ص -303- ... رواه الترمذي وحسنه وصححه، الحاكم (1). وقال ابن مسعود: لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا (2) .
....................................................................
= ما بلغ إليه شرك عباد الأصنام، فمن كان جهد يمينه الحلف بالشيخ ونحوه فهو أكبر شركا منهم. وفيه دليل على أنه لا تجب الكفارة بالحلف بغير الله مطلقا؛ لأنه لم يذكر فيه كفارة، فليس فيه كفارة إلا النطق بكلمة التوحيد والاستغفار.
(1) وأقره الذهبي، وكذا أخرجه أحمد من طرق، وأبو داود، وصححه ابن حبان. وقال ابن العراقي: إسناده ثقات. وفي الصحيح وغيره عن ابن عمر مرفوعا: " إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت "1. وعن بريدة مرفوعا " من حلف بالأمانة فليس منا "2. رواه أبو داود، وتواترت النصوص بالنهي عن الحلف بغير الله، ودلت على أنه شرك، لكنه لا يخرجه عن الملة، ولا يوجب له حكم الكفار. وأجمع العلماء على أن اليمين لا تكون إلا بالله أو بصفاته، وأجمعوا على المنع من الحلف بغيره، وأما قوله: "أفلح وأبيه"، "أما وأبيك". فقد أجيب عنه بأنه ليس من جنس اليمين المقصودة، بل هو مما يجري على الألسن من غير قصد، كقولهم: تربت يداك، أو أنه كان قبل النهي عن الحلف بغير الله ثم نسخ، فما ورد فيه ذكر الحلف بغير الله فهو جار على العادة قبل النهي، لأن ذلك هو الأصل، حتى ورد النهي؛ يؤيده ما في الصحيح عن ابن عمر وغيره، وقيل غير ذلك.
(2) رواه الطبراني وابن جرير وغيرهما، قال المنذري: ورواته رواة الصحيح.
وجاء عن ابن عباس وابن عمر نحوه، وذلك أن الحلف بالله كاذبا كبيرة، والحلف بغير الله شرك وكفر، وإن كان أصغر فهو أكبر من الكبائر بإجماع السلف. قال شيخ الإسلام: ((وإنما رجح ابن مسعود الحلف بالله كاذبا، على الحلف بغيره صادقا، لأن الحلف بالله توحيد، والحلف بغيره شرك، وإن قدر الصدق في الحلف بغيره، فحسنة التوحيد(8/473)
أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الكذب، أسهل من سيئة =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الأيمان والنذور (6646) , ومسلم : الأيمان (1646) , والترمذي : النذور والأيمان (1534) , وأبو داود : الأيمان والنذور (3249) , وأحمد (2/7 ,2/11 ,2/20 ,2/98 ,2/125 ,2/142) , ومالك : النذور والأيمان (1037) , والدارمي : النذور والأيمان (2341).
2 أبو داود : الأيمان والنذور (3253) , وأحمد (5/352).(8/474)
ص -304- ... وعن حذيفة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان "1 رواه أبو داود بسند صحيح (1) .
وجاء عن إبراهيم النخعي أنه يكره أن يقول الرجل: أعوذ بالله وبك. ويجوز أن يقول: بالله ثم بك، قال ويقول: لولا الله ثم فلان، ولا تقولوا: لولا الله وفلان (2) .
....................................................................
= الشرك)) ا هـ. فإذا كان هذا حال الشرك الأصغر فكيف بالشرك الأكبر الموجب للخلود في النار، كدعوة غير الله والاستغاثة به، والرغبة إليه وإنزال حوائجه به، كما هو حال الأكثر من هذه الأمة في هذه الأزمان وما قبلها.
(1) ورواه أحمد وابن أبي شيبة والنسائي وابن ماجه والبيهقي، وله شواهد، ومعناه صحيح بلا ريب؛ وذلك لأن العطف بالواو يقتضي المساواة؛ لأنها في وضعها لمطلق الجمع، فلا تقتضي ترتيبا ولا تعقيبا، وتسوية المخلوق بالخالق في نوع من أنواع العبادة شرك، فإن كان في الأصغر مثل هذا فهو أصغر، وإن كان في الأكبر فهو أكبر، كقول الله عنهم: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 2 بخلاف المعطوف بـ(ثم)؛ فإن المعطوف بها يكون متراخيا عن المعطوف عليه بمهلة، فلا محذور لكونه صار تابعا.
(2) رواه عبد الرزاق وابن أبي الدنيا، وتقدم الفرق بين ما يجوز وما لا يجوز من ذلك، وهذا في الحي الحاضر الذي له قدرة وسبب، فإنه يجوز في حقه ما هو تحت قدرته ووسعه، وأما الأموات الذين لا إحساس لهم بمن يدعوهم ولا قدرة لهم على نفع ولا ضر، فلا يقال في حقهم شيء من ذلك، فلا يجوز التعلق عليهم بشيء ما، بوجه من الوجوه، والقرآن يبين ذلك، وينادي بأنه يجعلهم آلهة إذا سئلوا شيئا من ذلك، أو رغب إليهم أحد بقوله أو عمله الباطن أو الظاهر، ومطابقة الحديثين والأثرين للترجمة ظاهرة على ما فسره ابن عباس في الآية.(8/475)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : الأدب (4980) , وأحمد (5/384 ,5/393 ,5/398).
2 سورة الشعراء آية : 98.(8/476)
ص -305- ... باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله (1)
عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تحلفوا بآبائكم (2)، من حلف بالله فليصدق (3)، ومن حُلف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله "1. رواه ابن ماجه بإسناد حسن (4).
....................................................................
(1) أي من الوعيد لكونه من الفعل المنافي لكمال التوحيد؛ لدلالته على قلة تعظيمه لجناب الربوبية، فإن القلب الممتلئ بمعرفة عظمة الله وجلاله لا يفعل ذلك.
(2) فيه النهي عن الحلف بالآباء، ولا مفهوم له، فقد تقدم النهي عن الحلف بغير الله مطلقا، وأنه من الشرك.
(3) أي وجوبا لأن الصدق مما أوجبه الله على عباده، وحضهم عليه في كتابه، ولو لم يحلف بالله، فكيف إذا حلف به؟ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} 2. وقال:{وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} 3. وقال: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ} 4. وهو حال أهل البر كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} 5 إلى قوله : {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} 6. وفيه تأكد وجوب الصدق في اليمين بالله، لأن اليمين الغموس من الكبائر.
(4) ولفظه: " ومن لم يرض بالله فليس من الله "7. وله شواهد من الكتاب والسنة، وهذا وعيد شديد لمن لم يرض، أما إذا لم يكن له بحكم الشريعة على خصمه إلا اليمين، فأحلفه فلا ريب أنه يجب عليه الرضى، وظاهره وإن كان يعتقد كذبه في =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجه : الكفارات (2101).
2 سورة التوبة آية : 119.
3 سورة الأحزاب آية : 35.
4 سورة النحل آية : 105.
5 سورة البقرة آية : 177.
6 سورة البقرة آية : 177.
7 ابن ماجه : الكفارات (2101).(8/477)
ص -306- ... .............................................................................................
= الباطن. قال الشارح: ((وحدثت عن المصنف أنه حمل حديث الباب على اليمين في الدعاوى)) اهـ. ولا يستحلفه بغير الله تعالى أو صفة من صفاته كالطلاق والعتاق، والحالف إذا بلغ فسقه بحيث استعظم غير الله وحلف به، فليس محلا للصدق، ولا عبرة بحلفه أصلا، وأما إذا كان مما يجري بين الناس مما قد يقع في الاعتذارات من بعضهم لبعض ونحو ذلك، فهذا من حق المسلم على المسلم أن يقبل منه إذا حلف له معتذرا أو متبريا من تهمة، ومن حقه عليه أن يحسن به الظن إذا لم يتبين كذبه، كما قال عمر رضي الله عنه: " ولا تظن بكلمة خرجت من أخيك شرا، وأنت تجد لها في الخير محملا ". وهو من محاسن الأخلاق ومكارمها، وكمال العقل وقوة الدين.(8/478)
ص -307- ... باب قول: ما شاء الله وشئت (1)
عن قتيلة " أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت"1. رواه النسائي وصححه (2) .
....................................................................
(1) وأنه من الشرك؛ لما فيه من التسوية بين الخالق والمخلوق في المشيئة.
(2) قتيلة بمثناة مصغر، بنت صيفي الأنصارية، صحابية مهاجرة، لها هذا الحديث في سنن النسائي، ورواه عنها عبد الله بن يسار الجعفي، ورواه الطبراني وابن سعد وابن منده وغيرهم. والحديث نص في أن هذا اللفظ من الشرك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر اليهودي على تسميته بذلك، ونهى عنه، وقال لمن قال ذلك: " أجعلتني لله ندا "2؟ وأقر من سماه تنديدا، كما جاء بلفظ "إنكم تنددون" وأرشد إلى استعمال اللفظ البعيد من الشرك، والعبد وإن كان له مشيئة فمشيئته تابعة لمشيئة الله، ولا قدرة له على أن يشاء شيئا إلا إذا كان الله قد شاءه، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 3. قال الشارح: ولو أتى بـ(ثم) وأراد أنه شريك لله تعالى في المشيئة فالنهي باق بحاله، بل يكون في هذه الصورة أشد ممن أتى بالواو، مع عدم هذا الاعتقاد، وفيه قبول الحق ممن جاء به كائنا من كان، وبيان النهي عن الحلف بالكعبة، وأنه شرك مع أنها بيت الله التي حجها فرض، وهذا يبين أن النهي عن الشرك بالله عام، لا يصلح منه شيء، لا لملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا للكعبة التي هي بيت الله في أرضه، ولا غير ذلك من سائر المخلوقات.(8/479)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي : الأيمان والنذور (3773) , وأحمد (6/371).
2 البخاري : تفسير القرآن (4477) , ومسلم : الإيمان (86) , والترمذي : تفسير القرآن (3182 ,3183) , والنسائي : تحريم الدم (4013 ,4014 ,4015) , وأبو داود : الطلاق (2310) , وأحمد (1/380 ,1/431 ,1/434 ,1/462 ,1/464).
3 سورة الإنسان آية : 30.(8/480)
ص -308- ... وله أيضا عن ابن عباس - رضي الله عنهما - " أن رجلا قال: للنبي صلى الله عليه وسلم : ما شاء الله وشئت. قال: أجعلتني لله ندًّا ؟ بل ما شاء الله وحده (1) "1.
ولابن ماجه عن الطفيل أخي عائشة لأمها (2)
....................................................................
(1) وفي رواية: " قل ما شاء الله وحده " ورواه ابن ماجه وابن مردويه وغيرهما. وهذا يقرر ما تقدم من أن هذا شرك؛ لوجود التسوية في العطف بالواو، وفيه أن من سوى العبد بالله ولو في الشرك الأصغر فقد جعله ندا لله؛ لقوله: " أجعلتني لله ندا "2 أي شريكا، استفهام إنكار، أي ليس لك أن تسويني بالله. قال ابن القيم: هذا مع أن الله قد أثبت للعبد مشيئة، فكيف بمن يقول: أنا متوكل على الله وعليك، وأنا في حسب الله وحسبك، وما لي إلا الله وأنت، وهذا من الله ومنك، وهذا من بركات الله وبركاتك، والله لي في السماء وأنت لي في الأرض، ويقول: نذرا لله ولفلان، وأنا تائب لله ولفلان، وأرجو الله وفلانا ونحو ذلك، فوازن بين هذه الألفاظ وببن قول القائل: ما شاء الله وشئت، ثم انظر أيهما أفحش يتبين لك أن قائلها أولى بجواب النبي صلى الله عليه وسلم . وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى حمى التوحيد، وسد طرق الشرك في الأقوال والأفعال، وقال المصنف: فكيف بمن قال: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك، يشير إلى صاحب البردة حيث جعل عياذه ولياذه بغير الله.
(2) الطفيل: هو ابن عبد الله بن الحارث بن سخبرة بن جرثومة الخير بن عادية ابن مرة بن الأوس بن النمر بن عثمان الأزدي، صحابي له هذا الحديث، قدم أبوه عبد الله مكة قبل الإسلام، فحالف أبا بكر، وتوفي عن أم رومان، فخلف عليها أبو بكر، فولدت له عبد الرحمن وعائشة. وابن ماجه إنما روى عن حذيفة بهذا اللفظ، وعن الطفيل بنحوه، ورواه أحمد والنسائي، ورجح الحفاظ أن ابن عيينة وهم في روايته عن حذيفة.(8/481)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي : الأيمان والنذور (3773) , وأحمد (6/371).
2 البخاري : تفسير القرآن (4477) , ومسلم : الإيمان (86) , والترمذي : تفسير القرآن (3182 ,3183) , والنسائي : تحريم الدم (4013 ,4014 ,4015) , وأبو داود : الطلاق (2310) , وأحمد (1/380 ,1/431 ,1/434 ,1/462 ,1/464).(8/482)
ص -309- ... قال: " رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود فقلت: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله (1). قالوا: وإنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد (2). ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله. قالوا: وإنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: هل أخبرت بها أحدا ؟ قلت: نعم، قال: فحمد الله وأثنى عليه (3)،
....................................................................
(1) أي نعم القوم أنتم، لولا ما أنتم عليه من الشرك والمسبة لله بنسبة الولد إليه، وهذا لفظ الطبراني. وفي رواية له ولأحمد: ((رأيت فيما يرى النائم كأني مررت برهط من اليهود، فقلت: من أنتم ؟ قالوا: نحن اليهود)) والرهط والنفر الجماعة أقل من العشرة.
(2) عارضوه بشيء مما في المسلمين من الشرك الأصغر، أي نعم القوم أنتم لولا ما فيكم من هذا الشرك، وكذلك جرى له مع نفر من النصارى، وفيه معرفة اليهود والنصارى للشرك وإن كان أصغر، وهم مع ذلك يشركون بالله الشرك الأكبر.
(3) فيه سنة تقديم حمد الله والثناء عليه في الخطب، وحسن خلقه صلى الله عليه وسلم ، وعدم احتجابه عن الناس كالملوك، واعتنائه بالرؤيا؛ لأنها من أقسام الوحي.(8/483)
ص -310- ... ثم قال: أما بعد فإن طفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها (1)، فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده" (2) .
....................................................................
(1) وفي رواية أحمد والطبراني: " إنكم كنتم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم أن أنهاكم عنها "1. وهذا الحياء ليس حياء عن الإنكار عليهم، بل كان صلى الله عليه وسلم يكرهها؛ ويستحيي أن ينكرها، لأنه لم يؤمر بإنكارها، فلما جاء الأمر الإلهي بالرؤيا الصالحة خطبهم، ونهى عن ذلك نهيا بليغا.
(2) هذه الرؤيا حق، أقرها صلى الله عليه وسلم وعمل بمقتضاها، ونهاهم أن يقولوا: ما شاء الله وشاء محمد؛ لما فيه من مطلق التسوية بين الخالق والمخلوق، وأمرهم أن يقولوا ما شاء الله وحده، كما في الحديث قبله، ولا ريب أن هذا أكمل في الإخلاص، وأبعد عن الشرك، وأفضل وأكمل من قول ما شاء الله ثم شاء محمد؛ لما في قول: ما شاء الله وحده من التصريح بالتوحيد، المنافي للتنديد من كل وجه، فالبصير يختار لنفسه أعلى مراتب الكمال في مقام التوحيد والإخلاص، ويجوز أن يقال: ما شاء الله ثم شاء فلان كما تقدم. وفيه معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة "2. وإن كانت هذه رؤيا منام، فقد أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر أنها حق. قال المصنف: وفيه أن الرؤيا الصالحة من أقسام الوحي، وأنها قد تكون سببا لشروع بعض الأحكام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (5/72).
2 البخاري : التعبير (6983) , ومسلم : الرؤيا (2264) , وابن ماجه : تعبير الرؤيا (3893) , وأحمد (3/106 ,3/126 ,3/149 ,3/185 ,3/269 ,5/316 ,5/319) , ومالك : الجامع (1781).(8/484)
ص -311- ... باب من سب الدهر فقد آذى الله (1)
وقول الله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} 1 الآية (2)
....................................................................
(1) لأنهم إذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد، فإنما سبوا فاعله حقيقة وهو الله سبحانه، والساب مرتكب أحد أمرين: إما مسبة الله أو الشرك، فإن اعتقد أن الدهر فاعل مع الله فهو مشرك، وإن اعتقد أن الله وحده هو الذي فعل ذلك، وهو يسب من فعله فقد سب الله تعالى الله وتقدس. ومناسبة هذا الباب للكتاب ظاهرة؛ لأن سب الدهر يتضمن الشرك، ولفظ الأذى في اللغة: هو لما خف أمره وضعف أثره من الشر والمكروه، وهو بخلاف الضر، فقد أخبر سبحانه، أن العباد لا يضرونه، لكن يؤذونه إذا سبوا مقلب الأمور.
(2) أي يقول مشركو العرب والفلاسفة الإلهيون وأضرابهم: ما حياتنا إلا حياة الدنيا التي نحن فيها، لا حياة سواها تكذيبا منهم بالبعث بعد الموت،: {نَمُوتُ وَنَحْيَا} 2 يموت قوم ويعيش آخرون، وما ثم معاد ولا قيامة، جحدا للمنقول ومكابرة للمعقول؛ ولهذا قالوا: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ} 3 أي ما يفنينا إلا ممر الليالي والأيام، فيسبون الدهر، والله يقول: " يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار "4. وأكذبهم بقوله:{وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} 5 أي يقين علم: {إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} 6 يتوهمون ويتخيلون، ومطابقة الآية للترجمة ظاهرة؛ لأن من سب الدهر فقد شاركهم في سبه، وإن لم يشاركهم في الاعتقاد.(8/485)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الجاثية آية : 24.
2 سورة الجاثية آية : 24.
3 سورة الجاثية آية : 24.
4 البخاري : تفسير القرآن (4826) , ومسلم : الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) , وأبو داود : الأدب (5274) , وأحمد (2/238).
5 سورة الجاثية آية : 24.
6 سورة الجاثية آية : 24.(8/486)
ص -312- ... وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار "1. (1) وفي رواية: " لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر (2) "2.
....................................................................
(1) الحديث أخرجاه في الصحيحين وغيرهما من طريق معمر وغيره من أوجه عن أبي هريرة وغيره، بهذا اللفظ وغيره، وفي الحديث زيادة وهي "بيدي الأمر" وفي رواية " لا تقولوا: يا خيبة الدهر؛ فإني أنا الدهر أرسل الليل والنهار، فإذا شئت قبضتهما "3. وفي رواية: " يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر، بيدي الليل والنهار "4. ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم بلفظ: كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار، وهو الذي يهلكنا ويميتنا ويحيينا، فقال الله: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} 5 الآية. فقال الله: " يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار "6 وأخرج ابن إسحاق عن أبي هريرة: " يقول الله: استقرضت عبدي فلم يعطني، ويسبني عبدي: وادهراه، وأنا الدهر "7. قال بعض السلف: كانت العرب في جاهليتها من شأنها ذم الدهر، أي سبه عند النوازل، فكانوا إذا أصابهم شدة أو بلاء أو ملامة قالوا: أصابتهم قوارع الدهر، وأبادهم الدهر، وقالوا: يا خيبة الدهر، فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه، وإنما فاعل ذلك هو الله، فإذا أضافوا ما نالهم من الشدائد إلى الدهر فإنما سبوا الله عز وجل؛ لأن الله هو الفاعل لذلك حقيقة، فنهى الله عن سب الدهر بهذا الاعتبار، وقد تبين معناه من قوله: "بيدي الأمر أقلب الليل والنهار". وتقليبه تصرفه تعالى فيه بما يحبه الناس ويكرهونه.
(2) ومعنى هذه الرواية هو ما صرح به من قوله "وأنا الدهر بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار" يعني أنما يجري فيه من خير وشر إنما هو بإرادة الله وتدبيره، بعلم(8/487)
منه تعالى وحكمة لا يشاركه في ذلك غيره، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : التوحيد (7491) , ومسلم : الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) , وأبو داود : الأدب (5274) , وأحمد (2/238 ,2/259 ,2/272 ,2/275 ,2/318 ,2/394 ,2/395 ,2/491 ,2/496 ,2/499 ,2/506) , ومالك : الجامع (1846).
2 مسلم : الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) , وأحمد (2/272 ,2/395 ,2/491 ,2/496 ,2/499).
3 مسلم : الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) , وأحمد (2/275 ,2/318).
4 البخاري : الأدب (6181) , ومسلم : الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) , وأحمد (2/238).
5 سورة الجاثية آية : 24.
6 البخاري : تفسير القرآن (4826) , ومسلم : الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) , وأبو داود : الأدب (5274) , وأحمد (2/238).
7 أحمد (2/300).(8/488)
ص -313- ... .............................................................................................
= فالواجب حمده في الحالتين، وحسن الظن به سبحانه وبحمده، والرجوع إليه بالتوبة والإنابة، كما قال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} 1. قال المصنف: وفيه أنه يكون سابا وإن لم يقصده بقلبه، ونسبة الفعل إلى الدهر، ومسبته قد فشت في كلام العرب، كقول ابن المعتز:
يا دهر ويحك ما أبقيت لي أحدا ... وأنت والد سوء تأكل الولدا
وقول أبي الطيب:
قبحا لوجهك يا زمان ... فإنه وجه له في كل قبح برقع
وهذا ونحوه داخل في الحديث وفيه مفاسد، منها سب من ليس أهلا للسب؛ فإن الدهر خلق مسخر، ومنها أن سبه متضمن للشرك، فإنما سبه لظنه أنه يضر وينفع، وأنه مع ذلك ظالم، ومنها أن السب إنما يقع على من فعل هذه الأفعال، ورب الدهر هو المعطي المانع الخافض الرافع، والدهر ليس له من الأمر شيء، فمسبته مسبة لله عز وجل ومنه: هذه سنة خبيثة، وعكسه قولهم: هذه تبسمة زمان يعني للأوقات التي يكثر فيها الخير، وليس منه وصف السنين بالشدة؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ} 2. وقال بعض الشعراء:
إن الليالي من الزمان مهولة ... تطوى وتنشر بينها الأعمار
فقصارهن مع الهموم طويلة ... وطوالهن مع السرور قصار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 168.
2 سورة يوسف آية : 48.(8/489)
ص -314- ... باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه (1)
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله(2) "1. قال سفيان: مثل شاهان شاه (3) .
....................................................................
(1) كحاكم الحكام وسلطان السلاطين، وسيد السادات. أشار المصنف رحمه الله إلى النهي عن ذلك قياسا على ما في حديث الباب؛ لكونه شبهه في المعنى. وهذا كله صيانة وحماية لجناب التوحيد؛ لمنافاة هذه الألفاظ لكماله، فيكون فيه شائبة من الشرك وإن لم يكن أكبر، ولا يخفى ما في إطلاقه على غير الله من الجرأة على الله، وسوء الأدب معه؛ فإن كل لفظ يقتضي التعظيم والكمال، لا يكون إلا لله وحده.
(2) فهو الذي يستحق هذا الاسم، ولا يصدق إلا عليه، فهو ملك الأملاك لا مالك أعظم ولا أكبر منه، فهو مالك الملك، وأزمة الملوك بيده، و"تسمى" بفتح التاء أي سمى نفسه، وقيل بضم الياء التحتية، أي يدعى بذلك، وأكد النبي صلى الله عليه وسلم تحريم التسمي بذلك بقوله: "لا مالك إلا الله"، فالذي تسمى بذلك قد كذب وفجر، وبلغ الغاية في الكفر، وارتقى إلى ما ليس له بأهل، فصار أحقر الناس عند الله يوم القيامة، معاملة له بنقيض قصده. وأخرج الطبراني: " اشتد غضب الله على من زعم أنه ملك الأملاك " .
(3) بكسر النون والهاء، وقد تنون، وهو عند العجم عبارة عن ملك الأملاك وسلطان السلاطين، ولهذا مثل به سفيان بن عيينة؛ لأنه عبارة عنه بلغة العجم، =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الأدب (6206) , ومسلم : الآداب (2143) , والترمذي : الأدب (2837) , وأبو داود : الأدب (4961) , وأحمد (2/244).(8/490)
ص -315- ... وفي رواية: " أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه (2) "1. قوله: " أخنع " يعني أوضع(2) .
....................................................................
= فمراده - رحمه الله - أن الحديث متناول لمثل هذا بأي لسان كما هو ظاهر، فلا ينحصر في لفظ بعينه، بل كل ما أدى إلى هذا المعنى فهو داخل في الحديث.
(1) أغيظ من الغيظ، وأخبث من الخبث، والغيظ مثل الغضب والبغض، فيكون بغيضا إلى الله، خبيثا عنده، مغضوبا عليه، فاجتمعت في حقه هذه الأمور لتعاظمه في نفسه، وتعظيم الناس له بهذه الكلمة التي هي من أعظم التعظيم، فتعظمه في نفسه وتعظيم الناس له بما ليس له بأهل: وضعه عند الله يوم القيامة، فصار أبغض الخلق إلى الله وأخبثهم عنده وأحقرهم؛ لأن الخبيث البغيض عند الله يكون يوم القيامة أحقر الخلق وأخبثهم؛ لتعاظمه في نفسه على خلق الله بنعم الله عليه، عكس من تواضع لله؛ فإن الله يرفعه. وهذه من الصفات التي نؤمن بها ونثبتها على ما يليق بجلال الله وعظمته، وزعم بعض المتأخرين أن التسمي بقاضي القضاة ونحوه جائز، واستدل بحديث "أقضاكم علي". ورده العراقي وغيره، وقال: لا يخفى ما في ذلك من الجرأة على الله، وسوء الأدب معه.
(2) هذا هو معنى أخنع، ورواه مسلم عن أحمد عن أبي عمرو الشيباني. قال القاضي عياض: معناه أنه أشد الأسماء صغارا، وبذلك فسره أبو عبيد، والخانع الذليل، فيفيد ما تقدم في معنى "أغيظ"، أنه يكون حقيرا بغيضا عند الله، وفيه التحذير من كل ما فيه تعاظم كالقيام على المعظمين، كما تقوم الأعاجم يعظم بعضها بعضا وغير ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الآداب (2143) , وأحمد (2/315).(8/491)
ص -316- ... باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك (1)
" عن أبي شريح، أنه كان يكنى أبا الحكم (2)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله هو الحكم، وإليه الحكم (3) .
....................................................................
(1) أي وجوب احترام أسماء الله تعالى، وهو تعظيمها ووجوب تغيير الاسم لأجل احترام أسماء الله تعالى، وذلك من تحقيق التوحيد. واحترمه: رعى حرمته وهابه، وغير الاسم: حوّله وبدله، وجعل غيره مكانه.
(2) أبو شريح هو هانئ بن يزيد الكندي، أسلم يوم الفتح، له عشرون حديثا، اتفقا على حديثين منها، وانفرد البخاري بحديث، وروى عنه أبو سعيد المقبري، ونافع بن جبير وطائفة، قال ابن سعد مات بالمدينة سنة 68 هـ. و"يكنى" بسكون الكاف وفتحها، ما صدر بأم أو أب، وقد تكون بالأوصاف كأبي المعالي، أو إلى ما يلابسه كأبي هريرة، وقد تكون للعلمية الصرفة كأبي بكر، واللقب ما أشعر بمدح كـ(زين العابدين) ونحوه، أو ذم كأنف الناقة ونحوه.
(3) الحكم اسم من أسماء الله تعالى، الذي إذا حكم لا يرد حكمه، وهذه الصفة لا تليق بغير الله تعالى. قال تعالى: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} 1. فهو سبحانه الحكم في الدنيا والآخرة، يحكم بين خلقه في الدنيا بوحيه الذي أنزله على أنبيائه ورسله، وما من قضية إلا وله تعالى فيها حكم مما أنزله على نبيه من الكتاب والحكمة، لكن قد يخفى على بعض الناس، وقد يسر الله معرفة أكثر ذلك لأكثر العلماء، فلا تجتمع هذه الأمة على ضلالة، وإن اختلفوا في بعض الأحكام فلا بد أن يكون المصيب فيهم واحدا، فمن رزقه الله قوة الفهم وأعطاه ملكة يقتدر بها على =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الرعد آية : 41.(8/492)
ص -317- ... فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين (1).
....................................................................
= فهم الصواب من أقوال العلماء ومستنداتهم، أدرك الصواب من ذلك. وإليه سبحانه الحكم، أي الفصل بين العباد في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} 1، وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 2 فالحكم إلى الله، هو الحكم إلى كتابه وكذا الرد إليه هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته وإلى سنته بعد وفاته، وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "بم تحكم"؟ قال: بكتاب الله، قال: "فإن لم تجد؟"، قال: بسنة رسول الله. قال: "فإن لم تجد"؟ قال: أجتهد رأيي. وهو من أجل علماء الصحابة، فساغ له الاجتهاد بخلاف ما يقع اليوم وقبله من أهل التفريط في الأحكام، ممن يجهل حكم الله ورسوله، فيظن أن الاجتهاد يسوغ له، مع الجهل بالكتاب والسنة. وأما يوم القيامة فلا يحكم بين الخلق إلا الله عز وجل يحكم بينهم سبحانه بعلمه، والحكم إنما هو بالحسنات والسيئات، يؤخذ للمظلوم من الظالم من حسناته بقدر ظلامته إن كان له حسنات، وإلا أخذ من سيئات المظلوم فطرح على سيئات الظالم، ولا يظلم أحدا مثقال ذرة. وفيه دليل على المنع من التسمي بأسماء الله تعالى المختصة به، والمنع مما يوهم عدم الاحترام لها كالتكني بأبي الحكم ونحوه.
(1) أي أنا لم أكن نفسي بهذه الكنية، وإنما كنت أحكم بينهم فكنوني بها، والمعنى - والله أعلم- أن أبا شريح كان مرضيا عند قومه، يتحرى ما يصلحهم إذا اختلفوا فيرضون صلحه، فسموه أبا الحكم لذلك، لأن مدار صلحه على الرضا لا على الإلزام، ولا على أحكام الكهان وأهل الكتاب، ولا إلى أوضاع الجاهلية. وأما(8/493)
ما يحكم به الجهلة من الأعراب ونحوهم فليس من هذا الباب، لما فيه من النهي الشديد، والخروج عن حكم الله ورسوله إلى ما يخالفه، قال تعالى: {أَفَحُكْمَ =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الشورى آية : 10.
2 سورة النساء آية : 59.(8/494)
ص -318- ... فقال: ما أحسن هذا! (1) فما لك من الولد؟ قلت: شريح ومسلم وعبد الله، قال فمن أكبرهم؟ قلت: شريح. قال فأنت أبو شريح "1. رواه أبو داود وغيره (2) .
....................................................................
=الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} 2. وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} 3 وهذا كثير، فمن الناس من يحكم بين الخصمين برأيه وهواه، ومنهم من يتبع في ذلك سلفه، ويحكم بما كانوا يحكمون به، ومنهم من يحكم بالقوانين اليونانية، وهذا كفر إذا استقر وغلب على من تصدى لذلك ممن يرجع الناس إليه إذا اختلفوا، وقد يلتحق بهذا بعض المقلدة لمن لم يسغ تقليده، فيعتمد على قول من قلده، ويدع ما دل عليه الكتاب والسنة.
(1) أي ما أحسن هذا الحكم بينهم، لما صار صاحب إنصاف وتحر للعدل بينهم، والإرضاء لهم من الجانبين استحسنه صلى الله عليه وسلم ، أو ما أحسن ما ذكرته من الكنية، والأول أولى.
(2) فرواه النسائي والحاكم، وزاد: ((فدعا له ولولده)). وقال ابن مفلح: وإسناده صحيح، وكناه بالكبير فهو السنة، كما جاء في غير ما حديث، وإن لم يكن له ابن فيكنى بأكبر بناته، وكذلك المرأة، وغير كنيته صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الله هو الحكم على الإطلاق، ومنه تسمية الأئمة بالحكام، فينبغي ترك ذلك والنهي عنه لهذا الحديث، وفيه الرعاية للأكبر منا في التكريم، وأن استعمال الاسم الشريف الحسن مكروه في حق من ليس كذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي : آداب القضاة (5387) , وأبو داود : الأدب (4955).
2 سورة المائدة آية : 50.
3 سورة المائدة آية : 44.(8/495)
ص -319- ... باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول (1)
وقول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} 1 الآية (2) .
....................................................................
(1) أي باب بيان حكم من هزل بشيء فيه ذكر الله عز وجل أو القرآن أو الرسول صلى الله عليه وسلم ، يعني فقد كفر لاستخفافه بالربوبية والرسالة، وذلك مناف للتوحيد، وكفر بالإجماع، ولو لم يقصد حقيقة الاستهزاء، والهزل المزح، والهذي ضد الجد، وهو أن لا يراد باللفظ ظاهره ومعناه، بل يراد به غير ذلك لمناسبة تقتضيه.
(2) أي ولئن سألت يا محمد هؤلاء المنافقين الذين تكلموا بكلمة الكفر استهزاء، ليقولن معترفين ومعتذرين: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} 2 أي لم نقصد الاستهزاء والتكذيب، وإنما قصدوا الخوض في الحديث واللعب، وخاض في الحديث أفاض فيه، وفي الباطل دخل فيه. واللعب ضد الجد مزح، وفي الأمر استخف به وفعل فعلا يقصد به اللذة والتنزه، فأخبرهم الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن عذرهم هذا لا يغني عنهم من الله شيئا، وأنهم كفروا بعد إيمانهم بهذه المقالة التي استهزءوا بها، ولم يعبأ باعتذارهم. قال شيخ الإسلام: وقول من يقول: إنهم كفروا بعد إيمانهم بلسانهم مع كفرهم أولا بقلوبهم لا يصح؛ لأن الإيمان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر، فلا يقال: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} 3؛ فإنهم لم يزالوا كافرين في نفس الأمر، وإن أريد أنكم أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان فهم لم يظهروا للناس، إلا لخواصهم وهم مع خواصهم ما زالوا كذلك، ولم يدل اللفظ أنهم ما زالوا منافقين. وقوله: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ} 4 أي مخشي =(8/496)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية : 65.
2 سورة التوبة آية : 65.
3 سورة التوبة آية : 66.
4 سورة التوبة آية : 66.(8/497)
ص -320- ... عن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة دخل حديث بعضهم في بعض (1) أنه "قال رجل في غزوة تبوك (2) ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا (3)
....................................................................
= ابن حمير الأشجعي حليف بني سلمة، قال ابن إسحاق: قال: لوددت أني أقاضي على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة، وأنا ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه، وقال: يا رسول الله قعد بي اسمي واسم أبي، فكان الذي عناه بالآية، فسمي عبد الرحمن، وسأل أن يقتل شهيدا لا يعلم مكانه، فقتل يوم اليمامة فلم يوجد له أثر. وقوله: {نُعَذِّبْ طَائِفَةَ} 1 أي لا يعفى عن جميعكم، ولا بد من عذاب بعضكم : {بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} 2 أي بهذه المقالة الفاجرة الخاطئة.
(1) أي ما ذكر عنهم مجموعا من رواياتهم متقارب المعنى، وقد ذكره كذلك شيخ الإسلام، فلذلك دخل بعضه في بعض. ومحمد بن كعب أو ابن سليم بن أسد أبو حمزة القرظي من حلفاء الأوس، كان أبوه من سبي قريظة، روى عن جماعة من الصحابة، وعنه يزيد بن عجلان وموسى بن عبيدة وغيرهم، ثقة عالم. قال نافع: ما رأيت أحدا أعلم منه في تأويل القرآن، توفي سنة 120 هـ. وزيد بن أسلم هو العدوي مولى عمر، أبو عبد الله أو أبو أسامة المدني، ثقة عالم، روى عن أبيه وابن عمر وأبي هريرة وغيرهم، وعنه أولاده الثلاثة وغيرهم، قال نافع لعلي بن الحسين: تخطأ مجالس قومك لعبد عمر، فقال: إنما يجلس الرجل إلى من ينفعه في دينه، وأثر ابن عمر رواه ابن جرير وغيره بنحو هذا اللفظ، وأثر ابن كعب وزيد وقتادة معروف، لكن بغير هذا اللفظ والمعنى متقارب.
(2) وكانت في رجب سنة 9 هـ. قال ابن إسحاق: وقد كان جماعة من المنافقين منهم وديعة بن ثابت أخو بني أمية بن زيد بن عمرو بن عوف، ومخشي بن حمير الذي تاب الله عليه، وهو لم يقل ذلك، وإنما حضره.
(3) ولفظ ابن جرير وغيره: ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا(8/498)
بطونا. أي أوسع، يريد كثرة الأكل، وهو وإن كان مذموما لكن المنافقون قد افتروا أعظم فرية =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية : 66.
2 سورة التوبة آية : 66.(8/499)
ص -321- ... ولا أكذب ألسنا (1)، ولا أجبن عند اللقاء (2)، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء (3)، فقال له عوف بن مالك: كذبت ولكنك منافق (3)،
....................................................................
= في نسبة ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فإن الصحابة - رضي الله عنهم - أقنع الناس، وأحسنهم اقتصادا في الأكل وغيره، والمنافقون والكفار أوسع بطونا، وأكثر أكلا كما صرحت بذلك الأحاديث، وأدرك بالحس والمشاهدة. والقراء جمع قارئ، وهم عند السلف الذين يقرءون القرآن، ويعرفون معانيه، أما قراءته من غير فهم معناه فلا يوجد في ذلك العصر، وإنما حدث بعد ذلك من جملة البدع.
(1) بل المنافقون أكذب خلق الله كما وصفهم الله بقوله: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} 1 والصحابة - رضي الله عنهم - عدول بالإجماع، اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه وحفظه، وهم من الصدق بالمنزلة العالية، والغاية التي ليس فوقها غاية رضي الله عنهم وأرضاهم.
(2) يعني لقاء العدو، وقد كذب في ذلك، بل المنافقون هم الجبناء: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} 2، وشجاعة الصحابة رضي الله عنهم مشهورة، وما ظهر لهم من الشجاعة والبطولة لا يعرف لها نظير، ولهذا قال له عوف: كذبت أي فيما نسبته إليهم.
(3) وفي رواية ابن إسحاق: يشيرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا؟ والله لكأنا بكم مقرنين في الحبال ; إرجافا وترهيبا للمؤمنين.
(4) فيه المبادرة بالإنكار والشدة على المنافقين، وجواز وصف الرجل بالنفاق إذا ظهر منه ما يدل عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المجادلة آية : 18.
2 سورة المنافقون آية : 4.(8/500)
ص -322- ... لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)، فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه (2)، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق (3)، قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقا بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الحجارة لتنكب رجليه (4)،
....................................................................
(1) هذا ونحوه من النصيحة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وليس من النميمة في شيء، فذكر أفعال الفساق لولاة الأمور ليردعوهم، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا من الغيبة والنميمة.
(2) أي قد جاء الوحي من الله بما قالوه. وفي رواية: فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن. وفي رواية ابن إسحاق: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمار: " أدرك القوم فإنهم قد احترقوا، فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى، قد قلتم كذا وكذا" فانطلق إليهم عمار فقال ذلك لهم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه " .
(3) أي لم يقصدوا حقيقة الاستهزاء، وإنما قصدوا الخوض واللعب، والمراد الهزل لا الجد والتحدث كما يتحدث الركبان إذا ركبوا رواحلهم، وقصدوا ترويح أنفسهم، وتوسيع صدورهم ليسهل عليهم السفر، وقطع الطريق.
(4) نسعة بكسر النون سير مضفور عريض يشد به الرحال، سمي نسعا لطوله، أو يجعل زماما للبعير وغيره، والحقب أيضا حبل أو سير يشده الرحال في بطن =(9/1)
ص -323- ... وهو يقول: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} 1 فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم : {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}، ما يلتفت إليه ولا يزيده عليه ".
....................................................................
= البعير، ويقال: إنهما واحد. وفي رواية: وأنا رأيته متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبه الحجارة، وقال محمد بن كعب وغيره: وإن رجليه ليسفعان الحجارة، وما يلتفت إليه. وفي رواية ابن إسحاق: فقال وديعة بن ثابت ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على راحلته، فجعل يقول وهو آخذ بحقبها: يا رسول الله : {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} 2. وقال مخشي ما تقدم ذكره عنه.
(1) رواه ابن جرير وغيره، أي ما يلتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المنافق فيقبل عذره، ولا يزيده على قوله: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} أي فليس لكم عذر لأن هذا لا يدخله الخوض واللعب، وإنما تحترم هذه الأشياء وتعظم ويخشع عندها، إيمانا بالله ورسوله، وتعظيما لآياته وتصديقا وتوقيرا، والخائض واللاعب متنقص لها. ومن هذا الباب الاستهزاء بالعلم وأهله وعدم احترامهم، أو الوقيعة فيهم لأجله، وفيه أن الإنسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها، أو عمل يعمله، قال المصنف: القول الصريح في الاستهزاء هذا وما شابهه، وأما الفعل الصريح فمثل مد الشفة، وإخراج اللسان ورمز العين، وما يفعله كثير من الناس عند الأمر بالصلاة والزكاة فكيف بالتوحيد؟ وقال: فيه -وهي العظيمة- أن من هزل بهذا أنه كافر، والفرق بين النميمة وبين النصيحة لله ولرسوله، وبين العفو الذي يحبه الله والغلظة على أعداء الله، وأن من الاعتذار ما لا ينبغي أن يقبل.(9/2)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية : 65.
2 سورة التوبة آية : 65.(9/3)
ص -324- ... باب ما جاء في قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي}1 الآية (1).
قال مجاهد: هذا بعملي وأنا محقوق به (2). وقال ابن عباس: يريد من عندي (3) .
وقوله: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} 2 قال قتادة: على علم مني بوجوه المكاسب(5) وقال آخرون: على علم من الله أني له أهل (6).
....................................................................
(1) أراد المصنف - رحمه الله - بهذه الترجمة بيان أن زعم الإنسان استحقاقه ما حصل له من النعم بعد الضراء مناف لكمال التوحيد، أي يقول تعالى: ولئن آتينا الإنسان خيرا وعافية وغنى، من بعد بلاء وشدة أصابته، ليقولن: إني كنت مستحقه، فكفر نعمة الله إذا لم ينسبها إليه تعالى.
(2) أي بكسبي وأنا خليق به وجدير به، رواه عبد بن حميد وابن جرير بنحوه.
(3) أي يريد بقوله: (هذا لي) هذا من عندي.
(4) قاله قارون فخسف الله به الأرض عقوبة له.
(5) رواه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. وقال ابن كثير: قال قتادة،: {عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} على خبر عندي.
(6) قاله السدي والبغوي وابن جرير وغيرهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة فصلت آية : 50.
2 سورة القصص آية : 78.(9/4)
ص -325- ... وهذا معنى قول مجاهد: أوتيته على شرف (1). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن ثلاثة من بني إسرائيل: أبرص وأقرع وأعمى (2)، فأراد الله أن يبتليهم (3)،
....................................................................
(1) رواه ابن جرير وغيره، وليس فيما ذكروه اختلاف، وإنما هو أفراد المعنى. ونحو هاتين الآيتين قوله: {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} 1 أي أنه في حال الضر يضرع إليه، ثم إذا خوله نعمة منه طغى وبغى. وقال:{إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} 2 أي لما يعلم الله استحقاقي له، ولولا أني عند الله خصيص لما خولني هذا، قال الله: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} 3 أي ليس الأمر كما زعم، بل إنما أنعمنا عليه لنختبره فيما أنعمنا عليه، أيطيع أم يعصي؟ مع علمنا المتقدم بذلك،: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} 4 أنه استدراج وامتحان، ليشكر أو يكفر،:{قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} 5 يعني قارون وأشباهه، فإنه قال: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}وهكذا يقول من قل علمه إذا رأى من وسع الله عليه: لولا أنه يستحق ذلك لما أعطي.
(2) بالنصب بدل من اسم "إن"، والأبرص من به داء البرص، وهو بياض يظهر في ظاهر البدن لفساد المزاج، والأقرع من به قرع، وهو داء يصيب الصبيان في رءوسهم، ثم ينتهي بزوال الشعر أو بعضه، والقرع الصلع. والأعمى من فقد بصره، ولا يقع إلا على العينين جميعا.
(3) أي يختبرهم بنعمته كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} 6. ولفظ البخاري: "بدا لله" بالباء الموحدة والدال المهملة، وكسر لام الجلالة، قال ابن قرقور: ضبطناه بالهمز يعني ابتدأ، ورواه كثير من الشيوخ بلا همز.(9/5)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية : 49.
2 سورة الزمر آية : 49.
3 سورة الزمر آية : 49.
4 سورة الأعراف آية : 187.
5 سورة الزمر آية : 50.
6 سورة الأنبياء آية : 35.(9/6)
ص -326- ... فبعث إليهم ملكا فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك ؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به (1). قال: فمسحه فذهب عنه قذره، فأعطي لونا حسنا، وجلدا حسنا، قال: فأي المال أحب إليك ؟ (2) قال: الإبل، -أو البقر شك إسحاق (3) - فأعطي ناقة عُشَرَاء(4)، فقال: بارك الله لك فيها(5). قال: فأتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك ؟ قال: شعر حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به(6)، فمسحه فذهب عنه(7)،
....................................................................
(1) اللون هيئة كالبياض والحمرة، والجلد ظاهر البشرة وهو: غشاء الجسد، و"قذرني" بكسر الذال، أي كرهوا مخالطتي، ونفروا عني، واستأذوا من رؤيتي، وعدوني مستقذرا من أجله.
(2) لما زال عنه البرص الذي هو أكره منظر، وكان لا يبرأ في العادة، خيره في أنفس الأموال، ليجمع له أكبر النعم البدنية والمالية اختبارا.
(3) أي ابن عبد الله بن أبي طلحة، راوي الحديث.
(4) بضم العين وفتح الشين وبالمد، وهي: الحامل التي أتى على حملها عشرة أشهر أو ثمانية، وقيل: يقال لها إلى أن تلد، وهي من أنفس الإبل.
(5) أي دعا له الملك بالبركة، وهو مجاب الدعوة بإذن الله.
(6) وعابوني به.
(7) ولم يكن البرء من عادته غالبا.(9/7)
ص -327- ... وأعطي شعرا حسنا (1)، قال: فأي المال أحب إليك ؟ قال: البقر أو الإبل، فأعطي بقرة حاملا، وقال: بارك الله لك فيها (2). قال: فأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك ؟ قال: أن يرد الله إلي بصري، فأبصر به الناس، فمسحه فرد الله إليه بصره (3)، قال: أي المال أحب إليك ؟ قال: الغنم، فأعطي شاة والدا (4)، فأنتج هذان وولد هذا (5)، فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم (6).
....................................................................
(1) بعد أن كان أقرع يقذره الناس.
(2) أي دعا له الملك بالبركة، كما دعا لمن قبله، وحاملا أي حبلى، ولم يقل حاملة؛ لأن هذا نعت لا يكون إلا للإناث.
(3) الذي لم يكن البرء من عادته.
(4) أي ذات ولد. وقال بعضهم: الشاة الوالد التي عرف منها كثرة الولد والنتاج، ودعا له بالبركة.
(5) أنتج بفتح الهمزة والتاء. وفي رواية: فنتج. وقال غير واحد: بالضم فيها أي تولى صاحب الناقة وصاحب البقرة نتاجهما، والناتج للناقة كالقابلة للمرأة، وولد بتشديد اللام أي تولى ولادها، وهو بمعنى نتج في الناقة، فالمولد والناتج والقابلة بمعنى واحد.
(6) أي كان لكل واحد منهم ما يملأ الوادي من الإبل والبقر والغنم.(9/8)
ص -328- ... قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته (1)، فقال: رجل مسكين وابن سبيل (2)، قد انقطعت بي الحبال في سفري (3)، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك (4)، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن والمال، بعيرا أتبلغ به في سفري (5)، فقال: الحقوق كثيرة (6).
....................................................................
(1) أي أتى الملك في صورة الأبرص التي كان عليها أولا لما اجتمع به، وهو كونه أبرص فقيرا ترقيقا لقلبه، وإنما ذكره حالته الأولى ليكون أبلغ في إقامة الحجة عليه.
(2) رجل خبر لمبتدأ محذوف تقديره أنا.
(3) الحبال بالحاء المهملة والباء الموحدة أي أسباب المعيشة في سفري، وقيل الطريق. وفي رواية لمسلم: بالياء المثناة التحتية جمع حيلة، أي لم يبق لي حيلة أراد أنك كنت هكذا، وليس بتعريض بل هو تصريح على وجه ضرب المثال والإيهام أنه صاحب القصة؛ ليتيقظ المخاطب كما أوهم الملكان داود أنهما صاحبا القصة.
(4) أي فلا وصول لي إلى مرادي إلا بالله سبحانه ثم بك، إظهارا لشدة حاجته إليه.
(5) بعيرا منصوب بمحذوف تقديره: أسألك بالذي إلخ، يعني أطلب منك بعيرا أتبلغ به أي أتوصل به، من البلغة وهي الكفاية. وفي البخاري: "أتبلغ عليه" أي أتوصل عليه إلى مرادي، عدد عليه ما أنعم الله به عليه ليكون أرق له.
(6) أي حقوق المال كثيرة علي، ولا أقدر على أدائها، أو حقوق المستحقين كثيرة فلا يحصل لك بعير، وهو إنما أراد دفعه، وليس بصادق.(9/9)
ص -329- ... فقال: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيرا فأعطاك الله عز وجل المال (1)؟ فقال: إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر (2)، فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت (3). قال: ثم إنه أتى الأقرع في صورته(4)، فقال له مثل ما قال لهذا(5)، ورد عليه مثل ما رد عليه هذا(6)،
....................................................................
(1) استفهام توبيخ، يذكره ما كان عليه من قبل، وما أنعم الله به عليه، ليعترف لله.
(2) نصب كابرا بنزع الخافض، أي ورث هذا المال من كبير، ورثه عن كبير آخر في الشرف، فجحد نعم الله عليه مع قرب تجددها، ومع تصريح السائل الخبير، بما وجب عليه لها من الشكر الذي هو أعظم الأسباب في هذه النعم، ومع شدة حاجة السائل، فلم يقر لله بنعمة، ولم ينسبها إليه، ولا أدى حقه فيها، فحل عليه السخط، لمبالغته في جحد النعمة وكفر مسديها.
(3) أي ردك الله إلى ما كنت عليه سابقا من البرص والفقر، أو رده بلفظ الماضي مبالغة في الدعاء عليه.
(4) لم يقل وهيئته اختصارا أو اكتفاء.
(5) أي قال للأقرع مثل ما قاله للأبرص، رجل مسكين وابن سبيل، قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك الشعر الحسن، والجلد الحسن، بقرة أتبلغ بها في سفري.
(6) أي كرد الأبرص على هذا السائل بقوله: الحقوق كثيرة، فقال له الملك: ألم تكن أقرع يقذرك الناس، فقيرا فأعطاك الله المال ؟ فقال: إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر.(9/10)
ص -330- ... فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت (1). قال: ثم إنه أتى الأعمى في صورته وهيئته(2)، فقال: رجل مسكين وابن سبيل، قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك وأعطاك المال شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري، فخذ ما شئت، ودع ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله عز وجل (3). فقال: أمسك عليك مالك، فإنما ابتليتم (4)، فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك ". أخرجاه (5).
....................................................................
(1) أي إلى ما كنت عليه قبل من القرع والفقر.
(2) وهي أنه أعمى فقير.
(3) أي لا أشق عليك في رد شيء تأخذه أو تطلبه من مالي. ولفظ البخاري: " لا أحمدك " بالحاء المهملة والميم، أي على ترك شيء أو أخذ شيء مما تحتاج إليه من مالي، ويحتمل: لا أطلب منك الحمد أي لا أمتن عليك.
(4) يعني أنت ورفيقاك، والمعنى اختبرتم هل تذكرون سوء حالتكم، وتشكرون نعمة ربكم عليكم أولا؟.
(5) أي البخاري ومسلم وهذا لفظه، فالأعمى اعترف بنعمة الله عليه، ونسبها إلى من أنعم عليه بها، وأدى حق الله فيها، فاستحق الرضى من الله بقيامه بشكر النعمة، لما أتى بأركانها الإقرار بها، ونسبتها إلى المنعم، وبذلها فيما يحب، وكفر =(9/11)
ص -331- ... ......................................................................................……
= صاحباه نعمة الله عليهما، فاستحقا السخط بذلك. قال ابن القيم: الشكر هو الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع له والذل والمحبة، فمن لم يعرف النعمة لم يشكرها، ومن عرفها ولم يعرف المنعم بها لم يشكرها أيضا، ومن عرف النعمة والمنعم لكن جحدها فقد كفرها، ومن عرفها وعرف المنعم بها وأقر بها، ولكن لم يخضع له، ولم يحبه ولم يرض به وعنه، لم يشكرها أيضا، ومن عرفها وعرف المنعم بها، وأقربها وخضع للمنعم بها وأحبه ورضي به وعنه، واستعملها في رضاه وطاعته، فهذا هو الشاكر لها، فلا بد للشكر من علم القلب وعمل يتبع العلم، وهو الميل إلى المنعم ومحبته والخضوع له، وفي هذا الحديث بيان حال من كفر النعم ومن شكرها، وجواز ذكر من مضى ليتعظ به من سمعه، ولا يكون ذلك غيبة فيهم، ولعله السر في ترك تسميتهم.(9/12)
ص -332- ... باب قول الله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}1 الآية (1)
قال ابن حزم: اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله (2).
....................................................................
أول الآية: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} 2 يعني من أبينا آدم،: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} يعني حواء : {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} ويألفها، يمتن تعالى على عباده بذلك. وقيل في قوله: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا}وطئها":{حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً} 3 لم يثقلها إنما هو نطفة وعلقة ومضغة،:{فَمَرَّتْ} استمرت عليه واستخفته: {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ} كبر في بطنها وصارت ذات ثقل بحملها،:{دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً} 4 بشرا سويا: {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} لك على هذه النعمة المتجددة،: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} 5 فلم يؤديا شكرها على الوجه المرضي، بل أشركا في طاعة الله، كما روي بتسميته عبد الحارث (إبليس)، وكان اسمه في الملائكة الحارث، ثم استطرد من ذكر الشخص إلى الجنس فقال: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 6 أي تنزه الله من إشراك كل مشرك في عبادته وطاعته. وروى الترمذي عن سمرة مرفوعا: " لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد، فقال: سميه عبد الحارث فإنه يعيش، فسمته عبد الحارث فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره "7. لكن قال ابن كثير: معلول من ثلاثة أوجه، وساق الروايات عن الحسن بغير هذا، وقال: هذه أسانيد صحيحة وهو من أحسن التفاسير، وأولى ما حملت عليه الآية.
لأنه شرك في الربوبية والإلهية، فإن الخلق كلهم ملك لله وعبيد له، استعبدهم لعبادته وحده، وتوحيده في ربوبيته وإلهيته، والعبودية عبوديتان: عبودية عامة كقوله: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ(9/13)
آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} 8. وعبودية =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 190.
2 سورة الأعراف آية : 189.
3 سورة الأعراف آية : 189.
4 سورة الأعراف آية : 189.
5 سورة الأعراف آية : 190.
6 سورة الأعراف آية : 190.
7 الترمذي : تفسير القرآن (3077) , وأحمد (5/11).
8 سورة مريم آية : 93.(9/14)
ص -333- ... كعبد عمر وعبد الكعبة وما أشبه ذلك (1)، حاشا عبد المطلب (2).
....................................................................
= خاصة بأهل الطاعة والإخلاص كما قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} 1 ونحوها. وابن حزم: هو عالم الأندلس أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم القرطبي الظاهري، صاحب التصانيف توفي سنة 456 هـ، وله 72 سنة. وقوله: اتفقوا مراده أجمعوا لا حكاية الاتفاق على طريقة المتأخرين.
(1) كعبد النبي وعبد علي، وكان أهل الجاهلية يعبدون أولادهم لآلهتهم، كعبد اللات وعبد مناة. وقال ابن القيم وغيره: لا تحل التسمية بعبد علي وعبد الحسين وعبد الكعبة ونحو ذلك، وكيف تجوز وقد أجمع على تحريمها؟
(2) استثناء من العموم، أي فلم يتفقوا على تحريم التسمية به ; لأن أصله من عبودية الرق، وذلك أن عمه المطلب بن هاشم بن عبد مناف قدم المدينة، وكان ابن أخيه هذا نشأ في أخواله بني النجار من الخزرج؛ لأن هاشما تزوج فيهم امرأة فجاءت منه بهذا الابن، وسماه شيبة، فلما شب في أخواله، وبلغ سن التمييز سافر به عمه المطلب إلى مكة بلد أبيه وعشيرته، فقدم به وهو رديفه، فرآه أهل مكة وقد تغير لونه بالسفر فحسبوه عبدا للمطلب، فقالوا: هذا عبد المطلب، فعلق به هذا الاسم ولزمه، فصار لا يذكر ولا يدعى إلا به، فلم يبق للأصل معنى مقصود، وأيضا يجوز في الإخبار ما لا يجوز في الإنشاء، كما يقال: بنو عبد شمس، وبنو عبد الدار ونحو ذلك. وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أنا ابن عبد المطلب " وقد صار معظما في قريش والعرب، فهو سيد قريش وأشرفهم في جاهليته، وهو الذي حفر زمزم وصارت له وفي ذريته من بعده، وابنه عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم أحد بنيه، وتوفي في حياة أبيه بالمدينة، قدمها يمتار تمرا وله ثماني عشرة سنة وقيل أكثر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حمل في بطن أمه آمنة، وتوفيت أمه بالأبواء راجعة(9/15)
به صلى الله عليه وسلم إلى مكة من زيارة أخواله بني عدي بن =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية : 36.(9/16)
ص -334- ... وعن ابن عباس في الآية قال: لما تغشاها آدم حملت فأتاهما إبليس فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة، لتطيعاني أو لأجعلن له قرني أَيِّل (1)، فيخرج من بطنك فيشقه، ولأفعلن ولأفعلن يخوفهما (2)، سمياه عبد الحارث (3)، فأبيا أن يطيعاه (4)، فخرج ميتا (5)، ثم حملت، فأتاهما، فقال مثل قوله، فأبيا أن يطيعاه،
....................................................................
= النجار، وهو ابن ست سنين وأشهر، وحملته مولاته أم أيمن إلى جده، فكان في كفالته إلى أن توفي وللنبي صلى الله عليه وسلم ثمان سنين، فأوصى به إلى عمه أبي طالب فكفله وآواه ونصره، إلى أن توفي قبل الهجرة بثلاث سنين. ثم اشتد أذى المشركين له فهاجر إلى المدينة.
(1) قرئ قرني بالتثنية وأيل بفتح الهمزة وكسر المثناة التحتية المشددة ذكر الأوعال، يخوفهما بكونه يجعل للولد قرني وعل.
(2) أي بغير ما ذكر، ويزعم أنه يفعل بهما غير ذلك لما يعرفان منه أنه صاحب مكر وخديعة، فإن لم يطيعاه كادهما.
(3) قال سعيد بن جبير: كان اسمه في الملائكة الحارث، وكان مراده أن يسمياه بذلك؛ ليكون قد وجد له صورة الإشراك به.
(4) لما يعلمان من الشؤم في طاعته لإخراجهما بها من الجنة.
(5) ابتلاء من الله سبحانه وامتحانا للأبوين.(9/17)
ص -335- ... ثم حملت فأتاهما فذكر لهما، فأدركهما حب الولد (1)، فسمياه عبد الحارث. فذلك قوله تعالى {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} 1. رواه ابن أبي حاتم (2).
وله بسند صحيح عن قتادة قال: شركاء في طاعته، ولم يكن في عبادته (3) .
وله بسند صحيح عن مجاهد في قوله تعالى: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً} 2 قال: أشفقا أن لا يكون إنسانا (4)، وذكر معناه عن الحسن وسعيد وغيرهما(5) .
....................................................................
(1) أي حب سلامة الولد وهذا من الامتحان؛ فإن الإنسان لا عزم له، وإن عاين ما عساه أن يعاين من الآيات إلا بتوفيق الله، فإن الطبيعة البشرية تغلب عليه.
(2) ورواه غيره عنه، وعن غيره بنحوه.
(3) أي أنهما أطاعاه في التسمية، لا أنهما أطاعاه في العبادة. قال المصنف: ((وفيه أن هذا الشرك في مجرد تسمية لم تقصد حقيقتها)).
(4) أي خافا أن لا يكون الولد إنسانا، بل خافا أن يكون بهيمة، أو غير تام الخلقة، وكانت عائشة - رضي الله عنها - إذا بشرت بالمولود لم تسأل أذكر هو أم أنثى، بل تسأل عن خلقته، هل هو ولد سوي أو لا؟ وفيه أن هبة الله للرجل البنت السوية من النعم.
(5) أي ذكر ابن أبي حاتم معنى قول مجاهد عن الحسن البصري وسعيد بن جبير وغيرهما من التابعين كالسدي وغيره، وذكره غيره عن غير واحد من الصحابة والتابعين. وقال ابن كثير: كأن أصله - والله أعلم - مأخوذ من أهل الكتاب، وأما نحن فعلى مذهب الحسن في هذا، وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء، =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 190.
2 سورة الأعراف آية : 189.(9/18)
ص -336- ... ......................................................................................…...
= وإنما المراد المشركون من ذريته، ولهذا قال: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1 وساق ما رواه غير واحد عن الحسن أن هذا كان في بعض أهل الملل ولم يكن بآدم، وذكر أن الخبر المرفوع لو كان محفوظا لما عدل عنه هو ولا غيره، فدل على أنه موقوف، ويحتمل أنه من بعض أهل الكتاب. وقال ابن القيم: النفس الواحدة وزوجها آدم وحواء، واللذان: {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} 2 المشركون من أولادهما، ولا يلتفت إلى غير ذلك مما قيل: إن آدم وحواء كانا لا يعيش لهما ولد فأتاهما إبليس فقال: إن أحببتما أن يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحارث ففعلا؛ فإن الله سبحانه اجتباه وهداه، فلم يكن ليشرك به بعد ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 190.
2 سورة الأعراف آية : 190.(9/19)
ص -337- ... باب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} 1 الآية (1).
....................................................................
(1) أراد المصنف - رحمه الله - بهذه الترجمة الرد على من يتوسل بذوات الأموات، وأن المشروع التوسل بالأسماء الحسنى والصفات العليا، والأعمال الصالحة. وقوله: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 2 إخبار عن نفسه الشريفة أن له أسماء، وأنها حسنى، يعني قد بلغت الغاية في الحسن، فليس في الأسماء أحسن منها ولا أكمل، ولا يقوم غيرها مقامها؛ لما تدل عليه من صفات الكمال ونعوت الجلال، وتفسير الاسم منها بغيره ليس بمرادف محض، بل على سبيل التفهيم والتقريب، فله سبحانه من كل صفة كمال أحسن اسم وأكمله وأتمه معنى، وأبعده عن شائبة النقص، فله من صفة العليم علمه بكل شيء، دون العالم الفقيه، والسميع سمعه بكل شيء، دون السامع، والرحيم رحمة بالمؤمنين، دون الشفيق، والكريم الجود والكرم دون السخي، وهكذا، فأسماؤه أحسن الأسماء، كما أن صفاته أكمل الصفات، فلا يعدل عما سمى به نفسه إلى غيره، كما لا يتجاوز ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم إلى ما وصفه به المبطلون، وما يطلق عليه سبحانه من باب الأسماء والصفات توقيفي، بخلاف الأخبار فلا يجب أن يكون توقيفيا. وقوله: {فَادْعُوهُ بِهَا} 3 أي اسألوه وتوسلوا إليه بها، ودعاؤه بها أحد مراتب إحصائها الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم : " إن لله تسعة وتسعين اسما، من أحصاها دخل الجنة "4 متفق عليه.
(المرتبة الأولى) إحصاء ألفاظها وعددها، (الثانية) فهم معانيها ومدلولها. (الثالثة) دعاؤه بها. وهو نوعان: دعاء ثناء وعبادة، ودعاء طلب ومسألة، فلا يثنى عليه إلا بأسمائه الحسنى.
كذلك لا يسأل إلا بها، فيسأل في كل مطلوب باسم يكون مقتضيا لذلك المطلوب، فيكون السائل(9/20)
متوسلا بذلك الاسم، كقول: رب =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 180.
2 سورة الأعراف آية : 180.
3 سورة الأعراف آية : 180.
4 البخاري : الشروط (2736) , ومسلم : الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2677) , والترمذي : الدعوات (3508) , وابن ماجه : الدعاء (3860 ,3861) , وأحمد (2/258 ,2/267 ,2/427 ,2/499 ,2/503 ,2/516).(9/21)
ص -338- ... ............................................................................................
= اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم، والأسماء الحسنى ليست منحصرة في تسعة وتسعين؛ لحديث: " أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك "1. والحديث جملة واحدة. وقوله: " من أحصاها دخل الجنة "2 صفة لا خبر مستقل؛ لئلا يتوهم الحصر بالتسعة والتسعين اسما، فلا تدخل تحت حصر ولا تحد بعدد، والمعنى: له سبحانه أسماء متعددة من شأنها أن من أحصاها دخل الجنة، وهذا لا ينفي أن يكون له أسماء غيرها، وأكثر التسعة والتسعين في الكتاب والسنة، وما جاء في الترمذي وغيره من عدها فذكر جماعة من الحفاظ المحققين أن سردها مدرج فيه، وأن جماعة من أهل العلم جمعوها من القرآن، وقوله: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} 3 أي اتركوهم وأعرضوا عن مجادلتهم: {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 4 وعيد شديد وتهديد أكيد {يلحدون} يشركون غيره في أسمائه، كتسميتهم الصنم إلها، والإلحاد فيها: الميل بالإشراك والتعطيل والنكران. قال قتادة: يلحدون يشركون. وعن ابن عباس: الإلحاد التكذيب. وعنه: إلحاد الملحدين أن ادعوا اللات في أسمائه، وأصل الإلحاد في كلام العرب العدول عن القصد، والميل والجور والانحراف، فالإلحاد فيها إما بجحدها أو معانيها وتعطيلها أو تحريفها وإخراجها عن الحق، أو جعلها أسماء لهذه المخلوقات، وحقيقة الإلحاد فيها العدول بها عن الصواب فيها، وإدخال ما ليس من معانيها فيها، وإخراج حقائق معانيها. قال ابن القيم: ((الإلحاد في أسمائه العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت، وهو أنواع :
(أحدها) أن يسمي الأصنام بها كتسمية اللات من الإله. (الثانية) تسميته بما لا يليق بجلاله، كتسمية النصارى له أبا والفلاسفة له موجبا بذاته أو علة فاعلة.(9/22)
(الثالثة) وصفه بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائص، كقول اليهود: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ}، وقولهم: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}
(الرابع) تعطيل الأسماء الحسنى عن معانيها، وجحد حقائقها، كقول الجهمية: إنها =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (1/452).
2 البخاري : الشروط (2736) , ومسلم : الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2677) , والترمذي : الدعوات (3506 ,3507 ,3508) , وابن ماجه : الدعاء (3860) , وأحمد (2/258 ,2/267 ,2/314 ,2/427 ,2/499 ,2/503 ,2/516).
3 سورة الأعراف آية : 180.
4 سورة الأعراف آية : 180.(9/23)
ص -339- ... .............................................................................................
= ألفاظ مجردة، لا تتضمن صفات ولا معان، فيطلقون اسم السميع ويقولون: لا سمع له، ونحو ذلك.
(الخامس) تشبيه صفاته بصفات خلقه تعالى الله وتقدس عن قولهم علوا كبيرا، فجمعهم الإلحاد، وتفرقت بهم طرقه ا هـ.
والذي عليه أهل السنة والجماعة إثبات أسماء الله تعالى وصفاته على ما يليق بجلاله وعظمته، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1. والكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات، يحتذى فيه حذوه ومثاله، فكما أنه يجب العلم بأن لله ذاتا حقيقة، لا تشبه ذوات المخلوقين، فكذلك له صفات حقيقة، لا تشبه صفات المخلوقين، فمن جحد ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فقد كفر، ومن شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن أوله على غير مما ظهر من معناه فهو جهمي، قد اتبع غير سبيل المؤمنين. وقال رحمه الله: ما يجري - صفة أو خبرا - على الرب تعالى أقسام: ما يرجع إلى نفس الذات، كقولك: ذات وموجود، وما يرجع إلى أفعاله كالخالق والرازق، والتنزيه المحض، ولا بد من تضمنه ثبوتا، إذ لا كمال في العدم المحض، كالقدوس السلام، والاسم الدال على جملة أوصاف عديدة لا يختص بصفة معينة، بل دال على معان نحو المجيد العظيم الصمد، فإن المجيد من اتصف بصفات متعددة من صفات الكمال، ولفظه يدل على هذا، فإنه موضوع للسعة والكثرة والزيادة، وصفة تحصل من اقتران أحد الاسمين والوصفين بالآخر، وذلك قدر زائد على مفرديهما، نحو الغني الحميد، الحميد المجيد، وهكذا عامة الصفات المقترنة، والأسماء المزدوجة في القرآن، فإن الغنى صفة كمال والحمد كذلك، واجتماع الغنى مع الحمد كمال آخر، فله ثناء من غناه، وثناء من حمده، وثناء من اجتماعهما، وكذلك الحميد المجيد العزيز(9/24)
الحكيم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الشورى آية : 11.(9/25)
ص -340- ... ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس: يشركون (1). وعنه: سموا اللات من الإله، والعزى من العزيز (2) وعن الأعمش: يدخلون فيها ما ليس منها (3) .
....................................................................
(1) صوابه عن قتادة كما تقدم.
(2) رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس، وكذلك أثر الأعمش. وعن مجاهد: اشتقوا اللات من الله، واشتقوا العزى من العزيز.
(3) أي يدخلون في أسماء الله ما لم يسم بها نفسه، ولم يسمه بها رسوله صلى الله عليه وسلم كتسمية اللات من الإله ونحوه. والأعمش اسمه سليمان بن مهران أبو محمد الكوفي الفقيه، ثقة حافظ ورع، ولد سنة 61 هـ، ومات سنة 147 هـ.(9/26)
ص -341- ... باب لا يقال السلام على الله (1)
في الصحيح عن " ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا إذا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده (2) السلام على فلان وفلان (3).
....................................................................
(1) لما كان حقيقة لفظ "السلام" السلامة والبراءة والخلاص والنجاة من الشرور والعيوب، فإذا قال المسلم: السلام عليكم، فهو دعاء للمسلم عليه، وطلب له أن يسلم من الشر كله، ومرجع السلامة إلى حظ العبد مما يطلبه من السلامة من الآفات والمهالك، والله هو المطلوب منه، لا المطلوب له، وهو المدعو لا المدعو له، وهو الغني له ما في السماوات وما في الأرض، وهو السالم من كل تمثيل ونقص، وكل سلامة ورحمة له ومنه، وهو مالكها ومعطيها، استحال أن يسلم عليه سبحانه، بل هو المسلم على عباده، فهو السلام ومنه السلام، لا إله غيره. ولا رب سواه.
(2) أي يقولون ذلك في التشهد بألفاظ، منها: كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله من عباده، وفي رواية: قبل عباده. وكذا رواه مسلم وأهل السنن وغيرهم.
(3) وفي رواية يعنون الملائكة. وفي رواية: فنعد من الملائكة ما شاء الله. وفي رواية: على جبرائيل وميكائيل، وفلان وفلان.(9/27)
ص -342- ... فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تقولوا السلام على الله، فإن الله هو السلام (1) "1
....................................................................
(1) وفي رواية: ((ومنه السلام)). وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من الصلاة المكتوبة استغفر ثلاثاً. وقال: ((اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام)). وفيه "إن هذه تحية أهل الجنة ربهم تبارك وتعالى". وقد قال تعالى: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} 2 وقوله: " فإن الله هو السلام " أي إن الله سالم من كل نقص ومن كل تمثيل، فهو الموصوف بكل كمال، المنزه عن كل عيب ونقص، قال ابن القيم: السلام مصدر، وهو من ألفاظ الدعاء، يتضمن الإنشاء والإخبار، فجهة الخبرية فيه لا تناقض الجهة الإنشائية، وهو معنى السلام المطلوب عند التحية، وفيه قولان: الأول: السلام هنا هو الله عز وجل، ومعنى الكلام: نزلت بركته عليكم، ونحو ذلك، فاختير في هذا المعنى من أسمائه عز وجل اسم السلام دون غيره من الأسماء. الثاني: السلام مصدر بمعنى السلامة، وهو المطلوب المدعو به عند التحية، قال: وفصل الخطاب أن يقال: الحق في مجموع القولين، فكل منهما بعض الحق، والصواب في مجموعهما، وإنما يتبين بقاعدة: وهي أن حق من دعا الله بأسمائه الحسنى أن يسأل في كل مطلوب ويتوسل بالاسم المقتضي ذلك المطلوب، المناسب لحصوله حتى إن الداعي مستشفع إلى الله متوسل به إليه، والمقام لما كان مقام طلب السلامة التي هي أهم عند الرجل، أتى في طلبها بصيغة اسم من أسماء الله تعالى، وهو السلام الذي تطلب منه السلامة، فتضمن معنيين أحدهما ذكر الله، والثاني طلب السلامة، وهو مقصود المسلم.(9/28)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الأذان (835) , ومسلم : الصلاة (402) , والنسائي : التطبيق (1168 ,1169) والسهو (1298) , وأبو داود : الصلاة (968) , وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (899) , وأحمد (1/431 ,1/464).
2 سورة يس آية : 58.(9/29)
ص -343- ... باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت (1)
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت؛ ليعزم المسألة (2) فإن الله لا مكره له "1 (3).
....................................................................
(1) أي أنه لا يجوز، لأنه يدل على فتور الرغبة، وقلة الاهتمام بالمطلوب، وينبئ عن قلة اكتراثه بذنوبه ورحمة ربه، وذلك مضاد للتوحيد.
(2) أي ليجزم في مسألته، وليحقق رغبته، ويتيقن الإجابة؛ فإنه إذا فعل ذلك دل على علمه بعظيم ما يطلب من المغفرة والرحمة، قال القرطبي: نهى عن هذا القول؛ لأنه يدل على فتور الرغبة وقلة الاهتمام بالمطلوب، فإن هذا القول يتضمن أن هذا المطلوب إن حصل وإلا استغنى عنه، ومن كان هذا حاله لم يتحقق من حالته الافتقار والاضطرار الذي هو روح عبادة الدعاء، ودليل على قلة معرفته بذنوبه وبرحمة ربه، وأيضا فإنه لا يكون موقنا بالإجابة، وفي الحديث: " ادعوا وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل "2.
(3) ولفظ مسلم " ليعزم على المسألة في الدعاء، فإن الله صانع ما شاء لا مكره له "3. أي: لا فائدة في تقييده الاستغفار والرحمة بالمشيئة؛ فإن الله لا يضطره دعاء ولا غيره إلى فعل شيء، بل يفعل ما يريد بخلاف العبد، فإنه قد يعطي السائل مسألته لحاجته إليه، أو لخوفه أو رجائه، فيعطيه مسألته وهو كاره، فاللائق بالسائل =(9/30)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الدعوات (6339) , ومسلم : الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2679) , والترمذي : الدعوات (3497) , وأبو داود : الصلاة (1483) , وأحمد (2/243 ,2/463) , ومالك : النداء للصلاة (494).
2 الترمذي : الدعوات (3479).
3 البخاري : الدعوات (6339) والتوحيد (7477) , ومسلم : الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2679) , والترمذي : الدعوات (3497) , وأبو داود : الصلاة (1483) , وابن ماجه : الدعاء (3854) , وأحمد (2/243 ,2/318 ,2/457 ,2/463 ,2/486 ,2/500 ,2/530) , ومالك : النداء للصلاة (494).(9/31)
ص -344- ... ولمسلم " وليعظم الرغبة (1)، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه "1 (2) .
....................................................................
= للمخلوق أن يعلق حصول مسألته على مشيئة المسئول، مخافة أن يعطيه وهو كاره بخلاف رب العالمين؛ فإنه لا يليق به أن يعلق مسألته له بشيء، لسعة فضله وإحسانه وكمال غناه عن جميع خلقه، وكمال جوده وكرمه، وليعزم المسألة؛ فإنه لا يعطي عبده شيئا عن كراهة، ولا عن عظم مسألة، بل إعطاؤه دائم مستمر، يجود بالنوال قبل السؤال،: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} 2 وقد يمنع لحكمة، فهو أعلم بما يصلح عبده من العطاء والمنع، وقد يؤخره لوقته المقدر، أو ليعطيه أكثر، فتبارك الله رب العالمين.
(1) بتشديد الظاء أي الطلبة والحاجة التي يريد في سؤاله ربه، فإنه سبحانه يعطي العظائم كرما وجودا وإحسانا، وليلح في السؤال، فإن الله يحب الملحين في الدعاء.
(2) يقال: تعاظم زيد هذا الأمر أي كبر عليه وعسر، أي ليس شيء عند الله بعظيم، وإن عظم في نفس المخلوق لكمال فضله وجوده؛ فإن إعطاءه كلام : {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 3
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2679) , وأحمد (2/457).
2 سورة النحل آية : 53.
3 سورة يس آية : 82.(9/32)
ص -345- ... باب لا يقول عبدي وأمتي (1)
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يقل أحدكم أطعم ربك وضئ ربك (2)، وليقل: سيدي ومولاي (3).
....................................................................
(1) لما في ذلك من إيهام المشاركة في الربوبية.
(2) لأن الإنسان مربوب متعبد بإخلاص التوحيد لله، منهي عن المضاهاة بهذا الاسم، لما فيه من التشريك في اللفظ، وإن كان يطلق لغة، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه تحقيقا للتوحيد، وسدا لذرائع الشرك، والله تعالى رب العباد جميعهم، فإذا أطلق على غيره شاركه في الاسم، فنهى عن ذلك لذلك، وإن لم يقصد بذلك التشريك في الربوبية التي هي وصف الله تعالى، وإنما المعنى أن هذا مالك له، فيطلق عليه هذا اللفظ بهذا الاعتبار فنهى عنه حسما لمادة التشريك بين الخالق والمخلوق، وتحقيقا للتوحيد، وبعدا عن الشرك حتى في اللفظ، وأما ما لا تعبد عليه من سائر الحيوانات والجماد فلا يمنع منه كقوله: رب الدار، ورب الدابة.
(3) لأن مرجع السيادة إلى معنى الرئاسة على ما تحت يده، ولذلك يسمى الزوج سيدا، قال تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} 1. وقال - عليه الصلاة والسلام -: " إن ابني هذا سيد "2. والمولى كثير التصرف من ولي وناصر وابن عم وحليف وعتيق، وأصله من ولاية أمره وإصلاحه، فلا يمنع منه أن يوصف به مالك الرقبة، على أنه جاء في رواية: "ولا يقل العبد: مولاي". والفرق بين الرب والسيد أن الرب من أسماء الله بالاتفاق واختلف في السيد، فإن قيل: ليس من أسمائه تعالى، فواضح، وإلا فليس في الشهرة والاستعمال كلفظ الرب، ويأتي قوله: "السيد الله تبارك وتعالى". ولمسلم أيضا: "ولا مولاي فمولاكم الله". ولكن قد بين مسلم الاختلاف فيه عن الأعمش، =(9/33)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يوسف آية : 25.
2 البخاري : الصلح (2704) , والترمذي : المناقب (3773) , والنسائي : الجمعة (1410) , وأبو داود : السنة (4662) , وأحمد (5/37 ,5/44 ,5/47 ,5/49 ,5/51).(9/34)
ص -346- ... ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي (1)، وليقل فتاي وفتاتي وغلامي (2) "1
....................................................................
= وأن منهم من حذفها. وقال عياض: حذفها أصح، وقال الشارح: الجمع ممكن بحمل النهي على الكراهة، أو على خلاف الأولى. وقال النحاس: لا نعلم بين العلماء خلافا أنه لا ينبغي لأحد أن يقول لأحد من المخلوقين مولاي، وإن كان مملوكا، قد حظر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم على المملوكين، فكيف بالأحرار.
(1) لأن هذا الاسم من باب المضاف، ومقتضاه العبودية له، وصاحبه عبد لله متعبد بأمره ونهيه، فإدخال مملوكه تحت هذا الاسم يوهم التشريك؛ لأن حقيقة العبودية إنما يستحقها الله تعالى، ولأن فيها تعظيما لا يليق بالمخلوق. وعن أبي هريرة مرفوعا: " لا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، ولا يقول المملوك: رب وربتي، وليقل المالك: فتاي وفتاتي، وليقل المملوك: سيدي وسيدتي؛ فإنكم المملوكون والرب الله عز وجل "2. رواه أبو داود بإسناد صحيح. والعبيد عبيد الله والإماء إماء الله، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} 3 ففي إطلاق هاتين الكلمتين على غير الله تشريك في اللفظ، فنهاهم عن ذلك تعظيما لله وأدبا معه، وبعدا عن الشرك، وتحقيقا للتوحيد.
(2) لأنها ليست دالة على الملك كدلالة عبدي وأمتي، وإن كان قد ملكه امتحانا وابتلاء من الله لخلقه، كما قال: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} 4. وقد امتحن الله يوسف بالرق ودانيال حين سباه بختنصر، وله الحكمة البالغة في ذلك، فأرشد - عليه الصلاة والسلام - إلى ما يؤدي المعنى مع السلامة من الإيهام والتعاظم، مع أنها تطلق على الحر والمملوك، لكن إضافته تدل على الإخلاص، ومن أحسن مقاصد الشريعة ما نهى عنه من هذه التسمية، لما فيها من رائحة الشرك، وإن كان لفظا لم يقصد معناه، وما أرشد إليه مما يقوم مقام تلك الألفاظ،(9/35)
حماية لجناب التوحيد، فلا خير إلا دل الأمة عليه خصوصا في تحقيق التوحيد، ولا شر إلا حذرها عنه خصوصا ما يقرب من الشرك، فصلوات الله وسلامه عليه، قال المصنف: ((وفيه التنبيه للمراد، وهو تحقيق التوحيد حتى في الألفاظ)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : العتق (2552) , ومسلم : الألفاظ من الأدب وغيرها (2249) , وأحمد (2/316).
2 مسلم : الألفاظ من الأدب وغيرها (2249) , وأبو داود : الأدب (4975) , وأحمد (2/423).
3 سورة مريم آية : 93.
4 سورة الفرقان آية : 20.(9/36)
ص -347- ... باب لا يرد من سأل بالله (1)
عن ابن عمر - رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من استعاذ بالله فأعيذوه(2)، ومن سأل بالله فأعطوه(3)،
....................................................................
(1) لأن منع من سأل بالله أو بوجه الله من عدم إعظام الله وإجلاله، وقد جاء الوعيد على ذلك، فروى الطبراني عن أبي موسى مرفوعا: " ملعون من سأل بوجه الله، وملعون من سئل بوجه الله ثم منع سائله، ما لم يسأل هجرا ". وله عن أبي عبيدة مولى رفاعة بن رافع مرفوعا: " ملعون من يسأل بوجه الله، وملعون من سئل بوجه الله فمنع سائله " .
(2) تعظيما لله وتقربا إليه بذلك، فإذا قال: أعوذ بالله من شرك، أو شر فلان، فامنعوا الشر منه وكفوا عنه؛ لتعظيم اسم الله. ولما قالت الجونية لرسول الله صلى الله عليه وسلم أعوذ بالله منك. قال: " لقد عذت بمعاذ، الحقي بأهلك "1 .
(3) أى إذا قال: أسألك بالله أو بوجه الله، كما في حديث ابن عباس: " من سألكم بوجه الله فأعطوه "2. رواه أحمد وأبو داود. وفي رواية له: "من سألكم بالله". وله عن ابن عمر: " من سألكم بالله فأجيبوه إلى ما سأل "3 فيكون بمعنى أعطوه، وعن ابن عباس مرفوعا: " ألا أخبركم بشرار الناس ؟ رجل يسأل بوجه الله ولا يعطي ". رواه الترمذي وحسنه، وابن حبان في صحيحه. وجاء من حديث أبي هريرة: " ألا أخبركم بشر البرية"؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الذي يسأل بوجه الله ولا يعطي "4. ويدخل فيه القسم عليه بالله أن يفعل كذا، ويجب إعطاء السائل مما له فيه حق كبيت المال، أو من في ماله فضل على حسب حاله ومسألته، أو يكون السائل =(9/37)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الطلاق (5257) , وأحمد (3/498 ,5/339).
2 أبو داود : الأدب (5108).
3 النسائي : الزكاة (2567) , وأبو داود : الأدب (5109) , وأحمد (2/68).
4 مسلم : الإمارة (1889) , وابن ماجه : الفتن (3977) , وأحمد (2/396).(9/38)
ص -348- ... ومن دعاكم فأجيبوه (1)، ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه (2) .
....................................................................
= مضطرا فيجب دفع ضرورته، ويحتمل أن يكون المراد فيما لا مشقة فيه ولا ضرر، وقد حث الله على الإنفاق لعظم نفعه وتعديه وكثرة ثوابه، فقال: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} 1، وغيرها. وذكره في الأعمال التي أمر بها عباده وتعبدهم بها، ووعدهم عليها الأجر العظيم، في قوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} 2 إلى قوله {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} 3 وحث النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة ورغب فيها في أحاديث كثيرة، فإذا سئل بوجه الله صار آكد وأوجب، إعظاما لله وهيبة منه، أن يرد من سأل به.
(1) أي من دعاكم إلى طعام فأجيبوه، والحديث أعم من الوليمة وغيرها، وهو يدل على الوجوب إلى وليمة العرس وغيرها، وإن كانت وليمة العرس أؤكد وأوجب، وإن كان يقصد إلزامه بالقسم وجبت إجابتها، أو إكرامه فلا تجب عليه، حكاه الشيخ وغيره. وقال - عليه الصلاة والسلام-: " لو دعيت إلى كراع لأجبت "4. ومن حقوق المسلمين بعضهم على بعض إجابة دعوة المسلم، وتلك من أسباب الألفة والمحبة بين المسلمين، وإكرام الداعي ما لم يكن منكر أو يجر إلى منكر.
(2) المعروف اسم جامع للخير، أي من أحسن إليكم أي إحسان فكافئوه على إحسانه بمثله أو خير منه، لأن المكافأة على المعروف من المروءة التي يحبها الله ورسوله، وفيها السلامة من البخل ومذمته، ولا يهملها إلا اللئام، وبعضهم يكافئ على الإحسان بالإساءة، بخلاف أهل التقوى والمروءة، فإنهم يدفعون السيئة بالحسنة، طاعة لله ومحبة لما يحبه لهم ويرضاه، والمكافأة تخلص القلب من رق إحسان الخلق، ولا شك أنك إذا لم تكافئ من صنع إليك معروفا بقي في قلبك له نوع تأله، فشرع قطع ذلك بالمكافأة ولو كافرا، وهو أولى من مكافأة المسلم، إذ منة المسلم(9/39)
أسلم من منة الكافر، ويدل له قوله: " من أحسن إليكم فأحسنوا إليه " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحديد آية : 7.
2 سورة الأحزاب آية : 35.
3 سورة الأحزاب آية : 35.
4 البخاري : النكاح (5178) , وأحمد (2/424 ,2/479 ,2/481 ,2/512).(9/40)
ص -349- ... فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له، حتى تروا أنكم قد كافأتموه (1) "1 رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح (2) .
....................................................................
(1) أي فإن لم تقدروا على مكافأته فادعوا له، أي بالغوا في الدعاء له جهدكم حتى تحصل المكافأة، أرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى أن الدعاء في حق من لم يجد المكافأة يقوم مقام المكافأة للمعروف، فيدعو له على حسب معروفه، ووجه المبالغة أنه رأى في نفسه تقصيرا في المجازاة لعدم القدرة عليها فأحالها إلى الله، ونعم المجازي سبحانه وتعالى، وروى الترمذي وغيره وصححه النسائي وابن حبان عن أسامة مرفوعا: " من صنع إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيرا، فقد أبلغ في الثناء "2. قال الطيبي: وحذفت النون من "تكافئوه" إما تخفيفا، أو سهوا من النساخ، "وتروا" بضم التاء تظنوا، ويحتمل أنها مفتوحة، لما في أبي داود "حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه".
(2) ورواه أحمد بإسناد صحيح وابن حبان والحاكم، وصححه النووي وغيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي : الزكاة (2567) , وأبو داود : الزكاة (1672) , وأحمد (2/99 ,2/127).
2 البخاري : الجمعة (1039) , وأحمد (2/24 ,2/52 ,2/58 ,2/122).(9/41)
ص -350- ... باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة (1)
عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يسأل بوجه الله إلا الجنة "1. رواه أبو داود(2). ....................................................................
(1) أي لا يجوز ذلك، إجلالا لله وإكراما وإعظاما له أن يسأل بوجهه العظيم ما هو حقير لديه من حوائج الدنيا، ما لم يرد به غاية المطالب وهي الجنة، أو الإعانة على أعمال الآخرة الموصلة إلى الجنة، وأما سؤال المخلوق بوجه الله، فتقدم النهي عنه في الباب قبله.
(2) روي بالنفي والنهي، وبالبناء للمجهول، وهو الذي في الأصل، وروي بالخطاب للمفرد أي لا يسأل بوجه الله إلا الجنة، أو ما هو وسيلة إلى الجنة، وذكر الجنة إنما هو للتنبيه على الأمور العظام، لا للتخصيص، فقد قال صلى الله عليه وسلم في دعائه منصرفه من الطائف حين كذبوه: " اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي "، وفي آخره: " أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ". وحديث: " اللهم أنت أحق من ذكر "2، وفي آخره: " أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له السماوات والأرض ". وحديث: " أعوذ بوجه الله الكريم، وباسم الله العظيم، وبكلماته التامة "3. وأمثال ذلك مما هو ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو سؤال ما يقرب إلى الجنة، أو يمنع من الأعمال التي تمنع منها، فيكون السائل قد سأل بوجه الله وبنور وجهه ما يقرب إلى الجنة، كما في الصحيح: " اللهم إني أسألك الجنة، وما قرب إليها من قول =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : الزكاة (1671).
2 البخاري : اللباس (5789) , ومسلم : اللباس والزينة (2088) , وأحمد (2/267 ,2/390 ,2/413 ,2/456 ,2/467 ,2/493).
3 مسلم : صلاة المسافرين وقصرها (805) , والترمذي : فضائل القرآن (2883) , وأحمد (4/183).(9/42)
ص -351- ... .............................................................................................
= وعمل، وأعوذ بك من النار وما يقرب إليها من قول وعمل "1. بخلاف ما يختص بالدنيا، كسؤال المال، والسعة في المعيشة رغبة في الدنيا، مع قطع النظر عن كونه أراد بذلك ما يعينه على عمل الآخرة، فلا ريب أن الحديث يدل على المنع من أن يسأل حوائج دنياه بوجه الله، إعظاما لله وإجلالا له، وفيه إثبات الوجه لله كما دل عليه الكتاب والسنة، وهو صفة كمال لله يجب إثباته لله على ما يليق بعظمته وجلاله، من غير تكييف ولا تمثيل. وتأويل الجهمية له بالذات باطل، إذ لا يسمى ذات الشيء وحقيقته وجها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : صلاة المسافرين وقصرها (805) , والترمذي : فضائل القرآن (2883) , وأحمد (4/183).(9/43)
ص -352- ... باب ما جاء في (اللو) (1)
وقول الله تعالى: {قُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} 1. الآية (2). وقوله: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} 2 الآية (3) .
....................................................................
(1) أي من الوعيد والنهي عنه، والذم لمن عارض به عند الأمور المكروهة كالمصائب إذا جرى بها القدر، لما فيه من الإشعار بعدم الصبر، والأسى على ما فات مما لا يمكن استدراكه، والمضادة لكمال التوحيد، فالممنوع في (لو) التلهف على أمور الدنيا طلبا أو هربا، لا تمني القربات.
(2) أي يسر بعض المنافقين هذه المقالة في أنفسهم يوم أحد، معارضة للقدر. وروى ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن الزبير: لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف، أرسل الله علينا النوم، فما منا رجل إلا ذقنه في صدره، قال فوالله إني لأسمع قول معتب بن قشير - ما أسمعه إلا كالحلم -: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} 3 فحفظتها منه، وفي ذلك أنزل الله هذه الآية، لقول معتب، ورد الله عليهم بقوله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} 4. أي هذا قدر مقدر من الله، حتم لازم لا محيد عنه، والتلهف وقول " لو " لا يجدي إلا الحزن والتحسر، مع ما يخالط التوحيد من المعاندة للقدر الذي لا يكاد يسلم منها من وقع منه إلا من شاء الله.
(3) وهذه أيضا معارضة للقدر من المنافقين بقولهم لمن خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: لو سمعوا مشاورتنا عليهم بالقعود وعدم الخروج ما قتلوا مع من قتل، قال الله تعالى: {قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ} 5 أي إذا كان القعود =(9/44)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية : 154.
2 سورة آل عمران آية : 168.
3 سورة آل عمران آية : 154.
4 سورة آل عمران آية : 154.
5 سورة آل عمران آية : 168.(9/45)
ص -353- ... في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " احرص على ما ينفعك (1) واستعن بالله (2)
....................................................................
= يسلم به الشخص من القتل أو الموت فينبغي أن لا تموتوا، والموت لا بد آت إليكم،: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} 1 فادفعوا عن أنفسكم الموت، إن كنتم صادقين فيما تدعونه. قال مجاهد عن جابر بن عبد الله: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي، يعني أنه هو الذي قال ذلك. قال شيخ الإسلام - لما ذكر ما وقع من عبد الله بن أبي في غزوة أحد قال -: فلما انخزل يوم أحد وقال: يدع رأيي ورأيه، ويأخذ برأي الصبيان أو كما قال انخزل معه خلق كثير كان كثير منهم لم ينافق قبل ذلك، فأولئك كانوا مسلمين، وكان معهم إيمان هو الضوء الذي ضرب الله به المثل، وهذا كثير في زماننا أو أكثرهم إذا ابتلوا بالمحنة التي يتضعضع فيها أهل الإيمان نقص إيمانهم كثيرا، وينافق كثير منهم، ومنهم من يظهر الردة إذا كان العدو غالبا، وقد رأينا مثل هذا ورأى غيرنا من هذا ما فيه عبرة. قال الشارح: ونحن رأينا من ذلك ما فيه عبرة عند غلبة العدو من إعانتهم العدو على المسلمين، وإظهار العداوة لهم والطعن في الدين.
(1) الحديث في صحيح مسلم، وأوله: " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير احرص "2 بالكسر والفتح من باب ضرب وسمع، بذل الجد واستفراغ الوسع على ما ينفعك يعني في معاشك ومعادك، وذلك هو سعادة الإنسان، وكماله كله في هذين الأمرين أن يكون حريصا، وأن يكون على ما ينتفع به، والمراد الحرص على فعل الأسباب التي تنفع العبد في دنياه وأخراه، مما شرعه الله لعباده من الأسباب الواجبة أو المستحبة أو المباحة.
(2) لأنه لا يحصل له ذلك إلا إذا كان مستعينا بالله، فإذا كان حريصا على ما ينفعه، وكان في حالة السبب مستعينا بالله وحده، معتمدا(9/46)
عليه، تم مراده بإذن الله وحرصه على ما ينفعه عبادة لله واستعانة به وتوكلا عليه: توحيد، فهو مقام: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 3 .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية : 78.
2 مسلم : القدر (2664) , وابن ماجه : المقدمة (79) والزهد (4168) , وأحمد (2/366 ,2/370).
3 سورة الفاتحة آية : 5.(9/47)
ص -354- ... ولا تعجزن (1)، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا. ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل. فإن " لو " تفتح عمل الشيطان "1 (2).
....................................................................
(1) بفتح الجيم وكسرها ونون التوكيد مخففة، والعجز ينافي الحرص على ما ينفع، وينافي الاستعانة بالله، فنهاه عن العجز وذمه، والعجز مذموم عقلا وشرعا، وأرشده قبل وقوع المقدور إلى ما هو من أعظم أسباب حصوله، وهو الحرص عليه مع الاستعانة بالله، وفي الحديث: " الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني "2 .
(2) أي وإن غلبك أمر ولم يحصل المقصود بعد بذل الجد والاستطاعة فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا، فإنه لا يجدي عليك شيئا، ولكن قل: قدر الله ; لأن ما قدره لا بد أن يكون، والواجب التسليم للمقدور، وما شاء فعل، لأن أفعاله لا تصدر إلا عن حكمه.
قال ابن القيم: والعبد إذا فاته المقدور له حالتان: حالة عجز وهي عمل الشيطان، فيلقيه العجز إلى (لو) ولا فائدة فيها، بل هي مفتاح اللوم والعجز والسخط والحزن، وهذا من عمل الشيطان، فنهاه عن افتتاح عمله بهذا الافتتاح، وأمره بالحالة الثانية وهي النظر إلى القدر وملاحظته، وأنه لو قدر لم يفته ولم يغلبه عليه أحد، فقال: " وإن أصابك " إلخ، فأرشده إلى ما ينفعه حال حصول مطلوبه وحال فواته، ونهاه عن قول " لو "، وأخبره أنها تفتح عمل الشيطان، لما فيها من التأسف على ما فات، والتحسر والحزن ولوم القدر، فيأثم بذلك، وذلك من عمل الشيطان.
وما ذاك لمجرد لفظ (لو)، بل لما قارنها من الأمور القائمة بقلبه، المنافية لكمال الإيمان، الفاتحة لعمل الشيطان، وأرشده إلى الإيمان بالقدر، والتفويض والتسليم للمشيئة، فهذا الحديث مما لا يستغني عنه العبد، وهو يتضمن إثبات القدر، وإثبات الكسب، والقيام بالعبودية.
وقال شيخ الإسلام في معنى(9/48)
الحديث: لا تعجز عن مأمور، ولا تجزع من مقدور، ومن الناس من يجمع كلا الشرين، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : القدر (2664) , وابن ماجه : المقدمة (79) والزهد (4168) , وأحمد (2/366 ,2/370).
2 الترمذي : صفة القيامة والرقائق والورع (2459) , وابن ماجه : الزهد (4260).(9/49)
ص -355- ... .............................................................................................
= بالحرص على النافع، والاستعانة بالله، والأمر يقتضي الوجوب وإلا فالاستحباب، ونهي عن العجز، وقال: " إن الله يلوم على العجز "1. فعلى العبد أن يستقبل فعله الذي يدفع به أو يخفف، ولا يتمنى ما لا مطمع في وقوعه، فإنه عجز محض، والله يلوم على العجز، ويحب الكيس ويأمر به، والكيس هو مباشرة الأسباب التي ربط الله بها مسبباتها، النافعة للعبد في معاشه ومعاده.
وورد الأمر بالصبر والنهي عن العجز في مواضع كثيرة من الكتاب والسنة؛ وذلك لأن الإنسان بين أمرين: أمر أمر بفعله، فعليه أن يفعله ويحرص عليه، ويستعين الله ولا يعجز، وأمر أصيب به من غير فعله، فعليه أن يصبر عليه ولا يجزع منه.
قال: والصبر واجب، والرضى درجة عالية، والإيمان بالقدر فرض، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} 2. وليس العبد مأمورا أن ينظر إلى القدر عندما يؤمر به من الأفعال، ولكن عندما يجري عليه من المصائب التي لا حيلة له في دفعها، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} 3. قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم. ولما قال آدم لموسى: أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق بأربعين سنة. حاجه لأن موسى قال له: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة فلامه على المصيبة التي حصلت بسبب فعله، لا لأجل كونها ذنبا، وأما كونه لأجل الذنب فليس مرادا له؛ فإن آدم قد تاب، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولا يجوز لومه بالاتفاق.(9/50)
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك "4. ونحو ذلك فمستقبل، لا اعتراض فيه على قدر ولا كراهة فيه; لأنه إنما أخبر عن مراده فيما كان يفعل لولا المانع، وكذلك قوله: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي "5. ونحوه فهو إخبار لهم عما كان يفعل في المستقبل لو حصل، ولا خلاف في جواز ذلك، وإنما ينهى عما هو في معارضة القدر، أو مع اعتقاد أن ذلك المانع لو ارتفع لوقع خلاف المقدور.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : الأقضية (3627) , وأحمد (6/24).
2 سورة الحديد آية : 22-23.
3 سورة التغابن آية : 11.
4 البخاري : الجمعة (887) , ومسلم : الطهارة (252) , والترمذي : الطهارة (22) , والنسائي : الطهارة (7) , وأبو داود : الطهارة (46) , وابن ماجه : الطهارة وسننها (287) , وأحمد (2/245 ,2/250 ,2/287 ,2/399 ,2/400 ,2/429 ,2/433 ,2/460 ,2/509 ,2/517 ,2/530) , ومالك : الطهارة (147 ,148) , والدارمي : الطهارة (683).
5 البخاري : التمني (7229) , ومسلم : الحج (1211).(9/51)
ص -356- ... باب النهي عن سب الريح (1)
عن أبي بن كعب رضي الله عنه (2) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تسبوا الريح (3)، فإذا رأيتم ما تكرهون (4)
....................................................................
(1) لكونها إنما تهب عن إيجاد الله لها وأمره إياها، فلا تأثير لها إلا بأمر الله، فمسبتها مسبة لله تعالى واعتراض عليه، وهو قدح في التوحيد.
(2) هو ابن قيس بن عبيد بن مريد بن معاوية بن النجار، أبو المنذر الأنصاري، سيد القراء، شهد العقبة وبدرا والمشاهد كلها، قال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ليهنك العلم أبا المنذر "1. وقال له: " أمرني ربي أن أقرأ عليك "2. وكان عمر يسميه سيد العرب. قيل: إنه مات في خلافة عمر، وقيل في خلافة عثمان سنة 30 هـ.
(3) أي لا تشتموها ولا تلعنوها للحوق ضرر فيها، فإنها خلق من خلق الله مقهور مدبر، وإنما تهب بمشيئة الله وقدرته، فلا يجوز سبها فيرجع السب إلى من خلقها وسخرها. وروى أحمد وأبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة مرفوعا: " الريح من روح الله، تأتي بالنعمة وبالعذاب، فلا تسبوها، ولكن سلوا الله من خيرها، وتعوذوا بالله من شرها "3." وروى الترمذي عن ابن عباس أن رجلا لعن الريح عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " لا تلعنوا الريح، فإنها مأمورة، وإنه من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللعنة إليه " .
(4) أي من الريح إما شدة حرها أو بردها أو قوتها، فارجعوا إلى ربكم بالتوحيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : صلاة المسافرين وقصرها (810) , وأبو داود : الصلاة (1460).
2 البخاري : المناقب (3809) , ومسلم : صلاة المسافرين وقصرها (799) , والترمذي : المناقب (3792) , وأحمد (3/130 ,3/137 ,3/185 ,3/218 ,3/233 ,3/273 ,3/284).
3 أبو داود : الأدب (5097) , وابن ماجه : الأدب (3727).(9/52)
ص -357- ... فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها، وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح، وشر ما فيها وشر ما أمرت به "1. صححه الترمذي (1) .
....................................................................
(1) أرشدهم صلى الله عليه وسلم بالرجوع إلى خالقها وآمرها الذي أزمة الأمور كلها بيده، ومصدرها عن قضائه أن يسألوه خيرها وخير ما فيها، والاستعاذة به من شرها وشر ما فيها، فما استجلبت نعمه بمثل طاعته وشكره، ولا استدفعت نقمه بمثل الالتجاء إليه والتعوذ به والاضطرار إليه ودعائه. وفي الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال: " اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به "2. فشرع الله لعباده أن يسألوه ما ينفعهم، ويستعيذوا به من شر ما يضرهم، ففيه عبودية الله وحده، والطاعة له، والإيمان به، واستدفاع الشرور به، والتعرض لفضله ونعمته، وهذه حال أهل التوحيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : الفتن (2252) , وأحمد (5/123).
2 مسلم : صلاة الاستسقاء (899).(9/53)
ص -358- ... باب قول الله تعالى: {يظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} 1 الآية .
....................................................................
(1) أراد - رحمه الله تعالى - بهذه الترجمة التنبيه على وجوب حسن الظن بالله؛ لأنه من واجبات التوحيد. وأول الآية:{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ} 2. وهم أهل الإيمان والثبات والتوكل، الجازمين بأن الله ينصر رسوله، ويظهر دينه على الدين كله: {طَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} 3 لا يغشاهم النعاس من القلق والجزع والخوف: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} 4 وهو التكذيب بالقدر وأن الأمر لو كان إليهم - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه تبعا لهم، يسمعون منهم - لما أصابهم القتل، ولكان النصر والظفر لهم، فأكذبهم الله عز وجل في هذا الظن الباطل الذي هو ظن الجاهلية، وهو الظن المنسوب إلى أهل الجهل، الذين يزعمون بعد نفوذ القضاء والقدر أنهم كانوا قادرين على دفعه، وأن الأمر لو كان إليهم لما نفذ القضاء. ولما قيل لعبد الله بن أبي: قتل بنو الخزرج اليوم، قال: وهل لنا من الأمر من شيء؟ أي لو كان الأمر إلينا ما أصابهم القتل، فأكذبهم الله بقوله: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} 5 فلا يكون إلا ما سبق به قضاؤه وقدره، وجرى به كتابه السابق، وهذه الآية كقوله: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} 6 وقد ظن هؤلاء المنافقون أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة، وأن الإسلام قد باد وأهله، وهذا شأن أهل الريب والشك إذا حصل أمر من الأمور(9/54)
الفظيعة، تحصل لهم هذه الأمور الشنيعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية : 154.
2 سورة آل عمران آية : 154.
3 سورة آل عمران آية : 154.
4 سورة آل عمران آية : 154.
5 سورة آل عمران آية : 154.
6 سورة الفتح آية : 12.(9/55)
ص -359- ... وقوله: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} 1(1). قال ابن القيم في الآية الأولى(2): فسر هذا الظن بأنه – سبحانه - لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل (3)، وأن ما أصابهم لم يكن بقدر الله وحكمته (4)، ففسر بإنكار الحكمة (5).
....................................................................
(1) أي على الذين يتهمون الله في حكمه، ويظنون بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن لا ينصروا على أعدائهم، وأن يقتلوا ويذهبوا بالكلية، دائرة العذاب تدور عليهم: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} 2 وأبعدهم وأقصاهم من رحمته: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ} 3 يصلونها يوم القيامة، وساءت منزلا يصيرون إليه يوم القيامة.
(2) أي على ما تضمنته وقعة أحد: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} 4 الآية.
(3) أي يذهب ويتلاشى، حتى لا يبقى له أثر، والاضمحلال ذهاب الشيء جملة، وهذا تفسير غير واحد من المفسرين، وهو مأخوذ من تفسير قتادة والسدي وغيرهما، ذكره ابن جرير وغيره.
(4) ذكره القرطبي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، وذلك أنهم تكلموا فيه فقال الله: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} 5 يعني القدر خيره وشره من الله.
(5) فإن من أنكر أن ذلك لم يكن لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد والشكر فقد ظن بالله ظن السوء، ومنها قوله: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ} 6 أي يختبر ما فيها من الإيمان: {وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} 7 أن ينقيها فلو تركت في عافية دائمة لم تخلص من ميل النفوس، وحكم العادات، واستيلاء الغفلة، فاقتضت حكمة الله أن قيض لها من المحن ما يكون كالدواء الكريه لمن عرض له داء إن لم يتدارك خيف عليه من الهلاك.(9/56)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الفتح آية : 6.
2 سورة الفتح آية : 6.
3 سورة الفتح آية : 6.
4 سورة آل عمران آية : 154.
5 سورة آل عمران آية : 154.
6 سورة آل عمران آية : 154.
7 سورة آل عمران آية : 154.(9/57)
ص -360- ... وإنكار القدر (1)، وإنكار أن يتم أمر رسوله، وأن يظهره على الدين كله (2)، وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح (3)، وإنما كان هذا ظن السوء (4)؛ لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه (5)، وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق (6).
....................................................................
(1) أي وفسر ظنهم بالله ظن السوء بإنكار القدر من أنهم لو لم يخرجوا ما قتلوا.
