبات العذاب يوم القيامة ، وأن الجزاء من جنس العمل ، لأنه يجعل له بكل صورة صورها نفي فتعذبه في جهنم .(11/337)
ويؤخذ منه : وقوع التكليف في الآخرة بما لا يطاق على وجه العقوبة .
***
باب ما جاء في كثرة الحلف
وقول الله تعالى : { واحفظوا أيمانكم } [ المائدة : 89] .
الحلف : هو اليمين والقسم ، وهو تأكيد الشيء بذكر معظم بصيغة مخصوصة بأحد حروف القسم ، وهي : الباء والواو ، والتاء .
ومناسبة الباب لكتاب التوحيد :
أن كثرة الحلف بالله يدل على أنه ليس في قلب الحالف من تعظيم الله ما يقتضي هيبة الحلف بالله ، وتعظيم الله تعالى من تمام التوحيد .
وقوله الله تعالى : { واحفظوا أيمانكم } [ المائدة : 89] .
قوله تعالى : { واحفظوا أيمانكم } . هذه الآية ذكرها الله في سياق كفارة اليمين ، وكل يمين لها ابتداء وانتهاء ووسط ، فالابتداء الحلف ، والانتهاء الكفارة ، والوسط الحنث ، وهو أن يفعل ما حلف على تركه ، أو يترك ما حلف على فعله ، وعلى هذا كل يمين على شيء ماض فلا حنث فيه ، وما لا حنث فيه فلا كفارة فيه ، لكن إن كان صادقاً ، فقد بر ، وإلا ، فهو آثم ، لأن الكفارة لا تكون إلا على شيء مستقبل .
وهل يجوز أن يحلف على ما في ظنه ؟
الجواب : نعم ، ولذلك أدلة كثيرة ، منها قول المجامع في نهار رمضان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : والله ، ما بين لا بتيها أهل بيت أفقر مني .
لكن إن حلفت على مستقبل بناء على غلبة الظن ولم يحصل ، فقيل : تلزمك كفارة ، وقيل : لا تلزمك ، وهو الصحيح ، كما لو حلفت على ماض .
مثاله : فلو قلت : والله ، ليقدمن زيد غداً . بناء على ظنك ، فلم يقدم ، فالصحيح أنه لا كفارة عليك ، لأنك حلفت على ما في قلبك وهو حاصل ، كأنك تقول : والله ، إن هذا هو ظني ، لكن هل يجوز لك أن تحلف على ما في ظنك ؟ سبق ذلك قريباً .(11/338)
إذن قوله : { واحفظوا أيمانكم } بعد أن ذكر اليمين والكفارة والحنث ، فما المراد بحفظ اليمين : هل هو الابتداء أو الانتهاء أو الوسط ؟ أي : هل المراد : لا تكثروا الحلف بالله ؟ أو المراد : إذا حلفتم فلا تحنثوا ؟ أو المراد : إذا حلفتم فحنثتم فلا تتركوا الكفارة ؟
الجواب : المراد كلها ، فتشمل أحوال اليمين الثلاثة ، ولهذا جاء المؤلف بها في هذا الباب ، لأن من معني حفظ اليمين عدم كثرة الحلف ، وإليك قاعدة مهمة في هذا ، أن النص من قرآن أو سنة إذا كان يحتمل عدة معاني لا ينافي بعضها بعضاً ولا مرجح لأحدها ، وجب حمله على المعاني كلها .
والمراد بعدم كثرة الحلف : ما كان معقوداً ومقصوداً ، أما ما يجري على اللسان بلا قصد ، مثل : لا والله ، وبلي والله ، في عرض الحديث ، فلا مؤاخذة فيه ، لقوله تعالى : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } [المائدة : 89] .
وكذلك من حفظ اليمين عدم الحنث فيها ، وهذا فيه تفصيل ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعبد الرحمن بن سمرة : " إذا حلفت على يمين ، فرأيت غيرها خيراً منها ، فكفر عن يمينك ، وائت الذي هو خير " (1)، فحفظ اليمين في الحنث أن لا يحنث إلا إذا كان خيراً ، وإلا ، فالأحسن حفظ اليمين وعدم الحنث .
مثال ذلك : رجل قال : والله ، لا أكلم فلاناً . وهو من المؤمنين الذين يحرم هجرهم ، فهذا يجب أن يحنث في يمينه ويكلمه وعليه الكفارة .
مثال آخر : رجل قال : والله ، لأعينن فلاناً على شيء محرم . فهذا يجب الحنث فيه والكفارة ولا يعينه ، لقوله تعالى : { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } [ المائدة : 2] .
وإذا كان الأمر متساوياً والحنث وعدمه سواء في الإثم ، فالأفضل حفظ اليمين .
__________
(1) البخاري : كتاب الإيمان / باب الكفارة قبل الحنث وبعده ، ومسلم : كتاب الأيمان / باب ندب من حلف يميناً فرأي غيرها خيراً منها أن يأتي الذي هو خير .(11/339)
كذلك من حفظ اليمين إخراج الكفارة بعد الحنث ، والكفارة واجبة فوراً ، لأن الأصل في الواجبات هو الفورية ، وهو قيام بما تقتضيه اليمين .
والكفارة : إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم ، أو تحرير رقبة ، وهذا على سبيل التخيير ، فمن لم يجد ، فصيام ثلاثة أيام ، وفي قراءة ابن مسعود متتابعة (1).
حفظها ابتداء ، وذلك بعدم كثرة الحلف ، وليعلم أن كثرة الحلف ، تضعف الثقة بالشخص وتوجب الشك في أخباره .
حفظها وسطاً ، وذلك بعدم الحنث فيها ، إلا ما استثني كما سبق .
حفظها انتهاء في إخراج الكفارة بعد الحنث .
ويمكن أن يضاف إلى ذلك معني رابع ، وهو أن لا يحلف بغير الله ، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - سمي القسم بغير الله حلفاً .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " الحلف منفقة للسلعة ، ممحقة للكسب " . أخرجاه (2).
قوله : " الحلف " . المراد به الحلف الكاذب ، كما بينته رواية أحمد : " اليمين الكاذبة"(3)، أما الصادقة ، فليس فيها عقوبة ، لكن لا يكثر منها كما سبق .
قوله : " منفقة للسلعة " . أي : ترويج للسلعة ، مأخوذ من النفاق وهو مضي الشيء ونفاذه ، والحلف على السلعة قد يكون حلفاً على ذاتها أو نوعها أو وصفها أو قيمتها .
الذات : كأن يحلف أنها من المصنع الفلاني المشهور بالجودة وليست منه .
النوع : كأن يحلف أنها من الحديد ، وهي من الخشب .
الصفة : كأن يحلف أنها طيبة ، وهي رديئة .
القيمة : كأن يحلف أن قيمتها بعشرة ، وهي بثمانية .
__________
(1) ابن جرير ( 12503)
(2) البخاري : كتاب البيوع / باب يمحق الله الربا ، ومسلم : كتاب المساقاة / باب النهي عن الحلف في البيع.
(3) الإمام أحمد في " المسند " (2/235،243،413).(11/340)
قوله : " ممحقة للكسب " . أي : متلفة له ، والإتلاف يشمل الإتلاف الحسي بأن يسلط الله علي ماله شيئاً يتلفه من حريق أو نهب أو مرض يلحق صاحب المال فيتلفه في العلاج ، والإتلاف المعنوي بأن ينزع الله البركة من ماله فلا ينتفع به لا ديناً ولا دينا ، وكم من إنسان عنده مال قليل ، لكن نفعه الله به ونفع غيره ومن وراءه ، وكم من إنسان عنده أموال لكن لم ينتفع بها صار والعياذ بالله بخيلاً يعيش عيشة الفقراء وهو غني ، لأن البركة قد محقت .
وعن سلمان ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : أشيمط زان ، وعائل مستكبر ، ورجل جعل الله بضاعته ، لا يشتري إلا بيمينه ، ولا يبيع إلا بيمينه " (1). رواه الطبراني بسند صحيح .
قوله : " ثلاثة " . مبتدأ ، وسوغ الابتداء بها أنها أفادت التقسيم .
قوله : " لا يكلمهم الله " . التكليم : هو إسماع القول ، وأما ما يقدره الإنسان في نفسه ، فلا يسمي كلاماً على سبيل الإطلاق ، وإن كان يسمي قولاً بالتقييد بالنفس ، كقوله تعالى : { ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله } [ المجادلة : 8] ، وقال عمر رضي الله عنه في قصة السقيفة " زورت في نفسي كلاماً " (2)، أي : قدرته .
فالكلام عند الإطلاق لا يكون إلا بحرف وصوت مسموع .
واختلف الناس في كلام الله إلى ثمانية أقوال كما ذكره ابن القيم في " الصواعق المرسلة"
__________
(1) الطبراني في " الكبير " (6111) ، و " الصغير " (821).
(2) البخاري : كتاب المحاربين / باب رجم الحبلي من الزنا إذا أحصنت .(11/341)
لكن إذا رجعنا إلى كتاب الله وسنة رسول - صلى الله عليه وسلم - ، وأخذنا منهما عقيدتنا صافية ، وقطعنا النظر عن هذه المجادلات لأنه ما أوتي الجدل قوم إلا ضلوا ، علمنا أن كلام الله حقيقي يسمع ، ولكن الصوت ليس كأصوات المخلوقين ، أما ما يسمع من كلام الله ، فلا شك أنه بحرف يفهمها المخاطب ، إذ لو كان يتكلم بحروف لا تشبه الحروف التي يتكلم بها المخاطب لم يفهم كلامه أبداً ، فالحروف التي تسمع هي حروف اللغة التي يخاطب الله بها من يخاطبه ، والله عز وجل يخاطب كل أحد بلغته .
ونفي الكلام هنا دليل على إثبات أصله ، لأنه لما نفاه عن قوم دل على ثبوته لغيرهم .
وبهذه الطريقة استدل بعض أهل العلم على إثبات رؤية الله يوم القيامة للمؤمنين بقوله تعالى : { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } [ المطففين : 15] ، فما حجب الفجار عن رؤيته إلا ورآه الأبرار ، إذ لو امتنعت الرؤية مطلقاً لكان الفجار والأبرار سواء فيها ، كذلك هنا لو انتفي كلام الله عز وجل عن كل أحد ، فلا وجه للتخصيص بنفي الكلام عن هؤلاء .
ولا يلزم من كلامه سبحانه أن يكون له آلة كالآدمي ، كاللسان ، والأسنان ، والحلق ، وما أشبه ذلك ، كما لا يلزم من سماع الله أن يكون له أذن ، فالأرض مثلاً تسمع وتحدث وليس لها لسان ولا آذان ، قال تعالى : { يومئذ تحدث أخبارها * بأن ربك أوحي لها } [ الزلزلة : 4، 5] وكذا الجلد ينطق يوم القيامة ، قال تعالى : { حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون } [ فصلت : 20] وكذا الأيدي والأرجل ، قال تعالى : { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون } [النور : 24] ، فالأيدي والأرجل والألسن والجلود والسمع والأبصار ليس لها لسان ولا شفتان ، هذا هو المعلوم لنا .
فإن قيل : إن الله يكلم من هو أعظم منهم جرماً وهم أهل النار ؟(11/342)
فالجواب : أن المراد بنفي الكلام هنا كلام الرضا ، أما كلام الغضب والتوبيخ ، فإن هذا الحديث لا يدل على نفيه .
وقوله : " ولا يزكيهم " . التزكية : بمعني التوثيق والتعديل ، فيوم القيامة لا يوثقهم ، ولا يعدلهم ، ولا يشهد عليهم بالإيمان ، لما فعلوه من هذه الأفعال الخبيثة .
وقوله : " ولهم عذاب أليم " . " عذاب " : عقوبة ، و " أليم " ، أي : شديد موجع مؤلم .
وقوله : " أشيمط " . هو الذي اختلط سواد شعره ببياضه لكبر سنه ، وكبير السن قد بردت شهوته ، وليس فيه ما يدعوه إلى الزني ، ولكنه زني مما دل على خبث في إرادته ، ولأنه عادة قد بلغ أشده واستوي وعرف الحكمة ، وملكه عقله أكثر من هواه ، فالزني منه غريب ، إذ ليس عن شهوة ملحة ، ولكن عن سوء نية وقصد وضعف إيمان بالله ، فصار السبب المقتضي لزناه ضعيفاً ، والحكمة التي نالها ببلوغ الأشد كبيرة ، وكأن تقادم سنه يستلزم أن يغلب جانب العقل ، ولكنه خالف مقتضى ذلك ، ولهذا صغره تحقير لشأنه ، فقال " أشيمط " تصغير أشمط .
قوله : " زان " . صفة لأشيمط ، وهو مرفوع بضمة مقدرة على الياء المحذوفة ، والحركة التي على النون ليست حركة إعراب .
والزني : فعل الفاحشة في قبل أو دبر ، وقد نهي الله عنه وبين أنه فاحشة ، فقال : { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً } [ الإسراء : 32] .
قوله : " عائل مستكبر " . أي فقير ، قال تعالى : { ووجدك عائلاً فأغني } [ الضحي : 8] ، فالمقابلة هنا في قوله : { فأغني } بينت أن معني عائلاً : فقيراً .
والاستكبار : الترفع والتعاظم ، وهو نوعان :
استكبار عن الحق بأن يرده أو يترفع عن القيام به .
واستكبار على الخلق باحتقارهم وستذلالهم ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الكبر بطر الحق وغمط الناس " (1).
__________
(1) مسلم : كتاب الإيمان / باب تحريم الكبر .(11/343)
فالفقير داعي الاستكبار عنده ضعيف ، فيكون استكباره دليلاً على ضعف إيمانه وخبث طويته ، ولذلك كانت عقوبته أشد .
قوله : " ورجل جعل الله بضاعته ، لا يشتري إلا بيمينه ، ولا يبيع إلا بيمينه " .
أي : جعل الحلف بالله بضاعة له ، وإنما ساغ التأويل هنا ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي فسره بذلك ، حيث قال : " لا يشتري إلا بيمينه .." ، وإذا كان المتكلم هو الذي أخرج كلامه عن ظاهره ، فهو أعلم بمراده ، وهذا كما في الحديث القدسي : " عبدي ! استطعمتك فلم تطعمني ، استسقيتك فلم تسقني " ، فبينه الله عز وجل بقوله : "عبدي فلان جاع فلم تطعمه ، استسقاك فلم تسقه " (1).
فقوله : " لا يشتري إلا بيمينه ،ولا يبيع إلا بيمينه " استئنافيه تفسيرية ، لقوله : " جعل الله بضاعته " ، ومعناها : أنه كلما اشتري حلف، وكلما باع حلف طلباً للكسب ، واستحق هذه العقوبة ، لأنه إن كان صادقاً ، فكثرة إيمانه تشعر باستحفافه واستهانته باليمين ومخالفته قوله تعالى : { واحفظوا أيمانكم } .
وإن كان كاذباً جمع بين أربعة أمور محذورة :
استهانته باليمين ومخالفته أمر الله بحفظ اليمين .
كذبه .
أكله المال الباطل .
أن يمين غموس ، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال : " من حلف على يمين هو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان " (2).
__________
(1) تقدم ( ص 930)
(2) البخاري : كتاب الإيمان / باب قوله الله تعالى : { أن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً } ، ومسلم : كتاب الإيمان / باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة .(11/344)
وكل ما في هذا الحديث يجب الحذر منه والبعد عنه ، لأن هذا ما يريده النبي - صلى الله عليه وسلم - من الإخبار به ، وإلا ، فما الفائدة من سماعنا له إذا لم تظهر مقتضيات النصوص على معتقداتنا وأقوالنا وأفعالنا ؟ فنحن والجاهل سواء بل نحن أعظم ، ولذلك لا ينبغي أن تمر علينا بلا فائدة فنعرف معناه فقط ، بل يجب أن نعرف معناها ونعمل بمقتضاها ، ثم يجب علينا أيضاً بوصفنا ممن آتاهم الله العلم أن نحذر الناس منها لنكون وارثين للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان عالماً عاملاً داعياً ، أما طالب العلم ، فإنه ليس وراثاً للرسول عليه الصلاة والسلام حتى يقوم بما قام به من العمل والدعوة ، فعلينا أن نحذر إخواننا المسلمين من هذا العمل الكثير بين الناس ، وهو جعل الله بضاعة لهم ، لا يبيعون إلا بأيمانهم ، ولا يشترون إلا بأيمانهم .
مناسبة الحديث للباب : أمن من جعل الله بضاعته ، فإن الغالب أنه يكثر الحلف بالله - عز وجل .
وفي الصحيح عن عمران بن حصين رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " خير أمتي قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ( قال عمران : فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً ؟ ) ، ثم إن بعدكم قوم يشهدون ولا يستشهدون ، ويخوفون ولا يؤتمنون ، وينذرون ولا يوفون ، ويظهر فيهم السمنن " (1).
قوله : " وفي الصحيح " . أي : " الصحيحين " ، وانظر كلامنا : (ص 146) في باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله .
قوله : " خير أمتي قرني " . "خير " مبتدأ ، و" قرني" : خبر .
__________
(1) البخاري : كتاب فضائل الصحابة / باب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومسلم : كتاب فضائل الصحابة /باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم .(11/345)
وفي لفظ لهما : " خيركم قرني " ، وفي حديث أبن مسعود عند البخاري : " خير الناس قرني " (1)، وهذا هو المراد ، إذ المراد بالخيرية هنا الخيرية المضافة إلى الناس عموماً وليس للأمة فقط ، ولهذا ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال : بعثت من خير قرون بني آدم " (2).
وعليه فالخيرية في القرن الأول خيرية عامة على جميع الناس وليس على هذه الأمة فقط .
وأما قوله : " خير أمتي " . فإنه يقال : إن الخيرية إذا مضافة إلى عموم الناس دخل فيها هذه الأمة ، لكن إذا خصصناها بهذه الأمة خرج بقية الناس ، والأخذ بالعموم الداخل فيه الخاص أولي ، وقد يقال : إن معني اللفظين واحد ، فإن هذه الأمة خير الأمم ، فإذا كان الصحابة خير قرونها لزم أن يكونوا خير الناس .
والقرن مأخوذ من الاقتران ، والمراد : الطائفة المقترفون بشيء من الأشياء ، كالملة ، أو السن ، أو ما أشبه ذلك .
فمن العلماء من عرفه : بالطائفة كما سبق ، ومنهم من عرفه بالزمن وهؤلاء اختلفوا فيه على أقوال :
فمنهم من حدة بأربعين ، ومنهم من حده بثمانين ، ومنهم من حده بمئة ، ومنهم من حده بمئة وعشرين سنة .
فعلي الأول يكون معني : " خير أمتي قرني " : خير أمتي الصحابة ، سواء بلغوا مئة سنة أم لا ، والمعروف أن آخر من مات من الصحابة مات سنة مئة وعشرة أو مئة وعشرين ، فإذا قلنا : مئة وعشرين ، فهذه المدة زائدة على المئة ، وإذا اعتبرناها من البعثة تكون مئة وثلاثاً وثلاثين سنة ، لأن التقويم مبتدأ من الهجرة ، والهجرة كانت بعد البعثة بثلاث عشرة سنة ، وهذا القرن الأول ، أما التابعون ، فإن أخرهم مات سنة مائة وثمانين ، فيكون بينهم وبين الصحابة ستون سنة ، وأما تابعو التابعين ، فإن أخرهم مات ستة مئتين وعشرين ، وهذا منتهي القرن الثالث .
__________
(1) تقديم تخريجه في الحديث قبله .
(2) البخاري : كتاب المناقب / باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - .(11/346)
فقرن الصحابة إن ابتدائه من البعثة صار ثلاثاً وثلاثين ومائة سنة ، وإن ابتدأته من الهجرة صار عشرين ومائة سنة .
وقرن التابعين ستون سنة .
وقرن تابعي التابعين أربعون سنة .
وقال شيخ الإسلام ابن تيميه : إن القرن معتبر بمعظم الناس ، فإذا كان معظم الناس الصحابة ، فالقرن قرنهم ، وإذا كان معظم الناس التابعين ، فالقرن قرنهم ، وهكذا .
قوله : " أمتي" . المراد أمة الإجابة ، لأن أمة الدعوة إذا لم يؤمنوا فليس فيهم خير .
قوله : " فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً " . وإذا كان عمران لا يدري ، فالأصل أنه ذكر مرتين ، فتكون القرون المفضلة ثلاثة ، وهذا هو المشهور .
قوله : " ثم إن بعدكم قوم " . وفي البخاري : " ثم إن بعدكم قوماً " بنصب " قوماً " ، وهذا لا إشكال فيه ، لكن في هذه الرواية برفع " قوم " فيه إشكال ، لأن " قوم اسم إن ، وقد اختلف العلماء في هذا :
فقيل على لغة ربيعة : الذين لا يقفون على المنصوب بالألف ، فلم يثبت الكاتب الألف ، فصارت " قوم " .
وهذا جواب ليس بسديد ، لأن الرواية ليست مكتوبة فقط ، بل تكتب وتقرأ باللفظ عند أخذ التلاميذ الرواية من المشايخ ، ولأن هذا ليس محل وقف .
وقيل : إن " إن " اسمها ضمير الشأن محذوف ، إلحاقاً لها بأن المخففة ، لأن " إن " المخففة تعمل بضمير الشأن ، قال الشاعر :
وإن مالك كانت كرام المعادن
فإن المشددة هنا حملت على إن المخففة ، فاسمها ضمير الشأن محذوف ، وعليه يكون "بعدكم"
: خير مقدم ، و" قوم " : مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر " إن " .
وقيل : " إن " هنا بمعني ، فيكون المعني ثم نعم قوم ، وهذا فيه تكلف .
والظاهر : القول الثاني إن صحت الرواية .(11/347)
قوله : " يشهدون " أي : يخبرون عما علموه مما شاهدوه أو سمعوه أو لمسوه أو شموه ، لأن الشهادة أخبار الإنسان بما يعلم ، قال تعالى : { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } [ الزخرف : 86] ، ولا يشترط أن تكون بلفظ أشهد على الصحيح ، وقد قيل للإمام أحمد : إن فلاناً يقول : " إن العشرة في الجنة ولا أشهد " . فقال : إن فقد شهد .
قوله : " ولا يستشهدون " . اختلف العلماء في معني ذلك :
فقيل : " لا يستشهدون " ، أي لا يطلب منهم تحمل الشهادة ، فيكون المراد الذين يشهدون بغير علم فهم شهداء زور .
وقيل : لا يطلب منهم أداء الشهادة ، فيكون المراد أداء الشهادة قبل أن يدعي لأدائها ، فيكون ذلك دليلاً على تسرعهم في أداء الشهادة وعدم اهتمامهم بها .
ولكن هذا القول يشكل عليه حديث زيد بن خالد الذي رواه مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ألا أخبركم بخير الشهداء : الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها " (1)، فهذا ترغيب في أداء الشهادة قبل أن يسألها بدليل قوله : " ألا أخبركم بخير الشهداء " ، وظاهره : أنه معارض لحديث عمران ، فجمع بعض العلماء بينهما بأن المراد بحديث زيد من يشهد بحق لا يعلمه المشهود له .
وجمع بعض العلماء بأن المراد بحديث زيد : من يشهد بشيء من حقوق الله تعالى ، لأن حقوق الله تعالى ليس لها مطالب ، فيؤدي الشهادة من غير أن يسألها ، فيكون المراد بهم رجال الأمر بحديث زيد بن خالد أنه كناية عن السرعة بأداء الشهادة ، فكأنه لشدة إسراعه يؤديها قبل أن يسألها .
وبعض العلماء رجح حديث عمران ، لأنه في " الصحيحين " على حديث زيد بن خالد ، لأنه في " مسلم " .
ولكن إذا أمكمن الجمع ، فلا يجوز الترجيح لأن مقتضاه إلغاء أحد النصين ، والجمع هنا ممكن كما تقدم .
__________
(1) مسلم : كتاب الأفضية / باب خير الشهود .(11/348)
قوله : " يخونون ولا يؤمنون " . هذا هو الوصف الثاني لهم ، أي : أنهم أهل خيانة وليسوا أهل خيانة وليسوا أهل خيانة وليسوا أهل أمانة ، فلا يأتمنهم الناس ، وليس المعني أنه تقع منهم الخيانة بعد الائتمان حتى يقال : لماذا لم يقل : يؤتمنون ويخونون ؟ فكأن الخيانة طبيعة لهم ، فلخيانتهم لا يؤتمنون .
الخيانة : الغدر والخداع في موضع الائتمان ، وهي من الصفات المذمومة بكل حال .
وأما المكر والخديعة ، فهي مذمومة في حال دون حال ، فقد تكون محمودة إذا كانت في مقاتلة عدو ماكر خادع لدلالتها على القوة والإيقاع بالعدو من حيث لا يشعر ، ولهذا يوصف الله ، سبحانه وتعالى بالمكر والخداع في الحال التي يكون فيها مدحاً ، قال تعالى : { ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } [ الأنفال : 30] ، وقال تعالى : { يخادعون الله وهو خادعهم } [ النساء : 142] .
وأما الخيانة ، فلا يوصف الله بها أبداً ، لأنها ذم بكل حال ، ولهذا كان قول العامة : خان الله من خان حراماً ، لأنهم وصفوا الله بما لا يصح أن يوصف به ، قال الله تعالى : { وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم } [ الأنفال : 71] ، ولم يقل : فخانهم .
قوله : " ولا يؤتمون " . أي : ليسوا أهلاً للأمانة ، فلا يؤمنون على الدماء ، ولا الأموال ، ولا الأعراض ، ولا أي شيء ، والظاهر أن هذا في القرن الرابع ، فما بالك بالقرن الخامس عشر ؟ ! وفي حديث آخر : " ويفشو بينهم الكذب " (1).
قوله : " وينذرون ولا يوفون " . هذا هو الوصف الثالث لهم . النذر : إلزام الإنسان نفسه بالشيء ، وقد يكون للآدمي ، وهذا بمعني العهد الذي يوقعه الإنسان بينه وبين غيره ، وقد يكون لله ، كنذر العبادة يجب الوفاء به ، فهم ينذرون لله ولا يوفون له ، ويعاهدون المخلوق ولا يوفون له ، وهذا من صفات النفاق .
__________
(1) الإمام أحمد في " المسند " (1/18).(11/349)
قوله : " ويظهر فيهم السمن " . هذا هو الوصف الرابع لهم ، " السمن " : كثرة الشحم واللحم ، وهذا الحديث مشكل ، لأن ظهور السمن ليس باختيار الإنسان ، فكيف يكون صفة ذم ؟ !
قال أهل العلم : المراد أن هؤلاء يعتنون بأسباب السمن من المطاعم والمشارب والترف ، فيكون همهم إصلاح أبدانهم وتسمينها .
أما السمن الذي لا اختيار للإنسان فيه ، فلا يذم عليه ، كما لا يذم الإنسان على كونه طويلاً أو قصيراً أو أسود أو أبيض ، لكن يذم على شيء يكون هو السبب فيه .
وفيه عن ابن مسعود ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يجىء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ، ويمينه شهادته " .
قوله : " وفيه " . أي " في الصحيح " ، وقد سبق الكلام على مثل هذه العبارة من المؤلف رحمه الله . انظر : (ص 146) في باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله .
قوله : " خير الناس " . دليل على أن قرنه خير الناس ، فصحابته - صلى الله عليه وسلم - أفضل من الحواريين الذين هم أنصار عيسى ، وأفضل من النقباء السبعين الذين اختارهم موسى - صلى الله عليه وسلم - .
قوله : " ثم يجىء قوم " أي : بعد القرون الثلاثة .
قوله : " تسبق شهادة أحدهم يمينه ، ويمينه شهادته " . يحتمل ذلك وجهين :
الأول : أنه لقلة الثقة بهم لا يشهدون إلا بيمين ، فتارة تسبق الشهادة وتارة تسبق اليمين .
الثاني : أنه كناية عن كون هؤلاء لا يبالون بالشهادة ولا باليمين ، حتى تكون الشهادة واليمين في حقهم كأنهما متسابقتان .
والمعنيان لا يتنافيان ، فيحمل عليهما الحديث جميعاً .
وقوله : " ثم يجىء قوم " يدل على أنه ليس كل أصحاب القرن على هذا الوصف ، لأنه لم يقل : ثم يكون الناس ، الفرق واضح .(11/350)
وهذه الأفضلية أفضلية من حيث العموم والجنس ، لا من حيث الأفراد ، فلا يعني أنه لا يوجد في تابعي التابعين من هو أفضل من التابعين ، أو لا يوجد في التابعين من هو أعلم من بعض الصحابة ، أما أفضل الصحبة ، فلا يناله أحد غير الصحابة ولا أحد يسبقهم فيه ، وأما العلم والعبادة ، فقد يكون فيمن بعد الصحابة من هو أكثر من بعضهم علماً وعبادة .
تنبيه :
ساق المؤلف رحمة الله الحديث في بعض النسخ بتكرار قوله : " ثم الذين يلونهم " ثلاث مرات ، وهو في " الصحيحين " بتكرارها مرتين .
قال إبراهيم : كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار (1).
قوله : " وقال إبراهيم " . هو إبراهيم النخعي ، من التابعين ومن فقهائهم .
قوله : " كانوا يضربوننا على الشهادة ونحن صغار " في نسخة : " على الشهادة والعهد : ، والظاهر أن الذي يضربهم ولي أمرهم .
وقوله : " علي الشهادة " . أي : يضربوننا عليها إن شهدنا زوراً ، أو إذا شهدنا ولم نقم بأدائها ، ويحتمل أن المراد بذلك ضربهم على المبادرة بالشهادة والعهد ، وبه فسر ابن عبد البر .
وقوله : و" العهد " . إذا تعاهدوا يضربونهم على الوفاء بالعهد .
قوله : " ونحن صغار " . الجملة حالية ، وإنما يضربونهم وهم صغار للتأديب .
ويستفاد من كلام إبراهيم أن الصبي تقبل منه الشهادة ، لأن قوله : " ونحن صغار " ، أي لم يبلغوا ، وهذا محل خلاف بين أهل العلم .
فقال بعضهم : يشترط لأداء الشهادة أن يكون بالغاً ، فإذا تحمل وهو صغير ، لم تقبل منه حتى يبلغ .
وقال بعضهم : شهادة الصغار بعضهم على بعض مقبولة تحملاً وأداء ، لأن البالغ يندر أن يوجد أن يوجد بين الصغار .
__________
(1) البخاري : كتاب الشهادات / باب لا يشهد على جور ، ومسلم : كتاب فضائل الصحابة / باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم .(11/351)
وقال بعضهم : تقبل شهادة الصغار بعضهم على بعض إن شهدوا في الحال ، لأنه بعد التفرق يحتمل النسيان أو التلقين ، ولا يسع العمل إلا بهذا ، وإلا ، لضاعت حقوق كثيرة بين الصبيان.
ويستفاد من هذا الأثر جواز ضرب الصبي على الأخلاق إذا لم يتأدب إلا بالضرب .
فيه مسائل :
الأولى : الوصية بحفظ الأيمان . الثانية : الإخبار بأن الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة . الثالثة : الوعيد الشديد فيمن لا يبيع إلا بيمينه ولا يشتري إلا بيمينه . الرابعة : التنبيه على أن الذنب يعظم مع قلة الداعي . الخامسة : ذم الذين يخلفون ولا يستحلفون . السادسة : ثناؤه- صلى الله عليه وسلم - علي القرون الثلاثة أو الأربعة ، وذكر ما يحدث بعدهم . السابعة : ذم الذين يشهدون ولا يستشهدون . الثامنة : كون السلف يضربون الصغار على الشهادة والعهد .
فيه مسائل :
الأولى : الوصية بحفظ الأيمان . يؤخذ من قوله تعالى : { واحفظوا أيمانكم } ، والأمر وصية .
الثانية : الإخبار بأن الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة . تؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم - : " الحلف منفقة للسلعة .. " إلخ .
الثالثة : الوعيد الشديد لمن لا يبيع ولا يشتري إلا بيمنية . تؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم - : " ورجل الله بضاعته ، لا يشتري إلا بيمينه .. " إلخ في ضمن الثلاثة الذين لا يكلمهم الله ولا يزكيهم .
الرابعة : التنبيه على أن الذنب يعظم مع قلة الداعي : تؤخذ من حديث سلمان ، حيث ذكر الأشيمط الزاني والعائل المستكبر ، وغلظ في عقوبتهم ، لأن الداعي إلى فعل المعصية المذكورة ضعيف عندهما .
الخامسة : ذم الذين يحلفون ولا يستحلفون . لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " ورجل جعل الله بضاعته ، لا يشتري إلا بيمينه .. " .
ولكن هذا ليس على إطلاقة ، بل النبي - صلى الله عليه وسلم - حلف ولم يستحلف في مواضع عديدة ، بل أمره الله سبحانه أن يحلف في ثلاثة مواضع من القرآن بدون أن يستحلف .(11/352)
في قوله : { ويستنبؤنك أحق هو قل إي وربي } [ يونس : 53] .
وفي قوله : { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلي وربي لتبعثن } [ التغابن : 7] .
وفي قوله : { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلي وربي لتأتينكم } [ سبأ : 3] .
وعليه ، فإن الحلف إذا دعت الحاجة إليه أو اقتضته المصلحة ، فإنه جائز بل قد يكون مندوباً إليه ، كحلف النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة المخزومية ، حيث قال : " وإيم الله ، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها " (1)، فقد وقع موقعاً عظيماً ، من هؤلاء القوم الذين أهمهم شأن المخزومية وممن يأتي بعدهم .
السادسة : ثناؤه - صلى الله عليه وسلم - على القرون الثلاثة أو الأربعة وذكر ما يحدث بعدهم .
تؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم - : " خير الناس قرني .. " ، وقوله " أو الأربعة " بناء على ثبوت ذكر الرابع ، وأكثر الروايات وأثبتها على حذفه .
وقوله : " وذكر ما يحدث " . لو جعلت هذه المسألة مستقلة ، لكان أبين وأوضح ، لأن الإخبار عن شيء مستقبل ووقوعه كما أخبر دليل على رسالته - صلى الله عليه وسلم - .
السابعة : ذم الذين يشهدون ولا يستشهدون . تؤخذ من حديث عمران ، وكذا ذم الذين يخونون ولا يؤتمنون ، وينذرون ولا يوفون ، والذين يتعاطون أسباب السمن ويغفلون عن سمن القلب بالإيمان والعلم .
الثامنة : كون السلف يضربون على الشهادة والعهد . تؤخذ من قول إبراهيم النخعي : " كانوا يضربونها على الشهادة والعهد " ، فيؤخذ منه تعظيم شأن العهد والشهادة وضرب الصغار على ذلك ، ويؤخذ منه أيضاً عناية السلف بتربية أولادهم ، وأن من منهجهم الضرب على تحقيق ذلك استناداً إلى إرشاد نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ، حيث أمر يضرب من بلغ عشر سنين على الصلاة ، لكن يشترط لجواز الضرب :
__________
(1) البخاري : كتاب الحدود / باب كراهة الشفاعة في الحد ، ومسلم : كتاب الحدود / باب قطع السابق الشريف .(11/353)
الأول : أن يكون الصغير قابلاً للتأديب ، فلا يضرب من لا يعرف المراد بالضرب .
الثاني : أن يكون التأديب ممن له ولاية عليه .
الثالث : أن لا يسرف في ذلك كمية أو نوعاً أو موضوعاً أو غير ذلك .
الرابع : أن يقع من الصغير ما يستحق التأديب عليه .
الخامس : أن يقصد تأديبه لا الانتقام لنفسه ، فإن قصد الانتقام ، لم يكن مؤدباً بل منتصر.
***
باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه - صلى الله عليه وسلم -
وقوله تعالى : { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها .. } الآية [النحل : 91] .
قوله : ( ذمة الله وذمة نبيه ).
الذمة : العهد : وسمي بذلك ، لأنه يلتزم به كما يلتزم صاحب الدين بدينه في ذمته .
والله له عهد على عبادة : أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً .
وللعباد عهد على الله ، وهو لا يعذب من لا يشرك به شيئاً ، قال الله تعالى : { ولقد أخذ الهل ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً } ، فهذا عهد الله عليهم ، ثم قال : { لآكفرن عنكم سيئاتكم ولاخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار } [ البقرة : 40] ، وللنبي - صلى الله عليه وسلم - عهد على الأمة ، وهو أن يتبعوه في شريعته ولا يبتدعوا فيها ، وللأمة عليه عهد وهو أن يبلغهم ولا يكتمهم شيئاً .
وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ما من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على ما هو خير (1).
والمراد بالعهد هنا : ما يكون بين المتعاقدين في العهود كما كان بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل مكة في صلح الحديبية .
قوله تعالى : { وأوفوا } . أمر الرباعي من أوفي يوفي ، والإيفاء إعطاء الشيء تاماً ، ومنه إيفاء المكيال والميران .
__________
(1) مسلم : كتاب الإمارة / باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء .(11/354)
قوله : { بعهد الله } . يصلح أن يكون من باب إضافة المصدر إلى فاعله أو إلى مفعوله ، أي : بعهدكم الله ، أو بعهد الله إياكم ، لأن الفاعل إذا كان على وزن فاعل اقتضي المشاركة من الجانبين غالباً ، مثل : قاتل ودافع .
قوله : قوله : { إذا عاهدتم } . فائدتها التوكيد والتنبيه على وجوب الوفاء ، أي : إذا صد منكم العهد ، فإنه لا يليق منكم أن تدعوا الوفاء ، ثم أكد ذلك بقوله : { ولا تنقضوا الأيمان } . نقض الشيء هو حل إحكامه ، وشبه العهد بالعقدة ، لأنه عقد بين المتعاهدين .
قوله : { بعد توكيدها } . توكيد الشيء بمعني تثبيته ، والتوكيد مصدر وكد ، يقال : وكد الأمر وأكده تأكيداً وتوكيداً ، والواو أفصح من الهمزة .
قوله : { وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً } .الجملة حالية فائدتها قوة التوبيخ أنه جعل الله عليه كفيلاً .
قوله : { إن الله يعلم ما تفعلون } . ختم الله الآية بالعلم تهديداً عن نقض العهد ، لأن الإنسان إذا علم بأن الله يعلم كل ما يفعل ، فإنه لا ينقض العهد .
ومناسبة الآية للترجمة واضحة جداً ، لأن الله قال : { أوفو بعهد الله } ، وقال : { وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً } . والعهد : الذمة .
ومناسبة الباب للتوحيد :
أن عدم الوفاء بعهد الله تنقص له ، وهذا مخل بالتوحيد .
وعن بريدة ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمر أميراً على جيش أو سرية ، أوصاه بتقوي الله ، وبمن معه من المسلمين خيراً ، فقال :
قوله : " إذا أمر " . أي : جعله أميراً ، والأمير في صدر الإسلام يتولي التنفيذ والحكم والفتوي والإمامة .
قوله : " أو سرية " . هذه ليست للشك ، بل للتنويع ، فإن الجيش ما زاد على أربع مئة رجل والسرية ما دون ذلك .
والسرايا ثلاثة أقسام :
قسم ينفذ من البلد ، وهذا ظاهر ، وقسم ما غنمه كقسمة ما غنم الجيش .(11/355)
قسم ينفذ في ابتداء سفر الجهاد ، وذلك بأن يخرج الجيش بكامله ثم يبعث سرية تكون أمامهم .
قسم ينفذ في الرجعة ، وذلك بعد رجوع الجيش .
وقد فرق العلماء بينهما من حيث الغنيمة ، فلسرية الابتداء الربع بعد الخمس ، لأن الجيش وراءها ، فهو ردء لها وسيلحق بها، ولسرية الرجعة الثلث بعد الخمس ، لأن الجيش قد ذهب عنها ، فالخطر عليها أشد .
وهذا الذي تعطاه السريتان راجع إلى اجتهاد الإمام : إن شاء أعطي وإن شاء منع حسبما تقتضيه المصلحة .
قوله : " أوصاه " . الوصية : العهد بالشيء إلى غيره على وجه الاهتمام به .
قوله : " بتقوي الله " . التقوي : هي امتثال أوامر الله ، واجتناب نواهيه على علم وبصيرة ، وهي مأخوذة من الوقاية ، وهي اتخاذ وقاية من عذاب الله ، وذلك لا يكون إلا بفعل الأوامر واجتناب النواهي .
وقال بعضهم : التقوي : أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله ، وأن تترك ما نهي عنه الله على نور من الله تخشي عقاب الله .
وقال بعضهم :
خل الذنوب صغيرها ... ... ... وكبيرها ذاك التقي
واعمل كماش فوق أر ... ... ... ض الشواك يحذر ما يري
لا تحقرن صغيرة ... ... ... إن الجبال من الحصي
وهذه الوصية بالتقوى لأمير الجيش ، لأن الغالب أن الأمير يكون معه ترفع يخشي منه أن يجانب الصواب من أجله ، ولأن تقواه سبب لتقوي من تحت ولايته .
قوله : " وبمن معه من المسلمين خيراً " . أي : أوصاه أن يعمل بمن معه من المسلمين خيراً في أمور والآخرة ، فيسلك بهم الأسهل ، ويطلب لهم الأخصب إذا كانوا على إبل أو خيل ، ويمنع عنهم الظلم ، ويأمرهم بالمعروف ، وينهاهم عن المنكر ، وغير ذلك مما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة .
" اغزوا باسم الله في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله . اغزوا ، ولا تغلوا ، ولا تغدروا ، ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا وليداً .(11/356)
ويستفاد من هذا الحديث : أنه يجب على من تولي أمراً من أمور المسلمين أن يسلك بهم الآخير ، بخلاف عمل الإنسان بنفسه ، فإنه لا يلزم إلا بالواجب .
قوله : " اغزوا باسم الله " . يحتمل أنه أراد أن يعلمهم أن يكونوا دائماً مستعينين بالله ، ويحتمل أنه أراد أن يفتتح الغزو باسم الله .
والأول أظهر ، والثاني وأيضاً محتمل ، لأن بعث الجيوش من الأمور ذات البال ، وكل أمر لا يبدأ فيه باسم الله ، فهو أبتر .
قوله : " في سبيل الله " . متعلق بـ " اغزوا " ، وهو تنبيه من الرسول - صلى الله عليه وسلم - على حسن النية والقصد ، لأن الغزاة لهم أغراض ، ولكن الغزو النافع الذي تحصل به إحدي الحسنيين ما كان خالصاً لله ، وذلك بأن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا لا لحمية أو شجاعة أو ليري مكانه أو لطلب دنيا .
فإن قاتل لأجل الوطن فمن قاتل لأنه وطن إسلامي تجب حمايته وحماية المسلمين فيه ، فهذه نية إسلامية صحيحة ، وإن كان القومية أو الوطنية فقط ، فهو حمية وليس في سبيل الله .
وقوله : " في سبيل الله " . تشمل النية والعمل ، فالنية سبقت ، والعمل : أن يكون الغزو في إطار دينه وشريعته ، فيكون حسبما رسمه الشارع .
قوله : " قاتلوا من كفر بالله " . تشمل النية والعمل ، فالنية سبقت ، والعمل : أن يكون الغزو في إطار دينه وشريعته ، فيكون حسبما رسمه الشارع .
قوله : " قاتلوا من كفر بالله " . " قاتلوا " : فعل أمر وهو للوجوب ، أي يجب علينا أن نقاتل من كفر بالله ، قال تعالى : { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير } [ التحريم : 9] . وقال تعالى { يأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } [ التوبة : 123] ، فإذا قاتلنا الذين يلوننا ، فأسلموا ، نقاتل من وراءهم ، وهكذا إلى أن نخلص إلى مشارق الأرض ومغاربها .(11/357)
و" من " : اسم موصول ، وصلته " كفر " ، واسم الموصول وصلته يفيد العلية ، أي : لكفر ، فنحن لا نقاتل الناس عصبية أو قومية أو وطنية ، نقاتلهم لكفرهم لمصلحتهم وهي إنقاذهم من النار .
والكفر مداره على أمرين : الجحود ، والاستكبار .
أي : الاستكبار عن طاعته ، أو الجحود لما يجب قبوله وتصديقة .
قوله : " أغز" . تأكيد ، وأتي بها ثانية كأنه يقول : لا تحقروا الغزو وإغزوا بجد .
قوله : " ولا تغلو " . الغلول أن يكتم شيئاً من الغنيمة فيختص به ، وهو من كبائر الذنوب ، قال تعالى : { ومن يغلل يأت بماغل يوم القيامة } [ آل عمران : 161] ، أي معذباً به ، فهو يعذب بما غل يوم القيامة ويعزر في الدنيا ، قال أهل العلم : يعزر الغال بإحراق رحله كله ، إلا المصحف لحرمته ، والسلاح لفائدته ، وما فيه روح ، لأنه يجوز تعذيبه بالنار .
قوله : " ولا تغدروا " . الغدر : الخيانة ، وهذا هو الشاهد من الحديث ، وهذا إذا عاهدنا ، فإنه يحرم الغدر ، أما الغدر بلا عهد ، فلنا ذلك لأن الحرب خدعة ، وقد ذكر أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه خرج إليه رجل من المشركين ليبارزه ، فلما أقبل الرجل على علي صاح به علي : ما خرجت لأبارز رجلين ، فالتفت المشرك يظن أنه جاء أحد من أصحابه ليساعده ، فقتله على رضي الله عنه .
وليعلم أن لنا مع المشركين ثلاث حالات .
الحال الأول : أن لا يكون بيننا وبينهم عهد ، فيجب قتالهم بعد دعوتهم إلى الإسلام وإبائهم عنه وعن بذل الجزية ، بشرط قدرتنا على ذلك .
الحال الثانية : أن يكون بيننا وبينهم عهد محفوظ يستقيمون فيه ، فهنا يجب الوفاء لهم بعدهم ، لقوله تعالى : { فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين } [ التوبة : 7] ، وقوله : { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم } [ الأنفال : 58] .(11/358)
الحالة الثالثة : أن يكون بيننا وبينهم عهد نخاف خيانتهم فيه ، فهنا يجب أن ننبذ إليهم العهد ونخبرهم أنه لا عهد بيننا ، لقوله تعالى : { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين } [ الأنفال : 58] .
قوله : " ولا تمثلوا " . التمثيل : التشويه بقطع بعض الأعضاء ، كالأنف واللسان وغيرها ، وذلك عند أسرهم ، لأنه لا حاجة إليه ، لأنه انتقام في غير محله ، واختلف العلماء فيما لوا كانوا يفعلون بنا ذلك :
فقيل : لا يمثل بهم للعموم ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستثن شيئاً ، ولأننا إذا مثلنا بواحد منهم ، فقد يكون لا يرضي بما فعل قومه ، فكيف نمثل به ؟ !
وقيل : نمثل بهم كما مثلوا بنا ، لأن هذا العموم مقابل بعموم آخر ، وهو قوله تعالى : { فمن اعتدي عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدي عليكم } [ البقرة : 194] .
وإذا لم نمثل بهم مع أنهم يمثلون بنا ، فقد يفسر هذا بأنه ضعف ، وإذا مثلنا بهم في هذه الحال ، عرفوا أن عندنا قوة ولم يعودوا للتمثيل بنا ثانية .
والظاهر القول الثاني .
فإن قيل : قد نمثل بواحد لم يمثل بنا ولا يرضي بالتمثيل ؟
فيقال : إن الأمة الواحدة فعل الواحد منها كفعل الجميع ، ولهذا كان الله عز وجل يخاطب اليهود في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأمور جرت في عهد موسى ، قال تعالى : { وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها } [ البقرة : 72] ، وقال تعالى : { وإذا أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور } [ البقرة : 93] ، وما أشبه ذلك .
قوله : " ولا تقتلوا وليداً " . أي : لا تقتلوا صغيراً ، لأنه لا يقاتل ، ولأنه ربما يسلم .(11/359)
وورد في أحاديث أخري : أنه لا يقتل راهب ولا شيخ فان ولا امرأة (1)، إلا أن يقاتلوا ، أو يحرضوا على القتال ، أو يكون لهم رأي في الحرب ، كما قتل دريد بن الصمة في غزوة ثقيف مع كبره وعماه (2).
واستدل بهذا الحديث أن القتال ليس لأجل أن يسلموا ، ولكنه لحماية الإسلام ، بدليل أننا لا نقتل هؤلاء ، ولو كان من أجل ذلك لقتلناهم إذا لم يسلموا ، ورجح شيخ الإسلام هذا القول ، وله رسالة في ذلك اسمها " قتال الكفار " .
وإذا لقيت عدوك من المشركين ، فادعهم إلى ثلاث خصال 0( أو : خلال ) ، فأيتهن ما أجابوك ، فاقبل منهم ، وكف عنهم :
ثم ادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك ، فاقبل منهم ، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك ، فلهم ما للمهاجرين ، وعليهم ما على المهاجرين ، فإن أبوا أن يتحولوا منها ، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين ، يجري عليهم حكم الله تعالى ، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء ، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين .
قوله : " وإذا لقيت عدوك " . أي قابلته أو وجدته ، وبدأ بذكر العداوة تهييجاً لقتالهم ، لأنك إذا علمت أنهم أعداء لك ، فإن ذلك يدعوك إلى قتالهم ، ولهذا قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء } [ الممتحنة : 1] ، وهذا أبلغ وأعم من قوله في آية أخري : { لا تتخذوا اليهود والنصاري أولياء } [ المائدة : 51] ، لكن خص في هذه الآية باليهود والنصاري لأن المقام يقتضيه .
والعدو ضد الولي ، والولي من يتولي أمورك ويعتني بك بالنصر والدفاع وغير ذلك ، والعدو يخذلك ويبتعد عنك ويعتدي عليك ما أمكنه .
قوله : " من المشركين " . يدخل فيه كل الكفار ، حتى اليهود والنصاري .
__________
(1) أبو داود : كتاب الجهاد / باب في دعاء المشركين .
(2) البخاري : كتاب المغازي / باب غزوة أوطاس .(11/360)
قوله : " خصال أو خلال " . بمعني واحد ، وعليه ، فـ " أو " للشك في اللفظ ، والمعني لا يتغير .
قوله : " فأيتهن ما أجابوك " . " أيتهن " : أسم شرط مبتدأ ، " ما " : زائدة ، وهي تزاد بالشرط تأكيداً للعموم ، كقوله تعالى : { أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسني } [الإسراء : 10] ، والكاف مفعول به ، والعائد إلى اسم الشرط محذوف ، والتقدير : فأيتهن ما أجابوك إليه ، فاقبل منهم وكف عنهم ، فلا تقاتلهم .
قوله : " ثم ادعهم " . " ثم " زائدة ، كما في رواية أبي داود ، ولأنه ليس لها معني ، ويمكن أن يقال : إنها ليست من كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، بل من كلام الراوي على تقدير : ثم قال ادعهم .
وقوله : " إلى الإسلام " . أي : المتضمن للإيمان ، لأنه إذا أفرد شمل الإيمان ، وإذا اجتمعا ، افترقا ، كما فرق النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما في حديث جبريل .
والإيمان عند أهل السنة تدخل فيه الأعمال ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " الإيمان بضع وسبعون شعبة ، أعلاها قول : لا إله إلا الله ، وأدناها : إماطة الإذي عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان " (1)1)، فإن أجابوا للإسلام ، فهذا ما يريده المسلمون ، فلا يحل لنا أن نقاتلهم ، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " فأقبل منهم " .
قوله : " ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين " . هذه الجملة تشير إلى أن الذين قوتلوا أهل بادية ، فإذا أسلموا ، طلب منهم أن يتحولوا إلى ديار المهاجرين ليتعلموا دين الله ، لأن الإنسان في باديته بعيد عن العلم ، كما قال تعالى : { الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله علي رسوله } [ التوبة : 97] وهذا أصل في توطين البوادي .
__________
(1) البخاري : كتاب الإيمان / باب أمور الإيمان ، ومسلم : كتاب الإيمان /باب بيان عدد شعب الإيمان .(11/361)
وقوله : " إلى دار المهاجرين " . يحتمل أن المراد بها العين ، أي : المدينة النبوية ، ويحتمل أن المراد بها الجنس ، أي : الدار التي تصلح أن يهاجر إليها لكونها بلد إسلام ، سواء كانت المدينة أو غيرها .
ويقوي الاحتمال الثاني وهو أن المراد بها الجنس : أنه لو كان المراد المدينة ، لكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعبر باسمها ولا يأتي بالوصف العام ، ويقوي الاحتمال الأول : أن دار المهاجرين الأولى هي المدينة ، والظاهر الاحتمال الثاني .
قوله : " فإن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين " . وهذا تمام العدل ، ولا يقال : إن الحق لصاحب البلد الأصلي ، فلهم ما للمهاجرين من الغنيمة والفيء ، وعليهم ما عليهم من الجهاد والنصرة .
قوله : " ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين " . يعني : إذا لم يتحولوا إلى دار المهاجرين ، فليس لهم في الغنيمة والفيء شيء .
والغنيمة : ما أخذ من أموال الكفار بقتال أو ما ألحق به .
والفيء : ما يصرف لبيت المال ، كخمس الغنيمة ، والجزية ، والخراج ، وغيرها .
وقوله : " إلا أن يجاهدوا مع المسلمين " . يفيد أنهم إن جاهدوا مع المسلمين استحقوا من الغنيمة ما يستحقه غيرهم .
وأما الفيء ، فاختلف أهل العلم في ذلك :
فعند الإمام أحمد : لهم حق في الفيء مطلقاً ، ولهم حق في الغنيمة إن جاهدوا .
وقيل : لا حق لهم في الفيء ، إنما الفيء يكون لأهل البلدان بدليل الاستثناء ، فهو عائد على الغنيمة ، إذ ليس من في البلد مستعداً للجهاد ويتعلم الدين وينشره كأعرابي عند إبله.
فإذا أسلموا فلهم ثلاث مراتب :
التحويل إلى دار المهاجرين ، وحينئذ يكون لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين.
البقاء في أماكنهم مع الجهاد ، فلهم ما للمجاهدين من الغنيمة وفي الفيء الخلاف .
البقاء في أماكنهم مع ترك الجهاد ، فليس لهم من الغنيمة والفيء شيء .(11/362)
فإن هم أبوا فاسألهم الجزية ، فإن هم أجابوك ، فاقبل منهم وكف عنهم فإن هم أبوا فاستعن بالله ، وقاتلهم ، وإذا حاصرت أهل حصن ، فأرادوك أن تجعل لهم ذمة نبيه ، فلا يجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك ، فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه .
وإذا حاصرت أهل حصن ، فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله ، فلا تنزلهم على حكم الله ، ولكن أنزلهم على حكمك ، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا " رواه مسلم (1).
وقوله : " فإن أبواه " . " هم " عند البصرين : توكيد للفاعل المحذوف مع فعل الشرط ، التقدير : فإن أبوا هم ، وعند الكوفيين : مبتدأ خبره الجملة بعده.
والقاعدة عندنا إذا اختلف النحويون في مسألة : أن نتبع الأسهل ، والأسهل هن إعراب الكوفيين .
قوله : " فاسألهم الجزية " . سؤال استفهام ، والفرق بين سؤال الاستفهام وسؤال العطاء : أن سؤال الاستفهام يتعدى إلى المفعول الثاني بـ " عن " ، قال الله تعالى : { يسألونك عن الساعة أيان مرساها } [ النازعات: 42] .
وقد يكون المفعول الثاني جملة استفهامية ، كقوله تعالى : { يسألونك ماذا أحل لهم } [ المائدة: 4] .
وأما سؤال الإعطاء ، فيتعدي إليه بنفسه ، كقولك ، سألت زيداً كتاباً .
والجزية : فعلة من جزى يجزئ ، وظاهر فيها أنها مكافأة على شيء وهي عبارة عن مال مدفوع من غير المسلم عوضاً عن حمايته وإقامته بدرانا .
والذمي معصوم ماله وذريته مقابل الجزية ، قال تعالى : { حتى يعطوا الجزية عن يدوهم صاغرون } [ التوبة : 29] ، أي : يسلموها بأيديهم ، لا يقبل أن يرسل بها خادمه أو ابنه ، بل لابد أن يأتي بها هو .
وقيل : { عن يد } : عن قوة منكم ، والصحيح أنها شاملة للمعنيين .
__________
(1) مسلم : كتاب الجهاد / باب تأمير الإمام الأمراء .(11/363)
وقيل : { عن يد } : أن يعطيك فتأخذها بقوة بأن تجر يده حتى يتبين له قوتك ، وهذا لا حاجة إليه .
وقوله : { وهم صاغرون } . أي : يجب أن يتصفوا بالذل والهوان عند إعطائها ، فلا يعطوها بأبهة وترفع مع خدم ، وموكب ونحو ذلك ، وجعل بعض العلماء من صغارهم أن يطال وقوفهم عن تسلمها منهم .
قوله : " فاستعن بالله وقاتلهم " . بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بطلب العون من الله ، لأنه إذا لم يعنك في جهاد أعدائه ، فإنك مخذول ، والجملة جواب الشرط .
قوله : " وإذا حاصرت أهل حسن " . الحصر : التضييق ، أي : طوقتهم وضيقت عليهم بحيث لا يخرجون من حصنهم ولا يدخل عليهم أحد .
والحصن : كل ما يتحصن به من قصور أو أحواش وغيرها .
قوله : " فلا فأرادوك " . أي طلبوك ، وضمن الإرادة معني الطلب ، وإلا ، فإن الأصل أن تتعدي بـ " من " ، فيقال أرادوا منك .
قوله : " فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه " . الذمة : العهد ، فإذا قال أهل الحصن المحاصرون : نريد أن ننزل على عهد الله ورسوله ، فإنه لايجوز أن ينزلهم على عهد الله ورسوله ، وعلل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله : " فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون .. " .
قوله : " أن تخفروا " . بضم التاء وكسر الفاء : من أخفر الرباعي ، أي : غدر ، وأما خفر يخفر الثلاثي فهي بمعني أجار ، والمتعين الأول .
وقوله : " أن تخفروا " . " أن " بفتح الهمزة مصدرية بدليل رفع " أهون " على أنها خبر ، وأن وما دخلت عليه محلها من الإعراب النصب على أنها بدل اشتمال من اسم " إن " ، والتقدير : فإن أخفارهم ذممكم ، والبدل يصح أن يحل محل المبدل منه ، ولهذا قدرتها بما سبق .(11/364)
قوله : " أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه " . لأن الغدر بذمة الله وذمة نبيه أعظم : ، وقوله " أهون " من باب اسم التفضيل الذي ليس في المفضل ولا في المفضل عليه شيء من هذا المعني ، لأن قوله : " أهون " يقتضي اشتراك المفضل والمفضل عليه شيء من هذا المعني ، لأن قوله : " أهون " يقتضي اشتراك المفضل والمفضل عليه بالهوان ، والأمر ليس كذلك ، لأن إخفار الذمم سواء كان لذمة الله وذمة رسوله أو ذمة المجاهدين ، كله ليس بهين ، بل هو صعب ، لكن الهون هنا نسبي وليس على حقيقته .
فهنا أرادوا أن ينزلوا على العهد بدون أن يحكم عليهم بشيء ، بل بعاهدون على حماية أموالهم وأنفسهم ونسائهم وذريتهم فنعطيهم ذلك .
قوله : " وإذا حاصرت " . أي : ضربت حصاراً يمنعهم من الخروج من مكانهم . " أهل حصن " : أهل بلد أو مكان يتحصنون به .
" فأرادوك " : طلبوا منك .
" حكم الله " ، أي : شرع الله .
قوله : " ولكن أنزلهم على حكمك " . فإذا أرادوا أن ينزلوا على حكم الله ، فإنهم لا يجابون ، فإنا لا ندري أنصيب فيهم حكم الله أم لا ؟
ولهذا قال : " أنزلهم على حكمك " ، ولم يقل : وحكم أصحابك كما قال في الذمة ، لأن الحكم في الجيش أو السرية للأمير ، وأما الذمة والعهد ، فهي من الجميع ، فلا يحل لواحد من الجيش أن ينقض العهد .
وقوله : " لا تدري " . أي : لا تعلم " أتصيب فيهم حكم الله أم لا " ، وذلك لأن الإنسان قد يخطىء حكم الله تعالى .
وهذه المسألة اختلف فيها العلماء :
فقيل : إن أهل الحصن لا ينزلون على حكم الله ، لأن قائد الجيش وإن اجتهد ، فإنه لا يدري أيصيب فيهم حكم الله أم لا ؟ فليس كل مجتهد مصيباً .
وقيل : بل ينزلون أيصيب فيهم حكم الله أم لا ؟ فليس كل مجتهد مصيباً .(11/365)
وقيل : بل ينزلون على حكم الله ، والنهي عن ذلك خاص في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقط ، لأنه العهد الذي يمكن أن يتغير فيه الحكم ، إذا من الجائز بعد مضي هذا الجيش أن يغير الله هذا الحكم ، وإذا كان كذلك ، فلا تنزلهم على حكم الله ، لأنك لا تدري أتصيب الحكم الجديد أو لا تصيبه؟
أما بعد انقطاع الوحي ، فينزلون على حكم الله ، واجتهادنا في إصابة حكم الله يعتبر صواباً إذا لم يتبين خطؤه ، لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها ، وقد قال تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } [التغابن : 16] ، وهذا أصح ، لأنه بحكم للمجتهد بإصابته الحكم ظاهراً شرعاً وإن كان قد يخطىء ، وإن حصل الاحتراز بأن يقول : ننزلك على ما نفهم من حكم الله ورسوله ، فهو أولي ، لأنك إذا قلت على ما نفهم صار الأمر واضحاً أن هذا حكم الله بحسب فهمنا ، لا بحسب الواقع فيما لو اتضح خلافه .
واخترنا هذه العبارة ، لأنه قد يتغير الاجتهاد ، ويأتي أمير آخر فيحارب هؤلاء أو غيرهم ثم يتغير الحكم ، لأنك إذا قلت على ما نفهم صار الأمر واضحاً أن هذا حكم الله بحسب فهمنا ، لا بحسب الواقع فيها لو اتضح خلافه .
واخترنا هذه العبارة لأنه قد يتغير الاجتهاد ، ويأتي أمير آخر فيحارب هؤلاء أو غيرهم ثم يتغير الحكم ، فيقول الكفار : إن أحكام المسلمين متناقضة .
ويستفاد من هذا الحديث ما يلي :
تحريم التمثيل ، والغلول ، والغدر ، وقتل الوليد ، وقد سبق الكلام عليه .
يشرع للإمام بعث الجيوش والسرايا .
لا يجوز القتال قبل الدعوة ، لأنه جعل القتال آخر مرحلة .
وأما ما ورد في " الصحيح " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أغار على بني المصطلح وهم غارون (1) ، فقد أجيب : أن هؤلاء قد بلغتهم الدعوة ، ودعوة من بلغتهم الدعوة سنة لا واجبة ، ويرجع فيها المصحلة .
__________
(1) البخاري : كتاب العتق / باب من ملك من العرب رقيقاً ، ومسلم : كتاب الجهاد / باب جواز الإغارة على الكفار .(11/366)
جواز أخذ الجزية من غير اليهود والنصار والمجوس لأن أهل الكتاب نص القرآن على أخذها منهم ، والمجوس وردت به السنة ، وأما ما عدا هؤلاء ، فاختلف أهل العلم :
فقيل : لا تأخذ من غير هؤلاء ، وقيل : لا تؤخذ من مشركي العرب ، لأن فيها إذلالاً .
والصحيح أنها تؤخذ من جميع الكفار ، لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : " من كفر بالله " ولم يقل : اليهود والنصاري .
الإشارة إلى أن القتال ليس لإكراه الناس على أن يدخلوا في الإسلام ، ولو كان ذلك ما شرعت الجزية ، لأنه على هذا التقدير يجب أن يدخلوا في الدين أو يقاتلوا ، وهذا هو الراجح الذي يؤيده القرآن والسنة ، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : " أمرت أن أقاتل الناس .. " (1)الحديث ، فهو عام مخصوص بأدلة الجزية .
عظم العهود ، ولا سيما إذا كانت عهداً لله ورسوله .
جواز نزول أهل الحصن على حكم أمير الجيش .
أنه لايجوز أن ينزلهم على حكم الله ، إما في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، أو مطلقاً حسب الخلاف السابق .
أن المجتهد قد يصيب وقد يخطىء ، لقوله : " فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا ؟ " وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إذا حكم الحاكم ، فاجتهد ، فأصاب ، فله أجران ، وأن أخطأ ، فله أجر واحد " (2)، وعليه ، فهل نقول : إن المجتهد مصيب ولو أخطأ ؟
الجواب : قيل : كل مجتهد مصيب .
وقيل : ليس كل مجتهد مصيباً .
وقيل : كل مجتهد مصيب في الفروع دون الأصول ، حذراً من أن نصوب أهل البدع في باب الأصول .
__________
(1) البخاري : كتاب الإيمان / باب { فإن تابوا وأقاموا الصلاة } ، ومسلم : كتاب الإيمان / باب الأمر بقتال الناس يقولوا لا إله إلا الله .
(2) البخاري : كتاب الاعتصام / باب أجر الحاكم إذا اجتهد ، ومسلم : كتاب الأقضية / باب بيان أجر اجتهد.(11/367)
والصحيح أن كل مجتهد مصيب من حيث اجتهاده ، أما من حيث موافقته للحق ، فإنه يخطىء ويصيب ، ويدل له قول - صلى الله عليه وسلم - : " فاجتهد فأصاب واجتهد فأخطأ " ، فهذا واضح في تقسيم المجتهدين إلى مخطىء ومصيب ، وظاهر الحديث والنصوص أنه شامل للفروع والأصول ، حيث دلت تلك النصوص على أن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها ، لكن الخطأ المخالف لإجماع السلف خطأ ولو كان من المجتهدين ، لأنه لا يمكن أن يكون مصيباً والسلف غير مصيبين ، سواء في علم الأصول والفروع .
على أن شيخ الإسلام ابن تيميه وابن القيم أنكراً تقسيم الدين إلى أصول وفروع ، وقالا : إن هذا التقسيم محدث بعد عصر الصحابة ، ولهذا نجد القائلين بهذا التقسيم يلحقون شيئاً من أكبر أصول الدين بالفروع ، مثل الصلاة ، وهي ركن من أركان الإسلام ويخرجون أشياء في العقيدة اختلف فيها السلف ، يقولون أنها من الفروع ، لأنها ليست من العقيدة ، ولكن فروع من فروعها ، ونحن نقول إن أردتم بالأصول ما كان عقيدة ، فكل الدين أصول ، لأن العبادات المالية أو البدنية لا يمكن أن تتعبد لله بها إلا أن تعتقد أنها مشروعة ، فهذه عقيدة سابقة على العمل ، ولو لم تعتقد ذلك لم يصح تعبدك لله بها .
والصحيح أن باب الاجتهاد مفتوح فيما سمي بالأصول أو الفروع ، لكن ما خرج عن منهج السلف ، فليس بمقبول مطلقاً .
أن باب الاجتهاد باق ، لقوله : " لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا ؟ " وبهذا يتبين ضعف قول من قال : إن باب الاجتهاد قد انسد ، والواجب التقليد للأئمة ، وهذا يترتب عليه الإعراض عن الكتاب والسنة إلى الإراء الرجال ، وهذا خطأ ، بل الواجب على من تمكن من أخذ الحكم من الكتاب والسنة أن يأخذه منهما ، لكن لكثرة السنن وتفرقها لا ينبغي للإنسان أن يحكم بشيء بمجرد أن يسمع حديثاً في هذا الحكم حتى يتثبت ، لأن هذا الحكم قد يكون منسوخاً أو مقيداً أو عاماً وأنت تظنه بخلاف ذلك .(11/368)
وأما أن نقول : لا تنظر في القرآن والسنة لأنك لست أهلاً للاجتهاد ، فهذا غير صحيح ، ثم إنه على قولنا : إن باب الاجتهاد مفتوح ، لا يجوز أبداً أن تحتقر آراء العلماء السابقين ، أو أن تنزل من قدرهم ، لأن أولئك تعبوا واجتهدوا وليسوا بمعصومين ، فكونك تقدح فيهم أو تأخذ المسائل التي يلقونها على أنها نكت تعرضها أمام الناس لسخروا بهم ، فهذا أيضاً لا يجوز ، إذا كانت غيبة الإنسان العادى محرمة ، فكيف بغيبة أهل العلم الذين أفنوا أعمارهم في استخراج المسائل من أدلتها ، ثم يأتي في آخر الزمان من يقول : إن هؤلاء لا يعرفون ، وهؤلاء يفرضون المحال ويقولون : كذا وكذا ، مع أن أهل العلم فيما يفرضونه من المسائل الناردة قد لا يقصدون الوقوع ، ولكن يقصدون تمرين الطالب على تطبيق المسائل على قواعدهم وأصولها؟! .
فيه إثبات الحكم لله عز وجل ، وحكم الله ينقسم إلى قسمين :
أ . حكم كوني ، وهو ما يتعلق بالكون ، ولا يمكن لأحد أن يخالفه ، ومنه قوله تعالى : { فلن أربح الأرض حتى بأذن لي أبي أو يحكم الله لي } [ يوسف : 80] .
ب . حكم شرعي ، وهو ما يتعلق بالشرع والعبادة ، وهذا من الناس من يأخذ به ومنهم من لا يأخذ به ، ومنه قوله تعالى : { ذلكم حكم الله يحكم بينكم } [ الممتحنه : 10] .
فيه مسائل :
الأولى : الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه وذمة المسلمين . الثانية : الإرشاد إلى أقل الأمرين خطراً . الثالثة : قوله : " اغزوا بسم الله في سبيل الله " . الرابعة : قوله : " قاتلوا من كفر بالله " . الخامسة : قوله : " استعن بالله وقاتلهم " . السادسة : الفرق بين حكم الله وحكم العلماء. السابعة : في كون الصحابي يحكم عند الحاجة بحكم لا يدري أيوافق حكم الله أم لا؟
فيه مسائل :(11/369)
الأولى : الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه وذمة المسلمين . لو قال : الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه وبين ذمة المسلمين ، لكان أوضح ، لأنك عندما تقرأ كلامه تظن أن الفروق بين الثلاثة كلها ، فإن ذمة الله وذمة نبيه واحدة ، وإنما الفرق بينهما وبين ذمة المسلمين .
والفرق أن جعل ذمة الله وذمة نبيه للمحاصرين ، محرمة ، وجعل ذمة المحاصرين بكسر الصاد ذمة جائزة .
الثانية : الإرشاد إلى أقل الأمرين خطراً . لقوله : " ولكن أجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك .. " إلخ ، وهذه قاعدة مهمة ، وتقال على وجه آخر وهو : ارتكاب أدني المفسدتين لدفع أعلاهما إذا كان لابد من أرتكاب إحداهما ، وقد دل عليها الشرع ، قال تعالى : { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم } [ الأنعام : 108] ، فسب آلهة المشركين مطلوب ، لكن إذا تضمن سب الله عز وجل صار منهياً عنه ، لأن مفسدة سب الله أعظم من مفسدة السكوت عن سب آلهتهم ، وإن كان في هذا السكوت شيء من المفسدة ، ولكن نسكت لئلا نقع في مفسدة أعظم ، وأيضاً العقل دل عليها .
وفيه قاعدة مقابلة ، وهي : ترك أدني المصلحتين لنيل أعلاهما ، إذا كان لابد من ترك إحدهما ، فإذا اجتمعت مصلحتان لا يمكن الأخذ بهما جميعاً .
فخذ بأعلاهما ، وإذا اجتمعت مفسدتان لا يمكن تركهما ، فخذ بأدناهما .
الثالثة : قوله : " اغزوا بسم الله في سبيل الله" . يستفاد منها وجوب الغزو مع الاستعانة بالله والإخلاص والتمشي على شرعه .
الرابعة : قوله : " قاتلوا من كفر بالله " . يستفاد منها وجوب قتال الكفار ، وأن علة قتالهم الكفر ، وليس المعني أنه لا يقاتل إلا من كفر ، بل الكفر سبب للقتال ، فمن منع الزكاة يقاتل ، وإذا أهل بلد صلاة العيد قوتلوا ، وكذا الأذان والإقامة ، مع أنهم لا يكفرون بذلك.
وإذا اقتتلت طائفتان وأبت إحداهما أن تفيء إلى أمر الله ، قوتلت ، فالقتال له أسباب متعددة غير الكفر .(11/370)
الخامسة : قوله : " استعين بالله وقاتلهم " . يفيد وجوب الاستعانة بالله ، وأن لا يعتمد الإنسان على حوله وقوته .
السادسة : الفرق بين حكم الله وحكم العلماء . وفيه فرقان :
أن حكم الله يصيب بلا شك ، وحكم العلماء قد يصيب وقد لا يصيب .
تنزل أهل الحصن على حكم الله ممنوع ، إما في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقط أو مطلقاً ، وأما على حكم العلماء ونحوه ، فهو جائز .
فائدة :
لا ينبغي أن يقال لمفت : ما حكم الإسلام في كذا ، أو ما رأي الإسلام في كذا ، أو ما رأي الإسلام في كذا ، فإنه قد يخطىء فلا يصيب حكم الإسلام ، ولا يقول مفت : حكم الإسلام كذا ، لأنه قد يخطىء ، ولكن يقيد ، فيقول : حكم الإسلام فيما أري كذا وكذا إلا فيما هو نص واضح صريح ، فلا بأس ، مثل أن يقال : ما حكم الإسلام في أكل الميتة ؟ فيقول : حكم الإسلام في أكل الميتة أنه حرام .
السابعة : في كون الصحابي يحكم عند الحاجة بحكم لا يدري أيوافق حكم الله أم لا ؟ وهذا ليس خاصاً بالصحابة ، بل حتى من بعدهم ، فإن له أن يحكم بما يرى أنه حكم الله عند الحاجة.
***
***
باب ما جاء في الأقسام على الله
الأقسام : مصدر أقسم يقسم إذا حلف .
والحلف له عدة أسماء ، هي : يمين ، وألية ، وحلف ، وقسم ، وكلها بمعني واحد ، قال تعالى : { فلا أقسم بمواقع النجوم } [ الواقعة : 75] ، وقال : { للذين يؤلون من نسائهم } [ البقرة : 226] ، أي : يحلفون ، وقال : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } [ البقرة : 225] ، وقال تعالى : { يحلفون بالله لكم ليرضوكم } [التوبة : 62 ] ، وقال تعالى : { وأقسموا بالله جهد إيمانهم } [ النور : 53] .
واختلف أهل العلم في { لا } في قوله : { لا أقسم } .(11/371)
فقيل : إنها نافية على الأصل ، وإن معني الكلام : لا أقسم بهذا الشيء على المقسم به ، لأن الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم ، وهذا فيه تكلف ، لأن من قرأ الآية عرف أن مدلولها الإثبات لا النفي .
وقيل : إن { لا } زائدة ، والتقدير أقسم .
وقيل : إن { لا } للتنبيه ، وهذا بمعني الثاني ، لأنها من حيث الإعراب زائدة .
وقيل : أنها نافية لشيء مقدر ، أي لا صحة لما تزعمون من انتفاء البعث ، وهذا في قوله تعالى : { لا أقسم بيوم القيامة } فيه شيء من التكلف والصواب أنها زائدة للتنبيه .
والإقسام على الله : أن تحلف على الله أن يفعل ، أو تحلف عليه أن لا يفعل ، مثل : والله ، ليفعلن الله كذا ، أو والله ، لا يفعل الله كذا .
والقسم على الله ينقسم إلى أقسام :
الأول : أن يقسم على ما أخبر الله به ورسوله من نفي أو إثبات ، فهذا لا بأس به ، وهذا دليل على يقينه بما أخبر الله به ورسوله ، مثل : والله ، ليشفعن الله نبيه في الخلق يوم القيامة ، ومثل : والله ، لا يغفر الله لم أشرك به .
الثاني : أن يقسم على ربه لقوة رجائه وحسن الظن بربه ، فهذا جائز لإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك في قصة الربيع بنت النضر عمة أنس بن مالك رضي الله عنهما ، " حينما كسرت ثنية جارية من الأنصار ، فاحتكموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقصاص ، فعرضوا عليهم الصلح ، فأبوا ، فقام أنس بن النضر ، فقال : أتكسر ثنية الربيع ؟ والله يا رسول الله لا تكسر ثنية الربيع. وهو النضر ، فقال : أتكسر ثنية الربيع ؟ والله يا رسول الله لا تكسر ثنية الربيع . وهو لا يريد به رد الحكم الشرعي ، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " يا أنس ! كتاب الله القصاص " ، يعني : السن بالسن . قال : والله ، لا تكسر ثنية الربيع " ، وغرضه بذلك أنه لقوة ما عنده من التصميم على أن لا تكسر ولو بذل كل غال ورخيص أقسم على ذلك .(11/372)
فلما عرفوا أنه مصمم ألقي الله في قلوب الأنصار العفو فعفوا ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره " (1)، فهو لقوة رجائه بالله وحسن ظنه أقسم على الله أن لا تكسر ثنية الربيع ، فألقي الله العفو في قلوب هولاء الذين صمموا أمام الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليه شهادة بأن الرجل من عباد الله ، وأن الله أبر قسمه ولين له هذه القلوب ، وكيف لا وهو الذي قال : بأنه يجد ريح الجنة دون أحد ، ولما استشهد وجد به بضع وثمانون ما بين ضربة بسيف أو طعنة برمح ، ولم يعرفه إلا أخته ببنانه (2)، وهي الربيع هذه ، رضى الله عن الجميع وعنا معهم .
ويدل أيضاً لهذا القسم قوله - صلى الله عليه وسلم - : " رب أشعت مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره " (3).
القسم الثالث : أن يكون الحامل له هو الإعجاب بالنفس ، وتحجر فضل الله عز وجل وسوء الظن به تعالى ، فهذا محرم وهو وشيك بأن يحبط الله عمل هذا المقسم ، وهذا القسم هو الذي ساق المؤلف الحديث من أجله .
مناسبة الترجمة لكتاب التوحيد : أن من تألي على الله عز وجل ، فقد أساء الأدب معه وتحجز فضله وأساء الظن به ، وكل هذا ينافي كمال التوحيد ، وربما ينافي أصل التوحيد ، فالتالي على من هو عظيم يعتبر تنقصاً في حقه .
__________
(1) البخاري : كتاب الصلح / باب الصح في الدية ، ومسلم : كتاب القسامة / باب إثبات القصاص في الأسنان.
(2) البخاري : كتاب الجهاد / باب قوله تعالى : { من المؤمنين رجال صدقوا } ، ومسلم : كتاب الإمارة / باب ثبوت الجنة للشهيد .
(3) مسلم كتاب البر والصلة / باب فضل الضعفاء .(11/373)
عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " قال رجل : والله لا يغفر الله لفلان ، فقال الله عز وجل : من ذا الذي يتألي على أن لا أغفر لفلان ؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك " رواه مسلم (1).
قوله : " قال رجل " . يحتمل أن يكون الرجل الذي ذكر في حديث أبي هريرة الآتي أو غيره.
قوله : " والله لا يغفر الله لفلان " . هذا يدل على اليأس من روح الله ، واحتقار عباد الله عند القائل ، وإعجابه بنفسه .
والمغفرة : ستر الذنب والتجاوز عنه ، مأخوذة من المغفر الذي يغطي به الرأس عند الحرب ، وفيه وقاية وستر .
قوله : " من ذا الذي يتألي على أن لا أغفر لفلان " . " من " : اسم استفهام مبتدأ ، " ذا " ملغاة ، " الذي " : اسم موصول خبر مبتدأ ، " يتألي " : يحلف ، أي : من ذا الذي يتحجر فضلي ونعمتي أن لا أغفر لمن أساء من عبادي ، والاستفهام للإنكار .
والحديث ورد مبسوطاً في حديث أبي هريرة (2) أن هذا الرجل كان عابداً وله صاحب مسرف على نفسه ، وكان يراه على المعصية ، فيقول : أقصر . فوجده يوماً على ذنب ، فقال : أقصر . فقال : خلني وربي ، أبعثت على رقيباً ؟ فقال : والله ، لا يغفر الله لك .
وهذا يدل على أن المسرف عنده حسن ظن بالله ورجاء له ولعله كان يفعل الذنب ويتوب فيما بينه وبين ربه ، لأنه قال : خلني وربي ، والإنسان إذا فعل الذنب ثم تاب توبة نصوحاً ثم غلبته عليه نفسه مرة أخري ، فإن توبته الأولى صحيحة ، فإذا تاب ثانية فتوبته صحيحة ، لأن من شروط التوبة أن يعزم أن لا يعود ، وليس من شروط التوبة أن لا يعود .
__________
(1) مسلم : كتاب البر والصلة / باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله .
(2) يأتي ( ص 1090).(11/374)
وهذا الرجل الذي قد غفر الله له ، إما أن يكون قد وجدت منه أسباب المغفرة بالتوبة ، أو أن ذنبه هذا كان دون الشرك فتفضل الله عليه فغفر له ، أما لو كان شركاً ومات بدون توبة ، فإنه لا يغفر له ، لأن الله يقول : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } [ النساء : 116] .
قوله : " وأحبطت عملك " . ظاهر الإضافة في الحديث : أن الله أحبط عمله كله ، لأن المفرد المضاف الأصل فيه أن يكون عاماً .
ووجه إحباط الله عمله على سبيل العموم حسب فهمنا والعلم عند الله : أن هذا الرجل كان يتعبد لله وفي نفسه إعجاب بعمله ، وإدلال بما عمل على الله كأنه يمن على الله بعمله ، وحينئذ يفتقد ركناً عظيماً من أركان العبادة ، لأن العبادة مبنية على الذل والخضوع ، فلابد أن تكون عبداً لله عز وجل بما تعبدك به وبما بلغك من كلامه ، وكثير من الذين يتعبدون لله بما تعبدهم به قد لا يتعبدون بوحيه ، قد يصعب عليهم أن يرجعوا على رأيهم إذا تبين لهم الخطأ من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويحرفون النصوص من أجله ، والواجب أن تكون لله عبداً فيما بلغك من وحيه ، بحيث تخضع له خضوعاً كاملاً حتى تحقق العبودية .
ويحتمل معني " أحبطت عملك " ، آي : عملك الذي كنت تفتخر به على هذا الرجل ، وهذا أهون ، لأن العمل أذا حصلت فيه إساءة بطل وحده دون غيره ، لكن ظاهر حديث أبي هريرة يمنع هذا الاحتمال ، حيث جاء فيه أن الله تعالى قال : أذهبوا به إلى النار .
ونظير هذا مما يحتمل العموم والخصوص قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده فيمن منع الزكاة : " فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا " (1).
__________
(1) الإمام أحمد في " المسند " ( 5/2،4) ، وأبو داود : كتاب الزكاة / باب زكاة السائمة ، والنسائي : كتاب الزكاة /باب عقوبة مانع الزكاة ، والحاكم (1/555) وصححه على شرطهما ووافقة الذهبى .(11/375)
فقوله : " وشطر ماله " ، هل المراد جميع ماله ، أو ماله الذي منع زكاته ؟
يحتمل الأمرين ، فمثلاً : إذا كان عنده عشرون من الإبل ، فزكاتهما أربع شياه ، فمنع الزكاة ، فهل نأخذ عشراً من الإبل فقط مع الزكاة ، أو إذا كان عنده أموال أخري من بقر وغنم ونقود نأخذ نصف جميع ذلك مع الزكاة ؟
أختلف في ذلك :
فقيل : نأخذ نصف ماله الذي وقعت فيه المخالفة .
وقيل : نأخذ نصف جميع المال .
والراجح أنه راجع إلى رأي الإمام حسب المصلحة ، فإن كان أخذ نصف المال كله أبلغ في الردع ، أخذ نصف المال كله ، وإلا ، أخذ نصف المال الذي حصلت فيه المخالفة .
وفي حديث أبي هريرة أن القائل رجل عابد . قال أبو هريرة : " تكلم بكلمة أو بقت دنياه وأخرته " (1).
قوله : " تكلم بكلمة " . يعني قوله : والله ، لا يغفر الله لك .
قوله : " أوبقت " . أي : أهلكت ، ومنه حديث : " اجتنبوا السبع الموبقات " (2)، أي المهلكات.
قوله : " دنياه وأخرته " لأن من حبط عمله ، فقد خسر الدنيا والآخرة .
أما كونها أوبقت أخرته ، فالأمر ظاهر ، لأنه من أهل النار والعياذ بالله ، وأما كونها أو بقت دنياه ، فلأن دنيا الإنسان حقيقة هي ما اكتسب فيها عملاً صالحاً ، وإلا ، فهي خسارة ، قال تعالى : { والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } [العصر : 1-3] وقال : { قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة إلا ذلك هو الخسران المبين } [ الزمر : 15] ، فمن لم يوفق للإيمان والعمل الصالح ، فقد خسر دنياه حقيقة ، لأن مالها للفناء ، وكل شيء فان فكأنه لم يوجد ، واعتبر هذا بما حصل لك مما سبق من عمرك تجده مر عليك وكأنه لم يكن وهذا من حكمة الله عز وجل لئلا يركن إلى الدنيا .
__________
(1) الإمام أحمد في " المسند " (2/323) ، وأبو داود : كتاب الأدب / باب في النهي عن البغي .(11/376)
وقوله : " قال أبو هريرة " . يعني في الحديث الذي أشار إليه المؤلف رحمه الله .
فيه مسائل :
الأولى : التحذير من التالي على الله . الثانية : كون النار أقرب إلى أحدنا من شراك نعله . الثالثة : أن الجنة مثل ذلك . الرابعة : فيه شاهد لقوله : " إن الرجل ليتكلم بالكلمة .. " إلى أخره . الخامسة : أن الرجل قد يغفر له بسبب هو من أكره الأمور إليه
فيه مسائل :
الأولى : التحذير من التالي على الله . لقوله : " من ذا الذي يتألي على أن لا أغفر لفلان " ، وكونه أحبط عمله بذلك .
الثانية : كون النار أقرب إلى أحدنا من شراك نعله .
الثالثة : أن الجنة مثل ذلك .
هاتان المسألتان اللتان ذكرهما المؤلف تؤخذان من حبوط عمل المتالي والمغفرة للمسرف على نفسه ، ثم أشار إلى حديث رواه البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه . أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله ، والنار مثل ذلك " ، ويقصد بهما تقريب بهما الجنة أو النار ، والشراك : سير النعل الذي يكون بين الإبهام والأصابع .(11/377)
الرابعة : فيه شاهد لقوله : " إن الرجل ليتكلم بالكلمة .. " آخره . يشير المؤلف إلى حديث : إن الرجل ليتكلم ما يري أن تبلغ حيث بلغت يهوي بها في النار سبعين خريفاً " (1)، أو " أبعد مما بين المشرق والمغرب " (2)، وهذا فيه الحذر من مزلة اللسان ، فقد يسبب الهلاك ، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة " (3)3)، وقال لمعاذ : " كف عليك هذا " يعني لسانة . قلت : يا رسول الله ! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ قال : " ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال : على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ؟ ! " (4).
ولا سيما إذا كانت هذه الزلة ممن يقتدي به ، كما يحدث من دعاة الضلال والعياذ بالله ، فإن عليه وزره ووزر من تبعه إلى يوم القيامة .
الخامسة : أن الرجل قد يغفر له بسبب هو من أكره الأمور إليه . فإنه قد غفر له بسبب هذا التأنيب ، وهذه لم تظهر لي من الحديث ولعلها تؤخذ من قوله " قد غفرت له " .
ولا شك أن الإنسان قد يغفر له بشيء هو من أكره الأمور إليه ، مثل الجهاد في سبيل الله ، قال تعالى : { كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسي أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسي أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم } [ البقرة : 216] .
***
باب لا يستشفع بالله على خلقه
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في " المسند " (2/297، 355) والترمذي : كتاب الزهد / باب فيمن تكلم بكلمة ليضحك بها الناس (7/76) وقال : " حسن غريب " .
(2) البخاري : كتاب الرقاق / باب حفظ اللسان ، ومسلم : كتاب الزهد / باب التكلم بكلمة يهوي بها في النار ، ولفظه عند مسلم . " إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب .
(3) البخاري : كتاب الرقاق / باب حفظ اللسان .
(4) الإمام أحمد في " المسند " (5/231) ، والترمذي : كتاب الإيمان / باب ما جاء في حرمة الصلاة .(11/378)
عن جبير بن مطعم رضي الله عنه ، قال : جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا رسول ! نهكت الأنفس ، وجاع العيال ، وهلكت الأموال ، فاستسق لنا ربك ، فإنا نستشفع بالله عليك ، وبك على الله . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " سبحان الله ! سبحان الله - صلى الله عليه وسلم - ! " فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه . ثم قال : " ويحك ! أتدري ما الله ؟ إن شاء الله أعظم من ذلك ، إنه يستشفع بالله على أحد من خلقه .. " وذكر الحديث . رواه أبو دواد (1)
استشفع بالشيء ، أي : جعله شافعاً له ، والشفاعة في الأصل : جعل الفرد شفعاً ، وهي التوسط للغير بجلب منفعة له أو دفع مضرة عنه .
مناسبة الباب لكتاب التوحيد :
أن الاستشفاع بالله على خلقه تنقص لله عز وجل ، لأنه جعل مرتبة الله أدني من مرتبة المشفوع إليه ، إذ لو كان أعلي مرتبة ما احتاج أن يشفع عنده ، بل يأمره أمراً والله عز وجل لا يشفع لأحد من خلقه إلى أحد ، لأنه أجل وأعظم من أن يكون شافعاً ، ولهذا أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك على الأعرابي ، وهذا وجه وضع هذا الباب في كتاب التوحيد .
قوله : " أعرابي " . واحد الأعراب ، وهم سكان البادية ، والغالب على الأعراب الجفاء ، لأنهم أحري أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله .
قوله : " جاع العيال ، وهلكت الأموال " ، أي : من قلة المطر والخصب ، فضعف الأنفس بسبب ضعف القوة النفسية والمعنوية التي تحصل فيما إذا لم يكن هناك خصب ، وجاع العيال لقلة العيش ، وهلكت الأموال ، لأنها لم تجد ما ترعاه .
قوله : " فاستسق لنا ربك " . أي : اطلب من الله أن يسقينا ، وهذا لا بأس به ، لأن طلب الدعاء ممن ترجي إجابته من وسائل إجابة الدعاء .
__________
(1) أبو دواد : كتاب السنة / باب في الجهمية ، وابن خزيمة في " التوحيد " (147)، وابن أبي عاصم في " السنة " ( 575) وصححه العلامة ابن القيم في " تهذيب السنن " (7/96).(11/379)
قوله : " نستشفع بالله عليك " . أي : نجعله واسطة بيننا وبينك لتدعو الله لنا ، وهذا يقتضي أنه جعل مرتبة الله في مرتبة أدني من مرتبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
قوله : " ونستشفع بك على الله " . أي : نطلب منك أن تكون شافعاً لنا عند الله ، فتدعو الله لنا ، وهذا صحيح .
قوله : " سبحان الله ، سبحان الله " . قال - صلى الله عليه وسلم - استعظاماً لهذا القول ، وإنكاراً له ، وتنزيهاً لله عز وجل عما لا يليق به من جعله شافعاً بين الخلق وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
و" سبحان " : اسم مصدر منصوب على أنه مفعول مطلق من سبح بسبح تسبيحاً ، وإذا جاءت الكلمة بمعني المصدر وليس فيها حروفه ، فهي اسم مصدر ، مثل : كلام اسم مصدر كلم والمصدر تكليم ، ومثل : سلام اسم مصدر سلم والمصدر تسليم .
و " سبحان " : مفعول مطلق ، وهو لازم النصب وحذف العامل أيضاً ، فلا يأتي مع الفعل ، فلا تقول : سبحت الله سبحاناً إلا نادراً في الشعر ونحوه .
والتسبيح : تنزيه الله عما لا يليق به من نقص ، أو عيب ، أو مماثلة للمخلوق ، أو ما أشبه ذلك .