(2) كما أخبر الله به في كتابه بقوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} 1 وغيرها من الآيات والأخبار.
(3) وهي قوله تعالى: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 2 .
(4) وظن أهل الجاهلية أيضا وهو المنسوب إلى أهل الجهل.
(5) وغير ما يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وذاته المبرأة من كل عيب وسوء، لأن الذي يليق به سبحانه أن يظهر الحق على الباطل وينصره، فلا يجوز في عقل ولا شرع أن يظهر الباطل على الحق، بل يقذف بالحق على الباطل فيدمغه.
(6) الذي لا يخلفه وبكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصرهم ولا يخذلهم، ولجنده بأنهم هم الغالبون، فمن ظن أنه لا ينصر رسوله ولا يتم أمره ولا يؤيده ويؤيد حزبه ويعليهم ويظفرهم بأعدائهم، ويظهرهم عليهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، فقد ظن به ظن السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بجلاله وكماله وصفاته ونعوته، فإن حمده وعزته وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يذل حزبه وجنده، وأن تكون النصرة للمشركين، فمن ظن به ذلك فما عرفه ولا عرف ربوبيته وملكه وعظمته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية : 33.
2 سورة الفتح آية : 6.(9/58)
ص -361- ... فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق (1)، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره (2)، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة، فذلك: {ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} 1. وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء، فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم (4).
ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته، وموجب حكمته وحمده ووعده الصادق (5)،
....................................................................
(1) اضمحلالا لا يقوم بعده أبدا فقد ظن به ظن السوء؛ لأنه نسبه إلى ما لا يليق بجلاله وكماله.
(2) أي فذلك ظن السوء؛ لأنه نسبه إلى ما لا يليق بربوبيته وملكه.
(3) وكذلك من أنكر أن يكون قدر ما قدره من ذلك وغيره لحكمة بالغة، وغاية مطلوبة، هي أحب إليه من فواتها، وأن تلك الأسباب المكروهة المفضية إليها لا يخرج تقديرها عن الحكمة، لإفضائها إلى ما يحب، وإن كانت مكروهة له، فما قدرها سدى، ولا شاءها عبثا، ولا خلقها باطلا،: {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} 2 .
(4) وغالب بني آدم إلا من شاء الله يعتقد أنه مبخوس الحق، ناقص الحظ وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله، ولسان حاله يقول: ظلمني ربى، ومنعني ما أستحقه، ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكره، ولا يتجاسر على التصريح به.
(5) لأن الله وعد رسوله أن ينصره، ويظهر أمره ودينه على الدين كله، فمن ظن أن دينه سيضمحل ولا يظهر على الدين كله فقد ظن به ظن السوء، ومن قنط من رحمته، وأيس من روحه، أو جوز عليه أن يعذب أولياءه على إحسانهم، =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة ص آية : 27.
2 سورة ص آية : 27.(9/59)
ص -362- ... فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله، ويستغفره من ظنه بربه ظن السوء (1).
....................................................................
= ويسوي بينهم وبين أعدائه فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه يترك خلقه سدى، أو أنه لا يجمعهم بعد الموت للثواب والعقاب فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح، وأنه يعاتبه بما لا صنع له فيه، وأنه يحسن منه كل شيء، حتى يعذب من أفنى عمره في طاعته فيخلده في الجحيم، وينعم من استنفد عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه، فيرفعه إلى أعلى عليين فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه، وترك الحق لم يخبر به، وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم في تحريف كلامه عن مواضعه، وأحالهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم، لا على كتابه وسنة رسوله، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه وسلفه عبروا عن الحق بصريحه، دون الله ورسوله وأن الهدى في كلامهم، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه يكون في ملكه ما لا يشاء، ولا يقدر على إيجاده، وأنه كان معطلا من الأزل إلى الأبد عن أن يفعل، وأنه لا سمع له ولا بصر ولا علم ولا إرادة ولا كلام يقوم به، ولا يتكلم ولا يكلم، وأنه ليس فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه فيدعونهم ويرجونهم فقد ظن به ظن السوء.
(1) وليظن السوء بنفسه التي هي مأوى كل سيئ، ومتبع كل شر، المركبة على الجهل والظلم، فإنها أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين وأرحم الراحمين، الغني الحميد الذي له الغنى التام والحمد التام، والحكمة التامة، المنزه عن كل سوء في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله، فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه، وصفاته كذلك، وأسماؤه كلها حسنى، وأفعاله كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل:
فلا تظنن بربك ظن سوء ... فإن الله أولى بالجميل(9/60)
ولا تظنن بنفسك قط خيرا ... فكيف بظالم جان جهول(9/61)
ص -363- ... ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتا على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا (1)، فمستقل ومستكثر (2)، وفتش نفسك هل أنت سالم ؟
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة3 ... وإلا فإني لا إخالك ناجيا4
....................................................................
(1) اقتراحا عليه وأنه يستحق خلاف ما جرى به القدر، بل يبوحون بذلك ويصرحون به جهارا في كلامهم وأشعارهم، وهذه حالة كما قال ابن الجوزي وغيره قد شملت خلقا كثيرا من العلماء والجهال، أولهم إبليس، وقال: الواحد من العوام إذا رأى مراكب مقلدة بالذهب والفضة، ودارا مشيدة مملوءة بالخدم والزينة، قال: انظروا ما أعطاهم الله مع سوء أفعالهم، ولا يزال يلعنهم ويذم معطيهم، حتى يقول: فلان يصلي الجماعات والجمع، ولا يؤذي الذر، ويظهر الإعجاب كأنه ينطق: لو كانت الشرائع حقا لكان الأمر بخلاف ما ترى، وكان الصالح غنيا والفاسق فقيرا. وقال صدقة بن الحسين الحداد - وكان فقيها وعليه جرب -، فقال: ينبغي أن يكون هذا على جمل لا علي. وكثير من العوام إذا رأى رجلا صالحا مؤذى قالوا: هذا ما يستحق، أو هذا ابن حلال كأن الله ظلمه أو يذمه كأنه لا يستحق، قدحا في القدر، وارتفاعا على الخالق جل وعلا في التحكم عليه، حتى كأن المعترض قد ارتفع أن يكون شريكا لله تعالى في ملكه، والله سبحانه هو العليم الحكيم، يضع الأشياء مواضعها.
(2) من الاعتراض على قدر الله وحكمه.
(3) أي من أمر ذي مصيبة عظيمة.
(4) إخال بكسر الهمزة أي لا أظنك ناجيا من الاعتراض على القدر، بل أكثر الخلق إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق ظن السوء بلسان حاله أو مقاله.(9/62)
ص -364- ... باب ما جاء في منكري القدر (1)
وقال ابن عمر: " والذي نفس ابن عمر بيده لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا ثم أنفقه في سبيل الله، ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر" (2).
....................................................................
(1) أي من الوعيد الشديد، والقدر بالفتح ما يقدره الله من القضاء، ولما كان توحيد الربوبية لا يتم إلا بإثبات القدر ذكر المصنف ما جاء من الوعيد فيمن أنكره، تنبيها على وجوب الإيمان به، وقد جاءت أحاديث كثيرة في ذم القدرية، وأنهم مجوس هذه الأمة، فعن ابن عمر مرفوعا: " القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم "1. رواه أبو داود. وروى من حديث حذيفة: " لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر " الحديث. يعني أن الأمر مستأنف، لم يسبق به قدر ولا علم من الله، وإنما يعلمه بعد وقوعه. ومذهب أهل السنة ما دل عليه الكتاب والسنة أن الله خالق كل شيء، وربه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم، قدر أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم، وكتب ذلك في اللوح المحفوظ، وكتب ما يصيرون إليه من سعادة وشقاوة، وغلاة القدرية ينكرون علمه المتقدم، وكتابته السابقة، ويقولون: الأمر أنف. وهذا القول أول ما حدث في الإسلام في أواخر عصر الصحابة، وأول من ظهر ذلك منه معبد الجهني كما سيأتي، وعامة القدرية ينكرون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فينكرون مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، وينكرون أن للعباد إرادات وأفعالا حقيقة وأن الله خالق أفعالهم وإراداتهم.
(2) هذا الحديث رواه مسلم كما ذكره المصنف، وأهل السنن وغيرهم عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من تكلم في القدر بالبصرة معبد الجهني، =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : المناسك (2042) , وأحمد (2/367).(9/63)
ص -365- ... ثم استدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره "1. رواه مسلم (1).
....................................................................
= فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر داخلا المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي فقلت: أبا عبد الرحمن إنه " قد ظهر قبلنا أناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف. فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني منهم بريء، وأنهم مني برآء، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر ". قال شيخ الإسلام: وكذلك كلام ابن عباس وجابر بن عبد الله وواثلة بن الأسقع وغيرهم من الصحابة، والتابعين لهم بإحسان وسائر أئمة المسلمين فيهم كثير، حتى قال فيهم الأئمة كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم: إن المنكرين لعلم الله القدرية يكفرون.
(1) أي قال ابن عمر حدثني عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل يعني جبرائيل - عليه السلام - كما صرح به في آخر الحديث، شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، فقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، فأخبره بأركانه، ثم سأله عن الإيمان فأخبره كما ذكره المصنف، ثم سأله عن الإحسان ثم الساعة، وهذا حديث عظيم، وعليه مدار أصول الدين، وفيه أن الإيمان بالقدر من أصول الإيمان الستة المذكورة، فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره فقد ترك أصلا من أصول الدين وجحده، ويشبه من قال الله فيهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ(9/64)
وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} 2. والإيمان بالقدر هو الإيمان بأن الله علم ذلك في علمه القديم، وأنه كتبه وشاءه وأوجده.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الإيمان (8) , والترمذي : الإيمان (2610) , والنسائي : الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود : السنة (4695) , وابن ماجه : المقدمة (63) , وأحمد (1/28 ,1/51 ,1/52 ,2/107).
2 سورة البقرة آية : 85.(9/65)
ص -366- ... وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال لابنه: يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان (1) حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك (2)، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن أول ما خلق الله القلم (3)،
....................................................................
(1) أي حلاوة الإيمان كما تقدم في حديث أنس. وللترمذي: "إن للإيمان طعما". وهو كذلك فإن له حلاوة وطعما من ذاقه تسلى به عن الدنيا وما عليها، وابن عبادة هو الوليد، صرح به أحمد والترمذي، ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أنصاري مدني ثقة من كبار التابعين، مات بعد السبعين.
(2) ولأحمد وغيره: قلت: يا أبتاه أوصني واجتهد لي فقال: أجلسوني. فقال: يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان، ولن تبلغ حقيقة العلم بالله حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، قلت: يا أبتاه كيف أعلم ما خير القدر وشره ؟ قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك. وفي الحديث: " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان "1 وإنه يكون كذلك إذا كان مؤمنا بالقدر.
(3) أي أول شيء خلقه قبل خلق السماوات والأرض، لا قبل خلق العرش، وعليه الجمهور؛ لما روى مسلم وغيره عن عبد الله بن عمرو مرفوعا: " كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء " وفي الصحيح من غير وجه عن عمران بن حصين مرفوعا: " كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السماوات والأرض "2. وروى الدارمي وغيره نحوه، وقال: ثبت في النصوص الصحيحة أن العرش خلق أولا. وعن ابن عباس قال: " إن الله كان على عرشه قبل أن يخلق شيئا، فكان أول ما خلق الله القلم فأمره أن يكتب ما هو كائن ". وإنما يجري الناس على =(9/66)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : الأقضية (3600) , وابن ماجه : الأحكام (2366) , وأحمد (2/204).
2 أبو داود : الجنائز (3199) , وابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1497).(9/67)
ص -367- ... فقال له: اكتب. فقال: رب وماذا أكتب ؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة "1(1). يا بني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من مات على غير هذا فليس مني "2. (2) وفي رواية لأحمد: " إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب فجرى في تلك الساعة ما هو كائن إلى يوم القيامة "3 (3).
....................................................................
= أمر قد فرغ منه، ونحوه للبيهقي عنه أنه سئل عن قوله: (وكان عرشه على الماء) على أي شيء؟ قال: على متن الريح. ويحمل حديث: "أول ما خلق الله القلم" على أنه أول المخلوقات من هذا العالم.
(1) وكذلك في حديث ابن عباس وغيره، وفيه بيان أنه إنما أمر حينئذ أن يكتب مقادير هذا الخلق إلى قيام الساعة، لا ما يكون بعد ذلك.
(2) صححه أحمد والترمذي، وفيه ونحوه بيان شمول علم الله تعالى وإحاطته بما كان وما يكون في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً}4. قال أحمد: القدر قدرة الرحمن. قال شيخ الإسلام: ((يشير إلى أن من أنكر القدر فقد أنكر قدرة الله، وأنه يتضمن إثبات قدرة الله على كل شيء)) ا?. ونفاة القدر جحدوا كمال قدرة الله. قال بعض السلف: ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوه كفروا. يعني إن أنكروا العلم القديم السابق بأفعال العباد، وأنه في كتاب حفيظ فقد كذبوا القرآن، وإن أقروا بذلك وأنكروا أن الله. خلق أفعال العباد وأرادها فقد خصموا؛ لأن ما أقروا به حجة عليهم فيما أنكروه. وقد بيض المصنف - رحمه الله تعالى - آخر هذا الحديث ليعزوه ورواه أحمد والترمذي وأبو داود وهذا لفظه كما ذكره الشارح.
(3) وتمامه: يا بني إن مت ولست على ذلك دخلت النار.(9/68)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : القدر (2155) , وأبو داود : السنة (4700).
2 أبو داود : السنة (4700).
3 الترمذي : تفسير القرآن (3319) , وأحمد (5/317).
4 سورة الطلاق آية : 12.(9/69)
ص -368- ... وفي رواية لابن وهب: (1) قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار ". (2) وفي المسند والسنن عن ابن الديلمي: (3) قال: أتيت أبي بن كعب فقلت: " في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي (4).
....................................................................
(1) هو عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي مولاهم أبو محمد المصري الثقة الفقيه، صاحب مالك، روى عنه وعن عمرو بن الحارث وابن هانئ وحيوة وغيرهم، وعنه شيخه الليث بن سعد وابن مهدي وابن المديني وجماعة، وجمع وصنف وحفظ على أهل الحجاز ومصر وغيرهم ولد سنة 125 هـ، ومات سنة 197 هـ.
(2) أي فمن لم يؤمن بما قدره الله وقضاه فقد جحد قدرة الله التامة، ومشيئته النافذة، وخلقه لكل شيء، وتصرفه في كل شيء، وكذب بكتبه ورسله ووعده ووعيده، فاستحق أن يحرقه الله بالنار، لكفره وبدعته أعاذنا الله من ذلك.
(3) أي وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود وابن ماجه عن عبد الله بن فيروز الديلمي نسبة إلى جبل الديلم، أبو بسر بالمهملة ويقال: بالمعجمة، أخو الضحاك، من أبناء الفرس، وفيروز: قاتل الأسود العنسي، وعبد الله هذا ثقة من كبار التابعين، ومنهم من ذكره في الصحابة، كان يسكن بيت المقدس، روى عن أبيه وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وابن مسعود وحذيفة وغيرهم، وعنه أبو إدريس الخولاني وعمرو بن رويم ووهب بن خالد وغيرهم.
(4) ولفظ ابن ماجه قال: وقع في نفسي شيء من هذا القدر، خشيت أن يفسد علي ديني وأمري. أي شك واضطراب يؤدي إلى شك فيه أو جحد له، فأتيت أبي بن كعب فقلت: يا أبا المنذر قد وقع في قلبي شيء من هذا القدر، فخشيت على =(9/70)
ص -369- ... فقال: لو أنفقت مثل أحد ذهبا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر (1)، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار " (2).
قال: فأتيت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت فكلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي صلى الله عليه
....................................................................
= ديني وأمري، فحدثني من ذلك بشيء، لعل الله أن ينفعني، فقال: " لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم "، أي لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعتوهم وعصيانهم، فمحض عدله الخالص من شائبة الظلم، وهو أرحم الراحمين، ولولا فرط عتوهم وإبائهم عن طاعته واستحقاقهم للعذاب لما عذبهم، وهو الحكم العدل، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم.
(1) ولفظ ابن ماجه: ولو كان لك جبل أحد ذهبا، أو مثل جبل أحد ذهبا تنفقه في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، أي بأن جميع الأمور الكائنة خيرها وشرها بقضاء الله وقدره وإرادته ومشيئته وأمره، كما ذكر عن علي رضي الله عنه.
(2) ففي هذه الأحاديث وما في معناها الوعيد الشديد على من لم يؤمن بالقدر، والحجة الواضحة على نفاة القدر من المعتزلة وغيرهم، ومن مذهبهم تخليد أهل المعاصي في النار، وهذا الذي اعتقدوه من أكبر الكبائر فلازم مذهبهم الحكم عليهم بالخلود في النار إن لم يتوبوا، وقد خالفوا ما تواتر من الكتاب والسنة.(9/71)
ص -370- ... سلم. حديث صحيح رواه الحاكم في صحيحه (1) .
....................................................................
(1) ولفظ ابن ماجه: ولا عليك أن تأتي أخي عبد الله بن مسعود قال: فأتيت عبد الله بن مسعود فسألته، فذكر لي مثل ما قال أبي، وقال لي: ولا عليك أن تأتي حذيفة، فأتيت حذيفة فسألته فقال مثل ما قال عبد الله، فقال: ائت زيد بن ثابت فاسأله، فأتيت زيد بن ثابت فسألته فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه "1 بنحو ما تقدم عن أبي رضي الله عنه، وزيد بن ثابت الأنصاري كاتب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأحد فقهاء الصحابة مات سنة 45 هـ، وله 56 سنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الجنائز (947) , والترمذي : الجنائز (1029) , والنسائي : الجنائز (1991) , وأحمد (3/266 ,6/32 ,6/40 ,6/97 ,6/231).(9/72)
ص -371- ... باب ما جاء في المصورين (1)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي(2)، فليخلقوا ذرة (3)، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة "1. أخرجاه (4).
....................................................................
(1) أي من الوعيد الشديد والتهديد الأكيد، للمضاهاة بخلق الله، بل هو منشأ الوثنية، وما دخل على القرون قبلنا إنما هو من هذا الباب؛ لأن صورة المألوف تعظيم، وإذا ارتسمت في الحافظة وبقي ذكرها يمر على البصر الناظر إليها من رسمها لا بد أن تستولي على قلبه، وتحل فيه حلول التعبد له.
(2) أي لا أظلم منه فإن الله له الخلق والأمر، وهو رب كل شيء ومليكه، وهو خالق كل شيء، وهو الذي صور جميع المخلوقات على غير مثال سبق، وجعل فيها الأرواح التي تحصل بها الحياة، كما قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} 2 الآيات. فالمصور لما صور الصورة على شكل ما خلقه الله تعالى من إنسان وبهيمة، صار مضاهيا لخلق الله، فصار لا أظلم منه، وما صوره يعذب به يوم القيامة.
(3) تعجيز لهم، أي فليخلقوا ذرة وهي صغار النمل فيها روح تتصرف بنفسها كهذه الذرة التي خلقها الله، وأنى لهم ذلك ؟
(4) تعجيز لهم أيضا، أي فليخلقوا حبة حنطة فيها طعم تؤكل وتزرع وتنبت، ويوجد فيها ما يوجد في حبة الحنطة، وكذا الشعيرة ونحوها من الحب الذي يخلقه =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : التوحيد (7559) , ومسلم : اللباس والزينة (2111) , وأحمد (2/232 ,2/259 ,2/391 ,2/451 ,2/527).
2 سورة السجدة آية : 7.(9/73)
ص -372- ... ولهما عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله "1 (1).
....................................................................
= الله، وأنى لهم السبيل إلى ذلك، والمراد تعجيزهم تارة بتكليفهم خلق صورة حيوان، وهو أشد، وتارة بتكليفهم خلق جماد وهو أهون، ومع ذلك لا قدرة لهم على ذلك كله، فإن الله هو المتفرد بذلك لا خالق غيره ولا رب سواه.
(1) أي يشابهون بما يصنعونه ما يصنعه الله. ولمسلم: "الذين يشبهون بخلق الله". ولهما من حديث ابن عباس: " أشد الناس عذابا المصورون "2. قال النووي: قيل: هذا محمول على صانع الصورة لتعبد وهو صانع الأصنام ونحوها، فهذا كافر وهو أشد الناس، وقيل هو فيمن قصد المعنى الذي في الحديث من مضاهاته خلقه، واعتقد ذلك فهذا كافر أيضا، وله من شدة العذاب ما للكافر، ويزيد عذابه بزيادة كفره، فأما من لم يقصد بها العبادة ولا المضاهاة فهو فاسق صاحب ذنب كبير، لا يكفر كصاحب المعاصي. وقال: قال العلماء: تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم، وهو من الكبائر المتوعد عليها بهذا الوعيد الشديد، وسواء صنعه لما يمتهن أم لغيره فصنعه حرام بكل حال، وسواء كان في ثوب أو بساط أو درهم أو دينار أو فلس أو إناء أو حائط أو غيرها، فأما ما ليس فيه صورة حيوان فليس بحرام. قال الحافظ: ويؤيد التعميم فيما له ظل وفيما لا ظل له ما أخرجه أحمد عن علي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فقال: " أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثنا إلا كسره، ولا قبرا إلا سواه، ولا صورة إلا لطخها "3. وفيه ثم قال: " من عاد إلى صنعة شيء من هذا فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم "4. قال المنذري: إسناده جيد. وإذا كان هذا فيمن صور صورة على مثال ما خلقه الله من الحيوان، فكيف بمن سوى المخلوق برب العالمين، وشبهه بخلقه وصرف(9/74)
له شيئا من العبادة ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : اللباس (5954) , وأحمد (6/36).
2 البخاري : اللباس (5950) , ومسلم : اللباس والزينة (2109) , والنسائي : الزينة (5364) , وأحمد (1/375 ,1/426).
3 مسلم : الجنائز (969) , والترمذي : الجنائز (1049) , والنسائي : الجنائز (2031) , وأبو داود : الجنائز (3218) , وأحمد (1/87).
4 أحمد (1/87).(9/75)
ص -373- ... ولهما عن ابن عباس - رضي الله عنهما - سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كل مصور في النار(1) يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم "1 (2).
....................................................................
(1) أي لذي روح، لتعاطيه ما يشبه ما انفرد الله به من الخلق والاختراع.
(2) أي تعذبه نفس الصورة بأن يجعل فيها روحا، والباء بمعنى " في " أو يجعل له بكل صورة شخص يعذب به، وقد قال - عليه الصلاة والسلام – لعائشة: " ما هذه النمرقة ؟ قلت: لتجلس عليها وتوسدها. قال: إن أصحاب هذه الصور يقال لهم: أحيوا ما خلقتم، وإن الملائكة لا تدخل بيتا فيه الصور "2. قال الحافظ: قدم الجملة الأولى اهتماما بالزجر عن اتخاذ الصور؛ لأن الوعيد إذا حصل لصانعها فهو حاصل لمستعملها؛ لأنها لا تصنع إلا لتستعمل، فالصانع متسبب، والمستعمل مباشر، فيكون أولى بالوعيد، ويستفاد منه أنه لا فرق في تحريم التصوير بين أن تكون الصورة لها ظل أو لا، وبين أن تكون مدهونة أو منقوشة أو منقورة أو منسوجة، معلقة أو مفروشة. قال النووي: لا فرق في ذلك، وبمعناه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين. وقال بعض السلف: إنما ينهى عما كان له ظل، ولا بأس بالصورة التي ليس لها ظل وهذا مذهب باطل، فإن الستر الذي أنكر النبي صلى الله عليه وسلم الصور فيه لا يشك أحد أنه مذموم، وليس لصورته ظل، مع باقي الأحاديث المطلقة في كل صورة. وقال الزهري: النهي في الصورة على العموم، وكذا استعمال ما هي فيه، ودخول البيت الذي هي فيه، سواء كانت رقما في ثوب، أو غير رقم، وسواء كانت في حائط أو ثوب أو بساط ممتهن أو غير ممتهن عملا بظاهر الأحاديث، لا سيما حديث النمرقة الذي ذكره مسلم، وهذا مذهب قوي.(9/76)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : اللباس والزينة (2110) , وأحمد (1/308).
2 البخاري : اللباس (5957) , ومسلم : اللباس والزينة (2107) , ومالك : الجامع (1803).(9/77)
ص -374- ... ولهما عنه مرفوعا: " من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ "1(1). ولمسلم عن أبي الهياج قال: قال لي علي رضي الله عنه: " ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع صورة إلا طمستها (2)، ولا قبرا مشرفا إلا سويته "2 (3).
....................................................................
(1) وفي رواية: "فإن الله يعذبه حتى ينفخ فيها الروح وليس بنافخ أبدا" أي لا يمكنه ذلك، فيكون معذبا دائما، فالحديث يدل على طول تعذيبه، وإظهار عجزه عما كان تعاطاه، ومبالغة في تحريمه، وبيان قبح فعله، وتقدم قوله: "أحيوا ما خلقتم" أي اجعلوه حيوانا ذا روح كما ضاهيتم به، وهذا أمر تعجيز، ووعيد شديد؛ لأنه مغيا بما لا يمكن، فالمراد به الزجر الشديد والوعيد بعقاب الكافر، ليكون أبلغ في الارتداع. ويستثنى من ذلك ما لا روح فيه، لقول ابن عباس: فإن أبيت فعليك بهذا الشجر. وإذا خص ما فيه روح بالمعنى من جهة أنه مما لم تجر عادة الآدميين بصنعته، وجرت عادتهم بغرس الأشجار مثلا امتنع ذلك في مثل تصوير الشمس والقمر، ويتأكد المنع بما عبد من دون الله، فإنه يضاهي صور الأصنام التي هي الأصل في منع التصوير، لا سيما وقد جاء النهي عن التماثيل.
(2) وتقدم لأحمد: "ولا صورة إلا لطختها" أي أزلتها ومحوتها. وفيه التصريح ببعثه صلى الله عليه وسلم عليا وغيره لطمس الصور لما فيها من المضاهاة لخلق الله. وأبو الهياج اسمه حيان بن حصين الأسدي تابعي ثقة، روى عن علي وعمار، وكان كاتبا له، وعنه ابناه جرير ومنصور والشعبي وغيرهم.
(3) مشرفا أي مرتفعا إلا سويته أي بالأرض، ففيه التصريح ببعثه لتسوية القبور، لما في تعليتها من الفتنة بأربابها، وتعظيمها وهو أكبر وسائل الشرك وذرائعه، بل هو الأصل في عبادتها، وصرف الهمم إلى محو هذا وأمثاله من أكبر مصالح الدين =(9/78)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : البيوع (2225) والتعبير (7042) , ومسلم : اللباس والزينة (2110) , والترمذي : اللباس (1751) , والنسائي : الزينة (5358 ,5359) , وأبو داود : الأدب (5024) , وأحمد (1/216 ,1/241 ,1/246 ,1/350 ,1/359 ,1/360).
2 مسلم : الجنائز (969) , والترمذي : الجنائز (1049) , والنسائي : الجنائز (2031) , وأبو داود : الجنائز (3218) , وأحمد (1/96).(9/79)
ص -375- ... .............................................................................................
= ومقاصده وواجباته، ولما وقع التساهل في هذه الأمور وقع المحذور، فكثر التصوير واستعماله، وكثر البناء على القبور وزخرفت، وجعلت أوثانا تعبد من دون الله، وصرف لها خالص التضرع والخشوع، والذبح لها والنذور، وغير ذلك من كل شرك محظور. قال ابن القيم: ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به ونهى عنه وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضادا للآخر مناقضا له، بحيث لا يجتمعان، فنهى عن الصلاة إلى القبور وهؤلاء يصلون عندها وإليها، ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد ويسمونها مشاهد، مضاهاة لبيوت الله، ونهى عن إيقاد السرج عليها وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد السرج عليها، ونهى أن تتخذ عيدا، وهؤلاء يتخذونها أعيادا ومناسك ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر، وأمر بتسويتها كما روى مسلم عن أبي الهياج وذكره هو وحديث ثمامة بن شفي، وهو عند مسلم أيضا قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم، فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بقبره فسوي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها. وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين، ويرفعونها عن الأرض كالبيوت، ويعقدون عليها القباب، وذكر ما نهي عنه من تجصيصها والزيادة على ترابها، والتصريح بتحريم ذلك، وأنه قد آل الأمر بهؤلاء إلى أن شرعوا للقبور حجا، ووضعوا لها مناسك، ولا يخفى ما فيه من مشاقة دين الإسلام، والمفاسد التي يعجز عن حصرها، منها اتخاذها أعيادا، والسفر إليها، ومشابهة عباد الأصنام بما يفعل عندها من العكوف عليها، والمجاورة عندها، وتعليق الستور عليها، وسدانتها والنذر لها ولسدنتها، واعتقاد المشركين فيها أن بها يكشف البلاء، وتقضى الحوائج وغير ذلك، والشرك الأكبر الذي يفعل عندها، وإيذاء أهلها، وتفضيلها على خير(9/80)
البقاع، والطواف بها، وتقبيلها، واستلامها وتعفير الخدود على تربتها، وعبادة أصحابها، والاستغاثة بهم وسؤالهم النصر والرزق والعافية، وقضاء الديون، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفان، وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم فالله المستعان.(9/81)
ص -376- ... باب ما جاء في كثرة الحلف (1)
وقول الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} 1(2). عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب "2. أخرجاه (3).
....................................................................
(1) أي من النهي عنه والوعيد لفاعليه، لما يترتب عليه من منافاة كمال التوحيد الواجب، والحلف بفتح المهملة وكسر اللام اليمين.
(2) قال ابن عباس: يريد لا تحلفوا. وقال ابن جرير: لا تتركوها بغير تكفير. وقال آخرون: احفظوا أيمانكم عن الحنث فلا تحنثوا. وأراد المصنف من الآية ما قاله ابن عباس، وكلها متلازمة، فإنه يلزم من كثرة الحلف كثرة الحنث، مع ما يدل عليه من الاستخفاف بالله، وعدم التعظيم له وغير ذلك مما ينافي كمال التوحيد الواجب.
(3) منفقة بفتح الميم والفاء مفعلة من النفاق بفتح النون، وهو الرواج ضد الكساد، والسلعة بكسر السين المتاع، أي الحلف نفاق ورواج للسلع، وممحقة بفتح الميم والحاء، والمحق هو النقص والمحو، ومحق الله الشيء أذهب بركته، والمعنى أنه إذا حلف على سلعة أنه أعطي فيها كذا وكذا، أو أنه اشتراها بكذا وكذا، وقد يظنه المشتري صادقا فيما حلف عليه، فيأخذها بزيادة على قيمتها، والبائع كاذب في ذلك، وإنما حلف طمعا في الزيادة، فيكون قد عصى الله، فيعاقب بمحق البركة، فإذا ذهبت بركة كسبه دخل عليه من النقص أعظم من تلك الزيادة التي =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية : 89.
2 البخاري : البيوع (2087) , ومسلم : المساقاة (1606) , والنسائي : البيوع (4461) , وأبو داود : البيوع (3335) , وأحمد (2/235 ,2/242 ,2/413).(9/82)
ص -377- ... وعن سلمان رضي الله عنه (1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاثة لا يكلمهم الله (2)، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم(3): أُشيمط زان (4)،
....................................................................
= دخلت عليه بسبب حلفه، وربما ذهب ثمن تلك السلعة بالكلية، فإن ما عند الله إنما ينال بطاعته، وإن تزخرفت الدنيا للعاصي، فعاقبتها الاضمحلال والذهاب والعقاب الوبيل.
(1) هو أبو عبد الله الفارسي ابن الإسلام، ويقال له: سلمان الخير، أصله من أصبهان، وفي الصحيح عنه أنه من رام هرمز، وأنه تداوله بضعة عشر من رب إلى رب. وقال ابن منده: اسمه مايه بن لوذخشان بن مورسلا بن بهوذان من ولدان الملك، وكان أدرك وصي عيسى، أسلم مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، أول ما شهد الخندق، روى عنه أنس وابن عباس وغيرهما، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " سلمان منا أهل البيت ". قال الحسن: كان أميرا على ثلاثين ألفا، توفي سنة 36 هـ، قيل: وله 350 سنة.
(2) نفي كلام الله لهؤلاء العصاة وعيد شديد في حقهم، ودليل على أن الله يكلم من أطاعه، كما تواترت به النصوص من الكتاب والسنة، وأن الكلام صفة من صفات كماله، وهو مذهب أهل السنة والجماعة.
(3) وهذا من تمام العقوبة لهم، والزكاة في الأصل الطهارة والنماء والبركة والمدح والزيادة، أي لا يثني عليهم، ولا يطهرهم من دنس الذنوب. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1 موجع، فهؤلاء لما عظم ذنبهم عظمت عقوبتهم، وهذا زجر عظيم لمن له عقل عن تعاطي هذه الأعمال السيئة.
(4) صغره تحقيرا له؛ وذلك لأن داعي المعصية والفجور ضعيف في حقه، فدل على أن الحامل له على الزنا محبة المعصية والفجور، وعدم الخوف من الله وخشيته، =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 10.(9/83)
ص -378- ... وعائل مستكبر (1)، ورجل جعل الله بضاعته (2) لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه "1. رواه الطبراني بسند صحيح (3).
....................................................................
= وضعف الداعي إلى المعصية مع فعلها يوجب تغليظ العقوبة عليه، بخلاف الشاب فإن قوة داعي الشهوة منه قد يغلبه مع خوفه من الله، وقد يرجع إلى نفسه بالندم ولومها على المعصية فينتهي ويراجع.
(1) أي فقير ليس له ما يدعوه إلى الكبر؛ لأن الداعي إلى الكبر في الغالب كثرة المال والنعم والرياسة، والعائل الفقير لا داعي له إلى أن يستكبر، فاستكباره مع عدم الداعي إليه يدل على أن الكبر طبيعة له، كامن في قلبه، فعظمت عقوبته، لعدم الداعي إلى هذا الخلق الذميم الذي هو من أكبر المعاصي.
(2) بنصب الاسم الشريف، أي جعل الحلف بالله بضاعته، وله من حديث عصمة بن مالك: " اتخذ الأيمان بضاعة، يحلف في كل حق وباطل ". وسماه بضاعة له لملازمته له، وغلبته عليه، وهذا الشاهد من الحديث للترجمة، وكل هذه الأعمال تدل على أن صاحبها إن كان موحدا فتوحيده ضعيف، وأعماله ضعيفة بحسب ما قام بقلبه، وظهر على لسانه وعمله، من تلك المعاصي العظيمة مع قلة الداعي إليها.
(3) وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر: " ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم "2. وذكر منهم المنفق سلعته بالحلف الكاذب. وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: " رجل حلف على سلعة لقد أعطي بها أكثر مما أعطي وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال رجل مسلم "3. وفي رواية: " ورجل بايع رجلا سلعة بعد العصر، فحلف بالله لأخذها بكذا وكذا، فصدقه وهو على غير ذلك "4. ففي هذه الأحاديث شدة الوعيد على كثرة الحلف، المنافي لكمال التوحيد.(9/84)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الإيمان (107) , والنسائي : الزكاة (2575) , وأحمد (2/480).
2 البخاري : العلم (99) , وأحمد (2/373).
3 الترمذي : صفة القيامة والرقائق والورع (2441) , وابن ماجه : الزهد (4317).
4 النسائي : الصلاة (461) , وأبو داود : الصلاة (425 ,1420) , وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (1401) , وأحمد (5/315 ,5/317 ,5/319 ,5/322) , ومالك : النداء للصلاة (270) , والدارمي : الصلاة (1577).(9/85)
ص -379- ... وفي الصحيح عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير أمتي قرني (1)، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم (2). قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثا(3)، ثم إن بعدكم قوم يشهدون ولا يستشهدون (4)،
....................................................................
(1) الخبر في الصحيحين، وأكثر روايات البخاري: "خيركم قرني" على تقدير حذف المضاف، أي أهل قرني، وجاء في رواية: "أهل قرني" واختلف في القرن، فقيل: من أربعين إلى مائة، وهو المعتبر، فخير الأمة قرنه لفضيلة أهل ذلك القرن في العلم والإيمان والأعمال الصالحة، لغلبة الخير فيه، وكثرة أهله، وقلة الشر وأهله، واعتزاز الإسلام، وكثرة العلم والعلماء، واشتداد الإنكار على من ابتدع، كالخوارج والقدرية ونحوهم.
(2) أي فضل الذين يلونهم على من بعدهم لظهور الإسلام فيهم وكثرة الداعي إليه والراغب فيه، والقائم به، والقرب من نور النبوة، وما ظهر فيه من البدع أنكر واستعظم وأزيل كبدعة الخوارج والقدرية والرافضة، وتلك وإن ظهرت فأهلها في غاية الذل والمقت والهوان والقتل، فيمن عاند منهم ولم يتب، وأما القرن الثالث فهو دون الأولين، لكثرة ظهور البدع فيه، لكن العلماء فيه متوافرون، وقد تصدى كثير منهم لإنكارها، والإسلام إذ ذاك ظاهر والجهاد قائم.
(3) هذا الشك من راوي الحديث عمران بن حصين رضي الله عنه، والمشهور من الروايات أن القرون المفضلة ثلاثة.
(4) قوم بالرفع هكذا في بعض روايات البخاري وغيره، وهي مخالفة لقواعد الإعراب، والرواية المشهورة التي شرح عليها الشراح "قوما" بالنصب، وجوز =(9/86)
ص -380- ... ويخونون ولا يؤتمنون (1)، وينذرون ولا يوفون (2)، ويظهر فيهم السمن "1 (3).
....................................................................
= العيني رفعه بفعل محذوف تقديره يجيء قوم.
وفي بعض الروايات "يجيء قوم". وفي بعضها: "يكون قوم" لكن بدون ذكر إن بعدكم "ويشهدون" أي الزور "ولا يستشهدون" أي لا تطلب منهم الشهادة لفسقهم أو لاستخفافهم بأمرها وعدم تحريهم الصدق، لقلة دينهم وضعف إيمانهم، والذم لمن شهد بالباطل، لما في بعض الألفاظ "ثم يفشو فيهم الكذب، حتى يشهد الرجل ولا يستشهد". ولقرنه بالخيانة، ولا منافاة بينه وبين حديث: " خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها "2؛ لأن هذا في حقوق الله التي لا طالب لها، وفي حقوق الآدميين التي لو لم يأت بها الشاهد لضاع حق من هي له، لعدم علمه بها، وقيل: أي يتحملون الشهادة من غير تحميل.
(1) أي يخونون من ائتمنهم، ولا يؤتمنون لخيانتهم الظاهرة، وفيه دلالة على أن الخيانة قد غلبت على كثير منهم أو أكثرهم.
(2) أي لا يوفون ما وجب عليهم بالنذر، وهذا لا ينافي حديث النهي عن النذر، وأنه لا يأتي بخير، وإنما هو تأكيد لأمره، وتحذير من التهاون به بعد إيجابه، فظهور هذه الأعمال الذميمة يدل على ضعف إسلامهم، وقلة إيمانهم.
(3) يعني المفرط للتوسع في المآكل والمشارب، والرغبة في الدنيا ونيل شهواتها، والتنعم بها، والغفلة عن الدار الآخرة والعمل لها، وليس المراد مطلق السمن؛ فإنه لا يخلو منه زمان، ولا عيب فيه. وفي حديث أنس: " لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم "3. سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زال الشر يزيد في الأمة حتى كثرت البدع، وفشا الشرك، وعمرت المساجد على القبور، وشيدت عليها القباب، وعبدت من دون الله، وعادت الجاهلية الأولى، بل صار =(9/87)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : المناقب (3650) , ومسلم : فضائل الصحابة (2535) , والترمذي : الفتن (2221 ,2222) , والنسائي : الأيمان والنذور (3809) , وأبو داود : السنة (4657) , وأحمد (4/427 ,4/436).
2 مسلم : الإيمان (82) , والترمذي : الإيمان (2620) , وأبو داود : السنة (4678) , وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (1078) , وأحمد (3/370 ,3/389) , والدارمي : الصلاة (1233).
3 الترمذي : الإيمان (2621) , والنسائي : الصلاة (463) , وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (1079) , وأحمد (5/346 ,5/355).(9/88)
ص -381- ... وفيه عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم (1)، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته "1(2). قال إبراهيم: ((كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار))(3).
....................................................................
= كثير ممن ينتسب إلى العلم يدعون إلى البدع والشرك، ويبدع من ينكر ذلك ويكفر، ولكن لا تزال بحمد الله طائفة على الحق منصورة، تقوم بها الحجة على خلقه إلى قيام الساعة.
(1) صرح في هذا الحديث أن خير القرون ثلاثة من غير شك.
(2) فيه الإشارة إلى التسارع في الشهادة واليمين، لضعف الإيمان، والرغبة في الدنيا، وكثرة المعاصي والذنوب، فيخف أمر اليمين والشهادة عنده تحملا وأداء، لقلة خوفه من الله، وعدم مبالاته بذلك، وهذا من أعلام النبوة فإنه قد وجد ذلك.
(3) إبراهيم هو النخعي، ولعل مراده أصحاب عبد الله بن مسعود، كما هي عادته في النقل عنهم، وهكذا حال السلف الصالح، محافظة منهم على الدين الذي أكرمهم الله به، فلا يتركون شيئا مما يكره إلا أنكروه، وفيه تمرين الصغار على طاعة ربهم، ونهيهم عما يضرهم، وفعلهم ذلك إنما هو لئلا يعتادوا إلزام أنفسهم بالعهود وهي الأيمان، لما يلزم الحالف من الوفاء، وربما أثم وكذا الشهادة، فإنه إذا اعتادها حال صغره سهلت عليه، فربما أداه ذلك إلى التساهل حال كبره، فإن من شب على شيء شاب عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : المناقب (3651) , ومسلم : فضائل الصحابة (2533) , والترمذي : المناقب (3859) , وابن ماجه : الأحكام (2362) , وأحمد (1/378 ,1/417 ,1/434 ,1/438 ,1/442 ,4/267 ,4/276 ,4/277).(9/89)
ص -382- ... باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه (1)
وقول الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} 1 الآية (3).
عن بريدة رضي الله عنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية (4)
....................................................................
(1) أي من الدليل على وجوب حفظها والوفاء بها، والمراد التي تدخل في العهود، وأن عدم الوفاء عدم تعظيم له، فهو قدح في التوحيد.
(2) أمر تعالى بالوفاء بالعهود والمواثيق،. والمحافظة على الأيمان، ومراد المصنف - رحمه الله - ما يجري بين الناس من الذمة أنه يجب الوفاء بذلك، وهو فرد من أفراد معنى الآية، فإنها دالة على وجوب الوفاء بذلك.
(3) هذه الأيمان المراد بها الداخلة في العهود والمواثيق، لا الأيمان الواردة على حث أو منع. قال مجاهد: يعني الحلف، أي حلف الجاهلية. وروى أحمد عن جبير بن مطعم مرفوعا: " لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة "2 أي أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، فإن بالتمسك بالإسلام حماية وكفاية عما كانوا فيه. وقوله {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} 3 تهديد ووعيد.
(4) أي جعل شخصا أميرا على جيش أي جنود، أو سرية وهي القطعة من الجيش تخرج منه وتغير وترجع إليه، والغزاة أو الخيل من المائة إلى الأربعمائة =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية : 91.
2 مسلم : فضائل الصحابة (2530) , وأبو داود : الفرائض (2925) , وأحمد (4/83).
3 سورة النحل آية : 91.(9/90)
ص -383- ... أوصاه بتقوى الله تعالى ومن معه من المسلمين خيرا(1)، فقال: اغزوا بسم الله في سبيل الله(2)، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا (3)،
....................................................................
= ونحوها، فإن كثر فهو الجيش، سميت سرية لأنها تسري في الليل غالبا ويخفى ذهابها، وبريدة هو ابن حصيب الأسلمي تقدم، وهذا الحديث من رواية ابنه سليمان عنه.
(1) أي أوصاه في خاصته بتقوى الله، أي بالتحرز بطاعته من عقوبته، وهي كلمة جامعة يدخل فيها فعل جميع الطاعات، واجتناب المحرمات، وأوصاه أيضا بمن معه من المسلمين أن يفعل معهم خيرا من الرفق بهم، والإحسان إليهم، وخفض الجناح لهم، وترك التعاظم عليهم، وتعريفهم ما يحتاجون إليه في غزوهم، وما يحرم عليهم وما يكره.
(2) أي اشرعوا في فعل الغزو مستعينين بالله مخلصين له، فتكون الباء في "بسم الله" هنا للاستعانة بالله، والتوكل عليه. و "في سبيل الله" أي طاعته كما في الراوية الأخرى. وفي الحديث: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر، فهو في سبيل الله "1.
(3) هذا العموم شمل جميع أهل الكفر المحاربين وغيرهم، وقد خصص من له عهد، وكذا الرهبان والنسوان ومن لم يبلغ الحلم؛ لأنه لا يكون منهم قتال غالبا، فإن حصل منهم قتال أو تدبير قتلوا.
(4) كرر الأمر بالغزو اهتماما بأمره، ونهى عن الغلول، وهو الأخذ من الغنيمة من غير قسمة لها، وقد قال تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 2. وقال - عليه الصلاة والسلام -: " الغلول عار ونار يوم القيامة "3. ولا خلاف في تحريمه.(9/91)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : العلم (123) , ومسلم : الإمارة (1904) , والترمذي : فضائل الجهاد (1646) , والنسائي : الجهاد (3136) , وأبو داود : الجهاد (2517) , وابن ماجه : الجهاد (2783) , وأحمد (4/392 ,4/397 ,4/401 ,4/405 ,4/417).
2 سورة آل عمران آية : 161.
3 مالك : الجهاد (994).(9/92)
ص -384- ... ولا تغدروا، ولا تمثلوا(1)، ولا تقتلوا وليدا(2)، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال - أو خصال -(3): فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم(4)، ثم ادعهم إلى الإسلام(5)،
....................................................................
(1) تغدروا بكسر الدال أي لا تنقضوا العهد، والتمثيل التشويه بالقتيل، كجدع أنفه وأذنه ونحو ذلك من العبث به.
(2) الوليد المولود والصبي والعبد، وكذا النساء والرهبان، لأنهم لا يقاتلون، فإن قاتلوا قتلوا كما تقدم.
(3) شك من الراوي ووزنهما ومعناهما واحد، ويفسر أحدهما بالآخر.
(4) أية منصوب بأجابوا، أي فإلى أيتهن أجابوك فاقبل منهم، كما تقول: جئتك إلى كذا وفي كذا، فيعدى إلى الثاني بحرف الجر.
(5) كذا وقعت الرواية في جميع نسخ صحيح مسلم بزيادة: "ثم"، وذكر غير واحد أن الصواب إسقاطها كما في سنن أبي داود، وكتاب الأموال لأبي عبيد وغيرهما؛ لأن ذلك هو تفسير الثلاث الخصال لا غيرها، والابتداء بثم يوهم ابتداء بغير الثلاث الخصال المذكورة في الحديث. وقال المازري: دخلت لاستفتاح الكلام، وفيه دلالة لما ذهب إليه مالك من الجمع بين الأحاديث في الدعوة، فإنه قال: لا يقاتل الكفار قبل أن يدعوا، ولا تلتمس غرتهم إلا أن يكونوا قد بلغتهم الدعوة، فيجوز أن تؤخذ غرتهم، وصححه الشارح وغيره؛ لأن فائدة الدعوة أن يعرف العدو أن المسلمين لا يقاتلون للدنيا، ولا للعصبية، وإنما يقاتلون للدين، فإذا علموا بذلك أمكن أن يكون سببا إلى انقيادهم إلى الإسلام، بخلاف ما إذا جهلوا مقصود المسلمين، فقد يظنون أنهم إنما يقاتلون للملك أو الدنيا، فيزيدون عتوا وعنادا وبغضا.(9/93)
ص -385- ... فإن أجابوك فاقبل منهم (1)، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين (2)، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك (3) فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين (4)، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم المسلمين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء (5)
....................................................................
(1) أي فاقبل منهم الإسلام وكف عنهم القتال.
(2) يعني إلى المدينة إذ ذاك، وكان في أول الأمر وجوب الهجرة إليها على كل من دخل في الإسلام. وفيه دليل على وجوب الهجرة على كل من أسلم، وهو في بلد الشرك إلى بلد الإسلام إذا استطاع، وتجب أو تستحب إذا ظهرت المعاصي كما نص عليه أهل العلم.
(3) أي أخبرهم أنهم إن تحولوا من دار الشرك إلى دار الإسلام وهي إذ ذاك المدينة.
(4) أي لهم ما لهم من الفيء والغنيمة ونحو ذلك، وعليهم ما عليهم من الجهاد وغيره.
(5) أي فإن امتنعوا بعد أن أسلموا من الهجرة من البداوة وغيرها، إلى دار المسلمين، ولم يجاهدوا فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين الساكنين في البادية من غير هجرة ولا غزو، فتجري عليهم أحكام الإسلام ولا يعطون من الخمس ولا من الفيء شيئا، وإنما لهم أن الصدقة المأخوذة من أغنيائهم فترد على فقرائهم، وبه أخذ الشافعي أن الصدقات للمساكين ونحوهم ممن لا حق لهم في الفيء، والفيء للأجناد. وَسَوَّى مالك وأبو حنيفة بين المالين، وجوزا صرف كل منهما إلى النوعين.(9/94)
ص -386- ... إلا أن يجاهدوا مع المسلمين (1)، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية (2)، فإن هم أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم (3)، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم (4)، وإذا حاصرت أهل حصن (5)
....................................................................
(1) أي فيكون لهم ما للمجاهدين المهاجرين وغيرهم من الخمس والفيء ونحو ذلك.
(2) وهي المال الذي يعقد للكتابي عليه الذمة، فعلة من الجزاء، كأنها جزت عن قتله، وفيه حجة لمالك والأوزاعي وغيرهما في أخذها من كل كافر عربيا كان أو غيره، كتابيا كان أو غيره، واختاره الشيخ وغيره، ورجحه ابن القيم وغيره؛ لهذا الخبر وغيره، تؤخذ على الرجال الأحرار البالغين دون غيرهم، ممن كان تحت قهر المسلمين، لا ممن نأى بداره، ويجب تحويلهم إلى بلاد المسلمين أو حربهم.
(3) أي: فإن أجابوك إلى الجزية فاقبلها منهم، وكف عن قتالهم.
(4) أي فإن أبوا عن الإسلام وعن الجزية فاستعن بالله وحده، فهو الذي بيده النصر والتأييد، وقاتلهم كما قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} 1 وقال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 2 الآية.
(5) الحصن كل مكان محمي محرز، لا يوصل إلى جوفه، أو لا يقدر عليه لارتفاعه، وحاصرت أهله ضيقت عليهم، وأحطت بهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية : 29.
2 سورة التوبة آية : 5.(9/95)
ص -387- ... فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم أن تخفروا ذممكم، وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه(1)، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا " رواه مسلم (2) .
....................................................................
(1) الذمة هنا العهد، وتخفر بضم التاء تنقض، يقال: أخفرت الرجل نقضت عهده، وخفرته بعد أن أمنته وحميته وأجرته، والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم خاف من نقض من لم يعرف حق الوفاء بالعهد، كبعض الأعراب وسواد الجيش، فكأنه يقول: إن وقع نقض من متعد معتد، كان نقض عهد الخلق أهون من نقض عهد الله وعهد نبيه، ولعل ذلك للتنزيه.
(2) وهذا أيضا - والله أعلم - للتنزيه والاحتياط، وفيه أن المصيب في مسائل الاجتهاد واحد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نص على أن الله حكم حكما معينا، فمن وافقه فهو المصيب، ومن لم يوافقه فهو المخطئ.(9/96)
ص -388- ... باب ما جاء في الإقسام على الله (1)
عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان(2). فقال الله عز وجل من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان (3)، إني قد غفرت له وأحبطت عملك"1. رواه مسلم (4).
....................................................................
(1) أي ذكر ما جاء من الأدلة الدالة على تحريم الحلف على الله، إذا كان على جهة الحجر على الله، والقطع بحصول المقسم على حصوله، وهو التألي، فأما إن كان على جهة حسن الظن بالله فقد قال صلى الله عليه وسلم : " إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره "2 .
(2) هذا ظاهر في قطعه بأن الله لا يغفر لذلك الرجل، فكأنه حكم على الله وحجر عليه، لما اعتقد له عنده من الكرامة والحظ والمكانة، وهذا لجهله بإلهية الحق وربوبيته سبحانه وتعالى.
(3) التألي من الألية بتشديد الياء اليمين، يقال: آلى يؤلي إيلاء، وتألى يتألى بالياء، والاسم الألية، استفهام إنكار، وفيه تحريم الإدلال على الله، ووجوب التأدب مع الله في الأقوال والأحوال، وأن حق العبد أن يعامل نفسه بأحكام العبودية، ويعامل ربه بما يجب له من أحكام الإلهية والربوبية.
(4) فعومل هذا بنقيض قصده، وغفر لذلك بسببه. قال المصنف: ((وفيه أن الرجل قد يغفر له بسبب هو من أكره الأمور إليه، وكون الجنة أقرب إلى أحدنا من شراك نعله، والنار مثل ذلك)).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : البر والصلة والآداب (2621).
2 البخاري : الصلح (2703) , والنسائي : القسامة (4755 ,4756 ,4757) , وأبو داود : الديات (4595) , وابن ماجه : الديات (2649) , وأحمد (3/128 ,3/167 ,3/284).(9/97)
ص -389- ... وفي حديث أبي هريرة أن القائل رجل عابد(1). قال أبو هريرة: ((تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته)) (2).
....................................................................
(1) يشير إلى ما رواه أبو داود وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه " كان رجلان في بني إسرائيل متآخيين، فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهد في العبادة، فكان المجتهد لا يزال يرى الآخر على الذنب، فيقول: أقصر، فوجده يوما على ذنب، فقال: له أقصر. فقال خلني وربي،أبعثت علي رقيبا؟ فقال: والله لا يغفر الله لك،ولا يدخلك الجنة. فقبضت أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالما، أو كنت على ما في يدي قادرا؟ فقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار "1 .
(2) صح من حديث من أبي هريرة رواه البغوي وغيره عن عكرمة، قال: دخلت مسجد المدينة، فناداني شيخ قال: يا يماني تعال. وما أعرفه، قال: لا تقولن لرجل: والله لا يغفر الله لك أبدا، ولا يدخلك الجنة، قلت: ومن أنت يرحمك الله؟ قال: أبو هريرة.
فقلت: إن هذه كلمة يقولها أحدنا لبعض أهله إذا غضب، أو لزوجته، أو لخادمه، فقال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابين، أحدهما مجتهد في العبادة، والآخر كأنه يقول مذنب، فجعل يقول أقصر عما أنت فيه، قال: فيقول: خلني وربي، أبعثت علي رقيبا؟ قال: فوالله لا يغفر الله لك، ولا يدخلك الجنة أبدا، قال: فبعث الله إليهما ملكا فقبض أرواحهما، فاجتمعا عنده، فقال للمذنب: ادخل الجنة برحمتي. وقال للآخر: أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي؟ قال: لا يا رب قال: اذهبوا به إلى النار ". قال أبو هريرة: ((والذي نفسي بيده تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته)). "أوبقت" يعني أهلكت،وفي هذه الأحاديث بيان خطر اللسان، وذلك يفيد التحرز من الكلام،وفي حديث معاذ قلت: " يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به(9/98)
؟ قال " ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم، أو قال: على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟"2. رواه الترمذي وغيره وصححه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : الأدب (4901) , وأحمد (2/323 ,2/362).
2 الترمذي : الإيمان (2616) , وابن ماجه : الفتن (3973) , وأحمد (5/231 ,5/237).(9/99)
ص -390- ... باب لا يشفع بالله على خلقه (1)
عن جبير بن مطعم رضي الله عنه (2) قال: " جاء أعرابي إلى سول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله نهكت الأنفس (3) وجاع العيال، وهلكت الأموال (4) فاستسق لنا ربك (5)، فإنا نستشفع بالله عليك، وبك على الله (6).
....................................................................
(1) أي أن ذلك حرام، وهضم للربوبية، وقدح في توحيد العبد، فالله سبحانه هو الكبير المتعال، والاستشفاع طلب الشفاعة، وهي لا تطلب إلا من العلي الأعلى جل وعلا، فلا يجوز للعبد أن يطلب من الله الشفاعة إلى أحد من خلقه.
(2) هو ابن عدي بن نوفل بن عبد مناف القرشي، كان من أكابر قريش، أسلم قبل الفتح ومات سنة 57 هـ.
(3) نهكت بضم النون أي جهدت، كما في بعض الألفاظ: وضعفت وقلت وضنت ودنفت ألفاظ مترادفة، نهكا فهي منهوكة.
(4) ولفظه: جهدت الأنفس، وضاع العيال، ونهكت الأموال، وهلكت الأنعام.
(5) أي اسأله أن يسقينا.
(6) الاستشفاع بالرسول صلى الله عليه وسلم في حياته إنما المراد به استجلاب دعائه، ولذلك لم ينكره عليه، فإن دعاءه مستجاب، وكذا كل حي صالح يرجى =(9/100)
ص -391- ... فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "سبحان الله سبحان الله"(1). فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه(2)، ثم قال: "ويحك أتدري ما الله(3)؟ إن شأن الله أعظم من ذلك(4)؛ إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه " (5).
....................................................................
= أن يستجاب له، لا بأس أن يطلب منه أن يدعو للسائل، وقد " قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: " لا تنسنا من صالح دعائك "1. وأما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فلا يجوز طلب ذلك منه صلى الله عليه وسلم لاستحالة ذلك منه.
(1) لفظه فقال: "ويحك أتدري ما تقول" وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أي سبح الله كثيرا وعظمه،لأن هذا القول لا يليق بالخالق سبحانه وبحمده، وهكذا كان يسبح إذا استعظم أمرا أو يكبر أو يهلل.
(2) أي عرف الغضب في وجوه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع من الأعرابي هضمه لجناب الربوبية.
(3) ويح كلمة تقال للزجر أو للرحمة، واستعملتها العرب بمعنى التعجب والتوجع، لا تريد بها إيقاع الهلكة، وفيه إشارة إلى قلة علمه بعظمة الله وجلاله.
(4) أي من أن يستشفع به إلى أحد من خلقه، قال الشافعي: إنما يشفع عند من هو أعلى منه، فهذا من أعظم النقص برب العالمين، فلذلك استعظمه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
(5) ولفظه: "ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك" فهو رب كل شيء ومليكه، والخير كله بيده، لا مانع لما أعطى، ولامعطي =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : الدعوات (3562) , وأبو داود : الصلاة (1498) , وابن ماجه : المناسك (2894) , وأحمد (1/29).(9/101)
ص -392- ... وذكر الحديث رواه أبو داود (1).
....................................................................
= لما منع، ولا راد لما قضى. {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} 1 : {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2. وما في أيديهم ملكه يتصرف فيه كيف يشاء، وهو الذي يشفع الشافع إليه، وقد أخرج أبو الشيخ عن أبي وجرة، قال: لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، أتاه وفد من بني فزارة، فقالوا: يا رسول الله ادع ربك أن يغيثنا، واشفع لنا إلى ربك، ويشفع ربك إليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ها أنا أشفع إلى ربي، فمن الذي يشفع ربنا إليه؟ لا إله إلا الله العظيم، وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فهي تئط من عظمته، كما يئط الرحل الجديد " .
(1) قال الذهبي: بإسناد حسن. ولفظه: "ويحك أتدري ما الله؟ إن عرشه على سماواته لهكذا"، وقال بأصبعه "مثل القبة، وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب"، قال ابن يسار في حديثه "إن الله فوق عرشه، وعرشه فوق سماواته". وفيه إثبات علو الله على خلقه، وأن عرشه فوق سماواته كالقبة، وتفسير سماواته بالعلو كما فسره الصحابة وغيرهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة فاطر آية : 44.
2 سورة يس آية : 82.(9/102)
ص -393- ... باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد وسده طرق الشرك (1)
عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه (2) قال: " انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (3)
....................................................................
(1) حماية الشيء صونه عما يتطرق إليه من مكروه وأذى، والمصطفى من الصفوة، فهو صفوة الخليقة وأشرفها على الإطلاق، وحمايته حمى التوحيد صونه عما يشوبه من الأقوال والأعمال التي يضمحل معها التوحيد أو ينقص، وقد اشتمل هذا الكتاب مع اختصاره على ذلك أو أكثره، وعلى النهي عما ينافي التوحيد أو يضعفه، يعرف ذلك من تدبره.
(2) بكسر الشين وتشديد الخاء، هو ابن عوف بن كعب بن وقدان الحريشي ثم العامري، والد مطرف الفقيه، أسلم يوم الفتح، وله صحبة ورواية.
(3) أي عامر بن صعصعة من عدنان، وعامر بطون كثيرة، كانوا بعالية نجد، وكان في الوفد عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب، وأربد بن قيس بن جزء، وجبار بن سلمى، رؤساء القوم، وكان عامر يريد الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم أو يشركه في الأمر، أو يكون له من بعده، وواعد أربد على ذلك فعصمه الله منهم، وهلكا ببعض الطريق، أربد بصاعقة، وعامر بطاعون في عنقه، وقيل قرحة، ومات في بيت سلولية.(9/103)
ص -394- ... فقلنا: أنت سيدنا. فقال: السيد الله تبارك وتعالى (1). فقلنا: وأفضلنا فضلا، وأعظمنا طولا(2). فقال: قولوا بقولكم (3) أو بعض قولكم (4)، ولا يستجرينكم الشيطان "1 رواه أبو داود بسند جيد (5) .
....................................................................
(1) يريد - عليه الصلاة والسلام - أن السؤدد حقيقة لله عز وجل وأن الخلق كلهم عبيد له، والسيد إذا أطلق عليه تعالى فهو بمعنى المالك والمولى والرب. قال ابن عباس: {اللَّهُ الصَّمَدُ} 2 أي السيد الذي كل في جميع أنواع السؤدد). وقوله: " وقوموا إلى سيدكم "3 لعله لم تواجه به سعدا، وكذا قوله: " أنا سيد ولد آدم "4 إظهارا للشجاعة، فيكون فيه تفصيل، أو يدلان على الجواز، وحديثا الباب ونحوهما يدلان على الأدب مع الله عز وجل.
(2) الفضل الخير، خلاف النقيصة، وفضل فلان على غيره إذا غلبه بالفضل، وطال يطول طولا من باب قال، إذا فضل، والطول الفضل والعطاء والقدرة والغنى.
(3) أرشدهم إلى الأدب في ذلك فأمرهم أن يقولوا بقولهم من قبل هذه المقالة، ولا يتكلفوا الألفاظ التي ربما أدت إلى الغلو، أو ما لا يحسن، وأمرهم أن يدعوه بمحمد رسول الله، كما سماه الله عز وجل.
(4) فيه حذف، أي: أودعوا بعض قولكم واتركوه، يريد بذلك الاقتصار في المقال، وذلك أنهم كانوا مدحوه فكره لهم المبالغة ونهاهم عنه.
(5) يستجرين بفتح المثناة التحتية، وسكون السين، وفتح المثناة الفوقية، وسكون الجيم، وكسر الراء، أي لا يتخذنكم جريا، ويقال: الوكيل. وفي النهاية: فيتخذكم جريا، أي رسولا وكيلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : الأدب (4806) , وأحمد (4/25).
2 سورة الإخلاص آية : 2.
3 البخاري : الجهاد والسير (3043) , ومسلم : الجهاد والسير (1768) , وأبو داود : الأدب (5215) , وأحمد (3/22 ,3/71).
4 مسلم : الفضائل (2278) , وأحمد (2/540).(9/104)
ص -395- ... وعن أنس رضي الله عنه " أن ناسا قالوا: يا رسول الله يا خيرنا، وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا (1) فقال: يا أيها الناس قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان (2)، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل "1. رواه النسائي بسند جيد(3) .
....................................................................
(1) الخير ضد الشر، واسم تفضيل، والخيرة من القوم الأفضل، وهو صلى الله عليه وسلم خيار من خيار.
(2) أي يستهيمنكم، أو يذهب بعقولكم، أو يزين لكم هواكم، كره ذلك لهم لئلا يكون وسيلة إلى الغلو فيه والإطراء، وتقدم قوله: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله "2. ونهى عن المدح وشدد القول فيه، وقال: " ويحك قطعت عنق صاحبك "3. وقال: " إذا لقيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب "4. فمواجهة الممدوح بمدحه ولو بما فيه من عمل الشيطان، لما قد تفضي محبة المدح إليه من تعاظم الممدوح في نفسه، وذلك ينافي كمال التوحيد، ويوقع في أمر عظيم ينافي العبودية الخاصة، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما أكمل الله له مقام العبودية، صار يكره أن يمدح صيانة لهذا المقام، وإرشادا للأمة إلى ترك ذلك نصحا لهم، وحماية لمقام التوحيد عن أن يدخله ما يفسده أو يضعفه من الشرك ووسائله.
(3) أرشدهم أن يصفوه بصفتين هما أعلى مراتب العبد، وقد وصفه الله بهما في مواضع من كتابه، وهما قوله: عبد الله ورسوله، ولم يحب أن يرفعوه فوق ما أنزله الله عز وجل من المنزلة التي رضيها له، ومع هذا التواضع أجمع أهل العلم على أنه أشرف الخلق، وأفضلهم على الإطلاق.(9/105)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (3/249).
2 البخاري : أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/23 ,1/24 ,1/47).
3 البخاري : الشهادات (2662) والأدب (6061 ,6162) , ومسلم : الزهد والرقائق (3000) , وأبو داود : الأدب (4805) , وابن ماجه : الأدب (3744) , وأحمد (5/41 ,5/45 ,5/47).
4 مسلم : الزهد والرقائق (3002) , والترمذي : الزهد (2393) , وأبو داود : الأدب (4804) , وابن ماجه : الأدب (3742) , وأحمد (6/5).(9/106)
ص -396- ... باب قول الله تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1 (2).
....................................................................
(1) أي ما فيها من ذكر عظمة الله، وعلوه على خلقه، وما في معناها من الأحاديث والآثار، قال أهل التفسير: يقول تعالى: ما عظم المشركون الله حق عظمته إذ عبدوا معه غيره، وكفروا نعمه، وكذا قال السدي: ما عظموه حق عظمته. وقال محمد بن كعب: لو قدروا الله حق قدره ما كذبوه. وقال ابن عباس: هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم، فمن آمن أن الله على كل شيء قدير فقد قدر الله حق قدره، ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حق قدره.
(2) وقال تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} 2 كطي الكتاب على ما فيه من المكتوب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيمينه "3 الحديث. وقد ذكره المصنف. وعن أبي هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ "4 متفق عليه. واللفظ لأحمد. وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية يوما على المنبر، ويقول هكذا بيده يحركها، يقبل بها ويدبر "يمجد الرب نفسه: أنا الجبار أنا المتكبر، أنا العزيز الحكيم". فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، حتى قلنا: ليخرن به. وقال - عليه الصلاة والسلام -: " تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة، =(9/107)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية : 67.
2 سورة الأنبياء آية : 104.
3 البخاري : التوحيد (7413) , ومسلم : صفة القيامة والجنة والنار (2788) , وأبو داود : السنة (4732) , وابن ماجه : المقدمة (198).
4 البخاري : الرقاق (6519) , ومسلم : صفة القيامة والجنة والنار (2787) , وابن ماجه : المقدمة (192) , وأحمد (2/374) , والدارمي : الرقاق (2799).(9/108)
ص -397- ... عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السماوات السبع على إصبع (1)، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى (2) على إصبع،
....................................................................
= يتكفؤها الجبار بيده، كما يتكفأ أحدكم خبزته "1. وقد جاءت أحاديث كثيرة متعلقة بمعنى هذه الآية، ومذهب السلف فيها وفي أمثالها إمرارها كما جاءت، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وأن لها معان حقيقة، أثبتوها وفسروها بما يوافق دلالتها، وكانوا إذا سئلوا عن شيء من ذلك لم ينفوا معناه، بل يثبتونه، وإنما ينفون الكيفية، كما قال مالك وغيره: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، وتبعهم السلف على ذلك.
(1) الإصبع واحد الأصابع، يذكر ويؤنث، وفيه خمس لغات، وقيل عشر، فتح الهمزة وضمها وكسرها مع الحركات الثلاث في الباء، والعاشرة أصبوع، وأفصحهن، كسر الهمزة وفتح الباء. والحبر: بفتح الحاء وكسرها واحد أحبار اليهود، قيل: الكسر أفصح. وهو العالم بتحبير الكلام وتحسينه، سمي حبرا لما يبقى من أثر علومه في قلوب الناس، وآثار أفعاله الحسنة المقتدى بها. وقال أبو عبيد: يرويه المحدثون كلهم بالفتح، أي يجد الحبر ذلك الوصف في كتبهم. قال المصنف: وفيه أن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه صلى الله عليه وسلم لم ينكروها ولم يتأولوها. وفيه إثبات الأصابع للرحمن جل وعلا، على ما يليق بجلاله وعظمته، وفي الحديث: "القلب بين إصبعين من أصابع الرحمن"2
(2) الثرى التراب الندي، ولعل المراد هنا الأرض، والشجر ما له ساق صلب كالنخل وغيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الرقاق (6520) , ومسلم : صفة القيامة والجنة والنار (2792).
2 مسلم : القدر (2654) , وأحمد (2/168 ,2/173).(9/109)
ص -398- ... وسائر الخلق على إصبع (1)، فيقول: أنا الملك. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، تصديقا لقول الحبر، ثم قرأ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (2) " الآية 1.
وفي رواية لمسلم: " والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزهن، فيقول: أنا الملك أنا الله (3) "2.
وفي رواية للبخاري: " يجعل السماوات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع "3 أخرجاه (4).
....................................................................
(1) أي وباقي المخلوقات على إصبع، وسائر الشيء باقيه باتفاق أهل اللغة.
(2) أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من طرق، وفي رواية: " جاء رجل من أهل الكتاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا القاسم أبلغك أن الله يحمل الخلائق على إصبع، والسماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع ؟ فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه "4. قال: وأنزل الله:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} 5 الآية. والنواجذ جمع ناجذ، قيل: إنها أقصى الأضراس، وهي أربعة تنبت بعد البلوغ، أي استغرق في الضحك وبالغ فيه حتى بدت، والمراد المبالغة في الضحك، من غير أن يراد ظهور نواجذه، أو هي الأسنان بين الضرس والناب كما في المصباح، أو الضواحك، وقال ثعلب: المراد الأنياب، وهي التي تبدو عند الضحك.
(3) سبحانه وتعالى، فهو مالك الملك، ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين، وهززت الشيء من باب قتل، حركته فاهتز.
(4) هكذا في مسلم، قال الحميدي: وهي أتم. ورواية البخاري: إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين، وتكون السماء بيمينه. وقال ابن عباس - رضي الله =(9/110)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : تفسير القرآن (4811) , ومسلم : صفة القيامة والجنة والنار (2786) , والترمذي : تفسير القرآن (3238) , وأحمد (1/378 ,1/429 ,1/457).
2 البخاري : تفسير القرآن (4811) والتوحيد (7414 ,7415 ,7451 ,7513) , ومسلم : صفة القيامة والجنة والنار (2786) , والترمذي : تفسير القرآن (3238) , وأحمد (1/378 ,1/429 ,1/457).
3 البخاري : تفسير القرآن (4811) والتوحيد (7414 ,7415 ,7451 ,7513) , ومسلم : صفة القيامة والجنة والنار (2786) , والترمذي : تفسير القرآن (3238) , وأحمد (1/378 ,1/429 ,1/457).
4 البخاري : تفسير القرآن (4811) , ومسلم : صفة القيامة والجنة والنار (2786) , والترمذي : تفسير القرآن (3238) , وأحمد (1/378 ,1/429 ,1/457).
5 سورة الأنعام آية : 91.(9/111)
ص -399- ... ولمسلم عن ابن عمر مرفوعا: " يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون، أين المتكبرون ؟ ثم يطوي الأرضين السبع، ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون أين المتكبرون ؟ "1. وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: " ما السماوات السبع، والأرضون السبع، في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم " (1). وقال ابن جرير: حدثني يونس (2)
....................................................................
= عنهما -: يطوي الله السماوات السبع بما فيها من الخليقة، والأرضين السبع بما فيها من الخليقة، يطوي ذلك كله بيمينه، يكون ذلك في يده بمنزلة الخردلة، حبة صغيرة جدا. وهذه الأحاديث وما في معناها تدل على عظمة الله، وعظيم قدرته، وعظيم سلطانه، وقد تعرف إلى عباده بصفات كماله، وعجائب مخلوقاته، وكلها تدل على جلاله وعظمته، وأنه هو المعبود وحده، لا شريك له في ربوبيته، ولا في إلهيته، وتدل على إثبات صفاته، كما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بجلاله وعظمته. وفيها وفي غيرها إثبات اليمين والشمال، وقال - عليه الصلاة والسلام -: " وكلتا يدي ربي يمين مباركة "2 .
(1) رواه معاذ بن هشام الدستوائي، حدثنا أبي عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس، ولفظه: "في يد الله". قال الشارح: وهذا الإسناد صحيح، وتقدم نحوه. وفيه إثبات الكف للرحمن،وعظمته وصغر السماوات والأرض وما فيهما بالنسبة إلى عظمة الله غاية الصغر، مع ما ترى من كبرهما وسعتهما.
(2) هو ابن عبد الأعلى أبو موسى الصدفي الثقة، روى عن ابن عيينة وابن وهب وغيرهما، وعنه ابن خزيمة وخلق، مات سنة 264 هـ، وله 92 سنة .(9/112)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : التوحيد (7413) , ومسلم : صفة القيامة والجنة والنار (2788) , وابن ماجه : المقدمة (198) والزهد (4275) , وأحمد (2/87).
2 الترمذي : تفسير القرآن (3368).(9/113)
ص -400- ... أنبأنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: حدثني أبي (1) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس (2) ". قال: وقال أبو ذر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد، ألقيت بين فلاة من الأرض (3) ".
....................................................................
(1) هو زيد بن أسلم العدوي، مولى عمر، أبو عبد الله، أو أبو سالم المدني، عالم ثقة مات سنة 136 هـ، وابنه عبد الرحمن يضعف، روى عن أبيه، وابن المنكدر وغيرهما، وعنه ابن وهب وعكرمة ومسروق وغيرهم، مات سنة 182 هـ، ورواه أيضا بهذا الطريق واللفظ: أصبغ بن الفرج وهو مرسل.
(2) بضم التاء القاع المستدير المتسع الأطلس، كما قيل:
وواجهت ترسا من متون صحاري ...
ويقال: الترس صفحة فولاذ تحمل لاتقاء السيف، والمراد الأول، وفيه صغر السماوات بالنسبة إلى الكرسي. وقال السدي: الكرسي تحت العرش، والسماوات والأرض في جوف الكرسي. قال ابن عباس: الكرسي موضع القدمين.
(3) الفلاة الصحراء الواسعة، أو المفازة لا ماء فيها، أو القفر. وأبو ذر هو الغفاري الصحابي المشهور، واسمه جندب بن جنادة بن سكن بن قيس بن بياض الغفاري، من السابقين إلى الإسلام، ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة منه، توفي بالربذة سنة 31 هـ. وصنيع المصنف - رحمه الله - يوهم أن ذلك عطف على قول زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس كذلك، فإن حديث أبي ذر رواه يحيى بن سعيد العبشمي، حدثنا ابن جريج عن عطاء عن =(9/114)
ص -401- ... وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم " (1).
....................................................................
= عبد الله بن عمير، عن أبي ذر: " أي آية أعظم ؟ قال: "آية الكرسي، ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة "، قال النووي: يحيى الأموي صدوق، ولعله - رحمه الله - أراد عطفه على ابن جرير، فقد رواه هو وأبو الشيخ والبيهقي وابن مردويه، عن أبي ذر، أنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكرسي فقال: " يا أبا ذر ما السماوات السبع، والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة ". وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد، وأبو الشيخ والبيهقي عن مجاهد قال: " ما السماوات والأرض في الكرسي إلا كحلقة بأرض فلاة، وما موضع كرسيه من العرش، إلا مثل حلقة في أرض فلاة "، أي وسط فلاة، بل عد بعض أهل العلم أن السماوات السبع والأرضين السبع، وما فيهما وما بينهما بالنسبة إلى العرش، كحلقة في فلاة من الأرض، من المتواتر، وفيه دلالة على عظم العرش بالنسبة إلى الكرسي، وتقدم أنه فوق السماوات كالقبة. قال شيخ الإسلام: العرش مقبب، ولم يثبت أنه مستدير مطلقا، بل ثبت أنه فوق الأفلاك، وأن له قوائم، فيجب أن يعلم أن العالم العلوي والسفلي بالنسبة إلى الخالق جل وعلا في غاية الصغر.
(1) فهو سبحانه فوق جميع المخلوقات، مستو على عرشه بائن من خلقه، فله العلو الكامل من جميع الوجوه، علو القدر، وعلو القهر، وعلو الذات. =(9/115)
ص -402- ... أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله (1).
....................................................................
= قال شيخ الإسلام: ((وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره، وسنة نبيه، وكلام الصحابة والتابعين، وكلام سائر الأمة، مملوء بما هو إما نص أو ظاهر أن الله فوق كل شيء، وأنه فوق العرش، فوق السماوات، مستو على عرشه)). وقال أبو عمرو الطلمنكي في كتاب الأصول: أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله استوى على عرشه بذاته. وقال فيه أيضا: أجمع أهل السنة على أن الله استوى على عرشه على الحقيقة لا على المجاز. ثم قال: أجمع المسلمون أن معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} 1. ونحو ذلك من القرآن أن ذلك علمه، وأن الله فوق السماوات بذاته، مستو على عرشه كيف شاء، وهذا كثير في كلام الصحابة والتابعين، والأئمة المهتدين، أثبتوا ما أثبته الله في كتابه، على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بجلال الله وعظمته، ونفوا عنه مشابهة المخلوقين، ولم يمثلوا ولم يكيفوا، وبدعوا وضللوا من خالفه من الجهمية النفاة. وذكر ابن القيم مائة دليل من القرآن، وذكر أن عليه إجماع المرسلين، وليس في كتاب الله، ولا في سنة رسوله، ولا جاء عن أحد من السلف المقتدى بهم حرف واحد يخالفه.
(1) يعني ابن مسعود. وابن مهدي هو: عبد الرحمن بن مهدي بن حسان بن عبد الرحمن العنبري مولاهم، أبو سعيد البصري، ثقة حافظ، عارف بالرجال والحديث، قال ابن المديني: ما رأيت أعلم منه. روى عن جرير وعكرمة وخلق، وعنه ابن المبارك وابن وهب وخلق، مات سنة 198 هـ. وحماد هو: ابن سلمة بن دينار البصري أبو سلمة، مولى تميم ويقال قريش، ثقة عابد أثبت الناس في ثابت، روى عن ثابت وقتادة وخلق، وعنه ابن جريج والثوري وابن المبارك وخلائق، مات سنة 160 هـ. وعاصم هو: ابن بهدلة وهو ابن أبي النجود الأسدي مولاهم، الكوفي =(9/116)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحديد آية : 4.(9/117)
ص -403- ... ورواه بنحوه المسعودي، عن عاصم، عن أبي وائل (1)، قال: وله طرق.
وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ (2)، قلنا: الله ورسوله أعلم (3).
....................................................................
= أبو بكر المقرئ، صدوق روى عن زر وأبي وائل وأبي صالح وخلق، وعنه الأعمش والحمادان وجماعة، مات سنة 127 هـ، وزر بكسر الزاي وتشديد الراء بن حبيش ابن حباشة بن أوس بن بلال، الأسدي الكوفي، أبو مريم، ثقة جليل، أدرك الجاهلية، وروى عن عمر وعلي وغيرهما، وعنه إبراهيم النخعي وعاصم وخلق، مات سنة 83 هـ، وله 137 سنة.
(1) هو سعيد بن سلمة الأسدي الكوفي، أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يره، روى عن أبي بكر وغيره من الصحابة، أدرك سبعا من الجاهلية، ومات سنة 72 هـ. والمسعودي هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الكوفي، ثقة روى عن أبي إسحاق السبيعي، وعلقمة والقاسم وغيرهم، وعنه السفيانان وشعبة وعاصم وخلق، مات سنة 166 هـ.
(2) وأخرجه عبد الله بن أحمد في كتاب السنة، وابن المنذر، والطبراني، وأبو الشيخ، وأبو عمرو الطلمنكي، واللالكائي، وابن عبد البر، والبيهقي وغيرهم.
(3) أخرج السؤال بصيغة الإستفهام ليكون أبلغ في النفوس.
فيه حسن الأدب مع الله، وإسناد العلم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في حال حياته، وأما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فيقال: الله أعلم.(9/118)
ص -404- ... قال: بينهما مسيرة خمسمائة سنة، وبين كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة ، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة (1)، وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض (2)، والله فوق ذلك، لا يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم ". رواه أبو داود وغيره (4).
....................................................................
(1) الكثف السمك والغلظ، ضد اللطافة، ويدل على المسافة بينهما ظاهر قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} 1. وفيه عظم السماوات، وسعة ما بينهن، وكذا الأرض مثلهن .
(2) وتقدم في حديث ابن مسعود: "وبين الكرسي والماء خمسمائة عام". ولا منافاة بينهما؛ لأن الكرسي فوق السماوات، وهذا من أبهر آيات الله كما أن الأرض مغمورة بالبحر، واليابس منها نحو الربع، وهي محفوفة بعنصر الماء، كأنها عنبة طافية عليه، وهو فوقها ولا يطغى عليها، وإنما انحسر الماء عن بعض جوانبها، لما أراد الله من تكوين الحيوانات فيها، وعمرانها ببني آدم، الذي له الخلافة على سائرها، فكذا السماوات بينها وبين العرش بحر، سمكه طول ما بين السماء والأرض.
(3) هذا الحديث كأمثاله يدل على علو الله وعظمته، وعظم مخلوقاته، وفيه التصريح بأن الله فوق خلقه على عرشه، بائن من خلقه، كما جاء بذلك الكتاب والسنة، وله شواهد في الصحيحين وغيرهما، وأورده المصنف مختصرا، والذي في سنن أبي داود عن العباس بن عبد المطلب، قال: " كنت في البطحاء، في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرت بهم سحابة، فنظر إليها فقال: ما تسمون هذه ؟ قالوا: السحاب. قال: " والمزن " قالوا: والمزن قال: =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الطلاق آية : 12.(9/119)
ص -405- ... .............................................................................................
= "والعنان" قالوا: والعنان "1. قال أبو داود: ولم أتقن العنان جيدا.
قال: " هل تدرون ما بعد ما بين السماء والأرض ؟ قالوا: لا ندري. قال: إن بعد ما بينهما إما واحدة أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة، ثم السماء فوقها كذلك، حتى عد سبع سماوات، ثم فوق السابعة بحر بين أسفله وأعلاه كما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أو عال بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم على ظهورهم العرش، بين أسفله وأعلاه كما بين سماء إلى سماء، ثم الله فوق ذلك "2. أخرجه الترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن غريب. وقال الذهبي: رواه أبو داود بإسناد حسن، وروى أحمد والترمذي نحوه من حديث أبي هريرة، وفيه: " بعد ما بين سماء إلى سماء خمسمائة عام، وكذلك الأرضون ". ولفظ أحمد في الأرضين سبعمائة عام، حتى عد سبع أرضين، ولا منافاة بينها؛ لأن تقدير ذلك بخمسمائة عام هو بسير القافلة، ونيف وسبعين على سير البريد، وحكى شيخ الإسلام وغيره الإجماع على أنها مستديرة، والمراد كل واحدة فوق الأخرى محيطة بها، والتي تحتها في وسطها، حتى ينتهي الأمر إلى السفلى، وفي وسطها المركز، وقال: الأفلاك مستديرة بالكتاب والسنة والإجماع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : تفسير القرآن (3320) , وأبو داود : السنة (4723) , وابن ماجه : المقدمة (193).
2 الترمذي : تفسير القرآن (3320) , وأبو داود : السنة (4723) , وابن ماجه : المقدمة (193).(9/120)
ص -406- ... خاتمة
ابتدأ المصنف - رحمه الله - هذا المصنف القيم الذي لم يسبق إليه ببيان توحيد الإلهية؛ لأن أكثر الأمة ممن تأخر قد جهلوا هذا التوحيد، وأتوا بما ينافيه من الشرك والتنديد، فقرره كما ترى أحسن تقرير وأبينه، ثم ختم كتابه بتوحيد الأسماء والصفات؛ ليكون هذا الكتاب حاويا لأنواع التوحيد الثلاثة التي أشار إليها العلامة ابن القيم بقوله:
والعلم أقسام ثلاث ما لها ... من رابع والحق ذو تبيان
علم بأوصاف الإله وفعله ... وكذلك الأسماء للرحمن
والأمر والنهي الذي هو دينه ... وجزاؤه يوم المعاد الثاني
ولأن هذا العلم قد خاض فيه من ينتسب إليه ممن قد أخذ عن أهل الكلام وغيرهم، لظنهم أنهم على شيء، فقرروا مذهب الجهمية، وألحدوا في توحيد الأسماء والصفات، وخالفوا ما دلت عليه الآيات المحكمات، والنصوص الثابتة عن الثقات من غير التفات، فهدى الله هذا الإمام - قدس الله روحه - إلى معرفة التوحيد، فقرره ووضحه بالأدلة من الكتاب والسنة وكلام سلف الأمة، ولقد – والله - وضح التوحيد الذي أرسلت من أجله الرسل، وأنزلت الكتب، أحسن توضيح، وبينه أبين تبيين، وزيف الشرك، وحذر منه أبلغ تحذير، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء، ورفع درجته في المهديين، ونظمنا في سلكهم أجمعين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه والتابعين، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.(9/121)
القول المفيد
على
كتاب التوحيد
الجزء الأول
لفضيلة الشيخ
محمد بن صالح العثيمين
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين، وعليه نتوكل
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: كتاب التوحيد.
لم يذكر في النسخ التي بأيدينا خطبة للكتاب من المؤلف، فإما أن تكون سقطت من النساخ وإما أن يكون المؤلف اكتفى بالترجمة لأنها عنوان على موضوع الكتاب وهو التوحيد، وقد ذكر المؤلف في هذه الترجمة عدة آيات.
... والكتاب بمعنى: مكتوب أي مكتوب بالقلم، أو بمعنى مجموع من قولهم: كتيبة وهي المجموعة من الخيل.
... والتوحيد في اللغة: مشتق من وحد الشيء إذا جعله واحداً، فهو مصدر وحد يوحد، أي: جعل الشيء واحداً.
وفي الشرع: إفراد الله - سبحانه - بما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
أقسامه: ينقسم التوحيد إلى ثلاثة أقسام:
1- توحيد الربوبية. 2- توحيد الألوهية. 3- توحيد الأسماء والصفات.
... وقد اجتمعت في قوله تعالى: { رب السماوات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سمياً } [مريم: 65].
القسم الأول : توحيد الربوبية:
هو إفراد الله - عز وجل - بالخلق، والملك، والتدبير.
فإفراده بالخلق: أن يعتقد الإنسان أنه لا خالق إلا الله، قال تعالى: { ألا له الخلق والأمر } [الأعراف: 54]، فهذه الجملة تفيد الحصر لتقديم الخبر؛ إذ إن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، وقال تعالى: { هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض } [فاطر: 3]؛ فهذه الآية تفيد اختصاص الخلق بالله، لأن الاستفهام فيها مشرب معنى التحدي.
أما ما ورد من إثبات خلق غير الله؛ كقوله تعالى: { فتبارك الله أحسن الخالقين } [المؤمنون: 14]، وكقوله - صلى الله عليه وسلم - في المصورين: يقال لهم "أحيوا ما خلقتم"(1).
__________
(1) البخاري: كتاب اللباس/ باب عذاب المصورين يوم القيامة، ومسلم: كتاب اللباس والزينة/ باب تحريم صورة الحيوان.(10/1)
فهذا ليس خلقاً حقيقة، وليس إيجاداً بعد عدم، بل هو تحويل للشيء من حال إلى حال، وأيضاً ليس شاملاً، بل محصور بما يتمكن الإنسان منه، ومحصور بدائرة ضيقة؛ فلا ينافي قولنا: إفراد الله بالخلق.
وأما إفراد الله بالملك:
فأن نعتقد أنه لا يملك الخلق إلا خالقهم؛ كما قال تعالى: { ولله ملك السماوات والأرض } [آل عمران: 19]، وقال تعالى: { قل من بيده ملكوت كل شيء } [المؤمنون: 88].
وأما ما ورد من إثبات الملكية لغير الله؛ كقوله تعالى: { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } [المؤمنون: 6]، وقال تعالى: { أو ما ملكتم مفتاحه } [النور: 61]، فهو ملك محدود لا يشمل إلا شيئاً يسيراً من هذه المخلوقات؛ فالإنسان يملك ما تحت يده، ولا يملك ما تحت يد غيره، وكذا هو ملك قاصر من حيث الوصف؛ فالإنسان لا يملك ما عنده تمام الملك، ولهذا لا يتصرف فيه إلا على حسب ما أذن له فيه شرعاً، فمثلاً: لو أراد أن يحرق ماله، أو يعذب حيوانه؛ قلنا: لا يجوز، أما الله - سبحانه ـ، فهو يملك ذلك كله ملكاً عاماً شاملاً.
وأما إفراد الله بالتدبير:
فهو أن يعتقد الإنسان أنه لا مدبر إلا الله وحده؛ كما قال تعالى: { قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون. فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون } [يونس: 31].(10/2)
وأما تدبير الإنسان؛ فمحصور بما تحت يده، ومحصور بما أذن له فيه شرعاً. وهذا القسم من التوحيد لم يعارض فيه المشركون الذين بعث فيهم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بل كانوا مقرين به، قال تعالى: { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم } [الزخرف: 9]، فهم يقرون بأن الله هو الذي يدبر الأمر، وهو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، ولم ينكره أحد معلوم من بني آدم؛ فلم يقل أحد من المخلوقين: إن للعالم خالقين متساويين.
فلم يجحد أحد توحيد الربوبية، لا على سبيل التعطيل ولا على سبيل التشريك، إلا ما حصل من فرعون؛ فإنه أنكره على سبيل التعطيل مكابرة؛ فإنه عطل الله من ربوبيته وأنكر وجوده، قال تعالى حكاية عنه: { فقال أنا ربكم الأعلى } [النازعات: 24]، { ما علمت لكم من إله غيري } [القصص: 38]. وهذا مكابرة منه لأنه يعلم أن الرب غيره؛ كما قال تعالى: { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً } [النمل: 14]، وقال تعالى حكاية عن موسى وهو يناظره: { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض } [الإسراء: 102]؛ فهو في نفسه مقر بأن الرب هو الله –عز وجل-.
وأنكر توحيد الربوبية على سبيل التشريك المجوس، حيث قالوا: إن للعالم خالقين هما الظلمة والنور، ومع ذلك لم يجعلوا هذين الخالقين متساويين، فهم يقولون: إن النور خير من الظلمة؛ لأنه يخلق الخير، والظلمة تخلق الشر، والذي يخلق الخير خير من الذي يخلق الشر.
وأيضاً؛ فإن الظلمة عدم لا يضيء، والنور وجود يضيء؛ فهو أكمل في ذاته.
ويقولون أيضاً بفرق ثالث، وهو: أن النور قديم على اصطلاح الفلاسفة، واختلفوا في الظلمة، هل هي قديمة، أو محدثة؟ على قولين.
دلالة العقل على أن الخالق للعالم واحد:(10/3)
قال الله تعالى: { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاَ لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض } [المؤمنون: 91]، إذ لو أثبتنا للعالم خالقين؛ لكان كل خالق يريد أن ينفرد بما خلق ويستقل به كعادة الملوك؛ إذا لا يرضى أن يشاركه أحد، وإذا استقل به؛ فإنه يريد أيضاً أمراً آخر، وهو أن يكون السلطان له لا يشاركه فيه أحد.
وحينئذ إذا أرادا السلطان؛ فإما أن يعجز كل واحد منهما عن الآخر، أو يسيطر أحدهما على الآخر؛ فإن سيطر أحدهما على الآخر ثبتت الربوبية له، وإن عجز كل منهما عن الآخر زالت الربوبية منهما جميعاً؛ لأن العاجز لا يصلح أن يكون ربّاً.
القسم الثاني: توحيد الألوهية:
ويقال له: توحيد العبادة باعتبارين؛ فاعتبار إضافته إلى الله يسمى: توحيد الألوهية، وباعتبار إضافته إلى الخلق يسمى توحيد العبادة.
وهو إفراد الله - عز وجل - بالعبادة.
فالمستحق للعبادة هو الله تعالى، قال تعالى: { ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل } [لقمان: 30].
والعبادة تطلق على شيئين:
الأول: التعبد: بمعنى التذلل لله - عز وجل - بفعل أوامره واجتناب نواهيه؛ محبة وتعظيماً.
الثاني: المتعبد به؛ فمعناها كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة".
مثال ذلك: الصلاة؛ ففعلها عبادة، وهو التعبد، ونفس الصلاة عبادة، وهو المتعبد به.(10/4)
فإفراد الله بهذا التوحيد: أن تكون عبداً لله وحده تفرده بالتذلل؛ محبة وتعظيماً، وتعبده بما شرع، قال تعالى: { لا تجعل مع الله إلهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولاً } [الإسراء: 22]. وقال تعالى: { الحمد لله رب العالمين } [الفاتحة: 2]؛ فوصفه سبحانه بأنه رب العالمين كالتعليل لثبوت الألوهية له؛ فهو الإله لأنه رب العالمين، وقال تعالى: { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } [البقرة: 21]؛ فالمنفرد بالخلق هو المستحق للعبادة.
إذ من السفه أن تجعل المخلوق الحادث الآيل للفناء إلهاً تعبده؛ فهو في الحقيقة لن ينفعك لا بإيجاد ولا بإعداد ولا بإمداد، فمن السفه أن تأتي إلى قبر إنسان صار رميماً تدعوه وتعبده، وهو بحاجة إلى دعائك، وأنت لست بحاجة إلى أن تدعوه؛ فهو لا يملك لنفسه نفعاً لا ضراً؛ فكيف يملكه لغيره؟!
وهذا القسم كفر به وجحده أكثر الخلق، ومن أجل ذلك أرسل الله الرسل، وأنزل عليهم الكتب، قال الله تعالى: { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } [الأنبياء: 25].
ومع هذا؛ فأتباع الرسل قلة، قال عليه الصلاة والسلام: "فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد"(1).
تنبيه:
من العجب أن أكثر المصنفين في علم التوحيد من المتأخرين يركزون على توحيد الربوبية، وكأنما يخاطبون أقواماً ينكرون وجود الرب - وإن كان يوجد من ينكر الرب ـ، لكن ما أكثر المسلمين الواقعين في شرك العبادة!!.
ولهذا ينبغي أن يركز على هذا النوع من التوحيد حتى نخرج إليه هؤلاء المسلمين الذين يقولون بأنهم مسلمون، وهم مشركون، ولا يعلمون.
القسم الثالث: توحيد الأسماء والصفات:
وهو إفراد الله - عز وجل - بما له من الأسماء والصفات.
__________
(1) البخاري: كتاب الطب/باب من أكتوى أو كوى غيره، ومسلم: كتاب الإيمان/باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب.(10/5)
وهذا يتضمن شيئين:
الأول: الإثبات، وذلك بأن نثبت لله - عز وجل - جميع أسمائه وصفاته التي أثبتها لنفسه في كتابه أو سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
الثاني: نفى المماثلة، وذلك بأن لا نجعل لله مثيلاً في أسمائه وصفاته؛ كما قال تعالى: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } [الشورى: 11]. فدلت هذه الآية على أن جميع صفاته لا يماثله فيها أحد من المخلوقين؛ فهي وإن اشتركت في أصل المعنى، لكن تختلف في حقيقة الحال، فمن لم يثبت ما أثبته الله لنفسه؛ فهو معطل، وتعطيله هذا يشبه تعطيل فرعون، ومن أثبتها مع التشبيه صار مشابهاً للمشركين الذين عبدوا مع الله غيره، ومن أثبتها بدون مماثلة صار من الموحدين.
وهذا القسم من التوحيد هو الذي ضلت فيه بعض الأمة الإسلامية وانقسموا فيه إلى فرق كثيرة؛ فمنهم من سلك مسلك التعطيل، فعطل، ونفى الصفات زاعماً أنه منزه لله، وقد ضل، لأن المنزه حقيقةً هو الذي ينفي عنه صفات النقص والعيب، وينزه كلامه من أن يكون تعمية وتضليلاً، فإذا قال: بأن الله ليس له سمع، ولا بصر، ولا علم، ولا قدرة، لم ينزه الله، بل وصمه بأعيب العيوب، ووصم كلامه بالتعمية والتضليل، لأن الله يكرر ذلك في كلامه ويثبته، { سميع بصير } ، { عزيز حكيم } ، { غفور رحيم } ، فإذا أثبته في كلامه وهو خال منه؛ كان في غاية التعمية والتضليل والقدح في كلام الله - عز وجل ـ، ومنهم من سلك مسلك التمثيل زاعماً بأنه محقق لما وصف الله به نفسه، وقد ضلوا لأنهم لم يقدروا الله حق قدره؛ إذا وصموه بالعيب والنقص، لأنهم جعلوا الكامل من كل وجه كالناقص من كل وجه.
وإذا كان اقتران تفضيل الكامل على الناقص يحط من قدره، كما قيل:
ألم تر أن السيف ينقص قدره ... ... إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
فكيف بتمثيل الكامل بالناقص؟! هذا أعظم ما يكون جنايةً في حق الله - عز وجل ـ، وإن كان المعطوف أعظم جرماً، لكن الكل لم يقدر الله حق قدره.(10/6)
فالواجب: أن نؤمن بما وصف الله وسمى به نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف ، ولا تمثيل.
هكذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم.
فالتحريف في النصوص، والتعطيل في المعتقد، والتكييف في الصفة، والتمثيل في الصفة، إلا أنه أخص من التكييف؛ فكل ممثل مكيف، ولا عكس، فيجب أن تبرأ عقيدتنا من هذه الأمور الأربعة.
ونعني بالتحريف هنا: التأويل الذي سلكه المحرفون لنصوص الصفات؛ لأنهم سموا أنفسهم أهل التأويل، لأجل تلطيف المسلك الذي سلكوه؛ لأن النفوس تنفرُ من كلمة تحريف، لكن هذا من باب زخرفة القول وتزيينه للناس، حتى لا ينفروا منه.
وحقيقة تأويلهم: التحريف، وهو صرف اللفظ عن ظاهره؛ فنقول: هذا الصرف إن دل عليه دليل صحيح؛ فليس تأويلاً بالمعنى الذي تريدون، لكنه تفسير.
وإن لم يدل عليه دليل؛ فهو تحريف، وتغيير للكلم عن مواضعه؛ فهؤلاء الذين ضلوا بهذه الطريقة، فصاروا يثبتون الصفات لكن بتحريف؛ قد ضلوا، وصاروا في طريق معاكس لطريق أهل السنة والجماعة.
وعليه لا يمكن أن يوصفوا بأهل السنة والجماعة؛ لأن الإضافة تقتضي النسبة، فأهل السنة منتسبون للسنة؛ لأنهم متمسكون بها، وهؤلاء ليسوا متمسكين بالسنة فيما ذهبوا إليه من التحريف.
وأيضاً الجماعة في الأصل: الاجتماع، وهم غير مجتمعين في آرائهم؛ ففي كتبهم التداخل، والتناقض، والاضطراب، حتى إن بعضهم يضلل بعضاً، ويتناقض هو بنفسه.
وقد نقل شارع "الطحاوية" عن الغزالي - وهو ممن بلغ ذروة علم الكلام - كلاماً إذا قرأه الإنسان تبين له ما عليه أهل الكلام من الخطأ والزلل والخطل، وأنهم ليسوا على بينة من أمرهم.
وقال الرازي وهو من رؤسائهم:
نهاية إقدام العقول عقال
وأرواحنا وفي وحشة من جسومنا
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
وأكثر سعي العالمين ضلال
وغاية دنيانا أذى ووبال
سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا(10/7)
ثم قال: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية؛ فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ووجدت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: { الرحمن على العرش استوى } [طه: 5] { إليه يصعد الكلم الطيب } [فاطر: 10]؛ يعني: فأثبت، وأقرأ في النفي: { ليس كمثله شيء } [الشورى: 11]، { ولا يحيطون به علماً } [طه: 110]؛ يعني: فأنفي المماثلة، وأنفي الإحاطة به علماً، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.
فتجدهم حيارى مضطربين، ليسوا على يقين من أمرهم، وتجد من هداه الله الصراط المستقيم مطمئناً منشرح الصدر، هادئ البال، يقرأ في كتاب الله وفي سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات؛ فيثبت؛ إذ لا أحد أعلم من الله بالله، ولا أصدق خبراً من خبر الله، ولا أصح بياناً من بيان الله؛ كما قال تعالى: { يريد الله ليبين لكم } [النساء: 26]، { يبين الله لكم أن تضلوا } [النساء: 176]، { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء } [النحل: 89]، { ومن أصدق من الله قيلاً } [النساء: 122]، { ومن أصدق من الله حديثاً } [النساء: 87]. فهذه الآيات وغيرها تدل على أن الله يبين للخلق غاية البيان الطريق التي توصلهم إليه، وأعظم ما يحتاج الخلق إلى بيانه ما يتعلق بالله تعالى وبأسماء الله وصفاته حتى يعبدوا الله على بصيرة؛ لأن عبادة من لم نعلم صفاته، أو من ليس له صفة أمر لا يتحقق أبداً؛ فلابد أن تعلم من صفات المعبود ما تجعلك تلتجئ إليه وتعبده حقاً.
ولا يتجاوز الإنسان حده إلى التكييف أو التمثيل؛ لأنه إذا كان عاجزاً عن تصور نفسه التي بين جنبيه؛ فمن باب أولى أن يكون عاجزاً عن تصور حقائق ما وصف الله به نفسه، ولهذا يجب على الإنسان أن يمنع نفسه عن السؤال بـ "لِمَ" و"كيف" فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته، وكذا يمنع نفسه من التفكير بالكيفية.(10/8)
وهذا الطريق إذا سلكه الإنسان استراح كثيراً، وهذه حال السلف رحمهم الله، ولهذا لما جاء رجل إلى الإمام مالك بن أنس رحمه الله قال: يا أبا عبدالله! { الرحمن على العرش استوى } ، كيف استوى؟ فأطرق برأسه وقال: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعاً".
أما في عصرنا الحاضر؛ فنجد من يقول إن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر كل ليلة، فيلزم من هذا أن يكون كل الليل في السماء الدنيا؛ لأن الليل يمشي على جميع الأرض؛ فالثلث ينتقل من هذا المكان إلى المكان الآخر، وهذا لم يقله الصحابة رضوان الله عليهم، ولو كان هذا يرد على قلب المؤمن؛ لبينه الله إما ابتداءً أو على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -: أو يقيض من يسأله عنه فيجاب، كما سأل الصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أين كان الله قبل أن يخلق السماوات والأرض، فأجابهم(1).
فهذا السؤال العظيم يدل على أن كل ما يحتاج إليه الناس فإن الله يبينه بأحد الطرق الثلاثة.
والجواب عن الإشكال في حديث النزول(2): أن يقال: ما دام ثلث الليل الأخير في هذه الجهة باقياً، فالنزول فيها محقق، وفي غيرها لا يكون نزول قبل ثلث الليل الأخير أو النصف، والله - عز وجل - ليس كمثله شيء، والحديث يدل على أن وقت النزول ينتهي بطلوع الفجر.
وعلينا أن نستسلم، وأن نقول: سمعناً، وأطعنا، واتبعنا، وآمنا؛ فهذه وظيفتنا لا نتجاوز القرآن والحديث.
* * *
وقول الله تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [الذريات: 56] الآية.
الآية الأولى قوله تعالى: { وما خلق الجن والإنس إلا ليعبدون } .
__________
(1) البخاري: كتاب بدء الخلق/ باب ما جاء في قول الله تعالى: { وهو الذي يبدأ الخلق } .
(2) البخاري: كتاب التهجد/باب الدعاء والصلاة آخر الليل، ومسلم: كتاب صلاة المسافر/ باب الترغيب في الدعاء والذكر آخر الليل.(10/9)
قوله: { إلا ليعبدون } استثناء مفرغ من أعم الأحوال؛ أي: ما خلق الجن والإنس لأي شيء إلا للعبادة.
واللام في قوله: { إلا ليعبدون } للتعليل، وهذا التعليل لبيان الحكمة من الخلق، وليس التعليل الملازم للمعلول؛ إذ لو كان كذلك للزم أن يكون الخلق كلهم عباداً يتعبدون له، وليس الأمر كذلك، فهذه العلة غائية، وليست موجبة.
فالعلة الغائية لبيان الغاية والمقصود من هذا الفعل، لكنها قد تقع، وقد لا تقع، مثل: بريت القلم لأكتب به؛ فقد تكتب، وقد لا تكتب.
والعلة الموجبة معناها: أن المعلول مبني عليها؛ فلابد أن تقع، وتكون سابقة للمعلول، ولازمة له، مثل: انكسر الزجاج لشدة الحرة.
قوله: { خلقت } ، أي أوجدت، وهذا الإيجاد مسبوق بتقدير، وأصل الخلق التقدير.
قال الشاعر.
ولأنت تفري ما خلقت ... ... ... وبعض الناس يخلق ثم لا يفري
قوله: { الجن } : هم عالمُ غيبيُ مخفيُ عنا، ولهذا جاءت المادة من الجيم والنون، وهما يدلان على الخفاء والاستتار، ومنه: الجَنة، والجِنة، والجُنة.
قوله: { الإنس } سموا بذلك، لأنهم لا يعيشون بدون إيناس، فهم يأنس بعضهم ببعض، ويتحرك بعضهم إلى بعض.
قوله: { إلا ليعبدون } فُسِّر: إلا ليوحدون، وهذا حق، وفُسِّر: بمعنى يتذللون لي بالطاعة فِعلاً للمأمور، وتركاً للمحظور، ومن طاعته أن يوحد سبحانه وتعالى؛ فهذه هي الحكمة من خلق الجن والإنس.
ولهذا أعطى الله البشر عقولاً، وأرسل إليهم رسلاً، وأنزل عليهم كتباً، ولو كان الغرض من خلقهم كالغرض من خلق البهائم؛ لضاعت الحكمة من إرسال الرسل، وإنزال الكتب؛ لأنه في النهاية يكون كشجرة نبتت، ونمت، وتحطمت، ولهذا قال تعالى: { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد } [القصص: 85]؛ فلابد أن يردك إلى معادٍ تجازى على عملك إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
وليست الحكمة من خلقهم نفع الله، ولهذا قال تعالى: { ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون } [الذريات: 57].(10/10)
وأما قوله تعالى: { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له } [البقرة: 245].
فهذا ليس إقراضاً لله سبحانه، بل هو غنيُّ عنه، لكنه سبحانه شبه معاملة عبده له بالقرض؛ لأنه لا بد من وفائه، فكأنه التزامُ من الله سبحانه أن يوفى العامل أجر عمله كما يوفي المقترض من أقرضه.
* * *
وقوله تعالى: { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت }
[النحل: 36]
الآية الثانية قوله تعالى: { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } [النحل: 36].
قوله: { ولقد } : اللام موطئه لقسم مقدر، وقد: للتحقيق.
وعليه؛ فالجملة مؤكدة بالقسم المقدر، واللام، وقد.
قوله: { بعثنا } ؛ أي: أخرجنا، وأرسلنا في كل أمة.
والأمة هنا: الطائفة من الناس.
وتطلق الأمة في القرآن على أربعة معانٍ:
الطائفة: كما في هذه الآية.
الإمام، ومنه قوله تعالى: { إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله } [النحل: 120].
الملة: ومنه قوله تعالى: { إنا وجدنا آباءنا على أمة } [الزخرف: 23].
الزمن: ومنه قوله تعالى: { وادكر بعد أمة } [يوسف: 45].