وإن شئت أدخل مماثلة المخلوق مع النقص والعيب ، لأن مماثلة الناقص نقص ، بل مقارنة الكامل بالنقص تجعله ناقصاً ، كما قال الشاعر :
ألم تر أن السيف ينقص قدره ... ... إذا قيل أن السيف أمضي من العصا
قوله : " فما زال " . إذا دخلت " ما " على زال الذي مضارعها يزال ، صار النفي إثباتاً مفيداً للاستمرار ، كقوله تعالى : { فما زالت تلك دعواهم .. } الآية [ الأنبياء : 15] ، وكقوله تعالى في المضارع : { ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك } [ هود : 118،119] .
وجملة " يسبح " : خبر زال .(11/380)
قوله : " حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه " . أي : عرف أثره في وجوه أصحابه وأنهم تأثروا بذلك ، لأنهم عرفوا أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يسبح في مثل هذا الموضع ولا يكرره إلا لأمر عظيم ، ووجه التسبيح هنا أن الرجل ذكر جملة فيها شيء من التنقص لله تعالى ، فسبح النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه تنزيهاً له عما توهمه هذه الكلمة ، ولهذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه في السفر إذا هبطوا وادياً سبحوا ، تنزيهاً لله تعالى عن السفول الذي كان من صفاتهم ، وإذا علوا نشزا كبروا ، تعظيماً لله عز وجل ، وأن الله تعالى هو الذى له الكبرياء في السماوات والأرض .
قوله : " ويحك " . ويح : منصوب بعامل محذوف ، تقديره : ألزمك الله ويحك .
وتارة تضاف ، فيقال : ويحك ، وتارة تقطع عن الإضافة ، فيقال : ويحاً لك ، وتارة ترفع على أنها مبتدأ ، فيقال : ويحه أو ويح له .
وهي وويل وويس كلها متقاربة فيم المعني .
ولكن بعض علماء اللغة قال : إن ويح كلمة ترحم ، وويل كلمة وعيد .
فمعني ة ويحك : إني أترحم لك وأحن عليك .
ومنهم من قال : كل هذه الكلمات تدل على التحذير .
فعلي معني أن ويح بمعني الترحم يكون قوله - صلى الله عليه وسلم - لهذا الرجل ترحماً لهذا الرجل الذي تكلم بهذا الكلام ، كأنه لم يعرف قدر الله .
قوله : " أتدري ما الله " . المراد بالاستفهام التعظيم ، أي : شأن الله العظيم ، ويحتمل أن المعني : لا تدري ما الله ، بل أنت جاهل به ، فيكون المراد بالاستفهام النفي .
وقوله : " ما الله " . جملة استفهامية معلقة لـ " تدري " عن العمل ، لأن دري تنصب مفعولين ، لكنها تعلق بالاستفهام عن العمل وتكون الجملة في محل نصب سدت مسد مفعولي تدري .
قوله : " إن شأن الله أعظم من ذلك " . أي إن أمر الله وعظمته أعظم مما تصورت حيث جئت بهذا اللفظ .(11/381)
قوله : " إنه لا يستشفع بالله على أحداً " . أي : لا يطلب منه أن يكون شفيعاً إلى أحد ، وذلك لكمال عظمته وكبريائه ، وهذا الحديث فيه ضعف ، ولكن معناه صحيح ، وأنه لا يجوز لأحد أن يقول : نستشفع بالله عليك .
فإن قيل : أليس قد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " من سأل بالله فأعطوه " (1)، وهذا دليل على جواز السؤال بالله ، إذ لو لم يكن السؤال بالله جائزاً لم يكن إعطاء السائل واجباً ؟
والجواب أن يقال : إن السؤال بالله لا يقتضي أن تكون مرتبة المسؤول به أدني من مرتبة المسؤول بخلاف الاستشفاع ، بل يدل على أن مرتبة المسؤول به عظيمة ، بحيث إذا سئل به أعطي .
على أن بعض العلماء قال : " من سألكم بالله " ، أي : من سألكم سؤالاً بمقتضى شريعة الله فأعطوه ، وليس المعني من قال : أسألك بالله .
والمعني الأول أصح ، وقد ورد مثله في قول الملك : " أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن " (2)
فيه مسائل :
الأولى : إنكاره على من قال : " نستشفع بالله عليك " . الثانية : تغيره تغيراً عرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة . الثالثة : أنه لم ينكر عليه قوله : " نستشفع بك على الله " .
الرابعة : التنبيه على تفسير ( سبحان الله ! ) . الخامسة : أن المسلين يسألونه - صلى الله عليه وسلم - الاستسقاء.
فيه مسائل :
الأولى : إنكاره على من قال : " نستشفع بالله عليك " . تؤخذ من قوله " سبحانه الله ! أتدري ما الله " ، وقوله : " إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقة " .
الثانية : تغيره عرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة . تؤخذ من الله هذا يدل على أنه تغير حتى عرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة ، وهذا دليل على أن هذه الكلمة عظيمة منكرة .
__________
(1) تقديم ( ص 935).
(2) تقدم تخريجه ( ص 877).(11/382)
الثالثة : أنه لم ينكر عليه قوله : " نستشفع بك على الله " . لأنه قال : لا يستشفع بالله على أحد ، فأنكر عليه ذلك ، وسكت عن قوله : " نستشفع بك على الله ، وهذا يدل على جواز ذلك ، وهنا قاعدة وهي : إذا جاء في النصوص ذكر أشياء ، فأنكر بعضها وسكت عن بعض ، دل على أن ما لم ينكر فهو حق ، مثال ذلك قوله تعالى : { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء } [ الأعراف : 28] ، فأنكر قولهم : { والله أمرنا بها } ، وسكت عن قولهم : { وجدنا عليها آباءنا } ، فدل على أنها حق ، ومثلها عدد أصحاب الكهف ، حيث قال عن قول : { ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجماً بالغيب } ، وسكت عن قول " { سبعة وثامنهم كلبهم } [ الكهف : 22] .
الرابعة : التنبيه على تفسير " سبحان الله ! " . لأن قوله : " إن شأن الله أعظم دليل على أنه منزه عما ينافي تلك العظمة .
الخامسة : أن المسلمين يسألونه الاستسقاء . وهذا في حال حياته ، أما بعد وفاته فلم يكونوا يفعلونه ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - انقطع عمله بنفسه وعبادته ، ولهذا لما حصل الجدب في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقي بالعباس ، فقال : " اللهم ! إن كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا " . وتوسلتم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان بطلبهم الدعاء منه ، ولهذا جاء في بعض الروايات : أن عمر كان يأمر العباس فيقوم فيدعو .
وبهذا نعرف أن القصة المروية عن الرجل العتبي الذي كان جالساً عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فجاء أعرابي ، فقال : السلام عليكم يا رسول الله ! سمعت الله يقول : { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً } [ النساء : 64] ، وإني قد جئت مستغفراً لذنبي مستشفعاً بك إلى ربي ، ثم أنشأ يقول :(11/383)
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... ... فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثم أنصرف ، قال العتبي : فغلبتني عيني ، فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في النوم ، فقال : يا عتبي ! بشر الأعرابي أن الله قد غفر له .
فهذه الرواية باطلة لا صحة لها، لأن صاحبها مجهول ، وكذلك من رواها عنه مجهولون ، ولا يمكن أن تصح ، لأن الآية : { ولو أنهم إذ ظلموا } ولم يقل : إذا ظلموا ، و" إذ " لما مضي بخلاف " إذا " والصحابة رضي الله عنهم لما لحقهم الجدب في زمن عمر لم يستسقوا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما استسقوا بالعباس بن عبد المطلب بدعائه وهو حاضر فيهم (1).
ومن فوائد الحديث :
أنه ينبغي أن يقدم الإنسان عند الطلب الأوصاف التي تستلزم العطف عليه ، لقوله : " نهكت الأنفس " .
الترحم على المذنب إذا قلنا : إن " ويح " للترحم .
***
***
باب ما جاء في حماية النبي - صلى الله عليه وسلم - حمى التوحيد
وسده طرق الشرك
مناسبة الباب للتوحيد :
لما تلكم المؤلف رحمه الله فيما مضي من كتابه على إثبات التوحيد وعلى ذكر ما ينافيه كماله ، ذكر ما يحمي هذا التوحيد ، وأن الواجب سد طرق الشرك .
عن عبد الله بن الشخير رض اله عنه ، قال : " انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقلنا : أنت سيدنا . فقال : " السيد الله تبارك وتعالى " . قلنا : وأفضلنا فضلاً ، وأعظمنا طولاً . فقال : " قولوا بقولكم أو بعض قولكم ، ولا يستجرينكم الشيطان " . رواه أبو داود بسند جيد (2) ).
قوله : " انطلقت في وفد بن عامر" . الظاهر أن هذا وفد قدم على النبي ). - صلى الله عليه وسلم -في العام التاسع ، لأن الوفود كثرت في ذلك العام ، ولذلك يسمي عام الوفود .
__________
(1) البخاري : كتاب الاستسقاء / باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء .
(2) تقدم تخريجه (ص)(11/384)
قوله : " أنت سيدنا " السيد : ذو السؤدد والشرف ، والسؤدد معناه : العظيمة والفخر وما أشبهه .
وسيد : صفة مشبهة على وزن فيعل ، لأن الياء الأولى زائدة .
قوله : " السيد الله " . لم يقل - صلى الله عليه وسلم - : سيدكم كما هو المتوقع ، حيث إنه رد على قولهم سيدنا لوجهين :
الوجه الأول : إرادة العموم المستفاد من (أل ) ، لأن ( أل ) للعموم ، والمعني : أن الذي له السيادة المطلقة هو الله عز وجل ، ولكن السيد المضاف يكون سيداً باعتبار المضاف إليه ، مثل : سيد بني فلان ، سيد البشر ، وما أشبه ذلك .
الوجه الثاني : لئلا يتوهم أنه من جنس المضاف إليه ، لأن سيد كل شيء من جنسه .
والسيد من أسماء الله تعالى ، وهي من معاني الصمد ، كما فسر ابن عباس الصمد بأنه الكامل في علمه وحلمه وسؤدده (1) وما أشبه ذلك .
ولم ينههم - صلى الله عليه وسلم - عن قولهم : " أنت سيدنا " بل أذن لهم بذلك ، فقال : قولوا بقولكم أو بعض قولكم ، لكن نهاهم أن يستجريهم الشيطان فيترقوا من السيادة الخاصة إلى السيادة العامة المطلقة ، لأن سيدنا خاصة مضافة و" السيد" سيادة عامة مطلقة غير مضافة .
قوله : " تبارك " . قال العلماء : معني تبارك ، أي : كثرت بركاته وخيراته ، ولهذا يقولون : إن هذا الفعل لا يوصف به إلا الله ، فلا يقال : تبارك فلان ، لأن هذا الوصف خاص بالله .
وقول العامة : ( أنت تباركت علينا ) لا يريدون بهذا ما يريدونه بالنسبة إلى الله عز وجل ، وإنما يريدون أصابنا بركة من مجيئك ، والبركة يصح إضافتها إلى الإنسان إذا كان أهلاً لذلك ، قال أسيد بن حضير حين نزلت آية التيمم بسبب عقد عائشة الذي ضاع منها : " ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر " (2).
قوله : " وأفضلنا " . أي : فضلك أفضل من فضلنا .
__________
(1) ابن كثير في " التفسير " ( 4/540).
(2) البخاري : كتاب التيمم ، ومسلم : كتاب الحيض / باب التيمم .(11/385)
قوله : " وأعظمنا طولاً " . أي أعظمنا شرفاً وغني ، والطول : الغني ، قال تعالى : { ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات } [ النساء : 25] ويكون بمعني العظمة ، قال تعالى : { غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول } [ غافر : 3] ، أي : ذي العظمة والغني .
قوله : " قولوا بقولكم أو بعض قولكم " . الأمر للإباحة والإذن كما سبق وقوله : " قولوا بقولكم " : يعني قولهم : أنت سيدنا ، أو أنت أفضلنا ، وما أشبه ذلك .
وقوله : " أو بعض قولكم " . يحتمل أن يكون شكاً من الراوي ، وأن يكون من لفظ الحديث ، أي : اقتصروا على بعضه .
قوله : " ولا يستجرينكم الشيطان " . استجراه بمعني : جذبه وجعله يجري معه ، أي : لا يستميلنكم الشيطان ويجذبنكم إلى أن تقولوا قولاً منكراً ، فأرشدهم - صلى الله عليه وسلم - إلى ما ينبغي أن يفعل ، ونهاهم عن الأمر الذي لا ينبغي أن يفعل ، حماية للتوحيد من النقص أو النقض .
وقال في النهاية : " لا يستجرينكم الشيطان " ، أي : لا يستغلبنكم فيتخذكم جرياً ، أي : رسولاً ووكيلاً .
وعلي التفسيرين ، فمراد النبي - صلى الله عليه وسلم - حماية التوحيد وسد كل طريق يوصل إلى الشرك ، والحماية من المنكر تعظم كلما كان المنكر أعظم وأكبر أو كان الداعي إليه في النفوس أشد .
ولهذا تجد أن باب الشرك حماه النبي عليه الصلاة والسلام حماية بالغة حتى سد كل طريق يمكن أن يكون ذريعة إليه ، لأنه أعظم الذنوب ، وأيضاً باب الزنا حمي حماية عظيمة ، حتى منعت المرأة من التبرج وكشف الوجه وخلوتها بالرجل بلا محرم وما أشبه ذلك ، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى الزنا ، لأن النفوس تطلبه ، وفي باب الربا أيضاً حمي الربا بحماية عظيمة ، حتى إن الرجل ليعطي الرجل صاعاً طيباً من البر بصاعين قيمتهما واحدة ، ويكون ذلك رباً محرماً مع أنه ليس فيه ظلم .(11/386)
فالشرك قد يكون من الأمور التي لا تدعو إليه النفوس كثيراً لكنه أعظم الظلم ، فالشيطان يحرص على أن يوصل ابن آدم إلى الشرك بكل وسيلة ، فحماه النبي - صلى الله عليه وسلم - حماية تامة محكمة حتى لا يدخل الإنسان فيه من حيث لا يشعر ، وهذا هو معني الباب الذي ذكره المؤلف .
تنبيه :
جري شراح هذا الحديث على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهاهم عن قول سيدنا : فحاولوا الجمع بين هذا الحديث وبين قوله - صلى الله عليه وسلم - : " أنا سيد ولد آدم " (1)، وقوله : " قوموا إلى سيدكم " (2)، وقوله في الرقيق : و " ليقل سيدي ومولاي " (3) بواحد من ثلاثة أوجه :
الأول : أن النهي على سبيل الكراهة والأدب ، والإباحة على سبيل الجواز .
الثاني : أن النهي حيث يخشى منه المفسدة ، وهي التدرج إلى الغلو والإباحة إذا لم يكن هناك محذور .
الثالث : أن النهي بالخطاب ، أي : أن تخاطب الغير بقولك : أنت سيدي أو سيدنا ، بخلاف الغائب ، لأن المخاطب ربما يكون في نفسه عجب وغلو وترفع ، ثم إن فيه شيئاً أخر ، وهو خضوع هذا المتسيد له وإذلال نفسه له بخلاف ما إذا جاء من الغير ، مثل : " قوموا إلى سيدكم " ، أو على سبيل الغيبة ، كقول العبد : قال سيدي ونحو ، لكن هذا يرد عليه إباحته - صلى الله عليه وسلم - للرقيق أن يقول لمالكه : سيدي .
__________
(1) تقدم تخريجه (ص 928).
(2) البخاري : كتاب المغازي / باب مرجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأحزاب .
(3) تقدم تخرجه (ص924).(11/387)
والذي يظهر لي أن لا تعارض أصلاً ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن لهم أن يقولوا بقولهم ، لكن نهاهم أن يستجريهم الشيطان بالغلو مثل ( السيد ) ، لأن السيد المطلق هو الله تعالى ، وعلي هذا فيجوز أن يقال : سيدنا وسيد بني فلان ونحوه ولكن بشرط أن يكون الموجه إليه السيادة أهلاً لذلك ، أما أذا لم يكن أهلاً كما لو كان فاسقاً أو زنديقاً ، فلا يقال له ذلك حتى ولو فرض أنه أعلي منه مرتبة أو جاهاً ، وقد جاء في الحديث : " ولا تقولوا للمنافق سيد ، فإنه إن يكن سيداً فقد أسخطتم ربكم عز وجل " (1)، فإذا كان أهلاً لذلك وليس هناك محذور ، فلا بأس به ، وأما إن خشي المحذور أو كان غير أهل ، فلا يجوز . والمحذور : هو الخشية من الغلو فيه
وعن أنس رضي الله عنه : " أن ناساً قالوا : يا رسول الله يا خيرنا وابن خيرنا ! وسيدنا وابن سيدنا ! فقال : " يا أيها قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان ، أنا محمد عبد الله ورسوله ، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل " . رواه النسائي بسند جيد (2).
قوله : : " قالوا يا رسول الله ! " هذا النداء موافق لقوله تعالى : { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً } [ النور : 63] ، أي : لا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضاً ، فتقولوا : يا محمد ! ولكن قولوا : يا رسول الله ! أو : يا نبي الله !
__________
(1) الأمام أحمد في " المسند " (5/346) ، وأبو داود : كتاب الأدب / باب لا يقول المملوك ربي وربتي .
(2) الإمام أحمد في " المسند " (3/241) ، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " (249،250) وقال ابن عبد الهادي في " الصارم المنكي " ( ص 246) : " إسناده صحيح " .(11/388)
وفي الآية معني أخر : أي إذا دعاكم الرسول ، فلا تجعلوا دعاءه إياكم كدعاء بعضكم بعضاً إن شئتم أجبتم وإن شئتم أبيتم ، فهو كقوله : { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } [ الأنفال : 24] ، وعلي المعني الأولى تكون " دعاء " مضافة إلى المفعول ، وعلى الثاني تكون مضافة إلى الفاعل . قوله : " يا خيرنا " . هذا صحيح فهو خيرهم نسباً ، ومقاماً ، وحالاً .
قوله : " وابن خيرنا" . أي : في النسب لا في المقام والحال .
وكذلك يقال في قوله : " وابن سيدنا" .
قوله : " قولوا بقولكم " سبق القول فيه .
قوله : " ولا يستهوينكم الشيطان " . أي لا يستميلنكم الشيطان فتهوره وتتبعوا طرقه حتى تبلغوا الغلو ، ونظير قوله تعالى : { كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران } [الأنعام : 71] .
قوله : " أنا محمد عبد الله ورسوله " . محمد اسمه العلم ، وعبد الله ورسوله وصفان له .
وهذان الوصفان أحسن وأبلغ وصف يتصف به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولذلك وصفه الله تعالى بالعبودية في أعظم المقامات ، فوصفه بها في مقام إنزال القرآن عليه ، قال تعالى : { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده } [ الفرقان : 1] ، ووصفه بها في مقام الإسراء ، قال تعالى : { سبحان الذي أسري بعبده ليلاً } [ الإسراء : 1] ، ووصفه بها في مقام المعراج ، قال تعالى : { فأوحي عبده ما أوحي } [ النجم : 10] ، ووصفه في مقام الدفاع عنه والتحدي ، قال تعالى : { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا } [ البقرة : 23] .
وكذلك بالنسبة للأنبياء ، قوله تعالى : { ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً } [ الأسراء : 3] ، وهذه العبودية خاصة ، وهي أعلي أنواع الخاصة .(11/389)
والعبودية لله من أجل أوصاف الإنسان إما أن يعبد الله أو الشيطان ، قال تعالى { ألم أعهد إليكم يا بني آدم لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين * وأن اعبدوني هذا الصراط مستقيم } [ يس : 60، 61] قال ابن القيم :
هربوا من الرق الذي خلقوا له ... ... ... فبلوا برق النفس والشيطان
وقال الشاعر :
لا تدعني إلا بيا عبدها ... ... فإنه أشرف أسمائي
قوله : " ورسوله " . أي : المرسل من عنده إلى جميع الناس ، كما قال تعالى : { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً } [الأعراف : 158] .
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قمة الطبقات الصالحة ، قال تعالى : { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً } [ النساء : 69] ، والنبيون فيهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، بل هو أفضلهم ، ومن عبارة المؤلف رحمه الله في الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " عبد لا يعبد ، ورسول لا يكذب " .
وقد تطرف في الرسول - صلى الله عليه وسلم - طائفتان :
طائفة غلت فيه حتى عبدته ، وأعدته للسراء والضراء ، وصارت تعبده وتدعوه من دون الله .
وطائفة كذبته ، وزعمت أنه كذاب ، ساحر ، شاعر ، مجنون ، كاهن ، ونحو ذلك .
وفي قوله : " عبد الله ورسوله " رد على الطائفتين .
قوله : " ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي " . " ما " نافية و " إن " وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول أحب ، أي : ما أحب رفعتكم إياي فوق منزلتي ، لا في الألفاظ ، ولا في الألقاب ، ولا في الاحوال .
قوله : " التي أنزلني الله " . يستفاد منه أن الله تعالى هو الذي يجعل الفضل في عباده ، وينزلهم منازلهم .
مناسبة الباب لكتاب التوحيد : أن التوحيد يجب أن يحمي من كل وجه حتى في الألفاظ ، ليكون خالصاً من كل شابئة .
فيه مسائل :(11/390)
الأولى : تحذير الناس من الغلو . الثانية : ما ينبغي أن يقول من قيل له : " أنت سيدنا" . الثالثة : قوله : " لا يستجرينكم " . مع أنهم لم يقولوا إلا الحق . الرابعة : " ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي " .
فيه مسائل :
الأولى : تحذير الناس من الغلو . تؤخذ من قوله : " ولا يستجرينكم الشيطان " ، ووجهه : أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جعل هذا من استجراء الشيطان ، والإنسان يجب عليه أن يحذر كل ما كان من طرق الشيطان .
الثانية : ما ينبغي أن يقول من قيل له : " أنت سيدنا " . وتؤخذ من قوله : " السيد الله " ، فينبغي أن يقول من قيل له ذلك : " السيد الله " .
الثالثة : قوله : " لا يستجرينكم الشيطان " مع أنهم لم يقولوا إلا الحق .
ظاهر كلام المؤلف أن هذا من استجراء الشيطان ، فهذه الكلمة يحتمل أن معناها أن ما قلتم من استجراء الشيطان .
ويحتمل أن المعني : قولوا بهذا القول ، ولكن إياكم أن تغلوا ، فإن هذا من استجراء الشيطان ، وهذا ظاهر الحديث كما سبق .
الرابعة : قوله : " ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي " . أي إني أكره أن ترفعوني فوق منزلتي ، وهي العبودية والرسالة ، ففيها تواضعه - صلى الله عليه وسلم - .
***
باب ما جاء في قول الله تعالى :
{ وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة }
الآية [الزمر : 67]
قوله : { وما قدروا } . الضمير يعود على المشركين ، و { قدروا } : عظموا ، أي : ما عظموا ، أي : ما عظموا الله حق تعظيمه حيث أشركوا به ما كان من مخلوقاته .
قوله : { والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة } . يحتمل أن تكون الواو للحال ، أي : ما قدروا الله حق قدره في هذه الحال .
ويحتمل أن تكون للاستئناف ، لبيان عظمة الله عز وجل ، وهذا أقوي ، لأنه يعم هذه الحال وغيرها .
والقبضة : هي ما يقبض باليد ، وليس المراد بها الملك كما قيل ، نعم ، لو قال : والأرض في قبضته ، لكان تفسيرها بالملك محتملاً .(11/391)
قوله : " جميعاً " . حال من الأرض ، فيشمل بحارها وأنهارها وأشجارها وكل ما فيها ، الأرض كلها جميعاً قبضته يوم القيامة ، والسماوات على عظمها وسعتها مطويات بيمينه ، قال الله عز وجل : { يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعبده } [ الأنبياء : 104] .
قوله : { سبحانه وتعالى } . هذا تنزيه له عن كل نقص وعيب ، ومما ينزه عنه هذه الأنداد ، ولهذا قال : { وتعالى } ، أي : ترفع .
قوله : { عما يشركون } . أي : عن كل شرك يشركونه به ، سواء جعلوا الخالق كالمخلوق أو العكس .
عن ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : " جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : يا محمد ! إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع ، والأرضيين على إصبع ، والشجر على إصبع ، والثري على إصبع ، وسائر الخلق على إصبع ، فيقول : أنا الملك . فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه ، تصديقاً لقول الحبر ، ثم قرأ : { وما قدر الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة } الآية " متفق عليه (1).
قوله " حبر " . الحبر هو العالم الكثير العلم ، والحبر يشابه البحر في اشتقاق الحروف ، ولهذا كان العالم أحياناً يسمي بالحبر وأحياناً بالبحر .
قوله : " إنا نجد " . أي : في التوراة .
__________
(1) البخاري : كتاب التوحيد / باب قوله تعالى : { لم خلقت بيدي } ، ومسلم : كتاب المنافقين / باب صفة القيامة .(11/392)
قوله : " فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - " . ولولا ما بعدها لاحتملت أن تكون إنكاراً ، لأن من حدثك بحديث لا تطمئن إليه ضحكت منه ، لكنه قال : " تصديقاً لقول الحبر " ، فكانت إقراراً لاغير ، ويدل لذلك قوله : ثم قرأ : { وما قدروا الله حق قدره .. } الآية : فهذا يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - أقره واستشهد لقوله بآية من كتاب الله ، فضحكه واستشهاده تقرير لقول الحبر ، وسبب الضحك هو سرور ، حيث جاء في القرآن ما يصدق ما وجده هذا الحبر في كتبه ، لأنه لا شك أنه إذا جاء ما يصدق القرآن ، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - سوف يسر به ، وإن كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلم علم اليقين أن القرآن من عند الله ، لكن تضافر البينات مما يقوي الشيء ، أرأيت أسامة بن زيد وأبوه زيد بن حارثة ؟ هل كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - شك في أن أسامة ابن لزيد ؟
الجواب : ليس عنده في ذلك شك ، ولما مر بهما مجزز المدجلي وهو من أهل القيافة وقد تغطيا بقطيفة لم يبد منهما إلا أقدامهما ، فنظر إلى أقدامهما ، فقال : إن الأقدام بعضها من بعض ، فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - سروراً عظيماً حتى دخل على عائشة مسروراً تبرق أسارير وجهه ، وقال : " ألم تري أن مجززاً المدجلي دخل فرأي أسامة وزيداً وعليهما قطيفة ، قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما ، فقال : إن هذه الأقدام بعضها من بعض " (1)، فالمهم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - دخل تبرق أسارير وجهه ، لأن في ذلك تأييداً للحق ، وكان المشركون يقدحون في أسامة بن زيد وأبيه لاختلاف ألوانهما ، فكان أسامة أسود شديد السواد وأبوه زيد شديد البياض ، لكن الأمر ليس كما قالوا ، بل هم كاذبون في ذلك ، واختلاف اللون لا يوجب شبهة إلا لذي هوي ، فلعل المخالف في اللون نزعة عرق .
__________
(1) البخاري : كتاب الفرائض / باب القائف ، ومسلم : كتاب الرضاع / باب العمل بإلحاق القائف الولد .(11/393)
قوله : " أصبع " . واحدة الأصابع ، وهي مثلثة الأول والثالث ، ففيها تسع لغات ، والعاشر أصبوع ، وفي هذا يقول الناظم :
وهمز أنملة ثلث وثالثة ... ... ... التسع في أصبع واختم بأصبوع
قوله : " أنا الملك " . هذه الجملة تفيد الحصر ، لأنها اسمية معرفة الجزئين ، ففي ذلك اليوم لا ملك لأحد ، قال تعالى : { يوم هم بارزون لا يخفي على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } [ غافر : 16] ، وكل الناس الملوك منهم والمملوكون على حد سواء يحشرون حفاة عراة غرلاً ، وبهذا يظهر ملكوت الله عز وجل في ذلك اليوم ظهوراً بيناً ، لأنه سبحانه ينادي : لمن الملك اليوم ، فلا يجيبه أحد ، فيجيب نفسه : { لله الواحد القهار } .
وقوله : " الملك " . أي : ذو السلطان ، وليس مجرد المتصرف بل هو المتصرف فيما يملك على وجه السلطة والعلو ، وأما " المالك " فدون ذلك ، ولهذا يمتدح نفسه تعالى بأنه الملك ، وقوله تعالى : { مالك يوم الدين } [ الفاتحة : 4] فيها قراءتان : " ملك ومالك " ، ليتبين بذلك أنه ملك مالك .
فملك الله تعالى متضمن لكمال السلطان والتدبير والملك ، بخلاف غيره ، فإن من ملوك الدنيا من يكون ملكاً لا يملك التصرف ، ومنهم المالك وليس بملك .
قوله : " حتى نواجذه " . أي ظهرت ، ونواجذ : جمع ناجذ ، وهو أقصي الأضراس .
وهذا الضحك من النبي - صلى الله عليه وسلم - تقرير لقول الحبر ، ولهذا قال ابن مسعود : " تصديقاً لقول الحبر" ، ولو كان منكراً ما ضحك الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا استشهد بالآية ، ولقال له : كذبت كما كذب الذين ادعوا أن الذين يزني لا يرجم ، ولكنه ضحك تصديقاً لقول الحبر وسروراً بأن ما ذكره موافق لما جاء به القرآن الذي أوحي إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - .
قوله : ثم قرأ : { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته .. } الآية .(11/394)
هذا معني الآية التي لا تحتمل غيره ، وأن السماوات مطويات كطي السجل للكتب بيمينه ، أي : يده تبارك وتعالى ، لأن ذلك تفسيره - صلى الله عليه وسلم - ، وتفسيره في الدرجة الثانية من حيث الترتيب ، لكنه كالقرآن في الدرجة الأولى من حيث القبول والحجة .
وأما تفسير أهل التحريف ، فيقول بعضهم : " قبضته " ، أي : في قبضته وملكه وتصرفه ، وهو خطأ ، لأن الملك والتصرف كائن يوم القيامة وقبله .
وقول بعضهم : " السماوات مطويات " ، أي : تالفة وهالكة ، كما تقول أنطوي ذكر فلان ، أي : زال ذكره .
و" بيمينه " ، أى : بقسمه ، لأنه قال تعالى : { كل من عليها فان * ويبقي وجه ربك } [ الرحمن : 26،27] فجعلوا المراد باليمين القسم - .. إلى غير ذلك من التحريفات التي يلجأ إليها أهل التحريف ، وهذا لظنهم الفاسد بالله ، حيث زعموا أن إثبات مثل هذه الصفات يستلزم التمثيل ، فصارا ينكرون ما أثبته الله لنفسه ، وما أثبته رسول وسلف الأمة بشبهات يدعونها حججاً .
فيقال لهم : هل أنتم أعلم بالله من الله ؟
إن قالوا : نعم ، كفروا ، وإن قالوا : لا ، قلنا هل أنتم أفصح في التعبير عن المعاني من الله؟
إن قالوا : نعم ، كفروا ، وإن قالوا لا ، خصموا ، وقلنا لهم : إن الله بين ذلك أبلغ بيان بأن الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - أقر الحبر على ما ذكر فيما يطابق الآية : وهل أنتم أنصح من الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعباد الله ؟ فسيقولن : لا .
فإذا كان كلامه تعالى أفصح الكلام ، وأصدقه ، وأبينه ، وأعلم بما يقول لزم علينا أن نقول مثل ما قال عن نفسه ، ولسنا بمذنبين ، بل الذنب على من صرف كلامه عن حقيقه التي أراده الله بها .
ومن فوائد الحديث :
إثبات الأصابع لله عز وجل لإقراره - صلى الله عليه وسلم - هذا الحبر على ما قال .(11/395)
والإصبع إصبع حقيقي يليق بالله عز وجل ، كاليد ، وليس المراد بقوله : " علي إصبع " سهولة التصرف في السماوات والأرض ، كما يقوله أهل التحريف ، بل هذا خطأ مخالف لظاهر اللفظ والتقسيم ، ولأنه - صلى الله عليه وسلم - أثبت ذلك بإقراره ، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : " إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن " (1).
وقوله : " بين أصبعين " لا يلزم من البينية المماسة ، ألا تري قوله تعالى : { والسحاب المسخر بين السماء والأرض } [ البقرة : 164] ، والسحاب لا يمس الأرض ولا السماء وهو بينهما ، ونقول : عنيزة بين الزلفي والرس ، ولا يلزم أن تكون متصلة بهما ، وتقول : شعبان بين ذي القعدة وجمادى ، ولا يلزم أن تكون متصلة بهما ، وتقول : شعبان بين ذي القعدة جمادي ، ويلزم أن يكون موالياً له ، فتبين أن البينية لا تستلزم الاتصال في الزمن أو المكان ، وكما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - : أن الله سبحانه وتعالى يكون قبل وجه المصلي (2)، ولا يلزم من المقابلة أن يكون بينه وبين الجدار أو السترة التي يصلي إليها ، فهو قبل وجهه وإن كان على عرشه ، ومثال ذلك : الشمس حين تكون في الأفق عند الشروق أو الغروب ، فإن من الممكن أن تكون قبل وجهك وهي في العلو .
فتبين بهذا أن هؤلاء المحرفين على ضلال ، وأن من قال : إن طريقتهم أعلم وأحكم ، فقد ضل .
ومن المشهور عندهم قولهم : طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم ، وهذا القول على ما فيه من التناقض قد يوصل إلى الكفر ، فهو :
أولاً : فيه تناقض ، لأنهم قالوا طريقة السلف أسلم ، ولا يعقل أن تكون الطريقة أسلم وغيرها أعلم وأحكم ، لأن الأسلم يستلزم أن يكون أعلم وأحكم فلا سلامة إلا بعلم بأسباب السلامة وحكمة في سلوك هذه الأسباب .
__________
(1) مسلم : كتاب القدر / باب تصريف الله تعالى القلوب كيف يشاء .
(2) البخاري : كتاب الصلاة / باب حك البزاق باليد في المسجد ، ومسلم : كتاب الزهد .(11/396)
ثانياً : أين العلم والحكمة من التحريف والتعطيل ؟
ثالثاً : يلزم منه أن يكون هؤلاء الخالفون أعلم بالله من رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأصحاب ، لأن طريقة السلف هي طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .
رابعاً : أنها قد تصل الكفر ، لأنها تستلزم تجهيل النبي - صلى الله عليه وسلم - وتسفيهه ، فتجهيله ضد العلم ، وتسفيهه ضد الحكمة ، وهذا خطر عظيم .
فهذه العبارة باطلة حتى وإن أرادوا بها معني صحيحاً ، لأن هؤلاء بحثوا وتعمقوا وخاضوا في أشياء كان السلف لم يتكلموا فيها ، فإن خوضهم في هذه الأشياء هو الذين ضرهم وأوصلهم إلى الحيرة والشك ، وصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قال : " هلك المتنطعون " (1)، فلو أنهم بقوا على ما كان عليه السلف الصالح ولم يتنطعوا ، لما وصلوا إلى هذا الشك والحيرة والتحريف ، حتى إن بعض أئمة أهل الكلام كان يتمني أن يموت على عقيدة أمه العجوز التي لا تعرف هذا الضلال ، ويقول بعضهم : ها أنا أموت على عقيدة عجائز نيسابور .
وهذا من شدة ما وجدوا من الشك والقلق والحيرة ، ولا تظن أن العقيدة الفاسدة يمكن أن يعيش الإنسان عليها أبداً ، لا يمكن أن يعيش الإنسان إلا على عقيدة سليمة ، وإلا ابتلي بالشك والقلق والحيرة ، وقد قال بعضهم : أكثر الناس شكاً عند الموت أهل الكلام ، وما بالك والعياذ بالله بالشك عند الموت يختم للإنسان بضد الإيمان .
__________
(1) مسلم : كتاب العلم / باب هلك المتنطعون .(11/397)
لكن لو أخذنا العقيدة من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسهولة وبما جري عليه السلف ، ونقول كما قال الرازي وهو من علمائهم ورؤسائهم : رأيت أقرب الطرق طريقة القرآن : أقرأ في الإثبات : { الرحمن على العرش استوس } [ طه : 5] ، يعني : فأثبت ، وأقرأ في النفي : { ليس كمثله شيء } [ الشوري : 11] { ولا يحيطون به علماً } [ طه : 110] ، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي ، لأنه أقر هذا الكلام ، فقال : لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية ، فما رأيتها تروي غليلاً ولا تشفي عليلاً ، ووجدت أقرب الطرق طريق القرآن .
والحاصل أن هؤلاء المنكرين لما جاء في الكتاب والسنة من صفات الله عز وجل اعتماداً على هذا الظن الفاسد أنها تقتضي التمثيل قد ضلوا ضلالاً مبيناً ، فالصحابة رضي الله عنهم هل ناقشوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا ؟ والذي نكاد نشهد به إن لم نشهد به أنه حين يمر عليهم مثل هذا الحديث يقبلونه على حقيقته ، لكن يعلمون أن الله لا مثل له ، فيجمعون بين الإثبات وبين النفي.
إذا موقفنا من هذا الحديث الذي فيه إثبات الأصابع لله عز وجل أن نقر به ونقبله ، وأن لا نقتصر على مجرد إمراره بدون معني فنكون بمنزلة الأميين الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني ، بل نقرؤه ونقول : المراد به أصبع حقيقي يجعل الله عليه هذه الأشياء الكبيرة ، ولكن لا يجوز أبداً أن نتخيل بأفهامنا أو أن نقول بألسنتنا : إنه مثل أصابعنا ، بل نقول : الله أعلم بكيفية هذه الأصابع ، فكما أننا لا نعلم ذاته المقدسة ، فكذلك لا نعلم كيفية صفاته ، بل نكل علمها إلى الله سبحانه وتعالى .
وفي رواية لمسلم : " والجبال والشجر على إصبع ، ثم يهزهن فيقول : أنا الملك ، أنا الله" (1)
__________
(1) مسلم : كتاب صفات المنافقين / باب صفة القيامة .(11/398)
وفي رواية للبخاري : " يجعل السماوات على إصبع ، والماء والثري على إصبع ، وسائر الخلق على إصبع " (1)
قوله : " ثم يهزين " . أي : هزاً حقيقياً ، ليبين للعباد في ذلك الموقف العظيم عظمته وقدرته ، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هذه الآية ويقبض أصابعه ويبسطها ، فصار المنبر يتحرك ويهتز (2) لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتكلم بهذا الكلام وقلبه مملوء بتعظيم الله تعالى .
فإن قلت : هل نفعل أيدينا كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟
فالجواب : إن هذا يختلف بحسب ما يترتب عليه ، فليس كل ما شاهد أو سمع يتقبل ذهنه ذلك بغير أن يشعر بالتمثيل ، فينبغي أن نكف لأن هذا ليس بواجب حتى نقول : يجب علينا أن نبلغ كما بلغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالقول والفعل ، أما إذا كنا نتكلم مع طلبة علم أو مع إنسان مكابر ينفي هذا ويريد أن يحول المعني إلى غير الحقيقة ، فحينئذ نفعل كما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
فلو قال قائل : إن الله سميع بصير ، لكن قال : سميع بلا سمع وبصير بلا بصر ، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام حين قرأ تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً } [ النساء : 58] وضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه وأبو هريرة حين حدث به كذلك (3)، فهذا الإنسان الذين يقول : إن الله سميع بلا سمع بصير بلا بصر نقول له هكذا .
وكذلك الذي ينكر حقيقة اليد ويقول : إن الله لا يقبض السماوات بيمينه ، و معني قبضته ، أي : في تصرفه ، فهذا نقول له كما فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) البخاري : كتاب التفسير / باب { وما قدروا الله حق قدره } .
(2) أخرجه الإمام أحمد ومسلم بمعناه .
(3) أبو دواد / كتاب السنة / باب في الجهمية ، والحاكم (1/35) وقال : " صحيح ، ولم يخرجاه " .(11/399)
فالمقام ليس بالأمر بالسهل ، بل هو أمر صعب ودقيق للغاية ، فإنه يخشي من أن يقع أحد في محذور كان بإمكانك أن تمسك عنه ، وهذا هو فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في جميع تصرفاته إذا تأملتها ، حتى الأمور العملية قد يؤجلها إذا خاف من فتنة أو من شيء أشد ضرراً ، كما أخر بناء الكعبة على قواعد إبراهيم خوفاً من أن يكون فتنة لقريش الذين أسلموا حديثاً (1).
قوله : " والماء والثري على إصبع " . هذا لا ينافي قوله : " الأرضين على إصبع " ، لأنه يقال : " الماء والثري على إصبع " ، أي : الأرض كلها على إصبع ، ويراد بالإصبع الجنس ، وإلا لتناقض مع معني الحديث الذي قبله : " الشجر على أصبع والماء على أصبع ، والثري على أصبع " ، إذا النكرة كررت بلفظ النكرة ، فالثاني غير الأول غالباً ، وإذا كررت بلفظ المعرفة ، فالثاني هو الأول غالباً ، وفيقال : الماء والثري كناية عن الأرض كلها ، أو إن الماء والثري على أصبع وسكت عن الباقي ، إما أختصاراً أو أقتصاراً .
ولمسلم عن ابن عمر مرفوعاً : " يطوي الله السماوات يوم القيامة ، ثم يأخذهن بيده اليمني ، ثم يقول : أنا الملك ، أين الجبارون ؟ أن المتكبرون ؟ ثم يطوي الأرضن السبع ، ثم يأخذهن بشماله ، ثم يقول أن الملك أين الجبارون ؟ أين المتكبرون ؟ " (2).
قوله : " ولمسلم عن ابن عمر مرفوعاً : " يطوي الله السماوات .. " . سبق معني هذا الحديث ، وأن المراد بالطي الطي الحقيقي .
__________
(1) البخاري : كتاب الحج / باب فضل مكة وبنياتها ، ومسلم : كتاب الحج / باب نقض الكعبة .
(2) مسلم : كتاب صفات المنافقين / باب صفة القيامة .(11/400)
قوله : " ثم يقول : أنا الملك " . يقول ذلك ثناء علي نفسه سبحانه ، وتنبيهاً على عظمته الكاملة وعلي ملكه الكامل ، وهو السلطان ، فهو مالك ذو سلطان ، وهذه الجملة كلا جزأيها معرفة ، وإذا كان المبتدأ والخبر كلاهما معرفة ، فإن ذلك من طرق الحصر ، أي : أنا الذي لي الملكية المطلقة والسلطان التام لا ينازعني فيهما أحد .
قوله : " أين الجبارون ؟ " . الأستفهام للتحدي ، فيقول : أين الملوك الذين كانوا في الدنيا لهم السلطة والتجبر والتكبر على عباد الله ؟ وفي ذلك الوقت يحشرون أمثال الذر يطأهم الناس بأقدامهم .
قوله : " يطوي الأرضين السبع " . أشار الله في القرآن إلى أن الأرضين سبع ، ولم يرد العدد صريحاً في القرآن ، قال تعالى : { الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن } [ الطلاق : 12] ، والمماثلة هنا لا تصح إلا في العدد ، لأن الكيفية تتعذر المماثلة فيها ، وأما السنة ، فقد صرحت بعدة أحاديث بأنها سبع .
قوله : " ثم يأخذهن بشماله " . كلمة ( شمال ) اختلف فيها الرواة ، فمنهم من أثبتها ، ومنهم من أسقطها ، وقد حكموا على من أثبتها بالشذوذ ، لأنه خالف ثقتين في روايتها عن ابن عمر.
ومنهم من قال : إن ثقة ولكنه قالها من تصرفه .
وأصل هذه التخطئة هو ما ثبت في " صحيح مسلم " أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال : " المقسطون على منابر من نور على يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين " ، وهذا يقتضي أنه ليس هناك يد يمين ويد شمال .(11/401)
ولكن إذا كانت لفظة " شمال محفوظة ، فهي عندي لا تنافي " كلتا يديه يمين " ، لأن المعني أن اليد الأخري ليست كيد الشمال بالنسبة للمخلوق ناقصة عن اليمني ، فقال : " كلتا يديه يمين " ، أي : ليس فيها نقص ، ويؤيد هذا قوله في حديث آدم : " اخترت يمين ربي وكلتا يديه يمين مباركة " (1) ، فلما كان الوهم يذهب إلى أن إثبات الشمال ، يعني : النقص في هذه اليد دون الأخري ، قال : " كلتا يديه يمين " ، ويؤيده أيضاً قوله: " المقسطون على منابر من نور على يمين الرحمن " ، فإن المقصود بيان فضلهم ومرتبتهم ، وأنهم على يمين الرحمن سبحانه.
وعلى كل ، فإن يديه سبحانه اثنتان بلا شك ، وكل واحدة غير الأخري ، وإذا وصفنا اليد الأخري بالشمال ، فليس المراد أنها أقل قوة من اليد اليمني ، بل كلتا يديه يمين .
والواجب علينا أن نقول : إن ثبتت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فنحن نؤمن بها ، ولا منافاة بينها وبين قوله : " كلتا يديه يمين " كما سبق ، وإن لم تثبت ، فلن نقول بها .
وروي عن ابن عباس ، قال : " ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم " (2).
قوله : " في كف الرحمن " هكذا ساقه المولف ، والذي في ابن جرير " في يد الله " . ففيما ساقه المؤف إثبات الكف لله تعالى ، إن كان السياق محفوظاً وإلا ففيه إثبات اليد . أما الكف فقد ثبت في أحاديث أخري صحيحة .
قوله : " إلا كخردلة " . هي حبة نبات صغيرة جداً ، يضرب بها المثل في الصغر والقلة ، وهذا يدل على عظمته سبحانه ، وأنه سبحانه لا يحيط به شيء ، والأمر أعظم من هذا التمثيل التقريبي ، لأنه تعالى لا تدركه الأبصار ولا تحيط به الإفهام .
__________
(1) مسلم : كتاب الإمارة / باب فضيلة الإمام العادل .
(2) ابن جرير (24/25)(11/402)
وقال ابن جرير : حدثني يوسف ، أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : حدثني أبي ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس "
قال : وقال أبو ذر رضي الله عنه : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ما الكرسي في العرش إلا العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض " (1).
قوله : " قال ابن جرير " . هو المفسر المشهور رحمه الله ، وله تفسير أثري يعتمد فيه على الآثار ، لكن آفته أنه لم يمحص هذه الآثار ، وأتي بالصحيح والضعيف وما دون الضعيف أيضاً ، وكأنه رحمه الله أراد أن يقيد هذا وجعل الحكم بالصحة والضعف موكولاً إلى القارئ ، وربما كان يريد أن يرجع إليه مرة ثانية ، ويمحصه ، ولكن لم يتيسر ذلك .
قوله : " ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس " . الكرسي : موضع قدمي الله تعالى ، هكذا قال ابن عباس رضي الله عنهما ، والدراهم : جمع درهم ، وهو النقد من الفضة ، والترس : شيء من جلد أو خشب يحمل عند القتال يتقي به السيف والرمح ونحوهما .
قوله : " ما الكرسي في العريش " . أي : بالنسبة إليه ، والعرش هو المخلوق العظيم الذي استوي عليه الرحمن ولا يقدر قدره إلا الله عز وجل ، والمراد بالحلقة حلقة الدرع ، وهي صغيرة وليست بشيء بالنسبة إلى فلاة الأرض .
وهذا الحديث يدل على عظمته عز وجل ، فيكون مناسباً لتفسير الآية التي جعلها المؤلف ترجمة للباب .
__________
(1) ابن جرير الطبري في التفسير (5794) ، والبيهقي في " الأسماء والصفات " (510) ، وقال ابن حجر : " صححه ابن حبان وله شاهد عن مجاهد اخرجه سعيد بن منصور بسند صحيح " ، الفتح (13/410)(11/403)
وعن ابن مسعود ، قال : " بين السماء والتي تليها خمسمائة عام ، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام ، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام وبين الكرسي والماء خمس مئة عام ، والعرس فوق الماء ، والله فوق العرش ، لا يخفي عليه شيء من أعمالكم " أخرجه ابن مهدي .
عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله . ورواه بنحوه المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله (1). قاله الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى ، قال : " وله طرق " (2)
قوله : " وعن ابن مسعود " . هذا الحديث على ابن مسود ، لكنه من الأشياء التي لا مجال للرأي فيها ، فيكون له حكم الرفع ، لأن ابن مسعود رضى الله لم يعرف بالأخذ عن الإسرائيليات .
قوله : " بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام " . وعلى هذا تكون المسافة بين السماء الدنيا والماء أربعة آلاف سنة ، وفي حديث آخر : " إن كثف كل سماء خمسمائة عام " (3)، وعلى هذا يكون بين السماء الدنيا والماء سبعة آلاف وخمسمائة ، وإن صح الحديث ، فمعناه أن علو الله عز وجل بعيداً جداً .
فإن قيل : يرد على هذا ما ذكره المعاصرون اليوم من أن بيننا وبين بعض النجوم والمجرات مسافات عظيمة ؟
يقال في الجواب : أنه إذا صحت الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإنا نضرب بما عارضها عرض الحائط ، لكن إذا قدر أننا رأينا الشيء بأعيننا ، وأدركنا بأبصارنا وحواسنا ، ففي هذه الحال يجب أن نسلك أحد أمرين :
الأول : محاولة الجمع بين النص والواقع إن أمكن الجمع بينهما بأي طريق من طرق الجمع .
__________
(1) الدرامي في " الرد على الجهمية " (26) ، وفي النقض على المريسي " (ص 73، 90، 105) ، وابن خزيمة في " التوحيد (594) ، والطبراني " الكبير (8987) ، والبيهقي في " الأسماء " ( ص 401) ، والخطيب في " الموضح " (2/47).
(2) الذهبى في " العلو " ( ص 64) .
(3) يأتي تخريجه ( ص 1131).(11/404)
الثاني : إن لم يمكن الجمع تبين ضعف الحديث ، لأنه لا يمكن للأحاديث الصحيحة أن تخالف شيئاً حسياً واقعاً أبداً ، كما قال شيخ الإسلام في كتابه " العقل والنقل " : " لا يمكن للدليلين القطعيين أن يتعارضا أبداً ، لأن تعارضها يقتضي إما رفع النقيضين أو جمع النقيضين ، وهذا مستحيل ، فإن ظن التعارض بينهما ، فإما أن لا يكون الخطأ من الفهم ، وإما إن يكون أحدهما ظنياً والآخر قطعياً " .
فإذا جاء الأمر الواقع الذي لا إشكال فيه مخالفاً لظاهر شيء من الكتاب أو السنة ، فإن ظاهر الكتاب يؤول حتى يكون مطابقاً للواقع ، مثال ذلك قوله تعالى : { تبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمر منيراً } [ الفرقان : 61] ، وقال تعالى : { وجعل القمر فيهن نوراً } [ نوح : 16] ، أي : في السماوات .
والآية الثانية أشد إشكالاً من الآية الأولى ، لأن الأولى يمكن أن نقول : المراد بالسماء العلو ، ولكن الآية الثانية هى المشكلة جداً ، والمعلوم بالحس المشاهد أن القمر ليس في السماء نفسها ، بل هو في فلك بين السماء والأرض .
والجواب أن يقال : إن كان القرآن يدل على أن القمر مرصع في السماء كما يرصع المسمار في الخشبة دلالة قطعية ، فإن قولهم : إننا وصلنا القمر ليس صحيحاً ، بل وصلوا جرماً في الجو ظنوه القمر .
لكن القرآن ليس صريحاً في ذلك ، وليست دلالته قطعية في أن القمر مرصع في السماء ، فآية الفرقان قال الله فيها : { تبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً منيراً } ، فيمكن أن يكون المراد بالسماء العلو ، كقول تعالى { أنزل من السماء ماء } [ الرعد :17] والماء ينزل من السحاب المسخر بين السماء والأرض ، كما قال الله تعالى : { والسحاب المسخر بين السماء والأرض } [ البقرة : 164] ، وهذا التأويل للآية قريب .(11/405)
وأما قوله : { وجعل فيهن نوراً } ، فيمكن فيها التأويل أيضاً بأن يقال : المراد لقوله : { فيهن } : في جهتهن ، وجهة السماوات العلو ، وحينئذ يمكن الجمع بين الآيات والواقع .
قوله : " والله فوق العرش " . هذا نص صريح بإثبات علو الله تعالى علواً ذاتياً وعلو الله ينقسم إلى قسمين :
أ ) علو الصفة ، وهذا لا ينكره أحد ينتسب للإسلام ، والمراد به كمال صفات الله ، كما قال تعالى : { للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم } [ النحل : 60] .
ب) علو الذات ، وهذا أنكره بعض المنتسبين للإسلام ، فيقولون كل العلو الوارد المضاف إلى الله به علو الصفة ، فيقولون في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " والله فوق العرش " ، أي : في القوة والسيطرة والسلطان ، وليس فوقه بذاته .
ولا شك أن هذا تحريف في النصوص وتعطيل في الصفات .
والذين أنكروا علو الله بذاته انقسموا إلى قسمين :
أ ) من قال : إن الله بذاته في كل مكان ، وهذا لا شك ضلال مقتض للكفر .
ب ) من قال : إنه لا فوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال ولا متصل بالخلق ولا منفصل عن الخلق ، وهذا إنكار محض لوجود الله والعياذ بالله ، ولهذا قال بعض العلماء : لو قيل لنا : صفوا العدم ، ما وجدنا أبلغ من هذا الوصف .
ففروا من شيء دلت عليه النصوص والعقول والفطر إلى شيء تنكره النصوص والعقول والفطر .
قوله : " لا يخفي عليه شيء من أعمالكم " . يشمل أعمال القلوب وأعمال الجوارح المرئي منها والمسموع ، وذلك لعموم علمه وسعته ، وإنما أتي بذلك بعد ذكر علوه ليبين أن علوه لا يمنع علمه بأعمالنا ، وهو إشارة واضحة إلى علو ذاته تبارك وتعالى .(11/406)
وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هل تدرون كم بين السماء والأرض ؟ . قلنا : الله ورسوله أعلم . قال : بينهما مسيرة خمسمائة سنة ، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة ، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة ، وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض ، والله تعالى فوق ذلك ، وليس يخفي عليه شيء من أعمال بني آدم " . أخرجه أبو دواد وغيره (1).
قوله : " العباس " يقال : العباس ، وعباس ، و( أل ) هنا لا تفيد التعريف ، لأن عباس معرفة لكونه علماً ، لكنها للمح الأصل ، كما يقال : الفضل : لفضله ، والعباس لعبوسه على الأعداء ، قال ابن مالك :
وبعض الأعلام عليه دخلاً ... ... للمح ما قد كان عنه نقلاً
قوله : " هل تدرون " . " هل " : استفهامية يراد بها أمران :
التشويق لما سيذكر .
التنبيه إلى ما سيلقيه عليهم ، وهذا كقوله تعالى : { هل أتاك حديث الغاشية } [ الغاشية : 1] ، هذا تنبيه وتشويق إلى شيء من آيات الله الكونية .
وقوله تعالى : { هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم } [ الصف : 10]
هذا تنبيه وتشويق على شيء من آيات الله الشرعية وهو الإيمان والعمل الصالح .
وقوله : { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً } [ الكهف : 103] تنبيه وتحذير .
وقوله : { هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله } [ المائدة : 6] تنبيه وتحذير .
واختلاف هذه المعاني بحسب القرائن والسياق ، وإلا ، فالأصل في الاستفهام أنه طلب العلم بالشيء .
__________
(1) الأمام أحمد في " المسند " (1/206) ، وأبو دواد : كتاب السنة / باب في الجهمية ، والترمذي : كتاب تفسير القرآن / سورة الحاقة ، وقال : " حسن غريب " ، وابن ماجة المقدمة / باب فيما أنكرت الجهمية ، وابن أبي عاصم في " السنة " (577) ، وابن خزيمة في " التوحيد " ( 144) ، والحاكم (2/288) وصححه.(11/407)
قوله : " كم " . استفهامية .
قوله : " قلنا : الله ورسوله أعلم " . جاء العطف بالواو ، لأن علم الرسول من علم الله ، فهو الذي يعلمه بما لا يدركه البشر .
وكذلك في المسائل الشرعية يقال : الله ورسوله أعلم ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - أعلم الخلق بشرع الله ، وعلمه به من علم الله ، وما قاله - صلى الله عليه وسلم - في الشرع فهو كقول الله وليس هذا كقوله : " ما شاء الله وشئت " (1)، لأن هذا في باب القدر والمشيئة ، ولا يمكن أن يجعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - مشاركاً لله في ذلك ، بل يقال : ما شاء الله ، ثم يعطف بـ ( ثم ) ، والضابط في ذلك أن الأمور الشرعية يصح فيها العطف بالواو ، وأما الكونية ، فلا .
ومن هنا نعرف خطأ وجهل من يكتب على بعض الأعمال : { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله } [التوبة : 105] بعد موت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتعذر رؤيته ، فالله يري ، ولكن رسوله لا يري ، فلا تجوز كتابته لأنه كذب عليه - صلى الله عليه وسلم - .
قوله : " خمسمائة سنة " . الميم الثانية في خمسمائة مكسورة والألف لا ينطق بها .
قوله : " وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض " . وذلك خمسمائة سنة .
قوله : " والله تعالى فوق ذلك " . هذا دليل على العلو العظيم لله عز وجل ، وأنه سبحانه فوق كل شيء ولا يحبط به شيء من مخلوقاته ، لا السماوات ولا غيرها ، وعليه ، فإنه سبحانه لا يوصف بأنه في جهة تحيط به ، لأن ما فوق السماوات والعرش عدم ، ليس هناك شيء حتى يقال : إن الله أحاط به شيء من مخلوقاته .
ولهذا جاء في بعض كتب أهل الكلام يقولون : لا يجوز أن يوصف الله بأنه في جهة مطلقاً ، وينكرون العلو ظناً منهم أن إثبات الجهة يستلزم الحصر .
وليس كذلك ، لأننا نعلم أن ما فوق العرش عدم لا مخلوقات فيه ، ما ثم إلا الله ، ولا يحيط به شيء من مخلوقاته أبداً .
__________
(1) تقدم (45).(11/408)
فالجهة إثباتها لله فيه تفصيل ، أما إطلاق لفظها نفياً وإثباتاً فلا نقول به ، لأنه لم يرد أن الله في جهة ، ولا أنه ليس في جهة ، ولكن نفصل ، فنقول : إن الله في جهة العلو ، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال للجارية : " أين الله ؟ " وأين يستفهم بها عن المكان ، فقالت : في السماء .
فأثبتت ذلك ، فأقرها النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه ، وقال " أعتقها ، فإنها مؤمنة " (1).
وأهل التحريف يقولون : " أين " بمعني " من " ، أي : من الله ؟ قالت : في السماء ، أي : هو من السماء ، وينكرون العلو .
وقد رد عليهم ابن القيم رحمه الله في كتبه ومنها " التونية " وقال لهم : اللغة العربية لا تأتي فيها " أين " بمعني ، " من " ، وفرق بين " أين و من " .
فالجهة لله ليست جهة سفل ، وذلك لوجوب العلو له فطرة وعقلاً وسمعاً ، وليست جهة علو تحيط به ، لأنه تعالى وسع كرسيه السماوات والأرض ، وهو موضع قدميه ، فكيف يحيط به تعالى شيء من مخلوقاته ؟ !
فهو في جهة علو لا تحيط به ، ولا يمكن أن يقال : إن شيئاً يحيط به ، لأننا نقول : إن ما فوق العرش عدم ليس ثم إلا الله سبحانه ، ولهذا قال : " والله تعالى فوق ذلك " .
__________
(1) مسلم : كتاب المساجد /باب تحريم الكلام في الصلاة .(11/409)
قوله : " وليس يخفي عليه شيء من أعمال بني آدم " . وقوله " أعمال " إن قرنت بالأقوال صار المراد بها : أعمال الجوارح ، والأقوال للسان ، وإن أفردت شملت أعمال الجوارح وأقوال اللسان وأعمال القلوب ، وهي هنا مفردة ، فتشمل كل ما يتعلق باللسان أو القلب أو الجوارح، بل أبلغ من ذلك أنه لا يخفي عليه شيء من أعمال بني آدم في المستقبل ، فهو يعلم ما يكون فضلاً عما كان ، قال تعالى : { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } [ طه : 110] ، أي : ما يستقبلونه وما مضي عليهم ، ولما قال فرعون لموسى : { فما بال القرون الأولى } ، أي : ما شأنها ؟ قال : { علمها عند ربي في كتاب } ، أي : محفوظة ، { لا يضل ربي } : لا يجهل ، { ولا ينسي } [ طه : 51، 52] : لا يذهل عما مضى سبحانه وتعالى .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - صدر هذا الأمر بهل الدالة على التشويق والتنبيه من أجل أن يثبت عقيدة عظيمة ، وهو أنه تعالى فوق كل شيء بذاته ، وأنه محيط بكل شيء علماً ، لقوله : " وليس يخفي عليه شيء من أعمال بني آدم " ، فإذا علمنا ذلك ، أوجب لنا تعظيمه والحذر من مخالفته ، لأنه فوقنا ، فهو عال علينا ، وأمره محيط بنا .
وفي الحديث صفتان لله : ثبوتية ، وهي العلو المستفاد من قوله : " والله فوق ذلك " .
وسلبيه المستفاد من قوله : " ليس يخفي عليه شيء من أعمال بني آدم " ، ولا يوجد في صفات الله عز وجل صفة سلبية محضة ، بل صفاته السلبية التي هي النفي متضمنة لثبوت ضدها على وجه الكمال ، فينفي عنه الخفاء لكمال علمه ، وينفي عنه اللغوب لكمال قوته ، وينفي عنه العجز لكمال قدرته ، وما أشبه ذلك .(11/410)
فإذا نفي الله عن نفسه شيئاً من الصفات ، فالمراد انتفاء تلك الصفة عنه لكمال ضدها ، كما قال تعالى : { لا تأخذه سنة ولا نوم } [ البقرة : 255] ، السنة : النعاس ، والنوم : الإغفاء العميق ، وذلك لكمال حياته وقيوميته ، إذ لو كان ناقص الحياة لا حتاج إلى النوم ، ولو نام ما كان قيوماً على خلقه ، لأنه حين ينام لا يكون هناك من يقوم عليهم ولهذا كان أهل الجنة لا ينامون لكمال حياتهم ، ولأن النوم في الجنة يذهب عليهم وقتاً بلا فرح ولا سرور ولا لذة ، لأن السرور فيها دائم ، ولأن النوم هو الوفاة الصغرى ، والجنة لا موت فيها .
وليس في صفات الله محض ، لأن النفي المحض عدم لا ثناء فيه ولا كمال ، بل هو لا شيء ، ولأن النفي أحياناً يرد لكون غير قابل له ، مثل قولك : الجدار لا يظلم .
وقد يكون نفي الذم ذماً ، كما في قوله :
قبيلة لا يغدرون بذمة ... ... ولا يظلمون الناس حبة عجزهم وضعفهم .
وقال آخر :
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا
كأن ربك لم يخلق لخشيتيه ... ... سواهم من جميع الناس إنسانا
فليت لي بهمو قوماً إذا ركبوا ... ... شنوا لا غارة ركباناً وفرسانا
فنفي أن يكون يد في الشر ، وبين أن ذلك لعجزهم عن الانتصار لأنفسهم ، وتمني أن يكون له قوم خير منهم وأقوي .
فيه مسائل :(11/411)
الأولى : تفسير قوله تعالى : { والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة } . الثانية : أن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه - صلى الله عليه وسلم -ولم ينكروها ولم يتأولوها . الثالثة : أن الحبر لما ذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، صدقه ونزل القرآن بتقرير ذلك . الرابعة : وقوع الضحك من الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم . الخامسة : التصريح بذكر اليدين ، وأن السماوات في اليد اليمني والأرضين في الأخري . السادسة : التصريح بتسميتها الشمال . السابعة : ذكر الجبارين والمتكبرين عند ذلك . الثامنة : قوله : " كخردلة في كف أحدهم " . التاسعة : عظم الكرسي بالنسبة إلى السماء . العاشرة : عظم العرش بالنسبة إلى الكرسي . الحادية عشرة : أن العرش غير الكرسي والماء . الثانية عشرة : كم بين كل سماء إلى سماء . الثالثة عشرة : كم بين السماء السابعة والكرسي . الرابعة عشرة : كم بين الكرسي والماء . الخامسة عشرة : أن العرش فوق الماء . السادسة عشرة : أن الله فوق العرش . السابعة عشرة : كم بين السماء والأرض .الثامنة عشرة : كثف كل سماء خمسمائة سنة . التاسعة عشرة : أن البحر الذي فوق السماوات بين أسفله وأعلاه خمس مئة سنة ، والله أعلم .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير قوله تعالى : { والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة } . وقد تقدم من حديث ابن مسعود ، حيث أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - الحبر على أن الله يجعل السماوات على إصبع .. إلخ .(11/412)
الثانية : أن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينكروها ولم يتأولوها . كأنه يقول : إن اليهود خير من أولئك المحرفين لها ، لأنهم لم يكذبوها ولم يتأولوها . كأنه يقول : إن اليهود خير من أولئك المحرفين لها ، لأنهم لم يكذبوها ولم يتأولوها ، وجاء قوم من هذه الأمة ، فقالوا : ليس لله أصابع ، وإن المراد بها القدرة ، فكأنه يقول : اليهود خير منهم في هذا وأعرف بالله .
الثالثة : أن الحبر لما ذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - صدقه ، ونزل القرآن بتقرير ذلك . ظاهر كلام المؤلف بقوله : " ونزل القرآن " أنه بعد كلام الحبر ، وليس كذلك ، لأنه في حديث ابن مسعود قال : ثم قرأ قوله : { وما قدروا الله حق قدره } ، وهذا يدل على أن الآية نزلت من قبل ، لكن مراد المؤلف أن القرآن قد نزل بتقرير ذلك .
الرابعة : وقوع الضحك من الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم . ففيه دليل على جواز الضحك في تقرير الأشياء ، لأن الضحك يدل على الرضا وعدم الكراهة
الخامسة : التصريح بذكر اليدين ، وأن السماوات في اليد اليمني والأرضين في الأخري . وقد ثبتت اليدان لله تعالى بالكتاب والسنة وإجماع السلف .
وقوله : " في الأخري " لا يعني أنه ينفي ذكر الشمال لما ذكره في المسألة التالية ، وهي
السادسة : التصريح بتسميتها الشمال . وقد سبق الكلام على ذلك .
السابعة : ذكر الجبارين والمتكبرين عند ذلك . ووجه ذكرهم أنه إذا كان لهم تجبر وتكبر الآن ، فليقوموا بذلك .
الثامنة : قوله : " كخردلة في كف أحدهم " . يعني بذلك قوله في الحديث : " ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في كف أحدهم " ، هكذا قال المؤلف رحمه الله " في كف أحدكم " وقد ساق الأثر بقوله " كخردلة في يد أحدكم " ، وأنظر ( ص 376) وكلامنا على الأثر هناك .(11/413)
التاسعة : عظم الكرسي بالنسبة إلى السماء . حيث ذكر أنها بالنسبة للكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس .
العاشرة : عظم العرش بالنسبة إلى الكرسي . لأنه جعل الكرسي كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض بالنسبة للعرش .
الحادية عشرة : أن العرش غير الكرسي والماء . ولم أر من قال : إن العرش هو الماء ، لكن هناك من قال : إن العرش هو الكرسي ، لحديث : " إن الله يضع كرسيه يوم القيامة " (1)، وظنوا أن هذا الكرسي هو العرش .
وكذلك زعم بعض الناس أن الكرسي هو العلم ، فقالوا في قوله تعالى : { وسع كرسيه السماوات والأرض } ، أي : علمه .
والصواب : أن الكرسي موضع القدمين ، والعرش هو الذين استوي عليه الرحمن سبحانه ، والعلم صفة في العلم صفة في العالم يدرك بها المعلوم .
الثانية عشرة : كم بين كل سماء إلى سماء . وهو خمسمائة عام .
الثالثة عشرة : كم بين السماء والكرسي . وهو خمسمائة عام .
الرابعة عشرة : كم بين الكرسي والماء . وهو خمسمائة عام .
الخامسة عشرة : أن العرش فوق الماء . وهي ظاهرة .
السادسة عشرة : أن الله فوق العرش . وهي ظاهرة .
السابعة عشرة : كم بين السماء والأرض . وهو خمسمائة عام .
الثامنة عشرة : كثف كل سماء خمسمائة سنة .
التاسعة عشرة : أن البحر الذي فوق السماوات بين أسفله وأعلاه خمسمائة سنة . وقد سبق الكلام على جميع هذه المسائل بأدلتها .
ويستفاد من أحاديث الباب :
أن الله لا يخفي عليه شيء من أعمال بني آدم .
التحذير من مخالفة الله عز وجل .
والله أعلم ، والحمد لله رب العالمين ، وصلي الله وسلم على نبينا محمد ، وأسال الله أن يختم لنا ولكم بالتوحيد ، آمين .
__________
(1) الحاكم في " المستدرك " ( 2/396).(11/414)
القول السديد في مقاصد التوحيد
تأليف : الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي
دراسة وتحقيق:
المرتضى الزين أحمد
الناشر:
مجموعة التحف النفائس الدولية
الطبعة الثالثة(12/1)
ص -5- ... كتاب التوحيد للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب 1115- 1206هـ رحمه الله
وكتاب القول السديد في مقاصد التوحيد
للشيخ عبدالرحمن بن ناصر بن سعدي 1307- 1376هـ رحمه الله
اعتنى به وخرج أحاديثه د. المرتضى الزين أحمد
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد للّه نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده اللّه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 1. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}2. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} 3.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام اللّه، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار4.
أما بعد، فإن توحيد اللّه وإفراده بالعبادة أساس هذا الدين، وهو الغاية التي خلق اللّه الثقلين- الجن والإنس- لتحقيقها، قال اللّه تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} 5. وقد أمر اللّه تعالى الناس كلهم بعبادته كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}6. ولقد بعث سبحانه الرسل كلهم للدعوة لتوحيده وإفراده بالعبادة(12/2)
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}7، {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}8.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1آل عمران: 102.
2النساء: 1.
3الأحزاب: 70- 71.
4هذه تسمى خطبة الحاجة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستفتح بها خطبه ومواعظه، رواه مسلم في صحيحه: كتاب الجمعة باب خطبته صلى الله عليه وسلم في الجمعة (6/153) مع شرح النووي، والبيهقي في سننه (3/214)، وأحمد في مسنده (1/ 392) وغيرهم..
5الذاريات: 56.
6البقرة: 21.
7النحل: 36.
8الزخرف: 45.(12/3)
ص -6- ... وهذا المبدأ مع وضوحه وأهميته تساهل فيه كثير من الناس، وزهد فيه كثير من الدعاة، وقال بعضهم: إن الاهتمام بهذا الأصل والدعوة إليه يفرق المسلمين ويمزق وحدتهم، وحسبهم أن يقول المسلم: لا إله إلا الله بلسانه، ويصلي ويصوم، ويؤدي بقية أركان الإسلام، ولا مانع عند هؤلاء أن يكون المسلم بهذه الصفة ولو كان ينقض توحيده بدعاء الأموات والاستغاثة بهم. ولهذا- وغيره- فإن الدعوة إلى بيان توحيد اللّه، وتوضيح نواقضه والتحذير منها، وبيان حقيقة ما دعا إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحمايته - صلى الله عليه وسلم - لتوحيد الله وتحذيره من الشرك وأسبابه من الأمور الهامة التي يجب على الدعاة الاهتمام بها، وتقديمها في دعوتهم إلى اللّه على كل شيء، ومن الكتب التي بينت هذه الأمور، ووضحت حقيقة التوحيد (كتاب التوحيد) لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله- الإِمام المجدد.
شروح هذا الكتاب:
لقد لقي كتابه هذا عناية كبيرة من العلماء، وشرحه جماعة منهم، فمن ذلك:-
(1) تيسير العزيز الحميد للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب 1233هـ.
(2) فتح المجيد بشرح كتاب التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ 1285هـ.
(3) القول السديد شرح في مقاصد التوحيد للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي 1376هـ.
كتاب القول السديد:
ومن هذه الشروح كتاب (القول السديد) للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي - رحمه الله- وهو شرح مختصر وسهل العبارة، قد وصفه مؤلفه- رحمه الله- بقوله:(12/4)
ص -7- ... (فقد سبق أن كتبنا تعليقاً لطيفاً في مواضع من (كتاب التوحيد) لشيخ الإِسلام محمد بن عبد الوهاب- قدس الله روحه.) 1، وذكر- رحمه الله- أن (كتاب التوحيد): (يشتمل على توحيد الإِلهية والعبادة: يذكر أحكامه، وحدوده، وشروطه، وفضله، وبراهينه، وأصوله، وتفاصيله، وأسبابه، وثمراته، ومقتضياته، وما يزداد به ويقويه، أو يضعفه ويوهيه، وما به يتم أو يكمل) 2.
وقد بيَّن الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي- رحمه الله- هذه المسائل- وغيرها- بياناً لا يستغني عنه الراكبون في هذا الفن، وقد عبر عن ذلك في نهاية كتابه بقوله: (وهذا آخر التعليق المختصر على (كتاب التوحيد)، وتوضيح مقاصده، وقد حوى من غرر مسائل التوحيد، ومن التقاسيم والتفصيلات النافعة ما لا يستغني عنه الراغبون في هذا الفن الذي هو أصل الأصول، وبه تقوم العلوم كلها، والحمد للّه على تيسيره ومنته) 3.
وتتشرف (دار التحف النفائس الدولية) التي تتولى إصدار (سلسلة كتب ورسائل في العقيدة) أن يكون أول إصدار لهذه السلسلة هذا الكتاب (القول السديد في مقاصد التوحيد) مساهمة منها في نشر عقيدة السلف الصالح، والدعوة إلى توحيد الله، ولقد حرصت في هذه الطبعة على إتقانها مقابلة وتصحيحاً وإخراجها إخراجاً جيداً، خالية من الأخطاء - إن شاء الله - وتخريج أحاديثها بذكر اسم الكتاب، ورقم الجزء، والصفحة، ورقم الحديث- إن وجد- وبيان درجة الحديث من حيث الصحة والضعف بنقل أقوال علماء الحديث في ذلك، وقد اعتمدنا في هذه الطبعة على الطبعة التي نشرتها (الرئاسة العامة لإِدارات البحوث العلمية والإِفتاء والدعوة والإِرشاد). وقد تم طبعها في (شركة الطباعة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1القول السديد، ص: 3.
2القول السديد، ص: 3.
3القول السديد، ص: 186.(12/5)
ص -8- ... ومن رحمته أنه ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا يستعرض حاجات العباد حين يبقى ثلث الليل الآخر. فيقول: "لا أسأل عن عبادي غيري، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له، من ذا الذي يسألني فأعطيه، من ذا الذي يستغفرني فأغفر له"1 حتى يطلع الفجر، فهو ينزل كما يشاء ويفعل كما يريد.
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 2.
ويعتقدون أنه الحكيم، الذي له الحكمة التامة في شرعه وقدره، فما خلق شيئا عبثا، ولا شرع الشرائع إلا للمصالح والحكم.
وأنه التواب العفو الغفور، يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات، ويغفر الذنوب العظيمة للتائبين والمستغفرين والمنيبين.
وهو الشكور الذي يشكر القليل من العمل، ويزيد الشاكرين من فضله.
ويصفونه بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات الذاتية، كالحياة الكاملة، والسمع والبصر، وكمال القدرة، والعظمة والكبرياء، والمجد والجلال والجمال، والحمد المطلق، ومن صفات الأفعال المتعلقة بمشيئته وقدرته، كالرحمة، والرضا، والسخط، والكلام، وأنه يتكلم بما يشاء كيف يشاء، وكلماته لا تنفد، ولا تبيد.
وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود.
وأنه لم يزل ولا يزال موصوفا بأنه يفعل ما يريد، ويتكلم بما شاء، ويحكم على عباده بأحكامه القدرية وأحكامه الشرعية، وأحكامه الجزائية.
فهو الحاكم المالك، ومن سواه مملوك محكوم عليه، فلا خروج للعباد عن ملكه ولاعن حكمه. ويؤمنون بما جاء به الكتاب وتواترت به السنة: أن المؤمنين يرون ربهم تعالى عيانا جهرة، وأن نعيم رؤيته والفوز برضوانه أكبر النعيم وألذه.(12/6)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري: كتاب التهجد, باب الدعاء والصلاة من آخر الليل (1 / 384) حديث رقم (1094). ومسلم: كتاب صلاة المسافرين, باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه (1 / 522) حديث رقم (758) دون الجملة الأولى: (لا أسأل عن عبادي غيري).
2 سورة الشورى آية : 11.(12/7)
ص -9- ... وأن من مات على غير الإيمان والتوحيد فهو مخلد في نار جهنم أبدا، وأن أرباب الكبائر إذا ماتوا على غير توبة، ولا حصل لهم مكفر لذنوبهم ولا شفاعة، فإنهم وإن دخلوا النار لا يخلدون فيها، ولا يبقى في النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان إلا خرج منها.
وأن الإيمان يشمل عقائد القلوب وأعمالها، وأعمال الجوارح وأقوال اللسان، فمن قام بها على الوجه الأكمل فهو المؤمن حقا، الذي استحق الثواب وسلم من العقاب، ومن انتقص منها شيئا نقص من إيمانه بقدر ذلك. ولذلك كان الإيمان يزيد بالطاعة وفعل الخير، وينقص بالمعصية والشر.
ومن أصولهم السعي والجد فيما ينفع من أمور الدين والدنيا مع الاستعانة بالله. فهم حريصون على ما ينفعهم ويستعينون بالله.
وكذلك يحققون الإخلاص لله في جميع حركاتهم، ويتبعون رسول الله في الإخلاص للمعبود، والمتابعة للرسول، والنصيحة للمؤمنين أتباع طريقهم.
فصل
ويشهدون أن محمدا عبده ورسوله أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو خاتم النبيين، أرسل إلى الإنس والجن بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، أرسله بصلاح الدين وصلاح الدنيا، وليقوم الخلق بعبادة الله ويستعينوا برزقه على ذلك.
ويعلمون أنه أعلم الخلق وأصدقهم وأنصحهم، وأعظمهم بيانا، فيعظمونه ويحبونه، ويقدمون محبته على محبة الخلق كلهم، ويتبعونه في أصول دينهم وفروعه.
ويقدمون قوله وهديه على قول كل أحد وهديه. ويعتقدون أن الله جمع له من الفضائل والخصائص والكمالات ما لم يجمعه(12/8)
ص -10- ... لأحد، فهو أعلى الخلق مقاما وأعظمهم جاها، وأكملهم في كل فضيلة، لم يبق خير إلا دل أمته عليه، ولا شر إلا حذرهم منه.
وكذلك يؤمنون بكل كتاب أنزله الله، وكل رسول أرسله الله، لا يفرقون بين أحد من رسله.
ويؤمنون بالقدر كله، وأن جميع أعمال العباد- خيرها وشرها- قد أحاط بها علم الله، وجرى بها قلمه، ونفذت فيها مشيئته، وتعلقت بها حكمته، حيث خلق للعباد قدرة وإرادة، تقع بها أقوالهم وأفعالهم بحسب مشيئتهم، لم يجبرهم على شيء منها بل مختارين لها، وخص المؤمنين بأن حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان بعدله وحكمته.
ومن أصول أهل السنة : أنهم يدينون بالنصيحة لله، ولكتابه، ورسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة، ويأمرون ببر الوالدين وصلة الأرحام، والإحسان إلى الجيران والمماليك والمعاملين، ومن له حق، وبالإحسان إلى الخلق أجمعين.
ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسنها، وينهون عن مساوئ الأخلاق وأرذلها.
ويعتقدون أن أكمل المؤمنين إيمانا ويقينا أحسنهم أعمالا وأخلاقا، وأصدقهم أقوالا، وأهداهم إلى كل خير وفضيلة، وأبعدهم من كل رذيلة. ويأمرون بالقيام بشرائع الدين، على ما جاء عن نبيهم فيها وفي صفاتها ومكملاتها، والتحذير عن مفسداتها ومنقصاتها. ويرون الجهاد في سبيل الله ماضيا مع البر والفاجر، وأنه ذروة سنام الدين، جهاد العلم والحجة، وجهاد السلاح، وأنه فرض على كل مسلم أن يدافع عن الدين بكل ممكن ومستطاع.(12/9)
ص -11- ... السعودية المحدودة) عام 1404 هـ الموافق 1984 م. ولعلها من أتقن طبعاته، ولعل الله ييسر لنا الحصول على أصول هذا الكتاب (مخطوطاته)، حتى يتسنى لنا نشره وتحقيقه تحقيقاً أكثر اتقاناً وتنقيحاً.
ونسأل الله أن ينفع بهذا الكتاب في تصحيح المفاهيم، وبيان حقيقة ما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنه ولي ذلك والقادر عليه.
المرتضى الزين أحمد
الرياض 4 / 4/ 1416 هـ(12/10)
ص -12- ... مقدمة
القول السديد في مقاصد التوحيد
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد: فقد سبق أن كتبنا تعليقا لطيفا في مواضع من كتاب التوحيد لشيخ الإسلام (محمد بن عبد الوهاب) قدس الله روحه، فحصل فيه نفع ومعونة للمشتغلين، ومساعدة للمعلمين ; لما فيه من التفصيلات النافعة مع الوضوح التام. وطبع بمطبعة الإمام ثم نفدت نسخه مع كثرة الطلب عليه. ودعت الحاجة الشديدة إلى إعادة طبعه ونشره، وفي هذه المرة بدا لي أن أقدم أمام ذلك مقدمة مختصرة تحتوي على مجملات عقائد أهل السنة، في الأصول وتوابعها، فأقول مستعينا بالله:(12/11)
ص -13- ... مقدمة
تشتمل على صفوة عقيدة أهل السنة وخلاصتها
المستمدة من الكتاب والسنة
وذلك أنهم يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
فيشهدون أن الله هو الرب الإله المعبود، المتفرد بكل كمال، فيعبدونه وحده مخلصين له الدين.
فيقولون: إن الله هو الخالق البارئ، المصور الرزاق المعطي المانع المدبر لجميع الأمور.
وإنه المألوه المعبود الموحد المقصود، وإنه الأول الذي ليس قبله شيء، الآخر الذي ليس بعده شيء، الظاهر الذي ليس فوقه شيء، الباطن الذي ليس دونه شيء.
وإنه العلي الأعلى بكل معنى واعتبار، علو الذات وعلو القدر، وعلو القهر.
وإنه على العرش استوى، استواء يليق بعظمته وجلاله، ومع علوه المطلق وفوقيته، فعلمه محيط بالظواهر والبواطن، والعالم العلوي والسفلي، وهو مع العباد بعلمه، يعلم جميع أحوالهم، وهو القريب المجيب.
وأنه الغني بذاته عن جميع مخلوقاته، والكل إليه مفتقرون في إيجادهم وإيجاد ما يحتاجون إليه في جميع الأوقات، ولا غنى لأحد عنه طرفة عين، وهو الرءوف الرحيم، الذي ما بالعباد من نعمة دينية ولا دنيوية ولا دفع نقمة إلا من الله، فهو الجالب للنعم، الدافع للنقم.(12/12)
ص -14- ... ومن أصولهم الحثُّ على جمع كلمة المسلمين، والسعي في تقريب قلوبهم وتأليفها، والتحذير من التفرق والتعادي والتباغض، والعمل بكل وسيلة توصل إلى هذا.
ومن أصولهم النهي عن أذية الخلق في دمائهم وأموالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم، والأمر بالعدل والإنصاف في جميع المعاملات، والندب إلى الإحسان والفضل فيها.
ويؤمنون بأن أفضل الأمم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأفضلهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خصوصا الخلفاء الراشدون، والعشرة المشهود لهم بالجنة، وأهل بدر، وبيعة الرضوان والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار. فيحبون الصحابة ويدينون لله بذلك. وينشرون محاسنهم ويسكتون عما قيل عن مساوئهم.
ويدينون لله باحترام العلماء الهداة وأئمة العدل، ومن لهم المقامات العالية في الدين والفضل المتنوع على المسلمين، ويسألون الله أن يعيذهم من الشك والشرك والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق، وأن يثبتهم على دين نبيهم إلى الممات.
هذه الأصول الكلية بها يؤمنون ولها يعتقدون، وإليها يدعون.(12/13)
ص -15- ... بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب التوحيد
وقول الله- تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ }1 .
وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}2 .
وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً (}3 .
وقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}4 .
وقوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }5 .(12/14)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الذاريات آية : 56.
2 سورة النحل آية : 36.
3 سورة الإسراء آية : 23-24.
4 سورة النساء آية : 36.
5 سورة الأنعام آية : 151- 153.(12/15)
ص -16- ... قال ابن مسعود: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى:
{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} إلى قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيما}1 الآية 2 .
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال لي: "يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله"؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا، قلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس ؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا" أخرجاه في الصحيحين 3 .
فيه مسائل:
الأولى: الحكمة في خلق الجن والإنس.
الثانية: أن العبادة هي التوحيد؛ لأن الخصومة فيه.
الثالثة: أن من لم يأت به لم يعبد الله، ففيه معنى قوله: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} 4.
الرابعة: الحكمة في إرسال الرسل.
الخامسة: أن الرسالة عمت كل أمة.
السادسة: أن دين الأنبياء واحد.
السابعة: المسألة الكبيرة: أن عبادة الله لا تحصل إلا بالكفر بالطاغوت، ففيه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية : 151- 153.
2 رواه الترمذي (السنن) 5 / 264 (كتاب تفسير القرآن) (باب ومن سورة الأنعام) حديث رقم 3070 وقال: (هذا حديث حسن غريب). وفي إسناده (داود الأودي) وهو داود بن يزيد الأودي قال فيه ابن حجر في (التقريب) 1 / 235: ضعيف. اهـ.
3 رواه البخاري في صحيحه: كتاب الجهاد باب اسم الفرس والحمار (3 / 1049) حديث رقم (2701). ومسلم: كتاب الإيمان, باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا (1 / 58) حديث رقم (30).
4 سورة الكافرون آية : 3.(12/16)
ص -17- ... معنى قوله- تعالى-: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}1 .
الثامنة: أن الطاغوت عام في كل ما عبد من دون الله.
التاسعة: عظم شأن ثلاث الآيات المحكمات في سورة الأنعام عند السلف وفيها عشر مسائل:
أولاها: النهي عن الشرك.
العاشرة: الآيات المحكمات في سورة الإسراء. وفيها ثماني عشرة مسألة بدأها الله بقوله: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً}2 وختمها بقوله: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً}3 ونبهنا الله سبحانه على عظم شأن هذه المسائل بقوله: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ}4 .
الحادية عشرة: آية سورة النساء التي تسمى آية الحقوق العشرة، بدأها الله- تعالى - بقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}5 .
الثانية عشرة: التنبيه على وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته.
الثالثة عشرة: معرفة حق الله علينا.
الرابعة عشرة: معرفة حق العباد عليه إذا أدوا حقه.
الخامسة عشرة: أن هذه المسألة لا يعرفها أكثر الصحابة.
السادسة عشرة: جواز كتمان العلم للمصلحة.
السابعة عشرة: استحباب بشارة المسلم بما يسره.
الثامنة عشرة: الخوف من الاتكال على سعة رحمة الله.
التاسعة عشرة: قول المسئول عما لا يعلم: الله ورسوله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 256.
2 سورة الإسراء آية : 22.
3 سورة الإسراء آية : 39.
4 سورة الإسراء آية : 39.
5 سورة النساء آية : 36.(12/17)
ص -18- ... العشرون: جواز تخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض.
الحادية والعشرون: تواضعه صلى الله عليه وسلم لركوب الحمار مع الإرداف عليه.
الثانية والعشرون: جواز الإرداف على الدابة.
الثالثة والعشرون: فضيلة معاذ بن جبل.
الرابعة والعشرون: عظم شأن هذه المسألة.
[التعليق:]
كتاب التوحيد:
هذه الترجمة تدل على مقصود هذا الكتاب من أوله إلى آخره.
ولهذا استغني بها عن الخطبة، أي أن هذا الكتاب يشتمل على توحيد الإلهية والعبادة بذكر أحكامه، وحدوده وشروطه، وفضله وبراهينه، وأصوله وتفاصيله، وأسبابه وثمراته ومقتضياته، وما يزداد به ويقويه، أو يضعفه ويوهيه، وما به يتم أو يكمل.
اعلم أن التوحيد المطلق : العلم والاعتراف بتفرد الرب بصفات الكمال، والإقرار بتوحده بصفات العظمة والجلال، وإفراده وحده بالعبادة.
وهو ثلاثة أقسام:
أحدها: توحيد الأسماء والصفات:
وهو اعتقاد انفراد الرب- جل جلاله- بالكمال المطلق من جميع الوجوه بنعوت العظمة، والجلالة والجمال التي لا يشاركه فيها مشارك بوجه من الوجوه، وذلك بإثبات ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من جميع الأسماء والصفات، ومعانيها وأحكامها الواردة في الكتاب والسنة على الوجه اللائق بعظمته وجلاله، من غير نفي لشيء منها ولا تعطيل ولا تحريف ولا تمثيل.(12/18)
ص -19- ... ونفي ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من النقائص والعيوب، وعن كل ما ينافي كماله.
الثاني: توحيد الربوبية :
بأن يعتقد العبد أن الله هو الرب المتفرد بالخلق والرزق والتدبير الذي ربى جميع الخلق بالنعم، وربى خواص خلقه- وهم الأنبياء وأتباعهم- بالعقائد الصحيحة، والأخلاق الجميلة، والعلوم النافعة، والأعمال الصالحة، وهذه هي التربية النافعة للقلوب والأرواح المثمرة لسعادة الدارين.
الثالث: توحيد الإلهية ويقال له: توحيد العبادة:
وهو العلم والاعتراف بأن الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، وإفراده وحده بالعبادة كلها وإخلاص الدين لله وحده، وهذا الأخير يستلزم القسمين الأولين ويتضمنهما؛ لأن الألوهية التي هي صفة تعم أوصاف الكمال وجميع أوصاف الربوبية والعظمة، فإنه المألوه المعبود لما له من أوصاف العظمة والجلال، ولما أسداه إلى خلقه من الفواضل والأفضال، فتوحده تعالى بصفات الكمال وتفرده بالربوبية يلزم منه أن لا يستحق العبادة أحد سواه.
ومقصود دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم: الدعوة إلى هذا التوحيد.
فذكر المصنف في هذه الترجمة من النصوص ما يدل على أن الله خلق الخلق لعبادته والإخلاص له، وأن ذلك حقه الواجب المفروض عليهم. فجميع الكتب السماوية وجميع الرسل دعوا إلى هذا التوحيد، ونهوا عن ضده من الشرك والتنديد، وخصوصا محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا القرآن الكريم، فإنه أمر به وفرضه وقرره أعظم تقرير، وبينه أعظم بيان، وأخبر أنه لا نجاة ولا فلاح ولا سعادة إلا بهذا التوحيد، وأن جميع الأدلة العقلية والنقلية والأفقية والنفسية أدلة وبراهين على هذا الأمر بهذا التوحيد ووجوبه.(12/19)
ص -20- ... فالتوحيد هو حق الله الواجب على العبيد، وهو أعظم أوامر الدين وأصل الأصول كلها، وأساس الأعمال.(12/20)
ص -21- ... باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب
وقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ
مُهْتَدُونَ}1.
عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله :صلى الله عليه وسلم "من شهد أن لا
إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله
ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله
الجنة على ما كان من العمل"خرجاه 2.
ولهما في حديث عتبان: "فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي
بذلك وجه الله "3 .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"قال موسى - عليه السلام -: يا رب علمني شيئا أذكرك وأدعوك به. قال: قل يا
موسى لا إله إلا الله. قال: يا رب كل عبادك يقولون هذا. قال: يا موسى لو أن
السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في
كفة، مالت بهن لا إله إلا الله"رواه ابن حبان والحاكم وصححه 4 .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية : 82.
2 رواه البخاري: كتاب الأنبياء باب قوله تعالى: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم)
(3 / 1267) حديث رقم (3252). ومسلم: كتاب الإيمان, باب الدليل على أن من
مات على التوحيد دخل الجنة قطعا (1 / 57). حديث رقم (28).
3 جزء من حديث رواه البخاري: كتاب الصلاة, باب المساجد في البيوت (1 / 164)
حديث رقم (415). ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب الرخصة في
التخلف عن الجماعة بعذر (1 / 455- 456) حديث رقم (33).
4 رواه ابن حبان (موارد الظمآن) ص 577 حديث رقم (2324). والحاكم (
المستدرك) 1 / 528 وقال: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه). وقال
الذهبي: (صحيح وفي تصحيح إسناده نظر؛ لأنه من رواية دراج عن أبي الهيثم(12/21)
وهي رواية متكلم فيها). قال ابن حجر (تقريب التهذيب) 1 / 235: (صدوق في
حديثه عن أبي الهيثم ضعيف. اهـ).(12/22)
ص -22- ... وللترمذي- وحسنه- عن أنس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا: لأتيتك بقرابها مغفرة"1 .
فيه مسائل:
الأولى: سعة فضل الله.
الثانية: كثرة ثواب التوحيد عند الله.
الثالثة: تكفيره مع ذلك للذنوب.
الرابعة: تفسير الآية التي في سورة الأنعام.
الخامسة: تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة.
السادسة: أنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان وما بعده تبين لك معنى قول: "لا إله إلا الله"، وتبين لك خطأ المغرورين.
السابعة: التنبيه للشرط الذي في حديث عتبان.
الثامنة: كون الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل "لا إله إلا الله ".
التاسعة: التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات مع أن كثيرا ممن يقولها يخف ميزانه.
العاشرة: النص على أن الأرضين سبع كالسماوات.
الحادية عشرة: أن لهن عمارا.
الثانية عشرة: إثبات الصفات خلافا للأشعرية.
الثالثة عشرة: أنك إذا عرفت حديث أنس عرفت أن قوله في حديث عتبان: "فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله"أنه ترك الشرك ليس قولها باللسان.
الرابعة عشرة: تأمل الجمع بين كون عيسى ومحمد عبدي الله ورسوليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1(سنن الترمذي) 5 / 548 (كتاب الدعوات) (باب فضل التوبة والاستغفار...) حديث رقم (3540) وقال: (هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه). وفي (تحفة الأشراف) 1 / 102 قال الترمذي: (حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه).(12/23)
ص -23- ... الخامسة عشرة: معرفة اختصاص عيسى بكونه كلمة الله.
السادسة عشرة: معرفة كونه روحا منه.
السابعة عشرة: معرفة فضل الإيمان بالجنة والنار.
الثامنة عشرة: معرفة قوله: "على ما كان من العمل ".
التاسعة عشرة: معرفة أن الميزان له كفتان.
العشرون: معرفة ذكر الوجه.
[التعليق:]
باب: فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب:
لما ذكر في الترجمة السابقة وجوب التوحيد، وأنه الفرض الأعظم على جميع العبيد، ذكر هنا فضله وهو آثاره الحميدة ونتائجه الجميلة، وليس شيء من الأشياء له من الآثار الحسنة، والفضائل المتنوعة مثل التوحيد. فإن خير الدنيا والآخرة من ثمرات هذا التوحيد وفضائله.
فقول المؤلف رحمه الله: "وما يكفر من الذنوب"من باب عطف الخاص على العام؛ فإن مغفرة الذنوب وتكفير الذنوب من بعض فضائله وآثاره كما ذكر شواهد ذلك في الترجمة.
ومن فضائله: أنه السبب الأعظم لتفريج كربات الدنيا والآخرة ودفع عقوبتهما.
ومن أجل فوائده أنه يمنع الخلود في النار.
إذا كان في القلب منه أدنى مثقال حبة خردل. وأنه إذا كمل في القلب يمنع دخول النار بالكلية.
ومنها: أنه يحصل لصاحبه الهدى الكامل والأمن التام في الدنيا والآخرة(12/24)
ص -24- ... ومنها: أنه السبب الوحيد لنيل رضا الله وثوابه، وأن أسعد الناس بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه.
ومن أعظم فضائله: أن جميع الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة متوقفة في قبولها وفي كمالها، وفي ترتب الثواب عليها على التوحيد، فكلما قوي التوحيد والإخلاص لله كملت هذه الأمور وتمت.
ومن فضائله: أنه يسهل على العبد فعل الخير وترك المنكرات ويسليه عن المصيبات، فالمخلص لله في إيمانه وتوحيده تخف عليه الطاعات لما يرجو من ثواب ربه ورضوانه، ويهون عليه ترك ما تهواه النفس من المعاصي، لما يخشى من سخطه وعقابه.
ومنها: أن التوحيد إذا كمل في القلب حبب الله لصاحبه الإيمان وزينه في قلبه، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان، وجعله من الراشدين.
ومنها: أنه يخفف عن العبد المكاره ويهون عليه الآلام.
فبحسب تكميل العبد للتوحيد والإيمان، يتلقى المكاره والآلام بقلب منشرح ونفس مطمئنة وتسليم ورضا بأقدار الله المؤلمة.
ومن أعظم فضائله: أنه يحرر العبد من رق المخلوقين والتعلق بهم وخوفهم ورجائهم والعمل لأجلهم، وهذا هو العز الحقيقي والشرف العالي.
ويكون مع ذلك متألها متعبدا لله، لا يرجو سواه ولا يخشى إلا إياه، ولا ينيب إلا إليه، وبذلك يتم فلاحه ويتحقق نجاحه.
ومن فضائله التي لا يلحقه فيها شيء: أن التوحيد إذا تم وكمل في القلب وتحقق تحققا كاملا بالإخلاص التام، فإنه يصير القليل من عمله كثيرا، وتضاعف أعماله وأقواله بغير حصر ولا حساب، ورجحت كلمة الإخلاص في ميزان العبد بحيث لا تقابلها السماوات والأرض وعمارها من جميع خلق الله، كما في(12/25)
ص -25- ... حديث أبي سعيد المذكور في الترجمة، وفي حديث البطاقة التي فيها لا إله إلا الله التي وزنت تسعة وتسعين سجلا من الذنوب، كل سجل يبلغ مد البصر، وذلك لكمال إخلاص قائلها، وكم ممن يقولها لا تبلغ هذا المبلغ؛ لأنه لم يكن في قلبه من التوحيد والإخلاص الكامل مثل ولا قريب مما قام بقلب هذا العبد.
ومن فضائل التوحيد: أن الله تكفل لأهله بالفتح والنصر في الدنيا، والعز والشرف وحصول الهداية والتيسير لليسرى وإصلاح الأحوال والتسديد في الأقوال والأفعال.
ومنها: أن الله يدافع عن الموحدين أهل الإيمان شرور الدنيا والآخرة، ويمن عليهم بالحياة الطيبة والطمأنينة إليه والطمأنينة بذكره، وشواهد هذه الجمل من الكتاب والسنة كثيرة معروفة والله أعلم.(12/26)
ص -26- ... باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب
وقول الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}1 وقال: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ}2 .
عن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير، فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة ؟ فقلت: أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لدغت. قال: فما صنعت ؟ قلت: ارتقيت. قال: فما حملك على ذلك ؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي، قال: وما حدثكم ؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: "لا رقية إلا من عين أو حمة "قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب3. ثم نهض فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك. فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام، فلم يشركوا بالله شيئا، وذكروا أشياء. فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية : 120.
2 سورة المؤمنون آية : 59.
3 رواه البخاري في (الصحيح) 3 / 1251 (كتاب الأنبياء) (باب وفاة موسى وذكره بعده). حديث رقم (3229) ولم يسق لفظه. وفي (كتاب الطب) (باب من اكتوى أو كوى غيره وفضل من لم يكتو). 5 / 2157 حديث رقم (5378) وفي مواضع أخرى. ورواه- أيضا- مسلم في (الصحيح) 1 / 199 (كتاب الإيمان) (باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب). حديث رقم (220) واللفظ المذكور له.(12/27)
ص -27- ... فقال:هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون. فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: أنت منهم. ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال:سبقك بها عكاشة".
فيه مسائل:
الأولى: معرفة مراتب الناس في التوحيد.
الثانية: ما معنى تحقيقه ؟
الثالثة: ثناؤه - سبحانه - على إبراهيم بكونه لم يك من المشركين.
الرابعة: ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك.
الخامسة: كون ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد.
السادسة: كون الجامع لتلك الخصال هو التوكل.
السابعة: عمق علم الصحابة بمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل.
الثامنة: حرصهم على الخير.
التاسعة: فضيلة هذه الأمة بالكمية والكيفية.
العاشرة: فضيلة أصحاب موسى.
الحادية عشرة: عرض الأمم عليه، عليه الصلاة والسلام.
الثانية عشرة: أن كل أمة تحشر وحدها مع نبيها.
الثالثة عشرة: قلة من استجاب للأنبياء.
الرابعة عشرة: أن من لم يجبه أحد يأت وحده.
الخامسة عشرة: ثمرة هذا العلم وهو عدم الاغترار بالكثرة، وعدم الزهد في القلة.
السادسة عشرة: الرخصة في الرقية من العين والحمة.
السابعة عشرة: عمق علم السلف لقوله: "قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن كذا وكذا". فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني.
الثامنة عشرة: بعد السلف عن مدح الإنسان بما ليس فيه.
التاسعة عشرة: قوله: "أنت منهم"علم من أعلام النبوة.(12/28)
ص -28- ... العشرون: فضيلة عكاشة.
الحادية والعشرون: استعمال المعاريض.
الثانية والعشرون: حسن خلقه صلى الله عليه وسلم.
[التعليق:]
باب: من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب
وهذا الباب تكميل للباب الذي قبله وتابع له. فإن تحقيق التوحيد تهذيبه وتصفيته من الشرك الأكبر والأصغر، ومن البدع القولية الاعتقادية، والبدع الفعلية العملية، ومن المعاصي، وذلك بكماله الإخلاص لله في الأقوال والأفعال والإرادات، وبالسلامة من الشرك الأكبر المناقض لأصل التوحيد، ومن الشرك الأصغر المنافي لكماله، وبالسلامة من البدع والمعاصي التي تكدر التوحيد، وتمنع كماله وتعوقه عن حصول آثاره.
فمن حقق توحيده بأن امتلأ قلبه من الإيمان والتوحيد والإخلاص، وصدقته الأعمال بأن انقادت لأوامر الله طائعة منيبة مخبتة، إلى الله ولم يجرح ذلك بالإصرار على شيء من المعاصي، فهذا الذي يدخل الجنة بغير حساب، ويكون من السابقين إلى دخولها وإلى تبوء المنازل منها.
ومن أخص ما يدل على تحقيقه: كمال القنوت لله، وقوة التوكل على الله بحيث لا يلتفت القلب إلى المخلوقين في شأن من شئونه، ولا يستشرف إليهم بقلبه، ولا يسألهم بلسان مقاله أو حاله، بل يكون ظاهره وباطنه وأقواله وأفعاله وحبه وبغضه وجميع أحواله كلها مقصودا بها وجه الله، متبعا فيها رسول الله.
والناس في هذا المقام العظيم درجات: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} 1 وليس تحقيق التوحيد بالتمني ولا بالدعاوى الخالية من الحقائق، ولا بالحلي العاطلة، وإنما ذلك بما وقر في القلوب من عقائد الإيمان وحقائق الإحسان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية : 132.(12/29)
ص -29- ... وصدقته الأخلاق الجميلة، والأعمال الصالحة الجليلة.
فمن حقق التوحيد على هذا الوجه حصلت له جميع الفضائل المشار إليها في الباب السابق بأكملها والله أعلم.(12/30)
ص -30- ... باب الخوف من الشرك
وقول الله (: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}1 .
وقال الخليل - عليه السلام -: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ}2 .
وفي الحديث: "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه فقال: الرياء"3
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار"رواه البخاري 4 .
ولمسلم عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار"5 .
فيه مسائل:
الأولى: الخوف من الشرك.
الثانية: أن الرياء من الشرك.
الثالثة: أنه من الشرك الأصغر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية : 48.
2 سورة إبراهيم آية : 35.
3 رواه الإمام أحمد (المسند) 5 / 249 428. والبغوي في (شرح السنة) 14 / 323- 324 حديث رقم (4135) من طريقين عن محمود بن الربيع. قال المنذري (الترغيب والترهيب) 1 / 57: (رواه أحمد بإسناد جيد). وقال ابن حجر في (بلوغ المرام) ص 302: (أخرجه أحمد بإسناد حسن. اهـ).
4 رواه البخاري: كتاب التفسير باب قوله: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا, (4 / 1636) حديث رقم (4227).
5 رواه مسلم: كتاب الإيمان باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات مشركا دخل النار (1 / 94) حديث رقم (93).(12/31)
ص -31- ... الرابعة: أنه أخوف ما يخاف منه على الصالحين.
الخامسة: قرب الجنة والنار.
السادسة: الجمع بين قربهما في حديث واحد.
السابعة: أنه من لقيه لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار، ولو كان من أعبد الناس.
الثامنة: المسألة العظيمة: سؤال الخليل له ولبنيه وقاية عبادة الأصنام.
التاسعة: اعتباره بحال الأكثر لقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} 1 .
العاشرة: فيه تفسير (لا إله إلا الله) كما ذكره البخاري.
الحادية عشرة: فضيلة من سلم من الشرك.
[التعليق:]
باب: الخوف من الشرك
الشرك في توحيد الإلهية والعبادة ينافي التوحيد كل المنافاة. وهو نوعان: شرك أكبر جلي، وشرك أصغر خفي.
فأما الشرك الأكبر:
فهو أن يجعل لله ندا يدعوه كما يدعو الله، أو يخافه أو يرجوه أو يحبه كحب الله، أو يصرف له نوعا من أنواع العبادة، فهذا الشرك لا يبقى مع صاحبه من التوحيد شيء، وهذا المشرك الذي حرم الله عليه الجنة ومأواه النار.
ولا فرق في هذا بين أن يسمي تلك العبادة التي صرفها لغير الله عبادة، أو يسميها توسلا، أو يسميها بغير ذلك من الأسماء، فكل ذلك شرك أكبر ; لأن العبرة بحقائق الأشياء ومعانيها دون ألفاظها وعباراتها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة إبراهيم آية : 36.(12/32)
ص -32- ... وأما الشرك الأصغر:
فهو جميع الأقوال والأفعال التي يتوسل بها إلى الشرك، كالغلو في المخلوق الذي لا يبلغ رتبة العبادة، وكالحلف بغير الله ويسير الرياء ونحو ذلك.
فإذا كان الشرك ينافي التوحيد، ويوجب دخول النار والخلود فيها، وحرمان الجنة إذا كان أكبر، ولا تتحقق السعادة إلا بالسلامة منه، كان حقا على العبد أن يخاف منه أعظم خوف، وأن يسعى في الفرار منه ومن طرقه ووسائله وأسبابه، ويسأل الله العافية منه كما فعل ذلك الأنبياء والأصفياء وخيار الخلق. وعلى العبد أن يجتهد في تنمية الإخلاص في قلبه وتقويته، وذلك بكمال التعلق بالله تألها، وإنابة وخوفا ورجاء وطمعا وقصدا لمرضاته وثوابه في كل ما يفعله العبد، وما يتركه من الأمور الظاهرة والباطنة، فإن الإخلاص بطبيعته يدفع الشرك الأكبر والأصغر، وكل من وقع منه نوع من الشرك فلضعف إخلاصه.(12/33)
ص -33- ... باب الدعاء إلى شهادة أنه لا إله إلا الله
وقول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}1 .
عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن، قال له إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله- وفي رواية-: إلى أن يوحدوا الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب"أخرجاه 2.
ولهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه. فبات الناس يدوكون ليلتهم، أيهم يعطاها، فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: "أين علي بن أبي طالب"؟ فقيل: هو يشتكي عينيه، قال: فأرسلوا إليه، فأتي به، فبصق في عينيه ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال: "نفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يوسف آية : 108.
2 رواه البخاري: كتاب المغازي باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع (4 / 1580) حديث رقم (4090). ومسلم: كتاب الإيمان باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام (1 / 50) حديث رقم (19).(12/34)
ص -34- ... فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم"1 . يدوكون: أي يخوضون.
فيه مسائل:
الأولى: أن الدعوة إلى الله طريق من اتبع رسوله الله صلى الله عليه وسلم.
الثانية: التنبيه على الإخلاص ; لأن كثيرا من الناس لو دعا إلى الحق، فهو يدعو إلى نفسه.
الثالثة: أن البصيرة من الفرائض.
الرابعة: من دلائل حسن التوحيد: كونه تنزيه الله تعالى عن المسبة.
الخامسة: أن من قبح الشرك كونه مسبة لله.
السادسة: - وهي من أهمها-: إبعاد المسلم عن المشركين لئلا يصير منهم ولو لم يشرك.
السابعة: كون التوحيد أول واجب.
الثامنة: أنه يبدأ به قبل كل شيء حتى الصلاة.
التاسعة: أن معنى: "أن يوحدوا الله"معنى شهادة: أن لا إله إلا الله.
العاشرة: أن الإنسان قد يكون من أهل الكتاب وهو لا يعرفها، أو يعرفها ولا يعمل بها.
الحادية عشرة: التنبيه على التعليم بالتدريج.
الثانية عشرة: البداءة بالأهم فالأهم.
الثالثة عشرة: مصرف الزكاة.
الرابعة عشرة: كشف العالم الشبهة عن المتعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري: كتاب فضائل الصحابة, باب مناقب علي ابن أبي طالب (3 / 1357) حديث رقم (3498). ومسلم: كتاب فضائل الصحابة باب من فضائل علي ابن أبي طالب - رضي الله عنه - (4 / 1872) حديث رقم (2406).(12/35)
ص -35- ... الخامسة عشرة: النهي عن كرائم الأموال.
السادسة عشرة: اتقاء دعوة المظلوم.
السابعة عشرة: الإخبار بأنها لا تحجب.
الثامنة عشرة: من أدلة التوحيد ما جرى على سيد المرسلين وسادات الأولياء من المشقة والجوع والوباء.
التاسعة عشرة: قوله: "لأعطين الراية". إلخ. علم من أعلام النبوة.
العشرون: تفله في عينيه علم من أعلامها أيضا.
الحادية والعشرون: فضيلة علي رضي الله عنه.
الثانية والعشرون: فضل الصحابة في دوكهم تلك الليلة، وشغلهم عن بشارة الفتح.
الثالثة والعشرون: الإيمان بالقدر؛ لحصولها لمن لم يسع لها، ومنعها عمن سعى.
الرابعة والعشرون: الأدب في قوله: "على رسلك".
الخامسة والعشرون: الدعوة إلى الإسلام قبل القتال.
السادسة والعشرون: أنه مشروع لمن دعوا قبل ذلك وقوتلوا.
السابعة والعشرون: الدعوة بالحكمة لقوله:"أخبرهم بما يجب عليهم".
الثامنة والعشرون: المعرفة بحق الله في الإسلام.
التاسعة والعشرون: ثواب من اهتدى على يديه رجل واحد.
الثلاثون: الحلف على الفتيا.
[التعليق:]
باب: الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله
وهذا الترتيب الذي صنعه المؤلف في هذه الأبواب في غاية المناسبة، فإنه ذكر في الأبواب السابقة وجوب التوحيد وفضله، والحث عليه وعلى تكميله، والتحقق(12/36)
ص -36- ... به ظاهرا وباطنا، والخوف من ضده، وبذلك يكمل العبد نفسه.
ثم ذكر في هذا الباب تكميله لغيره بالدعوة إلى شهادة (أن لا إله إلا الله)، فإنه لا يتم التوحيد حتى يكمل العبد جميع مراتبه، ثم يسعى في تكميل غيره- وهذا هو طريق جميع الأنبياء-؛ فإنهم أول ما يدعون قومهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وهي طريقة سيدهم وإمامهم صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قام بهذه الدعوة أعظم قيام، ودعا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، لم يفتر ولم يضعف حتى أقام الله به الدين، وهدى به الخلق العظيم، ووصل دينه ببركة دعوته إلى مشارق الأرض ومغاربها، وكان يدعو بنفسه ويأمر رسله وأتباعه أن يدعوا إلى الله وإلى توحيده قبل كل شيء; لأن جميع الأعمال متوقفة في صحتها وقبولها على التوحيد.
فكما أن على العبد أن يقوم بتوحيد الله، فعليه أن يدعو العباد إلى الله بالتي هي أحسن، وكل من اهتدى على يديه فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء.
وإذا كانت الدعوة إلى الله، وإلى شهادة أن لا إله إلا الله فرضا على كل أحد، كان الواجب على كل أحد بحسب مقدوره.
فعلى العالم من بيان ذلك، والدعوة والإرشاد والهداية أعظم مما على غيره ممن ليس بعالم.
وعلى القادر ببدنه ويده أو ماله أو جاهه وقوله أعظم مما على من ليست له تلك القدرة.
قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} 1. ورحم الله من أعان على الدين ولو بشطر كلمة، وإنما الهلاك في ترك ما يقدر عليه العبد من الدعوة إلى هذا الدين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التغابن آية : 16.(12/37)
ص -37- ... باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله
وقول الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً (}1 .
وقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ(}2
وقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}3 الآية.
وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ}4 .
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله ("5 .
وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب.
فيه أكبر المسائل وأهمها. وهي تفسير التوحيد وتفسير الشهادة. وبينهما بأمور واضحة:
منها: آية الإسراء بين فيها الرد على المشركين الذين يدعون الصالحين، ففيها بيان أن هذا هو الشرك الأكبر.
ومنها: آية براءة بين فيها أن أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الإسراء آية : 57.
2 سورة الزخرف آية : 26-28.
3 سورة التوبة آية : 31.
4 سورة البقرة آية : 165.
5 رواه مسلم: كتاب الإيمان باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله ويقيموا الصلاة إلخ (1 / 53) حديث رقم (23).(12/38)
ص -38- ... وبين أنهم لم يؤمروا إلا بأن يعبدوا إلها واحدا مع أن تفسيرها الذي لا إشكال فيه طاعة العلماء والعباد في المعصية، لا دعاؤهم إياهم.
ومنها: قول الخليل - عليه السلام - للكفار:
{إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} 1.
فاستثنى من المعبودين ربه. وذكر – سبحانه - أن هذه البراءة، وهذه الموالاة هي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله، فقال: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ?} 2 .
ومنها: آية البقرة في الكفار الذين قال الله فيهم: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}3. ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله، فدل على أنهم يحبون الله حبا عظيما ولم يدخلهم في الإسلام، فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله ؟ وكيف بمن لم يحب إلا الند وحده ولم يحب الله ؟
ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: "من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله"4 .
وهذا من أعظم ما يبين معنى: "لا إله إلا الله"فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه، فيا لها من مسألة ما أعظمها وأجلها! ويا له من بيان ما أوضحه! وحجة ما أقطعها للمنازع!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزخرف آية: 26-27.
2 سورة الزخرف آية: 28.
3 سورة البقرة آية : 167.
4 مسلم : الإيمان (23) , وأحمد (3/472 ,6/394).(12/39)
ص -39- ... [ التعليق: ]
باب: تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله
هما بمعنى واحد، فهو من باب عطف المترادفين.
وهذه المسألة أكبر المسائل وأهمها كما قال المصنف- رحمه الله-.
وحقيقة تفسير التوحيد:
العلم والاعتراف بتفرد الرب بجميع صفات الكمال وإخلاص العبادة له.
وذلك يرجع إلى أمرين:
الأمر الأول: نفي الألوهية كلها عن غير الله، بأن يعلم ويعتقد أنه لا يستحق الإلهية ولا شيئا من العبودية أحد من الخلق لا نبي مرسل، ولا ملك مقرب ولا غيرهما، وأنه ليس لأحد من الخلق في ذلك حظ ولا نصيب.
والأمر الثاني: إثبات الألوهية لله تعالى وحده لا شريك له، وتفرده بمعاني الألوهية كلها، وهي نعوت الكمال كلها، ولا يكفي هذا الاعتقاد وحده حتى يحققه العبد بإخلاص الدين كله لله، فيقوم بالإسلام والإيمان والإحسان وبحقوق الله وحقوق خلقه، قاصدا بذلك وجه الله، وطالبا رضوانه وثوابه.
ويعلم أن من تمام تفسيرها وتحقيقها البراءة من عبادة غير الله، وأن اتخاذ أنداد يحبهم كحب الله أو يطيعهم كطاعة الله، أو يعمل لهم كما يعمل لله ينافي معنى لا إله إلا الله أشد المنافاة.
وبين المصنف - رحمه الله - أن من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله قوله صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله"فلم يجعل مجرد التلفظ بها عاصما للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع(12/40)
ص -40- ... لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ولا دمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ولا دمه. فتبين بذلك أنه لا بد من اعتقاد وجوب عبادة الله وحده لا شريك له، ومن الإقرار بذلك اعتقادا ونطقا، ولا بد من القيام بعبودية الله وحده طاعة لله وانقيادا، ولا بد من البراءة مما ينافي ذلك عقلا وقولا وفعلا.
ولا يتم ذلك إلا بمحبة القائمين بتوحيد الله وموالاتهم ونصرتهم، وبغض أهل الكفر والشرك ومعاداتهم، لا تغني في هذا المقام الألفاظ المجردة، ولا الدعاوى الخالية من الحقيقة، بل لا بد أن يتطابق العلم والاعتقاد والقول والعمل، فإن هذه الأشياء متلازمة متى تخلف واحد منها تخلفت البقية والله أعلم.(12/41)
ص -41- ... باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوها لرفع البلاء أو دفعه
وقول الله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}1 .
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا في يده حلقة من صفر، فقال: "ما هذه"؟ قال: من الواهنة. فقال: "انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا"رواه أحمد بسند لا بأس به2 .
وله عن عقبة بن عامر مرفوعا: "من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له"3
وفي رواية: "من تعلق تميمة فقد أشرك"45. ولابن أبي حاتم عن حذيفة 6 : أنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى، فقطعه وتلا قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ}7(12/42)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية : 38.
2 رواه الإمام أحمد (المسند) 4 / 445. وفي إسناده (المبارك) وهو ابن فضالة أبو فضالة البصري. قال ابن حجر (تقريب التهذيب) 2 / 227: (صدوق يدلس ويسوي). ومن طريق أبي عامر الحزاز عن الحسن عن عمران بنحوه رواه ابن حبان (1411). والحاكم 4 / 216 وصححه ووافقه الذهبي.
) 3 (المسند) 4 / 154. وفي إسناده (خالد بن عبيد) وهو المعافري. قال ابن حجر (تعجيل المنفعة ص 114: (رجال حديثه موثوقون). والحاكم 4 / 216 وصححه ووافقه الذهبي.
4 أحمد (4/156).
5 (المسند) 4 / 156 عن عقبة بن عامر الجهني. قال الهيثمي (مجمع الزوائد) 5 / 103: (رجال أحمد ثقات). ا هـ.
6 ذكره ابن كثير (التفسير) 4 / 55 معلقا, ولم يعزه لمخرجه من طريق حماد بن سلمة عن عاصم ابن أبي النجود عن عروة قال: دخل حذيفة على مريض... نحوه ومع تعليق إسناده فيه (عاصم ابن أبي النجود). قال ابن حجر (تقريب التهذيب) 1 / 383: (صدوق له أوهام, وحديثه في الصحيحين مقرون). اهـ.
7 سورة يوسف آية : 106.(12/43)
ص -42- ... فيه مسائل:
الأولى: التغليظ في لبس الحلقة والخيط ونحوهما لمثل ذلك.
الثانية: أن الصحابي لو مات وهي عليه ما أفلح، فيه شاهد لكلام الصحابة أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر.
الثالثة: أنه لم يعذر بالجهالة.
الرابعة: أنها لا تنفع في العاجلة، بل تضر لقوله: "لا تزيدك إلا وهنا ".
الخامسة: الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك.
السادسة: التصريح بأن من تعلق شيئا وكل إليه.
السابعة: التصريح بأن من تعلق تميمة فقد أشرك.
الثامنة: أن تعليق الخيط من الحمى من ذلك.
التاسعة: تلاوة حذيفة الآية دليل على أن الصحابة يستدلون بالآيات التي في الشرك الأكبر على الأصغر، كما ذكر ابن عباس في آية البقرة.
العاشرة: أن تعليق الودع عن العين من ذلك.
الحادية عشرة: الدعاء على من تعلق تميمة أن الله لا يتم له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له. أي ترك الله له.
[التعليق:]
باب: من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه
وهذا الباب يتوقف فهمه على معرفة أحكام الأسباب.
وتفصيل القول فيها: أنه يجب على العبد أن يعرف في الأسباب ثلاثة أمور:
أحدها: أن لا يجعل منها سببا إلا ما ثبت أنه سبب شرعا أو قدرا.
ثانيها: أن لا يعتمد العبد عليها، بل يعتمد على مسببها ومقدرها، مع(12/44)
ص -43- ... قيامه بالمشروع منها، وحرصه على النافع منها.
ثالثها: أن يعلم أن الأسباب مهما عظمت وقويت فإنها مرتبطة بقضاء الله وقدره لا خروج لها عنه، والله تعالى يتصرف فيها كيف يشاء: إن شاء أبقى سببيتها جارية على مقتضى حكمته ليقوم بها العباد، ويعرفوا بذلك تمام حكمته، حيث ربط المسببات بأسبابها والمعلولات بعللها، وإن شاء غيرها كيف يشاء لئلا يعتمد عليها العباد، وليعلموا كمال قدرته، وأن التصرف المطلق والإرادة المطلقة لله وحده، فهذا هو الواجب على العبد في نظره وعمله بجميع الأسباب.
إذا علم ذلك فمن لبس الحلقة أو الخيط أو نحوهما قاصدا بذلك رفع البلاء بعد نزوله، أو دفعه قبل نزوله فقد أشرك ; لأنه إن اعتقد أنها هي الدافعة الرافعة فهذا الشرك الأكبر.
وهو شرك في الربوبية حيث اعتقد شريكا مع الله في الخلق والتدبير.
وشرك في العبودية حيث تأله لذلك وعلق به قلبه طمعا ورجاء لنفعه، وإن اعتقد أن الله هو الدافع الرافع وحده ولكن اعتقدها سببا يستدفع بها البلاء، فقد جعل ما ليس سببا شرعيا ولا قدريا سببا، وهذا محرم وكذب على الشرع وعلى القدر.
أما الشرع فإنه ينهى عن ذلك أشد النهي، وما نهى عنه فليس من الأسباب النافعة.
وأما القَدَر فليس هذا من الأسباب المعهودة ولا غير المعهودة التي يحصل بها المقصود، ولا من الأدوية المباحة النافعة.
وكذلك هو من جملة وسائل الشرك؛ فإنه لا بد أن يتعلق قلب متعلقها بها، وذلك نوع شرك ووسيلة إليه.
فإذا كانت هذه الأمور ليست من الأسباب الشرعية التي شرعها على لسان نبيه التي يتوسل بها إلى رضاء الله وثوابه، ولا من الأسباب القدرية التي قد علم أو(12/45)
ص -44- ... جرب نفعها مثل الأدوية المباحة كان المتعلق بها متعلقا قلبه بها راجيا لنفعها، فيتعين على المؤمن تركها ليتم إيمانه وتوحيده؛ فإنه لو تم توحيده لم يتعلق قلبه بما ينافيه، وذلك أيضا نقص في العقل حيث التعلق بغير متعلق ولا نافع بوجه من الوجوه، بل هو ضرر محض. والشرع مبناه على تكميل أديان الخلق بنبذ الوثنيات والتعلق بالمخلوقين، وعلى تكميل عقولهم بنبذ الخرافات والخزعبلات، والجد في الأمور النافعة المرقية للعقول، المزكية للنفوس، المصلحة للأحوال كلها دينيها ودنيويها والله أعلم.(12/46)
ص -45- ... باب ما جاء في الرقى والتمائم
في الصحيح عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه "أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فأرسل رسولا أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر، أو قلادة إلا قطعت"1 .
وعن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الرقى والتمائم والتولة شرك"رواه أحمد وأبو داود.2 .
وعن عبد الله بن عكيم مرفوعا: "من تعلق شيئا وكل إليه "رواه أحمد والترمذي.3(12/47)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري: كتاب الجهاد باب ما قيل في الجرس ونحوه في أعناق الإبل (3 / 1094) حديث رقم (2843). ومسلم: كتاب اللباس والزينة باب كراهة قلادة الوتر في رقبة البعير (3 / 1672-1673) حديث رقم (2115).
2 رواه أحمد (1 / 381). وأبو داود في كتاب الطب باب في تعليق التمائم (4 / 9) حديث رقم (3883). قال المنذري (مختصر سنن أبي داود) 5 / 363: (والراوي عن زينب مجهول). اهـ. وقد وصف عند الإمام أحمد وأبي داود بأنه (ابن أخي زينب), ووصف في (سنن ابن ماجه) 2 / 1167 بأنه (ابن أخت زينب).
3 رواه أحمد (4 / 310 و 311). والترمذي (السنن) 4 / 403 (كتاب الطب) (باب ما جاء في كراهية التعليق). حديث رقم (2072) وقال: (وحديث عبد الله بن عكيم إنما نعرفه من حديث محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، وعبد الله بن عكيم لم يسمع من النبي (، وكان في زمن النبي ( يقول: كتب إلينا رسول الله (). وفي إسناده- أيضا- (محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى) وقد ضعفه العلماء لسوء حفظه كما في (ميزان الاعتدال) 3 / 614. وللحديث شاهد يتقوى به رواه النسائي (السنن) 7 / 112 من طريق أبي داود ثنا عنه عباد بن ميسرة المنقري عن الحسن عن أبي هريرة مرفوعا وفيه: "ومن تعلق شيئا وكل إليه". قال الذهبي في (ميزان الاعتدال) 2 / 378: (هذا الحديث لا يصح للين عباد وانقطاعه). وهذا تضعيف لا يمنع من تقوية حديث عبد الله بن عكيم، وترقيته لمرتبة الحسن لغيره. والله أعلم.(12/48)
ص -46- ... "التمائم": شيء يعلق على الأولاد يتقون به العين، لكن إذا كان المعلق من القرآن فرخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه، ويجعله من المنهي عنه. منهم ابن مسعود رضي الله عنه.
و"الرقى": هي التي تسمى العزائم، وخص منها الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمة.
و"التولة": هي شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته.
وروى أحمد عن رويفع، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا رويفع، لعل الحياة تطول بك، فأخبر الناس أن من عقد لحيته، أو تقلد وترا، أو استنجى برجيع دابة أو عظم، فإن محمدا بريء منه"1 .
وعن سعيد بن جبير قال: "من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة"رواه وكيع.
وله عن إبراهيم قال: "كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1(المسند) 4 / 108 أوله: (كان أحدنا في زمان رسول الله ( يأخذ جمل أخيه... مطولا وفي إسناده (ابن لهيعة). قال ابن حجر (تقريب التهذيب) 1 / 444: (صدوق خلط بعد احتراق كتبه، ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه أعدل من غيرها, وله في مسلم بعض شيء مقرون). وليس هذا من روايتهما عنه, إلا أنه منجبر بمتابعة (المفضل بن فضالة) له عند أبي داود (السنن) 1 / 34 (كتاب الطهارة) (باب ما ينهى عنه أن يستنجى به). حديث رقم (36) وسكت عنه أبو داود ثم المنذري في (مختصر سنن أبي داود) 1 / 36، وفي إسناده (عياش بن عباس القتباني). ولعل صوابه ما ذكره المزي (تهذيب الكمال) 3 / 1365 في ترجمة (المفضل بن فضالة بن عبيد المصري) أنه يروي عن (عبد الله بن عياش بن عباس القتباني). وللحديث طريق أخرى رواها النسائي (السنن) 8 / 135- 136 (كتاب الزينة) (باب عقد اللحية) عن حيوة بن شريح عن عياش بن عباس، وإسناده صحيح رجاله ثقات. والله أعلم.(12/49)
ص -47- ... فيه مسائل:
الأولى: تفسير الرقى والتمائم.
الثانية: تفسير التولة.
الثالثة: أن هذه الثلاث كلها من الشرك من غير استثناء.
الرابعة: أن الرقية بالكلام الحق من العين والحمة ليس من ذلك.
الخامسة: أن التميمة إذا كانت من القرآن فقد اختلف العلماء هل هي من ذلك أم لا؟
السادسة: أن تعليق الأوتار على الدواب من العين من ذلك.
السابعة: الوعيد الشديد على من علق وترا.
الثامنة: فضل ثواب من قطع تميمة من إنسان.
التاسعة: أن كلام إبراهيم لا يخالف ما تقدم من الاختلاف؛ لأن مراده أصحاب عبد الله بن مسعود.
[التعليق:]
باب:
ما جاء في الرقى والتمائم
أما التمائم فهي: تعاليق تتعلق بها قلوب متعلقيها، والقول فيها كالقول في الحلقة والخيط كما تقدم.
فمنها: ما هو شرك أكبر كالتي تشتمل على الاستغاثة بالشياطين أو غيرهم من المخلوقين.
فالاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك كما سيأتي إن شاء الله.
ومنها: ما هو محرم كالتي فيها أسماء لا يفهم معناها؛ لأنها تجر إلى الشرك.
وأما التعاليق التي فيها قرآن أو أحاديث نبوية أو أدعية طيبة محترمة فالأولى(12/50)
ص -48- ... تركها لعدم ورودها عن الشارع، ولكونها يتوسل بها إلى غيرها من المحرم ; ولأن الغالب على متعلقها أنه لا يحترمها ويدخل بها المواضع القذرة.
أما الرقى ففيها تفصيل:
فإن كانت من القرآن أو السنة أو الكلام الحسن، فإنها مندوبة في حق الراقي؛ لأنها من باب الإحسان، ولما فيها من النفع، وهي جائزة في حق المرقي، إلا أنه لا ينبغي له أن يبتدئ بطلبها، فإن من كمال توكل العبد وقوة يقينه أن لا يسأل أحدا من الخلق لا رقية ولا غيرها، بل ينبغي إذا سأل أحدا أن يدعو له أن يلحظ مصلحة الداعي والإحسان إليه، بتسببه لهذه العبودية له مع مصلحة نفسه، وهذا من أسرار تحقيق التوحيد ومعانيه البديعة التي لا يوفق للتفقه فيها والعمل بها إلا الكمل من العباد.
وإن كانت الرقية يدعى بها غير الله ويطلب الشفاء من غيره، فهذا هو الشرك الأكبر؛ لأنه دعاء واستغاثة بغير الله.
فافهم هذا التفصيل، وإياك أن تحكم على الرقى بحكم واحد مع تفاوتها في أسبابها وغاياتها.(12/51)
ص -49- ... باب من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما
وقول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}1 .
عن أبي واقد الليثي قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}2 لتركبن سنن من كان قبلكم"رواه الترمذي وصححه 3 .
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النجم.
الثانية: معرفة صورة الأمر الذي طلبوا.
الثالثة: كونهم لم يفعلوا.
الرابعة: كونهم قصدوا التقرب إلى الله بذلك لظنهم أنه يحبه.
الخامسة: أنهم إذا جهلوا هذا، فغيرهم أولى بالجهل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النجم آية : 19- 23.
2 سورة الأعراف آية : 138.
3(السنن) 4 / 475 (كتاب الفتن) (باب ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم). حديث رقم (2180) وقال: (هذا حديث حسن صحيح). ولفظه: (أن رسول الله ( لما خرج إلى خيبر مر بشجرة يقال لها ذات أنواط...) الحديث.(12/52)
ص -50- ... السادسة: أن لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة ما ليس لغيرهم.
السابعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعذرهم بل رد عليهم بقوله: "الله أكبر إنها السنن لتتبعن سنن من كان قبلكم "فغلظ الأمر بهذه الثلاث.
الثامنة: الأمر الكبير- وهو المقصود- أنه أخبر أن طلبهم كطلب بني إسرائيل لما قالوا لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً?}1 .
التاسعة: أن نفي هذا من معنى"لا إله إلا الله"مع دقته وخفائه على أولئك.
العاشرة: أنه حلف على الفتيا وهو لا يحلف إلا لمصلحة.
الحادية عشرة: أن الشرك فيه أكبر وأصغر؛ لأنهم لم يرتدوا بهذا.
الثانية عشرة: قولهم: "ونحن حدثاء عهد بكفر"فيه أن غيرهم لا يجهل ذلك.
الثالثة عشرة: التكبير عند التعجب خلافا لمن كرهه.
الرابعة عشرة: سد الذرائع.
الخامسة عشرة: النهي عن التشبه بأهل الجاهلية.
السادسة عشرة: الغضب عند التعليم.
السابعة عشرة: القاعدة الكلية؛ لقوله: "إنها السنن".
الثامنة عشرة: أن هذا علم من أعلام النبوة لكونه وقع كما أخبر.
التاسعة عشرة: أن كل ما ذم الله به اليهود والنصارى في القرآن أنه لنا.
العشرون: أنه مقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر، فصار فيه التنبيه على مسائل القبر. أما: "من ربك"فواضح، وأما"من نبيك"فمن إخباره بأنباء الغيب. وأما "ما دينك"فمن قولهم: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً}2 إلى آخره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 138.
2 سورة الأعراف آية : 138.(12/53)
ص -51- ... الحادية والعشرون: أن سنة أهل الكتاب مذمومة كسنة المشركين.
الثانية والعشرون: أن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يؤمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة؛ لقولهم: "ونحن حدثاء عهد بكفر".
[التعليق:]
باب: من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما
أي فإن ذلك من الشرك ومن أعمال المشركين، فإن العلماء اتفقوا على أنه لا يشرع التبرك بشيء من الأشجار والأحجار والبقع والمشاهد وغيرها. فإن هذا التبرك غلو فيها، وذلك يتدرج به إلى دعائها وعبادتها، وهذا هو الشرك الأكبر كما تقدم انطباق الحد عليه، وهذا عام في كل شيء حتى مقام إبراهيم وحجرة النبي صلى الله عليه وسلم وصخرة بيت المقدس وغيرها من البقع الفاضلة.
وأما استلام الحجر الأسود وتقبيله، واستلام الركن اليماني من الكعبة المشرفة، فهذا عبودية لله وتعظيم لله وخضوع لعظمته، فهو روح التعبد.
فهذا تعظيم للخالق وتعبد له، وذلك تعظيم للمخلوق وتأله له.
فالفرق بين الأمرين كالفرق بين الدعاء لله الذي هو إخلاص وتوحيد، والدعاء للمخلوق الذي هو شرك وتنديد.(12/54)
ص -52- ... باب ما جاء في الذبح لغير الله
وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ }1 .
وقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}2 عن علي رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: "لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثا، لعن الله من غير منار الأرض"رواه مسلم 3 .
وعن طارق بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب". قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله ؟ قال: "مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا، فقالوا لأحدهما: قرب، قال: ليس عندي شيء أقرب، قالوا له: قرب ولو ذبابا، فقرب ذبابا فخلوا سبيله، فدخل النار. وقالوا للآخر: قرب، فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله (، فضربوا عنقه، فدخل الجنة"رواه أحمد 4(12/55)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية : 162.
2 سورة الكوثر آية : 2.
3 رواه مسلم: كتاب الأضاحي باب تحريم الذبح لغير الله تعالى, ولعن فاعله (3 / 1567) حديث رقم (1978).
4 لم أقف عليه من حديث طارق بن شهاب, وقد وقفت عليه من حديث طارق بن شهاب عن سلمان رواه الإمام أحمد (الزهد) ص 15 – 16. ووقع في النسخة المطبوعة (عن سليمان) وهو تحريف, والصواب أنه (عن سلمان). وقد رواه أبو نعيم في (الحلية) 1 / 203 في ترجمة (سلمان الفارسي) كلاهما من طريق أبي معاوية حدثنا الأعمش عن سليمان بن ميسرة عن طارق بن شهاب عن سلمان قال: دخل رجل الجنة في ذباب... فذكره موقوفا, وإسناده صحيح رجاله ثقات, وله طريقان آخران ذكرهما أبو نعيم معلقة، ولم يسق ألفاظهما حيث قال عقب روايته: (رواه شعبة عن قيس بن مسلم عن طارق مثله, ورواه جرير من- كذا- منصور عن المنهال بن عمرو عن حيان بن مرشد عن سلمان نحوه). وهو وإن كان موقوفا فلعله مما لا مجال للرأي فيه. والله أعلم.(12/56)
ص -53- ... فيه مسائل:
الأولى: تفسير {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي}1 .
الثانية: تفسير {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}2 .
الثالثة: البداءة بلعنة من ذبح لغير الله.
الرابعة: لعن من لعن والديه، ومنه أن تلعن والدي الرجل فيلعن والديك.
الخامسة: لعن من آوى محدثا، وهو الرجل يحدث شيئا يجب فيه حق الله، فيلتجئ إلى من يجيره من ذلك.
السادسة: لعن من غير منار الأرض، وهي المراسيم التي تفرق بين حقك وحق جارك من الأرض فتغيرها بتقديم أو تأخير.
السابعة: الفرق بين لعن المعين ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم.
الثامنة: هذه القصة العظيمة، وهي قصة الذباب.
التاسعة: كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده، بل فعله تخلصا من شرهم.
العاشرة: معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين كيف صبر ذلك على القتل ولم يوافقهم على طلبتهم، مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظاهر.
الحادية عشرة: أن الذي دخل النار مسلم ; لأنه لو كان كافرا لم يقل: "دخل النار في ذباب".
الثانية عشرة: فيه شاهد للحديث الصحيح: "الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك "3 .
الثالثة عشرة: معرفة أن عمل القلب هو المقصود الأعظم حتى عند عبدة الأوثان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية : 162.
2 سورة الكوثر آية : 2.
3 رواه البخاري. كتاب الرقاق, باب الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك (5 / 2380) حديث رقم (6123).(12/57)
ص -54- ... [التعليق:]
باب: ما جاء في الذبح لغير الله
أي أنه شرك، فإن نصوص الكتاب والسنة صريحة في الأمر بالذبح لله، وإخلاص ذلك لوجهه، كما هي صريحة بذلك في الصلاة، فقد قرن الله الذبح بالصلاة في عدة مواضع من كتابه.
وإذا ثبت أن الذبح لله من أجل العبادات وأكبر الطاعات، فالذبح لغير الله شرك أكبر مخرج عن دائرة الإسلام.
فإن حد الشرك الأكبر وتفسيره الذي يجمع أنواعه وأفراده: (أن يصرف العبد نوعا أو فردا من أفراد العبادة لغير الله).
فكل اعتقاد أو قول أو عمل ثبت أنه مأمور به من الشارع فصرفه لله وحده توحيد وإيمان وإخلاص، وصرفه لغيره شرك وكفر.
فعليك بهذا الضابط للشرك الأكبر الذي لا يشذ عنه شيء.
كما أن حد الشرك الأصغر هو: (كل وسيلة وذريعة يتطرق منها إلى الشرك الأكبر من الإرادات والأقوال والأفعال التي لم تبلغ رتبة العبادة).
فعليك بهذين الضابطين للشرك الأكبر والأصغر، فإنه مما يعينك على فهم الأبواب السابقة واللاحقة من هذا الكتاب، وبه يحصل لك الفرقان بين الأمور التي يكثر اشتباهها والله المستعان.(12/58)
ص -55- ... باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله
وقول الله تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}1 .
وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: "نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ "قالوا: لا قال: "فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟"قالوا: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم"رواه أبو داود وإسناده على شرطهما 2 .
فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً}3 .
الثانية: أن المعصية قد تؤثر في الأرض وكذلك الطاعة.
الثالثة: رد المسألة المشكلة إلى المسألة البينة ليزول الإشكال.
الرابعة: استفصال المفتي إذا احتاج إلى ذلك.
الخامسة: أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع.
السادسة: المنع منه إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية ولو بعد زواله.
السابعة: المنع منه إذا كان فيه عيد من أعيادهم ولو بعد زواله.
الثامنة: أنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة؛ لأنه نذر معصية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية : 108.
2(السنن) 3 / 607 (كتاب الأيمان والنذور) (باب ما يؤمر به من الوفاء بالنذر) حديث رقم (1313) قال الحافظ ابن حجر في (التلخيص الحبير) 4 / 198: (رواه أبو داود من حديث ثابت بن الضحاك بسند صحيح). اهـ.
3 سورة التوبة آية : 108.(12/59)
ص -56- ... التاسعة: الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ولو لم يقصده.
العاشرة: لا نذر في معصية.
الحادية عشرة: لا نذر لابن آدم فيما لا يملك.
[التعليق:]
باب: لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله
ما أحسن اتباع هذا الباب بالباب الذي قبله، فالذي قبله من المقاصد وهذا من الوسائل، ذاك من باب الشرك الأكبر، وهذا من وسائل الشرك القريبة، فإن المكان الذي يذبح فيه المشركون لآلهتهم تقربا إليها وشركا بالله قد صار مشعرا من مشاعر الشرك، فإذا ذبح فيه المسلم ذبيحة ولو قصدها لله، فقد تشبه بالمشركين وشاركهم في مشعرهم، والموافقة الظاهرة تدعو إلى الموافقة الباطنة والميل إليهم.
ومن هذا السبب نهى الشارع عن مشابهة الكفار في شعارهم وأعيادهم وهيئاتهم ولباسهم، وجميع ما يختص بهم إبعادا للمسلمين عن الموافقة لهم في الظاهر التي هي وسيلة قريبة للميل والركون إليهم، حتى إنه نهى عن الصلاة النافلة في أوقات النهي التي يسجد المشركون فيها لغير الله خوفا من التشبه المحذور.(12/60)
ص -58- ... باب من الشرك: الاستعاذة بغير الله
وقول الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً}1.
وعن خولة بنت حكيم - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك"رواه مسلم2 .
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الجن.
الثانية: كونه من الشرك.
الثالثة: الاستدلال على ذلك بالحديث ; لأن العلماء يستدلون به على أن كلمات الله غير مخلوقة، قالوا: لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك.
الرابعة: فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره.
الخامسة: أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية من كف شر أو جلب نفع، لا يدل على أنه ليس من الشرك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الجن آية : 6.
2 رواه مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار, باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره (4 / 2080- 2081) حديث رقم (2708).(12/61)
ص -59- ... باب من الشرك: أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره
وقول الله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}1 .
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}2 .
وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}3 .
وقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}4 .
وروى الطبراني بإسناده: أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله"5 .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يونس آية : 106-107.
2 سورة العنكبوت آية : 17.
3 سورة الأحقاف آية : 5-6.
4 سورة النمل آية : 62.
5 عزاه الهيثمي للطبراني في (المعجم الكبير) عن عبادة بن الصامت، ولم أقف على مسنده في المطبوع من (المعجم الكبير). قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) 10 / 159: (رواه الطبراني, ورجاله رجال الصحيح غير ابن لهيعة، وهو حسن الحديث, وقد رواه أحمد بغير هذا السياق, وهو في الأدب في باب القيام). اهـ.(12/62)
ص -60- ... فيه مسائل:
الأولى: أن عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص.
الثانية: تفسير قوله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ}1 .
الثالثة: أن هذا هو الشرك الأكبر.
الرابعه: أن أصلح الناس لو يفعله إرضاء لغيره صار من الظالمين.
الخامسة: تفسير الآية التي بعدها.
السادسة: كون ذلك لا ينفع في الدنيا مع كونه كفرا.
السابعة: تفسير الآية الثالثة 2 .
الثامنة: أن طلب الرزق لا ينبغي إلا من الله، كما أن الجنة لا تطلب إلا منه.
التاسعة: تفسير الآية الرابعة.
العاشرة: أنه لا أضل ممن دعا غير الله.
الحادية عشرة: أنه غافل عن دعاء الداعي لا يدري عنه.
الثانية عشرة: أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي وعداوته له.
الثالثة عشرة: تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو.
الرابعة عشرة: كفر المدعو بتلك العبادة.
الخامسة عشرة: أن هذه الأمور هي سبب كونه أضل الناس.
السادسة عشرة: تفسير الآية الخامسة.
السابعة عشرة: الأمر العجيب، وهو إقرار عبدة الأوثان بأنه لا يجيب المضطر إلا الله، ولأجل هذا يدعونه في الشدائد مخلصين له الدين.
الثامنة عشرة: حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد والتأدب مع الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يونس آية : 106.
2 أي الآية (17) من سورة العنكبوت.(12/63)
ص -61- ... [التعليق:]
باب: من الشرك: النذر لغير الله
باب: من الشرك: الاستعاذة بغير الله
باب: من الشرك: أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره.
متى فهمت الضابط السابق في حد الشرك الأكبر، وهو أن (من صرف شيئا من العبادة لغير الله فهو مشرك).
فهمت هذه الأبواب الثلاثة التي والى المصنف بينها.
فإن النذر عبادة مدح الله الموفين به، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء بنذر الطاعة، وكل أمر مدحه الشارع أو أثنى على من قام به أو أمر به فهو عبادة.
فإن العبادة (اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة). والنذر من ذلك.
وكذلك أمر الله بالاستعاذة به وحده من الشرور كلها، وبالاستغاثة به في كل شدة ومشقة، فهذه إخلاصها لله إيمان وتوحيد، وصرفها لغير الله شرك وتنديد.
والفرق بين الدعاء والاستغاثة، أن الدعاء عام في كل الأحوال والاستغاثة هي الدعاء لله في حالة الشدائد، فكل ذلك يتعين إخلاصه لله وحده، وهو المجيب لدعاء الداعين المفرج لكربات المكروبين، ومن دعا غيره من نبي أو ملك أو ولي أو غيرهم أو استغاث بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فهو مشرك كافر، وكما أنه خرج من الدين فقد تجرد أيضا من العقل، فإن أحدا من الخلق ليس عنده من النفع والدفع مثقال ذرة لا عن نفسه ولا عن غيره، بل الكل فقراء إلى الله في كل شئونهم.(12/64)
ص -62- ... باب: قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} 1 .
وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}2.
وفي الصحيح3 عن أنس رضي الله عنه قال: "شج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكسرت رباعيته. فقال: "كيف يفلح قوم شجوا نبيهم ؟"فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}4 .
وفيه5 عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر: "اللهم العن فلانا وفلانا".
بعدما يقول: "سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد"، فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}6 الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 191-192.
2 سورة فاطر آية : 13-14.
3 رواه البخاري معلقا: كتاب المغازي, باب قول الله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء). (4 / 1493). ورواه مسلم: كتاب الجهاد والسير باب غزوة أُحد (3 / 1417) حديث رقم (1791). ولفظه: (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم, وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله؟ فأنزل الله...) الحديث.
4 سورة آل عمران آية : 128.
5 رواه البخاري: كتاب المغازي باب قوله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء) (4 / 1493- 1494) حديث رقم (3842).
6 سورة آل عمران آية : 128.(12/65)
ص -63- ... وفي رواية 1: "يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} 2 .
وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} 3. فقال: "يا معشر قريش- أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب: لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أغني عنك من الله شيئا، ويا فاطمة بنت محمد: سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا"4 .
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيتين.
الثانية: قصة أحد.
الثالثة: قنوت سيد المرسلين وخلفه سادات الأولياء يؤمنون في الصلاة.
الرابعة: أن المدعو عليهم كفار.
الخامسة: أنهم فعلوا أشياء ما فعلها غالب الكفار، منها شجهم نبيهم وحرصهم على قتله، ومنها التمثيل بالقتلى مع أنهم بنو عمهم.
السادسة: أنزل الله عليه في ذلك: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}5 .
السابعة: قوله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُم ?}6 فتاب عليهم فآمنوا.(12/66)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري: مع فتح الباري 7 / 365 حديث رقم (4070) كتاب المغازي باب قوله تعالى: {ليس لك من الأمر شيء} وهو مرسل؛ لأنه من رواية سالم بن عبد الله بن عمر وقد وصلها أحمد (2 / 93). والترمذي: كتاب تفسير القرآن باب من سورة آل عمران (5 / 212) حديث رقم (3004). وقال: (هذا حديث حسن غريب). اهـ.
2 سورة آل عمران آية : 128.
3 سورة الشعراء آية : 214.
4 رواه البخاري: كتاب التفسير تفسير سورة الشعراء باب قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين) (4 / 1787- 1788) حديث رقم (4493). ومسلم: كتاب الإيمان باب قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين) (1 / 192- 193) حديث رقم (206).
5 سورة آل عمران آية : 128.
6 سورة آل عمران آية : 128.(12/67)
ص -64- ... الثامنة: القنوت في النوازل.
التاسعة: تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم.
العاشرة: لعن المعين في القنوت.
الحادية عشرة: قصته صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} 1 .
الثانية عشرة: جده صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر بحيث فعل ما نسب بسببه إلى الجنون، وكذلك لو يفعله مسلم الآن.
الثالثة عشرة: قوله للأبعد والأقرب: "لا أغني عنك من الله شيئا"حتى قال: "يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا"2. فإذا صرح وهو سيد المرسلين بأنه لا يغني شيئا عن سيدة نساء العالمين، وآمن الإنسان أنه لا يقول إلا الحق، ثم نظر فيما وقع في قلوب خواص الناس اليوم تبين له التوحيد وغربة الدين.
[التعليق:]
باب: قول الله تعالى:
{أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} 3 .
هذا شروع في براهين التوحيد وأدلته، فالتوحيد له من البراهين النقلية والعقلية ما ليس لغيره.
فتقدم أن التوحيدين: توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات من أكبر براهينه وأضخمها، فالمتفرد بالخلق والتدبير، والمتوحد في الكمال المطلق من جميع الوجوه هو الذي لا يستحق العبادة سواه.
وكذلك من براهين التوحيد معرفة أوصاف المخلوقين ومن عبد مع الله، فإن جميع ما يعبد من دون الله من ملك وبشر ومن شجر وحجر وغيرها كلهم فقراء إلى الله، عاجزون ليس بيدهم من النفع مثقال ذرة، ولا يخلقون شيئا وهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الشعراء آية : 214.
2 البخاري : الوصايا (2753) , ومسلم : الإيمان (206) , والنسائي : الوصايا (3646 ,3647) , وأحمد (2/448) , والدارمي : الرقاق (2732).
3 سورة الأعراف آية : 191.(12/68)
ص -65- ... يخلقون، ولا يملكون ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، والله تعالى هو الخالق لكل مخلوق وهو الرازق لكل مرزوق، المدبر للأمور كلها، الضار النافع، المعطي المانع، الذي بيده ملكوت كل شيء، وإليه يرجع كل شيء، وله يقصد ويصمد ويخضع كل شيء.
فأي برهان أعظم من هذا البرهان الذي أعاده الله وأبداه في مواضع كثيرة من كتابه وعلى لسان رسوله، فهو دليل عقلي فطري كما أنه دليل سمعي نقلي على وجوب توحيد الله وأنه الحق، وعلى بطلان الشرك.
وإذا كان أشرف الخلق على الإطلاق لا يملك نفع أقرب الخلق إليه وأمسهم به رحما فكيف بغيره ؟ فتبا لمن أشرك بالله وساوى به أحدا من المخلوقين، لقد سلب عقله بعدما سلب دينه.
فنعوت الباري تعالى وصفات عظمته وتوحده في الكمال المطلق أكبر برهان على أنه لا يستحق العبادة إلا هو. وكذلك صفات المخلوقات كلها، وما هي عليه من النقص والحاجة والفقر إلى ربها في كل شئونها، وأنه ليس لها من الكمال، إلا ما أعطاها ربها من أعظم البراهين على بطلان إلهية شيء منها.
فمن عرف الله وعرف الخلق اضطرته هذه المعرفة إلى عبادة الله وحده، وإخلاص الدين له والثناء عليه، وحمده وشكره بلسانه وقلبه وأركانه، وانصرف تعلقه بالمخلوقين خوفا ورجاء وطمعا، والله أعلم.(12/69)
ص -66- ... باب قول الله تعالى:
{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ?}1.
وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك، {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض- وصفه سفيان بكفه، فحرفها وبدد بين أصابعه- فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها، الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا ؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء"2 .
وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر، وتكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة، - أو قال: رعدة - شديدة خوفا من الله (، فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجدا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة سبأ آية : 23.
2 رواه البخاري: كتاب التفسير تفسير سورة سبأ باب: (حتى إذا فزع عن قلوبهم) (4 / 1804) حديث رقم (4522).(12/70)
ص -67- ... يا جبريل ؟ فيقول جبريل: قال: الحق، وهو العلي الكبير. فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله "1 .
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآية.
الثانية: ما فيها من الحجة على إبطال الشرك، خصوصا من تعلق على الصالحين، وهي الآية التي قيل: إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب.
الثالثة: تفسير قوله: {قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}2.
الرابعة: سبب سؤالهم عن ذلك.
الخامسة: أن جبريل يجيبهم بعد ذلك بقوله:"قال كذا وكذا".
السادسة: ذكر أن أول من يرفع رأسه جبريل.
السابعة: أنه يقول لأهل السماوات كلهم؛ لأنهم يسألونه.
الثامنة: أن الغشي يعم أهل السماوات كلهم.
التاسعة: ارتجاف السماوات لكلام الله.
العاشرة: أن جبريل هو الذي ينتهي بالوحي إلى حيث أمره الله.
الحادية عشرة: ذكر استراق الشياطين.
الثانية عشرة: صفة ركوب بعضهم بعضا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه ابن أبي عاصم (السنة) 1 / 226-227 حديث رقم (515) من طريق نعيم بن حماد ثنا الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن عبد الله ابن أبي زكريا عن رجاء بن حيوة عن النواس بن سمعان الكلابي... الحديث بنحوه وإسناده ضعيف لأجل الوليد بن مسلم. قال ابن حجر (تقريب التهذيب) 2 / 336: (ثقة لكنه كثير التدليس والتسوية). ونص بعض العلماء على أنه ليس لهذا الحديث أصل قال الذهبي (الميزان) 4 / 268: (قال أبو زرعة الدمشقي: عرضت على دحيم حديثا حدثناه نعيم بن حماد عن الوليد بن مسلم عن ابن جابر عن ابن أبي زكريا عن رجاء بن حيوة عن النواس بن سمعان: إذا تكلم الله بالوحي. فقال دحيم: لا أصل له). اهـ.
2 سورة سبأ آية : 23.(12/71)
ص -68- ... الثالثة عشرة: إرسال الشهب.
الرابعة عشرة: أنه تارة يدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وتارة يلقيها في أذن وليه من الإنس قبل أن يدركه.
الخامسة عشرة: كون الكاهن يصدق بعض الأحيان.
السادسة عشرة: كونه يكذب معها مائة كذبة.
السابعة عشرة: أنه لم يصدق كذبه إلا بتلك الكلمة التي سمعت من السماء.
الثامنة عشرة: قبول النفوس للباطل كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة ؟.
التاسعة عشرة: كونهم يتلقى بعضهم من بعض تلك الكلمة ويحفظونها ويستدلون بها.
العشرون: إثبات الصفات خلافا للأشعرية المعطلة.
الحادية والعشرون: التصريح بأن تلك الرجفة والغشي خوفا من الله (.
الثانية والعشرون: أنهم يخرون لله سجدا.
[التعليق:]
باب: قول الله تعالى:
{حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ} 1 .
وهذا أيضا برهان عظيم آخر على وجوب التوحيد وبطلان الشرك، وهو ذكر النصوص الدالة على كبرياء الرب وعظمته التي تتضاءل وتضمحل عندها عظمة المخلوقات العظيمة، وتخضع له الملائكة والعالم العلوي والسفلي، ولا تثبت أفئدتهم عندما يسمعون كلامه، أو تتبدى لهم بعض عظمته ومجده، فالمخلوقات بأسرها خاضعة لجلاله، معترفة بعظمته ومجده خاضعة له خائفة منه، فمن كان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة سبأ آية : 23.(12/72)
ص -69- ... هذا شأنه فهو الرب الذي لا يستحق العبادة والحمد والثناء والشكر والتعظيم والتأله إلا هو، ومن سواه ليس له من هذا الحق شيء.
فكما أن الكمال المطلق والكبرياء والعظمة ونعوت الجلال والجمال المطلق كلها لله لا يمكن أن يتصف بها غيره، فكذلك العبودية الظاهرة والباطنة كلها حقه تعالى الخاص الذي لا يشاركه فيه مشارك بوجه.(12/73)
ص -70- ... باب الشفاعة
وقول الله (: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}1 .
وقوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ ?}2 .
وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ?}3 .
وقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى }4 .
وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ }5 .
قال أبو العباس6 : "نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه أو يكون عونا لله ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب كما قال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى }7.
فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده- لا يبدأ بالشفاعة أولا- ثم يقال له: "ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع"8
.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية : 51.
2 سورة الزمر آية : 44.
3 سورة البقرة آية : 255.
4 سورة النجم آية : 26.
5 سورة سبأ آية : 22-23.
6 هو الإمام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى.
7 سورة الأنبياء آية : 28.
8 جزء من حديث الشفاعة الطويل. رواه البخاري: كتاب الأنبياء باب قول الله عز وجل: (ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه) (3 / 1215- 1216) حديث رقم (3162). ومسلم: كتاب الإيمان باب أدنى أهل الجنة منزلة(12/74)
فيها (1 / 184, 186) حديث رقم (194) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(12/75)
ص -71- ... وقال أبو هريرة له صلى الله عليه وسلم: "من أسعد الناس بشفاعتك ؟ قال: من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه"1. فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله. وحقيقته أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود.
فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص". انتهى كلامه.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيات.
الثانية: صفة الشفاعة المنفية.
الثالثة: صفة الشفاعة المثبتة.
الرابعة: ذكر الشفاعة الكبرى وهي المقام المحمود.
الخامسة: صفة ما يفعله صلى الله عليه وسلم أنه لا يبدأ بالشفاعة بل يسجد، فإذا أذن له شفع.
السادسة: من أسعد الناس بها ؟.
السابعة: أنها لا تكون لمن أشرك بالله.
الثامنة: بيان حقيقتها.
[التعليق:]
باب: الشفاعة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري: كتاب العلم باب الحرص على الحديث (1 / 49) حديث رقم (99).(12/76)
ص -72- ... إنما ذكر المصنف الشفاعة في تضاعيف هذه الأبواب؛ لأن المشركين يبررون شركهم ودعاءهم للملائكة والأنبياء والأولياء بقولهم: نحن ندعوهم مع علمنا أنهم مخلوقون ومملوكون، ولكن حيث إن لهم عند الله جاها عظيما ومقامات عالية، ندعوهم ليقربونا إلى الله زلفى وليشفعوا لنا عنده، كما يتقرب إلى الوجهاء عند الملوك والسلاطين، ليجعلوهم وسائط لقضاء حاجاتهم وإدراك مآربهم. وهذا من أبطل الباطل، وهو تشبيه الله العظيم ملك الملوك الذي يخافه كل أحد، وتخضع له المخلوقات بأسرها بالملوك الفقراء المحتاجين للوجهاء والوزراء في تكميل ملكهم ونفوذ قوتهم.
فأبطل الله هذا الزعم وبين أن الشفاعة كلها له، كما أن الملك كله له، وأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يأذن إلا لمن رضي قوله وعمله، ولا يرضى إلا توحيده وإخلاص العمل له. فبين أن المشرك ليس له حظ ولا نصيب من الشفاعة.
وبين أن الشفاعة المثبتة التي تقع بإذنه إنما هي الشفاعة لأهل الإخلاص خاصة وأنها كلها منه، رحمة منه وكرامة للشافع، ورحمة منه وعفوا عن المشفوع له، وأنه هو المحمود عليها في الحقيقة، وهو الذي أذن لمحمد صلى الله عليه وسلم فيها وأناله المقام المحمود.
فهذا ما دل عليه الكتاب والسنة في تفصيل القول في الشفاعة.
وقد ذكر المصنف - رحمه الله - كلام الشيخ تقي الدين في هذا الموضع وهو كاف شاف. فالمقصود في هذا الباب ذكر النصوص الدالة على إبطال كل وسيلة وسبب يتعلق به المشركون بآلهتهم، وأنه ليس لها من الملك شيء، لا استقلالا ولا مشاركة ولا معاونة ولا مظاهرة ولا من الشفاعة شيء.
وإنما ذلك كله لله وحده، فتعين أن يكون المعبود وحده.(12/77)
ص -73- ... باب قول الله تعالى: {إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}1
في الصحيح2 عن ابن المسيب عن أبيه قال: "لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل. فقال له: "يا عم: قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله" فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأعادا، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك"فأنزل الله ( {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}3 .
وأنزل في أبي طالب: {إنَّك َ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}4 .
فيه مسائل:
الأولى: تفسير {إنَّك َ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}5 .
الثانية: تفسير {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ }6 .
الثالثة: - وهي المسألة الكبيرة-: تفسير قوله: "قل لا إله إلا الله". بخلاف ما عليه من يدعي العلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة القصص آية : 56.
2 رواه البخاري: كتاب التفسير تفسير سورة القصص باب "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء"(4 / 1788- 1789) حديث رقم (4494). ومسلم: كتاب الإيمان باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت, ما لم يشرع في النزع وهو الغرغرة..... (1 / 54) حديث رقم (24).
3 سورة التوبة آية : 113.
4 سورة القصص آية : 56.
5 سورة القصص آية : 56.
6 سورة التوبة آية : 113.(12/78)
ص -74- ... الرابعة: أن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال للرجل: "قل لا إله إلا الله" فقبح الله من أبو جهل أعلم منه بأصل الإسلام.
الخامسة: جده صلى الله عليه وسلم ومبالغته في إسلام عمه.
السادسة: الرد على من زعم إسلام عبد المطلب وأسلافه.
السابعة: كونه صلى الله عليه وسلم استغفر له فلم يغفر له بل نهي عن ذلك.
الثامنة: مضرة أصحاب السوء على الإنسان.
التاسعة: مضرة تعظيم الأسلاف والأكابر.
العاشرة: الشبهة للمبطلين في ذلك لاستدلال أبى جهل بذلك.
الحادية عشرة: الشاهد لكون الأعمال بالخواتيم، لأنه لو قالها لنفعته.
الثانية عشرة: التأمل في كبر هذه الشبهة في قلوب الضالين؛ لأن القصة أنهم لم يجادلوه إلا بها مع مبالغته صلى الله عليه وسلم وتكريره، فلأجل عظمتها ووضوحها عندهم اقتصروا عليها.
[التعليق:]
باب: قول الله تعالى:
{إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}1
وهذا الباب أيضا نظير الباب الذي قبله، وذلك أنه إذا كان صلى الله عليه وسلم هو أفضل الخلق على الإطلاق، وأعظمهم عند الله جاها وأقربهم إليه وسيلة، لا يقدر على هداية من أحب هداية التوفيق، وإنما الهداية كلها بيد الله، فهو الذي تفرد بهداية القلوب كما تفرد بخلق المخلوقات فتبين أنه الإله الحق.
وأما قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 2 فالمراد بالهداية هنا: هداية البيان وهو صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله وحيه الذي اهتدى به الخلق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة القصص آية : 56.
2 سورة الشورى آية : 52.(12/79)
ص -75- ... باب من الشرك النذر لغير الله
وقول الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} .
وقوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} .
وفي الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه" .
فيه مسائل:
الأولى: وجوب الوفاء بالنذر.
الثانية: إذا ثبت كونه عبادة لله فصرفه إلى غيره شرك.
الثالثة: أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به.
باب: ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم
هو الغلو في الصالحين
وقول الله - عز وجل-: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ }1 .
وفي الصحيح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قول الله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً ?}2 قال: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم، ففعلوا ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم، عبدت"3 .
وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم 4 .
وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مري،م إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله"أخرجاه 5 .(12/80)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية : 171.
2 سورة نوح آية : 23.
3 رواه البخاري: كتاب التفسير, تفسير سورة نوح باب: (ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق) (4 / 1873) حديث رقم (4636).
4 إغاثة اللهفان (1 / 184).
5 رواه البخاري: كتاب الأنبياء باب قول الله تعالى: (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها) (3 / 1271) حديث رقم (3261). ولم يروه مسلم.(12/81)
ص -76- ... وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو"12 .
ولمسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هلك المتنطعون". قالها ثلاثا"3.
فيه مسائل:
الأولى: أن من فهم هذا الباب وبابين بعده تبين له غربة الإسلام، ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب.
الثانية: معرفة أول شرك حدث على وجه الأرض أنه بشبهة الصالحين.
الثالثة: أول شيء غير به دين الأنبياء، وما سبب ذلك مع معرفة أن الله أرسلهم.
الرابعة: قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تردها.
الخامسة: أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل.
فالأول: محبة الصالحين.
والثاني: فعل أناس من أهل العلم والدين شيئا أرادوا به خيرا، فظن من بعدهم أنهم أرادوا به غيره.
السادسة: تفسير الآية التي في سورة نوح.
السابعة: جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه والباطل يزيد.
الثامنة: فيه شاهد لما نقل عن السلف أن البدع سبب الكفر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي : مناسك الحج (3057).
2 رواه النسائي في (السنن) 5 / 268 (كتاب مناسك الحج) (باب التقاط الحصى). وابن ماجه في (السنن) 2 / 1008 (كتاب المناسك) (باب قدر حصى الرمي) حديث رقم (3029). والإمام أحمد في (المسند) 1 / 215 و 347 ثلاثتهم من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -. قال شيخ الإسلام في (اقتضاء الصراط المستقيم) ص 106: (هذا إسناد صحيح على شرط مسلم). اهـ.
3 رواه مسلم: كتاب العلم باب هلك المتنطعون (4 / 2055) حديث رقم (2670).(12/82)
ص -77- ... التاسعة: معرفة الشيطان بما تئول إليه البدعة ولو حسن قصد الفاعل.
العاشرة: معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو ومعرفة ما يئول إليه.
الحادية عشرة: مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح.
الثانية عشرة: معرفة النهي عن التماثيل والحكمة في إزالتها.
الثالثة عشرة: معرفة شأن هذه القصة وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها.
الرابعة عشرة: - وهي أعجب وأعجب- قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث ومعرفتهم بمعنى الكلام، وكون الله حال بينهم وبين قلوبهم حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح أفضل العبادات، واعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه فهو الكفر المبيح للدم والمال.
الخامسة عشرة: التصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة.
السادسة عشرة: ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك.
السابعة عشرة: البيان العظيم في قوله: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم "فصلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين.
الثامنة عشرة: نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين.
التاسعة عشرة: التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم، ففيها بيان معرفة قدر وجوده ومضرة فقده.
العشرون: أن سبب فقد العلم موت العلماء.
[التعليق:]
باب:
ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين
والغلو: هو مجاوزة الحد بأن يجعل للصالحين من حقوق الله الخاصة به شيء، فإن حق الله الذي لا يشاركه فيه مشارك هو الكمال المطلق والغنى المطلق(12/83)
ص -78- ... والتصرف المطلق، من جميع الوجوه، وأنه لا يستحق العبادة والتأله أحد سواه.
فمن غلا بأحد من المخلوقين حتى جعل له نصيبا من هذه الأشياء، فقد ساوى به رب العالمين، وذلك أعظم الشرك.
ومن رفع أحدا من الصالحين فوق منزلته التي أنزله الله بها فقد غلا فيه، وذلك وسيلة إلى الشرك وترك الدين. والناس في معاملة الصالحين ثلاثة أقسام:
أهل الجفاء الذين يهضمونهم حقوقهم، ولا يقومون بحقهم من الحب والموالاة لهم والتوقير والتبجيل.
وأهل الغلو الذين يرفعونهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله بها.
وأهل الحق الذين يحبونهم ويوالونهم، ويقومون بحقوقهم الحقيقية، ولكنهم يبرءون من الغلو فيهم، وادعاء عصمتهم، والصالحون أيضا يتبرءون من أن يدعوا لأنفسهم حقا من حقوق ربهم الخاصة، كما قال الله عن عيسى صلى الله عليه وسلم: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}1 .
واعلم أن الحقوق ثلاثة:
حق خاص لله لا يشاركه فيه مشارك، وهو التأله له وعبادته وحده لا شريك له، والرغبة والإنابة إليه حبا وخوفا ورجاء.
وحق خاص للرسل، وهو توقيرهم وتبجيلهم والقيام بحقوقهم الخاصة.
وحق مشترك وهو الإيمان بالله ورسله وطاعة الله ورسله ومحبة الله ومحبة رسله، ولكن هذه لله أصلا وللرسل تبعا لحق الله.
فأهل الحق يعرفون الفرقان بين هذه الحقوق الثلاثة، فيقومون بعبودية الله وإخلاص الدين له، ويقومون بحق رسله وأوليائه على اختلاف منازلهم ومراتبهم. والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية : 116.(12/84)
ص -79- ... باب: ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله عند
قبر رجل صالح فكيف إذا عبده ؟
في الصحيح عن عائشة "أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور، فقال: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح- أو العبد الصالح - بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله"1 فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور وفتنة التماثيل.
ولهما2 عنها قالت: "لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها فقال - وهو كذلك -: "لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا"3 أخرجاه.
ولمسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإن الله قد اتخذني خليلا، كما اتخذ إبراهيم خليلا. ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا(12/85)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري: كتاب الصلاة باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد (1 / 165) حديث رقم (417). ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد (1 / 375- 376) حديث رقم (528).
2 رواه البخاري: كتاب الصلاة باب الصلاة في البيعة (1 / 168) حديث رقم (425). ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد (1 / 377) حديث رقم (531) عن عائشة وابن عباس.
3 البخاري : الصلاة (436) , ومسلم : المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي : المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34) , والدارمي : الصلاة (1403).(12/86)
ص -80- ... تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك"1
فقد نهى عنه في آخر حياته، ثم إنه لعن- وهو في السياق- من فعله.
والصلاة عندها من ذلك، وإن لم يبن مسجد، وهو معنى قولها: خشي أن يتخذ مسجدا. فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا، وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدا، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجدا، كما قال صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا"2 .
ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد"ورواه أبو حاتم في صحيحه.3
فيه مسائل:
الأولى: ما ذكر الرسول فيمن بنى مسجدا يعبد الله فيه عند قبر رجل صالح، ولو صحت نية الفاعل.
الثانية: النهي عن التماثيل وغلظ الأمر في ذلك.
الثالثة: العبرة في مبالغته صلى الله عليه وسلم في ذلك. كيف بين لهم هذا أولا، ثم قبل موته بخمس قال ما قال، ثم لما كان في السياق لم يكتف بما تقدم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها (1 / 377, 378) حديث رقم (532).
2 رواه البخاري: كتاب الصلاة, باب قول النبي (: جُعلت لي الأرض مسجدا وطهورا (1 / 168) حديث رقم (427). ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة (1 / 370- 371) حديث رقم (521) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
3 (المسند) 1 / 435. وابن حبان كما في (موارد الظمآن) ص 104 حديث رقم (340) و (341) ولم يسق لفظ الطريق الثاني. قال ابن تيمية (اقتضاء الصراط المستقيم) 2 / 674: (وروى الإمام أحمد في مسنده بإسناد جيد عن عبد الله بن مسعود الحديث).(12/87)
ص -81- ... الرابعة: نهيه عن فعله عند قبره قبل أن يوجد القبر.
الخامسة: أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم.
السادسة: لعنه إياهم على ذلك.
السابعة: أن مراده تحذيره إيانا عن قبره.
الثامنة: العلة في عدم إبراز قبره.
التاسعة: في معنى اتخاذها مسجدا.
العاشرة: أنه قرن بين من اتخذها مسجدا، وبين من تقوم عليهم الساعة، فذكر الذريعة إلى الشرك قبل وقوعه مع خاتمته.
الحادية عشرة: ذكره في خطبته قبل موته بخمس: الرد على الطائفتين اللتين هما أشر أهل البدع، بل أخرجهم بعض أهل العلم من الثنتين والسبعين فرقة، وهما الرافضة والجهمية. وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد.
الثانية عشرة: ما بلي به صلى الله عليه وسلم من شدة النزع.
الثالثة عشرة: مما أكرم به من الخلة.
الرابعة عشرة: التصريح بأنها أعلى من المحبة.
الخامسة عشرة: التصريح بأن الصديق أفضل الصحابة.
السادسة عشرة: الإشارة إلى خلافته.(12/88)
ص -82- ... باب: ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها
أوثانا تعبد من دون الله
روى مالك في الموطأ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"1 .
ولابن جرير2 بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} 3 قال: كان يلت لهم السويق، فمات فعكفوا على قبره.
وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: كان يلت السويق للحاج 4 .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج"5 رواه أهل السنن 6(12/89)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 (الموطأ- مع تنوير الحوالك) 1 / 185- 186 (جامع الصلاة) مرسلا.
2 (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) 27 / 35.
3 سورة النجم آية : 19.
4 رواه البخاري: كتاب التفسير باب (أفرأيتم اللات والعزى) (4 / 1841) حديث رقم (4578).
5 الترمذي : الصلاة (320) , والنسائي : الجنائز (2043) , وأبو داود : الجنائز (3236) , وابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1575) , وأحمد (1/229 ,1/287 ,1/324 ,1/337).
6 رواه أبو داود (السنن) 3 / 558 (كتاب الجنائز) (باب في زيارة النساء القبور) حديث رقم (3236). والترمذي (السنن) 2 / 136- 137 (كتاب الصلاة) (باب ما جاء في كراهية أن يتخذ على القبر مسجدا). حديث رقم (320). وقال: (حديث حسن). اهـ. وتعقبه المنذري في (مختصر سنن أبي داود) 4 / 349 بقوله: (وفيما قاله نظر). ثم حكى أقوال الأئمة في تضعيف أبي صالح باذام- ويقال باذان- مولى أم هانئ بنت أبي طالب. وقال ابن حجر (تقريب التهذيب) 1 / 93 في ترجمته: (ضعيف مدلس). والحديث رواه- أيضا- النسائي (السنن) 4 / 94- 95 (كتاب الجنائز) (باب التغليظ في اتخاذ السرج على القبور). وابن ماجه (السنن) 1 / 502 (كتاب الجنائز) (باب ما جاء في النهي عن زيارة النساء القبور) حديث 1575 دون قوله: (والمتخذين...) من طريق باذام. وقال الألباني: (قد جاء غالب الحديث من طرق أخرى: فلعن زائرات القبور رواه ابن ماجه. ولعن المتخذين على القبور المساجد متواتر عنه (). (سلسلة الأحاديث الضعيفة) 1 / 259 حديث رقم 225.(12/90)
ص -83- ... فيه مسائل:
الأولى: تفسير الأوثان.
الثانية: تفسير العبادة.
الثالثة: أنه صلى الله عليه وسلم لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه.
الرابعة: قرنه بهذا اتخاذ قبور الأنبياء مساجد.
الخامسة: ذكر شدة الغضب من الله.
السادسة: - وهي من أهمها- صفة معرفة عبادة اللات التي هي من أكبر الأوثان.
السابعة: معرفة أنه قبر رجل صالح.
الثامنة: أنه اسم صاحب القبر وذكر معنى التسمية.
التاسعة: لعنه زوارات القبور.
العاشرة: لعنه من أسرجها.
[التعليق:]
باب: ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده ؟
باب: ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله
ما ذكر المصنف في البابين يتضح بذكر تفصيل القول فيما يفعل عند قبور الصالحين وغيرهم.
وذلك أن ما يفعل عندها نوعان: مشروع وممنوع.
أما المشروع فهو ما شرعه الشارع من زيارة القبور على الوجه الشرعي من غير شد رحل، يزورها المسلم متبعا للسنة فيدعو لأهلها عموما، ولأقاربه ومعارفه خصوصا، فيكون محسنا إليهم بالدعاء لهم وطلب العفو والمغفرة والرحمة لهم،(12/91)
ص -84- ... ومحسنا إلى نفسه باتباع السنة وتذكر الآخرة والاعتبار بها والاتعاظ.
أما الممنوع فإنه نوعان:
أحدهما: محرم ووسيلة للشرك كالتمسح بها والتوسل إلى الله بأهلها، والصلاة عندها، وكإسراجها والبناء عليها، والغلو فيها وفي أهلها إذا لم يبلغ رتبة العبادة.
والنوع الثاني: شرك أكبر كدعاء أهل القبور والاستغاثة بهم، وطلب الحوائج الدنيوية والأخروية منهم، فهذا شرك أكبر، وهو عين ما يفعله عباد الأصنام مع أصنامهم.
ولا فرق في هذا بين أن يعتقد الفاعل لذلك أنهم مستقلون في تحصيل مطالبه، أو متوسطون إلى الله، فإن المشركين يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}1. {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّه}2 .
فمن زعم أنه لا يكفر من دعا أهل القبور حتى يعتقد أنهم مستقلون بالنفع ودفع الضرر، وأن من اعتقد أن الله هو الفاعل وأنهم وسائط بين الله وبين من دعاهم واستغاث بهم [لم] يكفر.
من زعم ذلك فقد كذب ما جاء به الكتاب والسنة، وأجمعت عليه الأمة من أن من دعا غير الله فهو مشرك كافر في الحالين المذكورين، سواء اعتقدهم مستقلين أو متوسطين. وهذا معلوم بالضرورة من دين الإسلام.
فعليك بهذا التفصيل الذي يحصل به الفرقان في هذا الباب المهم الذي حصل به من الاضطراب والفتنة ما حصل، ولم ينج من فتنته إلا من عرف الحق واتبعه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية : 3.
2 سورة يونس آية : 18.(12/92)
ص -85- ... باب: ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم
جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك
وقول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}1 .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي؛ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم" رواه أبو داود بإسناد حسن 2 ورواته ثقات.
وعن علي بن الحسين رضي الله عنه أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي فإن تسليمكم يبلغني حيث كنتم" رواه في المختارة 3 .(12/93)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية : 128-129.
2 (السنن) 2 / 534 (كتاب المناسك) (باب في زيارة القبور) حديث رقم (2042) قال شيخ الإسلام ابن تيمية (اقتضاء الصراط المستقيم) ص 321 عقب ذكره للحديث بإسناد أبي داود: (وهذا إسناده حسن؛ فإن رواته كلهم ثقات مشاهير، لكن عبد الله بن نافع الصائغ الفقيه المدني صاحب مالك فيه لين لا يقدح في حديثه). وصحح النووي إسناده في (الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار () ص 106. وفي تصحيح إسناده نظر؛ لأن فيه (عبد الله بن نافع) وهو ابن أبي نافع الصائغ. قال فيه الحافظ ابن حجر (تقريب التهذيب) 1 / 456: (ثقة صحيح الكتاب، وفي حفظه لين).
3 (الأحاديث المختارة) للضياء المقدس 2 / 49 حديث رقم (428) دون قوله (وصلوا عليّ...). وفي إسناده (علي بن عمر) وهو ابن علي بن الحسين). قال ابن حجر (تقريب التهذيب) 2 / 41: (مستور). ونسبه في المطبوع (علي بن عمر بن الحسين وجاء في أصله (تهذيب الكمال) 2 / 986 (علي بن عمر بن علي بن الحسين).(12/94)
ص -86- ... فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية براءة.
الثانية: إبعاده أمته عن هذا الحمى غاية البعد.
الثالثة: ذكر حرصه علينا ورأفته ورحمته.
الرابعة: نهيه عن زيارة قبره على وجه مخصوص، مع أن زيارته من أفضل الأعمال.
الخامسة: نهيه عن الإكثار من الزيارة.
السادسة: حثه على النافلة في البيت.
السابعة: أنه متقرر عندهم أنه لا يصلي في المقبرة.
الثامنة: تعليل ذلك بأن صلاة الرجل وسلامه عليه يبلغه وإن بعد، فلا حاجة إلى ما يتوهمه من أراد القرب.
التاسعة: كونه صلى الله عليه وسلم في البرزخ تعرض أعمال أمته في الصلاة والسلام عليه.
[التعليق:]
باب: ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك
من تأمل نصوص الكتاب والسنة في هذا الباب، رأى نصوصا كثيرة تحث على القيام بكل ما يقوي التوحيد وينميه ويغذيه، من الحث على الإنابة إلى الله وانحصار تعلق القلب بالله رغبة ورهبة، وقوة الطمع في فضله وإحسانه والسعي لتحصيل ذلك، وإلى التحرر من رق المخلوقين وعدم التعلق بهم بوجه من الوجوه، أو الغلو في أحد منهم، والقيام التام بالأعمال الظاهرة والباطنة، وتكميلها وخصوصا حث النصوص على روح العبودية وهو الإخلاص التام لله وحده.
ثم في مقابلة ذلك نهى عن أقوال وأفعال فيها الغلو بالمخلوقين، ونهى عن التشبه بالمشركين؛ لأنه يدعو إلى الميل إليهم.(12/95)
ص -87- ... ونهى عن أقوال وأفعال يخشى أن يتوصل بها إلى الشرك، كل ذلك حماية للتوحيد.
ونهى عن كل سبب يوصل إلى الشرك، وذلك رحمة بالمؤمنين ليتحققوا بالقيام بما خلقوا له من عبودية الله الظاهرة والباطنة وتكميلها، لتكمل لهم السعادة والفلاح.
وشواهد هذه الأمور كثيرة معروفة.(12/96)
ص -88- ... باب: ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان
وقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً}1 .
وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ}2 .
وقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً}3 .
عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله: اليهود والنصارى ؟ قال: "فمن ؟" أخرجاه 4 .
ولمسلم عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية : 51.
2 سورة المائدة آية : 60.
3 سورة الكهف آية : 21.
4 رواه البخاري, كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة, باب قول النبي (: لتتبعن سنن من كان قبلكم (6 / 2669) حديث رقم (6889). ومسلم: كتاب العلم, باب اتباع سنن اليهود والنصارى (4 / 2054) حديث رقم (2669).(12/97)
ص -89- ... بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد، إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة، وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا"1.
ورواه البرقاني في صحيحه، وزاد: "وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى"2 .
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النساء.
الثانية: تفسير آية المائدة.
الثالثة: تفسير آية الكهف.
الرابعة: - وهي أهمها-: ما معنى الإيمان بالجبت والطاغوت في هذا الموضع ؟ هو اعتقاد قلب ؟ أو هو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها ؟.
الخامسة: قولهم: إن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدى سبيلا من المؤمنين.
السادسة: - وهي المقصود بالترجمة- أن هذا لا بد أن يوجد في هذه الأمة كما تقرر في حديث أبي سعيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة, باب هلاك الأمة بعضهم ببعض (4 / 2215) حديث رقم (2889).
2 هذه الزيادة رواها من حديث ثوبان مولى رسول الله ( أبو داود: (السنن) 4 / 451- 452 (باب في ذكر الفتن ودلائلها) حديث رقم (4252). وابن ماجه: (السنن) 2 / 1304 (كتاب الفتن) (باب ما يكون في الفتن) حديث رقم (3952). والإمام أحمد (المسند) 5 / 278 و 284. والحديث سكت عنه أبو داود ثم المنذري في (مختصر سنن أبي داود) 6 / 136- 138.(12/98)
ص -90- ... السابعة: تصريحه بوقوعها: أعني عبادة الأوثان في هذه الأمة في جموع كثيرة.
الثامنة: العجب العجاب: خروج من يدعي النبوة مثل المختار مع تكلمه بالشهادتين وتصريحه بأنه من هذه الأمة، وأن الرسول حق، وأن القرآن حق، وفيه أن محمدا خاتم النبيين، ومع هذا يصدق في هذا كله مع التضاد الواضح، وقد خرج المختار في آخر عصر الصحابة وتبعه فئام كثيرة.