فكل أمة بعث فيها رسول من عهد نوح إلى عهد نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
والحكمة من إرسال الرسل:
إقامة الحجة: قال تعالى: { رسلاً مبشرين ومنذرين لئلاً يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } [النساء: 165].
الرحمة: لقوله تعالى: { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [الأنبياء: 107].
بيان الطريق الموصل إلى الله تعالى، لأن الإنسان لا يعرف ما يجب لله على لوجه التفصيل إلا عن طريق الرسل.
قوله: { أن اعبدوا الله } أن: قيل تفسيرية، وهي التي سبقت بما يدل على القول دون حروفه؛ كفوله تعالى: { فأوحينا إليه أن اصنع الفلك } [المؤمنون: 27]، والوحي فيه معنى القول دون حروفه، والبعث متضمن معنى الوحي؛ لأن كل رسول موحى إليه.(10/11)
وقيل: إنها مصدرية على تقدير الباء؛ أي: بأن اعبدوا، والراجح الأول؛ لعدم التقرير. أي: تذللوا له بالعبادة، وسبق تعرف العبادة(1).
قوله: { واجتنبوا الطاغوت } أي: ابتعدوا عنه بأن تكونوا في جانب، وهو في جانب، والطاغوت: مشتق من الطغيان، وهو صفة مشبهة، والطغيان: مجاورة الحد؛ كما في قوله تعالى: { إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية } [الحاقة: 11]؛ أي: تجاوز حده.
وأجمع ما قيل في تعريفه هو ما ذكره ابن القيم رحمه الله بأنه: "ما تجاوز به العبد حده من متبوع، أو معبود، أو مطاع".
ومراده من كان راضياً بذلك، أو يقال: هو طاغوت باعتبار عابده، وتابعه، ومطيعه؛ لأنه تجاوز به حده حيث نَزَّله فوق منزلته التي جعلها الله له، فتكون عبادته لهذا المعبود، واتباعه لمتبوعه، وطاعته لمطاعه طغياناً لمجاوزته الحد بذلك.
فالمتبوع مثل: الكهان، والسحرة، وعلماء السوء.
والمعبود مثل: الأصنام.
والمطاع مثل: الأمراء الخارجين عن طاعة الله، فإذا اتخذهم الإنسان أرباباً يحل ما حرم الله من أجل تحليلهم له، ويحرم ما أحل الله من أجل تحريمهم له؛ فهؤلاء طواغيت، والفاعل تابع للطاغوت، قال تعالى: { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت } [النساء: 51]، ولم يقل: إنهم طواغيت.
ودلالة الآية على التوحيد: أن الأصنام من الطواغيت التي تعبد من دون الله. والتوحيد لا يتم إلا بركنين، هما:
الإثبات.
النفي.
إذ النفي المحض تعطيل محض، والإثبات المحض لا يمنع المشاركة.
مثال ذلك: زيد قائم، يدل على ثبوت القيام لزيد، لكن لا يدل على انفراده به.
ولم يقم أحد، هذا نفي محض.
ولم يقم إلا زيد، هذا توحيد له بالقيام؛ لأنه اشتمل على إثبات ونفي.
قوله: "الآية" أي: إلى آخر الآية، وتقرأ بالنصب؛ إما على أنها مفعول به لفعل محذوف تقديره أكمل الآية، أو أنها منصوب بنزع الخافض؛ أي: إلى آخر الآية.
__________
(1) ص3.(10/12)
ووجه الاستشهاد بهذه الآية لكتاب التوحيد: أنها دالة على إجماع الرسل عليهم الصلاة والسلام على الدعوة إلى التوحيد، وأنهم أرسلوا به؛ لقوله تعالى: { أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } .
* * *
وقوله تعالى: { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً } . [الإسراء: 23] الآية.
الآية الثالثة قوله تعالى: { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه... } الآية.
قوله: { قضى } قضاء الله - عز وجل - ينقسم إلى قسمين:
1- قضاء شرعي. ... ... ... ... ... 2- قضاء كوني.
فالقضاء الشرعي: يجوز وقوعه من المقضي عليه وعدمه، ولا يكون إلا فيما يحبه الله.
مثال ذلك: هذه الآية: { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } [الإسراء: 23]؛ فتكون قضى بمعنى: شرع، أو بمعنى: وصى، وما أشبههما.
والقضاء الكوني: لابد من وقوعه، ويكون فيما أحبه الله، وفيما لا يحبه.
مثال ذلك: قوله تعالى: { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً } [الإسراء: 4] فالقضاء هنا كوني؛ لأن الله لا يشرع الفساد في الأرض، ولا يحبه.
قوله: { أن لا تعبدوا } . { أن } هنا مصدرية بدليل حذف النون من تعبدوا، والاستثناء هنا مفرغ؛ لأن الفعل لم يأخذ مفعوله؛ فمفعوله ما بعد إلا.
قوله: { إلا إياه } ضمير نصب منفصل واجب الانفصال؛ لأن المتصل لا يقع بعد إلا، قال ابن مالك:
وذو اتصال منه ما لا يبتدا ... ... ولا يلي إلا اختياراً أبداً
إشكال وجوابه:
إذا قيل: ثبت أن الله قضى كوناً ما لا يحبه؛ فكيف يقضي الله ما لا يحبه؟
فالجواب: أن المحبوب قسمان:
محبوب لذاته.
محبوب لغيره.
فالمحبوب لغيره قد يكون مكروهاً لذاته، ولكن يحب لما فيه من الحكمة والمصلحة؛ فيكون حينئذ محبوباً من وجه، مكروهاً من وجه آخر.(10/13)
مثال ذلك: الفساد في الأرض من بني إسرائيل في حد ذاته مكروه إلى الله؛ لأن الله لا يحب الفساد، ولا المفسدين، ولكن للحكمة التي يتضمنها يكون بها محبوباً إلى الله - عز وجل - من وجه آخر.
ومن ذلك: القحط، والجدب، والمرض، والفقر؛ لأن الله رحيم لا يحب أن يؤذي عباده بشيء من ذلك، بل يريد بعباده اليسر، لكن يقدره للحكم المترتبة عليه؛ فيكون محبوباً إلى الله من وجه، مكروهاً من وجه آخر.
قال الله تعالى: { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون } [الروم: 41].
فإن قيل: كيف يتصور أن يكون الشيء محبوباً من وجه مكروهاً من وجه آخر؟
فيقال: هذا الإنسان المريض يعطى جرعة من الدواء مُرَّة كريهة الرائحة واللون، فيشربها، وهو يكرهها لما فيها من المرارة واللون والرائحة، ويحبها لما فيها من الشفاء، وكذا الطبيب يكوي المريض بالحديدة المحماة على النار، ويتألم منها؛ فهذا الألم مكروه له من وجه، محبوب له من وجه أخر.
فإن قيل: لماذا لم يكن قوله: { وقضي ربك أن لا تعبدوا إلا إياه } من باب القضاء القدري؟
أجيب: بأنه لا يمكن؛ إذ لو كان قضاءً قدرياً لعبد الناس كلهم ربهم، لكنه قضاء شرعي قد يقع وقد لا يقع.
والخطاب في الآية للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن، لكنه قال: { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه } ، ولم يقل "أن لا تعبد"، ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى: { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } [الطلاق: 1] ؛ فالخطاب الأول للرسول - صلى الله عليه وسلم - والثاني عام؛ فما الفائدة من تغيير الأسلوب؟
أجيب: إن الفائدة من ذلك:
التنبيه؛ إذ تنبيه المخاطب أمر مطلوب للمتكلم، وهذا حاصل هنا بتغيير الأسلوب.
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - زعيم أمته، والخطاب الموجه إليه موجه لجميع الأمة.
الإشارة إلى أن ما خوطب به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهو له ولأمته؛ إلا ما دلّ الدليل على أنه مختص به.(10/14)
وفي هذه الآية خاصة الإشارة إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مربوب لا رب، عابد لا معبود؛ فهو داخل في قوله: { تعبدوا } ، وكفى به شرفاً أن يكون عبداً لله – عز وجل – ولهذا يصفه الله تعالى بالعبودية في أعلى مقاماته؛ فقال في مقام التحدي والدفاع عنه: { وإن كنتم في ريب مما نزّلنا على عبدنا } [البقرة: 23]، وقال في مقام إثبات نبوته ورسالته إلى الخلق: { تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده } [الفرقان: 1]، وقال في مقام الإسراء والمعراج { سبحان الذي أسرى بعبده } [الإسراء: 1]، { فأوحى إلى عبده ما أوحى } [النجم: 10].
أقسام العبودية:
تنقسم العبودية إلى ثلاثة أقسام:
عامة، وهي عبودية الربوبية، وهي لكل الخلق، قال تعالى: { إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً } [مريم: 93]، ويدخل في ذلك الكفار.
عبودية خاصة، وهي عبودية الطاعة العامة، قال تعالى: { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً } [الفرقان: 63]، وهذه تعم كل من تعبد لله بشرعه.
خاصّة الخاصّة، وهي عبودية الرسل عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى عن نوح: { إنه كان عبداً شكوراً } [الإسراء: 3]، وقال عن محمد: { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا } [البقرة: 23]، وقال في آخرين من الرسل: { وأذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار } [ص: 45].
فهذه العبودية المضافة إلى الرسل خاصة الخاصة؛ لأنه لا يباري أحد هؤلاء الرسل في العبودية.
قوله: { وبالوالدين إحساناً } أي: قضى ربك أن نحسن بالوالدين إحسانا، والوالدان: يشمل الأم، والأب، ومن فوقهما، لكنه في الأم والأب أبلغ، وكلما قربا منك كانا أولى بالإحسان، والإحسان، بذل المعروف، وفي قوله: { وبالوالدين إحساناً } بعد قوله: { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه } دليل على أن حق الوالدين بعد حق الله- عز وجل -.
فإن قيل: فأين حق الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟(10/15)
أجيب: بأن حق الله متضمن لحق الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الله لا يعبد إلا بما شرع الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله: { إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أوفٍّ } أي: كف الأذى عنهما؛ ففي قوله: { إحساناً } : بذل المعروف، وفي قوله: { فلا تقل لهما أوفٍّ } : كف الأذى، ومعنى "أف": أتضجر؛ لأنك إذا قلته؛ فقد يتأذّيان بذلك، وفي الآية إشارة إلى أنهما إذا بلغا الكبر صارا عبئاً على ولدهما؛ فلا يتضجر من الحال، ولا ينهرهما في المقال إذا أساءا في الفعل أو القول.
قوله: { وقل لهما قولاً كريماً } ، أي: لينا حسناً بهدوء وطمأنينة؛ كقولك: أعظم الله أجرك، أبشري يا أمي، أبشر يا أبي، وما أشبه ذلك؛ فالقول الكريم يكون في صيغته، وأدائه، والخطاب به، فلا يكون مزعجاً كرفع الصوت مثلاً، بل يتضمن الدعاء والإيناس لهما.
والشاهد في هذه الآية: قوله تعالى: { ألا تعبدوا إلا إياه } ؛ فهذا هو التوحيد لتضمنه للنفي والإثبات.
* * *
وقوله تعالى: { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً } [النساء: 36].
الآية الرابعة قوله تعالى: { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً... } الآية.
{ ولا تشركوا } في مقابل "لا إله"؛ لأنها نفي.
وقوله: { واعبدوا } في مقابل "إلا إله"؛ لأنها إثبات.
وقوله: { شيئاً } نكرة في سياق النهي؛ فتعم كل شيء: لا نبياً، ولا ملكاً، ولا ولياً، بل ولا أمراً من أمور الدنيا؛ فلا تجعل الدنيا شريكاً مع الله، والإنسان إذا كان همه الدنيا كان عابداً لها؛ كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة"(1).
قوله: { وبالوالدين إحساناً } يقال فيها ما قيل في الآية السابقة(2).
قوله: { وبذي القربى واليتامى والمساكين } ؛ أي: إحساناً.
__________
(1) البخاري: كتاب الجهاد/ باب الحراسة في الغزو.
(2) أنظر: (ص 12).(10/16)
وذو القربى هم من يجتمعون بالشخص في الجد الرابع.
واليتامى: جَمْعُ يتيم، وهو الذي مات أبوه، ولم يبلغ.
والمساكين: هم الذين عدموا المال فأسكنهم الفقر.
وابن السبيل: هو المسافر الذي انقطعت به النفقة.
قوله: { والجار ذي القربى والجار الجنب } الجار: الملاصق للبيت، أو من حوله، وذي القربى؛ أي: القريب، والجار الجنب؛ أي: الجار البعيد.
قوله: { والصاحب بالجانب } ، قيل: إنه الزوجة، وقيل: صاحبك في السفر، لأنه يكون إلى جنبك، ولكل منهما حق؛ فالآية صالحة لهما.
قوله: { وما ملكت أيمانكم } هذا يشمل الإحسان إلى الأرقّاء والبهائم؛ لأن الجميع ملك اليمين.
قوله: { إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً } .
المختال: في هيئته.
والفخور: في قوله، والله لا يحب هذا ولا هذا.
* * *
وقوله تعالى: { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً } [الأنعام: 151] الآيات.
الآية الخامسة إلى السابعة قوله تعالى: { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم... } .
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أمره الله أن يقول للناس: { تعالوا } ؛ أي أقبلوا، وهلموا، وأصله من العلو كأن المنادي يناديك أن تعلو إلى مكانه، فيقول: تعالى؛ أي: ارتفع إلي.
وقوله: { أتل } بالجزم جواباً للأمر في قوله: { تعالوا } .
وقوله: { ما حرّم ربكم عليكم } "ما" اسم موصول مفعول لأتل، والعائد محذوف، والتقدير: ما حرمه ربكم عليكم.
وقال: { ربكم } ولم يقل: ما حرم الله؛ لأن الرب هنا أنسب، حيث إن الرب له مطلق التصرف في المربوب، والحكم عليه بما تقتضيه حكمته.(10/17)
قوله: { ألا تشركوا } أن: تفسيرية، تفسر { أتل ما حرم } ؛ أي: أتلو عليكم ألا تشركوا به شيئاً، وليست مصدرية، وقد قيل به، وعلى هذا القول تكون "لا" زائدة، ولكن القول الأول أصح، أي: أتل عليكم عدم الإشراك؛ لأن الله لم يحرم علينا أن لا نشرك به، بل حرم علينا أن نشرك به، وما يؤيد أنّ "أنْ" تفسيرية أن "لا" هنا ناهية لتتناسب الجمل؛ فتكون كلها طلبية.
قوله: { وبالوالدين إحساناً } ، أي: وأتل عليكم الأمر بالإحسان إلى الوالدين.
قوله: { ولا تقتلوا أولادكم } ، بعد أن ذكر حق الأصول ذكر حق الفروع.
والأولاد في اللغة العربية: يشمل الذكر والأنثى، قال تعالى: { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } [النساء: 11].
قوله: { من إملاق } ، الإملاق: الفقر، و { من } للسببية والتعليل؛ أي: بسبب الإملاق.
قوله: { نحن نرزقكم وإيّاهم } ، أي: إذا أبقيتموهم؛ فإنّ الرزق لن يضيق عليكم بإبقائهم، لأن الذي يقوم بالرزق هو الله.
وبدأ هنا برزق الوالدين؛ وفي سورة الإسراء بدأ برزق الأولاد، والحكمة في ذلك أنه قال هنا: { من إملاق } ؛ فالإملاق حاصل، فبدأ بذكر الوالدين اللذين أملقا، وهناك قال: { خشية إملاق } [الإسراء: 31]؛ فهما غنيان، لكن يخشيان الفقر، فبدأ برزق الأولاد قبل رزق الوالدين.
وتقييد النهي عن قتل الأولاد بخشية الإملاق بناءٍ على واقع المشركين غالباً، فلا مفهوم له.
قوله: { ولا تقربوا الفواحش } ، لم يقل: لا تأتوا؛ لأن النهي عن القرب أبلغ من النهي عن الإتيان؛ لأن النهي عن القرب نهي عنها، وعما يكون ذريعة إليها، ولذلك حَرُم على الرجل أن ينظر إلى المرأة الأجنبية، وأن يخلو بها، وأن تسافر المرأة بلا محرم؛ لأن ذلك يقرب من الفواحش.
قوله: { ما ظهر منها وما بطن } ، قيل: ما ظهر فحشه، وما خفي؛ لأن الفواحش منها شيء مستفحش في نفوس جميع الناس، ومنها شيء فيه خفاء.(10/18)
وقيل: ما أظهرتموه، وما أسررتموه، فالإظهار: فعل الزنا - والعياذ بالله - مجاهرةً، والإبطان فعله سراً.
وقيل: ما عظم فحشه، وما كان دون ذلك؛ لأنّ الفواحش ليست على حد سواء، ولهذا جاء في الحديث: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر"(1)، وهذا يدل على أن الكبائر فيها أكبر وفيها ما دون ذلك.
قوله: { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } ، النفس التي حرم الله: هي النفس المعصومة، وهي نفس المسلم، والذمي، والمعاهد، والمستأمن؛ بكسر الميم.
والحق: ما أثبته الشرع.
والباطل: ما نفاه الشرع.
فمن الحق الذي أثبته الشرع في قتل النفس المعصومة أن يزني المحصن فيرجم حتى يموت، أو يقتل مكافئه، أو يخرج على الجماعة، أو يقطع الطريق؛ فإنه يقتل، قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثّيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة"(2).
وقال هناك: { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } ، وقال قبلها: { ولا تقتلوا أولادكم } ؛ فيكون النهي عن قتل الأولاد مكرراً مرتين: مرة بذكر الخصوص، ومرة بذكر العموم.
وقوله: { ذلكم وصاكم به } ، المشار إليه ما سبق، والوصية بالشيء هي العهد به على وجه الاهتمام، ولهذا يقال: وصيته على فلان؛ أي: عهدت به إليه ليهتم به.
قوله: { تعقلون } ، العقل هنا: حسن التصرف، وأما في قوله تعالى: { إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون } [الزخرف: 3]، فمعناه: تفهمون.
وفي هذا دليلٌ على أن هذه الأمور إذا التزم بها الإنسان؛ فهو عاقل رشيد، وإذا خالفها؛ فهو سفيه ليس بعاقل.
وقد تضمنت هذه الآية خمس وصايا:
الأولى : توحيد الله.
الثانية : الإحسان بالوالدين.
__________
(1) البخاري: كتاب الشهادات/ باب ما قيل في شهادة الزور، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب بيان الكبائر).
(2) البخاري: كتاب الديات/ باب قول الله تعالى: { أن النفس بالنفس.... } ، ومسلم: كتاب القسامة/ باب ما يباح به دم المسلم.(10/19)
الثالثة : أن لا نقتل أولادنا.
الرابعة: أن لا نقرب الفواحش.
الخامسة : أن لا نقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق.
قوله: { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } ، قوله: { ولا تقربوا } هذا حماية لأموال اليتامى أن لا نقربها إلا بالخصلة التي هي أحسن؛ فلا نقربها بأي تصرف إلا بما نرى أنه أحسن، فإذا لاح للولي تصرفان أحدهما أكثر ربحاً؛ فالواجب عليه أن يأخذ بما هو أكثر ربحاً لأنه أحسن.
والحسن هنا يشمل: الحسن الدنيوي، والحسن الديني، فإذا لاح تصرفان أحدهما أكثر ربحاً وفيه رباً، والآخر أقل ربحاً وهو أسلم من الربا؛ فنقدم الأخير؛ لأن الحسن الشرعي مقدم على الحسن الدنيوي المادي.
قوله: { حتى يبلغ أشده } ، { حتى } هنا: حرف غاية؛ فما بعدها مخالف لما قبلها.
أي: إذا بلغ أشده؛ فإننا ندفعه إليه بعد أن نختبره، وننظر في حسن تصرفه، ولا يجوز لنا أن نبقيه عندنا.
ومعنى أشده: قوته العقلية والبدنية، والخطاب هنا لأولياء اليتامى أو للحاكم على قول بعض أهل العلم، وبلوغ الأشد يختلف، والمراد به هنا الأشد الذي يكون به التكليف، وهو تمام خمسة عشرة سنة، أو إنبات العانة أو الإنزال.
قوله: { وأوفوا الكيل والميزان } ، أي: أوفوا الكيل إذا كلتم فيما يكال من الأطعمة والحبوب.
وأوفوا الميزان: إذا وزنتم فيما يوزن؛ كاللحوم مثلاً.
والأمر بالإيفاء شاملٌ لجميع ما تتعامل به مع غيرك؛ فيجب عليك أن توفي بالكيل والوزن وغيرهما في التعامل.(10/20)
قوله: { بالقسط } ، أي: بالعدل، ولما كان قوله: { بالقسط } قد يشق بعض الأحيان؛ لأن الإنسان قد يفوته أن يوفي الكيل أو الوزن أحياناً، أعقب ذلك بقوله: { لا نكلف نفساً إلا وسعها } ، أي: طاقتها، فإذا بذل جهده وطاقته، وحصل النقص؛ فلا يعد مخالفاً؛ لأن ما خرج عن الطاقة معفو عنه فيه، كما أن هذه الجملة تفيد العفو من وجه، وهو ما خرج عن الوسع؛ فإنها تفيد التغليظ من وجه، وهو أن على المرء أن يبذل وسعه في الإيفاء بالقسط، ولكن منى تبين الخطأ وجب تلافيه لأنه داخل في الوسع.
قوله: { وإذ قلتم فاعدلوا } ، معناه: أي قول تقوله؛ فإنه يجب عليك أن تعدل فيه، سواء كان ذلك لنفسك على غيرك، أو لغيرك على نفسك، أو لغيرك على غيرك، أو لتحكم بين اثنين؛ فالواجب العدل؛ إذ العدل في اللغة الاستقامة، وضده الجور والميل، فلا تمل يميناً ولا شمالاً، ولم يقل هنا { لا نكلف نفساً إلا وسعها } ؛ لأن القول لا يشق فيه العدل غالباً.
قوله: { ولو كان ذا قربى } ، أي: المقول له ذا قرابة، أي: صاحب قرابة، فلا تحابيه لقرابته، فتميل معه على غيره من أجله؛ فأجعل أمرك إلى الله – عزّ وجلّ- الذي خلقك، وأمرك بهذا، وإليه سترجع. ويسألك – عز وجل - ماذا فعلت في هذه الأمانة.
وقد أقسم أشرف الخلق، وسيد ولد آدم، وأعدل البشر، محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقال: "وايم الله؛ لو أن فاطمة بنت محمد سرقت؛ لقطعت يدها"(1).
__________
(1) البخاري: كتاب الحدود/ باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان، ومسلم: كتاب الحدود/ باب قطع السارق الشريف.(10/21)
قوله: { وبعهد الله أوفوا } ، قدم المتعلق؛ للاهتمام به، وعهد الله: ما عهد به إلى عباده، وهي عبادته سبحانه وتعالى والقيام بأمره؛ كما قال عز وجل: { ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً } [المائدة: 12]، هذا ميثاق من جانب المخلوق، وقوله تعالى: { لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار } [المائدة: 12]، هذا من جانب الله - عز وجل -.
قوله: { ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون } ، هذه الآية الكريمة فيها أربع وصايا من الخالق عز وجل:
الأولى: أن لا نقرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن.
الثانية: أن نوفي الكيل والميزان بالقسط.
الثالثة: أن نعدل إذا قلنا.
... الرابعة: أن نوفي بعهد الله.
والآية الأولى فيها خمس وصايا. صار الجميع تسع وصايا.
ثم قال عز وجل: { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه } ، هذه هي الوصية العاشرة، فقوله: { وأن هذا صراطي } يحتمل أن المشار إليه ما سبق؛ لأنك لو تأملته وجدته محيطاً بالشرع كله؛ إما نصاً، وإما إيماءً، ويحتمل أن المراد به ما علم من دين الله؛ أي: هذا الذي جاءكم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو صراطي؛ أي: الطريق الموصل إليه سبحانه وتعالى.
والصراط يضاف إلى الله – عز وجل ـ، ويضاف إلى سالكه؛ ففي قوله تعالى: { صراط الذين أنعمت عليهم } [الفاتحة: 7] هنا أضيف إلى سالكه، وفي قوله تعالى: { صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض } [الشورى: 53] هنا أضيف إلى الله - عز وجل - ؛ فإضافته إلى الله - عز وجل - لأنه موصل إليه، ولأنه هو الذي وضعه لعباده - جل وعلا ـ، وإضافته إلى سالكه لأنهم هم الذين سلكوه.
قوله: { مستقيماً } هذه حال من "صراط"؛ أي: حال كونه مستقيماً لا اعوجاج فيه فاتبعوه.(10/22)
قوله { ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } السبل؛ أي: الطرق الملتوية الخارجة عنه.
وتفرق: فعل مضارع منصوب بأن بعد فاء السببية، لكن حذفت منه تاء المضارعة، وأصلها: "تتفرق"، أي أنكم إذا اتبعتم السبل تفرقت بكم عن سبيله، وتشتت بكم الأهواء وبعدت.
وهنا قال: { السبل } : جمع سبيل، وفي الطريق التي أضافها الله إلى نفسه قال: { سبيله } سبيل واحد؛ لأن سبيل الله – عز وجل – واحد، وأما ما عداه؛ فسبل متعددة، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا واحدة"(1)؛ فالسبيل المنجي واحد، والباقية متشعبة متفرقة، ولا يرد على هذا قوله تعالى: { يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام } [المائدة: 16]، لأن "سبل" في الآية الكريمة؛ وإن كانت مجموعة؛ لكن أضيفت إلى السلام فكانت منجية، ويكون المراد بها شرائع الإسلام.
وقوله: { ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } ، أي: ذلك المذكور وصاكم لتنالوا به درجة التقوى، والالتزام بما أمر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
قال ابن مسعود: "من أراد أن ينظر إلى وصية محمد - صلى الله عليه وسلم - التي عليها خاتمة؛ فليقرأ قوله تعالى: { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً…. } إلى قوله: { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل } [الأنعام: 151 - 153] الآية(2).
قوله: قال ابن مسعود: "من أراد..." إلخ. الاستفهام هنا للحث والتشويق، واللام في قوله: "فليقرأ" للإرشاد.
قوله: "وصية محمد"، الوصية بمعنى العهد، ولا يكون العهد وصية إلا إذا كان في أمر هام.
__________
(1) مسند الإمام أحمد (2/332)، (3/145)، (4/120)، وسنن أبي داود (4596)، والترمذي (2640)، وابن ماجة(3991)، والحاكم وصححه (1/128).
(2) الترمذي (أبواب تفسير القرآن، 8/230)، وقال: "حديث حسن غريب".(10/23)
وقوله: "محمد - صلى الله عليه وسلم -"، أي: رسول الله محمد بن عبدالله الهاشمي القرشي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا التعبير من ابن مسعود يدل على جواز مثله، مثل: قال محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووصية محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا ينافي قوله تعالى: { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً } [النور: 63]؛ لأن دعاء الرسول هنا أي: مناداته؛ فلا تقولوا عند المناداة: يا محمد! ولكن قولوا: يا رسول الله! أما الخبر؛ فهو أوسع من باب الطلب، ولهذا يجوز أن تقول: أنا تابعٌ لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، أو اللهم! صل على محمد، وما أشبه ذلك.
قوله: "التي عليها خاتمه"، الخاتم بمعنى التوقيع.
وقوله: "وصية محمد - صلى الله عليه وسلم -" ليست وصية مكتوبة مختوماً عليها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوص بشيء، ويدل لذلك: أن أبا جحيفة سأل علي بن أبي طالب: هل عهد إليكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء؟ فقال: لا. والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهماً يؤتيه الله تعالى في القرآن، وما في هذه الصحيفة. قيل: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر(1).
فلا يظنّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى بهذه الآيات وصية خاصة مكتوبة، لكن ابن مسعود رضي الله عنه يرى أن هذه الآيات قد شملت الدين كلّه؛ فكأنها الوصية التي ختم عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبقاها لأمته.
وهي آيات عظيمة، إذا تدبرها الإنسان وعمل بها؛ حصلت له الأوصاف الثلاثة الكاملة: العقل، والتذكر، والتقوى.
وقوله: "فليقرأ قوله تعالى..." إلخ الآيات سبق الكلام عليها.
* * *
__________
(1) البخاري: كتاب الديات/باب العاقلة.(10/24)
وعن معاذ بن جبل (رضي الله عنه)؛ قال: "كنت رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - على حمار، فقال لي: "يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟". قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً.
قوله: "رديف" بمعنى رادف؛ أي: راكب معه خلفه؛ فهو فعيل بمعنى فاعل، مثل: رحيم بمعنى راحم، وسميع بمعنى سامع.
قوله: "على حمار" ، أي: أهلي؛ لأن الوحشي لا يركب.
قوله: "أتدري"، أي : أتعلم.
قوله: "ما حق الله على العباد؟"، أي: ما أوجبه عليهم، وما يجب أن يعاملوه به، وألقاه على معاذ بصيغة السؤال؛ ليكون أشد حضوراً لقلبه حتى يفهم ما يقول - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: "وما حق العباد على الله؟"، أي: ما يجب أن يعاملهم به، والعباد لم يوجبوا شيئاً، بل الله أوجبه على نفسه فضلاً منه على عباده، قال تعالى: { كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم } [الأنعام: 54].
فأوجب سبحانه على نفسه أن يرحم من عمل سوءاً بجهالة؛ أي: بسفه وعدم حسن تصرف ثم تاب من بعد ذلك وأصلح.
ومعنى كتب؛ أي: أوجب.
قوله: "قلت: الله ورسوله أعلم"، لفظ الجلالة الله: مبتدأ، و"رسوله": معطوف عليه، وأعلم: خبر المبتدأ، وأفرد الخبر هنا مع أنه لاثنين؛ لأنه على تقدير: "مِنْ"، واسم التفضيل إذا كان على تقدير: "مِنْ"؛ فإن الأشهر فيه الإفراد والتذكير.
والمعنى: أعلم من غيرهما، وأعلم مني أيضاً.
قوله: "يعبدوه"، أي: يتذللوا له بالطاعة.
قوله: "ولا يشركوا به شيئاً"، أي: في عبادته وما يختص به، وشيئاً نكرة في سياق النفي؛ فتعم كل شيء لا رسولاً ولا ملكاً ولا ولياً ولا غيرهم.
* * *(10/25)
وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً". قلت: يا رسول الله! أفلا أبشر الناس؟ قال: "لا تبشرهم فيتكلوا". أخرجاه في "الصحيحين"(1).
وقوله: "وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً"، وهذا الحق تفضل الله به على عباده، ولم يوجبه عليه أحد، ولا تظن أن قوله: "من لا يشرك به شيئاً" أنه مجرد عن العبادة؛ لأن التقدير: من يعبده ولا يشرك به شيئاً، ولم يذكر قوله: "من يعبده"؛ لأنه مفهوم من قوله: "وحق العباد"، ومن كان وصفه العبودية؛ فلابد أن يكون عابداً.
ومن لم يعبد الله ولم يشرك به شيئاً؛ هل يعذب؟
الجواب: نعم، يعذب؛ لأن الكلام فيه حذف، وتقديره: من يعبده ولا يشرك به شيئاً، ويدل لهذا أمران:
الأول: قوله: "حق العباد"، ومن كان وصفه العبودية؛ فلابد أن يكون عابداً.
الثاني: أن هذا في مقابل قوله فيما تقدم: "أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً"؛ فعلم أن المراد بقوله: "لا يشركوا به شيئاً"؛ أي: في العبادة.
قوله: "أفلا أبشر الناس"، أي: أأسكت فلا أبشر الناس؟ ومثل هذا التركيب: الهمزة ثم حرف العطف ثم الجملة لعلماء النحو فيه قولان:
الأول: أنّ بين الهمزة وحرف العطف محذوفاً يقدر بما يناسب المقام، وتقديره هنا: أأسكت فلا أبشر الناس؟.
الثاني: أنه لا شيء محذوف، لكن هنا تقديم وتأخير، وتقديره: فألا أبشر؟ فالجملة معطوفة على ما سبق، وموضع الفاء سابق على الهمزة؛ فالأصل: فألا أبشر الناس؟ لكن لما كان مثل هذا التركيب ركيكاً، وهمزة الاستفهام لها الصدارة؛ قدمت على حرف العطف، ومثل ذلك قوله تعالى: { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } [الغاشية: 17]، وقوله تعالى: { أفلا تبصرون } [السجدة: 27] وقوله تعالى: { أفلم يسيروا في الأرض } [الحج: 46].
والبشارة: هي الإخبار بما يسر.
__________
(1) البخاري: كتاب الجهاد/باب اسم الفرس والحمار، ومسلم: كتاب الإيمان/باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة.(10/26)
وقد تستعمل في الإخبار بما يضر، ومنه قوله تعالى: { فبشرهم بعذاب أليم } [الانشقاق: 24]، لكن الأكثر الأول.
قوله: "لا تبشرهم"، أي: لا تخبرهم، ولا ناهية.
ومعنى الحديث أن الله لا يعذب من لا يشرك به شيئاً، وأن المعاصي تكون مغفورة بتحقيق التوحيد، ونهى - صلى الله عليه وسلم - عن إخبارهم؛ لئلا يعتمدوا على هذه البشرى دون تحقيق مقتضاها؛ لأن تحقيق التوحيد يستلزم اجتناب المعاصي؛ لأن المعاصي صادرة عن الهوى، وهذا نوع من الشرك، قال تعالى: { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } [الجاثية: 23].
ومناسبة الحديث للترجمة: فضيلة التوحيد، وأنه مانع من عذاب الله.
* * *
* فيه مسائل:
الأولى: الحكمة من خلق الجن والإنس. الثانية: أن العبادة هي التوحيد، لأن الخصومة فيه.
المسائل:
الأولى: الحكمة من خلق الجن والإنس، أخذها رحمه الله من قوله تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [الذاريات: 56]؛ فالحكمة هي عبادة الله لا أن يتمتعوا بالمآكل والمشارب والمناكح.
الثانية: أن العبادة هي التوحيد، أي: أن العبادة مبنية على التوحيد؛ فكل عبادة لا توحيد فيها ليست بعباده، لاسيما أن بعض السلف فسروا قوله تعالى: { إلا ليعبدون } : إلا ليوحدون.
وهذا مطابق تماماً لما استنبطه المؤلف رحمه الله من أن العبادة هي التوحيد؛ فكل عبادة لا تبنى على التوحيد فهي باطلة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري؛ تركته وشركه"(1).
وقوله: "لأن الخصومة فيه"، أي: في التوحيد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقريش؛ فقريش يعبدون الله يطوفون له ويصلون، ولكن على غير الإخلاص والوجه الشرعي؛ فهي كالعدم لعدم الإتيان بالتوحيد، قال تعالى: { وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله } [التوبة: 54].
* * *
__________
(1) مسلم: كتاب الزهد/باب من أشرك في عمله غير الله.(10/27)
الثالثة: أن من لم يأت به، لم يعبد الله، ففيه معنى قوله: { ولا أنتم عابدون ما أعبد } [الكافرون: 3].
الرابعة: الحكمة في إرسال الرسل.
الخامسة: أن الرسالة عمت كل أمة.
وقوله في الثالثة: ففيه معنى قوله: { ولا أنتم عابدون ما أعبد } ، لستم عابدين عبادتي؛ لأن عبادتكم مبنية على الشرك، فليست بعبادة لله تعالى.
الرابعة: الحكمة في إرسال الرسل، أخذها رحمه الله تعالى من قوله تعالى: { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } [النحل: 36].
فالحكمة هي: الدعوة إلى عبادة الله وحده، واجتناب عبادة الطاغوت.
الخامسة: أن الرسالة عمت كل أمة، أخذها من قوله تعال: { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً } [النحل: 36].
* * *
السادسة: أن دين الأنبياء واحد. السابعة: المسألة الكبيرة أن عبادة الله لا تحصل إلى بالكفر بالطاغوت؛ ففيه معنى قوله تعالى: { فمن يكفر بالطاغوت… } [البقرة: 256].
السادسة: أن دين الأنبياء واحد، أخذها من قوله تعالى: { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } ، ومثله قوله تعالى: { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } [الأنبياء: 25]، وهذا لا ينافى قوله تعالى : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } [المائدة: 48]؛ لأن الشرعة العملية تختلف باختلاف الأمم والأماكن والأزمنة، وأما أصل الدين؛ فواحد، قال تعالى: { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } [الشورى: 13].
السابعة: المسالة الكبيرة أن عبادة الله لا تحصل إلا بالكفر بالطاغوت .ودليله قوله تعالى: { واجتنبوا الطاغوت } ، فمن عبَدَ الله ولم يكفر بالطاغوت؛ فليس بموحد، ولهذا جعل المؤلف رحمه الله هذه المسألة كبيرة؛ لأن كثيراً من المسلمين جهلها في زمانه وفي زماننا الآن.
* تنبيه(10/28)
لا يجوز إطلاق الشرك أو الكفر أو اللعن على من فعل شيئاً من ذلك؛ لأن الحكم بذلك في هذه وغيرها له أسباب وله موانع؛ فلا نقول لمن أكل الربا: ملعون؛ لأنه قد يوجد مانع يمنع من حلول اللعنة عليه؛ كالجهل مثلاً، أو الشبهة، وما أشبه ذلك، وكذا الشرك لا نطلقه على من فعل شركاً؛ فقد تكون الحجة ما قامت عليه بسبب تفريط علمائهم، وكذا نقول: من صام رمضان إيماناً واحتساباً؛ غفر له ما تقدم من ذنبه، ولكن لا نحكم بهذا لشخص معين، إذ إن الحكم المعلق على الأوصاف لا ينطبق على الأشخاص إلا بتحقق شروط انطباقه وانتفاء موانعه.
فإذا رأينا شخصاً يتبرز في الطريق؛ فهل نقول له: لعنك الله؟
الجواب: لا، إلا إذا أريد باللعن في قوله: "اتقوا الملاعن"(1) أن الناس أنفسهم يلعنون هذا الشخص ويكرهونه، ويرونه مخلاً بالأدب مؤذياً للمسلمين؛ فهذا شيء أخر.
فدعاء القبر شرك، لكن لا يمكن أن نقول لشخص معين فعله: هذا مشرك؛ حتى نعرف قيام الحجة عليه، أو نقول: هذا مشرك باعتبار ظاهر حاله.
* * *
الثامنة: أن الطاغوت عام في كل ما عبد من دون الله. التاسعة: عظم شأن الثلاث آيات المحكمات في سورة الأنعام عند السلف، وفيها عشر مسائل، أولها النهي عن الشرك.
الثامنة: أن الطاغوت عام في كل ما عبد من دون الله. فكل ما عبد من دون الله، فهو طاغوت، وقد عرّفه ابن القيم: بأنه كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فالمعبود كالصنم، والمتبوع كالعالم، والمطاع كالأمير.
التاسعة: عظم شأن الثلاث آيات المحكمات في سورة الأنعام، المحكمات؛ أي: التي ليس فيها نسخ، أخذ ذلك من قول ابن مسعود رضي الله عنه.
* * *
__________
(1) مسند الإمام أحمد 1/299، سنن أبي داود: كتاب الطهارة/ باب المواضع التي نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن البول فيها، وابن ماجة: كتاب الطهارة/ باب النهي عن الخلاء على قارعة الطريق، والحاكم - وقال: "صحيح"، ووافقه الذهبي(10/29)
العاشرة: الآيات المحكمات في سورة الإسراء، وفيها ثماني عشر مسألةً، بدأها الله بقوله تعالى: { لا تجعل مع الله إلهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولاً } [الإسراء: 22]. وختمها بقوله تعالى: { ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنّم ملوماً مدحوراً } [الإسراء: 39]، ونبهنا الله سبحانه على عظم شأن هذه المسائل بقوله: { ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة } [الإسراء: 39].
العاشرة: الآيات المحكمات في سورة الإسراء. وهي قوله تعالى: { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه } [الإسراء: 23]، وفيها ثماني عشرة مسألة بدأها بقوله تعالى: { لا تجعل مع الله إلهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولاً } ، وختمها بقوله تعالى: { ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراً } .
وقد نبهنا الله - سبحانه - على عظم شأن هذه المسائل بقوله تعالى: { ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة } .
فبدأها الله بالنهي عن الشرك بقوله تعالى: { لا تجعل مع الله إلهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولاً } ، والقاعد ليس قائماً؛ لأنه لا خير لمن أشرك بالله، مذموماً عند الله وعند أوليائه، مخذولاً لا ينتصر في الدنيا ولا في الآخرة.
وختمها بقوله: { ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراً } [الإسراء: 39]، فهذه عقوبته عندما يلقى في النار كلٌّ يلومه ويدحره فيندحر والعياذ بالله.
* * *
الحادية عشرة: آية سورة النساء التي تسمى آية الحقوق العشرة، بدأها الله تعالى بقوله: { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً } [النساء: 36]، الثانية عشرة: التنبيه على وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند موته. الثالثة عشرة: معرفة حق الله علينا.(10/30)
الحادية عشرة: آية سورة النساء التي تسمى آية الحقوق العشرة، بدأها بقوله تعالى: { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً } ، فأحق الحقوق حق الله، ولا تنفع الحقوق إلا بهP فبدئت هذه الحقوق به، ولهذا لما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - حكيم بن حزام عمن كان يتصدق ويعتق ويصل رحمه في الجاهلية هل له من أجر؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أسلمت على ما أسلفت من الخير"(1) ؛ فدل على أنه إذا لم يسلم لم يكن له أجر ، فصارت الحقوق كلها لا تنفع إلا بتحقيق حق الله .
الثانية عشرة :التنبيه على وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند موته . وذلك من حديث ابن مسعود رضى الله عنه(2) ، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوص بها حقيقةً، بل أشار إلى أننا إذا تمسكنا بكتاب الله؛ فلن نضلّ بعده، ومن أعظم ما جاء به كتاب الله قوله تعالى: { قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم } [الأنعام: 151].
الثالثة عشرة: معرفة حق الله علينا. وذلك بأن نعبده ولا نشرك به شيئاً.
* * *
الرابعة عشرة: معرفة حق العباد عليه إذا أدوا حقه. الخامسة عشرة: أن هذه المسألة لا يعرفها أكثر الصحابة. السادسة عشرة: جواز كتمان العلم للمصلحة.
الرابعة عشرة: معرفة حق العباد عليه إذا أدوا حقّه. وذلك بأن لا يعذّب من لا يشرك به شيئاً، أما من أشرك؛ فإنه حقيقٌ أن يعذّب.
الخامسة عشرة: أن هذه المسألة لا يعرفها أكثر الصحابة. وذلك أن معاذاً أخبر بها تأثماً، أي خروجاً من إثم الكتمان عند موته بعد أن مات كثيرٌ من الصحابة؛ وكأنه رضي الله عنه علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخشى أن يفتتن الناس بها ويتكلوا، ولم يرد - صلى الله عليه وسلم - كتمها مطلقاً؛ لأنه لو أراد ذلك لم يخبر بها معاذاً ولا غيره.
__________
(1) البخاري: كتاب الأدب/ باب شراء من وصل رحمه في الشرك ثم أسلم، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده.
(2) سبق تخريجه (ص 18)(10/31)
السادسة عشرة: جواز كتمان العلم للمصلحة. هذه ليست على إطلاقها؛ إذ إن كتمان العلم على سبيل الإطلاق لا يجوز لأنه ليس بمصلحة، ولهذا أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذاً ولم يكتم ذلك مطلقاً، وأما كتمان العلم في بعض الأحوال، أو عن بعض الأشخاص لا على سبيل الإطلاق؛ فجائزٌ للمصلحة؛ كما كتم النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك عن بقية الصحابة خشية أن يتّكلوا عليه، وقال لمعاذ: "لا تبشّرهم فيتّكلوا"(1).
ونظير هذا الحديث قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة: "بشّر الناس أن من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنّة(2)"
بل قد تقتضي المصلحة ترك العمل؛ وإن كان فيه مصلحة لرجحان مصلحة الترك، كما هم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يهدم الكعبة ويبنيها على قواعد إبراهيم، ولكن ترك ذلك خشية افتتان الناس، لأنهم حديثو عهد بكفرٍ(3).
* * *
السابعة عشرة: استحباب بشارة المسلم بما يسرّه. الثامنة عشرة: الخوف من الاتكال على سعة رحمة الله.
السابعة عشرة: استجاب بشارة المسلم بما يسره. لقوله: "أفلا أبشّر الناس؟"، وهذه من أحسن الفوائد.
الثامنة عشرة: الخوف من الاتّكال على سعة رحمة الله. وذلك لقوله: "لا تبشّرهم فيتكلوا"، لأن الاتّكال على رحمة الله يسبب مفسدة عظيمة هي الأمن من مكر الله.
وكذلك القنوط من رحمة الله يبعد الإنسان من التوبة ويسبب اليأس من رحمة الله، ولهذا قال الإمام أحمد: "ينبغي أن يكون سائراً إلى الله بين الخوف والرجاء؛ فأيهما غلب هلك صاحبه" فإذا غلب الرجاء أدى ذلك إلى الأمن من مكر الله، وإذا غلب الخوف أدى ذلك إلى القنوط من رحمة الله.
__________
(1) سبق تخريجه (ص20)
(2) مسلم: كتاب الإيمان/باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة.
(3) البخاري: كتاب العلم/ باب ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه، ومسلم: كتاب الحج/باب نقض الكعبة.(10/32)
وقال بعض العلماء: إن كان مريضاً غلّب جانب الرجاء، وإن كان صحيحاً غلّب جانب الخوف.
وقال بعض العلماء: إذا نظر إلى رحمة الله وفضله غلّب جانب الرّجاء، وإذا نظر إلى فعله وعمله غلب جانب الخوف لتحصل التوبة.
ويستدلون بقوله تعالى: { والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة } [المؤمنون: 60]؛ أي: خائفة أن لا يكون تقبّل منهم لتقصير أو قصور، وهذا القول جيد، وقيل: يغلب الرجاء عند فعل الطاعة ليحسن الظن بالله، ويغلب جانب الخوف إذا هم بالمعصية لئلا ينتهك حرمات الله.
وفي قوله: "أفلا أبشّر الناس؟"(1) دليل على أن التبشير مطلوب فيما يسرّ من أمر الدين
والدنيا ، ولذلك بشّرت الملائكة إبراهيم ، قال تعالى : { وبشّروه بغلام عليم } [الذريات: 28] ، وهو إسحاق، والحليم إسماعيل، وبشّر النبي - صلى الله عليه وسلم - أهله بابنه إبراهيم، فقال: "ولد لي الليلة ولد سميته باسم أبي إبراهيم"(2)؛ فيؤخذ منه أنه ينبغي للإنسان إدخال السرور على إخوانه المسلمين ما أمكن بالقول أو بالفعل؛ ليحصل له بذلك خيرٌ كثيرٌ وراحة وطمأنينة قلب وانشراح صدر.
وعليه، فلا ينبغي أن يدخل السوء على المسلم، ولهذا يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحدثني أحدٌ عن أحد بشيء، فإني أحبّ أن أخرج إليكم وأنا سليم الصّدر"(3)
وهذا الحديث فيه ضعفٌ، لكن معناه صحيح؛ لأنه إذا ذكر عندك رجلٌ بسوءٍ؛ فسيكون في قلبك عليه شيءٌ ولو أحسن معاملتك، لكن إذا كنت تعامله وأنت لا تعلم عن سيئاته، ولا محذور في أن تتعامل معه؛ كان هذا طيباً، وربما يقبل منك النصيحة أكثر، والنفوس ينفر بعضها من بعضٍ قبل الأجسام، وهذه مسائل دقيقةٌ تظهر للعاقل بالتأمّل.
__________
(1) سبق تخريجه (ص 34)
(2) مسلم: كتاب الفضائل/باب رحمته - صلى الله عليه وسلم - الصبيان والعيال.
(3) مسند الإمام أحمد 1/396، وقال أحمد شاكر: إسناده حسن على الأقل. وسنن أبي داود: كتاب الأدب/باب في رفع الحديث من المجلس، - وسكت عنه - .(10/33)
* * *
التاسعة عشرة: قول المسؤول عما لا يعلم: الله ورسوله أعلم.
التاسعة عشرة: قول المسؤول عما لا يعلم: الله ورسوله أعلم، وذلك لإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم -معاذاً لما قالها، ولم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على معاذٍ، حيث عطف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الله بالواو، وأنكر على من قال: "ما شاء الله وشئت"، وقال: "أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده"(1)
فيُقال: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنده من العلوم الشرعية ما ليس عند القائل، ولهذا لم ينكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - على معاذ.
بخلاف العلوم الكونية القدرية؛ فالرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس عنده علم منها.
فلو قيل: هل يحرم صوم العيدين؟
جاز أن نقول: الله ورسوله أعلم، ولهذا كان الصحابة إذا أشكلت عليهم المسائل ذهبوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيبينها لهم، ولو قيل: هل يتوقع نزول مطر في هذا الشهر؟ لم يجز أن نقول: الله ورسوله أعلم، لأنه من العلوم الكونية.
* * *
العشرون: جواز تخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض. الحادية والعشرون: تواضعه - صلى الله عليه وسلم - لركوب الحمار مع الإرداف عليه. الثانية والعشرون: جواز الأرداف على الدابة.
العشرون: جواز تخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض. وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خص هذا العلم بمعاذ دون أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
__________
(1) مسند الإمام أحمد (1/214)، وابن ماجة: كتاب الكفارات/باب النهي أن يقال: ما شاء الله وشئت، وقال أحمد شاكر، إسناده صحيح (1839).(10/34)
فيجوز أن نخصص بعض الناس بالعلم دون بعض، حيث أن بعض الناس لو أخبرته بشيء من العلم افتتن، قال ابن مسعود: "إنك لن تحدث قوماً بحدث لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة"(1)، وقال علي: "حدثوا الناس بما يعرفون"(2)، فيحدث كل أحد حسب مقدرته وفهمه وعقله.
الحادية والعشرون: تواضعه - صلى الله عليه وسلم - لكروب الحمار مع الإرداف عليه. النبي - صلى الله عليه وسلم - أشرف الخلق جاهاً، ومع ذلك هو أشد الناس تواضعاً. حيث ركب الحمار وأردف عليه، وهذا في غاية التواضع؛ إذ إن عادة الكبراء عدم الإرداف، وركب - صلى الله عليه وسلم - الحمار، ولو شاء لركب ما أراد، ولا منقصة في ذلك؛ إذ إن من توضع لله – عز وجل – رفعه.
الثانية والعشرون: جواز الإرداف على الدابة. وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أردف معاذاً، لكن يشترط للإرداف أن لا يشق على الدابة، فإن شق؛ لم يجز ذلك.
* * *
الثالثة والعشرون: عظم شأن هذه المسألة. الرابعة والعشرون: فضيلة معاذ بن جبل.
الثالثة والعشرون: عظم شأن هذه المسألة. حيث أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذاً، وجعلها من الأمور التي يبشر بها.
الرابعة والعشرون: فضيلة معاذ رضي الله عنه. وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خصه بهذا العلم، وأردفه معه على الحمار.
باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب
سبق أن ذكر المؤلف كتاب التوحيد؛ أي: وجوب التوحيد، وأنه لا بد منه، وأن معنى قوله تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [الذاريات: 56]: أن العبادة لا تصح إلا بالتوحيد.
وهنا ذكر المؤلف فضل التوحيد، ولا يلزم من ثبوت الفضل للشيء أن يكون غير واجب، بل الفضل من نتائجه وآثاره.
__________
(1) رواه: مسلم: المقدمة/ باب النهي عن الحديث بكل ما سمع.
(2) البخاري: كتاب العلم/ باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا.(10/35)
ومن ذلك صلاة الجماعة ثبت فضلها بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة". متفق عليه(1).
ولا يلزم من ثبوت الفضل فيها أن تكون غير واجبة؛ إذ إن التوحيد أوجب الواجبات، ولا تقبل الأعمال إلا به، ولا يتقرب العبد إلى ربه إلا به، ومع ذلك؛ ففيه فضل.
قوله: "وما يكفر من الذنوب". معطوف على "فضل"؛ فيكون المعنى: باب فضل التوحيد، وباب ما يكفر من الذنوب، وعلى هذا؛ فالعائد محذوف والتقدير ما يكفره من الذنوب، وعقد هذا الباب لأمرين:
الأول: بيان فضل التوحيد.
الثاني: بيان ما يكفره من الذنوب، لأن من آثار فضل التوحيد تكفير الذنوب.
فمن فوائد التوحيد:
1- أنه أكبر دعامة للرغبة في الطاعة؛ لأن الموحد يعمل لله – سبحانه وتعالى - ؛ وعليه، فهو يعمل سراً وعلانية، أما غير الموحد؛ كالمرائي مثلاً، فإنه يتصدق ويصلى، ويذكر الله إذا كان عنده من يراه فقط، ولهذا قال بعض السلف: "إني لأود أن أتقرب إلى الله بطاعة لا يعلمها إلا هو".
2- أن الموحدين لهم الأمن وهم مهتدون؛ كما قال تعالى: { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } [الأنعام: 82].
* * *
وقول الله تعالى: { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } الآية [الأنعام: 82].
قوله: { لم يلبسوا } ، أي: يخلطوا.
قوله: { بظلمٍ } ، الظلم هنا ما يقابل الإيمان، وهو الشرك، ولما نزلت هذه الآية شق ذلك على الصحابة، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليس الأمر كما تظنون، إنما المراد به الشرك، ألم تسمعوا إلى قول الرجل الصالح – يعني لقمان - : { إن الشرك لظلمٌ عظيم } "(2).
* والظلم أنواع:
__________
(1) البخاري: كتاب الجماعة والإمامة/ باب فضل صلاة الجماعة، ومسلم: كتاب المساجد/ باب فضل صلاة الجماعة.
(2) البخاري: كتاب الإيمان/ باب ظلم دون ظلم، مسلم: كتاب الإيمان/ باب صدق الإيمان وإخلاصه.(10/36)
أظلم الظلم، وهو الشرك في حق الله.
ظلم الإنسان نفسه؛ فلا يعطيها حقها، مثل أن يصوم فلا يفطر، ويقوم فلا ينام.
ظلم الإنسان غيره، مثل أن يتعدى على شخص بالضرب، أو القتل، أو أخذ مال، أو ما أشبه ذلك.
وإذا انتفى الظلم، حصل الأمن، لكن هل هو أمنٌ كامل؟
الجواب: أنه إن كان الإيمان كاملاً لم يخالطه معصيةٌ؛ فالأمن أمنٌ مطلق، أي كامل، وإذا كان الإيمان مطلق إيمانٍ - غير كامل ـ؛ فله مطلق الأمن؛ أي: أمن ناقص.
مثال ذلك: مرتكب الكبيرة، أمنٌ من الخلود في النار، وغير آمن من العذاب، بل هو تحت المشيئة، قال الله تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [النساء: 116].
وهذه الآية قالها الله تعالى حكماً بين إبراهيم وقومه حين قال لهم: { وكيف أخاف ما أشركتم... } إلى قوله: { إن كنتم تعلمون } [الأنعام: 81،82]؛ فقال الله تعالى: { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم… } الآية [الأنعام: 82]، على أنه قد يقول قائلٌ: إنها من كلام إبراهيم ليبين لقومه، ولهذا قال بعدها: { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } [ الأنعام 83].
قوله: { الأمن } ، أل فيها للجنس، ولهذا فسرنا الأمن بأنه إما أمن مطلق، وإما مطلق أمن حسب الظلم الذي تلبس به.
قوله: { وهم مهتدون } ، أي: في الدنيا إلى شرع الله بالعلم والعمل؛ فالاهتداء بالعلم هداية الإرشاد كما قال الله تعالى في أصحاب الجحيم: { احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم } [الصافات: 42].
والاهتداء بالعمل: هداية توفيق، وهم مهتدون في الآخرة إلى الجنة.
فهذه هداية الآخرة، وهي للذين ظلموا إلى صراط الجحيم؛ فيكون مقابلها أن الذين آمنوا ولم يظلموا يهدون إلى صراط النعيم.(10/37)
وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى: { أولئك لهم الأمن } : إن الأمن في الآخرة، والهداية في الدنيا، والصواب أنها عامةٌ بالنسبة للأمن والهداية في الدنيا والآخرة.
مناسبة الآية للترجمة:
أن الله أثبت الأمن لمن لم يشرك ، والذي لم يشرك يكون موحدا ؛ فدل على أن من فضائل التوحيد استقرار الأمن.
* * *
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل" أخرجاه(1).
قوله: "من شهد أن لا اله إلا الله" ، الشهادة لا تكون إلا عن علم سابق ، قال تعالى: { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } [الزخرف: 86]، وهذا العلم قد يكون مكتسباً وقد يكون غريزياً.
فالعلم بأنه لا إله إلا الله غريزيٌ، قال - صلى الله عليه وسلم -: "كل مولودٍ يولد على الفطرة"(2). وقد يكون مكتسباً، وذلك بتدبر آيات الله، والتفكر فيها.
ولابد أن يوجد العلم بلا إله إلا الله ثم الشهادة بها.
قوله: { أنْ } ، مخففة من الثقيلة، والنطق بأن مشددة خطأٌ، لأن المشددة لا يمكن حذف اسمها، والمخفّفة يمكن حذفه.
قوله: { لا إله } ، أي: لا مألوه، وليس بمعنى لا آله، والمألوه: هو المعبود محبةً وتعظيماُ، تحبه وتعظمه لما تعلم من صفاته العظيمة وأفعاله الجليلة.
قوله: { إلا الله } ، أي: لا مألوه إلا الله، ولهذا حكي عن قريش قولهم: { أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيءٌ عجابٌ } [ص: 5].
__________
(1) البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء/ باب قوله تعالى: { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم } ، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة.
(2) البخاري: كتاب الجنائز/ باب ما قيل في أولاد المشركين، ومسلم: كتاب القدر/ باب معنى كل مولود يولد على الفطرة.(10/38)
أما قوله تعالى: { فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء } [هود: 101]، فهذا التأله باطل؛ لأنه بغير حق، فهو منفيٌ شرعاً، وإذا انتفى شرعاً؛ فهو كالمنتفي وقوعاً؛ فلا قرار له، { ومثل كلمة خبيثة كشجرةٍ خبيثةٍ اجتثت من فوق الأرض ما لها قرار } [إبراهيم: 26].
وبهذا يحصل الجمع بين قوله تعالى: { فما أغنت عنهم آلهتهم } [هود: 101]، وقوله تعالى حكايةً عن قريش: { أجعل الآلهة إلهاً واحداً } [ص: 5]، وبين قوله تعالى: { وما من إله إلا الله } [آل عمران: 62]؛ فهذه الآلهة مجرد أسماء لا معاني لها ولا حقيقة؛ إذ هي باطلة شرعاً، لا تستحق أن تسمى آلهة؛ لأنها لا تنفع ولا تضر، ولا تخلق ولا ترزق؛ كما قال تعالى: { ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } [يوسف: 40].
* التوحيد عند المتكلمين:
يقولون: إن معنى إله: آله، والآله: القادر على الاختراع؛ فيكون معنى لا إله إلا الله: لا قادر على الاختراع إلا الله.
والتوحيد عندهم: أن توحد الله، فتقول: هو واحد في ذاته، لا قسيم له، وواحد في أفعاله لا شريك له، وواحد في صفاته لا شبيه له، ولو كان هذا معنى لا إله إلا الله؛ لما أنكرت قريش على النبي - صلى الله عليه وسلم - دعوته ولآمنت به وصدقت؛ لأن قريشاً تقول: لا خالق إلا الله، ولا خالق أبلغ من كلمة لا قادر، لأن القادر قد يفعل وقد لا يفعل، أما الخالق؛ فقد فعل وحقق بقدرة منه، فصار فهم المشركين خيراً من فهم هؤلاء المتكلمين والمنتسبين للإسلام؛ فالتوحيد الذي جاءت به الرسل في قوله تعالى: { ما لكم من إله غيره } [الأعراف: 59]؛ أي من إله حقيقي يستحق أن يعبد، وهو الله.(10/39)
ومن المؤسف أنه يوجد كثير من الكتاب الآن الذين يكتبون في هذه الأبواب تجدهم عندما يتكلمون على التوحيد لا يقررون أكثر من توحيد الربوبية، وهذا غلط ونقص عظيم، ويجب أن نغرس في قلوب المسلمين توحيد الألوهية أكثر من توحيد الربوبية، لأن توحيد الربوبية لم ينكره أحد إنكاراً حقيقياً، فكوننا لا نقرر إلا هذا الأمر الفطري المعلوم بالعقل، ونسكت عن الأمر الذي يغلب فيه الهوى هو نقص عظيم، فعبادة غير الله هي التي يسيطر فيها هوى الإنسان على نفسه حتى يصرفه عن عبادة الله وحده، فيعبد الأولياء ويعبد هواه، حتى جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي همه الدرهم والدينار ونحوهما عابداً (1)، وقال الله - عز وجل ـ: { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } [الجاثية: 23].
فالمعاصي من حيث المعنى العام أو الجنس العام يمكن أن نعتبرها من الشرك. وأما بالمعنى الأخص؛ فتنقسم إلى أنواع:
شرك أكبر.
شرك أصغر.
معصية كبيرة.
معصية صغيرة.
وهذه المعاصي منها ما يتعلق بحق الله، ومنها ما يتعلق بحق الإنسان نفسه، ومنها ما يتعلق بحق الخلق.
وتحقيق لا إله إلا الله أمر في غاية الصعوبة، ولهذا قال بعض السلف: "كل معصية، فهي نوع من الشرك".
وقال بعض السلف: "ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص"، ولا يعرف هذا إلا المؤمن، أما غير المؤمن؛ فلا يجاهد نفسه على الإخلاص، ولهذا قيل لابن عباس: "إنّ اليهود يقولون: نحن لا نوسوس في الصلاة. قال: فما يصنع الشيطان بقلبٍ خرب؟!"؛ فالشيطان لا يأتي ليخرّب المهدوم، ولكن يأتي ليخرّب المعمور، ولهذا لما شُكي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الرجل يجد في نفسه ما يستعظم أن يتكلم به؛ قال: "وجدتم ذلك؟". قالوا: نعم.
قال: "ذاك صريح الإيمان"(2)؛ أي: أن ذاك هو العلامة البينة على أنّ إيمانكم صريح لأنّه ورد عليه، ولا يرد إلا على قلب صحيح خالص.
__________
(1) سبق تخريجه (ص 23).
(2) مسلم: كتاب الإيمان/ باب الوسوسة في الإيمان.(10/40)
قوله: "من شهد أن لا إله إلا الله"، من: شرطية، وجواب الشرط: "أدخله الله الجنة على ما كان من العمل".
والشهادة: هي الاعتراف باللسان، والاعتقاد بالقلب، والتصديق بالجوارح، ولهذا لما قال المنافقون للرسول - صلى الله عليه وسلم -: { نشهد إنّك لرسول الله } [المنافقون: 1] وهذه جملة مؤكدة بثلاث مؤكدات: الشهادة، وإن، واللام، كذبهم الله بقوله: { والله يعلم إنّك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } [المنافقون: 1]؛ فلم ينفعهم هذا الإقرار باللسان لأنه خالٍ من الاعتقاد بالقلب، وخالٍ من التصديق بالعمل، فلم ينفع؛ فلا تتحقق الشهادة إلا بعقيدة في القلب، واعتراف باللسان، وتصديق بالعمل.
وقوله: "لا إله إلا الله"، أي: لا معبود على وجه يستحق أن يعبد إلا الله، وهذه الأصنام التي تعبد لا تستحق العبادة؛ لأنه ليس فيها من خصائص الألوهية شيء.
قوله: { وحده لا شريك له } ، وحده: توكيد للإثبات، لا شريك له: توكيد للنفي في كل ما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره من المؤمنين يلجؤون إلى الله تعالى عند الشدائد؛ فقد جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده أصحابه، وقد علق سيفه على شجرة فاخترطه الأعرابي، وقال: من يمنعك مني؟ قال: "يمنعني الله"(1)، ولم يقل أصحابي، وهذا هو تحقيق توحيد الربوبية؛ لأن الله هو الذين يملك النفع، والضر، والخلق، والتدبير، والتصرف في الملك؛ إذ لا شريك له فيما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
وقولنا فيما يختص به حتى نسلم من شبهات كثيرة، منها شبهات النّافين للصفات؛ لأن النّافين للصفات زعموا أن إثبات الصفات إشراك بالله - عز وجل ـ، حيث قالوا: يلزم من ذلك التمثيل، لكننا نقول: للخالق صفات تختص به، وللمخلوق صفات تختص به.
__________
(1) البخاري: كتاب المغازي/ باب غزوة ذات الرقاع، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين/ باب صلاة الخوف.(10/41)
قوله: "وأنّ محمداً"، محمد: هو محمد بن عبدالله بن عبد المطلب، القرشي، الهاشمي، خاتم النبيين.
وقوله: "عبده"؛ أي: ليس شريكاً مع الله.
وقوله: "ورسوله"؛ أي: المبعوث بما أوحى إليه، فليس كاذباً على الله.
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - عبدٌ مربوب، جميع خصائص البشرية تلحقه ما عدا شيئاً واحداً، وهو ما يعود إلى أسافل الأخلاق؛ فهو منزه معصوم منه، قال تعالى: { قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله } [الإعراف: 188]، وقال تعالى: { قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً. قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً } [الجن: 21،22].
فهو بشر مثلنا؛ إلا أنه يوحى إليه، قال تعال: { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم إله واحد } [فصلت: 6].
ومن قال: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس له ظل، أو أن نوره يطفئ ظله إذا مشى في الشمس؛ فكله كذب باطل، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: "كنت أمد رجلي بين يديه، وتعتذر بأن البيوت ليس فيها مصابيح"، فلو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - له نور؛ لم تعتذر رضي الله عنها، ولكنه الغلو الذي أفسد الدين والدنيا، والعياذ بالله.
ومن الغلو قول البوصيري في "البردة" المشهورة:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
إن لم تكن آخذاً يوم المعاد يدي
فإن من جودك الدنيا وضرتها
سواك عند حلول الحادث العمم
فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
ومن علومك علم اللوح والقلم
قال ابن رجب وغيره: إنه لم يترك لله شيئاً ما دامت الدنيا والآخرة من جود الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ونشهد أن من يقول هذا؛ ما شهد أن محمداً عبدالله، بل شهد أن محمداً فوق الله! كيف يصل بهم الغلو إلى هذا الحد؟!
وهذا الغلو فوق غلو النصارى الذين قالوا: إن المسيح ابن الله، وقالوا: إن الله ثالث ثلاثة.(10/42)
هم قالوا فوق ذلك، قالوا: إن الله يقول: "من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وأنا مع عبدي إذا ذكرني"(1)، والرسول معنا إذا ذكرناه، ولهذا كان أولئك الغلاة ليلة المولد إذا تلى التالي "المخرّف" كلمة المصطفى قاموا جميعاً قيام رجل واحد، يقولون: لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حضر مجلسنا بنفسه، فقمنا إجلالاً له، والصحابة رضي الله عنهم أشدّ إجلالاً منهم ومنا، ومع ذلك إذا دخل عليهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو حيٌ يكلمهم لا يقومون له، وهؤلاء يقومون إذا تخيلوا أو جاءهم شبح إن كانوا يشاهدون شيئاً، فانظر كيف بلغت بهم عقولهم إلى هذا الحد! فهؤلاء ما شهدوا أن محمداً عبدالله ورسوله، وهؤلاء المخرفون مساكين، إن نظرنا غليهم بعين القدر؛ فنرق لهم، ونسأل الله لهم السلامة والعافية، وإن نظرنا إليهم بعين الشرع؛ فإننا يجب أن ننابذهم بالحجة حتى يعودوا إلى الصراط المستقيم، والرسول - صلى الله عليه وسلم - أشد الناس عبودية لله، أخشاهم لله، واتقاهم لله، قام يصلي حتى تورمت قدماه، وقيل له في ذلك؛ فقال: "أفلا أكون عبداً شكوراً"(2)، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، هذا تحقيق العبادة العظيمة.
__________
(1) البخاري: كتاب التوحيد/ باب قول الله تعالى: { ويحذركم الله نفسه } ، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء/ باب الحث على ذكر الله تعالى.
(2) البخاري: كتاب التهجد/ باب قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى تورم قدماه، ومسلم: كتاب صفات المنافقين/ باب إكثار الأعمال.(10/43)
أما الرسالة؛ فهو رسول أرسله الله – عزوجل – بأعظم شريعة إلى جميع الخلق، فبلغها غاية البلاغ، مع أنه أوذي وقوتل، حتى إنهم جاؤوا بسلا الجزور وهو ساجد عند الكعبة ووضعوه على ظهره، كل ذلك كراهيةً له ولما جاء به، ومع ذلك صبر، يلقون الأذى والأنتان والأقذار على عتبة بابه، لكن هذا للنبي الكريم امتحان من الله – عز وجل ـ؛ لأجل أن يتبين صبره وفضله، يخرج ويقول: "أي جوار هذا يا بني عبد مناف؟"(1)، فصبر - صلى الله عليه وسلم -؛ حتى فتح الله عليه، وأنذر أم القرى ومن حولها، ثم إنه حمل هذه الشريعة من بعده أشد الناس أمانةً وأقواهم على الاتباع؛ الصحابة رضي الله عنهم، وأدوها إلى الأمة نقيّة سليمة، ولله الحمد.
ونحب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لله وفي الله؛ فحب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من حبّ الله، ونقدمه على أنفسنا وأهلنا وأولادنا والناس أجمعين، وأحببناه من أجل أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ونحقق شهادة أن محمداً رسول الله، وذلك بأن نعتقد ذلك بقلوبنا، ونعترف به بألسنتنا، ونطبق ذلك في متابعته - صلى الله عليه وسلم - بجوار حنا، فنعمل بهديه، ولا نعمل له.
أما ما ينقض تحقيق هذه الشهادة، فهو:
فعل المعاصي؛ فالمعصية نقص في تحقيق هذه الشهادة؛ لأنك خرجت بمعصيتك من اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الابتداع في الدين ما ليس منه؛ لأنك تقربت إلى الله بما لم يشرعه الله ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والابتداع في الدين في الحقيقة من الاستهزاء بالله، لأنك تقرّبت إليه بشيء لم يشرعه.
فإن قال قائل: أنا نويت التقرب إلى الله بهذا العمل الذي أبتدعه.
قيل له: أنت أخطأت الطريق؛ فتعذر على نيتك، ولا تعذر على مخالفة الطريق متى علمت الحق.
__________
(1) ذكره ابن هشام في "السيرة النبوية" (2/416)، وابن كثير في "البداية والنهاية"(3/133).(10/44)
فالمبتدعون قد يقال: إنهم يثابون على حسن نيتهم إذا كانوا لا يعلمون الحق، ولكننا نخطّئهم فيما ذهبوا إليه، أما أئمتهم الذين علموا الحق، ولكن ردّوه ليبقوا جاههم؛ ففيهم شبه بأبي جهل، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن المغيرة، وغيرهم الذين قابلوا رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرد إبقاءً على رئاستهم وجاههم.
أما بالنسبة لأتباع هؤلاء الأئمة؛ فينقسمون إلى قسمين:
القسم الأول: الذين جهلوا الحق، فلم يعلموا عنه شيئاً، ولم يحصل منهم تقصير في طلبه، حيث ظنّوا أن ما هم عليه هو الحق؛ فهؤلاء معذورون.
القسم الثاني: من علموا الحق، ولكنهم ردّوه تعصّباً لأئمتهم؛ فهؤلاء لا يعذرون، وهم كمن قال الله فيهم: { إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنّا على آثارهم مهتدون } [الزخرف: 22].
قوله: "وإن عيسى عبدالله ورسوله"، الكلام فيها كالكلام في شهادة أن محمداً رسول الله، إلا أننا نؤمن برسالة عيسى، ولا يلزمنا اتباعه إذا خالفت شريعته شريعتنا.
فشريعة من قبلنا لها ثلاث حالات:
الأولى: أن تكون مخالفة لشريعتنا؛ فالعمل على شرعنا.
الثانية: أن تكون موافقة لشريعتنا؛ فنحن متبعون لشريعتنا.
الثالثة: أن يكون مسكوتاً عنها في شريعتنا، وفى هذه الحال اختلف علماء الأصول: هل نعمل بها، أو ندعها؟
والصحيح أنها شرع لنا، ودليل ذلك:
قوله تعالى: { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } [الأنعام: 90].
قوله تعالى: { لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب } [يوسف: 111].
وقد تطرّف في عيسى طائفتان:
الأولى: اليهود كذبوه، فقالوا: بأنه ولد زنى، وأنّ أمه من البغايا، وأنه ليس بنبي، وقتلوه شرعاً؛ أي: محكوم عليهم عند الله أنهم قتلوه في حكم الله الشرعي؛ لقوله تعالى عنهم: { إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم } [النساء: 157]، وأما بالنسبة لحكم الله القدري؛ فقد كذبوا، وما قتلوه يقيناً، بل رفعه الله إليه، ولكن شبه لهم، فقتلوا المشبّه لهم وصلبوه.(10/45)
الثانية: النصارى قالوا: إنه ابن الله، وإنه ثالث ثلاثة، وجعلوه إلهاً مع الله، وكذبوا فيما قالوا.
أما عقيدتنا نحن فيه: فنشهد أنه عبد الله ورسوله، وأن أمه صديقة؛ كما أخبر الله تعالى بذلك، وأنها أحصنت فرجها، وأنّها عذراء، ولكن مثله عند الله كمثل آدم، خلقه من تراب ثم قال له: كن؛ فيكون.
وفي قوله: "عبدالله"، رد على النصارى.
وفي قوله: "ورسوله"، رد على اليهود.
قوله: "وكلمته ألقاها إلى مريم"، أطلق الله عليه كلمة؛ لأنه خلق بالكلمة عليه السلام؛ فالحديث ليس على ظاهره؛ إذ عيسى عليه السلام ليس كلمة؛ لأنه يأكل، ويشرب، ويبول، ويتغوط، وتجري عليه جميع الأحوال البشرية، قال الله تعالى: { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } [آل عمران: 59].
وعيسى عليه السلام ليس كلمة الله؛ إذ إن كلام الله وصف قائم به، لا بائن منه، أما عيسى؛ فهو ذات بائنة عن الله – سبحانه - ، يذهب ويجيء، ويأكل الطعام ويشرب.
قوله: "ألقاها إلى مريم"، أي: وجّهها إليها بقوله: { كن فيكون } ؛ كما قال تعالى: { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } [آل عمران: 59].
ومريم ابنة عمران ليست أخت موسى وهارون عليهما السلام كما يظنه بعض الناس، ولكن كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم(1)، فهارون أخو مريم، ليس هارون أخا موسى، بل هو آخر يسمى باسمه، وكذلك عمران سمي باسم أبي موسى.
قوله: "وروح منه"، أي: صار جسده عليه السلام بالكلمة، فنفخت فيه هذه الروح التي هي من الله؛ أي: خلق من مخلوقاته أضيفت إليه تعالى للتشريف والتكريم.
وعيسى عليه السلام ليس روحاً، بل جسد ذو روح، قال الله تعالى: { ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام } [المائدة: 75].
__________
(1) مسلم: كتاب الآداب/ باب النهي عن التكني بأبي القاسم وما يستحب من الأسماء.(10/46)
فبالنفخ صار جسداً، وبالروح صار جسداً وروحاً.
قوله: "منه"، هذه هي التي أضلّت النصارى، فظنوا أنه جزء من الله، فضلوا وأضلوا كثيراً، ولكننا نقول: إن الله قد أعمى بصائركم؛ فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور؛ فمن المعلوم أن عيسى عليه السلام كان يأكل الطعام، وهذا شيء معروف، ومن المعلوم أيضاً أن اليهود يقولون: إنهم صلبوه، وهل يمكن لمن كان جزءاً من الرب أن ينفصل عن الرب ويأكل ويشرب ويدّعى أنه قتل وصلب؟
وعلى هذا تكون "من" للابتداء، وليس للتبعيض؛ فهي كقوله تعالى: { وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه } [الجاثية: 13]؛ فلا يمكن أن نقول: إن الشمس والقمر والأنهار جزء من الله، وهذا لم يقل به أحد.
فقوله: "منه"؛ أي: روح صادرة من الله – عز وجل ـ، وليست جزءً من الله كما تزعم النصارى.
وأعلم أن ما أضافه الله إلى نفسه ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: العين القائمة بنفسها، وإضافتها إليه من باب إضافة المخلوق إلى خالقه، وهذه الإضافة قد تكون على سبيل عموم الخلق؛ كقوله تعالى: { وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه } [الجاثية: 13]، وقوله تعالى: { إن أرضي واسعة } [العنكبوت: 56].
وقد تكون على سبيل الخصوص لشرفه، كقوله تعالى: { وطهر بيتي للطائفين } [الحج: 26]، وكقوله تعالى: { ناقة الله وسقياها } [الشمس: 13]، وهذا القسم مخلوق.
الثاني: أن يكون شيئاً مضافاً إلى عين مخلوقة يقوم بها، مثاله قوله تعالى: { وروح منه } [النساء: 171]؛ فإضافة هذه الروح إلى الله من باب إضافة المخلوق إلى خالقه تشريفاً؛ فهي روح من الأرواح التي خلقها الله، وليست جزءً أو روحاً من الله؛ إذ أنّ هذه الروح حلت في عيسى عليه السلام، وهو عين منفصلة عن الله، وهذا القسم مخلوق أيضاً.(10/47)
الثالث: أن يكون وصفاً غير مضاف إلى عين مخلوقة، مثال ذلك قوله تعالى: { إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي } [الأعراف: 144]، فالرسالة والكلام أضيفا إلى الله من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، فإذا أضاف الله لنفسه صفة؛ فهذه الصفة غير مخلوقة، وبهذا يتبين أن هذه الأقسام الثلاثة: قسمان منها مخلوقان، وقسم غير مخلوق.
فالأعيان القائمة بنفسها والمتصل بهذه الأعيان مخلوقة، والوصف الذي لم يذكر له عين يقوم بها غير مخلوق؛ لأنه يكون من صفات الله، وصفات الله غير مخلوقة.
وقد اجتمع القسمان في قوله: "كلمته، وروح منه"؛ فكلمته هذه وصف مضاف إلى الله، وعلى هذا، فتكون كلمته صفة من صفات الله.
وروح منه: هذه أضيفت إلى عين، لأن الروح حلت في عيسى، فهي مخلوقة.
قوله: "أدخله الله الجنة" إدخال الجنة ينقسم إلى قسمين:
الأول: إدخال كامل لم يسبق بعذاب لمن أتمّ العمل.
الثاني: إدخال ناقص مسبوق بعذاب لمن نقص العمل.
فالمؤمن إذا غلبت سيئاته حسناته إن شاء الله عذّبه بقدر عمله، وإن شاء لم يعذّبه، قال الله تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [النساء: 116].
* * *
ولهما (1) في حديث عتبان: فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله؛ يبتغي بذلك وجه الله.
__________
(1) البخاري: كتاب الصلاة/ باب المساجد في البيوت، ومسلم: كتاب المساجد/ باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر.(10/48)
قوله: "عتبان"، هو عتبان بن مالك الأنصاري رضي الله عنه، كان يصلي بقومه، فضعف بصره، وشق عليه الذهاب إليهم، فطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخرج إليه وأن يصلي في مكان من بيته ليتخذه مصلى، فخرج إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه طائفة من أصحابه، منهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما دخل البيت، قال: "أين تريد أن أصلي؟". قال: صل ها هنا. وأشار إلى ناحية من البيت، فصلى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين، ثم جلس على طعام صنعوه له، فجعلوا يتذاكرون، فذكروا رجلاً يقال له: مالك بن الدُّخْشُم، فقال بعضهم: هو منافق. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقل هكذا؛ أليس قال: لا إله إلا الله يريد بذلك وجه الله؟!". ثم قال: "فإن الله حرم على النار..." الحديث.
فنهاهم أن يقولوا هكذا، لأنهم لا يدرون عما في قلبه؛ لأنه يشهد أن لا إله إلا الله، وهنا الرسول قال هكذا، ولم يبرئ الرجل، إنّما أتى بعبارة عامة بأن الله حرّم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله، ونهى أن نطلق ألسنتنا في عباد الله الذي ظاهرهم الصلاح، ونقول: هذا مراء، هذا فاسق، وما أشبه ذلك؛ لأننا لو أخذنا بما نظن فسدت الدنيا والآخرة؛ فكثير من الناس نظن بهم سوءً، ولكن لا يجوز أن نقول ذلك وظاهرهم الصلاح، ولهذا قال العلماء: يحرم ظن السوء بمسلم ظاهره العدالة.
قوله: "فإن الله حرم على النار"، أي: منع من النار، أو منع النار أن تصيبه.(10/49)
قوله: "من قال: لا إله إلا الله"، أي: بشرط الإخلاص، بدليل قوله: "يبتغي بذلك وجه الله"، أي: يطلب وجه الله، ومن طلب وجهاً؛ فلا بد أن يعمل كل ما في وسعه للوصول إليه؛ لأن مبتغي الشيء يسعى في الوصول إليه، وعليه؛ فلا نحتاج إلى قول الزهري رحمه الله بعد أن ساق الحديث؛ كما في "صحيح مسلم" (1)، حيث قال: "ثم وجبت بعد ذلك أمور، وحُرّمت أمور؛ فلا يغتر مغترٌ بهذا"؛ فالحديث واضح الدلالة على شرطية العمل لمن قال: لا إله إلا الله، حيث قال: "يبتغي بذلك وجه الله"، ولهذا قال بعض السلف عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مفتاح الجنة: لا إله إلا الله"(2)، لكن من أتى بمفتاح لا أسنان له لا يفتح له.
قال شيخ الإسلام: إنّ المبتغي لا بد أن يكمّل وسائل البغية، وإذا أكملها حرمت عليه النار تحريماً مطلقاً، وإن أتى بالحسنات على الوجه الأكمل؛ فإنّ النار تحرم عليه تحريماً مطلقاً، وإن أتى بشيء ناقص، فإن الابتغاء فيه نقص، فيكون تحريم النار عليه فيه نقص، لكن يمنعه ما معه من التوحيد من الخلود في النار، وكذا من زنى، أو شرب الخمر، أو سرق، فإذا فعل شيئاً من ذلك ثم قال حين فعله: أشهد أن لا إله إلا الله ابتغي بذلك وجه الله؛ فهو كاذب في زعمه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"(3)، فضلاً عن أن يكون مبتغياً وجه الله.
وفي الحديث ردٌّ على المرجئة الذين يقولون: يكفي قول: لا إله إلا الله، دون ابتغاء وجه الله.
__________
(1) مسلم: كتاب المساجد/ باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر.
(2) الإمام أحمد في "المسند" 5/242، والهيثمي في "المجمع" 1/16، والخطيب في "المشكاة" 1/91، قال الهيثمي: "رواه أحمد والبزار وفيه انقطاع"، وضعفه الألباني في "الضعيفة" 3/477.
(3) البخاري: كتاب الأشربة/ باب قوله تعال: { إنما الخمر والميسر... } ، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب نقصان الإيمان بالمعاصي.(10/50)
وفيه ردٌّ على الخوارج والمعتزلة؛ لأن ظاهر الحديث أن من فعل هذه المحرمات لا يخلد في النار، لكنه مستحق للعقوبة، وهم يقولون: إن فاعل الكبيرة مخلد في النار.
* * *
وعن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ قال: "قال موسى عليه السلام: يارب! علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به. قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله. قال: يارب! كل عبادك يقولون هذا؟.
قوله: "أذكرك وأدعوك به"، صفة لشيء، وليست جواب الطلب؛ فموسى عليه السلام طلب شيئاً يحصل به أمران:
ذكر الله.
دعاؤه.
فأجابه الله بقوله: "قل لا إله إلا الله"، وهذه الجملة ذكر متضمن للدعاء؛ لأن الذاكر يريد رضا الله عنه، والوصول إلى دار كرامته إذاً؛ فهو متضمن للدعاء، قال الشاعر:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... ... ... حباؤك إن شيمتك الحباء.
يعني: عطاؤك.
واستشهد ابن عباس على أن الذكر بمعنى الدعاء بقول الشاعر:
إذا أثنى عليك العبد يوماً ... ... ... ... كفاه من تعرضه الثناء
قوله: "كل عبادك يقولون هذا"، ليس المعنى أنها كلمة هينة كلٌّ يقولها؛ لأنّ موسى عليه الصلاة والسلام يعلم عظَم هذه الكلمة، ولكنه أراد شيئاً يختص به؛ لأن تخصيص الإنسان بالأمر يدل على منقبة له ورفعة؛ فبين الله لموسى أنه مهما أعطي فلن يعطى أفضل من هذه الكلمة، وأنّ لا إله إلا الله أعظم من السماوات والأرض وما فيهن؛ لأنها تميل بهن وترجح، فدل ذلك على فضل لا إله إلا الله وعظَمها، لكن لابد من الإتيان بشروطها، أما مجرد أن يقولها القائل بلسانه؛ فكم من إنسان يقولها لكنها عنده كالريشة لا تساوي شيئاً؛ لأنّه لم يقلها على الوجه الذي تمت به الشروط وانتفت به الموانع.
* * *(10/51)
قال: يا موسى! لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة و(لا إله إلا الله) في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله" رواه ابن حبان والحاكم وصححه(1).
قوله: "والأرضين السبع"، في بعض النسخ بالرفع، وهذا لا يصلح؛ لأنه إذا عطف على اسم أنّ قبل استكمال الخبر وجب النصب.
قوله: "مالت"، أي: رجحت حتى يملن.
قوله: "عامرهن"، أي: ساكنهن، فالعامر للشيء هو الذي عمر به الشيء.
قوله: "غيري"، استثنى نفسه تبارك وتعالى؛ لأن قول لا إله إلا الله ثناء عليه، والمثنى عليه أعظم من الثناء، وهنا يجب أن تعرف أن كون الله تعالى في السماء ليس ككون الملائكة في السماء؛ فكون الملائكة في السماء كون حاجي، فهم ساكنون في السماء؛ لأنهم محتاجون إلى السماء، لكن الرب تبارك وتعالى ليس محتاجاً إليها، بل إن السماء وغير السماء محتاج إلى الله تعالى؛ فلا يظن ظانٌّ أن السماء تقل الله أو تظله أو تحيط به، وعليه؛ فالسماوات باعتبار الملائكة أمكنة مقلة للملائكة، وما فوقهم منها مظل لهم، أما بالنسبة لله؛ فهي جهة لأن الله تعالى مستوٍ على عرشه، لا يقله شيء من خلقه.
* * *
وللترمذي وحسنه عن أنسٍ: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ يقول: "قال الله تعالى: يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك به شيئاً؛ لأتيتك بقرابها مغفرة"(2)
قوله: "قال الله تعالى : يا ابن آدم..." إلخ.
__________
(1) ابن حبان (2324)، والحاكم (1/528) - وصححه ووافقه الذهبي ـ، وقال الحافظ في "الفتح": أخرجه النسائي بسند صحيح.
(2) مسند الإمام أحمد (5/147)، والترمذي: كتاب الدعوات/ باب غفران الذنوب، وقال: "حسن غريب".(10/52)
هذا من الأحاديث القدسية، والحديث القدسي: ما رواه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه، وقد أدخله المحدثون في الأحاديث النبوية؛ لأنه منسوب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تبليغاً، وليس من القرآن بالإجماع، وإن كان كل واحد منهما قد بلغه النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته عن الله- عز وجل -.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في لفظ الحديث القدسي: هل هو كلام الله تعالى، أو أن الله تعالى أوحى إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - معناه واللفظ لفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟
على قولين:
القول الأول: أن الحديث القدسي من عند الله لفظه ومعناه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أضافه إلى الله تعالى، ومن المعلوم أن الأصل في القول المضاف أن يكون بلفظ قائله لا ناقله، لاسيما والنبي - صلى الله عليه وسلم - أقوى الناس أمانةً وأوثقهم روايةً.
القول الثاني: أن الحديث القدسي معناه من عند الله ولفظه لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك لوجهين:
الوجه الأول: لو كان الحديث القدسي من عند الله لفظاً ومعنى؛ لكان أعلى سنداً من القرآن، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرويه عن ربه تعالى بدون واسطة؛ كما هو ظاهر السياق، أما القرآن، فنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بواسطة جبريل؛ كما قال تعالى: { قل نزله روح القدس من ربك } [النحل: 102]، وقال: { نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين } [الشعراء: 193-195].
الوجه الثاني: أنه لو كان لفظ الحديث القدسي من عند الله، لم يكن بينه وبين القرآن فرق؛ لأن كليهما على هذا التقدير كلام الله تعالى، والحكمة تقتضي تساويهما في الحكم حين اتفقا في الأصل، ومن المعلوم أن بين القرآن والحديث القدسي فروق كثيرة:(10/53)
منها: أن الحديث القدسي لا يتعبد بتلاوته، بمعنى أن الإنسان لا يتعبد لله تعالى بمجرد قراءته؛ فلا يثاب على كل حرف منه عشر حسنات، والقرآن يتعبد بتلاوته بكل حرف منه عشر حسنات.
ومنها: أن الله تعالى تحدى أن يأتي الناس بمثل القرآن أو آية منه، ولم يرد مثل ذلك في الأحاديث القدسية.
ومنها: أن القرآن محفوظ من عند الله تعالى؛ كما قال سبحانه: { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } [الحجر: 9]، والأحاديث القدسية بخلاف ذلك؛ ففيها الصحيح والحسن، بل أضيف إليها ما كان ضعيفاً أو موضوعاً، وهذا وإن لم يكن منها لكن نسب إليها وفيها التقديم والتأخير والزيادة والنقص.
ومنها: أن القرآن لا تجوز قراءته بالمعنى بإجماع المسلمين، وأما الأحاديث القدسية، فعلى الخلاف في جواز نقل الحديث النبوي بالمعنى والأكثرون على جوازه.
ومنها: أن القرآن تشرع قراءته في الصلاة ومنه ما لا تصح الصلاة بدون قراءته، بخلاف الأحاديث القدسية.
ومنها: أن القرآن لا يمسه إلا طاهر على الأصح، بخلاف الأحاديث القدسية.
ومنها: أن القرآن لا يقرؤه الجنب حتى يغتسل على القول الراجح، بخلاف الأحاديث القدسية.
ومنها: أن القرآن ثبت بالتواتر القطعي المفيد للعلم اليقيني، فلو أنكر منه حرفاً أجمع القراء عليه؛ لكان كافراً، بخلاف الأحاديث القدسية؛ فإنه لو أنكر شيئاً منها مدعياً أنه لم يثبت؛ لم يكفر، أما لو أنكره مع علمه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله؛ لكان كافراً لتكذيبه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وأجاب هؤلاء عن كون النبي - صلى الله عليه وسلم - أضافه إلى الله، والأصل في القول المضاف أن يكون لفظ قائله بالتسليم أن هذا هو الأصل، لكن قد يضاف إلى قائله معنىً لا لفظاً؛ كما في القرآن الكريم؛ فإن الله تعالى يضيف أقوالاً إلى قائليها، ونحن نعلم أنها أضيفت معنىً لا لفظاً، كما في "قصص الأنبياء" وغيرهم، وكلام الهدهد والنملة؛ فإنه بغير هذا اللفظ قطعاً.(10/54)
وبهذا يتبين رجحان هذا القول، وليس الخلاف في هذا كالخلاف بين الأشاعرة وأهل السنة في كلام الله تعالى؛ لأن الخلاف بين هؤلاء في أصل كلام الله تعالى؛ فأهل السنة يقولون: كلام الله تعالى، لأن الخلاف بين هؤلاء في أصل كلام الله تعالى، فأهل السنة يقولون: كلام الله تعالى كلام حقيقي مسموع يتكلم سبحانه بصوت وحرف، والأشاعرة لا يثبتون ذلك، وإنما يقولون: كلام الله تعالى هو المعنى القائم بنفسه وليس بحرف وصوت، وكلن الله تعالى يخلق صوتاً يعبر به عن المعنى القائم بنفسه، ولا شك في بطلان قولهم، وهو في الحقيقة قول المعتزلة، لأن المعتزلة يقولون: القرآن مخلوق، وهو كلام الله وهؤلاء يقولون: القرآن مخلوق، وهو عبارة عن كلام، فقد اتفق الجميع على أن ما بين دفتي المصحف مخلوق.
ثم لو قيل في مسألتنا - الكلام في الحديث القدسي ـ: إن الأولى ترك الخوض في هذا؛ خوفاً من أن يكون من التنطع الهالك فاعله، والاقتصار على القول بأن الحديث القدسي ما رواه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه وكفى؛ لكان ذلك كافياً، ولعله أسلم والله أعلم.
* (فائدة):
إذا انتهى سند الحديث إلى الله تعالى سمي (قدسياً)؛ لقدسيته وفضله، وإذا انتهى إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - سمي مرفوعاً، وإذا انتهى إلى الصحابي سمي موقوفاً، وإذا انتهى إلى التابعي فمن بعده سمي مقطوعاً.
قوله: "بقراب الأرض"، أي: ما يقاربها؛ إما ملئاً، أو ثقلاً، أو حجماً.
قوله: "خطايا"، جمع خطيئة، وهي الذنب، والخطايا الذنوب، ولو كانت صغيرة؛ لقوله تعالى: { بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته } [البقرة: 81].
قوله: "لا تشرك بي شيئاً" جملة "لا تشرك" في موضع نصب على الحال في التاء، أي: لقيتني في حال لا تشرك بي شيئاً.
قوله: "شيئاً" نكرة في سياق النفي تفيد العموم؛ أي: لا شركاً أصغر ولا أكبر.(10/55)
وهذا قيد عظيم قد يتهاون به الإنسان، ويقول: أنا غير مشرك وهو لا يدري؛ فحب المال مثلاً بحيث يلهي عن طاعة الله من الإشراك، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة...."
الحديث(1). فسمى النبي - صلى الله عليه وسلم - من كان هذا همه سماه: عبداً له.
قوله: "لأتيتك بقرابها مغفرة"، أي: أن حسنة التوحيد عظيمة تكفر الخطايا الكبيرة إذا لقي الله وهو لا يشرك به شيئاً، والمغفرة ستر الذنب والتجاوز عنه.
* مناسبة الحديث للترجمة:
أن في هذا الحديث فضل التوحيد، وأنه سبب لتكفير الذنوب؛ فهو مطابق لقوله في الترجمة: "وما يكفر من الذنوب".
* * *
فيه مسائل:
الأولى: سعة فضل الله. الثانية: كثرة ثواب التوحيد عند الله. الثالثة: تكفيره مع ذلك الذنوب. الرابعة: تفسير الآية التي في سورة الأنعام.
قوله: "فيه مسائل":
الأولى: "سعة فضل الله"، لقوله: "أدخله الله الجنة على ما كان من العمل".
الثانية: كثرة ثواب التوحيد عند الله، لقوله: "مالت بهن لا إله إلا الله".
الثالثة: تكفيره مع ذلك للذنوب، لقوله: "لأتيتك بقرابها مغفرة"؛ فالإنسان قد تغلبه نفسه أحياناً؛ فيقع في الخطايا، لكنه مخلص لله في عبادته وطاعته؛ فحسنة التوحيد تكفر عنه الخطايا إذا لقي الله بها.
الرابعة: تفسير الآية التي في سورة الأنعام، وهي قوله تعالى: { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بالظلم } ؛ فالظلم هنا الشّرك، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ألم تسمعوا قول الرجل الصالح: { إن الشرك لظلم عظيم } "(2).
* * *
__________
(1) سبق تخريجه (ص13).
(2) سبق تخرجه (ص 28).(10/56)
الخامسة: تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة. السادسة: أنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان وما بعده؛ تبين لك معنى قول: "لا إله إلا الله"، وتبين لك خطأ المغرورين. السابعة: التنبيه للشرط الذي في حديث عتبان. الثامنة: كون الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل (لا إله إلا الله).
الخامسة: تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة:
1- 2- الشهادتان.
3- أن عيسى عبد الله، ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه.
4- أن الجنة حق.
5- أن النار حق.
السادسة: أنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان، وحديث أبي سعيد، وحديث أنس؛ تبين لك معنى قوله: لا إله إلا الله، وتبين لك خطأ المغرورين، لأنّه لا بد أن يبتغي بها وجه الله، وإذا كان كذلك؛ فلابد أن تحمل المرء على العمل الصالح.
السابعة: التنبيه للشرط الذي في حديث عتبان، وهو أن يبتغي بقولها وجه الله، ولا يكفي مجرد القول؛ لأن المنافقين كانوا يقولونها ولم تنفعهم.
الثامنة: كون الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله، فغيرهم من باب أولى.
* * *
التاسعة: التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أن كثيراً ممن يقولها بخف ميزانه. العاشرة: النص على أن الأرضين سبعٌ كالسماوات.
التاسعة: التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أن كثيراً ممن يقولها يخف ميزانه، فالبلاء من القائل لا من القول؛ لأنه قد يكون اختل شرطٌ من الشروط؛ أو وجد مانع من الموانع؛ فإنها تخف بحسب ما عنده، أما القول نفسه؛ فيرجح بجميع المخلوقات.(10/57)
العاشرة: النص على أن الأرضين سبع كالسماوات، لم يرد في القرآن تصريح بذلك، بل ورد صريحاً أن السماوات سبع بقوله تعالى: { قل من رب السماوات السبع } [المؤمنون: 86]، لكن بالنسبة للأرضين لم يرد إلا قوله تعالى: { الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن } [الطلاق: 12]؛ فالمثلية بالكيفية غير مرادة لظهور الفرق بين السماء والأرض في الهيئة، والكيفية، والارتفاع، والحسن؛ فبقيت المثلية في العدد.
أما السنة؛ فهي صريحة جداً بأنها سبع؛ مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من اقتطع شبراً من الأرض؛ طوقه يوم القيامة من سبع أرضين"(1)
وقد اختلف في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من سبع أرضين"؛ كيف تكون سبعاً؟
فقيل: المراد: القارات السبع، وهذا ليس بصحيح؛ لأن هذا يمتنع بالنسبة لقوله: "طوقه من سبع أرضين"، وقيل: المراد المجموعة الشمسية، لكن ظاهر النصوص أنها طباق كالسماوات، وليس لنا أن نقول إلا ما جاء في الكتاب والسنة عن هذه الأرضين؛ لأننا لا نعرفها.
* * *
الحادية عشرة: أن لهن عماراً. الثانية عشرة: إثبات الصفات خلافاً للأشعرية. الثالثة عشرة: أنك إذا عرفت حديث أنس؛ عرفت أن قوله في حديث عتبان: "فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله؛ يبتغي بذلك وجه الله"؛ أن ترك الشرك، ليس قولها باللسان. الرابعة عشرة: تأمل الجمع بين كون عيسى ومحمد عبدي الله ورسوليه.
الحادية عشرة: أن لهن عماراً، أي: السماوات، وعمارهن الملائكة.
__________
(1) البخاري يلفظ "من ظلم قيد شبر....": كتاب المظالم/ باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض، ومسلم: كتاب المساقاة/باب تحريم الظلم وغصب الأرض.(10/58)
الثانية عشرة: إثبات الصفات خلافاً للأشعرية، وفي بعض النسخ خلافاً للمعطلة، وهذه أحسن؛ لأنها أعم، حيث تشمل الأشعرية والمعتزلة والجهمية وغيرهم؛ ففيه إثبات الوجه لله سبحانه بقوله: "يبتغي وجه الله"، وإثبات الكلام بقوله: "وكلمته ألقاها"، وإثبات القول في قوله: "قل لا إله إلا الله".
الثالثة عشرة: أنك إذا عرفت حديث أنس؛ عرفت أن قوله في حديث عتبان: "فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" أن ترك الشرك. وفي بعض النسخ: إذا ترك الشرك. أي: أن قوله: "حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك (يعني: ترك الشرك)"، وليس مجرد قولها باللسان؛ لأن من ابتغى وجه الله في هذا القول لا يمكن أن يشرك أبداً.
الرابعة عشرة: تأمل الجمع بين كون كل من عيسى ومحمد عبدي الله ورسوليه. عبدي: منصوب على أنه خبر كون؛ لأن كون مصدر كان وتعمل عملها.
وعيسى ومحمد: اسم كون.
وتأمل الجميع من وجهين:
الأول: أنه جمع لكل منهما بين العبودية والرسالة.
الثاني: أنه جمع بين الرجلين؛ فتبين أن عيسى مثل محمد، وأنه عبد ورسول، وليس رباً ولا ابناً للرب - سبحانه -.
وقول المؤلف: "تأمل"؛ لأنّ هذا يحتاج إلى تأمل.
* * *
... الخامسة عشرة: معرفة اختصاص عيسى بكونه كلمة الله. السادسة عشرة: معرفة كونه روحاً منه. السابعة عشرة: معرفة فضل الإيمان بالجنة والنار. الثامنة عشرة: معرفة قوله "على ما كان من العمل".
الخامسة عشرة: معرفة اختصاص عيسى بكونه كلمة الله، أي: أن عيسى انفرد عن محمد في أصل الخلقة؛ فقد كان بكلمة، أما محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ فقد خلق من ماء أبيه.
السادسة عشرة: معرفة كونه روحاً منه، أي: أن عيسى روح من الله، و"من" هنا بيانية أو للابتداء، وليست للتبعيض؛ أي: روح جاءت من قبل الله وليست بعضاً من الله، بل هي من جملة الأرواح المخلوقة.(10/59)
السابعة عشرة: معرفة فضل الإيمان بالجنة والنار، لقوله في حديث عبادة: "وأن الجنة حق، والنار حق"، والفضل أنه من أسباب دخول الجنة.
الثامنة عشرة: معرفة قوله: "على ما كان من العمل"، أي: على ما كان من العمل الصالح ولو قل، أو على ما كان من العمل السيئ ولو كثر، بشرط أن لا يأتي بما ينافي التوحيد ويوجب الخلود في النار، لكن لا بد من العمل.
ولا يلزم استكمال العمل الصالح كما قالت المعتزلة والخوارج، ولم تذكر أركان الإسلام هنا؛ لأن منها ما يكفر الإنسان بتركه، ومنها ما لا يكفر، فإن الصحيح أنه لا يكفر إلا بترك الشهادتين والصلاة، وإن كان روي عن الإمام أحمد أن جميع أركان الإسلام يكفر بتركها، لكن الصحيح خلاف ذلك.
* * *
التاسعة عشرة: معرفة أن الميزان له كفتان.
العشرون: معرفة ذِكر الوجه.
التاسعة عشرة: معرفة أن الميزان له كفتان، أخذها المؤلف من قوله: "لو أن السماوات.... إلخ، وضعت في كفّة ولا إله إلا الله في كفة"، والظاهر أن الذي في الحديث تمثيل، يعني أن قول: لا إله إلا الله أرجح من كل شيء، وليس في الحديث أن هذا الوزن في الآخرة، وكأن المؤلف رحمه الله حصل عنده انتقال ذهني؛ فانتقل ذهنه من هذا إلى ميزان الآخرة.
العشرون: معرفة ذكر الوجه، يعني: وجه الله تعالى، وهو صفة من صفاته الخبرية الذاتية التي مسماها بالنسبة لنا أبعاض وأجزاء؛ لأن من صفات الله تعالى ما هو معنى محض، ومنه ما مسماه بالنسبة لنا أبعاض وأجزاء، ولا نقول بالنسبة لله تعالى أبعاض؛ لأننا نتحاشى كلمة التبعيض في جانب الله تعالى الله.
باب من حقق التوحيد؛ دخل الجنة بغير حساب
هذا الباب كالمتمم للباب الذي قبله؛ لأن الذي قبله: "باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب"، فمن فضله هذا الفضل العظيم الذي يسعى إليه كل عاقل، وهو دخول الجنة بغير حساب.(10/60)
قوله: "من"، شرطية، وفعل الشرط: "حقق"، وجوابه: "دخل"، قوله: "بلا حساب"؛ أي: لا يحاسب لا على المعاصي ولا على غيرها.
وتحقيق التوحيد: تخليصة من الشرك، ولا يكون إلا بأمور ثلاثة:
الأول: العلم؛ فلا يمكن أن تحقق شيئاً قبل أن تعلمه، قال الله تعالى: { فاعلم أنه لا إله إلا الله } [محمد: 19].
الثاني: الاعتقاد، فإذا علمت ولم تعتقد واستكبرت؛ لم تحقق التوحيد، قال الله تعالى عن الكافرين: { أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب } . [ص:5]؛ فما اعتقدوا انفراد الله بالألوهية.
الثالث: الانقياد، فإذا علمت واعتقدت ولم تنقد؛ لم تحقق التوحيد، قال تعالى: { إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون* ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون } [الصافات: 35/36].
فإذا حصل هذا وحقق التوحيد؛ فإن الجنة مضمونة له بغير حساب، ولا يحتاج أن نقول إن شاء الله؛ لأن هذا حكاية حكم ثابت شرعاً، ولهذا جزم المؤلف رحمه الله تعالى بذلك في الترجمة دون أن يقول: إن شاء الله.
أما بالنسبة للرجل المعين؛ فإننا نقول: إن شاء الله.
وقد ذكر المؤلف في هذا الباب آيتين، ومناسبتهما للباب الإشارة إلى تحقيق التوحيد، وأنه لا يكون إلا بانتفاء الشرك كله:
* * *
وقول الله تعالى: { إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفاً ولم يك من المشركين } [النحل: 120]
الآية الأولى: قوله تعالى: { إن إبراهيم كان أمة... } الآية.
قوله: { أمة } ، أي: إماماً، وقد سبق أن أمة تأتي في القرآن على أربعة أوجه، إمام، ودهر، وجماعة، ودين(1).
وقوله: { إن إبراهيم كان أمة } ، هذا ثناء من الله - سبحانه وتعالى - على إبراهيم بأنه إمام متبوع؛ لأنه أحد الرسل الكرام من أولي العزم، ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - قدوة في أعماله وأفعاله وجهاده؛ فإنه جاهد قومه وحصل منهم عليه ما حصل، وألقي في النار فصبر.
__________
(1) سبق تخريجه (ص 8، 9)(10/61)
ثم ابتلاه الله - سبحانه وتعالى - بالأمر بذبح ابنه، وهو وحيده، وقد بلغ معه السعي (أي: شب وترعرع)؛ فليس كبيراً قد طابت النفس منه، ولا صغيراً لم تتعلق به النفس كثيراً، فصار على منتهى تعلق النفس به.
ثم وفق إلى ابن بار مطيع لله، قال الله تعالى عنه: { قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين } [الصافات: 102]، لم يحنث والده ويتمرد ويهرب، بل أراد من والده أن يوافق أمر ربه، وهذا من بره بأبيه وطاعته لمولاه سبحانه وتعالى، وأنظر إلى هذه القوة العظيمة مع الاعتماد على الله في قوله: { ستجدني إن شاء الله من الصابرين } .
فالسين في قوله: { ستجدني } تدل على التحقيق، وهو مع ذلك لم يعتمد على نفسه، بل استعان بالله في قوله: { إن شاء الله } .
وامتثلا جميعاً وأسلما، وانقاداً لله - عز وجل ـ، وتله للجبين؛ أي: على الجبين، أي جبهته؛ لأجل أن يذبحه وهو لا يرى وجهه، فجاء الفرج من الله تعالى: { وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين } [الصافات: 104،105]، ولا يصح ما ذكره بعضهم من أن السكين انقلبت، أو أن رقبته صارت حديداً، ونحو ذلك.
قوله: { قانتاً } ، القنوت: دوام الطاعة، والاستمرار فيها على كل حال؛ فهو مطيع لله، ثابت على طاعته، مديم لها في كل حال.
كما أن ابنه محمداً - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه(1): إن قام ذكر الله، وإن جلس ذكره، وإن نام، وإن أكل، وإن قضى حاجته ذكر الله؛ فهو قانت آناء الليل والنهار.
قوله: { حنيفاً } ، أي: مائلاً عن الشرك، مجانباً لكل ما يخالف الطاعة، فوصف بالإثبات والنفي، أي: بالوصفين الإيجابي والسلبي.