التاسعة: البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة.
العاشرة: الآية العظمى: أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم.
الحادية عشرة: أن ذلك الشرط إلى قيام الساعة.
الثانية عشرة: ما فيه من الآيات العظيمة منها: إخباره بأن الله زوى له المشارق والمغارب، وأخبر بمعنى ذلك فوقع كما أخبر بخلاف الجنوب والشمال.
وإخباره بأنه أعطي الكنزين.
وإخباره بإجابة دعوته لأمته في الاثنتين.
وإخباره بأنه منع الثالثة.
وإخباره بوقوع السيف، وأنه لا يرفع إذا وقع.
وإخباره بإهلاك بعضهم بعضا، وسبي بعضهم بعضا، وخوفه على أمته من الأئمة المضلين.
وإخباره بظهور المتنبئين في هذه الأمة.
وإخباره ببقاء الطائفة المنصورة.
وكل هذا وقع كما أخبر، مع أن كل واحدة منها من أبعد ما يكون في العقول.(12/99)
ص -91- ... الثالثة عشرة: حصر الخوف على أمته من الأئمة المضلين.
الرابعة عشرة: التنبيه على معنى عبادة الأوثان.
[التعليق:]
باب: ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان
مقصود هذه الترجمة الحذر من الشرك والخوف منه، وأنه أمر واقع في هذه الأمة لا محالة، والرد على من زعم أن من قال: لا إله إلا الله، وتسمى بالإسلام أنه يبقى على إسلامه ولو فعل ما ينافيه من الاستغاثة بأهل القبور ودعائهم، وسمى ذلك توسلا لا عبادة فإن هذا باطل.
فإن الوثن اسم جامع لكل ما عبد من دون الله لا فرق بين الأشجار والأحجار والأبنية، ولا بين الأنبياء والصالحين والطالحين في هذا الموضع- وهو العبادة- فإنها حق الله وحده، فمن دعا غير الله أو عبده فقد اتخذه وثنا وخرج بذلك عن الدين، ولم ينفعه انتسابه إلى الإسلام، فكم انتسب إلى الإسلام من مشرك وملحد وكافر ومنافق، والعبرة بروح الدين وحقيقته لا بمجرد الأسامي والألفاظ التي لا حقيقة لها.(12/100)
ص -92- ... باب ما جاء في السحر
وقول الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} 1 .
وقوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 2 قال عمر: الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان3 . وقال جابر: "الطواغيت كهان كان ينزل عليهم الشيطان، في كل حي واحد".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات". قالوا: يا رسول الله وما هن ؟ قال: "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات"4 .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 102.
2 سورة النساء آية : 51.
3 رواه البخاري (الصحيح) 4 / 1673 (كتاب التفسير) (باب وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط) [سورة المائدة: 6] معلقا. قال ابن حجر (فتح الباري) 8 / 252: (وصله عبد بن حميد في تفسيره, ومسدد في مسنده, وعبد الرحمن بن رستة في كتاب الإيمان... وإسناده قوي). اهـ.
4 رواه البخاري: كتاب الوصايا باب قول الله تعالى (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) (3 / 1017, 1018) حديث رقم (2615). ومسلم: كتاب الإيمان باب بيان الكبائر وأكبرها (1 / 92) حديث رقم (89).(12/101)
ص -93- ... وعن جندب مرفوعا: "حد الساحر ضربه بالسيف"رواه الترمذي. وقال: الصحيح أنه موقوف.1 وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة قال: "كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن اقتلوا كل ساحر وساحرة. قال: فقتلنا ثلاث سواحر2". وصح "عن حفصة رضي الله عنها أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها، فقتلت3"وكذلك صح عن جندب4 .
قال أحمد: عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية البقرة.
الثانية: تفسير آية النساء.
الثالثة: تفسير الجبت والطاغوت والفرق بينهما.(12/102)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 (سنن الترمذي) 4 / 60 (كتاب الحدود) (باب ما جاء في حد السحر) حديث رقم (1460) وقال: (هذا حديث لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه, وإسماعيل بن مسلم المكي يضعف في الحديث... والصحيح عن جندب موقوف). وضعف المرفوع- أيضا- الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) 10 / 236 وقال: (في سنده ضعف). اهـ.
2 رواه البخاري: كتاب فرض الخمس باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب (3 / 1151) حديث رقم (2987). لكن لم يذكر قتل السواحر. أما الحديث بلفظه فقد رواه أحمد (1 / 190 - 191). وأبو داود: كتاب الخراج والإمارة والفيء باب في أخذ الجزية من المجوس (3 / 431) حديث رقم (3043), وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2624).
3 رواه البيهقي (السنن الكبرى) 8 / 136 (كتاب القسامة) (باب تكفير الساحر وقتله إن كان ما يسحر به كلام كفر صريح).
4 قال البخاري (التاريخ الكبير) 2 / 221 في ترجمة (جندب بن كعب): (قاتل الساحر). ثم روى بسنده قال: حدثنا إسحاق حدثنا خالد الواسطي عن خالد الحذاء عن أبي عثمان كان عند الوليد رجل يلعب، فذبح إنسانا وأبان رأسه فعجبنا, فأعاد رأسه فجاء جندب الأزدي فقتله. وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات. ورواه- أيضا- البيهقي (السنن الكبرى) 8 / 136 (كتاب القسامة) (باب تكفير الساحر وقتله إن كان ما يسحر به كلام كفر صريح).(12/103)
ص -94- ... الرابعة: أن الطاغوت قد يكون من الجن وقد يكون من الإنس.
الخامسة: معرفة السبع الموبقات المخصوصات بالنهي.
السادسة: أن الساحر يكفر.
السابعة: أنه يقتل ولا يستتاب.
الثامنة: وجود هذا في المسلمين على عهد عمر فكيف بعده ؟.(12/104)
ص -95- ... باب بيان شيء من أنواع السحر
قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف عن حيان بن العلاء، حدثنا قطن بن قبيصة عن أبيه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت".
قال عوف: العيافة: زجر الطير. والطرق: الخط يخط بالأرض. والجبت: قال الحسن: إنه الشيطان. إسناده جيد. ولأبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه المسند منه1 .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد" رواه أبو داود وإسناده صحيح2 .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه الإمام أحمد (المسند) 3 / 477 و 5 / 60 كما ذكر المؤلف, وأبو داود في (السنن) 4 / 228 (كتاب الطب) (باب في الخط وزجر الطير) حديث رقم (3907), والنسائي في (الكبرى) في (كتاب التفسير) كما في (تحفة الأشراف) 8 / 275 وابن حبان (موارد الظمآن) ص 345 حديث رقم (1426). قال النووي (رياض الصالحين) ص 591 حديث رقم (1678): (رواه أبو داود بإسناد حسن). وضعفه بالاضطراب الألباني في (غاية المرام في تخريج الحلال والحرام) ص 184 لاختلاف الرواة في إسناده عن عوف- وهو ابن أبي جميلة- حيث قال بعضهم: (حيان) لم ينسبه. وقال بعضهم: (حيان أبي العلاء). وقال بعضهم: (حيان بن العلاء). وقال بعضهم: (حبان بن مخارق أبي يعلى).
2(السنن) 4 / 226 (كتاب الطب) (باب في النجوم) حديث رقم (3905) ولفظه: (من اقتبس علما من النجوم) ولم يقل (شعبة). ورواه- أيضا- ابن ماجه (السنن) 2 / 1228 (كتاب الأدب) (باب تعلم النجوم). قال النووي (رياض الصالحين) ص 591 حديث رقم (1679): (رواه أبو داود بإسناد صحيح). وقال مثله الذهبي كما عزاه إليه المناوي في (فيض القدير) 6 / 80. وذكر أنه في (الكبائر), وقد ذكر الإمام الذهبي هذا الحديث في (الكبائر) في (الكبيرة السادسة والأربعون) ولم أقف(12/105)
على ما نسبه إليه المناوي - رحمه الله -.(12/106)
ص -96- ... وللنسائي من حديث أبي هريرة: "من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئا وُكِلَ إليه"1. وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا هل أنبئكم ما العضه ؟ هي النميمة: القالة بين الناس" رواه مسلم2. ولهما عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن من البيان لسحرا"3.
فيه مسائل:
الأولى: أن العيافة والطرق والطيرة من الجبت.
الثانية: تفسير العيافة والطرق.
الثالثة: أن علم النجوم نوع من أنواع السحر.
الرابعة: أن العقد مع النفث من ذلك.
الخامسة: أن النميمة من ذلك.
السادسة: أن من ذلك بعض الفصاحة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 (السنن) 7 / 112 (كتاب تحريم الدم) (الحكم في السحرة) حديث رقم (4079). قال الذهبي (ميزان الاعتدال) 2 / 378: (هذا الحديث لا يصح للين عباد وانقطاعه). يريد بالانقطاع رواية الحسن له عن أبي هريرة, ولقوله: (من تعلق شيئا وكل إليه). شاهد من حديث عبد الله بن عكيم يرتقي به المنزلة الحسن لغيره، وقد تقدم (باب ما جاء في الرقى والتمائم).
2 رواه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب, باب تحريم النميمة (4 / 2012) حديث رقم (2606) وزاد فيه: (وأن محمدا ( قال: أن الرجل يصدق حتى يكتب عند الله صديقا, ويكذب حتى يكتب كذابا).
3 رواه البخاري: كتاب النكاح باب الخطبة (5 / 1976) حديث رقم (4851) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -. ومسلم: كتاب الجمعة باب تخفيف الصلاة والخطبة (2 / 594) حديث رقم: (869) عن عمار بن ياسر رضي الله عنه.(12/107)
ص -97- ... [التعليق:]
باب: السحر
وباب: شيء من أنواع السحر
وجه إدخال السحر في أبواب التوحيد أن كثيرا من أقسامه لا يتأتى إلا بالشرك، والتوسل بالأرواح الشيطانية إلى مقاصد الساحر، فلا يتم للعبد توحيد حتى يدع السحر كله قليله وكثيره. ولهذا قرنه الشارع بالشرك، فالسحر يدخل في الشرك من جهتين: من جهة ما فيه من استخدام الشياطين ومن التعلق بهم، وربما تقرب إليهم بما يحبون ليقوموا بخدمته ومطلوبه. ومن جهة ما فيه من دعوى علم الغيب، ودعوى مشاركة الله في علمه وسلوك الطرق المفضية إلى ذلك، وذلك من شعب الشرك والكفر.
وفيه أيضا من التصرفات المحرمة والأفعال القبيحة كالقتل والتفريق بين المتحابين والصرف والعطف والسعي في تغيير العقول، وهذا من أفظع المحرمات، وذلك من الشرك ووسائله، ولذلك تعين قتل الساحر لشدة مضرته وإفساده. ومن أنواعه الواقعة في كثير من الناس النميمة، لمشاركتها للسحر في التفريق بين الناس، وتغيير قلوب المتحابين وتلقيح الشرور. فالسحر أنواع ودركات بعضها أقبح وأسفل من بعض.(12/108)
ص -98- ... باب ما جاء في الكهان ونحوهم
روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه، لم تقبل له صلاة أربعين يوما1". وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" رواه أبو داود2.
وللأربعة والحاكم، وقال: صحيح على شرطهما، عن:3 "من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم4". ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه مسلم: كتاب السلام باب تحريم الكهانة وإتيان الكهَّان (4 / 1751) حديث رقم: (2230). دون زيادة لفظة: "فصدقه". وهي عند أحمد (4 / 68) (5 / 380).
2 (السنن) 4 / 225 (كتاب الطب) (باب في الكاهن) حديث رقم (3904). قال الترمذي (السنن) 1 / 242 حديث (135): (وضعف محمد هذا الحديث من قبل إسناده). وقال المناوي (فيض القدير) 6 / 24: (قال البغوي: سنده ضعيف. وهو كما قال. وقال ابن سيد الناس: فيه أربع علل: التفرد عن غير ثقة وهو موجب للضعف, وضعف رواته, والانقطاع, ونكارة متنه. وأطال في بيانه. وقال الذهبي في (الكبائر) ليس إسناده بالقائم... وقال البخاري: لا يعرف لأبي تميمة سماع من أبي هريرة). اهـ.
3 قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في "فتح المجيد"ص 256: (هكذا بيض المصنف لاسم الراوي, وقد رواه أحمد والبيهقي والحاكم عن أبي هريرة مرفوعا).
4 ليس هو عند الأربعة بلفظ: (من أتى عرافا أو كاهنا)، وإنما رووه بلفظ: (من أتى كاهنا) فقط دون ذكر العراف. ولفظ المؤلف رواه الحاكم- كما قال- (المستدرك) 1 / 88 وقال: (هذا حديث صحيح على شرطهما جميعا من حديث ابن سيرين ولم يخرجاه). وقال الذهبي: (على شرطهما). وقال المناوي (فيض القدير) 6 / 23: (قال الحافظ(12/109)
العراقي في أماليه: حديث صحيح, ورواه عنه البيهقي في (السنن) 8 / 135. فقال الذهبي: إسناده قوي). اهـ.(12/110)
ص -99- ... وعن عمران بن حصين مرفوعا: "ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له، ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" رواه البزار بإسناد جيد1. ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله: "ومن أتى" إلى آخره2.
قال البغوي: العراف: الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك. وقيل: هو الكاهن.
والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل. وقيل: الذي يخبر عما في الضمير. وقال أبو العباس ابن تيمية: العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم، ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق. وقال ابن عباس - في قوم يكتبون أبا جاد وينظرون في النجوم-: "ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق"3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه الطبراني (المعجم الكبير) 10 / 93 حديث رقم (10005). قال الهيثمي (مجمع الزوائد) 5 / 118: (رجال الكبير والبزار ثقات). وقال المنذري (الترغيب والترهيب) 4 / 36: (رواه البزار وأبو يعلى بإسناد جيد موقوفا). ولم أقف عليه في (كشف الأستار عن زوائد البزار) للهيثمي (كتاب الطب) منه.
2 كما في (كشف الأستار) 3 / 399- 400 (كتاب الطب) (باب الطيرة والكهانة والسحر) حديث رقم (3044) من طريق شيبان عن أبي حمزة العطار عن الحسن عن عمران بن حصين مرفوعا، وزاد فيه: (ومن عقد عقدة أو قال عُقد عُقدة). قال البزار: (قد روى بعضه من غير وجه، فأما بتمامه ولفظه فلا نعلمه إلا عن عمران بهذا الطريق, وأبو حمزة بصري لا بأس به). وقال الهيثمي (مجمع الزوائد) 5 / 117: (رواه البزار ورجاله رجال الصحيح خلا إسحاق بن الربيع وهو ثقة). اهـ. ورواه- أيضا- البزار كما في (كشف الأستار) 3 / 339 (كتاب الطب) (باب الطيرة والكهانة والسحر). حديث رقم (3043) من طريق زمعة عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن ابن(12/111)
عباس مرفوعا نحوه. قال البزار: (لا نعلمه يروي عن النبي ( إلا من هذا الوجه). قال الهيثمي (مجمع الزوائد) 5 / 117: (فيه زمعة بن صالح وهو ضعيف). اهـ.
3 رواه عبد الرزاق (المصنف) 11 / 26 حديث رقم (19805) نحوه.(12/112)
ص -100- ... فيه مسائل:
الأولى: أنه لا يجتمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن.
الثانية: التصريح بأنه كفر.
الثالثة: ذكر من تكهن له.
الرابعة: ذكر من تطير له.
الخامسة: ذكر من سحر له.
السادسة: ذكر من تعلم أبا جاد.
السابعة: ذكر الفرق بين الكاهن والعراف.
[التعليق:]
باب: ما جاء في الكهان ونحوهم
أي من كل من يدعي علم الغيب بأي طريق من الطرق. وذلك أن الله تعالى هو المنفرد بعلم الغيب، فمن ادعى مشاركة الله في شيء من ذلك بكهانة أو عرافة أو غيرهما، أو صدق من ادعى ذلك، فقد جعل لله شريكا فيما هو من خصائصه، وقد كذب الله ورسوله. وكثير من الكهانة المتعلقة بالشياطين لا تخلو من الشرك، والتقرب إلى الوسائط التي تستعين بها على دعوى العلوم الغيبية، فهو شرك من جهة دعوى مشاركة الله في علمه الذي اختص به، ومن جهة التقرب إلى غير الله. وفيه إبعاد الشارع للخلق عن الخرافات المفسدة للأديان والعقول.(12/113)
ص -101- ... باب ما جاء في النشرة
عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة فقال: "هي من عمل الشيطان"1. رواه أحمد بسند جيد، وأبو داود وقال: سئل أحمد عنها فقال: ابن مسعود يكره هذا كله. وفي البخاري2 عن قتادة: قلت لابن المسيب: "رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته، أتحل عنه أو ينشر ؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه"ا هـ.
وروي عن الحسن أنه قال: "لا يحل السحر إلا ساحر". قال ابن القيم: "النشرة حل السحر عن المسحور، وهي نوعان: أحدهما: حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمل قول الحسن، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور. والثاني: النشرة بالرؤية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة فهذا جائز".
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن النشرة.
الثانية: الفرق بين المنهي عنه والمرخص فيه، مما يزيل الإشكال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 (المسند) 3 /294. و(سنن أبي داود) 4 /201 (كتاب الطب) (باب في النشرة) حديث رقم (3868). وإسناده حسن لأجل (عقيل بن معقل) وهو ابن منبه اليماني ابن أخي وهب قال ابن حجر (تقريب التهذيب) 2 /29: (صدوق).
2 (الصحيح) 5 /2175 (كتاب الطب) (باب هل يستخرج السحر, وقال قتادة: قلت لسعيد بن المسيب: رجل به طب... فذكره معلقا. قال ابن حجر (تغليق التغليق) 5 /49): (وصله الطبري في "تهذيب الآثار"، إسناده صحيح). اهـ. وكذا وصله ابن عبد البر في (التمهيد) وصحح ابن حجر إسناده أيضا.(12/114)
ص -102- ... [التعليق:]
باب: النشرة
وهو حل السحر عن المسحور، ذكر فيه المصنف كلام ابن القيم في التفصيل بين الجائز منه والممنوع، وفيه كفاية.(12/115)
ص -103- ... باب ما جاء في التطير
وقول الله تعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}1.
وقوله: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}2 عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر" أخرجاه.3 زاد مسلم: "ولا نوء، ولا غول"4. ولهما عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى، ولا طيرة، ويعجبني الفأل. قالوا: وما الفأل ؟ قال: الكلمة الطيبة"5 ولأبي داود بسند صحيح، عن عروة بن عامر، قال: "ذُكِرَت الطِّيَرَة ُعند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أحسنها الفأل، ولا ترد مسلما، فإذا رأى أحدكم ما يكره،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 131.
2 سورة يس آية : 19.
3 رواه البخاري: كتاب الطب, باب لا هامة ولا صفر (5 /2171-2172) حديث رقم (5425). ومسلم: كتاب السلام باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر (4 /1742) حديث رقم (2220).
4 رواه مسلم: كتاب السلام باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء ولا غول (4 /1744) حديث رقم (2220) و(2222) قوله: (لا نوء) من حديث أبي هريرة, وقوله: (لا غول) من حديث جابر.
5 رواه البخاري: كتاب الطب باب لا عدوى (5 /2178) حديث رقم: (5440). ومسلم: كتاب السلام باب الطيرة والفأل وما يكون فيه من الشؤم (4 /1746) من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - برقم (2224).(12/116)
ص -104- ... فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك"1 .
وله من حديث ابن مسعود مرفوعا: "الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا... ولكن الله يذهبه بالتوكل" رواه أبو داود والترمذي وصححه2. وجعل آخره من قول ابن مسعود. ولأحمد من حديث ابن عمرو: "من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك. قالوا: فما كفارة ذلك ؟ قال: أن يقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طلبك، ولا إله غيرك"3 .(12/117)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 (السنن) 4 /235 (كتاب الطب) (باب في الطيرة) حديث رقم (3919) قال المنذري (مختصر سنن أبي داود) 5 /379: (عروة- هذا- قيل فيه القرشي وقيل فيه: الجهني حكاهما البخاري. وقال أبو القاسم الدمشقي: ولا صحبة له تصح. وذكر البخاري وغيره أنه سمع من ابن عباس, فعلى هذا يكون الحديث مرسلا). وقال ابن حجر (تهذيب التهذيب) 7 /185: (عروة بن عامر القرشي, ويقال: الجهني روى عن النبي ( مرسلا في الطيرة). وقال: (أثبت غير واحد له صحبة, وشك فيه بعضهم, وروايته عن بعض الصحابة لا تمنع أن يكون صحابيا, والظاهر أن رواية حبيب عنه منقطعة). قلت: وهذا الحديث من رواية حبيب - وهو ابن أبي ثابت – عنه. وانظر - أيضا - (الإصابة في تمييز الصحابة) 6 /415 في ترجمة (عروة بن عامر).
2 (سنن أبي داود) 4 /230 (كتاب الطب) (باب في الطيرة) حديث رقم (3910) و (سنن الترمذي) 4 /161 (كتاب السير) (باب ما جاء في الطيرة) حديث رقم (1614). وقال: (هذا حديث حسن صحيح). اهـ. وقال - أيضا-: (سمعت محمد بن إسماعيل يقول: كان سليمان بن حرب يقول في هذا الحديث: وما منا ولكن الله يذهبه بالتوكل. قال سليمان: هذا عندي من قول عبد الله بن مسعود: وما منا). اهـ.
3 (المسند) 2 /220 من طريق حسن ثنا ابن لهيعة أنا ابن هبيرة عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو مرفوعا... الحديث. وإسناده ضعيف لأجل ابن لهيعة. قال ابن حجر (تقريب التهذيب) 1 /444: (صدوق خلط بعد احتراق كتبه ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه أعدل من غيرهما). وهذا من رواية الحسن بن موسى الأشيب عنه.(12/118)
ص -105- ... وله من حديث الفضل بن عباس: "إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك"1
فيه مسائل:
الأولى: التنبيه على قوله: {إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ}2 مع قوله {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ}
الثانية: نفي العدوى.
الثالثة: نفي الطيرة.
الرابعة: نفي الهامة.
الخامسة: نفي الصفر.
السادسة: أن الفأل ليس من ذلك، بل مستحب.
السابعة: تفسير الفأل.
الثامنة: أن الواقع في القلوب من ذلك مع كراهته لا يضر، بل يذهبه الله بالتوكل.
التاسعة: ذكر ما يقول من وجده.
العاشرة: التصريح بأن الطيرة شرك.
الحادية عشرة: تفسير الطيرة المذمومة.
[التعليق:]
باب: الطيرة
وهو التشاؤم بالطيور والأسماء والألفاظ والبقاع وغيرها، فنهى الشارع عن التطير وذم المتطيرين، وكان يحب الفأل ويكره الطيرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 (المسند) 1 /213 من طريق حماد بن خالد ثنا ابن علاثة عن مسلمة الجهني قال: سمعته يحدث عن الفضل بن عباس قال: خرجت مع رسول الله ( يوما... وفي آخره: إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك. و(ابن علاثة) هو محمد بن عبد الله بن علاثة. قال ابن حجر (تقريب التهذيب) 2 /179: (صدوق يخطئ). اهـ.
2 سورة الأعراف آية : 131.(12/119)
ص -106- ... والفرق بينهما: أن الفأل الحسن لا يخل بعقيدة الإنسان ولا بعقله، وليس فيه تعليق القلب بغير الله، بل فيه من المصلحة: النشاط والسرور وتقوية النفوس على المطالب النافعة.
وصفة ذلك أن يعزم العبد على سفر أو زواج أو عقد من العقود، أو على حالة من الأحوال المهمة ثم يرى في تلك الحال ما يسره، أو يسمع كلاما يسره مثل يا راشد أو سالم أو غانم، فيتفاءل ويزداد طمعه في تيسير ذلك الأمر الذي عزم عليه، فهذا كله خير وآثاره خير، وليس فيه من المحاذير شيء. وأما الطيرة فإنه إذا عزم على فعل شيء من ذلك من الأمور النافعة في الدين أو في الدنيا، فيرى أو يسمع ما يكره أثر في قلبه أحد أمرين، أحدهما أعظم من الآخر:
أحدهما: أن يستجيب لذلك الداعي فيترك ما كان عازما على فعله أو بالعكس، فيتطير بذلك وينكص عن الأمر الذي كان عازما عليه، فهذا كما ترى قد علق قلبه بذلك المكروه غاية التعليق وعمل عليه، وتصرف ذلك المكروه في إرادته وعزمه وعمله، فلا شك أنه على هذا الوجه أثر على إيمانه وأخل بتوحيده وتوكله، ثم بعد هذا لا تسأل عما يحدثه له هذا الأمر من ضعف القلب ووهنه وخوفه من المخلوقي،ن وتعلقه بالأسباب وبأمور ليست أسبابا، وانقطاع قلبه من تعلقه بالله، وهذا من ضعف التوحيد والتوكل، ومن طرق الشرك ووسائله، ومن الخرافات المفسدة للعقل.
الأمر الثاني: أن لا يستجيب لذلك الداعي، ولكنه يؤثر في قلبه حزنا وهما وغما، فهذا وإن كان دون الأول لكنه شر وضرر على العبد، وضعف لقلبه وموهن لتوكله، وربما أصابه مكروه فظن أنه من ذلك الأمر فقوي تطيره، وربما تدرج إلى الأمر الأول.
فهذا التفصيل يبين لك وجه كراهة الشارع للطيرة وذمها، ووجه منافاتها للتوحيد والتوكل. وينبغي لمن وجد شيئا من ذلك، وخاف أن تغلبه الدواعي الطبيعية أن يجاهد نفسه على دفعها ويستعين الله على ذلك، ولا يركن إليها بوجه ليندفع الشر عنه.(12/120)
ص -107- ... باب ما جاء في التنجيم
قال البخاري في صحيحه1: قال قتادة: "خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها. فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به" انتهى. وكره قتادة تعلم منازل القمر، ولم يرخص ابن عيينة فيه، ذكره حرب عنهما. ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق. وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر" رواه أحمد وابن حبان في صحيحه2.
فيه مسائل:
الأولى: الحكمة في خلق النجوم.
الثانية: الرد على من زعم غير ذلك.
الثالثة: ذكر الخلاف في تعلم المنازل.
الرابعة: الوعيد فيمن صدَّق بشيء من السحر، ولو عرف أنه باطل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري معلقا. كتاب بدء الخلق، باب في النجوم (3/1168 – 1169).
2 (المسند) 4 / 399 و(موارد الظمآن) ص 335 حديث رقم (1380) و (1381). قال الهيثمي (مجمع الزوائد) 5 / 74: (رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني, ورجال أحمد وأبي يعلى ثقات). اهـ ورواه- أيضا- الحاكم (المستدرك) 4 / 146 وقال: (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه). وقال الذهبي: (صحيح). اهـ. وفي تصحيح إسناده نظر؛ لأن فيه (أبا حريز) وهو عبد الله بن الحسين ألأزدي. قال الذهبي (ميزان الاعتدال) 2 / 406: (فيه شيء). وقال المزي (تهذيب الكمال) 2 / 675: (استشهد به البخاري في الصحيح وروى له في الأدب). وقال ابن حجر (هدي الساري) ص 457: (وثقه أبو زرعة واختلف فيه قول يحيى بن معين, وضعفه النسائي). اهـ.(12/121)
ص -108- ... [التعليق:]
باب: ما جاء في التنجيم
التنجيم نوعان:
نوع يسمى علم التأثير: وهو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الكونية، فهذا باطل ودعوى لمشاركة الله في علم الغيب الذي انفرد به، أو تصديق لمن ادعى ذلك، وهذا ينافي التوحيد لما فيه من هذه الدعوى الباطلة، ولما فيه من تعلق القلب بغير الله، ولما فيه من فساد العقل لأن سلوك الطرق الباطلة وتصديقها من مفسدات العقول والأديان.
النوع الثاني: علم التسيير: وهو الاستدلال بالشمس والقمر والكواكب على القبلة والأوقات والجهات، فهذا النوع لا بأس به، بل كثير منه نافع قد حث عليه الشارع، إذا كان وسيلة إلى معرفة أوقات العبادات، أو إلى الاهتداء به في الجهات. فيجب التفريق بين ما نهى عنه الشارع وحرمه، وبين ما أباحه أو استحبه أو أوجبه، فالأول هو المنافي للتوحيد دون الثاني.(12/122)
ص -109- ... باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء
وقول الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ }1 وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة". وقال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب" رواه مسلم2. ولهما عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال: "صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم ؟. قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب"3 .
ولهما4 من حديث ابن عباس معناه. وفيه: قال بعضهم: لقد صدق(12/123)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الواقعة آية : 82.
2 رواه مسلم: كتاب الجنائز، باب التشديد في النياحة (2 / 644) حديث رقم (934).
3 رواه البخاري: كتاب الاستسقاء باب قول الله تعالى : ( وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) (1 / 351) حديث رقم (991). ومسلم: كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء (1/ 83 - 84) حديث رقم (71).
4 رواه مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء (1 / 84) حديث رقم (73) ولفظه: عن ابن عباس قال: مطر الناس على عهد النبي (. فقال النبي (: "أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر. قالوا: هذه رحمة الله . وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا" قال: فنزلت هذه الآية: {فلا أقسم بمواقع النجوم} حتى بلغ (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) الواقعة آية (75- 82). والحديث رواه مسلم ولم يروه البخاري كما عزاه المؤلف - رحمه الله -. ولم يعزه المزي في (تحفة الأشراف) 4 / 469 حديث رقم (5672) للبخاري.(12/124)
ص -110- ... نوء كذا وكذا، فأنزل الله هذه الآية: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ? وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ ?إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ? فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ? لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُون َ? تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ?أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ? وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ }1 .
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الواقعة.
الثانية: ذكر الأربع التي من أمر الجاهلية.
الثالثة: ذكر الكفر في بعضها.
الرابعة: أن من الكفر ما لا يخرج عن الملة.
الخامسة: قوله: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر" بسبب نزول النعمة.
السادسة: التفطن للإيمان في هذا الموضع.
السابعة: التفطن للكفر في هذا الموضع.
الثامنة: التفطن لقوله: "لقد صدق نوء كذا وكذا".
التاسعة: إخراج العالم للمتعلم المسألة بالاستفهام عنها لقوله: "أتدرون ماذا قال ربكم؟"
العاشرة: وعيد النائحة.
[التعليق:]
باب: الاستسقاء بالنجوم
لما كان من التوحيد الاعتراف لله بتفرده بالنعم ودفع النقم، وإضافتها إليه قولا واعترافا، واستعانة بها على طاعته كان قول القائل: مطرنا بنوء كذا وكذا، ينافي هذا المقصود أشد المنافاة لإضافة المطر إلى النوء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الواقعة آية : 75-82.(12/125)
ص -111- ... والواجب إضافة المطر وغيره من النعم إلى الله، فإنه الذي تفضل بها على عباده. ثم الأنواء ليست من الأسباب لنزول المطر بوجه من الوجوه، وإنما السبب عناية المولى ورحمته وحاجة العباد وسؤالهم لربهم بلسان الحال ولسان المقال، فينزل عليهم الغيث بحكمته ورحمته في الوقت المناسب لحاجتهم وضرورتهم. فلا يتم توحيد العبد حتى يعترف بنعم الله الظاهرة والباطنة عليه وعلى جميع الخلق، ويضيفها إليه ويستعين بها على عبادته وذكره وشكره. وهذا الموضع من محققات التوحيد، وبه يعرف كامل الإيمان وناقصه.(12/126)
ص -112- ... باب
قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}1
وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ }2 عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين" أخرجاه3.
ولهما عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار"4. وفي رواية: "لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله"إلى آخره5.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 165.
2 سورة التوبة آية : 24.
3 رواه البخاري: كتاب الإيمان باب حب الرسول ( من الإيمان (1 /14) حديث رقم (15). ومسلم: كتاب الإيمان باب وجوب محبة رسول الله ( أكثر من الأهل والولد والوالد والناس أجمعين (1 /67) حديث رقم (44).
4 رواه البخاري: كتاب الإيمان, باب حلاوة الإيمان (1 /14) حديث رقم (16). ومسلم: كتاب الإيمان باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان (1 /66) حديث رقم (43).
5 رواه البخاري: كتاب الأدب باب الحب في الله (5 /2246) حديث رقم (5694). وتمامه: "وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله, وحتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما".(12/127)
ص -113- ... وعن ابن عباس قال: "من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان- وإن كثرت صلاته وصومه- حتى يكون كذلك. وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئا" رواه ابن جرير1. وقال ابن عباس في قوله: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} 2 قال: المودة3.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية البقرة.
الثانية: تفسير آية براءة.
الثالثه: وجوب [تقديم] محبته صلى الله عليه وسلم على النفس والأهل والمال.
الرابعة: أن نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام.
الخامسة: أن للإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان وقد لا يجدها.
السادسة: أعمال القلب الأربع التي لا تنال ولاية الله إلا بها، ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها.
السابعة: فهم الصحابي للواقع: أن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا.
الثامنة: تفسير: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} 4 .
التاسعة: أن من المشركين من يحب الله حبا شديدا.
العاشرة: الوعيد على من كان الثمانية أحب إليه من دينه5.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لم أقف عليه من قول ابن عباس عند ابن جرير, ووقفت عليه عند ابن المبارك (الزهد) ص 121 حديث رقم (353) (باب جليس الصدق). وفي إسناده (ليث) وهو ابن أبي سليم. قال ابن حجر (تقريب التهذيب) 2 /138: (صدوق اختلط أخيرا ولم يتميز حديثه فترك). اهـ.
2 سورة البقرة آية : 166.
3 رواه ابن جرير (جامع البيان عن تأويل آي القرآن) 2 /43 من طريق محمد بن عمرو ثنا أبو عاصم عن عيسى قال أخبرني قيس بن سعد عن عطاء عن ابن عباس قوله.
4 سورة البقرة آية : 166.
5 وهي الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال والتجارة والمساكن.(12/128)
ص -114- ... الحادية عشرة: أن من اتخذ ندا تساوي محبته محبة الله فهو الشرك الأكبر.
[التعليق:]
باب:
قول الله تعالى: ?{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}1.
أصل التوحيد وروحه: إخلاص المحبة لله وحده، وهي أصل التأله والتعبد له، بل هي حقيقة العبادة، ولا يتم التوحيد حتى تكمل محبة العبد لربه، وتسبق محبته جميع المحاب وتغلبها، ويكون لها الحكم عليها بحيث تكون سائر محاب العبد تبعا لهذه المحبة التي بها سعادة العبد وفلاحه. ومن تفريعها وتكميلها الحب في الله، فيحب العبد ما يحبه الله من الأعمال والأشخاص، ويبغض ما يبغضه الله من الأشخاص والأعمال، ويوالي أولياءه ويعادي أعداءه، وبذلك يكمل إيمان العبد وتوحيده.
أما اتخاذ أنداد من الخلق يحبهم كحب الله، ويقدم طاعتهم على طاعة الله، ويلهج بذكرهم ودعائهم فهذا هو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، وصاحب هذا الشرك قد انقطع قلبه من ولاية العزيز الحميد، وتعلق بغيره ممن لا يملك له شيئا، وهذا السبب الواهي الذي تعلق به المشركون سينقطع يوم القيامة أحوج ما يكون العبد لعمله، وستنقلب هذه المودة والموالاة بغضا وعداوة.
واعلم أن أنواع المحبة ثلاثة أقسام:
الأول: محبة الله التي هي أصل الإيمان والتوحيد.
الثاني: المحبة في الله وهي محبة أنبياء الله ورسله وأتباعهم، ومحبة ما يحبه الله من الأعمال والأزمنة والأمكنة وغيرهم، وهذه تابعة لمحبة الله ومكملة لها.
الثالث: محبة مع الله وهي محبة المشركين لآلهتهم وأندادهم من شجر وحجر وبشر وملك، وغيرها، وهي أصل الشرك وأساسه.(12/129)
ص -116- ... باب قول الله تعالى
{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}1.
وقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ }2 وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ}3. وعن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعا: "إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره" 4 .
وعن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من التمس رضا الله(12/130)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية : 175.
2 سورة التوبة آية : 18.
3 سورة العنكبوت آية : 10.
4 رواه أبو نعيم (الحلية) 5 /106, 10 /41 من طريق علي بن محمد بن مروان - وهو السدي - ثنا أبي ثنا عمرو بن قيس الملائي عن عطية عن أبي سعيد مرفوعا. قال أبو نعيم: (غريب من حديث عمرو, تفرد به علي بن محمد بن مروان عن أبيه). وقال المناوي (فيض القدير) 2 /539 حكاية عن البيهقي: (محمد بن مروان السدي أحد رجاله ضعيف). وقال: وفيه - أيضا - عطية العوفي أورده الذهبي في الضعفاء والمتروكين وقال: ضعفوه. وللحديث طريق أخرى رواها أبو نعيم (الحلية) 10 /41 من طريق شيخه أبي الفتح ابن الحمصي أحمد بن الحسين بن محمد بن سهل فذكر أن علي بن جعفر البغدادي حدثهم قال: قال أبو موسى الدؤلي: ثنا أبو يزيد البسطامي ثنا أبو عبد الرحمن السفدي عن عمرو بن قيس الملائي عن عطية عن أبي سعيد الخدري مرفوعا. وقال: (وهذا الحديث مما ركب على أبي يزيد, والحمل فيه على شيخنا أبي الفتح فقد عثر منه على غير حديث ركبه). وفيه- أيضا- عطية العوفي المتقدم.(12/131)
ص -117- ... بسخط الناس - رضي الله عنه - وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس" رواه ابن حبان في صحيحه1.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية آل عمران.
الثانية: تفسير آية براءة.
الثالثة: تفسير آية العنكبوت.
الرابعة: أن اليقين يضعف ويقوى.
الخامسه: علامة ضعفه، ومن ذلك هذه الثلاث.
السادسة: أن إخلاص الخوف لله من الفرائض.
السابعة: ذكر ثواب من فعله.
الثامنة: ذكر عقاب من تركه.
[التعليق:]
باب: قول الله تعالى:
{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ?}2 الآية.
هذا الباب عقده المصنف - رحمه الله - لوجوب تعلق الخوف والخشية بالله وحده، والنهي عن تعلقه بالمخلوقين، وبيان أنه لا يتم التوحيد إلا بذلك. ولا بد في هذا الموضع من تفصيل يتضح به الأمر ويزول الاشتباه. اعلم أن الخوف والخشية تارة يقع عبادة، وتارة يقع طبيعة وعادة وذلك بحسب أسبابه ومتعلقاته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ( موارد الظمآن) ص 370 حديث رقم (1541) و (1542) (كتاب الإمارة) (باب فيمن يرضي الله بسخط الناس) من طريقين عن عائشة. قال المناوي (فيض القدير) 6 /51: (رمز المصنف- يعني السيوطي- لحسنه). وأورده الألباني في (صحيح الجامع) (6097) وصححه.
2 سورة آل عمران آية : 175.(12/132)
ص -118- ... فإن كان الخوف والخشية خوف تأله وتعبد، وتقرب بذلك الخوف إلى من يخافه، وكان يدعو إلى طاعة باطنة وخوف سري يزجر عن معصية من يخافه، كان تعلقه بالله من أعظم واجبات الإيمان، وتعلقه بغير الله من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله ; لأنه أشرك في هذه العبادة التي هي من أعظم واجبات القلب غير الله مع الله، وربما زاد خوفه من غير الله على خوفه من الله. وأيضا فمن خشي الله وحده على هذا الوجه فهو مخلص موحد، ومن خشي غيره فقد جعل لله ندا في الخشية، كمن جعل لله ندا في المحبة. وذلك كمن يخشى من صاحب القبر أن يوقع به مكروها، أو يغضب عليه فيسلبه نعمة أو نحو ذلك، مما هو واقع من عباد القبور. وإن كان الخوف طبيعيا كمن يخشى من عدو أو سبع أو حية أو نحو ذلك مما يخشى ضرره الظاهري، فهذا النوع ليس عبادة، وقد يوجد من كثير من المؤمنين ولا ينافي الإيمان. وهذا إذا كان خوفا محققا قد انعقدت أسباب الخوف فليس بمذموم. وإن كان هذا خوفا وهميا كالخوف الذي ليس له سبب أصلا، أو له سبب ضعيف فهذا مذموم يدخل صاحبه في وصف الجبناء، وقد تعوذ صلى الله عليه وسلم من الجبن فهو من الأخلاق الرذيلة، ولهذا كان الإيمان التام والتوكل والشجاعة تدفع هذا النوع، حتى إن خواص المؤمنين وأقوياءهم تنقلب المخاوف في حقهم أمنا، وطمأنينة لقوة إيمانهم وشجاعتهم الشجاعة القلبية، وكمال توكلهم، ولهذا أتبعه بهذا الباب.(12/133)
ص -119- ... باب
قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }1.
وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ }2 وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}3 وعن ابن عباس قال: "{حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ?} قالها إبراهيم - عليه السلام - حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}4"رواه البخاري والنسائي5.
فيه مسائل:
الأولى: أن التوكل من الفرائض.
الثانية: أنه من شروط الإيمان.
الثالثة: تفسير آية الأنفال.
الرابعة: تفسير الآية في آخرها.
الخامسة: تفسير آية الطلاق.
السادسة: عظم شأن هذه الكلمة، وأنها قول إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ومحمد صلى الله عليه وسلم في الشدائد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية : 23.
2 سورة الأنفال آية : 2.
3 سورة الطلاق آية : 3.
4 سورة آل عمران آية :173.
5 رواه البخاري: كتاب التفسير, باب "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم"(4 /1662) حديث رقم (4287). والنسائي في التفسير من الكبرى, كما في تحفة الأشراف (5 /238). والنسائي- أيضا- في (عمل اليوم والليلة) ص393 حديث رقم (603).(12/134)
ص -120- ... [التعليق:]
باب:
قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }1 .
التوكل على الله من أعظم واجبات التوحيد والإيمان، وبحسب قوة توكل العبد على الله يقوى إيمانه، ويتم توحيده، والعبد مضطر إلى التوكل على الله والاستعانة به في كل ما يريد فعله أو تركه من أمور دينه أو دنياه. وحقيقة التوكل على الله: أن يعلم العبد أن الأمر كله لله، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه هو النافع الضار المعطي المانع، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، فبعد هذا العلم يعتمد بقلبه على ربه في جلب مصالح دينه ودنياه، وفي دفع المضار، ويثق غاية الوثوق بربه في حصول مطلوبه، وهو مع هذا باذل جهده في فعل الأسباب النافعة.
فمتى استدام العبد هذا العلم وهذا الاعتماد والثقة فهو المتوكل على الله حقيقة، وليبشر بكفاية الله له ووعده للمتوكلين، ومتى علق ذلك بغير الله فهو شرك، ومن توكل على غير الله، وتعلق به، وكل إليه وخاب أمله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية : 23.(12/135)
ص -121- ... باب
قول الله تعالى
{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ }1
وقوله: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ }2. وعن ابن عباس: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر؟ فقال: الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله"3. وعن ابن مسعود قال: "أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله" رواه عبد الرزاق4.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الأعراف.
الثانية: تفسير آية الحجر.
الثالثة: شدة الوعيد فيمن أمن مكر الله.
الرابعة: شدة الوعيد في القنوط.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 99.
2 سورة الحجر آية : 56.
3 رواه البزار كما في (كشف الأستار) 1 /71 حديث رقم (106). وابن أبي حاتم كما في (تفسير ابن كثير) 1 /484 عند تفسير قوله تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه} الآية (31) البقرة من طريق شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا. قال ابن كثير: (وفي إسناده نظر, والأشبه أن يكون موقوفا، فقد روي عن ابن مسعود نحو ذلك). وقال الهيثمي (مجمع الزوائد) 1 /104: (رجاله موثوقون). وحسن إسناده السيوطي في (الدر المنثور) 2 /147، والعراقي في (تخريج إحياء علوم الدين) 4 /17.
4 (المصنف) 10 /459-460 حديث رقم (19701) من طريق معمر عن أبي إسحاق عن وبرة عن عامر بن الطفيل عن ابن مسعود قال: (أكبر الكبائر) الحديث. قال ابن كثير (التفسير) 1 /484: (هو صحيح إليه بلا شك). وقال الهيثمي (مجمع الزوائد) 1 /104: (إسناده صحيح). اهـ.(12/136)
ص -122- ... [التعليق:]
باب:
قول الله تعالى {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ}1 .
مقصود الترجمة أنه يجب على العبد أن يكون خائفا من الله، راجيا له راغبا راهبا، إن نظر إلى ذنوبه وعدل الله وشدة عقابه خشي ربه وخافه، وإن نظر إلى فضله العام والخاص وعفوه الشامل رجا وطمع، إن وفق لطاعة رجا من ربه تمام النعمة بقبولها، وخاف من ردها بتقصيره في حقها، وإن ابتلي بمعصية رجا من ربه قبول توبته ومحوها، وخشي بسبب ضعف التوبة والالتفات للذنب أن يعاقب عليها، وعند النعم والمسار يرجو الله دوامها والزيادة منها والتوفيق لشكرها، ويخشى بإخلاله بالشكر من سلبها، وعند المكاره والمصائب يرجو الله دفعها وينتظر الفرج بحلها، ويرجو أيضا أن يثيبه الله عليها حين يقوم بوظيفة الصبر، ويخشى من اجتماع المصيبتين فوات الأجر المحبوب، وحصول الأمر المكروه إذا لم يوفق للقيام بالصبر الواجب، فالمؤمن الموحد في كل أحواله ملازم للخوف والرجاء وهذا هو الواجب وهو النافع، وبه تحصل السعادة، ويخشى على العبد من خلقين رذيلين:
أحدهما: أن يستولي عليه الخوف حتى يقنط من رحمة الله وروحه.
الثاني: أن يتجارى به الرجاء حتى يأمن مكر الله وعقوبته، فمتى بلغت به الحال إلى هذا، فقد ضيع واجب الخوف والرجاء اللذين هما من أكبر أصول التوحيد وواجبات الإيمان.
وللقنوط من رحمة الله واليأس من روحه سببان محذوران: أحدهما: أن يسرف العبد على نفسه ويتجرأ على المحارم فيصر عليها ويصمم على الإقامة على المعصية، ويقطع طمعه من رحمة الله؛ لأجل أنه مقيم على الأسباب التي تمنع الرحمة، فلا يزال كذلك حتى يصير له هذا وصفا وخلقا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 99.(12/137)
ص -123- ... لازما، وهذا غاية ما يريده الشيطان من العبد، ومتى وصل إلى هذا الحد لم يرج له خير إلا بتوبة نصوح وإقلاع قوي.
الثاني: أن يقوى خوف العبد بما جنت يداه من الجرائم، ويضعف علمه بما لله من واسع الرحمة والمغفرة، ويظن بجهله أن الله لا يغفر له ولا يرحمه ولو تاب وأناب، وتضعف إرادته فييأس من الرحمة، وهذا من المحاذير الضارة الناشئة من ضعف علم العبد بربه، وما له من الحقوق، ومن ضعف النفس وعجزها ومهانتها. فلو عرف هذا ربه ولم يخلد إلى الكسل، لعلم أن أدنى سعي يوصله إلى ربه، وإلى رحمته وجوده وكرمه.
وللأمن من مكر الله أيضا سببان مهلكان: أحدهما: إعراض العبد عن الدين وغفلته عن معرفة ربه وما له من الحقوق، وتهاونه بذلك فلا يزال معرضا غافلا مقصرا عن الواجبات، منهمكا في المحرمات، حتى يضمحل خوف الله من قلبه، ولا يبقى في قلبه من الإيمان شيء؛ لأن الإيمان يحمل على خوف الله وخوف عقابه الدنيوي والأخروي.
السبب الثاني: أن يكون العبد عابدا جاهلا معجبا بنفسه مغرورا بعمله، فلا يزال به جهله حتى يدل بعمله ويزول الخوف عنه، ويرى أن له عند الله المقامات العالية، فيصير آمنا من مكر الله متكلا على نفسه الضعيفة المهينة، ومن هنا يخذل ويحال بينه وبين التوفيق؛ إذ هو الذي جنى على نفسه. فبهذا التفصيل تعرف منافاة هذه الأمور للتوحيد.(12/138)
ص -124- ... باب من الإيمان بالله: الصبر على أقدار الله
وقول الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }1. قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت"2.
ولهما عن ابن مسعود مرفوعا: "ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية"3.
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة".
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط" حسنه الترمذي4.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التغابن آية : 11.
2 رواه مسلم: كتاب الإيمان باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في السن والنياحة (1 /82) حديث رقم (67).
3 رواه البخاري: كتاب الجنائز باب ليس منا من شق الجيوب (1 /435) حديث رقم (1232). ومسلم: كتاب الإيمان باب تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية. (1 /99) حديث رقم (103).
4 (السنن) 4 /601 (كتاب الزهد) (باب ما جاء في الصبر على البلاء) حديث رقم (2396) وقال: (هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه). اهـ. قال المناوي (فيض القدير) 1 /258: (قال الذهبي في موضع سعد: ليس بحجة, وفي موضع آخر كأنه غير صحيح). اهـ. وسعد المشار إليه هو (سعد بن سنان).(12/139)
ص -125- ... فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية التغابن.
الثانية: أن هذا من الإيمان بالله.
الثالثة: الطعن في النسب.
الرابعة: شدة الوعيد فيمن ضرب الخدود وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية.
الخامسة: علامة إرادة الله بعبده الخير.
السادسة: علامة إرادة الله به الشر.
السابعة: علامة حب الله للعبد.
الثامنة: تحريم السخط.
التاسعة: ثواب الرضا بالبلاء.
[التعليق:]
باب: من الإيمان بالله: الصبر على أقدار الله
أما الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصيته، فهو ظاهر لكل أحد أنهما من الإيمان بل هما أساسه وفرعه، فإن الإيمان كله صبر على ما يحبه الله ويرضاه ويقرب إليه، وصبر عن محارم الله. فإن الدين يدور على ثلاثة أصول: تصديق خبر الله ورسوله، وامتثال أمر الله ورسوله، واجتناب نهيهما. فالصبر على أقدار الله المؤلمة داخل في هذا العموم، ولكن خص بالذكر لشدة الحاجة إلى معرفته والعمل به.(12/140)
ص -126- ... فإن العبد متى علم أن المصيبة بإذن الله، وأن لله أَتَمَّ الحكمة في تقديرها، وله النعمة السابغة في تقديرها على العبد رضي بقضاء الله، وسلم لأمره وصبر على المكاره، تقربا إلى الله، ورجاء لثوابه، وخوفا من عقابه، واغتناما لأفضل الأخلاق، فاطمأن قلبه وقوي إيمانه وتوحيده.(12/141)
ص -127- ... باب ما جاء في الرياء
وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً }1. وعن أبي هريرة مرفوعا: قال الله تعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه" رواه مسلم2.
وعن أبي سعيد مرفوعا: "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى. قال: الشرك الخفي: يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته، لما يرى من نظر رجل" رواه أحمد3.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الكهف.
الثانية: الأمر العظيم في رد العمل الصالح إذا دخله شيء لغير الله.
الثالثة: ذكر السبب الموجب لذلك وهو كمال الغنى.
الرابعة: أن من الأسباب أنه خير الشركاء.
الخامسة: خوف النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه من الرياء.
السادسة: أنه فسر ذلك بأن المرء يصلي لله، لكن يزينها لما يرى من نظر رجل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الكهف آية : 110.
2 رواه مسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله (4 /2289) حديث رقم (2985).
3 (المسند) 3 /30. وابن ماجه (السنن) 2 /1406 (كتاب الزهد) (باب الرياء والسمعة) من طريق ربيح بن عبد الرحمن ابن أبي سعيد الخدري عن أبيه عن أبي سعيد قال: خرج علينا رسول الله ( ونحن نتذاكر المسيح الدجال الحديث. قال البوصيري (مصباح الزجاجة) 3 /296: (هذا إسناد حسن, كثير بن زيد وربيح بن عبد الرحمن مختلف فيهما). اهـ.(12/142)
ص -128- ... باب من الشرك: إرادة الإنسان بعمله الدنيا
وقول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ ?أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }1. في الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع"2 .
فيه مسائل:
الأولى: إرادة الإنسان الدنيا بعمل الآخرة.
الثانية: تفسير آية هود.
الثالثة: تسمية الإنسان المسلم عبد الدينار والدرهم والخميصة.
الرابعة: تفسير ذلك بأنه إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط.
الخامسة: قوله:"تعس وانتكس".
السادسة: قوله:"وإذا شيك فلا انتقش".
السابعة: الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة هود آية : 15-16.
2 رواه البخاري: كتاب الجهاد باب الحراسة في الغزو في سبيل الله (3 /1057-1058) حديث رقم (2730).(12/143)
ص -129- ... [التعليق:]
باب: ما جاء في الرياء
ثم قال:
باب: من الشرك: إرادة الإنسان بعمله الدنيا
اعلم أن الإخلاص لله أساس الدين، وروح التوحيد والعبادة، وهو أن يقصد العبد بعمله كله وجه الله وثوابه وفضله، فيقوم بأصول الإيمان الستة وشرائع الإسلام الخمس، وحقائق الإيمان التي هي الإحسان، وبحقوق الله، وحقوق عباده، مكملا لها قاصدا بها وجه الله والدار الآخرة، لا يريد بذلك رياء ولا سمعة ولا رياسة، ولا دنيا، وبذلك يتم إيمانه وتوحيده. ومن أعظم ما ينافي هذا مراءاة الناس والعمل لأجل مدحهم وتعظيمهم، أو العمل لأجل الدنيا، فهذا يقدح في الإخلاص والتوحيد.
واعلم أن الرياء فيه تفصيل: فإن كان الحامل للعبد على العمل قصد مراءاة الناس، واستمر على هذا القصد الفاسد، فعمله حابط وهو شرك أصغر، ويخشى أن يتذرع به إلى الشرك الأكبر. وإن كان الحامل على العمل إرادة وجه الله مع إرادة مراءاة الناس، ولم يقلع عن الرياء بعمله، فظاهر النصوص أيضا بطلان هذا العمل. وإن كان الحامل للعبد على العمل وجه الله وحده، ولكن عرض له الرياء في أثناء عمله، فإن دفعه وخلص إخلاصه لله لم يضره، وإن ساكنه واطمأن إليه نقص العمل، وحصل لصاحبه من ضعف الإيمان والإخلاص بحسب ما قام في(12/144)
ص -130- ... قلبه من الرياء، وتقاوم العمل لله وما خالطه من شائبة الرياء. والرياء آفة عظيمة، ويحتاج إلى علاج شديد، وتمرين النفس على الإخلاص، ومجاهدتها في مدافعة خواطر الرياء والأغراض الضارة، والاستعانة بالله على دفعها لعل الله يخلص إيمان العبد ويحقق توحيده.
وأما العمل لأجل الدنيا وتحصيل أغراضها:
فإن كانت إرادة العبد كلها لهذا المقصد، ولم يكن له إرادة لوجه الله والدار الآخرة، فهذا ليس له في الآخرة من نصيب. وهذا العمل على هذا الوصف لا يصدر من مؤمن؛ فإن المؤمن ولو كان ضعيف الإيمان، لا بد أن يريد الله والدار الآخرة.
وأما من عمل العمل لوجه الله ولأجل الدنيا، والقصدان متساويان أو متقاربان، فهذا وإن كان مؤمنا فإنه ناقص الإيمان والتوحيد والإخلاص، وعمله ناقص لفقده كمال الإخلاص. وأما من عمل لله وحده وأخلص في عمله إخلاصا تاما، ولكنه يأخذ على عمله جعلا ومعلوما يستعين به على العمل والدين، كالجعالات التي تجعل على أعمال الخير، وكالمجاهد الذي يترتب على جهاده غنيمة أو رزق، وكالأوقاف التي تجعل على المساجد والمدارس والوظائف الدينية لمن يقوم بها، فهذا لا يضر أخذه في إيمان العبد وتوحيده لكونه لم يرد بعمله الدنيا، وإنما أراد الدين وقصد أن يكون ما حصل له معينا له على قيام الدين.
ولهذا جعل الله في الأموال الشرعية كالزكوات وأموال الفيء وغيرها جزءا كبيرا لمن يقوم بالوظائف الدينية والدنيوية النافعة، كما قد عرف تفاصيل ذلك. فهذا التفصيل يبين لك حكم هذه المسألة كبيرة الشأن، ويوجب لك أن تنزل الأمور منازلها والله أعلم.(12/145)
ص -131- ... باب
من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله
أو تحليل ما حرمه فقد اتخذهم أربابا
وقال ابن عباس: "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر". وقال أحمد بن حنبل: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، ويذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }1 أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء ولا من الزيغ فيهلك. وعن "عدي بن حاتم: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }2. فقلت له: إنا لسنا نعبدهم. قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه. فقلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم" رواه أحمد والترمذي وحسّنه3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النور آية : 63.
2 سورة التوبة آية: 31.
3 لم أقف عليه في مسند الإمام أحمد. ورواه الترمذي في (السنن) 5 /278 (كتاب تفسير القرآن) (باب ومن سورة التوبة) حديث رقم (3095) وقال: (هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب, وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث). اهـ. وقد حسنه شيخ الإسلام في الإيمان ص (64).(12/146)
ص -132- ... فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النور.
الثانية: تفسير آية براءة.
الثالثة: التنبيه على معنى العبادة التي أنكرها عدي.
الرابعة: تمثيل ابن عباس بأبي بكر وعمر، وتمثيل أحمد بسفيان.
الخامسة: تغير الأحوال إلى هذه الغاية حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال وتسمى الولاية، وعبادة الأحبار هي العلم والفقه، ثم تغيرت الأحوال إلى أن عبد من دون الله من ليس من الصالحين، وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين.(12/147)
ص -133- ... باب قول الله تعالى
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً}1.
وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ }2 .
وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ }3 {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}4. وعن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به"5 قال النووي: "حديث صحيح، رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح".(12/148)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية : 60-61.
2 سورة البقرة آية : 11.
3 سورة الأعراف آية : 56.
4 سورة المائدة آية : 50.
5 ذكره النووي في (الأربعين) ص 107 وقال: (حديث حسن صحيح). اهـ والمراد بكتاب الحجة (كتاب الحجة على تاركي سلوك طريق المحجة) لابن الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي. والحديث رواه ابن أبي عاصم (السنة) 1 /12 حديث رقم (15). والبغوي (شرح السنة) 1 /212 حديث رقم (104) من طريق نعيم بن حماد بن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن عقبة بن أوس عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا. قال ابن رجب (جامع العلوم والحكم) ص 364 متعقبا النووي تصحيح الحديث: (تصحيح هذا الحديث بعيد جدا من وجوه: 1- منها: أنه حديث ينفرد به نعيم بن حماد المروزي, ونعيم هذا وإن كان وثقه جماعة من الأئمة, وخرج له البخاري فإن أئمة الحديث كانوا يحسنون به الظن لصلابته في السنة, وتشدده في الرد على أهل الأهواء، وكانوا ينسبونه إلى أنه يتهم, ويشبه عليه في بعض الأحاديث, فلما كثر عثورهم على مناكيره حكموا عليه بالضعف... وأين كان أصحاب عبد الوهاب الثقفي؟ وأصحاب ابن سيرين؟ عن هذا الحديث حتى ينفرد به نعيم. 2- ومنها: أنه قد اختلف على نعيم في إسناده. ثم حكى الاختلاف. 3- ومنها: أن في إسناده عقبة بن أوس السدوسي البصري، ويقال فيه يعقوب بن أوس، ثم حكى خلاف العلماء في توثيقه وتضعيفه. 4- وذكر عن الغلابي في (تاريخه): يزعمون أنه- يعني عقبة بن أوس- لم يسمع من عبد الله بن عمرو, وإنما يقول: قال عبد الله بن عمرو, فعلى هذا تكون رواياته عن عبد الله بن عمرو منقطعة). والله أعلم.(12/149)
ص -134- ... وقال الشعبي: "كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد- عرف أنه لا يأخذ الرشوة-. وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود- لعلمه أنهم يأخذون الرشوة- فاتفقا أن يأتيا كاهنا في جهينة فيتحاكما إليه، فنزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ}"1. وقيل: نزلت في "رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف، ثم ترافعا إلى عمر، فذكر له أحدهما القصة، فقال للذي لم يرض برسول الله :صلى الله عليه وسلم أكذلك؟ قال: نعم، فضربه بالسيف فقتله"2.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 (جامع البيان) لابن جرير 5 /97 من طرق عن داود عن عامر الشعبي مرسلا.
2 ذكره معلقا الواحدي (أسباب النزول) ص 107 – 108 في التحاكم إلى كعب بن الأشرف فقال: وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: نزلت في رجلين من المنافقين... فذكره مطولا، وكذا ذكره معلقا البغوي (معالم التنزيل- بهامش تفسير الخازن المسمى لباب التأويل في معاني التنزيل) 1 /552 وجعله عن أبي صالح وابن عباس وهو تحريف. وهذا الإسناد مع تعليقه فيه (الكلبي) وهو محمد بن السائب بن بشر. قال ابن حجر (تقريب التهذيب) 2 /163: (متهم بالكذب ورمي بالرفض). وللحديث طريق أخرى عن ابن عباس رواها الواحدي (أسباب النزول) ص 106-107. والطبراني (المعجم الكبير) 11 /373 حديث رقم (12045) من طريق أبي اليمان حدثنا صفوان بن عمرو عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان أبو برزة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون إليه, فتنافر إليه أناس من أسلم فأنزل الله تعالى: {ألم تر إلى الذين يزعمون} إلى قوله (توفيقا). قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) 7 /6: (رجاله رجال الصحيح). اهـ. وذكره الشيخ مقبل في (الصحيح المسند من أسباب النزول) ص 45.(12/150)
ص -135- ... فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النساء وما فيها من الإعانة على فهم الطاغوت.
الثانية: تفسير آية البقرة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ }1 .
الثالثة: تفسير آية الأعراف: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ?}2 .
الرابعة: تفسير: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}3 .
الخامسة: ما قاله الشعبي في سبب نزول الآية الأولى.
السادسة: تفسير الإيمان الصادق والكاذب.
السابعة: قصة عمر مع المنافق.
الثامنة: كون الإيمان لا يحصل لأحد حتى يكون هواه تبعا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
[التعليق:]
باب: من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه فقد اتخذهم أربابا
باب:
قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}4 .
ووجه ما ذكره المصنف ظاهر، فإن الرب والإله هو الذي له الحكم القدري، والحكم الشرعي، والحكم الجزائي، وهو الذي يؤله ويعبد وحده لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 11.
2 سورة الأعراف آية : 56.
3 سورة المائدة آية : 50.
4 سورة النساء آية : 60.(12/151)
ص -136- ... شريك له، ويطاع طاعة مطلقة فلا يعصى، بحيث تكون الطاعات كلها تبعا لطاعته، فإذا اتخذ العبد العلماء والأمراء على هذا الوجه، وجعل طاعتهم هي الأصل، وطاعة الله ورسوله تبعا لها فقد اتخذهم أربابا من دون الله يتألههم ويحاكم إليهم، ويقدم حكمهم على حكم الله ورسوله، فهذا هو الكفر بعينه؛ فإن الحكم كله لله، كما أن العبادة كلها لله.
والواجب على كل أحد أن لا يتخذ غير الله حكما، وأن يرد ما تنازع فيه الناس إلى الله ورسوله، وبذلك يكون دين العبد كله لله، وتوحيده خالصا لوجه الله.
وكل من حاكم إلى غير حكم الله ورسوله فقد حاكم إلى الطاغوت، وإن زعم أنه مؤمن فهو كاذب.
فالإيمان لا يصح ولا يتم إلا بتحكيم الله ورسوله في أصول الدين وفروعه، وفي كل الحقوق كما ذكره المصنف في الباب الآخر. فمن حاكم إلى غير الله ورسوله فقد اتخذ ذلك ربا، وقد حاكم إلى الطاغوت.(12/152)
ص -137- ... باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات
وقول الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ }1. وفي صحيح البخاري: قال علي: "حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟"2. وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن "ابن عباس: أنه رأى رجلا انتفض لما سمع حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكارا لذلك، فقال: ما فرق هؤلاء ؟ يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه؟"انتهى3. ولما سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن، أنكروا ذلك، فأنزل الله فيهم: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} 4.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الرعد آية : 30.
2 رواه البخاري: كتاب العلم باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية ألا يفهموا (1 /59) حديث رقم (127).
3 (المصنف) 11 /423 حديث رقم (20895). والحديث المشار إليه في (الصفات) رواه عبد الرزاق – أيضا - في (المصنف) 11 /422 حديث رقم (20893) من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه- مرفوعا: "تحاجت الجنة والنار فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين. وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وعرتهم؟ فقال الله للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي, وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي, ولكل واحدة منكما ملؤها, فأما النار فإنهم يلقون فيها {وتقول هل من مزيد} فلا تمتلئ حتى يضع رجله- أو قال: قدمه- فيها فتقول: قط قط قط, فهنالك تملأ وتنزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله من خلقه أحدا, وأما الجنة فإن الله ينشئ لها ما شاء". اهـ.
4 سورة الرعد آية : 30.(12/153)
ص -138- ... فيه مسائل:
الأولى: عدم الإيمان بجحد شيء من الأسماء والصفات.
الثانية: تفسير آية الرعد.
الثالثة: ترك التحديث بما لا يفهم السامع.
الرابعة: ذكر العلة أنه يفضي إلى تكذيب الله ورسوله، ولو لم يتعمد المنكر.
الخامسه: كلام ابن عباس لمن استنكر شيئا من ذلك، وأنه أهلكه.
[التعليق:]
باب: من جحد شيئا من الأسماء والصفات
أصل الإيمان وقاعدته التي ينبني عليها هو الإيمان بالله، وبأسمائه وصفاته. وكلما قوي علم العبد بذلك وإيمانه به، وتعبد لله بذلك قوي توحيده، فإذا علم أن الله متوحد بصفات الكمال متفرد بالعظمة والجلال والجمال ليس له في كماله مثيل، أوجب له ذلك أن يعرف ويتحقق أنه هو الإله الحق، وأن إلهية ما سواه باطلة، فمن جحد شيئا من أسماء الله وصفاته فقد أتى بما يناقض التوحيد وينافيه، وذلك من شعب الكفر.(12/154)
ص -139- ... باب
قول الله تعالى {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ }1.
قال مجاهد ما معناه: "هو قول الرجل: هذا مالي ورثته عن آبائي". وقال عون بن عبد الله: لولا فلان لم يكن كذا. وقال ابن قتيبة: "يقولون: هذا بشفاعة آلهتنا". وقال أبو العباس بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه: أن الله تعالى قال: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر"2. الحديث - وقد تقدم-: "وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به. قال بعض السلف: هو كقولهم: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقا، ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثير [ من الناس]".
فيه مسائل:
الأولى: تفسير معرفة النعمة وإنكارها.
الثانية: معرفة أن هذا جار على ألسنة كثير [ من الناس ].
الثالثة: تسمية هذا الكلام إنكارا للنعمة.
الرابعة: اجتماع الضدين في القلب.
[التعليق:]
باب:
قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا}3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية : 83.
2 تقدم تخريجه انظر ص (109) حاشية رقم (2) (باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء).
3 سورة النحل آية : 83.(12/155)
ص -140- ... الواجب على الخلق إضافة النعم إلى الله قولا واعترافا كما تقدم، وبذلك يتم التوحيد، فمن أنكر نعم الله بقلبه ولسانه فذلك كافر ليس معه من الدين شيء.
ومن أقر بقلبه أن النعم كلها من الله وحده، وهو بلسانه تارة يضيفها إلى الله، وتارة يضيفها إلى نفسه وعمله وإلى سعي غيره كما هو جار على ألسنة كثير من الناس، فهذا يجب على العبد أن يتوب منه، وأن لا يضيف النعم إلا إلى موليها، وأن يجاهد نفسه على ذلك، ولا يتحقق الإيمان والتوحيد إلا بإضافة النعم إلى الله قولا واعترافا.
فإن الشكر الذي هو رأس الإيمان مبني على ثلاثة أركان: اعتراف القلب بنعم الله كلها عليه وعلى غيره. والتحدث بها والثناء على الله بها. والاستعانة بها على طاعة المنعم وعبادته، والله أعلم.(12/156)
ص -141- ... باب
قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }1
قال ابن عباس في الآية: "الأنداد: هو الشرك، أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلان وحياتي، وتقول: لولا كليبة هذا لآتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لآتانا اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان، لا تجعل فيها فلانا، هذا كله به شرك". رواه ابن أبي حاتم2. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف بغير الله فقد كفر، أو أشرك" رواه الترمذي وحسنه، وصححه الحاكم3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 22.
2 قال ابن كثير (التفسير) 1 /57-58: قال ابن أبي حاتم حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم حدثنا أبو عمرو حدثنا أبو الضحاك ابن مخلد أبو عاصم حدثنا شبيب بن بشر حدثنا عكرمة عن ابن عباس في قول الله عز وجل: (فلا تجعلوا لله أندادا) الحديث بنحوه. وفي إسناده (شبيب ابن بشر) وهو النجلي. قال ابن حجر (تهذيب التهذيب) 4 /306: (قال الدوري عن ابن معين ثقة... وقال أبو حاتم: لين الحديث حديثه حديث الشيوخ، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخطئ كثيرا). اهـ.
3 لم أقف عليه عند الترمذي والحاكم عن (عمر بن الخطاب) - رضي الله عنه -، وإنما وقفت عليه عندهما عن ابن عمر, رواه الترمذي (السنن) 4 /110 (كتاب النذور والأيمان) (باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله) حديث رقم (1535) وقال: (هذا حديث حسن). اهـ. والحاكم في (المستدرك) 1 /18 (كتاب الأيمان) وقال: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين فقد احتجا بمثل هذا الإسناد وخرجاه في الكتاب, وليس له علة ولم يخرجاه). ورواه في موضع آخر (المستدرك) 4 /297 (كتاب الأيمان والنذور) وقال: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه). اهـ.(12/157)
ص -142- ... وقال ابن مسعود: "لأن أحلف بالله كاذبا، أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا"1. وعن حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان" رواه أبو داود بسند صحيح2.
وجاء عن إبراهيم النخعي: أنه يكره: أعوذ بالله وبك، ويجوز أن يقول: بالله ثم بك، قال: ويقول: لولا الله ثم فلان، ولا تقولوا: لولا الله وفلان.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية البقرة في الأنداد.
الثانية: أن الصحابة - رضي الله عنهم - يفسرون الآية النازلة في الشرك الأكبر بأنها تعم الأصغر.
الثالثة: أن الحلف بغير الله شرك.
الرابعة: أنه إذا حلف بغير الله صادقا فهو أكبر من اليمين الغموس.
الخامسة: الفرق بين الواو وثم في اللفظ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه عبد الرزاق (المصنف) 8 /469 (كتاب الأيمان والنذور) (باب الأيمان ولا يحلف إلا بالله). حديث رقم (15929) من طريق الثوري عن أبي سلمة عن وبرة قال: قال عبد الله- لا أدري ابن مسعود أو ابن عمر-: لأن أحلف بالله كاذبا... مثله. قال الهيثمي (مجمع الزوائد) 4 /177: (رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح). اهـ. وأبو سلمة المذكور في إسناد عبد الرزاق لم أهتد إليه. ورواية الطبراني المشار إليها في (المعجم الكبير) 9 /205 حديث رقم (8902) من طريق مسعر بن كدام عن وبرة بن عبد الرحمن قال: قال عبد الله: لأن أحلف ... الحديث.
2 (السنن) 5 /259 (كتاب الأدب) (باب لا يقال خبثت نفسي) حديث رقم (4980) وسكت عليه أبو داود ثم المنذري في (مختصر سنن أبي داود) 7 /274.(12/158)
ص -143- ... [التعليق:]
باب: قول الله تعالى:
{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}1 .
الترجمة السابقة على قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً }2 الآية، يقصد بها الشرك الأكبر بأن يجعل لله ندا في العبادة والحب والخوف والرجاء وغيرها من العبادات. وهذه الترجمة المراد بها الشرك الأصغر كالشرك في الألفاظ كالحلف بغير الله، وكالتشريك بين الله وبين خلقه في الألفاظ ك: لولا الله وفلان وهذا بالله وبك، وكإضافة الأشياء ووقوعها لغير الله كلولا الحارس لآتانا اللصوص، ولولا الدواء الفلاني لهلكت، ولولا حذق فلان في المكسب الفلاني لما حصل فكل هذا ينافي التوحيد.
والواجب أن تضاف الأمور ووقوعها ونفع الأسباب إلى إرادة الله وإلى الله ابتداء، ويذكر مع ذلك مرتبة السبب ونفعه، فيقول: لولا الله ثم كذا ليعلم أن الأسباب مربوطة بقضاء الله وقدره. فلا يتم توحيد العبد حتى لا يجعل لله ندا في قلبه وقوله وفعله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 22.
2 سورة البقرة آية : 165.(12/159)
ص -144- ... باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله
عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله" رواه ابن ماجه بسند حسن1.
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن الحلف بالآباء.
الثانية: الأمر للمحلوف له بالله أن يرضى.
الثالثة: وعيد من لم يرض.
[التعليق:]
باب: ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله
ويراد بهذا إذا توجهت اليمين على خصمك وهو معروف بالصدق أو ظاهره الخير والعدالة، فإنه يتعين عليك الرضا والقناعة بيمينه؛ لأنه ليس عندك يقين يعارض صدقه. وما كان عليه المسلمون من تعظيم ربهم وإجلالهم يوجب عليك أن ترضى بالحلف بالله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 (السنن) 1 /679 (كتاب الكفارات) (باب من حلف له بالله فليرض) حديث رقم (2101). قال البوصيري (مصباح الزجاجة) 2 /143: (هذا إسناد صحيح رجاله ثقات). وقال الألباني (الإرواء) 8 /314: (هذا إسناد صحيح رجاله ثقات كما قال البوصيري في الزوائد). وفي تصحيح إسناده نظر؛ لأن فيه (محمد بن عجلان). قال ابن حجر (تقريب التهذيب) 2 /190: (صدوق إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة).(12/160)
ص -145- ... وكذلك لو بذلت له اليمين بالله فلم يرض إلا بالحلف بالطلاق، أو دعاء الخصم على نفسه بالعقوبات، فهو داخل في الوعيد؛ لأن ذلك سوء أدب وترك لتعظيم الله، واستدراك على حكم الله ورسوله.
وأما من عرف منه الفجور والكذب، وحلف على ما تيقن كذبه فيه، فإنه لا يدخل تكذيبه في الوعيد للعلم بكذبه، وأنه ليس في قلبه من تعظيم الله ما يطمئن الناس إلى يمينه، فتعين إخراج هذا النوع من الوعيد؛ لأن حالته متيقنة والله أعلم.(12/161)
ص -146- ... باب قول ما شاء الله وشئت
عن قُتَيْلَة: "أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون، تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت" رواه النسائي وصححه1.
وله أيضا عن ابن عباس: "أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت. فقال: أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده"2 ولابن ماجه، عن الطفيل أخي عائشة لأمها، قال: "رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود، قلت: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون عزير ابن الله، قالوا: وأنتم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. ثم مررت بنفر من النصارى، فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله. قالوا: وأنتم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت. ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته. قال: هل أخبرت بها أحدا؟ قلت: نعم. قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن طفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 (السنن) 7 /6 (كتاب الأيمان والنذور) (باب الحلف بالكعبة) ولم أقف على تصحيح النسائي له, وقال ابن حجر (الإصابة في تمييز الصحابة) 13 /94: (سنده صحيح). اهـ.
2 (عمل اليوم والليلة) ص 545 - 546 (النهي أن يقال: ما شاء الله وشاء فلان) حديث رقم (988) وابن ماجه (السنن) 1 /684 (كتاب الكفارات) (باب النهي أن يقال ما شاء الله وشئت). حديث رقم (2117) فال البوصيري (مصباح الزجاجة) 2 /150: (هذا إسناد فيه الأجلح بن عبد الله مختلف فيه، ضعفه أحمد وأبو حاتم وأبو داود وابن سعد, ووثقه ابن معين والعجلي ويعقوب بن سفيان, وباقي رجال الإسناد ثقات).(12/162)
ص -147- ... وكذا أن أنهاكم عنها، فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده "1 .
فيه مسائل:
الأولى: معرفة اليهود بالشرك الأصغر.
الثانية: فهم الإنسان إذا كان له هوى.
الثالثة: قوله صلى الله عليه وسلم: "أجعلتني لله ندا؟ ". فكيف بمن قال: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك والبيتين بعده ؟
الرابعة: أن هذا ليس من الشرك الأكبر؛ لقوله: "يمنعني كذا وكذا".
الخامسة: أن الرؤيا الصالحة من أقسام الوحي.
السادسة: أنها قد تكون سببا لشرع بعض الأحكام.
[التعليق:]
باب: قول: ما شاء الله وشئت
هذه الترجمة داخلة في الترجمة السابقة {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} 2
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 (السنن) 1 /685 (كتاب الكفارات) (باب النهي أن يقال: ما شاء الله وشئت). حديث رقم (2118) ولم يسق لفظه. قال البوصيري (مصباح الزجاجة) 2 /152: (هذا إسناد صحيح رجاله ثقات على شرط مسلم).
2 سورة البقرة آية : 22.(12/163)
ص -148- ... باب من سب الدهر فقد آذى الله
وقول الله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ }1.
وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار2". وفي رواية: "لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر"3.
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن سب الدهر.
الثانية: تسميته أذى لله.
الثالثة: التأمل في قوله:"فإن الله هو الدهر".
الرابعة: أنه قد يكون سابا ولو لم يقصده بقلبه.
[التعليق:]
باب: من سب الدهر فقد سب الله
وهذا واقع كثير في الجاهلية، وتبعهم على هذا كثير من الفساق والمجان والحمقى، إذا جرت تصاريف الدهر على خلاف مرادهم جعلوا يسبون الدهر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الجاثية آية : 24.
2 رواه البخاري: كتاب التفسير تفسير سورة الجاثية، باب وما يهلكنا إلا الدهر (4 /1825 - 1826) رقم (4549) ومسلم: كتاب الألفاظ من الأدب، باب النهي عن سب الدهر (4 /1762) رقم (2246).
3 رواه مسلم: كتاب الألفاظ من الأدب، باب النهي عن سب الدهر (4 /1763) حديث رقم (2246) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.(12/164)
ص -149- ... والوقت، وربما لعنوه. وهذا ناشئ من ضعف الدين ومن الحمق والجهل العظيم، فإن الدهر ليس عنده من الأمر شيء، فإنه مدبر مصرف، والتصاريف الواقعة فيه تدبير العزيز الحكيم، ففي الحقيقة يقع العيب والسب على مدبره. وكما أنه نقص في الدين فهو نقص في العقل، فيه تزداد المصائب ويعظم وقعها، ويغلق باب الصبر الواجب، وهذا مناف للتوحيد.
أما المؤمن فإنه يعلم أن التصاريف واقعة بقضاء الله وقدره وحكمته، فلا يتعرض لعيب ما لم يعبه الله ولا رسوله، بل يرضى بتدبير الله ويسلم لأمره، وبذلك يتم توحيده وطمأنينته.(12/165)
ص -150- ... باب التسمي بقاضي القضاه ونحوه
في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أَخْنَعَ اسْمٍ عند الله، رَجُلٌ تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله"1. قال سفيان: مثل شَاهَانْ شَاهْ.
وفي رواية: "أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه"2 قوله: "أخنع" يعني: أوضع.
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن التسمي بملك الأملاك.
الثانية: أن ما في معناه مثله كما قال سفيان.
الثالثة: التفطن للتغليظ في هذا ونحوه، مع القطع بأن القلب لم يقصد معناه.
الرابعة: التفطن أن هذا لإجلال الله سبحانه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري: كتاب الأدب، باب أبغض الأسماء إلى الله (5 /2292) حديث رقم (5853). ومسلم: كتاب الآداب باب تحريم التسمي بملك الأملاك, وبملك الملوك (3 /1688) حديث رقم (2143).
2 رواه مسلم: كتاب الآداب، باب تحريم التسمي بملك الأملاك، وبملك الملوك (3 /1688) حديث رقم (2143). وتمام الحديث: "وأغيظه عليه رجل كان يسمى ملك الأملاك، لا ملك إلا الله".(12/166)
ص -151- ... باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك
عن أبي شريح: أنه كان يكنى أبا الحكم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله هو الحكم، وإليه الحكم، فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين. فقال: ما أحسن هذا! فما لك من الولد ؟ قلت: شريح، ومسلم، وعبد الله. قال: فمن أكبرهم ؟ قلت: شريح، قال: فأنت أبو شريح" رواه أبو داود وغيره1.
فيه مسائل:
الأولى: احترام صفات الله وأسماء الله ولو لم يقصد معناه.
الثانية: تغيير الاسم لأجل ذلك.
الثالثة: اختيار أكبر الأبناء للكنية.
[التعليق:]
باب: التسمي بقاضي القضاة ونحوه
وباب: احترام أسماء الله وتغيير الاسم لذلك
وهاتان الترجمتان من فروع الباب السابق، وهو أنه يجب أن لا يجعل لله ند في النيات والأقوال والأفعال، فلا يسمى أحد باسم فيه نوع مشاركة لله في أسمائه وصفاته، كقاضي القضاة وملك الملوك ونحوها، وحاكم الحكام، أو بأبي الحكم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 (السنن) 5 /240 (كتاب الأدب) (باب في تفسير الاسم القبيح) حديث (4955). ورواه- أيضا- النسائي (السنن) 8 /226-227 (كتاب آداب القضاء) (باب إذا حكموا رجلا فقضى بينهم). وسكت عليه أبو داود ثم المنذري (مختصر سنن أبي داود) 7 /254. وفي إسناده (يزيد بن المقدام بن شرع). قال ابن حجر (تقريب التهذيب) 2 /371: (صدوق أخطأ عبد الحق في تضعيفه). فالإسناد لأجله حسن لذاته.(12/167)
ص -152- ... ونحوه، وكل هذا حفظ للتوحيد ولأسماء الله وصفاته، ودفع لوسائل الشرك حتى في الألفاظ التي يخشى أن يتدرج منها إلى أن يظن مشاركة أحد لله في شيء من خصائصه وحقوقه.(12/168)
ص -153- ... باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول
وقول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ }1.
وعن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة - دخل حديث بعضهم في بعض- "أنه قال رجل في غزوة تبوك: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء، فقال له عوف بن مالك: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته. فقال: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونتحدث حديث الركب نقطع به عناء الطريق. قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقا بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الحجارة تنكب رجليه، وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ما يلتفت إليه وما يزيده عليه"2.
فيه مسائل:
الأولى: - وهي العظيمة- أن من هزل بهذا، أنه كافر.
الثانية: أن هذا تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائنا من كان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية : 65.
2 حديث ابن عمر رواه ابن جرير (جامع البيان عن تأويل آي القرآن - محمود شاكر) 14 /333 حديث رقم (16912), وحديث محمد بن كعب رواه ابن جرير حديث رقم (16916), وحديث زيد بن أسلم رواه ابن جرير حديث رقم (16911) وحديث قتادة رواه ابن جرير حديث (16914) وحديث (16915).(12/169)
ص -154- ... الثالثة: الفرق بين النميمة وبين النصيحة لله ولرسوله.
الرابعة: الفرق بين العفو الذي يحبه الله، والغلظة على أعداء الله.
الخامسة: أن من الأعذار ما لا ينبغي أن يقبل.
[التعليق:]
باب: من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول
أي فإن هذا مناف للإيمان بالكلية، ومخرج من الدين ; لأن أصل الدين الإيمان بالله وكتبه ورسله. ومن الإيمان تعظيم ذلك، ومن المعلوم أن الاستهزاء والهزل بشيء من هذه أشد من الكفر المجرد ; لأن هذا كفر وزيادة احتقار وازدراء. فإن الكفار نوعان: معرضون ومعارضون. فالمعارض المحارب لله ورسوله، القادح بالله وبدينه ورسوله أغلظ كفرا وأعظم فسادا.
والهازل بشيء منها من هذا النوع.(12/170)
ص -155- ... باب ما جاء في قول الله تعالى
{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ 1
قال مجاهد: "هذا بعملي، وأنا محقوق به". وقال ابن عباس: "يريد من عندي". وقوله: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي }2 قال قتادة: "على علم مني بوجوه المكاسب". وقال آخرون: على علم من الله أني له أهل. وهذا معنى قول مجاهد: أوتيته على شرف.
وعن أبي هريرة، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن ثلاثة من بني إسرائيل: أبرص وأقرع وأعمى، فأراد الله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكا، فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به، قال: فمسحه، فذهب عنه قذره، فأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإبل أو البقر- شك إسحاق- فأعطي ناقة عشراء، فقال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأقرع، فقال: أي شيء أحب إليك ؟ قال: شعر حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به، فمسحه فذهب عنه، وأعطي شعرا حسنا، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: البقر، أو الإبل، فأعطي بقرة حاملا، قال: بارك الله لك فيها.
قال: وأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إلي بصري، فأبصر به الناس، فمسحه فرد الله إليه بصره، قال: فأي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة فصلت آية : 50.
2 سورة القصص آية : 78.(12/171)
ص -156- ... المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطي شاة والدا، فأنتج هذان وولد هذا، فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم. قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال- بعيرا أتبلغ به في سفري -، فقال: الحقوق كثيرة، فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرا، فأعطاك الله ( المال؟ فقال: إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر، فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت.
قال: وأتى الأقرع في صورته، فقال له مثل ما قال لهذا، ورد عليه مثل ما رد عليه هذا، فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت. قال: ثم إنه أتى الأعمى في صورته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل، قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري، فخذ ما شئت، ودع ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله، فقال: أمسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك" أخرجاه.1
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآية.
الثانية: ما معنى: {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي ?}2 .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري: كتاب الأنبياء، باب حديث أبرص وأعمى وأقرع بني إسرائيل (3 /1276) (حديث رقم (3277). ومسلم: كتاب الزهد والرقائق (4 /2275-2277) حديث رقم (2964).
2 سورة فصلت آية : 50.(12/172)
ص -157- ... الثالثة: ما معنى قوله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}1 .
الرابعة: ما في هذه القصة العجيبة من العبر العظيمة.
[التعليق:]
باب:
قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ}2 .
مقصود هذه الترجمة أن كل من زعم أن ما أوتيه من النعم والرزق فهو بكده وحذقه وفطنته، أو أنه مستحق لذلك لما يظن له على الله من الحق، فإن هذا مناف للتوحيد؛ لأن المؤمن حقا من يعترف بنعم الله الظاهرة والباطنة ويثني على الله بها، ويضيفها إلى فضله وإحسانه، ويستعين بها على طاعته، ولا يرى له حقا على الله، وإنما الحق كله لله، وأنه عبد محض من جميع الوجوه، فبهذا يتحقق الإيمان والتوحيد، وبضده يتحقق كفران النعم، والعجب بالنفس والإدلال الذي هو من أعظم العيوب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة القصص آية : 78.
2 سورة فصلت آية : 50.(12/173)
ص -158- ... باب قول الله تعالى
{فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } 1
قال ابن حزم: "اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله، كعبد عمرو، وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك، حاشا عبد المطلب"2.
وعن ابن عباس في الآية: قال: "لما تغشاها آدم حملت، فأتاهما إبليس فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة لتطيعاني أو لأجعلن له قرني أيل فيخرج من بطنك فيشقه، ولأفعلن ولأفعلن، يخوفهما، سمياه عبد الحارث، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتا، ثم حملت، فأتاهما، فقال مثل قوله، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتا، فأتاهما فذكر لهما، فأدركهما حب الولد، فسمياه عبد الحارث، فذلك قوله: جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا" رواه ابن أبي حاتم3.
وله بسند صحيح عن قتادة قال: "شركاء في طاعته، ولم يكن في عبادته".
وله بسند صحيح عن مجاهد، في قوله: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحا}4.(12/174)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 190.
2 وذلك لأن تسميته بهذا الاسم لا محذور فيها؛ لأن أصله من عبودية الرق.
3 ذكره ابن كثير (التفسير) 2 /275 من طريق عبد الله بن المبارك عن شريك عن خصيف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: (فلما آتاهما صالحا) [الأعراف: 190] ثم قال: (وكأنه- والله أعلم- أصله مأخوذ من أهل الكتاب, فإن ابن عباس رواه عن أبي بن كعب كما رواه ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو الجماهر حدثنا سعيد- يعني ابن بشير- عن عقبة عن قتادة عن مجاهد عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال: لما حملت حواء أتاها الشيطان). وقال ابن كثير: (وهذه الآثار يظهر عليها- والله أعلم- أنها من آثار أهل الكتاب). اهـ. وقال في بيان المراد في هذا السياق: (وأما نحن فعلى مذهب الحسن البصري- رحمه الله- في هذا وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء، وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته). اهـ.
4 سورة الأعراف آية : 189.(12/175)
ص -159- ... قال: "أشفقا أن لا يكون إنسانا". وذكر معناه عن الحسن وسعيد وغيرهما.
فيه مسائل:
الأولى: تحريم كل اسم معبد لغير الله.
الثانية: تفسير الآية.
الثالثة: أن هذا الشرك في مجرد تسمية لم تقصد حقيقتها.
الرابعة: أن هبة الله للرجل البنت السوية من النعم.
الخامسة: ذكر السلف الفرق بين الشرك في الطاعة والشرك في العبادة.
[التعليق:]
باب:
قول الله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}1.
مقصود الترجمة أن من أنعم الله عليهم بالأولاد، وكمل الله النعمة بهم بأن جعلهم صالحين في أبدانهم، وتمام ذلك أن يصلحوا في دينهم، فعليهم أن يشكروا الله على إنعامه، وأن لا يعبدوا أولادهم لغير الله، أو يضيفوا النعم لغير الله، فإن ذلك كفران للنعم مناف للتوحيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 190.(12/176)
ص -160- ... باب قول الله تعالى
{وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}1 الآية.
ذكر ابن أبي حاتم2 عن ابن عباس: {يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}3 يشركون.
وعنه: "سموا اللات من الإله، والعزى من العزيز".
وعن الأعمش: "يدخلون فيها ما ليس منها".
فيه مسائل:
الأولى: إثبات الأسماء.
الثانية: كونها حسنى.
الثالثة: الأمر بدعائه بها.
الرابعة: ترك من عارض من الجاهلين الملحدين.
الخامسة: تفسير الإلحاد فيها.
السادسة: وعيد من ألحد.
[التعليق:]
باب:
قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}4 إلى آخر الآية
أصل التوحيد إثبات ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله من الأسماء الحسنى، ومعرفة ما احتوت عليه من المعاني الجليلة، والمعارف الجميلة، والتعبد لله بها ودعاؤه بها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 180.
2 (الدر المنثور) 3 /149 وفيه (واللات من الله...).
3 سورة الأعراف آية : 180.
4 سورة الأعراف آية : 180.(12/177)
ص -161- ... فكل مطلب يطلبه العبد من ربه من أمور دينه ودنياه. فليتوسل إليه باسم مناسب له من أسماء الله الحسنى، فمن دعاه لحصول رزق فليسأله باسمه الرزاق، ولحصول رحمة ومغفرة فباسمه الرحيم الرحمن البر الكريم العفو الغفور التواب ونحو ذلك.
وأفضل من ذلك أن يدعوه بأسمائه وصفاته دعاء العبادة، وذلك باستحضار معاني الأسماء الحسنى وتحصيلها في القلوب حتى تتأثر القلوب بآثارها ومقتضياتها، وتمتلئ بأجل المعارف.
فمثلا أسماء العظمة والكبرياء والمجد والجلال والهيبة تملأ القلوب تعظيما لله وإجلالا له.
وأسماء الجمال والبر والإحسان والرحمة والجود تملأ القلب محبة لله وشوقا له وحمدا له وشكرا.
وأسماء العز والحكمة والعلم والقدرة تملأ القلب خضوعا لله وخشوعا وانكسارا بين يديه.
وأسماء العلم والخبرة والإحاطة والمراقبة والمشاهدة تملأ القلب مراقبة لله في الحركات والسكنات، وحراسة للخواطر عن الأفكار الردية والإرادات الفاسدة.
وأسماء الغنى واللطف تملأ القلب افتقارا واضطرارا إليه، والتفاتا إليه كل وقت، في كل حال.
فهذه المعارف التي تحصل للقلوب بسبب معرفة العبد بأسمائه وصفاته، وتعبده بها لله لا يحصل العبد في الدنيا أجل ولا أفضل ولا أكمل منها، وهي أفضل العطايا من الله لعبده، وهي روح التوحيد وروحه.
ومن انفتح له هذا الباب انفتح له باب التوحيد الخالص، والإيمان الكامل الذي لا يحصل إلا لِلْكُمَّل من الموحدين.(12/178)
ص -162- ... وإثبات الأسماء والصفات هو الأصل لهذا المطلب الأعلى.
وأما الإلحاد في أسماء الله وصفاته فإنه ينافي هذا المقصد العظيم أعظم منافاة.
والإلحاد أنواع:
إما أن ينفي الملحد معانيها كما تفعله الجهمية ومن تبعهم.
وإما بتشبيهها بصفات المخلوقين كما يفعله المشبهة من الرافضة وغيرهم.
وإما بتسمية المخلوقين بها كما يفعله المشركون حيث سموا اللات من الإله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان، فاشتقوا لها من أسماء الله الحسنى، فشبهوها بالله ثم جعلوا لها من حقوق العبادة ما هو من حقوق الله الخاصة.
فحقيقة الإلحاد في أسماء الله: هو الميل بها عن مقصودها لفظا أو معنى، تصريحا أو تأويلا أو تحريفا، وكل ذلك مناف للتوحيد والإيمان.(12/179)
ص -163- ... باب لا يقال السلام على الله
في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان وفلان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا السلام على الله، فإن الله هو السلام"1 .
فيه مسائل:
الأولى: تفسير السلام.
الثانية: أنه تحية.
الثالثة: أنها لا تصلح لله.
الرابعة: العلة في ذلك.
الخامسة: تعليمهم التحية التي لا تصلح لله.
[التعليق:]
باب: لا يقال السلام علي الله
وقد بين صلى الله عليه وسلم هذا المعنى بقوله: "فإن الله هو السلام" فهو تعالى السلام السالم من كل عيب ونقص، وعن مماثلة أحد من خلقه له، وهو المسلم لعباده من الآفات والبليات، فالعباد لن يبلغوا ضره فيضروه، ولن يبلغوا نفعه فينفعوه، بل هم الفقراء إليه، المحتاجون إليه في جميع أحوالهم، وهو الغني الحميد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري: كتاب صفة الصلاة، باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب (1 /287) حديث رقم ( 800). ومسلم: كتاب الصلاة باب التشهد في الصلاة (1 /301- 302) حديث رقم (402).(12/180)
ص -164- ... باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت
في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة فإن الله لا مكره له"1. ولمسلم: "وليعظم الرغبة؛ فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه"2 .
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن الاستثناء في الدعاء.
الثانية: بيان العلة في ذلك.
الثالثة: قوله:"ليعزم المسألة".
الرابعة: إعظام الرغبة.
الخامسة: التعليل لهذا الأمر.
[التعليق:]
باب: قول: اللهم اغفر لي إن شئت
الأمور كلها وإن كانت بمشيئة الله وإرادته، فالمطالب الدينية كسؤال الرحمة والمغفرة، والمطالب الدنيوية المعينة على الدين كسؤال العافية والرزق وتوابع ذلك، قد أمر العبد أن يسألها من ربه طلبا ملحا جازما، وهذا الطلب عين العبودية ومحلها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري: كتاب الدعوات، باب ليعزم المسألة فإنه لا مكره له (5 /2334). حديث رقم (5980). ومسلم: كتاب الذكر والدعاء باب العزم بالدعاء ولا يقل إن شئت (4 /2063) حديث رقم (2679).
2 رواه مسلم: كتاب الذكر والدعاء، باب العزم بالدعاء ولا يقل إن شئت (4 /2063) حديث رقم (2679).(12/181)
ص -165- ... ولا يتم ذلك إلا بالطلب الجازم الذي ليس فيه تعليق بالمشيئة؛ لأنه مأمور به، وهو خير محض لا ضرر فيه، والله تعالى لا يتعاظمه شيء.
وبهذا يظهر الفرق بين هذا وبين سؤال بعض المطالب المعينة التي لا يتحقق مصلحتها ومنفعتها، ولا يجزم أن حصولها خير للعبد. فالعبد يسأل ربه ويعلقه على اختيار ربه له أصلح الأمرين، كالدعاء المأثور: "اللهم أحيني إذا كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرا لي"1 وكدعاء الاستخارة.
فافهم هذا الفرق اللطيف البديع بين طلب الأمور النافعة المعلوم نفعها وعدم ضررها، وأن الداعي يجزم بطلبها ولا يعلقها، وبين طلب الأمور التي لا يدري العبد عن عواقبها، ولا رجحان نفعها على ضررها، فالداعي يعلقها على اختيار ربه الذي أحاط بكل شيء علما وقدرة ورحمة ولطفا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : المرضى (5671). ومسلم : الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2680). والترمذي : الجنائز (971). والنسائي : الجنائز (1820 ,1821 ,1822). وأبو داود : الجنائز (3108). وابن ماجه : الزهد (4265). وأحمد (3/101 ,3/104 ,3/171 ,3/195 ,3/208 ,3/247 ,3/281).(12/182)
ص -166- ... باب: لا يقول: عبدي وأمتي
في الصحيح عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضىء ربك، وليقل: سيدي ومولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي"1.
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن قول: عبدي وأمتي.
الثانية: لا يقول العبد: ربي، ولا يقال له: أطعم ربك.
الثالثة: تعليم الأول قول: فتاي وفتاتي وغلامي.
الرابعة: تعليم الثاني قول: سيدي ومولاي.
الخامسة: التنبيه للمراد، وهو تحقيق التوحيد حتى في الألفاظ.
[التعليق:]
باب: لا يقل عبدي وأمتي
وهذا على وجه الاستحباب أن يعدل العبد عن قول عبدي وأمتي إلى فتاي وفتاتي، تحفظا عن اللفظ الذي فيه إيهام ومحذور ولو على وجه بعيد، وليس حراما، وإنما الأدب كمال التحفظ بالألفاظ الطيبة التي لا توهم محذورا بوجه.
فإن الأدب في الألفاظ دليل على كمال الإخلاص، خصوصا هذه الألفاظ التي هي أمس بهذا المقام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري: كتاب العتق، باب كراهية التطاول على الرقيق (2 /901) حديث رقم (2414). ومسلم: كتاب الألفاظ من الأدب، باب حكم إطلاق لفظة العبد والأمة والمولى والسيد (4 /1764) حديث رقم (2249).(12/183)
ص -167- ... باب لا يرد من سأل بالله
عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل بالله فأعطوه، ومن استعاذ بالله فأعيذوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه" رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح1.
فيه مسائل:
الأولى: إعاذة من استعاذ بالله.
الثانية: إعطاء من سأل بالله.
الثالثة: إجابة الدعوة.
الرابعة: المكافأة على الصنيعة.
الخامسة: أن الدعاء مكافأة لمن لم يقدر إلا عليه.
السادسة: قوله: "حتى تروا أنكم قد كافأتموه".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه أبو داود (السنن) 2 /310 (كتاب الزكاة) (باب عطية من سأل بالله) حديث رقم (1672). والنسائي (السنن) 5 /82 (كتاب الزكاة) (باب من سأل بالله عز وجل). والحاكم في (المستدرك) 1 /412 وقال: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين). وقال الذهبي: (على شرطهما). والحديث سكت عليه أبو داود ثم المنذري (مختصر سنن أبي داود) 3 /253 وإسناده رجاله ثقات ليس فيه إلا ما يخشى من عنعنة الأعمش له عن مجاهد.(12/184)
ص -168- ... باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة
عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يسأل بوجه الله إلا الجنة" رواه أبو داود1.
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن أن يسأل بوجه الله إلا غاية المطالب.
الثانية: إثبات صفة الوجه.
[التعليق:]
باب: لا يرد من سأل بالله
وباب: لا يسأل بوجه الله إلا الجنة
الباب الأول خطاب للمسئول:
وأنه إذا أدلى على الإنسان أحد بحاجة وتوسل إليه بأعظم الوسائل، وهو السؤال بالله، أن يجيبه احتراما وتعظيما لحق الله، وأداء لحق أخيه حيث أدلى بهذا السبب الأعظم.
والباب الثاني خطاب للسائل:
وأن عليه أن يحترم أسماء الله وصفاته، وأن لا يسأل شيئا من المطالب الدنيوية بوجه الله، بل لا يسأل بوجهه إلا أهم المطالب وأعظم المقاصد وهي الجنة بما فيها من النعيم المقيم، ورضا الرب والنظر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 (السنن) 2/309 – 310 (كتاب الزكاة) (باب كراهية المسألة بوجه الله تعالى) حديث رقم (1671). قال المنذري (مختصر السنن) 2/252: (في إسناده سليمان بن معاذ قال الدارقطني: سليمان بن معاذ وهو سليمان بن قرم تكلم فيه غير واحد). وقال المناوي (فيض القدير) 6/451: (قال في المهذب: سليمان بن معاذ قال ابن معين: (ليس بشيء. وقال عبد الحق وابن القطان: ضعيف) اهـ.(12/185)
ص -169- ... إلى وجهه الكريم والتلذذ بخطابه، فهذا المطلب الأسنى هو الذي يسأل بوجه الله.
وأما المطالب الدنيوية والأمور الدنيئة وإن كان العبد لا يسألها إلا من ربه، فإنه لا يسألها بوجهه.(12/186)
ص -170- ... باب ما جاء في اللَّوْ
وقول الله تعالى: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}1 .
وقوله: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}2 .
في الصحيح عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا. ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان3".
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيتين في آل عمران.
الثانية: النهي الصريح عن قول: "لو" إذا أصابك شيء.
الثالثة: تعليل المسألة بأن ذلك يفتح عمل الشيطان.
الرابعة: الإرشاد إلى الكلام الحسن.
الخامسة: الأمر بالحرص على ما ينفع، مع الاستعانة بالله.
السادسة: النهي عن ضد ذلك وهو العجز.
[التعليق:]
باب: ما جاء في اللَّوْ
اعلم أن استعمال العبد للفظة: "لو" تقع على قسمين: مذموم ومحمود
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية : 154.
2 سورة آل عمران آية : 168.
3 رواه مسلم: كتاب القدر باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله (4 /2052) حديث رقم (2664). وأوله: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير, أحرص".(12/187)
ص -171- ... أما المذموم فأن يقع منه أو عليه أمر لا يحبه فيقول: لو أني فعلت كذا لكان كذا، فهذا من عمل الشيطان؛ لأن فيه محذورين:
أحدهما: أنها تفتح عليه باب الندم والسخط والحزن الذي ينبغي له إغلاقه، وليس فيها نفع.
الثاني: أن في ذلك سوء أدب على الله وعلى قدره، فإن الأمور كلها والحوادث دقيقها وجليلها بقضاء الله وقدره، وما وقع من الأمور فلا بد من وقوعه، ولا يمكن رده، فكان في قوله: لو كان كذا أو لو فعلت كذا كان كذا، نوع اعتراض ونوع ضعف إيمان بقضاء الله وقدره. ولا ريب أن هذين الأمرين المحذورين لا يتم للعبد إيمان ولا توحيد إلا بتركهما.
وأما المحمود من ذلك فأن يقولها العبد تمنيا للخير. كقوله صلى الله عليه وسلم: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولأهللت بالعمرة"1.
وقوله في الرجل المتمني للخير: "لو أن لي مثل مال فلان، لعملت فيه مثل عمل فلان"2.
و "لو صبر أخي موسى لقص الله علينا من نبأهما"3 أي في قصته مع الخضر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري, كتاب الحج, باب تقضي الحائض المنسك كلها إلا الطواف بالبيت (2 /594- 595) حديث رقم (1568). ومسلم: كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام (2 /883- 884) حديث رقم (1216). وهو جزء من حديث طويل عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -.
2 رواه الترمذي (السنن) 4 /562 (كتاب الزهد) (باب ما جاء مثل الدنيا مثل أربعة نفر) حديث (2325) وقال: (حسن صحيح). اهـ.
3 رواه البخاري: كتاب الأنبياء باب حديث الخضر مع موسى - عليهما السلام - (3 /1246- 1248) رقم (3220). ومسلم: كتاب الفضائل, باب فضائل الخضر عليه السلام (4 /1850-1852) حديث رقم (2380) وهو جزء من حديث طويل عن أبي بن كعب - رضي الله عنه -.(12/188)
ص -172- ... وكما أن (لو) إذا قالها متمنيا للخير فهو محمود.
فإذا قالها متمنيا للشر فهو مذموم. فاستعمال (لو) تكون بحسب الحال الحامل عليها.
إن حمل عليها الضجر والحزن وضعف الإيمان بالقضاء والقدر أو تمنى الشر كان مذموما.
وإن حمل عليها الرغبة في الخير والإرشاد والتعليم كان محمودا، ولهذا جعل المصنف الترجمة محتملة للأمرين.(12/189)
ص -173- ... باب النهي عن سب الريح
عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا
تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح
وخير ما فيها، وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح، وشر ما فيها، وشر
ما أمرت به" صححه الترمذي1.
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن سب الريح.
الثانية: الإرشاد إلى الكلام النافع إذا رأى الإنسان ما يكره.
الثالثة: الإرشاد إلى أنها مأمورة.
الرابعة: أنها قد تؤمر بخير، وقد تؤمر بشر.
[التعليق:]
باب: النهي عن سب الريح
وهذا نظير ما سبق في سب الدهر، إلا أن ذلك الباب عام في سب جميع حوادث
الدهر، وهذا خاص بالريح، ومع تحريمه فإنه حمق وضعف في العقل والرأي، فإن
الريح مصرفة مدبرة بتدبير الله وتسخيره، فالساب لها يقع سبه على من صرفها،
ولولا أن المتكلم بسب الريح لا يخطر هذا المعنى في قلبه غالبا لكان الأمر أفظع
من ذلك، ولكن لا يكاد يخطر بقلب مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 (السنن) 4 /521 (كتاب الفتن) (باب النهي عن سب الرياح) حديث رقم (
2252). وقال: (هذا حديث حسن صحيح). اهـ. وقال: (وفي الباب عن عائشة,
وأبي هريرة, وعثمان ابن أبي العاص, وأنس, وابن عباس, وجابر, قلت: وفي
إسناد حديث أبي (محمد بن فضيل). قال ابن حجر (تقريب التهذيب) 2 /201: (
صدوق)(12/190)
ص -174- ... باب قول الله تعالى
{يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} 1.
وقوله: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ}2 .
قال ابن القيم في الآية الأولى:
"فسر هذا بأنه سبحانه لا ينصر رسوله وأن أمره سيضمحل، وفسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقدر الله وحكمته، ففسر بإنكار الحكمة وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يظهره على الدين كله، وهذا هو ظن السوء، الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح، وإنما كان هذا ظن السوء؛ لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه، وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق.
فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة، فذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار.
وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته وموجب حكمته وحمده.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية : 154.
2 سورة الفتح آية : 6.(12/191)
ص -175- ... فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله ويستغفره من ظنه بربه ظن السوء.
ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتا على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك: هل أنت سالم؟
وإلا فإني لا إخالك ناجيا".
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية آل عمران.
الثانية: تفسير آية الفتح.
الثالثة: الإخبار بأن ذلك أنواع لا تحصر.
الرابعة: أنه لا يسلم من ذلك إلا من عرف الأسماء والصفات وعرف نفسه.
[التعليق:]
باب: قول الله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّة}1
وذلك أنه لا يتم للعبد إيمان ولا توحيد حتى يعتقد جميع ما أخبر الله به من أسمائه وصفاته وكماله، وتصديقه بكل ما أخبر إليه به من أسمائه وصفاته وكماله، وتصديقه بكل ما أخبر به، وأنه يفعله، وما وعد به من نصر الدين، وإحقاق الحق، وإبطال الباطل، فاعتقاد هذا من الإيمان، وطمأنينة القلب بذلك من الإيمان.
وكل ظن ينافي ذلك فإنه من ظنون الجاهلية المنافية للتوحيد ; لأنها سوء ظن بالله ونفي لكماله وتكذيب لخبره وشك في وعده. والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية : 154.(12/192)
ص -176- ... باب ما جاء في منكري القدر
وقال ابن عمر: والذي نفس ابن عمر بيده، لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا، ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه، حتى يؤمن بالقدر. ثم استدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره" رواه مسلم1.
وعن عبادة بن الصامت: أنه قال لابنه: يا بني، إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فقال: رب وماذا أكتب ؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة" يا بني، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات على غير هذا فليس مني"2.
وفي رواية لأحمد: "إن أول ما خلق الله تعالى القلم، فقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة"3. وفي رواية لابن وهب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار"4 .(12/193)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله ... (1 /36, 38) حديث رقم (8). جزء من حديث جبريل المشهور وهو في صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب وأبي هريرة - رضي الله عنهما -.
2 رواه باللفظ المذكور أبو داود في (السنن) 5 /76 (كتاب السنة) (باب في القدر) حديث رقم (4700). سكت عنه أبو داود ثم المنذري في (مختصر سنن أبي داود) 7 /69 وله طرق كثيرة يصح بها. انظر (السنة) لابن أبي عاصم 1 /48-49.
3 (المسند) 5 / 317 من حديث عبادة بن الصامت.
4 (القدر) لابن وهب ص 121 حديث رقم (26) من طريق عمر بن محمد أن سليمان بن مهران حدثه قال: قال عبادة بن الصامت الحديث. وإسناده منقطع بين (سليمان بن مهران) وهو الأعمش، وكان مولده أول إحدى وستين. (تهذيب التهذيب) 4 /223 وبين (عبادة بن الصامت) وقد توفي سنة أربع وثلاثين (التقريب) ص 292.(12/194)
ص -177- ... وفي المسند والسنن عن ابن الديلمي، قال: أتيت أبي بن كعب، فقلت له: في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء، لعل الله يذهبه من قلبي، فقال: "لو أنفقت مثل أحد ذهبا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار". قال: فأتيت عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت، فكلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح، رواه الحاكم في صحيحه1.
فيه مسائل:
الأولى: بيان فرض الإيمان بالقدر.
الثانية: بيان كيفية الإيمان به.
الثالثة: إحباط عمل من لم يؤمن به.
الرابعة: الإخبار بأن أحدا لا يجد طعم الإيمان حتى يؤمن به.
الخامسة: ذكر أول ما خلق الله.
السادسة: أنه جرى بالمقادير في تلك الساعة إلى قيام الساعة.
السابعة: براءته صلى الله عليه وسلم ممن لم يؤمن به.
الثامنة: عادة السلف في إزالة الشبهة بسؤال العلماء.
التاسعة: أن العلماء أجابوه بما يزيل شبهته، وذلك أنهم نسبوا الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه أبو داود (السنن) 5 /75 (كتاب السنة) (باب في القدر) حديث رقم (4699). وابن ماجه (السنن) 1 /29-30 (المقدمة) (باب في القدر) حديث رقم (77). والإمام أحمد (المسند) 5 /82. ولم أقف عليه في (المستدرك) للحاكم ولعله أراد ابن حبان في (صحيحه) (موارد الظمآن) ص450 حديث رقم (1817). قال المنذري في (مختصر السنن) 7 /69: (وفي إسناده سعيد بن سنان الشيباني, وثقه يحيى بن معين وغيره, وتكلم الإمام أحمد وغيره). وقال فيه ابن حجر في (تقريب التهذيب) 1 /298: (صدوق له أوهام). وصححه الألباني في تخريج (السنة) لابن أبي عاصم 1 /109.(12/195)
ص -178- ... [التعليق:]
باب: ما جاء في منكري القدر
قد ثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة: أن الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فمن لم يؤمن بهذا فإنه ما آمن بالله حقيقة.
فعلينا أن نؤمن بجميع مراتب القدر: فنؤمن أن الله بكل شيء عليم، وأنه كتب في اللوح المحفوظ جميع ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وأن الأمور كلها بخلقه وقدرته وتدبيره.
ومن تمام الإيمان بالقدر: العلم بأن الله لم يجبر العباد على خلاف ما يريدون، بل جعلهم مختارين لطاعتهم ومعاصيهم.(12/196)
ص -179- ... باب ما جاء في المصورين
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة" أخرجاه1.
ولهما عن عائشة - رضي الله عنها -، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله"2.
ولهما عن ابن عباس، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم"3.
ولهما عنه مرفوعا: "من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ"4.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري (الصحيح) 6 /2747 (كتاب التوحيد) (باب قول الله تعالى: والله خلقكم وما تعملون ) حديث رقم (7120). ومسلم: كتاب اللباس والزينة باب تحريم تصوير صورة الحيوان وتحريم اتخاذ ما فيه صور غير ممتهنة بالفرش ونحوه.... (3 /1671) رقم (2111).
2 رواه البخاري: كتاب اللباس، باب ما وطئ من التصاوير (5 /2221) حديث رقم (5610). ومسلم: كتاب اللباس والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان.... (3 /1668) حديث رقم (2106).
3 رواه البخاري: كتاب البيوع، باب بيع التصاوير التي ليس فيها روح (2 /775) حديث رقم (2112). ومسلم: كتاب اللباس والزينة باب تحريم تصوير صورة الحيوان... (3 /1670- 1671) حديث رقم (2110) واللفظ لمسلم.
4 رواه البخاري: كتاب اللباس، باب من صور صورة كلف أن ينفخ فيها وليس بنافخ (5 /2223) حديث رقم (5618). ومسلم: كتاب اللباس والزينة باب تحريم تصوير صورة الحيوان... (3 /1671) حديث رقم (2110).(12/197)
ص -180- ... ولمسلم عن أبي الهياج: قال: قال لي علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرا مشرفا إلا سويته"1 .
فيه مسائل:
الأولى: التغليظ الشديد في المصورين.
الثانية: التنبيه على العلة وهو ترك الأدب مع الله لقوله: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي".
الثالثة: التنبيه على قدرته وعجزهم لقوله: (فليخلقوا ذرة) أو(شعيرة).
الرابعة: التصريح بأنهم أشد الناس عذابا.
الخامسة: أن الله يخلق بعدد كل صورة نفسا يعذب بها المصور في جهنم.
السادسة: أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح.
السابعة: الأمر بطمسها إذا وجدت.
[التعليق:]
باب: ما جاء في المصورين
وهذا من فروع الباب السابق أنه لا يحل أن يجعل لله ندا في النيات والأقوال والأفعال، والند المشابه ولو بوجه بعيد. فاتخاذ الصور الحيوانية تشبه بخلق الله، وكذب على الخلقة الإلهية، وتمويه وتزوير، فلذلك زجر الشارع عنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه مسلم: كتاب الجنائز، باب الأمر بتسوية القبر (2 /666) حديث رقم (969).(12/198)
ص -181- ... باب ما جاء في كثرة الحلف
وقول الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}1 .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب" أخرجاه2.
وعن سلمان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته، لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه" رواه الطبراني بسند صحيح3.
وفي الصحيح عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم- قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثة ؟ - ثم إن بعدكم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن"4.(12/199)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية : 89.
2 رواه البخاري: كتاب البيوع، باب يمحق الله الربا ويربي الصدقات (2 /735) حديث رقم (1981). ومسلم: كتاب المساقاة باب النهي عن الحلف في البيع (3 /1228) حديث رقم (1606). في البخاري: (ممحقة للبركة), وفي مسلم: (ممحقة للربح).
3 (المعجم الكبير) 6 /301 حديث رقم (6111)، و(المعجم الصغير) 2 /21 من طريق سعيد بن عمرو الأشعثي حدثنا حفص بن غياث عن عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي مرفوعا وقال: لم يروه عن عاصم الأحفص. قال الهيثمي (مجمع الزوائد) 4 /78: (رواه الطبري في الثلاثة إلا أنه قال في (الصغير) و(الأوسط): (ثلاثة لا يكلمهم الله, ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم). فذكره ورجاله رجال الصحيح). اهـ ولفظه في (الكبير): (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: أشيمط زان...) الحديث.
4 رواه البخاري: كتاب فضائل أصحاب النبي (, باب فضائل أصحاب النبي ( (3 /1335), حديث رقم ( 3450). ومسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (4 /1964) حديث رقم (2535).(12/200)
ص -182- ... وفيه عن ابن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته"1.
وقال إبراهيم: "كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار".
فيه مسائل:
الأولى: الوصية بحفظ الأيمان.
الثانية: الإخبار بأن الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة.
الثالثة: الوعيد الشديد فيمن لا يبيع إلا بيمينه ولا يشتري إلا بيمينه.
الرابعة: التنبيه على أن الذنب يعظم مع قلة الداعي.
الخامسة: ذم الذين يحلفون ولا يستحلفون.
السادسة: ثناؤه صلى الله عليه وسلم على القرون الثلاثة أو الأربعة وذكر ما يحدث بعدهم.
السابعة: ذم الذين يشهدون ولا يستشهدون.
الثامنة: كون السلف يضربون الصغار على الشهادة والعهد.
[التعليق:]
باب: ما جاء في كثرة الحلف
أصل اليمين إنما شرعت تأكيدا للأمر المحلوف عليه، وتعظيما للخالق، ولهذا وحب أن لا يحلف إلا لله، وكان الحلف بغيره من الشرك.
ومن تمام هذا التعظيم أن لا يحلف بالله إلا صادقا.
ومن تمام هذا التعظيم أن يحترم اسمه العظيم عن كثرة الحلف بالكذب، وكثرة الحلف تنافي التعظيم الذي هو روح التوحيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري: كتاب فضائل أصحاب النبي (، باب فضائل أصحاب النبي (3 /1335) حديث رقم (3451). ومسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (4 /1962-1963) حديث رقم (2533) (210).(12/201)
ص -183- ... باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه
وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}1 .
عن بريدة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش، أو سرية أوصاه بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرا. فقال: "اغزوا بسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال- أو خلال- فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله تعالى، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم.
وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا؟" رواه مسلم2 .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية : 91.
2 رواه مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها. (3 /1356-1358) حديث رقم (1731).(12/202)
ص -184- ... فيه مسائل:
الأولى: الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه وذمة المسلمين.
الثانية: الإرشاد إلى أقل الأمرين خطرا.
الثالثة: قوله: "اغزوا بسم الله في سبيل الله".
الرابعة: قوله:"قاتلوا من كفر بالله".
الخامسة: قوله:"استعن بالله وقاتلهم".
السادسة: الفرق بين حكم الله وحكم العلماء.
السابعة: في كون الصحابي يحكم عند الحاجة بحكم لا يدري أيوافق حكم الله أم لا؟.
[التعليق:]
باب: ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه
المقصود من هذه الترجمة البعد والحذر من التعرض للأحوال التي يخشى منها نقض العهود والإخلال بها، بعدما يجعل للأعداء المعاهدين ذمة الله وذمة رسوله. فإنه متى وقع النقض في هذه الحال كان انتهاكا من المسلمين لذمة الله وذمة نبيه، وتركا لتعظيم الله، وارتكابا لأكبر المفسدتين كما نبه عليه صلى الله عليه وسلم.
وفي ذلك أيضا تهوين للدين والإسلام وتزهيد للكفار به، فإن الوفاء بالعهود خصوصا المؤكدة بأغلظ المواثيق من محاسن الإسلام الداعية للأعداء المنصفين إلى تفضيله واتباعه.(12/203)
ص -185- ... باب ما جاء في الإقسام على الله
عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله ( من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان ؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك" رواه مسلم1.
وفي حديث أبي هريرة2: أن القائل رجل عابد، قال أبو هريرة: "تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته".
فيه مسائل:
الأولى: التحذير من التألي على الله.
الثانية: كون النار أقرب إلى أحدنا من شراك نعله.
الثالثة: أن الجنة مثل ذلك.
الرابعة: فيه شاهد لقوله: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة"إلى آخره.
الخامسة: أن الرجل قد يغفر له بسبب هو من أكره الأمور إليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله تعالى (4 /2023) حديث رقم (2621). وتمامه: (أو كما قال). اهـ.
2 رواه أبو داود في (السنن) 5 /207 (كتاب الأدب) (باب النهي عن البغي) حديث رقم (4901) وأوله: (كان رجلان في بني إسرائيل...). قال المنذري (مختصر سنن أبي داود) 7 /225: (في إسناده علي بن ثابت الجزري قال الأزدي: ضعيف. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه. وقال ابن معين: ثقة. وقال أبو زرعة: ثقة لا يأس به). وقال ابن حجر (تقريب التهذيب) 1 /32: (صدوق ربما أخطأ, وقد ضعفه الأزدي بلا حجة). اهـ.(12/204)
ص -186- ... باب لا يستشفع بالله على خلقه
عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، نهكت الأنفس، وجاع العيال، وهلكت الأموال، فاستسق لنا ربك فإنا نستشفع بالله عليك، وبك على الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله، سبحان الله! " فلا زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم "ويحك! أتدري ما الله؟ إن شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه" وذكر الحديث، رواه أبو داود1.
فيه مسائل:
الأولى: الإنكار على من قال: "نستشفع بالله عليك".
الثانية: تغيره تغيرا عرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة.
الثالثة: أنه لم ينكر عليه قوله: "نستشفع بك على الله".
الرابعة: التنبيه على تفسير "سبحان الله".
الخامسة: أن المسلمين يسألونه الاستسقاء.(12/205)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 (السنن) 5 /94 (كتاب السنة) (باب في الجهمية) حديث رقم (4726) قال المنذري (مختصر سنن أبي داود) 7 /97: (قال أبو بكر البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي ( من وجه من الوجوه إلا من هذا الوجه, ولم يقل فيه محمد بن إسحاق حدثني يعقوب بن عقبة). وقال: (ومحمد بن إسحاق مدلس, وإذا قال المدلس: عن فلان ولم يقل حدثنا أو سمعت أو أخبرنا لا يحتج بخبره, وإلى هذا أشار البزار مع أن ابن إسحاق إذا صرح بالسماع اختلف الحفاظ في الاحتجاج بحديثه فكيف إذا لم يصرح به...). وقد ناقش ابن القيم- رحمه الله- في (تهذيب السنن) 7 /94 تعليل المنذري هذا مناقشة طويلة. والحديث ضعفه الألباني في تخريج (السنة) لابن أبي عاصم 1 /252 حديث رقم (575). ولم أقف على قوله (إن شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه). في سنن أبي داود, ووقفت عليه في (السنة) لابن أبي عاصم 1 /252 حديث رقم (575). وفي سنن أبي داود- أيضا- مكان قوله: (نهكت الأنفس) (نهكت الأموال).(12/206)
ص -187- ... [التعليق:]
باب: الإقسام على الله
وباب: لا يستشفع بالله علي خلقه
وهذان الأمران من سوء الأدب في حق الله، وهو مناف للتوحيد.
أما الإقسام على الله فهو في الغالب من باب العجب بالنفس والإدلال على الله، وسوء الأدب معه، ولا يتم الإيمان حتى يسلم من ذلك كله. وأما الاستشفاع بالله على خلقه فهو تعالى أعظم شأنا من أن يتوسل به إلى خلقه ; لأن رتبة المتوسل به غالبا دون رتبة المتوسل إليه، وذلك من سوء الأدب مع الله، فيتعين تركه، فإن الشفعاء لا يشفعون عنده إلا بإذنه، وكلهم يخافونه، فكيف يعكس الأمر فيجعل هو الشافع، وهو الكبير العظيم الذي خضعت له الرقاب، وذلت له الكائنات بأسرها.(12/207)
ص -188- ... باب ما جاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم
حمى التوحيد وسده طرق الشرك
عن عبد الله بن الشِّخِّير رضي الله عنه قال: "انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا. فقال: السيد: الله تبارك وتعالى. قلنا: وأفضلنا فضلا، وأعظمنا طولا. فقال: قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان" رواه أبو داود بسند جيد1.
وعن أنس رضي الله عنه أن ناسا قالوا: يا رسول الله، يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، فقال: "يا أيها الناس قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله (" رواه النسائي بسند جيد2.
فيه مسائل:
الأولى: تحذير الناس من الغلو.
الثانية: ما ينبغي أن يقول من قيل له: "أنت سيدنا".
الثالثة: قوله: "لا يستهوينكم الشيطان" مع أنهم لم يقولوا إلا الحق.
الرابعة: قوله: "ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 (السنن) 5 /154-155 (كتاب الأدب) (باب في كراهية التمادح) حديث رقم (4806) قال ابن حجر (فتح الباري) 5 /179: (رجاله ثقات، وقد صححه غير واحد). وقال المناوي (فيض القدير) 4 /152: (سكت عليه أبو داود ثم المنذري). اهـ.
2 (عمل اليوم والليلة) ص250 حديث رقم (249) (ذكر اختلاف الأخبار في قول القائل سيدنا وسيدي). من طريق أبي بكر بن نافع حدثنا بهز حدثنا حماد بن سلمة ثنا ثابت عن أنس. الحديث بنحوه. وله طريق أخرى عن أنس عند الإمام أحمد (المسند) 3 /241 وطريقان آخران عن حماد به رواهما الإمام أحمد- أيضا- (المسند) 3 /153 و249. قال ابن عبد الهادي (الصارم المنكي) ص 246: (وفي المسند بإسناد صحيح على شرط مسلم عن أنس... الحديث).(12/208)
ص -189- ... [التعليق:]
باب: ما جاء في حماية المصطفى حمى التوحيد وسده طرق الشرك
تقدم1 نظير هذه الترجمة وأعادها المصنف اهتماما بالمقام، فإن التوحيد لا يتم ولا يحفظ ولا يحصن إلا باجتناب جميع الطرق المفضية إلى الشرك، والفرق بين البابين أن الأول فيه حماية التوحيد بسد الطرق الفعلية، وهذا الباب فيه حمايته وسده بالتأدب والتحفظ بالأقوال.
فكل قول يفضي إلى الغلو الذي يخشى منه الوقوع في الشرك، فإنه يتعين اجتنابه ولا يتم التوحيد إلا بتركه.
والحاصل أن تمام التوحيد بالقيام بشروطه وأركانه ومكملاته ومحققاته، وباجتناب نواقضه ومنقصاته ظاهرا وباطنا، قولا وفعلا وإرادة واعتقادا.
وقد مضى من التفاصيل ما يوضح ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ص85 (باب ما جاء في حماية المصطفى ( جناب التوحيد، وسده كل طريق يوصل إلى الشرك).(12/209)
ص -190- ... باب ما جاء في قول الله تعالى
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}1
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 2"متفق عليه3.
وفي رواية لمسلم: "والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، أنا الله"4.
وفي رواية للبخاري: "يجعل السماوات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع" أخرجاه5.(12/210)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية : 67.
2 البخاري : تفسير القرآن (4811) والتوحيد (7414 ,7415 ,7451 ,7513) , ومسلم : صفة القيامة والجنة والنار (2786) , والترمذي : تفسير القرآن (3238) , وأحمد (1/378 ,1/429 ,1/457).
3 رواه البخاري: كتاب التفسير, باب وما قدروا الله حق قدره (4 /1812) حديث رقم (4533). ومسلم: كتاب صفات المنافقين, كتاب صفة القيامة والجنة والنار. (4 /2147) حديث رقم (2786). وليس فيهما قوله: (الماء على إصبع, والثرى على إصبع).
4 رواه مسلم: كتاب صفات المنافقين وأحكامهم, كتاب صفة القيامة والجنة والنار (4 /2147) حديث رقم (2786).
5 رواه البخاري: كتاب التفسير, باب وما قدروا الله حق قدره (4 /1812) حديث رقم (4533). ومسلم: كتاب صفات المنافقين, كتاب صفة القيامة والجنة والنار. (4 /2147) حديث رقم (2786).(12/211)
ص -191- ... ولمسلم عن ابن عمر مرفوعا: "يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين السبع ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟"1 .
وروي عن ابن عباس قال: "ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم"2.
وقال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: حدثني أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس"3 .
قال: وقال أبو ذر رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض"4.(12/212)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه مسلم: كتاب صفات المنافقين وأحكامهم, كتاب صفة القيامة والجنة والنار (4 /2148) حديث رقم (2788).
2 رواه ابن جرير (التفسير) 24 /17 في تفسير قوله تعالى: (بل الله فاعبد وكن من الشاكرين وما قدروا الله حق قدره) , الآية من طريق معاذ بن هشام ثنى أبي عن عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس مثله. إلا أنه قال: (يد الله) مكان (كف الرحمن). وفي إسناده (عمرو بن مالك) وهو الفكري أبو مالك ذكره ابن أبي حاتم (الجرح والتعديل) 6 /259 ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا. وقال ابن حبان (المجروحين) 3 /114 في ترجمة ابنه (يحيى بن عمرو بن مالك): (.. فيكون هو وأبوه جميعا متروكين). وقال ابن عدي في ترجمة (أبي الجوزاء) وهو أوس بن عبد الله الربعي: (حدث عنه عمرو بن مالك قدر عشرة أحاديث غير محفوظة). (تهذيب التهذيب) 1 /384.
3 (تفسير ابن جرير) 3 /7-8 (وابن زيد) هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. قال الذهبي (العلو) ص91: (هذا مرسل, وعبد الرحمن ضعيف). اهـ.
4 ذكره ابن جرير- معلقا- (التفسير) 3 /8 بمثل لفظ المؤلف, وذكره الذهبي (العلو) ص89- 90 من طريق يحيى بن سعيد العبشمي حدثنا ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير عن أبي ذر قلت: يا رسول الله أي آية أعظم؟ قال: "آية الكرسي, ما السموات السبع في الكرسي ألا كحلقة ملقاة في أرض فلاة, وفضل العرش على الكرسي كفضل الغلاة على تلك الحلقة". وقال: (وأحسب العبشمي هو الأموي صدوق وإلا فهو آخر, والخبر منكر). اهـ.(12/213)
ص -192- ... وعن ابن مسعود، قال: "بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم". أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله، ورواه بنحوه المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله. قاله الحافظ الذهبي - رحمه الله تعالى -، قال: وله طرق1.
وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ "قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: "بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وبين السماء السابعة والعرش بحر، بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله سبحانه وتعالى فوق ذلك، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم" أخرجه أبو داود وغيره
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قول الذهبي في (العلو) ص 39 لكنه قال: (والكرسي فوق الماء والله فوق الكرسي). ولم يذكر العرش. والحديث رواه ابن خزيمة (كتاب التوحيد) ص 105 و 106 (باب ذكر استواء خالقنا العلي الأعلى). ورواه في موضع آخر ص 376-377 (باب ذكر موضع عرش الله عز وجل قبل خلق السموات). ورواه الذهبي (العلو) ص 39. وصحح إسناده في موضع آخر من (العلو) ص 64. وصحح إسناده- أيضا- ابن القيم (اجتماع الجيوش الإسلامية) ص 100.(12/214)
ص -193- ... فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}1 .
الثانية: أن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه صلى الله عليه وسلم ولم ينكروها ولم يتأولوها.
الثالثة: أن الحبر لما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم صدقه، ونزل القرآن بتقرير ذلك.
الرابعة: وقوع الضحك منه صلى الله عليه وسلم لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم.
الخامسة: التصريح بذكر اليدين، وأن السماوات في اليد اليمنى والأرضين في الأخرى.
السادسة: التصريح بتسميتها الشمال.
السابعة: ذكر الجبارين والمتكبرين عند ذلك.
الثامنة: قوله: "كخردلة في كف أحدكم ".
التاسعة: عظم الكرسي بالنسبة إلى السماوات.
العاشرة: عظمة العرش بالنسبة إلى الكرسي.
الحادية عشرة: أن العرش غير الكرسي والماء.
الثانية عشرة: كم بين كل سماء إلى سماء ؟.
الثالثة عشرة: كم بين السماء السابعة والكرسي ؟
الرابعة عشرة: كم بين الكرسي والماء ؟
الخامسة عشرة: أن العرش فوق الماء.
السادسة عشرة: أن الله فوق العرش.
السابعة عشرة: كم بين السماء والأرض ؟
الثامنة عشرة: كثف كل سماء خمسمائة سنة.
التاسعة عشرة: أن البحر الذي فوق السماوات بين أعلاه وأسفله[مسيرة] خمسمائة سنة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية : 67.(12/215)
ص -194- ... والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[التعليق:]
باب: قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}1 .
ختم المصنف - رحمه الله تعالى - كتابه بهذه الترجمة. وذكر النصوص الدالة على عظمة الرب العظيم وكبريائه، ومجده وجلاله وخضوع المخلوقات بأسرها لعزه ; لأن هذه النعوت العظيمة والأوصاف الكاملة أكبر الأدلة والبراهين على أنه المعبود وحده، المحمود وحده، الذي يجب أن يذل له غاية الذل والتعظيم وغاية الحب والتأله، وأنه الحق وما سواه باطل، وهذه حقيقة التوحيد ولبه وروحه، وسر الإخلاص.
فنسأل الله أن يملأ قلوبنا من معرفته ومحبته والإنابة إليه، إنه جواد كريم، وهذا آخر التعليق المختصر على كتاب التوحيد وتوضيح مقاصده، وقد حوى من غرر مسائل التوحيد، ومن التقاسيم والتفصيلات النافعة ما لا يستغني عنه الراغبون في هذا الفن الذي هو أصل الأصول، وبه تقوم العلوم كلها. والحمد لله على تيسيره ومنته.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية : 67.(12/216)
إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد - الجزء الأول
الشيخ / صالح بن فوزان الفوزان
الناشر:
مؤسسة الرسالة
الطبعة الثالثة، 1423هـ 2002م(13/1)
ص -5- ... المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق الخلق ليعبدوه، وأسبغ عليهم نعمه ليشكروه.
والصلاة والسلام على نبينا محمد، دعا إلى توحيد الله وصبر على الأذى في سبيل ذلك حتى استقرت عقيدة التّوحيد، واندحر الشرك وأهله.
وعلى آله وأصحابه الذين اقتفوا أثره وساروا على نهجه، وجاهدوا في الله حق جهاد.
أما بعد:
فإن التّوحيد هو الأصل في بني آدم، والشرك طارئ ودخيل، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على التّوحيد".
وأول ما حدث الشرك في الأرض في قوم نوح لما غلوا في الصالحين، وصوروا صورهم، فآل بهم الأمر إلى أن عبدوهم من دون الله، فبعث الله نبيه نوحاً عليه الصلاة والسلام ينهى عن الشرك ويأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، وجاء الرسل من بعده كلهم على هذا النمط، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}(25).
وأما الشرك في قوم موسى فحدث عندما اتخذوا العجل، وكان موقف كليم الله موسى وأخيه هارون عليهما السلام معهم ما قصه الله في كتابه.
وأما الشرك في النصارى فحدث بعد رفع المسيح عليه السلام إلى السماء، على يد اليهودي (بولس)، الذي أظهر الإيمان بالمسيح مكراً وخداعاً، فأدخل في دين النصارى التثليث وعبادة الصليب، وكثيراً من الوثنيات.
وأما الشرك في بني إسماعيل عليه السلام وهم العرب فحدث على يد عمرو بن لحي(13/2)
ص -6- ... الخزاعي، الذي غير دين إبراهيم عليه السلام وجلب الأصنام إلى أرض الحجاز، وأمر بعبادتها.
وأما الشرك في بعض المسلمين فحدث على يد الشيعة الفاطميين بعد المائة الرابعة، حينما بنوا المشاهد على القبور، وأحدثوا بدعة الموالد في الإسلام، والغلو في الصالحين.
وكذلك عندما حدث التصوف المنحرف المتمثل بالغلو في المشايخ وأصحاب الطرق.
ولكن الله سبحانه قد تكفل بحفظ هذا الدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على يد العلماء المصلحين والدعاة المجددين، الذين يبعثهم الله على رأس كل مائة سنة، كما في الحديث، فبقي للحق أنصاره وللدين حماته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى وهم على ذلك".
ولهذا يقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في مقدمة كتابه: الرد على الجهمية: "الحمد لله الذي جعل في وقت كل فترة من الرسل بقايا من أهل العلم؛ ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ويدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، فكم من ضال قد هدوه، وكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم".
ومن هؤلاء الذين وصفهم الإمام أحمد بهذه الأوصاف العظيمة؟ شيخ الإسلام الإمام المجدد الشيخ: محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فقد وقف موقفاً عظيماً، من مواقف هؤلاء الأئمة في مواجهة التغيرات التي حدثت في مجتمعه؛ من انحراف في العقيدة، وانقسام في الحكم، واستشراء للعادات الجاهلية في الحاضرة والبادية، شرك في العبادة، ومخالفات للشرع في الحكم بين الناس، ورواج لسوق الشعوذة والسحر، وتعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ رغم كثرة وجود العلماء فيهم؛ المتبحرين في مسائل الفقه الفرعية، لكن العبرة ليست بوجود العلماء ووفرتهم دون أن يكون لهم أثر فعال في الإصلاح،
فبنوا إسرائيل هلكوا(13/3)
وفيهم العلماء، فما لم يقم علماؤهم بما أوجب الله عليهم من النصح والإصلاح تسلط عليهم الشيطان. قال- تعالى-: {وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبئْسَ مَا(13/4)
ص -7- ... كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}(63).
إنه لما وقف هذا الإمام من مجتمعه المنحرف موقف الصدق والنصيحة؛ خلص هذا المجتمع مما وقع فيه من أسباب هلاكه، مع أنه رجل واحد، ولكن كما قيل:
والناس ألف منهموا كواحد ... وواحد كالألف إن أمر عنى
وهكذا سنة الله لا تتغير، فالأمة لا تنهض من كبوتها ولا تستيقظ من رقدتها إلاّ بتوفيق الله ثم بجهود علمائها المخلصين ودعاتها الناصحين، ورحم الله الإمام مالكاً حيث يقول: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلاَّ ما أصلح أولها".
وما امتازت هذه الأمة على غيرها من الأمم إلا بقيامها بالإصلاح والدعوة إلى الله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(104).
* الشيخ محمد بن عبد الوهاب و (كتاب التّوحيد):
هو الإمام العلامة، والمجاهد الصابر، والداعي إلى الله على بصيرة، والمجدد لدين الله في القرن الثاني عشر من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ الشيخ: محمد بن عبد الوهاب بن سليمان المُشَرَّفي التميمي النجدي.
ولد في العيينة سنة 1115هـ، ونشأ في بيت علم ورئاسة وشرف، فأبوه عبد الوهاب كان فقيهاً قاضياً، وجده سليمان كان مفتي بلاد نجد ورئيس علمائها، وأعمامه وأبناء أعمامه كانوا أهل رفعة وعلم ومكانة، كانت بلدته العيينة وما جاورها من بلاد نجد تعج بالعلماء، الذين كانوا على صِلَة وثيقة بعلماء الحنابلة في الشام وفلسطين وغيرها فكان فيهم فقهاء متبحرون في الفقه. حفظ الشيخ محمد القرآن صغيراً، وقرأ الفقه والتفسير والحديث على أبيه(13/5)
وعلماء بلده، حتى ألم بما عندهم في وقت يسير، مع التروي والمناقشة والتدقيق، حتى أعجب به والده ومشايخه وزملاؤه.
ثم تطلع إلى المزيد من العلم فأقبل على كتاب الله، وتفسيره قراءة وتدبراً(13/6)
ص -8- ... واستنباطاً، وعلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته، واستنتج منهما الاستنتاجات العجيبة، وقد دوَّن هذه الاستنباطات المفيدة في كتبه ورسائله وفتاويه، وعكف على كتب الشيخين: شيخ الإسلام ابن تيمية. والشيخ الإمام ابن القيم، خصوصاً كتب العقيدة.
ثم علت به همته وطموحاته فسافر إلى علماء الحرمين وعلماء الأحساء وعلماء البصرة في العراق، والتقى بهم، وأخذ عنهم علماً غزيراً في الفقه والحديث وعلومه، حتى تضلع بالعلم، وأخذه عن كل من تمكن من الالتقاء به من علماء عصره، ومطالعة كتب من تقدمهم من الأئمة المحققين، ودراسة التفسير والحديث دراسة فاحصة مدققة.
وعندما نظر إلى واقع أهل عصره وجد البون شاسعاً بين هذا الواقع وبين ما دل عليه الكتاب والسنة، وما كان عليه أئمة السلف الصالح في الاعتقاد والمنهج.
فالعلماء في وقته في الغالب مشغولون بدراسة الفقه وعقائد علماء الكلام المخالفة لاعتقاد السلف، دون تمييز بين الصحيح والسقيم.
والعامة منهمكون في البدع والخرافات والشركيات ودعاء الأموات، دون أن يهب أحد من العلماء-فيما نعلم- لإصلاح هذا الواقع الأليم، والمرتع الوخيم.
عند ذلك لم يسع الشيخ محمداً رحمه السكوت عن التغيير والإنكار، والدعوة إلى الإصلاح، والعودة إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتصفية العقيدة الإسلامية مما علق بها، وغير وجهها وبهجتها، وعكَّر صفوها ونظرتها.
فعزم على القيام بالدعوة إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وباشر الدعوة في بلدة- حريملاء- التي استقر بها والده، ثم طورد منها ثم ذهب إلى العيينة ولم يستقر فيها فذهب إلى الدرعية فوجد فيها القبول والترحيب على يد أميرها: محمد بن سعود رحمه الله {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ(13/7)
اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} (3)
فواصل الشيخ رحمه الله عمله في الدعوة إلى الله، وراسل علماء البلدان وأمراءها يدعوهم إلى الله، ويبين لهم ما هم واقعون فيه من مخالفات، وألف الكتب، وأجاب عن استشكالات من التبس عليهم الحق بالباطل؛ فاستجاب لدعوة الشيخ من كان رائده الحق، وعاند من كان دافعه التعصب للباطل، فلم ير الشيخ رحمه الله بداً من جهاد هؤلاء بالحجة واللسان من قبله وبالسيف والسنان من قبل ولاة الأمر من آل سعود أثابهم الله.(13/8)
ص -9- ... فكتب الله له النصر، ولدعوته الامتداد والانتشار؛ نتيجة لجهاد الإمامين: محمد بن عبد الوهاب، ومحمد بن سعود- هذا بالحجة واللسان، وهذا بالسيف والسنان، وهكذا إذا اجتمع كتاب الله وسيف الجهاد انتصر الحق واندحر الباطل، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}(25).
ولقد صدق الشاعر حيث يقول:
وما هو إلاَّ الوحي أوحد مرهف ... تزيل ضباه أخدعي كل مائل
فهذا شفاء للقلوب من العمى ... وهذا شفاء العي من كل جاهل(13/9)
وما هي إلا فترة وجيزة حتى دانت العباد والبلاد لدعوة الحق، واستقامت فيها عقيدة التّوحيد، وامتد خيرها عبر الزمان والمكان إلى البلاد البعيدة والأجيال اللاحقة، فلا يزال صداها يتردد، وخيرها يتجدد.
وكان من أعظم ثمارها: قيام دولة التّوحيد، وتحكيم الشريعة الغراء، التي توالت- ولا تزال- ولله الحمد على هذه البلاد مهما عارضها من معوقات واعترض في طريقها من عقبات: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}.
لقد لقي الشيخ رحمه الله كغيره من الدعاة المصلحين معارضات من خصومه واتهامات باطلة.
فقيل عنه: إنه يريد الملك والسيطرة والتسلط.
وهذا قيل في حق الرسل عليهم الصلاة والسلام: إن هو إلاَّ رجل {يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ}، {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ} فكيف بأتباعهم؟
وقيل: إنه جاء بمذهب خامس، ولذلك صاروا يلقبون أتباعه بـ (الوهابية) لأنه دعا إلى ما يخالف ما ألفوه من البدع والشركيات.
وهذه فرية يكذبها واقع دعوته وكتبه وفتاويه، وأنه في الاعتقاد على عقيدة السلف، وفي الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، لم ينفرد عن المذاهب الأربعة بقول واحد، فكيف يكون له مذهب خاص؟ {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
ومن أراد معرفة الشبهات التي أثيرت حوله وحول دعوته فليراجع كتبة، وما(13/10)
ص -10- ... أجاب به عن تلك الشبه، والحق واضح ولله الحمد وضوح الشمس لا يغطيه الكذب والتلبيس فلا يعتمد على كلام خصومه فيه وفي دعوته.
ومنهم من أنكر ما قام به الشيخ من تجديد وإصلاح، وقال: إن حالة أهل نجد في وقته كانت على الاستقامة والصلاح، وفيهم علماء ووعي، وما ذُكر عن دعوة الشيخ وعن فساد الأحوال قبل دعوته إنما هو تهويل من المؤرخين، وتعتيم على الواقع.
ورد مثل هذا الهراء والجحود لما هو معلوم ومتواتر، لا يحتاج إلى كثير عناء.
وكتب خصومه من معاصريه وغيرهم تعج بالافتراءات والدعوة إلى الباطل. وما أظن هذه الفكرة إلا من إيحاء المستشرقين.
وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل(13/11)
ومنهم من يقول: إن الشيخ لا يعتبر مجدداً لأنه حنبلي مقلد.
وكأن هذا القائل يرى أن العالم لا يكون مجدداً حتى يخرج على المذاهب الأربعة وعن أقوال الفقهاء، ومثل هذا لا يعرف معنى التجديد، فهو يهرف بما لا يعرف.
إن التجديد معناه: إزالة ومحاربة ما علق بالدين من خرافات وشركيات ومبتدعات ما أنزل الله بها من سلطان، وبيان الدين الحق والمعتقد السليم. كما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس من شرط ذلك أن يخرج المجدد على المذاهب الأربعة وأقوال الفقهاء ويأتي بفقه جديد.
وها هم الأئمة من المحدثين الكبار كانوا مذهبيين، فشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم كانا حنبليين، والإمام النووي وابن حجر كانا شافعيين، والإمام الطحاوي كان حنفياً، والإمام ابن عبد البرّ كان مالكياً.
ليس التمذهب بأحد المذاهب الأربعة ضلالاً حتى يعاب به صاحبه، ولا نقصاً في العلم. بل إن الذي يخرج عن أقوال الفقهاء المعتبرين وهو غير مؤهل للاجتهاد المطلق هو الذي يعتبر ضالاً وشاذاً.
والشيخ رحمه الله لا يأخذ قول المذهب الذي ينتسب إليه قضية مسلمة حتى يعرضه على الدليل، فما وافق الدليل أخذ به، ولو لم يكن في المذهب الذي يقلّده إذا وافق قول أحد الأئمة الآخرين، لأن هدفه موافقة الدليل، وهذا في حد ذاته يعتبر تجديداً في الفقه- أيضاً- بخلاف التقليد الأعمى والتعصب الممقوت.(13/12)
ص -11- ... وأما (كتاب التّوحيد الذي هو حق الله على العبيد) فهو من أعظم مؤلفات الإمام المجدد الشيخ: محمد بن عبد الوهاب.
ألَّفه في بيان توحيد الألوهية، وهو إفراد الله بالعبادة وترك عبادة ما سواه، والبراءة من ذلك، وبيان ما يناقضه من الشرك الأكبر، أو ينقص كماله الواجب أو المستحب من الشرك الأصغر.
وخص الشيخ هذا النوع من التّوحيد لأنه هو الذي يدخل في الإسلام، ويُنجي من عذاب الله، وهو التّوحيد الذي بعثت به الرسل وأُنزلت به الكتب، وخالف فيه المشركون في كل زمان ومكان.
وأما توحيد الربوبية فقد أقر به المشركون، ولم يدخلهم في الإسلام، ولم يحرم دماءهم وأموالهم. ولا ينجيهم من النار، وإنما هو دليل وبرهان لتوحيد الألوهية.
وإن كان علماء الكلام قد أتعبوا أنفسهم في تحقيق هذا النوع، وبنوا عليه مؤلفاتهم في العقائد، وهو تحصيل حاصل، وسعي بلا طائل، وليس هو التّوحيد الذي جاءت به الرسل، وإنما التّوحيد الذي جاءت به الرسل ودعت إليه هو توحيد الألوهية. كما قال- تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ولذلك جعل الشيخ موضوع هذا الكتاب الذي نحن بصدد شرحه في توحيد الألوهية، وقسمه إلى أبواب، وأورد في كل باب ما يشهد له من الآيات والأحاديث، فهو مبني على الكتاب والسنة: قال الله، قال رسوله، كما قال الشاعر:
العلم قال الله قال رسوله ... قال الصحابة ليس خلف فيه
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة ... بين النصوص وبين رأي فقيه(13/13)
ولم يورد الشيخ رحمه الله في هذا الكتاب إلاَّ ما صح من الأحاديث، أو كان حسن الإسناد، أو هو ضعيف الإسناد وله شواهد تقوّيه. أوهو داخل تحت أصل عام يشهد له الكتاب والسنة، مما ترجم له الشيخ في أبواب الكتاب.
ثم إن الشيخ رحمه الله يذكر في آخر كل باب ما يستفاد من الآيات والأحاديث التي أوردها فيه من مسائل العقيدة؛ مما يعتبر فقهاً لنصوص الباب، بحيث يخرج القارئ بحصيلة علمية جيدة من كل باب.
إن هذا الكتاب مبني على الكتاب والسنة، ولم يبنِ على قواعد المنطق(13/14)
ص -12- ... ومصطلحات المتكلمين التي خطؤها أكثر من صوابها؛ إن كان فيها صواب. فالقرآن الكريم كله في التّوحيد، لأنه إما أمر بعبادة الله وترك عبادة ما سواه. وإما بيان لجزاء الموحدين، وعقاب المشركين في الآخرة. وإما بيان لنصر الله للموحدين وعقوبته للمشركين في الدنيا. وإما أمر بالطاعة ونهي عن المعصية وذلك من حقوق التّوحيد ومكملاته. وإما أمر بموالاة الموحدين والبراءة من المشركين. وذلك من لوازم التّوحيد. وإما خبر عن الله وأسمائه وصفاته. وذلك مما يوجب محبته والخوف منه ورجاء ما عنده-فالقرآن الكريم- كما يقول العلامة ابن القيم كله توحيد.
* شروح الكتاب:
لقد نفع الله بهذا الكتاب، وصار الطلاب يحفظونه، والعلماء يشرحونه ويوضحونه.
وأول من شرحه حفيد المؤلف، الشيخ: سليمان بن عبد الله، بشرح واف، لكنه توفي رحمه الله، قبل أن يتمه. واسم شرحه: تيسير العزيز الحميد.
فجاء حفيد الشيخ الآخر، الشيخ: عبد الرحمن بن حسن، فهذب هذا الشرح، وأتمه. واسم شرحه: فتح المجيد.
ثم اختصر هذا الشرح بعدة مختصرات:
منها: مختصر الشيخ: حمد بن عتيق واسم مختصره: إبطال التنديد.
ومختصر الشيخ: عبد الرحمن بن قاسم في حاشيته
ومختصر الشيخ: سليمان بن حمدان. وله شروح أخرى قديمة وحديثة.
وهناك كتابات حوله لباحثين جامعيين.
نسأل الله أن يكتب الاستمرار لنفع هذا الكتاب في الأجيال اللاحقة، كما انتفعت به الأجيال السابقة.
* قصتي مع هذا الكتاب:
درّست هذا الكتاب في الرياض وفي الطائف أثناء الإجازة الصيفية، وكان بعض الطلاب يسجلون تلك الدروس، وتشاركهم إحدى دور التسجيل، وعندما أنهيت الكتاب- والحمد لله-، وانتشرت تسجيلاته كثرت عليَّ الطلبات في تفريغها من الأشرطة وطباعتها على شكل شرح للكتاب، وكنت أرفض هذه الطلبات وأعتذر(13/15)
ص -13- ... بأن الكتاب- ولله الحمد- قد شرح بشروح كثيرة وكافية، وما جئت بجديد، إلاَّ أنها لما كثرت عليَّ الطلبات في ذلك، قلت: لعل في تحقيق رغبة أصحابها خيراً: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}، فأذنت بتفريغ الأشرطة، وكتابة ما فيها، وأشرفت على ذلك، وهذبته ونقحته حسب استطاعتي، وها هو بين يديك أيها القارئ، فما وجدت فيه من خير فهو من الله، وما وجدت فيه من نقص أو خطأ فهو بسبب تقصيري وقصوري، وأنت تفعل خيراً إذا نبهتني وأعنتني على إصلاحه.
وأسأل الله لي ولمن كان سبباً في إخراج هذا الكتاب التوفيق للعلم النافع والعمل الصالح.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
المؤلف(13/16)
ص -15- ... مقدمة الشارح
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فإن عقيدة التّوحيد هي أساس الدين، وكل الأوامر والنواهي والعبادات والطاعات كلها مؤسسة على عقيدة التّوحيد، التي هي معنى شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمداً رسول الله، الشهادتان اللتان هما الركن الأول من أركان الإسلام؛ فلا يصح عملٌ، ولا تقبل عبادةٌ ولا ينجو أحد من النار ويدخل الجنة؛ إلاَّ إذا أتى بهذا التّوحيد، وصحّح العقيدة.
ولهذا كان اهتمام العلماء- رحمهم الله- في هذا الجانب اهتماماً عظيماً؛ لأنه هو الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، كما يأتي شرحه- إن شاء الله، ثم بعد ما تصح العقيدة فإنه حينئذٍ يُطلب من الإنسان أن يأتي ببقية الأعمال.
ولهذا سيأتي في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن، قال له:"إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة" أ إلى آخر الحديث.
الشاهد منه: "فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلاَّ الله".
وقال صلى الله عليه وسلم: " أُمِرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلاَّ الله؛ فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله عز وجل".
فدلّ هذا على أن عقيدة التّوحيد هي الأساس الذي يجب العناية به أولاً وقبل(13/17)
ص -16- ... كل شيء، ثم بعدما يتحقق فإنه يتوجه إلى بقية أمور الدين، وأمور العبادات.
ولهذا- كما ذكرنا- كان اهتمام العلماء- رحمهم الله- بهذا الجانب اهتماماً عظيماً، ألَّفوا فيه كتباً كثيرة، مختصرة ومطوّلة، سموها: (كتب التّوحيد)، أو (كتب العقيدة) أو (كتب السنة).
ومن هذه الكتب هذا الكتاب الذي بين أيدينا، وهو:
(كتاب التّوحيد الذي هو حق الله على العبيد)
تأليف شيخ الإسلام المجدد في القرن الثاني عشر من الهجرة النبوية. الشيخ: محمد بن عبدالوهاب رحمه الله.
وهذا الكتاب من أنفس الكتب المؤلَّفة في باب التّوحيد؛ لأنه مبني على الكتاب والسنة، بحيث إنه رحمه الله، يورد في كل باب من أبوابه آيات من القرآن وأحاديث من السنة الصحيحة السند أو المعنى، وكلام أهل العلم الأئمة؛ الذين بَيَّنوا معاني هذه الآيات وهذه الأحاديث، فعل هذا في كل باب من أبواب الكتاب.
فلم يكن هذا الكتاب قولاً لفلان أو فلان، أو أنه كلام من عند المؤلف، وإنما هو كلام الله وكلام رسول الله، وكلام أئمة هذه الأمة من الصحابة والتابعين وغيرهم من الأئمة المقتدى بهم.
فتأتي أهمية هذا الكتاب من هذه الناحية؛ انه مبني على الكتاب والسنة من الآيات والأحاديث، فلا يقال: إن هذا كلام فلان، أو كلام ابن عبد الوهاب، بل يقال: هذا كلام الله وكلام رسول الله، وكلام أئمة الإسلام.
وهكذا ينبغي أن يكون التأليف.(13/18)
ص -17- ... قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
[الباب الأول:] * كتاب التّوحيد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال رحمه الله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} بدأ كتابه بـ "{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}"؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان يكتب "{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}" في أول رسائله إلى الناس، وكان يبدأ- عليه الصلاة والسلام- أحاديثه مع أصحابه بـ "{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}".
وقال صلى الله عليه وسلم: "كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم؛ فهو أبتر" أي: ناقص البركة. وفي رواية: "بالحمد لله".
وكما كتبها سليمان عليه السلام فيما ذكر الله عنه لمّا كتب إلى بلقيس ملكة سبأ، وقرأت الكتاب على قومها: {}.
فالبداءة بـ "{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}" في الأمور المهمّة في المؤلَّفات، والخطب، والمحاضرات، والأكل والشرب، وجميع الأمور التي هي من الأمور المهمة؟ تُبدأ بـ"{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}" تبركاً بهذه الكلمة العظيمة، وافتتاحاً للأمور بها.
ومن هنا نعلم أن هؤلاء الذين لا يكتبون "{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}" في أول مؤلفاتهم في هذا العصر؛ أنهم قد خالفوا السنة، واقتدوا بالغربيين، وإلاَّ فإن المشروع في حق المسلم أن يبدأ بهذه الكلمة في أموره؛ في مؤلفاته، في خطبه، في محاضراته، في رسائله، إلاَّ أن هذه الكلمة لا تُكتب أمام الشعر الذي فيه هجاء أو فيه ذَم، ولا تُكتب أمام الكلام الذي فيه سِباب أو شتم أو كلام قبيح، تُنزّه هذه الكلمة، لا تُكتب أمام الشعر، وأعني: الشعر غير المحترم، أما الشعر النزيه الطيب فلا بأس، كذلك لا تُكتب أمام الهجاء، وأمام السب والشتم، وإنما تكتب أمام الكلام النزيه، ولهذا جاءت هذه الكلمة العظيمة في مبدأ كل سورة من سور القرآن(13/19)
ص -18- ... العظيم، سوى براءة والأنفال فإنها لم تأتِ بينهما؛ وقد أجاب أهل العلم عن ذلك، والله أعلم أنهما سورة واحدة، لأنهما في موضوع القتال، فهما في موضوع واحد وكأنهما سورة واحدة، أما في بقية السور فإنها تأتي في أول ومطلع كل سورة.
ومعناها- كما قرر أهل العلم-: "{بِسْمِ اللَّهِ}" الجار والمجرور متعلق بمحذوف يجب أن يكون مؤخَّراً، تقديره: أستعين، بـ "{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}"، أو أبتدئ بـ "{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}" كتابي ومؤلَّفي، أو ابتدئ كلامي بـ "{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}"، فالجار والمجرور متعلق بمحذوف مؤخر.
و "{اللَّهِ} الله" عَلَمٌ على الذات المقدّسة، وهو لا يُسمّى به غير الرّب سبحانه وتعالى، لا أحد تسمّى بهذا الاسم أبداً، حتى الجبابرة، حتى الطواغيت والكفرة، ما أحد منهم سمّى نفسه "{اللَّهِ}" أبداً، فرعون قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} ما قال: أنا الله، مع كفره لم يجرؤ أن يسمّي نفسه هذا الاسم"{اللَّهِ}"، وإنما هذا خاص بالله سبحانه وتعالى.
و"الله" معناه: ذو الألوهية، والألوهية معناها: العبادة، يقال: أَلَهَ يألَهُ: بمعنى: عبَد يعبُد، فالألوهية معناها: العبادة، فـ"{اللَّهِ} معناه: ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، كما جاء في الأثر عن ابن عباس رضي الله عنه.
و "{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}" اسمان لله عز وجل يتضمنان الرحمة، والرحمة صِفة لله عز وجل، وكل اسم لله فإنه يتضمن صِفة من صفاته سبحانه وتعالى.
و"{الرَّحْمَنِ}": رحمة عامة لجميع المخلوقات.
و"{الرَّحِيمِ}": رحمة خاصة بالمؤمنين، كما قال- تعالى-: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً}.
فـ "{الرَّحْمَنِ}": رحمة عامة لجميع المخلوقات، حتى الكفار والبهائم والدواب إنما تعيش برحمة الله، وسخّر الله بعضها لبعض من رحمته سبحانه وتعالى، فهي رحمة عامة لجميع الخلق، بها يتراحمون، حتى إن البهيمة(13/20)
ترفع رجلها عن ولدها رحمة به.
وأما "{الرَّحِيمِ}" فإنه رحمة خاصة بالمؤمنين {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً}.
والرحمة: صِفة من صفات الله عز وجل تليق بجلاله- سبحانه- ليست كرحمة(13/21)
ص -19- ... المخلوق، وإنما هي كسائر صفاته سبحانه وتعالى، نصِفه بها كما وصف بها نفسَه، ولكن لا نشبّه رحمته -سبحانه- برحمة خلقه.
ثم قال بعد ذلك: "كتاب التّوحيد".
قد يسأل سائل فيقول: لماذا لم يبدأ كتابه بالحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب: أنه اكتفى رحمه الله بـ"{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}"؛ فإنها كافية في الثناء على الله سبحانه وتعالى، وكافية بالابتداء.
هذا جواب.
والجواب الثاني كما ذكر الشارح العلامة الشيخ: عبد الرحمن بن حسن رحمه الله يقول: "عندي نسخة بخط المؤلِّف فيها أنه بدأ هذا الكتاب بقوله: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد).
فإذاً؛ يكون في هذه النسخة جمع بين الفضيلتين؛ البداءة بـ"{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}"، والبداءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وهذا أكمل بلا شك، ثم قال: "كتاب التّوحيد".
"كتاب": مصدر كَتَبَ، والكَتْب في اللغة معناه: الجمعُ، سُمّيَ الكتاب كتاباً لأنه جمع الكلمات والنصوص، ففيه معنى الجمع، ولذلك سُمّي كتاباً، ومنه "الكتيبة" من الجيش، لأنها تجمع أفراداً من الجنود، ومنه سُمَي الخرّاز كاتباً؛ لأنه يجمع بين الرقاع.
و"التّوحيد" فصدر وَحَّدَ توحيداً، ومعناه: إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة؛ فمن أفرد الله بالعبادة فقد وَحَّده، يعني: أفرده عن غيره، يقال: وَحَّد وَثَنَّى وَثَلّث، وَحَّد معناه: جعل الشيء واحداً، وثَنّى يعني: جعل الشيء اثنين، وثَلّث: جعل الشيء ثلاثة، إلى آخره.
فـ"التّوحيد" معناه لغةً: إفراد الشي عن غيره.
أما معناه شرعاً: فهو إفراد الله- تعالى- بالعبادة. هذا هو التّوحيد شرعاً.
و "التّوحيد" ثلاثة أنواع- على سبيل التفصيل-:(13/22)
ص -20- ... النوع الأول: توحيد الربوبية، وهو: إفراد الله- تعالى- بالخلق، والرزق، والتدبير، والإحياء، والإماتة، وتدبير الخلائق. هذا توحيد الربوبية، أنه لا خالق، ولا رازق، ولا محيي، ولا ضار، ولا نافع؛ إلا الله سبحانه وتعالى. هذا يُسمّى: توحيد الربوبية، وهو: توحيده بأفعاله سبحانه وتعالى، فلا أحد يخلق مع الله، ولا أحد يرزق مع الله، ولا أحد يحي ويميت مع الله سبحانه وتعالى.
وهذا النوع من أقرّ به وحده لا يكون مسلماً؛ لأنه قد أقرّ به الكفار، كما ذكر الله - جل وعلا- في القرآن في آيات كثيرة: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} "{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ}(31)" {أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}، إلى غير ذلك من الآيات التي أخبر الله أن المشركين يقرّون بأن الله هو الخالق، والرازق، والمحيي، والمميت، ومع هذا لا يكونون مسلمين، لماذا؟ لأنهم لم يأتوا بالنوع الثاني، الذي هو مدار المطلوب.
النوع الثاني: توحيد الألوهية، ومعناه: إفراد الله- تعالى- بالعبادة، هذا غير إفراده بالخلق والرزق والتدبير، بل إفراد الله بالعبادة؛ بأن لا يُعبَد إلا الله سبحانه وتعالى لا يُصَلّى، ولا يُدعى، ولا يُذبَح، ولا يُنذَر، ولا يُحَج، ولا يُعتَمر، ولا يُتصَدق، ولا... إلى آخره؛ إلا لله سبحانه وتعالى، يبتغى بذلك وجه الله سبحانه وتعالى.
وهذا هو الذي وقعت الخصومة فيه بين الرسل والأمم.
أما الأول فما وقعت فيه خصومة، لأن الأمم مقِرّة بأن الله هو الخالق الرازق، المحيي المميت، المدبر، ولم(13/23)
يُنكِر توحيد الربوبية إلاَّ شُذّاذ من الخلق، أنكروه في الظاهر، ولكنهم مستيقنون به في الباطن، من ذلك: فرعون، وإن كان جحد وجود الرّب سبحانه وتعالى، وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} فهذا في الظاهر، وإلاَّ فهو يقر في قرارة نفسه أنه ليس برب، وأنه لا يخلق، ولا يرزق، وإنما في قرارة نفسه يعترف بأن الله هو الخالق الرازق، كذلك الشيوعية في عصرنا الحاضر جحودها للرّب، هذا في الظاهر، وإلا كل عاقل يعلم أن هذا الكون ما وُجِدَ من دون خالق، ومن دون مدبِّر، ومن دون موجد، أبداً، كل عاقل يعترف بتوحيد الربوبية.(13/24)
ص -21- ... أما توحيد الألوهية والعبادة، فهذا قَلّ من الخلق من أقرّ به، ما أقرّ به إلاَّ المؤمنون أتباع الرسل- عليهم الصلاة والسلام، هم الذين أقرّوا به، أما عموم الكفار فإنهم ينكرون توحيد الألوهية، بمعنى: أنهم لا يفردون الله بالعبادة، حتى وإن أقرّوا بالنوع الأول وهو: توحيد الربوبية وإن عبدوا الله ببعض أنواع العبادة.
ولهذا لما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "قولوا: لا إله إلاَّ الله تفلحوا" قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ(5) وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ(7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ(8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ(9)} ، فهم أبوا أن يقولوا {لا إله إلاَّ الله} مع أنهم يعترفون بتوحيد الربوبية، لكن أبوا أن يعترفوا بتوحيد الألوهية، الذي هو إفراد الله بالعبادة، هم يقولون: نحن نعبد الله ونعبد معه غيره من الشفعاء والوسطاء، الذين يقربونهم -بزعمهم- إلى الله زُلفى، اتخذوهم وسائط- بزعمهم، وأبوا أن يفردوا ا لله- جل وعلا- بالعبادة {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} هذا في قوم نوح، والوتيرة واحدة من أول الكفار إلى آخرهم {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً}.
وكذلك عُبَّاد القبور اليوم، يقولون: لا تذرُن الحسن والحسين، والبدوي وغيرهم هؤلاء لهم فضل، ولهم مكانة؛ اذبحوا لهم، وانذروا لهم، وطوفوا بقبورهم، وتبرَّكوا بهم، لا تذروهم، لا تطيعوا هؤلاء الجفاة الذين يدعون إلى ترك عبادة القبور، ولا يعرفون حق الأولياء. الوتيرة(13/25)
واحدة مثل قوم نوح: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً}.
الحاصل: أن النوع الثاني هو توحيد الألوهية، وهو: إفراد الله- تعالى- بالعبادة، وترك عبادة من سواه، وهذا هو الذي بعث الله به الرسل، وأنزل به لكتب، كما تقرأون في هذه الآيات التي سمعتم وكما في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} ما قال: إلاَّ ليقروا بأني أنا الرّب، لأن هذا موجود {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} ما قال: أن أقروا، بأن الله هو الخالق الرازق؛ لأن هذا موجود، وهو وحده لا يكفي.(13/26)
ص -22- ... وهذا النوع- توحيد الألوهية- جحده المشركون، وهم أكثر أهل الأرض في قديم الزمان وحديثه، أبوا أن يتركوا آلهتهم، وأن يفردوا العبادة لله عز وجل، ويخلصوا الدين لله عز وجل؛ زاعمين أن هذه الوسائط وهؤلاء الشفعاء يشفعون لهم عند الله، وأنهم يقرِّبونهم إلى الله، وأنهم... وأنهم.. إلى آخره {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ}.
النوع الثالث: توحيد الأسماء والصفات، بمعنى: أننا نثبت لله سبحانه وتعالى ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأسماء والصفات، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، على حد قوله- تعالى-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
فنثبت لله الأسماء كما قال- تعالى-: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
وكذلك الصفات، نصِف الله عز وجل بما وصف به نفسه؛ أنه عليم، وأنه رحيم، وأنه سميع بصير، يسمع ويُبصر سبحانه وتعالى، ويعلم، ويرحم، ويغضب، ويُعطي ويمنع، ويخفض ويرفع. وهذه صفات الأفعال.
وصفات الذات كذلك؛ أن له وجهاً- سبحانه، وأن له يدين، وأن له سبحانه وتعالى الصفات الكاملة، نثبت لله ما أثبته لنفسه، أو أثبته له رسوله من صفات الذات ومن صفات الأفعال، ولا نتدخل بعقولنا وآرائنا وأفكارنا، ونقول: هذه الصفات أو هذه الأسماء موجودة في البشر، فإذا أثبتناها شبهنا- كما يقوله المعطِّلة، بل نقول: إن لله سبحانه وتعالى أسماءً وصفات تليق بجلاله سبحانه وتعالى، وللمخلوقين أسماء وصفات تليق بهم، والاشتراك في الاسم، أو الاشتراك في المعنى؛ لا يقتضي الاشتراك في الحقيقة. خذ- مثلاً-: الجنة، فيها أعناب وفيها نخيل- كما ذكر الله، وفيها رمان، وفيها أسماء موجودة عندنا في الدنيا، لكن ليس ما(13/27)
في الجنة مثل ما في الدنيا، أبداً، ليس النخيل التي في الجنة مثل النخيل التي في الدنيا، الرمان ليس مثل الرمان الذي في الدنيا، وإن اشترك في الاسم والمعنى، كذلك أسماء الله وصفاته وإن اشتركت مع أسماء المخلوقين وصفاتهم باللفظ والمعنى، فالحقيقة والكيفية مختلفة، لا يعلمها(13/28)
ص -23- ... إلا الله سبحانه وتعالى، فلا تشابه إذاً في الخارج والواقع أبداً، لأن الخالق - سبحانه- لا يشبهه شيء {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ولا يلزم من إثبات الأسماء والصفات التشبيه- كما يقول المعطِّلة والمؤوِّلة، وإنما هذا من قصور أفهامهم، أو ضلالهم، ورغبتهم عن الحق، وإلاَّ كلٍّ يعلم الفرق بين المخلوق والخالق- سبحانه وتعالى، كما أن المخلوقات نفسها فيها فوارق، فليس- مثلاً- الفيل مثل الهرة والبعوضة أبداً، وان اشتركت في بعض الصفات، البعوضة لها سمع- مثلاً، والفرس له سمع، البعوضة لها بصر، والفيل والفرس لهما بصر، هل يقتضي هذا أن تكون البعوضة مثل الفيل أو مثل الفرس؟ لا، وإن اشتركت في الأسماء فلا تشترك في الحقائق والمعاني.
إذا كان هذا الفارق بين المخلوقات، فكيف بين الخالق سبحانه وتعالى والمخلوقين؟
نحن نُقِرُ لله سبحانه وتعالى بما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، الله- تعالى- قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} نفى المثلية وأثبت السمع والبصر؛ فدل على أن إثبات السمع والبصر وغيرهما من الصفات لا يقتضي المثلية {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(74)}.
الله سبحانه وتعالى لا يشبهه أحد من خلقه.
هذه أنواع التّوحيد الثلاثة:
توحيد الربوبية: وهذا في الغالب لم ينكره أحد من الخلق.
توحيد الألوهية: وهذا أنكره أكثر الخلق، ولم يثبته إلاَّ أتباع الرسل- عليهم الصلاة والسلام- كما قال- تعالى-: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ(116)} وقال تعالى:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ(13/29)
مُشْرِكُونَ(106)}.
ما أثبت توحيد الألوهية إلاَّ أتباع الرسل- عليهم الصلاة والسلام- وهم المؤمنون من كل أمة، هم الذين أثبتوا توحيد الألوهية، وأبى عن الإقرار به المشركون في كل زمان ومكان.(13/30)
ص -24- ... وقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} الآية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والثالث: أثبته أهل السنة والجماعة، فأثبتوا لله الأسماء والصفات، وحرّفها وأوَّلها الجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة، ومشتقاتهم من سائر الطوائف التي سارت في ركابهم؛ فهؤلاء منهم من نفاها كلها، منهم من نفى بعضها وأثبت بعضها، المهم أن نعرف مذهب أهل السنة والجماعة في هذا.
وتقسيم التّوحيد إلى هذه الأنواع الثلاثة مأخوذ من الكتاب والسنة وليس تقسيماً مبتدعاً كما يقوله الجهال والضلال اليوم {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(8)} وليس مصدر هذا التقسيم علم الكلام وقواعد المتكلمين التي هي مصدر عقائد هؤلاء المخذولين الذين يتكلمون بما لا يعرفون، بل هذا التقسيم مأخوذ بالاستقراء من الكتاب والسنة. فالآيات التي تتحدث عن أفعال الله وأسمائه وصفاته فهي في توحيد الربوبية. والآيات التي تتحدث عن عبادة الله، وترك ما سواه؛ فهي في توحيد الألوهية.
قوله: "وقول الله" بالكسر معطوف على "التّوحيد"، وهو مجرور بالإضافة، (وقول الله- تعالى-) معطوف على المجرور، ويجوز الرفع (وقولُ الله- تعالى-) يكون على الابتداء.
"{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}" لاحظوا دِقّة الشيخ رحمه الله، قال: "كتاب التّوحيد. وقول الله- تعالى- {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}" ليُبَيّن لكم ما هو معنى التّوحيد؟، بأن التّوحيد معناه: إفراد الله بالعبادة، وليس معناه: ا لإقرار بالربوبية، بل معناه: إفراد الله بالعبادة، بدليل هذه الآية وغيرها.
يقول الله- جل وعلا-: "{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}" يُبَيِّن الله سبحانه وتعالى الحِكمة من خلقه للجن وخلقه للإنس.
أما(13/31)
{الْجِنَّ} فهم عالم من عالم الغيب، نؤمن بهم، ولكننا لا نراهم، ولذلك سُمُّوا بـ {الْجِنَّ} من الاجتنان وهو الاستتار، ويقال: جَنَّه الليل إذا سَتَرَه، ويقال: الجنين في البطن، لماذا سُمِّي جنيناً؟، لأنه مستتر، فـ {الْجِنَّ}، سُمُّوا جناً لأنهم مستترون عن أبصارنا لا نراهم {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} فهم من عالم(13/32)
ص -25- ... الغيب، والإيمان بهم واجب، ومن جحد وجود الجن فهو كافر؛ لأنه مُكَذِّبٌ لله ورسوله وإجماع الأمة على وجود الجن، وهؤلاء الذين أنكروا وجودهم على أي شيء يعتمدون؟، ما يعتمدون على شيء إلاَّ لأنهم لا يرونهم، وهل كل موجود لابد أن تراه؟ هناك أشياء كثيرة ما تراها وهي موجودة، مثلاً: الروح التي فيك، هل تراها؟، هل الروح التي تحركك؛ تمشي بها وتقعد هل تراها، والعقل موجود ومع هذا لا تراه.
الحاصل؛ أنه ما كل شيء موجود لابد أننا نراه، هناك أشياء كثيرة وكثيرة وكثيرة لا نراها، وربما تكون تعيش معنا، ولله الحِكمة سبحانه وتعالى، ومن ذلك {الْجِنَّ} وهم عالم عظيم، إلاَّ أننا لا نراهم، وهم مكلّفون مثل الإنس.
وأما {وَالأِنْسَ} معناها: بنو آدم، من الاستئناس لأنهم يأنس بعضهم ببعض، ويألف بعضهم بعضاً.
الله سبحانه وتعالى بَيّن لنا الحِكمة من خلقه الثقلين: الجن والإنس، وهي: أنه إنما خلقهم لشيء واحد، وهو: العبادة، ولهذا جاء بالحصر "{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}" حَصَر الحِكمة من خلق الجن والإنس في شيء واحد وهو: أنهم يعبدونه، فالحِكمة من خلق المخلوقات هي: عبادة الله سبحانه وتعالى، خلق الله الجن والإنس للعبادة، وخلق كل الأشياء لمصالحهم، سَخَّرها لهم ليستعينوا بها على عبادته سبحانه وتعالى.
ومعنى {لِيَعْبُدُونِ} أي: يفردوني بالعبادة، أو تقول بعبارة أخرى: {لِيَعْبُدُونِ} ليوحِّدون، لأن التّوحيد والعبادة شيء واحد.
ومع كونه سبحانه وتعالى خلقهم لعبادته؛ فمنهم من قام بالعبادة وعبد الله، ومنهم من لم يعبد الله، إذ لا يلزم من كونه خلقهم لعبادته أن يعبدوه كلهم، بل يعبده من شاء الله - سبحانه وتعالى- له الهداية، ويكفر به من شاء الله له الضلالة، ومعنى: "{إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}" أي: إلاَّ لآمرهم بعبادتي، أو لآمرهم وأنهاهم، كما قال- تعالى-:{أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً(36)}(13/33)
أي: لا يؤمر ولا يُنَهى.
وما دام أن الله سبحانه وتعالى خلق الثقلين لعبادته فهذا يدل على أن العبادة هي الأصل، وأن التّوحيد هو الأصل والأساس.(13/34)
ص -26- ... وقوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم قال- جل وعلا-:{مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ(57)} هذا فيه بيان أن الله- جل وعلا- ليس بحاجة إلى عبادتهم، وإنما هم المحتاجون إلى عبادة الله { مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ(57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ(58)}، فالله خلق الثقلين لعبادته، ولكنه- جل وعلا- ليس محتاجاً إلى عبادتهم، إذاً من هو المحتاج إلى العبادة؟. هم العباد أنفسهم.
ولهذا قال: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ(8)}، فالله لا تضره معصية العاصي، ولا تنفعه طاعة المطيع، وإنما الطاعة تنفع صاحبها، والمعصية تضر صاحبها، قال- تعالى-: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} وفي الحديث القدسي، أن الله سبحانه وتعالى يقول: "يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وأنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً"، وفي ختام الحديث العظيم، قال: "يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفِّيكم إيّاها؛ فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلاَّ نفسه".
والله يقول: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ(57)}، لا ليتكثَر بهم من قِلّة، ولا ليتعزّز بهم من ذِلَّة سبحانه وتعالى، وإنما خلقهم لعبادته، ومصلحة العبادة راجعة إليهم هم.
فهذه الآية فيها بيان معنى (التّوحيد) وأنه: العبادة، وليس "التّوحيد" المطلوب معناه: الإقرار(13/35)
بالربوبية - كما يقول الضلال، وإنما معناه العبادة، أي إخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى.
قال: "وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}" يُخبرِ سبحانه وتعالى أنه بعث في كل أمة، و (الأمة) معناها: الجماعة والجيل والطائفة من الناس {فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً}، و (الرسول) هو: من أوحي إليه بشرع(13/36)
ص -27- ... وأُمِرَ بتبليغه، والرسل كثيرون، منهم من سَمّى الله- جل وعلا- لنا في القرآن، ومنهم من لم يُسَمِّ لنا {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ}، فنحن نؤمن بجميع الرسل من أوّلهم إلى آخرهم، من سمى الله لنا ومن لم يسم، والإيمان بالرسل أحد أركان الإيمان الستة.
"{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}" هذا مثل: "{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}"، فكما أن الله خلق الخلق لعبادته كذلك أرسل الرسل- أيضاً- لعبادته سبحانه وتعالى، ما أرسل الرسل يعلمون الناس الفلاحة والزراعة والصناعة، ولا ليعلموهم ا لأكل والشرب، ولا ليعلموهم أن يقروا بوجود الرب والربوبية، إنما أرسل الرسل ليأمروا الناس بعبادة الله سبحانه وتعالى الذي هو ربهم، والذي يعترفون أنه ربهم وخالقهم سبحانه وتعالى.
{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} هذا أمر، {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} هذا أمر بمعنى النهي. والطاغوت: مأخوذ من الطغيان، وهو: مجاوزة الحَدّ في كل شيء، والطاغوت يُطلق ويُراد به الشيطان، وهو رأس الطواغيت- لعنه الله- ويُطلق ويُراد به الساحر والكاهن، والحاكم بغير ما أنزل الله، والذي يأمر الناس باتباعه في غير طاعة الله، فالطاغوت- كما يقول ابن القيم-: "كل ما تجاوز به العبد حَدّه من معبود أو متبوع أو مطاع في غير طاعة الله فهو طاغوت".
فالله أمرنا بعبادته سبحانه وتعالى واجتناب الطاغوت، والمراد بالطاغوت هنا: كل ما عُبِد من دون الله من الأصنام والأوثان، والقبور والأضرحة وغير ذلك، كلها تسمى طواغيت، لكن من عُبد من دون الله ولم يرضَ بذلك فهذا لا يُسمى طاغوتاً، مثل: عيسى عليه السلام؛ كذلك: عباد الله الصالحين كالحسن والحسين، والأولياء الذين لم يرضوا أن يُعبَدوا من دون الله؛ هؤلاء لا يسمون طواغيت، ولكن عبادتهم عبادة للطاغوت الذي هو الشيطان، فهؤلاء الذين(13/37)
يعبدون الحسين وأمثاله، هؤلاء يعبدون الشيطان؛ لأنه هو الذي أمرهم بهذا: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} يعني: الشياطين، {أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}.(13/38)
ص -28- ... فـ " {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}" يعني: كل ما يُعبد من دون الله عز وجل.
وفي الآية الأخرى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} فهذا هو معنى "لا إله إلاَّ الله"، لأن "لا إله إلاَّ الله" معناها: الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، مثل قوله: "{اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}" نفيٌ وإثبات.
ولاحظوا قوله:"{وَاجْتَنِبُوا}" ، ما قال: اتركوا عبادة الطاغوت؛ لأن "اجتنبوا" أبلغ؛ يعني: اتركوا كل الوسائل التي توصِّل إلى الشرك 4 والاجتناب أبلغ من الترك، فالاجتناب معناه: أننا نترك الشيء ونترك الوسائل والطرق التي توصِّل إليه، فهذه الآية فيها: أن الرسل بُعثوا بالتّوحيد، الذي هو عبادة الله وترك عبادة الطاغوت، من أولهم إلى آخرهم.
إذاً جميع الرسل جاءوا بالدعوة إلى التّوحيد والنهي عن الشرك، هذه مِلَّة الرسل- عليهم الصلاة والسلام-، وهي مِلَّة واحدة، وإن اختلفت شرائعهم، إلاَّ إن أصل دينهم وعقيدتهم هو: التّوحيد، وعبادة الله في كل وقت بما شرع، فمثلاً: الصلاة إلى بيت المقدس في أوّل الإسلام؛ عبادة لله، لأن الله أمر بها، لكن بعدما نُسِخَت وحُوِّلَت القِبلة إلى الكعبة صارت العبادة هي الصلاة إلى الكعبة، والصلاة إلى بيت المقدس أصبحت منتهية، فمن صلى إلى بيت المقدس بعد النسخ يُعتَبر كافراً، فعبادة الله في كل وقت بما شرعه في ذلك الوقت، وإذا نُسِخ فإنه يُنتَقَل إلى الناسخ ويتُرك الدين المنسوخ، فدين الرسل واحد وإن اختلفت شرائعهم، وقد شبههم النبي صلى الله عليه وسلم بالإخوة لعلات، وهم الإخوة من الأب، أبوهم واحد ولكن أمهاتهم مختلفات، كذلك الرسل دينهم واحد وشرائعهم مختلفة، حسب حِكمة الله سبحانه وتعالى، لأن الله يشرع لكل وقت ما يناسبه، ولكل أمة ما يصلحها وهو أعلم سبحانه وتعالى {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} فما دام(13/39)
الدين لم ينسخ فهو عبادة لله، وإذا نُسِخ فالعبادة لله هي الانتقال إلى الناسِخ وترك المنسوخ.
{فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ} يعني: منهم من أجاب الرسل، ومنهم من أبى، و{حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} القدر السابق المقدّر باللوح المحفوظ بسبب كفره وعناده.(13/40)
ص -29- ... وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}" القضاء له عِدة معان، منها: القضاء والقدر، ومنها: الحُكم والشرع، ومنها: الإخبار {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ} يعني: أخبرناهم، ومنها: الفراغ {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} {)فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ} يعني: فرغتم منها. فالقضاء له عدة إطلاقات، المراد منها هنا: الأمر والشرع، و"{وَقَضَى}" معناه: شرع "{أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}"، والله لم يشرع عبادة غيره أبداً، لم يشرع عبادة الأصنام، ولم يشرع عبادة الأولياء والصالحين، ولم يشرع عبادة الأضرحة والقبور، ولم يشرع عبادة الأشجار والأحجار، أبداً، هذا شرعه الشيطان، أما شرع الله فهو عبادة الله -سبحانه- وحده لا شريك له.
وهذا هو معنى "لا إله إلاَّ الله " "{أَلاَّ تَعْبُدُوا}" هذا نفي، "{إِلاَّ إِيَّاهُ}" هذا إثبات، فهو معنى "لا إله إلاَّ الله" تماماً.
ولما أمر بحقه- سبحانه- أمر بحق الوالدين: "{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}" فيأتي حق الوالدين بعد حق الله سبحانه وتعالى مباشرة؛ لأن الوالدين هما أعظم محسِن عليك بعد الله- سبحانه- ومعنى "{إِحْسَاناً}" يعني: أحسن إليهما كما أحسنا إليك.
والشاهد من الآية: "{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}" لأنها تفسِّر التّوحيد، وهو: عبادة الله وترك عبادة ما سواه، هذا هو التّوحيد، أما عبادة الله بدون ترك عبادة ما سواه فهذا لا يسمى توحيداً، فالمشركون يعبدون الله ولكنهم يعبدون معه غيره فصاروا مشركين، فليس المهم أن الإنسان يعبد الله فقط، بل لابد أن يعبد الله ويترك عبادة ما سواه، وإلاَّ لا يكون عابداً لله، ولا موحِّداً، فالذي يصلي ويصوم(13/41)
وبحج ولكنه لا يترك عبادة غير الله ليس بمسلم، ولا تنفعه صلاته ولا صيامه ولا حجّه؛ لأنه لم يتمثل قوله- تعالى-: "{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}"، "{وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}" يعني: لا تعبدوا معه غيره، وفي الحديث القدسي عن الله سبحانه وتعالى أنه يقول: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه"، وفي رواية: "فهو للذي أشرك، وأنا منه بريء".(13/42)
ص -30- ... وقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والآية الرابعة: "{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}"، الآيات على نَسَق واحد، ومنهجها واحد فـ "{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}" مثل: "{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}" تماماً؛ لأنها تخرج من مِشكاة واحدة "{وَاعْبُدُوا اللَّهَ}" هذا أمر من الله سبحانه وتعالى بعبادته "{وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}" هذا نهي عن الشرك، وهذا هو معنى {لا إله إلاَّ الله}، لأن {لا إله إلاَّ الله} معناها: نفي الشرك وإثبات العبادة لله عز وجل، ومعنى "{َاعْبُدُوا اللَّهَ}" أي: أخلصوا له العبادة، والعبادة لابد من معرفة معناها، هي: الذل والخضوع، هذا أصلها، في اللغة، يقال: طريق معبَّد يعنى: طريق ذلّلته الأقدام بوطئها.
وأما العبادة في الشرع فهي كما عرّفها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة"، فالعبادة هي: فعل ما شرعه الله سبحانه وتعالى. فالصلاة عبادة، والصوم عبادة، والحج عبادة، وصلة الأرحام عبادة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبادة، والإحسان إلى اليتيم عبادة، إلى آخره، كل ما شرعه الله فهو عبادة، ليست العبادة: أن الإنسان يتقرب إلى الله بشيء من عند نفسه فهذه بدعة، وكل بدعة ضلالة، إذاً العبادة: ما شرعه الله من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، لأن العبادة منها ما هو على الجوارح والأعضاء الظاهرة، مثل: الصلاة، والجهاد في سبيل الله، هذا ظاهر على الجوارح، تتحرك، تعمل، ومنها ما هو على اللسان مثل: الذكر "سبحان الله والحمد لله" هذه عبادة باللسان، ومنها ما هو بالقلب مثل: الخوف، والخشية، والرغبة، والرهبة، والرجاء، هذه أعمال قلوب؛ فالعبادة تكون على القلوب، وتكون على الألسنة،(13/43)
وتكون على الجوارح.
"{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}" لمََّا أمر بعبادته- سبحانه- نهى عن الشرك، لأن الشرك يفسد العبادة، كما أن الحدث يفسد الصلاة والطواف، كذلك الشرك يفسد العبادة، ولذلك نهى الله سبحانه وتعالى عنه.(13/44)
ص -31- ... وقول الله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} الآيات.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "من أراد أن ينظر إلى وصية محمد التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} إلى قوله {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم يواصل الشيخ رحمه الله سياق الآيات والأحاديث في هذا الباب فيقول: "وقول الله - تعالى-: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} إلى آخر الآيات الثلاث في آخر سورة الأنعام، التي آخرها: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن هذه الآيات الثلاث: "من أراد أن ينظر إلى وصّية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتَمه فليقرأ هذه الآيات الثلاث".
"{أَتْلُ}" أي: أقرأ، "{مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}" دلّ على أن التحليل حقٌّ للربوبية؛ فالرب هو الذي يحلِّل ويحرِّم؛ لا ما حرّمتموه، أو حرّمه أولياؤكم من الشياطين من الإنس والجن، كالأنعام التي يحرِّمونها للأصنام.
بدأ بأعظم المحرَّمات فقال: "{أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}"، فأعظم المحرمات هو:- الشرك بالله- سبحانه-؛ فإذا قيل لك: ما هو أعظم المحرّمات؟، تقول: الشرك بالله عز وجل، وإذا قيل لك: ما أعظم ما نهى الله عنه؟، تقول: الشرك بالله؛ وإذا قيل: ما أعظم المنكرات؟ تقول: الشرك بالله؛ وإذا قيل: ما هو أكبر الكبائر؟، تقول: الشرك بالله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أكبر الكبائر: الشرك بالله".
فالشرك- والعياذ بالله- هو أخطر الذنوب، وأعظم ذنب عُصي الله به، وهو: عبادة غيره معه سبحانه وتعالى بصرف أيِّ نوع من أنواع العبادة لغير(13/45)
الله.
فقوله: "{أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}" هذا نهيٌ من الله سبحانه وتعالى عن الشرك به؛ وهو أعظم ما حرم ربكم عليكم؛ فأنتم تستحلُّون أعظم المحرّمات- وهو الشرك-.
وكلمة "{شَيْئاً}" يقول العلماء: نكرة في سياق النهي تعمُّ كلّ ما عُبد من(13/46)
ص -32- ... دون الله عز وجل، سواءً كان مَلَكاً أو نبياً أو وليًّا أو صالحاً من الصالحين أو شجراً أو حجراً أو قبْراً أو غير ذلك؛ كله يعمُّه كلمة: "{شَيْئاً}" فهي كلمة عامة؛ يعني: أي شيء من الأشياء لا يجوز أن يُصرف له شيء من عبادة الله سبحانه وتعالى.
وأيضاً "{أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}" يشمل كل أنواع الشرك الأكبر والأصغر، فليس هناك شيء من الشرك يُتَسامَح فيه لا أكبر ولا أصغر، لأن قوله- تعالى-: "{شَيْئاً}" كلمة عامّة تنفي جميع الشرك كبيره وصغيره، كما أنها تمنع أن يُشرك مع الله أحد كائناً من كان، لا الملائكة المقرّبون، ولا الأنبياء والصالحون، ولا الجمادات، ولا الأشجار، ولا الأحجار، ولا القبور، ولا أيّ شيء؛ لا يجوز أن يُصرف شيءٌ من العبادة لغير الله، لا النذور، ولا الذبائح، ولا الطواف، ولا الدعاء، ولا الخوف، ولا الرجاء، ولا الرغبة، ولا الرهبة؛ لا يجوز ذلك سواءً كان شركاً أكبر أو شركاً أصغر، سواء كان شركاً جَلياً ظاهراً أو شركاً خفياً في القلوب.
"{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}" أي: وصّاكم أن تُحسنوا بالوالدين إحساناً؛ فكلمة: "{إِحْسَاناً}" منصوبٌ على فعل محذوف، تقديره: وأحسنوا بالوالدين إحساناً؛ وهذا - كما ذكرنا في القاعدة المتقرِّرة-: أن الله- سبحانه- يبدأ بحقه أوّلاً ثم يثنِّي بحق الوالدين دائماً وأبداً، إذا أمر بتوحيده أمر أيضاً ببرِّ الوالدين، هذا في كثير من الآيات.
فهذا فيه الأمر بالإحسان إلى الوالدين بالبر، والصِّلة، والإكرام، والتوقير أحياءاً وأمواتاً: أما برُّهم في الحياة فبالإحسان إليهما بالكلام اللِّين، والتواضُع، والنفقة، والقيام بخدمتهما، والتماس رضاهما في غير معصية الله سبحانه وتعالى كما قال- تعالى-: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا(13/47)
جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً(24)}؛ ففي حال حياتهما يَبَرُّ بهما بأنواع البر، ولا يسيء إليهما أيَّ إساءة، لأن الإحسان إليهما بر، والإساءة إليهما عقوق، والعقوق من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله سبحانه وتعالى؛ ففي الأمر بالإحسان إليهما نهيٌ عن الإساءة إليهما.
وقد جاء في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم صعِد المنبر فقال: "آمين، آمين، آمين"،(13/48)
ص -33- ... ثم قال لأصحابه: "إنَّ جبريل عليه السلام عَرَض له فقال له: يا محمد مَن أدرك شهر رمضان فلم يُغفر له فمات فدخل النار، قل: آمين، قلت: آمين، قال: يا محمد من أدْرك أبويه أو أحدهما ولم يُدخلاه الجنة فمات فدخل النار، قل: آمين، فقلت: آمين، قال: يا محمد مَن ذُكرتَ عنده فلم يصلِّ عليك فمات فدخل النار، قل: آمين، فقلت: آمين"؛ الشاهد من هذا: أن من أدرك أبويه- أو أحدهما- فلم يَبَرَّهما فمات دخل النار بسبب العقوق دعا عليه جبريل بدخوله النار وأَمَّن على ذلك محمدٌ صلى الله عليه وسلم.
هذا الإحسان إليهما في حال الحياة.
أما الإحسان إليهما بعد الموت فقد سُئل عنه النبي صلى الله عليه وسلم، حيث سأله رجلٌ فقال: يا رسول الله ما بقي من بر والديِّ بعد موتهما؟، قال: "أن تصلِّيَ عليهما مع صلاتك" يعني: تدعو لهم إذا دعوت لنفسك، "وإنفاذ عهدهما"؛ يعني: الوصية التي أوصيا بها، و"صلة الرحم التي لا توصَل إلاَّ بهما، وإكرام صديقهما"، إذا كان لوالدك صديق أو لأمك صديقة فأكرم هذا الصديق، لأن إكرام صديق والدك أو صديقة والدتك إكرامٌ لوالديك؛ هذا ما يبقى من البر بعد وفاة الوالدين: الدعاء، وتنفيذ وصاياهما، وصلة الرحم المرتبطة بهما من الأعمام والعمات، والأخوال والخالات؟، وسائر القرابة، والأخوة والأخوات، وأبناء الأخوة وأبناء الأخوات... إلى آخره؛ كلُّ من تربطك به قرابةٌ من جهة أبيك أو من جهة أمك فهو من ذوي الأرحام، وإذا وصلته فقد بَرَرْت بوالديك.
ثم قال- تعالى-: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} هذه الوصية الثالثة، وهي: تحريم قتل الأولاد من إملاق، يعني بسبب الفقر، كانوا في الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الفقر، يسيئون الظن بالله- تعالى- كأن الرزق من عندهم، ولهذا قال في الآية الأخرى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً(13/49)
كَبِيراً (31)} وهنا قال: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} إذا كنتم أنتم لا ترزقون أنفسكم فكيف ترزقون غيركم.
ومن الناس اليوم من ورِث هذه الخصْلة الذميمة فصاروا يسعون لتحديد النسل(13/50)
ص -34- ... خشية الفقر، يقولون: يحصُل في الأرض انفجار سُكّاني من كثرة النسل، والموارد قليلة فيحصل مجاعات؛ فيطلبون تحديد النسل؛ فالآن قضية المطالبة بتحديد النسل قائمة على قدم وساق، والدافع لهذا هو خشيتهم الفقر، وهذا لأنهم لا يؤمنون بالله سبحانه وتعالى، ولا يؤمنون أنّ الأرزاق من الله سبحانه وتعالى.
وانْخدع بهذه الدعاية بعض المسلمين، فصاروا يكرهون كثرة الأولاد، وبعضهم يحاول تنظيم النسل، وبعضهم يحاول تحديد النسل، وهناك كلام فارغٌ يردّد، وكلُّ هذا باطل.
وطلب الذرية، وكثرة الذرية، وكثرة الإنجاب أمرٌ مطلوبٌ في الإسلام، لأن هذا فيه تقوية للمسلمين، وتكثير لعدد المسلمين، وأما الرزق فهو على الله سبحانه وتعالى:{نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}.
قال- تعالى-: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} هذه الوصية الرابعة؛ الفواحش جمع فاحشة، والمراد بها: المعصية، سُمِّيت المعصية فاحشة لقبْحها وشناعتها، يعني: لا تقربوا المعاصي.
ولاحظوا قوله: {وَلا تَقْرَبُوا} ما قال: ولا تفعلوا الفواحش، بل قال: {وَلا تَقْرَبُوا}؛ ليشمل ذلك المنع من الوسائل التي تؤدِّي إلى المعاصي. حرّم المعاصي وحرّم الوسائل المؤدِّية إليها، فمثلاً: تبرُّج النساء من قُرْبان الفواحش، لأن تبرُّج النساء وسيلة إلى الزنا، فالزينة والسُّفور من التطرُّق إلى الزنا؛ ونهى الله عن قُربان الزنا: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى}، ما قال: ولا تفعلوا الزنا، قال: {وَلا تَقْرَبُوا} لأن النهي عن القُربان أبلغ من النهي عن نفس الفعل ليمنع الوسيلة إليه؛ وحرّم النظر إلى ما حرّم الله لأن النظر إلى ما حرّم الله- كالنظر إلى المرأة- وسيلة إلى الزنا، وحرّم السماع- سماع الكلام الماجن، والأغاني، والمزامير- لأنها وسائل إلى المحرّمات.
فقوله: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ} يعني: لا تتعاطوا الأسباب التي تؤدِّي إلى المعاصي، بل تجنّبوها من نظر(13/51)
وسماعٍ وسُفور وتبرُّج وغير ذلك من الوسائل والأسباب التي تؤدي إلى الفواحش.(13/52)
ص -35- ... فإنا كانت الأسباب محرّمة فكيف بنفس الفواحش؟، تكون أشدَّ تحريماً {مَا ظَهَرَ} يعني: ما رآه الناس في الأسواق وفي الدكاكين وفي المجمّعات. {وَمَا بَطَنَ} المعاصي الخفية في البيوت، وفي المحلاَّت المستورة؛ فالمؤمن يتقي الله عز وجل ظاهراً وباطناً، يتقي الله في الشارع ويتقي الله في البيت، يتقي أينما كان، يتقي الله في النهار ويتقيه في الليل، يتقيه في الضياء ويتقيه في الظلمة، لأنه دائماً معه- سبحانه-، لا يخفى عليه.
فليس المقصود أن الإنسان يتجنب المعاصي الظاهرة فقط، وأما إذا خلا فإنه مسموحٌ له، لا، الحرام حرام على أي حال، والرب هو الرب- سبحانه- مطّلع في سائر الأحوال ظاهراً وباطناً لا يخفى عليه شيء سبحانه وتعالى، مهما حاولتم التستُّر فإنكم لا تخفون على الله سبحانه وتعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ}، بل إنه قال: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(13)}، إذا كان كذلك فيجب عليك أن تتقي الله سبحانه وتعالى على كل حال، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اتق الله حيثما كنت"، يقول- تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} يعني: في حال غيبتهم عن الناس، {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ * وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.
ثم قال- تعالى-: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} النفس التي حرم الله هي: النفس المؤمنة، وكذلك النفس المعاهَدة، ولو كانت كافرة؛ فالله حرّم قتل المؤمنين، وكذلك حرّم قتل المعاهدين من الكفّار الذين لهم عهدٌ عند المسلمين بالذمة أو بالأمان: فالذمة وهم الذين يدفعون الجزية، أو بالأمان وهم الذين دخلوا بلادنا بالأمان، لا يجوز قتلهم(13/53)
والتعدِّي عليهم، لأنهم في ذمّة المسلمين، وفي أمان المسلمين، لا يجوز خيانة ذمة المسلمين، ولهذا جاء في الحديث: "من قتل معاهَداً لَمْ يَرَحْ رائحة الجنة".
{إِلاَّ بِالْحَقِّ} أي: إلاَّ بإحدى هذه الثلاث: قصاص أو زنا أر ردة؛ هذا قتل بالحق شرعه الله سبحانه وتعالى، ما عدا ذلك فلا يجوز قتل المسلم، قال- تعالى-: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً(93)} وقتل النفس من أعظم الكبائر بعد الشرك بالله سبحانه وتعالى.(13/54)
ص -36- ... {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} {لَعَلَّكُمْ} هنا تعليلية، أي: لأجل أن تعقلوا؛ والعقل معناه: الكَفُّ عمّا لا يجوز؛ سُمي العقل عقلاً لأنه يكفُّ الإنسان عن الأشياء التي لا تليق، كما أن العقال للبعير يمنعه عن الضياع كذلك العقل، وهو خلقٌ جعله الله في الإنسان يمنع من تعاطي ما لا يجوز.
ثم قال: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} من الكبائر المحرّمات: أكل أموال اليتامى بغير حق.
واليتيم هو: الصغير الذي مات أبوه؛ هذا هو اليتيم؛ أما إذا بلغ فإنه يخرُج عن حدِّ اليُتْم، وكذلك لو ماتتْ أمه، وأبوه حيٌّ لا يسمى يتيماً، لأن أباه يقوم عليه ويُنفق عليه ويربيه، ويتعاهده، ويحميه؛ فاليتم هو: فُقدان الآباء في وقت الصغر.
فاليتيم بحاجة إلى من يعينه، وإلى من يحميه، وإلى من يربيه، وإلى من يدافع عنه؛ فهو ضعيف؛ ومن ذلك: المحافظة على ماله، فلا ينتهز فرصة صغره ويُتْمه فيعتدى على ماله، لأنه لا يدافع، ولهذا يقول: سبحانه وتعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا} إلى قوله- تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً(1)}.
فقوله: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} ما قال: لا تأكلوا مال اليتيم، بل قال: {لا تَقْرَبُوا} يعني: لا تعملوا الوسائل التي تُفضي إلى تَلَف مال اليتيم؛ فكيف بإتْلاف مال اليتيم؟، هذا من باب أولى.
{إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} إلاَّ بشيء فيه مصلحة لليتيم: كأن تتاجر فيه؛ من أجل أن يربح وينمو.
{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} هذا من الوصايا الربّانية؛ للإنسان الذي يبيع على الناس السِّلع(13/55)
بالوزن أو بالكيل، أو بالأكياس، أو بالصناديق يجب عليه أن لا يبخسها، بل يوفيها بالمكيال والميزان.
المكيال للحبوب- مثلاً- والأشياء التي تُكال؛ والميزان للأشياء المائعة التي توزن؛ فالمعيار الشرعي هو المكيال أو الميزان.(13/56)
ص -37- ... وقد يكون المكيال- أيضاً- بالكيس، كأن يباع بالكيس، أو بالصندوق-مثلاً-، أو بالعلبة، هذا كله يدخل في الكيل والميزان؛ فلا يجوز للإنسان أنه ينقص هذه الأشياء ويبيعها على أنها وافية وقد بخسها وأخذ منها، كما يفعل بعض الخونة الذين يبيعون على الناس الأشياء على أنها تامة وهي مبخوسة، أو يبيع الأشياء والخضار على الناس على أنه سليم، ويجعل عُلُوّ الشيء الطيب، ولكن أسفله معيب أو تالف؛ هذا من البخس أيضاً {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}، وأهلك الله أمة من الأمم بسبب البخس- وهو قوم شعيب-، والنبي صلى الله عليه وسلم لمّا مرّ بالسوق ووجد بائع طعام فأدخل النبي صلى الله عليه وسلم أصابعه في الطعام فوجد في أسفله بَلَلاً فقال: "ما هذا يا صاحب الطعام؟"، قال: أصابته السماء يا رسول الله- يعني: أصابه المطر-، قال: "ألا جعلته ظاهراً حتى يراه الناس؛ من غشّنا فليس منّا". فلا يجوز للإنسان أن يخفي الأشياء المعيبة في أسفل الشيء؛ في أسفل الصندوق، في أسفل الإناء، في أسفل السطل، يعني: يجعل الأشياء النَّضِرة في أعلاه، ويقول للناس كله من هذا النوع. هذا حرام. ويجعل أحسنه أعلاه وأسوأه أسفله هذا لا يجوز، هذا من بخس الناس أشياءهم، ومن النقص في الكيل والميزان: { )وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ(1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ(2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ(3)أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ(4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ(5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(6)}، يعني: يحسبون أن المسألة انتهت لو أفلت من الخلق، ومن رقابة (البلدية)، ومن رقابة السلطان؛ ء فإنه لا يفلت من رقابة الله سبحانه وتعالى: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ(4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ(5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(6)}.
لم فقوله: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ(13/57)
وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} يعني: بالعدل؛ فالقسط معناه: العدل، بأن تزِنْ بالميزان العادل، وتكيل بالمكيال العادل الذي لا يظلم البائع ولا يظلم المشتري.
{لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} يعني: لو حصل أن الإنسان اجتهد في أن يوفي الحق وأن يوفي الكيل، ولكن حصل نقص يسير لم يتعمّده، فهذا لا يؤاخذه الله عليه {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} أنت أعدل بقدر ما تستطيع فإذا حصل شيءٌ لا تستطيعه ولا تعلم عنه فإنك لا تؤاخذ لأن الله لا يكلِّف نفساً إلاَّ وسعها، إنما الكلام في(13/58)
ص -38- ... الإنسان الذي يتعمّد الخديعة، ويتعمّد البخس، ويتعمّد النقص، لأن العدل تماماً لا أحد يستطيعه إلاَّ الله سبحانه وتعالى، الإنسان يعجز، ولكن الله عز وجل يعفو عمّا لا يستطيعه الإنسان {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}.
{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} لمّا أمر بالوفاء بالكيل والوزن أمر بالوفاء بالكلام أيضاً؛ إذا تكلّمت في شخص فعليك بالعدل لا تمدحه بشيء ما هو فيه. ولا تذمُّه بشيء ما هو فيه، بل الزم العدل، قل ما تعلم فيه من الصفات، لا تمدحه مدحاً لا يستحقَّه، ولا تذمُّه ذمّاً لا يستحقُّه؛ وإذا كنت لا تعرفه فقل: لا أدري، لا أعرفه، لا تدخل نفسك في شيء لا تعرفه.
كذلك من ناحية الشهادة: إذا أردت أن تشهد على أحد فلا تشهد إلاَّ بالحق؛ لا تحابي مع أحد وتشهد له لأنه قريبك، أو لأنه صديق لك، تشهد له بالباطل؛ أو تكتم الشهادة عن أحد لأنه عدوٌٌّ لك، قل الحق ولو على نفسك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً(135)}، وقال- تعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا} {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ} يعني: لا يحملكم بغض قوم على أن لا تعدلوا فيهم، وأن تتكلموا فيهم بغير حق، حتى ولو كانوا كفّاراً، ولو كانوا أعداءاً قولوا فيهم الحق.
فالعدل مطلوب، قامتْ به السموات والأرض. العدل مطلوب مع العدو، ومع الصديق، ومع القريب، ومع البعيد،(13/59)
ومع كلِّ أحد؛ لا يجوز للإنسان أن يتبع الهوى وشهوات النفس ويتكلّم على حسب رغبته، أو يكتم الشهادة على حسب رغبته.
{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} قلتم بالتزكية، قلتم في الشهادة، قلتم في التجريح- تجريح الرواة أو تعديلهم-، {فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} يعني: ولو كان المتكلّم فيه قريبٌ لك، لا يحملك قرابته والشفقة عليه أن تحيد في حقه، بل قل فيه الحق، واشهد عليه بالحق؛ واشهد بالحق ولو كان لعدوك وخصمك، هذا هو العدل الصحيح.(13/60)
ص -39- ... {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} وهذا من الوصايا العظمية: الوفاء بعهد الله عز وجل؛ والوفاء بعهد الله المراد به: الوفاء بالمواثيق التي تكون بين العبد وبين ربه، والتي تكون بين الناس بعضهم مع بعض؛ العهد الذي بينك وبين الله أن تعبده ولا تشرك به شيئاً {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(5)} هذا عهدٌ بينك وبين الله تعاهده أن لا تعبد إلاَّ إياه، ولا تستعين إلاَّ به؛ فالعهد الذي بين العبد وبين ربه هو: أن يقوم بعبادة الله سبحانه وتعالى.
والعهد الذي بينك وبين الناس: إذا عاهدت سلطاناً، أو أميرًا، أو عاهدت أحداً من الناس فلا تغدر العهد الذي بينك وبين الله، ولا بالعهد الذي بينك وبين الناس؛ إذا عاهدت وجب عليك الوفاء بالعهد قال الله سبحانه وتعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذَب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر"، فالغدر بالعهود من صفات المنافقين.
بل إذا كان بيننا وبين الكفار عهد فلا يجوز لنا أن نغدر به، بل يجب الوفاء مع الكفار المعاهَدين.
وإذا أراد ولي الأمر أن ينهي المعاهدة مع الكفار فلا يلغيها فجأة، بل يعطيهم؛ مُهلة: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ(58)}.
ومبايعة السلطان عهد يجب على الرعية أن يفوا به، وأن لا يغدروا به، وأن لا يعصوا ولّي الأمر، إلاَّ إذا أَمر بمعصية فإنه لا يُطاع في المعصية، لكن يُطاع في الأمور الأخرى التي ليستْ بمعصية، هذا من العهد الذي بينك وبين وليّ الأمر.
كذلك العهد الذي بينك وبين الناس؛ العهد الذي بين دولتك ودولة أخرى، كلّ هذا من العهد الذي أمر الله بالوفاء به، ولا يُستهان به أبداً؛ فالعهود أمرها عظيم، ولذلك أضافها الله إليه قال- تعالى-:(13/61)
{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} قال - تعالى-: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} وهنا يقول: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} أضاف العهد إليه ليدل على عظمته.
{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} {لَعَلَّ} هنا للتعليل أيضاً، أي: لأجل أن تتذكّروا ما عليكم من الحقوق والواجبات فتقوموا بها خير قيام.(13/62)
ص -40- ... ثم ختم هذه الوصايا بالوصية العاشرة العظيمة فقال- جل وعلا-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي}: الصراط في اللغة معناه: الطريق؛ والمراد بالصراط هنا: كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لأنهما طريقٌ إلى الجنة، أي: ما أوحيته إليكم بواسطة رسولي من الأوامر والنواهي في هذا القرآن العظيم وفي السنة النبوية هذا هو الصراط. فالذي يسأل عن الطريق إلى الله، نقول هو كتاب الله، وكذلك سنة النبي صلى الله عليه وسلم لأنها، تابعة للقرآن، ومفسِّرة للقرآن؛ فالسنة داخلة في كتاب الله عز وجل.
{مُسْتَقِيماً} نُصب على الحال؛ والمستقيم هو: المعتدل، فطريق الله عز وجل معتدل، ليس فيه ميلان، وليس فيه منعطفَات، وليس فيه غموض، طريق واضح يوصلك إلى الجنة، تمشي فيه على نور، وعلى برهان، وعلى طريق واضح.
وأضاف {الصِّرَاطَ} إليه سبحانه وتعالى إضافة تشريف وتكريم؛ ثم وصفه بأنه مستقيم، يعني: معتدلٌ بخلاف الطرق الأخرى فإنها معوجَّة ومتعرِّجة، تضلِّل صاحبها؛ لأن هناك طرقاً كثيرة للشياطين؛ شياطين الإنس والجن، ومذاهب، وهناك جماعات متعدّدة، هناك.. وهناك..، لكن طريق الله واحدة، ما فيها تعدُّد، ولا فيها انقسام، ولهذا وحّد صراطه وعدّد السبل قال: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} لأن الطرق والسبل التي غير القرآن وغير الشريعة طرقٌ كثيرة ليس لها حصر، كل صاحب مذهب له طريقة، وكل صاحب نِحْلة له طريق، وكل جماعة من الضُّلاَّل لهم طريق، وكل، مَن اخْتلف عن الحق صار له طريق غير طريق الآخر؛ وهذه علامة أهل الضَّلاَّل أنهم لا يجتمعون على شيء، ولا يتوافقون أبداً، بخلاف أهل الحق فإنهم يتوافقون، لماذا؟ لأنهم يسيرون على طريق الله سبحانه وتعالى.
فميزه أهل الحق أنهم لا يختلفون، وإن حصل اختلاف فإنه يُحْسَم بالرجوع إلى كتاب الله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى(13/63)
اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}؛ فالصحابة رضي الله عنهم قد يقع بينهم اختلافات لكن سرعان ما تذهب، لماذا؟، لأنهم يرجعون إلى كتاب الله؛ فقد اختلفوا بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم من الخليفة بعده؟، ثم سَرْعان ما انْحَسَم النزاع وعاهدوا أبا بكر الصدِّيق- رضي الله تعالى عنه- لما(13/64)
ص -41- ... رجعوا إلى السنة، واختلفوا في حروب الردة، وسرعان ما اتّفقوا على قتال المرتدِّين، لأنهم رجعوا إلى كتاب الله وسنة رسوله.
فأهل الحق حتى لو حصل بينهم خلاف ناتج عن اجتهاد، فإنهم يرجعون إلى كتاب الله، بخلاف أهل الضلال فإن كل واحد يركب رأسه، ولا يُصْغي للآخر، كل واحد يريد أن يكون هو الشيخ والمعظَّم، لأنه يريد تعظيم نفسه، ولا يريد الحق؛ فلذلك تجدون أهل الضلال دائماً في اختلاف، ودائماً في صراع، وتجدون أهل الضلال تتشعّب مناهجهم، وتتنوّع، وكل حين يخرج مذهب جديد، هذه صفة أهل الضلال- والعياذ بالله- وهذا مذكور في هذه الآية: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} وضّح النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية بتوضيحٍ محسوسٌ: ذلكم أنه خط صلى الله عليه وسلم على الأرض خطّاً معتدلاً، ثم خطّ على جَنَبَتَيْه خطوطاً، فقال صلى الله عليه وسلم للخط المعتدِل: "هذا صراط الله"، وقال لهذه الطرق: "وهذه سُبُل، على كل سبيل منها شيطان يدعو الناس إليه"، هذا مثال واضح من الرسول صلى الله عليه وسلم لبيان الآية الكريمة: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}.
وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول: "ومن يَعِشْ منكم فسيرى اختلافاً كثيراً؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي؛ تمسّكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ؛ وإياكم ومحدَثات الأمور، فإن كلّ محدَثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة"، وقال صلى الله عليه وسلم: "وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلاَّ واحدة"، فقالوا: من هي يا رسول الله؟، قال: "مَنْ كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي" هذا صراط الله عز وجل في الآيات وفي الأحاديث.
ولا نستغرب إذ حصل اختلافات، ونشأتْ مذاهب ضالّة، وحصل صراعات بين الناس، لا نستغرب هذا، لأن هذه سنة الله سبحانه وتعالى(13/65)
لابتلاء العباد وامتحانهم، ومن هو الذي يثبت على الطريق ومن هو الذي لا يثبت؟
والنبي صلى الله عليه وسلم عندما حضرته الوفاة أراد أن يكتُب كتاباً لأصحابه، يَعْهَد إليهم فيه، ولكنه عدل عن ذلك، وتُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يوص ولم يَعْهَد إليهم، فتأسّف بعضهم، فابن مسعود يقول: لستم بحاجة إلى كتاب يكتبه الرسول صلى الله عليه وسلم لأن عندكم القرآن.(13/66)
ص -42- ... عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار، فقال لي: "يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟"، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله: أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً"، قلت: أفلا أبشّر الناس؟، قال: "لا تبشرهم فَيَتَّكِلُوا" أخرجاه في الصحيحين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فقول ابن مسعود رضي الله عنه: "من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه" يعني: التي تعوِّض عن هذه الكتابة التي هَمّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
"فليقرأ هذه الآيات" لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يوصي إلاَّ بكتاب الله، وأيضاً الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "إني تاركٌ فيكم ما إنْ تمسَّكْتم به لن تضلوا من بعدي: كتاب الله وسنتي".
فالحمد لله، عندنا ما أوصى به الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه أوصانا باتّباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
ثم ساق الشيخ رحمه الله حديث معاذ والكلام عليه أن نقول:
في هذا الحديث العظيم: فضيلة لمعاذ رضي الله عنه، وفضائله كثيرة، وهو معاذ بن جبل الخَزْرَجي الأنصاري، أحد أَوْعِيَة العلم، وأعلم هذه الأمة بالحلال والحرام، وقد استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على مكة لما فتحها قاضياً ومعلِّماً، ثم أرسله- أيضاً- في السنة التاسعة أو العاشرة إلى اليمن قاضياً ومعلِّماً- كما سيأتي-، ثم جاء من اليمن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فأرسله عمر إلى الشام قاضياً ومعلِّماً، وتوفي هناك- رضي الله تعالى عنه- في الشام في طاعون عُمْوَاس المشهور.
قوله: "قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم"، يعني: راكباً معه.
"على حمار" هذا فيه: تواضع النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يركب الحمار، مع أنه أشرف الخلق على الإطلاق، وتواضعه-(13/67)
أيضاً- صلى الله عليه وسلم في إرداف صاحبه معه، وفيه: جواز الإرداف على الدّابّة إذا كانت تُطيق ذلك، ولا يشق عليها.
"فقال لي: يا معاذ" أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلمه هذا الحكم العظيم، ولكنه صلى الله عليه وسلم(13/68)
ص -43- ... أراد أن يُلْقِيَه إليه بطريقة السؤال والجواب، ليكون ذلك أَدْعى إلى الانتباه والاهتمام، فإن التعليم عن طريق السؤال والجواب من أعظم الطرق الناجحة في تعليم العلم، لأنك لما تسأل الطالب عن شيء يجهله ثم يتطلع إلى الجواب، أحسن من أن تلقي إليه المسألة ابتداءً، وهو على غير انتباه واستعداد لاستقبالها، وهذه طريقة من طرق التعليم، وهي طريقة نبويّة، استعملها النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحوال.
"أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله" هذه مسألة عظيمة.
قال معاذ: "قلت: الله ورسوله أعلم" هذا فيه: تأدب طالب العلم في أنه إذا سُئل عن شيء وهو لا يعرفه، أن يقول: الله ورسوله أعلم، ولا يدخل ويَتَخَرَّص في شيء لا يعرفه، بل يَكِلُ العلم إلى عالِمه، هذه- أيضاً- من طرق التعلُّم الناجحة، هي: أن الإنسان إذا سُئل عن علم لا يعلمه أو عن مسألة وهو لا يعرفها، لا يحمله الأنفة بأن لا يقول: لا أدري، بل يقول: لا أدري، أو يقول: الله أعلم، ولا غَضَاضة عليه في ذلك، بل هذا يدل على فضله وورعه وأدبه مع الله سبحانه وتعالى، وأدبه مع المعلم.
وقد سُئل الإمام مالك عن أربعين مسألة، فأجاب عن أربع مسائل منها، وقال عن البقيّة: لا أدري، فقال السائل: جئتك من بلاد كذا وكذا أسألك عن مسائل، وتقول لا أدري؟ فقال له: اركب راحلتك واذهب إلى البلد الذي جئت منه، وقل: سألت مالكاً وقال: لا أدري. هكذا أدب العلماء.
وهذا معاذ رضي الله عنه يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: "الله ورسوله أعلم"، ففي هذا: رَدُّ العلم إلى عالمه، وعدم تدخُّل الإنسان في شيء وهو لا يدري عن حكمه، والله- تعالى- يقول: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}، ويقول سبحانه وتعالى لما ذكر المحرّمات في قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}، ختمها بقوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا(13/69)
تَعْلَمُونَ} وقال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(144)}، والآيات والأحاديث في هذا كثيرة، فمن يريد النجاة لنفسه، ويريد السلامة، وأيضاً يريد السلامة للناس؛ فإنه لا يتدخل في شيء لا يعرفه،(13/70)
ص -44- ... لأنه يُوَرَّطُ نفسه، ويُوَرِّطُ الآخرين معه، لأنه إذا أجاب بخطأ ضلّل الناس {لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ}، فهذه مسألة عظيمة، يجب علينا أن نتعقّلها، وأن الإنسان لا يتسرّع في الإجابة عن شيء، إلاَّ إذا كان يعلمه تماماً، وإلاَّ فليقف على شاطئ السلامة، ولا يدخل في لِجَّة البحر وهو لا يُحسن السباحة.
"قلت: الله ورسوله أعلم" هذا يُقال في حياة النبي صلى الله عليه وسلم: الله ورسوله أعلم، أما بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يقال: الله أعلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد انتقل من هذه الدار إلى الرّفيق الأعلى إلى الدار الآخرة، فيُوكل العلم إلى الله سبحانه وتعالى لأن الله سبحانه وتعالى أعطى رسوله علماً عظيماً {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}، فالرسول صلى الله عليه وسلم عنده علم عظيم من الله، ويجيب في حياته، ولكن بعد وفاته قد بلّغ البلاغ المُبين صلى الله عليه وسلم وأنهى مهمّته ورسالته، وانتقل إلى ربه عز وجل، فلا يجيب في مسألة.،
فلما تهيّأ معاذ للجواب وتنبّه وتطلع؛ ألقى عليه النبي صلى الله عليه وسلم الجواب، فقال: "حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً" هذا هو حق الله سبحانه وتعالى على عباده، من أولهم إلى آخرهم، كما في الآية التي في مطلع الباب:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ(56)}، هذا هو حق الله على العباد، وهو أول الحقوق، وآكد الحقوق، لأن الإنسان منّا عليه حقوق، أعظمها: حق الله، ثم حق الوالدين، ثم حق الأقارب، ثم حق اليتامى والمساكين والجيران والمماليك، كما في قوله- تعالى-: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ(13/71)
السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فهذه عشرة حقوق، ذكرها الله- سبحانه- في هذه الآية، أولها: حق الله سبحانه وتعالى وكما في الآيات في سورة الإسراء التي ذكر الله فيها خمسة عشر حقًّا، أولها: حق الله في قوله- تعالى-: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ}، ثم جاء بحق الوالدين {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا}، إلى قوله: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ}، ختم الآيات بما بدأها به وهو حق الله على عباده أن يعبدوه، ولا يكفي هذا، أن يعبدوه، بل ولا يشركوا به شيئاً، لأن العبادة لا تكون عبادة إلاَّ إذا خَلَصَتْ من الشرك، أما إذا خالطها شرك فإنها(13/72)
ص -45- ... لا تكون عبادة لله، كما قال- تعالى-: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}، لأن الشرك يُبطل العبادة، ويُبطل سائر الأعمال، ولا يصحُّ معه عمل، مهما كلّف الإنسان نفسه بالعبادات، إذا كان عنده شيء من الشرك الأكبر فإن عبادته تكون هباءً منثوراً: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً}، قال- تعالى-:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ(66)}، وقال- تعالى- لما ذكر الأنبياء في سورة الأنعام: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ} إلى آخر الأنبياء الذين ذكرهم الله، قال- جلَّ وعلا-: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، فالشرك يُحبط الأعمال، ولهذا كثيراً ما يأتي الأمر بالعبادة مقروناً بالنهي عن الشرك: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} "أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئاً"، وهذا هو معنى لا إله إلاَّ الله، لأن لا إله إلاَّ الله تشتمل على النفي وعلى الإثبات، النفي: نفى الشرك، والإثبات: إثبات التّوحيد.
"أن يعبدوه" والعبادة- أيضاً- كما أنها لا تكون عبادة إلاَّ مع التّوحيد، كذلك لا تكون عبادة إلاَّ إذا كانت موافقة لما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم، فالعبادة وسائر الأعمال لا تصح إلاَّ بشرطين:
الشرط الأول: الإخلاص لله عز وجل.
الشرط الثاني: المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم.
فلو أن الإنسان جاء بعبادات مُحْدَثة ليس فيها شرك أبداً كلها خالصة لله، ولكنها ليست من شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، فهي بدع مردودة لا تُقبل، قال صلى الله(13/73)
عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدْ" وفي رواية: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رَدْ"، فالعبادة لا تكون عبادة إلاَّ بشرطين: الإخلاص لله عز وجل، والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو معنى الشهادتين: شهادة أن لا إله إلاَّ الله، فمعناها: الإخلاص لله عز وجل، وشهادة أن محمداً رسول الله ومعناها: المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، فالعبادات لا يصلح أن يكون فيها شيء من الاستحسانات البشريّة، أو استدراكات العقول، أو غير ذلك، مهما حسُنت نية الفاعل ما دام أنه بدعة: فلو أن إنساناً- مثلاً- قال: الصلوات خمس،(13/74)
ص -46- ... أنا أريد زيادة خير، أصَلِّي فريضة سادسة، زيادة خير، نقول: لا، هذا باطل، لأن هذا شيء لم يَشْرعه الله ولا رسوله، وإن كان قصدك حسناً، فهو عمل مردود وباطل، ولهذا لما جاء ثلاثة نفر من الصحابة إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم من أجل أن يقتدوا به، فذكر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الرَّهْط عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فكأنهم تقالُّوها، ولكن اعتذروا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخّر، وقالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أنا أصلي ولا أنام، وقال الآخر: أنا لا أتزوج النساء- يعني: يريد التَّبَتُّل -، وقال الثالث: أنا أصوم ولا أُفطر،- وفي رواية: ولا آكل اللحم-، فلما بلغ ذلك رسول الله غضب غضباً شديداً، وقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأعلمكم بالله وأتقاكم له وأخشاكم له، وإني أصلي وأنام، وأصوم وأُفطر، وأتزوج النساء، ومن رغب عن سنتي فليس مني"، وهكذا، فالعبادة لابد أن تكون مطابقة لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها بدع، ولا خرافات، ولا محدثات، ولا استحسانات للعقول، أو اقتداء بفلان أو علاَّن، ما دام أن هذا المُقتدى به ليس متبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم فليس بقدوة، هذه هي العبادة، ولهذا يقول العلامة ابن القيّم رحمه الله في "النونية":
حق الإله عبادة بالأمر لا ... بهوى النفوس فذاك للشيطان
حق الإله عبادة بالأمر، يعني: بالشرع، فالأمر المراد به: الشرع؛ فلا تحدث شيئاً من عندك.
لا بهوى النفوس فذاك للشيطان، فالذي يعبد الله باستحسان عقله، وشهوة نفسه بشيء لم يَشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ليس عابداً لله، وإنما هو عابد للشيطان، لأنه هو الذي أمره بذلك، فالشيطان يأمر بالبدع والخرافات.
وقال في موضع آخر:(13/75)
وعبادة الرحمن غاية حُبّه ... مع ذُلِّ عابده هما قُطْبان
وعليهما فَلَك العبادة دائر ... ما دار حتى قامت القُطْبان
ومداره بالأمر أمر رسوله ... لا بالهوى والنفس والشيطان(13/76)
ص -47- ... هكذا تكون العبادة، لابد أن تكون العبادة خالصة لوجه الله عز وجل، ليس فيها شرك، وأن تكون- أيضاً- على وفق ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم تماماً ليس فيها بدعة.
"وحق العباد على الله: أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً"، هذا الحق للعباد على الله ليس بحق واجب على الله، وإنما هو تفضُّل منه سبحانه وتعالى، لأن الله لا يجب عليه حق لأحد، ولا أحد يوجب على الله شيئاً، كما هو مذهب المعتزلة، فهم الذين يرون أن الله يجب عليه أن يعمل كذا، يوجبون على الله بعقولهم، أما أهل السنة والجماعة فيقولون: الله سبحانه وتعالى ليس عليه حق واجب لخلقه، وإنما هو شيء تفضَّل به- سبحانه- وتكرَّم به، كما قال- تعالى-: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}، هذا حق تفضل به، ونظم ذلك الشاعر بقوله:
ما للعباد عليه حق وجب ... كلا ولا سعي لديه ضائع
إن عُذِّبوا فبعد له أو نُعِّموا ... فبفضله وهو الكريم الواسع(13/77)
فمعنى "حق العباد على الله" يعني: الحق الذي تفضل الله- تعالى- به، وأوجبه على نفسه، من دون أن يوجبه عليه أحد من خلقه، بل هو الذي أوجبه على نفسه، تكرّماً منه بموجب وعده الكريم الذي لا يُخلفه- سبحانه- {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ}.
"أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً" فدلّ هذا على أن من سَلِم من الشرك الأكبر والأصغر فإنه يسلم من العذاب، وهذا إذا جَمعته مع النصوص الأخرى التي جاءت بالوعيد على العُصاة والفسقة، فإنك تقول: العُصاة من الموحّدين الذين لم يشركوا بالله شيئاً، ولكن عندهم ذنوب دون الشرك من سرقة، أو زنا، أو شرب خمر، أو غيبة، أو نميمة أو، إلى آخره، فهذه ذنوب يستحق أصحابها العذاب، ولكن هي تحت مشيئة الله إن شاء الله غفر لهم من دون عذاب وأدخلهم الجنة، وإن شاء عذبهم بقدر ذنوبهم، ثم يخرجهم بتوحيدهم، ويدخلهم الجنة، فالموحّدون مآلهم إلى الجنة، إما ابتداءً وإما انتهاءً، وقد جاء في الأحاديث أنه يُخرج من النار من في قلبه أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان، ويُخرج من النار أُناس كالفحم، قد(13/78)
ص -48- ... امتحشوا، ثم يُنبت الله أجسامهم بأن يُلقوا في نهر على باب الجنة، يُقال له نهر الحياة، فتنبت أجسامهم، ثم يدخلون الجنة، ويُخَلَّدون فيها، فأهل التّوحيد مآلهم إلى الجنة، حتى ولو عذبوا في النار فإنهم لا يخلدون فيها وذلك بسبب التّوحيد، أما الكفار والمشركون والمنافقون النفاق الأكبر، فهؤلاء مآهلم النار خالدين مخلَّدين فيها، لا يدخلون الجنة أبداً {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ}.
فقوله صلى الله عليه وسلم: "أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً" هذا وعد من الله سبحانه وتعالى؛ إن شاء غفر هذه الذنوب، وإن شاء عذب أصحابها، ثم يدخلهم الجنة بعد ذلك، وقد يخرجهم الله من النار بشفاعة الشافعين، وقد يخرجهم برحمته سبحانه وتعالى، فحتى ولو عذَّبوا مآلهم إلى الجنة {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، فالتّوحيد يَعصم من الخلود في النار، وإذا كان التّوحيد كاملاً فإنه يَعصم من دخول النار أصلاً، وإذا كان ناقصاً فإنه يَعصم من الخلود فيها، ولا يعصم من الدخول فيها، وإنما يَعصم من الخلود فيها، كما قال- تعالى- لما ذكر مناظرة إبراهيم الخليل عليه السلام مع عَبَدَة الأصنام قال: {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ}، المؤمنون أو المشركون، {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} قال الله- تعالى-: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}، هؤلاء هم أهل التّوحيد، {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} يعني: بشرك، ولهذا لما نزلت هذه الآية شقَّتْ على الصحابة وقالوا: أيُّنا لم يظلم نفسه؟، فقال صلى الله عليه وسلم: "ليس الذي تَعْنُون، إنه الشرك، ألم تسمعوا قول العبد(13/79)
الصالح:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، فالمراد بالظلم هنا: الشرك، فالذين سلِموا من الشرك لهم الأمن، إما الأمن المطلق، وإما مطلق الأمن، والأمن المطلق هو الذي ليس معه عذاب، وأما مطلق الأمن فهذا الذي قد يكون معه شيء من العذاب على حسب الذنوب، فالحاصل: أن أهل التّوحيد لهم الأمن بلا شك، ولكن قد يكون أمناً مطلقاً، وقد يكون مطلق أمنٍ، هذا هو الجواب الصحيح عن هذه المسألة.
بخلاف مذهب الخوارج والمعتزلة، فعندهم أن أصحاب الكبائر مخلّدون في(13/80)
ص -49- ... النار- والعياذ بالله، من هذا المذهب الباطل، فعندهم أن متى دخل النار لا يخرج منها بزعمهم، ويغالطون النصوص الصحيحة من الكتاب والسنة التي تدل على أن أهل التّوحيد ولو كان عندهم ذنوب ومعاص فإنهم لا يخلدون في النار، قال الله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} يعني: هذه الأمة، والمراد بالكتاب: القرآن، {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا}، انظروا كيف ذكر الظالم لنفسه مع المقتصد ومع السابق بالخيرات، ووعدهم جميعاً بالجنة: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ(33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ(34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ(35)}، ذكر منهم الظالم لنفسه- بل بدأ به-؛ مما يدل على أن أهل التّوحيد يرجى لهم الخير، ويرجى لهم دخول الجنة، ولو كان عندهم ذنوب كبائر دون الشرك.
وسيأتي في الأحاديث: "من مات وهو يشرك بالله شيئاً دخل النار،. ومن مات وهو لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة"، "إن الله حرم على النار من قال لا إله إلاَّ الله يبتغي بذلك وجه الله"، إلى كير ذلك من الأحاديث التي فيها أن التّوحيد يعصم من دخول النار، أو يعصم من الخلود فيها، وسيأتي باب مستقل في هذا الكتاب المبارك اسمه "باب فضل التّوحيد وما يكفِّر من الذنوب".
ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حق العباد على الله: أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً" فمعاذ الله استبشر بهذا الحديث الشريف، وفرح به غاية الفرح، وقال: يا رسول(13/81)
الله ألا أبشر الناس؟، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تبشرهم فيَتَّكِلُوا"، يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم خشي إذا سمعه الناس فإنهم يتّكِلون على جانب الرجاء ويتساهلون في المعاصي، ويقولون: ما دمنا موحّدين فالمعاصي لا تضرنا، لأن الرسول يقول: "أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً"، ونحن والحمد لله لسنا مشركين، ونحن لا نعبد إلاَّ الله، فيتساهلون في المعاصي، فيغلِّبون جانب الرجاء على جانب الخوف، فهذا من(13/82)
ص -50- ... الحكمة؛ أن العلم لا يوضع إلاَّ في مواضعه، فإذا خيف من إلقاء المسائل على بعض الناس محذور أكبر، فإنهم تُكتم عنهم بعض المسائل من أجل الشفقة بهم، ورحمتهم من الوقوع في المحذور، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكتمان هذا النوع من العلم عن عامة الناس، وأخبر به معاذاً، لأن معاذاً من الجهابذة، ومن خواص العلماء، فدلَّ على أنه يجوز كتمان العلم للمصلحة، إذا كان يترتب على إيضاح بعض المسائل للناس محذور: بأن يفهموا خطأً، أو يَتَّكِلوا على ما سمعوا، فإنهم لا يُخبَرون بذلك، وإنما تلقى هذه المسائل على خواص العلماء الذين لا يُخشى منهم الوقوع في المحذور، فأخذ العلماء من هذا الحديث جواز كتمان العلم للمصلحة، وإنما أخبر معاذ رضي الله عنه بهذا الحديث عند وفاته، خشية أن يموت وعنده شيء من الأحاديث لم يبلِّغه للناس، كما في حديث علي رضي الله عنه: "حدِثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذَّب الله ورسوله"، يعني: لا يُلقى على كل الناس بعض المسائل التي فيها أمور يَخفى عليهم معناها، أو تشوِّش عليهم، وإنما يُلقى على الناس ما يفهمونه، ويستفيدون منه، أما نوادر المسائل، وخواص المسائل، فهذه تلقى على طلبة العلم، والمتفقهين المتمكِّنين، وهذا من الحكمة ووضع الشيء في موضعه، لمّا تكون أمام عُصاة يشربون الخمور، ويزنون، ويسرقون، وتقول: الله غفور رحيم، الله قريب مجيب، الله سبحانه وتعالى يغفر ويسمح، فيزيدون في الشرور، لكن حين تقول لهم: اتقوا الله، الله سبحانه وتعالى توعّد الزناة بالعذاب وتوعّد على السرقة، وعلى المعاصي بالعذاب الشديد، فتذكر لهم نصوص الوعيد، من أجل التوبة، ولو أتيت عند متمسِّكين وطيبين فذكرت لهم آيات الوعيد، فهذا ربما يزيدهم وسواساً، أو تشدّداً، فأنت تذكر لهم آيات التيسير، وأحاديث التيسير، والتسهيل، والرحمة، الفرج، إلى غير ذلك، من أجل أن لا يزيدوا ويشتدوا ويغلوا، فكل مقام له مقال، وتوضع الأمور(13/83)
في مواضعها، هذا هو الميزان الصحيح، والناس ليسوا على حد سواء، كل يخاطب بما يستفيد منه ولا يتضرر به، فلا تأتي بآيات الوعد والرجاء عند المتساهلين، ولا تأتي بآيات الوعيد عند المتشددّين، بل تكون كالطبيب تضع الدواء في موضعه المناسب، هكذا يكون طالب العلم، إذا كانت هناك أمور غامضة،(13/84)
ص -51- ... لا يعرفها العوام، ولا تتسع لها عقولهم، من المسائل العلمية، فلا تُلقى على العوام، وإنما تُلقى على طلبة العلم، وعلى الناس الذين يستوعبونها، ولهذا يقول ابن مسعود: "ما أنت بمحدث قوماً بحديث لا تبلغه عقولهم إلاَّ كان لبعضهم فتنة" وقال علي رضي الله عنه: "حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله".
فالحاصل؛ أن طالب العلم والواعظ والمعلم يجب عليه أن يراعي أحوال الحاضرين وأحوال الناس، ويعطيهم ما يحتاجون إليه من المسائل، ولا يُلقى عليهم المسائل الغريبة التي لم يتوصلوا إليها، فلو أتيت عند طلبة علم مبتدئين، فلا تلق عليهم غرائب المسائل التي لا يعرفها إلاَّ الراسخون في العلم، بل تعلمهم مبادئ مبسطة سهلة يتدرّجون بها شيئاً فشيئاً، لا تطلب من طالب مبتدئ أن يقرأ في "صحيح البخاري"، لأنه لم يصل إلى هذا الحد لكن لَقِّنه "الأربعين النووية"، والأحاديث القريبة، وشروط الصلاة، وأحكام الطهارة، إلى آخره، وإنسان مبتدئ بعلم العربية، لا تأمره بقراءة كتاب سيبويه؟، لكن تأمره بقراءة "الأجرُّوميَّة"، ومسائل مبسطة، يدخل بها على اللغة العربية والنحو، شيئاً فشيئاً، ولذلك ألف العلماء المختصرات والمتوسطات والمطوّلات، من أجل إن طالب العلم يمشي مراحل، شيئاً فشيئاً، الحاصل: أن كل شيء له شيء، وكل مقام له مقال.
وقوله رحمه الله: "أخرجاه في الصحيحين" أخرجه البخاري: محمد بن إسماعيل البخاري في صحيحه "الجامع الصحيح"، الذي هو أصح كتاب عند المسلمين بعد كتاب الله عز وجل، وبالمنزلة الأولى من كتب السنة، ثم يليه "صحيح الإمام مسلم"رحمه الله، فالصحيحان: "صحيح البخاري" و "صحيح مسلم" هما أعلى شيء في كتب السنّة، وأصح الأحاديث ما اتفق عليه البخاري ومسلم، ثم ما رواه البخاري، ثم ما رواه مسلم، ثم بقية الأحاديث، لأن هناك صحاحاً غير الصحيحين: مثل: "صحيح ابن خزيمة"، وهذا يُثني عليه أهل العلم، و"صحيح الحاكم"، و"صحيح(13/85)
ابن حبّان"، وهذه يشترط أهلها الصحة، ولكن تصحيحهم دون تصحيح الإمامين البخاري ومسلم.(13/86)
ص -52- ... فهذا الباب اشتمل على فوائد عظيمة:
الفائدة الأولى: بيان تفسير التّوحيد، وأنه عبادة الله وحده لا شريك له، هذا هو التّوحيد، لأن كل الآيات التي في الباب تأمر بالعبادة وتنهى عن الشرك: "{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ(56)}"، {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ}، {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}، فهذه الآيات تفسر التّوحيد بأنه العبادة.
الفائدة الثانية: أن الرسل بعثوا بالدعوة إلى توحيد العبادة، لا بالدعوة إلى توحيد الربوبية، فليس هناك آية واحدة قالت أقروا بالربوبية، أو أَقِرُّوا أن الله هو الخالق الرازق، لماذا؟، لأن هذا موجود في الناس. فهم مقرُّون بأن الله هو الخالق، الرازق، المحيي، المميت، المدبّر، فتوحيد الرُّبوبية موجود في غالب البشر، لأن الفِطَر تقتضيه، لأن العاقل من الناس يعلم أن هذا الخلق لابد له من خالق: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ(35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ(36)}، {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ(17)}، فالآيات ما جاء تطالب الناس بالإقرار بتوحيد الرّبوبية، لأن هذا موجود، والإقرار به لا يكفي في الدخول في الإسلام، وإنما جاءت كلها على نَسَق واحد تأمر بالعبادة، وإنما تذكر توحيد الربوبية للاستدلال به على توحيد الألوهية.
الفائدة الثالثة: في قوله: "{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ(56)}" هذه الآية فيها: أن الحكمة من خلق الجن والإنس هي عبادة الله سبحانه وتعالى، الآية الثانية: "{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}" فيها: أن الرسل كلهم من أولهم إلى(13/87)
آخرهم جاءوا بالأمر بعبادة الله، وترك عبادة ما سواه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، فدلّ على أن التّوحيد هو الذي بُعثت به الرسل، كما أنه هو الذي خلق الخلق من أجله.
الفائدة الرابعة: أن العبادة لا تنفع مع الشرك، فمن أشرك بالله شيئاً فإنه لم(13/88)
ص -53- ... يُؤَذِّ حق الله سبحانه وتعالى، فالذي لا يَعبد الله مطلقاً كالملاحدة، وكذلك الذي يعبد الله مع الشرك، كلهم سواء، الملحد والمشرك، إنما الذي يعبد الله حقاً هو الذي يعبده ولا يشرك به شيئاً، هذا هو الذي يعبد الله حق عبادته وهو الذي تنفعه عبادته.(13/89)
ص -54- ... [الباب الثاني:] * باب فضل التّوحيد وما يكفر من الذنوب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الشيخ رحمه الله: "باب فضل التّوحيد وما يكفِّر من الذنوب"، ثم ساق في هذا الباب آية من كتاب الله، وأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تُبيّن فضل التّوحيد، وتُبيّن ما يكفِّره من الذنوب، والمناسبة بين هذا الباب والذي قبله، مناسبة ظاهرة، فإنه رحمه الله لما بيّن في الباب الذي قبله حقيقة التّوحيد، ومعنى التّوحيد المطلوب، ووضّح ذلك بالآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ناسب أن يذكِّر فضله ليرغب فيه، ويحث عليه، لأن الشيء إذا عُرفت مزاياه فإن النفس تتعلق به وتحرص عليه، وهذا التصنيف بين البابين في غاية الحكمة، مما يدل على دقة فهمه رحمه الله، لأنه لو ذكر فضل التّوحيد قبل أن يبيّن معنى التّوحيد لم يكن ذلك مناسباً، فلابد أن تُبيّن حقيقة الشيء ومعناه، ثم بعد ذلك تبين فضله، أما أن تذكر الفضائل لشيء غير معروف، فهذا لا يُجْدِي شيئاً، ومن هنا نُدرك خطأ كثير من الدعاة اليوم، أو من المؤلفين المعاصرين، الذي يزعمون أنهم يكتبون عن الإسلام، وعن الدعوة، ويمدحون الإسلام مدحاً كثيراً، في محاضراتهم، وفي كتبهم، وهذا حق، لكن ما هو الإسلام أوّلاً، لم يبيّنوا ما هو الإسلام، تقرأ الكتاب من أوله إلى آخره، أو تستمع إلى المحاضرة- أو الشريط- من أوله إلى آخره، وهو مدح للإسلام وثناء عليه، وبيان لمزاياه، لكن ما هو الإسلام، لأن كل واحدة من الفرق الضالة والمنحرفة تفسِّر الإسلام بمذهبها، وينزِّلون هذا المدح، وهذا الثناء على مذهبهم، فلا يكفي أننا نمدح الإسلام ونثني عليه فقط، لابد أن تبيّن ما هو الإسلام، ما هي حقيقة الإسلام الذي يُنجي من الكفر، ويدخل في التّوحيد، ويُنجي من النار ويدخل في الجنة، وما هي نواقض الإسلام التي تُفسد الإسلام، وتُخرج منه، وما هي مكمِّلاته، وما هي منقِّصاته، لابد من هذا، أما مجرد(13/90)
المدح، وذكر الفضائل بدون إنك تبيّن حقيقة الشيء، فهذا خطأ عظيم، والإسلام هو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عليه صحابته الكرام، وكان عليه القرون المفضلة، أما ما خالف ذلك فليس من الإسلام في شيء، وإن كان صاحبه يدَّعي أنه هو الإسلام، ومن هنا تجدون الشيخ بيّن في الباب الأول حقيقة التّوحيد(13/91)
ص -55- ... وقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} الآية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لئلا يدعي كل واحد أن مذهبه هو التّوحيد، أو ما هو عليه هو التّوحيد، وهذا أمر مهم جدًّا، لأنهم يقولون أدعوا إلى الإسلام وبينوا مزايا الإسلام فقط، ولا تبينوا للناس حقيقة الإسلام، لأن هذا يفرق عنكم الناس.
قال رحمه الله تعالى: "وقول الله- تعالى- {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}"، هذه الآية جاءت بعد ذكر مناظرة إبراهيم الخليل- عليه الصلاة والسلام- لقومه، لأن قومه كانوا يعبدون الكواكب، وهم الصابئة، في أرض العراق، فالله سبحانه وتعالى بعث نبيّه ورسوله إبراهيم الخليل- عليه الصلاة والسلام- للدعوة إلى التّوحيد، وإنكار هذا الشرك، ولم يكن هناك مسلم وقت بعثته- عليه الصلاة والسلام-، كلهم على الوثنيّة- والعياذ بالله-، وذكر الله ذلك في القرآن في عدة مواضع منها: في سورة الأنعام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ}بدأ بأبيه، لأنه يجب على الإنسان أول ما يبدأ بنفسه، ثم بأقرب الناس إليه، وأهل بيته، وجيرانه، ثم ينتشر في الدعوة إلى الله شيئاً فشيئاً، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}، وفي الآية الأخرى يقول- جلّ وعلا-: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ(51) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ(52)} إلى آخر الآيات.
وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أطلعه الله سبحانه وتعالى، على ذلك من أجل أن يؤهله لحمل الرسالة، والدعوة إلى الله عز وجل والمناظرة، {وَلِيَكُونَ مِنَ(13/92)
الْمُوقِنِينَ} الموقنين بالله سبحانه وتعالى وتوحيده، ويزول عنه أي شك أو أي ارتياب، أو أي شبهة، يكون على وضح اليقين، {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} يعني: غَشَى عليه الليل بظلامه، {رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي} هذا من باب المناظرة، وليس من باب النظر- كما يقول الفلاسفة أو علماء الكلام- لأن إبراهيم يعرف ربه من قبل، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ}، ولكنه قال ذلك لأجل المناظرة، هذا ربي بزعمكم، {فَلَمَّا أَفَلَ} يعني: غاب واختفى، {قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} لأنه لو كان رباً ما غاب ولا اختفى، فهذا مما يُبطل ربوبية هذا الكوكب، { قَالَ لا أُحِبُّ(13/93)
ص -56- ... الآفِلِينَ} لأنه لو كان ربًّا ما عرض له هذا العارض وهذا الزوال بعد الوجود، {فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي} يتدرج شيئاً فشيئاً، {فَلَمَّا أَفَلَ} يعني: غاب وانتقل، صار هذا القمر يُتصرّف فيه، ويُديّر، مثل النجم الذي قبله، يُسَيَّرْ من المطلع إلى المغرب، فهو ليس برب إذاً، {قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ(77) فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً} تدرج إلى أكبر الكواكب هي الشمس، وإذا بطلت عبادة الشمس بطلت عبادة بقية الكواكب من باب أولى، {إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} الآن صرّح بالتّوحيد، وبين بطلان عبادة هذه الكواكب التي يعبدونها، تقرّر عقلاً وشرعاً وفطرة أنها ليست بآلهة، وأعلن البراءة، وهي الهجر والترك والابتعاد عنه، {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} هذا هو الرب سبحانه وتعالى الذي فطر السموات والأرض، يعني: خلقهما وأبدعهما على غير مثال سابق، فالخالق هو الذي يستحق العبادة، أما الكواكب فهي مخلوقة، والمخلوق لا يستحق العبادة، مدبَّرة ليس لها في نفسها تدبير فكيف بغيرها؟، {حَنِيفاً} الحنيف معناه: المقبل على الله، المعرض عما سواه، يعني: لا ألتفت إلى غيره سبحانه وتعالى، {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} هذه براءة أيضاً، لما تبرّأ من الأصنام تبرّأ من أصحابها، {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} ناظروه على ترك هذه الدعوة، وأن يسلك مسلك الناس، ويمشي مع الناس، حتى أبوه وقف في وجهه، كما ذكر الله ذلك في سورة مريم، فإن أباه وقف منه موقف المُعادي {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً(46)}، أفحمهم بالحجة {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ} لأنهم توعدوه(13/94)
بأصنامهم، {إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ(80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً} كيف تهدِّدونني بآلهتكم وأنتم لا تخافون الله الذي خلق السموات والأرض وجعلتم معه شريكاً؟، إن كان هناك تهديد أو وعيد فهو عليكم أنتم، {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ} ما تهمني أصنامكم ولا وعيدكم، لأني متوكل على الله سبحانه وتعالى {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ} إذا كنتم تهدّدون بالوعيد والتخويف، وأنا أخوّفكم بالله عزّ وجلّ، وأبيّن لكم أنكم إن لم تتوبوا إليه فسيعذبكم، فـ { فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ(13/95)
ص -57- ... أَحَقُّ بِالأَمْنِ} أنا أو أنتم؟، {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، فَصَل الله الحكم بينهم فقال:
{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ(82)} هذا هو الحكم الإلهي، {الَّذِينَ آمَنُوا}، وهذا عام في قوم إبراهيم، وغيرهم من الخلق، يعني: الذين وحّدوا الله، وأخلصوا له العبادة، {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} المراد بالظلم هنا: الشرك، لأن الظلم- كما بيّن أهل العلم- ثلاثة أنواع:
النوع الأول: وهو أعظمها-: ظلم الشرك، قال- تعالى-: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} لماذا سُمي الشرك ظلماً؟ لأن الظلم في الأصل: وضع الشيء في غير موضعه، والشرك معناه: وضع العبادة في غير موضعها، وهذا أعظم الظلم، لأنهم لما وضعوا العبادة في غير موضعها، أعطوها لغير مستحقها، وسوَّوْ المخلوق بالخالق، سوَّوْ الضعيف بالقوي الذي لا يُعجزه شيء، وهل بعد هذا ظلم؟
والنوع الثاني: ظلم العبد نفسه بالمعاصي، فالعاصي إنما ظلم نفسه، لأنه عرّض نفسه للعقوبة، وكان الواجب عليه أن يُنقذ نفسه، وأن يضعها في موضعها اللائق بها، وهو الطاعة، والكرامة {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}.
النوع الثالث: ظلم العبد للناس: بأخذ أموالهم، أو غيبتهم، أو نميمتهم، أو سرقة أموالهم، أو التعدي عليهم في أعراضهم بالغيبة والنميمة والقذف والهمز واللمز وغير ذلك من التنقُّص، أو في دمائهم بقتل الأبرياء بغير حق، أو بالضرب والجرح والإهانة بغير حق، فهذا تعدِّ على الناس.
هذه هي أنواع الظلم: ظلم الشرك؛ وهذا أعظم أنواعه، وظلم العبد نفسه، وظلم العبد لغيره من المخلوقين.
أما النوع الأول وهو: ظلم الشرك، فهذا لا يغفره الله أبداً إلاَّ بالتوبة {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ(13/96)
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
وأما النوع الثالث وهو: ظلم العبد للناس، فهذا لا يترك الله منه شيئاً، لابد من القصاص، إلاَّ أن يسمح المظلومون، جاء في الحديث: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها(13/97)
ص -58- ... يوم القيامة، حتى يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القَرْنَاء" الشاة الجَلحَاء هي التي ليس لها قرون، والشاة القَرْنَاء التي لها قرون، إذا نطحتها بقرونها لابد من القصاص يوم القيامة حتى بين البهائم، قال- تعالى-: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} تحشر البهائم يوم القيامة، ويُقْتَصُّ بعضها من بعض، ثم يقول الله لها: "كوني تراباً"، فعند ذلك يقول الكافر: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}.
وكذلك بنو آدم، يقام القصاص بينهم يوم القيامة، فيُقْتَصُّ من المظلومين للظلمة، ولا يُترك من حقوقهم شيء إلاَّ إذا سمحوا بها، أما النوع الثاني وهو ظلم العبد لنفسه بما دون الشرك فهذا تحت مشيئة الله، إن شاء الله غفره، وإن شاء عذب به، كما يقول أهل العلم:
الدواوين ثلاثة: ديوان لا يغفره الله، وهو الشرك. وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وهو مظالم العباد. وديوان تحت المشيئة إن شاء الله غفر لصاحبه، وإن شاء عذبه، وهو الذنوب والمعاصي التي دون الشرك.
فهذا معنى قوله: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} يعني: بشرك، هذا هو الذي فسَّرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها لما نزلت هذه الآية شقت على الصحابة، قالوا: يا رسول الله أيُّنا لم يظلم نفسه؟، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه ليس بالذي تَعْنُون، إنه الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.
وقوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ} هل المراد في: الأمن المطلق يعني: أنهم لا يعذبون أبداً، أو المراد مطلق الأمن أي أنهم وإن عذبوا فلابد أن يدخلوا الجنة؟، الآية محتملة، وعلى كلا التفسيرين فالآية تدلُّ على فضل(13/98)
التّوحيد، وأنه أمن من العذاب إما مطلقاً وإما يُؤَمّن من العذاب المؤبّد، فالآية فيها فضل التّوحيد، وأنه يمنح الله لأصحابه الأمن على حسب درجاتهم في التّوحيد والسلامة من الذنوب والمعاصي، ودلّت الآية بمفهومها على أن من أشرك بالله وخلط توحيده بشرك أنه ليس له أمن- والعياذ بالله، فهذا فيه خطر الشرك، وأن من عبد الله، ولكنه يدعو(13/99)
ص -59- ... مع الله غيره، ويستغيث بالموتى، ويذبح للقبور، ويطوف بالأضرحة مستعيناً بها، فهذا خلط إيمانه بشرك، وليس له أمن أبداً حتى يتوب إلى الله عزّ وجلّ، ويُخلص التّوحيد، فليس المقصود أن الإنسان يعبد الله فقط، بل لابد- أيضاً- أن يتجنّب الشرك، وإلاَّ فالمشركون لهم عبادات، كانوا يحجون، وكانوا يتصدقون، وكانوا يطعمون الأضياف، وكانوا يُكرمون الجيران، ولهم أعمال لكنها ليست مبنيّة على التّوحيد، فهي هباء منثور، لا تنفعهم شيئاً يوم القيامة، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً(23)}، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} لا يثبّت الأعمال إلاَّ التّوحيد، ما دام هناك شرك فالأعمال لا قيمة لها، مهما أتعب الإنسان نفسه فيها، وهذا يدلُّنا على فضل التّوحيد، ومكانة التّوحيد، وأنه مُؤَمّن من عذاب الله عزّ وجلّ بخلاف المشرك فإنه لا أمن له من عذاب الله، والأمن يكون في الدنيا، كالأمن من الأعداء، والأمن من الحروب، تعرفون قيمته، وخطر الخوف، هذا في الدنيا فكيف بالأمن في الآخرة من النار؟، النار أشد من الحروب، وأشد من الأعداء، وأشد من كل شيء، إذا كان الأمن في الدنيا هذه قيمته، وهذه منافعه، فكيف بالأمن في الآخرة.
ثم قال: {وَهُمْ مُهْتَدُونَ} هذه مزيّة ثانية من مزايا التّوحيد، وهي حصول الهداية للموحّدين المخلصين لله، أنهم في الدنيا يكونون مهتدين في أعمالهم، يعبدون الله على بصيرة، سالمين من الشرك في الأعمال، وسالمين من البدع والخرافات، بخلاف أهل الشرك، فإنهم غير مهتدين في الدنيا، بل هم ضالون، لأنهم يعبدون الله، ويخلطون العبادة بالشرك، ويعبدون غير الله، فهم ضالون لا مهتدون، إذاً الموحّد يعطيه الله مزيتين:
المزيّة الأولى: الأمن من(13/100)
العذاب. المزيّة الثانية: الهداية من الضلال.
بحيث أنه يعبد الله على بصيرة وعلى نور وبرهان، متبعاً للسنّة متبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم يمشي على الجادة الصحيحة، بخلاف المشرك فإنه يمشي على غير هدى، وعلى غير دين، وعلى غير برهان، يتعب نفسه في هذه الدنيا، وهو يتقدم إلى النار، ويمشي(13/101)
ص -60- ... عن عُبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل" أخرجاه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إلى النار، كما قال- تعالى- في الآية الأخرى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} لا يضل في الدنيا عن الحق، ولا يشقى في الآخرة، وهذا ضمان من الله سبحانه وتعالى لمن اتبع القرآن أنه لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة.
قوله: " من شهد أن لا إله إلاَّ الله"، يعني: نطق بالشهادة عارفاً لمعناها، عاملاً بمقتضاها، موقناً بها، لأنه لا يكفي التلفظ، بالشهادة من غير معرفة لمعناها، كذلك النطق بالشهادة مع معرفة بمعناها، لكن لا يعمل بمقتضاها، هذا -أيضاً- لا يكفي، بل لابد من النطق والعلم والعمل بمقتضى هذه الكلمة العظيمة، فليست هي مجرد لفظ يردَّدُ على اللسان من غير فهم لمعناها، ولا يكفي العلم بمعناها، بل لابد من العمل بمقتضاها، بأن يُفرد الله بالعبادة، ويترك عبادة ما سواه، هذا معنى أشهد أن لا إله إلاَّ الله فإذا لم ينطق بها فإنه لا يحكم بإسلامه، ولو كان يعرفها بقلبه، ولو كان يعبد الله في أعماله، لكنه أبى أن ينطق بالشهادة، فهذا لا يُعتبر مسلماً، حتى ينطق بالشهادة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلاَّ الله" وكذلك من نطق بها بلسانه ولكنه لا يعتقدها في قلبه، هذا -أيضاً- ليس بمسلم، بل هو منافق، فالمنافقون يقولون: لا إله إلاَّ الله، وهم في الدرك الأسفل من النار، لماذا؟ لأنهم لا يعتقدون معناها، وعُبّاد القبور اليوم يقولون لا إله إلاَّ الله بألسنتهم، لكنهم لا يعملون بمقتضاها، بل يعبدون القبور(13/102)
والأضرحة، ويدعون الأولياء والصالحين، فهم أقرُّوا بها لفظاً، وخالفوها معنىً، فالمشركون جحدوا لفظها ومعناها، والقبوريُّون أقرُّوا بلفظها وجحدوا معناها، هم سواء لا فرق بينهم أبداً، كذلك المنافقون تلفّظوا بها، لكنهم لا يؤمنون بها في قلوبهم -أيضاً- هم سواء، بل هم شر من الكفّار، قال- تعالى-: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ(13/103)
ص -61- ... تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} وهم ينطقون، ويقولون: لا إله إلاَّ الله، ويصلّون، ويصومون، لكن لما كانوا مُنكرين بقلوبهم، غير معترفين بها في قلوبهم، وإنما قالوها لأجل المصالح الدنيوية فقط، صاروا- والعياذ بالله- في الدرك الأسفل، من النار.
فالحاصل أنها كلمة عظيمة، لكن لابد أن يتوفّر.
أولاً: النطق بها.
وثانياً: العلم بمعناها.
وثالثاً: العمل بمقتضاها.
ومعنى: {لا إله إلاَّ الله} نفي العبادة عما سوى الله، وإثباتها لله سبحانه وتعالى، يعني: إبطال عبادة كل ما سوى الله، وإثبات العبادة لله، فقوله: {لاَ إله}: هذا إبطال لجميع المعبودات من دون الله عزّ وجلّ، وإنكار لها {إلاَّ اللهَ}: هذا إثبات للعبادة لله سبحانه وتعالى، فعلى هذا معنى لا إله إلاَّ الله: لا معبود بحق- أو لا معبود حقاً- إلاَّ الله سبحانه وتعالى، أما لو قلت: معناها: لا معبود إلاَّ الله، نقول: هذا ضلال عظيم، لأنك أدخلت كل المعبودات وجعلتها هي الله، جعلت الأصنام والأضرحة والكواكب وكل ما عُبد من دون الله هو الله، وهذا غلط، وهو مذهب أهل وحدة الوجود. فلابد أن تأتي بكلمة حق، لأن المعبودات على قسمين: معبود بحق، ومعبود بالباطل، المعبود بحق هو الله، والمعبود بالباطل هو ما سوى الله من كل المعبودات، قال- تعالى-: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}، هذا معنى: لا إله إلاَّ الله.
وقوله: "وحده لا شريك له" كلمتان جيء بهما للتأكيد، وحده: تأكيد للإثبات، لا شريك له: تأكيد للنّفي، فهما كلمتان مؤكِّدتان للا إله إلاَّ الله، لما فيها من النفي والإثبات.
وهذه الكلمة كلمة عظيمة، جاءت في القرآن بلفظها وجاءت بمعناها، كما في قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ(13/104)
يَسْتَكْبِرُونَ(35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ(36)} وجاءت بمعناها مثل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} فقوله:(13/105)
ص -62- ... {إِنَّنِي بَرَاءٌ} هذا هو معنى النّفي: لا إله، {إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} هذا هو معنى الإثبات: إلاَّ الله، فهي كلمة عظيمة.
وقوله: "وأن محمداً عبده ورسوله" هذا يدل على أنه لا يكفيه شهادة أن لا إله إلاَّ الله، بل لابد معها من شهادة أن محمداً رسول الله، فلو شهد أن لا إله إلاَّ الله، وأبى أن يشهد أن محمداً رسول الله؛ لم يدخل في الإسلام، لأن هذه قرينة هذه، وكما في الأذان، وفي الإقامة، وفي الخطب، وإذا جاءت لا إله إلاَّ الله وحدها، تدخل فيها شهادة أن محمداً رسول الله ضِمناً.
وقوله:"وأن محمداً عبده ورسوله" هذا نفي للإفراط والتفريط، عبده هذا نفي للإفراط والغلو في حق الرسول صلى الله عليه وسلم بجعل شيء له من الربوبية، كما يعتقد المخرِّفون، فالرسول صلى الله عليه وسلم عبدٌ ليس له من الرُّبوبية شيء، وقد سمَّاه الله عبداً في أشرف المقامات، في مقام الوحي: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} وفي مقام الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وفي مقام الإنزال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً(1)} وفي مقام التحدي: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} فهو عبد لا يُعبد- عليه الصلاة والسلام-، ورسول لا يُكذّب صلى الله عليه وسلم بل يُطاع ويُتبع، فليس له من العبادة شيء، فالذين يطلبون منه المدد، ويطلبون منه النصر على الأعداء، ويطلبون منه قضاء الحاجات، وتفريج الكُرُبات، هؤلاء رفعوه من العبودية إلى الألوهية- والعياذ بالله-، ما أقرُّوا أنه عبد الله، بل جعلوه شريكاً لله في ربوبيّته وإلهيّته، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تُطْرُوني كما أَطْرَت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد،(13/106)
فقولوا عبد الله ورسوله"، يقول الله سبحانه وتعالى له: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ(128)}، ويقول سبحانه: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(188)}، ويقول سبحانه: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً(21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ}.(13/107)
ص -63- ... وقوله: "ورسوله" هذا رد على أهل التفريط، الذين لا يقدِّرون الرسول حق قدره، إما يجحدون رسالته -عليه الصلاة والسلام-، وإما أنهم يقرُّن برسالته، لكنهم لا يتبعونه الإتباع المطلوب، فهؤلاء لم يشهدوا أنه رسول الله، وشهادتهم إما باطلة وإما ناقصة، باطلة إن كانوا لا يتبعونه أبداً، وناقصة إن كانوا يتبعونه في بعض الأشياء ويخالفونه في بعض الأشياء رغبة لنفوسهم وشهواتهم.
فقوله: "ورسوله " هذا رد على أهل التفريط والتساهل في حق الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أعظم الخلق- عليه الصلاة والسلام-، وأشرف الخلق، وأفضل الرسل، فلا يُتساهل في حقه صلى الله عليه وسلم لكن ليس معنى هذا أننا نغلوا فيه، ونجعل له شيئاً من الربوبية، فلا إفراط ولا تفريط.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه" عيسى -عليه الصلاة والسلام- هو عيسى بن مريم، خلقه الله من أم بلا والد، وذلك ليُظهر للعباد قدرته سبحانه على كل شيء، وقصة مريم عليها السلام ذكرها الله في القرآن، من نشأتها: أنها من بيت طيّب، وبيت عبادة، وأن والدها توفي وهي صغيرة، وكَفَلَها زكريا نبي الله- عليه الصلاة والسلام-، لأن خالتها كانت زوجة زكريا {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ(33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ} يعني: أم مريم، {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} نذرت حَمْلَها أن يكون خادماً لبيت المقدس، الذي هو أحد المساجد الثلاثة في الأرض، {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا} كانت ترجو أن يكون ذكراً، لأن الذكر هو الذي يستطيع القيام بهذه المهمة العظيمة، {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى(13/108)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} لأنها قالت هذا من باب الدعاء، لا من باب إخبار الله عزّ وجلّ أنها وضعتها، وقرئت الآية: {والله أعلم بما وَضَعْتُ}، هذا لبيان أن الله سبحانه وتعالى عالم بكل شيء، وأنه لا يَخفى عليه هذه المولودة، وليست امرأة عمران تُخبر ربها عزّ وجلّ، وإنما تدعوه {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى} بمعنى: أن الذكر أفضل من الأنثى في القيام بالمهمات، فالذكر يستطيع ما لا تستطيعه الأنثى، لما جعل الله في خِلقة الذكر من الامتياز عن خِلقة الأنثى، وهذا من حيث الجنس،(13/109)
ص -64- ... لا من حيث الأفراد، قد يكون في أفراد الإناث من هو خير من كثير من الذكور، أما من حيث الجنس فالذكور أفضل من الإناث، لأنهم يستطيعون من الأعمال ما لا تستطيعه الإناث، ولأن عقولهم أوفى من عقول الإناث، بلا شك، {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ* فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} يعني: تقبل مريم: {بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً}، نشأت في العبادة والطاعة {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} وفي قراءة: {كَفَلَها} لأن بني إسرائيل اختصموا في مريم أيهم يكفلها، لأنها بنت عالمهم وحَبْرِهِمْ وشيخهم، فهم تنافسوا أيهم يكفل مريم، كما قال تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} عملوا القُرعة أيهم يكفل مريم {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} يعني: أنك يا محمد لم تشهد هذه القرون الماضية وما حصل فيها، ولكن هذا من آيات الله، ومن معجزات هذا الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله أخبره بما جرى كأنه حاضر، وحتى إن بني إسرائيل انبهروا لأنه جاءهم بمعلومات هم لا يعرفونها من أمورهم، وهي مذكورة في كتبهم وتواريخهم، ويعرفها علماؤهم وأحبارهم، فيكون هذا الرسول يحدث بما جرى من قرون طويلة، وهذا من معجزاته صلى الله عليه وسلم لأنه ليس من عنده، فهو أُمّي لا يقرأ ولا يكتب، وإنما هو من عند الله عزّ وجلّ، كما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} وهذا من العجائب، أنه آخر ما نزل من الكتب ومع هذا يقصُّ أخبار الماضين كما وقعت، وهذا من أعظم معجزات هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، فوقعت القُرعة لزكريا عليه السلام، وكانت خالتها- أخت أمها- تحته، فكَفَلَها زكريا {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا(13/110)
زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} يعني: المكان الذي تصلي فيه، لأن المحراب معناه: المكان الذي يصلى فيه، فليس المحراب خاصاً بالزاوية التي تكون في المسجد الآن {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} هذا من كرامات الأولياء، كان يجد عندها في الشتاء فاكهة الصيف، ويجد عندها في الصيف فاكهة الشتاء، كان هذا يحضره ربه لها إكراماً لها، وهي تصلي في هذا المكان، ولا يتصل بها أحد من الخلق، ثم مع هذا يجد عندها نبي الله هذا الرزق، ثم ذكر قصة زكريا ودعائه لربه، ثم ذكر بقية قصة مريم وحملهما بعيسى {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ(13/111)
ص -65- ... وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ(42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ}، هذه هي المعجزة، يعني: كيف علمت: أيها الرسول وأنت آخر الرسل، و- أيضاً- أنت أُمّي لا تقرأ ولا تكتب، هذا من أعظم المعجزات لك {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} يعني ما الذي أدراك؟، لولا الله سبحانه، وهذا من أنباء الغيب، يعني: من الأخبار الماضية، ويطلق الغيب على المستقبل- أيضاً-، والغيب لا يعلمه إلاَّ الله، الماضي والمستقبل أو من علّمه الله من رسله، وقوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ(45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ(46)} هذه بَشَارة لها، لكنها انبهرت كيف يحصل لها ولد وهي لم تكن تزوجت: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ} إلى آخر الآيات.
هذا ما ذكره الله من قصة نشأة مريم، ونشأة ابنها عيسى عليه السلام، وهذا البيت الطاهر العظيم، ولهذا لما قرأ جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه هذه الآيات التي في بيان نشأة عيسى عليه السلام عند النجاشي بحضرة البطارقة وكبار النصارى؛ اعترف النجاشي بأن هذا(13/112)
وحي من الله سبحانه وتعالى، وقال: "هذا هو والذي أنزل على موسى يخرج من مشكاة واحدة"، فأسلم النجاشي رحمه الله، لما سمع ما ذكره الله من نبأ عيسى عليه السلام، وتفاصيل ولادته، لأنه لا يمكن أن يكون من عند محمد صلى الله عليه وسلم.
فقوله صلى الله عليه وسلم: "وأن عيسى عبد الله ورسوله" هذا فيه ردٌّ على اليهود وردٌّ على النصارى. أما اليهود فلأنهم جحدوا رسالة عيسى عليه السلام، ورموه بالبُهْت- والعياذ بالله- وقالوا: إنه ولد بغي، قبّحهم الله وأخزاهم، وحاولوا قتله، وسلّمه الله منهم ورفعه إليه، وألقى عليهم الخزي.
وفيه ردٌّ على النصارى الذين لم يقرِّوا بأن عيسى عبد الله، وإنما ادعوا أنه ابن الله، أو أنه ثالث ثلاثة، أو أنه هو الله، ثلاث مقالات لهم، ذكرها الله جل(13/113)
ص -66- ... وعلا في القرآن: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} وفي قوله تعالى: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} ولا يزالون يقولون هذا إلى الآن في إذاعتهم يرددون هذه الأقوال الكفرية الشنيعة، ولا يزالون يقولون: إن عيسى هو ابن الله، وأنه مخلِّص، ويرددون عقائد النصارى السابقة، المهم أنهم لا يزالون على هذه الفِرية: أن عيسى ابن الله، تعالى الله عما يقولون، وأنه الإله المخلِّص، وأنه مَكَّن من نفسه للقتل، وقتلوه وصلبوه من أجل أن يخلِّص العباد من الخطيئة التي ارتكبها آدم عليه السلام، كما يقولون، قبْحهم الله، فيسمونه المخلِّص ويسمون هذا العمل الفداء، وأن عيسى فعل هذا من باب الفداء لبني آدم، ليخلِّصهم من إثم العقوبة.
وقوله: "وكلمته ألقاها إلى مريم"، الكلمة قوله تعالى لعيسى: {كُن}، لأن عيسى وُجد من غير أب، بل وُجد بكلمة {كُن} وليس هو الكلمة، وإنما سُمِّيَ بالكلمة لأنه خُلق بها، بخلاف بقية البشر فإنهم يُخلقون من أب وأم، وكما قال في آدم: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، فإذا كنتم تعجبون من كون عيسى وُلد من أم بلا أب، ووجد على أثر الكلمة {كُن} فكيف لا تعجبون من خلق آدم من تراب بدون أم ولا أب، بل بكلمة {كُن}، ليس في هذا غرابة على قدرة الله سبحانه وتعالى.
وقوله: "وروح منه" ليس المراد أن عيسى روح من الله، بمعنى أنه من ذات الله، وإنما من روحه المخلوق، لأن الله خلق الأرواح جميعاً، ومنها روح عيسى- عليه الصلاة والسلام-، فكلمة "منه" لابتداء الغاية، يعني كلمة مبتدأة من الله، وروح مبتدأة من الله، كما تقول مثلاً(13/114)
هذا الرزق من الله، معناه أن الله هو الذي يسّر هذا الشيء، وهو الذي هيّأه وخلقه، قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} معناه: أنه حاصل ونازل وكائن من الله سبحانه وتعالى، فـ "مِنْ" لابتداء الغاية، وقد تسأل وتقول كل أرواح بني آدم من الله على هذا التفسير، فما وجه اختصاص عيسى بذلك نقول: نعم كل أرواح بني آدم من الله، لكن عيسى عليه السلام خُصَّ بذلك لأنه من غير أب، بل هو روح من دون أب.(13/115)
ص -67- ... وقوله: "والجنة حق، والنار حق" يعني: ومن شهد أن الجنة -وهي دار المتقين-، والنار- دار الكافرين-؛ كل منهما حق، وأنهما داران موجودتان مخلوقتان، وباقيتان لا تفنيان أبداً، الجنة للمتقين، والنار للكافرين، فالدُّور- كما ذكر ابن القيّم- ثلاث:
الأولى: دار الدنيا، وهي دار العمل والاكتساب.
الدار الثانية: دار البرزخ، وهي دار القبور، برزخ بين الدنيا والآخرة، والبرزخ معناه الفاصل، والحياة في القبور، تسمى بالحياة البرزخيّة، وفيها عجائب، فيها نعيم أو عذاب، إما حفرة من حفر النار، أو روضة من رياض الجنة، ويبقى الأموات في قبورهم إلى أن يشاء الله جل وعلا بَعْثَهُم وحَشْرَهُم للحساب والجزاء، وهذه الدار، مَحَطَّة انتظار.