__________
(1) مسلم: كتاب الحيض/ باب ذكر الله تعالى حال الجنابة.(10/62)
قوله: { ولم يك من المشركين } ، تأكيد، أي لم يكن مشركاً طول حياته؛ فقد كان عليه الصلاة والسلام معصوماً عن الشرك، مع أن قومه كانوا مشركين، فوصفه الله بامتناعه عن الشرك استمراراً في قوله: { حنيفاً } ، وابتداءً في قوله: { ولم يك من المشركين } ، والدليل على ذلك: أن الله جعله إماماً، ولا يجعل الله للناس إماماً من لم يحقق التوحيد أبداً.
ومن تأمل حال إبراهيم عليه السلام وما جرى عليه وجد أنه في غاية ما يكون من مراتب الصبر، وفى غاية ما يكون من مراتب اليقين؛ لأنه لا يصبر على هذه الأمور العظيمة إلا من أيقن بالثواب، فمن عنده شك أو تردد لا يصبر على هذا؛ لأن النفس لا تدع شيئاً إلا لما هو أحب إليها منه، ولا تحب شيئاً إلا ما ظنت فائدته، أو تيقنت.
ويجب أن نعلم أن ثناء الله على أحد من خلقه لا يقصد منه أن يصل إلينا الثناء فقط، لكن يقصد منه أمران هامان:
الأول: محبة هذا الذي أثنى الله عليه خيراً، كما أن من أثنى الله عليه شراً، فإننا نبغضه ونكرهه، فنحب إبراهيم عليه السلام؛ لأنه كان إماماً حنيفاً قانتاً لله ولم يكن من المشركين، ونكره قومه؛ لأنهم كانوا ضالين، ونحب الملائكة وإن كانوا من غير جنسنا؛ لأنهم قائمون بأمر الله، ونكره الشياطين، لأنهم عاصون لله وأعداء لنا ولله، ونكره أتباع الشياطين؛ لأنهم عاصون لله أيضاً وأعداء لله ولنا.
الثاني: أن نقتدي به في هذه الصفات التي أثنى الله بها عليه؛ لأنها محل الثناء، ولنا من الثناء بقدر ما اقتدينا به فيها، قال تعالى: { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } [يوسف: 111]، وقال تعالى: { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه } [الممتحنة: 4]، وقال تعالى: { لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر } [الممتحنة:6].(10/63)
وهذه مسألة مهمة؛ لأن الإنسان أحياناً يغيب عن باله الغرض الأول، وهو محبة هذا الذي أثنى الله عليه خيراً، ولكن لا ينبغي أن يغيب؛ لأن الحب في الله، والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان.
* فائدة:
أبو إبراهيم مات على الكفر، والصواب الذي نعتقده أن اسمه آزر؛ كما قال الله تعال: { وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناماً آلهة } [الأنعام: 74]، وقال تعالى: { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه } [التوبة: 114]؛ لأنه قال: { سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً } [مريم: 47]، { فلما تبين له أنه عدو لله بترأ منه إن إبراهيم لأواه حليم } [التوبة: 1114]، وفي سورة إبراهيم قال: { ربنا أغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب } [إبراهيم: 41]، ولكن فيما بعد تبرأ منه.
أما نوح؛ فقال: { رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات } [نوح: 28]، وهذا يدل على أن أبوي نوح كانا مؤمنين.
* فائدة أخرى:
قال الإمام أحمد: ثلاثة ليس لها أصل: المغازي، والملاحم، والتفسير؛ فهذه الغالب فيها أنها تذكر بدون إسناد، ولهذا؛ فإن المفسرين يذكرون قصة آدم، { فلما آتاهما صالحاً } [الأعراف: 190]، وقليل منهم من ينكر القصة المكذوبة في ذلك(1).
فالقاعدة إذاً: أنه لا أحد يعلم عن الأمم السابقة شيئاً إلا من طريق الوحي، قال تعالى: { ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله } [إبراهيم: 9].
* * *
وقال: { والذين هم بربهم لا يشركون } [المؤمنون: 59].
الآية الثانية: قوله: { والذين هم بربهم لا يشركون } .
هذه الآية سبقها آية، وهي قوله: { إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون } [المؤمنون: 57].
__________
(1) أنظر: باب قول الله تعالى: { فلما آتاهما صالحاً جعلاً لها شركاء فيما آتاهما... } .(10/64)
لكن المؤلف ذكر الشاهد. وقوله تعالى: { من خشية ربهم } ؛ أي: من خوفهم منه على علم، و { مشفقون } ؛ أي: خائفون من عذابه إن خالفوه.
فالمعاصي بالمعنى الأعم – كما سبق ـ(1) شرك؛ لأنها صادرة عن هوى مخالف للشرع، وقد قال الله تعالى: { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } [الجاثية: 23].
أما بالنسبة للمعنى الأخص؛ فيقسمها العلماء قسمين:
شرك.
فسوق.
وقوله: { لا يشركون } ، يراد به الشرك بالمعنى الأعم؛ إذ تحقيق التوحيد لا يكون إلا باجتناب الشرك بالمعنى الأعم، ولكن ليس معنى هذا ألا تقع منهم المعاصي؛ لأن كل ابن آدم خطاء، وليس بمعصوم، ولكن إذا عصوا؛ فإنهم بتوبون ولا يستمرون عليها؛ كما قال الله تعالى: { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون } [آل عمران: 135].
* * *
وعن حصين بن عبد الرحمن؛ قال: كنت عند سعيد بن جبيرٍ، فقال: أيكم رأى الكوكب الذي أنقض البارحة؟ فقلت: أنا. ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاةٍ.
قوله: "عن حصين بن عبد الرحمن؛ قال: كنت عند سعيد بن جبير".
وهما رجلان من التابعين ثقتان.
قوله: "انقض البارحة"، أي: سقط البارحة، والبارحة: أقرب ليلة مضت، وقال بعض أهل اللغة: تقول فعلنا الليلة كذا إن قلته قبل الزوال، وفعلنا البارحة كذا إن قلته بعد الزوال.
وفي عرفنا؛ فمن طلوع الشمس إلى الغروب نقول: البارحة لليلة الماضية، ومن غروب الشمس إلى طلوعها نقول: الليلة لليلة التي نحن فيها.
بل بعض العامة يتوسع متى قام من الليل قال: البارحة؛ وإن كان في ليلته.
قوله: "فقلت أنا"، أي: حصين.
قوله: "أما إني لم أكن في صلاة"، أما: أداة استفتاح، وقيل: إنها بمعنى حقاً، وعلى هذا؛ فتفتح همزة "إن"، فيقال: أما أني لم أكن في صلاة، أي حقاً لم أكن في صلاة.
__________
(1) أنظر (ص 31).(10/65)
وقال هذا رحمه الله لئلا يظن أنه قائم يصلي فيحمد بما لم يفعل، وهذا خلاف ما عليه بعضهم، يفرح أن الناس يتوهمون أنه يقوم يصلي، وهذا من نقص التوحيد.
وقول حصين رحمه الله ليس من باب المراءاة، بل هو من باب الحسنات، وليس كمن يترك الطاعات خوفاً من الرياء؛ لأن الشيطان قد يلعب على الإنسان، ويزيِّن له ترك الطاعة خشية الرياء، بل أفعل الطاعة، ولكن لا يكن في قلبك أنك ترائي الناس.
* * *
ولكني لدغت. قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت. قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي. قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريده بن الحصيب؛ أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حمة.
قوله: "لدغت"، أي: لدغته عقرب أو غيرها، والظاهر أنها شديدة؛ لأنه لم ينم منها.
قوله: "ارتقيت"، أي: استرقيت؛ لأن افتعل مثل استفعل، وفي رواية مسلم: "استرقيت"؛ أيك طلبت الرقية.
قوله: "فما حملك على ذلك"، أي: قال سعيد: ما السبب أنك استرقيت.
قوله: "حديث حدثناه الشعبي"، وهذا يدل على أن السلف رضي الله عنهم يتحاورون حتى يصلوا إلى الحقيقة، فسعيد بن جبير لم يقصد الانتقاد على هذا الرجل، بل قصد أن يستفهم منه ويعرف مستنده.
قوله: "لا رقية"، أي: لا قراءة أو لا استرقاء على مريض أو مصاب.
قوله: "إلا من عين"، وهي نظرة من حاسد، نفسه خبيثة، تتكيف بكيفية خاصة فينبعث منها ما يؤثر على المصاب، ويسميها العامة الآن: "النحاتة"، وبعضهم يسميها "النفس"، وبعضهم يسميها "الحسد".
قوله: "حُمَة"، بضم الحاء، وفتح الميم، مع تخفيفها: وهي كل ذات سم، والمعنى لدغته إحدى ذوات السموم، والعقرب من ذوات السموم.
* * *
قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع
فقال سعيد بن جبير: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس.. إلخ.(10/66)
إذن، فحصين استند على حديث: "لا رقية إلا من عين أو حمة"، وهذا يدل على أن الرقية من العين أو الحمة مفيدة، وهذا أمر واقع؛ فإن الرُّقى تنفع بإذن الله من العين ومن الحمة أيضاً، وكثير من الناس يقرؤون على الملدوغ فيبرأ حالاً، ويدل لهذا قصة الرجل الذي بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - في سرية، فاستضافوا قوماً، فلم يضيفوهم، فلدغ سيدهم لدغة عقرب، فقالوا: من يرقي؟ فقالواً: لعل هؤلاء الركب عندهم راقٍ، فجاؤوا إلى السرية، قالوا: هل فيكم من راقٍ؟ قالوا: نعم، ولكن لا نرقي لكم إلا بشيء من الغنم، فقالوا: نعطيكم. فاقتطعوا لهم من الغنم، ثم ذهب أحدهم يقرأ عليه الفاتحة، قرأها ثلاثاً أو سبعاً، فقام كأنما نشط من عقال، فانتفع اللديغ بقراءتها، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "وما يدريك أنها رقية؟" (يعني: الفاتحة)(1)، وكذا القراءة من العين مفيدة.
ويستعمل للعين طريقة أخرى غير الرقية، وهو الاستغسال، وهي أن يؤتي بالعائن، ويطلب منه أن يتوضأ، ثم يؤخذ ما تناثر من الماء من أعضائه، ويصب على المصاب، ويشرب منه، ويبرأ بإذن الله.
وهناك طريقة أخرى، ولا مانع منها أيضاً، وهي أن يؤخذ شيء من شعاره، أي: ما يلي جسمه من الثياب، كالثوب، والطاقية، والسروال، وغيرها، أو التراب إذا مشى عليه وهو رطب، ويصب على ذلك ماء يرش به المصاب أو يشربه، وهو مجرب.
وأما العائن؛ فينبغي إذا رأى ما يعجبه أن يبرّك عليه؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعامر بن ربيعة لما عان سهل بن حنيف: "هلا برّكت عليه"(2)؛ أي: قلت: بارك الله عليك.
* * *
__________
(1) البخاري: كتاب الطب/ باب الرقي بفاتحة الكتاب، ومسلم: كتاب السلام/ باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن.
(2) مسند الإمام أحمد (3/486)، وموطأ الإمام مالك (211/938)، وشرح السنة (1211/164).(10/67)
ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أنه قال: "عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد".
قوله: "ولكن حدثنا"، القائل: سعيد بن جبير.
قوله: "عرضت علي الأمم"، العارض لها الله - سبحانه وتعالى ـ، وهذا في المنام فيما يظهر. وأنظر: "فتح الباري" (11/407، باب يدخل الجنة سبعون ألفاً، كتاب الرقاق)، والأمم: جمع أمة وهي أمم الرسل.
قوله: "الرهط"، من الثلاثة إلى التسعة.
قوله: "والنبي ومعه الرجل والرجلان"، الظاهر أن الواو بمعنى أو؛ أي: ومعه الرجل أو الرجلان؛ لأنه لو كان معه الرجل والرجلان صار يغني أن يقول: ومعه ثلاثة، لكن المعنى: والنبي ومعه الرجل، النبي الثاني ومعه الرجلان.
قوله: "والنبي وليس معه أحد"، أي: يبعث ولا يكون معه أحد، لكن يبعثه الله لإقامة الحجة، فإذا قامت الحجة حينئذ، يعذر الله من الخلق، ويقيم عليهم الحجة.
* * *
إذ رفع لي سوادٌ عظيمٌ، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، فنظرت؛ فإذا سوادٌ عظيمٌ، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حسابٍ ولا عذابٍ". ثم نهض. فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك. فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: "إذ رفع لي"، هذا على تقدير محذوف؛ أي: بينما أنا كذلك؛ إذ رفع لي.
قوله: "سواد عظيم"، المراد بالسواد هنا الظاهر أنه الأشخاص، ولهذا يقال: ما رأيت سواده، أي: شخصه، أي أشخاصاً عظيمة كانوا من كثرتهم سواداً.
قوله: "فظنت أنهم أمتي"، لأن الأنبياء عرضوا عليه بأممهم؛ فظن هذا السواد أمته - عليه الصلاة والسلام - .
قوله: "فقيل لي: هذا موسى وقومه"، وهذا يدل على كثرة أتباع موسى عليه السلام وقومه الذين أرسل إليهم.(10/68)
قوله: "فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك"، وهذا أعظم من السواد الأول؛ لأن أمة النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر بكثير من أمة موسى عليه السلام.
قوله: "بغير حساب ولا عذاب"، أي: لا يعذبون ولا يحاسبون كرامةً لهم، وظاهره أنه لا في قبورهم ولا بعد قيام الساعة.
قوله: "فخاض الناس في أولئك"، هذا الخوض للوصول إلى الحقيقة نظرياً وعملياً حتى يكونوا منهم.
قوله: "الذين صحبوا رسول الله"، يحتمل أن المراد الصحبة المطلقة، ويؤيده ظاهر اللفظ.
ويحتمل أن المراد الذين صحبوه في هجرته، ويؤيده أنه لو كان المراد الصحبة المطلقة، لقالوا: نحن؛ لأن المتكلم هم الصحابة، ويدل على هذا قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لخالد بن الوليد: "لا تسبوا أصحابي"(1)؛ فإن المراد بهم الذين صحبوه في هجرته، لكن يمنع منه أن المهاجرين لا يبلغون سبعين ألفاً.
ويمنع الاحتمال الأول: أن الصحابة أكثر من سبعين ألفاً، ويحتمل أن المراد من كان مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى فتح مكة؛ لأنه بعد فتح مكة دخل الناس في دين الله أفواجاً.
وهذه المسألة تحتاج إلى مراجعة أكثر.
* * *
وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً... وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبروه، فقال: "هم الذين لا يسترقون".
قوله: "الذين ولدوا في الإسلام"، أي: من ولد بعد البعثة وأسلم، وهؤلاء كثيرون، ولو قلنا: ولدوا في الإسلام من الصحابة ما بلغوا سبعين ألفاً.
قوله: "فخرج عليهم رسول الله، فأخبروه"، أي: أخبروه بما قالوا وما جرى بينهم.
__________
(1) البخاري: كتاب فضائل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -/ باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو كنت متخذاً خليلاً"، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة/ باب تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم.(10/69)
قوله: "لا يسترقون"، في بعض روايات مسلم(1): "لا يرقون".
ولكن هذه الرواية خطأ؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يرقي(2)، ورقاه جبريل(3)، وعائشة(4)، وكذلك الصحابة كانوا يرقون(5).
واستفعل بمعنى طلب الفعل، مثل: استغفر؛ أي: طلب المغفرة، واستجار: طلب الجوار، وهنا استرقى؛ أي: طلب الرقية، أي لا يطلبون من أحد أن يقرأ عليهم، لما يلي:
لقوة اعتمادهم على الله.
لعزة نفوسهم عن التذلل لغير الله.
ولما في ذلك من التعلق بغير الله.
* * *
ولا يكتوون ولا يتطيرون.
وقوله: "ولا يكتوون"، أي: لا يطلبون من أحد أن يكويهم.
ومعنى اكتوى: طلب من يكويه، وهذا مثل قوله: "ولا يسترقون".
أما بالنسبة لمن أعد للكي من قبل الحكومة، فطلب الكي منه ليس فيه ذل؛ لأنه معد من قبل الحكومة يأخذ الأجر على ذلك من الحكومة، ولأن هذا الطلب مجرد إخبار من الطالب بأنه محتاج إلى الكي، وليس سؤال تذلل.
قوله: "ولا يتطيرون"، مأخوذ من الطير، والمصدر منه تطيّر، والطيرة اسم المصدر، وأصله: التشاؤم بالطير، ولكنه أعم من ذلك؛ فهو التشاؤم بمرئي، أو مسموع، أو زمان، أو مكان.
__________
(1) مسلم: كتاب الإيمان/ باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب.
(2) البخاري: كتاب الطب/ باب رقية النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومسلم: كتاب السلام/باب استحباب الرقية من العين.
(3) مسلم: كتاب السلام/ باب الطب والمرض والرقى.
(4) البخاري: كتاب فضائل القرآن/ باب فضل المعوذات، ومسلم: كتاب السلام/ باب رقية المرضي.
(5) كما في قصة صاحب السرية.(10/70)
وكانت العرب معروفة بالتطير، حتى لو أراد الإنسان منهم خيراً ثم رأى الطير سنحت يميناً أو شمالاً حسب ما كان معروفاً عندهم، تجده يتأخر عن هذا الذي أراده، ومنهم من إذا سمع صوتاً أو رأى شخصاً تشاءم، ومنهم من يتشاءم من شهر شوال بالنسبة للنكاح، ولذا قالت عائشة رضي الله عنها: "عقد علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شوال، وبنى بي في شوال؛ فأيكن كان أحظى عنده"(1)، ومنهم من يتشاءم بيوم الأربعاء، أو بشهر صفر، وهذا كله مما أبطله الشرع؛ لضرره على الإنسان عقلاً وتفكيراً وسلوكاً، وكون الإنسان لا يبالي بهذه الأمور، هذا هو التوكل على الله، ولهذا ختم المسألة بقوله: "وعلى ربهم يتوكلون"؛ فانتفاء هذه الأمور عنهم يدل على قوة توكلهم.
وهل هذه الأشياء تدل على أن من لم يتصف بها فهو مذموم، أو فاته الكمال؟
الجواب: أن الكمال فاته إلا بالنسبة للتطير؛ فإنه لا يجوز؛ لأنه ضرر وليس له حقيقة أصلاً.
أما بالنسبة لطلب العلاج، فالظاهر أنه مثله لأنّه عام، وقد يقال: إنّه لولا قوله: "ولا يسترقون"؛ لقلت: إنه لا يدخل؛ لأن الاكتواء ضرر محقق: إحراق بالنار، وألم للإنسان، ونفعه مرتجى، لكن كلمة "يسترقون" مشكلة؛ فالرقية ليس فيها ضرر، إن لم تنفع لم تضر، وهنا نقول: الدواء مثلها، لأن الدواء إذا لم ينفع لم يضر، وقد يضر أيضاً؛ لأنّ الإنسان إذا تناول دواء وليس فيه مرض لهذا الدواء فقد يضره.
وهذه المسألة تحتاج إلى بحث، وهل نقول مثلاً: ما تؤكد منفعته إذا لم يكن في الإنسان إذلال لنفسه؛ فهو لا يضر، أي: لا يفوت المرء الكمال به، مثل الكسر وقطع العضو مثلاً، أو كما يفعل الناس الآن في الزائدة وغيرها.
__________
(1) مسلم: كتاب النكاح/ باب استحباب التزوج والتزويج في شوال.(10/71)
ولو قال قائل بالاقتصار على ما في هذا الحديث، وهو أنهم لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون، وأن ما عدا ذلك لا يمنع من دخول الجنة بلا حساب ولا عذاب؛ للنصوص الواردة بالأمر بالتداوي والثناء على بعض الأدوية؛ كالعسل والحبة السوداء؛ لكان له وجه.
وإذا طلب منك إنسان أن يرقيك؛ فهل يفوتك كمال إذا لم تمنعه؟
الجواب: لا يفوتك؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمنع عائشة أن ترقيه(1)، وهو أكمل الخلق توكلاً على الله وثقةً به، ولأن هذا الحديث: "لا يسترقون..." إلخ إنما كان في طلب هذه الأشياء، ولا يخفى الفرق بين أن تحصل هذه الأشياء بطلب وبين أن تحصل بغير طلب.
* * *
فقام عكاشة بن محصن، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: "أنت منهم". ثم قال رجلاً آخر، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: "سبقك بها عكاشة"(2).
قوله: "فقال: أنت منهم"، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا هل هو بوحي من الله إقراري، أو وحي إلهامي، أو وحي رسول؟
مثل هذه الأمور يحتمل أنها وحي إلهامي، أو بواسطة الرسول، أو وحي إقراري بمعنى أن الرسول يقولها، فإذا أقره الله عليه؛ صارت وحياً إقرارياً.
لكن رواية البخاري: "اللهم اجعله منهم" تدل على أن الجملة: "أنت منهم" خبر بمعنى الدعاء.
قوله: "ثم قام رجل آخر، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: سبقك بها عكاشة"، لم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول له: لا، ولكن قال: سبقك بها، أي: بهذه المنقبة والفضيلة، أو بهذه المسألة عكاشة بن محصن.
وقد اختلف العلماء لماذا قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا الكلام؟
فقيل: إنه كان منافقاً، فأراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ألا يجابهه بما يكره تأليفاً.
__________
(1) سبق تخريجه (ص54).
(2) البخاري: كتاب الرقاق/ باب يدخل الجنة سبعون ألفاً)، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب.(10/72)
وقيل: خاف أن ينفتح الباب فيطلبها من ليس منهم؛ فقال هذه الكلمة التي أصبحت مثلاً، وهذا أقرب.
* * *
فيه مسائل: الأولى: معرفة مراتب الناس في التوحيد. الثانية: ما معنى تحقيقه. الثالثة: ثناؤه سبحانه على إبراهيم بكونه لم يك من المشركين.
قوله: "فيه مسائل"، أي: في هذا الباب مسائل:
المسألة الأولى: معرفة مراتب الناس في التوحيد، وهذه مأخوذة من قوله: "يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب". ثم قال: "هم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون"
الثانية: ما معنى تحقيقه؟ أي: تحقيق التوحيد، وسبق لنا في أول الباب أن تحقيقه: تخليصه من الشرك.
الثالثة: ثناؤه - سبحانه - على إبراهيم بكونه لم يك من المشركين، وهو ظاهر في الآية الكريمة: { إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين } [النحل: 120]؛ فإن هذه الآية لا شك أنها سيقت للثناء على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وإذا كان مناط الثناء انتفاء الشرك عنه؛ دل ذلك على أن كل من انتفى عنه الشرك فهو محل ثناء من الله - سبحانه وتعالى -.
* * *
الرابعة: ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك. الخامسة: كون ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد. السادسة: كون الجامع لتلك الخصال هو التوكل. السابعة: عمق علم الصحابة بمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعملٍ.(10/73)
الرابعة: ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك، لقوله تعالى: { والذين هم بربهم لا يشركون } ، وهذه الآية في سياق آيات كثيرة ابتدأها الله بقوله: { إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون * والذين هم بآيات ربهم يؤمنون * والذين هم بربهم لا يشركون * والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون * أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون } [المؤمنون: 57-61]؛ فهؤلاء هم سادات الأولياء، وكلام المؤلف من باب إضافة الصفة إلى موصوفها، أي: الأولياء السادات، وليس يريد رحمه الله السادات من الأولياء، بل يريد الأولياء الذي هم سادات الخلق.
الخامسة: كون ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد، لقوله: "الذين لا يسترقون ولا يكتوون"؛ فالمراد بقول المؤلف: "الرقية والكي": الاسترقاء والاكتواء.
السادسة: كون الجامع لتلك الخصال هو التوكل، والخصال هي: ترك الاسترقاء، وترك الاكتواء، وترك التطير، يعني أن العامل لهذه الأشياء هو قوة التوكل على الله- عز وجل .
السابعة: عمق عمل الصحابة لمعرفة أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل، أي: لم ينل هؤلاء السبعون ألفاً هذا الثواب إلا بعمل، ووجهه أن الصحابة خاضوا فيمن يكون له هذا الثواب العظيم وذكروا أشياء.
* * *
الثامنة: حرصهم على الخير. التاسعة: فضيلة هذه الأمة بالكمية والكيفية. العاشرة: فضيلة أصحاب موسى. الحادية عشرة: عرض الأمم عليه - عليه الصلاة والسلام - .الثامنة: حرصهم على الخير، وجهه خوضهم في هذا الشيء؛ لأنهم يريدون أن يصلوا إلى نتيجة حتى يقوموا بها.
التاسعة: فضيلة هذه الأمة بالكميّة والكيفيّة، أما الكميّة، فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى سواداً عظيماً أعظم من السواد الذي كان مع موسى، وأما الكيفيّة؛ فلأن معهم هؤلاء الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون.(10/74)
العاشرة: فضيلة أصحاب موسى، وهو مأخوذ من قوله: "إذ رفع لي سوادٌ عظيمٌ"، ولكن قد يقال: إن التعبير بقول: كثرة أتباع موسى أنسب لدلالة الحديث؛ لأن الحديث يقول: "سواد عظيم فظننت أنهم أمتي"، وهذا يدل على الكثرة.
الحادية عشرة: عرض الأمم عليه - عليه الصلاة والسلام ـ، وهذا له فائدتان:
الفائدة الأولى: تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام، حيث رأى من الأنبياء من ليس معه إلا الرجل والرجلان، ومن الأنبياء من ليس معه أحد، فيتسلى بذلك عليه الصلاة والسلام، ويقول: { ما كنت بدعاً من الرسل } .
الفائدة الثانية: بيان فضيلته عليه الصلاة والسلام وشرفه، حيث كان أكثر أتباعاً وأفضلهم؛ فصار في عرض الأمم عليه هاتان الفائدتان.
* * *
الثانية عشرة: أن كلّ أمةٍ تحشر وحدها مع نبيها. الثالثة عشرة: قلّة من استجاب للأنبياء. الرابعة عشرة: أن من لم يجبه أحدٌ يأتي وحده. الخامسة عشرة: ثمرة هذا العلم، وهو عدم الاغترار بالكثرة، وعدم الزهد في القلة.
الثانية عشرة: أن كل أمة تحشر وحدها مع نبيها، لقوله: "رأيت النبي ومعه الرجل والرجلان،، ولولا أنّ كل نبي متميز عن النبي الآخر؛ لاختلط بعضهم ببعض، ولم يعرف الأتباع من غير الأتباع، ويدل لذلك قوله سبحانه وتعالى: { وترى كل أمةٍ جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها } [الجاثية: 28]؛ فإنه يدل على أن كل أمة تكون وحدها.
الثالثة عشرة: قلة من استجاب للأنبياء، وهو واضح من قوله: "والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد".
الرابعة عشرة: أن من لم يجبه أحد يأتي وحده، لقوله: "والنبي وليس معه أحد".(10/75)
الخامسة عشرة: ثمرة هذا العلم، وهو عدم الاغترار بالكثرة.. إلخ، فإن الكثرة قد تكون ضلالاً، قال الله تعالى: { وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله } [الأنعام: 116]، وأيضاً الكثرة من جهة أخرى إذا اغتر الإنسان بكثرة وظن لن يغلب أو أنّه منصور؛ فهذا أيضاً سبب للخذلان؛ فالكثرة إن نظرنا إلى أن أكثر أهل الأرض ضلال لا تغتر بهم، فلا تقل: إن الناس على هذا، كيف أنفرد عنهم؟.
كذلك أيضاً لا تغتر بالكثرة إذا كان معك أتباع كثيرون على الحق؛ فكلام المؤلف له وجهان:
الوجه الأول: أن لا نغتر بكثرة الهالكين فنهلك معهم.
الوجه الثاني: أن لا نغتر بكثرة الناجين فيلحقنا الإعجاب بالنفس وعدم الزهد في القلة، أي أن لا نزهد بالقلة؛ فقد تكو القلة خيراً من الكثرة.
* * *
السادسة عشرة: الرخصة في الرقية من العين والحمة. السابعة عشرة: عمق علم السلف، لقوله: "قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن كذا وكذا"، فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني.
السادسة عشرة: الرخصة في الرقية من العين والحمة، مأخوذ من قوله: "لا رقية إلا من عين أو حمة".
السابعة عشرة: عمق علم السلف، لقوله: "قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن كذا وكذا"؛ فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني، لأن قوله: "لا رقية إلا من عينٍ أو حمة" لا يخالف الثاني؛ لأن الثاني إنما هو في الاسترقاء، والأول في الرقية؛ فالإنسان إذا أتاه من يرقيه ولم يمنعه؛ فإنه لا ينافي قوله: "ولا يسترقون"، لأن هناك ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: أن يطلب من يرقيه، وهذا قد فاته الكمال.
المرتبة الثانية: أن لا يمنع من يرقيه، وهذا لم يفته الكمال؛ لأنه لم يسترق ولم يطلب.
المرتبة الثالث: أن يمنع من يرقيه، وهذا خلاف السنة؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمنع عائشة أن ترقيه، وكذلك الصحابة لم يمنعوا أحداً أن يرقيهم(1)؛ لأن هذا لا يؤثر في التوكل.
* * *
__________
(1) أنظر: (ص 54)(10/76)
الثامنة عشرة: بعد السلف عن مدح الإنسان بما ليس فيه. التاسعة عشرة: قوله: "أنت منهم": علم من أعلام النبوة. العشرون: فضيلة عكاشة.
الثامنة عشرة: بعد السلف عن مدح الإنسان بما ليس فيه، يؤخذ من قوله: "أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت"؛ لأنه إذا كان رأى الكوكب الذي انقض استلزم أن يكون يقظان، واليقظان: إما أن يصلي، وإما أن يكون له شغل آخر، وإما أن يكون لديه مانع من النوم.
التاسعة عشرة: قوله:"أنت منهم" علم من أعلام النبوة. يعني: دليلاً على نبوة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكيف ذلك؟، لأن عكاشة بن محصن رضي الله عنه بقي محروساً من الكفر حتى مات على الإسلام، فيكون في هذا علم، يعني: دليلاً من دلائل نبوة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، هذا إذا قلنا: إن الجملة خبرية وليس جملة دعائية، فإن قلنا: إنها جملة دعائية، فقد نقول أيضاً: فيه علم من أعلام النبوة، وهو أن الله استجاب دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لكن استجابة الدعوة ليست من خصائص الأنبياء؛ فقد تجاب دعوة من ليس بنبي، وحينئذ لا يمكن أن تكون علماً من أعلام النبوة إلا حيث جعلنا الجملة خبرية محضة.
العشرون: فضيلة عكاشة، بكون ممن يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وهل نشهد له بذلك؟ نعم، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - شهد له بها.
* * *
الحادية والعشرون: استعمال المعاريض. الثانية والعشرون: حسن خلقه - صلى الله عليه وسلم -.
الحادية والعشرون: استعمال المعاريض. وفي المعاريض مندوحة عن الكذب، وذلك لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "سبقك بها عكاشة"؛ فإن هذا في الحقيقة ليس هو المانع الحقيقي، بل المانع ما أشرنا إليه في الشرح: إما أن يكون هذا الرجل منافقاً فلم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعله مع الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وإما خوفاً من انفتاح الباب؛ فيسأل هذه المرتبة من ليس من أهلها.(10/77)
الثانية والعشرون: حسن خلقه - صلى الله عليه وسلم -. وذلك لأنه رد هذا الرجل وسدَّ الباب على وجه ليس فيه غضاضة على أحد ولا كراهة.
* * *
باب الخوف من الشرك
وقول الله عز وجل: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [النساء: 116].
* مناسبة الباب للبابين قبله:
في الباب الأول ذكر المؤلف رحمه الله تحقيق التوحيد، وفى الباب الثاني ذكر أن من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، وثلث بهذا الباب رحمه الله تعالى، لأن الإنسان يرى أنه قد حقق التوحيد وهو لم يحققه، ولهذا قال بعض ... السلف: "ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص"، وذلك أن النفس متعلقة بالدنيا تريد حظوظها من مال أو جاه أو رئاسة، وقد تريد بعمل الآخرة الدنيا، وهذا نقص في الإخلاص، وقل من يكون غرضه الآخر في كل عمله، ولهذا أعقب المؤلف رحمه الله ما سبق من البابين بهذا الباب، وهو الخوف من الشرك، وذكر فيه آيتين:
الأولى قوله: { إن الله لا يغفر أن يشرك به } .
{ لا } : نافية، { أن يشرك به } : فعل مضارع مقرون بأن المصدرية، فيحول إلى مصدر تقديره: أن الله لا يغفر الإشراك به، أو لا يغفر إشراكاً به، فالشرك لا يغفره الله أبداً، لأنه جناية على حق الله الخاص، وهو التوحيد.
أما المعاصي، كالزنى والسرقة، فقد يكون للإنسان فيها حظ نفس بما نال من شهوة، أما الشرك، فهو اعتداء على حق الله تعالى، وليس للإنسان فيه حظ نفس، وليس شهوة يريد الإنسان أن ينال مراده، ولكنه ظلم، ولهذا قال الله تعالى: { إن الشرك لظلم عظيم } [لقمان: 13].
وهل المراد بالشرك هنا الأكبر، أم مطلق الشرك؟(10/78)
قال بعض العلماء: إنه مطلق يشمل كل شرك لو أصغر، كالحلف بغير الله، فإن الله لا يغفره، أما بالنسبة لكبائر الذنوب، كالسرقة والخمر، فإنها تحت المشيئة، فقد يغفرها الله، وشيخ الإسلام ابن تيمية المحقق في هذه المسائل اختلف كلامه في هذه المسألة، فمرة قال: الشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر، ومرة قال: الشرك الذي لا يغفره الله هو الشرك الأكبر، وعلى كل حال فيجب الحذر من الشرك مطلقاً، لأن العموم يحتمل أن يكون داخلاً فيه الأصغر، لأن قوله: { أن يشرك به } أن وما بعدها في تأويل مصدر، تقديره: إشراكاً به، فهو نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم.
قوله: { ويغفر ما دون ذلك } ، المراد بالدون هنا: ما هو أقل من الشرك، وليس ما سوى الشرك.
* * *
وقال الخليل عليه السلام: { واجنبني وبني أن نعبد الأصنام } [إبراهيم: 35]
الآية الثانية: قوله: { واجنبني وبني أن نعبد الأصنام } .
قيل: المراد ببنيه: بنوه لصلبه، ولا نعلم له من صلبه سوى إسماعيل وإسحاق، وقيل: المراد ذريته وما توالد من صلبه، وهو الأرجح، وذلك للآيات التي دلت على دعوته للناس من ذريته، ولكن كان من حكمة الله أن لا تجاب دعوته في بعضهم، كما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - دعا أن لا يجعل بأس أمته بينهم(1) فلم يجب الله دعاه.
وأيضاً يمنع من الأول أن الآية بصيغة الجمع، وليس لإبراهيم من الأبناء سوى إسحاق وإسماعيل.
ومعنى: { اجنبني } ، أي: اجعلني في جانب والأصنام في جانب، وهذا أبلغ مما لو قال: امنعني وبني من عبادة الأصنام، لأنه إذا كان في جانب عنها كان أبعد.
فإبراهيم عليه السلام يخاف الشرك على نفسه، وهو خليل الرحمن وإمام الحنفاء، فما بالك بنا نحن إذن؟.
__________
(1) يأتي تخريجه (ص 487).(10/79)
فلا تأمن الشرك، ولا تأمن النفاق، إذ لا يأمن النفاق إلا منافق، ولا يخاف النفاق إلا مؤمن، ولهذا قال ابن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، كلهم يخاف النفاق على نفسه"(1).
وها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه خاف على نفسه النفاق، فقال لحذيفة بن اليمان رضي الله عنه الذي أسر إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأسماء أناس من المنافقين، فقال له عمر رضي الله عنه: "أنشدك الله، هل سماني لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع من سمى من المنافقين؟. فقال حذيفة رضي الله عنه: لا، ولا أزكي بعدك أحداً"(2)، أراد عمر بذلك زيادة الطمأنينة، وإلا، فقد شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة.
ولا يقال: إن عمر رضي الله عن أراد حث الناس على الخوف من النفاق ولم يخفه على نفسه، لأن ذلك خلاف ظاهر اللفظ، والأصل حمل اللفظ على ظاهره، ومثل هذا القول يقوله بعض العلماء فيما يضيفه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى نفسه في بعض الأشياء، يقولون: هذا قصد به التعليم، وقصد به أن يبين لغيره، كما قيل، إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: رب اغفر لي لأن ليس له ذنباَ ولكن لأجل أن يعلم الناس الاستغفار، وهذا خلاف الأصل وقول بعضهم: إنه جهر بالذكر عقب الفريضة ليعلم الناس الذكر، لا لأن الجهر بذلك من السنة ونحو ذلك.
قوله: { أن نعبد الأصنام } . أن والفعل بعدها في تأويل مصدر: مفعول ثان لقوله: اجنبني.
والأصنام: جمع صنم، وهو ما جعل على صورة إنسان أو غيره يعبد من دون الله.
أما الوثن، فهو ما عبد من دون الله على أي وجه كان، وفي الحديث: "لا تجعل قبري وثناً يعبد"(3)، فالوثن أعم من الصنم.
__________
(1) البخاري: كتاب الإيمان/ باب خوف المؤمن أن يحبط عمله.
(2) أنظر: "طريق الهجرتين" لابن القيم آخر الطبقة الخامسة عشرة.
(3) موطأ الإمام مالك (1/172)(10/80)
ولا شك أن إبراهيم سأل ربه الثبات على التوحيد، لأنه إذا جنبه عبادة الأصنام صار باقياً على التوحيد.
* الشاهد من هذه الآية:
أن إبراهيم خاف الشرك، وهو إمام الحنفاء، وهو سيدهم ما عدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
وفي الحديث: "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر". فسئل عنه فقال: "الرياء"(1).
قوله: "وفي الحديث". الحديث: ما أضيف إلى الرسول، والخبر: ما أضيف إليه والى غيره، والأثر: ما أضيف إلى غير الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أي: إلى الصحابي فمن بعده، إلا إذا قيد فقيل: وفي الأثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيكون على ما قيد به.
قوله: "أخوف ما أخاف عليكم". الخطاب للمسلمين، إذ المسلم هو الذي يخاف عليه الشرك الأصغر، وليس لجميع الناس.
قوله: "الرياء"، مشتق من الرؤية مصدر راءى يرائي، والمصدر رياء، كقاتل يقاتل قتالاً.
والرياء: أن يعبد الله ليراه الناس فيمدحوه على كونه عابداً، وليس يريد أن تكون العبادة للناس، لأنه لو أراد ذلك، لكان شركاً أكبر، والظاهر أن هذا على سبيل التمثيل، وإلا، فقد يكون رياء، وقد يكون سماعاً، أي يقصد بعبادته أن يسمعه الناس فيثنوا عليه، فهذا داخل في الرياء، فالتعبير بالرياء من باب التعبير بالأغلب.
أما إن أراد بعبادته أن يقتدي الناس به فيها، فليس هذا رياء، بل هذا من الدعوة إلى الله - عز وجل ـ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "فعلت هذا لتأتموا بي وتعلموا صلاتي"(2).
والرياء ينقسم باعتبار إبطاله للعبادة إلى قسمين:
__________
(1) مسند الإمام أحمد (5/428) وشرح السنة (14/324).
(2) البخاري: كتاب الجمعة/باب الخطبة على المنبر، ومسلم: كتاب المساجد/باب جواز الخطوة والخطوتين في الصلاة.(10/81)
الأول: أن يكون في أصل العبادة، أي ما قام يتعبد إلا للرياء، فهذا عمله باطل مردود عليه لحديث أبي هريرة في "الصحيح" مرفوعاً، قال الله تعال: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه"(1).
الثاني: أن يكون الرياء طارئاً على العبادة، أي أن أصل العبادة لله، لكن طرأ عليها الرياء، فهذا ينقسم إلى قسمين:
الأول: أن يدافعه، فهذا لا يضره.
مثاله: رجل صلى ركعة، ثم جاء أناس في الركعة الثانية، فحصل في قلبه شيء بأن أطال الركوع أو السجود أو تباكى وما أشبه ذلك، فإن دافعه، فإنه لا يضره لأنه قام بالجهاد.
القسم الثاني: أن استرسل معه، فكل عمل ينشأ عن الرياء فهو باطل، كما لو أطال القيام، أو الركوع، أو السجود، أو تباكى، فهذا كل عمله حابط، ولكن هل هذا البطلان يمتد إلى جميع العبادة أم لا؟
نقول: لا يخلو هذا من حالين:
الحال الأولى: أن يكون آخر العبادة مبيناً على أولها، بحيث لا يصح أولها مع فساد آخرها، فهذه كلها فاسدة.
وذلك مثل الصلاة، فالصلاة مثلاً لا يمكن أن يفسد آخرها ولا يفسد أولها، وحينئذ تبطل الصلاة كلها إذا طرأ الرياء في أثنائها ولم يدافعه.
الحال الثانية: أن يكون أول العبادة منفصلاً عن آخرها، بحيث يصح أولها دون آخرها، فما سبق الرياء، فهو صحيح، وما كان بعده، فهو باطل.
مثال ذلك: رجل عنده مئة ريال، فتصدق بخمسين بنية خالصة، ثم تصدق بخمسين بقصد الرياء، فالأولى مقبولة، والثانية غير مقبولة، لأن آخرها منفك عن أولها.
فإن قيل: لو حدث الرياء في أثناء الوضوء، هل يلحق بالصلاة فيبطل كله، أو بالصدقة فيبطل ما حصل فيه الرياء فقط.
__________
(1) سبق تخريجه (ص37).(10/82)
فالجواب: يحتمل هذا وهذا، فيلحق بالصلاة لأن الوضوء عبادة واحدة ينبني بعضها على بعض، ليس تطهير كل عضو عبادة مستقلة، ويلحق بالصدقة لأنه ليس كالصلاة من كل وجه ولا الصدقة من كل وجه، لأننا إذا قلنا ببطلان ما حصل فيه الرياء، فأعاد تطهيره وحد لم يضر، لأن تكرر غسل الوضوء لا يبطل الوضوء ولو كان عمداً بخلاف الصلاة. فإنه إذا كرر جزءاً منها كركوع أو سجود لغير سبب شرعي، بطلت صلاته، فلو أنه بعد أن غسل يديه رجع وغسل وجهه، لم يبطل وضوؤه، ولو أنه بعد أن سجد رجع وركع، لبطلت صلاته، والترتيب موجود في هذا وهذا، لكن الزيادة في الصلاة تبطلها، والزيادة في الوضوء لا تبطله، والرجوع مثلاً إلى الأعضاء الأولى لا يبطله أيضاً، وإن كان الرجوع في الحقيقة لا يعتبر وضوءاً لأنه غير شرعي، وربما يكون في الأولى غسل وجهه على أنه واحدة، ثم غسل يديه، ثم قال: الأحسن أن أكمل الثلاث في الوجه أفضل، فغسل وجهه مرتين، وهو سيرتب أي سيغسل وجهه ثم يديه، فوضؤه صحيح.
ولو ترك التسبيح ثلاث مرات في الركوع، وبعدما سجد قال: فوت على نفس فضيلة، سأرجع لأجل أن أسبح ثلاث مرات، فتبطل صلاته، فالمهم أن هناك فرقاً بين الوضوء والصلاة، ومن أجل هذا الفرق لا أبت فيها الآن حتى أراجع وأتأمل إن شاء الله تعالى.
* * *
وعن أبي مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من مات وهو يدعو من دون الله نداً، دخل النار". رواه البخاري(1).
قوله: "من". هذه شرطية تفيد العموم للذكر والأنثى.
قوله: "يدعو من دون الله نداً"، أي: يتخذ لله نداً سواء دعاء عبادة أم دعاء مسألة، لأن الدعاء ينقسم إلى قسمين:
__________
(1) البخاري: كتاب التفسير/ باب { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً } .(10/83)
الأول: دعاء عبادة، مثاله: الصوم، والصلاة، وغير ذلك من العبادات، فإذا صلى الإنسان أو صام، فقد دعا ربه بلسان الحال أن يغفر له، وأن يجيره من عذابه، وأن يعطيه من نواله، وهذا في أصل الصلاة، كما أنها تتضمن الدعاء بلسان المقال.
ويدل لهذا القسم قوله تعالى: { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي } [غافر: 60]، فجعل الدعاء عبادة، وهذا القسم كله شرك، فمن صرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله، فقد كفر كفراً مخرجاً له عن الملة، فلو ركع لإنسان أو سجد لشيء يعظمه كتعظيم الله في هذا الركوع أو السجود، لكان مشركاً، ولهذا منع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الانحناء عن الملاقاة لما سئل عن الرجل يلقى أخاه أن يحني له؟ قال: "لا"(1).
خلافاً لما يفعله بعض الجهال إذا سلم عليك انحنى لك، فيجب على كل مؤمن بالله أن ينكره، لأنه عظمك على حساب دينه.
الثاني: دعاء المسألة، فهذا ليس كله شركاً، بل فيه تفصيل، فإن كان المخلوق قادراً على ذلك، فليس بشرك، كقوله: اسقني ماء لمن يستطيع ذلك. قال - صلى الله عليه وسلم -: "من دعاكم فأجيبوه"(2)، وقال تعالى: { وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه } [النساء: 8].
فإذا مد الفقير يده، وقال: ارزقني، أي: اعطني، فليس بشرك، كما قال تعال: { فارزقوهم منه } ، وأما أن دعا المخلوق بما لا يقدر عليه إلا الله، فإن دعوته شرك مخرج عن الملة.
مثال ذلك: أن تدعو إنساناً أن ينزل الغيث معتقداً أنه قادر على ذلك.
__________
(1) مسند الإمام أحمد (3/198)، والترمذي: كتاب الاستئذان/ باب ما جاء في المصافحة، وقال: "حديث حسن"، وابن ماجة: كتاب الأدب/ باب في المصافحة.
(2) مسند الإمام أحمد (2/68)، وأبو داود (3/17)، والنسائي (5/28)، والحاكم وصححه.(10/84)
والمراد بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من مات وهو يدعو من دون لله نداً" المراد الند في العبادة، أما الند في المسألة، ففيه التفصيل السابق.
ومع الأسف، ففي بعض البلاد الإسلامية من يعتقد أن فلاناً المقبور الذي بقى جثة أو أكلته الأرض ينفع أو يضر، أو يأتي بالنسل لمن لا يولد لها، وهذا - والعياذ بالله - شرك أكبر مخرج من الملة، وإقرار هذا أشد من إقرار شرب الخمر والزنا واللواط، لأنه إقرار على كفر، وليس إقراراً على فسوق فقط.
قوله: "دخل النار". أي: خالداً، مع أن اللفظ لا يدل عليه، لأن دخل فعل، والفعل يدل على الإطلاق.
وأيضاً قال الله تعالى: { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } [المائدة: 72]، وإذا حرمت الجنة، لزم أن يكون خالداً في النار أبداً، فيجب أن نخاف من الشرك مادامت هذه عقوبته، فالمشرك خسر الآخرة، لأنه في النار خالد، وخسر الدنيا أيضاً، لأنه لم يستفد منها شيئاً، وقامت عليه الحجة، وجاءه النذير، ولكنه خسر - والعياذ بالله ـ، ما استفاد شيئاً من الدنيا، قال تعالى: { أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير } [فاطر: 37]، وقال الله – عز وجل ـ: { ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين * يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد * يدعو لمن ضره اقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير } [الحج: 11-13]، وقال تعالى: { قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة } [الزمر: 15].(10/85)
فخسر نفسه، لأنه لم يستفد منها شيئاً، وخسر أهله، لأنهم إن كانوا من المؤمنين فهم في الجنة، فلا يتمتع بهم في الآخرة، وإن كانوا في النار فكذلك، لأنه كلما دخلت أمة لعنت أختها، والشرك خفي جداً، فقد يكون في الإنسان وهو لا يشعر إلا بعد المحاسبة الدقيقة، ولهذا قال بعض السلف: "ما جاهدت نفسي على شيء ما جاهدتها على الإخلاص".
فالشرك أمره صعب جداً ليس بالهين، ولكن ييسر الله الإخلاص على العبد، وذلك بأن يجعله الله نصب عينيه، فيقصد بعمله وجه الله لا يقصد مدح الناس أو ذمهم أو ثناءهم عليه، فالناس لا ينفعونه أبداً، حتى لو خرجوا معه لتشييع جنازته لم ينفعه إلا عمله، قال - صلى الله عليه وسلم -: "يخرج مع الميت أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان: أهله وماله، ويبقى عمله"(1).
وكذلك أيضاً من المهم أن الإنسان لا يفرحه أن يقبل الناس قوله لأنه قوله، لكن يفرحه أن يقبل الناس قوله إذا رأى أنه الحق لأنه الحق، لا أنه قوله، وكذا لا يحزنه أن يرفض الناس قوله لأنه قوله، لأنه حينئذ يكون قد دعا لنفسه، لكن يحزنه أن يرفضوه لأنه الحق، وبهذا يتحقق الإخلاص.
فالإخلاص صعب جداً، إلا أن الإنسان إذا كان متجهاً إلى الله اتجاهاً صادقاً سليماً على صراط مستقيم، فإن الله يعينه عليه، ويسره له.
ولمسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار"(2).
* * *
قوله: "من". شرطية تفيد العموم، وفعل الشرط: "لقي"، وجوابه قوله: "دخل الجنة"، وهذا الدخول لا ينافي أن يعذب بقدر ذنوب إن كانت عليه ذنوب، لدلالة نصوص الوعيد على ذلك، وهذا إذا لم يغفر الله له، لأن داخل تحت المشيئة.
قوله: "لا يشرك". في محل نصب على الحال من فعل "لقي".
__________
(1) البخاري: كتاب الرقاق/ باب سكرات الموت، ومسلم (كتاب الزهد والرقائق.
(2) مسلم كتاب الإيمان/ من مات ولا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة.(10/86)
قوله: "شيئاً". نكرة في سياق الشرط، فيعم أي شرك حتى ولو أشرك مع الله أشرف الخلق، وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - دخل النار، فكيف بمن يجعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعظم من الله، فيلجأ إليه عند الشدائد، ولا يلجأ إلى الله، بل ربما يلجأ إلى ما دون الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟! وهناك من لا يبالي بالحلف بالله صادقاً أم كاذباً، ولكن لا يحلف بقوميته إلا صادقاً، ولهذا اختلف فيمن لا يبالي بالحلف بالله، ولكنه لا يحلف بقوميته إلا صادقاً، ولهذا اختلف فيمن لا يبالي بالحلف بالله، ولكن لا يحلف بملته أو بما يعظمه إلا صادقاً، فلزمته يمين، هل يحلف بالله أو يحلف بهذا؟
فقيل: يحلف بالله ولو كذب، ولا يعان على الشرك، وهو الصحيح.
وقيل: يحلف بغير الله، لأن المقصود الوصول إلى بيان الحقيقة، وهو إذا كان كاذباً لا يمكن أن يحلف، لكن نقول: إن كان صادقاً حلف ووقع في الشرك.
مسألة: هل يلزم من دخول النار الخلود لمن أشرك؟
هذا بحسب الشرك، إن كان الشرك أصغر كما دلت عل ذلك النصوص، فإنه لا يلزم من ذلك الخلود في النار. وإن كان أكبر، فإنه يلزم منه الخلود في النار.
لكن لو حلمنا الحديث على الشرك الأكبر في الموضعين في قوله: "من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة"(1)، وفي قوله: "ومن لقي الله يشرك به شيئاً دخل النار"(2)، وقلنا: من لقي الله لا يشرك به شركاً أكبر دخل الجنة، وإن عذب قبل الدخول في النار بما يستحق، فيكون مآله إلى الجنة، ومن لقيه يشرك به شركاً أكبر دخل النار مخلداً فيها لم نحتج إلى هذا التفصيل.
* * *
فيه مسائل:
الأولى: الخوف من الشرك. الثانية: أن الرياء من الشرك. الثالثة: أنه من الشرك الأصغر.
فيه مسائل:
الأولى: الخوف من الشرك. لقوله: { إن الله لا يغفر أن يشرك به } ، ولقوله: { واجنبني وبني أن نعبد الأصنام } .
__________
(1) سبق تخريجه (ص112).
(2) سبق تخريجه (ص112).(10/87)
الثانية: أن الرياء من الشرك. لحديث: "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر"، فسئل عنه فقال "الرياء"، وقد سبق بيان أحكامه بالنسبة إلى إبطال العبادة.
الثالثة: أنه من الشرك الأصغر، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عنه فقال: "الرياء"، فسماه شركاً أصغر، وهل يمكن أن يصل إلى الأكبر؟
ظاهر الحديث لا يمكن، لأنه قال: "الشرك الأصغر"، فسئل عنه، فقال: "الرياء".
لكن في عبارات ابن القيم رحمه الله أنه إذا ذكر الشرك الأصغر قال: كيسير الرياء، فهذا يدل على أن كثيره ليس من الأصغر، لكن إن أراد بالكمية، فنعم، لأنه لو كان يرائي في كل عمل لكان مشركاً شركاً أكبر لعدم وجود الإخلاص في عمل يعمله، أما إذا أراد الكيفية، فظاهر الحديث أنه أصغر مطلقاً.
* * *
الرابعة: أنه أخوف ما يخاف منه على الصالحين. الخامسة: قرب الجنة والنار. السادسة: الجمع بين قربهما في حديث واحد. السابعة: أنه من لقيه يشرك به شيئاً، دخل النار، ولو كان من أعبد الناس.
الرابعة: أنه أخوف ما يخاف منه على الصالحين. وتؤخذ من قوله: "أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر"، ولأنه قد يدخل في قلب الإنسان من غير شعور لخفائه وتطلع النفس إليه، فإن كثيراً من النفوس تحب أن تمدح بالتعبد لله.
الخامسة: قرب الجنة والنار. لقوله: "من لقي الله لا يشرك به شيئاً، دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً، دخل النار".
السادسة: الجميع بين قربهما في حديث واحد. "من لقي الله لا يشرك به شيئاً...." الحديث.
السابعة: أن من لقيه يشرك به شيئاً دخل النار، ولو كان من أعبد الناس. تؤخذ من العموم في قوله: "من لقي الله"، لأن "من" للعموم، لكن إن كان شركه أكبر، لم يدخل الجنة وإن كان أعبد الناس، لقوله تعالى: { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار } [المائدة: 72]، وإن كان أصغر، عذب بقدر ذنوبه ثم دخل الجنة.
* * *(10/88)
الثامنة: المسألة العظيمة سؤال الخليل له ولبنيه وقاية عبادة الأصنام. التاسعة: اعتباره بحال الأكثر، لقوله: { رب إنهن أضللن كثيراً من الناس } [إبراهيم: 36]. العاشرة: فيه تفسير (لا إله إلا الله) كما ذكره البخاري. الحادية عشرة: فضيلة من سلم من الشرك.
الثامنة: المسألة العظيمة سؤال الخليل له ولبنيه وقاية عبادة الأصنام، تؤخذ من قوله تعالى: { واجنبني وبني أن نعبد الأصنام } .
التاسعة: اعتباره بحال الأكثر، لقوله: { رب إنهن أضللن كثيراً من الناس } . وفيه إشكال، إذ المؤلف يقول: بحال الأكثر، والآية: { كثيراً من الناس } ، وفرق بين كثير وأكثر، ولهذا قال تعالى في بني آدم: { وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً } [الإسراء: 70]، فلم يقل على أكثر الخلق، ولا على الخلق، فالآدميون فضلوا على كثير ممن خلق الله، وليسوا أكرم الخلق على الله، ولكنه كرمهم.
العاشرة: فيه تفسير لا إله إلا الله كما ذكره البخاري. الظاهر أنها تؤخذ من جميع الباب، لأن لا إله إلا الله فيها نفي وإثبات.
الحادية عشرة: فضيلة من سلم من الشرك. لقوله: { ويغفر ما دون ذلك } ، وقوله: "من لقي الله لا يشرك به شيئاً، دخل الجنة".
* * *
باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله
وقول الله تعالى: { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة } الآية [يوسف: 108].
هذا الترتيب الذي ذكره المؤلف من أحسن ما يكون، لأنه لما ذكر توحيد الإنسان بنفسه ذكر دعوة غيره إلى ذلك، لأنه لا يتم الإيمان إلا إذا دعا إلى التوحيد، قال تعالى: { والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } [سورة العصر].(10/89)
فلا بد مع التوحيد من الدعوة إليه، وإلا، كان ناقصاً، ولا ريب أن هذا الذي سلك سبيل التوحيد لم يسلكه إلا وهو يرى أنه أفضل سبيل، وإذا كان صادقاً في اعتقاده، فلابد أن يكون داعياً إليه، والدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله من تمام التوحيد، ولا يتم التوحيد إلا به.
* * *
قوله: { قل هذه سبيلي } ، المشار إليه ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشرع عبادة ودعوة إلى الله.
سبيلي: طريقي.
قوله: { أدعو } ، حال من الياء في قوله: { سبيلي } ، ويحتمل أن تكون استئنافاً لبيان تلك السبيل.
وقوله: { إلى الله } ، لأن الدعاة إلى الله ينقسمون إلى قسمين:
داع إلى الله.
داع إلى غيره.
فالداعي إلى الله تعالى هو المخلص الذي يريد أن يوصل الناس إلى الله تعالى.
والداعي إلى غيره قد يكون داعياً إلى نفسه، يدعو إلى الحق لأجل أن يعظم بين الناس ويحترم، ولهذا تجده يغضب إذا لم يفعل الناس ما أمر به، ولا يغضب إذا ارتكبوا نهياً أعظم منه، لكن لم يدع إلى تركه.
وقد يكون داعياً إلى رئيسه كما يوجد في كثير من الدول من علماء الضلال من علماء الدول، لا علماء الملل، يدعو إلى رؤسائهم.
من ذلك لما ظهرت الاشتراكية في البلاد العربية قام بعض علماء الضلال بالاستدلال عليها بآيات وأحاديث بعيدة الدلالة، بل ليس فيها دلالة، فهؤلاء دعوا إلى غير الله.(10/90)
ومن دعا إلى الله ثم رأى الناس فارين منه، فلا ييأس، ويترك الدعوة، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي: "انفذ على رسلك، فوالله، لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم"(1)، يعني: أن اهتداء رجل واحد من قبائل اليهود خير لك من حمر النعم، فإذا دعا إلى الله ولم يجب، فليكن غضبه من أجل أن الحق لم يتبع، لا لأنه لم يجب، فإذا كان يغضب لهذا، فمعناه أنه يدعو إلى الله، فإذا استجاب واحد، كفى، وإذا لم يستجب أحد، فقد أبرأ ذمته أيضاً، وفي الحديث: "والنبي وليس معه أحد"(2).
ثم إنه يكفي من الدعوة إلى الحق والتحذير من الباطل أن يتبين للناس أن هذا حق وهذا باطل، لأن الناس إذا سكتوا عن بيان الحق، وأقر الباطل مع طول الزمن، ينقلب الحق باطلاً، والباطل حقاً.
قوله: { على بصيرة } ، أي: علم، فتضمنت هذه الدعوة الإخلاص والعلم، لأن أكثر ما يفسد الدعوة عدم الإخلاص، أو عدم العلم، وليس المقصود بالعلم في قوله { على بصيرة } العلم بالشرع فقط، بل يشمل، العلم بالشرع، والعلم بحال المدعو، والعلم بالسبيل الموصل إلى المقصود، وهو الحكمة.
فيكون بصيراً بحكم الشرع، وبصيراً بحال المدعو، وبصيراً بالطريق الموصلة لتحقيق الدعوة، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: "إنك تأتي قوماً أهل كتاب"(3).
__________
(1) يأتي (ص126).
(2) سبق تخريجه (ص 6)
(3) البخاري: كتاب المغازي/ باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب الدعاء إلى الشهادتين.(10/91)
وهذه ليست كلها من العلم بالحكم الشرعي، لأن علمي أن هذا الرجل قابل للدعوة باللين، وهذا قابل للدعوة بالشدة، وهذا عنده علم يمكن أن يقابلني بالشبهات أمر زائد على العلم بالحكم الشرعي، وكذلك العلم بالطرق التي تجلب المدعوين كالترغيب بكذا والتشجيع، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل قتيلاً، فله سلبه"(1)، أو بالتأليف، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى المؤلفة قلوبهم في غزوة حنين إلى مئة بعير(2)، فهذا كله من الحكمة، فالجاهل لا يصلح للدعوة، وليس محموداً وليست طريقته طريقة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لأن الجاهل يفسد أكثر مما يصلح.
قوله: { أنا ومن اتبعني } ، ذكروا فيها رأيين:
الأول: "أنا" مبتدأ، وخبرها "على بصيرة"، "ومن اتبعني" معطوفة على "إنا" أي: أنا ومن اتبعني على بصيرة، أي: في عبادتي ودعوتي.
الثاني: "أنا" توكيد للضمير المستتر في قوله: "أدعو"، أي: أدعو أنا إلى الله ومن اتبعني يدعو أيضاً، أي: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله ويدعو من اتبعني، وكلانا على بصيرة.
قوله: { وسبحان الله } ، أي: أن أكون أدعو على غير بصيرة!
وإعراب "سبحان": مفعول مطلق عامله محذوف تقديره أسبح.
قوله: { وما أنا من المشركين } ، محلها مما قبلها في المعنى توكيد، لأن التوحيد معناه نفي الشرك.
* * *
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذاً إلى اليمن، قال له: "إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله...
* * *
__________
(1) البخاري: كتاب المغازي/ باب قول الله تعالى: { ويوم حنين إذ أعجبتكم... } ، ومسلم: كتاب الجهاد/ باب استحقاق القاتل سلب القتيل.
(2) البخاري: كتاب الخمس/ باب ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعطي المؤلفة، ومسلم: كتاب الزكاة/ باب إعطاء المؤلفة.(10/92)
(وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله)، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإن ليس بينها وبين الله حجاب". أخرجاه (1).
وقوله (أي: قول ابن عباس): "بعث معاذاً" أي: أرسله، وبعثه على صفة المعلم والحاكم والداعي، وبعثه في ربيع الأول سنة عشرة من الهجرة، وهذا هو المشهور، وبعثه هو وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما، بعث معاذاً إلى صنعاء وما حولها، وأبا موسى إلى عدن وما حولها، وأمرهما: "أن اجتمعا وتطاوعا ولا تفترقا، ويسرا ولا تعسرا، وبشرا وذكرا ولا تنفرا"(2).
قوله: "لما"، إعرابها شرطية، وهي حرف وجود لوجود، و"لو": حرف امتناع لامتناع، و"لولا" حرف امتناع لوجود.
قوله: "إنك تأتي قوماً من أهل كتاب"، قال ذلك مرشداً له، وهذا دليل على معرفته - صلى الله عليه وسلم - بأحوال الناس، وما يعلمه من أحوالهم، فله طريقان:
1- الوحي. ... ... ... ... ... 2- العلم والتجربة.
قوله: "من" بيانية، والمراد بالكتاب: التوراة والإنجيل، فيكون المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى، وهم أكثر أهل اليمن في ذلك الوقت، وإن كان في اليمن مشركون، لكن الأكثر اليهود والنصارى، ولهذا اعتمد الأكثر.
وأخبره النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، لأمرين:
الأول: أن يكون بصيراً بأحوال من يدعو.
الثاني: أن يكون مستعداً لهم، لأنهم أهل كتاب، وعندهم علم.
قوله: "فليكن"، الفاء للاستئناف أو عاطفة، واللام للأمر، و"أول": اسم يكن، وخبرها "شهادة"، وقيل العكس، يعني "أول" خبر مقدم و"شهادة" اسم يكن مؤخراً.
__________
(1) تقدم تخريجه (ص119).
(2) البخاري: كتاب المغازي/ باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن.(10/93)
والظاهر أنه يريد أن يبين أن أول ما يكون هي الشهادة، وإذا كان كذلك، يكون "أول" مرفوعاً على أنه اسم يكن، أي: أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله.
قوله: "شهادة"، الشهادة هنا من العلم، قال تعالى: { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } [الزخرف: 86]، فالشهادة هنا العلم والنطق باللسان، لأن الشاهد مخبر عن علم، وهذا المقام لا يكفي فيه مجرد الإخبار، بل لابد من علم وإخبار وقبول وإقرار وإذعان، أي: انقياد.
فلو اعتقد بقلبه، ولم يقل بلسانه: أشهد أن لا إله إلا الله، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إنه ليس بمسلم بالإجماع حتى ينطق بها، لأن كلمة أشهد تدل على الإخبار، والإخبار متضمن للنطق، فلابد من النطق، فالنية فقط لا تجزئ، ولا تنفعه عند الله حتى ينطق، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعمه أبي طالب: "قل"(1)، ولم يقل: اعتقد أن لا إله إلا الله.
قوله: "لا إله"، أي: لا معبود، فإله بمعنى مألوه، فهو فعال بمعنى مفعول، وعند المتكلمين، إله بمعنى آله، فهو اسم فاعل، وعليه يكون معنى لا إله، أي: لا قادر على الاختراع، وهذا باطل(2)، ولو قيل بهذا المعنى، لكان المشركون الذين قاتلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - موحدين لأنهم يقرّون به، قال تعالى: { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله } [الزخرف: 87]، وقال تعالى: { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } [الزمر: 38].
فإن قيل: كيف يقال: لا معبود إلا الله، والمشركون يعبدون أصنامهم؟!
أجيب: بأنهم يعبدونها بغير حق، فهم وإن سموها آلهة، فألوهيتها باطلة، وليست معبودات بحق، ولذلك إذا مسهم الضر، لجؤوا إلى الله تعالى، وأخلصوا له الدين، وعلى هذا لا تستحق أن تسمى آلهة.
__________
(1) البخاري: كتاب الجنائز/ باب إذا قال المشرك عند الموت لا إله إلا الله، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت.
(2) أنظر (ص 53).(10/94)
فهم يعبدونها ويعترفون بأنهم لا يعبدونها إلا لأجل أن تقربهم إلى الله فقط، فجعلوها وسيلة وذريعة، وبهذا التقدير لا يرد علينا إشكال في قول الرسل لقومهم { اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } [الإعراف: 59]، لأن هذه المعبودات لا تستحق أن تعبد، بل الإله المعبود حقاً هو الله - سبحانه وتعالى -.
وفى قوله: "لا إله إلا الله" نفي الألوهية لغير الله، وإثباته لله، ولهذا جاءت بطريق الحصر.
* * *
ولهما عن سهل بن سعد (رضي الله عنه): أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر: "لأعطين غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه والله ورسوله، يفتح الله على يديه". فبات الناس يدوكون ليلتهم، أيهم يعطاها، فلما أصبحوا، غدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كلهم يرجو أن يعطاها.
قوله: "لأعطين"، هذه جملة مؤكدة بثلاث مؤكدات: القسم المقدر، واللام، والنون، والتقدير: والله لأعطين.
قوله: "الراية"، العلم، وسمي راية، لأنه يُرى، وهو ما يتخذه أمير الجيش للعلامة على مكانه.
واللواء، قيل: إنه الراية، وقيل ما لوي أعلاه، أو لوي كله، فيكون الفرق بينهما، أن الراية مفلولة لا تطوى، واللواء يطوى إما أعلاه أو كله، والمقصود منهما الدلالة، ولهذا يسمى علماً.
قوله: "غداً"، يراد به ما بعد اليوم، والأمس يراد به ما قبله.
والأصل أنه يراد بالغد ما يلي يومك، ويراد بالأمس الذي يليه يومك، وقد يراد بالغد ما وراء ذلك، قال تعالى: { ولتنظر نفس ما قدمت لغد } [الحشر: 18]، أي: يوم القيامة.
وكذلك بالأمس قد يراد به ما وراء ذلك، أي: ما وراء اليوم الذي يليه يومك.(10/95)
قوله: "يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله". أثبت المحبة لله من الجانبين، أي أن الله تعالى يحب ويحب، وقد أنكر هذا أهل التعطيل، وقالوا: المراد بمحبة الله للعبد إثابته أو إرادة إثابته، والمراد بمحبة العبد لله محبة ثوابه، وهذا تحريف للكلام عن ظاهره مخالف لإجماع السلف من الصحابة والتابعين وأثمة الهدى من بعدهم، ومحبة الله تعالى ثابتة له حقيقة وهي من صفاته الفعلية، وكل شيء من صفات الله يكون له سبب، فهو من الصفات الفعلية، والمحبة لها سبب، فقد يبغض الله إنساناً في وقت ويحبه في وقت لسبب من الأسباب.
قوله: "على يديه"، أي يفتح خيبر على يديه، وفي ذلك بشارة بالنصر.
قوله: "يدوكون"، أي: يخوضون، وجملة يدوكون خبر بات.
قوله: "غدوا على رسول الله"، أي: ذهبوا إليه في الغدوة مبكرين، كلهم يرجو أن يعطاها لينال محبة الله ورسوله.
* * *
فقال: "أين علي بن أبي طالب؟". فقيل هو يشتكي عينيه. فأرسلوا إليه، فأتي به، فبصق في عينيه، ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال: "انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم".
قوله: "فقال: أين علي؟"، القائل: الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: "يشتكي عينيه"، أي: يتألم منهما، ولكنه يشتكي إلى الله، لأن عينية مريضة.
وقوله: "فأرسلوا إليه": بأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: "فأتى به"، كأنه رضي الله عنه قد عمم على عينيه، لأن قوله: "أتي به"، أي: يقاد.
وقوله: "كأن لم يكن به وجع"، أي: ليس بهما أثر حمرة ولا غيرها.
قوله: "فبرأ"، هذا من آيات الله الدالة على قدرته وصدق رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا من مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله: لتخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - له ذلك من بين سائر الصحابة.(10/96)
قوله: "انفذ على رسلك"، أي: مهلك، مأخوذ من رسل الناقة، أي: حليبها يحلب شيئاً فشيئاً، والمعنى: امش هويناً هويناً، لأن المقام خطير، لأنه يخشى من كمين، واليهود خبثاء أهل غدر.
قوله: "حتى تنزل بساحتهم"، أي: ما يقرب منهم وما حولهم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين"(1).
وهذا إذا كنا على الوصف الذي عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، أما إذا كنا على وصف القومية، فإننا لو نزلنا في أحضانهم، فمن الممكن أن يقوموا ونكون في الأسفل.
* * *
ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله، لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم" (2). (يدوكون)، أي: يخوضون.
قوله: "ثم ادعهم"، أي: أهل خبير، "إلى الإسلام"، أي: الاستسلام لله.
قوله: "وأخبرهم بما يجب عليهم"، أي: فلا تكفي الدعوة إلى الإسلام فقط، بل يخبرهم بما يجب عليهم فيه حتى يقتنعوا به ويلتزموا، لكن على الترتيب الذي في حديث بعث معاذ.
وهذه المسألة يتردد الإنسان فيها: هل يخبرهم بما يجب عليهم من حق الله في الإسلام قبل أن يسلموا أو بعده؟
فإذا نظرنا إلى ظاهر حديث معاذ وحديث سهل هذا، فإننا نقول: الأولى أن تدعوه للإسلام، وإذا أسلم تخبره.
وإذا نظرنا إلى واقع الناس الآن، وأنهم لا يسلمون عن اقتناع، فقد يسلم، وإذا أخبرته ربما يرجع، قلنا: يخبرون أولاً بما يجب عليهم من حق الله فيه، لئلا يرتدوا عن الإسلام بعد إخبارهم بما يجب عليهم، وحينئذ يجب قتلهم لأنهم مرتدون.
ويحتمل أن يقال: تترك هذه المسألة للواقع وما تقتضيه المصلحة من تقديم هذا أو هذا.
__________
(1) البخاري: كتاب الأذان/ باب ما يحقن بالأذان من الدماء، ومسلم: كتاب الحج/ باب فضل المدينة.
(2) البخاري: كتاب الجهاد/ باب دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الإسلام، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة/ باب من فضائل علي.(10/97)
قوله: "لأن يهدي الله"، اللام واقعة في جواب القسم، وأن بفتح الهمزة مصدرية، ويهدي مؤول بالمصدر مبتدأ، "وخير": خبر، ونظيرها قوله تعالى: { وإن تصوموا خير لكم } [البقرة: 184].
قوله: "حمر النعم" بتسكين الميم: جمع أحمر، وبالضم: جمع حمار، والمراد بالأول.
وحمر النعم: هي الإبل الحمراء، وذكرها لأنها مرغوبة عند العرب، وهي أحسن وأنفس ما يكون من الإبل عندهم.
وقوله: "لأن يهدي الله بك"، ولم يقل: لأن تهدي، لأن الذي يهدي هو الله.
والمراد بالهداية هنا هداية التوفيق والدلالة.
وهل المراد الهداية من الكفر إلى الإسلام، أو يعم كل هداية؟
نقول: هو موجه إلى قوم يدعوهم إلى الإسلام، وهل نقول: إن القرينة الحالية تقتضي التخصيص، وأن من اهتدى على يديه رجل في مسألة فرعية من مسائل الدين لا يحصل له هذا الثواب بقرينة المقام، لأن علياً موجه إلى قوم كفار يدعوهم الإسلام، والله أعلم.
* * *
فيه مسائل:
الأولى: أن الدعوة إلى الله طريق من اتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الثانية: التنبيه على الإخلاص، لأن كثيراً من الناس لو دعا إلى الحق، فهو يدعو إلى نفسه.
فيه مسائل:
الأولى: أن الدعوة إلى الله طريق من اتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتؤخذ من قوله تعال: { قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني } .
والأشمل من ذلك والأبلغ في مطابقة الآية أن يقال: إن الدعوة إلى الله طريق الرسل وأتباعهم.
الثانية: التنبيه على الإخلاص، وتؤخذ من قوله: "أدعو إلى الله"، ولهذا قال: "لأن كثيراً من الناس لو دعا إلى الحق، فهو يدعو إلى نفسه"، فالذي يدعو إلى الله هو الذي لا يريد إلا أن يقوم دين الله، والذي يدعو إلى نفسه هو الذي يريد أن يكون قوله هو المقبول، حقاً كان أم باطلاً.
* * *(10/98)
الثالثة: أن البصيرة من الفرائض. الرابعة: من دلائل حسن التوحيد كونه تنزيهاً لله تعالى عن المسبة. الخامسة: أن من قبح الشرك كون مسبة لله. السادسة: وهي من أهمها: إبعاد المسلم عن المشركين، لئلا يصير منهم، ولو لم يشرك.
الثالثة: أن البصيرة من الفرائض، وتؤخذ من قوله تعالى: { أدعو إلى الله على بصيرة } ، ووجه كون البصيرة من الفرائض، لأنه لا بد للداعية من العلم بما يدعو إليه، والدعوة فريضة. فيكون العلم بذلك فريضة.
الرابعة: من دلائل حسن التوحيد كونه تنزيهاً لله عن المسبة، وتؤخذ من قوله تعالى: { سبحان الله وما أنا من المشركين } ، فسبحان الله دليل على أنه واحد لكماله.
ومعنى عن المسبة، أي: وعن مماثلة الخالق للمخلوق، إذ تمثيل الكامل بالناقص يجعله ناقصاً.
قال الشاعر:
ألم تر أن السيف ينقص قدره ... ... ... إذا قيل إن السيف أمضى من العصا؟
الخامسة: أن من قبح الشرك كونه مسبة لله، وتؤخذ من قوله تعالى: { وما أنا من المشركين } بعد قوله: { وسبحان الله } .
السادسة - وهي من أهمها - : إبعاد المسلم عن المشركين، لئلا يصير منهم، ولو لم يشرك. لقوله تعالى: { وما أنا من المشركين } ، ولم يقل: "وما أنا مشرك"، لأنه إذا كان بينهم، ولو لم يكن مشركاً، فهو في ظاهره منهم، ولهذا لما قال الله للملائكة: { اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس } [البقرة: 34]، توجه الخطاب له ولهم.
* * *
السابعة: كون التوحيد أول واجب. الثامنة: أنه يبدأ به قبل كل شيء، حتى الصلاة. التاسعة: أن معنى: "أن يوحدوا الله": معنى شهادة أن لا إله إلا الله. العاشرة: أن الإنسان قد يكون من أهل الكتاب وهو لا يعرفها، أو يعرفها ولا يعمل بها.
السابعة: كون التوحيد أول واجب، تؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله"، وفي رواية: "أن يوحدوا الله".(10/99)
وقال بعض العلماء، أول واجب النظر، لكن الصواب أن أول واجب هو التوحيد، لأن معرفة الخالق دلت عليها الفطرة.
الثامنة: أن يبدأ به قبل كل شيء، تؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه".
التاسعة: أن معنى أو يوحدوا الله معنى شهادة أن لا إله إلا الله، تؤخذ من تعبير الصحابي حيث عبر في رواية بقوله: "شهادة أن لا إله إلا الله"، وفي رواية عبر بقوله: "أن يوحدوا الله".
العاشرة: أن الإنسان قد يكون من أهل الكتاب وهو لا يعرفها أو يعرفها ولا يعمل بها، ومراده بقوله: "لا يعرفها، أو يعرفها" شهادة أن لا إله إلا الله، وتؤخذ من قوله: "فليكن أو ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله"، إذ لو كانوا يعرفون لا إله إلا الله ويعملون بها ما احتاجوا إلى الدعوة إليها.
* * *
الحادية عشرة: التنبيه على التعليم بالتدريج. الثانية عشرة: البداءة بالأهم فالأهم. الثالثة عشرة: مصرف الزكاة. الرابعة عشرة: كشف العالم الشبهة عن المتعلم. الخامسة عشرة: النهي عن كرائم الأموال. السادسة عشرة: اتقاء دعوة المظلوم.
الحادية عشرة: التنبيه على التعليم بالتدريج. تؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: "ادعهم إلى أن يوحدوا الله، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض ... عليهم..." إلخ الحديث.
الثانية عشرة: البداءة بالأهم فالأهم. تؤخذ من أمره - صلى الله عليه وسلم - معاذاً بالتوحيد ليدعو إليه أولاً، ثم الصلاة، ثم الزكاة.
الثالثة عشرة: مصرف الزكاة. تؤخذ من قوله: "فترد على فقرائهم".
الرابعة عشرة: كشف العالم الشبهة عن المتعلم. المراد بالشبهة هنا: شبهة العلم، أي: يكون عنده جهل.
تؤخذ من قوله: "إن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم"، فبين أن هذه الصدقة تؤخذ من الأغنياء، وأن مصرفها الفقراء.(10/100)
الخامسة عشرة: النهي عن كرائم الأموال. تؤخذ من قوله: "فإياك وكرائم أموالهم"، إذ إياك تفيد التحذير، والتحذير يستلزم النهي.
السادسة عشرة: اتقاء دعوة المظلوم. تؤخذ من قوله: "واتق دعوة المظلوم".
* * *
السابعة عشرة: الإخبار بأنها لا تحجب. الثامنة عشرة: من أدلة التوحيد ما جرى على سيد المرسلين وسادات الأولياء من المشقة والجوع والوباء. التاسعة عشرة: قوله: "لأعطين الراية...." إلخ: علم من أعلام النبوة.
السابعة عشرة: الإخبار بأنها لا تحجب. تؤخذ من قوله: "فإنه ليس بينها وبين الله حجاب"، فقرن الترغيب أو الترهيب بالأحكام، مما يحث النفس إن كان ترغيباً، ويبعدها ويزجرها إن كان ترهيباً، لقوله: "اتق دعوة المظلوم"، فالنفس قد لا تتقي، لكن إذا قيل: ليس بينها وبين الله حجاب، خافت ونفرت من ذلك.
الثامنة عشرة: من أدلة التوحيد ما جري على سيد المرسلين وسادات الأولياء من المشقة والجوع والوباء. والظاهر أن المؤلف رحمه الله يريد الإشارة إلى قصة خيبر، إذ وقع فيها في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - جوع عظيم، حتى إنهم أكلوا الحمير والثوم، وأما الوباء، فهو ما وقع في عهد علي رضي الله عنه، وأما المشقة، فظاهرة.
ووجه كون ذلك من أدلة التوحيد: أن الصبر والتحمل في مثل هذه الأمور يدل على إخلاص الإنسان في توحيده وأن قصده الله، ولذلك صبر على البلاء.
التاسعة عشرة: قوله: "لأعطين الراية" علم من أعلام النبوة. لأن هذا حصل، فعلي بن أبي طالب يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله.
* * *
العشرون: تفله في عينيه علم من أعلامها أيضاً. الحادية والعشرون: فضيلة علي رض الله عنه. الثانية والعشرون: فضل الصحابة في دوكهم تلك الليلة وشغلهم عن بشارة الفتح. الثالثة والعشرون: الإيمان بالقدر لحصولها لمن لم يسع لها ومنعها عمن سعى. الرابعة والعشرون: الأدب في قوله: "على رسلك". الخامسة والعشرون: الدعوة إلى الإسلام قبل القتال.(10/101)
العشرون: تفله في عينيه علم من أعلامها أيضاً. لأن بصق في عينيه، فبرأ كأن لم يكن به وجع.
الحادية والعشرون: فضيلة علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وهذا ظاهر، لأنه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله.
الثانية والعشرون: فضل الصحابة في دوكهم تلك الليلة وشغلهم عن بشارة الفتح. لأنهم انشغلوا عن بشارة الفتح بالتماسهم معرفة من يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله.
الثالثة والعشرون: الإيمان بالقدر لحصولها لمن لم يسع لها ومنعها عمن سعى. لأن الصحابة غدوا على رسول الله مبكرين، كلهم يرجو أن يعطاها ولم يعطوها، وعلى بن أبي طالب مريض ولم يسع لها، ومع ذلك أعطي الراية.
الرابعة والعشرون: الأدب في قوله: "على رسله". ووجهه: أنه أمره بالتمهل وعدم التسرع.
الخامسة والعشرون: الدعوة إلى الإسلام قبل القتال. لقوله: "انزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام".
* * *
السادسة والعشرون: أنه مشروع لمن دعوا قبل ذلك وقوتلوا. السابعة والعشرون: الدعوة بالحكمة، لقوله: "أخبرهم بما يجب عليهم". الثامنة والعشرون: المعرفة بحق الله في الإسلام. التاسعة والعشرون: ثواب من اهتدى على يديه رجل واحد. الثلاثون: الحلف على الفتيا.
السادسة والعشرون: أنه مشروع لمن دعوا قبل ذلك وقوتلوا.
السابعة والعشرون: الدعوة بالحكمة، لقوله: "أخبرهم بما يجب عليهم". لأن من الحكمة أن تتم الدعوة، وذلك بأن تأمره بالإسلام أولاً، ثم تخبره بما يجب عليه من حق الله، ولا يكفي أن تأمره بالإسلام، لأنه قد يطبق هذا الإسلام الذي أمرته به وقد لا يطبقه، بل لابد من تعاهده حتى لا يرجع إلى الكفر.
الثامنة والعشرون: المعرفة بحق الله في الإسلام. تؤخذ من قوله: "وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه".(10/102)
التاسعة والعشرون: ثواب من اهتدى على يديه رجل واحد. لقوله: "لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم"، أي: خير لك من كل ما يستحسن في الدنيا، وليس المعنى كما قال بعضهم، خير لك من أن تتصدق بنعم حمر.
الثلاثون: الحلف على الفتيا. لقوله: "فوالله لأن يهدي الله...." إلخ، فأقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - هو لم يستقسم، والفائدة هي حثه على أن يهدي الله به والتوكيد عليه.
ولكن لا ينبغي الحلف على الفتيا إلا لمصلحة وفائدة، لأنه قد يفهم السامع أن المفتي لم يحلف إلا لشك عنده.
والإمام أحمد رحمه الله أحياناً يقول في إجابته: إي والله، وقد أمر الله رسوله بالحلف في ثلاثة مواضع من القرآن:
في قوله تعالى: { ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق } [يونس: 53].
وفي قوله تعالى: { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن } . [التغابن: 7].
وفي قوله تعالى: { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بل وربي لتأتينكم } [سبأ: 3].
فإذا كان في القسم مصلحة ابتداءاً، أو جواباً لسؤال، جاز وربما يكون مطلوباً.
* * *
باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله
التفسير معناه: الكشف والإيضاح، مأخوذ من قولهم: فسرت الثمرة قشرها، ومن قول الإنسان: فسرت ثوبي، فاتضح ما وراءه، ومنه تفسير القرآن الكريم.
والتوحيد تقدم تعريفه(1)، والمراد به هنا اعتقاد أن الله واحد في ألوهيته.
وقوله: "شهادة أن لا إله إلا الله"، معطوف على التوحيد، أي: وتفسير شهادة أن لا إله إلا الله.
والعطف هنا من باب عطف المترادفين، لأن التوحيد حقيقة هو شهادة أن لا إله إلا الله.
وهذا الباب مهم، لأنه لما سبق الكلام على التوحيد وفضله والدعوة إليه، كأن النفس الآن اشرأبت إلى بيان ما هو هذا التوحيد الذي بوب له هذه الأبواب (وجوبه، وفضله، والدعوة إليه).
فيجاب بهذا الباب، وهو تفسير التوحيد، وقد ذكر المؤلف خمس آيات:
* * *
__________
(1) أنظر: (ص 1)(10/103)
وقول الله تعالى: { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب } الآية [الإسراء: 57].
الآية الأولى: قوله تعالى: { أولئك } . "أولاً": مبتدأ.
{ الذين } : اسم موصول بدل منه.
{ يدعون } : صلة الموصول.
وجملة { يبتغون } : خبر المبتدأ، أي: هؤلاء الذين يدعوهم هؤلاء هم أنفسهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، فكيف تدعونهم وهم محتاجون مفتقرون؟! فهذا سفه في الحقيقة، وهذا ينطبق على كل من دعي وهو داع، كعيسى بن مريم، والملائكة، والأولياء، والصالحين، وأما الشجر والحجر، فلا يدخل في الآية.
فهؤلاء الذين زعمتم أنهم أولياء من دون الله لا يملكون كشف الضر ولا تحويله من مكان إلى مكان، لأنهم هم بأنفسهم يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب، وقد قال تعالى مبيناً حال هؤلاء المدعوين: { والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير * إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير } [فاطر: 13،14].
قوله: { يدعون } ، أي: دعاء مسألة، كمن يدعو علياً عند وقوعهم في الشدائد، وكمن يدعو النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... ... ... ... سواك عند حلول الحادث العمم
وقد يكون دعاء عبادة، كمن يتذلل لهم بالتقرب، والنذر، والركوع، والسجود.
قوله: { يبتغون } : يطلبون.
قوله: { الوسيلة } ، أي: الشيء الذي يوصلهم إلى الله، يعني: يطلبون ما يكون وسيلة إلى الله - سبحانه وتعالى - أيهم اقرب إلى الله، وكذلك أيضاً يرجون رحمته ويخافون عذابه.
* وجه مناسبة الآية للباب باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله:(10/104)
أن التوحيد يتضمن البراءة من الشرك، بحيث لا يدعو مع الله أحداً، لا ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً، وهؤلاء الذين يدعون الأنبياء والملائكة لم يتبرؤا من الشرك، بل هم واقعون فيه، ومن العجب أنهم يدعون من هم في حاجة إلى ما يقربهم إلى الله تعالى، فهم غير مستغنين عن الله بأنفسهم، فكيف يغنون غيرهم؟!
الآية الثانية والثالثة: قوله تعالى: { وإذا قال إبراهيم لأبيه وقومه... } الآيتين.
قوله: { براء } : على وزن فعال، وهي صفة مشبهة من التبرؤ، وهو التخلي، أي: إنني متخل غاية التخلي عما تعبدو إلا الذي فطرني، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام قوي في ذات الله، فقال ذلك معلناً به لأبيه وقومه، وأبوه هو آزر(1).
قوله: { تعبدون } : العبادة هنا التذلل والخضوع، لأن في قومه من يعبد الأصنام، ومنهم من يعبد الشمس والقمر والكواكب.
قوله: { إلا الذي فطرني } : جميع بين النفي والإثبات، فالنفي: { براء مما تعبدون } ، والإثبات: { إلا الذي فطرنى } ، فدل على أن التوحيد لا يتم إلا بالكفر بما سوى الله والإيمان بالله وحده، { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى } ]البقرة: 256]، وهؤلاء يعبدون الله ويعبدون غيره، لأنه قال: { إلا الذي فطرني } ، والأصل في الاستثناء الاتصال إلا بدليل، ومع ذلك تبرأ منهم.
وكذا يوجد في بعض البلدان الإسلامية من يصلي ويزكي ويصوم ويحج، ومع ذلك يذهبون إلى القبور يسجدون لها ويركعون، فهم كفار غير موحدين، ولا يقبل منهم أي عمل، وهذا من أخطر ما يكون على الشعوب الإسلامية، لأن الكفر بما سوى الله عندهم ليس بشيء، وهذا جهل منهم، وتفريط من علمائهم، لأن العامي لا يأخذ إلا من عالمه، لكن بعض الناس -والعياذ بالله - عالم دولة لا عالم ملة.
وفي قول إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -: { إلا الذي فطرني } ، ولم يقل إلا الله لفائدتان:
__________
(1) أنظر: (ص 83)(10/105)
الأولى: الإشارة إلى علة إفراد الله بالعبادة، لأنه كما أنه منفرد بالخلق فيجب أن يفرد بالعبادة.
الثانية: الإشارة إلى بطلان عبادة الأصنام، لأنها لم تفطركم حتى تعبدوها، ففيها تعليل للتوحيد الجامع بين النفي والإثبات، وهذه من البلاغة التامة في تعبير إبراهيم عليه السلام.
يستفاد من الآية أن التوحيد لا يحصل بعبادة الله مع غيره، بل لا بد من إخلاصه لله، والناس في هذا المقام ثلاثة أقسام:
قسم يعبد الله وحده.
وقسم يعبد غيره فقط.
وقسم يعبد الله وغيره.
والأول فقط هو الموحد.
* * *
وقوله: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } الآية [التوبة: 31].
الآية الرابعة: قوله تعالى: { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله... } الآية.
قوله: { أحبارهم } : والمعطوف عليها المفعول الأول لـ(اتخذوا)، والثاني: "أرباباً" أي: هؤلاء اليهود والنصارى صيروا أحبارهم ورهبانهم أرباباً.
والأحبار: جمع حبر، وهو العالم، ويقال للعالم أيضاً بحر لكثرة علمه.
والحبر، بفتح الحاء، وكسرها يقال: حبر، وحبر.
قوله تعالى: { ورهبانهم } ، أي: عبادهم.
وقوله: { أرباباً } : جمع رب، أي يجعلونهم أرباباً من دون الله، فيجعلوا الأحبار أرباباً لأنهم يأتمرون بأمرهم في مخافة أمر الله، فيطيعونهم في معصية الله.
وجعلوا الرهبان أرباباً باتخاذهم أولياء يعبدونهم من دون الله.
قوله: { من دون الله } ، أي: من غير الله.
قوله: { والمسيح ابن مريم } : معطوف على أحبارهم، أي: اتخذوا المسيح ابن مريم أيضاً رباً حيث قالوا: إنه ثالث ثلاثة.
قوله: { إلا ليعبدون } ، أي: يتذللوا بالطاعة لله وحده، الذي خلق المسيح والأحبار والرهبان والسماوات والأرض.
قوله: { لا إله إلا هو } ، أي: لا معبود حق إلا هو.
قوله: { سبحانه } : تنزيه لله عما يشركون.(10/106)
وجه كون هذه الآية تفسيراً للتوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله: أن الله أنكر عليهم اتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله، وهذه الآية سيأتي فيها ترجمة كاملة في كلام المؤلف رحمه الله، فهؤلاء جعلوا الأحبار شركاء في الطاعة، كلما أمروا بشيء أطاعوهم، سواء وافق أمر الله أم لا.
إذاً، فتفسير التوحيد أيضاً بلا إله إلا الله يستلزم أن تكون طاعتك لله وحده، ولهذا على الرغم من تأكيد النبي - صلى الله عليه وسلم - لطاعة ولاة الأمر، قال: "إنما الطاعة في المعروف"(1).
* * *
وقوله: { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله } الآية [البقرة: 165].
الآية الخامسة: قوله تعالى: { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله... } الآية.
قوله: { من الناس } : من للتبعيض، وعلامتها أن يصح أن يحل محلها بعض، والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم، و { من يتخذ } مبتدأ مؤخر، أي من يجعل لله أنداداً، ومفعولها الأول "أنداداً" مؤخراً، ومفعولها الثاني "من دون الله" مقدماً.
وقوله: { يتخذ } : جاءت بالإفراد مراعاة للفظ "من".
وقوله: { يحبونهم } : بالجمع مراعاة للمعنى.
وقوله: { أنداداً } : جمع ند، وهو الشبيه والنظير، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن قال له ما شاء الله وشئت: "أجعلتني لله نداً؟! بل ما شاء الله وحده"(2).
وقوله: { يحبونهم كحب الله } : هذا وجه المشابهة، أي: الندية في المحبة يحبونهم كحب الله.
واختلف المفسرون في قوله: { كحب الله } :
فقيل: يجعلون محبة الأصنام مساوية لمحبة الله، فيكون في قلوبهم محبة لله ومحبة للأصنام، ويجعلون محبة الأصنام كمحبة الله، فيكون المصدر مضافاً إلى مفعوله، أي يحبون الأصنام كحبهم لله.
__________
(1) البخار: كتاب الأحكام/ باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية، ومسلم: كتاب الإمارة/ باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية.
(2) سبق (ص 45)(10/107)
وقيل: يحبون هذه الأصنام محبة شديدة كمحبة المؤمنين لله.
وسياق هذه الآية يؤيد القول الأول.
وقوله: { والذين آمنوا أشد حباً لله } .
على الرأي الأول يكون معناها: والذين آمنوا أشد حباً لله من هؤلاء لله، لأن محبة المؤمنين خالصة، ومحبة هؤلاء فيها شرك بين الله وبين أصنامهم.
وعلى الرأي الثاني معناها: والذين آمنوا أشد حباً لله من هؤلاء لأصنامهم، لأن محبة المؤمنين ثابتة في السراء والضراء على برهان صحيح، بخلاف المشركين، فإن محبتهم لأصنامهم تتضاءل إذا مسهم الضر.
فما بالك برجل يحب غير الله أكثر من محبته لله؟! وما بالك برجل يحب غير الله ولا يحب الله؟! فهذا أقبح وأعظم، وهذا موجود في كثير من المنتسبين للإسلام اليوم، فإنهم يحبون أولياءهم أكثر مما يحبون الله، ولهذا لو قيل له: أحلف بالله، حلف صادقاً أو كاذباً، أما الولي، فلا يحلف به إلا صادقاً.
وتجد كثيراً منهم يأتون إلى مكة والمدينة ويرون أن زيارة قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعظم من زيارة البيت، لأنهم يجدون في نفوسهم حباً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كحب الله أو أعظم، وهذا شرك، لأن الله يعلم أننا ما أحببنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا لحب الله، ولأنه رسول الله، ما أحببناه لأنه محمد بن عبدالله، لكننا أحببناه، لأنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنحن نحبه بمحبة الله، لكن هؤلاء يجعلون محبة الله تابعة لمحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنه أحبوا الله.(10/108)
فهذه الآية فيها محنة عظيمة لكثير من قلوب المسلمين اليوم الذين يجعلون غير الله مثل الله في المحبة، وفيه أناس أيضاً أشركوا بالله في محبة غيره، لا على وجه العبادة الشرعية، لكن على وجه العبادة المذكورة في الحديث(1)، وهي محبة الدرهم والدينار والخميصة والخميلة، يوجد أناس لو فتشت عن قلوبهم، لوجدت قلوبهم ملأى من محبة متاع الدنيا، وحتى هذا الذي جاء يصلي هو في المسجد لكن قلبه مشغول بما يحبه من أمور الدنيا.
فهذا نوع من أنواع العبادة في الحقيقة، لو حاسب الإنسان نفسه لماذا خلق؟ لعلم أنه خلق لعبادة الله، وأيضاً خلق لدار أخرى ليست هذه الدار، فهذه الدار مجاز يجوز الإنسان منها إلى الدار الأخرى، الدار التي خلق لها والتي يجب أن يعنى بالعلم لها، يا ليت شعري متى يوماً من الأيام فكر الإنسان ماذا عملت؟ وكم بقي لي في هذه الدنيا؟ وماذا كسبت؟ الأيام تمضي ولا أدري هل ازددت قرباً من الله أو بعداً من الله؟ هل نحاسب أنفسنا عن هذا الأمر؟
فلا بد لكل إنسان عاقل من غاية، فما هي غايته؟
نحن الآن نطلب العلم للتقرب إلى الله بطلبه، وإعلام أنفسنا، وإعلام غيرنا، فهل نحن كلما علمنا مسألة من المسائل طبقناها؟ نحن على كل حال نجد في أنفسنا قصوراً كثيراً وتقصيراً، وهل نحن إذا علمنا مسألة ندعو عباد الله إليها؟
هذا أمر يحتاج إلى محاسبة، ولذلك، فإن على طالب العلم مسؤولية ليست هينة، عليه أكثر من زكاة المال، فيجب أن يعمل ويتحرك ويبث العلم والوعي في الأمة الإسلامية، وإلا انحرفت عن شرع الله.
قال ابن القيم رحمه الله: كل الأمور تسير بالمحبة، فأنت مثلاً لا تتحرك لشيء إلا وأنت تحبه، حتى اللقمة من الطعام لا تأكلها إلا لمحبتك لها.
ولهذا قيل: إن جميع الحركات مبناها على المحبة، فالمحبة أساس العمل، فالإشراك في المحبة إشراك بالله.
* والمحبة أنواع:
__________
(1) سبق (ص 23).(10/109)
الأول: المحبة لله، وهذه لا تنافي التوحيد، بل هي من كماله، فأوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله.
والمحبة لله هي أن تحب هذا الشيء، لأن الله يحبه، سواء كان شخصاً أو عملاً، وهذا من تمام التوحيد.
قال مجنون ليلي:
أمر على الديار ديار ليلى
وما حب الديار شغفن قلبي
أقبل ذا الجدار وذا الجدار
ولكن حب من سكن الديارا
الثاني: المحبة الطبيعية التي لا يؤثرها المرء على محبة الله، فهذه لا تنافي محبة الله، كمحبة الزوجة، والولد، والمال، ولهذا لما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: من أحب الناس إليك؟ قال: "عائشة". قيل: فمن الرجال؟ قال: "أبوها"(1).
ومن ذلك محبة الطعام والشراب واللباس.
الثالث: المحبة مع الله التي تنافي محبة الله، وهي أن تكون محبة غير الله كمحبة الله أو أكثر من محبة الله، بحيث إذا تعارضت محبة الله ومحبة غيره قدم محبة غير الله، وذلك إذا جعل هذه المحبة نداً لمحبة الله يقدمها على محبة الله أو يساويها بها.
الشاهد من هذه الآية: أن الله جعل هؤلاء الذين ساووا محبة الله بمحبة غيره مشركين جاعلين لله أنداداً.
* * *
وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل"(2). وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب.
__________
(1) البخاري: كتاب فضائل الصحابة/ باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو كنت متخذاً خليلاً"، ومسلم: كتاب الفضائل/باب فضائل أبي بكر.
(2) مسلم: كتاب الإيمان/ باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله.(10/110)
قوله: "وفي الصحيح". لم يفصح المؤلف رحمه الله بمراده بالصحيح، أهو "صحيح البخاري" أم "صحيح مسلم"، أم أن المراد به الحديث الصحيح، ، سواء كان في "الصحيحين" معاً أم في أحدهما أم في غيرهما، وليس له اصطلاح في ذلك يحمل عليه عند الإطلاق، وعلى هذا يبحث عن الحديث في مضانه، وقد ورد هذا التعبير في سياق المؤلف للحديث في مواضع أخرى، والمراد به هنا "صحيح مسلم".
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من قال لا إله إلا الله" أي لا معبود حق إلا الله، فلفظ الجلالة بدل من الضمير المستتر في الخبر، ومن يرى أن "لا" تعمل في المعرفة يقولون: هو الخبر.
قوله: "وكفر بما يعبد من دون الله"، أي: بعبادة من يعبد من دون الله، قلنا ذلك، لأن عيسى بن مريم كان يعبد من دون الله، ونحن نؤمن به، لكن لا نؤمن بعبادته ولا بأنه مستحق للعبادة، كما قال تعالى: { وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب* ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن أعبدوا الله ربي وربكم } [المائدة: 116].
وفي قوله: "وكفر بما يعبد من دون الله" دليل على أنه لا يكفي مجرد التلفظ بلا إله إلا الله، بل لا بد أن تكفر بعبادة من يعبد من دون الله بل وتكفر أيضاً بكل كفر فمن يقول لا إله إلا الله ويرى أن النصارى واليهود اليوم على دين صحيح، فليس بمسلم، ومن يرى الأديان أفكاراً يختار منها ما يريد، فليس بمسلم، بل الأديان عقائد مفروضة من قبل الله - عز وجل ـ، يتمشى الناس عليها، ولهذا ينكر على بعض الناس في تعبيره بقوله: الفكر الإسلامي، بل الواجب أن يقال: الدين الإسلامي أو العقيدة الإسلامية، ولا بأس بقول المفكر الإسلامي، لأنه وصف للشخص نفسه لا للدين الذي هو عليه.(10/111)
قوله: "وشرح هذه الترجمة"، المراد بالشرح هنا: التفصيل، والترجمة: هي التعبير بلغة عن لغة أخرى، ولكنها تطلق باصطلاح المؤلفين على العناوين والأبواب، فيقال: ترجم على كذا، أي: بوب له.
* * *
فيه مسائل:
فيه أكبر المسائل وأهمها، وهي تفسير التوحيد وتفسير الشهادة، وبينها بأمور واضحة.
قوله: "فيه أكبر المسائل وأهمها، وهي تفسير التوحيد".
فتفسير التوحيد أنه لا بد فه من أمرين:
الأول: نفى الألوهية عما سوى الله- عز وجل -.
الثاني: إثبات الألوهية لله وحده، فلا بد من النفي والإثبات لتحقيق التوحيد، لأن التوحيد جعل الشيء واحداً بالعقيدة والعمل، وهذا لا بد فيه من النفي والإثبات.
فإذا قلت: زيد قائم، أثبت له القيام ولم توحده، لكن إذا قلت: لا قائم إلا زيد، أثبت له القيام ووحدته به.
وإذا قلت: الله إله أثبت له الألوهية، لكن لم تنفها عن غيره، فالتوحيد لم يتم، وإذا قلت: لا إله إلا الله، أثبت الألوهية لله ونفيتها عما سواه.
قوله: "تفسير الشهادة". الشهادة: هي التعبير عما تيقنه الإنسان بقلبه فقول: أشهد أن لا إله إلا الله. أي أنطق بلساني معبراً عما يكنه قلبي من اليقين وهو أنه لا إله إلا الله.
* * *
منها آية الإسراء: بين فيها الرد على المشركين الذين يدعون الصالحين، ففيها بيان أن هذا هو الشرك الأكبر.
قوله: "منها آية الإسراء. وهو قوله تعالى: { أولئك الذين يدعون.... } [الإسراء: 57]، فبين فيها الرد على المشركين الذين يدعون الصالحين، وبين أن هذا هو الشرك الأكبر، لأن الدعاء من العبادة، قال تعالى: { ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } [غافر: 60]، فدل على أن الدعاء عبادة، لأن آخر الكلام تعليل لأوله، فكل من دعا أحداً غير الله حياً أو ميتاً، فهو مشرك شركاً أكبر.
ودعاء المخلوق ينقسم إلى ثلاثة أقسام:(10/112)
الأول: جائز، وهو أن تدعو مخلوقاً بأمر من الأمور التي يمكن أن يدركها بأشياء محسوسة معلومة، فهذا ليس من دعاء العبادة، بل هو من الأمور الجائزة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا دعاك فأجبه"(1).
الثاني: أن تدعو مخلوقاً مطلقاً، سواء كان حياً أو ميتاً فيما لا يقدر عليه إلا الله، فهذا شرك أكبر لأنك جعلته ندأ لله فيما لا يقدر عليه إلا الله، مثل: يا فلان! اجعل ما في بطن امرأتي ذكراً.
الثالث: أن تدعو مخلوقاً ميتاً لا يجيب بالوسائل الحسية المعلومة، فهذا شرك أكبر أيضاً لأنه لا يدعو من كان هذه حالة حتى يعتقد أن له تصرفاً خفياً في الكون.
قوله: "ومنها آية براءة بين فيها أن أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله". وهذا شرك الطاعة، وهو بتوحيد الربوبية ألصق من توحيد الألوهية، لأن الحكم شرعياً كان أو كونياً إلى الله تعال، فهو من تمام ربوبيه، قال تعالى: { وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله } [الشورى: 10]، وقال تعالى: { له الحكم وإليه ترجعون } [القصص: 70].
والشيخ رحمه الله جعل شرك الطاعة من الأكبر، وهذا فيه تفصيل، وسيأتي إن شاء الله في باب من أطاع الأمراء والعلماء في تحليل ما حرم الله أو بالعكس.
* * *
ومنها قول الخليل عليه السلام للكفار: { إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني } [الزخرف: 26]. فاستثنى من المعبودين ربه.
وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة هي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله، فقال: { وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون } [الزخرف: 28].
قوله: "ومنها: قول الخليل عليه السلام للكفار: { إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني } ، فاستثنى من المعبودين ربه". فدل هذا على أن التوحيد لا بد فيه من نفي وإثبات: البراءة مما سوى الله، وإخلاص العبادة لله وحدة.
__________
(1) البخاري: كتاب الجنائز/باب الأمر باتباع الجنائز، ومسلم: كتاب السلام/ باب من حق المسلم للمسلم رد السلام.(10/113)
وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة هي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله، فقال: { وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون } ، وهي لا إله إلا الله، فكان معنى قوله: { إنني براءة مما تعبدون إلا الذي فطرني } هو معنى قول: لا إله إلا الله.
* * *
ومنها آية البقرة في الكفار الذين قال الله فيهم: { وما هم بخارجين من النار } [البقرة: 167]. ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله، فدل على أنه يحبون الله حباً عظيماً، لم يدخلهم في الإسلام، فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله؟! وكيف بمن لم يحب إلا الند وحده ولم يحب الله؟!
قوله: "ومنها: آية البقرة في الكفار الذين قال الله فيهم: { وما هم بخارجين من النار } .
فجعل الله المحبة شركاً إذا أحب شيئاً سوى الله كمحبته لله، فيكون مشركاً مع الله في المحبة، ولهذا يجب أن تكون محبة الله خالصة لا يشاركه فيها أحد حتى محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلولا أنه رسول ما وجب طاعته ولا محبته إلا كما نحب أي مؤمن، ولا يمنع الإنسان من محبة غير الله، بل له أن يحب كل شيء تباح محبته، كالولد، والزوجة، ولكن لا يجعل ذلك محبة الله,
قال المؤلف: "فكيف بمن أحب الند أكبر من حسب الله؟! وكيف بمن لم يحب إلا الند وحده ولم يحب الله؟!".
فالأقسام الأربعة:
الأول: أن يحب الله حباً أشد من غيره، فهذا هو التوحيد.
الثاني: أن يحب غير الله كمحبة الله، وهذا شرك.
الثالث: أن يحب غير الله أشد حباً من الله، وهذا أعظم مما قبله.
الرابع: أن يحب غير الله وليس في قلبه محبة لله تعالى، وهذا أعظم وأطم.
والمحبة لها أسباب ومتعلقات، وتختلف باختلاف متعلقها، كما أن الفرح يختلف باختلاف متعلقة وأسبابه، فعندما يفرح بالطرب، فليس هذا كفرحة بذكر الله ونحوه.
حتى نوع المحبة يختلف، يحب والده ويحب ولده وبينهما فرق، ويحب الله ويحب ولده، ولكن بين المحبتين فرق.(10/114)
فجميع الأمور الباطنة في المحبة والفرح والحزن تختلف باختلاف متعلقها، وسيأتي إن شاء الله لهذا البحث مزيد تفصيل عند قول المؤلف { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً } .
* * *
ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله".
وهذا من أعظم ما يبين معنى (لا إله إلا الله)، فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصماً للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله.
قوله: "ومنها: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قال: لا إله إلا الله...." إلخ.
إذاً، فلا بد من الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، قال تعالى: { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى } [البقرة: 256].
قوله: "وكفر بما يعبد من دون الله". أي: كفر بالأصنام، وأنكر أن تكون عبادتها حقاً، فلا يكفي أن يقول: لا إله إلا الله، ولا أعبد صنماً، بل لا بد أن يقول: الأصنام التي تعبد من دون الله أكفر بها وبعبادتها.
فمثلاً لا يكفي أن يقول: لا إله إلا الله ولا أعبد اللات، ولكن لا بد أن يكفر بها ويقول: إن عبادتها ليست بحق، وإلا، كان مقراً بالكفر.
فمن رضي دين النصارى ديناً يدنون الله به، فهو كافر لأنه إذا ساوى غير دين الإسلام مع الإسلام، فقد كذب قوله تعالى: { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه } [آل عمران: 85].(10/115)
وبهذا يكون كافراً، وبهذا نعرف الخطر العظيم الذي أصاب المسلمين اليوم باختلاطهم مع النصارى، والنصارى يدعون إلى دينهم صباحاً ومساءاً، والمسلمون لا يتحركون، بل بعض المسلمين الذين ما عرفوا الإسلام حقيقة يلينون لهؤلاء، { ودوا لو تدهن فيدهنون } [القلم: 9]، وهذا من المحنة التي أصابت المسلمين الآن، وآلت بهم إلى هذا الذل الذي صاروا فيه.
* * *
باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه
قوله: "من الشرك"، من هنا للتعبيض، أي: أن هذا بعض الشرك، وليس كل الشرك، والشرك: اسم جنس يشمل الأصغر والأكبر، ولبس هذه الأشياء قد يكون أصغر وقد يكون أكبر بحسب اعتقاد لابسها، وكان لبس هذه الأشياء من الشرك، لأن كل من أثبت سبباً لم يجعله الله سبباً شرعياً ولا قدرياً، فقد جعل نفسه شريكاً مع الله.
فمثلاً: قراءة الفاتحة سبب شرعي للشفاء.
وأكل المسهل سبب حسي لانطلاق البطن، وهو قدري، لأنه يعلم بالتجارب والناس في الأسباب طرفان ووسط:
الأول: من ينكر الأسباب، وهم كل من قال بنفي حكمة الله، كالجبرية، والأشعرية.
الثاني: من يغلو في إثبات الأسباب حتى يجعلوا ما ليس بسبب سبباً، وهؤلاء هم عامة الخرافيين من الصوفية ونحوهم.
الثالثة: من يؤمن بالأسباب وتأثيراتها، ولكنهم لا يثبتون من الأسباب إلا ما أثبته الله سبحانه ورسوله، سواء كان سبباً شرعياً أو كونياً.
ولا شك أن هؤلاء هم الذين آمنوا بالله إيماناً حقيقياً، وآمنوا بحكمته، حيث ربطوا الأسباب بمسبباتها، والعلل بمعلولاتها، وهذا من تمام الحكمة.
ولبس الحلقة ونحوها إن اعتقد لابسها أنها مؤثرة بنفسها دون الله، فهو مشرك شركاً أكبر في توحيد الربوبية، لأنه اعتقد أن مع الله خالقاً غيره.
وإن اعتقد أنها سبب، ولكنه ليس مؤثراً بنفسه، فهو مشرك شركاً أصغر لأنه لما اعتقد أن ما ليس بسب سبباً فقد شارك الله تعالى في الحكم لهذا الشيء بأنه سبب، والله تعالى لم يجعله سبباً.(10/116)
وطريق العلم بأن الشيء سبب،
إما عن طريق الشرع، وذلك كالعسل { فيه شفاء للناس } [النحل: 69]، وكقراءة القرآن فيها شفاء للناس، قال الله تعالى: { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } [الإسراء: 82].
وإما عن طريق القدر، كما إذا جربنا هذا الشيء فوجدناه نافعاً في هذا الألم أو المرض، ولكن لا بد أن يكون أثره ظاهراً مباشراً كما لو اكتوى بالنار فبرئ بذلك مثلاً، فهذا سبب ظاهر بين، وإنما قلنا هذا لئلا يقول قائل: أن جربت هذا وانتفعت به، وهو لم يكن مباشراً، كالحلقة، فقد يلبسها إنسان وهو يعتقد أنها نافعة، فينتفع لأن للانفعال النفسي للشيء أثراً بيناً، فقد يقرأ إنسان على مريض فلا يرتاح له، ثم يأتي آخر يعتقد أن قراءته نافعة، فيقرأ عليه الآية نفسها فيرتاح له ويشعر بخفة الألم، كذلك الذين يلبسون الحلق ويربطون الخيوط، قد يحسون بخفة الألم أو اندفاعه أو ارتفاعه بناءً على اعتقادهم نفعها.
وخفة الألم لمن اعتقد نفع تلك الحلقة مجرد شعور نفسي، والشعور النفسي ليس طريقاً شرعياً لإثبات الأسباب، كما أن الإلهام ليس طريقاً للتشريع.
قوله: "لبس الحلقة والخيط"، الحلقة: من حديد أو ذهب أو فضة أو ما أشبه ذلك، والخيط معروف.
قوله: "ونحوهما"، كالمرصعات، وكمن يصنع شكلاً معيناً من نحاس أو غيره لدفع البلاء، أو يعلق على نفسه شيئاً من أجزاء الحيوانات، والناس كانوا يعلقون القرب البالية على السيارات ونحوها لدفع العين، حتى إذا رآها الشخص نفرت نفسه فلا يعين.
قوله: "لرفع البلاء، أو دفعه"، الفرق بينهما: أن الرفع بعد نزول البلاء، والدفع قبل نزول البلاء.
وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب لا ينكر السبب الصحيح للرفع أو الدفع، وإنما ينكر السبب غير الصحيح.
* * *
وقول الله تعالى: { قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرداني الله بضر هل هن كاشفات ضره } الآية [الزمر: 38].(10/117)
وقول الله تعالى: "أفرأيتم"، أي: أخبروني، وهذا تفسير باللازم، لأن من رأى أخبر، وإلا، فهي استفهام عن رؤية، قال تعالى: { أرأيت الذي يكذب بالدين } [الماعون: 1]، أي: أخبرني ما حال من كذب بالدين؟ وهي تنصب مفعولين، الأول مفرد، والثاني جملة استفهامية.
وقوله: "ما"، المفعول الأول لرأيتم، والمفعول الثاني جملة: "إن أرادني الله بضر".
وقوله: { تدعون } ، المراد بالدعاء دعاء العبادة ودعاء المسألة، فهم يدعون هذه الأصنام دعاء عبادة، فيتعبدون لها بالنذر والذبح والركوع والسجود، ويدعونها دعاء مسألة لدفع الضرر أو جلب النفع.
فالله سبحانه إذا أراد بعبده ضراً لا تستطيع الأصنام أن تكشفه، وإن أراده برحمة لا تستطيع أن تمسك الرحمة عنه، فهي لا تكشف الضرر، ولا تمنع النفع، فلماذا تبعد؟
وقوله: { كاشفات } ، يشمل الدفع والرفع، فهي لا تكشف الضر بدفعه وإبعاده، ولا تكشفه برفعه وإزالته.
وقوله: { قل حسبي الله } ، أي: كافيني، والحسب: الكفاية، ومنه قوله تعالى: { جزاء من ربك عطاء حساباً } [النبأ: 36]، من الحسب، وهو الكفاية، وحسبي، مبتدأ ولفظ الجلالة خبر، وهذا أبلغ.
وقيل العكس، والراجح الأول، لوجهين:
الأول: أن الأصل عدم التقديم والتأخير.
الثاني: أن قولك: حسبي الله فيه حصر الحسب في الله، أي حسبي الله لا غيره، فهو كقولك: لا حسب لي إلا الله، بخلاف قولك: الله حسبي، فليس فيه الحصر المذكور، فلا يدل على حصر الحسب في الله.
قوله: { عليه يتوكل المتوكلون } . قدم الجار والمجرور لإفادة الحصر، لأن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر.
والمعنى أن المتوكل حقيقة هو المتوكل على الله، أما الذي يتوكل على الأصنام والأولياء والأضرحة، فليس بمتوكل على الله تعالى.(10/118)
وهذا لا ينافي أن يوكل الإنسان إنساناً في شيء ويعتمد عليه، لأن هناك فرقاً بين التوكل على الإنسان الذي يفعل لك شيئاً بأمرك، وبين توكلك على الله، لأن توكلك على الله اعتقادك أن بيده النفع والضر، وأنك متذلل، معتمد عليه، مفتقر إليه، مفوض أمرك إليه.
والشاهد من هذه الآية: أن هذه الأصنام لا تنفع أصحابها لا يجلب نفع ولا بدفع ضر، فليست أسباباً لذلك، فيقاس عليها كل ما ليس بسبب شرعي أو قدري، فيعتبر اتخاذه سبباً إشراكاً بالله.
وهناك شاهد آخر في قوله: { حسبي الله } ، فإن فيه تفويض الكفاية إلى الله دون الأسباب الوهمية، وأما الأسباب الحقيقية، فلا ينافي تعاطيها توكل العبد على الله تعالى وتفويض الأمر إليه، لأنها من عنده.
* * *
عن عمران بن حصين رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأي رجلاً في يده حلقة من صفر، فقال: "ما هذه"؟ قال: من الواهنة. فقال: "انزعها، فإنها لا تزيدك إلا وهناً، فإنك لو مت وهي عليك، ما أفلحت أبداً". رواه أحمد بسند لا بأس به(1).
قوله في حديث عمران: "رأى رجلاً". لم يبين اسمه، لأن المهم بيان القضية وحكمها، لكن ورد ما يدل على أنه عمران نفسه، لكنه أبهم نفسه.
قوله: "حلقة من صفر، فقال: ما هذه؟ قال: من الواهنة"، والحلقة والصفر معروفان، وأما الواهنة، فوجع في الذراع أو العضد.
"ما أفلحت": الفلاح هو النجاة من المرهوب وحصول المطلوب.
وهذا الحديث مناسب للباب مناسبة تامة، لأن هذا الرجل لبس حلقة من صفر، إما لدفع البلاء أو لرفعه.
__________
(1) مسند الإمام أحمد (4/445) - واللفظ له ـ، وابن ماجة (كتاب الطب، باب تعليق التمائم) وليس فيه: "فإنك لو مت..." إلخ. وفي "الزوائد": "إسناده حسن، لأن مبارك هذا هو ابن فضالة". ورواه ابن حبان أيضاً (1410) بلفظ "إنك إن نمت وهي عليك وكلت إليها". ومن طريق أبي عامر الخراز عن الحسن عن عمران بنحوه، رواه ابن حبان (1411) والحاكم (4/216)، وصححه ووافقه الذهبي.(10/119)
والظاهر أنه لرفعه، لقوله: "لا تزيدك إلا وهنأ"، والزيادة تكون مبنية على أصل.
ففي هذا الحديث دليل على عدة فوائد:
أن ينبغي لمن أراد إنكار المنكر أن يسأل أولاً عن الحال، لأنه قد يظن ما ليس بمنكر منكراً، ودليله أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما هذه".
والاستفهام هنا للاستعلام فيما يظهر وليس للإنكار، وقول الرجل: "من الواهنة": من للسببية، أي: لبستها بسبب الواهنة، وهي مرض يوهن الإنسان ويضعفه، قد يكون في الجسم كله وقد يكون في بعض الأعضاء كما سبق.
وجوب إزالة المنكر، لقوله: "انزعها"، فأمره بنزعها، لأن لبسها منكر، وأيد ذلك بقوله: "إنها لا تزيدك إلا وهناً"، أي: وهناً في النفس لا في الجسم، وربما تزيده وهناً في الجسم، أما وهن النفس، فلأن الإنسان إذا تعلقت نفسه بهذه الأمور ضعفت واعتمدت عليها ونسيت الاعتماد على الله - عز وجل ـ، والانفعال النفسي له أثر كبير في إضعاف الإنسان، فأحياناً يتوهم الصحيح أنه مريض فيمرض، وأحياناً يتناسى الإنسان المرض وهو مريض فيصبح صحيحاً، فانفعال النفس بالشيء له أثر بالغ، ولهذا تجد بعض الذين يصابون بالأمراض النفسية يكون أصل إصابتهم ضعف النفس من أول الأمر، حتى يظن الإنسان أنه مريض بكذا أو بكذا، فيزداد عليه الوهم حتى يصبح الموهوم حقيقة.
فهذا الذي لبس الحلقة من الواهنة لا تزيده إلى وهناً، لأنه سوف يعتقد أنها ما دامت عليه فهو سالم، فإذا نزعها عاد إليه الوهن، وهذا بلا شك ضعف في النفس.
أن الأسباب لا أثر لها بمقتضى الشرع أو العادة أو التجربة لا ينتفع بها الإنسان.
أن لبس الحلقة وشبهها لدفع البلاء أو رفعه من الشرك، لقوله: "لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً"، وانتفاء الفلاح دليل على الخيبة والخسران.
ولكن هل هذا شرك أكبر أو أصغر؟.
سبق لنا عند الترجمة أنه يختلف بحسب اعتقاد صاحبه.(10/120)
أن الأعمال بالخواتيم، لقوله: "لو مت وهي عليك"، فعرف أنه لو أقلع عنها قبل الموت لم تضره لأن الإنسان إذا تاب قبل أن يموت صار كمن لا ذنب له.
* * *
وله عن عقبة بن عامر مرفوعاً: "من تعلق تميمة، فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة، فلا ودع الله له"(1)
قوله: "من تعلق تميمة": أي علق بها قلبه واعتمد عليها في جلب النفع ودفع الضرر، والتميمة: شيء يعلق على الأولاد من خرز أو غيره يتقون به العين.
وقوله: "فلا أتم الله له". الجملة خبرية بمعنى الدعاء، ويحتمل أن تكون خبرية محضة، وكلا الاحتمالين دال على أن التميمة محرمة، سواء نفى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يتم الله له أو دعا بأن لا يتم الله له، فإن كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - أراد به الخبر، فإننا نخبر بما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإلا، فإننا ندعو بما دعا به الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
وفي رواية: "من تعلق تميمة، فقد أشرك"(2).
ولابن أبي حاتم عن حذيفة: "أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى، فقطعه، وتلا قوله: { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } [يوسف: 106].
ومثل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن يتعلق ودعة، فلا ودع الله له".
والودعة: واحدة الودع، وهي أحجار تؤخذ من البحر يعلقونها لدفع العين، ويزعمون أن الإنسان إذا علق هذه الودعة لم تصبه العين، أو لا يصيبه الجن.
قوله: "لا ودع الله له"، أي: لا تركه الله في دعة وسكون، وضد الدعة والسكون القلق والألم.
وقيل: لا ترك الله له خيراً، فعومل بنقيض قصده.
وقوله: "فقد أشرك"، هذا الشرك يكون أكبر إن اعتقد أنها ترفع أو تدفع بذاتها دون أمر الله، وإلا، فهو أصغر.
قوله: "من الحمى"، "من" هنا للسببية، أي: في يده خيط لبسه من أجل الحمى لتبرد عليه، أو يشفى منها.
__________
(1) مسند الإمام أحمد (4/154)، والحاكم (4/216)، وصححه ووافقه الذهبي.
(2) مسند الإمام أحمد (4/156)، والحاكم (4/219، كتاب الطب).(10/121)
قوله: "فقطعه" أي: قطع الخيط، وفعله هذا من تغيير المنكر باليد، وهذا يدل على غيرة السلف الصالح وقوتهم في تغيير المنكر باليد وغيرها.
وقوله: { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } ، أي وتلا حذيفة هذه الآية. والمراد بها المشركون الذين يؤمنون بتوحيد الربوبية ويكفرون بتوحيد الألوهية.
وقوله: { وهم مشركون } في محل نصب على الحال، أي: وهم متلبسون بالشرك، وكلام حذيفة في رجل مسلم ليس خيطاً لتبريد الحمى أو الشفاء منها. وفيه دليل على أن الإنسان قد يجتمع فيه إيمان وشرك، ولكن ليس الشرك الأكبر، لأن الشرك الأكبر لا يجتمع مع الإيمان، ولكن المراد هنا الشرك الأصغر، وهذا أمر معلوم.
* * *
فيه مسائل:
الأولى: التغليظ في لبس الحلقة والخيط ونحوهما لمثل ذلك.
الثانية: أن الصحابي لو مات وهي عليه، ما أفلح. فيه شاهد لكلام الصحابة: أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر.
قوله: "فيه مسائل"، أي: في هذا الباب مسائل:
الأولى: التغليظ في لبس الحلقة والخيط ونحوهما لمثل ذلك، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنزعها - لا تزيدك إلا وهناً ـ، لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً"، وهذا تغليظ عظيم في لبس هذه الأشياء والتعلق بها.
الثانية: أن الصحابي لو مات وهي عليه ما أفلح، هذا وهو صحابي، فكيف بمن دون الصحابي؟! فهو أبعد عن الفلاح.
قال المؤلف: "فيه شاهد لكلام الصحابة: أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر".
قوله: "لكلام الصحابة"، أي: لقولهم، وهو كذلك، فالشرك الأصغر أكبر من الكبائر، قال ابن مسعود رضي الله عنه: "لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً"(1)، وذلك لأن سيئة الشرك أعظم من سيئة الكبيرة، لأن الشرك لا يغفر ولو كان أصغر، بخلاف الكبائر، فإنها تحت المشيئة.
* * *
الثالثة: أنه لم يعذر بالجهالة.
__________
(1) مصنف عبد الرزاق (8/469)، والهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/177)، وقال: أخرجه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح".(10/122)
الثالثة: أنه لم يعذر بالجهالة. هذا فيه نظر، لأنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً" ليس بصريح أنه لو مات قبل العلم، بل ظاهره: "لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً"، أي: بعد أن علمت وأمرت بنزعها.
وهذه المسألة تحتاج إلى تفصيل، فنقول: الجهل نوعان:
جهل يعذر فيه الإنسان، وجهل لا يعذر فيه، فما كان ناشئاً عن تفريط وإهمال مع قيام المقتضي للتعلم، فإنه لا يعذر فيه، سواء في الكفر أو في المعاصي، وما كان ناشئاً عن خلاف ذلك، أي أنه لم يهمل ولم يفرط ولم يقم المتضي للتعلم بأن كان لم يطرأ على باله أن هذا الشيء حرام فإنه يعذر فيه فإن كان منتسباً إلى الإسلام، لم يضره، وإن كان منتسباً إلى الكفر، فهو كافر في الدنيا، لكن في الآخرة أمره إلى الله على القول الراجح، يمتحن، فإن أطاع دخل الجنة، وإن عصى دخل النار.
فعلى هذا من نشأ ببادية بعيد ليس عنده علماء ولم يخطر ببالة أن هذا الشيء حرام، أو أن هذا الشيء واجب، فهذا يعذر، وله أمثلة:
منها: رجل بلغ وهو صغير وهو في بادية ليس عنده عالم، ولم يسمع عن العلم شيئاً، ويظن أن الإنسان لا تجب عليه العبادات إلا إذا بلغ خمس عشر سنة، فبقي بعد بلوغه حتى تم له خمس عشرة سنة وهو لا يصوم ولا يصلي ولا يتطهر من جنابه، فهذا لا نأمره بالقضاء لأنه معذور بجهله الذي لم يفرط فيه بالتعلم ولم يطرأ له على بال، وكذلك لو كانت أنثى أتاها الحيض وهي صغيرة وليس عندها من تسأل ولم يطرأ على بالها أن هذا الشيء واجب إلا إذا تم لها خمس عشرة سنة، فإنها تعذر إذا كانت لا تصوم ولا تصلي.
وأما من كان بالعكس كالساكن في المدن يستطيع أن يسأل، لكن عنده تهاون وغفلة، فهذا لا يعذر، لأن الغالب في المدن أن هذه الأحكام لا تخفى عليه، ويوجد فيها علماء يستطيع أن يسألهم بكل سهولة، فهو مفرط، فيلزمه القضاء ولا يعذر بالجهل.
* * *(10/123)
الرابعة: أنها لا تنفع في العاجلة، بل تضر، لقوله: "لا تزيدك وهناً". الخامسة: الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك.
الرابعة: أنها لا تنفع في العاجلة، بل تضر، لقوله: "لا تزيدك إلا وهناً". والمؤلف استنبط المسألة وأتى بوجه استنباطها.
الخامسة: الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك، أي: ينبغي أن ينكر إنكاراً مغلظاً على من فعل مثل هذا، ووجه ذلك سياق الحديث الذي أشار إليه المؤلف، وأيضاً قوله: "من تعلق تميمة، فلا أتم الله له".
* * *
السادسة: التصريح بأن من تعلق شيئاً، وكل إليه. السابعة: التصريح بأن من تعلق تميمة، فقد أشرك. الثامنة: أن تعليق الخيط من الحمى من ذلك. التاسعة: تلاوة حذيفة الآية دليل على أن الصحابة يستدلون بالآيات التي في الشرك الأكبر على الأصغر، كما ذكر ابن عباس في آية البقرة.
السادسة: التصريح بأن من تعلق شيئاً وكل إليه. تؤخذ من قوله: "من تعلق تميمة، فلا أتم الله له" إذا جعلنا الجملة خبرية، وأن من تعلق تميمة، فإن الله لا يتم له، فيكون موكولاً إلى هذه التميمة، ومن وكل إلى مخلوق، فقد خذل، ولكنها في الباب الذي بعده صريحة، "من تعلق شيئاً وكل إليه"(1).
السابعة: التصريح بأن من تعلق تميمة، فقد أشرك. وهو إحدى الروايتين في حديث عقبة بن عامر.
الثامنة: أن تعليق الخيط من الحمى من ذلك. يؤخذ من فعل حذيفة أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى فقطعه، وتلا قوله تعالى: { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } .
التاسعة: تلاوة حذيفة الآية دليل على أن الصحابة يستدلون بالآيات التي في الشرك الأكبر على الأصغر كما ذكر ابن عباس في آية البقرة.
__________
(1) مسند الإمام أحمد (4/310)، والترمذي (أبواب الطب، باب ما جاء في كراهة التعليق (2073).(10/124)
أي أن قوله تعالى: { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } في الشرك الأكبر، لكنهم يستدلون بالآيات الواردة في الشرك الأكبر على الأصغر، لأن الأصغر شرك في الحقيقة وإن كان لا يخرج من الملة، ولهذا نقول: الشرك نوعان: أصغر وأكبر.
وقوله: "كما ذكر ابن عباس في آية البقرة"، وهي قوله تعالى: { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله... } [البقرة: 165]، فجعل المحبة التي تكون كمحبة الله من اتخاذ الند لله- عز وجل -.
* * *
العاشرة: أن تعليق الودع من العين من ذلك. الحادية عشرة: الدعاء على من تعلق تميمة أن الله لا يتم له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله، أي: ترك الله له.
العاشرة: أن تعليق الودع من العين من ذلك، وقوله: "من ذلك"، أي: من تعليق التمائم الشركية، لأنه لا أثر لها ثابت شرعاً ولا قدراً.
الحادية عشرة: الدعاء على من تعلق تميمة أن الله لا يتم له، ومن تعلق ودعة، فلا ودع الله له، أي: ترك الله له. تؤخذ من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - على هؤلاء الذين اتخذوا تمائم وودعاً، وليس هذا بغريب أن نؤمر بالدعاء على من خالف وعصى، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سمعتم من ينشد الضالة في المسجد، فقولوا: لا ردها الله عليك"(1)، "وإذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك"(2).
__________
(1) مسلم: كتاب المساجد/ باب النهي عن نشد الضالة في المسجد.
(2) الترمذي: كتاب البيوع/ باب النهي عن البيع في المسجد، 2/274، وحسنه وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الألباني: "حديث صحيح" الإرواء 5/134.(10/125)
فهنا أيضاً تقول له: لا أتم الله لك، ولكن الحديث إنما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - على سبيل العموم، فلا نخاطب هذا بالتصريح ونقول لشخص رأينا عليه تميمة: لا أتم الله لك، وذلك لأن مخاطبتنا الفاعل بالتصريح والتعيين سوف يكون سبباً لنفوره، ولكن نقولك دع التمائم أو الودع، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولك "من تعلق تميمة، فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة، فلا ودع الله له".
* * *
باب ما جاء في الرقى والتمائم
في الصحيح عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه، أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره، فأرسل رسولاً: "أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت"(1)
قال المؤلف: باب ما جاء في الرقى والتمائم.
لم يذكر المؤلف أن هذا الباب من الشرك، لأن الحكم فيه يختلف عن حكم لبس الحلقة والخيط، ولهذا جزم المؤلف في الباب الأول أنها من الشرك بدون استثناء، أما هذا الباب، فلم يذكر أنها شرك، لأن من الرقى ما ليس بشرك، ولهذا قال: "باب ما جاء في الرقى والتمائم".
قوله: "شرك"، جمع رقية، وهي القراءة، فيقال: رقى عليه - بالألف - من القراءة، ورقي عليه - بالياء - من الصعود.
قوله: "التمائم"، جمع تميمة، وسميت تميمة، لأنهم يرون أنه يتم بها دفع العين.
قوله: "أسفاره"، السفر: مفارقة محل الإقامة، وسمي سفراً، لأمرين:
الأول: حسي، وهو أنه يسفر ويظهر عن بلده لخروجه من البنيان.
الثاني: معنوي، وهي أن يسفر عن أخلاق الرجال، أي: يكشف عنها وكثير من الناس لا تعرف أخلاقهم وعاداتهم وطبائعهم إلا بالأسفار.
__________
(1) البخاري: كتاب الجهاد/ باب ما قيل في الجرس ونحوه في أعناق الإبل، ومسلم: كتاب اللباس/ باب كراهة قلادة الوتر في رقبة البعير.(10/126)
قوله: "قلادة من وتر، أو قلادة"، شك من الراوي، والأولى أرجح، لأن القلائد كانت تتخذ من الأوتار، ويعتقدون أن ذلك يدفع العين عن البعير، وهذا اعتقاد فاسد، لأنه تعلق بما ليس بسبب، وقد سبق أن التعلق بما ليس بسبب شرعي أو حسي شرك، لأنه بتعلقه أثبت للأشياء سبباً لم يثبته الله لا بشرعه ولا بقدره، ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نقطع هذه القلائد.
أما إذا كانت هذه القلادة من غير وتر، وإنما تستعمل للقيادة كالزمام، فهذا لا بأس به لعدم الاعتقاد الفاسد، وكان الناس يعملون ذلك كثيراً من الصوف أو غيره.
قوله: "في رقبة بعير"، ذكر البعير، لأن هذا هو الذي كان منتشراً حينذاك، فهذا القيد بناء على الواقع عندهم، فيكون كالتمثيل، وليس بمخصص.
* يستفاد من الحديث:
أنه ينبغي لكبير القوم أن يكون مراعياً لأحوالهم، فيتفقدهم وينظر في أحوالهم.
أنه يجب عليه رعايتهم بما تقتضيه الشريعة، فإذا فعلوا محرماً منعهم منه، وإن تهاونوا في واجب حثهم عليه.
أنه لا يجوز أن تعلق في أعناق الإبل أشياء تجعل سبباً في جلب منفعة أو دفع مضرة، وهي ليس كذلك لا شرعاً ولا قدراً، لأنه شرك، ولا يلزم أن تكون القلادة في الرقبة، بل لو جعلت في اليد أو الرجل، فلها حكم الرقبة، لأن العلة هي هذه القلادة، وليس مكان وضعها، فالمكان لا يؤثر.
أنه يجب على من يستطيع تغيير المنكر باليد أن يغيره بيده.
* * *
وعن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الرقى والتمائم والتولة شرك". رواه أحمد وأبو داود(1)
__________
(1) مسند الإمام أحمد (1/381) وحسن إسناده احمد شاكر (3615)، وأبو داود (كتاب الطب، باب في تعليق التمائم، 5/212)، والحاكم في (الرقي والتمائم: 4/418) - وقال: "صحيح الإسناد على شرط الشيخين"، وأقره الذهبي.(10/127)
قوله: "إن الرقى"، جمع رقبة، وهذه ليست على عمومها، بل هي عام أريد به خاص، وهو الرقي بغير ما ورد به الشرع، أما ما ورد به الشرع، فليست من الشرك، قال - صلى الله عليه وسلم - في الفاتحة: "وما يدريك أنها رقية"(1).
وهل المراد بالرقي في الحديث ما لم يرد به الشرع ولو كانت مباحة، أو المراد ما كان فيه شرك؟
الجواب: الثاني، لأن كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يناقض بعضه بعضاً، فالرقى المشروعة التي ورد بها الشرع جائزة.
وكذا الرقي المباحة التي يرقى بها الإنسان المريض بدعاء من عنده ليس فيه شرك جائز أيضاً.
قوله: "التمائم"، فسرها المؤلف بقوله: "شيء يعلق على الأولاد يتقون به العين"، وهي من الشرك، لأن الشارع لم يجعلها سبباً تتقى به العين.
وإذا كان الإنسان يلبس أبناءه ملابس رثة وبالية خوفاً من العين، فهل هذا جائز؟
الظاهر أنه لا بأس به، لأنه لم يفعل شيئاً، وإنما ترك شيئاً، وهو التحسين والتجميل، وقد ذكر ابن القيم في "زاد المعاد" أن عثمان رأى صبياً مليحاً، فقال: دسموا نونته، والنونة: هي التي تخرج في الوجه عندما يضحك الصبي كالنقوة، ومعنى دسموا، أي: سودوا.
وأما الخط: وهي أوراق من القرآن تجمع وتوضع في جلد ويخاط عليها، ويلبسها الطفل على يده أو رقبته، ففيها خلاف بين العلماء.
وظاهر الحديث: أنها ممنوعة، ولا تجوز.
ومن ذلك أن بعضهم يكتب القرآن كله بحروف صغيرة في أوراق صغيرة، ويضعها في صندوق صغير، ويعلقها على الصبي، وهذا مع أنه محدث، فهو إهانة للقرآن الكريم، لأن هذا الصبي سوف يسيل عليه لعابه، وربما يتلوث بالنجاسة، ويدخل به الحمام والأماكن القذرة، وهذا كله إهانة للقرآن.
__________
(1) سبق (ص 87).(10/128)
ومع الأسف أن بعض الناس اتخذوا من العبادات نوعاً من التبرك فقط، مثل ما يشاهد من أن بعض الناس يمسح الركن اليماني، ويمسح به وجه الطفل وصدره، وهذا معناه أنهم جعلوا مسح الركن اليماني من باب التبرك لا التعبد، وهذا جهل، وقد قال عمر في الحجر: "إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك ما قبلتك"(1).
قوله: "التولة"، شيء يعلقونه على الزوج، يزعمون أنه يحبب الزوجة إلى زوجها والزوج إلى امرأته، وهذا شرك، لأنه ليس بسبب شرعي ولا قدري للمحب.
ومثل ذلك الدبلة، والدبلة: خاتم يشترى عند الزواج يوضع في يد الزوج، وإذا ألقاه الزوج، قالت المرأة: إنه لا يحبها، فهم يعتقدون فيه النفع والضرر، ويقولون: إنه ما دام في يد الزوج، فإنه يعني أن العلاقة بينهما ثابتة، والعكس بالعكس، فإذا وجدت هذه النية، فإنه من الشرك الأصغر، وإن لم توجد هذه النية - وهي بعيدة ألا تصحبها ـ، ففيه تشبه بالنصارى، فإنها مأخوذة منهم.
وإن كانت من الذهب، فهي بالنسبة للرجل فيها محذور ثالث، وهو لبس الذهب، فهي إما من الشك، أو مضاهاة النصارى، أو تحريم النوع إن كانت للرجال، فإن خلت من ذلك، فهي جائزة لأنها خاتم من الخواتم.
وقوله: "شرك"، هل هي شرك أصغر أو أكبر؟
نقول: بحسب ما يريد الإنسان منها إن اتخذها معتقداً أن المسبب للمحبة هو الله، فهي شرك أصغر، وإن اعتقد أنها تفعل بنفسها، فهي شرك أكبر.
* * *
وعن عبد الله بن عكيم مرفوعاً: "من تعلق شيئاً، وكل إليه" رواه احمد والترمذي(2).
قوله: "من تعلق"، أي: اعتمد عليه وجعله همه ومبلغ علمه، وصار يعلق رجاءه به وزوال خوفه به.
__________
(1) البخاري: كتاب الحج/ باب تقبيل الحجر، ومسلم: كتاب الحج/ باب أصحاب تقبيل الحجر.
(2) تقدم تخريجه (ص 165).(10/129)
قوله: "شيئاً" نكرة في سياق الشرط، فتعم جميع الأشياء، فمن تعلق بالله - سبحانه وتعالى - ، وجعل رغبته ورجاءه فيه وخوفه منه، فإن الله تعالى يقول: { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } [الطلاق: 3]، أي: كافيه، ولهذا كان من دعاء الرسل وأتباعهم عند المصائب والشدائد: "حسبنا الله ونعم الوكيل"، قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد واصحابه حين قيل لهم: { إن الناس قد جمعوا لكم فأخشوهم } (1)[آل عمران: 173].
قوله: "وكل إليه"، أي: أسند إليه، وفوض.
* أقسام التعلق بغير الله:
الأول: ما ينافي التوحيد من أصله، وهو أن يتعلق بشيء لا يمكن أن يمكن أن يكون له تأثير، ويعتمد عليه اعتماداً معرضاً عن الله، مثل تعلق عباد القبور بمن فيها عند حلول المصائب، ولهذا إذا مستهم الضراء الشديدة يقولون: يا فلان! أنقذنا، فهذا لا شك أنه شرك أكبر مخرج من الملة.
الثاني: ما ينافي كمال التوحيد، وهو أن يعتمد على سبب شرعي صحيح مع الغفلة عن المسبب، وهو الله - عز وجل - ، وعدم صرف قلبه إليه، فهذا نوع من الشرك، ولا نقول شرك أكبر، لأن هذا السبب جعله الله سبباً.
الثالث: أن يتعلق بالسبب تعلقاً مجرداً لكونه سبباً فقط، مع اعتماده الأصلي على الله، فيعتقد أن هذا السبب من الله، وأن الله لو شاء لأبطل أثره، ولو شاء لأبقاه، وأنه لا أثر للسبب إلا بمشيئة الله - عز وجل ـ، فهذا لا ينافي التوحيد لا كمالاً ولا أصلاً، وعلى هذا لا إثم فيه.
ومع وجود الأسباب الشرعية الصحيحة ينبغي للإنسان أن لا يعلق نفسه بالسبب، بل يعلقها بالله.
فالموظف الذي يتعلق قلبه بمرتبه تعلقاً كاملاً، مع الغفلة عن المسبب، وهو، قد وقع في نوع من الشرك، أما إذا اعتقد ان المرتب سبب، والمسبب هو الله - سبحانه وتعالى - ، وجعل الاعتماد على الله، وهو يشعر أن المرتب سبب، فهذا لا ينافي التوكل.
__________
(1) البخاري: كتاب التفسير/ باب { الذي قال لهم الناس..... } .(10/130)
وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يأخذ بالأسباب مع اعتماده على المسبب، وهو الله- عز وجل -.
وجاء في الحديث: "من تعلق"، ولم يقل: من علق، لأن المتعلق بالشيء يتعلق به بقلبه وبنفسه، بحيث ينزل خوفه ورجاءه وأمله به، وليس كذلك من علق.
قوله: "إذا كان المعلق من القرآن..." إلخ.
إذا كان المعلق من القرآن أو الأدعية المباحة والأذكار الواردة، فهذه المسألة اختلف فيها السلف رحمهم الله، فمنهم من رخص في ذلك لعموم قوله: { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين } [الإسراء: 82]، ولم يذكر الوسيلة التي نتوصل بها إلى الاستشفاء بهذا القرآن، فدل على أن كل وسيلة يتوصل بها إلى ذلك فهي جائزة، كما لو كان القرآن دواءاً حسياً.
ومنهم من منع ذلك وقال: لا يجوز تعليق القرآن للاستشفاء به، لأن الاستشفاء بالقرآن ورد على صفة معينة، وهي القراءة به، بمعنى أنك تقرأ على المريض به، فلا نتجاوزها، فلو جعلنا الاستشفاء بالقرآن على صفة لم ترد، فمعنى ذلك أننا فعلنا سبباً ليس مشروعاً(1)، وقد نقله المؤلف رحمه الله عن ابن مسعود رضي الله عنه.
ولولا الشعور النفسي بأن تعليق القرآن سبب للشفاء، لكان انتفاء السببية على هذه الصورة أمراً ظاهراً، فإن التعليق ليس له علاقة بالمرضى، بخلاف النفث على مكان الألم، فإنه يتأثر بذلك.
ولهذا نقول: الأقرب أن يقال: إنه لا ينبغي أن تعلق الآيات للاستشفاء بها، لا سيما وأن هذا المعلق قد يفعل أشياء تنافي قدسية القرآن، كالغيبة مثلاً، ودخول بيت الخلاء، وأيضاً إذا علق وشعر أن به شفاء استغنى به عن القراءة المشروعة، فمثلاً: علق آية الكرسي على صدره، وقال: ما دام أن آية الكرسي على صدري فلن أقرأها، فيستغني بغير المشروع عن المشروع، وقد يشعر بالاستغناء عن القراءة المشروعة إذا كان القرآن على صدره.
__________
(1) أنظر: "مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد العثيمين"، (1/58).(10/131)
وإن كان صبياً، فربما بال ووصلت الرطوبة إلى هذا المعلق، وأيضاً لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه شيء.
فالأقرب أن يقال: أنه لا يفعل، أما أن يصل إلى درجة التحريم، فأنا أتوقف فيه، لكن إذا تضمن محظوراً، فإنه محرماً بسبب ذلك المحظور.
* * *
و"الرقي": هي التي تسمى العزائم، وخص منها الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخص فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العين والحمة.
و"التولة": هي شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل إلى امرأته.
قوله: "التي تسمى العزائم". أي: في عرف الناس، وعزم عليه، أي: قرأ عليه، وهذه عزيمة، أي قراءة.
قوله: "وخص منها الدليل ما خلا من الشرك"، أي: الأشياء الخالية من الشرك، فهي جائزة، سواء كان مما ورد بلفظه مثل: "اللهم رب الناس! أذهب الباس، اشف أنت الشافي..."(1)، أو لم يرد بلفظه مثل: "اللهم عافه، الله اشفه"، وإن كان فيها شرك، فإنها غير جائزة، مثل: "يا جني! أنقذه، ويا فلان الميت! اشفه"، ونحو ذلك.
قوله: "من العين والحمة"، سبق تعريفهما في باب من حقق التوحيد دخل الجنة. وظاهر كلام المؤلف: أن الدليل لم يرخص بجواز القراءة إلا في هذين الأمرين: "العين، والحمة"، لكن ورد بغيرهما، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينفخ على يديه عند منامه بالمعوذات، ويمسح بهما ما استطاع من جسده(2)، وهذا من الرقية، وليس عيباً ولا حمة.
__________
(1) البخاري: كتاب المرضى/ باب دعاء العائد للمريض، ومسلم: كتاب السلام/ باب استحباب رقية المريض.
(2) البخاري: كتاب فضائل القرآن/ باب فضل المعوذات، ومسلم: كتاب السلام/ باب رقية المريض بالمعوذات والنفث.(10/132)
ولهذا يرى بعض أهل العلم الترخيص في الرقية من القرآن للعين والحمة وغيرهما عام، ويقول: إن معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا رقية إلا من عين أو حمة"، أي: لا استرقاء إلا من عين أو حمة، والاسترقاء: طلب الرقية، فالمصيب بالعين - وهو "العائن" - يطلب منه أن يقرأ على المعيون.
وكذلك الحمة يطلب الإنسان من غيره أن يقرأ عليه، لأنه مفيد كما في حديث أبي سعيد في قصة السرية(1).
* شروط جواز الرقية:
الأول: أن لا يعتقد أنها تنفع بذاتها دون الله، فإن اعتقد أنها تنفع بذاتها من دون الله، فهو محرم، بل شرك، بل يعتقد أنها سبب لا تنفع إلا بإذن الله.
الثاني: أن لا تكون مما يخالف الشرع، كما إذا كانت متضمنة دعاء غير الله، أو استغاثة بالجن، وما أشبه ذلك، فإنها محرمة، بل شرك.
الثالث: أن تكون مفهومة معلومة، فإن كانت من جنس الطلاسم والشعوذة، فإنها لا تجوز.
أما بالنسبة للتمائم، فإن كانت أمر محرم، أو اعتقد أنها نافعة لذاتها، أو كانت بكتابة لا تفهم، فإنها لا تجوز بكل حال.
وإن تمت فيها الشروط الثلاثة السابقة في الرقية، فإن أهل العلم اختلفوا فيها كما سبق.
* * *
وروى أحمد عن رويفع، قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا رويفع! لعل الحياة ستطول بك، فأخبر الناس أن من عقد لحيته، أو تقلد وتراً، أو استنجى برجيع دابة أو عظم، فإن محمداً بريء منه"(2).
قوله: "من عقد لحيته"، اللحية عند العرب كانت لا تقص ولا تحلق، كما أن ذلك هو السنة، لكنهم كانوا يعقدون لحاهم لأسباب:
منها: الافتخار والعظمة، فتجد أحدهم يعقد أطرافها، أو يعقدها من الوسط عقدة واحدة ليعلم أنه رجل عظيم، وأنه سيد في قومه.
الثاني: الخوف من العين، لأنها إذا كانت حسنة وجميلة ثم عقدت أصبحت قبيحة، فمن عقدها لذلك، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بريء منه.
__________
(1) سبق (ص 87).
(2) مسند الإمام أحمد (4/108،109).(10/133)
وبعض العامة إذا جاءهم طعام من السوق أخذوا شيئاً منه يرمونه في الأرض، دفعاً للعين، وهذا اعتقاد فاسد ومخالف لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سقطت لقمة أحدكم، فليمط ما بها من الأذى، وليأكلها"(1).
قوله: "أو تقلد وتراً"، الوتر: سلك من العصب يؤخذ من الشاة، وتتخذ للقوس وتراً، ويستعملونها في أعناق إبلهم أو خيلهم، أو في أعناقهم، يزعمون أنه يمنع العين، وهذا من الشرك.
قوله: "أو استنجى برجيع دابة". الاستنجاء: مأخوذ من النجو، وهو إزالة أثر الخارج من السبيلين، لأن الإنسان الذي يتمسح بعد الخلاء يزيل أثره.
ورجيع الدابة: هو روثها.
قوله: "أو عظم". العظم معروف وإنما تبرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن استنجى بهما، لأ، الروث علف بهائم الجن والعظم طعامهم، يجدونه أو ما يكون لحماً.
وكل ذنب قرن بالبراءة من فاعلة، فهو من كبائر الذنوب، كما هو معروف عند أهل العلم.
الشاهد من هذا الحديث قوله: "من تقلد وتراً".
* * *
وعن سعيد ب جبير، قال: "من قطع تميمة من إنسان، كان كعدل رقبة". رواء وكيع(2)
قوله: وعن سعيد بن جبير، قال: "من قطع تميمة..."الحديث قوله: "كعدل رقبة" بفتح العين لأنه من غير الجنس، والمعادل من الجنس بكسر العين، ووجه المشابهة بين قطع التميمة وعتق الرقبة: أنه إذا قطع التميمة من إنسان، فكأنه اعتقه من الشرك، ففكه من النار، ولكن يقطعها بالتي هي أحسن، لأن العنف يؤدي إلى المشاحنة والشقاق، إلا إن كان ذا شأن، كالأمير، والقاضي، ونحوه ممن له سلطة، فله أن يقطعها مباشرة.
* * *
وله عن إبراهيم، قال: "كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن"(3).
__________
(1) مسلم: كتاب الأشربة/ باب استحباب لعق الأيادي والقصعة.
(2) مصنف ابن أبي شيبة: كتاب الطب/ باب في تعليق التمائم والرقى.
(3) مصنف ابن أبي شيبة: كتاب الطب/ باب في تعليق التمائم والرقى.(10/134)
قوله: "كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن"، وقد سبق أن هذا رأي ابن مسعود رضي الله عنه، فأصحابه يرون، ما يراه.
قوله: "وله عن إبراهيم"، وهو إبراهيم النخعي.
قوله: "كانوا"، الضمير يعود إلى أصحاب ابن مسعود، لأنهم هم قرناء إبراهيم النخعي.
قوله: "التمائم"، هي ما يعلق على المريض أو الصحيح، سواء من القرآن أو غيره للاستشفاء أو لاتقاء العين، أو ما يعلق على الحيوانات.
وفي هذا الوقت أصبح تعليق القرآن لا للاستشفاء، بل لمجرد التبرك والزينة، كالقلائد الذهبية، أو الحي التي يكتب عليها لفظ الجلالة، أو آية الكرسي، أو القرآن كاملاً، فهذا كله من البدع.
فالقرآن ما نزل ليستشفى به على هذا الوجه، إنما يستشفى به على ما جاء به الشرع.
* * *
قوله: الأولى: تفسير الرقى والتمائم، وقد سبق ذلك.
الثانية: تفسير التولة، وقد سبق ذلك، وعندي أن منها ما يسمى بالدبلة إن اعتقدوا إنها صلة بين المرء وزوجته.
الثالثة: أنه هذه الثلاثة كلها من الشرك من غير استثناء، ظاهر كلامه حتى الرقى، وهذا فيه نظر، لأن الرقى ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يرقى ويرقى(1)، ولكنه لا يسترقي، أي: لا يطلب الرقية، فإطلاقها بالنسبة للرقى فيه نظر، وقد سبق للمؤلف رحمه الله أن الدليل خص منها ما خلا من الشرك، وبالنسبة للتمائم، فعلى رأي الجمهور فيه نظر أيضاً.
وأما على رأي ابن مسعود، فصحيح، وبالنسبة للتولة، فهي شرك بدون استثناء.
* * *
الرابعة: أن الرقية بالكلام الحق من العين والحمة ليس من ذلك. الخامسة: أن التميمة إذا كانت من القرآن، فقد اختلف العلماء، هل هي من ذلك أم لا؟ السادسة: أن تعليق الأوتار على الدواب عن العين من ذلك.
الرابعة: أن الرقية بالكلام الحق من العين أو الحمة ليس من ذلك.
قوله: (الكلام الحق)، ضده الباطل، وكذا المجهول الذي لا يعلم أنه حق أو باطل.
__________
(1) ص 91)(10/135)
والمؤلف رحمه الله تعالى خصص العين أو الحمة فقط استناداً لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا رقية إلى من عين أو حمة"(1)، ولكن الصحيح أنه يشمل غيرهما، كالسحر.
الخامسة: أن التميمة إذا كانت من القرآن، فقد اختلف العلماء: هل هي من ذلك أم لا؟ قوله: "ذلك" المشار إليه: التمائم المحرمة.
وقد سبق بيان هذا الخلاف(2)، والأحوط مذهب ابن مسعود، لأن الأصل عدم المشروعية حتى يتبين ذلك من السنة.
السادسة: أن تعليق الأوتار على الدواب عن العين من ذلك، أي: من الشرك.
* (تنبيه):
ظهر في الأسواق في الآونة الأخيرة حلقة من النحاس يقولون: إنها تنفع من الروماتيزم، يزعمون الإنسان إذا وضعها على عضده وفيه روماتيزم نفعته من هذا الروماتيزم، ولا ندري هل هذا صحيح أم لا؟ لكن الأصل أنه ليس بصحيح، لأنه ليس عندنا دليل شرعي ولا حسي يدل على ذلك، وهي لا تؤثر على الجسم، فليس فيها مادة دهنية حتى نقول: إن الجسم يشرب هذه المادة وينتفع بها، فالأصل أنها ممنوعة حتى يثبت لنا بدليل صحيح صريح واضح أن لها اتصالاً مباشراً بهذا الروماتيزم حتى ينتفع بها.
* * *
السابعة: الوعيد الشديد على من تعلق وتراً. الثامنة: فضل ثواب من قطع تميمة من إنسان.
السابعة: الوعيد الشديد على من تعلق وتراً. وذلك لبراءة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ممن تعلق وتراً، بل ظاهره أنه كفر مخرج من الملة، قال: { وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله } [التوبة: 3]، لكن قال أهل العلم: إن البراءة هنا براءة من هذا الفعل، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من غشنا، فليس منا"(3).
الثامنة: فضل ثواب من قطع تميمة من إنسان، لقول سعيد بن جبير: "كان كعدل رقبة"، ولكن هل قوله حجة أم لا؟.
__________
(1) ص 94).
(2) أنظر: (ص 174).
(3) مسلم: كتاب الإيمان/ باب قول النبي- صلى الله عليه وسلم -: "من غشنا فليس منا".(10/136)
إن قيل: ليس بحجة، فكيف يقول المؤلف: فضل ثواب من قطع تميمة من إنسان؟!
فيقال: أنه إنما كان كذلك، لأنه إنقاذ له من رق الشرك، فهو كمن أعتقه، بل أبلغ.
فهو من باب القياس، فمن أنقذ نفساً من الشرك، فهو كمن أنقذها من الرق لأنه أنقذه من رق الشيطان والهوى.
* فائدة:
إذا قال التابعي: من السنة كذا، فهل يعتبر موقوفاً متصلاً ويكون المراد من السنة أي سنة الصحابة، أو يكون مرفوعاً مرسلاً؟
اختلف أهل العلم في هذا، فبعضهم قال: إنه يكون موقوفاً.
وبعضهم قال: يكون مرفوعاً مرسلاً.
وتقدم لنا أنه ينبغي أن يفصل في هذا، وإن التابعي إذا قاله محتجاً به، فإنه يكون مرفوعاً مرسلاً، أما إذا قاله في سياق غير الاحتجاج، فهذا قد يقال: إنه من باب الموقوف الذي ينسب إلى الصحابي.
* * *
التاسعة: أن كلام إبراهيم لا يخالف ما تقدم من الاختلاف، لأن مراده أصحاب عبدالله بن مسعود.
التاسعة: أن كلام إبراهيم النخعي لا يخالف ما تقدم من الاختلاف، لأن مراده أصحاب عبدالله بن مسعود، وليس مراده الصحابة، ولا التابعين عموماً.
* * *
باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما
قوله: "تبرك"، تفعل من البركة، والبركة: هي كثرة الخير وثبوته، وهي مأخوذة من البركة بالكسر، والبركة: مجمع الماء، ومجمع الماء يتميز عن مجرى الماء بأمرين:
الكثرة.
الثبوت.
والتبرك طلب البركة، وطلب البركة لا يخلو من أمرين:
أن يكون التبرك بأمر شرعي معلوم، مثل القرآن، قال تعالى: { كتاب أنزلناه إليك مباركاً } [ص: 29]، فمن بركته أن من أخذ به حصل له الفتح، فأنقذ الله بذلك أمماً كثيرة من الشرك، ومن بركته أن الحرف الواحد بعشر حسنات، وهذا يوفر للإنسان الوقت والجهد، إلى غير ذلك من بركاته الكثيرة.
أن يكون بأمر حسي معلوم، مثل: التعليم، والدعاء، ونحو، فهذا الرجل يتبرك بعمله ودعوته إلى الخير، فيكون هذا بركة لأننا نلنا منه خيراً كثيراً.(10/137)
وقال أسيد بن حضير: "ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر"(1)، فإن الله يجري على بعض الناس من أمور الخير ما لا يجريه على يد الآخر.
وهناك بركات موهومة باطلة، مثل ما يزعمه الدجالون: أن فلاناً الميت الذي يزعمون أنه ولي أنزل عليكم من بركته وما أشبه ذلك، فهذه بركة باطلة، لا أثر لها، وقد يكون للشيطان أثر في هذا الأمر، لكنا لا تعدو أن تكون آثاراً حسية، بحيث أن الشيطان يخدم هذا الشيخ، فيكون في ذلك فتنة.
أما كيفية معرفة هل هذه من البركات الباطلة أو الصحيح، فيعرف ذلك بحال الشخص، فإن كان من أولياء الله المتقين المتبعين للسنة المبتعدين عن البدعة، فإن الله قد يجعل على يديه من الخير والبركة ما لا يحصل لغيره.
ومن ذلك ما جعل الله على يد شيخ الإسلام ابن تيمية من البركة التي انتفع بها الناس في حياته وبعد موته.
أما إن كان مخالفاً للكتاب والسنة، أو يدعو إلى باطل، فإن بركته موهومة، وقد تضعها الشياطين له مساعدة على باطله، وذلك مثل ما يحصل لبعضهم أن يقف مع الناس في عرفة ثم يأتي إلى بلده ويضحي مع أهل بلده.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الشياطين تحملهم لكي يغتر بهم الناس، وهؤلاء وقع منهم مخالفات، منها: عدم إتمام الحج، ومنها أنهم يمرون بالميقات ولا يحرمون منه(2).
قوله: "شجر" اسم جنس، فيشمل أي شجرة تكون، ومن حسنات أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما رأى الناس ينتابون الشجرة التي وقعت تحتها بيعة الرضوان أمر بقطعها.
قوله: "وحجر"، اسم جنس يشمل أي حجر كان حتى الصخرة التي في بيت المقدس، فلا يتبرك بها، وكذا الحجر الأسود لا يتبرك به، وإنما يتعبد الله بمسحه وتقبيله، اتباعاً للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وبذلك تحصل بركة الثواب.
__________
(1) البخاري: كتاب فضائل الصحابة/باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو كنت متخذاً خليلاً"، ومسلم: كتاب الحيض/ باب التيمم.
(2) "مجموع الفتاوى" (1/83).(10/138)
ولهذا قال عمر رضي الله عنه: "إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك، ما قبلتك"(1).
فتقبيله عبادة محضة خلافاً للعامة، يظنون أن به بركة حسية، ولذلك إذا استلمه بعض هؤلاء مسح على جميع بدنه تبركاً بذلك.
قوله: "ونحوهما"، أي: من البيوت، والقباب، والحجر، حتى حجرة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا يتمسح بها تبركاً، لكن لو مسح الحديد لينظر هل هو أملس أو لا، فلا بأس، إلا إن خشي أن يقتدى به، فلا يمسحه.
* * *
وقول الله تعالى { أفرأيتم اللات والعزى } الآيات [النجم: 19]
قوله: { أفرأيتم اللات والعزى } ، لما ذكر الله - عز وجل - المعراج بقوله: { والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى.. } [النجم: 1،2]، قال: { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } [النجم 18]، أي رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - من آيات الله الكبرى. وقد اختلف العلماء في قوله: { الكبرى } : هل هي مفعول لـ { رأى } ، أو صفة لـ { آيات } ؟
وقوله: { الكبرى } قيل: أنها مفعول: لـ { رأى } ، والتقدير: لقد رأى من آيات الله الكبرى.
فعلى الأول: يكون المعنى: أنه رأى الكبرى من الآيات.
وعلى الثاني: يكون المعنى أنه رأى بعض الآيات الكبرى، وهذا هو الصحيح، أن الكبرى صفة لـ { آيات } ، وليست مفعولاً لـ { رأى } ، إذا إن ما رآه ليس أكبر آيات الله.
وبعد أن ذكر الله ما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذه الآيات، قال: { أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى } ، أي: أخبروني ما شأنها، وما حالها بالنسبة إلى هذه الآيات العظيمة، إنها ليست بشيء.
والاستفهام: للاستخفاف والاستهجان بهذه الأصنام.
__________
(1) سبق (ص171).(10/139)
قوله: { اللات } ، تقرأ بتشديد التاء وتخفيفها، والتشديد قراءة ابن عباس، فعلى قراءة التشديد تكون اسم فاعل من اللت، وكان هذا الصنم أصله رجل يلت السويق للحجاج، أي: يجعل فيه السمن، ويطعمه الحجاج، فلما مات عكفوا على قبره وجعلوه صنماً.
وأما على قراءة التخفيف، فإن اللات مشتقة من الله، أو من الإله، فهم اشتقوا من أسماء الله اسماً لهذا الصنم، وسموه اللات، وهي لأهل الطائف ومن حولهم من العرب.
وقوله: { العزى } ، مؤنث أعز، وهو صنم يعبده قريش وبنو كنانة مشتق من اسم الله العزيز كان بنخلة بين مكة والطائف.
قوله: { ومناة } ، قيل: مشتقة من المنان، وقيل: من منى، لكثرة ما يمنى عنده من الدماء بمعنى يراق، ومنه سميت منى، لكثرة ما يراق فيها من الدماء.
وكان هذا الصنم بين مكة والمدينة لهذيل وخزاعة، وكان الأوس والخزرج يعظمونها ويهلون منها للحج.
قوله: { الثالثة الأخرى } ، إشارة إلى أن التي تعظمونها، وتذبحون عندها، وتكثر إراقة الدماء حولها: أنها أخرى بمعنى متأخرة، أي: ذميمة حقيرة، مأخوذة من قولهم: فلا أخر، أي: ذميم، حقير، متأخر.
فهذه الأصنام الثلاثة المعبودة عند العرب ما حلها بالنسبة لما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ لا شيء، وإنما ذكر هذه الأصنام الثلاثة لأنها اشهر الأصنام وأعظمها عند العرب.
قوله: "الآيات"، أي: أكمل الآيات بعدها.
قوله: "ألكم الذكر وله الأنثى"، هذا أيضاً استفهام إنكاري على المشركين الذين يجعلون لله البنات ولهم البنين، فإذا ولد لهم الذكر فرحوا واستبشروا به، وإذا ولدت الأنثى ظل وجه الإنسان منهم مسوداً، وهو كظيم، ومع ذلك يقولون: الملائكة بنات الله، فيجعلون البنات لله - والعياذ بالله - ولهم ما يشتهون.(10/140)
قوله: { تلك إذا قسمة ضيزى } ، ضيزى: جائرة، لأنه على الأقل إذا أردتم القسمة، فاجعلوا لكم من البنات نصيباً، واجعلوا لله من البنين نصيباً، أما أن تجعلوا ما تختارونه لأنفسكم، وهم البنون، وتجعلون ما تكرهون لله، فهذه قسمة جائرة.
قوله: { إن هي إلا أسماء سميتموها أنت وآباؤكم ما أنزل إله بها من سلطان } ، الضمير في { هي } يعود إلى الأصنام، أي: هذه الأصنام (اللات والعزى ومناة) التي سميتموها آلهة واتخذتموها آلهة تعبدونها هي مجرد أسماء سميتموها، ولكن ما أنزل الله بها من سلطان، أي: من حجة ودليل.
بل أبطلها الله - سبحانه - ، قال تعالى: { ذلك بان الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير } [الحج: 62]. ...
وأصل السلطان في اللغة العربية: ما به سلطة، فإن كان في مقام العلم، فهو العلم، وإن كان في مقام القدوة، فهو القدوة، وإن كان في مقام الأمر والنهي، فهو من له الأمر والنهي، فمثلاً قوله تعالى: { لا تنفذون إلا بسلطان } [الرحمن: 33]، أي: بقدرة وقوة ، ومثل قوله تعالى: { ما أنزل الله بها من سلطان } [النجم: 23]، أي: من حجة وبرهان.
وفي الحديث: "السلطان ولي من لا ولي له"(1)، أي: من له الأمر والنهي.
قوله: { إن يتبعون إلا الظن } ، { إن } هنا بمعنى ما، وعلامة إن التي بمعنى ما أن تأتي بعها إلا، قال تعالى: { إن هذا إلا ملك كريم } [يوسف: 31]، يعني ما هذا إلا ملك كريم، وقال تعالى: { إن هذا إلا قول البشر } [المدثر: 25]، أي: ما هذا إلا قول البشر، وقال تعالى: { إن يتبعون إلا الظن } [النجم: 23]، أي: ما يتبعون إلا الظن.
__________
(1) مسند الإمام أحمد (1/47)، وسنن أبي داود: كتاب النكاح/ باب في الولي، 2/568 - وسكت عنه - ، والترمذي: كتاب النكاح/ باب لا نكاح إلا بولي، رقم 1102 - وقال: "حديث حسن" -.(10/141)
والظن الذين يتبعونه هو أنها آلهة، وأن لله البنات ولهم البنون، والظن لا يغني من الحق شيئاً، كما قال تعالى في آية أخرى.
قوله: { وما تهوى الأنفس } ، كذلك أيضاً يتبعون ما تهوى الأنفس، وهذا أضر شيء على الإنسان أن يتبع ما يهوى، فالإنسان الذي يعبد الله بالهوى، فإنه لا يعبد الله حقاً، إنما يعبد عقله وهواه، قال تعال: { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم } [الجاثية: 23]، لكن الذي يعبد الله بالهدى لا بالهوى هو الذي على الحق.
قوله: { ولقد جاءهم من ربهم الهدى } ، أي: على يد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان الأجدر بهم أن يتبعوا الهدى دون الهوى.
* مناسبة الآية للترجمة:
أنهم يعتقدون أن هذه الأصنام تنفعهم وتضرهم، ولهذا يأتون إليها، يدعونها، ويذبحون لها، ويتقربون إليها، وقد يبتلي الله المرء فيحصل له ما يريد من اندفاع ضر أو جلب نفع بهذا الشرك، ابتلاءً من الله وامتحاناً، وهذا قد تقدم لنا له نظائر أن الله يبتلي المرء بتيسير أسباب المعصية له حتى يعلم سبحانه من يخافه بالغيب.
* * *
وعن أبي واقد الليثي، قال: "خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الله أكبر! إنها السنن! قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: { اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون } [الأعراف: 138]. لتركبن سنن من كان قبلكم". رواه الترمذي وصححه(1).
__________
(1) مسند الإمام أحمد (5/218)، والترمذي: أبواب الفتن/ باب ما جاء: "لتركبن سنن من كان قبلكم"، 6/343ـ وقال: "حسن صحيح".(10/142)
قوله: "خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -"، أي: بعد غزوة الفتح، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما فتح مكة تجمعت له ثقيف وهوازن بجمع عظيم كثير جداً.
فقصدهم - صلى الله عليه وسلم - ومعه اثنا عشر ألفاً: ألفان من أهل مكة، وعشرة آلاف جاء بهم من المدينة، فلما توجهوا بهذه الكثرة العظيمة، قالوا: لن نغلب اليوم من قلة. فأعجبوا بكثرتهم، ولكن بين الله أن النصر من عنده سبحانه وليس بالكثرة، قال تعالى: { لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت... } الآيتين [التوبة: 25]، ثم لما انحدروا من وادي حنين وجدوا أن المشركين قد كمنوا في الوادي، فحصل ما حصل، وتفرق المسلمون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يبق معه إلا نحو مئة رجل، وفي آخر الأمر كان النصر للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والحمد لله.
قوله: "حدثاء"، جمع حديث، أي: أننا قريبو عهد بكفر، وإنما ذكر ذلك رضي الله عنه للاعتذار لطلبهم وسؤالهم، ولو وقر الإيمان في قلوبهم لم يسألوا هذا السؤال.
قوله: "يعكفون عندها"، أي: يقيمون عليها، والعكوف: ملازمة الشيء، ومنه قوله تعالى: { وأنتم عاكفون في المساجد } [البقرة: 187].
قوله: "ينوطون"، أي: يعلقون بها أسلحتهم تبركاً.
قوله: "يقال: لها ذات أنواط"، أي: أنها تلقب بهذا اللقب لأنه تناط فيها الأسلحة، وتعلق عليها رجاء بركتها، فالصحابة رضي الله عنهم قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - "اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط"، أي: سدرة نعلق أسلحتنا عليها تبركاً بها، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الله أكبر" كبر تعظيماً لهذا الطلب، أي: استعظاماً له، وتعجباً لا فرحاً به، كيف يقولون هذا القول وهم آمنوا بأنه لا إله إلا الله؟!
لكن: "إنها السنن"، أي: الطرق التي يسلكها العباد.(10/143)
قوله: "قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: { اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } "، أي: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قاس ما قاله الصحابة رضي الله عنهم على ما قاله بنو إسرائيل لموسى حين قالوا: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، فأنتم طلبتم ذات أنواط كما أن لهؤلاء المشركين ذات أنواط.
وقوله عليه الصلاة والسلام: "والذي نفسي بيده" المراد أن نفسه بيد الله، لا من جهة إماتتها وإحيائها فحسب، بل من جهة تدبيرها وتصريفها أيضاً، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها - سبحانه وتعالى -.
قوله: "لتركبن سنن من كان قبلكم"، أي: لتفعلن مثل فعلهم، ولتقولن مثل قولهم، وهذه الجملة لا يراد بها الإقرار، وإنما يراد بها التحذير، لأنه من المعلوم أن سنن من كان قبلنا مما جرى تشبيهه سنن ضالة، حيث طلبوا آلهة مع الله، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يحذر أمته أن تركب سنن من كان قبلها من الضلال والغي.
والشاهد من هذا الحديث قولهم: "اجعل لنا ذات أنواط كمالهم ذات أنواط"، فأنكر عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النجم. الثانية: معرفة صورة الأمر الذي طلبوا. الثالثة: كونهم لم يفعلوا. الرابعة: كونهم قصدوا التقرب إلى الله بذلك، لظنهم أنه يحبه.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النجم، أي: قوله تعالى: { أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى * ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذاً قسم ضيزى * إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان... } الآية، وسبق تفسيرها، وأن الله تعالى أنكر على هؤلاء الذين يعبدون اللات والعزى، وأتى بصيغة الاستفهام الدالة على التحقير والتصغير لهذه الأصنام.(10/144)
الثانية: معرفة صورة الأمر الذي طلبوا، وهو أنهم طلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لهم ذات أنواط كما أن للمشركين ذات أنواط، وهم إنما أرادوا أن يتبركوا بهذه الشجرة لا أن يعبدوها، فدل ذلك على أن التبرك بالأشجار ممنوع، وأن هذا من سنن الضالين السابقين من الأمم.
الثالثة: كونهم لم يفعلوا، أي: لم يعلقوا أنواطاً على الشجرة، ويطلبوا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يقرهم على هذا العمل، بل طلبوا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لهم ذلك.
الرابعة: كونهم قصدوا التقرب إلى الله بذلك لظنهم أنه يحبه، "بذلك"، أي: بتعليق الأسلحة ونحوها على الشجرة التي يعينها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا طلبوا ذلك من الرسول لتكتسب بهذا المعنى العبادة.
الخامسة: أنهم إذا جهلوا هذا، فغيرهم أولى بالجهل، لأن الصحابة لا شك أعلم الناس بدين الله، فإذا كان الصحابة يجهلون أن التبرك بهذا نوع من اتخاذها إلهاً، فغيرهم من باب أولى، وقصد المؤلف رحمه الله بهذا أن لا نغتر بعمل الناس، لأن عمل الناس قد يكون عن جهل، فالعبرة بما دل عليه الشرع لا بعمل الناس.
السادسة: أن لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة ما ليس لغيرهم، وهذا معلوم من الآيات، مثل قوله تعالى: { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى } [الحديد: 10]، فالصحابة رضي الله عنهم لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة وأسباب المغفرة ما ليس لغيرهم، ومع ذلك لم يعذرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الطلب. بل رد عليهم بقول الله أكبر (إنها السنن لتتبعن سنن من كان قبلكم).(10/145)
السابعة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعذرهم، بل رد عليهم بقوله: "الله أكبر إنها السنن، لتتبعن سنن من كان قبلكم"، فغلظ الأمر بهذه الثلاث، وهي قوله: "الله أكبر"، وقوله: "إنها السنن"، وقوله: "لتركبن سنن من كان قبلكم"، فغلظ الأمر بهذا لأن التكبير استعظاماً للأمر الذي طلبوه، و"أنها السنن": تحذير، و"لتركبن سنن من كان قبلكم" كذلك أيضاً تحذير.
* * *
الثامنة: الأمر الكبير - وهو المقصود - أنه أخبر أن طلبهم كطلب بني إسرائيل لما قالوا لموسى: اجعل لنا إلهاً. التاسعة: أن نفي هذا من معنى (لا إله إلا الله) مع دقته وخفائه على أولئك. العاشرة: أنه حلف على الفتيا، وهو لا يحلف إلا لمصلحة.
الثامنة: الأمر الكبير وهو المقصود أنه أخبر أن طلبهم كطلب بني إسرائيل لما قالوا لموسى: { اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } . فهؤلاء طلبوا سدرة يتبركون بها كما يتبرك المشركون بها، وأولئك طلبوا إلهاً كما لهم آلهة، فيكون في كلا الطلبين منافاة للتوحيد، لأن التبرك بالشجر نوع من الشرك، واتخاذه إلهاً شرك واضح.
التاسعة: أن نفي هذا من معنى: لا إله إلا الله مع دقته وخفائه على أولئك، أي: أن نفي التبرك بالأشجار ونحوها من معنى لا إله إلا الله، فإن لا إله إلا الله تنفي كل إله سوى الله، وتنفي الألوهية عما سوى الله - عز وجل ـ، فكذلك البركة لا تكون من غير الله - سبحانه وتعالى -.
العاشرة: أنه حلف على الفتيا وهو لا يحلف إلا لمصلحة، أي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حلف على الفتيا في قوله: "قلتم، والذي نفسي بيده"، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يحلف إلا لمصلحة، أو دفع مضرة ومفسدة، فليس ممن يحلف على أي سبب يكون، كما هي عادة بعض الناس.
* * *
الحادية عشرة: أن الشرك فيه أصغر وأكبر، لأنهم لم يرتدوا بهذا.(10/146)
الحادية عشرة: أن الشرك فيه أصغر وأكبر، لأنهم لم يرتدوا بهذا، حيث لم يطلبوا جعل ذات الأنواط لعبادتها، بل للتبرك بها، والشرك فيه أصغر وأكبر، وفيه خفي وجلي.
فالشرك الأكبر: ما يخرج الإنسان من الله.
والشرك الأصغر: ما دون ذلك.
لكن كلمة (ما دون ذلك) ليس ميزاناً واضحاً. ولذلك اختلف العلماء في ضابط الشرك الأصغر على قولين:
القول الأول: أن الشرك الأصغر كل شيء أطلق الشارع عليه أنه شرك ودلت النصوص على أنه ليس من الأكبر، مثل: "من حلف بغير الله، فقد أشرك"(1)، فالشرك هنا اصغر، لأنه دلت النصوص على أن مجرد الحلف بغير الله لا يخرج من الملة.
القول الثاني: أن الشرك الأصغر: ما كان وسيلة للأكبر، وإن لم يطلق الشرع عليه اسم الشرك، مثل: أن يعتمد الإنسان شيء كاعتماده على الله، لكنه لم يتخذه إلهاً، فهذا شرك أصغر، لأن هذا الاعتماد الذي يكون كاعتماده على الله يؤدي به في النهاية إلى الشرك الأكبر، وهذا التعريف أوسع من الأول، لأن الأول يمنع أن تطلق على شيء أنه شرك إلا إذا كان لديك دليل، والثاني يجعل كل ما كان وسيلة للشرك فهو شرك، وربما نقول على هذا التعريف: إن المعاصي كلها شرك أصغر، لأن الحامل عليها الهوى، وقد قال تعالى: { أفرأيت من اتخذ من إلهه هواه وأضله الله على علم } [الجاثية: 23]، ولهذا أطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - الشرك على تارك الصلاة، مع أنه لم يشرك، فقال: "بين الرجل وبين الشرك والكفر: ترك الصلاة"(2).
فالحاصل أن المؤلف رحمه الله يقولك إن الشرك فيه أكبر وأصغر، لأنهم لم يرتدوا بهذا، وسبق وجه ذلك.
__________
(1) مسند الإمام أحمد (2/125)، وسنن أبي داود: كتاب الإيمان/ باب من كراهية الحلف بالآباء - وسكت عنه ـ، والترمذي: النذور/ باب كراهية الحلف بغير الله تعالى - وحسنه -.
(2) مسلم: كتاب الإيمان/ باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة.(10/147)
الجلي والخفي، فبعضهم قال: إن الجلي والخفي هو الأكبر والأصغر، وبعضهم قال: الجلي ما ظهر للناس من أصغر أو أكبر، كالحلف بغير الله، والسجود للصنم.
والخفي: ما لا يعلمه الناس من أصغر أو أكبر، كالرياء، واعتقاد أن مع الله إلهاً آخر.
وقد يقال: إن الجلي ما انجلى أمره وظهر كونه شركاً، ولو كان أصغر، والخفي: ما سوى ذلك.
وأيهما الذي لا يغفر؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الشرك لا يغفره الله لو كان أصغر، لعموم قوله: { إن الله لا يغفر أن يشرك به } [النساء: 116]، و { أن يشرك به } مؤول بمصدر تقديره: شركاً به، وهو نكر في سياق النفي، فيفيد العموم.
وقال بعض العلماء: إن الشرك الأصغر داخل تحت المشيئة، وإن المراد بقوله: { إن يشرك به } الشرك الأكبر، وأما الشرك الأصغر، فإنه يغفر لأنه لا يخرج من الملة، وكل ذنب لا يخرج من الملة، فإنه تحت المشيئة، وعلى كل، فصاحب الشرك الأصغر على خطر، وهو أكبر من كبائر الذنوب، قال ابن مسعود رضي الله عنه: "لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلى من أن أحلف بغيره صادقاً"(1).
* * *
الثانية عشرة: قولهم: "ونحن حدثاء عهد بكفر، فيه أن غيرهم يجهل ذلك. الثالثة عشرة: التكبير عند التعجب، خلافاً لمن كرهه.
الثانية عشرة: قولهم: "ونحن حدثاء عهد بكفر..."، معناه: أنه يعتذر عما طلبوا، حيث طلبوا أن يجعل لهم ذات أنواط، فهم يعتذرون لجهلهم بكونهم حدثاء عهد بكفر، وأما غيرهم ممن سبق إسلامه، فلا يجهل ذلك.
وعلى هذا، فنقول: إنه ينبغي للإنسان أن يقدم العذر عن قوله أو فعله حتى لا يعرض نفسه إلى القول أو الظن بما ليس فيه، ويدل لذلك حديث صفية حين شيعها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو معتكف، فمر رجلان من الأنصار، فقال: "إنها صفية بنت حيي"(2)
__________
(1) تقدم (ص 163)
(2) البخاري: كتاب الاعتكاف/ باب هل يخرج المعتكف...، ومسلم: كتاب السلام/ باب بيان أنه يستحب لمن رؤي خالياً بامرأة.. .(10/148)
الثالثة عشرة: التكبير عند التعجب.. إلخ، تؤخذ من قوله: "الله أكبر"، أي: الله أكبر وأعظم من أن يشرك به، وفي رواية الترمذي أنه قال: "سبحان الله"، أي: تنزيهاً لله عما لا يليق به.
* * *
الرابعة عشرة: سد الذرائع. الخامسة عشرة: النهي عن التشبه بأهل الجاهلية. السادسة عشرة: الغضب عند التعليم. السابعة عشرة: القاعدة الكلية لقوله: "إنها السنن".
الرابعة عشرة: سد الذرائع، الذرائع: الطرق الموصلة إلى الشيء، وذرائع الشيء: وسائله وطرقه.
والذرائع نوعان:
ذرائع إلى أمور مطلوبة، فهذه لا تسد، بل تفتح وتطلب.
ذرائع إلى أمور مذمومة، فهذه تسد، وهو مراد المؤلف رحمه الله تعالى.
وذات الأنواط وسيلة إلى الشرك الأكبر، فإذا وضعوا عليها أسلحتهم وتبركوا بها، يتدرج بهم الشيطان إلى عبادتها وسؤالهم حوائجهم منها مباشرة، فلهذا سد النبي - صلى الله عليه وسلم - الذرائع.
الخامسة عشرة: النهي عن التشبه بأهل الجاهلية، تؤخذ من قوله: "قلتم كما قالت بنو إسرائيل"، فأنكر عليهم، وبهذا نعرف أن الجاهلية لا تختص بمن كان قبل زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل كان من جهل الحق وعمل عمل الجاهلين، فهو من أهل الجاهلية.
السادسة عشرة: الغضب عند التعليم، والحديث ليس بصريح في ذلك، وربما يؤخذ من قرائن قوله: "الله أكبر إنها السنن...."، لأن قوة هذا الكلام تفيد الغضب.(10/149)
السابعة عشرة: القاعدة الكلية لقوله: "إنها السنن"، أي: الطرق، وأن هذه الأمة ستتبع طرق من كان قبلها، وهذا لا يعني الحل والإباحة، ولكنه للتحذير، كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا واحدة"(1)، وقال: "ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير..."(2) الحديث، وقال: "إن الظعينة تذهب من كذا إلى كذا لا تخشى إلا الله"(3)، وما أشبه ذلك من الأمور التي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن وقوعها مع تحريمها.
* * *
الثامنة عشرة: أن هذا علم من أعلام النبوة لكون وقع كما أخبر.
الثامنة عشرة: أن هذا علم من أعلام النبوة لكون وقع كما أخبر، يعني اتباع سنن من كان قبلنا.
فإن قال قائل: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد خطب الناس بعرفة، وقال: "إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب"(4)، فكيف تقع عبادته.
فالجواب: أن إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بيأسه لا يدل على عدم الوقوع، بل يجوز أن يقع، على خلاف ما توقعه الشيطان، لأن الشيطان لما حصلت الفتوحات، وقوي الإسلام، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، يئس أن يعبد سوى الله في هذه الجزيرة، ولكن حكمة الله تأبى إلا أن يكون ذلك، وهذا نقوله ولا بد، لئلا يقال: إن جميع الأفعال التي تقع في الجزيرة العربية لا يمكن أن تكون شركاً، ومعلوم أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله جدد التوحيد في الجزيرة العربية، وأن الناس كانوا في ذلك الوقت فيهم المشرك وغير المشرك.
__________
(1) تقدم (ص 31).
(2) البخاري تعليقاً: كتاب الأشربة/باب فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه.
(3) البخاري: كتاب المناقب/ باب علامات النبوة.
(4) مسلم: كتاب صفات المنافقين/ باب تحريش الشيطان.(10/150)
فالحديث أخبر عما وقع في نفس الشيطان ذلك الوقت، ولكنه لا يدل على عدم الوقوع، وهذا الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لتركبن سنن من كان قبلكم"، وهو يخاطب الصحابة وهم في جزيرة العرب.
* * *
التاسعة عشرة: أن كل ما ذم الله به اليهود والنصارى في القرآن أنه لنا.
التاسعة عشرة: أن ما ذم الله به اليهود والنصارى في القرآن أنه لنا، هذا ليس على إطلاقه وظاهرة بل يحمل قوله: "لنا"، أي: لبعضنا، ويكون المراد به المجموع لا الجميع، كما قال العلماء في قوله تعالى: { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم } [الأنعام: 130]، والرسل كانوا من الإنس فقط.
فإذا وقع تشبه باليهود والنصارى، فإن الذم الذي يكون لهم يكون لنا، وما من أحد من الناس غالباً إلا وفيه شبه باليهود أو النصارى، فالذي يعصي الله على بصيرة فيه شبه من اليهود، والذي يعبد الله على ضلالة فيه شبه من النصارى، والذي يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله فيه شبه من اليهود، وهلم جرأ.
وإن كان يقصد رحمه الله أنه لا بد أن يكون في الأمة خصلة، فهذا على إطلاقه وظاهره، لأنه قل من يسلم.
وإن أراد أن كل ما ذم به اليهود والنصارى، فهو لهذه الأمة على سبيل العموم، فلا.
* * *
العشرون: أنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر، فصار فيه التنبيه على مسائل القبر: أما (من ربك؟)، فواضح، وأما (من نبيك؟)، فمن إخباره بأنباء الغيب، وأما (ما دينك؟)، فمن قولهم: "اجعل لنا إلهاً..." إلى آخره.(10/151)
العشرون: أنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر... الخ"، وهذا واضح، فالعبادات مبناها على الأمر، فما لم يثبت فيه أمر الشارع، فهو بدعة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد"(1)، وقال: "إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة"(2).
فمن تعبد بعبادة طولب بالدليل، لأن الأصل في العبادات الحظر والمنع، إلا إذا قام الدليل على مشروعيتها.
وأما الأكل والمعاملات والآداب واللباس وغيرها، فالأصل فيها الإباحة، إلا ما قام الدليل على تحريمه.
وقوله: "مسائل القبر التي يسأل فيها الإنسان في قبره: من ربك؟ من نبيك؟ ما دينك؟".
ففي هذه القصة دليل على مسائل القبر الثلاث، وليس مراده أن فيها دليلاً على أن الإنسان يسأل في قبره، بل فيها دليل على إثبات الربوبية والنبوة والعبادة.
أما "من ربك"، فواضح، يعني أنه لا رب إلا الله تعالى.
وأما "من نبيك" فمن إخباره بالغيب، قال - صلى الله عليه وسلم -: "لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة"(3)، فوقع كما أخبر.
أما "ما دينك"، فمن قولهم: { اجعل لنا إلهاً } ، أي: مألوهاً معبوداً، والعبادة هي الدين.
والمؤلف محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فهمه دقيق جداً لمعاني النصوص، فأحياناً يصعب على الإنسان بيان وجه استنباط المسألة من الدليل.
* * *
الحادية والعشرون: أن سنة أهل الكتاب مذمومة كسنة المشركين. الثانية والعشرون: أن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يؤمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة، لقوله: "ونحن حدثاء عهد بكفر".
الحادية والعشرون: أن سنة أهل الكتاب مذمومة كسنة المشركين، تؤخذ من قوله: "كما قالت بنو إسرائيل لموسى".
__________
(1) مسلم: كتاب الأقضية/ باب نقض الأحكام الباطلة.
(2) مسند الإمام أحمد (4/126)، وسنن أبي داود: كتاب السنة/ باب لزوم السنة، 5/13، والترمذي: العلم/ باب الأخذ بالسنة، رقم 2678 - وقال: "حسن صحيح".
(3) تقدم (ص 192).(10/152)
الثانية والعشرون: أن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يؤمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العبادة، وهذا صحيح، فالإنسان المنتقل من شيء، سواء كان باطلاً أو لا، لا يؤمن أن يكون في قلبه بقية منه، وهذه البقية لا تزول إلا بعد مدة ، لقول: "ونحن حدثاء عهد بكفر"، فكأنه يقول: ما سألناه إلا لأن عندنا بقية من بقايا الجاهلية، ولهذا كان من الحكمة تغريب الزاني بعد جلده عن مكان الجريمة، لئلا يعود إليها.
فالإنسان ينبغي أن يبتعد عن مواطن الكفر والشرك والفسوق، حتى لا يقع في قلبه شيء منها.
* * *
باب ما جاء في الذبح لغير الله
قوله: "في الذبح"، أي: ذبح البهائم.
قوله: "لغير الله"، اللام للتعليل، والقصد: أي قاصداً بذبحه غير الله، والذبح لغير الله ينقسم إلى قسمين:
أن يذبح لغير الله تقرباً وتعظيماً، فهذا شرك أكبر مخرج عن الملة.
أن يذبح لغير الله فرحاً وإكراماً، فهذا لا يخرج من الملة، بل هو من الأمور العادية التي قد تكون مطلوبة أحياناً وغير مطلوبة أحياناً، فالأصل أنها مباحة.
ومراد المؤلف هنا القسم الأول.
فلو قدم السلطان إلى بلد، فذبحنا له، فإن كان تقرباً وتعظيماً، فإنه شرك أكبر، وتحرم هذه الذبائح، وعلامة ذلك: أننا نذبحها في وجهه ثم ندعها.
أما لو ذبحنا له إكراماً وضيافة، وطبخت، وأكلت، فهذا من باب الإكرام، وليس بشرك.
وقوله: "لغير الله" يشمل الأنبياء، والملائكة، والأولياء، وغيرهم، فكل من ذبح لغير الله تقرباً وتعظيماً، فإنه داخل في هذه الكلمة بأي شيء كان.
وقوله في الترجمة: "باب ما جاء في الذبح لغير الله"، أشار إلى الدليل دون الحكم، ومثل هذه الترجمة يترجم بها العلماء للأمور التي لا يجزمون بحكمها، أو التي فيها تفصيل، وأما الأمور التي يجزمون بها، فإنهم يقولونها بالجزم، مثل باب وجوب الصلاة، وباب تحريم الغيبة، ونحو ذلك.(10/153)
والمؤلف رحمه الله تعالى لا شك أنه يرى تحريم الذبح لغير الله على سبيل التقرب والتعظيم، وأنه شرك أكبر، لكنه أراد أن يمرن الطالب على أخذ الحكم من الدليل، وهذا نوع من التربة العلمية، فإن المعلم أو المؤلف يدع الحكم مفتوحاً، ثم يأتي بالأدلة لأجل أن يكل الحكم إلى الطالب، فيحكم به على حسب ما سيق له من هذه الأدلة، وقد ذكر المؤلف في هذا الباب ثلاث آيات:
* * *
وقول الله تعالى: { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له } الآية [الأنعام: 162-163].
الآية الأولى: قوله: { قل } : الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أي: قل لهؤلاء المشركين معلناً لهم قيامك بالتوحيد الخالص، لأن هذه السورة مكية.
قوله: { إن صلاتي } ، الصلاة في اللغة: الدعاء، وفي الشرع: عبادة الله ذات أقوال وأفعال معلومة، مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم.
قوله: { ونسكي } ، النسك لغة: العبادة، وفي الشرع: ذبح القربان.
فهل تحمل هذه الآية على المعنى اللغوي أو على المعنى الشرعي؟
سبق أن ما جاء في لسان الشرع يحمل على الحقيقة الشرعية، كما أن ما جاء في لسان العرف، فهو محمول على الحقيقة العرفية وفي لسان العرب على الحقيقة اللغوية.
فعندما أقول لشخص: عندك شاة؟ يفهم الأنثى من الضأن، لكن في اللغة العربية الشاة تطلق على الواحدة من الضأن والمعز، ذكراً كان أو أنثى، وعلى هذا، فيحمل النسك في الآية على المعنى الشرعي.
وقيل: تحمل على المعنى اللغوي، لأنه أعم، فالنسك العباة، كأنه يقول: أنا لا أدعو إلا الله، ولا أعبد إلا الله، وهذا عام للدعاء والتعبد.
وإذا حملت على المعنى الشرعي، صارت خاصة في نوع من العبادات، وهي: الصلاة، والنسك، ويكون هذا كمثال، فإن الصلاة أعلى العبادات البدنية، والذبح أعلى العبادات المالية، لأنه على سبيل التعظيم لا يقع إلى قربة، هكذا قرر شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة.(10/154)
ويحتاج إلى مناقشة في مسألة أن القربان أعلى أنواع العبادات المالية، فإن الزكاة لا شك أنها أعظم، وهي عبادة مالية.
وهناك رأي ثالث يقول: إن الصلاة هي الصلاة المعروفة شرعاً، والنسك: العبادة مطلقاً، ويكون ذلك من عطف العام على الخاص.
قوله: { محياي ومماتي } ، أي: حياتي وموتي، أي: التصرف في وتدبير أمري حياً وميتاً لله.
وفي قوله: { صلاتي ونسكي } إثبات توحيد العبادة.
وفي قوله: { محياي ومماتي } إثبات توحيد الربوبية.
قوله: { لله } ، خبر إن، والله: علم على الذات الإلهية، وأصله: الإله، فحذفت الهمزة، لكثرة الاستعمال تخفيفاً.
وهو بمعنى مألوه، فهو فعال بمعنى مفعول، مثل غراس بمعنى مغروس، وفراش بمعنى مفروش، والمألوه: المحبوب المعظم.
قوله: { رب العالمين } ، المراد بـ { العالمين } : ما سوى الله، وسمي بذلك، لأنه علم على خالقه.
قال الشاعر:
فواعجباً كيف يعصى الإله
وفى كل شيء له آية
أم كيف يجحده الجاحد
تدل على أنه واحد
وهي تطلق على العالمين بهذا المعنى، وتطلق على العالمين في وقت معين، مثل قوله تعالى: { وأني فضلتكم على العالمين } [البقرة: 47]، يعني: عالمي زمانهم.
والرب هنا: المالك المتصرف، وهذه ربوبية مطلقة.
الآية الثانية: قوله: { لا شريك له } ، الجملة حالية من قوله: { الله } ، أي: حال كونه لا شريك له، والله - سبحانه - لا شريك له في عبادته ولا في ربوبيته ولا أسمائه وصفاته، ولهذا قال تعالى: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } [الشورى: 11].
وقد ضل من زعم أن لله شركاء كمن عبد الأصنام أو عيسى بن مريم عليه السلام، وكذلك بعض غلاة الشعراء الذين جعلوا المخلوق بمنزلة الخالق، كقول بعضهم يخاطب ممدوحاً له:
فكن كمن شئت يا من لا شبيه له ... ... وكيف شئت فما خلق يدانيك
وكقول البوصيري في قصيدته في مدح الرسول - صلى الله عليه وسلم -:(10/155)
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
إن لم تكن آخذاً يوم المعاد يدي
فإن من جودك الدنيا وضرتها
سواك عند حلول الحادث العمم
فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
ومن علومك علم اللوح والقلم
وهذا من أعظم الشرك، لأنه جعل الدنيا والآخرة من جود الرسول، ومقتضاه أن الله جل ذكره ليس له فيهما شيء.
وقال: إن "من علومك علم اللوح والقلم"، يعنى: وليس ذلك كل علومك، فما بقي لله علم ولا تدبير - والعياذ بالله -.
قوله: { بذلك } ، الجار والمجرور متعلق بـ { أمرت } ، فيكون دالاً على الحصر والتخصيص، وإنما خص بذلك، لأنه أعظم المأمورات، وهو الإخلاص لله تعالى ونفي الشرك، فكأنه ما أمر إلا بهذا، ومعلوم أن من أخلص لله تعالى، فسيقوم بعبادة الله - سبحانه وتعالى - في جميع الأمور.
قوله: { أمرت } ، إبهام الفاعل هنا من باب التعظيم والتفخيم، وإلا، فمن المعلوم أن الآمر هو الله تعالى.
قوله: { وأنا أول المسلمين } ، يحتمل أن المراد الأولية الزمنية، فيتعين أن تكون أولية إضافية ويكون المراد أنا أول المسلمين من هذه الأمة، لأنه سبقه في الزمن من أسلموا.
ويحتمل أن المراد الأولية المعنوية، فإن أعظم الناس إسلاماً وأتمهم انقياداً هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فتكون الأولية أولية مطلقة.(10/156)
ومثل هذا التعبير يقع كثيراً أن تقع الأولية أولية معنوية، مثل أن تقول: أنا أول من يصدق بهذا الشيء، وإن كان غيرك قد صدق قبلك، لكن تريد أن أسبق الناس تصديقاً بذلك، ولن يكون عندك إنكاراً أبداً، ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "نحن أولى بالشك من إبراهيم حينما قال: { رب أرني كيف تحيي الموتى } [البقرة: 260]"(1)، فليس معناه أن إبراهيم شاك، لكن إن قدر أن يحصل شك، فنحن أولى بالشك منه وإلا، فلسنا نحن شاكين، وكذلك إبراهيم ليس شاكاً.
قوله: { المسلمين } ، الإسلام عند الإطلاق يشمل الإيمان، لأن المراد به الاستسلام لله ظاهراً وباطناً، ويدل لذلك قوله تعالى: { بلى من أسلم وجهه لله } [البقرة: 112]، وهذا إسلام الباطن.
وقوله: { وهو محسن } ، هذا إسلام الظاهر، وكذا قوله تعالى: { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه } [آل عمران: 85] يشمل الإسلام الباطن والظاهر، وإذا ذكر الإيمان دخل فيه الإسلام، قال تعالى: { وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار } [التوبة: 72].
ومتى وجد الإيمان حقاً لزم من وجوده الإسلام.
وأما إذا قرنا جميعاً صار الإسلام في الظاهر والإيمان في الباطن، مثل حديث جبريل، وفيه: أخبرني عن الإسلام، فأخبره عن أعمال ظاهرة، وأخبرني عن الإيمان، فأخبره عن أعمال باطنة(2).
وكذا قوله تعالى: { قالت الأعرب آمناً قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } [الحجرات: 14].
والشاهد من الآية التي ذكرها المؤلف: أن الذبح لابد أن يكن خالصاً لله.
__________
(1) البخاري: كتاب الأنبياء/ باب قوله تعالى { ونبئهم عن ضيف إبراهيم } ، ومسلم: كتاب الفضائل/ باب من فضائل إبراهيم عليه السلام.
(2) البخاري: كتاب الإيمان/ باب سؤال جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم -...، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب الإيمان والإسلام والإحسان.(10/157)
الآية الثالثة: قوله: { فصل } ، الفاء للسببية عاطفة على قوله: { إنا أعطيناك الكوثر } [الكوثر: 1]، أي: بسبب إعطائنا لك ذلك صل لربك وانحر شكراً لله تعالى على هذه النعمة.
والمراد بالصلاة هنا الصلاة المعروفة شرعاً.
وقوله: { وانحر } ، المراد بالنحر: الذبح، أي اجعل نحرك لله كما أن صلاتك له، فأفادت هذه الآية الكريمة أن النحر من العبادة ولهذا أمر الله به وقرنه بالصلاة.
وقوله: { وانحر } ، مطلق، فيدخل فيه كل ما ثبت في الشرع مشروعيته، وهي ثلاثة أشياء: الأضاحي، والهدايا والعقائق، فهذه الثلاثة يطلب من الإنسان أن يفعلها.
أما الهدايا، فمنها واجب، ومنها مستحب، فالواجب كما في التمتع: { فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي } [البقرة: 196] وكما في حلق الرأس: ففدية من صيام أو صدقة أو نسك، وكما في المحصر: { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى } [البقرة: 196]، هذا إن صح أن نقول: إنها هدي، ولكن الأولى أن نسميها فدية كما سماها الله - عز وجل ـ، لأنها بمنزلة الكفارة.
وأما الأضاحي، فاختلف العلماء فيها:
فمنهم من قال: إنها واجبة.
ومنهم من قال: إنها مستحبة.
وأكثر أهل العلم على أنها مستحبة، وأنه يكره للقادر تركها.
ومذهب أبي حنيفة رحمه الله أنها واجبة على القادر، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.
والأضحية ليست عن الأموات كما يفهمه العوام، بل هي للأحياء، وأما الأموات، فليس من المشروع أن يضحى لهم استقلالاً، إلا إن أوصوا به، فعلى ما أوصوا به لأن ذلك لم يرد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وأما العقيقة: وهي التي تذبح عن المولود في يوم سابعه إن كان ذكراً فاثنتان ، وإن كان أنثى فواحدة، وتجزئ الواحدة مع الإعسار في الذكور.(10/158)
وهي سنة عند أكثر أهل العلم، وقال بعض أهل العلم: إنها واجبة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " { كل غلام مرتهن بعقيقته"(1).
* * *
عن علي رضي الله عنه، قال: "حدثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربع كلمات:
قوله: "كلمات": جمع كلمة، والكلمة في اصطلاح النحويين: القول المفرد.
أما في اللغة، فهي كل قول مفيد، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "أصدق كلمة قالها شاعر: ألا كل شيء ما خلا الله باطل"(2)، وقال تعالى: { كلا إنها كلمة هو قائلها } ، وهي قوله: { رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت } [المؤمنون: 99-100].
قال شيخ الإسلام: لا تطلق الكلمة في اللغة العربية إلا على الجملة المفيدة.
* * *
لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثاً، لعن الله من غير منار الأرض" رواه مسلم(3).
قوله: "لعن الله"، اللعن من الله: الطرد والإبعاد عن رحمة الله، فإذا قيل: لعنه الله، فالمعنى: طرده وأبعده عن رحمته، وإذا قيل: اللهم العن فلاناً، فالمعنى أبعده عن رحمتك واطرده عنها.
قوله: "من ذبح لغير الله"، عام يشمل من ذبح بعيراً، أو بقرة، أو دجاجة، أو غيرها.
قوله: "لغير الله"، يشمل كل من سوى الله حتى لو ذبح لنبي، أو ملك، أو جنى، أو غيرهم.
وقوله: "لعن" يحتمل أن يكون الجملة خبرية، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يخبر أن الله لعن من ذبح لغير الله، ويحتمل أن تكون إنشائية بلفظ الخبر، أي: اللهم العن من ذبح لغير الله، والخبر أبلغ، لأن الدعاء قد يستجاب، وقد لا يستجاب.
__________
(1) مسند الإمام أحمد (5/7)، والترمذي: كتاب الأضحية/ باب في العقيقة - وقال: "حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في الإرواء، 4/385.
(2) البخاري: كتاب الأدب/ باب ما يجوز من الشعر والرحز، ومسلم: في أوائل كتاب الشعر.
(3) مسلم: كتاب الأضاحي/ باب تحريم الذبح لغير الله.(10/159)
قوله: "والديه"، يشمل الأب والأم، ومن فوقهما، لأن الجد أب، كما أن أولاد الابن والبنت أبناء في وجوب الاحترام لأصولهم.
والمسألة هنا ليست مالية، بل هي من الحقوق، ولعن الأدنى أشد من لعن الأعلى، لأنه أولى بالبر، ولعنه ينافي البر.
قوله: "من لعن والديه"، أي: سبهما وشتمهما، فاللعن من الإنسان السب والشتم، فإذا سببت إنساناً أو شتمته، فهذا لعنه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له: كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: "يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه"(1).
وأخذ الفقهاء من هذا الحديث قاعدة، وهي: أن السبب بمنزلة المباشرة في الإثم، وإن كان يخالفه في الضمان على تفصيل في ذلك عند أهل العلم.
قوله: "من آوى محدثاً"، أي: ضمه إليه وحماه، والإحداث: يشمل الإحداث في الدين، كالبدع التي أحدثها الجهمية والمعتزلة، وغيرهم.
والإحداث في الأمر: أي في شؤون الأمة، كالجرائم وشبهها، فمن آوى محدثاً، فهو ملعون، وكذا من ناصرهم، لأن الإيواء أن تأويه لكف الأذى عنه، فمن ناصره، فهو أشد وأعظم.
والمحدث أشد منه، لأنه إذا كان إيواؤه سبباً للعنة، فإن نفس فعله جرم أعظم.
ففيه التحذير من البدع والإحداث في الدين، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة"(2)، وظاهر الحديث: ولو كان أمراً يسيراً.
__________
(1) البخاري: كتاب الأدب/ باب لا يسب الرجل والديه، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب بيان الكبائر.
(2) سبق (ص203).(10/160)
قوله: "منار الأرض"، أي: علاماتها ومراسيمها التي تحدد بين الجيران، فمن غيرها ظلماً ، فهو ملعون، وما أكثر الذين يغيرون منار الأرض، لا سيما إذا زادت قيمتها، وما علموا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً، طوقه من سبع أرضين"(1) فالأمر عظيم، مع أن هذا الذي يقتطع من الأرض ويغير المنار، ويأخذ ما لا يستحق لا يدري: قد يستفيد منها في دنياه، وقد يموت قبل ذلك، وقد يسلط عليه آفة تأخذ ما أخذ.
فالحاصل: أن هذا دليل على أن تغيير منار الأرض من كبائر الذنوب، ولهذا قرنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشرك وبالعقوق وبالإحداث، مما يدل على أن أمره عظيم، وأنه يجب على المرء أن يحذر منه، وأن يخاف الله - سبحانه وتعالى - حتى لا يقع فيه.
* * *
وعن طارق بن شهاب، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "دخل الجنة رجل في ذباب ودخل النار رجل في ذباب" قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: "مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئاً، فقالوا لأحدهما: قرب. قال: ليس عندي شيء أقربه. قالوا له: قرب ولو ذباباً. فقرب ذباباً، فخلوا سبيله، فدخل النار. وقالوا للآخر: قرب. فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئاً دون الله عز وجل. فضربوا عنقه، فدخل الجنة" رواه أحمد(2).
قوله: "عن طارق بن شهاب"
في الحديث علتان:
الأولى: أن طارق بن شهاب اتفقوا على أنه لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، واختلفوا في صحبته، والأكثرون على أنه صحابي.
لكن إذا قلنا: إنه صحابي، فلا يضر عدم سماعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن مرسل الصحابي حجة، وإن كان غير صحابي، فإنه مرسل غير صحابي، وهو من أقسام الضعيف.
الثانية: أن الحديث معنعن من قبل الأعمش، وهو من المدلسين، وهذا آفة في الحديث، فالحديث في النفس منه شيء من أجل هاتين العلتين.
__________
(1) سبق (ص75).
(2) رواه الإمام أحمد في "الزهد" (ص15 ، 16).(10/161)
ثم للحديث علة ثالثة، وهي أن الإمام أحمد رواه عن طارق عن سلمان موقوفاً من قوله، وكذا أبو نعيم وابن أبي شيبة، فيحتمل أن سلمان أخذه عن بني إسرائيل.
قوله: "في ذباب"، في: للسببية، وليست للظرفية، أي: بسبب ذباب، ونظيره قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "دخلت النار امرأة في هرة حبستها"..." الحديث، أي: بسبب هرة.
قوله: "فدخل النار"، مع أنه ذبح شيئاً حقيراً لا يؤكل، لكن لما نوى التقرب به إلى هذا الصنم، صار مشركاً، فدخل النار.
* * *
فيه مسائل:
الأولى: تفسير { قل إن صلاتي ونسكي } . الثانية: تفسير { فصل لربك وانحر } . الثالثة: البداءة بلعنة من ذبح لغير الله. الرابعة: لعن من لعن والديه، ومنه أن تلعن والدي الرجل فيلعن والديك.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير: { قل إن صلاتي ونسكي } ، وقد سبق ذلك في أول الباب.
الثانية: تفسير: { فصل لربك وانحر } ، وقد سبق ذلك في أول الباب.
الثالثة: البداءة بلعنة من ذبح لغير الله، بدأ به، لأنه من الشرك، والله إذا ذكر الحقوق يبدأ أولاً بالتوحيد، لأن حق الله أعظم الحقوق، قال تعالى: { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً } [النساء: 36]، وقال تعالى: { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً } [الإسراء: 23]، وينبغي أن يبدأ في المناهي والعقوبات بالشرك وعقوبته.
الرابعة: لعن من لعن والديه.
ولعن الرجل للرجل له معنيان:
الأول: الدعاء عليه باللعن.
الثاني: سبه وشتمه، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فسره بقوله: "بسبب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه"(1).
الخامسة: لعن من آوى محدثاً، السادسة: لعن من غير منار الأرض، وهي المراسيم التي تفرق بين حقك وحق جارك من الأرض، فتغيرها بتقديم أو تأخير. السابعة: الفرق بين لعن المعين ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم.
__________
(1) سبق (ص 215)(10/162)
الخامسة: لعن من آوى محدثاً، وقد سبق أنه يشمل الإحداث في الدين والجرائم، فمن آوى محدثاً ببدعة، فهو داخل في ذلك، ومن آوى محدثاً بجريمة، فهو داخل في ذلك.
السادسة: لعن من غير منار الأرض، وسواء كانت بينك وبين جارك أو بينك وبين السوق مثلاً، لأن الحديث عام.
السابعة: الفرق بين لعن المعين ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم، فالأول ممنوع، والثاني جائز، فإذا رأيت من آوى محدثاً، فلا تقل: لعنك الله، بل قل: لعن الله من آوى محدثاً على سبيل العموم، والدليل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صار يلعن أناساً من المشركين من أهل الجاهلية بقولك: "اللهم العن فلاناً وفلاناً وفلاناً" نهي عن ذلك بقوله تعالى: { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون } (1) [آل عمران: 128]، فالمعين ليس لك أن تلعنه، وكم من إنسان صار على وصف يستحق به اللعنة ثم تاب فتاب الله عليه، إذن يؤخذ هذا من دليل منفصل، وكأن المؤلف رحمه الله قال: الأصل عدم جواز إطلاق اللعن، فجاء هذا الحديث لاعناً للعموم، فيبقى الخصوص على أصله، لأن المسلم ليس بالطعان ولا باللعان، والرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس طعاناً ولا لعاناً، ولعل هذا وجه أخذ الحكم من الحديث، وإلا، فالحديث لا تفريق فيه.
* * *
الثامنة: هذه القصة العظيمة، وهي قصة الذباب. التاسعة: كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده، بل فعله تخلصاً من شرهم.
الثامنة: هذه القصة العظيمة وهي قصة الذباب، كأن المؤلف رحمه الله يصحح الحديث، ولهذا بنى عليه حكماً، والحكم المأخوذ من دليل فرع عن صحته، والقصة معروفة.
__________
(1) البخاري: كتاب التفسير/ باب قول الله تعالى: { وليس لك من الأمر شيء }(10/163)
التاسعة: كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده، بل فعله تخلصاً من شرهم، هذه المسألة ليست مسلمة، فإن قوله: قرب ولو ذباباً يقتضي أنه فعله قاصداً التقرب، أما لو فعله تخلصاً من شرهم، فإنه لا يكفر لعدم قصد التقرب، ولهذا قال الفقهاء: لو أكره على طلاق امرأته فطلق تبعاً لقول المكره، لم يقع الطلاق، بخلاف ما لو نوى الطلاق، فإن الطلاق يقع، وإن طلق دفعاً للإكراه، لم يقع، وهذا حق لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات"(1).
وظاهر القصة أن الرجل ذبح بنية التقرب، لأن الأصل أن الفعل المبني على طلب يكون موافقاً لهذا الطلب.
ونحن نرى خلاف ما يرى المؤلف رحمه الله، أي أنه لو فعله بقصد التخلص ولو ينو التقرب لهذا الصنم لا يكفر، لعموم قوله تعالى: { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً } [النحل: 106]
وهذا الذي فعل ما يوجب الكفر تخلصاً مطمئن قلبه بالإيمان.
والصواب أيضاً: أنه لا فرق بين القول المكره عليه والفعل، وإن كان بعض العلماء يفرق ويقول: إذا أكره على القول لم يكفر، وإذا أكره على الفعل كفر، ويستدل بقصة الذباب، وقصة الذباب فيها نظر من حيث صحتها، وفيها نظر من حيث الدلالة، لما سبق أن الفعل المبني على طلب يكون موافقاً لهذا الطلب.
ولو فرض أن الرجل تقرب بالذباب تخلصاً من شرهم، فإن لدينا: نصاً محكماً في الموضوع، وهو قوله تعالى: { من كفر بالله ... } [النحل: 106] الآية، ولم يقل: بالقول، فما دام عندنا نص قرآني صحيح، فإنه لو وردت السنة صحيحة على وجه مشتبه، فإنها تحمل على النص المحكم.
الخلاصة أن من أكره على الكفر، لم يكن كافراً ما دام قلبه مطمئناً بالإيمان ولم يشرح بالكفر صدراً.
* * *
__________
(1) البخاري: كتاب بدء الوحي/ باب كيف كان بدء الوحي، ومسلم: كتاب الإمارة/ باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات".(10/164)
العاشرة: معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين، كيف صبر ذلك على القتل ولم يوافقهم على طلبهم مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظاهر؟!
العاشرة: معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين.. إلخ، وقد بينها المؤلف رحمه الله تعالى.
* مسألة:
هل الأولى للإنسان إذا أكره على الكفر أن يصبر ولو قتل، أو يوافق ظاهراً ويتأول؟
هذه المسألة فيها تفصيل:
أولاً: أن يوافق ظاهراً وباطناً، وهذا لا يجوز لأنه ردة.
ثانياً: أن يوافق ظاهراً لا باطناً، ولكن يقصد التخلص من الإكراه، فهذا جائز.
ثالثاً: أن لا يوافق لا ظاهراً ولا باطناً ويقتل، وهذا جائز، وهو من الصبر.
لكن أيهما أولى أن يصبر ولو قتل، أو أن يوافق ظاهراً؟
فيه تفصيل:
إذا كان موافقة الإكراه لا يترتب عليه ضرر في الدين للعامة، فإن الأولى أن يوافق ظاهراً لا باطناً، لا سيما إذا كان بقاؤه فيه مصلحة للناس، مثل: صاحب المال الباذل فيما نفع أو العلم النافع وما أشبه ذلك، حتى وإن لم يكن فيه مصلحة، ففي بقائه على الإسلام زيادة عمل، وهو خير، وهو قد رخص له أن يكفر ظاهراً عند الإكراه، فالأولى أن يتأول، ويوافق ظاهراً لا باطناً.
أما إذا كان في موافقته وعدم صبره ضرر على الإسلام، فإنه يصبر، وقد يجب الصبر، لأنه من باب الصبر على الجهاد في سبيل الله، وليس من باب إبقاء النفس، ولهذا لما شكى الصحابة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما يجدونه من مضايقة المشركين، قص عليهم قصة الرجل فيمن كان قبلنا بأن الإنسان كان يمشط ما بين لحمه وجلده بأمشاط الحديد(1) ويصبر، فكأنه يقول لهم: اصبروا على الأذى.