والثالثة: دار الجزاء، التي هي يوم القيامة، الجنة أو النار، وهذه الدار لا تفنى ولا تبيد أبداً، وإذا آمن الإنسان بهاتين الدارين، فإن ذلك يحمله على العمل الصالح والتوبة من الذنوب والسيئات، فإذا تيقّن أن هناك جنة، وأن هذه الجنة لا يدخلها إلاَّ بالأعمال الصالحة، فإنه يعمل، وإذا تيقن أن هناك ناراً، وأنه يدخلها بالمعاصي والكفر والسيئات، فإنه يحذر من ذلك ويتوب إلى الله عزّ وجلّ، فالإيمان باليوم الآخر والجنة والنار يحمل العبد على العمل الصالح والتوبة من الذنوب والسيئات، أما الذي لا يؤمن بالآخرة، فهذا يعمل ما تُمليه عليه شهواته، وما ترغبه نفسه ولا يحاسب نفسه أبداً، لأنه لا يؤمن ببعث ولا بحساب، تعالى الله عما يقوله الظالمون والكافرون علواً كبيراً، {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} ينكرون البعث، {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ(35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ(36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ(13/116)
بِمَبْعُوثِينَ(37)}، هكذا يقولون، لأن الكفار الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ينكرون البعث والنشور، ومثلهم الملاحدة والدهريون الذين لا يؤمنون برب ولا ببعث ولا بحساب، ومثلهم الفلاسفة الذين يقولون: "إن هذه الأمور إنما هي من باب التخييلات من أجل مصالح الناس"، فالرسل أو الأنبياء يقولون: هذه الأشياء من باب التخييلات من أجل مصالح(13/117)
ص -68- ... الناس، وإلاَّ ليس هناك جنة، وليس هناك نار، وليس هناك بعث، وإنما يخيِّلون هذه الأشياء، من باب الكذب للمصلحة، من أجل أن الناس يستقيمون، ويتركون الأعمال الدنيئة، ويعملون الأعمال الطيبة، وإن لم يكن هناك حقيقة للجنة والنار.
وهؤلاء يسمّون (المخيّلة)، وهم فئة من الفلاسفة؛ ومن الطوائف الباطنية من ينكر الجنة والنار، ويقولون: هما عبارة عن رموز فقط، وليس هناك حقائق، فالكَفَرَة على اختلاف أصنافهم: من مشركيّة، ودهريّة، وفلاسفة، وباطنية، كلهم لا يؤمنون باليوم الآخر، ولهذا توعد الله سبحانه وتعالى هؤلاء بقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ(115)} يعني: لو كان ليس هناك بعث ولا حساب، صار خلق الله لهذه المخلوقات في باب العبث، لأنها لا تؤدِّي إلى غاية ولا نتيجة، فالظالم يظلم في هذه الدنيا، والقاتل يقتل، والعاصي يعصي، والمطيع يُتعبُ نفسه بالطاعة والعبادة ولا يلقى جزاء- تعالى الله عما يقولون، أما إذا كان هناك بعث ونشور وجزاء على الأعمال. المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، كان خلق الخلق إذاً لحكمة وغاية، وليس عبثاً، فهناك من الظَلَمة من يموت وهو ما جوزي في هذه الدنيا، وهناك من الصالحين من يموت وهو فقير مريض، لماذا؟ لأن الجزاء في الآخرة، هؤلاء ينتظرهم جزاؤهم في الآخرة. هذا الكافر، وهذا الظالم، وهذا الطاغية، وهذا الجبّار، ينتظرهم جزاؤهم في الآخرة، وهذا المؤمن التقي الصالح الذي مات بالمرض والفقر هذا ينتظره جزاؤه في الآخرة في الجنّة، لأن الله ما خلق الخلق وأجرى هذه الأمور عبثاً، لابد لها من نتيجة، ولابد لها من غاية تنتهي إليها: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ(115)}، {أَيَحْسَبُ الإنسان أَنْ يُتْرَكَ سُدىً(36)} يعني: لا يُؤمر، ولا يُنهى، ولا يُبعث، ولا يُجازى، يأكل ويشرب ويمكر ويفسق(13/118)
وينتهي أمره إلى لا شيء؟، أو يتقي ويطيع ويتعب نفسه بالعبادة وينتهي أمره إلى لا شيء؟، فهذا وجه النص على الإيمان بالجنة والنار، لأن الإيمان بهما يحدو على العمل الصالح، والتوبة من العمل السيئ، ولأن البعث والحساب أنكره كثير من الطوائف الكافرة، فلابد من الإيمان به، والتصديق به، والإقرار به، وهو أحد أركان ا لإيمان الستة: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر،(13/119)
ص -69- ... والإيمان بالقدر خيره وشره، أحياناً نجد أن الله يذكر الأركان الستة، وأحياناً يذكر أربعة، وأحياناً يذكر اثنين فقط: الإيمان بالله واليوم الآخر: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}، ذكر الإيمان بالله وذكر الإيمان باليوم الآخر، لأن الإيمان بالله وباليوم الآخر يلزم منه الإيمان ببقيّة الأركان.
وقد ذكر في هذا الحديث البراءة من الملل الثلاث: "ملة اليهود؛ وملة النصارى، وملة المشركين" فهو حديث عظيم.
فقوله صلى الله عليه وسلم: "من شهد أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمداً رسول الله" هذا فيه البراءة من دين المشركين.
وفي قوله: "وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم" هذا فيه البراءة من دين اليهود والنصارى، لأن اليهود كفروا بعيسى، والنصارى غلوا فيه، حتى جعلوه ربًّا، وأيضاً اليهود والنصارى كل منهم كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم.
فهذا فيه البراءة من الملل الثلاث: ملة المشركين، وذلك بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، والبراءة من ملة اليهود والنصارى، وذلك في شهادة أن عيسى عبد الله ورسوله.
والشاهد من هذا الحديث للباب: "باب فضل التّوحيد وما يكفر من الذنوب " أن الرسول قال في آخره: "أدخله الله الجنة على ما كان من العمل" هذا وعد من الله سبحانه وتعالى لأهل التّوحيد بأن الله يدخلهم الجنة، وأهل التّوحيد هم: الذين شهدوا أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق، هؤلاء هم أهل التّوحيد، وعدهم الله أن يدخلوا الجنة، فهذا فيه فضل التّوحيد، وأنه سبب لدخول الجنة.
لكن ما معنى: "على ما كان من العمل"؟، في ذلك قولان لأهل العلم:
القول الأول: أدخله الله على ما كان من العمل، يعني: ولو كان له سيئات(13/120)
دون الشرك فإن ذلك لا يحول بينه وبين دخول الجنة، إما من أول وَهْلَة، وإما في النهاية، ففيه: فضل التّوحيد، وأنه يكفر الذنوب بإذن الله أو يمنع من الخلود في النار.(13/121)
ص -70- ... والمعنى الثاني: أدخله الله الجنة على ما كان من العمل، أي: أنه يدخل الجنة، فتكون منزلته فيها بحسب عمله، لأن أهل الجنة يتفاوتون في منازلهم بحسب أعمالهم، فمنهم من هو في أعلى الجنة، ومنهم من هو دون ذلك، فأهل الجنة يتفاضلون في منازلهم، والجنة درجات، بعضها فوق بعض، كما أن النار دركات بعضها تحت بعض، والنار أسفل سافلين، أما الجنة فإنها أعلى عِلِّيِّين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن في الجنة مائة درجة، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، أعدها الله للمجاهدين في سبيله"، دلّ على أن الجنة درجات، وأن الناس ينزلون منها فيها بحسب أعمالهم، منهم من يُرى منزله كالكوكب الدُّرَّي الغابر في المشرق أو المغرب لبعد ما بينهم من التفاضل، ومنهم من يكون دون ذلك.
وفي هذا الحديث الرد على سائر الطوائف الكفريّة، ففيه ردٌّ على المشركين الوثنيين، وفيه ردٌّ على اليهود، وفيه ردٌّ على النصارى.
وفي الحديث -أيضاً-: وجوب الإيمان بجميع الرسل- عليهم الصلاة والسلام-، لأنه نص على الإيمان بعيسى وبمحمد صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك إشارة إلى أنه يجب الإيمان بجميع الرسل كما في قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}، فلابد من الإيمان بجميع الرسل - عليهم الصلاة والسلام-، ومن كفر بواحد منهم فقد كفر بالجميع، فاليهود الذين يزعمون أنهم آمنوا بموسى قد كفروا بموسى، لأنهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم كفروا بموسى، لأن موسى اخبر ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم كما هو موجود في التوراة التي جاء بها موسى عليه السلام، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإنجيل يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ(13/122)
لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}- كذلك عيسى- عليه السلام أخبر بمحمد صلى الله عليه وسلم وأمر بالإيمان به {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}، فعيسى عليه السلام بشّر بني إسرائيل بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهذا معناه: أنه أمرهم بالإيمان به، فالنصارى لما لم يؤمنوا(13/123)
ص -71- ... ولهما في حديث عتبان: "فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلاَّ الله؛ يبتغي بذلك وجه الله".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بمحمد صلى الله عليه وسلم كفروا بعيسى، لأنه بشرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فمعنى هذا: أنهم كذبوا نبيّهم عيسى الذي يزعمون أنهم آمنوا به، والرسل كلهم يصدِّق بعضهم بعضاً، ويؤمن بعضهم ببعض، فالرسل- عليهم الصلاة والسلام- سلسلة واحدة من أولهم إلى آخرهم، أولهم يُبشر بلاحقهم ومتأخرهم، وآخرهم يصدِّق بأولهم ويؤمن بأولهم، فهم سلسلة واحدة، ولهذا يقول جل وعلا في سورة الشعراء: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ(105)} مع أنهم ما كذبوا إلاَّ نبيهم فقط، لكن لما كذبوا نبيهم كذبوا جميع المرسلين، كما قال تعالى: { )إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} إلى قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً}.
قوله: "أخرجاه" أي: "البخاري ومسلم في صحيحيهما.
وقوله: "ولهما" أي: البخاري ومسلم.
"في حديث عتبان" هو عتبان بن مالك الأنصاري، صحابي مشهور رضي الله عنه.
"حرّم على النار" التحريم: المنع، أي: منعه من دخول النار، أو منع النار أن تمسه.
"من قال: لا إله إلاَّ الله" أي: نطق بها بلسانه وأعلنها.
"يبتغي بذلك" أي: بقوله لها ونطقه بها.
"وجه الله" أي: مخلصاً له بها، لم يقلها رياءً ولا سمعةً ولا نفاقاً، بل يعتقد ما دلّت عليه من إفراد الله بالعبادة، وترك عبادة ما سواه، واعتقاد بطلانها، والبراءة منها ومن أهلها.
فدل هذا الحديث: على أنه لا يكفي مجرّد النطق بلا إله إلاَّ الله من غير معرفة لمعناها، وعمل بمقتضاها، واعتقاد لمدلولها.(13/124)
ص -72- ... وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال موسى عليه السلام: يا رب، علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به. قال: قل يا موسى: لا إله إلاَّ الله. قال: يا رب، كل عبادك يقولون هذا. قال: يا موسى، لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلاَّ الله في كفة؛ مالت بهن لا إله إلاَّ الله". رواه ابن حبان والحاكم، وصححه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه " هو سَعْدُ بن مالك بن سنان الأنصاري الخزرجي، صحابي جليل، وأبوه صحابي.
"عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال موسى: يا رب، علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به" طلب من ربه أن يعلمه كلاماً يعظّمه به، ويطلب منه به حاجاته، ويتوسل به إليه.
"قل يا موسى: لا إله إلاَّ الله" أي: لا معبود بحق إلاَّ الله.
"قال" أي: موسى، "يا رب، كل عبادك يقولون هذا" أي: وإنما أريد شيئاً تخصني به من بين عموم عبادك.
"قال" أي: الرب سبحانه وتعالى مبيناً لموسى وغيره فضل هذه الكلمة على غيرها من ألفاظ الذكر، "لو أن السماوات السبع" أي: الطباق، "وعامرهن" أي: من فيهن من العمّار "غيري" أي: غير الله سبحانه، لأنه سبحانه في السماء. ففيه دليل على إثبات العلو "والأرضين السبع" أي: ومن فيهن من السكان. وفيه أن الأرض سبع طباق كالسماء، "في كِفَّة" أي: إحدى كفتي الميزان، "ولا إله إلاَّ الله في كفة" أي: في الكفة الأخرى، "مالت بهن لا إله إلاَّ الله" أي: رجحت بالسماوات السبع ومن فيهن غير الله، وبالأرضين السبع ومن فيهن، وذلك لما اشتملت عليه هذه الكلمة من نفي عبادة غير الله، وإثبات العبادة لله، وتقرير التّوحيد، وإبطال الشرك.
ففي هذا الحديث: فضل لا إله إلاَّ الله، وأنها أفضل الذكر، وأنه لابد من الإتيان بها كلها، وما فيها من النفي والإثبات، وأنه لا يكفي الإتيان بلفظ الجلالة (الله) أو لفظ (هو(13/125)
هو) كما تفعله الصوفية الضلاَّل. وفيه أن الذكر وغيره من أنواع العبادة توقيفي، لأن موسى عليه السلام طلب من ربه أن يعلمه شيئاً يذكره به، فيه أن لا إله إلاَّ الله ذكر ودعاء.(13/126)
ص -73- ... وللترمذي - وحسنه- عن أنس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"قال الله تعالى: يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً؛ لأتيتك بقرابها مغفرة".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله "وللترمذي وحسّنه" أي: رواه في سننه، وقال: إنه حديث حسن.
"عن أنس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا" قراب الأرض- بضم القاف- : ملؤها أو ما يقاربه، "لأتيتك بقرابها مغفرة".
فيه: أن مغفرة الذنوب مشروطة بتجنب الشرك، وفيه فضل التّوحيد، وفيه الرد على الخوارج الذين يكفّرون بالكبائر، وفيه سعة فضل الله ورحمته.
وبالله التوفيق.(13/127)
ص -74- ... [الباب الثالث:] * باب من حقق التّوحيد دخل الجنة بغير حساب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا هو الباب الثالث من أبواب هذا الكتاب المبارك (كتاب التّوحيد) وهو: "باب من حقق التّوحيد دخل الجنة بغير حساب".
ولما ذكر الشيخ رحمه الله في الباب الأول معنى التّوحيد، وحقيقته من الكتاب والسنّة، وليس من كلام البشر الذين يؤلفون في العقائد، وكلٌّ يفسر التَّوحيد على حسب مذهبه، من المعتزلة، والأشاعرة، وعلماء الكلام، أما الشيخ رحمه الله فإنه فسَّر التّوحيد من الكتاب والسنة، بالآيات والأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم ذكر الباب الثاني وهو فضل هذا التّوحيد، الذي جاء به الكتاب والسنّة، وما يكفِّر من الذنوب، ثم جاء هذا الباب الثالث من حقّق هذا التّوحيد دخل الجنة بغير حساب ولا عذاب. وتحقيق التّوحيد: تصفيته من الشرك والبدع والذنوب.
فإن قيل: (باب فضل التّوحيد)، و (باب من حقّق التّوحيد) ما الفرق بينهما؟":
الفرق: فضل التّوحيد في حق الموحّد الذي ليس عنده شرك، ولكن قد يكون عنده بعض المعاصي التي تكفر بالتّوحيد.
أما هذا الباب فهو أعلى من الباب الذي قبله: "من حقق التوحيد" يعني: أنه لم يشرك بالله شيئاً، ولم يكن عنده شيء من المعاصي، هذا تحقيق التّوحيد، ومن بلغ هذه المرتبة دخل الجنة بلا حساب، أما من كان في المرتبة التي قبلها، وهو الموحّد الذي عنده ذنوب فهذا قد يُغفر له، وقد يعذب بالنار، ثم يُخرج منها، لأن الموحّدين على ثلاث طبقات:
كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(32) جَنَّاتُ عَدْنٍ} الآية.
الطبقة الأولى: الذين سلموا من الشرك، وقد لا يسلمون من الذنوب التي هي دون الشرك وهم الظالمون(13/128)
لأنفسهم وهم معرضون للوعيد.
الطبقة الثانية: المقتصدون الذين فعلوا الواجبات وتركوا المحرمات وقد(13/129)
ص -75- ... وقول الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(120)}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يفعلون بعض المكروهات ويتركون بعض المستحبات وهم الأبرار.
الطبقة الثالثة: التي سَلِمَت من الشرك الأكبر والأصغر ومن البدع وتركت المحرمات والمكروهات وبعض المباحات واجتهدت في الطاعات من واجبات ومستحبات وهؤلاء هم السابقون بالخيرات ومن كان بهذه المرتبة دخل الجنة بلا حساب ولا عذاب.
قال: "وقول الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} إبراهيم عليه السلام هو إمام المحققين للتوحيد، بعثه الله عزّ وجلّ لما غطّى الشرك على وجه الأرض في وقته، وهو وقت النَّمرود الكافر الملحد الذي ادعى الربوبية، وكان قومه يعبدون الكواكب، ويبنون لها الهياكل ويُسَمَّوْن بالصابئة، وهم في أرض بابل من العراق، ثم حصل بينه وبينهم مصادمة ذكرها الله تعالى في القرآن، انتهى بهجرة إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- من أرض العراق إلى أرض الشام وإلى الحجاز، حيث جعل قسماً من ذريته في الشام وهم إسحاق وذرّيته، أولاد زوجه ي سارة، وذهب بإسماعيل بن سُرِّيته هاجر وأمه إلى مكة، أرض الحرم، بأمر الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} أي: مهاجر من أرض الكفر والشرك إلى أرض التّوحيد بالشام والحجاز، تلك المواطن المباركة، التي صار فيها بيت المقدس، وفيها البيت العتيق أول بيت وُضع للناس، وهو الكعبة المشرفة بمكة، فأورثه الله هذه البلاد وهذه البيوت إكراماً له ولذريّته- عليه الصلاة والسلام-، عوّضه الله أرضاً خيراً من أرضه، وقد وصفه الله تعالى في هذه الآية بأربع صفات، كلها من تحقيق التّوحيد:
الصفة الأولى: {كَانَ أُمَّةً}، والأمة معناها: القدوة في الخير، فهو إمامٌ للناس، كما قال تعالى:(13/130)
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} يعني: قدوة لأهل الخير إلى أن تقوم الساعة، فقوله أُمّة يعني: إماماً وقدوة، لأن الأمة لها ثلاث إطلاقات في القرآن، هذا أحدها؛ أُمَّة بمعنى قدوة، كما في هذه الآية. الإطلاق الثاني: الأمة بمعنى: مقدار من الزمان {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ(13/131)
ص -76- ... أُمَّةٍ} أي: بعد زمن وبعد مدة. وتطلق الأمة ويراد بها الجماعة من الناس {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} يعني: جماعة، لأن دين الإسلام دين جماعة، لا دين تفرّق واختلاف، فليس فيه تفرّق وأحزاب، وجماعات وجمعيات متفرقة {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(105)}، فالمطلوب من المسلمين أن يكونوا أمة واحدة، على منهج واحد، وعلى دين واحد، وعلى ملة واحدة، كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضاً، وكالجسد إذا اشتكى منه عضواً تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ولا يكون ذلك إلاَّ بعقيدة التّوحيد، أما التفرّق والاختلاف والتناحر والتهاجر والتباغض والتنابُذ بين الجماعات وبين الفرق فهذا ليس من دين الإسلام وهذا يكون مع فساد العقيدة: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ(159)} نعم قد يوجد الاختلاف في الاجتهاد، ولكن هذا الاختلاف يحسم بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالمخطئ يرجع، والمصيب يثبت قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}.
الصفة الثانية لإبراهيم أنه:{قَانِتاً لِلَّهِ} والقنوت في اللغة معناه: الثبوت والدّوام، أي: مداوماً وثابتاً على طاعة الله، لا يتزحزح عنها، ويُطلق القنوت على طول القيام في الصلاة، قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ(238)}، وقال الله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ(13/132)
رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ(9)}، فمعنى وصف إبراهيم بأنه كان قانتاً أي: أنه كان مداوماً على طاعة الله، ثابتاً عليها، بخلاف الذي يجتهد في يوم أو شهر أو سنة ثم بعد ذلك يتراجع انتكاساً بعدما بدأ بالخير لكنه لم يُكمل، فالمطلوب من الإنسان أن يثبت على الخير، بمعنى أنه يلازم عمل الخير، ولا يتخلى عنه، ولو كان قليلاً فـ"أحب العمل إلى الله أدومه وإن قَلَّ".
وكذلك {قَانِتاً لِلَّهِ} يعني: أنه يعمل هذا مخلصاً لله، لا يقصد به رياءً ولا سُمعة، ويؤخذ من هذا وجوب الإخلاص، لأن بعض الناس قد يصلي ويحسن صلاته، ويطول قيامه وركوعه من أجل رياء الناس، فإذا أحَسَّ أن عنده أحد يطوّل(13/133)
ص -77- ... الركوع والسجود؛ من أجل أن يوصف بأنه صاحب طاعة، وإذا صلى وحده نقر الصلاة، وخفّفها، والإخلاص: أن الإنسان يقصد بعمله وجه الله، ولا يقصد بذلك طمعاً من مطامع الدنيا، أو مدحاً، وثناءً من الخلق، ولا يستمع إلى لومهم إذا لاموه في طاعة الله. قالوا: فلان متشدّد، فلان كذا، ما دام أنه على الطريق الصحيح، وعلى السنة، فلا يضره ما يقوله الناس، ولا تأخذه في الله لومة لائم.
الصفة الثالثة: {حَنِيفاً} والحنيف من الحَنَف وهو في اللغة: الميل، والمراد به هنا: الإقبال على الله، وأنه مُعرض عن الناس مُقبل على الله سبحانه وتعالى، يطلب الخير أ من الله وحده.
الصفة الرابعة: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وهذا محل الشاهد من الباب، ومعناه: أنه تبرّأ من المشركين، براءة تامة، أي: قطع ما بينه وبين المشركين من المودّة من أجل الله سبحانه وتعالى، لأنهم أعداء الله، والمؤمن لا يحب أعداء الله.
فإبراهيم عليه السلام لم يكن من المشركين لا بقليل ولا بكثير، قطع صلة المحبة بينه وبينهم، أما صلة التعامل الدنيوي في المصالح المباحة فهذا شيء آخر، إنما المراد قطع صلة المحبة والموالاة والمناصرة، هذا هو المطلوب، أما التعاون الدنيوي فيما فيه نفع للمسلمين، فهذا لا بأس به، يوضِّح هذا قوله في الآية الأخرى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} يعني: لا تقارب بيننا وبينكم في المودة والمناصرة والمؤاخاة أبداً، إلاَّ إذا آمنتم بالله وحده، وكفرتم بما يعبد من دون الله عزّ وجلّ، وتركتم عبادة الأصنام، فحينئذٍ نكون إخواناً {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} ثم قال في الآية التي بعدها: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ(6)} ثم قال بعدها: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ(13/134)
الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(8)}.
فهذه أربع صفات وصف الله بها إبراهيم: وهي:
الصفة الأولى: أنه كان أمة، يعني: قدوة في الخير.(13/135)
ص -78- ... وقال: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ(59)}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصفة الثانية: أنه كان قانتاً لله ثابتاً على الطاعة مخلصاً عمله لله.
الصفة الثالثة: أنه كان حنيفاً، مقبلاً على الله معرضاً عما سواه.
الصفة الرابعة: أنه لم يك من المشركين. أي بريء منهم ومن دينهم.
وهذا هو تحقيق التّوحيد يكون بهذه الأمور، وأعظمها البراءة من المشركين، فمن تبرأ من المشركين فهو ممن حقق التّوحيد، ولو كانوا أقرب الناس إليه، فإبراهيم تبرأ من أبيه: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً(42)} إلى أن انتهت المحاورة بقوله: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً(49)} "من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه" لما تبرأ من المشركين عوضه الله ذرية أنبياء.
واليوم جماعات يدَّعون أنهم دعاة إلى الله لا يتبرءون من المشركين ما داموا على منهجهم الحزبي!! ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله.
والواجب على المسلم أن يتقي الله سبحانه وتعالى، وإذا كان يريد أن يدعو إلى الله فليعرف ما هي الدعوة، وما هي أصول الدعوة، وما المطلوب من الداعية، وأن يكون على طريقة إبراهيم عليه السلام وغيره من النبيّين الذين تبرّأوا من المشركين وقاطعوهم بعدما تبرءوا من الشرك وأخلصوا العبادة لله وحده.
ثم قال الشيخ رحمه الله : "وقال: "{وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ(59)}" هذه صفة من الصفات التي ذكرها الله في سورة المؤمنون، في السابقين بالخيرات، قال تعالى: {إِنَّ(13/136)
الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)} هذه الصفة الأولى.
الصفة الثانية: {وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ(58)}.
الصفة الثالثة- وهي العظيمة-: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ(59)}.
الصفة الرابعة: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ(60)}.
هذه الصفات العظيمة هي تحقيق التّوحيد من جميع الشوائب، هذا مجملها وإليك تفصيلها:(13/137)
ص -79- ... الصفة الأولى:{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)} الخشية من أعمال القلب، وهي الوَجَل من الله عزّ وجلّ، والخوف من عقابه، خشيةً منه سبحانه وتعالى أن يعاقب العاصي والمذنب على معصيته، ومن أعظم أنواع العبادة، الخوف والخشية والرغبة والرهبة والرجاء، وكل هذه من أعمال القلب، إلاَّ أن الخوف لا يجوز أن يصل إلى حد القنوط، بل يكون خوفاً مقروناً بالرجاء، لا يَيْأَسُون من روح الله {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}، والرجاء لا يكون بدون خوف من مكر الله. ولا يأمنون من مكر الله، ويعتمدون على الرجاء فقط، ويتركون الخوف: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ(99)}، بل المطلوب الجمع بين الخوف والرجاء، فلا يخاف حتى يَقْنَط، ولا يرجوا حتى يأمن من مكر الله، بل يكون متعادلاً، ولهذا يقول العلماء: "المؤمن بين الخوف والرجاء كالطائر بجناحين لو اختل جناح من الأجنحة سقط الطائر، كذلك المؤمن إذا اختل خوفه أو رجاؤه سقط".
الصفة الثانية: {وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ(58)}، يؤمنون بآيات الله أي يصدقون بها، ويعملون بها، وآيات الله: القرآن، ويؤمنون به بمعنى: أنهم يصدقون أنه كلام الله سبحانه وتعالى، تكلم الله به وَحْياً، ونزل به جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وحفظه النبي صلى الله عليه وسلم من جبريل، وبلّغه للناس، {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ(193)} يعني: جبريل- عليه الصلاة والسلام-، {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ(194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ(195)}، هذه صفات القرآن، فيؤمن هؤلاء المؤمنون بأن هذا القرآن هو خطاب ربهم لهم أمراً ونهياً، وتعريفاً به سبحانه وبصفاته، وإخباراً لهم عن الغيوث الماضية والغيوب(13/138)
المستقبَلة، وهذا القرآن أعظم الكتب التي نزلت من السماء، وقد أودع الله فيه من العلوم العظيمة والأسرار العظيمة ما لا يعلمه إلاَّ الله سبحانه وتعالى. والعوام يفهمون من القرآن، والمبتدءون في التعليم يفهمون من القرآن، والراسخون في العلم يفهمون أكثر من غيرهم، كل على قدر ما أعطاه الله سبحانه وتعالى، لأن القرآن- كما يقول ابن عباس-. على أربعة أنواع: منه ما تعرفه العرب من لغتها، كالنار، والجنة، والزنا، والخمر، والشرك، والكفر، والربا. ومنه ما لا يُعذر أحد بجهل الله مثل: معرفة(13/139)
ص -80- ... الصلاة، والصيام، والحج، وأركان الإسلام، كل واحد مطالب بأن يعرفها. ومنه ما يعرفه العلماء، خاصة كالمحكم، والمتشابه، والمطلق، والمقيد، والناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، هذه الأنواع إنما يعرفها العلماء الذين درسوا علوم الشريعة. والنوع الرابع: ما لا يعلمه إلاَّ الله، وهو حقائق ما ذكره الله في القرآن من الجنة والنار، وكيفية صفات الرب سبحانه وتعالى، فنحن نعرف معانيها، لكن كيفيَّتها لا يعلمها إلاَّ هو سبحانه وتعالى؛ سمعه، وبصره، وعلمه ووجهه، ويده سبحانه وتعالى، لا يعلم كيفيّتها إلاَّ الله، ونزوله إلى السماء الدنيا، واستواؤه على العرش، كيفيتها لا يعلمها إلاَّ الله سبحانه وتعالى، لكن المعاني اللغوية نعرفها ونفهمها.
فمعنى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ(58)} أي: يصدقون بهذا القرآن ويتدبّرونه، ويشتغلون به، ويعتنون به، ويعملون بما فيه، ما أمرهم به فعلوه، وما نهاهم عنه تركوه، وما أخبرهم به صدّقوه وآمنوا به، وما اشتبه عليهم ردُّوا علمه إلى الله سبحانه وتعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}، هذه طريقة المؤمنين مع القرآن، بخلاف المنحرفين فإنهم لهم مع القرآن مواقف سيّئة، فمنهم الذين قالوا إن القرآن مخلوق، والذين قالوا إن القرآن: له ظاهر وله باطن، وهم الباطنية هؤلاء لا يؤمنون بآيات الله عزّ وجلّ. والذين قالوا إن ظاهر القرآن غير مراد لأنه يوهم التشبيه والتجسيم فيما يخبر عن الله عزّ وجلّ.
الصفة الثالثة: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ(59)} هذا هو تحقيق التّوحيد، لا يشركون أبداً، شركاً أصغر ولا شركاً أكبر، يعني: لا يقع منهم شرك أبداً، هؤلاء الذين حقّقوا التّوحيد، وسلموا من الشرك الأكبر والأصغر والخفي والجلي، وكل أنواع الشرك والبدع والمخالفات.
الصفة الرابعة: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا}(13/140)
من الطاعات، {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} يعني: خائفة {أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} نفى عنهم الإعجاب بأعمالهم، فهم يعملون الأعمال الجليلة، ويخافون من الله أن يردّها عليهم. فهم يخافون أن تردّ عليهم أعمالهم بخلل وقع فيها، لأن الإنسان ليس معصوماً، فهم جمعوا بين الطاعة والخوف، أما أهل التفريط فجمعوا بين الكسل والأمن من مكر الله عزّ وجلّ.(13/141)
ص -81- ... وعن حُصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: "لن يدخل أحدكم الجنة بعمله"، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟، قال: "ولا أنا، إلاَّ أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل"، هذا هو مقام تحقيق التّوحيد، فالجنة لا تُدرك بالأعمال، وإنما الأعمال سبب لدخول الجنة {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، قال العلماء: الباء باء السببيّة، وليست الباء للثمنيّه، فالعمل الصالح سبب لدخول الجنة، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وإدخاله عباده الصالحين الجنة تفضل منه، وإحسان منه سبحانه وتعالى، والله تعالى يقول: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} إذا كنت لا تستطيع عدَّها، فكيف تستطيع الشكر؟، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم في دعاء القنوت "أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك"، هذا سيّد الأنبياء، وإمام المرسلين، وأفضل الخلق يعترف أنه لا يُحصي الثناء على الله سبحانه وتعالى، فكيف بغيره؟
فهؤلاء يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، لأن أعمالهم أقل بكثير مما يجب عليهم، ثم - أيضاً- لا يضمنون أنها تكون متقبلة، قد تكون مردودة بسبب من الأسباب، ولهذا يقول الله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} ومن يضمن لنفسه أنه من المتقين؟، لكن الإنسان يعمل ولا ييأس ولا يقنط، ويُحسن الظن بالله عزّ وجلّ، إنما لا يستكثر عمله، أو يتمنّن على الله، قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، للنبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا سمعت هذه الآية {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ(60)}، قالت: يا رسول الله، أهم الذين يزنون ويسرقون ويشربون الخمر، ويخافون أن(13/142)
يعذبوا بذنوبهم؟، قال: "لا، يا ابنة الصديق، ولكنهم يصلون ويصومون ويجاهدون، ويخافون أن تُردّ عليهم أعمالهم".
قوله: "وعن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير" إلخ.
ساق الشيخ رحمه الله، هذا الحديث، في "باب من حقق التّوحيد"، بعد أن ذكر الآيات السابقة، لأن هذا الحديث، هو فيمن حقق التّوحيد وما له عند الله من(13/143)
ص -82- ... فقلت: أنا، ثم قلت، أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لُدِغْت، قال: فما صنعت؟، قلت: ارتقيت.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكرامة، وسبق لنا معنى تحقيق التّوحيد، وأنه تخليصه من شوائب الشرك الأكبر والأصغر، ومن البدع والمخالفات وهذه مرتبة السابقين من هذه الأمة.
قال: "عن حُصين بن عبد الرحمن" السُّلمي، أحد التابعين الثقات.
"قال: كنت عند سعيد بن جُبير" سعيد بن جُبير من أكابر التابعين علماً وورعاً وفقهاً، وهو من تلاميذ ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قتله الحجّاج بن يوسف الثَّقفي قبل أن يبلغ الخمسين من عمره، وبقتله أُصيبت الأمة بفقد عالم من أجلِّ علمائها.
"فقال: أيُّكم رأى الكوكب الذي أنقض البارحة؟"، يسأل الجالسين عنده، والكوكب معناه: الشِّهاب الذي يُرمى به الشياطين الذين يَسْتَرِقُون السمع، وليس معناه أن الكوكب نفسه يسقط، ولكن ينفصل منه شَظِيَّة. "الذي انقض البارحة"، أي: الذي سقط.
قال: حُصين بن عبد الرحمن: "أنا"، والبارحة كلمة تُطلق على الليلة الماضية، ما قبل الزوال يقال له: الليلة، وما بعد الزوال يقال له: البارحة، مِن "بَرَح الشيء" إذا فات وذهب، هذا عند العرب.
وقوله: "قلت: أنا" يعني: أنا رأيت الكوكب، فدلّ هذا على أن هذا الرجل لم يَنَم.
ثم إنه خشي على نفسه من الرياء، فاستدرك وقال: "أما إني لم أكن في صلاة" يعني: لا تظنوا أني سهرت أتهجّد، خشِي على نفسه الرياء، أن يمدح بشيء ليس فيه، وهذا من ورع السّلف وابتعادهم عن الرياء وتزكية النفس، لأن هذا ينافي الإخلاص.
وقوله: "ولكني لُدِغْت" يعني: السبب في كوني كنت مستيقظاً وقت نزول الشهاب أنني لُدِغْت، واللَّدْغ معناه: إصابة ذات السموم من العقارب ونحوها.
وقوله: "قال: فما صنعت؟" لأن من عادة المَلْدُوغ أنه يتعاطى شيئاً من العلاج.(13/144)
ص -83- ... قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي.
قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: لا رُقية إلاَّ من عين أو حُمَة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: (ارْتَقَيت) يعني: طلبت من يَرْقِينِي بالقرآن، والرُّقية معناها: أن يُقرأ على المصاب بالمرض أو باللَّدْغ من القرآن والأدعية، ويُنْفَث على موضع الإصابة وموضع الألم. وهذا من أنفع العلاج إذا صدر عن يقين من الرّاقي ويقين من المَرْقي، لأن الله سبحانه وتعالى أنزل هذا القرآن شفاءً للأمراض المعنويّة: أمراض الشِّرك، والنفاق، والمعاصي، والأمراض الحسيّة: أمراض الأجساد، لأنه كلام رب العالمين سبحانه وتعالى، قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً} فالرُّقية مشروعة، وقد رَقَى النبي صلى الله عليه وسلم ورُقي- عليه الصلاة والسلام-، رَقَاه جبريل لما أصابه السحر، ورَقَى صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه، فالرُّقية بالكتاب والأدعية أمر مشروع.
قوله: "قال: فما حملك على هذا؟" هذا فيه أن السلف يطلبون الدليل على ما يفعلون وما يقولون، وفيه طلب الدليل على المذهب والاجتهاد. فمن قال بمسألة من المسائل، أو فعل فعلاً، فإنه يطلب منه الدليل على جوازه، أو على مشروعيّته من الكتاب والسنّة. هذا أدب السلف- رحمهم الله- أنهم لا يُقْدِمون على شيء إلاَّ بدليل من كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم خصوصاً في أمور العلاج، لأن النفوس تتشبث بأي شيء لطلب الشفاء، حتى ولو كان غير مشروع. فسعيد بن جُبير رضي الله عنه خَشِي من هذا الأمر. فهذا فيه أن العلاج لا يكون إلاَّ بما دل عليه دليل من كتاب الله وسنّة رسوله، أما الذهاب إلى المشعوذين والدجّالين والسَّحرة والكَذَبة فهو محرّم، وقد يكون شركاً أكبر يُخرج صاحبه من الملّة؛ إذا ذبح لغير الله، أو دعا(13/145)
غير الله، أو استغاث بالجن أو الشياطين، فإنه يخرج من الملّة، ولو فرضنا أنه شُفي، ماذا ينفعه إذا ذهبت عقيدته وصحّ جسمه، هذا أمر وباب خطير جدًّا، ويجب التحرُّز منه.
وقوله: "قلت: حديث حدثنيه الشَّعْبي" يعني: هذا دليلي على ما فعلت، والشعبي هو: عامر بن شُرَاحيل، الإمام الجليل من أئمة التابعين.
"قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بُريدة بن الحُصيب" بُريدة بن ا لحُصيب ا لأسلمي، من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا التابعي- الذي هو الشَّعْبي- يروي عن هذا الصحابي.(13/146)
ص -84- ... قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا رُقية إلاَّ من عين أو ُحمة" لا رُقية يعني: أنفع وأشفى إلاَّ من عين، أي: إصابة العين بسبب الحسد الذي يكون في بعض الناس، إذا نظر إلى الأشياء أصيبت على أثر نظرته، لأن نظره مسموم، وهذا من عجائب- خلق الله سبحانه وتعالى وقدرته، أنه يجعل بعض الأنظار مسمومة، إذا نظر صاحبها إلى شخص، أو إلى حيوان، أو إلى شيء، أصيب بإذن الله عزّ وجلّ، والعين حق- كما في الحديث، قال صلى الله عليه وسلم: "العين حق، ولو أن شيئاً سبق القدر لسبقته العين"، هذا في الصحيح، وقد أصيب رجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فطلب النبي صلى الله عليه وسلم من الذي عانه، أن يغتسل، ثم أخذت غُسالته وصبّت على المصاب، فشُفي بإذن الله، وقال: "العين حق، وإن استغسلتم فاغسلوا"، هذا هو علاجها، أنه يَأمر العائن أن يغتسل، ويغسل بواطن إزاره، ثم تُصَب هذه الغُسالة على المصاب، فيُشفى- بإذن الله-، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك مِن علاجها: الرُّقية، بأن يُقرأ على المصاب بالعين، فاتحة الكتاب، والمعوّذتان.
وقوله: "أو حُمَة" الحُمَة هي: اللَّدْغة من ذوات السّموم، وهذا محل الشاهد من الحديث لما فعله حصين رحمه الله.
ثم قوله: "لا رُقية إلاَّ من عين أو حُمَة" قال العلماء: هذا من باب التأكيد، لا من باب الحَصْر، فالرُّقية تنفع من غير العين والحُمَة أيضاً ومن سائر الأمراض، ولكن أنفع ما يُشفى بالرُّقية هذان المرضان: العين والحُمَة، وإلاّ فإن الرّقية تنفع - أيضاً- من جميع الأمراض- بإذن الله-، فهذا من باب الحصر النِّسبي والتأكيد، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا ربا إلاَّ في النّسيئة"، مع أن هناك ربا الفضل، فمعنى الحديث: "لا ربا إلاَّ في النسيئة" يعني: لا ربا أعظم وأشد من ربا النسيئة، فهو أشد من ربا الفضل، لأنه ربا(13/147)
الجاهلية، فليس هذا من باب الحَصْر، وإنما هو حَصْر إضافي.
ولما أتى حُصين بن عبد الرحمن بالدليل على ما فعل، قال له سعيد بن جبير رحمه الله: "قد أحسن من انتهى إلى ما سمع" أثنى عليه، وصوّبه على هذا الفعل، ء وأنه عَمِل عملاً جائزاً ومباحاً، واستدل بدليل صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فتأدّب سعيد مع الحديث، ولم يكن مثل بعض الجهّال الذين إذا بلغهم الحديث وهو لا يوافق(13/148)
ص -85- ... ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عُرضت عليَّ الأمم، فرأيت النبي ومعه الرَّهْط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد؛ إذ رُفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هواهم، أو لا يوافق مذهبهم، راحوا يطعنون فيه أكبر الطّعن، ويجرّحون ولو كان الحديث في "البخاري"، فإنهم قالوا في أحاديث في "البخاري": "حتى ولو قالها الرسول صلى الله عليه وسلم فإن معناها ليس بصحيح عندهم"!!، قال ذلك بعض الكُتّاب، فهذا أمر خطير.
وسعيد بن جُبير لما بلغه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قد أحسن من انتهى إلى ما سمع"، هذا هو أدب العلماء، وهذا أدب الصحابة رضي الله عنه، والتابعين، وسائر أئمة العلماء، فهم يتأدّبون مع السنّة إذا بلغتهم عن رسول الله.
قوله: "ولكن حدثنا ابن عباس" معناه أن: سعيد بن جُبير عنده دليل آخر، العمل به أحسن من العمل بحديث حُصين بن عبد الرحمن، وإن كان العمل بحديث حُصين بن عبد الرحمن حسناً، ولكن هناك حسن وهناك ما هو أحسن، فأراد أن يرقيه من الحسن إلى الأحسن.
قال: "حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عُرضت عليّ الأمم" فيه معجزة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم حيث عُرضت عليه الأمم، أي: أُرِيَ الأمم السابقة. قيل: كان هذا ليلة الإسراء والمعراج.
"فرأيت النبي ومعه الرَّهْط" الرَّهْط: هم الجماعة دون العشرة، يعني: لم يتبعه من أمته إلاَّ دون العشرة، وبقية الأمة كفروا به.
"والنبي ومعه الرجل والرجلان" هذا أقل، تبعه من قومه رجل أو رجلان، والبقيّة أَبَوْ أن يؤمنوا بالله ورسوله.
"والنبي وليس معه أحد" فيه من الأنبياء من كذبه قومه كلهم، ولم يتبعه أحد، فهذا فيه دليل على أنه لا يُحتج بالكثرة، وإنما يُحتج بمن كان على الحق، ومعه الدليل، ولو كانوا قليلين، ولو كان شخصاً واحداً،(13/149)
فمن كان على الحق، ومعه دليل من كتاب الله وسنّة رسوله، فهذا هو الذي يُؤخذ بقوله ويُقتدى به، أما من خالف(13/150)
ص -86- ... فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدليل فلا عبرة به حتى ولو كانوا كثرة، والله تعالى يقول في نوح: {وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ} ويقول: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} ويقول جل وعلا: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ(116)}، فالكثرة ليست هي الضابط في إصابة الحق، ولا يُغتر بها، فربما تكون الكثرة على الباطل، إنما إذا اجتمع الكثرة مع إصابة الحق، فهذا طيّب، أما إذا كانت كثرة بدون حق فلا، ولا يُزَهِّدُنا في الحق قلّة أتباعه، لأن بعض الناس اليوم إذا نُبّه على خطأ يقول: هذا عليه أكثر الناس، إذا قلت له- مثلاً- عن تحريم تأويل الصفات، قال: تسعة أعشار العالم الإسلامي أشاعرة يئولون الصفات وهذا ليس عذراً أمام الله صلى الله عليه وسلم ما دام تبيّن الحق، وأما أمر الناس فهو موكول إلى الله سبحانه، ويجب على المسلم أنه يتبع الحق، ولا يكابر بكثرة من خالفه أو جانبه، نبي من أنبياء الله ليس معه إلاَّ دون عشرة، ونبي من أنبياء الله ليس معه إلاَّ رجل أو رجلان، ونبي من أنبياء الله ليس معه أحد. نسأل الله أن يوفقنا وإيّاكم لقول الحق والعمل به، ومخالفة الهوى والنفس والشيطان.
قوله: "إذ رُفع لي سواد عظيم" السواد هو: الأشباح البعيدة.
"فظننت أنهم أمتي" ظن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا السواد العظيم هم أمته، لأنه أكثر الأنبياء أتباعاً، عليه الصلاة والسلام.
"فقيل لي: هذا موسى وقومه" هذا فيه فضل موسى عليه السلام، كليم الله، وأنه اتبعه من قومه خَلْق كثير، آمنوا به واتبعوه، فهو من أكثر الرسل أتباعاً بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه فضيلة لموسى عليه(13/151)
الصلاة والسلام.
فهذا يدل على أن موسى عليه السلام آمن به خَلْقٌ كثير من بني إسرائيل، وإنما حدث التحريف والكفر بعد موسى عليه السلام.
قوله: "فنظرت فإذا سوادٌ عظيم"، وفي رواية: "ولكن انظر إلى الأفق"، والرواية في "صحيح مسلم".
"فنظرت فإذا سوادٌ عظيم، فقيل لي: هده أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون(13/152)
ص -87- ... ثم نهض فدخل منزله.
فخاض الناس في أولئك، فقال بعضهم: فلعلهم ائذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: فلعلهم الذين وُلدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً. وذكروا أشياء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجنة بلا حساب ولا عذاب"، وفي رواية: "ومنهم سبعون ألفاً"، السبعون الألف هؤلاء من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب. هذا فضل عظيم، والبقيّة من الخلائق تُحاسب، منهم من يُحاسب حساباً يسيراً، ومنهم من يناقش الحساب. واختلف العلماء في الكُفار هل يُحاسبون أو يدخلون النار بدون حساب؟، والذي قرّره شيخ الإسلام ابن تيمية- كما في "العقيدة الواسطية"- أنهم يقرّرون بأعمالهم فقط، ولا يحاسبون محاسبة من يوازن بين حسناته وسيئاته، لأنهم لا حسنات لهم، ولكنهم يقرّرون بكفرهم وأعمالهم الكفريّة، ثم يُؤمر بهم إلى النار - والعياذ بالله-. وان كان لهم حسنات في الدنيا فإنهم يجازون بها في الدنيا، وتعجّل لهم حسناتهم، فإن الله لا يظلم أحداً، أما في الآخرة فليس لهم ثواب ولا حسنات- والعياذ بالله-.
قوله: "ثم نهض صلى الله عليه وسلم" أي: قام.
"ودخل منزله" دون أن يبيّن من هم هؤلاء السبعون الألف.
والصحابة رضي الله عنهم اهتموا بهذا الأمر، لأن هذا أمر عظيم، فصاروا يخوضون في هؤلاء السبعين من هم؟.
فقوله: "خاض الناس في أولئك" يعني: بحثوا من هم، وهذا من حرص الصحابة رضي الله عنهم على الخير، واهتمامهم بأمور الآخرة، لأنهم لا يهتمُّون بأمور الدنيا، وإنما يهتمُّون بأمور الآخرة، بخلاف أهل الدنيا، إذا سمعوا بتجارة صاروا يتحدثون عنها ولا يهمهم أمر الآخرة.
قوله: "فقال بعضهم: فلعلهم الذين صَحِبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم" لأن أفضل الأمة هم الصحابة رضي الله عنهم، لا أحد يساوي الصحابة في الفضيلة، قال صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم(13/153)
مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم(13/154)
ص -88- ... ولا نصيفه"، فالصحابة هم أفضل الأمة، ولا أحد يساويهم في الفضل- رضي الله تعالى عنهم-، بسَبْقِهم إلى الإسلام، وصحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجهادهم في سبيل الله، وبذلهم أنفسهم وأموالهم في سبيل الله عزّ وجلّ، فلذلك قالوا: "فلعلهم الذين صحبوا"، لأنهم لا يعلمون أحداً أفضل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقوله: "وقال بعضهم: فلعلهم الذين وُلدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله شيئاً" يعني: الذين وُلدوا بعد بِعْثَة النبي صلى الله عليه وسلم من أولاد المسلمين، وبقوا على الفطرة الصحيحة، وآمنوا بالله ورسوله، ولم يشركوا بالله شيئاً. وهذا- أيضاً- فيه فضل من سَلِم من الشرك، بحيث إن الصحابة توقَّعوا أنهم هم الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، ففيه فضل من سَلِم من الشرك، ولكن من وقع في الشرك ثم تاب تاب الله عليه، وصار من أفضل المسلمين لأن التوبة تَجُبُّ ما قبلها، والله تعالى يقول: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}، ولكن الصحابة توقَّعوا أن مواليد الإسلام الذين لم يشركوا بالله شيئاً، هم المعنيُّون بهذا الحديث.
وهذا- أيضاً- يدل على المحافظة على الأولاد، والمحافظة على فطرتهم. ويدل على وجوب التربية على الإسلام، والتربية على التّوحيد، وتصحيح العقيدة، لأن بعض الناس اليوم لا تهمهم العقيدة، ويقولون العقيدة أمرها سهل، والناس أحرار في عقائدهم، ولا يهتمون بأمر الشرك، ويقولون هذه اجتهادات، ولا يهتمون بالدعوة إلى التّوحيد، والتحذير من الشرك، وتصحيح العقائد.
فقول الصحابة: "فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله شيئاً"يدل على خطر الشرك، وأن الإنسان لو وُلد في الإسلام فإن هذا لا يكفي، لابد أن يَسْلم من الشرك، ولا يسلم من الشرك إلاَّ إذا عرفه وعرف طرقه، حتى يتجنّبه ويحذّر منه، أما من يجهل الشيء فربما يقع فيه، لأنه لا يدري عنه؛ وعمر بن(13/155)
الخطاب رضي الله عنه يقول: "إنما تُنْقَضُ عُرى الإسلام عُروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية"، وحذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه"، فهذا أمر عظيم جدًّا، الاهتمام بأمر العقيدة، والخوف من الشرك، ومن خاف من شيء فإنه يهرب منه، ولا يمكن أن(13/156)
ص -89- ... فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال: "هم الذين لا يَسْتَرْقُون، ولا يَكْتَوُون، ولا يَتَطَيَّرون، وعلى ربهم يتوكلون".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يهرب منه إلاَّ إذا عرف من أن يأتيه هذا العدو، ومن أين يدركه، فهذا أمر عظيم.
وقوله: "ثم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه" ذكروا ما بحثوا فيه، وما خاضوا فيه، والاجتهادات التي أبدَوْها حول هذا الأمر. وهذا فيه دليل على مشروعية المباحثة في أمور العلم، والبحث عن معاني كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم حتى نعمل به، وننتفع به.
وقوله: "قال: هم الذين لا يَسْتَرْقُون" يعني: لا يطلبون من غيرهم أن يَرقيهم، لماذا؟، لأن طلب الرُّقية من الناس سؤال للمخلوق، والسؤال للمخلوق فيه ذِلّة، فهم يستغنون عن الناس، ويعتمدون على الله سبحانه وتعالى، وهذا من تمام التّوحيد: أن الإنسان لا يسأل الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم بايع بعض أصحابه أن لا يسألوا الناس شيئاً، فكان أحدهم إذا سقط سوطه من على راحلته لا يقول لأحد: ناولني السوط، لأنهم يريدون الاستغناء عن الناس، لكن سؤال أهل العلم عما أشكل ليس من هذا، وهو واجب قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}، إذا كان ذلك عن حاجة، أما سؤال التعنّت والاستكبار وتعجيز المسؤول، فهذا لا يجوز، لأنه ليس عن حاجة، وإنما هو عن إظهار عَظَمة، وأن السائل أعلم من المسؤول، وهذا لا يجوز، وسؤال المال، يجوز للحاجة إذا كان الإنسان مضطرًّا، فإنه يجوز أن يسأل الناس حتى ترتفع ضرورته، أما سؤال الإنسان وهو غني، فهذا حرام: "من سأل الناس تكثّراً، فإنما يسأل جمراً، فليُقِل أو ليستكثر".
وقوله: "ولا يَكْتَوُون" كذلك لا يطلبون من غيرهم أن يكويهم بالنار من أجل العلاج.
والكَيْ بالنار نوع من أنواع الطب، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الشفاء في ثلاث:(13/157)
شَرْبة عسل، أو شَرْطة مِحْجَم، أو كيّة بنار"، وفي رواية أخرى: "وأنا أكره الكَيْ "، فالكَيُّ عند الحاجة علاج مباح، ولكنه إذا طلبته من غيرك، يكون مكروهاً لأنه من مسألة الناس، وكذلك يكره الكيّ ذاته، لما فيه من التعذيب بالنار.
قوله: "ولا يَتَطَيَّرون" التطيّر هو: التشاؤم بالطيور وغيرها، ثم يرجع المتطير(13/158)
ص -90- ... فقام عُكّاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: "أنت منهم" ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: "سبقك بها عُكّاشة".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن ما عزم عليه، هذا هو التّطيُّر، أما التفاؤل فهو مشروع، وكان النبي يعجبه الفَأْل، لأن الفَأْل حسن ظن بالله سبحانه وتعالى، أما الطِّيَرة فهي سوء الظن بالله.
فهؤلاء السبعون الألف استحقوا هذه المنزلة، لأنهم تركوا أموراً محرمة وهي الطيرة، أو مكروهة وهي طلب الرقية والكي من الناس، فهم تركوها استغناء عن الناس، وتوكلاً على الله سبحانه وتعالى.
أما أن الإنسان يَرْقِي نفسه أو يَرْقِي غيره، فهذا فعله النبي صلى الله عليه وسلم فرقى نفسه ورقى غيره ورقاه غيره فلا كراهة في ذلك.
يبقى قضية التداوي بالمباح كالحبوب- مثلاً-، أو بالأعشاب، أو بإجراء العمليّات الجراحيّة: واستئصال الأورام أو الزوائد؛ فهذا مباح، من غير كراهة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "تداووا ولا تداووا بحرام"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أنزل الله داءاً إلاَّ وأنزل له شفاء، علمه من علمه وجهله من جهله" ومن العلماء من يرى أن التداوي مستحب، ومن العلماء من يرى أنه واجب، والتدواي سواءً كان مباحاً أو مستحبًّا أو واجباً لا ينافي التوكل، لأن بعض الجهّال يقول: اتْرُك التدواي توكّلاً على الله، نقول: الأخذ بالأسباب لا ينافى التوكل، والتداوي سبب، والأخذ بالأسباب قد أمر الله تعالى به.
قوله: "فقام عُكّاشة بن مُحصَن" عُكّاشة بن مُحصَن الأسدي، من السابقين إلى الإسلام، شهد غزوة بدر، وغيرها من المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم وقاتل في حروب الرّدة حتى قُتل، رضي الله عنه.
"فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم" هذا فيه مشروعيّة طلب الدعاء من أهل الخير، الأحياء، لأن هذا الصحابي طلب الدعاء من رسول الله صلى(13/159)
الله عليه وسلم وأقرّه على ذلك، فدلّ على جواز، طلب الدعاء من الصالحين الأحياء.
"قال: أنت منهم" أخبر صلى الله عليه وسلم أن عُكّاشة من السبعين الألف الذين يدخلون الجنة(13/160)
ص -91- ... بلا حساب ولا عذاب، وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، فإنه قُتل شهيداً في سبيل الله عزّ وجلّ وفي هذا دليل من أدلة النبوّة، حيث أخبر صلى الله عليه وسلم أن عُكّاشة من السبعين الألف، وقتل شهيداً في سبيل الله عزّ وجلّ، فصار في زُمْرة الشهداء في سبيل الله، مع سَبْقه إلى الإسلام، وشهوده بدراً وغيرها مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
" ثم قام رجل آخر، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: "سبقك بها عُكّاشة"، كأن الرسول صلى الله عليه وسلم علم أن هذا الرجل لا يصل إلى هذه المرتبة، ولكن ما جابهه بكلام يكرهه، ولم يقل له: أنت لا تستحق، أو أنت لست من أهل هذه المنزلة، وهذا من حُسن أدب الرسول صلى الله عليه وسلم بل جاء بكلمة لم تؤثر على الرجل، وهي وافية بالمقصود، فقال: "سبقك بها عُكّاشة".
قال الشيخ رحمه الله في مسائله: "هذا فيه استعمال المعاريض" يعني: الكلمات التي تُستعمل بدل الكلمات المكروهة، لأنه لو قال لا تستحق هذا، أو أنت لا تصل إلى هذه المرتبة، لحصل عند الرجل انكسار نفس وخجل، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان كما قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4)}، وقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}، فالرسول صلى الله عليه وسلم علم أن هذا الرجل - بما علّمه الله سبحانه وتعالى- لا يصل إلى هذه المرتبة، ولكنه جاء بكلمة ليّنة لطيفة ليس فيها تجريح، فهذا فيه حُسن الأدب مع المسلمين، وعدم مواجهتهم بما يكرهون من الكلمات النابية، حتى ولو كانوا على خطأ، فهم يواجهون بكلمات فيها تطييب لخواطرهم، وعدم تجريح لنفوسهم.
فهذا حديث عظيم دلَّ على مسائل:
أولاً: دلَّ على جواز الرُّقية من العين ومن الحُمة وغيرهما، لأنه فعله حُصين بن عبد الرحمن، واستدل بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: في الحديث دليل على فضل(13/161)
موسى عليه السلام وأمته الذين آمنوا به.
ثالثاً: فيه دليل على عدم الاحتجاج بالكثرة، وهذه مسألة مهمة.
ورابعاً: فيه حرص الصحابة على مسائل العلم ومعرفتها، حيث خاضوا في طلب معنى هذا الحديث الذي ألقاه عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحثوا فيه، قال الشيخ: فيه المناظرة في العلم.(13/162)
ص -92- ... خامساً: في الحديث دليل على كراهية سؤال الناس: "لا يَسْتَرْقُون، ولايُكْتَوُون"، ففيه كراهيّة سؤال الناس، وأن سؤال الناس فيه تنقيص للتوحيد، أما الاستغناء عنهم فهذا فيه كمال للتّوحيد، وهو من تحقيق التّوحيد.
سادساً: الحديث دليل على جواز العلاج بالكَيْ، مع الكراهة بشرط أن يكون المعالج به من أهل المعرفة، الذي يعرفون موضع الألم وموضع الكَيْ، ومقدار الكَيْ، وفيه دليل على أن الإصابة بالعين حق، وأنها تُعالج بالرُّقية، وتعالج بما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم من الاستغسال- أيضاً-.
سابعاً: فيه دليل على علم من أعلام نبوّته صلى الله عليه وسلم حيث أخبر أن عُكّاشة من السبعين الألف، وقد قُتل شهيداً في سبيل الله بعد ذلك.
ثامناً: وفيه دليل على استعمال المعاريض في الأمور التي يُكره مواجهة الناس بها، وحُسن خلقه صلى الله عليه وسلم في تعامله مع أصحابه، وكذلك يجب أن يقتدي به أهل العلم وأهل الدعوة في مخاطبتهم للناس.
تاسعاً: وفيه دليل على طلب الدليل على المذهب، حيث إن سعيد بن جُبير طلب من حُصين بن عبد الرحمن الدليل على ما فعله من طلب الرقية فلما جاء بالدليل استحسنه، وقال له: "قد أحسن من انتهى إلى ما سمع".
عاشراً: وفيه دليل على ما تَرْجَم له المصنف، وهو الشاهد للباب أن من حقّق التّوحيد دخل الجنة بلا حساب ولا عذاب، وأن تفسير ذلك بأن يترك الشرك الأكبر والأصغر، ويترك الأمور المكروهة، احتياطاً لعقيدته.(13/163)
ص -93- ... [الباب الرابع:] * باب الخوف من الشرك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب في غاية المناسبة للأبواب السابقة، وهذا من دقّة فقهه وفهمه رحمه الله، وحُسن تأليفه، فإنه لما ذكر في الباب الأول: معرفة حقيقة التّوحيد، وذكر في الباب الثاني: فضل التّوحيد وما يكفّر من الذنوب، وذكر في الباب الثالث: من حقّق التّوحيد دخل الجنة بلا حساب ولا عذاب. لما ذكر هذه الأبواب ناسب أن يذكر ضدّ التّوحيد وهو الشرك، لأنه لا يكفي أنّ الإنسان يعرف التّوحيد ويعمل به، بل لابد أن يعرف ضدّه وهو الشرك، خشية أن يقع فيه، ويُفسد عليه توحيده، لأن من لا يعرف الشيَّء يوشك أن يقع فيه، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "يوشك أن تُنْقَض عُرى الإسلام عُروة عُروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية" لأنه لا يدري عن أمور الجاهلية أو يحسبها شيئاً طيّباً وهي من أمور الجاهلية، فبجهله بحقيقتها الْتَبَسَتْ، فصار يفعلها وهي من الجاهلية، فكذلك وأخطر من ذلك من لا يعرف الشرك ومداخله، وأنواعه، وأخطاره، فإنه حَرِّيٌ أن يقع في الشرك من حيث لا يدري، لأن الجهل داء قاتل، والشاعر يقول:
والضد يظهر حسنه الضد ... وبضدها تتبين الأشياء(13/164)
فلا يعرف قيمة الصحة إلاَّ من ذاق المرض، ولا يعرف قيمة النور إلاَّ من وقع في الظلام، ولا يعرف قيمة الماء إلاَّ من عطش، وهكذا، ولا يعرف قيمة الطعام إلاَّ من مسّه الجوع، ولا يعرف قيمة الأمن إلاَّ من أصابه الخوف، إذاً لا يعرف قيمة التّوحيد، وفضل التّوحيد، وتحقيق التّوحيد إلاَّ من عرف الشرك وأمور الجاهلية حتى يتجنّبها، ويحافظ على التّوحيد، ومِن هنا يظهر خطأ هؤلاء الذين يقولون: لا داعي أن نتعلم العقائد الباطلة ونعرف المذاهب الباطلة، ونرد على المعتزلة والجهمية، لأنهم بادوا وذهبوا، علموا الناس التّوحيد ويكفي، أو بعضهم يقول لا تعلّموهم التّوحيد لأنهم أولاد فطرة، ونشأوا في بلاد المسلمين، علّموهم أمور الدنيا: الصناعات والاختراعات والأمور الحديثة، أما التّوحيد فيحصلونه بفطرتهم وبيئتهم، نعم وجُد من يقول هذا، وبعض الناس يقول: الناس تجاوزوا مرحلة الخرافات،(13/165)
ص -94- ... لأنهم تثقفوا وعرفوا، فلا يمكن أنهم يشركون تتعد ذلك، لأن الشرك كان في الجاهلية، يوم كان الناس سذج ويسمون الشرك في العبادة شركاً ساذجاً، والشرك عندهم ما يسمونه بالشرك السياسي أو شرك السلاطين أو شرك الحاكمية.
ولذلك لا يهتمون بإنكار هذا الشرك الذي بعثت الرسل لإنكاره، وإنما ينصبّ إنكارهم على الشرك في الحاكمية فقط.
وكل هذه من حيَل الشيطان لبني آدم، والواجب أننا، كما نعرف الحق؛ يجب أن نعرف الباطل، من أجل أن نعمل بالحق، ونتجنّب الباطل، ولهذه المناسبة العظيمة ذكر الشيخ "باب الخوف من الشرك" بعدما ذكر أبواب التّوحيد وفضله، وما يكفر من الذنوب، وتحقيق التّوحيد وهذه نعمة عظيمة لكن إذا حازها الإنسان، فإنه يخشى من ضدها، فلابد أن يعرف ضدّها حتى يتجنّبه، فلنتنبّه لهذا الأمر، فإن هناك أناساً الآن كثيرين يزهِّدون في تعلم هذه الأمور: تعلّم التّوحيد، تعلّم الشرك، معرفة الشُّبَه والضلال، يزهدون في هذه الأمور، وهذا إما من جهلهم، وعدم معرفتهم، وإما لأنهم يريدون الدّس على المسلمين، وإفساد عقيدة المسلمين، فلنحذر من هذا الأمر، سمعنا من يقول إن الذي يدرس عقائد المعتزلة والرد عليهم مثل الذي يرجم القبر، لأنهم ماتوا، يقولون كذا، نقول: يا سبحان الله هم ماتوا بأشخاصهم، لكن مذاهبهم باقية، وشبهاتهم باقية، وكتبهم، تطبع الآن وتحقق، وينفق عليها الأموال، وتُرَوّج، فكيف نقول نتركهم لأنهم ماتوا، والله تعالى ذكر شبهات المشركين من الأمم السابقة: فرعون وهامان وقارون وقوم ونوح وعاد وثمود، مع أنها أمم بائدة، ذكر شبهها ورد عليها، فالعبرة ليست بالأشخاص، العبرة بالمذاهب، والعبرة بالشُّبَه الباقية ولكل قوم وارث.
ولهذا قال الشيخ: "باب الخوف من الشرك" أي: أن الموحّد يجب أن يخاف من الشرك، ولا يقول أنا موحّد وأنا عرفت التّوحيد، ولا خطر علي من الشرك، هذا إغراء من الشيطان، لا أحد يزكي نفسه، ولا أحد لا يخاف من الفتنة(13/166)
ما دام على قيد الحياة، فالإنسان معرّض للفتنة، ضلّ علماء أحبار، وزلّت أقدامهم، وخُتم لهم بالسّوء، وهم علماء، فالخطر شديد، ولا يأمن الإنسان على نفسه أن تَنْزَلِق قدمه في(13/167)
ص -95- ... وقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
وقال الخليل عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الضلال، وأن يقع في الشرك، إلاَّ إذا تعلم هذه الأمور من أجل أن يجتنبّها، واستعان بالله، وطلب منه العصمة والهداية: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} خافوا من الزّيغ بعد الهداية، والمهتدي يكون أشد خوفاً أن يزيغ، وأن تزلّ قدمه، وأن تسوء خاتمته، وأن يكون من أهل النار، نسأل الله العافية.
قال: "وقول الله عزّ وجلّ: "{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}" هذا خبر من الله عن نفسه سبحانه وتعالى مؤكّد بـ "إنّ".
أنه: "{لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}" فهذا فيه خطورة الشرك، فالله لا يغفر للمشرك مع أن رحمته وسعت كل شيء، ولكن المشرك لا يدخل فيها، لعِظم جريمته- والعياذ بالله، فمن مات على الشرك فإنه لا يغفر له، وهذا يدلّ على خطورة الشرك، فإذا كان الشرك بهذه الخطورة، فإنه يجب الحذر منه غاية الحذر، كل الذنوب مَظِنّة المغفرة ورجاء المغفرة إلاَّ الشرك. والشرك لا يمكن تجنبه إلاَّ إذا عرف وعرف خطره.
وفي الآية الأخرى أخبر سبحانه أنه حرم الجنة على المشرك، قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} والحرام: الممنوع، فلا يمكن أنّ المشرك يذوق طعم الجنة، أو يشم رائحة الجنة.
وفي الآية الثالثة: يقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}، منعهم الله من دخول المسجد الحرام لأنهم نجس، ونجاسة الشرك نجاسة معنويّة، والمسجد الحرام لا(13/168)
يدخله إلاَّ أهل التّوحيد {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} كذلك المشرك حلال الدم والمال، قال صلى الله عليه وسلم: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاَّ الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاَّ بحقها، وحسابهم على الله عزّ وجلّ".
قوله.: "وقال الخليل عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} الخليل هو إبراهيم عليه السلام، سمي بالخليل لأن الله سبحانه اتخذه خليلاً، كما قال تعالى: {وَاتَّخَذَ(13/169)
ص -96- ... وفي الحديث قال: "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر"، فسئل عنه، فقال: "الرياء".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} من الخُلَّة، وهي أعلى درجات المحبة، أي: أن الله يحبه أعلى المحبة، وهذه مرتبة لم ينلها إلاَّ إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
قوله: "{وَاجْنُبْنِي}" أي أبعدني واجعلني في جانب بعيد "{أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ}" خاف من عبادتها.
مع هذه المنزلة العظيمة التي نالها إبراهيم عليه السلام من ربه، ومع أنه قاوم الشرك وكسر الأصنام بيده، وتعرض لأشد الأذى في سبيل ذلك حتى ألقي في النار، مع ذلك خاف على نفسه من الوقوع في الشرك، لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، والحي لا تؤمن عليه الفتنة، ولهذا قال بعض السلف: "ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم؟"، فإبراهيم خاف على نفسه الوقوع في الشرك لما رأى كثرة وقوعه في الناس، وقال عن الأصنام: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ}.
وفي هذا أبلغ الرد على هؤلاء الذين يقولون: لا خوف على المسلمين من الوقوع في الشرك بعدما تعلموا وتثقفوا، لأن الشرك بعبادة الأصنام شرك ساذج يترفع عنه المثقف والفاهم، وإنما الخوف على الناس من الشرك في الحاكمية، ويركزون على هذا النوع خاصة، وأما الشرك في الألوهية والعبادة فلا يهتمون بإنكاره، وعلى هذا يكون الخليل عليه السلام وغيره من الرسل إنما ينكرون شركاً ساذجاً!!، ويتركون الشرك الخطير وهو شرك الحاكمية كما يقول هؤلاء.
قال: "وفي الحديث" أي الحديث الذي رواه أحمد والطبراني والبيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر"، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لأبي بكر وعمر ولسادات المهاجرين والأنصار، الذين بلغوا القمّة في التّوحيد والإيمان والجهاد في سبيل الله، ومع هذا الرسول يخاف عليهم، فمن يأمن بعد هؤلاء؟: "أخوف ما أخاف عليكم(13/170)
الشرك الأصغر"، فسئل عنه فقال: "الرياء" هذا دليل على اهتمام الصحابة في الأمر، والرياء معناه: أن الإنسان يتصنّع أمام الناس بالتقوى، والعمل الصالح، وإتقان الصلاة، وغير ذلك، من أجل أن يمدحوه، فالرياء من الرؤية أن يحب الإنسان أن يراه الناس وهو يعمل العمل الصالح من أجل أن(13/171)
ص -97- ... يمدحوه، والسُّمعة أن يحب الإنسان أن الناس يسمعون كلامه ويسمعون عمله ويمدحونه، فالرياء لما يُرى من الأعمال، والسُّمعة لما يسمع منها.
والرياء شرك خفي، لأن الشرك على نوعين: شرك ظاهر وشرك خفي، الشرك الظاهر: الذي يتمثل في الأعمال والأقوال، بأن يدعو غير الله، أو يذبح لغير الله، أو يستغيث بغير الله، هذا ظاهر يراه الناس ويسمعونه، لكن هناك شرك خفي لا يدري عنه الناس، لأنه في القلب، لا يعلمه إلاَّ الله سبحانه وتعالى، وهو الشرك في النيّة والإرادة، فالإنسان إذا سَلِم من الشرك الأكبر فإنه قد لا يسلم من الشرك الأصغر الذي يكون في القلوب، وهذا مما يُعطي المؤمن الحذر الشديد.
والرياء من صفات المنافقين، يقول الله تعالى في المنافقين: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً(142)} والله تعالى توعّد المرائين، قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ(5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ(6)} فوعدهم الله بالويل، وجاء في الحديث أن الله يقول للمرائين يوم القيامة: "اذهبوا إلى الذين كنتم تراءونهم في الدنيا هل تجدون عندهم جزاءً".
فهذا الحديث فيه الخوف من الشرك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم خافه على سادات المهاجرين والأنصار، وعلى أفضل هذه الأمة، فكيف بمن دونهم، وإذا كان هذا في الشرك الأصغر الذي لا يُخرج من الملّة فكيف بالشرك الأكبر- والعياذ بالله-.
وفيه دليل على وجوب إخلاص النية لله عزّ وجلّ، وان الإنسان لا يقصد مدح الناس أو ثناء الناس أو مطامع دنيا بأعماله الصالحة، وإنما يخلص النيّة لله عزّ وجلّ، يريد وجه الله، فإن عَمِل من أجل الرياء فعمله باطل.
فهذا الحديث يدل أولاً: على الخوف من الشرك.
ثانياً: أن الرياء شرك، ومعناه- كما ذكرنا-:(13/172)
أن يحب الإنسان أن يراه الناس على الطاعة فيُثنوا عليه بها.
وثالثاً: أن الرياء شرك خفي، لا يعلمه الناس، وإنما الله جل وعلا هو الذي يعلمه، لأنه في القلوب.(13/173)
ص -98- ... وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وهو يدعو من دون الله ندّاً دخل النار" رواه البخاري.
ولمسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال: "وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وهو يشرك بالله شيئاً دخل النار" هذا خبر من الرسول صلى الله عليه وسلم أنّ من مات على الشرك فهو من أهل النار، ولا يُغفر له. ولاحظوا كلمة "شيئاً" تعم الشرك كله، ما أشرك مع الله من نبي أو ولي أو ملك، لأن الشرك لا يقبله الله أبداً: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}.
ومن يدري متى يموت؟، ومن يدري ماذا يموت عليه؟، فالإنسان يخاف على نفسه من سوء الخاتمة، وأن يموت وهو يشرك بالله، فيكون من أهل النار، فالإنسان يجب عليه أن يحذر من الشرك طول حياته لأنه لا يدري في أي لحظة يموت، فيكون من أهل النار.
فهذا فيه الخوف من الشرك، وأن الإنسان قد يُختم له بالشرك فيكون من أهل النار، ولو كان من أهل التّوحيد قبل ذلك، وعارف به، ومستقيم، لكن يخاف على نفسه من أنه يتنكس بعد ذلك، ويشرك بالله، ويموت على ذلك فيكون من أهل النار، فنسأل الله الثبات، فيكون عنده حذر دائماً وأبداً من الشرك.
قال: "ولمسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة" هذا فيه فضل التّوحيد، وأن من مات عليه دخل الجنة، وهذا وعد من الله سبحانه وتعالى، والله لا يخلف وعده، حتى ولو كان عنده ذنوب ومعاص دون الشرك، فقد يغفرها الله له ويدخله الجنة من غير عذاب، وقد يعذبه الله بها ثم يدخله الجنة، فمآل الموحّد إلى الجنة، إما ابتداءً وإما في النهاية.
فقوله: "من لقي الله " يعني: مات.
"ومن لقيه يُشرك به شيئاً دخل النار" هذا(13/174)
مثل حديث ابن مسعود، من مات على الشرك، فإنه من أهل النار،- نسأل الله العافية-.
فهذا فيه الحذر من سوء الخاتمة.(13/175)
ص -99- ... وفيه- كما ذكر الشيخ رحمه الله قرب الجنة والنار من الإنسان، فما بينه وبين الجنة والنار إلاَّ أن يموت، ولا يدري، ربما يموت في الحال، ربما يموت بعد دقائق، أو بعد شهر، أو بعد سنة، ما بينه وبين النار والجنة إلاَّ الموت، فإذا مات دخل النار أو دخل الجنة، ففيه قُرب الجنة والنار من الإنسان، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الجنة أقرب إلى أحدكم من شِراك نعله، والنار مثل ذلك"، والشاعر يقول:
كل امرئ مُصَبِّح في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
تصبح في الدنيا وتمسي في الجنة، أو بالعكس-.
فهذا الحديث فيه الخوف من الشرك، وأن الإنسان يخشى أن يلقى الله وهو على الشرك فيكون من أهل النار، والعياذ بالله.
وفي نصوص الباب أن الإنسان لا يغتر بنفسه مهما بلغ من العلم والإيمان والمعرفة، بل يعترف بعجزه وفقره إلى الله سبحانه وتعالى، وأنه إن لم يعصمه الله فإنه على خطر.
كما أن في الباب - أيضاً- بيان معنى لا إله إلاَّ الله- كما يقول الشيخ في مسائله-: "في الباب معنى لا إله إلاَّ الله، وذلك في الحديث الأخير: "من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار"، هذا هو معنى لا إله إلاَّ الله، لأن في هذا الحديث التّوحيد والشرك، ولا إله إلاَّ الله أثبتت التّوحيد ونفت الشرك، فلا إله نفي للشرك، وإلاَّ الله إثبات للتّوحيد.
نسأل الله عزّ وجلّ أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يرزقنا وإياكم الثبات على دينه، وأن يُرينا الحق حقًّا ويرزقنا اتباعه، وأن يُرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن لا يجعله ملتبساً علينا فنضل، ونعوذ بالله من الغرور، ونعوذ بالله من الإعجاب، ونعوذ بالله من تزكية النفس المنهي عنها بقوله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}.(13/176)
ص -100- ... [الباب الخامس:] * باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال المؤلف رحمه الله: "باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله".
مناسبة هذا الباب لما قبله من الأبواب ظاهرة جدّاً، فإنه في الأبواب السابقة ذكر في الباب الأول: معرفة التّوحيد، وفي الباب الثاني: ذكر فضل التّوحيد، وفي الباب الثالث: ذكر فضل من حقق التّوحيد، وفي الباب الرابع: ذكر ما يضاد التّوحيد، وهو الشرك. فإذا كان طالب العلم ألَمَّ بهذه الأبواب، وعرفها معرفة جيدة، عرف التّوحيد وفضله وتحقيقه، وعرف ما يضاده من الشرك الأكبر أو ينقصه من الشرك الأصغر والبدع وسائر المعاصي، فإنه حينئذٍ تأهّل للدعوة إلى الله عزّ وجلّ، لأنه لا يجوز للإنسان إذا علم شيئاً من هذا العلم أن يختزنه في صدره، ويُغلق عليه، ويختصه لنفسه، هذا العلم مشتَرك بين الأمة، فمن عرف شيئاً منه فإنه يجب عليه أن ينشره، وأن يدعو الناس إليه، فإن هذه الأمة أمة دعوة، كما قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} وقال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)}، فلا يجوز للمسلم الذي عرف شيئاً من العلم أن يسكت عليه وهو يرى الناس في حاجة إليه، خصوصاً علم التّوحيد وعلم العقيدة، لأنه إذا فعل ذلك فقد ترك واجباً عظيماً، ولا يقول الإنسان أنا ما علي إلاَّ من نفسي- كما يقوله بعض الجهلة أو الكسالى-، أنا ما عليَّ من الناس!! بل عليك نفسك أولاً، ثم عليك أن تدعو الناس إلى دين الله عزّ وجلّ، فإن اقتصرت على نفسك تركت واجباً عظيماً تحاسب عنه يوم القيامة، وتعرّض نفسك لغضب الله عزّ وجلّ حيث تركت ما أوجبه عليك من الدعوة(13/177)
إلى الله عزّ وجلّ، هذا وجه المناسبة، وهي ظاهرة.
فقوله: "باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله" أي: الدعوة، وأن المسلم الذي منّ الله عليه بمعرفة التّوحيد، ومعرفة الشرك لا يسعه أن يسكت وهو يرى الناس يجهلون التّوحيد، ويقعون في الشرك الأكبر والأصغر، ويسكت على ذلك، كما هو واقع كثير من طلبة العلم والعلماء، الذين يرون الناس على العقائد الفاسدة(13/178)
ص -101- ... وقول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} الآية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والعقائد الباطلة وعبادة الأضرحة، ويسكتون على ذلك، ويقولون: نحن لا نهتم إلاَّ بأنفسنا. بهذا ضيّعوا واجباً عظيماً، ولو أن العلماء وطلبة العلم قاموا بما أوجب الله عليهم من هذا الأمر في جميع الأمصار لرأيت للمسلمين حالة غير هذه الحالة، فالآن بلاد الإسلام تعج بالشرك الأكبر، تُبنى فيها المشاهد، والمزارات الشركية، ويُنفق عليها الأموال، ودول الكفر تساعد على ذلك، والمسلمون ساكتون على هذا الوضع، وهذا خطر عظيم أصاب الأمة، وما أصيبت به من حروب ومجاعات وأمور تعرفونها إنما هو نتيجة لهذا الإهمال- والعياذ بالله-، فهذا واجب عظيم.
قال رحمه الله تعالى: "وقول الله تعالى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ(108)} هذه الآية في آخر سورة يوسف، يأمر الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يُعلن للناس عن بيان منهجه ومنهج أتباعه، وهو الدعوة إلى الله على بصيرة، فدل على أن من لم يدع على بصيرة فإنه لم يحقق اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان عالماً وفقيهاً.
قوله تعالى: {قُلْ} أي: قل يا محمد للناس.
{هَذِهِ سَبِيلِي} السبيل معناها: الطريق التي أسير عليها.
{أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} إلى توحيد الله عزّ وجلّ وإفراده بالعبادة، وترك عبادة ما سواه، وكذلك الدعوة إلى بقيّة شرائع الدين، فتكون الدعوة للكفار للدخول في الإسلام، وتكون الدعوة للعصاة من المسلمين للتوبة إلى الله عزّ وجلّ وأداء الواجبات والتحذير من الوقوع في الشرك، واجتناب المحرمات، فالدعوة ليست مقصورة على دعوة الكفار، بل حتى المسلمون الذين هم بحاجة إلى الدعوة لوقوعهم في المعاصي والمخالفات يحتاجون إلى(13/179)
دعوة، دعوة إلى التوبة، وأداء الواجبات، وترك المحرمات، والمخافة من الله عزّ وجلّ، فالدعوة عامة. والدعوة إلى معرفة التّوحيد ومعرفة ضده.
{أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} قال الشيخ رحمه الله: "فيه التنبيه على الإخلاص، فإن بعض الناس إنما يدعو إلى نفسه" فقد يكون الإنسان يدعو، ويحاضر ويخطب، لكن قصده من ذلك أنه يتبيّن شأنه عند الناس، ويصير له مكانة، ويمدح من الناس، ويتجمهرون(13/180)
ص -102- ... عليه، ويكثرون حوله، فإذا كان هذا قصده، فهو لم يدع إلى الله، وإنما يدعو إلى نفسه والإنسان الذي يترك الدعوة فإنه ترك واجباً عظيماً، والإنسان الذي لم يُخلص في الدعوة يقع في محظور عظيم، بل لابد من الدعوة وأن تكون خالصة لوجه الله عزّ وجلّ، ويكون القصد منها إقامة شرع الله، والقصد منها هداية الناس ونفع الناس، مدحوك أو ذمُّوك، فبعض الناس، إذا لم يُمدح ويشجّع تَرَكَ الدعوة، وهذا دليل على أنه لا يدعو إلى الله، وإنما يدعو إلى نفسه، فليتنبّه المسلم ويكون رائده وقصده من دعوته هو الإخلاص لوجه الله عزّ وجلّ، ونفع الناس، وتخليصهم من الشرك، ومن البدع، ومن المخالفات، وأن يؤدي الواجب الذي عليه، والكثرة حول الشخص لا تدل على فضله، بعض الأنبياء لم يتبعه إلاَّ القليل: "النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحداً"، هل هذا يدل على عدم فضل هذا النبي؟، لا، حاشا وكلاّ، فالإنسان لا ينظر إلى كثرة الحاضرين، "لأن يهدي الله بك وجلاً واحداً خير لك من حُمُر النعم".
اجتمع الناس على باب ابن مسعود رضي الله عنه وهو يريد الخروج إلى الصلاة فلما خرج ومشوا خلفه، التفت إليهم وقال: "ارجعوا، فإنه فتنة للمتبوع، ذِلّة للتابع".
{أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} البصيرة معناها: العلم، بل هي أعلى درجات العلم.
وفي هذا دليل على أنه يُشترط في الداعية أن يكون على بصيرة، أي: على علم بما يدعو إليه، أما الجاهل فلا يصلح للدعوة، بل لابد أن يتزوّد بالعلم قبل أن يَشْرَع في الدعوة، لأنه في دعوته يتعرض إلى شبهات ومناظرات، فمن أين يجيب إذا وقف في وجه معاند أو معارض أو مشبِّه، كيف يستطيع الخلاص. إنه يفشل، ويصير نَكْسَة على الدعوة، أو يجيب بجهل ويكون الأمر أخطر، إما أن يسكت عن الجواب وينتصر عليه الخصم، وإما أن يجيب بجهل فيكون الأمر أخطر. هذا من ناحية. والناحية الثانية: أن الداعية يحتاج إلى معرفة(13/181)
الحلال والحرام، فقد يقول بجهله هذا الشيء حرام وهو حلال، وقد يقول بجهله: هذا الشيء حلال وهو حرام، فالداعية يجب أن يكون على علم بما يدعو إليه، بحيث أنه يعرف الحلال والحرام، ويعرف(13/182)
ص -103- ... الواجب والمستحب والمحرّم والمكروه والمباح، ويعرف كيف يجيب على الاعتراضات والشبه والمجادلات، كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، كيف يستطيع أن يجادل بالتي هي أحسن وهو ليس عنده علم؟!، فيُشترط في الداعية: أن يتأهل بالعلم، فإن بعض الدعاة اليوم ليس عندهم علم، وإنما يجيد الكلام والشَّقْشَقَة والخطابة، لكن ليس عنده علم، بحيث لو عرضت له أدنى شُبهة، أو سئل عن أدنى مسألة في الحرام والحلال تخبّط فيها.
{أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} أي: وأتباعي يدعون إلى الله على بصيرة، فدلّ على أن من لم يدع إلى الله لم يحقق إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وأن من دعا إلى الله على جهل لم يحقق إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إنه أدخل نفسه فيما ليس من شأنه، وصار خطراً على الدعوة، وعلى الدعاة.
ثم قال: {وَسُبْحَنَ اللَّهِ} سبحان: اسم مصدر من سبّح بمعنى: نَزَّه الله عما لا يليق به من الشرك والقول عليه سبحانه وتعالى بلا علم، فإن الله يُنَزَّه عن الشرك ويُنَزَّه عن القول عليه بلا علم، فهذا فيه وجوب تنزيه الله سبحانه وتعالى عن النقائص، وأعظمها الشرك.
{وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} هذه براءة من الرسول صلى الله عليه وسلم من المشركين، كما تبرّأ منهم خليل الله إبراهيم- عليه الصلاة والسلام-: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، ففيه البراءة من المشركين، يعني: قطع المحبة والمودّة والمناصرة بينك وبين المشركين، لأنهم أعداء الله وأعداء رسوله، فلا يجوز لك أن تَوَدَّهم بقلبك أو تناصرهم أو تدافع عنهم: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ(13/183)
وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}، {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ(13/184)
ص -104- ... آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }.
ففي هذا دليل على أنه يجب البراءة من المشركين، وأن من أصول الدعوة إلى الله: البراءة من المشركين، أما الداعية الذي لا يتبرأ من المشركين، فهذا ليس بداعية، وليس على طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وإن زعم أنه يدعو إلى الله، والكفر بالطاغوت مقدم على الإيمان بالله، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}، فلابد من البراءة من المشركين، أما الذين يقولون: "ما علينا من عقائد الناس، من دخل في جماعتنا وصار معنا فهو أخونا، وعقيدته له" هذه ليست دعوة إلى الله عزّ وجلّ، وإنما هي دعوة إلى الحزبية والعصبية.
ففي هده الآية الكريمة مسائل عظيمة:
المسألة الأولى: أن طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وطريقة أتباعه على الحقيقة: الدّعوة إلى الله.
المسألة الثانية: أن من لم يدع إلى الله وهو يستطيع الدعوة إلى الله، فإنه لم يحقق إتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم بل إتباعه فيه نقص عظيم.
المسألة الثالثة: وهي المسألة التي نبّه عليها الشيخ في مسائله: التنبيه على الإخلاص في الدعوة لقوله: {إِلى اللَّهِ} فإن بعض الناس إنما يدعو إلى نفسه، فالذي يقصد المدح والثناء وكثرة الأتباع وكثرة الجماعة وكذا وكذا والفَخْفَخَة، هذا لا يدعو إلى الله.
المسألة الرابعة: -وهي المسألة العظيمة-: أن الداعية إلى الله لابد أن يكون على بصيرة، مؤهّلاً بالعلم النافع الذي يستطيع به أن يدعوَ إلى الله، وأن يجادله المُغرضين والمعارضين، ويَدْحضَ حججهم بلسانه وبقلمه، الدعوة إلى الله تكون باللسان وتكون بالقلم أيضاً، وتكون بالسيف والجهاد، فيُشترط في الداعية شرط أساسي، بل أصلي،(13/185)
بأن يكون على علم، وأما الجاهل فلا يصلح للدعوة، وإن كان عنده عبادة، وعنده. ورع، وعنده تُقى، وعنده غيرة على الدين، وعنده محبة للدين، هذا شيء طيّب، وصفات طيّبة، لكن نقول له: يا أخ الدعوة لا يدخل فيها إلاَّ من(13/186)
ص -105- ... كان على علم، أما مجرّد الخوف والخشية والعبادة والورع والغيرة والصلاح، فهذا شيء طيّب، لكن أنت لا تصلح للدعوة لأنك لست على علم، والله تعالى يقول: {عَلَى بَصِيرَةٍ}.
ويقول: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ}، والحكمة هي العلم، فأنت لا تصلح للدعوة، تعلّم أولاً، فإذا تعلّمت تعال للدعوة، فالدعوة ليست بالمسألة الهيّنة، ولذلك عندما حصل هذا الإهمال في الدعوة حصل ما ترون الآن من التفكك والتخاذل لأن الدعوة دخل فيها ما هب ودب، من الجهال والمُغرضين وأصحاب المطامع، ولا تنجح دعوة لم يتوفر فيها الشروط الإلهية التي اشترطها الله تعالى، ولا يبقى إلاَّ الأصلح دائماً وأبداً، ولو كثرت الجماعات الدعوية، ما دامت أنها ليست على الشروط التي اشترطها الله، والمنهج الذي رسمه الله ورسوله، فإنها لا تنجح مهما بلغت من الكثرة والقوة، وستتلاشى وتصاب بالنَكْسَة والفشل، أما إذا كانت مؤسَّسة على العلم وعلى الإخلاص والنصيحة، فهذه هي التي تنجح بإذن الله ولو كانت من فرد واحد.
المسألة الخامسة: أن الشرك نقص عظيم يجب تنزيه الله عنه، لأن الله عزّ وجلّ كامل، له الكمال المطلق فمن أشرك به فقد تنقصه ومن نفى صفات الله عزّ وجلّ أو أوّلها فقد تنقص الله عزّ وجلّ، فالمؤوّلة والمشبهة الذين يشبهون الله بخلقه، أو يؤوِّلون صفات الله، أو يُلحدون في أسمائه، هؤلاء تنقّصوا الله عزّ وجلّ، وهذا نقص ينزّه الله جل وعلا عنه، ومن وصفه بما لا يليق به أو سماه بغير ما سمى به نفسه فقد تنقصه، ومن حكم بغير ما أنزل فقد تنقصه، ومن عصى أمره أو ارتكب نهيه فقد تنقصه سبحانه.
المسألة السادسة:- وهي مهمة جدًّا-: البراءة من المشركين، فالذي يدعو إلى الله -بل وكل مسلم- لكن الذي يدعو إلى الله من باب أولى، لأنه قدوة، يجب عليه أن يتبرّأ من المشركين، لأنهم أعداء الله، وأعداء رسوله، وأعداء المؤمنين، {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ(13/187)
أَوْلِيَاءَ}، فمن لم يتبرأ من المشركين فإنه لم يحقق الدعوة إلى الله عزّ وجلّ، حتى وإن انتسب إليها، وهذه مسألة عظيمة.(13/188)
ص -106- ... وعن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله لما بعث معاذاً إلى اليمن، قال له: " إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلاَّ الله".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "بعث معاذاً" البعث معناه: ا لإرسال.
"إلى اليمن" القُطر المعروف، جنوب الجزيرة، سُمِّيَ باليمن لأنه يقع أيمن الكعبة، والشام سُمِّيَ بالشام لأنه يقع شاميَّ الكعبة.
وكان بعث معاذ في السنة العاشرة، وقيل: في آخر السنة التاسعة قبل وفاته صلى الله عليه وسلم. أرسل قاضياً ومعلّماً وداعياً إلى الله عزّ وجلّ، ينوب عن الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المهمات.
فهذا أولاً: فيه مشروعية إرسال الدعاة إلى الله عزّ وجلّ، وأنه سنة نبوية.
وثانياً: فيه فضيلة لمعاذ رضي الله عنه، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم اختاره لهذه المهمة العظيمة، مما يدل على فضله وعلمه، لأن الرسول لا يرسل إلاَّ من توفّرت فيه الشروط المطلوبة، وقد توفّرت في معاذ رضي الله عنه، وكان أعلم الناس بالحلال والحرام.