ولو حصل من الصحابة رضي الله عنهم في ذلك الوقت موافقة للمشركين وهم قلة، لحصل بذلك ضرر عظيم على الإسلام.
والإمام أحمد رحمه الله في المحنة المشهورة لو وافقهم ظاهراً، لحصل في ذلك مضرة على الإسلام.
* * *
__________
(1) البخاري: كتاب فضائل الصحابة/ باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.(10/165)
الحادية عشرة: أن الذي دخل النار مسلم، لأنه لو كان كافراً، لم يقل: "دخل النار في ذباب". الثانية عشرة: فيه شاهد للحديث الصحيح: "الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك"(1).
الحادية عشرة: أن الذي دخل النار مسلم، لأنه لو كان كافراً لم يقل: دخل النار في ذباب، وهذا صحيح، أي أنه كان مسلماً ثم كفر بتقريبه للصنم، فكان تقريبه هو السبب في دخوله النار.
ولو كان كافراً قبل أن يقرب الذباب، لكان دخوله النار لكفره أولى، لا بتقريبه الذباب.
الثانية عشرة: فيه شاهد للحديث الصحيح: "الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك"، والغرض من هذا: الترغيب والترهيب، فإذا علم أن الجنة أقرب إليه من شراك النعل، فإنه ينشط على السعي، فيقول: ليست بعيدة، كقوله - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عما يدخل الجنة ويباعد من النار، فقال: "لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه"(2)، والنار إذا قيل له: إنها أقرب من شراك النعل يخاف، ويتوقى في مشية لئلا يزل فيهلك، ورب كلمة توصل الإنسان إلى أعلى عليين، وكلمة أخرى توصله إلى أسفل سافلين.
الثالثة عشرة: معرفة أن عمل القلب هو المقصود الأعظم حتى عند عبدة الأوثان، والحقيقة أن هذه المسألة مع التاسعة فيها شبه تناقض، لأنه في هذه المسألة أحال الحكم على عمل القلب، وفي التاسعة أحاله على الظاهر، فقال: بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده بل فعله تخلصاً من شرهم، ومقتضى ذلك أن باطنه سليم، وهنا يقول: إن العمل بعمل القلب، ولا شك أن ما قاله المؤلف رحمه الله حق بالنسبة إلى أن المدار على القلب.
__________
(1) البخاري: كتاب الرقاق/ باب الجنة اقرب إلى أحدكم من شراك نعله.
(2) مسند الإمام أحمد (5/231)، والترمذي: كتاب الإيمان/ باب ما جاء في حرمة الصلاة - وقال: "حسن صحيح".(10/166)
والحقيقة أن العمل مركب على القلب، والناس يختلفون في أعمال القلوب أكثر من اختلافهم في أعمال الأبدان، والفرق بينهم قصداً وذلاً أعظم من الفرق بين أعمالهم البدنية، لأن من الناس من يعبد الله لكن عنده من الاستكبار ما لا يذل معه ولا يذعن لكل حق، وبعضهم يكون عنده ذل للحق، لكن عنده نقص في القصد، فتجد عنده نوعاً من الرياء مثلاً.
فأعمال القلب وأقواله لها أهمية عظيمة، فعلى الإنسان أن يخلصها لله.
وأقوال القلب هي اعتقاداته، كالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.
وأعماله هي تحركاته، كالحب، والخوف، والرجاء، والتوكل،والاستعانة، وما أشبه ذلك.
والدواء لذلك: القرآن والسنة، والرجوع إلى سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمعرفة أحواله وأقواله وجهاده ودعوته، هذا مما يعين على جهاد القلب.
ومن أسباب صلاح القلب أن لا تشغل قلبك بالدنيا.
* * *
باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله
هذا الانتقال من المؤلف من أحسن ما يكون، ففي الباب السابق ذكر الذبح لغير الله، فنفس الفعل لغير الله.
وفي هذا الباب ذكر الذبح لله، ولكنه في مكان يذبح فيه لغيره، كمن يريد أن يضحي لله في مكان يذبح فيه للأصنام، فلا يجوز أن تذبح فيه، لأنه موافقة للمشركين في ظاهر الحال، وربما أدخل الشيطان في قلبك نية سيئة، فتعتقد أن الذبح في هذا المكان أفضل، وما أشبه ذلك، وهذا خطر.
* * *
وقول الله تعالى: { لا تقم فيه أبداً } الآية [التوبة: 108].
قوله: { لا تقم فيه } ، ضمير الغيبة يعود إلى مسجد الضرار، حيث بني على نية فاسدة، قال تعالى: { والذين اتخذوا مسجداً ضرراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله } [التوبة: 107]، والمتخذون هم المنافقون، وغرضهم من ذلك:
مضارة مسجد قباء: ولهذا يسمى مسجد الضرار.
الكفر بالله: لأنه يقرر فيه الكفر - والعياذ بالله ـ، لأن الذين اتخذوه هم المنافقون.(10/167)
التفريق بين المؤمنين: فبدلاً من أن يصلي في مسجد قباء صف أو صفان يصلي فيه نصف صف، والباقون في المسجد الآخر، والشرع له نظر في اجتماع المؤمنين.
الإرصاد لمن حارب الله ورسوله يقال: إن رجلاً ذهب إلى الشام، وهو أبو عامر الفاسق، وكان بينه وبين المنافقين الذين اتخذوا المسجد مراسلات، فاتخذوا هذا المسجد بتوجيهات منه، فيجتمعون فيه لتقرير ما يريدونه من المكر والخديعة للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، قال الله تعالى: { وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى } [التوبة: 107]، فهذه سنة المنافقين: الأيمان الكاذبة.
{ إن } : نافية، بدليل وقوع الاستثناء بعدها، أي: ما أردنا إلا الحسنى، والجواب على هذا اليمين الكاذب: { والله يشهد إنهم لكاذبون } [التوبة: 107].
فشهد الله تعالى على كذبهم، لأن ما يسرونه في قلوبهم ولا يعلم ما في القلوب إلا علام الغيوب، فكأن هذا المضمر في قلوبهم بالنسبة إلى الله أمر مشهود يرى بالعين كما قال الله تعالى في سورة المنافقين: { والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } [المنافقون: 1].
وقوله: { لا تقم فيه } ، لا: ناهية وتقم: مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمه السكون، وحذفت الواو، لأنه سكن آخره، والواو ساكنة، فحذفت تخلصاً من التقاء الساكنين.
قوله: { أبداً } إشارة إلى أن هذا المسجد سيبقى مسجد نفاق.
قوله: { لمسجد أسس على التقوى } ، اللام: للابتداء، ومسجد: مبتدأ، وخبره: قول الله { أحق أن تقوم فيه } ، وفي هذا التنكير تعظيم للمسجد، بدليل قوله: { أسس على التقوى } ، اللام: للابتداء، ومسجد: مبتدأ، بدليل قوله: { أسس على التقوى } [التوبة: 109]، أي: جعلت التقوى أساساً له، فقام عليه.(10/168)
وهذه الأحقية ليست على بابها، وهو أن اسم التفضيل يدل على مفضل ومفضل عليه اشتركا في أصل الوصف، لأنه هنا لا حق لمسجد الضرار أن يقام فيه، وهذا (أعني: كون الطرف المفضل عليه ليس فيه شيء من الأصل الذي وقع فيه التفضيل) موجود في القرآن كثيراً، كقوله تعالى: { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً } [الفرقان: 24].
قوله: { فيه } ، أي: في هذا المسجد المؤسس على التقوى.
قوله: { يحبون أن يتطهروا } ، بخلاف من كان في مسجد الضرار، فإنهم رجس، كما قال الله تعالى في المنافقين: { سيحلقون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس } [التوبة: 95].
قوله: { يتطهروا } ، يشمل طهارة القلب من النفاق والحسد والغل وغير ذلك، وطهارة البدن من الأقذار والنجاسات والأحداث.
قوله: { والله يحب المطهرين } ، هذه محبة حقيقية ثابته لله - عز وجل - تليق بجلاله وعظمته، ولا تماثل محبة المخلوقين، وأهل التعطيل يقولون: المراد بالمحبة: الثواب أو إرادته، فيفسرونها إما بالفعل أو إرادته، وهذا خطأ.
وقوله: { المطهرين } أصله المتطهرين، وأدغمت التاء بالطاء لعلة تصريفية معروفة.
* وجه المناسبة من الآية:
أنه لما كان مسج الضرار مما اتخذ للمعاصي ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين، نهى الله ورسوله أن يقوم فيه، مع أن صلاته فيه لله، فدل على أن كل مكان يعصى الله فيه أنه لا يقام فيه، مع أن صلاته فيه لله، فدل على أن كل مكان يعصى الله فيه أنه لا يقام فيه، فهذا المسجد متخذ للصلاة، لكنه محل معصية، فلا تقام فيه الصلاة.
وكذا لو أراد إنسان أن يذبح في مكان يذبح فيه لغير الله كان حراماً، لأنه يشبه الصلاة في مسجد الضرار.
وقريب من ذلك النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، لأنهما وقتان يسجد فيهما الكفار للشمس، فهذا باعتبار الزمن والوقت والحديث الذي ذكره المؤلف باعتبار المكان.
* * *(10/169)
وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه، قال: نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: "هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟". قالوا: لا. قال: "فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟". قالوا: لا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم". رواه أبو داود، وإسناده على شرطهما(1).
قوله: "نذر"، النذر في اللغة: الإلزام والعهد.
واصطلاحاً: إلزام المكلف نفسه لله شيئاً غير واجب.
وقال بعضهم: لا نحتاج أن نقيد بغير واجب، وأنه إذا نذر الواجب صح النذر وصار المنذور واجباً من وجهين: من جهة النذر، ومن جهة الشرع، ويترتب على ذلك وجوب الكفارة إذا لم يحصل الوفاء.
والنذر في الأصل مكروه، بل إن بعض أهل العلم يميل إلى تحريمه، لأن النبي نهى عنه، وقال: "لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل"(2)، ولأنه إلزام لنفس الإنسان لما جعله الله في حل منه، وفي ذلك زيادة تكليف على نفسه.
ولأن الغالب أن الذي ينذر يندم، وتجده يسأل العلماء يميناً وشمالاً يريد الخلاص مما نذر لثقله ومشقته عليه، ولا سيما ما يفعله بعض العامة إذا مرض، أو تأخر له حاجة يريدها، تجده ينذر كأنه يقول: إن الله لا ينعم عليه بجلب خير أو دفع الضرر إلا بهذا النذر.
قوله: "إبلاً" اسم جمع لا واحد له من لفظه، لكن له واحد من معناه، وهو البعير.
قوله: "ببوانه"، الباء بمعنى في، وهي للظرفية، والمعنى: بمكان يسمى بوانه.
قوله: "هل كان فيها وثن"، الوثن: كل ما عبد من دون الله، من شجر، أو حجر، سواء نحت أو لم ينحت.
والصنم يختص بما صنعه الآدمي.
__________
(1) مسند الإمام أحمد (3/419)، وسنن أبي داود: كتاب الإيمان والنذور/ باب ما يؤمن به من الوفاء بالنذر.
(2) البخاري: كتاب القدر/ باب إلقاء العبد النذر إلى القدر، ومسلم: كتاب النذر/ باب النهي عن النذر.(10/170)
قوله: "الجاهلية"، نسبة إلى ما كان قبل الرسالة، وسميت بذلك، لأنهم كانوا على جهل عظيم.
قوله: "يعبد"، صفة لقوله: "وثن"، وهو بيان للواقع، لأن الأوثان هي التي تعبد من دون الله.
قوله: "قالوا: لا"، السائل واحد، لكنه لما كان عنده ناس أجابوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا مانع أن يكون المجيب غير المسؤول.
قوله: "عيد"، العيد: اسم لما يعود أو يتكرر، والعود بمعنى الرجوع، أي: هل اعتاد أهل الجاهلية أن يأتوا إلى هذا المكان ويتخذوا هذا اليوم عيداً وإن لم يكن فيه وثن؟ قالوا: لا. فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أمرين: عن الشرك، ووسائله.
فالشرك: هل كان فيها وثن؟ ووسائله: هل كان فيها عيد من أعيادهم؟
قوله: "أوف بنذرك"، فعل أمر مبني على حذف حرف العلة الياء، والكسرة دليل عليها.
وهل المراد به المعنى الحقيقي أو المراد به الإباحة؟
الجواب: يحتمل أن يراد به الإباحة، ويحتمل أن يراد به المعنى الحقيقي، فبالنسبة لنحر الإبل المراد به المعنى الحقيقي.
وبالنسبة للمكان المراد به الإباحة، لأنه لا يتعين أن يذبحها في ذلك المكان، إذ إنه لا يتعين أي مكان في الأرض إلا ما تميز بفضل، والمتميز بفضل المساجد الثلاثة، فالأمر هنا بالنسبة لنحر الإبل من حيث هو نحر اجب.
وبالنسبة للمكان، فالأمر للإباحة، بدليل أنه سأل هذين السؤالين، فلو أجيب بنعم، لقال: لا توف، فإذا كان المقام يحتمل النهي والترخيص، فالأمر للإباحة.
وقوله: "أوف بنذرك" علل - صلى الله عليه وسلم - ذلك بانتفاء المانع، فقال: "فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله".
قوله: "لا وفاء"، لا: نافية للجنس، وفاء: اسمها، لنذر: خبرها.
قوله: "في معصية الله"، صفة لنذر، أي: لا يمكن أن توفي بنذر في معصية الله، لأنه لا يتقرب إلى الله بمعصيته، وليست المعصية مباحة حتى يقال افعلها.
* أقسام النذر:(10/171)
الأول: ما يجب الوفاء به، وهو نذر الطاعة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من نذر أن يطيع الله، فليطعه"(1).
الثاني: ما يحرم الوفاء به، وهو نذر المعصية، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه"(2)، وقوله: "فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله"(3).
الثالث: ما يجري مجر اليمين، وهو نذر المباح، فيخير بين فعله وكفارة اليمين، مثل لو نذر أن يلبس هذا الثوب، فإن شاء لبسه وإن شاء لم يلبسه، وكفر كفارة يمين.
الرابع: نذر اللجاج والغضب، وسمي بهذا الاسم، لأن اللجاج والغضب يحملان عليه غالباً، وليس بلازم أن يكون هناك لجاج وغضب، وهو الذي يقصد به معنى اليمين، الحث، أو المنع، أو التصديق، أو التكذيب.
مثل لو قال: حصل اليوم كذا وكذا، فقال الآخر: لم يحصل، فقال: إن كان حاصلاً، فعلي لله نذر أن أصوم سنة، فالغرض من هذا النذر التكذيب، فإذا تبين أنه حاصل، فالناذر مخير بين أن يصوم سنة، وبين أن يكفر كفارة يمين، لأنه إن صام فقد وفى بنذره، وإن لم يصف حنث، والحانث في اليمين يكفر كفارة يمين.
الخامس: نذر المكروه، فيكره الوفاء به، وعليه كفارة يمين.
السادس: النذر المطلق، وهو الذي ذكر فيه صيغة النذر، مثل أن يقول: لله علي نذر، فهذا كفارته كفارة يمين كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين"(4).
مسألة: هل ينعقد نذر المعصية؟
الجواب: نعم، ينعقد، ولهذا قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من نذر أن يعصي الله، فلا يعصه"(5)، ولو قال: من نذر أن يعصي الله فلا نذر له، لكان لا ينعقد، ففي قوله: "فلا يعصه" دليل على أنه ينعقد لكن لا ينفذ.
__________
(1) البخاري: كتاب الإيمان والنذور/ باب النذر في الطاعة.
(2) البخاري: كتاب الإيمان والنذور/ باب النذر في الطاعة.
(3) مسلم: كتاب النذر/ باب لا وفاء لنذر في معصية الله.
(4) رواه ابن ماجة والترمذي وصححه، وأصله في مسلم.
(5) تقدم (ص 232).(10/172)
وإذا انعقد: هل تلزمه كفارة أو لا؟
اختلف في ذلك أهل العلم، وفيها روايتان عن الإمام أحمد:
فقال بعض العلماء: إنه لا تلزمه الكفارة، واستدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا وفاء لنذر في معصية الله"(1).
وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن نذر أن يعصي الله، فلا يعصه"، ولم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - كفارة، ولو كانت واجبة، لذكرها.
القول الثاني: تجب الكفارة، وهو المشهور من المذهب، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذكر في حديث آخر غير الحديثين أن كفارته كفارة يمين(2) وكون الأمر لا يذكر في حديث لا يقتضي عدمه، فعدم الذكر ليس ذكراً للعدم، نعم، لو قال الرسول: لا كفارة، صار في الحديثين تعارض، وحينئذ نطلب الترجيح، لكن الرسول لم ينف الكفارة، بل سكت، والسكوت لا ينافي المنطوق، فالسكوت وعدم الذكر يكون اعتماداً على ما تقدم، فإن كان الرسول قاله قبل أن ينهى هذا الرجل، فاعتماداً عليه لم يقله، لأنه ليس بلازم أن كل مسألة فيها قيد أو تخصيص يذكرها الرسول عند كل عموم، فلو كان يلزم هذا، لكانت تطول السنة، لكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر حديثاً عاماً وله ما يخصصه في مكان آخر حمل عليه، وإن لم يذكره حين تكلم بالعموم.
وأيضاً من حيث القياس لو أن الإنسان اقسم ليفعلن محرماً، وقال: والله، لأفعلن هذا الشيء وهو محرم، فلا يفعله، ويكفر كفارة يمين، مع أنه أقسم على فعل محرم، والنذر شبيه بالقسم، وعلى هذا، فكفارته كفارة يمين، وهذا القول أصح.
وقوله: "ولا فيما لا يملك ابن آدم" الذي لا يملكه ابن آدم يحتمل معنيين:
الأول: ما لا يملك فعله شرعاً، كما لو قال: لله على أن أعتق عبد فلان، فلا يصح لأنه لا يملك إعتاقه.
الثاني: ما لا يملك فعله قدراً كما لو قال: لله عليّ نذر أن أطير بيدي فهذا لا يصح لأنه لا يملكه والفقهاء رحمهم الله يمثلون بمثل هذا للمستحيل
* * *
فيه مسائل:
__________
(1) تقدم (ص 232).
(2) تقدم (ص 232).(10/173)
الأولى: تفسير قوله: { لا تقم فيه أبداً } . الثانية: أن المعصية تؤثر في الأرض، وكذلك الطاعة. الثالثة: رد المسألة المشكلة إلى المسألة البينة، ليزول الأشكال.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله تعالى: { لا تقم فيه أبداً } ، وقد سبق ذلك في أول الباب.
الثانية: أن المعصية قد تؤثر في الأرض، وكذلك الطاعة، أي: لما كانت هذه الأرض مكان شرك، حرم أن يعمل الإنسان ما يشبه الشرك فيها لمشابهة المشركين.
أما بالنسبة للصلاة في الكنيسة، فإن الصلاة تخالف صلاة أهل الكنيسة، لا يكون الإنسان متشبهاً بهذا العمل، بخلاف الذبح فيه لغير الله، فإن الفعل واحد بنوعه وجنسه، ولهذا لو أراد إنسان أن يصلي في مكان يذبح فيه لغير الله لجاز ذلك، لأنه ليس من نوع العبادة التي يفعلها المشركون في هذا المكان.
وكذا الطاعة تؤثر في الأرض، ولهذا ، فإن المساجد أفضل من الأسواق، والقديم منها أفضل من الجديد.
الثالثة: رد المسألة المشكلة إلى المسألة البينة ليزول الإشكال، فالمنع من الذبح في هذا المكان أمر مشكل لكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين ذلك بالاستفصال.
* * *
الرابعة: استفصال المفتي إذا احتاج إلى ذلك. الخامسة: أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع. السادسة: المنع منه إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية، ولو بعد زواله.
* * *
الرابعة: استفصال المفتي إذا احتاج إلى ذلك، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استفصل، لكن هل يجب الاستفصال على كل حال، أو إذا وجد الاحتمال؟
الجواب: لا يجب إلا إذا وجد الاحتمال، لأننا لو استفصلنا في كل مسألة، لطال الأمر.
فمثلاً: لو سألنا سائل عن عقد بيع لم يلزم أن نستفصل عن الثمن: هل هو معلوم؟ وعن المثمن: هل هو معلوم؟ وهل وقع البيع معلقاً أو غير معلق؟ وهل كان ملكاً للبائع؟ وكيف ملكه؟ وهل انتفت موانعه أو لا؟.(10/174)
أما إذا وجد الاحتمال، فيجب الاستفصال، مثل: أن يسأل عن رجل مات عن بنت وأخ وعم شقيق، فيجب الاستفصال عن الأخ: هل هو شقيق أو لأم؟ فإن كان لأم، سقط، وأخذ الباقي العم، وإلا، سقط العم، وأخذ الباقي الأخ.
الخامسة: أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع، لقوله: "أوف بنذرك"، وسواء كانت هذه الموانع واقعة أو متوقعة.
فالواقعة: أن يكون فيها وثن أو عيد من أعياد الجاهلية.
والمتوقعة: أن يخشى من الذبح في هذا المكان تعظيمه، فإذا خشي، كان ممنوعاً، مثل: لو أراد أن يذبح عند جبل، فالأصل أنه جائز، لكن لو خشي أن العوام يعتقدون أن في هذا المكان مزية، كان ممنوعاً.
السادسة: المنع منه إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية، ولو بعد زواله، لقوله: "هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية؟"، لأن "كان" فعل ماض، والمحظور بعد زوال الوثن باقٍ، لأنه ربما يعاد.
* * *
السابعة: المنع منه إذا كان فيها عيد من أعيادهم، ولو بعد زواله. الثامنة: أنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة، لأنه نذر معصية. التاسعة: الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم، ولو لم يقصده. العاشرة: لا نذر في معصية.
السابعة: المنع منه إذا كان فيها عيد من أعيادهم، ولو بعد زواله، لقوله: "فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟".
الثامنة: أنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة، لأنه نذر معصية، لقوله: "فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله".
التاسعة: الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ولو لم يقصده، وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية على أن حصول التشبه لا يشترط فيه القصد، فإنه يمنع منه ولو لم يقصده، لكن مع القصد يكون أشد إثماً، ولهذا قال شيخ الإسلام محمد عبد الوهاب: ولو لم يقصده.
العاشرة: لا نذر في معصية الله، هكذا قال المؤلف، ولفظ الحديث المذكور: "لا وفاء لنذر"، وبينهما فرق.(10/175)
فإذا قيل لا نذر في معصية، فالمعنى أن النذر لا ينعقد، وإذا قيل: لا وفاء، فالمعنى أن النذر ينعقد، لكن لا يوفى، وقد وردت السنة بهذا وبهذا.
لكن: "لا نذر" يحمل على أن المراد لا وفاء لنذر، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "ومن نذر أن يعصي الله، فلا يعصه"(1)
* * *
الحادية عشرة: لا نذر لابن آدم فيما لا يملك.
الحادية عشرة: لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، يقال فيه ما قيل في: لا نذر في معصية.
والمعنى: لا وفاء لنذر فيما لا يملك ابن آدم، ويشتمل ما لا يملكه شرعاً، وما لا يملكه قدراً.
* * *
باب من الشرك النذر لغير الله
النذر لغير الله مثل أن يقول: لفلان علي نذر، أو لهذا القبر علي نذر، أو لجبريل علي نذر، يريد بذلك التقرب إليهم، وما أشبه ذلك.
والفرق بينه وبين نذر المعصية: أن النذر لغير الله ليس لله أصلاً، ونذر المعصية ، ولكنه على معصية من معاصيه، مثل أن يقول: لله على نذر أن أفعل كذا وكذا من معاصي الله، فيكون النذر والمنذور معصية، ونظير هذا الحلف بالله على شيء محرم، والحلف بغير الله، فالحلف بغير الله مثل: والنبي، لأفعلن كذا وكذا، ونظيره النذر لغير الله، والحلف بالله على محرم، مثل: والله، لأسرقن، ونظيره نذر المعصية، وحكم النذر لغير الله شرك، لأنه عبادة للمنذور له، وإذا كان عبادة، فقد صرفها لغير الله، فيكون مشركاً.
وهذا النذر لغير الله لا ينعقد إطلاقاً، ولا تجب فيه كفارة، بل هو شرك تجب التوبة منه، كالحلف بغير الله فلا ينعقد وليس فيه كفارة.
وأما نذر المعصية، فينعقد، لكن لا يجوز الوفاء به، وعليه كفارة يمين، كالحلف بالله على المحرم ينعقد، وفيه كفارة.
وقد ذكر المؤلف في هذا الباب آيتين:
* * *
وقول الله تعالى: { يوفون بالنذر } [الإنسان: 7]
__________
(1) تقدم (ص 232)(10/176)
الأولى: قوله: { يوفون بالنذر } ، هذه الآية سيقت لمدح الأبرار، { إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً } [الإنسان: 5].
ومدحهم بهذا يقتضي أن يكون عبادة، لأن الإنسان لا يمدح ولا يستحق دخول الجنة إلا بفعل شيء يكون عباده.
ولو أعقب المؤلف هذه الآية بقوله تعالى: { وليوفوا نذورهم } [الحج: 29]، لكان أوضح، لأن قوله: { وليوفوا نذورهم } أمر، والأمر بوفائه يدل على أنه عبادة، لأن العبادة ما أمر به شرعاً.
وجه استدلال المؤلف بالآية على أن النذر لغير الله من الشرك: أن الله تعالى أثنى عليهم بذلك، وجعله من الأسباب التي بها يدخلون الجنة، ولا يكون سبباً يدخلون به الجنة إلا وهو عبادة، فيقتضي أن صرفه لغير الله شرك.
* * *
وقوله: { وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه } [البقرة: 270].
الآية الثانية قوله: { وما أنفقتم } .
{ ما } : شرطية، و { أنفقتم } : فعل الشرط، وجوابه: { فإن الله يعلمه } .
قوله: { من نفقة } ، بيان لـ { ما } في قوله: { ما أنفقتم } ، والنفقة: بذل المال، وقد يكون في الخير، وقد يكون في غيره.
قوله: { أو نذرتم } ، معطوف على قوله: { وما أنفقتم } .
قوله { فإن الله يعلمه } ، تعليق الشيء بعلم الله دليل على أنه محل جزاء، إذ لا نعلم فائدة لهذا الإخبار بالعلم إلا لترتب الجزاء عليه، وترتب الجزاء عليه يدل على أنه من العبادة التي يجازى الإنسان عليها، وهذا وجه استدلال المؤلف بهذه الآية.
* * *
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من نذر أن يطيع الله، فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله، فلا يعصه"(1).
قوله: "وفي الصحيح"، سبق الكلام على مثل هذا التعبير في باب تفسير التوحيد (ص 146).
قوله: "من نذر"، جملة شرطية تفيد العموم، وهل تشمل الصغير؟
__________
(1) البخاري: كتاب الإيمان والنذور/ باب النذر في الطاعة.(10/177)
قال بعض العلماء: تشمله، فينعقد النذر منه.
وقيل: لا تشمله، لأن الصغير ليس أهلاً للإلزام ولا للالتزام، وبناء على هذا يخرج الصغير من هذا العموم، لأنه ليس أهلاً للإلزام ولا للالتزام.
قوله: "أن يطيع الله"، الطاعة: هي موافقة الأمر، أي: توافق الله فيما يريد منك إن أمرك، فالطاعة فعل المأمور به، وإن نهاك، فالطاعة ترك المنهي عنه، هذا معنى الطاعة إذا جاءت مفردة.
أما إذا قيل: طاعة ومعصية، فالطاعة لفعل الأوامر، والمعصية لفعل النواهي.
قوله: "فليطعه"، الفاء واقعة في جواب الشرط، لأن الجملة إنشائية طلبية، واللام لام الأمر.
وظاهر الحديث: يشمل ما إذا كانت الطاعة المنذورة جنسها واجب، كالصلاة والحج وغيرهما، أو غير واجب، كتعليم العلم وغيره.
وقال بعض أهل العلم: لا يجب الوفاء بالنذر إلا إذا كان جنس الطاعة واجباً، وعموم الحديث يرد عليهم.
وظاهر الحديث أيضاً يشمل من نذر طاعة نذراً مطلقاً ليس له سبب، مثل: "لله علي أن أصوم ثلاثة أيام".
ومن نذر نذراً معلقاً، مثل: إن نجحت، فلله علي أن صوم ثلاثة أيام.
ومن فرق بينهما، فليس يجيد لأن الحديث عام.
وأعلم أن النذر لا يأتي بخير ولو كان نذر طاعة، وإنما يستخرج به من البخيل(1)، ولهذا نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعض العلماء يحرمه، وإليه يميل شيخ الإسلام ابن تيمية للنهي عنه، ولأنك تلزم نفسك بأمر أنت في عافية منه، وكم من إنسان نذر وأخيراً ندم، وربما لم يفعل.
ويدل لقوة القول بتحريم النذر قوله تعالى: { وأقسموا بالله جهد إيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن } [النور: 53]، فهذا التزام مؤكد بالقسم فيشبه النذر.
قال الله تعالى: { قل لا تقسموا طاعة معروفة } [النور: 53]، أي: عليكم طاعة معروفة بدون يمين، والإنسان الذي لا يفعل الطاعة إلا بالنذر، أو حلف على نفسه يعني أن الطاعة ثقيلة عليه.
__________
(1) تقدم (ص 229).(10/178)
ومما يدل على قوة القول بالتحريم أيضاً خصوصاً النذر المعلق: أن النادر كأنه غير واثق بالله - عز وجل ـ، فكأنه يعتقد أن الله لا يعطيه الشفاء إلا إذا أعطاه مقابلة، ولهذا إذا أيسوا من البرء ذهبوا ينذرون، وفي هذا سوء ظن بالله- عز وجل -.
والقول بالتحريم قول وجيه.
فإن قيل: كيف تحرمون ما أثنى الله على من وفى به؟
فالجواب: أننا لا نقول: إن الوفاء هو المحرم حتى يقال: إننا هدمنا النص، إنما نقول: المحرم أو المكروه كراهة شديدة هو عقد النذر، وفرق بين عقده ووفائه، فالعقد ابتدائي، والوفاء في ثاني الحال تنفيذ لما نذر.
قوله: "ومن نذر أن يعصي الله، فلا يعصه"، لا: ناهية، والنهي بحسب المعصية، فإن كانت المعصية حراماً، فالوفاء بالنذر حرام، وإن كانت المعصية مكروهة، فالوفاء بالنذر مكروه، لأن المعصية الوقوع فيما نهي عنه، والمنهي عنه ينقسم عند أهل العلم إلى قسمين: منهي عنه نهي تحريم، ومنهي عنه نهي تنزيه.
* * *
فيه مسائل:
الأولى: وجوب الوفاء بالنذر. الثانية: إذا ثبت كونه عبادة لله، فصرفه إلى غير الله شرك. الثالثة: أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به.
فيه مسائل:
الأولى: وجوب الوفاء بالنذر، يعني: نذر الطاعة فقط، لقوله: "من نذر أن يطيع الله، فليطعه"، ولقول المؤلف في المسألة الثالثة: إن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به.
الثانية: إذا ثبت كونه عبادة، فصرفه إلى غير الله شرك، وهذه قاعدة في توحيد العبادة، فأي فعل كان عبادة، فصرفه لغير الله شرك.
الثالثة: أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من نذر أن يعصي الله، فلا يعصه".
باب من الشرك الاستعاذة بغير الله
قوله: "من الشرك"، من: للتبعيض، وهذه الترجمة ليست على إطلاقها، لأنه إذا استعاذ بشخص مما يقدر عليه، فإنه جائز، كالإستعانة.
* * *
وقول الله تعالى: { وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً } [الجن: 6].(10/179)
قوله تعالى: { وأنه كان رجال من الإنس } ، الواو: حرف عطف، و { أن } : فتحت همزتها بسبب عطفها على قوله: { أنه استمع نفر من الجن } .
قال ابن مالك:
وهمز إن افتح لسد مصدر ... ... ... ... مسدها وفي سوى ذاك اكسر
فيؤول بمصدر، أي: قل أوحي إلى استماع نفر وكون رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن.
قوله: { من الإنس } ، صفة لرجال، لأن رجال نكرة، وما بعد النكرة صفة لها.
قوله: { يعوذون } ، الجملة خبر كان، ويقال: عاذ به ولاذ به، فالعياذ مما يخاف، واللياذ فيما يؤمل، وعليه قول الشاعر يخاطب ممدوحة، ولا يصلح ما قاله إلا لله:
يا من ألوذ به فيما أأمله ... ... ... ومن أعود به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ... ... ... ... ولا يهيضون عظماً أنت جابره
قوله: { يعوذون برجال من الجن } ، أي: يلتجئون إليهم مما يحاذرونه، يظنون أنهم يعيذونهم، ولكن زادوهم رهقاً، أي: خوفاً وذعراً، وكان العرب في الجاهلية إذا نزلوا في واد نادوا بأعلى أصواتهم: أعود بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه.
قوله: { رهقاً } ، أي: ذعراً وخوفاً، بل الرهق أشد من مجرد الذعر والخوف، فكأنهم مع ذعرهم وخوفهم أرهقهم وأضعفهم شيء، فالذعر والخوف في القلوب والرهق في الأبدان.
وهذه الآية تدل على أن الاستعاذة بالجن حرام، لأنها لا تفيد المستعيذ، بل تزيده رهقاً، فعقب بنقيض قصده، وهذا ظاهر، فتكون الواو ضمير الجن والهاء ضمير الإنس.
وقيل: إن الإنس زادوا الجن رهقاً، أي: استكباراً وعتواً، ولكن الصحيح الأول.
قوله: { برجال من الجن } ، يستفاد منه أن للجن رجالاً، ولهم إناث، وربما يجامع الرجل من الجن الأنثى من بني آدم، وكذلك العكس الرجل من بني آدم قد يجامع الأنثى من الجن، وقد ذكر الفقهاء الخلاف في وجوب الغسل بهذا الإجماع.(10/180)
والفقهاء يقولون في باب الغسل، لو قالت، أن بها جنياً يجامعها كالرجل، وجب عليها الغسل، وأما أن الرجل يجامع الأنثى من الجن، فقد قيل ذلك، لكن لم أره في كلام أهل العلم، وإنما أساطير تقال، والله أعلم.
لكن علينا أن نصدق بوجودهم، وأنهم مكلفون، وبأن منهم الصالحين ومنهم دون ذلك، وبأن منهم المسلمين والقاسطين، وبأن منهم رجالاً ونساء.
وجه الاستشهاد بالآية: ذم المستعيذين بغير الله، والمستعيذ بالشيء لا شك أنه قد علق رجاءه به، واعتمد عليه، وهذا نوع من الشرك.
* * *
وعن خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
"من نزل منزلاً، فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك" رواه مسلم(1)
قوله: "كلمات"، من جموع القلة، لأنه جمع مؤنث سالم، وجموع القلة من ثلاثة إلى عشرة، والكثرة ما فوق ذلك.
وقيل: جموع الكثرة من ثلاثة إلى ما لا نهاية له، فيكون جمع القلة والكثرة يتفقان في الابتداء، ويختلفان في الانتهاء.
قال ابن مالك:
أفعلة أفعل ثم فعله ... ... ... ثمت أفعال جموع قله
وبعض ذي بكثرة وضعاً يفي ... ... ... كأرجل والعكس جاء كالصفي
والراجح: أن جموع القلة تدل على الكثرة بالدليل.
و"كلمات": جمع قلة دال على الكثرة لوجود الدليل، قال تعالى: { قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا يمثله مداداً } [الكهف: 109].
وأبلغ من هذا قوله تعالى: { ولو أن ما في الأرض من شجر أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله } [لقمان: 27].
والمراد بالكلمات هنا: الكلمات الكونية والشرعية.
وقوله: "من نزل منزلاً" يشمل من نزله على سبيل الإقامة الدائمة، أو الطارئة، بدليل أنه نكرة في سياق الشرط، والنكرة في سياق الشرط تفيد العموم.
__________
(1) مسلم: كتاب الذكر والدعاء/ باب في التعوذ من سوء القضاء.(10/181)
وقوله: "أعوذ" بمعنى: ألتجئ وأعتصم.
قوله: "التامات"، تمام الكلام بأمرين:
الصدق في الأخبار.
العدل في الأحكام.
قال الله تعالى: { وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً } [الأنعام: 115].
قوله: "من شر ما خلق"، أي: من شر الذي خلق، لأن الله خلق كل شيء: الخير والشر، ولكن الشر لا ينسب إليه، لأنه خلق الشر لحكمة، فعاد بهذه الحكمة خيراً، فكان خيراً.
وعلى هذا تكون "ما" موصولة لا غير، أي: من شر الذي خلق، لأنك لو أولتها إلى المصدرية وقلت: من شر خلقك، لكان الخلق هنا مصدراً يجوز أن يراد به الفعل، ويجوز أيضاً المفعول، لكن لو جعلتها اسماً موصلاً تعين أن يكون المراد بها المفعول، وهو المخلوق.
وليس كل ما خلق الله فيه شر، لكن تستعيذ من شره إن كان فيه شر، لأن مخلوقات الله تنقسم إلى ثلاثة أقسام هي:
شر محض، كالنار وإبليس باعتبار ذاتيهما، أما باعتبار الحكمة التي خلقهما الله من أجلها، فهي خير.
خير محض، كالجنة، والرسل، والملائكة.
فيه شر وخير، كالإنس، والجن، والحيوان.
وأنت إنما تستعيذ من شر ما فيه شر.
قوله: "لم يضره شيء"، نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم من شر كل ذي شر من الجن والإنس وغيرهم والظاهر الخفي حتى يرتحل من منزله، لأن هذا خبر لا يمكن أن يتخلف مخبره، لأنه كلام الصادق المصدوق، لكن إن تخلف، فهو لوجود مانع لا لقصور السبب أو تخلف الخبر.
ونظير ذلك كل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأسباب الشرعية إذا فعلت ولم يحصل المسبب، فليس ذلك لخلل في السبب، ولكن لوجود مانع، مثل: قراءة الفاتحة على المرضى شفاء، ويقرأها بعض الناس ولا يشفى المريض، وليس ذلك قصوراً في السبب، بل لوجود مانع بين السبب وأثره.
ومنه: التسمية عند الجماع، فإنها تمنع ضرر الشيطان للولد، وقد توجد التسمية ويضر الشيطان الولد لوجود مانع يمنع من حصول أثر هذا السبب، فعليك أن تفتش ما هو المانع حتى تزيله فيحصل لك أثر السبب.(10/182)
قال القرطبي: وقد جربت ذلك، حتى إني نسيت ذات يوم، فدخلت منزلي ولم أقل ذلك، فلدغتني عقرب.
والشاهد من الحديث: قوله: "أعوذ بكلمات الله".
والمؤلف يقول في الترجمة: الاستعاذة بغير الله، وهنا استعاذة بالكلمات، ولم يستعذ بالله، فلماذا؟
أجيب: أن كلمات الله صفة من صفاته، ولهذا استدل العلماء بهذا الحديث على أن كلام الله من صفاته، ولهذا استدل العلماء بهذا الحديث على أن كلام الله من صفاته غير مخلوق، لأن الاستعاذة بالمخلوق لا تجوز في مثل هذا الأمر، ولو كانت الكلمات مخلوقة ما أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الاستعاذة بها.
ولهذا كان المراد من كلام المؤلف: الاستعاذة بغير الله، أي: أو صفة من صفاته.
وفي الحديث: "أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر"(1)، وهنا استعاذ بعزة الله وقدرته، ولم يستعذ بالله، والعزة والقدرة من صفات الله، وهي ليست مخلوقة.
ولهذا يجوز القسم بالله وبصفاته، لأنها غير مخلوقة.
أما القسم بالآيات، فإن أراد الآيات الشرعية، فجائز، وإن أراد الآيات الكونية، فغير جائز.
أما الاستعاذة بالمخلوق، ففيها تفصيل، فإن كان المخلوق لا يقدر عليه، فهي من الشرك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لا يجوز الاستعاذة بالمخلوق عند أحد من الأئمة"، وهذا ليس على إطلاقه، بل مرادهم مما لا يقدر عليه إلا الله، لأنه لا يعصمك من الشرك الذي لا يقدر عليه إلا الله، سوى الله.
ومن ذلك أيضاً الاستعاذة بأصحاب القبور، فإنهم لا ينفعون ولا يضرون، فالاستعاذة بهم شرك أكبر، سواء كان عند قبورهم أم بعيداً عنهم.
__________
(1) مسلم: كتاب السلام/ باب استحباب وضع يده على موضع الألم.(10/183)
أما الاستعاذة بمخلوق فيما يقدر عليه، فهي جائزة، وقد أشار إلى ذلك الشارح الشيخ سليمان في "تيسير العزيز الحميد"، وهو مقتضى الأحاديث الواردة في "صحيح مسلم" لما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الفتن، قال: "فمن وجد من ذلك ملجأ، فليعذ به"(1).
وكذلك قصة المرأة التي عاذت بأم سلمة(2)، والغلام الذي عاذ بالنبي - صلى الله عليه وسلم -(3)، وكذلك في قصة الذين يستعيذون بالحرم والكعبة(4)، وما أشبه ذلك.
وهذا هو مقتضى النظر، فإذا اعترضني قطاع طريق، فعذت بإنسان يستطيع أن يخلصني منهم، فلا شيء فيه.
لكن تعليق القلب بالمخلوق لا شك أنه في الشرك، فإذا علقت قلبك ورجاءك وخوفك وجميع أمورك بشخص معين، وجعلته ملجأ، فهذا شرك، لأن هذا لا يكون إلا الله.
وعلى هذا، فكلام الشيخ رحمه الله في قوله: "إن الأئمة لا يجوزون الاستعاذة بمخلوق" مقيد بما لا يقدر عليه إلا الله، ولولا أن النصوص وردت بالتفصيل لأخذنا الكلام على إطلاقه، وقلنا: لا يجوز الاستعاذة بغير الله مطلقاً.
* * *
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الجن. الثانية: كونه من الشرك. الثالثة: الاستدلال على ذلك بالحديث، لأن العلماء يستدلون به على أن كلمات الله غير مخلوقة، قالوا: لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك. الرابعة: فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره. الخامسة: أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية، من كف شر أو جلب نفع، لا يدل على أنه ليس من الشرك.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الجن، وقد سبق ذلك في أول الباب.
الثانية: كونه من الشرك، أي: الاستعاذة بغير الله، وقد سبق التفصيل في ذلك.
__________
(1) البخاري: كتاب الفتن/ باب تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، ومسلم: كتاب الفتن/ باب نزول الفتن.
(2) مسلم: كتاب الحدود/ باب حد قطع السارق الشريف وغيره....
(3) مسلم: كتاب الإيمان/ باب صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده.
(4) مسلم: كتاب الفتن/ باب الخسف بالجيش الذي يؤم البيت.(10/184)
الثالثة: الاستدلال على ذلك بالحديث، لأن العلماء يستدلون به على أن كلمات الله غير مخلوقة، لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك، وجه الاستشهاد: أن الاستعاذة بكلمات الله لا تخرج عن كونها استعاذة بالله، لأنها صفة من صفاته.
الرابعة: فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره، أي: فائدته، وهي أنه لا يضرك شيء ما دمت في هذا المنزل.
الخامسة: أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية من كف شر أو جلب نفع، لا يدل على أنه ليس من الشرك، ومعنى كلامه: أنه قد يكون الشيء من الشرك، ولو حصل لك فيه منفعة، فلا يلزم من حصول النفع أن ينتفي الشرك، فالإنسان قد ينتفع بما هو شرك.
مثال ذلك: الجن، فقد يعيذونك، وهذا شرك مع أن فيه منفعة.
مثال آخر: قد يسجد إنسان لملك، فيهبه أموالاً وقصوراً، وهذا شرك مع أن فيه منفعة، ومن ذلك ما يحصل لغلاة المداحين لملوكهم لأجل العطاء، فلا يخرجهم ذلك عن كونهم مشركين.
قال بعضهم:
فكن كما شئت يا من لا نظير له ... ... ... وكيف شئت فما خلق يدانيك
وفي الحديث فائدة، وهي: أن الشرع لا يبطل أمراً من أمور الجاهلية إلا ذكر ما هو خير منه، ففي الجاهلية كانوا يستعيذون بالجن، فأبدل بهذه الكلمات، وهي: أن يستعيذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق.
وهذه الطريقة هي الطريقة السليمة التي ينبغي أن يكون عليها الداعية، أنه إذا سد الناس باب الشر، وجب عليه أن يفتح لهم باب الخير، ولا يقول: حرام، ويسكت، بل يقول: هذا حرام، وافعل كذا وكذا من المباح بدلاً عنه، وهذا له أمثلة في القرآن والسنة.
فمن القرآن قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا } [البقرة: 104]، فلما نهاهم عن قول { راعنا } ذكر لهم ما يقوم مقامه وهو { انظرنا } .(10/185)
ومن السنة قوله - صلى الله عليه وسلم - لمن نهاه عن بيع الصاع من التمر الطيب بالصاعين، والصاعين بالثلاثة: "بع الجمع بالدراهم، واشتر بالدراهم جنيباً"(1).
فلما منعه من المحذور، فتح له الباب السليم الذي لا محذور فيه.
* * *
باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره
قوله: "من الشرك"، من: للتبعيض، فيدل على أن الشرك ليس مختصاً بهذا الأمر.
والاستغاثة: طلب الغوث، وهو إزالة الشدة.
وكلام المؤلف رحمه الله ليس على إطلاقه، بل يقيد بما لا يقدر عليه المستغاث به، إما لكونه ميتاً، أو غائباً، أو يكون الشيء مما لا يقدر على إزالته إلا الله تعالى، فلو استغاث بميت ليدافع عنه أو بغائب أو بحي حاضر لينزل المطر فهذا كله من الشرك ولو استغاث أو بحي حاضر فيما يقدر عليه كان جائزاً، قال الله تعالى: { فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه } [القصص: 15].
وإذا طلبت من أحد الغوث وهو قادر عليه، فإنه يجب عليك تصحيحاً لتوحيدك أن تعتقد أنه مجرد سبب، وأنه لا تأثير له بذاته في إزالة الشدة، لأنك ربما تعتمد عليه وتنسى خالق السبب، وهذا قادح في كمال التوحيد.
قوله: "أو يدعو غيره"، معطوف على قوله: "أن يستغيث"، فيكون المعنى: من الشرك أن يدعو غير الله، وذلك لأن الدعاء من العبادة، قال الله تعالى: { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } [غافر: 60]، { عبادتي } ، أي: دعائي، فسمى الله الدعاء عبادة.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الدعاء هو العبادة"(2).
والدعاء ينقسم إلى قسمين:
__________
(1) البخاري: كتاب البيوع/ باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه، ومسلم: كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلاً يمثل.
(2) مسند الإمام أحمد (4/267)، والترمذي: الدعوات/ باب الدعاء مخ العبادة، وقال: "حديث حسن صحيح" ـ، والحاكم (1/490) - وصححه ووافقه الذهبي -.(10/186)
ما يقع عبادة، وهذا صرفه لغير الله شرك، وهو المقرون بالرهبة والرغبة، والحب، والتضرع.
ما لا يقع عبادة، فهذا لا يجوز أن يوجه إلى المخلوق، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من دعاكم فأجيبوه"(1)، وقال: "إذا دعاك فأجبه"(2)، وعلى هذا، فمراد المؤلف بقوله "أو يدعو غيره" دعاء العبادة أو دعاء المسألة فيما لا يمكن للمسؤول إجابته.
قوله: "أن يستغيث"، أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مبتدأ مؤخر، وخبرها مقدم، وهو قوله: من الشرك، والتقدير: من الشرك الاستغاثة بغير الله، والمبتدأ يكون صريحاً ومؤولاً.
فالمبتدأ الصريح مثل: زيد قائم، والمؤول مثل: { وأن تصوموا خير لكم } [البقرة: 184]، أي: وصومكم خير لكم.
وقوله: "أو يدعو" هذا من باب عطف العام على الخاص، لأن الاستغاثة دعاء بإزالة الشدة فقط، والدعاء عام لكونه لجلب منفعة، أو لدفع مضرة.
وقد ذكر المؤلف رحمه الله في هذا الباب عدة آيات.
* * *
وقول الله تعالى: { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين } [يونس: 106].
الآية الأولى قوله: { ولا تدع من دون الله } .
ظاهر سياق الآية أن الخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وسواء كان خاصاً به أو عاماً له ولغيره، فإن بعض العلماء قال: لا يصح أن يكون للرسول - صلى الله عليه وسلم -، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يستحيل أن يقع منه ذلك، والآية على تقدير قل، وهذا ضعيف جداً، وإخراج للآيات عن سياقها.
والصواب: أنه إما خاص بالرسول - صلى الله عليه وسلم - والحكم له ولغيره، وإما عام لكل من يصح خطابه ويدخل فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) تقدم (ص 110).
(2) تقدم (ص 149)(10/187)
وكونه يوجه إليه مثل هذا الخطاب لا يقتضي أن يكون ممكناً منه، قال تعالى: { ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين } [الزمر: 65]، فالخطاب له ولجميع الرسل، ولا يمكن أن يقع منه باعتبار حاله لا باعتبار كونه إنساناً وبشراً.
إذاً، فالحكمة من النهي أن يكون غيره متأسياً به، فإذا كان النهي موجهاً إلى من لا يمكن منه باعتبار حاله، فهو إلى من يمكن منه من باب أولى.
وقوله: { ولا تدع من دون الله } ، الدعاء: طلب ما ينفع، أو طلب دفع ما يضر، وهو نوعان كما قال أهل العلم:
الأول: دعاء عبادة وهو أن يكون قائماً بأمر الله، لأن القائم بأمر الله - كالمصلي، والصائم، والمزكي - يريد بذلك الثواب والنجاة من العقاب، ففعله متضمن للدعاء بلسان الحال، وقد يصحب فعله هذا دعاء بلسان المقال.
الثاني: دعاء مسألة، وهو طلب ما ينفع، أو طلب دفع ما يضره.
فالأول لا يجوز صرفه لغير الله، والثاني فيه تفصيل سبق.
قوله: { من دون الله } ، أي: سوى الله.
قوله: { ما لا ينفعك } ، أي: ما لا يجلب لك النفع لو عبدته.
{ ولا يضرك } : قيل: لا يدفع عنك الضر، وقيل: لو تركت عبادته لا يضرك، لأنه لا يستطيع الانتقام، وهو الظاهر من اللفظ.
وقوله: { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك } ، أي: لأنه لا ينفعك ولا يضرك، وهذا القيد ليس شرطاً بحيث يكون له مفهوم، فيكون لك أن تدعو من ينفعك ويضرك، بل هو لبيان الواقع، لأن المدعو من دون الله لا يحصل منه نفع ولا ضرر، قال الله تعالى: { ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين } [الأحقاف: 5 ، 6].
ومن القيد الذي ليس بشرط، بل هو لبيان الواقع قوله تعالى: { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } [البقرة: 21].(10/188)
فإن قوله: { الذي خلقكم والذين من قبلكم } لبيان الواقع، إذ ليس هناك رب ثان لم يخلقنا والذين من قبلنا.
ومنه قوله تعالى: { وربائبكم اللاتي في حجوركم } [النساء: 23]، فهذا بيان للواقع الأغلب.
ومنه قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } [الأنفال: 24]، فهذا بيان للواقع، إذ دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - إيانا كله لما يحيينا.
وكل قيد يراد به بيان الواقع، فإنه كالتعليل للحكم، فمثلاً قوله تعالى: { يا أيها الناس أعبدوا ربكم الذي خلقكم } [البقرة: 21]، أي اعبدوه لأنه خلقكم.
وقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } ، أي: لأنه لا يدعوكم إلا لما يحيكم.
وكذلك قوله تعالى: { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك } ، أي: لأنه لا ينفعك ولا يضرك، فعلى هذا لا يكون هذا القيد شرطاً، وهذه يسميها بعض الناس صفة كاشفة.
قوله: { فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين } ، أي: إن دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك، والخطاب للرسول- صلى الله عليه وسلم -.
و { إن } : شرطية، وجواب الشرط جملة: { فإنك إذاً } .
و { إذاً } : أي: حال فعلك من الظالمين، وهو قيد، لأن { إذاً } للظرف الحاضر، أي: فإنك حال فعله من الظالمين، لكن قد تتوب منه فيزول عنك وصف الظلم، فالإنسان قبل الفعل ليس بظالم، وبعد التوبة ليس بظالم، لكن حين فع المعصية يكون ظالماً كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن"(1)، فنى الإيمان عنه حال الفعل.
ونوع الظلم هنا ظلم شرك، قال الله تعالى: { إن الشرك لظلم عظيم } [لقمان: 13]، وعبر الله بقوله: { من الظالمين } ، ولم يقل: من المشركين، لأجل أن يبين أن الشرك ظلم، لأن كون الداعي لغير الله مشركاً أمر بين، لكن كونه ظالماً قد لا يكون بيناً من الآية.
* * *
__________
(1) سبق (ص 66).(10/189)
{ وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو } الآية [يونس: 107].
الآية الثانية قوله: { وإن يمسسك } ، أي: يصيبك بضر، كالمرض، والفقر، ونحوه.
قوله: { فلا كاشف له إلا هو } . { لا } : نافية للجنس، واسمها: { كاشف } ، وخبرها: { له } ، و { إلا هو } بدل، وإن قلنا بجواز كون خبرها معرفة صار { هو } الخبر.
أي: ما أحد يكشفه أبداً إذا مسك الله بضر إلا الله، وهذا كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك"(1).
قوله: { وإن يردك بخير } ، هنا قال: { يردك } ، وفي الضر قال: { يمسسك } فهل هذا من باب تنويع العبارة، أو هناك فرق معنوي؟.
الجواب: هناك فرق معنوي، وهو أن الأشياء المكروهة لا تنسب إلى إرادة الله، بل تنسب إلى فعله، أي: مفعوله.
فالمس من فعل الله، والضر من مفعولاته، فالله لا يريد الضر لذاته، بل يريد لغيره، لما يترتب عليه من الخير، ولما وراء ذلك من الحكم البالغة، وفي الحديث القدسي: "إن من عبادي من لو أغنيته أفسده الغنى } (2).
أما الخير، فهو مارد لله لذاته، ومفعول له، ويقرب من هذا ما في سورة الجن: { وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً } [الجن: 10].
فإذا أصيب الإنسان بمرض، فالله لم يرد به الضرر لذاته، بل أراد المرض، وهو يضره، لكن لم يرد ضرره، بل أراد خيراً من وراء ذلك، وقد تكون الحكمة ظاهرة في نفس المصاب، وقد تكون ظاهرة في غيره، كما قال تعالى: { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب } [الأنفال: 25].
__________
(1) مسند الإمام أحمد (1/293) - وصححه أحمد شاكر (2669) ـ، والترمذي: أبواب صفة القيامة/ باب "ولكن يا حنظلة ساعة وساعة، 7/203 - وقال: "حديث حسن صحيح"ـ.
(2) من حديث أنس، رواه: الطبراني.(10/190)
فالمهم أنه ليس لنا أن نتحجر حكمة الله، لأنها أوسع من عقولنا، لكننا نعلم علم اليقين أن الله لا يريد الضرر لأنه ضرر، فالضرر عند الله ليس مراداً لذاته، بل لغيره، ولا يترتب عليه إلا الخير، أما الخير، فهو مراد لذاته، ومفعول له، والله أعلم بما أراد بكلامه، لكن هذا الذي يتبين لي.
قوله: { فلا راد لفضله } ، أي: لا يستطيع أن يرد فضل الله أبداً، ولو اجتمعت الأمة على ذلك ، وفي الحديث: "اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت" (1).
وعليه، فنعتمد على الله في جلب المنافع، ودفع المضار، وبقاء ما أنعم علينا به، ونعلم أن الأمة مهما بلغت من المكر والكيد والحيل لتمنع فضل الله، فإنها لا تستطيع.
قوله: { يصيب به من يشاء } ، الضمير إما أن يعود إلى الفضل، لأنه أقرب، أو إلى الخير، لأنه هو الذي يتحدث عنه، ولا يختلف المعنى بذلك.
قوله: { من يشاء } ، كل فعل مقيد بالمشيئة، فإنه مقيد بالحكمة، لأن مشيئة الله ليس مجردة يفعل ما يشاء لمجرد أنه يفعله فقط، لأن من صفات الله الحكمة، ومن أسمائه الحكيم، قال الله تعالى: { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً } [الإنسان: 30].
قوله: { من عباده } ، العبودية هنا عامة، لأن قوله: { بخير } يشمل خير الدنيا والآخرة، وخير الدنيا يصيب الكفار.
قوله: { وهو الغفور الرحيم } ، أي: ذو المغفرة، والمغفرة: ستر الذنب والتجاوز عنه، مأخوذة من المغفر، وهو ما يتقى به السهام، والمغفرة فيه ستر ووقاية.
والرحيم، أي: ذو الرحمة، وهي صفة تليق بالله - عز وجل ـ، تقتضي الإحسان والإنعام.
الشاهد قوله: { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك } في الآية الأولى، فقد نبه الله نبيه أن من يدعو أحداً من دون الله (أي: من سواه) لا ينفعه ولا يضره.
__________
(1) البخاري: كتاب صفة الصلاة/باب الذكر بعد الصلاة، ومسلم: كتاب المساجد/ باب استحباب الذكر بعد الصلاة.(10/191)
وقوله في الآية الثاني: { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو } .
* * *
وقوله: { فابتغوا عند الله الرزق } [العنكبوت: 17].
الآية الثالثة قوله: { فابتغوا عند الله الرزق } .
لو أتى المؤلف بأول الآية: { إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً } لكان أولى، فهم يعبدون هذه الأوثان من شجر وحجر وغيرها، وهي لا تملك لهم رزقاً أبداً، لو دعوها إلى يوم القيامة ما أحضرت لهم ولا حبة بر، ولا دفعت عنهم أدنى مرض أو فقر، فإذا كانت لا تملك الرزق، فالذي يملكه هو الله، ولهذا قال: { فابتغوا عند الله الرزق } ، أي: اطلبوا عند الله الرزق، لأنه سبحانه هو الذي لا ينقضي ما عنده، { ما عندكم ينفد وما عند الله باق } [النحل: 96]، والرزق هو العطاء كما قال تعالى: { فارزقوهم منه } .
وقوله: { عند الله } : عند الله: حال من الرزق، وقدم الحال مع أن موضعها التأخير عن صاحبها لإفادة الحصر، إ إن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، أي: فابتغوا الرزق حال كونه عند الله لا عند غيره.
قوله: { واعبدوه } ، أي: تذللوا بالطاعة، لأن العبادة مأخوذة من التعبيد، وهو التذليل، ومنه قولهم: طريق معبد، أي: مذلل للسالكين، قد أزيل عنه الأحجار والأشجار المؤذية، لأنكم إذا تذللتم له بالطاعة، فهو من أسباب الرزق، قال تعالى: { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب } [الطلاق: 3،4]، فأمر أن نطلب الرزق عنده، ثم أعقبه بقوله: { واعبدوه } إشارة إلى أن تحقيق العبادة من طلب الرزق، لأن العابد ما دام يؤمن أن من يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب، فعبادته تتضمن طلب الرزق بلسان الحال.(10/192)
قوله: { واشكروا له } ، إذا أضاف الله الشرك له متعدياً باللام، فهو إشارة إلى الإخلاص، أي: واشكروا نعمة الله لله، فاللام هنا لإفادة الإخلاص، لأن الشاكر قد يشكر الله لبقاء النعم، وهذا لا بأس به، ولكن كونه شكر لله وتأتي إرادة بقاء النعمة تبعاً هذا هو الأكمل والأفضل.
والشكر فسروه بأنه: القيام بطاعة المنعم، وقالوا: إنه يكون في ثلاثة مواضع:
في القلب، وهو أن يعترف بقلبه أن هذه النعمة من الله، فيرى لله فضلاً عليه بها، قال تعالى: { وما بكم من نعمة فمن الله } [النحل: 53]، وأعظم نعمة هي نعمة الإسلام، قال تعالى: { يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان } [الحجرات: 17]، وقال تعالى: { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته..... } الآية [آل عمران: 164].
اللسان، وهو أن يتحدث بها على وجه الثناء على الله والاعتراف وعدم الجحود، لا على سبيل الفخر والخيلاء والترفع على عباد الله، فيتحدث بالغنى لا ليكسر خاطر الفقير، بل لأجل الثناء على الله، وهذا جائز كما في قصة الأعمى من بني إسرائيل لما ذكرهم الملك بنعمة الله، قال "نعم، كنت أعمى فرد الله علي بصري، وكنت فقيراً فأعطاني الله المال"، فهذا من باب التحدث بنعمة الله.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - تحدث بنعمة الله عليه بالسيادة المطلقة، فقال: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة"(1)
الجوارح، وهو أن يستعملها بطاعة المنعم، وعلى حسب ما يختص بهذه النعمة.
فمثلاً: شكر الله على نعمة العلم: أن تعمل به، وتعلمه الناس.
وشكر الله على نعمة المال: أن تصرفه بطاعة الله، وتنفع الناس به.
وشكر الله على نعمة الطعام: أن تستعمله فيما خلق له، وهو تغذية البدن، فلا تبني من العجين قصراً مثلاً، فهو لم يخلق لهذا الشيء.
__________
(1) مسلم: كتاب الفضائل/ باب تفضيل النبي - صلى الله عليه وسلم - على جميع الخلائق.(10/193)
قوله: { إليه ترجعون } ، الجار والمجرور متعلق بـ { ترجعون } ، وتقديمه دل على الحصر، أي أن رجوعنا إلى الله - سبحانه - ، وهو الذي سيحاسبنا على ما حملنا إياه من الأمر بالعبادة، والأمر بالشكر، وطلب الرزق منه.
والشاهد من هذه الآية: { إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق } [العنكبوت: 17]، فالفقير يستغيث بالله لكي ينجيه من الفقر، والله هو الذي يستحق الشكر، وإذا كانت هذه الأصنام لا تملك الرزق، فكيف تستغيث بها؟!
* * *
وقوله: { ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة } الآية [الأحقاف: 5].
الآية الرابعة قوله تعالى: { ومن أضل } ، { من } : اسم استفهام مبتدأ، و { أضل } : خبره، والاستفهام يراد به هنا النفي، أي لا أحد أضل.
و { أضل } : اسم تفضيل، أي: لا أحد أضل من هذا.
والضلال: أن يتيه الإنسان عن الطريق الصحيح.
وإذا كان الاستفهام مراد به النفي كان أبلغ من النفي المجرد، لأنه يحوله من نفي إلى تحد، أي: بين لي عن أحد أضل ممن يدعو من دون الله؟ فهو متضمن للتحدي، وهو أبلغ من قوله: لا اضل ممن يدعو، لأن هذا نفي مجرد، وذاك نفي مشرب معنى التحدي.
قوله: { ممن يدعو } ، متعلق بأضل، ويراد بالدعاء هنا دعاء المسألة ودعاء العبادة.
قوله: { من دون الله } ، أي: سواه.
قوله: { من لا يستجيب له إلى يوم القيامة } ، { من } : مفعول يدعو، أي لو بقي كل عمر الدنيا يدعو ما استجاب له، قال الله تعالى: { إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم } [فاطر: 14]، والخبر هنا عن الله تعالى، قال تعالى: { ولا ينبئك مثل خبير } [فاطر: 14]، يعني: نفسه سبحانه وتعالى.(10/194)
وقوله: { من لا يستجيب } أتى بـ { من } ، وهي للعاقل، مع أنهم يعبدون الأصنام والأحجار والأشجار، وهي غير عاقلة، لأنهم لما عبدوها نزلوها منزلة العاقل، فخوطبوا بمقتضى ما يدعون، لأنه أبلغ في إقامة الحجة عليهم في أنهم يدعو من يرونهم عقلاء، ومع ذلك لا يستجيبون لهم، وهذا من بلاغة القرآن، لأنه خاطبهم بما تقتضيه حالهم ليقيم الحجة عليه، إذ لو قيل: ما لا يستجيب له، لقالوا: هناك عذر في عدم الاستجابة لأنهم غير عقلاء.
قوله: { وهم عن دعائهم } ، الضمير في قوله: { هم } يعود على { من } باعتبار المعنى، لأنهم جماعة، وضمير يستجيب يعود على { من } باعتبار اللفظ، لأنه مفرد، فأفرد الضمير باعتبار لفظ { من } ، وجمعه باعتبار المعنى، لأن { من } تعود على الأصنام، وهي جماعة، و { من } قد يراعى لفظها ومعناها في كلام واحد.
ومنه قوله تعالى: { ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً قد أحسن الله له رزقاً } [الطلاق: 11]، فهنا راعي اللفظ، ثم المعنى، ثم اللفظ.
قوله: { عن دعائهم } ، الضمير في دعائهم يعود إلى المدعوين، وهل المعنى: { وهم } ، أي: الأصنام، { عن دعائهم } ، أي: دعاء الداعين إياهم، فيكون من باب إضافة المصدر إلى مفعوله، أو المعنى: و { هم } عن دعاء العابدين لهم، فيكون "دعاء" مضافاً إلى فاعله، والمفعول محذوف؟
الأول أبلغ، أي عن دعاء العابدين إياهم أبلغ من دعاء العابدين على سبيل الإطلاق، فإذا قلت: { عن دعائهم } ، أي: عن دعاء العابدين إياهم، وجعلت الضمير هنا يعود على المدعوين، صار المعنى أن هذه الأصنام غافلة دعوة هؤلاء إياهم، ويكون هذا أبلغ في أن هذه الأصنام لا تفيد شيئاً في الدنيا ولا في الآخرة.
قوله: { وإذا حشر الناس } ، أي: يوم القيامة، { كانوا لهم أعداء } ، هل المعنى: كان العابدون للمعبودين أعداء، أو كان المعبودون للعابدين أعداء؟(10/195)
الجواب: يشمل المعنيين، وهذا من بلاغة القرآن.
الشاهد: قوله: { من لا يستجيب له إلى يوم القيامة } ، فإذا كان من سوى الله لا يستجيب إلى يوم القيامة، فكيف يليق بك أن تستغيث به دون الله؟! فبطل تعلق هؤلاء العابدين بمعبوداتهم.
فالذي يأتي للبدوي أو للدسوقي في مصر، فيقول: المدد! المدد! أو: أغثني، لا يغني عنه شيئاً، ولكن قد يبتلي فيأتيه المدد عند حصول هذا الشيء لا بهذا الشيء، وفرق بين ما يأتي بالشيء وما يأتي عند الشيء.
مثال ذلك: امرأة دعت البدوي أن تحمل، فلما جامعها زوجها حملت، وكانت سابقاً لا تحمل، فنقول هنا: إن الحمل لم يحصل بدعاء البدوي، وإنما حصل عنده لقوله تعالى: { من لا يستجيب له إلى يوم القيامة } .
أو يأتي للجيلاني في العراق، أو ابن عربي في سوريا، فيستغيث به، فإنه لا ينتفع، ولو بقي الواحد منهم إلى يوم القيامة يدعو ما أجابه أحد.
والعجب أنهم في العراق يقولون: عندنا الحسين، فيطوفون قبره ويسألونه، وفي مصر كذلك، وفي سوريا كذلك، وهذا سفه في العقول، وضلال في الدين، والعامة لا يلامون في الواقع، لكن الذي يلام من عنده علم من العلماء ومن غير العلماء.
* * *
وقوله: { أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء } [النمل: 62].
الآية الخامسة قوله تعالى: { أمن } ، أم: منقطعة، والفرق بين المنقطعة والمتصلة ما يلي:
المنقطعة بمعنى بل، والمتصلة بمعنى أو.
المتصلة لا بد فيها من ذكر المعادل، والمتصلة لا يشترط فيها ذكر المعادل.
مثال ذلك: أعندك زيد أم عمرو؟ فهذه متصلة، وقوله تعالى { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } متصلة وقوله تعالى: { أمن يجيب المضطر إذا دعاه } منقطعة، لأنه لم يذكر لها معادل، فهي يمعنى بل والهمزة.(10/196)
قوله: { المضطر } ، أصلها: المضتر، أي: الذي أصابه الضرر، قال تعالى: { وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين * فاستجبنا له } [الأنبياء: 84]، فلا يجيب المضطر إلا الله، لكن قيده بقوله: { إذا دعاه } ، أما إذا لم يدعه، فقد يكشف الله ضره، وقد لا يكشفه.
قوله: { ويكشف السوء } ، أي: يزيل السوء، والسوء: ما يسوء المرء، وهو دون الضرورة، لأن الإنسان قد يساء بما لا يضره، لكن كل ضرورة سوء.
وقوله: { ويكشف السوء } هل هي متعلقة بما قبلها في المعنى، وإنه إذا أجابه كشف سوءه، أو هي مستقلة يجيب المضطر إذا دعاه ثم أمر آخر يكشف السوء؟
الجواب: المعنى الأخير أعم، لأنها تشمل كشف سوء المضطر وغيره، ومن دعا الله ومن لم يدعه، وعلى التقدير الأول تكون خاصة بكشف سوء المضطر، ومعلوم أنه كلما كان المعنى أعم كان أولى، ويؤيد العموم قوله: { ويجعلكم خلفاء الأرض } .
قوله: { ويجعلكم خلفاء الأرض } ، الذين يجعلهم الله خلفاء الأرض هم عباد الله الصالحون، قال تعالى: { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } [الأنبياء: 105]، وقال تعالى: { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً } [النور: 55].
قوله: { أإله مع الله } ، الاستفهام للإنكار، أو بمعنى النفي، وهما متقاربان، أي: هل أحد مع الله يفعل ذلك؟!
الجواب: لا، وإذا كان ذلك، فيجب أن تصرف العبادة لله وحده، وكذلك الدعاء، فالواجب على العبد أن يوجه السؤال إلى الله تعالى، ولا يطلب من أحد أن يزيل ضرورته ويكشف سوءه وهو لا يستطيع.
* إشكال وجوابه:
وهو أن الإنسان المضطر يسأل غير الله ويستجاب له، كمن اضطر إلى طعام وطلب من صاحب الطعام أن يعطيه فأعطاه، فهل يجوز أم لا؟(10/197)
الجواب: أن هذا جائز، لكن يجب أن نعتقد أن هذا مجرد سبب لا أنه مستقل، فالله يجعل لكل شيء سبباً، فيمكن أن يصرف الله قلبه فلا يعطيك، ويمكن أن تأكل ولا تشبع فلا تزول ضرورتك، ويمكن أن يسخره الله ويعطيك.
* * *
روى الطبراني بإسناده(1): أنه كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا المنافق.
قوله: "بإسناده"، يشير إلى أن هذا الإسناد ليس على شرط الصحيح، أو المتفق عليه بين الناس، بل هو إسناده الخاص، وعليه، فيجب أن يراجع هذا الإسناد فليس كان إسناد محدث قد تمت فيه شروط القبول.
وذكر الهيثمي في "مجمع الزوائد": "إن رجاله رجال الصحيح، غير ابن لهيعة، وهو حسن الحديث، وابن لهيعة خلط في آخر عمره لاحتراق كتبه"، ولم يذكر المؤلف الصحابي، وفي الشرح هو عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
قوله: "في زمن النبي"، أي: عهده، وكانا لكافر أولاً يعلن كفره ولا يبالي، ولما قوي المسلمون بعد غزوة بدر خاف الكفار، فصاروا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر.
قوله: "منافق"، المنافق: هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، وهؤلاء ظهروا بعد غزوة بدر.
ولم يسم المنافق في هذا الحديث، فيحتمل أنه عبدالله بن أبي، لأنه مشهور بإيذاء المسلمين، ويحتمل غيره.
واعلم أن أذية المنافقين للمسلمين ليست بالضرب أو القتل، لأنهم يتظاهرون بمحبة المسلمين، ولكن بالقول والتعريض كما صنعوا في قصة الإفك.
قوله: "فقال بعضهم"، أي: الصحابة.
قوله: "نستغيث"، أي: نطلب الغوث وهو إزالة الشدة.
قوله: "من هذا المنافق"، إما بزجره، أو تعزيره، أو بما يناسب المقام.
وفي الحديث إيجاز حذف دل عليه السياق، أي: فقاموا إلى رسول الله، فقالوا: يا رسول الله! إنها نستغيث بك من هذا المنافق.
* * *
__________
(1) الطبراني في "المعجم الكبير"، كما في "معجم الزوائد" (10/159).(10/198)
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: { إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله }
قوله: "إنه لا يستغاث بي"، ظاهر هذه الجملة النفي مطلقاً، ويحتمل أن المراد: لا يستغاث به في هذه القضية المعينة.
فعلى الأول: يكون نفي الاستغاثة من باب سد الذرائع والتأدب في اللفظ، وليس من باب الحكم بالعموم، لأن نفي الاستغاثة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس على إطلاقه، بل تجوز الاستغاثة به فيما يقدر عليه.
أما إذا قلنا: إن النفي عائد إلى القضية المعينة التي استغاثوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - منها، فإنه يكون على الحقيقة، أي: على النفي الحقيقي، أي: لا يستغاث بي في مثل هذه القضية، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعامل المنافقين معاملة المسلمين، ولا يمكنه حسب الحكم الظاهر للمنافقين أن ينتقم من هذا المنافق انتقاماً ظاهراً، إذ إن المنافقين يستترون، وعلى هذا، فلا يستغاث للتخلص من المنافق إلا بالله.
* * *
فيه مسائل:
الأولى: أن عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص. الثانية: تفسير قوله: { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك } . الثالثة: أن هذا هو الشرك الأكبر.
فيه مسائل:
الأولى: أن عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص، يعني: حيث قال في الترجمة باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غير، ووجه ذلك في الاستغاثة طلب إزالة الشدة والدعاء طلب ذلك وغيره، إذاً الاستغاثة نوع من الدعاء، والدعاء أعم، فهو من باب عطف العام على الخاص، وهذا سائغ في اللغة العربية، فهو كقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم } [الحج: 77].
الثانية: تفسير قوله: { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك } ، الخطاب في هذه الآية للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة، بدليل الآيات التي قبلها، قال تعالى: { وأن أقم وجهك للدين حنيفاً ولا تكونن من المشركين } [يونس: 105].(10/199)
فإن قيل: كيف ينهاه الله عن أمر لا يمكن أن يقع منه شرعاً؟
أجيب: إن الغرض هو التنديد بمن فعل ذلك، كأنه يقول: لا تسلك هذا الطريق التي سلكها أهل الضلال، وإن كان الرسول لا يمكن أن يقع منه ذلك شرعاً.
الثالثة: أن هذا هو الشرك الأكبر، يؤخذ من قوله تعالى: { فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين } ، مضافاً إلى قوله تعالى: { إن الشرك لظلم عظيم } [لقمان: 13].
* * *
الرابعة: أن أصلح الناس لو فعله إرضاء لغيره، صار من الظالمين. الخامسة: تفسير الآية التي بعدها. السادسة: كون ذلك لا ينفع في الدنيا مع كونه كفراً. السابعة: تفسير الآية الثالثة. الثامنة: أن طلب الرزق لا ينبغي إلا من الله، كما أن الجنة لا تطلب إلا منه.
الرابعة: أن أصلح الناس لو فعله إرضاء لغيره، صار من الظالمين، تؤخذ من كون الخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو أصلح الناس، فلو فعل ذلك إرضاء لغيره، صار من الظالمين، حتى ولو فعله مجاملة لإنسان مشرك، فدعا صاحب قبر إرضاء لذلك المشرك، فإنه يكون مشركاً، إذا لا تجوز المحاباة في دين الله.
الخامسة تفسير الآية التي بعدها، وهي قوله تعالى: { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو...... } الآية [الأنعام: 17]، فإن كان لا يكشف الضر إلا الله، وجب أن تكون العبادة له وحده والاستغاثة به وحده.
السادسة: كون ذلك لا ينفع في الدنيا مع كونه كفراً، تؤخذ من قوله تعالى: { وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو } ، فلا ينتفع من دعائه هذا، فخسر الدنيا بذلك، والآخرة بكفر".
السابعة: تفسير الآية الثالثة، هي قوله تعالى: { فابتغوا عند الله الرزق } . وقوله
وقوله: { عند الله } حال من الرزق، وعليه يكون ابتغاء الرزق عند الله وحده.(10/200)
الثامنة: أن طلب الرزق لا ينبغي إلا من الله، كما أن الجنة لا تطلب إلا منه، { واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون } ، لأن العبادة سبب لدخول الجنة، وقد أشار الله إلى ذلك بقوله: { إليه ترجعون } .
* * *التاسعة: تفسير الآية الرابعة. العاشرة: أنه لا اضل ممن دعا غير الله. الحادية عشرة: أنه غافل عن دعاء لا يدري عنه. الثانية عشرة: أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي وعداوته له. الثالثة عشرة: تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو.
التاسعة: تفسير الآية الرابعة، وهي قوله تعالى: { ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة } [الأحقاف: 5].
العاشرة: أنه لا اضل ممن دعا غير الله، تؤخذ من قوله تعالى: { ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة } [الأحقاف: 5]، لأن الاستفهام هنا بمعنى النفي.
الحادية عشرة: أنه غافل عن دعاء الداعي لا يدري عنه، لقوله تعالى: { وهم عن دعائهم غافلون } ، { وهم } ، أي: المدعوون، { عن دعائهم } ، أي: دعاء الداعين، أو عن دعاء الداعين إياهم، فالاحتمال في الضمير الثاني وهو قوله: { عن دعائهم } ، أما الضمير الأول، فإنه يعود إلى المدعوين لا ريب، وقد سبق بيانه بالتفصيل.
الثانية عشرة: أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي وعداوته له، تؤخذ من قوله تعالى: { وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين } .
الثالثة عشرة: تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو، تؤخذ من قوله تعالى: { وكانوا بعبادتهم كافرين } .
* * *
الرابعة عشرة: كفر المدعو بتلك العبادة. الخامسة عشرة: هي سبب كونه أصل الناس. السادسة عشرة: تفسير الآية الخامسة. السابعة عشرة: الأمر العجيب، وهو إقرار عبدة الأوثان أنه لا يجيب المضطر إلا الله، ولأجل هذا يدعونه في الشدائد مخلصين له الدين.(10/201)
الرابعة عشرة: كفر المدعو بتلك العبادة، معنى كفر المدعو: رده وإنكاره، فإذا كان يوم القيامة تبرأ منه وأنكره. تؤخذ من قوله: { وكانوا بعبادتهم كافرين } .
الخامسة عشرة: هي سبب كونه أضل الناس، وذلك لأمور، هي:
أنه يدعو من دون الله من لا يستجيب له.
أن المدعوين غافلون عن دعائهم.
أنه إذا حشر الناس كانوا له أعداء.
أنه كافر بعبادتهم.
السادسة عشرة: تفسير الآية الخامسة، وهي قوله تعالى: { أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء } ، وقد سبق ذلك.
السابعة عشرة: الأمر العجيب، وهو إقرار عبدة الأوثان أنه لا يجيب المضطر إلا الله... إلخ، وهو كما قال رحمه الله: وهذا موجود الآن، فمن الناس من يسجد للأصنام التي صنعوها بأنفسهم تعظيماً، فإذا وقعوا في الشدة دعو الله مخلص له الدين، وكان عليهم أن يلجئوا للأصنام لو كانت عبادتها حقاً، إلا أن المشركين اليوم من هو أشد شركاً من المشركين السابقين، فإذا وقعوا في الشدة دعو أولياءهم، كعلي والحسين، وإذا كان الأمر سهلاً دعوا الله، وإذا حلفوا حلفاً هم فيه صادقون حلفوا بعلي أو غيره من أوليائهم، وإذا حلفوا حلفاً هم فيه كاذبون حلفوا بالله ولم يبالوا.
* * *
الثامنة عشرة: حماية المصطفى - صلى الله عليه وسلم - حمى التوحيد والتأدب مع الله.
الثامنة عشرة: حماية المصطفى حمى التوحيد، والتأدب مع الله. اختار المؤلف أن قوله: "لا يستغاث بي" من باب التأدب بالألفاظ، والبعد عن التعلق بغير الله، وأن يكون تعلق الإنسان دائماً بالله وحده، فهو يعلم الأمة أن تلجأ إلى الله وحده إذا وقعت في الشدائد، ولا تستغيث إلا به وحده.
* * *
باب قول الله تعالى:
{ أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون * ولا يستطيعون لهم نصراً } الآية [الأعراف: 191،192]
* مناسبة الباب لما قبله:(10/202)
لما ذكر رحمه الله الاستعاذة والاستغاثة بغير الله - عز وجل - ، ذكر البراهين الدالة على بطلان عبادة ما سوى الله، ولهذا جعل الترجمة لهذا الباب نفس الدليل، وذكر رحمه الله ثلاث آيات:
* * *
الآية الأولى والثانية قوله: { أيشركون } ، الاستفهام للإنكار والتوبيخ، أي: يشركونه مع الله.
قوله: { ما لا يخلق } ، هنا عبر بـ { ما } دون "من"، وفي قوله: { ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له } [الأحقاف: 5] عبر بـ { من } .
والمناسبة ظاهرة، لأن الداعين هناك نزلوهم منزلة العاقل، أما هنا، فالمدعو جماد، لأن الذي لا يخلق شيئاً ولا يصنعه جماد لا يفيد.
قوله: { شيئاً } ، نكرة في سياق النفي، فتفيد العموم.
قوله: { وهم يخلقون } ، وصف هذه الأصنام بالعجز والنقص.
والرب المعبود لا يمكن أن يكون مخلوقاً، بل هو الخالق، فلا يجوز عليه الحدوث ولا الفناء.
والمخلوق: حادث، والحادث يجوز عليه العدم، لأن ما جاز انعدامه أولاً، جاز عقلاً انعدامه آخراً.
فكيف يعبد هؤلاء من دون الله، إذ المخلوق هو بنفسه مفتقر إلى خالقه وهو حادث بعد أن لم يكن، فهو ناقص في إيجاده وبقائه؟!
* إشكال وجوابه:
قوله: { ما لا يخلق } الضمير بالإفراد، وقوله: { وهم يخلقون } الضمير بالجمع، فما الجواب؟
أجيب: بأن قوله: { ما لا يخلق } عاد الضمير على { ما } باعتبار اللفظ، لأن { ما } اسم موصول، لفظها مفرد، لكن معناها الجمع، فهي صالحة بلفظها للمفرد، وبمعناها للجمع، كقوله: { من لا يستجيب له } .
وقوله: { وهم يخلقون } عاد الضمير على { ما } باعتبار المعنى، كقوله: { وهم عن دعائهم غافلون } .
قوله: { ولا يستطيعون لهم نصراً } ، أي: لا يقدرون على نصرهم لو هاجمهم عدو، لأن هؤلاء المعبودين قاصرون.
والنصر: الدفع عن المخذول بحيث ينتصر على عدوه.(10/203)
قوله: { ولا أنفسهم ينصرون } ، بنصب أنفسهم على أنه مفعول مقدم، وليس من باب الاشتغال، لان العامل لم يشتغل بضمير السابق.
أي: زيادة على ذلك هم عاجزون عن الانتصار لأنفسهم، فكيف ينصرون غيرهم؟!
فبين الله عجز هذه الأصنام، وأنها لا تصلح أن تكون معبودة من أربعة وجوه، هي:
أنها لا تخلق، ومن لا يخلق لا يستحق أن يعبد.
أنهم مخلوقون من العدم، فهم مفتقرون إلى غيرهم ابتداءً ودواماً.
أنهم لا يستطيعون نصر الداعين لهم، وقوله: { لا يستطيعون } أبلغ من قوله: "لا ينصرونهم"، لأنه لو قال: "لا ينصرونهم"، فقد يقول قائل: لكنهم يستطيعون، لكن لما قال: { لا يستطيعون لهم نصراً } كان أبلغ لظهور عجزهم.
أنهم لا يستطيعون نصر أنفسهم.
* * *
وقوله: { والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير } الآية [فاطر: 13].
الآية الثالثة قوله: { والذين تدعو من دونه } .
يشمل دعاء المسألة، ودعاء العبادة، و { من دونه } ، أي: سوى الله.
قوله: { ما يملكون من قطمير } ، { ما } : نافية، { من } حرف جر زائد لفظاً، وقيل: لا ينبغي أن يقال: حرف جر زائد في القرآن، بل يقال: من: حرف صلة، وهذا فيه نظر، لأن الحروف الزائدة لها معنى، وهو التوكيد، وإنما يقال: زائد من حيث الإعراب، وجملة { ما يملكون } خبر المبتدأ الذي هو { الذين } .
وقوله: { من قطمير } ، القطمير: سلب نواة التمرة.
وفي النواة ثلاثة أشياء ذكرها الله في القرآن لبيان حقارة الشيء.
القطمير: وهو اللفافة الرقيقة التي على النواة.
الفتيل: وهو سلك يكون في الشق الذي في النواة.
النقير: وهي النقرة التي تكون على ظهر النواة.
فهؤلاء لا يملكون من قطمير، فإن قيل: أليس الإنسان يملك النخل كله كاملاً؟
أجيب: إنه يملكه، ولكنه ملك ناقص ليس حقيقياً، فلا يتصرف فيه إلا على حسب ما جاء به الشرع، فلا يملك مثلاً إحراقه للنهي عن إضاعة المال.(10/204)
قوله: { إن تدعوهم } ، جملة شرطية، تدعو: فعل الشرط مجزوم بحذف النون، والواو فاعل، وأصلها: تدعونهم.
قوله: { لا يسمعوا دعاءكم } جواب الشرط مجزوم بحذف النون، والواو فاعل.
قوله: { ولو سمعوا ما استجابوا لكم } ، أي: إن هذه الأصنام لو دعوتموها ما سمعت، ولو فرض أنها سمعت ما استجابت، لأنها لا تقدر على ذلك، ولهذا قال إبراهيم عليه السلام لأبيه: { يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً } [مريم: 42]
فإذا كانت كذلك، فأي شيء يدعو إلى أن تدعى من دون الله؟! بل هذا سفه، قال تعالى: { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } [البقرة: 130].
قوله: { ويوم القيامة يكفرون بشرككم } هو كقوله تعالى: { وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين } [الأحقاف: 6].
فهؤلاء المعبودون إن كانوا يبعثون ويحشرون، فكفرهم بشركهم ظاهر كمن يعبد عزيزاً والمسيح.
وإن كانوا أحجاراً وأشجاراً ونحوها، فيحتمل أن يشملها ظاهر الآية، وهو أن الله يأتي بهذه الأحجار ونحوها، فتكفر بشرك من يشرك بها، ويؤيده قوله تعالى: { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } [الأنبياء: 98]، وما ثبت في "الصحيحين" عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه عند بعث الناس يقال لكل أمة: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد من دون الله"(1)، فالحجر يكون أمامهم يوم القيامة، ويكون له كلام ينطق به، ويكفر بشركهم، فإذا كانت المعبودات تحضر وتحصب في النار إهانة لعابديها وتحضر لتتبع إلى النار، فلا غرو أن تكفر بعابديها إذا أحضرت.
__________
(1) البخاري: كتاب التوحيد/ باب قول الله تعالى: { وجوه يومئذ ناضرة } ، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب معرفة طريق الرؤية.(10/205)
قوله: { ولا ينبئك مثل خبير } [فاطر: 14]، هذا مثال يضرب لمن أخبر بخبر ورأى شكاً عند من خاطبه به، فيقول: ولا ينبئك مثل خبير، ومعناه: إنه لا يخبرك بالخبر مثل خبير به، وهو الله، لأنه لا يعلم أحد ما يكون في يوم القيامة إلا الله، وخبره خبر صدق، لأن الله تعالى يقول: { ومن أصدق من الله قيلاً } [النساء: 122].
والخبير: العالم ببواطن الأمور.
* مسألة:
هل يسمع الأموات السلام ويردونه على من سلم عليهم؟
اختلف في ذلك على قولين:
القول الأول: أن الأموات لا يسمعون السلام، وأن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - حين زيارة القبور: "السلام عليكم" دعاء لا يقصد به المخاطبة، ثم على فرض أنهم يسمعون كما جاء الحديث الذي صححه ابن عبد البر وأقره ابن القيم: "بأن الإنسان إذا سلم على شخص يعرفه في الدنيا رد الله عليه روحه فرد السلام"(1)، وعلى تقدير صحة هذا الحديث إذا كانوا يسمعون السلام ويردونه، فلا يلزم أن يسمعوا كل شيء، ثم لو فرض أنهم يسمعون غير السلام، فإن الله صرح بأن المدعوين من دون الله لا يسمعون دعاء من يدعونهم، فلا يمكن أن نقول: إنهم يسمعون دعاء من يدعون، لأن هذا كفر بالقرآن، فتبين هذا أنه لا تعارض بين قوله - صلى الله عليه وسلم -: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين"(2)، وبين هذه الآية.
وأما قوله: { ولو سمعوا } ، فمعناه، لو سمعوا فرضاً ما استجابوا لكم، لأنهم لا يستطيعون.
القول الثاني: أن الأموات يسمعون.
واستدلوا على ذلك بالخطاب الواقع في سلام الزائر لهم بالمقبرة.
__________
(1) ذكره السيوطي في "الجامع الصغير"، 2/151، وابن عبد البر في "الاستذكار"، 2/164، وانظر "الروح" لابن القيم (1/167)، وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (24/331)
(2) مسلم: كتاب الجنائز/ باب ما يقال عند دخول القبور.(10/206)
وبما ثبت في "الصحيح" من أن المشيعين إذا انصرفوا سمع المشيع قرع نعالهم(1).
والجواب عن هذين الدليلين: أما الأول، فإنه لا يلزم من السلام عليهم أن يسمعوا، ولهذا كان المسلمون يسلمون على النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته في التشهد(2)، وهو لا يسمعهم قطعاً.
أما الثاني، فهو وارد في وقت خاص، وهو انصراف المشيعين بعد الدفن، وعلى كل، فالقولان متكافئان، والله أعلم بالحال.
* * *
وفي الصحيح، عن أنسٍ قال: شج النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، وكسرت رباعيته، فقال: "كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟"، فنزلت: { ليس لك من الأمر شيء } [آل عمران: 128](3).
قوله: "وفي الصحيح"، سبق الكلام على مثل هذا التعبير.
قوله: "أحد"، جبل معروف شمالي المدينة، ولا يقال: المنورة، لأن كل بلد دخله الإسلام فهو منور بالإسلام، ولأن ذلك لم يكن معروفاً عند السلف، وكذلك جاء اسمها في القرآن بالمدينة فقط، لكن لو قيل: المدنية النبوية لحاجة تمييزها، فلا بأس، وهذا الجبل حصلت فيه وقعة في السنة الثالثة من الهجرة في شوال هزم فيها المسلمون بسبب ما حصل منهم من مخالفة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما أشار الله إلى ذلك بقوله: { حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون } [آل عمران: 152]، وجواب الشرط محذوف تقديره: حصل لكم ما تكرهون.
وقد حصلت هزيمة المسلمين لمعصية واحدة، ونحن الآن نريد الانتصار والمعاصي كثيرة عندنا، ولهذا لا يمكن أن نفرح بنصرٍ ما دمنا على هذه الحال، إلا أن يرفق الله بنا ويصلحنا جميعاً.
__________
(1) البخاري/ كتاب الجنائز/باب الميت يسمع خفق النعال، ومسلم: كتاب الجنة ونعيمها/باب عرض مقعد الميت... .
(2) البخاري/ كتاب الاستئذان/ باب السلام اسم من أسماء الله تعالى، ومسلم: كتاب الصلاة/ باب التشهد في الصلاة.
(3) البخاري تعلقاً (الفتح، 7/365)، ومسلم موصولاً: كتاب الجهاد/ باب غزوة أحد.(10/207)
فوله: "شج"، الشجة: الجرح في الرأس والوجه خاصة.
قوله: "وكسرت رباعيته"، السنان المتوسطان يسميان ثنايا، وما يليهما يسميان رباعيتين. قوله فقال كيف يفلح قوم شجوا نبيهم صلى الله عليه وسلم قوله (يُفلح) من الفلاح وهو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب.
قوله: "فنزلت: { ليس لك من الأمر شيء } "، أي: نزلت هذه الآية، والخطاب فيها للرسول - صلى الله عليه وسلم -.
و { شيء } : نكرة في سياق النفي، فتعم.
قوله: { الأمر } ، أي: الشأن، والمراد: شأن الخلق، فشأن الخلق إلى خالقهم، حتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس له فيهم شيء.
ففي الآية خطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد شج وجهه، وكسرت رباعيته، ومع ذلك ما عذره الله - سبحانه - في كلمة واحدة: "كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟"، فإذا كان الأمر كذلك، فما بالك بمن سواه؟ فليس لهم من الأمر شيء، كالأصنام، والأوثان، والأولياء، والأنبياء، فالأمر كله لله وحده، كما أنه الخالق وحده، والحمد لله الذي لم يجعل أمرنا إلى أحد سواه، لأن المخلوق لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فكيف يملك لغيره؟
ونستفيد من هذا الحديث أنه يجب الحذر من إطلاق اللسان فيما إذا رأى الإنسان مبتلى بالمعاصي، فلا نستبعد رحمة الله منه، فإن الله تعالى قد يتوب عليه.
فهؤلاء الذين شجوا نبيهم لما استبعد النبي - صلى الله عليه وسلم - فلاحهم، قيل له: { ليس لك من الأمر شيء } .
والرجل المطيع الذي يمر بالعاصي من بني إسرائيل ويقول: "والله، لا يغفر الله لفلان. قال الله له: من ذا الذي يتألى علي على أن لا أغفر لفلان؟ قد غفرت له وأحبطت عملك"(1)، فيجب على الإنسان أن يمسك اللسان لأن زلته عظيمة، ثم إننا نشاهد أو نسمع قوماً كانوا من أكفر عباد الله وأشدهم عداوة انقلبوا أولياء لله، فإذا كان كذلك، فلماذا نستبعد رحمة الله من قوم كانوا عتاة؟!
__________
(1) مسلم: كتاب البر والصلة/ باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله.(10/208)
وما دام الإنسان لم يمت، فكل شيء ممكن، كما أن المسلم - نسأل الله الحماية - قد يزيغ قلبه لما كان فيه من سريرة فاسدة.
فالمهم أن هذا الحديث يجب أن يتخذ عبرة للمعتبر في أنك لا تستبعد رحمة الله من أي إنسان كان عاصياً.
قوله: "فنزلت"، الفاء للسببية، وعليه، فيكون سبب نزول هذه الآية هذا الكلام: "كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم؟".
* * *
وفيه: عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول - إذا رفع رأسه من الركون في الركعة الأخيرة من الفجر - : "اللهم العن فلاناً وفلاناً" بعدما يقول: سمع الله لمن حمده، "ربنا ولك الحمد"، فأنزل الله: { ليس لك من الأمر شيء(1) } .
* * *
وفي رواية يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث ابن هشام، فنزلت: { ليس لك من الأمر شيء } (2)
قوله: "وفيه"، أي الصحيح.
قوله: "إذا رفع رأسه من الركون في الركعة الأخيرة من الفجر"، قيد مكان الدعاء من الصلوات بالفجر، ومكانه من الركعات بالأخيرة، ومكانه من الركعة بما بعد الرفع من الركوع.
قوله: "يقول: اللهم العن فلاناً وفلاناً" اللعن: الطرد والإبعاد عن رحمة الله، أي: أبعدهم عن رحمتك، واطردهم منها.
و"فلاناً وفلاناً": بينه من الرواية الثانية أنهم: صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام.
قوله: "بعدما يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد"، أي: يقول ذلك إذا رفع رأسه وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد.
__________
(1) البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة/باب { ليس لك من الأمر شيء } .
(2) البخاري: كتاب المغازي/ باب { ليس لك من الأمر شيء } مرسلاً، ووصله الإمام أحمد في "المسند" 2/93.(10/209)
قوله: "فأنزل الله: { ليس لك من الأمر شيء } "، هنا قال: "فأنزل"، وفي الحديث السابق قال: "فنزلت"، وكلها بالفاء، وعلى هذا يكون سبب نزول الآية دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - على هؤلاء، وقوله: "كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟"، ولا مانع أن يكون لنزول الآية سببان.
وقد أسلم هؤلاء الثلاثة وحسن إسلامهم رضي الله عنهم، فتأمل الآن أن العداوة قد تنقلب ولاية، لان القلوب بيد الله – سبحانه وتعالى - ، ولو أن الأمر كان على ظن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لبقي هؤلاء على الكفر حتى الموت، إذ لو قبلت الدعوة عليهم، وطردوا عن الرحمة، لم يبق إلا العذاب.
ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس له من الأمر شيء، فالأمر كله لله، ولهذا هدى الله هؤلاء القوم، وصاروا من أولياء الله الذابين عن دينه، بعد أن كانوا من أعداء الله القائمين ضده، ولله - سبحانه - يمن على من يشاء من عباده.
وليس بعيداً من ذلك قصة أصيرم بن عبد الأشهل الأنصاري، حيث كان معروفاً بالعداوة لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلما جاءت وقعة أحد ألقى الله الإسلام في قلبه دون أن يعلم به النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أحد من قومه، وخرج للجهاد وقتل شهيداً، فلما انتهت المعركة جعل الناس يتفقدون قتلاهم، فإذا هو في آخر رمق، فقالوا: ما جاء بك يا فلان؟ أحدب على قومك، أم رغبة في الإسلام؟ قال: بل رغبة في الإسلام، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فأخبروا عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فأخبروه، فقال: "هو من أهل الجنة"، فهذا الرجل لم يصل لله ركعة واحدة، ومع هذا جعله الله من أهل الجنة، فالله حكيم يهدي من يشاء لحكمة، ويضل من يشاء لحكمة، فالمهم أننا لا نستبعد رحمة الله - عز وجل - من أي إنسان.
* * *(10/210)
وفيه: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أنزل عليه: { وأنذر عشيرتك الأقربين } [الشعراء: 214]، فقال: "يا معشر قريش (أو كلمة نحوها) اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً. يا عباس بن عبدالمطلب لا أغني عنك من الله شيئاً يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئاً. ويا فاطمة بنت محمد إسليني من مالي ما شئت لا أغني عنكِ من الله شيئاً.
قوله: "قام"، أي: خطيباً.
قوله: "أنزل عليه"، أي: أنزل عليه بواسطة جبريل: { وأنذر عشيرتك } [الشعراء: 214].
قوله: { أنذر } ، أي: حذر وخوف، والإنذار: الإعلام المقرون بتخويف.
قوله: { عشيرتك } ، العشيرة: قبيلة الرجل من الجد الرابع فما دون.
قوله: { الأقربين } ، أي: الأقرب فالأقرب، فأول من يدخل في عشيرة الرجل أولاده، ثم آباؤه، ثم إخواته، ثم أعمامه، وهكذا.
ويؤخذ من هذا أن الأقرب فالأقرب أولى بالإنذار، لأن الحكم المعلق على وصف يقوى بقوة هذا الوصف، وذلك أن الوصف الموجب للحكم كلما كان أظهر وأبين، كان الحكم فيه أظهر وأبين.
وقوله: "حين أنزل عليه" يفيد أنه لم يتأخر - صلى الله عليه وسلم -، بل قام، فقال: "يا معشر قريش!"، أي: يا جماعة قريش.
وقريش: هو فهر بن النضر بن مالك، أحد أجداد الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: "أو كلمة نحوها"، أي: أو قال كلمة نحوها، أي شبهها، وهذا من احتراز الرواة أنهم إذا شكوا أدنى شك قالوا: أو كما قال، أو كلمة نحوها، وما أشبه ذلك! وعليه فـ"أو": للشك والتردد.
قوله: "اشتروا أنفسكم"، أي: أنقذوها، لأن المشتري نفسه كأنه أنقذها من هلاك، والمشتري راغب، ولهذا عبر بالاشتراء كأنه يقول: اشتروا أنفسكم راغبين.
وفي قوله: "اشتروا أنفسكم" من الحض على هذا الأمر ما هو ظاهر، لأن المشتري يكون راغباً.(10/211)
قوله: "لا أغني عنكم من الله شيئاً"، هذا هو الشاهد، أي: لا أدفع أو لا أنفع، أي: لا أنفعكم بدفع شيء عنكم دون الله، ولا أمنعكم من شيء أراده الله لكم، لأن الأمر بيد الله، ولهذا أمر الله نبيه بذلك، فقال: { قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً * قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دون ملتحداً } [الجن: 21،22].
قوله: "شيئاً"، نكرة في سياق النفي، فتعم أي شيء.
قوله: "يا عباس بن عبد المطلب"، هو عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعبد المطلب جد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعباس، بالضم، لأن المنادى إذا كان معرفة يبنى على الضم، ونعته إذا كان مضافاً ينصب، وهنا ابن عبد المطلب مضاف، ولهذا نصب.
فإن قيل: كيف يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: عبد المطلب مع أنه لا يجوز أن يضاف عبد إلا إلى الله - عز وجل ـ؟
فالجواب: إن هذا ليس إنشاء، بل هو خبر، فاسمه عبد المطلب، ولم يسمه النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن اشتهر بعبد المطلب ، ولهذا انتمى إليه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقال:
أنا النبي لا كذب ... ... ... ... ... أنا ابن عبد المطلب(1)
فلو فرض أن لك أباً يسمى عبد المطلب، أو عبد العزى، فإنك تنتسب إليه، ولا يعد هذا إقراراً، ولكنه خبر عن أمر واقع، كما لو قلت: كفر فلان، نافق فلان، وما أشبه ذلك، ولكن إذا كان موجوداً غيرنا اسمه إذا كان لا يجوز.
قوله: "لا أغني عنك من الله شيئاً"، أي: لا أنفعك بشيء دون الله، ولا أمنعك من شيء أراده الله لك، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يغني عن أحد شيئاً حتى عن أبيه وأمه.
قوله: "يا صفية عمة رسول الله!"، يقال في إعرابها كما قيل في عباس بن عبد المطلب.
__________
(1) البخاري: كتاب الجهاد/ باب من صف أصحابه عند الهزيمة، ومسلم: كتاب الجهاد/ باب غزوة حنين.(10/212)
قوله: "يا فاطمة بنت محمد! سليني من مالي ما شئت"، أي: اطلبي من مالي ما شئت، فلن أمنعك لأنه - صلى الله عليه وسلم - مالك لماله، ولكن بالنسبة لحق الله قال: "لا أغني عنك من الله شيئاً".
فهذا كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - لأقاربه الأقربين: عمه، وعمته، وابنته، فما بالك بمن هم أبعد؟! فعدم إغنائه عنهم شيئاً من باب أولى، فهؤلاء الذين يتعلقون بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ويلوذون به ويستجيرون به الموجودون في هذا الزمن وقبله قد غرهم الشيطان واجتالهم عن طريق الحق، لأنهم تعلقوا بما ليس بمتعلق، إذ الذي ينفع بالنسبة للرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الإيمان به واتباعه.
أما دعاؤه والتعلق به ورجاؤه فيما يؤمل، وخشيته فيما يخاف منه، فهذا شرك بالله، وهو مما يبعد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعن النجاة من عذاب الله.
ففي الحديث امتثال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمر ربه في قوله تعالى: { وأنذر عشيرتك الأقربين } [الشعراء: 214]، فإنه قام بهذا الأمر أتم القيام، فدعا وعم وخصص، وبيَّن أنه لا ينجي أحداً من عذاب الله بأي وسيلة، بل الذي ينجي هو الإيمان به واتباع ما جاء به.
وإذا كان القرب من النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يغني عن القريب شيئاً، دل ذلك على منع التوسل بجاه النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن جاه النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينتفع به إلا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا كان أصح قولي أهل العلم تحريم التوسل بجاه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيتين. الثانية: قصة أحد. الثالثة: قنوت سيد المرسلين وخلفه سادات الأولياء يؤمنون في الصلاة.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيتين، وهما آيتا الأعراف، وسبق ذلك في أول الباب، والاستفهام فيهما للتوبيخ والإنكار، وكذلك سبق تفسير الآية الثالثة آية فاطر.(10/213)
الثانية: قصة أحد، يعني: حيث شج النبي - صلى الله عليه وسلم -... الحديث.
الثالثة: قنوت سيد المرسلين... إلخ، أراد المؤلف بهذه المسألة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سيد المرسلين، وأصحابه سادت الأولياء، ومع هذا ما أنقذوا أنفسهم، فكيف ينقذون غيرهم؟ وليس مراده رحمه الله مجرد إثبات القنوت والتأمين عليه، ولهذا جاءت العبارات بسيد وسادات، فلا أحد من هذه الأمة أقرب إلى الله من الرسول وأصحابه، ومع ذلك يلجئون إلى الله - سبحانه - في كشف الكربات، ومن كانت هذه حاله، فكيف يمكن أن يلجأ إليه في كشف الكربات؟ فليس مراد المؤلف إثبات مسألة فقهية.
* * *
الرابعة: أن المدعو عليهم كفار.
الرابعة: أن المدعو عليهم كفار، تؤخذ من قوله تعالى: { أو يتوب عليهم } ، فهذا دليل على أنهم الآن ليسوا على حال مرضية، ومن المعلوم أن صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام وقت الدعاء عليهم كانوا كفاراً.
وهذه المسألة - أي أن المدعو عليهم كفار - ترمي إلى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإن كان يرى أنه دعا عليهم بحق، فقد قطع الله - سبحانه وتعالى - أن يكون له من الأمر شيء لأنه قد يقول قائل: إذا كانوا كفاراً، أليس يملك الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو عليهم؟.
نقول: حتى في هذه الحال لا يملك من أمرهم شيئاً، هذا وجه قول المؤلف أن المدعو عليهم كفار، وليس مراده الإعلام بكفرهم، لأن هذا معلوم لا يستحق أن يعنون له، بل المراد في هذه الحال الذي كان هؤلاء كفاراً لم يملك النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً بالنسبة إليهم.
* * *
الخامسة: أنهم فعلوا أشياء ما فعلها غالب الكفار، منها: شجهم نبيهم، وحرصهم على قتله، ومنها التمثيل بالقتلى مع أنهم بنو عمهم. السادسة: أنزل الله عليه في ذلك: { ليس لك من الأمر شيء } . السابعة: قوله: { أو يتوب عليهم أو يعذبهم } ، فتاب عليهم، فآمنوا.(10/214)
الخامسة: أنهم فعلوا أشياء ما فعلها غالب الكفار، أي: إنهم مع كفرهم كانوا معتدين، ومع ذلك قيل له في حقهم: { ليس لك من الأمر شيء } ، وإلا، فهم شجوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومثلوا بالقتلى مثل حمزة بن عبد المطلب، وكذلك أيضاً حرصوا على قتل النبي - صلى الله عليه وسلم -، مع أن كل هؤلاء فيهم من بني عمهم، وفيهم من الأنصار.
السادسة: أنزل الله عليه في ذلك: { ليس لك من الأمر شيء } ، أي: مع ما تقدم من الأمور التي تقتضي أن يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم - حق بأن يدعو عليهم أنزل الله: { ليس لك من الأمر شيء } ، فالأمر لله وحده، فإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد قطع عنه هذا الشيء، فغيره من باب أولى.
السابعة: قوله: { أو يتوب عليهم } ، فتاب عليهم، فآمنوا، وهذا دليل على كمال سلطان الله وقدرته، فهؤلاء الذين جرى منهم ما جرى تاب الله عليهم وآمنوا، لأن الأمر كله بيده سبحانه، وهو الذي يذل من يشاء ويعز من يشاء، ومن ذلك ما جرى من عمر رضي الله عنه قبل إسلامه من العداوة الظاهرة للإسلام، وما جرى منه بعد إسلامه من الولاية والنصرة لدين الله تعالى، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن دونه لا يستطيعون أن يغيروا شيئاً من أمر الله.
* * *
الثامنة: القنوت في النوازل.
الثامنة: القنوت في النوازل، وهذه هي المسألة الفقهية، فإذا نزل بالمسلمين نازلة، فإنه ينبغي أن يدعى لهم حتى تنكشف.(10/215)
وهذا القنوت مشروع في كل الصلوات، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي رواه أحمد وغيره(1)، إلا أن الفقهاء رحمهم الله استثنوا الطاعون، وقالوا: لا يقنت له لعدم ورود ذلك، وقد وقع في عهد عمر(2) رضي الله عنه ولم يقنت، ولأنه شهادة، فلا ينبغي الدعاء برفع سبب الشهادة.
وظاهر السنة أن القنوت إنما يشرع في النوازل التي تكون من غير الله، مثل: إيذاء المسلمين والتضييق عليهم، أما ما كان من فعل الله، فإنه يشرع له ما جاءت به السنة، مثل الكسوف، فيشرع له صلاة الكسوف، والزلازل شرع لها صلاة الكسوف كما فعل ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: هذه صلاة الآيات، والجدب يشرع له الاستسقاء، وهكذا.
وما علمت لساعتي هذه أن القنوت شرع لأمر نزل من الله، بل يدعى له بالأدعية الواردة الخاصة، لكن إذا ضيق على المسلمين وأوذوا وما أشبه ذلك، فإنه يقنت اتباعاً للسنة في هذا الأمر.
ثم من الذي يقنت، الإمام الأعظم، أو إمام كل مسجد، أو كل مصل؟
المذهب: أن الذي يقنت هو الإمام الأعظم فقط الذي هو الرئيس الأعلى للدولة.
وقيل: يقنت كل إمام مسجد.
وقيل: يقنت كل مصل، وهو الصحيح، لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي"(3)، وهذا يتناول قنوته - صلى الله عليه وسلم - عند النوازل.
* * *
التاسعة: تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم.
التاسعة: تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم، وهم: صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، فسماهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، لكن هل هذا مشروع أو جائز؟
__________
(1) مسند الإمام أحمد (1/301)، والحاكم (1/255)، وصححه ووافقه الذهبي.
(2) البخاري: كتاب الحيل/ باب ما يكره من الاحتيال في القرار من الطاعون.....، ومسلم: كتاب السلام/ باب الطاعون والطيرة.
(3) البخاري: كتاب الآذان/ باب الآذان للمسافرين.(10/216)
الجواب: هذا جائز، وعليه، فإذا كان في تسمية المدعو عليهم مصلحة، كانت التسمية أولى، ولو دعا إنسان لأناس معينين في الصلاة جاز، لأنه لا يعد من كلام الناس، بل هو دعاء، والدعاء مخاطبة الله تعالى، ولا يدخل في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس"(1).
مسألة: هل الذي نهي عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - الدعاء أو لعن المعينين؟
الجواب: المنهي عنه هو لعن الكفار في الدعاء على وجه التعيين، أما لعنهم عموماً، فلا بأس به، وقد ثبت عن أبي هريرة أنه كان يقنت ويلعن الكفرة عموماً، ولفط ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: "لأقربن صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الأخرى من صلاة الظهر وصلاة العشاء وصلاة الصبح بعدما يقول: سمع الله لمن حمده، فيدعو للمؤمنين ويلعن الكفار"(2)، ولا بأس بدعائنا على الكافر بقولنا: اللهم! أرح المسلمين منه، واكفهم شره، واجعل شره في نحره، ونحو ذلك.
أما الدعاء بالهلاك لعموم الكفار، فإنه محل نظر، ولهذا لم يدع النبي - صلى الله عليه وسلم - على قريش بالهلاك، بل قال: "اللهم! عليك بهم، اللهم! اجعلها عليهم سنين كسني يوسف"(3)، وهذا دعاء عليهم بالتضييق، والتضييق قد يكون من مصلحة الظالم بحيث يرجع إلى الله عن ظلمه.
فالمهم أن الدعاء بالهلاك لجميع الكفار عندي تردد فيه.
__________
(1) مسلم: كتاب المساجد/ باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته.
(2) البخاري: كتاب صفة الصلاة/ باب فضل اللهم ربنا ولك الحمد، ومسلم: كتاب المساجد/ باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة.
(3) البخاري: كتاب الاستسقاء/ باب دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اجعلها عليهم سنين كسني يوسف"، ومسلم: كتاب المساجد/ باب استحباب القنوت... .(10/217)
وقد يستدل بدعاء خبيب حيث قال: "اللهم أحصهم عدداً، ولا تبق منهم أحداً"(1) على جواز ذلك، لأنه وقع في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ولن الأمر وقع كما دعا، فإنه ما بقي منهم أحد على رأس الحول، ولم ينكر الله تعالى ذلك، ولا أنكره النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل إن إجابة الله دعاءه يدل على رضاه به وإقراره عليه.
فهذا قد يستدل به على جواز الدعاء على الكفار بالهلاك، لكن يحتاج أن ينظر في القصة، فقد يكون لها أسباب خاصة لا تتأتى في كل شيء.
ثم إن خبيباً دعا بالهلاك لفئة محصورة من الكفار لا لجميع الكفار.
وفيه أيضاً إن صح الحديث: دعاؤه على عتبة بن أبي لهب: "اللهم! سلط عليه كلباً من كلابك"(2)، فيه دليل على الدعاء بالهلاك، لكن هذا على شخص معين لا على جميع الكفار.
* * *
العاشرة: لعن المعين في القنوت. الحادية عشرة: قصته - صلى الله عليه وسلم - لما أنزل عليه: { وأنذر عشيرتك الأقربين } . الثانية عشرة: جده - صلى الله عليه وسلم - في هذا الأمر، بحيث فعل ما نسب بسببه إلى الجنون، وكذلك لو يفعله مسلم الآن.
العاشرة: لعن المعين في القنوت، هذا غريب، فإن أراد المؤلف رحمه الله أن هذا أمر وقع، ثم نهي عنه، فلا إشكال، وإن أراد أنه يستفاد من هذا جواز لعن المعين في القنوت أبداً، فهذا فيه نظر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهي عن ذلك.
الحادية عشرة: قصته - صلى الله عليه وسلم - لما أنزل: { وأنذر عشيرتك الأقربين } ، وهي أنه لما نزلت عليه الآية نادى قريشاً، فعم، ثم خصص، فامتثل أمر الله في هذه الآية.
__________
(1) البخاري: كتاب المغازي/ باب فضل من شهد بدراً.
(2) الحاكم في "المستدرك" (كتاب التفسير، تفسير سورة أبي لهب، 2/539)، وقال: "صحيح الإسناد"، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.(10/218)
الثانية عشرة: جده - صلى الله عليه وسلم - في هذا الأمر، بحيث فعل ما نسب بسببه إلى الجنون، أي: اجتهاده - صلى الله عليه وسلم - في هذا الأمر، بحيث قالوا: إن محمداً جن، كيف يجمعنا ويناديناً هذا النداء؟
وقوله: "وكذلك لو يفعله مسلم الآن"، أي: لو أن إنساناً جمع الناس، ثم قام يحذرهم كتحذير النبي - صلى الله عليه وسلم -، لقالوا: مجنون، إلا إذا كان معتاداً عند الناس، قال تعالى: { وتلك الأيام نداولها بين الناس } [آل عمران: 140]، وقال تعالى: { يقلب الله الليل والنهار } [النور: 44]، فهذا يختلف باختلاف البلاد والزمان، ثم أنه يجب على الإنسان أن يبذل جهده واجتهاده في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قام بهذا الأمر ولم يبال بما رمي به من الجنون.
* * *
الثالثة عشرة: قوله للأبعد والأقرب: "لا أغني عنك من الله شيئاً"، حتى قال: "يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئاً". فإذا صرح وهو سيد المرسلين بأنه لا يغني شيئاً عن سيدة نساء العالمين، وآمن الإنسان بأنه لا يقول إلا الحق، ثم نظر فيما وقع في قلوب خواص الناس اليوم، تبين له ترك التوحيد وغربة الدين.
الثالثة عشرة: قوله للأبعد والأقرب: "لا أغنى عنك من الله شيئاً"، صدق رحمه الله فيما قال، فإنه إذا كان هذا القائل سيد المرسلين، وقاله لسيدة نساء العالمين، ثم نحن نؤمن أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يقول إلا الحق، وأنه لا يغني عن ابنته شيئاً، تبين لنا الآن أن ما يفعله خواص الناس ترك للتوحيد، لأنه يوجد أناس خواص يرون أنفسهم علماء، ويراهم من حولهم علماء وأهلاً للتقليد، يدعون الرسول - صلى الله عليه وسلم - لكشف الضر وجلب النفع دعوة صريحة، ويرددون:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... ... ... سواك عند حلول الحادث العمم(10/219)
وغير ذلك من الشرك، وإذا أنكر عليهم ذلك ردوا على المنكر بأنه لا يعرف حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومقامه عند الله،وأنه سيد الكون، وما خلقت الجن والإنس إلا من أجله، وأنه خلق من نور العرش، ويلبسون بذلك على العامة، فيصدقهم البعض لجهلهم، ولو جاءهم من يدعوهم إلى التوحيد لم يستجيبوا له، لأن سيدهم وعالمهم على خلاف التوحيد، { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك } [البقرة: 145]، ثم إن المؤمن عاطفته وميله للرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر لا ينكر، لكن الإنسان لا ينبغي له أن يحكم العاطفة، بل يجب عليه أن يتبع ما دل عليه الكتاب والسنة وأيده العقل الصريح السلام من الشبهات والشهوات.
ولهذا نعى الله - سبحانه - على الكفار الذين اتبعوا ما ألفوا عليه آباءهم بأنهم لا يعقلون، وكلام المؤلف حق، فإن من تأمل ما عليه الناس اليوم في كثير من البلدان الإسلامية تبين له ترك التوحيد وغربة الدين.
* * *
باب قول الله تعالى:
{ حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير } [سبأ: 23]
* مناسبة الترجمة:
أن هذا من البراهين الدالة على أنه لا يستحق أحد أن يكون شريكاً مع الله، لأن الملائكة وهم أقرب ما يكون من الخلق لله - عز وجل ـ، ما عدا خواص بني آدم يحصل منهم عند كلام الله - سبحانه - الفزع.
* * *
قوله تعالى: { حتى إذ فزع عن قلوبهم } ، قال ذلك ولم يقل: "فزعت قلوبهم"، إذ "عن" تفيد المجاوزة، والمعنى: جاوز الفزع قلوبهم، أي: أزيل الفزع عن قلوبهم.
والفزع: الخوف المفاجئ، لأن الخوف المستمر لا يسمى فزعاً.
وأصله: النهوض من الخوف.
وقوله تعالى: { عن قلوبهم } ، أي: قلوب الملائكة، لأن الضمير يعود عليهم بدليل ما سيأتي من حديث أبي هريرة، ولا أحد من الخلق أعلم بتفسير القرآن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.(10/220)
قوله تعالى: { قالوا ماذا قال ربكم } جواب الشرط، والمعنى: قال بعضهم لبعض: وإنما قلنا ذلك لأن في الكلام قائلاً ومقولاً له، فلو جعلنا الضمير في قالوا عائداً على الجميع، فأين المقول له؟ والمعنى: أي شيء قال ربكم؟
وإعراب ماذا على أوجه:
ما: اسم استفهام مبتدأ، وذا: اسم موصول خبر، أي: ما الذي.
ماذا: اسم استفهام مركب من ما و ذا.
ما اسم استفهام، وذا زائدة، قال ابن مالك:
ومثل ماذا بعدما استفهام ... ... ... ... أو من إذا لم تلغ في الكلام
وقوله: { قالوا الحق } ، أي: قال المسؤولون.
والحق: صفة لمصدر محذوف مع عامله، والتقدير قال القول الحق.
والمعنى: أن الله - سبحانه - قال القول الحق لأنه سبحانه هو الحق، ولا يصدر عنه إلا الحق، ولا يقول ولا يفعل إلا الحق.
والحق في الكلام هو الصدق في الأخبار، والعدل في الأحكام، كما قال الله تعالى: { وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً } [الأنعام: 115].
ولا يفهم من قوله: { قالوا الحق } أنه قد يكون قوله باطلاً، بل هو بيان للواقع، فإن قيل: ما دام بياناً للواقع ومعروفاً عند الملائكة أنه لا يقول إلا الحق، فلماذا الاستفهام؟!
أجيب: أن هذا من باب الثناء على الله بما قال، وأنه سبحانه لا يقول إلا الحق.
قوله تعالى: { وهو العلي الكبير } ، أي: العلي في ذاته وصفاته، والكبير: ذو الكبرياء وهي العظمة التي لا يدانيها شيء، أي العظيم الذي لا أعظم منه.
مناسبة الآية للتوحيد: أنه إذا كان منفرداً في العظمة والكبرياء، فيجب أن يكون منفرداً في العبادة.
والعلو قسمان:
الأول: علو الصفات، وقد أجمع عليه كل من ينتسب للإسلام حتى الجهمية ونحوهم.
الثانية: علو الذات، وقد أنكره كثير من المنتسبين للإسلام مثل الجهمية وبعض الأشاعرة غير المحققين منهم، فإن المحققين منهم أثبتوا علو الذات.
وعلوه لا ينافي كونه مع الخلق يعلمهم ويسمعهم ويراهم، لأنه ليس كمثله شيء في جميع صفاته.
وفي الآية فوائد:(10/221)
أن الملائكة يخافون الله، كما قال تعالى: { يخافون ربهم من فوقهم } [النحل: 50]
إثبات القلوب للملائكة، لقوله: { حتى إذا فزع عن قلوبهم } .
إثبات أنهم أجسام وليسوا أرواحاً مجردة من الجسمية، وهو أمر معلوم بالضرورة، قال تعالى: { جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة } [فاطر: 1]، وقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل له ست مئة جناح قد سد الأفق(1)، فالقول بأنهم أرواح فقط إنكار لهم في الواقع، وهو قول باطل.
لكنهم لا يأكلون ولا يشربون، وإنما أكلهم وشربهم التسبيح بدليل قوله تعالى: { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } [الأنبياء: 20]، ففي هذا دليل على أن ليلهم ونهارهم مملؤان بذلك، ولهذا جاء: { يسبحون الليل } ، ولم يقل: يسبحون في الليل، أي: أن تسبيحهم دائم، والتسبيح تنزيه الله عما لا يليق به.
أن لهم عقولاً، إذا إن القلوب هي محل العقول خلافاً لمن قال: إنهم لا يعقلون، ولأنهم يسبحون الله، ويطوفون بالبيت المعمور.
إثبات القول لله - سبحانه وتعالى - ، وأنه متعلق بمشيئته، لأنه جاء بالشرط: { إذا فزع } ، وإذا الشرطية تدل على حدوث الشرط والمشروط، خلافاً للأشاعرة الذين يقولون: إن الله لا يتكلم بمشيته، وإنما كلامه هو المعنى القائم بنفسه، فهو قائم بالله أزلي أبدي، كقيام العلم والقدرة والسمع والبصر.
ولا ريب أن هذا باطل، وأن حقيقته إنكار كلام الله، ولهذا يقولون: إن الله يتكلم بكلام نفسي أزلي أبدي، كما يقولون: هذا الكلام الذي سمعه موسى، وسمعه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونزل به جبريل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - شيء مخلوق للتعبير عن كلام الله القائم بنفسه.
__________
(1) البخاري: كتاب التفسير/ باب قول الله تعالى: { فكان قاب قوسين } ، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب في ذكر سدرة المنتهى.(10/222)
وهذا في الحقيقة قول الجهمية، كما قال بعض المحققين من الأشاعرة: ليس بيننا وبين الجهمية فرق، فإننا اتفقنا على أن هذا الذي بين دفتي المصحف مخلوق، لكن نحن قلنا عبارة عن كلام الله، وهم قالوا: هو كلام الله.
إثبات أن قول الله حق، وهذا جاء في القرآن: { والله يقول الحق وهو يهدي السبيل } [الأحزاب: 4]، وقال: { فالحق والحق أقول } [ص 84]، فالله تعالى لا يقول إلا حقاً، لأنه هو الحق، ولا يصدر عن الحق إلا الحق.
* * *
وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، ينفذهم ذلك، { حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير } [سبأ: 23].
قوله: "وفي الصحيح"، سبق الكلام عليها.
قوله: "قضي الله الأمر في السماء"، المراد بالأمر الشأن، ويكون القضاء بالقول، لقوله تعالى: { إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون } [آل عمران: 47].
قوله: "خضعاناً"، أي: خضوعاً، لقوله: "كأنه"، أي: صوت القول في وقعه على قلوبهم.
قوله: "صفوان" هو الحجر الأملس الصلب، والسلسلة عليه يكون لها صوت عظيم.
وليس المراد تشبيه صوت الله تعالى بهذا، لأن الله { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } [الشورى: 11]، بل المراد تشبيه ما يحصل لهم من الفزع عندما يسمعون كلامه بفزع من يسمع سلسلة على صفوان.
قوله: "ينفذهم ذلك"، النفوذ: هو الدخول في الشيء، ومنه، نفذ السهم في الرمية، أي: دخل فيها، والمعنى: إن هذا الصوت يبلغ منهم كل مبلغ.
قوله: { حتى إذا فزع عن قلوبهم } ، أي: أزيل عنها الفزع.
قوله: { قالوا } ، أي: قال بعضهم لبعض.(10/223)
قوله: { ماذا قال ربكم قالوا الحق } ، أي: قالوا: قال الحق، أي: قال القول الحق، فالحق صفة لمصدر محذوف مع عامله، تقديره: قال القول الحق، وهذا الجواب الذي يقولونه هل هم يقولونه لأنهم سمعوا ما قال وعلموا أنه حق، أو أنهم كانوا يعلمون أنه لا يقول إلا الحق؟
يحتمل أن يكونوا قد علموا ما قال، وقالوا: إنه الحق، فيكون هذا عائداً إلى الوحي الذي تكلم الله به.
ويحتمل أنهم قالوا ذلك لعلمهم أن الله - سبحانه - لا يقول إلا الحق، فلذلك قالوا هذا لأن ذلك صفته سبحانه وتعالى.
وهذا الحديث مطابق للآية تماماً، وعلى هذا يجب أن يكون هذا تفسير الآية، ولا يقبل أي قائل أن يفسرها بغيره، لأن تفسير القرآن إذا كان بالقرآن أو السنة، فإنه نص لا يمكن لأحد أن يتجاوزه.
وأما تفسير الصحابي، فإنه حجة عند أكثر المفسرين، وأما التابعين، فإن أكثر العلماء يقول: إنه ليس بحجة إلا من اختص منهم بشيء، كمجاهد، فإنه عرض المصحف على ابن عباس عشرين مرة أو أكثر، يقف عند كل آية ويسأله عن معناها، وأما من بعد التابعين، فليس تفسيره حجة على غيره، لكن إن أيده سياق القرآن كان العمدة سياق القرآن.
قلا يقبل أن يقال: إذا فزع عن قلوب الناس يوم القيامة بل نقول: الرسول - صلى الله عليه وسلم - فسر الآية بتفسير غيبي لا مجال للاجتهاد فيه، وما كان غيبياً وجاء به النص، فالواجب علينا قبوله، ولها نقول في مسألة ما يعذر فيه بالاجتهاد وما لا يعذر: أنه ليس عائداً على أن هذا من الأصول وهذا من الفروع، كما قال بعض العلماء: الأصول لا مجال للاجتهاد فيها، ويخطئ المخالف مطلقاً بخلاف الفروع.
لكن شيخ الإسلام ابن تيمية أنكر تقسيم الدين إلى أصول وفروع، ويدل على بطلان هذا التقسيم: أن الصلاة عند الذين يقسمون من الفروع، مع أنها من أجل الأصول.(10/224)
والصواب: أن مدار الإنكار على ما للاجتهاد فيه مجال وما لا مجال فيه، فالأمور الغيبية ينكر على المخالف فيها ولا يعذر، سواء كانت تتعلق بصفات الله أو اليوم الآخر أو غير ذلك، لأنه لا مجال للاجتهاد فيها.
أما الأمور العملية التي للاجتهاد فيها مجال، فلا ينكر على المخالف فيها إلا إذا خالف نصاً صريحاً، وإن كان يصح تضليله بهذه المخالفة، كقول ابن مسعود في بنت وبنت ابن وأخت: "للبنت النصف، ولابنة الابن السدس، تكملة الثلثين، وما بقي، فللأخت"، وذكر له قسمة أبي موسى: "للابنة النصف، وللأخت النصف"، وقوله: "ائت ابن مسعود، فسيتابعني"، فأخبر ابن مسعود بذلك، فقال: "قد ضللت إذاً، وما أنا من المهتدين"(1).
* * *
فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض، وصفه سفيان بكفه، فحرفها وبدد بين أصابعه، فيسمع الكلمة، فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه،
قوله: "فيسمعها مسترق السمع"، أي: هذه الكلمة التي تكلمت بها الملائكة.
و"مسترق": مفرد مضاف، فيعم جميع المسترقين.
وتأمل كلمة "مسترق"، ففيها دليل على أنه يبادر، فكأنه يختلسها اختلاساً بسرعة، ويؤيده قوله: { إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب } [الصافات: 10].
قوله: "ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض"، يحتمل أن يكون هذا من كلامه - صلى الله عليه وسلم -، أو من كلام أبي هريرة، أو من كلام سفيان.
قوله: "وصفه سفيان بكفه"، أي: أنها واحد فوق الثاني، أي الأصابع: فالجن يتراكبون واحداً فوق الآخر، إلى أن يصلوا إلى السماء، فيقعدون لكل واحد مقعد خاص، قال تعالى: { وأنا كنَّا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً } [الجن: 9].
__________
(1) البخاري: كتاب الفرائض/ باب ميراث ابنة ابن مع ابنة.(10/225)
قوله: "فيسمع الكلمة، فيلقيها إلى من تحته" أي: سمع أعلى المسترقين الكلمة، فيلقيها إلى من تحته، أي: يخبره بها، و"من": اسم موصول، وقوله: "تحته" شبه جملة صلة الموصول لأنه ظرف.
قوله: "ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها"، أي: يلقي الكلمة آخرهم الذي في الأرض على لسان الساحر أو الكاهن.
والسحر: عزائم ورقى وتعوذات تؤثر في بدن المسحور وقلبه وعقله وتفكيره.
والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل.
وقد التبس على بعض طلبة العلم، فظنوا أنه كل من يخبر عن الغيب ولو فيما مضى، فهو كاهن، لكن ما مضى مما يقع في الأرض ليس غيباً مطلقاً، بل هو غيب نسبي، مثل ما يقع في المسجد يعد غيباً بالنسبة لمن في الشارع، وليس غيباً بالنسبة لمن في المسجد.
وقد يتصل الإنسان بجني، فيخبره عما حدث في الأرض ولو كان بعيداً، فيستخدم الجن، لكن ليس على وجه محرم، فلا يسمى كاهناً، لأن الكاهن من خيبر عن المغيبات في المستقبل.
وقيل: الذي يخبر عما في الضمير، وهو نوع من الكهانة في الواقع، إذا لم يستند إلى فراسة ثاقبة، أما إذا كان يخبر عما في الضمير استناداً إلى فراسة، فإنه ليس من الكهانة في شيء، لأن بعض الناس قد يفهم ما في الإنسان اعتماداً على أسارير وجهه ولمحاته، وإن كان لا يعلمه على وجه التفصيل، لكن يعلمه على سبيل الإجمال.
فمن يخبر عما وقع في الأرض ليس من الكهان، ولكن ينظر في حاله، فإذا كان غير موثوق في دينه، فإننا لا نصدقه، لأن الله تعالى يقول: { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } [الحجرات: 6].(10/226)
وإن كان موثوقاً في دينه، ونعلم أنه لا يتوصل إلى ذلك بمحرم من شرك أو غيره، فإننا لا ندخله في الكهان الذين يحرم الرجوع إلى قولهم، ومن يخبر بأشياء وقعت في مكان ولم يطلع عليها أحد دون أن يكون موجوداً فيه، فلا يسمى كاهناً، لأنه لم يخبر عن مغيب مستقبل يمكن أن يكون عنده جني يخبره، والجني قد يخدم بني آدم بغير المحرم، إما محبة لله - عز وجل ـ، أو لعلم يحصله منه، أو لغير ذلك من الأغراض المباحة.
والسحرة قد يكون لهم من الجن من يسترق لهم السمع.
ولا يصل هؤلاء المسترقون إلا إلى السماء الدنيا، لقوله تعالى: { وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً } [الأنبياء: 32]، فلا يمكن نفوذه إلى ما فوقه.
* * *
فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مئة كَذْبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء"(1).
قوله: "فربما أدركه الشهاب.... إلخ"، الشهاب: جزء منفصل من النجوم، ثاقب، قوي، ينفذ فيما يصطدم به.
قال العلماء في تفسير قوله تعالى: { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين } [الملك: 5]، أي: جعلنا شهابها الذي ينطلق منها، فهذا من باب عود الضمير إلى الجزء لا إلى الكل.
فالشهب: نيازك تنطلق من النجوم.
وهي كما قال أهل الفلك: تنزل إلى الأرض، وقد تحدث تصدعاً فيها أما النجم، فلو وصل إلى الأرض، لأحرقها.
واختلف العلماء: هل المسترقون انقطعوا عن الاستراق بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الأبد أو انقطعوا في وقته فقط؟ والثاني هو الأقرب: أنهم انقطعوا في وقت البعثة فقط، حتى لا يلتبس كلام الكهان بالوحي، ثم بعد ذلك زال السبب الذي من أجله انقطعوا.
قوله: "فيكذب معها مئة كذبة"، هل هذا على سبيل التحديد، أو المراد المبالغة، أي أنه يكذب معها كذبات كثيرة؟
__________
(1) البخاري: كتاب التفسير/ باب { حتى إذا فزع عن قلوبهم } .(10/227)
الثاني هو الأقرب، وقد تزيد عن ذلك وقد تنقص، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا؟
والناس في هذه الأمور الغريبة على حسب ما أخبر به المخبر يأخذون كل ما يقوله صدقاً، فإذا أخبر بشيء فوقع، ثم أخبر بشيء ثان، قالوا: إذن لا بد أن يصدق.
* فوائد الحديث:
إثبات القول لله- عز وجل -.
عظمة الله - سبحانه وتعالى -.
إثبات الأجنحة للملائكة.
خوف الملائكة من الله - عز وجل - وخضوعهم له.
أن الملائكة يتكلمون ويعقلون.
أنه لا يصدر عن الله إلا الحق.
أن الله - سبحانه - يمكن هؤلاء الجن من الوصول إلى السماء فتنة للناس، وهي ما يلقونه على الكهان، فيحصل بذلك فتنة، والله - عز وجل - حكيم.
وقد يوجد الله أشياء تكون ضلالاً لبعض الناس، لكنها لبعضهم هدى امتحاناً وابتلاءً.
كثرة الجن، لأنه يترادفون إلى السماء، ومعنى ذلك أنهم كثيرون جداً، وأجسامهم خفيفة يطيرون طيراناً.
وذكر ذلك عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في السحرة الذين يستخدمون الجن وتطير بهم: أنهم يصبحون يوم عرفة في بلادهم ويقفون مع الناس في عرفة، وهذا ممكن الآن في الطائرات، لكن في ذلك الوقت ليس هناك طائرات، فتحملهم الشياطين، ويجعلون للناس المكانس التي تكنس بها البيوت، ويقول: أن أركب المكنسة وأطير بها إلى مكة، فيفعلون هذا، وشيخ الإسلام يقول: إن هؤلاء كذبة ومستخدمون للشياطين، ويسيئون حتى من الناحية العملية، لأنهم يمرون الميقات ولا يحرمون منه.
أن الكهان من أكذب الناس، ولهذا يضيفون إلى ما سمعوا كذبات كثيرة يضللون بها الناس، ويتوصلون بها إلى باطلهم تارة بالترهيب وتارة بالترغيب، كأن يقولوا: ستقوم القيامة يوم كذا وكذا، وسيجري عليك كذا من موت أو سرقة مال ونحو ذلك.
أن الساحر يصر للمسحور غير الواقع، وفي هذا تحذير من أهل التمويه والتلبيس، وأنهم إن صدقوا في شيء، فيجب الحذر منهم بكل حال.
* * *(10/228)
وعن النواس بن سمعان (رضي الله عنه)، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي، أخذت السماوات منه رجفة (أو قال: رعدة شديدة) خوفاً من الله عز وجل.
قوله: "وعن النواس...."، هذا الحديث لم يخرجه المؤلف، لكن قد ذكره ابن كثير من رواية ابن أبي حاتم، وذكر فيه علة، وهي أن في سنده الوليد بن مسلم، وهو مدلس، وقد رواه عن شيخه بالعنعنة، فيكون في الحديث ضعف، إلا أنه قد روى مسلم(1) وأحمد من حديث ابن عباس حديثاً قد يكون شاهداً له، حيث أخبر أن الله إذا تكلم بالوحي سمعه حملة العرش، فسبحوا، ثم سمعه أهل كل سماء، فيسبحون كما سبح أهل السماء السابعة، حتى يصل إلى السماء الدنيا، فتخطفه الجن أو الشياطين.
وهذا وإن لم يكن فيه ذكر رجفة السماء أو السجود، لكن يدل على أن له أصلاً.
قوله: "إذا أراد أن يوحي بالأمر"، أي: بالشأن.
قوله: "تكلم بالوحي"، جملة شرطية تقتضي تأخر المشروط عن الشرط، فالإرادة سابقة، والكلام لاحق، فيكون فيه رد على الأشاعرة الذين يقولون: إن الله لا يتكلم بإرادة، وإن كلامه أزلي، كالسمع والبصر، ففيه إثبات الكلام الحادث، ولا ينقص كمال الله إذا قلنا: إنه يتكلم بما شاء، كيف شاء، متى شاء، بل هذا صفة كمال، لكن النقص أن يقال: إنه لا يتلكم بحرف وصوت، إنما الكلام معنى قائم بنفسه.
قوله: "أخذت السماوات من رجفة"، السماوات: مفعول به جمع مؤنث سالم، أو ملحق به، فيكون منصوباً بالكسرة، ورجفة: فاعل.
قوله: "أو قال: رعدة شديدة"، شك من الراوي، وإنما تأخذ السماوات الرجفة أو الرعدة، لأنه سبحانه عظيم يخافه كل شيء، حتى السماوات التي ليس فيها روح.
* * *
__________
(1) كتاب السلام/ باب تحريم الكهانة).(10/229)
فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجداً، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء، سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟
قوله: "فإذا سمع ذلك أهل السماوات، صعقوا وخروا لله سجداً".
فإن قيل: كيف يمكن أن يصعقوا ويخروا سجداً؟
فالجواب: أن الصعق هنا - والله أعلم - يكون قبل السجود، فإذا أفاقوا سجدوا.
قوله: "فيكون أول من يرفع رأسه جبريل"، أول: بالنصب على أنها خبر مقدم، وجبريل بالرفع على أنها اسم يكون مؤخراً.
قوله: "بما أراد"، أي: بما شاء، لأن الله تعالى يتكلم بمشيئة.
قوله: "ثم يمر جبريل على الملائكة"، لأنه يريد النزول من عند الله إلى حيث أمره الله أن ينتهي إليه بالوحي.
* * *
فيقول: قال الحق، وهو العلي الكبير. فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل"(1).
قوله: "قال الحق وهو العلي الكبير"، سبق في تفسير ذلك أنه يحتمل قال الحق في هذه القضية المعينة، أو قال الحق، لأن من عادته سبحانه ألا يقول إلا الحق، وأياً كان، فإن جبريل لا يخبر الملائكة بما أوحى الله إليه، بل يقول: قال الحق مبهماً، ولهذا سمي عليه السلام بالأمين، والأمين: هو الذي لا يبوح بالسر.
قوله: "وهو العلي الكبير"، تقدم الكلام عليه.
قوله: "فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل"، أي: قال الحق، وهو العلي الكبير.
قوله: "فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله - عز وجل ـ"، أي: يصل بالوحي إلى حيث أمره الله من الأنبياء والرسل.
* من فوائد الحديث:
إثبات الإرادة لقوله: "إذا أراد الله"، وهي قسمان: شرعية، وكونية.
والفرق بينهما أولاً: من حيث المتعلق، فالإرادة الشرعية تتعلق بما يحبه الله - عز وجل ـ، سواء وقع أو لم يقع، وأما الكونية، فتتعلق بما يقع، سواء كان مما يحبه الله أو مما لا يحبه.
__________
(1) تفسير ابن جرير الطبري (22/91)، وابن كثير في تفسير (6/504).(10/230)
ثانياً: الفرق بينهما من حيث الحكم، أي حصول المراد، فالشرعية لا يلزم منها وقوع المراد، أما الكونية، فيلزم منها وقوع المراد.
فقوله تعالى: { والله يريد أن يتوب عليكم } [النساء: 27] هذه إرادة شرعية، لأنها لو كانت كونية لتاب على كل الناس، وأيضاً متعلقها فيما يحبه الله وهو التوبة.
وقوله: { إن كان الله يريد أن يغويكم } [هود: 34] هذه كونية، لأن الله لا يريد الإغواء شرعاً، أما كوناً وقدراً، فقد يريده.
وقوله: { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم } [النساء: 26] هذه كونية، لكنها في الأصل شرعية، لأنه قال: { ويتوب عليكم } [النساء: 26].
وقوله تعالى: { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [البقرة: 185] هذه شرعية، لأن قوله: { ولا يريد بكم العسر } لا يمكن أن تكون كونية، إذ إن العسر يقع ولو كان الله لا يريده قدراً وكوناً؛ لم يقع.
أن المخلوقات وإن كانت جماداً تحس بعظمة الخالق، قال تعالى: { تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده } [الإسراء: 44].
إثبات أن الملائكة يتكلمون ويفهمون ويعقلون لأنهم يسألون: { ماذا قال ربكم } ؟ ويجابون: قال { الحق } ، خلافاً لمن قال: إنهم لا يوصفون بذلك، فيلزم من قولهم هذا أننا تلقينا الشريعة ممن لا عقول لهم، وهذا قدح في الشريعة بلا ريب.
إثبات تعدد السماوات، لقوله: "كلما مر بسماء".
أن لكل سماء ملائكة مخصصين، لقوله: "سأله ملائكتها".
فضيلة جبريل عليه السلام حيث إنه المعروف بأمانة الوحي، ولهذا قال ورقة بن نوفل: "هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى"(1)، والناموس بالعبرية بمعنى صاحب السر.
__________
(1) البخاري: كتاب بدء الوحي/ باب بدء الوحي، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب بدء الوحي.(10/231)
أمانة جبريل عليه السلام، حيث ينتهي بالوحي إلى حيث أمره الله - عز وجل ـ، فيكون فيه رد على الرافضة الكفرة الذين يقولون: بأن جبريل أمر أن يوحي إلى علي فأوحى إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويقولون: خان الأمين فصدها عن حيدرة، وحيدرة لقب لعلي بن أبي طالب، لأنه كان يقول في غزوة خيبر، أنا الذي سمتني أمي حيدرة(1).
وفي هذا تناقض منهم، لأن وصفه بالأمانة يقتضي عدم الخيانة.
إثبات العزة والجلال لله - عز وجل ـ، لقوله: "عز وجل"، والعزة بمعنى الغلبة والقوة، وللعزيز ثلاثة معان:
عزيز: بمعنى ممتنع أن يناله أحد بسوء.
عزيز: بمعنى ذي قدر لا يشاركه فيه أحد.
عزيز: بمعنى غالب قاهر.
قال ابن القيم في النونية:
وهو العزيز فلن يرام جنابه
وهو العزيز القاهر الغلاب لم
وهو العزيز بقوة هي وصفه
أنى يرام جناب ذي السلطان
يغلبه شيء هذه صفتان
فالعز حينئذ ثلاث معان
وأما جل: فالجلال بمعنى العظمة التي ليس فوقها عظمة.
* * *
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآية. الثانية: ما فيها من الحجة على إبطال الشرك، خصوصاً من تعلق على الصالحين، وهي الآية التي قيل: إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب.
فيها مسائل:
الأولى: تفسير الآية، أي قوله تعالى: { حتى إذا فزع عن قلوبهم... } الآية، وقد سبق تفسيرها.
الثانية: ما فيه من الحجة على إبطال الشرك، وذلك أن الملائكة وهم من هم في القوة والعظمة يصعقون ويفزعون من تعظيم الله، فكيف بالأصنام التي تعبد من دون الله وهي أقل منهم بكثير، فكيف يتعلق الإنسان بها؟!
ولذلك قيل: إن هذه الآية هي التي تقطع عروق الشرك من القلب، لأن الإنسان إذا عرف عظمة الرب سبحانه حيث ترتجف السماوات ويصعق أهلها بمجرد تكلمه بالوحي، فكيف يمكن للإنسان أن يشرك بالله شيئاً مخلوقاً ربما يصنعه بيده حتى كان جهال العرب يصنعون آلهة من التمر إذا جاع أحدهم أكلها؟!
__________
(1) مسلم: كتاب الجهاد/ باب غزوة ذي قرد.(10/232)
وينزل أحدهم بالوادي فيأخذ أربعة أحجار: ثلاثة يجعله تحت القدر، والرابع - وهو أحسنها - يجعلها إلهاً له.
* * *
الثالثة: تفسير قوله: { قالوا الحق وهو العلي الكبير } . الرابعة: سبب سؤالهم عن ذلك. الخامسة: أن جبريل يجيبهم بعد ذلك بقوله: "قال كذا وكذا". السادسة: ذكر أن أول من يرفع رأسه جبريل. السابعة: أنه يقول لأهل السماوات كلهم لأنهم يسألونه. الثامنة: أن الغشي يعم أهل السماوات كلهم.
الثالثة: تفسير قوله: { قالوا الحق وهو العلي الكبير } ، وسبق تفسيرها.
الرابعة: سبب سؤالهم عن ذلك. فالسؤال: ماذا قال ربكم؟ وسببه شدة خوفهم منه وفزعهم خوفاً من أن يكون قد قال فيهم ما لا يطيقونه من التعذيب.
الخامسة: أن جبريل يجيبهم بعد ذلك بقوله: قال كذا وكذا، أي: يقول: قال الحق.
السادسة: ذكر أن أول من يرفع رأسه جبريل، لحديث النواس بن سمعان، وفيه فضيلة جبريل.
السابعة: أنه يقول لأهل السماوات كلهم لأنهم يسألونه، وفي هذا دليل على عظمته بينهم.
الثامنة: أن الغشي يعم أهل السماوات كلهم، تؤخذ من قوله: "فإذا سمع ذلك أهل السماوات، صعقوا وخروا لله سجداً".
* * *
التاسعة: ارتجاف السماوات لكلام الله. العاشرة: أن جبريل هو الذي ينتهي بالوحي إلى حيث أمره الله. الحادية عشرة: ذكر استراق الشياطين. الثانية عشرة: صفة ركوب بعضهم بعضاً. الثالثة عشرة: إرسال الشهب. الرابعة عشرة: أنه تارة يدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وتارة يلقيها في أذن وليه من الإنس قبل أن يدركه.
التاسعة: ارتجاف السماوات لكلام الله، لقوله: "أخذت السماوات منه رجفة"، أي: لأجله تعظيماً لله.
العاشرة: أن جبريل هو الذي ينتهي بالوحي إلى حيث أمره، أي: لا أحد يتولى إيصال الوحي غير جبريل حتى يوصله إلى حيث أمره به، لأنه الأمين على الوحي.
الحادية عشرة: ذكر استراق الشياطين، أي: الذين يسترقون ما يسمع في السماوات، فيلقونه على الكهان، فيزيد فيه الكهان وينقصون.(10/233)
الثانية عشرة: صفة ركوب بعضهم بعضاً، وصفها سفيان رحمه الله بأن حرف يده وبدد بين أصابعه.
الثالثة عشرة: إرسال الشهب، يعني: التي تحرق مسترقي السمع، قال تعالى: { إلا من استرق السمع فاتبعه شهاب مبين } [الحجر، 18].
الرابعة عشرة: أنه تارة يدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وتارة يلقيها في أذن وليه من الإنس قبل أن يدركه.
* * *
الخامسة عشرة: كون الكاهن يصدق بعض الأحيان. السادسة عشرة: كونه يكذب معها مئة كذبة. السابعة عشرة: أنه لم يصدق كذبه إلا بتلك الكلمة التي سمعت من السماء.
الخامسة عشرة: كون الكاهن يصدق بعض الأحيان، لأنه يأتي بما سمع من السماء ويزيد عليه، وإذا وقع ما في السماء، صار صادقاً.
* اعتراض وجوابه:
كيف يسمع المسترقون الكلمة وعندما يسأل الملائكة جبريل يجابون بقال الحق فقط؟
والجواب: إن الوحي لا يعلمه أهل السماء، بل هو من الله إلى جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
أما الأمور القدرية التي يتكلم الله بها، فليست خاصة بجبريل، بل ربما يعلمها أهل السماء مفصلة، ثم يسمعها مسترقو السمع.
السادسة عشرة: كونه يكذب معها مئة كذبة، أي: يكذب مع الكلمة التي تلقاها من المسترق.
وقوله: "مئة كذبة" هذا على سبيل المبالغة كما سبق وليس على سبيل التحديد.
السابعة عشرة: أنه لم يصدق إلا بتلك الكلمة التي سمعت من السماء، وأما ما قاله من عنده، فهو تخرص، فالكلمة التي تسمعها تصدق، والذي يضيفه كله كذب يموه به على الناس.
* * *
الثامنة عشرة: قبول النفوس للباطل! كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمئة؟! التاسعة عشرة: كونهم يتلقى بعضهم من بعض تلك الكلمة ويحفظونها ويستدلون بها. العشرون: إثبات الصفات خلافاً للأشعرية المعطلة.(10/234)
الثامنة عشرة: قبول النفوس للباطل كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمئة؟! وهذا صحيح، وليس صفة عامة لعامة الناس، بل لأهل الجهل والسفه، فهم يتعلقون بالكاهن من أجل صدقه مرة واحدة، وأما مئة كذبة، فلا يعتبرون بها، ولا شك أن بعض السفهاء يغترون بالصالح المغمور بالمفاسد، ولكن لا يغتر به أهل العقل والإيمان، ولهذا لما نزل قوله تعالى: { يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما } [البقرة: 219]، تركهما كثير من الصحابة اعتباراً بالموازنة، والعاقل لا يمكن إذا وازن بين الأشياء أن يرجح جانب المفسدة، فهو وإن لم يأت الشرع بالتعيين يعرف ويميز بين المضار والمنافع.
التاسعة عشرة: كونهم يتلقى بعضهم من بعض تلك الكلمة ويحفظونها... إلخ، الكلمة: هي الصدق، لأن هي التي تروج بضاعتهم، ولو كانت بضاعتهم كلها كذباً ما راجت بين الناس.
العشرون: إثبات الصفات خلافاً للأشعرية المعطلة، الأشعرية: هم الذين ينتسبون إلى أبي الحسن الأشعري وسموا معطلة لأنهم يعطلون النصوص عن المعنى المراد بها ويعطلون ما وصف الله به نفسه. والمراد تعطيل أكثر ذلك فإنهم يعطلون أكثر الصفات ولا يعطلون جميعها، بخلاف المعتزلة، فالمعتزلة ينكرون الصفات ويؤمنون بالأسماء، هؤلاء عامتهم، وإلا، فغلاتهم ينكرون حتى الأسماء، وأما الأشاعرة، فهم معطلة اعتباراً بالأكثر، لأنهم لا يثبتون من الصفات إلى سبعاً، وصفاته وتعالى لا تحصى، وإثباتهم لهذه السبع ليس كإثبات السلف، فمثلاً: الكلام عند أهل السنة أن الله يتكلم بمشيئته بصوت وحرف.(10/235)
والأشاعرة قالوا: الكلام لازم لذاته كلزومه الحياة والعلم، ولا يتكلم بمشيئته، وهذا الذي يسمع عبارة عن كلام الله وليس كلام الله، بل هو مخلوق، فحقيقة الأمر أنهم لم يثبتوا الكلام، ولهذا قال بعضهم: إنه لا فرق بيننا وبين المعتزلة في كلام الله، لأننا أجمعنا على أن ما بين دفتي المصحف مخلوق، وحجتهم في إثبات الصفات السبع: أن العقل دل عليها.
وشبهتهم في إنكار البقية: زعموا أن العقل لا يدل عليها.
والرد عليهم بما يلي:
أن كون العقل يدل على الصفات السبع لا يدل على انتفاء ما سواها، فإن انتفاء الدليل المعين لا يستلزم انتفاء المدلول، فهب أن العقل لا يدل على بقية الصفات، لكن السمع دل عليها، فتثبتها بالدليل السمعي.
أنها ثابتة بالدليل العقلي بنظير ما أثبتم هذه السبع، فمثلاً: الإرادة ثابتة لله عندهم بدليل التخصيص، حيث إن الله جعل الشمس شمساً والقمر قمراً والسماء سماءً والأرض أرضاً، وكونه يميز بين ذلك معناه أنه سبحانه وتعالى يريد، إذ لولا الإرادة، لكانت الدنيا كلها سواء، فأثبتوها لأن العقل دل عليها.
فنقول لهم: الرحمة لا تمضي لحظة على الخلق إلا وهم في نعمة من الله، فهذه النعم العظيمة من الله تدل على رحمته لخلقه أدل من التخصيص على الإرادة.
والانتقام من العصاة يدل على بغضه لهم، وإثابة الطائعين ورفع درجاتهم في الدنيا والآخرة يدل على محبته لهم أدل على التخصيص من الإرادة، وعلى هذا فقس، فالمؤلف رحمه الله لما كان الأشعرية لا يثبتون إلا سبع صفات على خلاف في إثباتها مع أهل السنة جعلهم معطلة على سبيل الإطلاق، وإلا، فالحقيقة أنهم ليسوا معطلة على سبيل الإطلاق.
* * *
الحادية والعشرون: التصريح بأن تلك الرجفة والغشي خوفاً من الله عز وجل. الثانية والعشرون: أنهم يخرون الله سجداً.(10/236)
الحادية والعشرون: التصريح بأن تلك الرجفة والغشي خوفاً من الله - عز وجل - ، فيدل على عظمة الخالق جل وعلا، حيث بلغ خوف الملائكة منه هذا المبلغ.
الثانية والعشرون: أنهم يخرون لله سجداً، أي: تعظيماً لله واتقاء لما يخشونه، فتفيد تعظيم الله - عز وجل - كالتي قبلها.
* * *
باب الشفاعة
ذكر المؤلف رحمه الله الشفاعة في كتاب التوحيد، لأن المشركين الذين يعبدون الأصنام يقولون: إنها شفعاء لهم عند الله، وهم يشركون بالله - سبحانه وتعالى - فيها بالدعاء والاستغاثة وما أشبه ذلك.
وهم بذلك يظنون أنهم معظمون لله، ولكنهم منتقصون له، لأنه عليم بكل شيء، وله الحكم التام المطلق والقدرة التامة، فلا يحتاج إلى شفعاء.
ويقولون: إننا نعبدهم ليكونوا شفعاء لنا عند الله، فيقربونا إلى الله، وهم ضالون في ذلك، فهو سبحانه عليم وقدير وذو سلطان، ومن كان كذلك، فإنه لا يحتاج إلى شفعاء.
والملوك في الدنيا يحتاجون إلى شفعاء، إما لقصور علمهم، أو لنقص قدرتهم، فيساعدهم الشفعاء في ذلك، أو لقصور سلطانهم، فيتجرأ عليهم الشفعاء، فيشفعون بدون استئذان، ولكن الله - عز وجل - كامل العلم والقدرة والسلطان ، فلا يحتاج لأحد أن يشفع عنده، ولهذا لا تكون الشفاعة عنده سبحانه إلا بإذنه لكمال سلطانه وعظمته.
ثم الشفاعة لا يراد بها معونة الله - سبحانه - في شيء مما شفع فيه، فهذا ممتنع كما سيأتي في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله(1)، ولكن يقصد بها أمران، هما:
1- إكرام الشافع. ... ... ... 2- نفع المشفوع له.
والشفاعة لغة: اسم من شفع يشفع، إذا جعل الشيء اثنين، والشفع ضد الوتر، قال تعالى: { والشفع والوتر } [الفجر: 3].
واصطلاحاً: التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة.
مثال جلب المنفعة: شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل الجنة بدخولها.
مثال دفعة المضرة: شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن استحق النار أن لا يدخلها.
__________
(1) يأتي (ص332).(10/237)
* * *
وقوله الله عز وجل: { وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع } [الأنعام: 51].
وذكر المؤلف رحمه الله في هذا الباب عدة آيات:
الآية الأولى قوله تعالى: { وأنذر به } ، الإنذار: هو الإعلام المتضمن للتخويف، أما مجرد الخبر، فليس بإنذار، والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
والضمير في { به } يعود للقرآن، كما قال تعالى: { وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها } [الشورى: 7]، وقال تعالى: { لتنذر به وذكرى للمؤمنين } [الأعراف: 2].
وقوله: { يخافون أن يحشروا } ، أي: يخافون مما يقع لهم من سوء العذاب في ذلك الحشر.
والحشر: الجمع، وقد ضمن هنا معنى الضم والانتهاء، فمعنى يحشرون، أي: يجمعون حتى ينتهوا إلى الله.
قوله { ليس لهم من دونه ولي لا شفيع } ، { ولي } ، أي: ناصر ينصرهم.
{ ولا شفيع } ، أي: شافع يتوسط لهم، وهذا محل الشاهد.
ففي هذه الآية نفي الشفاعة من دون الله، أي من دون إذنه، ومفهومها: أنها ثابتة بإذنه، وهذا هو المقصود، الشفاعة من دونه مستحيلة، وبإذنه جائزة وممكنة.
أما عند الملوك، فجائزة بإذنهم وبغير إذنهم، فيمكن لمن كان قريباً من السلطان أن يشفع بدون أن يستأذن.
ويفيد قوله: { من دونه } أن لهم بإذنه ولياً وشفيعاً، كما قال تعالى: { إنما وليكم الله ورسوله } [المائدة: 55].
* * *
وقوله: { قل لله الشفاعة جميعاً } [الزمر: 44]
الآية الثانية قوله تعالى: { لله الشفاعة } ، مبتدأ وخبر، وقدم الخبر للحصر، والمعنى: لله وحده الشفاعة كلها، لا يوجد شيء منها خارج عن إذن الله وإرادته، فأفادت الآية في قوله: { جميعاً } أن هناك أنواعاً للشفاعة.
وقد قسم أهل العلم رحمه الله الشفاعة إلى قسمين رئيسيين، هما:
القسم الأول: الشفاعة الخاصة بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهي أنواع:(10/238)
النوع الأول: الشفاعة العظمى، وهي من المقام المحمود الذي وعده الله، فإن الناس يلحقهم يوم القيامة في ذلك الموقف العظيم من الغم والكرب ما لا يطيقونه، فيقول بعضهم لبعض: اطلبوا من يشفع لنا عند الله، فيذهبون إلى آدم أبي البشر، فيذكرون من أوصافه التي ميزه الله بها: أن الله خلقه بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، فيقولون: اشفع لنا عند ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟! فيعتذر لأنه عصى الله بأكله من الشجرة، ومعلوم أن الشافع إذا كان عنده شيء يخدش كرامته عند المشفوع إليه، فإنه لا يشفع لخجله من ذلك، مع أن آدم عليه السلام قد تاب الله عليه واجتباه وهداه، قال تعالى: { وعصى آدم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى } [طه: 121،122]، لكن لقوة حيائه من الله اعتذر.
ثم يذهبون إلى نوح، ويذكرون من أوصافه التي امتاز بها بأنه أول رسول أرسله الله إلى الأرض، فيعتذر بأنه سأل الله ما ليس له به علم حين قال: { رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين } [هود: 45].
ثم يذهبون إلى عيسى عليه الصلاة والسلام، فيذكرون من أوصافه ما يقتضي أن يشفع، فلا يعتذر بشيء، لكن يحيل إلى من هو أعلى مقاماً، فيقول: اذهبوا إلى محمد، عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيحيلهم إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - دون أن يذكر عذراً يحول بينه وبين الشفاعة(1)، فيأتون محمداً - صلى الله عليه وسلم -، فيشفع إلى الله ليريح أهل الموقف.
__________
(1) البخاري: كتاب التفسير/ باب { ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً } ، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب أدنى أهل الجنة منزلة.(10/239)
الثاني: شفاعته في أهل الجنة أن يدخلوها، لأنهم إذا عبروا الصراط ووصلوا إليها وجدوها مغلقة، فيطلبون من يشفع له، فيشفع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الله في فتح أبواب الجنة لأهلها، ويشير إلى ذلك قوله تعالى: { حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها } [الزمر: 73]، فقال: { وفتحت } ، فهناك شيء محذوف، أي: وحصل ما حصل من الشفاعة، وفتحت الأبواب، أما النار، فقال فيها: { حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها... } الآية.
الثالث: شفاعته - صلى الله عليه وسلم - في عمه أبي طالب أن يخفف عنه العذاب(1)، وهذه مستثناة من قوله تعالى: { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } [المدثر: 48]، وقوله تعالى: { يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً } [طه: 109]، وذلك لما كان لأبي طالب من نصرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ودفاع عنه، وهو لم يخرج من النار، لكن خفف عنه حتى صار - والعياذ بالله - في ضحضاح من نار، وعليه نعلان يغلي منهما دماغه، وهذه الشفاعة خاصة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - لا أحد يشفع في كافر أبداً إلا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومع ذلك لم تقبل الشفاعة كاملة، وإنما هي تخفيف فقط.
القسم الثاني: الشفاعة العامة له - صلى الله عليه وسلم - ولجميع المؤمنين.
وهي أنواع:
النوع الأول: الشفاعة فيمن استحق النار أن لا يدخلها، وهذه قد يستدل لها بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً، إلا شفعهم الله فيه"(2)، فإن هذه شفاعة قبل أن يدخل النار، فيشفعهم الله في ذلك.
__________
(1) البخاري: كتاب الفضائل/ باب قصة أبي طالب، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب.
(2) مسلم: كتاب الجنائز/ باب من صلى عليه أربعون.(10/240)
النوع الثاني: الشفاعة فيمن دخل النار أن يخرج منها، وقد تواترت بها الأحاديث وأجمع عليها الصحابة، واتفق عليها أهل الملة ما عدا طائفتين، وهما: المعتزلة والخوارج، فإنهم ينكرون الشفاعة في أهل المعاصي مطلقاً لأنهم يرون أن فاعل الكبيرة مخلد في النار، ومن استحق الخلود، فلا تنفع فيه الشفاعة، فهم ينكرون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيره يشفع في أهل الكبائر أن لا يدخلوا النار، أو إذا دخولها أن يخرجوا منها، لكن قولهم هذا باطل بالنص والإجماع.
النوع الثالث: الشفاعة في رفع درجات المؤمنين، وهذه تؤخذ من دعاء المؤمنين بعضهم لبعض كما قال - صلى الله عليه وسلم - في أبي سلمة: "اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، وأفسح له في قبره، ونور له فيه، واخلفه في عقبه"(1)، والدعاء شفاعة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً، إلا شفعهم الله فيه".
* إشكال وجوابه:
فإن قيل: إن الشفاعة لا تكون إلا بإذنه سبحانه، فكيف يسمى دعاء الإنسان لأخيه شفاعة وهو لم يستأذن من ربه؟
والجواب: إن الله أمر بأن يدعو الإنسان لأخيه الميت، وأمره بالدعاء إذن وزيادة.
وأما الشفاعة الموهومة التي يظنها عباد الأصنام من معبوديهم، فهي شفاعة باطلة لأن الله لا يأذن لأحد بالشفاعة إلا من ارتضاه من الشفعاء والمشفوع لهم.
إذا قوله: { لله الشفاعة جميعاً } تفيد أن الشفاعة متعددة كما سبق(2).
* * *
وقوله: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } [البقرة: 255]
الآية الثالثة قوله تعالى: { من ذا الذي } ، { من } : اسم استفهام بمعنى النفي، أي: لا يشفع أحد عند الله إلا بإذنه.
{ ذا } : هل تجعل ذا اسماً موصولاً كما قال ابن مالك في "الألفية"، أو لا تصح أن تكون اسماً موصولاً هنا لوجود الاسم الموصول { الذي } ؟
__________
(1) مسلم: كتاب الجنائز/ باب في إغماض الميت.
(2) تقدم (ص 325).(10/241)
الثاني هو الأقرب، وإن كان بعض المعربين قال: يجوز أن تكون { الذي } توكيداً لها.
والصحيح أن { ذا } هنا إما مركبة مع { من } ، أو زائدة للتوكيد، وأياً كان الإعراب، فالمعنى: إنه لا أحد يشفع عند الله إلا بإذن الله.
وسبق أن النفي إذا جاء في سياق الاستفهام، فإنه يكون مضمناً معنى التحدي، أي إذا كان أحد يشفع بغير إذن الله فأت به.
قوله: { عنده } ، ظرف مكان، وهو سبحانه في العلو، فلا يشفع أحد عنده ولو كان مقرباً، كالملائكة المقربين، إلا بإذنه الكوني، والإذن لا يكون إلا بعد الرضا.
وأفادت الآية: أنه يشترط للشفاعة إذن الله فيها لكمال سلطانه جل وعلا، فإنه كلما كمل سلطان الملك، فإنه لا أحد يتكلم عنده ولو كان بخير إلا بعد إذنه، ولذلك يعتبر اللغط في مجلس الكبير إهانة له ودليلاً على أنه ليس كبيراً في نفوس من عنده، كان الصحابة مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار وعدم الكلام إلا إذا فتح الكلام، فإنهم يتكلمون.
* * *
وقوله: { وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } [النجم: 26].
الآية الرابعة قوله تعالى: { وكم من ملك } .
{ كم } خبرية للتكثير، والمعنى: ما أكثر الملائكة الذين في السماء، ومع ذلك لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا بعد إذن الله ورضاه.
قوله: { إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } ، فللشفاعة شرطان، هما:
الإذن من الله، لقوله: { أن يأذن الله } .
رضاه عن الشافع والمشفوع له، لقوله: { ويرضى } ، وكما قال تعالى: { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } [الأنبياء: 28]، فلا بد من إذنه تعالى ورضاه عن الشافع والمشفوع له، إلا في التخفيف عن أبي طالب، وقد سبق ذلك(1).
__________
(1) ص 325)(10/242)
وهذه الآية في سياق بيان بطلان ألوهية اللات والعزى، قال تعالى بعد ذكر المعراج وما حصل للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيه: { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } [النجم: 18]، أي: العلامات الدالة عليه عز وجل، فكيف به سبحانه؟! فهو أكبر وأعظم.
ثم قال: { أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى } [النجم: 19، 20]، وهذا استفهام للتحقير، فبعد أن ذكر الله هذه العظمة قال: أخبروني عن هذه اللات والعزى ما عظمتها؟ وهذا غاية في التحقير، ثم قال: { ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذاً قسمة ضيزى * إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إنه يتبعون إلى الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى * أم للإنسان ما تمنى * فلله الآخرة والأولى* وكم من ملك.... } الآية [النجم: 21-26].
فإذا كانت الملائكة وهي في السماوات في العلو لا تغني شفاعتهم إلا بعد إذنه تعالى ورضاه، فكيف باللات والعزى وهي في الأرض؟!
ولهذا قال: { وكم من ملك في السماوات } ، مع أن الملائكة تكون في السماوات وفي الأرض، ولكن أراد الملائكة التي في السماوات العلى، وهي عند الله - سبحانه - ، فحتى الملائكة المقربون حملة العرش لا تغني شفاعتهم إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى.
* * *
الآية الخامسة قوله تعالى: { قل ادعوا } .
الأمر في قوله: { ادعوا } للتحدي والتعجيز، وقوله: { ادعوا } يحتمل معنيين، هما:
أحضروهم.
أدعوهم دعاء مسألة.
فلو دعوهم دعاء مسألة لا يستجيبون لهم، كما قال تعالى: { إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير } [فاطر: 14].
يكفرون: يتبرؤون، ومع هذه الآيات العظيمة يذهب بعض الناس يشرك بالله ويستنجد بغير الله، وكذلك لو دعوهم دعاء حضور لم يحضروا، ولو حضروا ما انتفعوا بحضورهم.(10/243)
قوله: { لا يملكون مثقال ذرة } ، واحدة الذر: وهي صغار النمل، ويضرب بما المثل في القلة.
قوله: { مثقال ذرة } ، وكذلك ما دون الذرة لا يملكونه، والمقصود بذكر الذرة المبالغة، وإذا قصد المبالغة بالشيء قله أو كثرة، فلا مفهوم له، فالمراد الحكم العام، فمثلاً قوله تعالى: { إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } [التوبة: 80]، أي: مهما بالغت في الاستغفار.
ولا يرد على هذا أن الله أثبت ملكاً للإنسان، لأن ملك الإنسان قاصر وغير شامل ومتجدد وزائل، وليس كملك الله.
قوله: { ما لهم فيهما من شرك } ، أي: ما لهؤلاء الذين تدعون من دون الله.
{ فيهما } ، أي: في السماوات والأرض.
{ من شرك } ، أي: مشاركة، أي لا يملكونه انفراداً ولا مشاركة. وقوله: { من شرك } : مبتدأ مؤخر دخلت عليه { من } الزائدة لفظاً، لكنها للتوكيد معنى.
وكل زيادة لفظية في القرآن فهي زيادة في المعنى.
وأتت { من } للمبالغة في النفي، وأنه ليس هناك شرك لا قليل ولا كثير.
قوله: { وما له منهم من ظهير } ، الضمير في { ما له } يعود إلى الله تعالى. وفي { منهم } يعود إلى الأصنام، أي: ما لله تعالى من هذه الأصنام ظهير.
و { من } : حرف جر زائد، و { ظهير } : مبتدأ مؤخر بمعنى معين، كما قال تعالى: { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً } [الإسراء: 88]، أي: معيناً، وقال تعالى: { والملائكة بعد ذلك ظهير } [التحريم: 4]، أي: معين. أي: ليس لله معين في أفعاله، وبذلك ينتفي عن هذه الأصنام كل ما يتعلق به العابدون، فهي لا تملك شيئاً على سبيل الانفراد ولا المشاركة ولا الإعانة، لأن من يعينك وإن كان غير شريك لك يكون له منه عليك، فربما تحابيه في إعطائه ما يريد.(10/244)
فإذا انتفت هذه الأمور الثلاثة، لم يبق إلا الشفاعة، وقد أبطلها الله بقوله: { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } [سبأ: 23]، فلا تنفع عند الله الشفاعة لهؤلاء، لأن هذه الأصنام لا يأذن الله لها، فانقطعت كل الوسائل والأسباب للمشركين، وهذا من أكبر الآيات الدالة على بطلان عبادة الأصنام، لأنها لا تنفع عابديها لا استقلالاً ولا مشاركة ولا مساعدة ولا شفاعة، فتكون عبادتها باطلة، قال تعالى: { ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة } [الأحقاف: 5]، حتى ولو كان المدعو عاقلاً، لقوله: { من } ، ولم يقل: "ما"، ثم قال تعالى: { وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين } [الأحقاف: 5،6]، وكل هذه الآيات تدل على أنه يجب على الإنسان قطع جميع تعلقاته إلا بالله عبادة وخوفاً ورجاء واستعانة ومحبة وتعظيماً، حتى يكون عبداً لله حقيقة، يكون هواه وإرادته وحبه وبغضه وولاؤه ومعاداته لله وفي الله، لأنه مخلوق للعبادة فقط، قال تعالى: { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون } [المؤمنون: 115]، أي: لا نأمركم ولا ننهاكم، إذ لو خلقناكم فقط للأكل والشرب والنكاح، لكان ذلك عين العبث، ولكن هناك شيء وراء ذلك، وهو عبادة الله سبحانه في هذه الدنيا.
وقوله: { إلينا ترجعون } ، أي: وحسبتم أنكم إلينا لا ترجعون، فنجازيكم إذا كان هذا هو حسبانكم، فهو حسبان باطل.
* * *
قال أبو العباس: "نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عوناً لله، ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، كما قال: { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } [الأنبياء: 28].(10/245)
قوله: "قال أبو عباس"، هو شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية رحمه الله يكنى بذلك، ولم يتزوج، لأنه كان مشغولاً بالعلم والجهاد، وليس زاهداً في السنة، مات سنة 728هـ، وله 67 سنة و 10 أشهر.
قوله: "لغيره ملك"، أي: لغير الله في قوله: { لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض } .
قوله: "أو قسط منه" في قوله: { وما لهم فيهما من شرك } .
قوله: "أو يكون عوناً لله" في قوله تعالى: { وما له منهم من ظهير } بدون استثناء.
قوله: "ولم يبق إلا الشفاعة"، فبين أنها لا تنفع إلا من أذن له الرب، كما قال تعالى: { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } ، وقال: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } [البقرة: 255]، ومعلوم أنه لا يرضى هذه الأصنام لأنها باطلة، وحينئذ فتكون شفاعتها منتفية.
واعلم أن شرك المشركين في السابق كان في عبادة الأصنام، أما الآن، فهو في طاعة المخلوق في المعصية، فإن هؤلاء يقدسون زعماءهم أكثر من تقديس الله إن أقروا به، فيقال لهم: إنهم بشر مثلكم، خرجوا من مخرج البول والحيض، وليس لهم شرك في السماوات ولا في الأرض، ولا يملكون الشفاعة لكم عند الله، إذاً، فكيف تتعلقون بهم؟! حتى إن الواحد منهم يركع لرئيسه أو يسجد له كما يسجد لرب العالمين.
والواجب علينا نحو ولاة الأمور طاعتهم، وطاعتهم من طاعة الله، وليس استقلالاً، أما عبادتهم كعبادة الله، فهذه جاهلية وكفر.
* * *
فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة، كما نفاها القرآن وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده - لا يبدأ بالشفاعة أولاً - ثم يقال له: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع"(1).
__________
(1) البخاري: كتاب الرقاق/ باب صفة الجنة والنار، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها.(10/246)
فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة، كما نفاها القرآن، فالله - سبحانه وتعالى - نفى أن تنفعهم أصنامهم، بل قال: { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنت لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون } [الأنبياء: 98/99]، حتى الأصنام لا تنفع نفسها ولا يشفع لها، فكيف تكون شافعة؟! بل هي في النار وعابدوها.
قوله: "وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يأتي فيسجد لربه"، أي: وكما أخبر، فالواو عاطفة، ويجوز أن تكون استئنافية، فإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو أعظم الناس جاهاً عند الله لا يشفع إلا بعد أن يحمد الله ويثني عليه، فيحمد الله بمحامد عظيمة يفتحها الله عليه لم يكن يعلمها من قبل، ويطول سجوده، فكيف بهذه الأصنام هل يمكن أن تشفع لأصحابها؟
قوله: "ارفع رأسك"، أي: من السجود.
قوله: "وقل يسمع"، السامع هو الله، و"يسمع": جواب الأمر مجزوم.
قوله: "وسل تعط"، أي: سل ما بدا لك تعط إياه، وتعط: مجزوم بحذف حرف العلة جواباً لسل.
قوله: "واشفع تشفع"، وحينئذ يشفع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخلائق أن يقضى بينهم.
* * *
قوله: "وقال أبو هريرة له - صلى الله عليه وسلم -: من اسعد الناس بشفاعتك؟" هذا السؤال من أبي هريرة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لقد كنت أظن أن لا يسألني أحد غيرك عنه لما أرى من حرصك على العلم"، وفي هذا دليل على أن من وسائل تحصيل العلم السؤال.
قوله: "من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه"، وعليه، فالمشركون ليس لهم حظ من الشفاعة لأنهم لا يقولون: لا إله إلا الله، قال تعالى: "إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون * ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون } [الصافات: 35،36]، وقال تعالى حكاية عنهم: { اجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب } [ص: 5].(10/247)
الحقيقة أن صنيعهم هو العجاب، قال تعالى: { بل عجبت ويسخرون } [الصافات: 12]، وقال تعالى: { وإن تعجب فعجب قولهم أإذا كنا تراباً أئنا لفي خلق جديد } [الرعد: 5].
وقوله: "خالصاً من قلبه" خرج بذلك من قالها نفاقاً، فإنه لا حظ له في الشفاعة، فإن المنافق يقول: لا إله إلا الله، ويقول: أشهد أن محمداً رسول الله، لكن الله - عز وجل - قابل شهادتهم هذه بشهادته على كذبهم، قال تعالى: { والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } [المنافقون: 1]، أي: في شهادتهم، في قولهم: إنك لرسول الله، فهم كاذبون في شهادتهم وفي قولهم: لا إله إلا الله، لأنهم لو شهدوا بذلك حقاً ما نافقوا ولا أبطنوا الكفر.
قوله: "خالصاً"، أي: سالماً من كل شوب، فلا يشوبها رياء ولا سمعة، بل هي شهادة يقين.
قوله: "من قبله"، لأن المدار على القلب، وهو ليس معنى من المعاني، بل هو مضعة في صدور الناس، قال الله تعالى: { فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } [الحج: 46]، وقال تعالى: { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها } ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله"(1).
وبهذا يبطل قول من قال: إن العقل في الدماغ، ولا ينكر أن للدماغ تأثيراً في الفهم والعقل، لكن العقل في القلب، ولهذا قال الإمام أحمد: "العقل في القلب، وله اتصال في الدماغ".
ومن قال كلمة الإخلاص خالصاً من قلبه، فلا بد أن يطلب هذا المعبود بسلوك الطرق الموصلة إليه، فيقوم بأمر الله ويدع نهيه.
قوله: "فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص"، لأن من أشرك بالله قال الله فيه: { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } .
قوله: "وحقيقته أن الله - سبحانه - هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع".
__________
(1) البخاري: كتاب الإيمان/ باب فضل من استبرأ لدينه، ومسلم: كتاب المساقاة/ باب أخذ الحلال وترك الشبهات.(10/248)
وحقيقته، أي: حقيقة أمر الشفاعة، أي الفائدة منها: أن الله - عز وجل - أراد أن يغفر للمشفوع له، ولكن بواسطة هذه الشفاعة.
والحكمة من هذه الواسطة بينها بقوله: "ليكرمه وينال المقام المحمود"، ولو شاء الله لغفر لهم بلا شفاعة، ولكنه أراد بيان فضل هذا الشافع وإكرامه أمام الناس، ومن المعلوم أن من قبل الله شفاعته، فهو عنده بمنزلة عالية، فيكون في هذا إكرام للشافع من وجهين:
الأول: إكرام الشافع بقبول شفاعته.
الثاني: ظهور جاهه وشرفه عند الله تعالى.
قوله: "المقام المحمود"، أي: المقام الذي يحمد عليه وأعظم الناس في ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن الله وعده أن يبعثه مقاماً محموداً، ومن المقام المحمود: أن الله يقبل شفاعته بعد أن يتراجع الأنبياء أولو العزم عنها.
ومن يشفع من المؤمنين يوم القيامة، فله مقام يحمد عليه على قدر شفاعته..
قوله "فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك"، هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
"ما"، اسم موصول، أي: التي كان فيها شرك.
قوله: "وقد أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع"، ومن ذلك قوله تعالى: { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } [البقرة: 255]، وقوله: { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } [سبأ: 23]، وقوله: { وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } [النجم: 26].
قوله: "وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها لا تكون إلا لأهل الإخلاص والتوحيد".
أما أهل الشرك، فإن الشفاعة لا تكون لهم، لأن شفعاءهم هي الأصنام، وهي باطلة.
وجه إدخال باب الشفاعة في كتاب التوحيد، أن الشفاعة الشركية تنافي التوحيد، والبراءة منها هو حقيقة التوحيد.
* * *
فيه مسائل:(10/249)
الأولى: تفسير الآيات: الثانية: صفة الشفاعة المنفية. الثالثة: صفة الشفاعة المثبتة. الرابعة: ذكر الشفاعة الكبرى وهي المقام المحمود. الخامسة: صفة ما يفعله - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يبدأ بالشفاعة، بل يسجد، فإذا أذن له، شفع.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيات، وهي خمس، وسبق تفسيرها في محالها.
الثانية: صفة الشفاعة المنفية، وهي ما كان فيها شرك، فكل شفاعة فيها شرك، فإنها منفية.
الثالثة: صفة الشفاعة، المثبتة وهي شفاعة أهل التوحيد بشرط إذن الله تعالى ورضاه عن الشافع والمشفوع له.
الرابعة: ذكر الشفاعة الكبرى، وهي المقام المحمود، وهي الشفاعة في أهل الموقف أن يقضى بينهم، وقول الشيخ: "وهي المقام المحمود"، أي: منه(1).
الخامسة: صفة ما يفعله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه لا يبدأ بالشفاعة، بل يسجد، فإذا أذن له، شفع، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، وهو ظاهر، وهذا يدل على عظمة الرب وكمال أدب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
السادسة: من أسعد الناس بها؟ السابعة: أنها لا تكون لمن أشرك بالله. الثامنة: بيان حقيقتها.
السادسة: من أسعد الناس بها؟ هم أهم التوحيد والإخلاص من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه.
ولا إله إلا الله معناها: لا معبود حق إلا الله، وليس المعنى: لا معبود إلا الله، لأنه لو كان كذلك، لكان الواقع يكذب هذا، إذ إن هناك معبودات من دون الله تعبد وتسمى آلهة، ولكنها باطلة، وحينئذ يتعين أن يكون المراد لا إله حق إلا الله.
ولا إله إلا الله تتضمن نفياً وإثباتاً، هذا هو التوحيد، لأن الإثبات المجرد لا يمنع المشاركة، والنفي المجرد تعطيل محض ، فلو قلت: لا إله معناه عطلت كل إله، ولو قلت: الله إله ما وحدت، لأن مثل هذه الصيغة لا تمنع المشاركة، ولهذا قال الله تعالى: { وإلهكم إله واحد } [البقرة: 163] لما جاء الإثبات فقط أكده بقوله: واحد.
__________
(1) تقدم (ص 336).(10/250)
السابعة: أنها لا تكون لمن أشرك بالله، لقوله تعالى: { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } [المدثر: 48]، وغير ذلك مما نفى الله فيه الشفاعة للمشركين، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خالصاً من قلبه".
الثامنة: بيان حقيقتها، وحقيقتها: أن الله تعالى يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود.
* * *
باب قول الله تعالى:
{ إنك لا تهدي من أحببت } الآية.
* مناسبة هذا الباب لما قبله:
مناسبته أنه نوع من الباب الذي قبله، فإذا كان لا أحد يستطيع أن ينفع أحداً بالشفاعة والخلاص من العذاب، كذلك لا يستطيع أحد أن يهدي أحداً، فيقوم بما أمر الله به.
* * *
قوله تعالى: { إنك لا تهدي من أحببت } [القصص: 56]، الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان يحب هداية عمه أبي طالب أو من هو أعم.
فأنت يا محمد المخاطب بكاف الخطاب، وله المنزلة الرفيعة عند الله لا تستطيع أن تهدي من أحببت هدايته، ومعلوم أنه إذا أحب هدايته، فسوق يحرص عليه، ومع ذلك لا يتمكن من هذا الأمر، لأن الأمر كله بيد الله، قال تعالى: { ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم } [آل عمران: 128]، وقال تعالى: { ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله } [هود: 123]، فأتى بـ "أل" الدالة على الاستغراق، لأن "أل" في قوله: "الأمر" للاستغراق، فهي نائبة مناب كل، أي: وإليه يرجع كل الأمر، ثم جاءت مؤكدة بكل، وذلك توكيدان.(10/251)
والهداية التي نفاها الله عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - هداية التوفيق، والتي أثبتها له هداية الدلالة والإرشاد، ولهذا أتت مطلقة لبيان أن الذي بيده هو هداية الدلالة فقط، لا أن يجعله مهتدياً، قال تعالى: { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } [الشورى: 52]، فلم يخصص سبحانه فلاناً وفلاناً ليبين أن المراد: أنك تهدي هداية دلالة، فأنت تفتح الطريق أمام الناس فقط وتبين لهم وترشدهم، وأما إدخال الناس في الهداية، فهذا أمر ليس إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، إنما هو مما تفرد الله به سبحانه، فنحن علينا أن نبين وندعو، وأما هداية التوفيق { أي أن الإنسان يهتدي } ، فهذا إلى الله - سبحانه وتعالى ـ، وهذا هو الجمع بين الآيتين.
وقوله: { إنك لا تهدي من أحببت } ظاهره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب أبا طالب، فكيف يؤول ذلك؟
والجواب: إما أن يقال: إنه على تقدير أن المفعول محذوف، والتقدير: من أحببت هدايته لا من أحببته هو.
أو يقال: إنه أحب عمه محبة طبيعية كمحبة الابن أباه ولو كان كافراً.
أو يقال: إن ذلك قبل النهي عن محبة المشركين.
والأول أقرب، أي: من أحببت هدايته لا عينه، وهذا عام لأبي طالب وغيره.
ويجوز أن يحبه محبة قرابة، لا ينافي هذه المحبة الشرعية، وقد أحب أن يهتدي هذا الإنسان، وإن كنت أبغضه شخصياً لكفره، ولكن لأني أحب أن الناس يسلكون دين الله.
* * *
وفي "الصحيح" عن ابن المسيب، عن أبيه، قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، جاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده عبدالله بن أبي أمية وأبو جهلٍ، فقال له: "يا عم! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله".
قوله: "في الصحيح"، سبق الكلام على مثل هذه العبارة في باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله.
قوله: "أبا"، بالألف: مفعول به منصوب بالألف، لأنه من الأسماء الخمسة، و"الوفاة" يعني: الموت، فاعل حضرت.(10/252)
قوله: "فقال: يا عم! قل لا إله إلا الله"، أتى - صلى الله عليه وسلم - بهذه الكنية الدالة على العطف، لأن العم صنو الأب، أي: كالغصن معه.
والصنو: الغصن الذي أصله واحد، فكأنه معه كالغصن.
قوله: "يا عم" فيها وجهان:
يا عم، بكسر الميم: على تقدير أنها مضافة إلى الياء.
ويا عم، بضم الميم: على تقدير قطعها عن الإضافة.
قوله: "قل: لا إله إلا الله" يجوز أنه قال على سبيل الأمر والإلزام، لأنه يجب أن يأمر كل أحد أن يقول: لا إله إلا الله.
ويجوز أنه قاله على سبيل الترجي والتلطف معه، وأبو طالب والذين عنده يعرفون هذه الكلمة ويعرفون معناها، ولهذا بادر بالإنكار.
قوله: "كلمة"، منصوبة، لأنها بدل لا إله إلا الله، ويجوز إذا لم تكن الرواية بالنصب أن تكون بالرفع، أي: هي كلمة، ولكن النصب أوضح.
قوله: "أحاج"، بضم الجيم وفتحها، فعلى ضم الجيم فهي صفة لكلمة، وإذا كانت بالفتح فهي مجزومة جواباً للأمر: "قل"، أي: قل أحاج.
وقال بعض المعربين: إنها جواب لشرط مقدر، أي: إن تقل أحاج، وبعضهم يرى أنها جواب للأمر مباشرة، وهذا والأول أسهل، لأن الأصل عدم التقدير.
والمعنى: أذكرها حجة لك عند الله، وليس أخاصم وأجادل لك بها عند الله، وإن كان بعض أهل العلم قال: إن معناها أجادل الله بها، ولكن الذي يظهر لي أن المعنى: أحاج لك بها عند الله، أي: أذكرها حجة لك كما جاء في بعض الروايات: "أشهد لك بها عند الله"(1).
قوله: "فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟"، القائلان هما: عبدالله بن أبي أمية، وأبو جهل، والاستفهام للإنكار عليه، لأنهما عرفا أنه إذا قالها - أي كلمة الإخلا
__________
(1) مسلم: كتاب الإيمان/ باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت.(10/253)
ص - وحد، وملة عبد المطلب الشرك، وذكرا له ما تهيج به نعرته، وهي ملة عبد المطلب حتى لا يخرج عن ملة آبائه.
وقد مات أبو جهل على ملة عبد المطلب، أما عبدالله بن أبي أمية والمسيب الذي روى الحديث، فأسلما، فأسلم من هؤلاء الثلاثة رجلان، رضي الله عنهما.
قوله: "ملة عبد المطلب"، أي: دين عبد المطلب.
قوله: "فأعاد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -"، أي: قوله قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله.
قوله: "فأعادا عليه"، أي قولهما: أترغب عن ملة عبد المطلب.
* * *
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك".
فأنزل الله عز وجل: { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى } [التوبة: 113].
قوله: "فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لأستغفرن لك.... إلخ" جملة "لأستغفرن لك" مؤكدة بثلاث مؤكدات: القسم، والسلام، ونون التوكيد الثقيلة.
والاستغفار: طلب المغفرة، وكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفسه شيء من القلق، حيث قال: "ما لم أنه عنك"، فوقع الأمر كما توقع ونهى عنه.
قوله: "ما لم أنه عنك"، فعل مضارع مبني للمجهول، والناهي عنه هو الله.
قوله: "ما كان"، ما: نافية، وكان: فعل ماض وناقص.
قوله: { أن يستغفروا } ، أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر اسم كان مؤخر.
قوله: { للنبي } ، خبر مقدم، أي: ما كان استغفاره.
واعلم أن ما كان أو ما ينبغي أو لا ينبغي ونحوها إذا جاءت في القرآن والحديث، فالمراد أن ذلك ممتنع غاية الامتناع، كقوله تعالى: { ما كان لله أن يتخذ من ولد } [مريم: 35]، وقوله: { وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً } [مريم: 92]، وقوله: { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر } [يس: 40]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام"(1).
__________
(1) مسلم: كتاب الإيمان/ باب في قوله عليه الصلاة والسلام: "إن الله لا ينام".(10/254)
وقوله: { أن يستغفروا } ، أي: يطلبوا المغفرة للمشركين.
قوله: { ول كانوا أولي قربى } ، أي: حتى ولو كانوا أقارب لهم، ولهذا لما اعتمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومر بقبر أمه استأذن الله أن يستغفر لها فما أذن الله له، فاستأذنه أن يزور قبرها فأذن له، فزاره للاعتبار وبكى وأبكى من حوله من الصحابة(1).
فالله منعه من طلب المغفرة للمشركين، لأن هؤلاء المشركين ليسوا أهلاً للمغفرة لأنك إذا دعوت الله أن يفعل ما لا يليق، فهو اعتداء في الدعاء.
* * *
وأنزل الله في أبي طالب: { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء } (2)
قوله: "وأنزل الله في أبي طالب"، أي: في شأنه.
قوله: { إنك لا تهدي من أحببت } ، الخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم -، أي لا توفق من أحببت للهداية.
قوله: { ويهدي من يشاء } ، أي يهدي هداية التوفيق من يشاء. واعلم أن كل فعل يضاف إلى مشيئة الله تعالى، فهو مقرون بالحكمة، أي: من اقتضت حكمته أن يهديه فإنه يهتدي، ومن اقتضت حكمته أن يضله أضله.
وهذا الحديث يقطع وسائل الشرك بالرسول وغيره، فالذين يلجئون إليه - صلى الله عليه وسلم - ويستنجدون به مشركون، فلا ينفعهم ذلك لأنه لم يؤذن له أن يستغفر لعمه، مع أنه قد قام معه قياماً عظيماً، ناصره وآزره في دعوته، فكيف بغيره ممن يشركون بالله؟!
الإشكالات الواردة في الحديث:
الإشكال الأول: الإثبات والنفي في الهداية، وقد سبق بيان ذلك(3).
الإشكال الثاني: قوله لما حضرت أبا طالب الوفاة يشكل مع قوله تعالى: { وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن } [النساء: 18]، وظاهر الحديث قبول توبته.
__________
(1) مسلم: كتاب الجنائز/ باب استئذان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه عز وجل زيارة أمه.
(2) البخاري: كتاب التفسير/ باب { وإنك لا تهدي من أحببت } ، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت.
(3) ص 340].(10/255)
والجواب عن ذلك من أحد وجهين:
الأول: أن يقال لما حضرت أبا طالب الوفاة، أي ظهر عليه علامات الموت ولم ينزل به، ولكن عرف موته لا محالة، وعلى هذا، فالوصف لا ينافي الآية.
الثاني: أن هذا خاص بأبي طالب مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويستدل لذلك بوجهين:
أنه قال: "كلمة أحاج لك بها عند الله"، ولم يجزم بنفعها له، ولم يقل: كلمة تخرجك من النار.
أنه سبحانه أذن للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالشفاعة لعمه مع كفره، وهذا لا يستقيم إلا له، والشفاعة له ليخفف عنه العذاب.
ويضعف الوجه الأول أن المعنى ظهرت عليه علامات الموت: بأن قوله: "لما حضرت أبا طالب الوفاة" مطابقاً تماماً لقوله تعالى: { حتى إذا حضر أحدهم الموت } ، وعلى هذا يكون الأوضح في الجواب أن هذا خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مع أبي طالب نفسه.
الإشكال الثالث: أن قوله تعالى: { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } [التوبة: 113] في سورة التوبة، وهي متأخرة مدنية، وقصة أبي طالب مكية، وهذا يدل على تأخر النهي عن الاستغفار للمشركين، ولهذا استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - للاستغفار لأمه(1) وهو ذاهب للعمرة.
ولا يمكن أن يستأذن بعد نزول النهي، فدل على تأخر الآية، وأن المراد بيان دخولها في قوله تعالى: { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } ، وليس المعنى أنها نزلت في ذلك الوقت.
وقيل: إن سبب نزول الآية هو استئذانه ربه في الاستغفار لأمه، ولا مانع من أن يكون للآية سببان.
الإشكال الرابع: أن أهل العلم قالوا: يسن تلقين المحتضر لا إله إلا الله، لكن بدون قول قل، لأنه ربما مع الضجر يقول: لا، لضيق صدره مع نزول الموت، أو يكره هذه الكلمة أو معناها، وفي هذا الحديث قال: "قل".
__________
(1) تقدم (ص 345).(10/256)
والجواب: إن أبا طالب كان كافراً، فإذا قيل له: قل وأبي، فهو باق على كفره، لم يضره التلقين بهذا، فإما أن يبقى على كفره ولا ضرر عليه بهذا التلقين، وإما أن يهديه الله، بخلاف المسلم، فهو على خطر لأنه ربما يضره التلقين على هذا الوجه.
* * *
فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله: { إنك لا تهدي من أحببت } الآية. الثانية: تفسير قوله: { ما كان للنبي... } الآية. الثالثة: وهي المسألة الكبيرة، تفسير قوله: "قل لا إله إلا الله"، بخلاف ما عليه من يدعي العلم.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله تعالى: { إنك لا تهدي من أحببت } ، أي: من أحببت هدايته، وسبق تفسيرها، وبينا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا كان لا يستطيع أن يهدي أحداً وهو حي، فكيف يستطيع أن يهدي أحداً وهو ميت؟! وأنه كما قال الله تعالى في حقه: { قل إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً } [الجن: 21].
الثانية: تفسير قوله: { ما كان للنبي ..... } الآية، وقد سبق تفسيرها وبيان تحريم استغفار المسلمين للمشركين ولو كانوا أولي قربى.
والخطر من قول بعض الناس لبعض زعماء الكفر إذا مات: المرحوم، فإنه حرام لأن هذا مضادة لله - سبحانه وتعالى ـ، وكذلك يحرم إظهار الجزع والحزن على موتهم بالإحداد أو غيره، لأن المؤمنين يفرحون بموتهم، بل لو كان عندهم القدرة والقوة لقاتلوهم حتى يكون الدين كله لله.
الثالثة: وهي المسألة الكبيرة، أي: الكبير من هذا الباب، وقوله (أي قول النبي - صلى الله عليه وسلم -) لعمه: "قل: لا إله إلا الله"، وعمه عرف المعنى أنه التبرؤ من كل إله سوى الله، ولهذا أبى أن يقولها لأنه يعرف معناها ومقتضاها وملزوماتها.
وقوله: "بخلاف ما عليه من يدعي العلم" كأنه يشير إلى تفسير المتكلمين لمعنى لا إله إلا الله، حيث يقولون: إن الإله هو القادر على الاختراع، وإنه لا قادر على الاختراع والإيجاد والإبداع إلا الله، وهذا تفسير باطل.(10/257)
نعم، هو حق لا قادر على الاختراع إلا الله، لكن ليس هذا معنى لا إله إلا الله، ولكن المعنى: لا معبود حق إلا الله، لأننا لو قلنا: إن معنى لا إله إلا الله: لا قادر على الاختراع إلا الله، صار المشركون الذين قاتلهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - واستباح نساءهم وذريتهم وأموالهم مسلمين، فالظاهر من كلامه رحمه الله أنه أراد أهل الكلام الذين يفسرون لا إله إلا الله بتوحيد الربوبية، وكذلك الذين يعبدون الرسول والأولياء ويقولون: نحن نقول لا إله إلا الله.
* * *
الرابعة: أن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل قال للرجل: قل: "لا إله إلا الله"، فقبح الله أبا جهل! من أعلم منه بأصل الإسلام.
الرابعة: أن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي - صلى الله عليه وسلم -، أبو جهل ومن معه يعرفون مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بقول: لا إله إلا الله، ولذا ثاروا وقالوا له: "أترغب عن ملة عبد المطلب؟"، وهو أيضاً أبى أن يقولها لأنه يعرف مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الكلمة، قال تعالى: { إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون } [الصافات: 36].
فالحاصل أن الذين يدعون أن معنى لا إله إلا الله، أي: لا قادر على الاختراع إلا هو، أو يقولونها وهم يعبدون غيره كالأولياء هم أجهل من أبي جهل.
واحترز المؤلف في عدم ذكر من مع أبي جهل لأنهم أسلموا، وبذلك صاروا أعلم ممن بعدهم، خاصة من هم في العصور المتأخرة في زمن المؤلف رحمه الله.
* * *
الخامسة: جده - صلى الله عليه وسلم - ومبالغته في إسلام عمه. السادسة: الرد على من زعم إسلام عبد المطلب وأسلافه.
الخامسة: جده ومبالغته في إسلام عمه، حرصه - صلى الله عليه وسلم - وكونه يتحمل أن يحاج بالكلمة عند الله واضح من نص الحديث، لسببين هما:
القرابة.(10/258)
لما أسدى للرسول والإسلام من المعروف، فهو على هذا مشكور، وإن كان على كفره مأزوراً وفي النار، ومن مناصرة أبي طالب أنه هجر قومه من أجل معاضدة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومناصرته، وكان يعلن على الملأ صدقه ويقول قصائد في ذلك ويمدحه، ويصبر على الأذى من أجله، وهذا جدير بأن يحرص على هدايته، لكن الأمر بيد مقلب القلوب كما في الحديث: "إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، يصرفه حيث يشاء"، ثم قال - صلى الله عليه وسلم - في نفس الحديث: "اللهم! مصرف القلوب! صرف قلوبنا على طاعتك"(1).
السادسة: الرد على من زعم إسلام عبد المطلب، بدليل قولهما: "أترغب عن ملة عبد المطلب؟" حين أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لا إله إلا الله، فدل على أن ملة عبد المطلب الكفر والشرك.
وفي الحديث رد على من قال بإسلام أبي طالب أو نبوته كما تزعمه الرافضة، قبحهم الله، لأن آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله.
* * *
السابعة: كونه - صلى الله عليه وسلم - استغفر له فلم يغفر له، بل نهي عن ذلك. الثامنة: مضرة أصحاب السوء على الإنسان.
السابعة: كونه - صلى الله عليه وسلم - استغفر له فلم يغفر له، الرسول - صلى الله عليه وسلم - أقرب الناس أن يجيب الله دعاءه، ومع ذلك اقتضت حكمة الله أن لا يجيب دعاءه لعمه أبي طالب، لأن الأمر بيد الله لا بيد الرسول ولا غيره، قال تعالى: { قل إن الأمر كله لله } [آل عمران: 154]، وقال تعالى: { وإليه يرجع الأمر كله } [هود: 123] ليس لأحد تصرف في هذا الكون إلا رب الكون.
وكذا أمه - صلى الله عليه وسلم - لم يؤذن له في الاستغفار لها، فدل على أن أهل الكفر ليسوا أهلاً للمغفرة بأي حال، ولا يجاب لنا فيهم، ولا يحل الدعاء لهم بالمغفرة والرحمة، وإنما يدعى لهم بالهداية وهم أحياء.
__________
(1) مسلم: كتاب القدر/ باب تصريف الله تعالى للقلوب كيف يشاء.(10/259)
الثامنة: مضرة أصحاب السوء على الإنسان، المعنى أنه لولا هذان الرجلان، لربما وفق أبو طالب القبول ما عرضه النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن هؤلاء - والعياذ بالله - ذكراه نعرة الجاهلية ومضرة رفقاء السوء، ليس خاصاً بالشرك، ولكن في جميع سلوك الإنسان، وقد شبه الني - صلى الله عليه وسلم - جليس السوء بنافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، أو تجد منه رائحة كريهة(1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "فأبواه يهوادنه أو ينصرانه أو يمجسانه"(2)، وذلك لما بينهما من الصحبة والاختلاط، وكذلك روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بسند لا بأس به: "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل"(3)، فالمهم أنه يجب على الإنسان أن يفكر في أصحابه: هل هم أصحاب سوء؟ فليبعد عنهم لأنهم أشد عداء من الجرب، أو هم أصحاب خير: يأمرونه بالمعروف، وينهونه عن المنكر، ويفتحون له أبواب الخير ، فعليه بهم.
* * *
التاسعة: مضرة تعظيم الأسلاف والأكابر.
التاسعة: مضرة تعظيم الأسلاف والأكابر، لأن أبا طالب اختار أن يكون على ملة عبد المطلب حين ذكروه بأسلافه مع مخالفته لشريعة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا ليس على إطلاقه، فتعظيمهم إن كانوا أهلاً لذلك فلا يضر، بل هو خير، فأسلافنا من صدر هذه الأمة لا شك أن تعظيمهم وإنزالهم منازلهم خير لا ضرر فيه.
__________
(1) البخاري: كتاب البيوع/ باب في العطار وبيع المسك، ومسلم: كتاب البر/ باب استحباب مجالسة الصالحين.
(2) تقدم (ص 52).
(3) مسند الإمام أحمد (2/303)، والترمذي: كتاب الزهد/ باب الرجل على دين خليله). - وقال: "حسن غريب" ـ، والحاكم (4/188) - وقال: "صحيح ووافقه الذهبي" -.(10/260)
وإن كان تعظيم الأكابر لما هم عليه من العلم والسن، فليس فيه مضرة، وإن كان تعظيمهم لما هم عليه من الباطل، فهو ضرر عظيم على دين المرء، فمثلاً: من يعظم أبا جهل لأنه سيد أهل الوادي، وكذلك عبد المطلب وغيره فهو ضرر عليه، ولا يجوز أن يرى الإنسان في نفسه لهؤلاء أي قدر، لأنهم أعداء الله - عز وجل ـ، وكذلك لا يظم الرؤساء من الكفار في زمانه، فإن فيه مضره لأنه قد يورث ما يضاد الإسلام، فيجب أن يكون التعظيم حسب ما تقتضيه الأدلة من الكتاب والسنة.
* * *
العاشرة: الشبهة للمبطلين في ذلك، لاستدلال أبي جهل بذلك.
العاشرة: الشبهة للمبطلين في ذلك لاستدلال أبي جهل بذلك، شبه المبطلين في تعظيم الأسلاف هي استدلال أبي جهل بذلك في قوله: "أترغب عن ملة عبد المطلب؟"، وهذه الشبهة ذكرها الله في القرآن في قوله تعالى: { وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون } [الزخرف: 23].
فالمبطلون يقولون في شبهتهم: إن أسلافهم على الحق وسيقتدون بهم، ويقولون: كيف نسفه أحلامهم، ونضلل ما هم عليه؟
وهذا يوجد في المتعصبين لمشايخهم وكبرائهم ومذاهبهم، حيث لا يقبلون قرآناً ولا سنة في معارضة الشيخ أو الإمام، حتى إن بعضهم يجعلن معصومين، كالرافضة، والتيجانية، والقاديانية ، وغيرهم، فهم يرون أن إماماهم لا يخطئ، والكتاب والسنة يمكن أن يخطئا.
فالواجب على المرء أن يكون تابعاً لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأما من خالفه من الكبراء والأئمة، فإنهم لا يحتج بهم على الكتاب والسنة، لكن يعتذر لهم عن مخالفة الكتاب والسنة إن كانوا أهلاً للاعتذار، بحيث لم يعرف عنهم معارضة للنصوص، فيعتذر لهم بما ذكره أهل العلم، ومن أحسن ما ألف كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية: "رفع الملام عن الأثمة الأعلام"، أما من يعرف بمعارضة الكتاب والسنة، فلا يعتذر له.
* * *(10/261)
الحادية عشرة: الشاهد لكون الأعمال بالخواتيم، لأنه لو قالها لنفعته. الثانية عشرة: التأمل في كبر هذه الشبهة في قلوب الضالين، لأن في القصة أنهم لم يجادلوه إلا بها، مع مبالغته - صلى الله عليه وسلم - وتكريره، فلأجل عظمتها ووضوحها عندهم اقتصروا عليها.
الحادية عشرة: الشاهد لكون الأعمال بالخواتيم، وهذا مبني على القول بأن معنى حضرته الوفاة، أي: ظهرت عليه علاماتها ولم ينزل به كما سبق.
الثانية عشرة: التأمل في كبر هذه الشبهة في قلوب الضالين.... إلخ، وهذه الشبهة هي تعظيم الأسلاف والأكابر.
* * *
باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم
هو الغلو في الصالحين
قوله: "سبب كفر بني آدم"، السبب في اللغة: ما يتوصل به إلى غيره، ومنه قوله تعالى: { فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع } [الحج: 15]، أي: بشيء يوصله إلى السماء.
ومنه أيضاً سمي الحبل سبباً، لأنه يتوصل به إلى استسقاء الماء من البئر.
وأما في الاصطلاح عند أهل الأصول، فهو الذي يلزم من جوده الوجود ومن عدمه العدم.
أي: إذا وجد السبب وجد المسبب، وإذا عدم عُدِمَ المسبب، إلا أن يكون هناك سبب آخر يثبت به المسبب.
قوله: "بني آدم"، يشمل الرجال والنساء، لأنه إذا قيل: بنو فلان، وهم قبيلة، شمل ذكورهم وإناثهم، أما إذا قيل: بنو فلان، أي رجل معين، فالمراد بهم الذكور.
قوله: "وتركهم"، يعني: وسبب تركهم.
قوله: "دينهم"، مفعول ترك، لأن ترك مصدر مضاف إلى فاعله، و"دينهم" يكون مفعولاً به.
قوله: "هو الغلو"، هذا الضمير يسمى ضمير الفصل، وهو من أدوات التوكيد، والغلو: خبر لأن ضمير الفصل على القول الراجح ليس له محل من الإعراب.
والغلو: هو مجاوزة الحد في الثناء مدحاً أو قدحاً.
والقدح: يسمى ثناء، ومنه الجنازة التي مرت فأثنوا عليها شراً(1)
__________
(1) البخاري: كتاب الجنائز/ باب ثناء الناس على الميت، ومسلم: كتاب الجنائز/ باب فيمن يثنى عليه خير أو شر.(10/262)
والغلو هنا: مجاوزة الحد في الثناء مدحاً.
قوله: "الصالحين"، الصالح: هو الذي قام بحق الله وحق العباد، وفي هذه الترجمة إضافة الشيء إلى سببه بدون أن ينسب إلى الله بقوله: "أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين"، وهذا جائز إذا كان السبب حقيقة وصحيحاً، وذلك إذا كان السبب قد ثبت من قبل الشرع أو الحس أو الواقع.
وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لولا أنا: لكان في الدرك الأسفل من النار"(1)، يعني: عمه أبا طالب.
* * *
وقول الله عز وجل: { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم } [النساء: 171]
قوله: "وقول الله - عز وجل ـ"، يعني: وباب قول الله- عز وجل -.
قوله: { يا أهل الكتاب } ، نداء، وهم اليهود والنصارى، والكتاب: التوراة لليهود والإنجيل للنصارى.
قوله: { لا تغلو في دينكم } ، أي: لا تتجاوزوا الحد مدحاً أو قدحاً، والأمر واقع كذلك بالنسبة لأهل الكتاب عموماً، فإنهم غلوا في عيسى بن مريم عليه السلام مدحاً وقدحاً، حيث قال النصارى: إنه ابن الله، وجعلوه ثالث ثلاثة.
واليهود غلوا فيه قدحاً، وقالوا: إنه أمه زانية، وإنه ولد زنا، قاتلهم الله؟ فكل من الطرفين غلا في دينه وتجاوز الحد بين إفراط وتفريط.
قوله: { ولا تقولوا على الله إلا الحق } ، وهو ما قاله سبحانه وتعالى عن نفسه بأنه: إله واحد، أحد، صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً.
قوله: { إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله } ، هذه صيغة حصر، وطريقه { إنما } ، فيكون المعنى: ما المسيح عيسى بن مريم إلا رسول الله، وأضافه إلى أمه ليقطع قول النصارى الذي يضيفونه إلى الله.
وفي قوله: { رسول الله } إبطال لقول اليهود: إنه كذاب، ولقول النصارى: إنه إله.
وفي قوله: { وكلمته } إبطال لقول اليهود: إنه ابن زنا.
__________
(1) البخاري: كتاب فضائل الصحابة/ باب قصة أبي طالب، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب.(10/263)
{ وكلمته ألقاها إلى مريم } : أن قال له كن فكان.
قوله: { وروح منه } ، أي: إنه عز وجل جعل عيسى عليه الصلاة والسلام كغيره من بين آدم من جسد وروح، وأضاف روحه إلى تشريفاً وتكريماً، كما في قوله تعالى في آدم: { ونفخت فيه من روحي } [ص: 72]، فهذا للتشريف والتكريم.
قوله: { فآمنوا بالله ورسله } ، الخطاب لأهل الكتاب، ومن رسله محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي هو آخرهم وخاتمهم وأفضلهم.
قوله: { ولا تقولوا ثلاثة } ، أي: إن الله ثالث ثلاثة.
قوله: { انتهوا خيراً لكم } ، { خيراً } : خبر ليكن المحذوفة، أي: انتهوا يكن خيراً لكم.
قوله: { إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض } ، أي: تنزيهاً له أن يكون له ولد، لأنه مالك لما في السماوات وما في الأرض، ومن جملتهم عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، فهو من جملة المملوكين المربوبين، فكيف يكون إلهاً مع الله أو ولداً لله؟
* (تنبيه):
لم يشر المؤلف رحمه الله تعالى إلى إكمال الآية، ونرجو أن يكون في إكمالنا لها فائدة.
قوله: { وكفى بالله وكيلاً } ، أي: كفى الله تعالى أن يكون حفيظاً على عباده، مدبراً لأحوالهم، عالماً بأعمالهم.
والشاهد من هذه الآية قوله: { لا تغلو في دينكم } ، فنهى عن الغلو في الدين، لأنه يتضمن مفاسد كثيرة، منها:
أنه تنزيل للمغلو فيه فوق منزلته إن كان مدحاً، وتحتها إن كان قدحاً.
أنه يؤدي إلى عبادة هذا المغلو فيه كما هو الواقع من أهل الغلو.
أنه يصد عن تعظيم الله - سبحانه وتعالى - ، لأن النفس إما أن تنشغل بالباطل أو بالحق، فإذا انشغلت بالغلو بهذا المخلوق وإطرائه وتعظيمه، تعلقت به ونسيت ما يجب لله تعالى من حقوق.
أن المغلو فيه إن كان موجوداً، فإنه يزهو بنفسه، ويتعاظم ويعجب بها، وهذه مفسدة تفسد المغلو فيه إن كانت مدحاً، وتوجب العداوة والبغضاء وقيام الحروب والبلاء بين هذا وهذا إن كانت قدحاً.(10/264)
قوله: { في دينكم } ، الدين يطلق على العمل والجزاء، والمراد به هنا: العمل.
والمعنى: لا تجعلوا عبادتكم غلواً في المخلوقين وغيرهم.
وهل يدخل في هذا الغلو في العبادات؟
الجواب: نعم، يدخل الغلو في العبادات، مثل أن يرهق الإنسان نفسه بالعبادة ويتعبها، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك(1)، ومثل أن يزيد عن المشروع، كأن يرمي بجمرات كبيرة، أو يأتي بأذكار زائدة عن المشروع أدبار الصلوات تكميلاً للوارد أو غير هذا، فالنهي عن الغلو في الدين يعم الغلو من كل وجه.
* * *
وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: { وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق نسراً } [نوح: 23].
قوله: "وفي الصحيح"، أي: في "صحيح البخاري"، وهذا الأثر اختصره المصنف، وقد سبق الكلام على مثل هذه العبارة في باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله.
قوله: { وقالوا } ، أي: قال بعضهم لبعض.
قوله: { لا تذرن } ، أي: لا تدعن وتتركن، وهذا نهي مؤكد بالنون.
قوله: { آلهتكم } ، هل المراد: لا تذروا عبادتها أو تمكنوا أحداً من إهانتها؟
الجواب: المعنيان، أي: انتصروا لألهتكم، ولا تمكنوا أحداً من إهانتها، ولا تدعوها للناس، ولا تدعوا عبادتها أيضاً، بل احرصوا عليها، وهذا من التواصي بالباطل عكس الذين آمنوا وعملوا الصالحات يتواصون بالحق.
قوله: { ولا سواعاً } ، لا: زائدة للتوكيد، مثلها في قوله تعالى: { ولا الضالين } [الفاتحة: 7]، وفائدتها أنهم جعلوا مدخولها كالمستقل، بخلاف يعوق ونسر، فهما دون مرتبة من سبقهما.
__________
(1) البخاري: كتاب التهجد/ باب ما يكره من التشديد في العبادة، ومسلم: كتاب صلاة المسافر/ باب أمر من نعس في صلاته... .(10/265)
قوله تعالى: { وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً } ، هذه الخمسة كأن لها مزية على غيرها، لأن قوله: { آلهتكم } عام يشمل كل ما يعبدون، وكأنها كبار آلهتهم، فخصوها بالذكر.
والآلهة: جمع إله، وهو كل ما عبد، سواء بحق أو بباطل، لكن إذا كان المعبود هو الله، فهو حق، وإن كان غير الله، فهو باطل.
قال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح".
* * *
قال: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا، أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك، ونسي العلم، عبدت"(1).
وفي هذا التفسير إشكال، حيث قال: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح"، وظاهر القرآن أنها قبل نوح، قال تعالى: { قال نوح رب إنهم عصوني } [نوح: 21-23]، ظاهر الآية الكريمة: أن قوم نوح كانوا يعبدونها ثم نهاهم نوح عن عبادتها، وأمرهم بعبادة الله وحده، ولكنهم أبوا وقالوا: { لا تذرن آلهتكم } ، وهذا (أعني: القول بأنهم قبل نوح) قول محمد بن كعب ومحمد بن قيس، وهو الراجح لموافقته ظاهر القرآن.
ويحتمل - وهو بعيد - أن هذا في أول رسالة نوح، وأنه استجاب له هؤلاء الرجال وآمنوا به، ثم بعد ذلك ماتوا قبل نوح ثم عبدوهم، لكن هذا بعيد حتى من سياق الأثر عن ابن عباس.
فالمهم أن تفسير الآية أن يقال: هذه أصنام في قوم نوح كانوا رجالاً صالحين، فطال على قومهم الأمد، فعبدوهم.
قوله "أوحى الشيطان"، أي: وحي وسوسة، وليس وحي إلهام.
قوله: "أن انصبوا إلى مجالسهم"، الأنصاب: جمع نصب، وهو كل ما ينصب من عصا أو حجر أو غيره.
__________
(1) البخاري: كتاب التفسير/ باب { وداً ولا سواعاً ولا يغوث } .(10/266)
قوله: "سموها بأسمائهم"، أي: ضعوا أنصاباً في مجالسهم، وقولوا: هذا ود، وهذا سواع، وهذا يغوث، وهذا يعوق، وهذا نسر، لأجل إذا رأيتموهم تتذكروا عبادتهم فتنشطوا عليها، هكذا زين لهم الشيطان، وهذا غرور ووسوسة من الشيطان كما قال لآدم: { هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى } [طه: 120].
وإذا كان العبد لا يتذكر عبادة الله إلا برؤية أشباح هؤلاء، فهذه عبادة قاصرة أو معدومة.
قوله: "ففعلوا ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم، عبدت من دون الله"، ذكر ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون، والقرن مئة سنة، حتى إذا طال عليهم الآمد حصل النزاع والتفرق، فبعث الله النبيين، كما قال تعالى: { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.... } الآية [البقرة: 213].