وفيه- أيضاً- العمل بخبر الواحد، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل معاذاً وحده.
وهذا يدل على أنه يعتمد خبر الواحد ولا يشترط التواتر- كما يقوله بعض الضُّلاّل-، يقولون: أمور العقائد لا يقبل فيها خبر الواحد. والرسول صلى الله عليه وسلم اكتفى بخبر الواحد، فأرسل معاذاً إلى اليمن يدعو إلى الله ويعلم التّوحيد، وهكذا، ما كان الرسول يُرسل رسله جماعات وإنما كان يرسلهم أفراداً، كما بعث عليًّا، وبعث معاذاً، وبعث أبا عبيدة بن الجرّاح، وهذا يدل على قبول خبر الواحد في أصول الدين وفروعه، وأما ما قاله علماء الكلام فهو باطل.
"قال له: "إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب" هذا فيه وصية الإمام لمندوبه حينما يرسله، أنه يخط له المنهج، ويرسم له الطريق الذي يسير عليه، وهذه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في بعوثه، أنه إذا أرسل(13/189)
جيشاً أو سَرِيَّة يوصيهم.
"أهل الكتاب" أهل الكتاب المراد بهم: اليهود والنصارى، سُمُّوا أهل الكتاب لأن الله أنزل عليهم التوراة والإنجيل، التوراة على موسى عليه السلام والإنجيل على عيسى - عليهما الصلاة والسلام-، فسُمَّيَ أتباع الرسولين بأهل الكتاب، فرقاً بينهم وبين الوثنيين، الذين ليس لهم كتاب، ولا يؤمنون بالرسل.(13/190)
ص -107- ... وقصْد النبي صلى الله عليه وسلم من هذا أن يتأهّب معاذ لمن سيقدَم عليهم، وأنهم أهل كتاب يحتاجون إلى استعداد علمي للمجادلة والمناظرة.
وفي هذا أنه يجب على الداعية معرفة حالة المدعوين، وهذا من منهج الدعوة: أن الداعية ينظر في حالة المدعوين، ويخاطب كلاً منهم بحسب ما يليق به، فإن كان يخاطب علماء فإنه يخاطبهم بما يليق بهم، وإن كان يخاطب عواماً يخاطبهم بما يليق بهم، الناس ليسوا على حد سواء، فلا يليق بالداعية أنه يخاطب العلماء بخطاب الجهال، ولا يليق به أنه يخاطب الجهال بخطاب العلماء، ولا يليق بالداعية أنه يخاطب السلاطين بخطاب عامة الناس، أو يخاطب عامة الناس بخطاب السلاطين، كل يخاطبه بما يرى أنه أقرب إلى قبوله للحق، قال الله تعالى لرسوليْه موسى وهارون عليه السلام لما أرسلهما إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}.
قوله: "فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلاَّ الله" هذا فيه التدرّج في الدعوة، وأنه يبدأ بالأهم فالأهم، وهذه طريقة الرسل، أنهم أول ما يبدءون بالدعوة إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله، لأنها الأصل والأساس، الذي يُبنى عليه الدين، فإذا تحققت شهادة أن لا إله إلاَّ الله، فإنه يمكن البناء عليها بالأمور الأخرى، أما إذا لم تحقق شهادة أن لا إله إلاَّ الله، فلا فائدة من بقية الأمور، فلا تأمر الناس بالصلاة وعندهم شرك، ولا تأمرهم بالصيام والصدقة والزكاة وصلة الأرحام وكذا وكذا وهم يشركون بالته، لأنك لم تضع الأساس أولاً، وهذا بخلاف كثير من دعاة اليوم الذين لا يهتمون بشهادة أن لا إله إلاَّ الله، وإنما يدعون الناس إلى ترك الربا، والى المعاملات الحسنة، وإلى الحكم بما أنزل الله، وإلى، وإلى، لكن التّوحيد لا يذكرونه، ولا يلتفتون له، وكأنه ليس مفروضاً، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله، فهؤلاء مهما أتعبوا أنفسهم فإن عملهم لا ينفع، حتى يحققوا(13/191)
الأصل في الأساس الذي تُبنى عليه أمور الدين، من: حاكمية، ومن صلاة، ومن زكاة، ومن حج، إلى آخره، هذا منهج الأنبياء: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، وكذلك ذكر الله عن نوح عليه السلام أنه قال أول ما قال لقومه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا(13/192)
ص -108- ... "وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله".
فإن هم أطاعوك لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}،{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ}، فكل رسول أول ما يبدأ بالدعوة يبدأ بشهادة أن لا إله إلاَّ الله، فيدعو إلى التّوحيد، وإلى تصحيح العقيدة، ثم بعد ذلك يأمرهم ببقية أوامر الدين، أما إنه يبدأ بالعكس، يبدأ بالأمور الجزئية والأمور الفرعية، ويترك الأصل، فهذا العمل لا ينفع، فلو فرضنا أن المجتمع صار بعيداً عن الربا، ويحافظ على الصلاة، وتمتلئ المساجد، وكل الأعمال تُعمل، لكن ليس هناك إخلاص في التّوحيد فهم يدعون غير الله، يدعون الأولياء والصالحين والأنبياء والقبور، فلا فائدة في أعمالهم، وهؤلاء ليسوا مسلمين، مهما صلوا وصاموا.
"وفي رواية: "إلى أن يوحدوا الله" لماذا جاء الشيخ بهذه الرواية؟، لأنها تفسِّر شهادة أن لا إله إلاَّ الله، بأن معناها: توحيد الله سبحانه وتعالى وإفراده بالعبادة، ليس المقصود منها اللفظ فقط، بأن يقول أشهد أن لا إله إلاَّ الله، بل لابد أن يوحّد الله في العبادة، أما إذا نطق بها بلسانه ولم يوحّد الله في العبادة، فلا تنفعه شهادة أن لا إله إلاَّ الله.
وفي هذا دليل على عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه مبعوث إلى العالم كله، بما فيهم أهل الكتاب، كما كتب صلى الله عليه وسلم لهِرَقْل عظيم الروم، وكما(13/193)
كتب للمُقَوْقِس ملك مصر، وكما كتب لكِسْرى ملك الفُرس، وكما كتب لملوك الأرض، لأن الله أرسله إلى الناس عامة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً}.
وقوله: "فإن هم أطاعوك لذلك" يعني: شهدوا أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمداً رسول الله وعملوا بمقتضاهما.
"فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل بوم وليلة" هذا الركن(13/194)
ص -109- ... فإن هم أطاعوك لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم.
فإن هم أطاعوك لذلك؛ فإياك وكرائم أموالهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الثاني: لما حقق الركن الأول والأساس، انتقل إلى الركن الثاني وهو الصلاة، وهذا يدل على أهمية الصلاة، وأنها تأتي بعد التّوحيد مباشرة.
فمن لم يصل فإنه ليس بمسلم، وإن كان يشهد أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمداً رسول الله. كما دلت على ذلك الأدلة مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "بين العبد وبين الكفر والشرك ترك الصلاة" وغيره من الأدلة.
وقوله: "فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم" هذه هي الزكاة، وهي قرينة الصلاة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي الركن الثالث من أركان الإسلام.
"تُؤخذ من أغنيائهم" في هذا دليل على أن الزكاة لا تجب على الفقير، وإنما تجب على الغني وهو من يملك النِّصاب فأكثر.
"فتردُّ في فقرائهم" هذا فيه مصرف من مصارف الزكاة، فالفقراء صنف واحد من الأصناف الثمانية المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} إلى آخر الآية.
واستدل العلماء -رحمهم الله- بهذا على أن الزكاة لا تحل لغني، وأن مصرف الزكاة يجوز الاقتصار فيه على صنف واحد من الأصناف الثمانية، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هنا اقتصر على الفقراء، ويدخل فيهم المساكين.
واستدلوا به- أيضاً- على أن مصرف الزكاة في البلد الذي فيه المال، لا ينبغي نقلها إلى بلد آخر، إلاَّ إذا كان البلد الذي فيه المال ليس فيه فقراء، فإنها تنقل إلى أقرب بلد فيه فقراء من بلدان المسلمين.
"فإن هم أطاعوك لذلك، فإياك وكرائم أموالهم" الكرائم جمع كريمة وهي: النفيسة من المال، يعني: لا تأخذ في الزكاة أحسن الأموال، لأن هذا فيه إجحاف بهم، كما أنك لا تأخذ أردأ المال، لأن هذا(13/195)
فيه ظلم للفقراء، ولكن خذ المتوسط، بين النفيس وبين الرديء، هذا هو العدل، إن أخذت النفيس(13/196)
ص -110- ... واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب" أخرجاه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ظلمت أصحاب الأموال، وإن أخذت الرديء ظلمت الفقراء، إذا أخذت الوسط اعتدلت.
"وإياك وكرائم" تخدير من الرسول صلى الله عليه وسلم وفيه وجب العدل على الولاة، وعدم الظلم.
"واتق دعوة المظلوم" هذه وصيّة هامة، يجب على الراعي والأمير وكل مسلم أن يحذر من دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب، أي دعوة المظلوم مستجابة، حتى ولو كان كافراً: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} فالمظلوم ترفع دعوته إلى الله عزّ وجلّ، والله جل وعلا يجيب دعوة المظلوم.
وهنا سؤال أورده العلماء على هذا الحديث، يقولون: الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر ثلاثة أركان، الشهادتان والصلاة والزكاة، ولم يذكر الصيام، ولم يذكر الحج، فما الجواب عن هذا؟
فيه أجوبة كثيرة، لكن أصحها والذي اختاره الشيخ تقي الدين رحمه الله: أن الرسول صلى الله عليه وسلم اقتصر على الأركان العظيمة الأساسية التي يقاتَل من تركها، وهي: الشهادتان والصلاة والزكاة، قال الله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا} يعني: شهدوا أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمداً رسول الله {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}.
فالرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ذكر الأركان التي يُقاتل عليها، وهي: الشهادتان والصلاة والزكاة. هذا من ناحية.
والناحية الثانية: أن هذه أركان ظاهرة، يراها الناس ويسمعونها، أما الصيام فهو أمر خفي بين العبد وبين ربه، والحج لا يجب على كل أحد، وإنما يجب على من استطاع إليه سبيلاً، وأيضاً إنما يجب مرة في العمر، بخلاف(13/197)
الشهادتين، فإن الإنسان يلازمها طول الحياة، ولا يتخلى عنها، والصلاة تتكرر في اليوم والليلة خمس مرّات، والزكاة كل عام، أما الحج فإنه يجب مرة واحدة في العمر، ولا يجب(13/198)
ص -111- ... ولهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خَيْبَر:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إلاَّ على المستطيع، وأما الصيام فلأنه أمر خفي، وأيضاً من حافظ على الشهادتين، وأقام الصلاة وآتى الزكاة فإنه سيحافظ على الصيام ويحافظ على الحج من باب أولى.
ما يستفاد من الحديث:
دل هذا الحديث على مسائل كثيرة:
أوّلاً: فيه إرسال الدعاة إلى الله عزّ وجلّ.
ثانياً: فيه فضيلة لمعاذ بن جبل رضي الله عنه.
ثالثاً: فيه قبول خبر الواحد في العقائد وغيرها.
رابعاً: فيه بيان منهج الدعوة، وهذا أصل عظيم، وهو أنه يتدرج فيها، ويبدأ بالأهم فالأهم.
خامساً: في الحديث دليل على عظم رسالته صلى الله عليه وسلم وأنه مبعوث إلى جميع العالم اليهود والنصارى وغيرهم، وإذا كان مبعوثاً إلى اليهود والنصارى وهم أهل كتاب، فغيرهم من باب أولى.
سادساً: فيه المسألة التي أشار إليها الشيخ، وهي أن من العلماء من يجهل معنى لا إله إلاَّ الله، لأن أهل الكتاب يدعون إليها وهم أهل كتاب وأهل علم.
سابعاً: في الحديث دليل على أنه لا يجوز أخذ الكرايم في الزكاة، وإنما يُؤخذ المتوسط.
ثامناً: فيه دليل على التحذير من دعوة المظلوم، وأنه ليس بينها وبين الله حجاب.
قال الشيخ رحمه الله: "ولهما" يعني: البخاري ومسلم.
عن سهل بن سعد رضي الله عنه راوي الحديث هو سهل بن سعد الساعدي الأنصاري الخزرجي- رضي الله تعالى عنه، هو وأبوه صحابيان.
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خبير" خَيْبَر: حصن لليهود شمالي الحجاز، وكان به مزارع ونخيل، ولا يزال يحمل هذا الاسم إلى الآن، كانت بلاداً زراعيّة، وبلاد(13/199)
ص -112- ... تخيل وإنتاج للتمور، ويُضرب المثل فيقال: كجالب التمر إلى خَيْبَر، أو كجالب التمر إلى هجر، يعني: أن الذي يأتي بشيء إلى بلد هي تُنْتِج ذلك الشيء يصبح كجالب التمر إلى خَيْبَر، ولهذا يقول حسان رضي الله عنه.
إنا ومن يُهدي القصائد نحونا ... كمُسْتَبْضِع تمراً إلى أهل خَيْبرَا
وكانت خيبر بلاداً يَقْظُنُها اليهود، وجلا إليها اليهود من المدينة، لما أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بنو النضير الذين غدروا بالعهد فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اصطلحوا مع النبي صلى الله عليه وسلم على أن يتركوا له ما معهم من السلاح والقوة، ويجلوا إلى خَيْبَر وإلى أَذْرِعات بأرض الشام، كما ذكر الله ذلك في أول سورة الحشر: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} إلى آخر الآيات، فهؤلاء هم بنوا النضير من اليهود، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزاهم في السنة السابعة من الهجرة، بعد صُلح الحُدَيْبِيَة، وقبل فتح مكة، ومكّنه الله منهم، وفتح خَيْبَر، وحصل المسلمون منها على خيرات كثيرة، ثم إنهم تعاقدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم على أن يبقوا فيها عمّالاً للمسلمين، يزرعونها بأجرة، فأقرّهم النبي صلى الله عليه وسلم وبقوا فيها إلى أن أجلاهم عمر بن الخطاب- رضي الله تعالى عنه- بعد ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرهم فيها إقراراً دائماً، وإنما قال: "نُقِرُّكُم فيها ما شئنا"، حاصرها رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد الأمر بالمسلمين في الحصار من قلّة ذات اليد، ومن طول الحصار فبشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه البشارة من أجل أن يَذهب عنهم ما يجدون من المشقّة وطول الانتظار.
قال الشيخ رحمه الله: "في هذا ما يجري على أولياء الله(13/200)
من الجوع، ومن الوباء" يعني: ما جرى عليهم في هذا الحصار من المشقّة، مع أنهم أولياء الله، وفيهم رسوله صلى الله عليه وسلم ومع هذا نالهم مشقّة وجوع في هذا الحصار، وفي هذا دليل على أن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، وأن الجوع والفقر ليسا دليلاً على بغض الله لمن يصيبه ذلك، فإن هذا قد يصيب أفضل الخلق.(13/201)
ص -113- ... "لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله؛ يفتح الله على يديه" فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال "لأعطين الراية"، الراية هي: العَلَمِ الذي يحمله الجُند، من أجل أن يهتدوا به، ويَلْتَفُّوا حوله في القتال، وحمل العَلَم في الغزو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وكان له رايات، وكان مكتوباً في رايته صلى الله عليه وسلم: لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله.
"رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله"، هذه مِيزة عظيمة لهذا الرجل الذي يُعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية، ففيه فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم شهد له بهذه الشهادة العظيمة أنه يحب الله ورسوله، وأنه يحبه الله ورسوله، وله فضائل كثيرة، وان كان الله جل وعلا يحب المؤمنين كلهم، والمؤمنون يحبون الله، كما قال الله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}.
فالحاصل؛ أن مِيزة محبة الله ورسوله للمؤمنين موجودة في كل مؤمن ومؤمنة عموماً، ولكن شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب بخصوصه فيها مزية له. ففي هذا ردٌّ على الخوارج ، الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وكفّروه،كما أن فيها ردّاً على النواصب الذين يُبغضون علياً، ويسبُّونه، وفيها إثبات فضيلة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ابن عم الرسول، ورابع الخلفاء الراشدين، وفي هذا-أيضاً- إثبات صفة لله سبحانه وتعالى، وأنه يحب عباده المؤمنين، فالله يحب عباده المؤمنين، ويحب أولياءه، ففيه إثبات المحبة لله عزّ وجلّ، ردًّا على من ينفي هذه الصفة من الأشاعرة وغيرهم.
"يفتح الله على يديه" هذه المِيزة الثانية لعلي بن أبي طالب أن الله جل وعلا يفتح هذا البلد المستعصي على يد هذا الولي من أوليائه.
وفيه: علامة من علامات النبوّة، حيث(13/202)
إن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عما يحصل في المستقبل، وقد حصل كما أخبر به صلى الله عليه وسلم.
فالناس لما سمعوا هذه البشارة العظيمة، وسمعوا وصف هذا الرجل الذي يتولى ذلك، من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم اهتموا بهذا الأمر لمحبتهم للخير، وباتوا ليلتهم "يَدُوكُون"؛ يبحثون عنه، مثل ما مَرّ معنا في السبعين الألف الذين أخبر عنهم رسول الله: "ثم نهض ودخل منزله، فخاض الناس في أولئك"، وهذا دليل على أن(13/203)
ص -114- ... فلما أصبحوا غدو على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يُعْطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب؟".
فقيل: هو يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه، فأُتي به، فبصق في عينيه، ودعا له؛ فبرأ كأن لم يكن به وجع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصحابة يهتمون بالفضائل، ويهتمون بأمور الآخرة، أكثر مما يهتم أهل الدنيا بدنياهم، وأنهم يتنافسون في الخيرات.
حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "ما تمنيت الإمارة إلاَّ هذه الليلة"،"تمنى أن يكون هو ذلك الأمير الذي يقود الجيش، ويفتح هذا البلد، حتى ينال هذه الميزة: "يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله".
وقوله: "فلما أصبحوا غدوا على رسول الله" يعني: ذهبوا إليه مبكِّرين، من الغَدْوة، يقال: غدا إذا ذهب في الغُدُو وهو الصباح، ويقال راح إذا ذهب في المساء، وقت الرّواح، فالغُدُوُّ: الذهاب في أول النهار، والرواح: الذهاب في آخر النهار.
"كلهم يرجو أن يُعطاها" أي: كلٌ يرجو أن يكون هو ذلك الرجل، لرغبتهم في الجهاد في سبيل الله، وإعلاء كلمة الله، والحصول على هذه البَشارة العظيمة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أين علي بن أبي طالب؟" قال الشيخ رحمه الله: في هذا دليل على: "الإيمان بالقدر، لحصولها لمن لم يسع لها، ومنعها عمن سعى"، وأن الإنسان وإن فعل السبب فإنه قد لا يحصل على المطلوب، لكنا مأمورون بفعل الأسباب، أما النتائج فأمرها إلى الله سبحانه وتعالى، لكن يُؤجرون على مسعاهم، وعلى نيتهم الطيّبة، وعلى رغبتهم في الخير، وعلى خطواتهم ومشيهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال الشيخ- أيضاً-: "فيه تَفَقُّد الإمام أو القائد لجنده" يعني: من حضر ومن تخلف.
"قال: أين علي؟" هذا تَفَقُّد للجند، ما سكت وترك الذي لم يحضر، بل تَفَقُّده، فالإمام والقائد يَتَفَقَّد جنوده، يَتَفَقَّد رعيّته، ولا يسمح لأحد أن يتخلف من غير عذر.
"قيل: هو يشتكي عينيه" أي(13/204)
أصابه رمد، وهو مرض من أمراض العيون(13/205)
ص -115- ... فأعطاه الراية فقال: "انفذ على رِسْلِك حتى تنزل بساحتهم".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المعروفة عند الأطباء. ويُروى أنه أصابه في المدينة، وأنه لم يخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم بسبب المرض، ولكن بعدما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه من المدينة، ضاقت عليه نفسه، وقال: كيف أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟، فخرج وهو مريض، ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم وما طابت نفسه أن يبقى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهكذا كان صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ}.
"فأرسلوا إليه" أرسل إليه من يأتي به.
"فأتي به، فبصق في عينيه" يعني: تفل من ريقه الطيب الطاهر في عيني علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
"ودعا له" بالشفاء.
"فبرأ كأن لم يكن به وجع" وهذا- أيضاً- كن معجزاته صلى الله عليه وسلم، حتى قال علي "لم يصبني رمد بعد ذلك" يعني: استمر هذا الشفاء طول حياته رضي الله عنه؛ ببركة ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا شك أن التبرك بريق النبي صلى الله عليه وسلم وبعَرَقِه وبوضوئه أمر مشروع، وهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، أما غيره فلا يُتبرك بشيء منه، لا يتبرك بشيء من الصالحين والأولياء، لأن هذا خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأفضل الأمة بعد نبيِّها هو أبو بكر رضي الله عنه، ومع ذلك لم يُتبرك بريقه ولا بعرقه رضي الله عنه، ما فعله الصحابة معه لعلمهم أن هذا لا يجوز إلاَّ في حق النبي صلى الله عليه وسلم،(13/206)
وفيما انفصل من جسده صلى الله عليه وسلم، أما أن يُتبرّك بحجرته أو بقبره، فهذا لا يجوز، لأن هذا ليس منفصلاً عن جسد النبي صلى الله عليه وسلم، وسوف يأتينا باب خاص بمن تبرّك بشجرة أو حجر أو نحوها.
وقوله: "فأعطاه الراية" دفعها إليه.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم أرشده وأوصاه على عادته صلى الله عليه وسلم مع قُوّاده وأمرائه إنه كان يوصي القُوّاد والأمراء حينما يبعثهم.(13/207)
ص -116- ... ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فهذا فيه دليل على أن وليّ الأمر يوصي قُوَّاده ويخط لهم الخِطط النافعة التي يسيرون عليها في مهمّتهم، ولا يتركهم لأنفسهم يذهبون بدون وصية، وبدون إرشاد، وبدون وضع خطة يسيرون عليها.
وقال: "انفذ على رِسْلِك" "انفذ" يعني: أمض "على رِسْلِك" يعني: على هيّنتك، لا تُسرع في المشي، ولا يكون هناك أصوات أو صخب، بل يكون هناك هدوء تام، وسير بالرفق.
فهذا فيه دليل على مشروعية الهدوء في الجهاد، وترك العجلة ورفع الأصوات، لأن ذلك يدل على الثبات والشجاعة، ويدل على التدبر في الأمر، وعدم العجلة والتسرع، بخلاف الطيش والركض ورفع الأصوات، فإن هذا يدل على الجبن، ويدل على عدم الثبات.
"حتى تنزل بساحتهم" الساحة يُراد بها: ما قَرُب من المكان، أي: حتى تنزل قريباً من الحصن، وهذا فيه أن المجاهدين ينزلون قريباً من البلاد المحاصرة، ويقربون منها.
وقوله: "ثم ادعهم إلى الإسلام" هذا محل الشاهد من الحديث للباب، "باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله". حيث قال: "ادعهم إلى الإسلام" فهذا فيه دليل على وجوب الدعوة إلى الإسلام، وأن العدو يُدعى قبل أن يُقاتل، ولا يُبدأ بالقتال قبل الدعوة.
والإسلام هو: الاستسلام لله بالتّوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك وأهله، هذا هو الإسلام، انقياد مع خضوع وتعبد لله تعالى، من لم يستسلم لله كان مستكبراً، ومن استسلم لله ولغيره كان مشركاً، ومن استسلم لله وحده كان موحّداً مسلماً.
"وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه " يعني. اشرح لهم معنى الإسلام، وبينّه لهم، وما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه من الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وغير ذلك من أركان الإسلام، فلا يكفي الدعاء إلى الإسلام(13/208)
ص -117- ... مجملاً، كما يُثَرْثِرُ به بعض الدعاة اليوم ممن يقومون بالدعوة المجملة إلى الإسلام. ولو تسألهم ما هو الإسلام؟، ما استطاعوا أن يُعرِّفوه، فكيف يدعون إلى شيء وهم لا يعرفونه؟، الذي يدعو إلى الإسلام لابد أن يعرف الإسلام ما هو، ويبينه للمدعوِّين، ويشرحه لهم، وإلاَّ ما معنى "ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه".
أما الإسلام المجمل، فكل يقول: إنما هو عليه هو الإسلام؛ من الطوائف الضالة والمنحرفة والكافرة، كل يفسر الإسلام بمذهبه، وكلمة الإسلام غطاء كل يدّعيها الآن من الطوائف المنحرفة والضالة والكافرة: القاديانية، والباطنية، والقبورية، وغيرهم من الطوائف المنحرفة، كلهم يدّعون أن الإسلام هو ما هم عليه، لكن لو شُرح الإسلام بأنه التّوحيد وعبادة الله وحده لا شريك له، والبراءة من المشركين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام، وإفراد الله بجميع أنواع العبادات من الذبح والنذر والاستغاثة والاستعاذة، حينئذٍ يتبيّن الإسلام الصحيح من الإسلام المزيّف، وهذا لا يريدونه، لا يريدون أن يبين الإسلام على حقيقته لأنه يتبين بطلان ما هم عليه، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: ادعوا إلى الإسلام وبيّنوا ما هو الإسلام، كما أوصى علي بن أبي طالب بقوله: "ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه"، ولهذا لما ارتد من ارتد عن الإسلام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعزمَ أبو بكر على قتالهم، قال له الصحابة -ومنهم عمر-: يا خليفة رسول الله، كيف تقاتلهم وهم يقولون: لا إله إلاَّ الله؟، قال؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ("إلاَّ بحقها"، وإن الزكاة من حقها، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه).
فالإسلام ليس مجرّد انتساب ودعوى فقط، أو قول: لا إله إلاَّ الله بدون التزام بمعناها(13/209)
ومدلولها، حتى لو كان عِقالاً يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتبر من حق لا إله إلاَّ الله، فكيف بالذي لا يصلي وهو يقول: أنه مسلم؟، كيف بالذي يجحد وجوب الزكاة ويقول: أنا مسلم؟، كيف بالذي يجحد وجوب الصوم ويقول: أنا مسلم؟، بل أعظم من ذلك كيف بالذي يدعو غير الله وهو يقول أنا مسلم؟، يدعو القبور(13/210)
ص -118- ... فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمْر النعم".
يَدُوكُون أي: يخوضون".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والأضرحة ويذبح لها وينذر لها ويقول أنا مسلم؟. هل هذا هو الإسلام؟.
يجب أن نعرف هذا الأمر العظيم، وهذا الأصل العظيم، وهذه القاعدة العظيمة، وهذا الذي يجب أن يركِّز الدعاة عليه، إذا كانوا يريدون أن تكون دعوتهم إلى الله دعوة صحيحة، أما إذا كانت مجرد انتساب، كلٌ يدخل تحتها، ويجعل الإسلام مجرد غطاء، فهذا لا يُرضي الله عزّ وجلّ، وليس هو الإسلام، لأن كلاًّ يدعِّي أنه، على الإسلام ولو كان مشركاً.
الإسلام والإيمان ليس مجرد دعوى، أو انتساب، أو هويّة تُكتب في حفيظة النفوس، أو يُكتب أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام؛ والعمل على خلافه، يأبى الله ذلك سبحانه وتعالى: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}.
خذوا منهج الدعوة من هذا وأمثاله، لا تأخذوا، منهم الدعوة من نظام الجماعة الفلانية أو الجماعة العلاّنية، خذوا نظام الدعوة، ومنهج الدعوة من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا هو منهج الدعوة.
ثم بيّن صلى الله عليه وسلم فضيلة الدعوة إلى الله، فقال: "فوالله" أقسم صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق، والقَسَم أحياناً يُؤتى به من أجل الاهتمام بالشيء وتوكيده، ولهذا يقول الشيخ في مسائله فيه: "الحَلِف على الفتيا"، الإنسان إذا أفتى بفتوى وهو يتأكد أنها هي حكم الله عزّ وجلّ يقسم عليها، ويحلف عليها.
"لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حُمْر النَّعم" هذا ترغيب في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ. و"حُمْر النعم" الإبل الحُمْر، جمع حمراء، وهتي الناقة النفيسة، لأن الإبل الحُمْر أنفس أموال العرب.
فكيف إذا اهتدى على يديك جماعة؟، أو اهتدى على يدك أمة، أو اهتدى على يدك أجيال تأتي من بعدك؟
هذا فيه: فضل الدعوة إلى الله.(13/211)
انظروا ماذا حقق الله من الخير بسبب دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ومن اهتدى بسببه من الأجيال التي لا تزال إلى الآن والحمد لله، ومن بركات دعوة(13/212)
ص -119- ... شيخ الإسلام ابن تيمية: دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، لأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب تتلمذ على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية في أمور العقيدة، فقام بهذه الدعوة المباركة.
إذاً ماذا يحصل للداعية الأول من الأجر؟ كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً"، فكيف بالأجر الذي يحصل للرسول صلى الله عليه وسلم سيّد الدعاة، وإمام الدعاة؟، من يؤمن من الخلق إلى يوم القيامة يحصل للرسول مثل أجره، وكذلك الأئمة من بعده، الدعاة الذين جاءوا بعد الرسول، يحصل لهم من الأجور مثل أجور من تبعهم، نسأل الله الكريم من فضله.
فهذا فيه: فضل الدعوة إلى الله عزّ وجلّ، والدعوة إلى الله أن تدعو الناس إلى كتاب الله وسنة رسوله، وإخلاص العبادة لله عزّ وجلّ، والحكم بما أنزل الله، هذه هي الدعوة إلى الله عزّ وجلّ، ليست مجرد انتساب، أو مجرّد شكليّات، أو مجرّد شعارات، ولهذا كل دعوة ترتكز على المنهج الصحيح تنجح بإذن الله ولو بعد حين.
هذا شيخ الإسلام عُذِّب ومات في السجن؛ لكن نجحت دعوته فيما بعد، لماذا؟، لأنها دعوة أصيلة، ترتكز على الكتاب و، لسنّة، كما قال الله تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}.
أما دعاة الضلال- حتى ولو تَجَمْهَر حولهم مئات الألوف- فإن هذا غثاء كغثاء السيل.
فالدعوة الصحيحة يبقى خيرها وأثرها على مرِّ الأجيال، أما الدعوة غير الصحيحة، أو الدعوة المغرضة التي يُقصد منها أشياء أخرى؛ فهذه وإن تَجَمْهَر الناس حولها في وقت من الأوقات، إلاَّ أنها لا بركة فيها، ولا خير فيها، ولا تؤثر في الناس خيراً.
وهذا الحديث فيه من المسائل ما مررنا عليه، ويمكن أن نجمله فيما يلي:
أولاً: فيه مشروعية إرسال الدعاة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل علي بن أبي طالب داعياً(13/213)
إلى الله قبل الجهاد.(13/214)
ص -120- ... ثانياً: -وهي مسألة مهمة-: أن الدعوة تكون قبل القتال، ولا يجوز أن يكون القتال قبل الدعوة، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}.
ثالثاً: فيه وصية الإمام لمن يبعثه للدعوة إلى الله، وأنه يخطط له المنهج السليم، ويُرشده إلى الطريق الصحيح الذي يسير عليه، وأن المُرسل يستمد الإرشادات من قائده ومن إمامه، ولا يستبد هو بشيء، لأن هذا أضبط للأمور.
رابعاً: في الحديث دليل على إثبات صفة من صفات الله عزّ وجلّ، وهي المحبة، ردًّا على نُفاة الصفات، الذين ينفون صفات الله عزّ وجلّ.
خامساً: في الحديث دليل على معجزات من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم.
أحدها: قوله: "لأعطيّن الراية غداً"، وقد وقع هذا.
ثانياً: إخباره عن وقوع الفتح، وقد وقع.
ثالثاً: بصقه صلى الله عليه وسلم في عيني المريض فيُشفى في الحال.
هذه كلها من معجزاته صلى الله عليه وسلم وعلامات نبوته- عليه الصلاة والسلام-.
سادساً: فيه فضل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- رضي الله تعالى عنه-، ردّاً على أعدائه من الخوارج والنواصب وغيرهم ممَن يتنقّصون الصحابة، ويقلّلون من قدرهم وشأنهم، رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، ولاسيّما الخلفاء الراشدون رضي الله تعالى عنهم.
سابعاً: في الحديث دليل على حرص الصحابة على الخير، وأنهم يتنافسون في أمور الخير، لأنهم باتوا ليلتهم "يَدُوكون" يعني: يبحثون من سيحصل على هذه الميزة العظيمة، وأيضاً بادروا كلهم في الصباح، كلهم يرجوا أن يُعطاها.
ثامناً: فيه الإيمان بالقدر، وهو أن الأمر قد يحصل لمن لم يسع إليه، ولا يحصل لمن سعى إليه لكن السعي إلى الخير مأمور به وحصول النتائج من الله سبحانه.
تاسعاً:- وهي المسألة المهمة التي ساق الشيخ رحمه الله - هذا الحديث في الباب من أجلها-: وهي بيان منهج الدعوة إلى الله عزّ وجلّ، وأن الداعية يدعو إلى الإسلام ويشرحه للناس.(13/215)
ص -121- ... عاشراً: فيه بيان خطة الجهاد الشرع، حيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "اذهب على رِسْلِك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام"، هذا فيه التدرّج في الدعوة، والتهيُّء لها شيئاً فشيئاً، بدون تسرّع، وبدون جَلَبَة، وفَخْفَخَة.
حادي عشر: فيه كما ذكر الشيخ رحمه الله: دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام، مع أنهم أهل كتاب، ويزعمون أنهم مؤمنون، وأنهم على الإسلام، وبيان أن ما هم عليه ليس هو الإسلام، وإن كان ينتسبون إلى الأنبياء، فهم ليسوا على الإسلام، لماذا؟، لأن الله أوجب إتباع هذا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم على كل مخلوق على وجه الأرض، من اليهود والنصارى وغيرهم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، لأن الله نسخ الأديان السابقة بهذا الدين العظيم، وجعله هو الدين الباقي: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا} يعني: هذه الأمة، فتحول الكتاب والدين والدعوة إلى ما جاء به هذا الرسول صلى الله عليه وسلم: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}، أي: كما أنه يملك السموات والأرض فهو الذي أرسلني، والأمر له سبحانه وتعالى.
ثاني عشر: فيه فضل الدعوة إلى الله عزّ وجلّ، وأن الداعية يحصل له من الأجر مثل أجر المدعويِّن، وأيضاً يحصل له من الأجر ما هو خير وأنفس مما في الدنيا من الأموال.(13/216)
ص -122- ... [ الباب السادس:] * باب تفسير التّوحيد وشهادة أن لا إله إلاَّ الله .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مناسبة هذا الباب لما قبله ظاهرة؛ لأن الباب الذي قبله: "باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله "، وهذا الباب في تفسير هذه الكلمة، وبيان معناها، لأن الذي يدعو إلى شيء ويطلب من الناس أن يفعلوه، فلابد أن يبيّنه لهم، ويوضّحه لهم توضيحاً تامًّا، ولا يكتفي بمجرد أن يقول للناس قولوا: لا إله إلاَّ الله1 أو يقول للناس: ادخلوا في الإسلام، بل لابد أن يبين لهم معنى لا إله إلاَّ الله، وأن يبين لهم معنى الإسلام الذي يدعوهم إليه، ولابد مع ذلك أن يبَيّن لهم ما يناقض الإسلام، وما يناقض لا إله إلاَّ الله، من أنواع الرِّدّة، وأنواع الشرك، حتى تكون دعوته مُثمرة، وحتى يستفيد الناس من دعوته، أما أن يدعوَهم إلى شيء مجمل، فهذا لا يكفي.
وكثير من الذين يتسمَّون بالدعوة في هذه الأيام من الجماعات أو الأفراد، أكثرهم لا يعرفون معنى لا إله إلاَّ الله على الحقيقة، ولا يعرفون معنى الإسلام على الحقيقة، ولا يعرفون نواقض الإسلام، ونواقض الشهادتين، وإنما يَدْعُون إلى شيء مجمل، وربما أن بعضهم يفهم هذا، ولكن لا يحب أن يبين للناس هذه الأشياء لأنهم- بزعمه- يَنْفُرون منه، وهو يريد أن يجمِّع الناس، يُجمعهم على ماذا؟، على جهالة؟، يجمعهم على ضلالة؟. لابد أن تبين ما تدعو إليه، وتوضح ما تدعو إليه كما قال تعالى في حق نبيه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} والبصيرة معناها: العلم بما يدعو إليه، ومعرفة معناه، حتى يوضحه للناس، والنبي صلى الله عليه وسلم -كما سبق في آخر الباب الذي قبل هذا- لما بعث عليًّا رضي الله عنه وأعطاه الراية، قال: "ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه"، ما قال: "ادعهم إلى الإسلام" واكتفى بهذا، بل قال:(13/217)
"أخبرهم بما يجب عليهم"، إذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1وأما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للمشركين: "قولوا لا إله إلاَّ الله" وقال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاَّ الله". فلأن المشركين يعرفون معنى هذه الكلمة لأنه لما قال لهم ذلك قالوا: "أجعل الآلهة إلهاً واحداً". وكثير من الناس لا يعرفون معناها بدليل أنهم يقولونها ويدعون غير الله من الموتى وغيرهم(13/218)
ص -123- ... قبلوا أن يدخلوا في الإسلام، فبيّن لهم: معنى الإسلام، واشرحه لهم، حتى يدخلوا فيه على بصيرة.
وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلاَّ الله، فإن هم أجابوك لذلك، فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات"، إلى آخر الحديث، ولم يقف عند قوله: "ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله "، بل أمره أن يبيّن لهم بعدما ينطقون بالشهادتين، أن يبيّن لهم مقتضى هاتين الشهادتين، وأنه ليس المراد مجرد النُّطق بهما والتلفظ بهما، بل لابد من الالتزام والعمل.
من هنا عقد الشيخ رحمه الله هذا الباب، بعد "باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله"؛ ليتبين من ذلك أن من دعا إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله، فلابد أن يفسِّرها، ويفسِّر التّوحيد، حتى تكون دعوته على بصيرة، أما إن كان لا يعرف هذا، فلا يدخل فيما ليس من شأنه، حتى يتعلم هو بنفسه أولاً، أو إن كان يعرف هذا ولكن لا يريد أن يبينه للناس لغَرَض في نفسه، أو لإرضاء جماعته أو حزبه؛ فليبتعد عن هذا، ولا يكون محسوباً على الدعوة، وهو لا يقوم بواجبها، لأن هذا يصبح سُبَّةً على الدعوة، ونَكْسَة على الدعوة.
فهؤلاء الذين شغلونا بهموم الدعوة -كما يقولون-، هم لا يفهمون معنى الدعوة، ولا يفهمون ما يُطلب من الداعية، فالواجب أن يكون الدعاة على بصيرة، حتى تُجدي دعوتهم، وحتى تنفع، وحتى يكتب لهم الأجر عند الله سبحانه وتعالى.
وقول الشيخ: "تفسير التّوحيد، وشهادة أن لا إله إلاَّ الله " هذا من عطف الدال على المدلول، المدلول هو التّوحيد، وشهادة أن لا إله إلاَّ الله هو الدال، لأن شهادة أن لا إله إلاَّ الله تدل على التّوحيد، فهو من عطف الدال على المدلول، والشيخ رحمه الله جمع بينهما في الترجمة ليبين أن معناهما واحد، فمعنى التّوحيد هو لا إله إلاَّ الله، ومعنى لا إله إلاَّ الله هو التّوحيد، من أجل أن لا يخفى(13/219)
هذا على أحد، فيظن أن التّوحيد غير لا إله إلاَّ الله، بل هما شيء واحد، فهذا معنى جمع الشيخ رحمه الله، بين اللفظتين في الترجمة.
وقد ذكر الشيخ في هذا الباب أربع آيات، وذكر حديثاً واحداً.(13/220)
ص -124- ... وقول الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} الآية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الآية الأولى: قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}"، تتمة الآية: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} قال جمهور المفسرين: إن هذه الآية نزلت في قوم كانوا يعبدون المسيح وأُمَّه وعُزَيْراً، فبيّن الله سبحانه أن هؤلاء الذين تدعونهم هم عبادي يدعونني، وهم فقراء إليّ يدعونني، ويتقربون إليّ بالطاعة، فهم عباد من عبادي، والعبد لا يصلح أن يكون معبوداً، وليس هناك في السموات والأرض إلاَّ من هو عبد لله: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً(93)}، {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ}، فكل الخلق، كل سكان السموات والأرض كلهم عباد لله، فلا يصلح أن يُعبدوا من دون الله عزّ وجلّ، ولذلك قال الله في الآية التي قبلها: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً(56)} هذا تعجيز للمشركين، وتعجيز لآلهتهم التي يعبدونها من دون الله.
"قل ادعوا" هذا أمر تهديد ووعيد، "الذين زعمتم" والزّعم مَطِيَّة الكذب، الزّعم يُطلق على الأمر الذي لا حقيقة له، {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} أنهم ينفعون أو يضرون من دون الله عزّ وجلّ. {مِنْ دُونِهِ} يعني: غير الله سبحانه وتعالى، {فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} إذا نزل بكم مرض فإن كل هؤلاء الذين تدعونهم من دون الله- بما فيهم الملائكة والأنبياء والصالحون والأولياء- كلهم لا يملكون كشف الضر، إذا أنزل الله ضرًّا(13/221)
بعبد فلن يستطيع أحد رفعه إلاَّ الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} لا يملكون كشف الضر، لا يملك كشف الضر إذا نزل ولا يرفعه إلاَّ الله سبحانه وتعالى، وبذلك تبطل عبادة هؤلاء، {وَلا تَحْوِيلاً} أي: نقله من محل إلى محل، لا يملكون نقل المرض من عضو إلى عضو، إذا أنزله الله بالرأس فلا يستطيع كل الخلق أو الأطباء المَهَرَة، لا يستطيعون أن يحولوا وجع الرأس إلى اليد، أو وجع اليد إلى الرِّجل، أبداً، وكذلك لا يستطيعون أن يحولوه من شخص إلى شخص آخر، إذا نزل مرض بعبد من العباد فلن يستطيع أطباء العالم والمستشفيات والمنظمات الصحية العالمية أن تنقل المرض(13/222)
ص -125- ... من شخص إلى شخص، ويصبح المنقول عنه بريئاً صحيحاً، أو ينقلون المرض من بلد إلى بلد، لا يستطيعون هذا، وإنما هذا تقدير العزيز العليم، هو الذي يقدر على كشف الضر ورفعه نهائياً، ويقدر على تحويله من محل إلى محل إذا شاء سبحانه وتعالى.
وهذا من التحديات التي يتحدّى الله بها المشركين، ولن يجيبوا عنها إلى أن تقوم الساعة، فدلّ على انقطاع حجتهم.
لا أحد قال: بلى آلهتنا تستطيع كشف الضر، أو تستطيع تحويل الضر، ما أحد قال هذا، فدلّ على انقطاع حجتهم وانخصامهم، وعاد الأمر لله سبحانه وتعالى.
ثم بيّن سبحانه وتعالى أن هؤلاء الذين تدعونهم من دون الله أنهم عباد لله، هم بأنفسهم يدعون الله عزّ وجلّ؛ يرجون رحمته، ويخافون عذابه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}، فالملائكة وعيسى عليه السلام وأُمُّه، وعُزَيْر، وكل الصالحين، والأولياء بهذه المثابة، كلهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة.
والوسيلة معناها في الأصل السبب الذي يُوَصِّل إلى المقصود، فالسبب الذي يُوَصِّل إلى المقصود يسمى: وسيلة.
وأما معناها هنا: فالوسيلة: الطاعة والقُرب، فالملائكة- عليهم الصلاة والسلام-، وعيسى- عليه الصلاة والسلام، وعُزَيْر عليه السلام، والأولياء والصالحون كلهم يتقرّبون إلى الله بالطاعة، يعبدون الله، يعبدون الله لأجل أي شيء؟. {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} كل واحد يرجو أن يكون أقرب إلى الله سبحانه وتعالى، يتقرّبون إليه بطاعته، {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}، فدلّ على أنهم عباد فقراء إلى الله سبحانه وتعالى، يرجون رحمة الله لأنهم بحاجة إليها، ويخافون عذاب الله أن ينزل بهم، إذاً هم لا يستطيعون أن يجلبوا لأنفسهم النفع، ولا يستطيعون أن يدفعوا عنها الضرر، فكيف يملكون ذلك لكم يا من تعبدونهم؟.
فالوسيلة هنا معناها: الطاعة(13/223)
والعبادة، وليس معناها ما يظنُّه، القبوريُّون والمخرِّفون أن الوسيلة معناها: أن تجعل بينك وبين الله شخصاً يرفع حوائجك إلى الله. هذه هي الوسيلة عند المشركين قديماً وحديثاً، كما يتخذ الناس الوسائط عند الملوك وعند السلاطين، قاسوا الله جل وعلا بالخلق، فكما أن الناس(13/224)
ص -126- ... لا يتوصلون إلى الملوك والسلاطين إلاَّ بوسائط من الوزراء والمقرّبين لدى الملوك ليبلّغوا حوائجهم إلى الملوك والسلاطين، قاسوا الله جل وعلا على خلقه، فقالوا: لابد أن نجعل بيننا وبين الله واسطة ترفع حوائجنا إلى الله عزّ وجلّ. وتقرّبوا إلى هؤلاء الوسائط بأنواع العبادات: فذبحوا لهم من دون الله، ونذروا لهم من دون الله، كالحاصل عند قبور الأولياء اليوم، يذبحون للقبور، وينذرون لها، ويطوفون بها، ويتمرّغون على ترابها، ويتمسحون بجدرانها وشبابيكها؛ من أجل أن هؤلاء الموتى رجال صالحون، يرفعون حوائج هؤلاء إلى الله بزعمهم.
هذه هي الوسيلة عند هؤلاء، الذين انتكست أفهامهم، وهذا تنقُّص لله سبحانه وتعالى، وقد رد الله عليهم بقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}، اتخذوا الوسائط من الأولياء بزعمهم أنهم يقرّبونهم إلى الله زلفى، أو يشفعون لهم عند الله، فعبدوهم من دون الله، فصرفوا العبادة للمخلوقين من أجل أن المخلوقين يتوسطون عند الله سبحانه وتعالى.
هذا شرك الأولين وشرك أهل هذا الزمان باتخاذ الوسائط والشفعاء من الأموات والغائبين بينهم وبين الله سبحانه وتعالى، وصرفوا لهم أنواع العبادات والقُربات، بما زيّن لهم شياطين الإنس والجن من هذه الأباطيل، هذه هي الوسيلة عند هؤلاء.
أما الوسيلة في القرآن والسنة فمعناها: الطاعة والعبادة، وليست اتخاذ الأشخاص وسائط، وإنما هي الطاعة والعبادة لله عزّ وجلّ، والله تعالى قريب مجيب، يعلم كل شيء، ليس بحاجة بأن تجعل بينك وبينه وسائط، بل(13/225)
ارفع حوائجك إليه، مباشرة، وصلِّ له، وانحر له، وانذر له، واعبده، وهو سبحانه وتعالى قريب مجيب: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، ما الداعي إلى إنك تجعل بينك وبين الله وسائط وهو قريب يسمعك ويراك سبحانه وتعالى ويجيب؟، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}، باب الله مفتوح في الليل والنهار، وهو قريب من عباده سبحانه وتعالى،(13/226)
ص -127- ... لا يغيب، ولا يخفى عليه شيء، ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: "هل من سائل فأعطيه؟، هل من داع فأستجيب له؟، هل من مستغفر فأغفر له؟، هل من تائب فأتوب عليه؟".
فالله سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلى أنك تتخذ بينك وبينه وسائط من الأشخاص؛ من الأنبياء والصالحين والملائكة، بل ادعُهُ مباشرة، وتقرّب إليه مباشرة. وخواص عباده من الملائكة والأنبياء يبتغون إليه الوسيلة، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً}، يخاف منه أولياء الله سبحانه وتعالى العارفون به.
فهذه الآية فيها أن من معنى لا إله إلاَّ الله: أن لا يُدعى إلاَّ الله، وأنها لا تتخذ الوسائط بين العباد وبين الله من الخلق، فمن اتخذ بينه وبين الله واسطة فقد أخلّ بمعنى: لا إله إلاَّ الله.
هذه الآية الأولى في الباب: تدل على أن من معنى لا إله إلاَّ الله أن يُصرف الدعاء والتقرّب والعبادة لله سبحانه وتعالى، لا تُصرف لأحد من خلقه بحجة أنه واسطة بين العبد وبين ربه عزّ وجلّ، لأن الله ليس بينه وبين عباده واسطة من هذا النوع.
أما الواسطة في تبليغ الوحي فإن بين الله وبين عباده واسطة لتبليغ الوحي والرسالات.
أما الواسطة بين العباد وبين الله في رفع حوائجهم؛ فهذه غير موجودة، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "هناك واسطة من جحدها فقد كفر، وهناك واسطة من أقرّ بها فقد كفر".
فما هي هذه الواسطة التي من جحدها فقد كفر؟
هم الرسل- عليهم الصلاة والسلام-، فهم واسطة بين الله وبين عباده في تبليغ الرسالات والأوامر والنواهي، فمن جحدها فقد كفر، لأنه جحد رسالة الرسل.
وهناك واسطة من اقرّ بها فقد كفر، وهي أن يجعل إنسان بينه وبين الله واسطة في تبليغ حوائجه ورفع دعائه، يتقرّب إلى هذه الواسطة بالعبادة، وهذه الواسطة- بزعمه- تطلب له من الله ما يحتاجه.(13/227)
ص -128- ... وقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} الآية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الآية الثانية: قوله سبحانه وتعالى: "{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ(27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(28)}" إبراهيم هو الخليل- عليه الصلاة والسلام-، الذي تكرّر ذكره في القرآن الكريم، وأثنى الله عليه، وأمر باتباعه والاقتداء به، وهو أبو الأنبياء- عليه الصلاة والسلام-، اتخذه الله خليلاً، وجعله إماماً للناس، أي: قُدوة يُقتدى به، وجعل الأنبياء الذين جاءوا من بعده من ذريته: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ}، فكل الأنبياء الذين جاءوا بعد إبراهيم فهم من ذرية إبراهيم عليه السلام، فأنبياء بني إسرائيل من ذرية إسحاق، ومحمد صلى الله عليه وسلم من ذرية إسماعيل، فكلهم إذاً من ذرية إبراهيم- عليه الصلاة والسلام-، ولهذا سُمِّي "أبا الأنبياء".
"{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ}" أول ما بدأ بأبيه. "{وَقَوْمِهِ}" الذين بعثهم الله إليهم، وهم الأمة التي كانت تعبد الكواكب، وهم الصابئة المشركون الذين كانوا يعبدون الكواكب، وكان ملكهم النُّمْرُود الذي قال الله فيه:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ}، جادله وجحد أن يكون هناك رب غيره {أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} يعني: بسبب أن الله أعطى النُّمْرُود الملك تكبّر وعصى، بدل أن يشكر الله عزّ وجلّ ما أعطاه، {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}، بمعنى أن يقتل من شاء ويترك من شاء فأراد إبراهيم أن يأتي بأمر لا يمكنه أن يُغالط فيه: {قَالَ(13/228)
إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ}، فلم يمكنه أن يغالط في هذا الأمر، لأنه لا يمكنه أنه يُغالط ويدَّعي أنه يأتي بالشمس من المغرب، معاكسة لتدبير الله سبحانه وتعالى، {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
وقوله: "{إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ}" براء وبريء بمعنىً واحد، معناه: قطع الصِّلة والبعد عن المُتَبَرَّأُ منه، بخلاف الموالاة، فإن معناها: القُرب والاتصال بالمُوَالى، أما البراءة فمعناها: البعد والانقطاع، يقال برأ القلم إذا قطعه.(13/229)
ص -129- ... "{مِمَّا تَعْبُدُونَ}" يعني مما تعبدون من الأصنام والكواكب وغيرها، وهذا تحدٍّ لهم، تحدَّى آلهتهم وتبرّأ منها، ولو كانت قادرة لانتقمت منه، لأنه يتبرّأ منها على رؤوس الأشهاد، ويكفر بها، ومع ذلك لا تمسُّه بسوء؟، هذا دليل على بُطلانها.
"{إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي}" يعني: الله سبحانه وتعالى، و"{فَطَرَنِي}"، يعني: خلقني، فالفَطْر معناه: ابتداء الخلق من غير مثال سابق، فلم يتبرّأ منه لأنه ربه وحده لا شريك له.
"{فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ}" وهذا معنى: لا إله إلاَّ الله، لأن قوله: "{إِنَّنِي بَرَاءٌ}" معناه: النفي؛ لا إله، "{ِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي}" معناه، الإثبات؛ إلاَّ الله. فهذه الآية فيها معنى لا إله إلاَّ الله، إذاً فهي تفسر لا إله إلاَّ الله بأن معناها ترك عبادة الأصنام، والبراءة منها، وإخلاص العبادة لله.
أما الذي يعبد الله ويعبد معه غيره، فهذا لم يحقق لا إله إلاَّ الله، وان كان يتلفظ بها بلسانه، فالذي يقول: لا إله إلاَّ الله ثم يذهب إلى القبور، ويطلب منها الحوائج، ويتمسح بها، ويستغيث بها، يطلب المدد منها، ويطوف بها. فهذا لم يتبرّأ من الشرك، فلا تنفعه لا إله إلاَّ الله ولو قالها عدد الأنفاس، لأن لا إله إلاَّ الله ليست مجرد لفظ يقال باللسان، وإنما لها مقتضى ومدلول ومعنى لابد أن يحقق، وهو عبادة الله والبراءة من الشرك والمشركين. فالذي لا يتبرّأ من الشرك فإنه لم يحقق لا إله إلاَّ الله، وإن تلفظ بها، وجعل له منها أوراداً صباحية ومسائية، ومعه سبْحَة طول الباع يسبِّح بها، ومعه أوراد يردِّدها وفيها لا إله إلاَّ الله آلاف المرّات، لا تنفعه أبداً حتى يفعل ما فعل إبراهيم- عليه الصلاة والسلام-، فيتبرّأ من الشرك.
"{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً}" جعل لا إله إلاَّ الله كلمة باقية في عقبه، في ذرية إبراهيم- عليه الصلاة والسلام-، فلا يزال فيها من يقول هذه الكلمة ويعمل بها إلى أن بعث(13/230)
محمد صلى الله عليه وسلم بها، ودعا إليها. بقيت في عَقِبه، وإن خالفها الأكثر، إلاَّ أنه يوجد في ذرية إبراهيم عليه السلام من التزم بها ولو كانوا قليلين، إلى أن بُعث محمد صلى الله عليه وسلم، فلم تَخْلُ الأرض من التّوحيد ولله الحمد، ولا تخلو إلاَّ عند قيام الساعة، وإذا خلت الأرض من التّوحيد قامت القيامة، كما في الحديث: "لا تقوم الساعة وفي الأرض(13/231)
ص -130- ... وقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من يقول: الله الله"، لأن الأرض لا تبقى إلاَّ فع التّوحيد، لأن لا إله إلاَّ الله كلمة قامت بها السموات والأرض، ونُصبت من أجلها الموازين، وأُسست المِلّة، وفُرض الجهاد، من أجل لا إله إلاَّ الله، فهذه الكلمة لا تزال، لكن أحياناً يكثر أنصارها والقائمون بها، وأحياناً يقلُّون، إلاَّ أنهم لا ينعدمون إلاَّ عند قيام الساعة، حتى ولو كثر الشرك، فإنه يكون في الأرض من يعبد الله وحده لا شريك له إلى قرب قيام الساعة.
{لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي: يرجعون إليها، ويحققونها، وهذا حاصل والحمد لله، فإنه وإن حصل الشرك وكثر، فإن من ذرية إبراهيم عليه السلام من يرجع إلى التّوحيد الصحيح ويدعو إليه ويجدّده للناس، فهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى.
فهذه الآية- كما ذكرنا- دلّت على أن معنى التّوحيد، وشهادة أن لا إله إلاَّ الله: البراءة من الشرك، وإفراد الله تعالى بالعبادة، فهي تفسِّر لا إله إلاَّ الله.
الآية الثالثة: قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} تتمة الآية: {وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} {أَحْبَارَهُمْ} الأحبار: جمع حَبْر، أو حِبِر، وهو العالم. والرهبان: جمع راهب، وهو العابد.
والأحبار والرهبان موجودون في اليهود والنصارى، فاليهود والنصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، بأيِّ شيءٍ اتخذوهم أرباباً من دون الله، فسرّ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لَعَدِّي بن حاتم الطائي؛ لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ عليه الرسول صلى الله عليه وسلم: " {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً(13/232)
مِنْ دُونِ اللَّهِ}"، واستشكلها عدي، لأنه كان نصرانيًّا، فقال: يا رسول الله لسنا نعبدهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أليسوا يحرّمون ما أحل الله، فتحرمونه؟"، قال: بلى، قال: "أليسوا يحلُّون ما حرّم الله، فتحلُّونه؟"، قال: بلى، قال: "فتلك عبادتهم".
فمعنى: "{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}" أنهم أطاعوهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال؛ فدلّ هذا على أن من أطاع مخلوقاً في تحليل ما(13/233)
ص -131- ... حرّم الله أو تحريم ما أحل الله، فقد اتخذه ربًّا يعبده من دون الله، وهذا ما يسميه العلماء بشرك الطاعة.
والشاهد من الآية للباب: أنها دلّت على أن من معنى لا إله إلاَّ الله: أن لا يُطاع إلاَّ الله سبحانه وتعالى، وأن من أطاع أحداً في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله فقد اتخذه ربًّا من دون الله.
لكن إذا كان يعتقد أن تحليل الحرام وتحريم الحلال أمر جائز، فهذا شرك أكبر يخرجه من الملّة، أما إذا لم يعتقد جواز هذا، بل يعتقد أن التحليل والتحريم حقٌّ لله سبحانه وتعالى، ولكنه فعله من باب الهوى، أو من باب تحصيل بعض المصالح، فهذه معصية عظيمة، لكنها لا تصل إلى حد الشرك الأكبر فطاعة المخلوقين في تحليل الحرام وتحريم الحلال، لا تجوز أبداً، لكن فيها تفصيل من حيث الكفر والشرك وعدم ذلك.
والحاصل من هذا كله: أن الآية الكريمة دلّت على أن من تفسير التّوحيد وشهادة أن لا إلاَّ الله أن لا يُطاع إلاَّ الله سبحانه وتعالى في الحلال والحرام، وأن من أطاع مخلوقاً في التحليل والتحريم فقد اتخذه ربًّا من دون الله عزّ وجلّ.
ويشهد لهذه آيات أخر كما ذكر الله في سورة الأنعام لما ذكر أن المشركين يستبيحون الميتة، مع أن الله حرّمها ونهى عباده عنها، وأخبر أن المشركين سيجادلون المؤمنين في ذلك، ثم قال: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} إن أطعتم المشركين في استباحة الميتة {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}.
ويقول الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} {شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ} يعني: من الحلال والحرام والعبادة ما لم يأذن به الله، فالتشريع حق لله سبحانه وتعالى، لا يجوز أن يُطاع فيه أحد من المخلوقين غير الرسل، فمن أطاع أحداً من المخلوقين في التشريع؛ فإنه قد اتخذه شريكاً لله عزّ وجلّ، وهذا من معنى لا إله إلاَّ الله وهو إفراد الله تعالى(13/234)
بالطاعة في تحريم ما حرّمه وتحليل ما أحلّه.(13/235)
ص -132- ... وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} الآية.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قال: لا إله إلاَّ الله، وكفر بما يُعبد من دون الله، حَرُم ماله ودمه، وحسابه على الله عزّ وجلّ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الآية الرابعة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} تتمة الآية: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ}.
"{وَمِنَ النَّاسِ}" بعض الناس يعني: المشركين.
"{مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ}" يعني: غير الله.
"{أَنْدَاداً}" جمع نِدْ، والنِّد معناه: الشبيه والنظير والمثيل، يقال: فلان نِدُّ فلان، بمعنى: أنه يشبهه، وأنه نظيره، وأنه يساويه.
فاتخاذ الأنداد من دون الله معناه اتخاذ الشركاء، سُمُّوا أنداداً لأن المشركين سوّوهم بالله عزّ وجلّ، وشبّهوهم بالله عزّ وجلّ وأحبوهم محبة عبادة وتذلل.
"{يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}" الحب عمل قلبي ضد البُغض.
فالمشركون اتخذوا من الأحجار والأشجار والأصنام شركاء لله سوّوهم بالله في المحبة، يحبونهم كما يحبون الله عزّ وجلّ، فالمراد هنا محبة العبادة، فالمشركون يحبون أصنامهم كما يحبون الله عزّ وجلّ محبة عبادة وتذلل.
"{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ}" من المشركين لله، فالمشركون يحبون الله، والمؤمنون يحبون الله، ولكن المشركين يحبون الله ويحبون معه غيره، أما المؤمنون فيحبون الله وحده، ولا يشركون معه غيره في المحبة، فلذلك صار المؤمنون أشد حبًّا لله، لأن محبتهم خالصة، ومحبة المشركين مشتركة، فدلّت الآية على أن المشركين يحبون الله، ولكنهم لمّا أحبوا معه غيره صاروا مشركين، وأن التّوحيد لا يصح إلاَّ بإخلاص المحبة لله عزّ وجلّ.
فدلّت الآية الكريمة على: أن من تفسير لا إله إلاَّ(13/236)
الله وتفسير التّوحيد إفراد الله بالمحبّة، وأن لا يُحَبَّ معه غيره محبة عبادة بل يُفرد الله جل وعلا بالمحبّة، ولا يُحَبَّ معه غيره، محبة العبادة.
قال الشيخ رحمه الله: "وفي الصحيح" يعني: صحيح الإمام مسلم.
"عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال لا إله إلاَّ الله، وكفر بما يُعبد من دون الله؛ حَرُم(13/237)
ص -133- ... ماله ودمه وحسابه على الله" علّق حُرمة المال والدم على شيئين:
الشيء الأول: أن ينطق بكلمة لا اله إلاَّ الله.
الشيء الثاني: أن يكفر بما يُعبد من دون الله، فإذا تحقق هذان الشيئاًن حرُم ماله ودمه، لأنه صار مسلماً، والمسلم يحرُم دمه وماله.
"وحسابه على الله " فإن كان صادقاً في قول هذه الكلمة فإنه يكون مسلماً حقًّا، باطناً وظاهراً ويدخل الجنة، وإن كان قالها ظاهراً فقط فهذا هو النفاق، وذلك يحقن دمه ويحرم ماله، ولكنه في الآخرة يكون في النار {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}.
فمن قال لا إله إلاَّ الله كَفَفْنا عنه وحقنا دمه وحرّمنا ماله، أما دخوله الجنة، وكونه مؤمناً حقًّا، فهذا عند الله سبحانه وتعالى، هو الذي يعلم ما في القلوب، ويجازي عليها، وحسابه على الله عزّ وجلّ. وإن ظهر منه ما يناقض هذه الكلمة حكم عليه بالردة.
الحاصل؛ أن هذا الحديث بيّن معنى التّوحيد، ومعنى لا إله إلاَّ الله، وأنه النطق بالشهادة مع الكفر بما يُعبد من دون الله عزّ وجلّ والبراءة منه، أما لو قال لا إله إلاَّ الله وهو لا يكفر بما يُعبد من دون الله بأن كان يعبد القبور، ويدعو الأولياء والأضرحة، فهذا لم يكفر بما يُعبد من دون الله، ولا يحرُم دمه ولا يحرُم ماله، لأنه لم يأت بالأمرين، وإنما أتى بأمر واحد، وهو قول: لا إله إلاَّ الله، ولكنه لم يكفر بما يُعبد من دون الله، لأنه يقول إن عبادة القبور ليست بشرك، فهو لم يكفر بما يُعبد من دون الله، فمعناه أنه لا يحقن دمه، ولا يَحْرُم ماله، لأنه ما دام أنه لم يكفر بما يُعبد من دون الله، فإنه لم يحصل المقصود.
فهذا الحديث عظيم جدًّا، وهو حجة للموحّدين على أصحاب الشبه والمشركين، الذين يقولون: من قال لا إله إلاَّ الله فهو المسلم ظاهراً وباطناً ولو فعل ما فعل، يعبد القبور، ويذبح للأولياء والصالحين، ويعمل السحر والشعوذة، ويعمل كل شيء، هو مسلم(13/238)
حقاً ما دام يقول: لا إله إلاَّ الله. ولهذا يقول الشيخ رحمه الله: "لم يجعل النطق بلا إله إلاَّ الله، بل ولا كونه لا يدعو إلاَّ الله، بل ولا معرفة معنى هذه الكلمة، لم يجعل كل هذه الأمور عاصمة للدم والمال حتى يضيف إليها الكفر بما(13/239)
ص -134- ... وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يُعبد من دون الله"، فالذي يقول أنا ما أكفِّر هؤلاء، أنا ما أكفر من يعبدون الحسن والحسين والبدوي، لا أكفّرهم لأنهم يقولون: لا إله إلاَّ الله؛ هم إخواننا، لكن أخطئوا، نقول له: أنت مشرك مثلهم، لأنك لم تكفر بما يُعبد من دون الله، والله تعالى قدّم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله، قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} فلابد من الكفر بالطاغوت، ولابد من الكفر بما يعبد من دون الله عزّ وجلّ، واعتقاد بطلانه، والبراءة منه ومن أهله، وإلا فلا يصير الإنسان مسلماً، لأن هذا تلفيق بين الإسلام والكفر، ولا يجتمع الكفر والإسلام أبداً.
فهذا الحديث على اختصاره منهج عظيم، يبيّن معنى شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأنها ليست مجرد لفظ يقال باللسان ويردّد في الأذكار والأوراد، وإنما هي حقيقة تقتضي منك أن تكفر بما يُعبد من دون الله، وأن تتبرّأ من المشركين، ولو كان أقرب الناس إليك، كما تبرأ الخليل- عليه الصلاة والسلام- من أبيه وأقرب الناس إليه.
ثم قال رحمه الله: "وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب" أي: أن الأبواب الآتية إلى آخر كتاب التّوحيد، كلها تفسير لهذه الكلمة، مثل باب: النهي عن لبس الحَلْقَة والخيط، والتبرك بالأشجار والأحجار وباب السِّحر، وباب التَّنْجيم، وباب ما جاء في الطِّيَرة، وباب الرُّقى والتمائم، إلى آخر ما في هذا الكتاب من الأبواب، كله يفسِّر التّوحيد، ويفسِّر معنى: لا إله إلاَّ الله.(13/240)
ص -135- ... [الباب السابع:] * بابُ من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مناسبة هذا الباب لما قبله من الأبواب: أن الشيخ رحمه الله لما ذكر في الباب الذي قبله بيان معنى شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وتفسير التّوحيد، وأن ذلك هو عبادة الله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه؛ ناسب أن يذكر في هذا الباب وما بعده أشياء من الشرك الأكبر أو الأصغر، الذي هو ضدّ التّوحيد، وضدّ شهادة أن لا إله إلاَّ الله أو منقص لهما.
وقوله رحمه الله تعالى: "بابٌ من الشرك" أي: من أنواع الشرك، "لبس الحلْقة والخيط ونحوهما" مما يعلّق على البدن أو على الدابة، أو على السيارة أو على الأبواب من الأشياء التي يعتقدون فيها أنها تدفع عين الحاسد، وأنّها تحرس البدن، أو تحرس الدابة، أو تحرس السيارة أو تحرس البيت أو المتجر من الشرور والمحاذير، وهذه عادة جاهلية لا تزال في بعض الناس إلى اليوم، بل تتزايد بسبب الجهل، فإنهم يعلّقون هذه الأشياء على أجسامهم، وعلى أجسام الأطفال، وعلى السيارات، والدكاكين، والبيوت، قصدهم من ذلك أن هذه الأشياء تدفع عنهم الشرور والمحاذير، وهذا من الشرك لأنه تعلق على غير الله سبحانه وتعالى، لأن الله جل وعلا وهو الذي يدفع الشر، وهو الذي إذا أراد بعبده شيئاً فلابد أن يقع إما في نفسه أو في ماله أو في أهله، فلا أحد يدفعه، وإذا منع شيئاً فلا أحد ينزله {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(2)}، الأمر كله بيد الله جلّ وعلا، فيجب أن تتعلق القلوب بالله عزّ وجلّ، وأن تُخلص العبادة لله عزّ وجلّ، وأن لا يخاف إلاَّ من الله عزّ وجلّ، فمن تعلّق قلبه بالله ووحّد الله، فإنه لا يضره شيء إلاَّ بإذن الله سبحانه وتعالى، أما من تعلّق على غير الله، فإن(13/241)
الله يَكِلُه إلى ما تعلق عليه، ويبتليه- كما يأتي-.(13/242)
ص -136- ... وقول الله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال: "وقول الله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ}، تتمة الآية: {أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}".
هذه الآية من سورة الزمر، السورة العظيمة التي قرّر الله فيها التّوحيد، وأبطل فيها أنواع الشرك، فالسورة من أولها إلى آخرها تعالج قضية العقيدة، وتعالج قضية أنواع الشرك التي كان المشركون يزاولونها، فأبطلتها هذه السورة ونقضتها، ومن ذلك هذه الآية الكريمة.
"{قُلْ}" يا محمد، الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي قل لهؤلاء المشركين: "{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}" من الأصنام والأحجار والأشجار والقبور والأضرحة والأولياء والصالحين، وكل ما يُعبد من دون الله. فالسؤال موجّه إلى كل مشرك على وجه الأرض إلى أن تقوم الساعة، هل يستطيع الإجابة عنه؟، لا.
"{قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ}" أي: أخبروني "{مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}" "{مَا}" عامة لكل ما يُدعى من دون الله، لا يُستثنى منها شيء، سواء كان من البشر أو من الجماد أو غير ذلك.
"{إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ}" يعني: بضرر، أو بفقر، أو بموت، أو أرادني بضياع مال، أو إصابة في قريب، أو غير ذلك مما يضرّني في بدني أو في مالي أو في أهلي.
"{هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ}" هل هذه المعبودات التي تعبدونها تستطيع أن تكشف الضر عمّن دعاها؟، وهذا مثل ما سبق في قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا(13/243)
تَحْوِيلاً(56)}، "{هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ}"؟، سؤال استنكار ونفي، أي. لا تكشف الضر عمن دعاها. ولذلك المشركون يمرضون، ويُقتلون، ويُصابون، وتذهب أموالهم، ولا تستطيع معبوداتهم أن تدفع عنهم شيئاً نزل من الله سبحانه وتعالى.
"{أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ}" من صحة وغنىً وغير ذلك من أنواع الرحمة، هل أحد(13/244)
ص -137- ... من الخلق يستطيع أن يمنع نزول الرحمة على أحد من عباد الله؟، فظهر بذلك عجز آلهة المشركين.
والنبي صلى الله عليه وسلم قال لهم هذا وتلا عليهم القرآن، وسألهم هذا السؤال، وأعلنه على رؤوس الأشهاد، ولم يُجيبوه، ولن يجيبوه إلى أن تقوم الساعة.
هذه من جملة الأسئلة التي وجهها الله في القرآن إلى المشركين ولم يجيبوا عنها. فدلّ على بطلان الشرك.
"{قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ}" أي: هو كافيني، لأن الحَسْب معناه: الكافي، فهذا فيه تفويض الأمور إلى الله سبحانه وتعالى، وتعليق القلوب بالله سبحانه وتعالى دون ما سواه، لما أبطل الشوك في أول الآية قرّر التّوحيد بقوله: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} أي: هو كافيني ولن يستطيع أحد أن يضرني من دون الله أو ينفعني من دون الله، ولهذا يقول هود -عليه الصلاة والسلام- لقومه: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ(55)} ثم قال{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(56)}.
"{عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}" ولا يتوكلون على الحلْقة والخيط والصنم والقبر والولي أو غير ذلك، بل الذي يُتوكّل عليه هو الله سبحانه وتعالى، لأنه بيده مقادير الأشياء.
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عباس: "واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلاَّ بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلاَّ بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجَفَّت الصحف".
فالأمور كلها مرجعها إلى الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يستحق أن يُعبد، وأن يُتوكّل عليه، وأن يُدعى، ويُرجى، ويُخاف سبحانه وتعالى، وما عداه فإنه خلق من خلق الله، مسخّر بيد الله سبحانه وتعالى،(13/245)
إن شاء سلّطه عليك وإن شاء منعه عنك، ما في الأرض من الأشرار من بني آدم ومن الشياطين ومن الجن ومن الإنس ومن الحيّات والسباع ومن سائر الأشياء الضارة، كلها بيد الله سبحانه وتعالى، إن شاء سلّطها عليك وإن شاء أمسكها عنك، فلا تخف من غير الله عزّ وجلّ، وكذلك الخير بيد الله سبحانه وتعالى: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ(13/246)
ص -138- ... عن عمران بن حُصين رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في يده حلْقة من صُفْر، فقال: "ما هذا؟".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قَدِيرٌ}، بيده الخير فلا يملك أحد من الخلق أن يُعطيك شيئاً من الخير إلاَّ إذا أراده الله سبحانه وتعالى لك، ويكون هذا الشيء سبب فقط أجرى الله على يده الخير لك، أو سبب أجرى الله على يده الضرر عليك فهي، مجرّد أسباب، وإلا فما من شك أن النار تُحرق، وأن السَّبُع يفترس، وأن العدو يَفْتِك بعدوه، ولا شك أن الله خلق أشياء فيها ضرر، ولكن هذه الأشياء جنود من جنود الله سبحانه وتعالى، نواصيها بيد الله: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا}، فإذا أراد الله سلّط عليك هذه الجنود، وإذا أراد الله حبس عنك هذه الجنود، إذاً فلا تعلق قلبك إلاَّ بالله عزّ وجلّ، ولا تتوكل إلاَّ عليه، ولا تُفوِّض أمورك إلاَّ عليه سبحانه وتعالى، ولا يمنع هذا من أن تتخذ الأسباب- الجالبة للخير والأسباب الواقية من الشر، ولكن الاعتماد على الله سبحانه وتعالى.
قوله: "عمران بن حُصين" بن عُبيد الخزاعي، هو وأبوه صحابيّان رضي الله عنهما، ومن أفاضل الصحابة.
"أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً" الرجل مُبْهَم، ولكن جاءت الرّوايات أنه هو نفس عمران بن حُصين، دخل على النبي صلى الله عليه وسلم.
"وفي يده حلقة" الحلْقة هي: الشيء المستدير الذي يُدار على العضد، أو على الذِّراع، أو على الأصبع. فالشيء المستدير يسمى حلْقة، ومنه تحلّق القوم إذا استداروا في الجلوس.
"من صُفر" الصفر نوع من المعدن معروف.
"فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما هذا؟"" الظاهر أنه سؤال إنكار، وقيل: إنه سؤال استفهام، فالنبي صلى الله عليه وسلم سأله عن قصده في هذه الحلقة.
ففيه دليل على وجوب إنكار المنكر، وفيه دليل على أن الإنسان لا ينكر شيئاً حتى يعرف مقصود صاحبه إذا كان الشيء محتمِلاً،(13/247)
فإن كان مقصود صاحبه شرًّا فإنه ينكره.(13/248)
ص -139- ... قال: من الواهِنَة. فقال: "انزعها، فإنها لا تزيدك إلاَّ وهناً، فإنك لو متّ وهي عليك ما أفلحت أبداً"، رواه أحمد بسند لا بأس به.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"قال: من الواهنة" يعني: لبستها من أجل دفع الواهنة، لتقيني منها، والواهنة مرض يصيب اليد، يُسَمَّى عند العرب بالواهنة، وكان من عادتهم لبس الحلْقة من أجل توقِّي هذا الوجع، يزعمون أن هذه الحلْقة تدفع هذا الوجع.
"فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "انزعها" النزع معناه: الرفع بشدّة، أي: ارفعها مسرعاً بنزعها ونشيطاً في رفعها لا تتوانى، في تركها على جسمك، لأنها مظهر شرك- والعياذ بالله-.
ففيه المبادرة بإزالة مظاهر الشرك، وأن الإنسان لا يتوانى في تركه.
ثم علّل صلى الله عليه وسلم ما في بقائها عليه من الضرر، قال: "فإنها لا تزيدك إلاَّ وهناً" إلا ضعفاً، فالوهن معناها: الضعف والمرض.
فهذا فيه دليل على أن لبس هذه الأشياء فمن الحلْقة ونحوها بقصد دفع الضرر أنه يسبّب عكس المقصود، فإنه لبسها من أجل توقِّي المرض، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنها تجلب المرض، وذلك ظاهر في الذين يتعاطون هذه الأشياء؛ تجدهم دائماً في قَلَق وفي خوف، لكن الذي يتوكل على الله لا يهمّه شيء فتجده نشيطاً، قويّ العزيمة، مرتاح الضمير، منشرح الصدر، وتجد الذي يخاف من غير الله ويستعمل هذه، الرباطات ضعيف الجسم، منهك القوى، مهموماً حزيناً، يتخوّف من كل شيء.
"فإنك لو متّ وهي عليك ما أفلحت أبداً" أي: لو مات ولم يتب منها ما أفلح أبداً.
فهذا فيه دليل على أن الشرك لا يُغفر حتى ولو كان شركاً أصغر، يُعذّب به، وإن كان لا يعذّب تعذيب المشرك الشرك الأكبر؛ فلا يخلّد في النار، لكن يعذّب بها بقدره.
قال الشيخ رحمه الله في مسائله: "فيه شاهد لكلام الصحابة: أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر"، فالشرك الأصغر أكبر من الكبائر، لأن المعاصي وإن كانت كبائر إذا لم تكن(13/249)
شركاً، فلا تخل بالعقيدة وأما الشرك الأصغر فإنه يخلّ بالعقيدة، وأيضاً لا يُغفر على الصحيح، والمعاصي الكبائر التي دونه مظِنّة المغفرة: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.(13/250)
ص -140- ... والشاهد من هذا الحديث ظاهر: لأن النبي صلى الله عليه وسلم استنكر لبس الحلْقة التي يُقصد منها دفع الضرر، وأخبر أنها لا تزيد صاحبها إلاَّ مرضاً، وأنه لو مات وهي عليه ما أفلح أبداً، وهذا فيه دليل على منع لبس الحلْقة ونحوها من أجل دفع الضرر، أو من أجل دفع العين، أو غير ذلك من المقاصد السيّئة.
ومثله: ربط الخيط على الساق، فبعض الناس يربطون خيوطاً على سيقانهم، أو على أذرعهم، أو على أصابعهم، ويقولون: إن هذا يمنع من المرض، وهذا هو نفسه فعل الجاهلية، وهو مثل الذي استنكره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث.
قال: "رواه أحمد" الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، الإمام الجليل، أحد الأئمة الأربعة، شيخ المحدّثين رحمه الله، وهو الإمام الذي امتُحن وصبر، امتُحن في العقيدة على يد المأمون والمعتصم والواثق من خلفاء بني العباس، لأن المأمون تأثّر بالمعتزلة، وأدخلوا عليه أشياء مستنكرة، منها: القول بخلق القرآن- والعياذ بالله-، ومنها: تعريب الكتب الرُّومية وكتب الأمم الكافرة، التي لما عُرِّبت دخل على عقائد المسلمين منها الشر الكثير، وهذا كله بسبب المعتزلة، لأنهم غرّروا بهذا الخليفة.
ففي هذا خطر الفِرق الضالة، وخطر مصاحبتها والقُرب منها، ولهذا كان السلف يُحذِّرون من مصاحبة المبتدعة ومن مجالستهم، لأنهم يُؤثِّرون على من صاحبهم. وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ}.
فهؤلاء لما صاحبوا هذا الخليفة استمالوه معهم، فصار ضد أهل السنّة، ووقف الإمام أحمد في وجهه، وأبى أن يقول بخلق القرآن، حتى ضُرب وسُجن وعُذّب، ولكنه صبر رحمه الله وصابر، وتعاقب عليه ثلاثة خلفاء، كلهم ضدّه: المأمون، والمعتصم، والواثق، ولكنه صبر ووقف بحزم(13/251)
وثبات، ولم يَخْضع لهم، وصبر على الضرب وعلى الحبس، وعلى الإهانة حتى نصره الله عزّ وجلّ، وجاء المتوكِّل ورفع عنه المحنة، وناصره، وصارت العاقبة للمتقين- والحمد لله-، وأخزى الله المعتزلة ومن تابعهم.
فهذا الإمام يجب أن نعرف موقفه من أجل أن نقتدي به، وأن نعرف- أيضاً-(13/252)
ص -141- ... وله عن عُقبة بن عامر مرفوعاً: "من تَعَلّق تَمِيمَة؛ فلا أتم الله له، ومن تَعَلَّق وَدَعَة؛ فلا وَدَعَ الله له".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
موقفنا من الفِرق الضالة والفِرق المخالفة لأهل السنة والجماعة حتى لا نتساهل معها، ونعمل عمليّة تجميع، ونقول: نحن نجمِّع ولا نفرّق كما تقوله بعض الجماعات!. بل يجب أن نفرّق بين أهل الحق وأهل الباطل، نحن مع أهل الحق وإن قَلُّوا، ولسنا مع أهل الباطل وإن كثروا، هذا هو الموقف الصحيح. فالإمام أحمد وحده وقف في وجه أمة، ونصره الله عليهم، ولابد أن الإنسان يناله أذى في مقابل موقفه وصبره وثباته، لكن ما دام على الحق لا يهمه ذلك، وهذا في موازينه وفي حسناته عند الله سبحانه وتعالى.
فهذا الحديث: "رواه أحمد" في مسنده "بسند لا بأس به"، ورواه الحاكم في مستدركه، وقال: "صحيح الإسناد"، ووافقه الإمام الذهبي رحمه الله.
قال: "وله" أي: للإمام أحمد رحمه الله "من تعلق تميمة فلا أتم الله له" إلخ.
قوله: "من تَعَلَّق" أي: من علّق هذا الشيء على جسمه، أو علّق قلبه به، واعتقد فيه أنه ينفعه أو يضره من دون الله عزّ وجلّ.
"تميمية" التَمِيمَة: خرزات تعلّق على الأولاد يتّقون بها العين، وكذلك ما شابهها من كل ما يُعلّق من الخرزات وغيرها من الحُرُوز والحُجُب، فهذا ليس بخاص بالخرز، وإنما هذا التفسير لبيان نوع من أنواع المعلّقات، ومنهم من يعلّق النعل على الباب، ويجعل وجه النعل مقابلاً للشخص الآتي، أو على السيارة، ويظنون أن هذه الأشياء تدفع عنهم شر الحسد، وكل هذا من أمور الجاهلية.
وقوله: "فلا أتم الله له" هذا دعاء من النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله لا يتمّ له أموره، ويعكس مقصوده عليه؛ والرسول صلى الله عليه وسلم مجاب الدعوة، فهذه الدعوة تتناول كل من علّق على نفسه أو على غيره شيئاً من الحُجُب والحُرُوز والتمائم يريد بها كفّ الشر عنه إلى يوم القيامة،(13/253)
إلاَّ أن يتوب إلى الله عزّ وجلّ، فمن تاب تاب الله عليه، ومن لم يتب "فلا أتمّ الله له" يعني: لا أتم الله له أمره ومقصوده، بل أصابه بعكس ما يريد من الضرر والشر والخوف والقلق، ولهذا تجدون من يعلِّقون هذه الأشياء من أكثر الناس(13/254)
ص -142- ... وفي رواية: "من تَعَلَّق تَمِيمَة؛ فقد أشرك".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خوفاً وهمًّا وحزناً وضعفاً وخوراً، بعكس الموحّدين المعتمدين على الله، فتجدونهم أقوى الناس عزيمة وأقوى الناس عملاً، وتجدونهم لأن أيضاً- في أمن واستقرار وانشراح الصدور، لأنهم يؤمنون بالله عزّ وجلّ وحده، ويعلّقون آمالهم بالله عزّ وجلّ، والله يكفيهم سبحانه وتعالى: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} ويقول سبحانه: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}.
وقوله: "ومن تعلق وَدْعَة؛ فلا وَدَع الله له" الوَدْع: شيء يُستخرج من البحر، يشبه الصّدف، يعلقونه على صدورهم أو على أعناقهم أو على دوابهم يتقون به العين.
"فلا وَدَعَ الله له" أي: لا تركه في دَعَة وسُكُون وراحة، بل سلّط عليه الهموم والأحزان والوساوس والأعداء حتى يُصبح في قلق وهمّ وغمّ دائم، وهذا دعاء من الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يسلب الله راحته واستقراره وأمنه، ويصبح في خوف وهمّ وقلق دائم، يخاف من كل شيء، إلى أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا ظاهر في كل من يتعاطون هذه الأشياء، تجدونهم من أشد الناس قلقاً وهمًّا وخوفاً وتوقُّعاً للمكروه في كل لحظة ومن كل شخص.
قال: "وفي رواية" يعني: للإمام أحمد رحمه الله.
"من تعلّق تَمِيمَة؛ فقد أشرك" هذه فيها زيادة على دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم عليه بأنه قد أشرك، فهذا تصيبه مصيبتان: مصيبة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم عليه، والمصيبة الثانية في عقيدته، وهي أنه قد أشرك بالله عزّ وجلّ باتخاذ هذا الشيء، وهذا هو الشاهد من الحديث للباب، لان الباب: "باب من الشرك تعليق الحلْقة والخيط ونحوهما".
فإن قلت: ما نوع هذا الشرك؟، هل هو الشرك الأكبر، نقول: فيه تفصيل إن كان يرى أنها تقيه من(13/255)
دون الله فهذا شرك أكبر. وإن كان يعتقد أنها سبب فقط والواقي هو الله سبحانه وتعالى فهذا شرك أصغر لأن الله لم يجعل هذه الأشياء سبباً.(13/256)
ص -143- ... ولابن أبي حاتم عن حذيفة: أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحُمّى، فقطعه، وتلا قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ(106)}.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "ولابن أبي حاتم عن حذيفة: أنه رأى رجلاُ في يدّه خيط من الحُمّى" يعني: اتخذه أن يقيه من الحُمّى، والحُمّى: ارتفاع الحرارة في الجسم. فالرجل ربط الخيط من أجل أن يتقي الحُمّى، فحذيفة بن اليمان رضي الله عنه قطع هذا الخيط من هذا الرجل، فهذا فيه إزالة المنكر، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الحلْقة قال: "انزعها".
قوله: "وتلا قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ(106)}"، {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ} أكثر الناس "{وَهُمْ مُشْرِكُونَ}" قيل معناه أنهم لا يؤمنون بالربوبية إلاَّ وهم مشركون في الألوهية، لأن المشركين كلهم يقرُّون بالربوبية، ولكنهم يشركون في الألوهية، إما الشرك الأكبر وإما الشرك الأصغر، وربط الخيط حسب ما فصّلنا من أنه إذا كان يرى أن النفع والضرر بيد الله، وإنما الخيط سبب؛ فهذا شرك أصغر، لأن الله لم يجعل ربط الخيط سبباً من الأسباب الواقية. أما إذا كان يعتمد على هذا الخيط من دون الله في دفع الضرر؛ فهذا شرك أكبر.
فدلّ على أن الشرك قد يقع ويكثر وقوعه حتى من أهل الإيمان، إن كان المراد الشرك الأصغر، فالشرك الأصغر قد يصدر من المؤمن، كما قد يصدر منه النفاق لا العملي، ويصدر منه الرياء. أما إذا كان القصد الاعتماد عليه فإنه يكون من الشرك الأكبر المنافي للإيمان، فالشرك الأصغر ينقّص الإيمان، وينقّص التّوحيد، أما الشرك الأكبر فإنه ينافي الإيمان وينافي التّوحيد.
قال الشيخ رحمه الله في مسائله فيه: "أن الصحابة يستدلُّون بالآيات التي في الشرك الأكبر على الأصغر"، لأن حذيفة بن اليمان استدل بالآية النازلة في الشرّك الأكبر على(13/257)
الشرك الأصغر، هذا إذا فُسِّرت الآية بأن المراد بها أهل الجاهلية، لأن أهل الجاهلية يقرّون بتوحيد الربوبية ويشركون في توحيد الألوهية، ولكن إقرارهم بتوحيد الربوبية لا يدخلهم في الإسلام، فيكون حذيفة رضي الله عنه استدل بالآية النازلة على الشرك الأكبر على الشرك الأصغر، لأنها تتناوله بعمومها، مثل ما استدل ابن عباس بقوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} قال: "هو قول الرجل: ما شاء الله وشئت، لولا الله وأنت، لولا كُليبة هذا لأتانا اللصوص وما أشبه ذلك"، فسّرها بالشرك(13/258)
ص -144- ... الأصغر، لأن الآية شاملة للشرك الأكبر والشرك الأصغر، فهو استدل بها على بعض ما دلّت عليه، كذلك حذيفة استدل بهذه الآية على بعض ما دلت عليه، لأنها تشمل الشرك الأكبر والشرك الأصغر، وبعض المسلمين يؤمنون بالله في توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، ولكن يصدر منهم بعض الشرك الأصغر الذي لا ينافي الإيمان، فدلّ على الحذر من الشرك، وأنه إذا كان هذا يحصل من بعض المؤمنين، فإن الإنسان لا يأمنه على نفسه، ويستعيذ بالله من الشرك الأكبر والأصغر ويقول: "اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم، وأستغفرك من الذنب الذي لا أعلم"، وفي الدعاء المشهور: "أعوذ بك من الشك والشرك والكفر والنفاق وسوء الأخلاق"، فالمسلم يخاف على نفسه، ويدعو الله عزّ وجلّ بالعافية من هذه الأمور، ولا يزكي نفسه، ولا يأمن على نفسه.(13/259)
ص -145- ... [الباب الثامن:] *باب ما جاء في الرقى والتمائم
في الصحيح عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، فأرسل رسولاً: "أن لا يُبقين في رقبة بعير قلادة من وَتَر، أو قلادة إلاَّ قُطِعت".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الشيخ رحمه الله: "باب ما جاء في الرّقى والتمائم" أي: ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين من الأحاديث والآثار في النهي عن الرُّقى والتّمائم.
هذا الباب مناسبته لما قبله: وهو: "بابٌ من الشرك لبس الحلْقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه"؛ أن هذا الباب مكمِّلٌ للباب الذي قبله، لأنه ذكر أنواعاً أخرى مكمِّلة لما ذُكر في الباب الذي قبله، ولكن الباب الذي قبله صرّح الشيخ في ترجمته بأن لبس الحلْقة والخيط من الشرك، وأما هنا فلم يصرّح، بل قال: "ما جاء في الرُّقى والتمائم"، وهذا من دقّة فقهه ومعرفته رحمه الله، فإنه إذا كان الحُكم واضحاً منصوصاً عليه في الحديث ذكره في الترجمة، وإذا كان الحكم فيه تفصيل، أو فيه احتمال؛ فإنه لا يجزم في الترجمة، وإنما يورد الأدلة في الباب ويُؤخذ منها الحكم مفصّلاً. فهذا من دقّة فقهه رحمه الله، وشدّة تورّعه عن إطلاق الأحكام، مما يُرَبِّي في طلبة العلم هذه الخَصْلَة الطيّبة، وهي أنهم يتورّعون في إطلاق الأحكام ويتثبتون فيها، لأن الأمر خطير جدًّا.
قوله: "عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه" هكذا كان مشهوراً بكُنْيته، ولم يُعرف له اسم -كما قال ابن عبد البر.
"أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره" لم يعين هذا السفر، قال الحافظ: لم أقف على تعيينه".
"فأرسل رسولاً" أي: مندوباً.
"أن لا يبقيّن في رقبة بعير قلادة" "يبقيّن" مؤكّد بنون التأكيد الثقيلة، وقلادة فاعل. كانوا في الجاهلية يعلّقون القلائد على رقاب الإبل، يعتقدون أن ذلك يدفع(13/260)