هذا هو تفسير ابن عباس رضي الله عنهما للآية، وهل تفسيره حجة؟
الجواب: يرجع في التفسير أولاً إلى القرآن، فالقرآن يفسر بعضه بعضاً، مثل قوله تعالى: { وما أدراك ما هيه } تفسيرها: { نار حامية } [القارعة: 10، 11]، فإن لم نجد في القرآن، فإلى سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإن لم نجد، فإلى تفسير الصحابة، وتفسير الصحابي حجة بلا شك، لأنهم أدرى بالقرآن حيث نزل بعصرهم وبلغتهم، ويعرفون عنه أكثر من غيرهم، حتى قال بعض العلماء: إن تفسير الصحابي في حكم المرفوع، وهذا ليسس بصحيح، لكنه لا شك أنه حجة على من بعدهم، فإن اختلف الصحابة في التفسير أخذنا بما يرجحه سياق الآية، والآية تدل على ما ذكره ابن عباس، إلا أن ظاهر السياق أن هؤلاء القوم الصالحين كانوا قبل نوح - صلى الله عليه وسلم -، وقد عرفت القول الراجح.
قوله: " الأمد"، الزمن.
وهذا كتفسير ابن عباس، إلا أن ابن عباس يقول: "إنهم جعلوا الأنصاب في مجالسهم"، وهنا يقول: "عكفوا على قبورهم"، ولا يبعد أنهم فعلوا هذا وهذا، أو أنهم قبروا في مجالسهم، فتكون هي محل القبور.(10/267)
والشاهد قوله: "ثم طال عليهم الأمد، فعبدوهم"، فسبب العبادة إذاً الغلو في هؤلاء الصالحين حتى عبدوهم.
* * *
وعن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبدالله ورسوله". أخرجاه(1).
قوله: "لا تطروني"، الإطراء: المبالغة في المدح.
وهذا النهي يحتمل أنه منصب على هذا التشبيه، وهو قوله: "كما أطرت النصارى ابن مريم"، حيث جعلوه إلهاً أو ابناً لله، وبهذا يوحي قول البوصيري:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم ... ... ... واحكم ما شئت مدحاً فيه واحتكم
أي: دع ما قاله النصارى أن عيسى عليه الصلاة والسلام ابن الله أو ثالث ثلاثة، والباقي املأ فمك في مدحه ولو بما لا يرضيه.
ويحتمل أن النهي عام، فيشمل ما يشابه غلو النصارى في عيسى بن مريم وما دونه، ويكون قوله: "كما أطرت" لمطلق التشبيه لا للتشبيه المطلق، لأن إطراء النصارى عيسى بن مريم سببه الغلو في هذا الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم -، حيث جعوله ابناً لله وثالث ثلاثة، والدليل على أن المراد هذا قوله: "إنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله".
قوله: "إنما أنا عبد"، أي: ليس لي حق في الربوبية، ولا مما يختص به الله - عز وجل - أبداً.
قوله: " فقولوا عبدالله ورسوله"، هذان الوصفان أصدق وصف وأشرفه في الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فأشرف وصف للإنسان أن يكون من عباد الله، قال تعالى: { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً } [الفرقان: 63]، وقال تعالى: { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين } [الصافات: 171]، فوصفهم الله بالعبودية قبل الرسالة مع أن الرسالة شرف عظيم، لكن كونهم عباداً لله - عز وجل - أشرف وأعظم، وأشرف وصف له وأحق وصف به، ولهذا يقول الشاعر في محبوبته:
لا تدعني إلا بيا عبادها ... ... ... فإنه أشرف أسمائي
__________
(1) البخاري: كتاب الأنبياء/ باب { واذكر في الكتاب مريم } .(10/268)
أي: أنت إذا أردت أن تكلمني قل: يا عبد فلانة، لأنه أشرف أسمائي وأبلغ في الذل.
فمحمد - صلى الله عليه وسلم - عبد لا يعبد، ورسول لا يكذب، ولهذا نقول في صلاتنا عندما نسلم عليه ونشهد له بالرسالة: وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فهذا أفضل وصف اختاره النبي عليه الصلاة والسلام لنفسه.
واعلم أن الحقوق ثلاثة أقسام، وهي:
الأول: حق لله لا يشرك فيه غيره: لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وهو ما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
الثاني: حق خاص للرسل، وهو إعانتهم وتوقيرهم وتبجيلهم بما يستحقون.
الثالث: حق مشترك، وهو الإيمان بالله ورسله، وهذه الحقوق موجودة في الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: { لتؤمنوا بالله ورسوله } ، فهذا حق مشترك، { وتعزروه وتوقروه } هذا خاص بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، { وتسبحوه بكرة وأصيلاً } [الفتح: 9] هذا خاص بالله - سبحانه وتعالى -.
والذين يغلون في الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجعلون حق الله له، فيقولون: { وتسبحوه } ، أي: الرسول، فيسبحون الرسول كما يسبحون الله، ولا شك أنه شرك، لأن التسبيح من حقوق الله الخاصة به، بخلاف الإيمان، فهو من الحقوق المشتركة بين الله ورسوله.
ونهى عن الإطراء في قوله عليه الصلاة والسلام: "كما أطرت النصارى عيسى بن مريم"، لأن الإطراء والغلو يؤدي إلى عبادته كما هو الواقع الآن، فيوجد عند قبره في المدينة من يسأله، فيقول: يا رسول الله! المدد، المدد، يا رسول الله! أغثنا، يا رسول الله! بلادنا يابسة، وهكذا، ورأيت بعيني رجلاً يدعو الله تحت ميزاب الكعبة مولياً ظهره البيت مستقبلاً المدينة، لأن استقبال القبر عنده أشرف من استقبال الكعبة والعياذ بالله.
ويقول بعض المغالين: الكعبة أفضل من الحجرة، فأما والنبي - صلى الله عليه وسلم - فيها، فلا والله، ولا الكعبة، ولا العرش وحملته، ولا الجنة.(10/269)
فهو يريد أن يفضل الحجرة على الكعبة وعلى العرش وحملته وعلى الجنة، وهذه مبالغة ولا يرضاها النبي - صلى الله عليه وسلم - لنا ولا لنفسه.
وصحيح أن جسده - صلى الله عليه وسلم - أفضل، ولكن كونه يقول: إن الحجرة أفضل من الكعبة والعرش والجنة، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيها هذا خطأ عظيم، نسأل الله السلامة من ذلك.
قوله: "إياكم"، للتحذير.
* * *
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو"(1)
قوله: "والغلو"، معطوف على إياكم، وقد اضطرب فيه المعربون اضطراباً كثيراً، وأقرب ما قيل للصواب وأقله تكلفاً: أن إيا منصوبة بفعل أمر مقدر تقديره إياك أحذر، أي: أحذر نفسك أن تغرك، والغلو معطوف على إياك، أي: وأحذر الغلو.
والغلو كما سبق: هو مجاوزة الحد مدحاً أو ذماً، وقد يشمل ما هو أكثر من ذلك، أيضاً، فيقال: مجاوزة الحد في الثناء وفي التعبد وفي العمل، لأن هذا الحديث ورد في رمي الجمرات، حيث روى ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غداة العقبة وهو على ناقته: "القط لي حصى. فلقطت له سبع حصيات هن حصى الخذف، فجعل ينفضهن في كفه، ويقول: أمثال هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين". هذا لفظ ابن ماجه.
والغلو: فاعل أهلك.
قوله: "من كان قبلكم"، مفعول مقدم.
قوله: "فإنما"، أداة حصر، والحصر: إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه.
قوله: "أهلك"، يحتمل معنيين:
الأول: أن المراد هلاك الدين، وعليه يكون الهلاك واقعاً مباشرة من الغلو، لأن مجرد الغلو هلاك.
الثاني: أنه هلاك الأجسام، وعليه يكون الغلو سبباً للهلاك، أي: إذا غلوا خرجوا عن طاعة الله فأهلكهم الله.
__________
(1) مسند الإمام أحمد (1/215، 347)، وابن ماجه: كتاب المناسك/ باب قدر الحصى، 2/1008، والحاكم (1/466) - وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي - .(10/270)
وهل الحصر في قوله: "فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو" حقيقي أو إضافي؟
الجواب: إن قيل: إنه حقيقي، حصل إشكال، وهو أن هناك أحاديث أضاف النبي - صلى الله عليه وسلم - الهلاك فيها إلى أعمال غير الغلو، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد"(1)، فهنا حصران متقابلان، فإذا قلنا: إنه حقيقي بمعنى أنه لا هلاك إلا بهذا حقيقة، صار بين الحديثين تناقض.
وإن قيل: إن الحصر إضافي، أي: باعتبار عمل معين، فإنه لا يحصل تناقض بحيث يحمل كل منهما على جهة لا تعارض الحديث الآخر لئلا يكون في حديثه - صلى الله عليه وسلم - تناقض، وحينئذ يكون الحصر إضافياً، فيقال: أهلك من كان قبلكم الغلو هذا الحصر باعتبار الغلو في التعبد في الحديث الأول، وفي الآخر يقال من كان قبلكم باعتبار الحكم، فيهلك الناس إذا أقاموا الحد على الضعيف دون الشريف.
وفي هذا الحديث يحذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمته من الغلو، ويبرهن على أن الغلو سبب للهلاك لأنه مخالف للشرع ولإهلاكه للأمم السابقة، فيستفاد منه تحريم الغلو من وجهين:
الوجه الأول: تحذيره - صلى الله عليه وسلم -، والتحذير نهي وزيادة.
الوجه الثاني: أنه سبب لإهلاك الأمم كما أهلك من قبلنا، وما كان سبباً للهلاك كان محرماً.
* أقسام الناس في العبادة:
والناس في العبادة طرفان ووسط، فمنهم المفرط، ومنهم المفرط، ومنهم المتوسط.
فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه، وكون الإنسان معتدلاً لا يميل إلى هذا ولا إلى هذا هذا هو الواجب، فلا يجوز التشدد في الدين والمبالغة، ولا التهاون وعدم المبالاة، بل كن وسطاً بين هذا وهذا.
__________
(1) البخاري: كتاب الأنبياء/ باب قول الله تعالى: { أم حسب أن أصحاب الكهف } ، ومسلم: كتاب الحدود/ باب قط السارق الشريف وغيره.(10/271)
والغلو له أقسام كثيرة، منها: الغلو في العقيدة، ومنها: الغلو في العبادة، ومنها: الغلو في المعاملة، ومنها: الغلو في العادات.
والأمثلة عليها كما يلي: أما الغلو في العقيدة، فمثل ما تشدق فيه أهل الكلام بالنسبة لإثبات الصفات، فإن أهل الكلام تشدقوا وتعمقوا حتى وصلوا إلى الهلاك قطعاً، حتى أدى بهم هذا التعمق إلى واحد من أمرين:
إما التمثيل، أو التعطيل.
إما أنهم مثلوا الله بخلقه، فقالوا: هذا معنى إثبات الصفات، فغلوا في الإثبات حتى أثبتوا ما نفى الله عن نفسه، أو عطلوه وقالوا: هذا معنى تنزيهه عن مشابهة المخلوقات، وزعموا أن إثبات الصفات تشبيه، فنفوا ما أثبته الله لنفسه.
لكن الأمة الوسط اقتصدت في ذلك، فلم تتعمق في الإثبات ولا في النفي والتنزيه، فأخذوا بظواهر اللفظ، وقالوا: ليس لنا أن نزيد على ذلك، فلم يهلكوا، بل كانوا على الصراط المستقيم، ولما دخل هؤلاء الفرس والروم وغيرهم في الدين، صاروا يتعمقون في هذه الأمور ويجادلون مجادلات ومناظرات لا تنتهي أبداً، حتى ضاعوا، نسأل الله السلامة.
وكل الإيرادات التي أوردها المتأخرون من هذه الأمة على النصوص، لم يوردها الصحابة الذين هم الأمة الوسط.(10/272)
أما الغلو في العبادات، فهو التشدد فيها، بحيث يرى أن الإخلال بشيء منها كفر وخروج عن الإسلام، كغلو الخوارج والمعتزلة، حيث قالوا: إن من فعل كبيرة من الكبائر، فهو خارج عن الإسلام وحل دمه وماله، وأباحوا الخروج على الأئمة وسفك الدماء، وكذا المعتزلة، حيث قالوا: من فعل كبيرة، فهو بمنزلة بين المنزلتين: الإيمان والكفر، فهذا تشدد أدى إلى الهلاك، وهذا التشدد قابله تساهل المرجئة، فقالوا: إن القتل والزنا والسرقة وشرب الخمر ونحوها من الكبائر، لا تخرج من الإيمان، ولا تنقص من الإيمان شيئاً، وإنه يكفي في الإيمان الإقرار، وإن إيمان فاعل الكبيرة كإيمان جبريل ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه لا يختلف الناس في الإيمان حتى إنهم ليقولون: إن إبليس مؤمن لأنه مقر، وإذا قيل: إن الله كفره، قالوا: إذن إقراره ليس بصادق، بل هو كاذب.
وهؤلاء في الحقيقة يصلحون لكثير من الناس في هذا الزمان، ولا شك أن هذا تطرف بالتساهل، والأول تطرف بالتشدد، ومذهب أهل السنة أن الإيمان يزيد وينقص، وفاعل المعصية ناقص الإيمان بقدر معصيته، ولا يخرج من الإيمان إلا بما برهنت النصوص على أنه كفر.
وأما الغلو في المعاملات، فهو التشدد في الأمور بتحريم كل شيء حتى ولو كان وسيلة، وأنه لا يجوز للإنسان أن يزيد عن واجبات حياته الضرورية، وهذا مسلك سلكه الصوفية، حيث قالوا: من اشتغل بالدنيا، فهو غير مريد للآخرة، وقالوا: لا يجوز أن تشتري ما زاد على حاجتك الضرورية، وما أشبه ذلك.
وقابل هذا التشدد تساهل من قال: يحل كل شيء ينمي المال ويقوي الاقتصاد، حتى الربا والغش وغير ذلك.
فهؤلاء - والعياذ بالله - متطرفون بالتساهل، فتجده يكذب في ثمنها وفي وصفها وفي كل شيء لأجل أن يكسب فلساً أو فلسين، وهذا لا شك أنه تطرف.(10/273)
والتوسط أن يقال: تحل المعاملات وفق ما جاست به النصوص، { وأحل الله البيع وحرم الربا } [البقرة: 275]، فليس كل شيء حراماً، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - باع واشترى، والصحابة رضي الله عنهم يبيعون ويشترون، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقرهم.
وأما الغلو في العادات، فإذا كانت هذه العادة يخشى أن الإنسان إذا تحول عنها انتقل من التحول في العادة إلى التحول في العبادة، فهذا لا حرج أن الإنسان يتمسك بها، ولا يتحول إلى عادة جديدة، أما إذا كان الغلو في العادة يمنعك من التحول إلى عادة جديدة مفيدة أفيد من الأولى، فهذا من الغلو المنهي عنه، فلو أن أحداً تمسك بعادته في أمر حدث أحسن من عادته التي هو عليها نقول: هذا في الحقيقة غال ومفرط في هذه العادة.
وأما إن كانت العادات متساوية المصالح، لكنه يخشى أن ينتقل الناس من هذه العادة إلى التوسع في العادة التي قد تخل بالشرف أو الدين، فلا يتحول إلى العادة الجديدة.
* * *
ولمسلم عن ابن مسعود، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "هلك المتنطعون". قالها ثلاثاً(1)
قوله: "المتنطعون"، المتنطع: هو المتعمق المتقعر المتشدق، سواء كان في الكلام أو في الأفعال، فهو هالك، حتى ولو كان ذلك في الأقوال المعتادة، فبعض الناس يكون بهذه الحال، حتى إنه ربما يقترن بتعمقه وتنطعه الإعجاب بالنفس في الغالب، وربما يقترن به الكبر، فتجده إذا تكلم يتكلم بأنفه، فتسلم عليه فتسمع الرد من الأنف إلى غير ذلك من الأقوال.
والتنطع بالأفعال كذلك أيضاً قد يؤدي إلى الإعجاب أو إلى الكبر، ولهذا قال: "هلك المتنطعون".
__________
(1) مسلم: كتاب العلم/ باب هلك المتنطعون.(10/274)
والتنطع أيضاً في المسائل الدينية يشبه الغلو فيها، فهو أيضاً من أسباب الهلاك، ومن ذلك ما يفعله بعض الناس من التنطع في صفات الله تعالى والتقعر فيها، حيث يسألون عما لم يسأل عنه الصحابة رضي الله عنهم، وهم يعلمون أن الصحابة خير منهم وأشد حرصاً على العلم، وفيهم رسول الله الذي عنده من الإجابة على الأسئلة ما ليس عند غيره من الناس مهما بلغ علمهم.
فهذه الأحاديث الثلاثة كلها تدل على تحريم الغلو، وأنه سبب للهلاك، وأن الواجب أن يسير العبد إلى الله بين طرفي نقيض بالدين الوسط، فكما أن هذه الأمة هي الوسط ودينها هو الوسط، فينبغي أن يكون سيرها في دينها على الطريق الوسط.
* * *
فيه مسائل:
الأولى: أن من فهم هذا الباب وبابين بعده، تبين له غربة الإسلام، ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب.
فيه مسائل:
الأولى: أن من فهم هذا الباب - أي: بما مر من تفسير الآية الكريمة: { وقال لا تذرن آلهتكم } - وبابين بعده، تبين له غربة الإسلام.
وهذا حق، فإن الإسلام المبني على التوحيد خالص غريب، فكثير من البلدان الإسلامية تجد فيها الغلو في الصالحين في قبورهم، فلا تجد بلداً مسلماً إلا وفيه غلو في قبور الصالحين، وقد يكون ليس قبر رجل صالح، قد يكون وهماً، مثل قبر الحسين بن علي رضي الله عنهما، فأهل العراق يقولون: هو عندنا، وأهل الشام يقولون: عندنا، وأهل مصر يقولون: عندنا، وبعضهم يقول: هو في المغرب، فصار الحسين إما أنه أربعة رجال، أو مقطع أوصالاً، وهذا كله ليس بصحيح، فالمهم أنه كما قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: تبين لك غربة الإسلام أي في المسلمين.
وكذلك الجزيرة العربية قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فيها قبور وقباب تعبد من دون الله ويحج إليها وتقصد، ولكن بتوفيق الله - سبحانه وتعالى - أنه أعان هذا الرجل مع الإمام محمد بن سعود حتى قضى عليها وهدمها، وصارت البلاد ولله الحمد على التوحيد الخالص.
* * *(10/275)
الثانية: معرفة أو لشرك حدث في الأرض، كان بشبهة الصالحين. الثالثة: معرفة أو شيء غير به دين الأنبياء، وما سبب ذلك، مع معرفة أن الله أرسلهم. الرابعة: قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تردها.
الثانية: معرفة أو لشرك حدث في الأرض، وجه ذلك: أن هذه الأصنام التي عبدها قوم نوح كانوا أقواماً صالحين، فحدث الغلو فيهم، ثم عبدوا من دون الله، ففيه الحذر من الغلو في الصالحين.
الثالثة: معرفة أو لشيء غير به دين الأنبياء، وما سبب ذلك، مع معرفة أن الله أرسلهم، أول شيء غير به دين الأنبياء هو الشرك، وسببه هو الغلو في الصالحين، وقوله: "مع معرفة أن الله أرسلهم"، قال الله تعالى: { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين } [البقرة: 213]، أي: كانوا أمة واحدة على التوحيد، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، فهذا أول ما حدث من الشرك في بني آدم.
الرابعة: قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تردها.
قوله: "قبول البدع"، أي: أن النفوس تقبلها لا لأنها مشروعة، بل إن الشرائع تردها، وكذلك الفطر السليمة تردها، لأنها الفطر السليمة جبلت على عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: { فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها } [الروم: 30]، فالفطر السليمة لا تقبل تشريعاً إلا ممن يملك ذلك.
* * *
الخامسة: أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل: فالأول محبة الصالحين، والثاني فعل أناس من أهل العلم والدين شيئاً أرادوا به خيراً فظن من بعدهم أنهم أرادوا به غيره.
الخامسة: أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل، أراد المؤلف رحمه الله أن يبين أن مزج الحق بالباطل حصل بأمرين:
الأول: محبة الصالحين، ولهذا صوروا تماثيلهم محبة لهم، ورغبة في مشاهدة أشباحهم.(10/276)
الثاني: أن أهل العلم والدين أرادوا بذلك خيراً، وهو أن ينشطوا على العبادة، ولكن من بعدهم أرادوا غير الخير الذي أراده أولئك، ويؤخذ منه: أن من أراد تقوية دينه ببدعة، فإن ضررها أكثر من نفعها.
مثال ذلك: أولئك الذين يغلون في الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويجعلون له الموالد هم يريدون بذلك خيراً، لكن أرادوا خيراً بهذه البدعة، فصار ضررها أكثر من نفعها، لأنها تعطي الإنسان نشاطاً غير مشروع في وقت معين، ثم يعقبه فتور غير مشروع في بقية العام.
ولهذا تجد هؤلاء الذين يغالون في هذه البدع فاترين في الأمور المشروعة الواضحة ليسوا كنشاط غيرهم، وهذا مما يدل على تأثير البدع في القلوب وأنها مهما زينها أصحابها، فلا تزيد الإنسان إلا ضلالاً، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كل بدعة ضلالة"(1).
فإن قيل: إن للاحتفال بمولده - صلى الله عليه وسلم - أصلاً من السنة، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صوم يوم الاثنين، فقال: "ذاك يوم ولدت فيه، وبعثت فيه، أو أنزل على فيه"(2)، وكان - صلى الله عليه وسلم - يصومه مع الخميس ويقول: "إنهما يومان تعرض فيهما الأعمال على الله، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم"(3)
فالجواب على ذلك من وجوه:
الأول: أن الصوم ليس احتفالاً بمولده كاحتفال هؤلاء، وإنما هو صوم وإمساك، أما هؤلاء الذين يجعلون له الموالد، فاحتفالهم على العكس من ذلك.
فالمعنى: أن هذا اليوم إذا صامه الإنسان، فهو يوم مبارك حصل فيه هذا الشيء، وليس المعنى أننا نحتفل بهذا اليوم.
__________
(1) مسلم: كتاب الجمعة/ باب تخفيف الصلاة والخطبة.
(2) مسلم: كتاب الصيام/ باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر.
(3) الترمذي: كتاب الصوم/ باب ما جاء في صوم الاثنين والخميس، 3/94، وقال: "حديث حسن غريب".(10/277)
الثاني: أنه على فرض أن يكون هذا أصلاً، فإنه يجب أن يقتصر فيه على ما ورد، لأن العبادات توقيفية، ولو كان الاحتفال المعهود عند الناس اليوم مشروعاً لبينه النبي - صلى الله عليه وسلم -، إما بقوله، أو فعله، أو إقراره.
الثالث: أن هؤلاء الذين يحتفلون بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقيدونه بيوم الاثنين، بل في اليوم الذي زعموا مولده فيه، وهو اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول، مع أن ذلك لم يثبت من الناحية التاريخية، وقد حقق بعض الفلكيين المتأخرين ذلك، فكان في اليوم التاسع لا في اليوم الثاني عشر.
الرابع: أن الاحتفال بمولده على الوجه المعروف بدعة ظاهرة، لأنه لم يكن معروفاً على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه.
* مسألة حكم الاحتفال بعيد ميلاد الأطفال:
فائدة: كل شيء يتخذ عيداً يتكرر كل أسبوع، أو كل عام وليس مشروعاً، فهو من البدع، والدليل على ذلك: أن الشارع جعل للمولود العقيقة، ولم يجعل شيئاً بعد ذلك، واتخاذهم هذه الأعياد تتكرر كل أسبوع أو كل عام معناه أنهم شبهوها بالأعياد الإسلامية، وهذا حرام لا يجوز، وليس في الإسلام شيء من الأعياد إلا الأعياد الشرعية الثلاثة: عيد الفطر، وعيد الأضحى، وعيد الأسبوع، وهو يوم الجمعة.
وليس هذا من باب العادات لأنه يتكرر، ولهذا لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - فوجد للأنصار عيدين يحتفلون بهما، قال: "إن الله أبدلكما بخير منهما: عيد الأضحى وعيد الفطر"(1)، مع أن هذا من الأمور العادية عندهم.
__________
(1) مسند الإمام أحمد (3/103)، وسنن أبي داود: كتاب الصلاة/ باب صلاة العيدين.(10/278)
السادسة: تفسير الآية التي في سورة نوح، وقد سبق ذلك وبيان أنهم يتواصون بالباطل، وهذا خلاف طريق المؤمنين الذين يتواصون بالحق والصبر والمرحمة، ويشبههم أهل الباطل والضلال الذين يتواصون بما هم عليه، سواء كانوا رؤساء سياسيين أو رؤساء دينيين ينتسبون إلى الدين، فتجد الواحد منهم لا يموت إلا وقد وضع له ركيزة من بعده ينمي هذا الأمر الذي هو عليه.
* * *
السابعة: جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه والباطل يزيد.
السابعة: جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه، والباطل يزيد، هذه العبارة تقيد من حيث كون آدمياً بقطع النظر على من يمن الله عليه من تزكية النفس، فإن الله يقول: { قد أفلح من زكها * وقد خاب من دساها } [الشمس: 9،10].
قوله: "جبلة" على وزن فعلة، وهو ما يجبل المرء عليه، أي: يخلق عليه ويطبع ويبدع، بمعنى الطبيعة التي عليها الإنسان من حيث هو إنسان بقطع النظر عن كونه زكى نفسه أو دساها.
فالإنسان من حيث هو إنسان وصفه الله بوصفين، فقال تعالى: { إن الإنسان لظلوم كفار } [إبراهيم: 34]، وقال تعالى: { وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً } [الأحزاب: 72].
أما من حيث ما يمن الله به عليه من الإيمان والعمل الصالح، فإنه يرتقي عن هذا، قال تعالى: { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون } [التين: 4-6]، فالإنسان الذي يمن الله عليه بالهدى، فإن الباطل الذي في قلبه يتناقص وربما يزول بالكلية، كعمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل، وغيرهم.
وكذلك أهل العلم، كأبي الحسن الأشعري، كان معتزلياً، ثم كلابياً، ثم سنياً، وابن القيم كان صوفياً، ثم من الله عليه بصحبة شيخ الإسلام ابن تيمية، فهداه الله على يده حتى كان ربانياً.
* * *
الثامنة: فيه شاهد لما نقل عن السلف أن البدع سبب الكفر.(10/279)
الثامنة: فيه شاهد لما نقل عن السلف أن البدع سبب الكفر، قال أهل العلم: إن الكفر له أسباب متعددة، ولا مانع أن يكون للشيء الواحد أسباب متعددة، ومن ذلك الكفر، ذكروا من أسبابه البدعة، وقالوا: إن البدعة لا تزال في القلب، يظلم منها شيئاً فشيئاً، حتى يصل إلى الكفر، واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار"(1).
وقالوا أيضاً: "إن المعاصي بريد الكفر، وبريد الشيء ما يوصل إلى الغاية".
والمعاصي كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - تتراكم على القلب، فتنكت فيه نكتة سوداء، فإن تاب، صقل قلبه وبيض(2)، وإلا، فلا تزال هذه النكتة السوداء تتزايد حتى يصبح مظلماً.
وكذلك حذر من محقرات الذنوب، وضرب لها مثلاً بقوم نزلوا أرضاً، فأرادوا أن يطبخوا، فذهب كل واحد منهم وأتى بعود، فأتى هذا بعود وهذا بعود، فجمعوها، فأضرموا ناراً كبيرة، وهكذا المعاصي(3)، فالمعاصي لها تأثير قوي على القلب، وأشدها تأثيراً الشهوة فهي أشد من الشبهة، لأن الشبهة أيسر زوالاً على من يسرها الله عليه، إذ إن مصدرها الجهل، وهو يزول بالتعلم.
__________
(1) تقدم (ص203).
(2) مسند الإمام أحمد (2/297) وصححه أحمد شاكر، والترمذي: كتاب التفسير/ باب { ويل للمطففين } ، 6/69ـ وقال: "حسن صحيح" ـ، والحاكم (2/517) - وصححه ووافقه الذهبي ـ
(3) مسند الإمام أحمد (5/331). وصححه الألباني في "الصحيحة" (1/389).(10/280)
أما الشهوة، وهي إرادة الإنسان الباطل، فهي البلاء الذي يقتل به العالم والجاهل، ولذا كانت معصية اليهود أكبر من معصية النصارى، لأن معصية اليهود سببها الشهوة وإرادة السوء والباطل، والنصارى سببها الشبهة، ولهذا كانت البدع غالبها شبهة، ولكن كثيراً منها سببه الشهوة، ولهذا يبين الحق لأهل الشهود من أهل البدع، فيصرون عليها، وغالبهم يقصد بذلك بقاء جاهه ورئاسته بين الناس دون صلاح الخلق، ويظن في نفسه ويملي عليه الشيطان أنه لو رجع عن بدعته لنقصت منزلته بين الناس، وقالوا: هذا رجل متقلب وليس عنده علم، لكن الأمر ليس كذلك، فأبو الحسن الأشعري مضرب المثل في هذا الباب، فإنه لما كان من المعتزلة لم يكن إماماً، ولما رجع إلى مذهب أهل السنة صار إماماً، فكل من رجع إلى الحق ازدادت منزلته عند الله - سبحانه - ، ثم عند خلقه.
والخلاصة: أن البدعة سبب للكفر، ولا يرد على هذا قول بعض أهل العلم، إن المعاصي بريد الكفر، لأنه لا مانع من تعدد الأسباب.
* * *
التاسعة: معرفة الشيطان بما تؤول إليه البدعة، ولو حسن قصد الفاعل.
التاسعة: معرفة الشيطان بما تؤول إليه البدعة ولو حسن قصد الفاعل، لأن الشيطان هو الذي سول لهؤلاء المشركين أن يصوروا هذه التماثيل والتصاوير، لأنه يعرف أن هذه البدعة تؤول إلى الشرك.(10/281)
وقوله: "ولو حسن قصد الفاعل"، أي: إن البدعة شر ولو حسن قصد فاعلها، ويأثم إن كان عالماً أنها بدعة ولو حسن قصده، لأنه أقدم على المعصية كم يجيز الكذب والغش ويدعي أنه مصلحة، أما لو كان جاهلاً فإنه لا يأثم، لأن جميع المعاصي لا يأثم بها إلا مع العلم، وقد يثاب على حسن قصده، وقد نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم"، فيثاب على نيته دون عمله، فعمله هذا غير صالح ولا مقبول عند الله ولا مرضي، لكن لحسن نيته مع الجهل يكون له أجر، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي صلى وأعاد الوضوء بعدما وجد الماء وصلى ثانية: "لك الأجر مرتين"(1)، لحسن قصده، ولأن عمله عمل صالح في الأصل، لكن لو أراد أحد أن يعمل العمل مرتين مع علمه أنه غير مشروع، لم يكن له أجر لأن عمله غير مشروع لكونه خلاف السنة، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للذي لم يعد، "أصبت السنة"(2).
فإن قال: إني أريد بهذه البدعة إحياء الهمم والتنشيط وما أشبه ذلك.
أجيب: بأن هذه الإرادة طعن في رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لأنه اتهام له بالتقصير أو القصور، أي مقصر في الإخبار عن ذلك أو قاصر في العلم، وهذا أمر عظيم وخطر جسيم، ولأن هذا لم يكن عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا خلفاؤه الراشدون، أما إذا كان حسن القصد، ولم يعلم أن هذا بدعة، فإنه يثاب على نيته ولا يثاب على عمله، لأن عمله شر حابط كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد"(3).
وأما العامة الذين لا يعلمون، وقد لبس عليهم هذه البدعة وغيرها، نقول: ما داموا قاصدين للحق ولا علموا به، فإثمهم على من أفتاهم ومن أضلهم.
__________
(1) سنن أبي داود: كتاب الطهارة/ باب في المتيمم يجد الماء بعد ما صلى، والحاكم (1/179)، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني، صحيح أبي داود (1/69).
(2) الحديث السابق (رقم 1).
(3) تقدم (ص 203).(10/282)
ولهذا يوجد في مجاهل أفريقيا وغير من لا يعرفون عن الإسلام شيئاً، فلو ماتوا لا نقول: إنهم مسلمون ونصلي عليهم ونترحم عليهم مع أنهم لم تقم عليهم الحجة، لكننا نعاملهم في الدنيا بالظاهر، أما في الآخرة، فأمرهم إلى الله.
* * *
العاشرة: معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو، ومعرفة ما يؤول إليه. الحادية عشرة: مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح.
العاشرة: معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو ومعرفة ما يؤول إليه، هذا ما حذر منه النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن الغلو مجاوزة الحد، وهو كما يكون في العبادات يكون في غيرها، قال تعالى: { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } [الأعراف: 31]، وقال: { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا } [الفرقان: 67]، وقد سبق بيان ذلك.
الحادية عشرة: مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح، المضرة الحاصلة: هي أنها توصل إلى عبادتهم.
ومثل ذلك: ما لو قرئ القرآن عند قبر رجل صالح، أو تصدق عند هذا القبر يعتقد أن لذلك مزية على غيره، فإن هذا من البدع، وهذه البدعة قد تؤدي بصاحبها إلى عبادة هذا القبر.
* * *
الثانية عشرة: معرفة النهي عن التماثيل والحكمة في إزالتها. الثالثة عشرة: معرفة عظم شأن هذه القصة وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها. الرابعة عشرة: وهي أعجب العجب: قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث، ومعرفتهم بمعنى الكلام، وكون الله حال بينهم وبين قلوبهم حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح هو أفضل العبادات، واعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه فهو الكفر المبيح للدم والمال.
الثانية عشرة: معرفة النهي عن التماثيل والحكمة في إزالتها، التماثيل: هي الصور على مثال رجل، أو حيوان، أو حجر، والغالب أنها تطلق على ما صنع ليعبد من دون الله، والحكمة في إزالتها سد ذرائع الشرك.(10/283)
الثالثة عشرة: معرفة عظم شأن هذه القصة، أي: قصة هؤلاء الذين غلوا في الصالحين وغير الصالحين، لكن اعتقدوا فيهم الصلاح، حتى تدرج بهم الأمر إلى عبادتهم من دون الله، فتجب معرفة هذه القصة، وأن أمر الغلو عظيم، ونتائجه وخيمة، فالحاجة شديدة إلى ذلك، والغفلة عنها كثيرة، والناس لو تدبرت أحوالهم وسبرت قلوبهم وجدت أنهم في غفلة عن هذا الأمر، وهذا موجود في البلاد الإسلامية.
الرابعة عشرة - وهي أعجب العجب ـ: قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث.
قوله: "وأعجب"، أي: أكثر عجباً وأشد، والعجب نوعان:
الأول: بمعنى الاستحسان، وهو ما إذا تعلق بمحمود، كقول عائشة في الحديث: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره، وفي شأنه كله"(1).
الثاني: بمعنى الإنكار، وذلك فيما إذا تعلق بمذموم، قال تعالى: { وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد } [الرعد: 5].
وكلام المؤلف هنا من باب الإنكار.
وكلام المؤلف هنا عما كان في زمنه، حيث غفلوا عن هذه القصة مع قراءتهم لها في كتب التفسير والحديث، واعتقدوا أن فعل قوم نوح أفضل العبادات، وهذا من أضر ما يكون على المرء أن يعتقد السيء حسناً، قال تعالى: { أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء } [فاطر: 8]، وقال تعالى: { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً } [الكهف: 103،104].
__________
(1) البخاري: كتاب الوضوء/ باب التيمن في الوضوء والغسل، ومسلم: كتاب الطهارة/ باب التيمن في الطهور وغيره.(10/284)
قوله: "واعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه فهو الكفر المبيح للدم والمال"، أي: من اعتقد أن الشرك والكفر من أفضل العبادات، وأنه مقرب إلى الله، فهذا كفر مبيح لدمه وماله، هذا ما أراد المؤلف، وإن كان لا يسعفه ظاهر كلامه ثم بدا لي ما لعله المارد أن هؤلاء الغالين اعتقدوا أن المنهي عنه هو الكفر المبيح للدم والمال، وأما ما دونه من الغلو، فلا نهي فيه، والله أعلم.
* * *
الخامسة عشرة: التصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة. السادسة عشرة: ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك. السابعة عشرة: البيان العظيم في قوله: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم"، فصلوات الله وسلامه عليه، بلغ البلاغ المبين.
الخامسة عشرة: التصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة، أي: ما أرادوا إلا الشفاعة، ومع ذلك وقعوا في الشرك.
السادسة عشرة: ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك، أي: أرادوا أن تشفع لهم، بل ظنوا أنها تنشطهم على العبادة، وهذا ظن فاسد كما سبق(1).
السابعة عشرة: البيان العظيم في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تطروني..." الحديث، معنى الإطراء: الغلو في المدح، والمبالغة فيه.
وهذا الذي نهى عنه - صلى الله عليه وسلم - وقع فيه بعض هذه الأمة، بل أشد، حتى جعلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - المرجع في كل شيء، وهذا أعظم من قول النصارى: المسيح ابن الله، وثالث ثلاثة.
ومعنى: "بلغ"، أي: أوصل وبين.
* * *
الثامنة عشرة: نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين. التاسعة عشرة: التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم، ففيها بيان معرفة قدر وجوده ومضرة فقده. العشرون: أن سبب فقد العلم موت العلماء.
الثامنة عشرة: نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين، وذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "هلك المتنطعون"، فلم يرد مجرد الخبر، ولكن التحذير من التنطع.
__________
(1) أنظر: (ص 374).(10/285)
التاسعة عشرة: التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم، أي: لم تعبد هذه التماثيل إلا بعد أن نسي العلم واضمحل، ففيه دليل على معرفة قدر وجوده أي العلم، وأن وجوه أمر ضروري للأمة، لأنه إذا فقد العلم، حل الجهل محله، وإذا حل الجهل، فلا تسأل عن حال الناس، فسوف لا يعرفون كيف يعبدون الله، ولا كيف يتقربون إليه.
العشرون: أن سبب فقد العلم موت العلماء، فهذا من أكبر الأسباب لفقد العلم، فإذا مات العلماء، لم يبق إلى جهال الخلق يفتون بغير علم.
ومن أسباب فقده أيضاً: الغفلة والإغراض عنه، والتشاغل بأمور الدنيا، وعدم المبالاة به.
ثم إن العلم قد يكون موجوداً وهو معدوم، وذلك فيما إذا كثر القراء الذين يقرؤون العلم ولا يعملون به، وقل الفقهاء الذين يعملون به، فبهذا يصبح العلم عديم الفائدة ووجوده كعدمه، بل إن في جوده ضرراً على الأمة، لأن العامة إذا رأوا من ينتسب إليه ساكتاً غير عامل بما علم، ظنوا أن ما عليه الناس حق.
فضرر العلم الذي لا ينفع أشد من ضرر الجهل، وإذا وجد الجهل، فإن الناس قد يطلبون العلم ويتلمسونه.
* الخلاصة للباب:
بيان أن الغلو في الصالحين من أسباب الكفر، وليس هو السبب الوحيد للكفر.
وأن خطر الغلو عظيم ونتائجه وخيمة، فالواجب تنزيل الصالحين منازلهم، فلا يستوي الصالح والفاسد، بل ينزل كل منزلته، ولكن لا نتجاوز به المنزلة فنغلو فيه، فدين الله وسط لا يعطي الإنسان أكثر مما يستحق، ولا يسلبه ما يستحق، وهذا هو العدل.
س1: ما الفرق بين التنطع والغلو والاجتهاد؟
الجواب: الغلو مجاوزة الحد.
والتنطع معناه: التشدق بالشيء والتعمق فيه، وهو من أنواع الغلو.(10/286)
أما الاجتهاد، فإنه بذل الجهد لإدراك الحق، وليس فيه غلو إلا إذا كان المقصود بالاجتهاد كثرة الطاعة غير المشروعة، فقد تؤدي إلى الغلو، فلو أن الإنسان مثلاً أراد أن يقوم ولا ينام، وأن يصوم النهار ولا يفطر، وأن يعتزل ملاذ الدنيا كلها، فلا يتزوج ولا يأكل اللحم ولا الفاكهة وما أشبه ذلك، فإن هذا من الغلو، وإن كان الحامل على ذلك الاجتهاد والبر، ولكن هذا الخلاف هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -.
س2: ما حكم الذهاب إلى قبور الصالحين لقراءة الفاتحة؟
الجواب: هذا من البدع، وسواء قلنا يصل الثواب أو لا يصل، فكونك تتخذ القراءة عند القبر خاصة هذا من البدع.
وإنما اختلف السلف فيما إذا قرئت الفاتحة عند الميت بعد دفنه مباشرة أو غيرها من القرآن.
والصحيح أيضاً أنها ليس بسنة، والسنة أن تستغفر له وتسأل له التثبيت.
* * *
باب ما جاء في التغليظ فيمن عبدالله
عند قبر رجل صالح، فكيف إذا عبده؟!
قوله: "التغليظ"، التشديد.
قوله: "من عبد الله عند قبر رجل صالح"، أي: عمل عملاً تعبد الله به من قراءة أو صلاة أو صدقة أو غير ذلك.
قوله: "فكيف إذا عبده؟"، أي: يكون أشد وأعظم، وذلك لأن المقابر والقبور للصالحين أو من دونهم من المسلمين أهلها بحاجة إلى الدعاء، فهم يزارون لينفعوا لا لينتفع بهم إلا باتباع السنة في زيارة المقابر، والثواب الحاصل بذلك، لكن هذا ليس انتفاعاً بأشخاصهم، بل انتفاع بعمل الإنسان نفسه بما أتى به من السنة.
فالزيارة التي يقصد منها الانتفاع بالأموات زيارة بدعية.
والزيارة التي يقصد بها نفع الأموات والاعتبار بحالهم زيارة شرعية.
* * *
في الصحيح عن عائشة، أن أم سلمة ذكرت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور، فقال:
قوله: "في الصحيح"، أي: "الصحيحين"، وقد سبق الكلام على مثل هذه العبارة في باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله.(10/287)
قوله: "أم سلمة"، كانت ممن هاجر مع زوجها إلى أرض الحبشة، ولما توفي زوجها أبو سلمة تزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخبرته وهو في مرض موته بما رأتِ، كما في "الصحيح".
قولها "من الصور" الظاهر أن هذه الصور مجسمة وتماثيل منصوبة.
* * *
"أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح، بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله"(1)
قوله: "أولئك"، المشار إليهم نصارى الحبشة، ويحتمل أن يراد من فعلوا هذه الأفعال أياً كانوا.
وقوله: "أولئك" يجوز في الكاف إذا كان الخطاب لأم سلمة ، والفتح إذا كان الخطاب باعتبار الجنس.
وقد ذكر العلماء أن في كاف الخطاب المتصل باسم الإشارة ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن يكون مطابقاً للمخاطب المفرد للمفرد والمثنى للمثنى والجمع للجمع، مذكراً كان أم مؤنثاً.
الوجه الثاني: الفتح مطلقاً.
الوجه الثالث: الكسر للمؤنث مطلقاً، والفتح للمذكر مطلقاً.
وأشهرها: أن يكون مطابقاً للمخاطب، ثم الفتح مطلقاً، ثم الفتح للمذكر، والكسر للمؤنث.
قوله: "الرجل الصالح أو العبد الصالح"، أو: شك من الراوي.
قوله: "بنوا على قبره"، أي: قبر ذلك الرجل الصالح.
قوله: "صوروا فيه تلك الصور"، أي: التي رأت، والأقرب أنها صورة ذلك الرجل الصالح، وربما أنهم يضيفون إلى صورته صورة بعض الصالحين، وربما تكون الصور على أحجام مختلفة، فتجتمع منها صور كثيرة.
قوله: "أولئك شرار الخلق عند الله"، لأن عملهم هذا وسيلة إلى الكفر والشرك، وهذا أعظم الظلم وأشده، فما كان وسيلة إليه، فإن صاحبه جدير بأن يكون من شرار الخلق عند الله - سبحانه وتعالى -.
* * *
فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين(2): فتنة القبور، وفتنة التماثيل.
__________
(1) البخاري: كتاب الصلاة/ باب بناء المساجد على القبر، ومسلم: كتاب المساجد/ باب النهي عن بناء المساجد على القبور.
(2) نسخة: "فتنتين".(10/288)
قوله: "فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل"، هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
قوله: "فتنة القبور"، لأنهم بنوا المساجد عليها.
قوله: "فتنة التماثيل"، لأنهم صوروا فجمعوا بين فتنتين، وإنما سمي ذلك فتنة، لأنها سبب لصد الناس عن دينهم، وكل ما كان كذلك، فإنه من الفتنة، قال تعالى: { ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } [العنكبوت: 1،2]، وقال تعالى: { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } [البروج: 10]، أي: صدوهم، أو فعلوا ما يصدونهم به عن دين الله.
* * *
ولهما عنها، قالت: لما نزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، طفق يطرح خميصة له على وجه، فإذا اغتم بها، كشفها، فقال وهو كذلك: "لغنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
قوله: "ولهما"، الضمير يعود على البخاري ومسلم، وإن لم يسبق لهما ذكر، لكنه لما كان ذلك مصطلحاً معروفاً، صح أن يعود الضمير عليهما، وهما لم يذكرا اعتماداً على المعروف المعهود.
وقوله: "عنها"، أي: عن عائشة.
قالت: "لما نزل برسول الله"، أي: نزل به ملك الموت لقبض روحه.
قوله: "طفق"، من أفعال المشروع، واسمها مستتر، وجملة "يطرح" خبرها.
قوله: "خميصة"، هي كساء مربع له أعلام كان يطرحه النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجهه.
قوله: "فإذا اغتم بها"، أي أصابه الغم بسببها، وقد احتضر - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: "وهو كذلك"، أي: وهو في هذه الحال عند الاحتضار.
قوله: "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، يقول هذا في سياق الموت، و"لعنة الله"، أي: طرده وإبعاده، وهذه الجملة يحتمل أنه يراد بها ظاهر اللفظ، أي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يخبر بأن الله لعنهم.(10/289)
ويحتمل أن يراد بها الدعاء، فتكون خبرية لفظاً إنشائية معنى، والمعنى على هذا الاحتمال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا عليهم وهو في سياق الموت بسبب هذا الفعل.
قوله: "اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، الجملة هذه تعليل لقوله: "لعنة الله على اليهود والنصارى"، كأن قائلاً يقول: لماذا لعنهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان الجواب: أنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، أي: أمكنة للسجود، سواء بنوا مساجد أم لا، يصلون ويعبدون الله تعالى فيها مع أنها مبينة على القبور.
* * *
يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك، أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً. أخرجاه(1).
قوله: "يحذر ما صنعوا"، أي: إنه - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك في سياق الموت تحذيراً لأمته مما صنع هؤلاء، لأنه علم أنه سيموت وأنه ربما يحصل هذا ولو في المستقبل البعيد.
قوله: "ولولا ذلك أبرز قبره"، أبرز، أي: أخرج من بيته، لأن البروز معناه الظهور، أي لولاً التحذير وخوف أن يتخذ قبره مسجداً، لأخرج ودفن في البقيع مثلاً، لكنه في بيته أصون له، وأبعد عن اتخاذه مسجداً، فلهذا لم يبرز قبره، وهذا أحد الأسباب التي أوجبت أن لا يبرز مكان قبره - صلى الله عليه وسلم -.
ومن أسباب ذلك: إخباره - صلى الله عليه وسلم - أنه ما قبض نبيي إلا دفن حيث قبض(2)، ولا مانع أن يكون للحكم الواحد سببان فأكثر، كما أن السبب الواحد قد يترتب عليه حكمان أو أكثر، كغروب الشمس يترتب عليه جواز إفطار الصائم، وصلاة المغرب.
قوله: "غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً"، خشي فيها روايتان: خشي، وخشي(3).
__________
(1) البخاري: كتاب الجنائز/ باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور، ومسلم: كتاب المساجد/ باب النهي عن بناء المساجد على القبور.
(2) د الإمام أحمد (1/7)، والترمذي: كتاب الجنائز/ باب حدثنا أبو كريب، 3/394 - وضعفه -.
(3) البخاري : كتاب الجنائز/ باب ما جاء في قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -.(10/290)
فعلى رواية خشي يكون الذي وقعت منهم الخشية الصحابة رضى الله عنهم.
وعلى رواية خشي يكون الذي وقعت منه الخشية النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والحقيقة أن الأمر كله حاصل، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأنه ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض، ولعن اليهود والنصارى لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد خوفاً من اتخاذ قبره مسجداً، والصحابة رضي أي عنهم اتفقوا على أن يدفن - صلى الله عليه وسلم - في بيته بعد تشاورهم لأنهم خشوا ذلك.
ويجوز أن يكون بعضهم أشار بأن بدفن في بيته، وليس في ذهنه إلا هذه الخشية، وبعضهم أشار أن يدفن في بيته وعنده علم بأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض"، وخوفاً من اتخاذه مسجداً.
في هذا الحديث والحديث السابق: التحذير من اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، وهم أفضل الصالحين، لأن مرتبة النبيين هي المرتبة الأولى من المراتب الأربع التي قال الله تعالى عنها: { ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً } [النساء: 69].
* اعتراض وجوابه:
إذا قال قائل: نحن الآن واقعون في مشكلة بالنسبة لقبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - الآن، فإنه في وسط المسجد، فما هو الجواب؟
قلنا: الجواب على ذلك من وجوه:
الوجه الأول: أن المسجد لم يبن على القبر، بل بني المسجد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الوجه الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدفن في المسجد حتى يقال: إن هذا من دفن الصالحين في المسجد، بل دفن في بيته.(10/291)
الوجه الثالث: أن إدخال بيوت الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومنها بيت عائشة مع المسجد ليس باتفاق من الصحابة، بل بعد أن انقرض أكثرهم ولم يبق منهم إلا القليل، وذلك عام 94هـ تقريباً، فليس مما أجازة الصحابة أو أجمعوا عليه، مع أن بعضهم خالف في ذلك، وممن خالف أيضاً سعيد بن المسيب من التابعين، فلم يرض بهذا العمل.
الوجه الرابع: أن القبر ليس في المسجد، حتى بعد إدخاله، لأ،ه في حجرة مستقلة عن المسجد، فليس المسجد مبنياً عليه، ولهذا جعل هذا المكان محفوظاً ومحوطاً بثلاثة جدران، وجعل الجدار في زاوية منحرفة عن القبلة، أي مثلث، والركن في الزاوية الشمالية، بحيث لا يستقبله الإنسان إذا صلى لأنه منحرف.
فبهذا كله يزول الإشكال الذي يحتج به أهل القبور، ويقولون هذا منذ عهد التابعين إلى اليوم، والمسلمون قد أقروه ولم ينكروه، فنقول: إن الإنكار قد وجد حتى في زمن التابعين، وليس محل إجماع، وعلى فرض أنه إجماع، فقد تبين الفرق من الوجوه الأربعة التي ذكرناها.
* * *
ولمسلم عن جندب بن عبد الله، قال: "سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذي خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلاً. ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك"(1).
قوله: "بخمس"، أي: خمس ليال، لكن العرب تطلقها على الأيام والليالي.
قوله: "أبرأ"، البراءة: هي التخلي، أي: أتخلى أن يكون لي منكم خليل.
قوله: "خليل"، هو الذي يبلغ في الحب غايته، لأنه حبه يكون قد تخلل الجسم كله، قال الشاعر يخاطب محبوبته:
قد تخللت مسلك الروح مني ... ... ... وبهذا سمي الخليل خليلاً
__________
(1) مسلم: كتاب المساجد/ باب النهي عن بناء المساجد على القبور.(10/292)
والخلة أعظم أنواع المحبة وأعلاها، ولم يثبتها الله - عز وجل - فيما نعلم إلا لاثنين من خلقه، وهما: إبراهيم في قوله تعالى: { واتخذ الله إبراهيم خليلاً } [النساء: 125]، ومحمد لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً".
وبهذا تعرف الجهل العظيم الذي يقوله العامة: إن إبراهيم خليل الله، ومحمداً حبيب الله، وهذا تنقص في حق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لأنهم بهذه المقالة جعلوا مرتبة النبي - صلى الله عليه وسلم - دون مرتبة إبراهيم، ولأنهم إذا جعلوه حبيب الله لم يفرقوا بينه وبين غيره من الناس، فإن الله يحب المحسنين والصابرين، وغيرهم ممن علق الله بفعلهم المحبة، فعلى رأيهم لا فرق بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - وغيره، لكن الخلة ما ذكرها الله إلا لإبراهيم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن الله اتخذه خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً.
فالمهم: أن العامة مشكل أمرهم، دائماً يصفون الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه حبيب الله، فنقول: أخطأتم وتنقصتم نبيكم، فالرسول خليل الله، لأنكم إذا وصفتموه بالمحبة أنزلتموه عن بلوغ غايتها.
قوله: "فإن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً"، هذا تعليل لقوله: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل"، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - ليس في قلبه خلة لأحد إلا الله - عز وجل - .
قوله: "ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلاً".
وهذا نص صريح على أن أبا بكر أفضل من علي، رضي الله عنهما، وفي هذا رد على الرافضة الذين يزعمون أن علياً أفضل من أبي بكر.
وقوله: "لو"، حرف امتناع لامتناع، فيمتنع الجواب لامتناع الشرط، وعلى هذا امتنع - صلى الله عليه وسلم - من اتخاذ أبي بكر خليلاً لأنه يمتنع أن يتخذ من أمته خليلاً.
قوله: "ألا وإن من كان قبلكم"، للتنبيه، وهذه الجملة في أثناء الحديث لكنه ابتدأها بالتنبيه لأهمية المقام.(10/293)
قوله: "ألا فلا تتخذوا"، هذا تنبيه آخر للنهي عن اتخاذ القبور مساجد، وهذا عام يشمل قبره وقبر غيره.
قوله: "فإني أنهاكم عن ذلك"، هذا نهي باللفظ دون الأداة تأكيداً لهذا النهي لأهمية المقام.
* من فوائد الحديث:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تبرأ من أن يتخذ أحداً خليلاً، لأن قلبه مملوء بمحبة الله تعالى.
أن الله تعالى اتخذه خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ففيه فضيلة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فضيلة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - باتخاذه خليلاً.
فضيلة أبي بكر، وأنه أفضل الصحابة لأن الحديث يدل على أنه أحب الصحابة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
التحذير من اتخاذ القبور مساجد في قوله: "ألا فلا تتخذوا القبور مساجد"، وقوله: "فإني أنهاكم عن ذلك".
أن من دفن شخصاً في مسجد وجب عليه نبشه إخراجه من المسجد.
حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته في إبعادهم عن الشرك وأسبابه، لأن اتخاذ القبور مساجد من وسائل الشرك وذرائعه، ولهذا حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على تحذير أمته منه، وهذا من كما رأفته ورحمته بالأمة.
أن من بنى مسجداً على قبر وجب عليه هدمه.
* * *
فقد نهى عنه في آخر حياته، ثم إنه لعن - وهو في السياق - من فعله.
والصلاة عندها من ذلك وإن لم يبن مسجد
قوله: "فقد نهي عنه في آخر حياته..." هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.
وقوله: "فقد نهي عنه في آخر حياته" الضمير يعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمنهي عنه هو اتخاذ القبور مساجد.
قوله: "ثم إنه لعن وهو في السياق من فعله"، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عند فراق الدنيا لعن من اتخذ القبور مساجد.
قوله: "والصلاة عندها من ذلك، وإن لم يبن مسجد".(10/294)
"عندها"، أي: عند القبور، وقوله: "من ذلك"، أي: من اتخاذها مساجد، وعلى هذا، فلا تجوز الصلاة عند القبور، ولهذا نهي النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما في "صحيح مسلم" من حديث أبي مرثد الغنوي أن يصلى إلى القبور، فقال: "لا تصلوا إلى القبور"(1).
* * *
وهو معنى قولها: "خشي أن يتخذ مسجداً"، فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجداً، وكل موضع قصدت الصلاة فيه، فقد اتخذ مسجداً، بل كل مواضع يصلى فيه، يسمى مسجداً، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "جعلت لي أرض مسجداً وطهوراً"(2).
قوله: "وهو معنى قولها: خشي أن يتخذ مسجداً" الضمير في "قولها" يرجع إلى عائشة رضي الله عنها.
قوله: "فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجداً" هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
قد يقال: "خشي أن يتخذ مسجداً"، أي: مكاناً يصلى فيه، وإن لم يبن المسجد.
ولا ريب أن أصل تحريم بناء المساجد على القبور أن المساجد مكان الصلاة، والناس يأتون إليها للصلاة فيها، فإذا صلى الناس في مسجد بني على قبر، فكأنهم صلوا عند القبر، والمحذور الذي يوجد في بناء المساجد على القبور يوجد فيما إذا اتخذ هذا المكان للصلاة، وإن لم يبن مسجد.
فتبين بهذا أن اتخاذ القبور مساجد له معنيان:
الأول: أن تبنى عليها مساجد.
الثاني: أن تتخذ مكاناً للصلاة عندها وإن لم يبن المسجد، فإذا كان هؤلاء القوم مثلاً يذهبون إلى هذا القبر ويصلون عنده ويتخذونه مصلى، فإن هذا بمعنى بناء المساجد عليها، وهو أيضاً من اتخاذها مساجد.
قوله: "وكل موضع قصدت الصلاة فيه، فقد اتخذ مسجداً".
__________
(1) البخاري: كتاب المساجد/ باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً"، ومسلم: أوائل كتاب المساجد.
(2) مسلم: كتاب الجنائز/ باب النهي عن الجلوس على القبر.(10/295)
وهذا يشهد له العرف، فإن الناس الذين لهم مساجد في مكان أعمالهم، كالوزارات والإدارات لو سألت واحداً منهم أين المسجد؟ لأشار إلى المكان الذي اتخذوه مصلى يصلون فيه، مع أنه لم يبن، لكن لما كانت الصلاة تقصد فيه، صار يسمى مسجداً.
قوله: "بل كل موضع يصلى..."، فقوله: "مسجداً"، أي: مكاناً للسجود، وهذا معنى ثالث زائد على المعنيين الأولين، وهو أن يقال: كل شيء تصلي فيه، فإنه مسجد ما دمت تصلي فيه، كما قال للسجادة التي تصلي عليها مسجد أو مصلى وإن كان الغالب عليها اسم مصلى.
* الخلاصة:
إنه لا يجوز بناء المساجد على القبور، لأنها وسيلة إلى الشرك، وهو عبادة صاحب القبر.
ولا يجوز أيضاً أن تقصد القبور للصلاة عندها، وهذا من اتخاذها مساجد، لأن العلة من اتخاذها مساجد موجودة في الصلاة عندها، فلو فرض أن رجلاً يذهب إلى المقبرة ويصلي عند قبر ولي من الأولياء على زعمه، قلنا: إنك اتخذت هذا القبر مسجداً، وإنك مستحق لما استحقه اليهود والنصارى من اللعنة، وفي كلام شيخ الإسلام ابن تيمية دليل على صحة تسمية كل شيء يصلى فيه مسجداً بالمعنى العام.
* * *
ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود (رضي الله عنه) مرفوعاً: "إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد". ورواه أبو حاتم في "صحيحه"(1).
قوله: "مرفوعاً"، المرفوع: ما أسند إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: "إن من شرار الناس"، من: للتبعيض، وشرار: جمع شر، مثل صحاب جمع صحب، والمعنى: أصحاب الشر، وفي هذا دليل على أن الناس يتفاوتون في الشر، وأن بعضهم أشد من بعض.
__________
(1) مسند الإمام أحمد (1/435)، وابن خزيمة في "الصحيح" (789) - وقال شيخ الإسلام: "إسناده جيد" - ، "الاقتضاء"، (2/568).(10/296)
قوله: "من تدركهم الساعة"، من: اسم موصول اسم إن، والساعة، أي: يوم القيامة، وسميت بذلك لأنها داهية، وكل شيء داهية عظيمة يسمى ساعة، كما يقال: هذه ساعتك في الأمور الداهية التي تصيب الإنسان.
قوله: "وهم أحياء"، الجملة حال من الهاء في "تدركهم".
وفي قوله: "تدركهم الساعة وهم أحياء" إشكال، وهو أنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: "لا تزل طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله"(1)، وفي رواية: "حتى تقوم الساعة"(2)، فكيف نوفق بين الحديثين لأن ظاهر الحديث الذي ساقه المؤلف إن كل من تدركهم الساعة وهم أحياء، فهم من شرار الخلق؟!
والجمع بينهما أن يقال: إن المراد بقوله: "حتى تقوم الساعة"، أي: إلى قرب قيام الساعة، وليس إلى قيامها بالفعل، لأنها لا تقوم إلا على شرار الخلق، فالله يرسل ريحاً تقبض نفس كل مؤمن ولا يبقى إلى شرار الخلق، وعليهم تقوم الساعة.
قوله: "الذين يتخذون القبور مساجد"، فهم من شرار الخلق، وإن لم يشركوا، لأنهم فعلوا وسيلة من وسائل الشرك، والوسائل لها أحكام المقاصد، وإن كانت دون مرتبتها، لكنها تعطى حكمها بالمعنى العام، فإن كانت وسيلة لواجب صارت واجبة، وإن كانت وسيلة لمحرم، فهي محرمة.
فشر الناس في هذا الحديث ينقسمون إلى صنفين:
الأول: الذين تدركهم الساعة وهم أحياء.
الثاني: الذين يتخذون القبور مساجد.
__________
(1) البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة/ باب "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق"، ومسلم: كتاب الإمارة/ باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال طائفة من أمتي".
(2) مسلم: كتاب الإمارة/ باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال طائفة من أمتي".(10/297)
وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من شرار الناس" دليل على أن الناس يتفاوتون في الشر، لأن بعضهم أشد من بعض فيه، كما أنهم يتفاوتون في الخير أيضاً، لقوله تعالى: { هم درجات عن الله والله بصير بما يعملون } [آل عمران: 163]، وذلك من حيث الكمية، فمن صلى ركعتين، فليس كمن صلى أربعاً.
ومن حيث الكيفية، فمن صلى وهو قانت خاشع حاضر القلب، ليس كمن صلى وهو غافل.
ومن حيث النوعية، فالفرض أفضل من النفل، وجنس الصلاة أفضل من جنس الصدقة، لأن الصلاة أفضل الأعمال البدنية.
وهذا الذي تدل عليه الأدلة مذهب أهل السنة والجماعة، وهو التفاضل في الأعمال، حتى في الإيمان الذي هو في القلب يتفاضل الناس فيه، بل إن الإنسان يحس في نفسه أنه في بعض الأحيان يجد في قلبه من الإيمان ما لا يجده في بعض الأحيان، فكيف بين شخص وشخص؟ فهو يتفاضل أكثر.
* وخلاصة الباب:
أنه يجب البعد عن الشرك ووسائله، ويغلظ على من عبد الله عند قبر رجل صالح.
وكلام المؤلف رحمه الله في قوله: "فيمن عبدالله" يشمل الصلاة وغيرها والأحاديث التي ساقها في الصلاة، لكنه رحمه الله كأنه قاس غيرها عليها، فمن زعم أن الصدقة عند هذا القبر أفضل من غيره، فهو شبيه بمن اتخذه مسجداً لأنه يرى أن لهذه البقعة أو لمن فيها شأناً يفضل به على غيره، فالشيخ عمم، والدليل خاص.
فإن قيل: لا يستدل بالدليل الخاص على العام؟
أجيب: إن الشيخ أراد بذلك أن العلة هي تعظيم هذا المكان، لكونه قبراً، وهذا كما يوجد في الصلاة يوجد في غيرها من العبادات، فيكون التعميم من باب القياس لا من باب شمول النص له لفظاً.
* * *
فيه مسائل:
الأولى: ما ذكر الرسول فيمن بنى مسجداً يعبد الله فيه عند قبر رجل صالح، ولو صحت نية الفاعل.
فيه مسائل:(10/298)
الأولى: ما ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيمن بنى مسجداً يعبد الله فيه عند قبر رجل صالح، ولو صحت نية الفاعل، تؤخذ من لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.
قوله: "ولو صحت نية"، لأن الحكم علق على مجرد صورته، فهذا العمل لا يحتاج إلى نية لأنه معلق مجرد الفعل.
فالنية تؤثر في الأعمال الصالحة وتصحيحها، وتؤثر في الأعمال التي لا يقدر عليها فيعطي أجرها، وما أشبه ذلك، بخلاف ما علق على فعل مجرد، فلا حاجة فيه إلى النية.
أي: ولو كان يعبد الله، ولو كان يريد التقرب إلى الله ببناء هذا المسجد اعتباراً بما يؤول إليه الأمر، وبالنتيجة السيئة التي تترتب على ذلك، وهذه النقطة نتدرج منها إلى نقطة أخرى، وهي التحذير من مشابهة المشركين وإن لم يقصد الإنسان المشابهة، وهذه قد تخفى على بعض الناس، حيث يظن أن التشبه إنما يحرم إذا قصدت المشابه، والشرع إنما علق الحكم بالتشبه، أي: بأن يفعل ما يشبه فعلهم، سواء قصد أو لم يقصد، ولهذا قال العلماء في مسألة التشبه: وإن لم ينو ذلك، فإن التشبه يحصل بمطلق الصورة.
فإن قيل: قاعدة "إنما الأعمال بالنيات" هل تعارض ما ذكرنا؟
الجواب: لا تعارضه، لأن ما علق بالعمل ثبت له حكمه وإن لم ينو الفعل، كالأشياء المحرمة، كالظهار، والزنا، وما أشبهها.
الثانية: النهي عن التماثيل وغلظ الأمر في ذلك، تؤخذ من قوله: "وصوروا فيه تلك الصور"، ولا سيما إذا كانت هذه الصور معظمة عادة، كالرؤساء، والزعماء، والأب، والأخ، والعم
أو شرعاً، مثل: الأولياء، والصالحين، والأنبياء، وما أشبه ذلك.
الثالثة: العبرة في مبالغته - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، كيف بين لهم هذا أولاً، ثم قبل موته بخمس قال ما قال؟! ثم لما كان في السياق لم يكتف بما تقدم.(10/299)
وهذا مما يدل على حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على حماية جانب التوحيد، لأنه خلاصة دعوة الرسل، ولأن التوحيد أعظم الطاعات، فالمعاصي ولو كبرت أهون من الشرك، حتى قال بن مسعود: "لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقاً(1)، لأن الحلف بغيره نوع من الشرك، والحلف بالله كاذباً معصية، وهي أهون من الشرك.
فالشرك أمره عظيم جداً، ونحن نحذر إخواننا المسلمين مما هم عليه الآن من الانكباب العظيم على الدنيا حتى غفلوا عما خلقوا له، واشتغلوا بما خلق لهم، فعامة الناس الآن تجدهم مشتغلين بالدنيا، ليس في أفكارهم إلا الدنيا قائمين وقاعدين ونائمين ومستيقظين، وهذا في الحقيقة نوع من الشرك، لأنه يوجب الغفلة عن الله - عز وجل - ، ولهذا سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - من فعل ذلك عبداً لما تعبد له، فقال: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة"(2)، ولو أقبل العبد على الله بقلبه وجوارحه لحصل ما قدر له من الدنيا، فالدنيا وسيلة وليست غاية، وتعس من جعلها غاية، كيف تجعلها غاية وأنت لا تدري مقامك فيها؟! وكيف تجعلها غاية وسرورها مصحوب بالأحزان، كما قال الشاعر:
فيوم علينا ويوم لنا ... ... ... ... ويم نساء ويوم نسر
فالحاصل: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث لتحقيق عبادة الله، ولهذا كان حريصاً على سد كل الأبواب التي تؤدي إلى الشرك، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - حذر من اتخاذ القبور مساجد ثلاث مرات:
الأولى: في سائر حياته.
والثانية: قبل موته بخمس.
والثالثة: وهو في السياق.
الرابعة: نهيه عن فعله عند قبره قبل أن يوجد القبر، تؤخذ من قوله: "ألا فلا تتخذوا القبور مساجد"، فإن قبره داخل في ذلك بلا شك، بل أول ما يدخل فيه.
__________
(1) تقدم (ص 199).
(2) تقدم (ص 23).(10/300)
الخامسة: أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم، تؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وبئس رجلاً جعل إمامه اليهود والنصارى وتشبه بهم في قبيح أعمالهم.
السادسة: لعنه إياهم على ذلك، تؤخذ من قوله: "لعنة الله على اليهود والنصارى".
السابعة: أن مراده تحذيره إياناً عن قبره، تؤخذ من قول عائشة: "يحذر ما صنعوا" أي: ما صنعه اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم.
* * *
الثامنة: العلة في عدم إبراز قبره. التاسعة: في معنى اتخاذها مسجداً. العاشرة: أنه قرن بين من اتخذها مسجداً وبين من تقوم عليهم الساعة، فذكر الذريعة إلى الشرك قبل وقوعه مع خاتمته.
الثامنة: العلة في عدم إبراز قبره، تؤخذ من قول عائشة: "ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً".
هناك علة أخرى، وهي: إخباره بأنه من نبي يموت إلا دفن حيث يموت(1)، ولا يمتنع أن يكون للحكم علتان، كما لا يمتنع أن يكون للعلة حكمان.
التاسعة: في معنى اتخاذها مسجداً، سبق أن ذكرنا أن لها معنيين:
بناء المساجد عليها.
اتخاذها مكاناً للصلاة تقصد فيصلى عندها، بل إن من صلى عندها ولم يتخذها للصلاة، فقد اتخذها مسجداً بالمعنى العام.
العاشرة: أنه قرن بين من اتخذها مسجداً وبين من تقوم عليه الساعة، فذكر الذريعة إلى الشرك قبل وقوعه مع خاتمته.
ومعنى هذا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ذكر التحذير من الشرك قبل أن يموت.
وقوله: "مع خاتمته"، وهي: أن من تقوم عليهم شرار الخلق والذين تقوم عليهم الساعة وهم أحياء، هؤلاء الكفار، والذين يتخذون القبور مساجد هؤلاء فعلوا أسباب الشرك والكفر.
* * *
الحادية عشرة: ذكره في خطبته قبل موته بخمس الرد على الطائفين اللتين هما أشر هما البدع، بل أخرجهم بعض أهل العلم من الثنتين والسبعين فرقة، وهم الرافضة والجهمية، وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد.
__________
(1) تقدم (ص 392).(10/301)
الحادية عشرة: ذكره في خطبته قبل موته بخمس الرد على الطائفتين اللتين هما أشر أهل البدع.
قوله: "قبل أن يموت بخمس"، أي: خمس ليال، والعرب يعبرون عن الأيام بالليالي وبالعكس.
قوله: "أشر أهل البدع"، يقال: أشر، ، ويقال: شر، بحذف الهمزة، وهو الأكثر استعمالاً.
وإنما تكلم المؤلف رحمه الله عن حال الرافضة والجهمية وحكمهما قبل ذكر اسمهما من أجل تهييج النفس على معرفتهما والاطلاع عليهما، لأن الإنسان إذا ذكر له الحكم والوصف قبل ذكر الموصوف والمحكوم عليه، صارت نفسه تتطلع وتتشوق إلى هذا، فلو قال من أول الكلام: الرد على الرافضة والجهمية، فلا يكون للإنسان التشوق مثل ما لو تكلم عن حالهما وحكمهما أولاً.
وحالهما: أنها أشر أهل البدع.
وحكمهم: أن بعض أهل العلم أخرجهم من الثنتين والسبعين فرقة.
والرافضة: اسم فاعل من رفض الشيء إذا استبعده، وسموا بذلك لأنهم رفضوا زيد بن على بن الحسين بن علي بن أبي طالب حين سألوه: ما تقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى عليهما، وقال: هما وزيراً جدي. فرفضوه وتركوه، وكانوا في السابق معه، لكن لما قال الحق المخالف لأهوائهم، نفروا منه والعياذ بالله، فسموا رافضة.
وأصل مذهبهم من عبدالله بن سبأ، وهو يهودي تلبس بالإسلام، فأظهر التشيع لآل البيت والغلو فيهم ليشغل الناس عن دين الإسلام ويفسده كما أفسد بولص دين النصارى عندما تلبس بالنصرانية.
وأول ما أظهر ابن سبأ بدعته في عهد علي بن أبي طالب، حتى إنه جاءه وقال: أنت الله حقاً - والعياذ بالله -. فأمر علي بالأخدود فحفرت، وأمر بالحطب فجمع، وبالنار فأوقدت، ثم أحرقهم بها، إلا أنه يقال: إن عبدالله بن سبأ هرب وذهب إلى مصر ونشر بدعته، فالله أعلم.(10/302)
فالمهم أن علياً رضي الله عنه رأى أمراً لم يحتمله، حيث ادعوا فيه الألوهية فأحرقهم بالنار إحراقاً ، ثم بدأت هذه الفرقة الخبيثة تتكاثر، لأن شعارها في الحقيقة النفاق الذي يسمونه التقية، ولهذا كانت هذه الفرقة أخطر ما يكون على الإسلام، لأنها تتظاهر بالإسلام والدعوة إليه، وتقيم شعائره الظاهرة، كتحريم الخمور وما أشبه ذلك، لكنها تناقضه في الباطن، فهم يرون أثمتهم آلهة تدير الكون، وأنهم أفضل من الأنبياء والملائكة والأولياء، وأنهم في مرتبة لا ينالها ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهؤلاء كيف يصح أن تقبل منهم دعوى الإسلام، وذلك يقول عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كثير من كتبه قولاً إذا أطلع عليه الإنسان عرف حالهم: "إنهم أشد الناس ضرراً على الإسلام، وأنهم هجروا المساجد وعمروا المشاهد"، فهم يقولون: لا نصلي جماعة إلا خلف إمام معصوم ولا معصوم الآن، وهم أول من بنى المشاهد على القبور كما قال الشيخ هنا، ورموا أفضل أتباع الرسول على الإطلاق - وهما أبو بكر وعمر - بالنفاق، وإنهما ماتا على ذلك، كعبد الله بن أبي بن سلول وأشباهه والعياذ بالله، فأنظر بماذا تحكم على هؤلاء بعد معرفة معتقدهم ومنهجهم؟
وأما الجهمية، فهم أتباع الجهم بن صفوان، وأول بدعته أنه أنكر صفات الله، وقال: إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، فأنكر المحبة والكلام، ثم بدأت هذه البدعة تنتشر وتتسع، فاعتنقها طوائف غير الجهمية، كالمعتزلة ومتأخري الرافضة، لأن الرافضة كانوا بالأول مشبهة، ولهذا قال أهل العلم: أول من عرف بالتشبيه هشام بن الحكم الرافضي، ثم تحولوا من التشبيه إلى التعطيل، وصاروا ينكرون الصفات.(10/303)
والجهم بن صفوان أخذ بدعته عن الجعد بن درهم، والجعد أخذ بدعته عن أبان بن سمعان، وأبان أخذها عن طالوت الذي أخذها عن لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتكون بدعة التعطيل أصلها من اليهود، ثم إن الجهم بن صفوان نشأ في بلاد خراسان، وفيها كثير من الصائبة وعباد الكواكب والفلاسفة، فأخذ منهم أيضاً ما أخذ، فصارت هذه البدعة مركبة من اليهودية والصائبة والمشركين.
وانتشرت هذه البدعة في الأمة الإسلامية، وهؤلاء الجهمية معطلة في الصفات ينكرون الصفات، ومنهم من أنكر الأسماء مع الصفات، وهذه الأسماء التي يضيفها الله - سبحانه - إلى نفسه جعلوها إضافات وليست حقيقة، أو أنها أسماء لبعض مخلوقاته، فالسميع عندهم بمعنى من خلق السمع في غيره والبصير كذلك، وهكذا.
ومنهم من أنكر أن يكون الله متصفاً بالإثبات أو العدم، فقالوا: لا يجوز أن نثبت لله صفة أو ننفي عنه صفة، حتى قالوا: لا يجوز أن نقول عنه: إنه موجود ولا إنه معدوم، لأننا إن قلنا موجود شبهناه بالموجودات، وإن قلنا بأنه معدوم شبهناه بالمعدومات، فنقول: لا موجود ولا معدوم، فكابروا المعقول، وكذبوا المنقول، وهذا لا يمكن، لأن تقابل الوجود والعدم من تقابل النقيضين اللذين لا يمكن ارتفاعهما ولا اجتماعهما، بل لابد أن يوجد أحدهما، فوصف الله بذلك تشبيه له بالممتنعات على قاعدتهم.
ومذهبهم في القضاء والقدر: الجبر، فيقولون: إن الإنسان مجبر على عمله يعمل بدون اختياره إنه صلى، فهو مجبر، وإن قتل، فهو مجبر، وهكذا، فعطلوا بذلك حكمة الله لأنه إذا كان كل عامل مجبراَ على عمله لم يكن هناك حكمة في الثواب والعقاب بل بمجرد المشيئة يعاقب هذا ويثيب هذا، وبذلك عطلوا عن الفاعلين أوصاف المدح والذم، فلا يمكن أن تمدح إنساناً أو تذمه، لأن العاصي مجبر والمطيع مجبر.(10/304)
ويقال لهم: إنكم إذا قلتم ذلك أثبتم أن الله أظلم الظالمين، لأنه كيف يعاقب العاصي وهو مجبر على المعصية؟ ويثيب الطائع وهو مجبر على طاعته؟ فيكون أعطى من لا يستحق، وعاقب من لا يستحق، وهذا ظلم.
فقالوا: هذا ليس بظلم، لأن الظلم تصرف المالك في غير ملكه، وهذا تصرف من المالك في ملكه يفعل به ما يشاء.
وأجيب: بأنه باطل، لأن المالك إذا كان متصفاً بصفات الكمال لن يخلف وعده، وقد قال الله تعالى: { ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً } [طه: 112]، فلو أخلف هذا الوعد، لكان نقصاً في حقه وظلماً لخلقه، حيث وعدهم فأخلفهم.
ومذهبهم في أسماء الإيمان والدين الإرجاء، فيقولون: إن الإيمان مجرد اعتراف الإنسان بالخالق على الوصف المعطل عن الصفات حسب طريقتهم، وأن الأقوال والأعمال لا مدخل لها في الإيمان، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص.
ومن هذه الأمور الثلاثة قالوا: إن أفسق وأعدل عباد الله في الإيمان سواء، بل قالوا إن فرعون مؤمن كامل الإيمان، وجبريل مؤمن كامل الإيمان، لكن فرعون كفر، لأنه ادعى الربوبية لنفسه فقط، فصار ذلك كافراً.
قال ابن القيم عنهم:
والناس في الإيمان شيء واحد ... ... ... كالمشط عند تماثل الأسنان(10/305)
فمذهبهم من أخبث المذاهب إن لم نقل أخبثها، لكن أخبث منه مذهب الرافضة، حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، "إن جميع البدع أصلها من الرافضة، حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن جميع البدع أصلها من الرافضة"، فهم أصل البلية في الإسلام، ولهذا قال المؤلف: "أخرجهم بعض أهل العلم من الثنتين والسبعين فرقة"، ولعل الصواب من الثلاث والسبعين فرقة، أو أن الصواب أخرجهم إلى الثنتين والسبعين، أي: أخرجهم من الثالثة التي كان عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، لأن المعروف أن هذه الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلى واحده، وهي من كانت على ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.
وصدق رحمه الله في قوله عن هاتين الطائفتين الرافضة والجهمية: "شر أهل البدع".
وقد قتل الجهم بن صفوان سلمة بن أحوز صاحب شرطة نصر بن سيار لأن أظهر هذا المذهب ونشره.
وقول المؤلف: "وبسبب الرافضة حدث الشك، وعبادة القبور، وهم أول من بني عليها المساجد"، ولهذا يجب الحذر من بدعتهم وبدعة الجهمية وغيرها، ولا شك أن البدع دركات بعضها أسفل من بعض، فعلى المرء الحذر من البدع، وأن يكون متبعاً لمنهج السلف الصالح في هذا الباب وفي غيره.
* * *
الثانية عشرة: ما بلى به - صلى الله عليه وسلم - من شدة النزع. الثالثة عشرة: ما أكرم به من الخلة.(10/306)
الثانية عشرة: ما بلي به - صلى الله عليه وسلم - من شده النزع، تؤخذ من قولها: "طفق بطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها"، وفي هذا دليل على شدة نزعه، وهكذا كاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - يمرض ويوعك كما يوعك الرجلان(1) من الناس، وهذا من حكمة الله - عز وجل ـ، فهو - صلى الله عليه وسلم - شدد عليه البلاء في مقابلة دعوته وأوذي إيذاء عظيماً، وكذلك أيضاً فيما يصيبه من الأمراض يضاعف عليه، والحكمة من ذلك لأجل أن ينال أعلى درجات الصبر، لأن الإنسان إذا ابتلي بالشر وصبر كان ذلك أرفع لدرجته.
والصبر درجة عالية لا تنال إلا بوجود أسبابها، ومنها الابتلاء، فيصبر ويحتسب حتى ينال درجة الصابرين.
الثالثة عشرة: ما أكرم به من الخلة، ويدل عليها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً"، ولا شك أن هذه الكرامة عظيمة، لأننا لا نعلم أحداً نال هذه المرتبة إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإبراهيم - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
الرابعة عشرة: التصريح بأنها أعلى من المحبة. الخامسة عشرة: التصريح بأن الصديق أفضل الصحابة.
الرابعة عشرة: التصريح بأنها على من المحبة، ودليل ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحب أبا بكر، وكان أحب الناس إليه، فأثبت له المحبة، ونفى عنه الخلة، فدل هذا على أنها أعلى من المحبة، والتصريح ليس من هذا الحديث فقط، بل بضمه إلى غيره، فقد ورد من حديث آخر أنه صرح: "بأن أبا بكر أحب الرجال إليه"(2)، ثم قال هنا "لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلاً" فدل على أن الخلة أعلى من المحبة.
__________
(1) البخاري: كتاب المرضى/ باب أشد الناس بلاء الأنبياء، ومسلم: كتاب البر والصلة/ باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن.
(2) البخاري: كتاب الفضائل/ باب فضائل أبي بكر، ومسلم: كتاب الفضائل/ باب فضائل أبي بكر.(10/307)
الخامسة عشرة: التصريح بأن الصديق أفضل الصحابة، تؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولو كنت متخذاً من أمتى خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلاً"، فلو كان غيره أفضل منه عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكان أحق بذلك.
ومن المسائل الهامة أيضاً:
أن الأفضلية في الإيمان والعمل الصالح فوق الأفضلية بالنسب، لأننا لو راعينا الأفضلية بالنسب، لكان حمزة بن عبد المطلب والعباس رضي الله عنهما أحق من أبي بكر في ذلك، ومن ثم قدم أبو بكر رضي الله عنه على علي بن أبي طالب وغيره من آل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
السادسة عشرة: الإشارة إلى خلافته.
السادسة عشرة: الإشارة إلى خلافته، لم يقل التصريح، وإنما قال: الإشارة، لأن النبي- صلى الله عليه وسلم - لم يقل: إن أبا بكر هو الخليفة من بعده، لكن لما قال: "لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلاً" علم أنه رضي الله عنه أولى الناس برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيكون أحق الناس بخلافته.
* * *
باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين
يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله
هذا الباب له صلة بما قبله، وهو أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله.
أي: يؤول الأمر بالغالين إلى أن يعبدوا هذه القبور أو أصحابها.
والغلو: مجاوزة الحد مدحاً أو ذماً، والمراد هنا مدحاً.
والقبور لها حق علينا من وجهين:
أن لا نفرط فيما يجب لها من الاحترام، فلا تجوز إهانتها ولا الجلوس عليها، وما أشبه ذلك.
أن لا نغلو فيها فتتجاوز الحد.
وفي "صحيح مسلم" قال علي بن أبي طالب لأبي الهياج الأسدي: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته"(1)، وفي رواية: "ولا صورة إلا طمستها".
__________
(1) مسلم: كتاب الجنائز/ باب الأمر بتسوية القبر.(10/308)
والقبر المشرف: هو الذي يتميز عن سائر القبور، فلا بد أن يسوى ليساويها لئلا يظن أن لصاحب هذا القبر خصوصية ولو بعد زمن، إذ هو وسيلة إلى الغلو فيه.
قوله: "الصالحين"، يشمل الأنبياء والأولياء، بل ومن دونهم.
قوله: "أوثاناً"، جمع وثن، وهو كل ما نصب للعبادة، وقد يقال له: صنم، والصنم: تمثال ممثل، فيكون الوثن أعم.
ولكن ظاهر كلام المؤلف أن كل ما يعبد من دون الله يسمى وثناً، وإن لم يكن على تمثال نصب، لأن القبور قد لا يكون لها تمثال ينصب على القبر فيعبد.
قوله: "تعبد من دون الله"، أي: من غيره، وهو شامل لما إذا عبدت وحدها أو عبدت مع الله، لأن الواجب في عبادة الله إفراده فيها، فإن قرن بها غيره صارت عبادة لغير الله، وقد ثبت في الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه"(1)
* * *
روى مالك في "الموطاء"، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"(2).
قوله: "في "الموطأ""، كتاب مشهور من اصح الكتب، لأنه رحمه الله تحرى فيه صحة السند، وسنده أعلى من سند البخاري لقربه من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وكلما كان السند أعلى كان إلى الصحة أقرب، وفيه مع الأحاديث آثار عن الصحابة، وفيه أيضاً كلام وبحث للإمام مالك نفسه.
وقد شرحه كثير من أهل العلم، ومن أوسع شروحه وأحسنها في الرواية والدراية: "التمهيد" لابن عبد البر، وهذا - أعني: "التمهيد" - فيه علم كثير.
قوله: "اللهم"، أصلها: يا الله! فحذفت يا النداء لأجل البداءة باسم الله، وعوض عنها الميم الدالة على الجمع، فكأن الداعي جمع قلبه على الله، وكانت الميم في الآخر لأجل البداءة باسم الله.
__________
(1) تقدم (ص 37).
(2) تقدم (ص105).(10/309)
قوله: "لا تجعل قبري وثناً بعيداً"، لا: للدعاء، لأنها طلب من الله، وتجعل: تصير، والمفعول الأول لها: "قبري"، والثاني: "وثناً".
وقوله: "يعبد"، صفة لوثن، وهي صفة كاشفة، لأنه الوثن هو الذي يعبد من دون الله.
وإنما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لأن من كان قبلنا جعلوا قبور أنبيائهم مساجد وعبدوا صالحيهم، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه أن لا يجعل قبره وثناً يعبد، لأن دعوته كلها بالتوحيد ومحاربة الشرك.
قوله: "اشتد"، أي: عظم.
قوله: "غضب الله"، صفة حقيقية ثابتة لله - عز وجل - لا تماثل غضب المخلوقين لا في الحقيقة ولا في الأثر. وقال أهل التأويل: غضب الله هو الانتقام ممن عصاه، وبعضهم يقول: إرادة الانتقام ممن عصاه.
وهذا تحريف للكلام عن مواضعه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: انتقم الله، وإنما قال: اشتد غضب الله، وهو - صلى الله عليه وسلم - يعرف كيف يعبر، ويعرف الفرق بين غضب الله وبين الانتقام، وهو أنصح الخلق وأعلم الخلق بربه، فلا يمكن أن يأتي بكلام وهو يريد خلافه، لأنه لو أتى بذلك لكان ملبساً، وحاشاه أن يكون كذلك، فالغضب غير الانتقام وغير إرادة الانتقام، فالغضب صفة حقيقية ثابتة لله تليق بجلاله لا تماثل غضب المخلوق، لا في الحقيقة ولا في الأثر.
وهناك فروق بين غضب المخلوق وغضب الخالق، منها:
غضب المخلوق حقيقته هو: غليان دم القلب، وجمرة ويلقيها الشيطان في قلب ابن آدم حتى يفور، أما غضب الخالق، فإنه صفة لا تماثل هذا، قال تعالى: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } [الشورى: 11].
أن غضب الآدمي يؤثر آثاراً غير محمودة، فالآدمي إذا غضب قد يحصل منه ما لا يحمد، فيقتل المغضوب عليه، وربما يطلق زوجته، أو يكسر الإناء، ونحو ذلك، أما غضب الله، فلا يترتب عليه إلا آثار حميدة لأنه حكيم، فلا يمكن أن يترتب على غضبه إلا تمام الفعل المناسب الواقع في محله.(10/310)
فغضب الله ليس كغضب المخلوقين، لا في الحقيقة ولا في الآثار، وإذا قلنا ذلك، فلا نكون وصفنا الله بما يماثل صفات المخلوقين، بل وصفناه بصفة تدل على القوة وتمام السلطان، لأن الغضب يدل على القدرة الغاضب على الانتقام وتمام سلطانه، فهو بالنسبة للخالق صفة كمال، وبالنسبة للمخلوق صفة نقص.
ويدل على بطلان تأويل الغضب بالانتقام قوله تعالى: { فلما آسفونا انتقمنا منهم } [الزخرف: 55].
فإن معنى { آسفونا } : أغضبونا، فجعل الانتقام غير الغضب، بل أثراً مترتباً عليه، فدل هذا على بطلان تفسير الغضب بالانتقام.
واعلم أن كل من حرف نصوص الصفات عن حقيقتها وعما أراد الله بها ورسوله، فلا بد أن يقع في زلة ومهلكة، فالواجب علينا أن نسلم لما جاء به الكتاب والسنة من صفات الله تعالى على ما ورد إثباتاً بلا تمثيل وتنزيهاً بلا تعطيل.
قوله: "اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، أي: جعلوها مساجد، إما بالبناء عليها، أو بالصلاة عندها، فالصلاة عند القبور من اتخاذها مساجد، والبناء عليها من اتخاذها مساجد.
وهنا نسأل: هل استجاب الله دعوة نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن لا يجعل قبره وثناً يعبد، أم اقتضت حكمته غير ذلك؟
الجواب: يقول ابن القيم: إن الله استجاب له، فلم يذكر أن قبره - صلى الله عليه وسلم - جعل وثناً، بل إنه حمي بثلاثة جدران، فلا أحد يصل إليه حتى يجعله وثناً يعبد من دون الله، ولم يسمع في التاريخ أنه جعل وثناً.
قال ابن القيم في "النونية":
فأجاب رب العالمين دعاءه ... ... ... وأحاطه بثلاثة الجدران
صحيح أنه يوجد أناس يغلون فيه، ولكن لم يصلوا إلى جعل قبره وثناً، ولكن قد يعبدون الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولو في مكان بعيد، فإن وجد من يتوجه له - صلى الله عليه وسلم - بدعائه عند قبره، فيكون قد اتخذه وثناً، لكن القبر نفسه لم يجعل وثناً.
* * *(10/311)
ولابن جرير بسنده، عن سفيان، عن منصورٍ، عن مجاهد: { أفرأيتم اللات والعزى } [النجم: 19].
قوله: "ولابن جرير"، هو محمد بن جرير بن يزيد الطبري، الإمام المشهور في التفسير، توفي سنة 310هـ.
وتفسيره: هو أصل التفسير بالأثر، ومرجع لجميع المفسرين بالأثر، ولا يخلو من بعض الآثار الضعيفة، وكأنه يريد أن يجمع ما روي عن السلف من الآثار في تفسير القرآن، ويدع للقارئ الحكم عليها بالصحة أو الضعف بحسب تتبع رجال السند، وهي طريقة جيدة من وجه، وليست جيدة من وجه آخر.
فجيدة من جهة أنها تجمع الآثار الواردة حتى لا تضيع، وربما تكون طرقها ضعيفة ويشهد بعضها لبعض.
وليس جيدة من جهة أن القاصر بالعلم ربما يخلط الغث بالسمين ويأخذ بهذا وهذا، لكن من عرف طريقة السند، وراجع رجال السند، ونظر إلى أحوالهم وكلام العلماء فيهم، علم ذلك.
وقد أضاف إلى تفسيره بالأثر: التفسير بالنظر، ولا سيما ما يعود إلى اللغة العربية، ولهذا دائماً يرجح الرأي ويستدل له بالشواهد الواردة في القرآن وعن العرب.
ومن الناحية الفقهية، فالطبري مجتهد، لكنه سلك طريقة خالف غيره فيها بالنسبة للإجماع، فلا يعتبر خلاف الرجل والرجلين، وينقل الإجماع ولو خالف في ذلك رجل أو رجلان، وهذه الطريقة تؤخذ عليه، لأن الإجماع لا بد أن يكون من جميع أهل العلم المعتبرين في الإجماع، وقد يكون الحق مع هذا الواحد المخالف.
والعجيب أني رأيت بعض المتأخرين يحذرون الطلبة من تفسيره، لأنه مملوء على زعمهم بالإسرائيليات، ويقولون: عليكم بـ"تفسير الكشاف" للزمخشري وما أشبه ذلك، وهؤلاء مخطئون، لأنهم لجهلهم بفضل التفسير بالآثار عن السلف واعتزازهم بأنفسهم وإعجابهم بآرائهم صاروا يقولون هذا.
قوله: "عن سفيان"، إما سفيان الثوري، أو ابن عيينة، وهذا مبهم، والمبهم يمكن معرفته بمعرفة شيوخه وتلاميذه، وفي الشرح - أعني "تيسير العزيز الحميد" يقول: الظاهر أنه الثوري.(10/312)
قوله: "عن مجاهد"، هو مجاهد بن جبر المكي، إمام المفسرين من التابعين، ذكر عنه أنه قال: "عرضت المصحف على عبدالله بن عباس رضي الله عنهما من فاتحته إلى خاتمته، فما تجاوزت آية إلا وقفت عندها أسأله عن تفسيرها".
قوله: { أفرأيتم } ، الهمزة: للاستفهام، والمراد به التحقير، والخطاب لعابدي هذه الأصنام اللات والعزى... إلخ.
لما ذكر الله تعالى قصة المعراج وما حصل فيه من الآيات العظيمة التي قال عنها: { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } ، قال: { أفرأيتم اللات والعزى } ، أي: ما نسبة هذه الأصنام للآيات الكبيرة التي رآها النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج.
* * *
قال: "كان يلت لهم السويق، فمات، فعكفوا على قبره".
قوله: { اللات } ، "كان يلت لهم..." إلخ، على قراءة التشديد: من لت يلت، فهو لات.
أما على قراءة التخفيف، فوجهها أنها خففت لتسهيل الكلام، أي: حذف منها التضعيف تخفيفاً.
وقد سبق أنهم قالوا: إن اللات من الإله.
وأصله: رجل كان يلت السويق للحجاج، فلما مات، عظموه، وعكفوا على قبره، ثم جعلوه إلهاً، وجعلوا التسمية الأولى مقترنة بالتسمية الأخيرة، فيكون أصله من لت السويق، ثم جعلوه من الإله، وهذا على قراءة التخفيف أظهر من التشديد، فالتخفيف يرجح أنه من الإله، والتشديد يرجح أن أصله رجل يلت السويق.
وغلوا في قبره، وقالوا: هذا الرجل المحسن الذي يلت السويق للحجاج ويطعمهم إياه، ثم بعد ذلك عبدوه، فصار الغلو في القبور يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله.(10/313)
وفي هذا التحذير من الغلو في القبور، ولهذا نهي عن تجصيصها والبناء عليها والكتابة عليها خوفاً من هذا المحظور العظيم الذي يجعلها تعبد من دون الله، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يأمر إذا بعث بعثاً: بأن لا يدعو قبراَ مشرفاً إلا سووه(1)، لعلمه أنه مع طول الزمان سيقال: لولا أن له مزية ما اختلف عن القبور، فالذي ينبغي أن تكون القبور متساوية لا ميزة لواحد منها عن البقية.
قوله: "السويق"، هو عبارة عن الشعير يحمص، ثم يطحن، ثم يخلط بتمر أو شبهه، ثم يؤكل.
* * *
وكذا قال أبو الجوزاء، عن ابن عباسٍ: "كان يلت السويق للحاج"(2)
وقوله: "كان يلت لهم السويق، فمات، فعكفوا على قبره"، يعني: ثم عبدوه وجعلوه إلهاً مع الله.
قوله: "وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: كان يلت السويق للحاج"، والغريب أن الناس في جاهليتهم يكرمون حجاج بيت الله، ويلتون لهم السويق، وان العباس أيضاً يسقي لهم من زمزم، وربما يجعل في زمزم نبيذاً يحليه زبيباً أو نحوه، وفي الوقت الحاضر صار الناس بالعكس يستغلون الحجاج غاية الاستغلال - والعياذ بالله - ، حتى يبيعوا عليهم ما يساوي ريالاً بريالين وأكثر حسب ما يتيسر لهم، وهذا في الحقيقة خطأ عظيم، لأن الله تعالى يقول: { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم } [الحج: 25]، فكيف بمن يفعل الإلحاد؟!
* * *
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج". رواه أهل السنن(3).
__________
(1) مسلم: كتاب الجنائز/ باب الأمر بتسوية القبر.
(2) البخاري: كتاب التفسير/ باب { أفرأيتم اللات والعزى } .
(3) مسند الإمام أحمد (1/229)، وسنن أبو داود: كتاب الجنائز/ باب في زيارة النساء القبور، 4/95، والترمذي: الصلاة/ باب كراهة أن يتخذ على القبر مسجداً، 320- وقال: "حديث حسن" -.(10/314)
قوله: "لعن"، اللعن: هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، ومعنى "لعن رسول الله- صلى الله عليه وسلم -"، أي: دعا عليهم باللعنة.
قوله: "زائرت القبور"، زائرت: جمع زائرة، والزيارة هنا معناها: الخروج إلى المقابر، وهي أنواع:
منها ما هو سنة، وهي زيارة الرجال للاتعاظ والدعاء للموتى.
ومنها ما هو بدعة، وهي زيارتهم للدعاء عندهم وقراءة القرآن ونحو ذلك.
ومنها ما هو شرك، وهي زيارتهم لدعاء الأموات والاستنجاد بهم والاستغاثة ونحو ذلك.
وزائر: اسم فاعل يصدق بالمرة الواحدة، وفي حديث أبي هريرة: "لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوارات القبور"(1)، بتشديد الواو، وهي صيغة مبالغة تدل على الكثرة أي كثرة الزيارة.
قوله: "والمتخذين عليها المساجد"، هذا الشاهد من الحديث، أي: الذين يضعون عليها المساجد، وقد سبق أن اتخاذ القبور مساجد له صورتان:
أن يتخذها مصلى يصلى عندها.
بناء المساجد عليها.
قوله: "والسرج"، جمع سراج، توقد عليها السرج ليلاً ونهاراً تعظيماً وغلواً فيها.
وهذا الحديث يدل على تحريم زيارة النساء للقبور، بل على أنه من كبائر الذنوب، لأن اللعن لا يكون إلا على كبيرة، ويدل على تحريم اتخاذ المساجد والسرج عليها، وهو كبيرة من كبائر الذنوب للعن فاعله.
* المناسبة للباب:
إن اتخاذ المساجد عليها وإسراجها غلو فيها، فيؤدي بعد ذلك إلى عبادتها.
مسألة: ما هي الصلة بين الجملة الأولى: "زائرات القبور"، والجملة الثانية "المتخذين عليها المساجد والسرج"؟
الصلة بينهما ظاهرة: هي أن المرأة لرقة عاطفتها وقلة تمييزها وضعف صبرها ربما تعبد أصحاب القبور تعطفاً على صاحب القبر، فلهذا قرنها بالمتخذين عليها المساجد والسرج.
وهل يدخل في اتخاذ السرج على المقابر ما لو وضع فيها مصابيح كهرباء لإنارتها؟.
__________
(1) مسند الإمام أحمد (2/337)، والترمذي: الجنائز/ باب ما جاء في كراهة زيارة القبور للنساء، 4/12 - وقال: "حسن صحيح" - .(10/315)
الجواب: أما في المواطن التي لا يحتاج الناس إليها، كما لو كانت المقبرة واسعة وفيها موضع قد انتهى الناس من الدفن فيه، فلا حاجة إلى إسراجه، فلا يسرج، أما الموضع الذي يقبر فيه فيسرج ما حوله، فقد يقال بجوازه، لأنها لا تسرج إلا بالليل، فليس في ذلك ما يدل على تعظيم القبر، بل اتخذ الإسراج للحاجة.
ولكن الذي نرى أنه ينبغي المنع مطلقاً للأسباب الآتية:
أنه ليس هناك ضرورة.
أن الناس إذا وجدوا ضرورة لذلك، فعندهم سيارات يمكن أن يوقدوا الأنوار التي فيها ويتبين لهم الأمر، ويمكنهم أن يحملوا سراجاً معهم.
أنه إذا فتح هذا الباب، فإن الشر سيتسع في قلوب الناس ولا يمكن ضبطه فيما بعد، فلو فرضنا أنهم جعلوا الإضاءة بعد صلاة الفجر ودفنوا الميت، فمن الذي يتولى قفل هذه الإضاءة؟
الجواب: قد تترك، ثم يبقى كأنه متخذ عليها السرج، فالذي نرى أنه يمنع نهائياً.
أما إذا كان في المقبرة حجرة يوضع فيها اللبن ونحوه، فلا بأس بإضاءتها لأنها بعيدة عن القبور، والإضاءة داخلة لا تشاهد، فهذا نرجوا أن لا يكون به بأس.
والمهم أن وسائل الشرك يجب على الإنسان أن يبتعد عنها ابتعاداً عظيماً، ولا يقدر للزمن الذين هو فيه الآن، بل يقدر للأزمان البعيدة، فالمسألة ليست هينة.
وفي الحديث ما يدل على تحريم زيارة النساء للقبور، وأنها من كبائر الذنوب، والعلماء اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال:
القول الأول: تحريم زيارة النساء للقبور، بل إنها من كبائر الذنوب، لهذا الحديث.
القول الثاني: كراهة زيارة النساء للقبور كراهة لا تصل إلى التحريم، وهذا هو المشهور من مذهب أحمد عن أصحابه، لحديث أم عطية: "نهينا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا"(1)
__________
(1) البخاري: كتاب الجنائز/ باب اتباع النساء للجنائز، ومسلم: كتاب الجنائز/ باب نهي النساء عن اتباع الجنائز.(10/316)
القول الثالث: أنها تجوز زيارة النساء للقبور، لحديث المرأة: التي مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بها وهي تبكي عند قبر، فقال لها: "اتقي الله واصبري". فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمثل مصيبتي. فانصرف الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنها، فقيل لها: هذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فجاءت إليه تعتذر، فيم يقبل عذرها، وقال: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى"(1)، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - شاهدها عند القبر ولم ينهها عن الزيارة، وإنما أمرها أن تتقي الله وتصبر.
ولما ثبت في "صحيح مسلم"(2) من حديث عائشة الطويل، وفيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى أهل البقيع في الليل، واستغفر لها ودعا لهم، وأن جبريل أتاه في الليل وأمره، فخرج - صلى الله عليه وسلم - مختفياً عن عائشة، وزار ودعا ورجع، ثم أخبرها الخبر، فقالت: ما أقول لهم يا رسول الله؟ قال: "قولي: السلام عليكم يا أهل الديار من المؤمنين والمسلمين..." إلخ.
قالوا: فعلمها النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاء زيارة القبور، وتعليمه هذا دليل على الجواز.
ورأيت قولاً رابعا: أن زيارة النساء للقبور سنة كالرجال، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإنها تذكركم الآخرة"(3)، وهذا عام للرجال والنساء.
__________
(1) البخاري: كتاب الجنائز/ باب زيارة القبور، ومسلم: كتاب الجنائز/ باب في الصبر على المعصية عند الصدمة الأولى.
(2) مسلم: كتاب الجنائز/ باب ما يقال عند دخول القبر... .
(3) مسند الإمام أحمد (1/145)، ومسلم بلفظ: "نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي..."(10/317)
ولأن عائشة رضي الله عنها زارت قبر أخيها، فقال لها عبدالله بن أبي مليكة، أليس النبي- صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن زيارة القبور؟ قالت: إنه أمر بها بعد ذلك (1).
وهذا دليل على أنه منسوخ.
والصحيح القول الأول، ويجب عن أدلة الأقوال الأخرى: بأن الصريح منها غير صحيح، والصحيح غير صريح، فمن ذلك:
أولاً: دعوى النسخ غير صحيحة، لأنها لا تقبل إلا بشرطين:
1- تعذر الجمع بين النصين، والجمع هنا سهل وليس بمتعذر، لأنه يمكن أن يقال: إن الخطاب في قوله: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها" للرجال، والعلماء اختلفوا فيما إذا خوطب الرجال بحكم: هل يدخل النساء أو لا؟ وإذا قلنا بالدخول - وهو الصحيح ـ، فإن دخولهن في هذا الخطاب من باب دخول أفراد العام في العموم، وعلى هذا يجوز أن يخصص بعض أفراد العام بحكم يخالف العام، وهنا نقول قد خص النبي - صلى الله عليه وسلم - النساء من هذا الحكم، فأمره بالزيارة للرجال فقط، لأن النساء أخرجن بالتخصيص من هذا العموم بلعن الزائرات، وأيضاً مما يبطل النسخ قوله: "لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج"(2)، ومن المعلوم أن قوله: "والمتخذين عليها المساجد والسرج"، لا أحد يدعي أنه منسوخ، والحديث واحد، فادعاء النسخ في جانب منه دون آخر غير مستقيم، وعلى هذا يكون الحديث محكماً غير منسوخ.
2- العلم بالتأريخ، وهنا لم نعلم التأريخ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: كنت لعنت من زار القبور: بل قال: "كنت نهيتكم"، والنهي دون اللعن.
__________
(1) الترمذي: كتاب الجنائز/ باب زيارة النساء للقبور، وذكره الهيثمي في "المجمع"، وقال: رواه الطبراني في "الكبير" ورجاله رجال الصحيح، والبغوي في "شرح السنة".
(2) تقدم (ص 424).(10/318)
وأيضاً قوله: "كنت نهيتكم" خطاب للرجال، ولعن زائرات القبور خطاب للنساء، فلا يمكن حمل خطاب الرجال على خطاب النساء، إذاً، فالحديث لا يصح فيه دعوى النسخ.
وثانياً: وأما الجواب عن حديث المرأة وحديث عائشة، أن المرأة لم تخرج للزيارة قطعاً، لكنها أصيبت، ومن عظم المصيبة عليها لم تتمالك نفسها لتبقى في بيتها، ولذلك خرجت وجعلت تبكي عند القبر مما يدل على أن في قلبها شيئاً عظيماً لم تتحمله حتى ذهبت إلى ابنها وجعلت تبكي عند قبره، ولهذا أمرها - صلى الله عليه وسلم - أن تصبر، لأنه علم أنها لم تخرج للزيارة، بل خرجت لما في قلبها من عدم تحمل هذه الصدمة الكبيرة، فالحديث ليس صريحاً بأنها خرجت للزيارة، وإذا لم يكن صريحاً، فلا يمكن أن يعارض الشيء الصريح بشيء غير صريح.
وأما حديث عائشة، فإنها قالت للرسول - صلى الله عليه وسلم -: ماذا أقول؟ فقال: "قولي: السلام عليكم"، فهل المراد أنها تقول ذلك إذا مرت، أو إذا خرجت زائرة؟ فهو محتمل، فليس فيه تصريح بأنها إذا خرجت زائرة، إذا من الممكن أن يراد به إذا مرت بها من غير خروج للزيارة، وإذا كان ليس صريحاً، فلا يعارض الصريح.
وأما فعلها مع أخيها رضي الله عنهما، فإن فعلها مع أخيها لم يستدل عليها عبدالله بن أبي مليكة بلعن زائرات القبور، وإنما استدل عليها بالنهي عن زيارة القبور مطلقاً، لأنه لو استدل عليها بالنهي عن زيارة النساء للقبور أو بلعن زائرات القبور، لكنا ننظر بماذا ستجيبه.(10/319)
فهو استدل عليها بالنهي عن زيارة القبور، ومعلوم أن النهي عن زيارة القبور كان عاماً، ولهذا أجابته بالنسخ العام، وقالت: إنه قد أمر بذلك، ونحن وإن كنا نقول: إن عائشة رضي الله عنها استدلت بلفظ العموم، فهي كغيرها من العلماء لا يعارض بقولها قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، على أنه روي عنها، أنها قالت: "لو شهدتك ما زرتك"، وهذا دليل على أنها رضي الله عنها خرجت لتدعو له، لأنها لم تشهد جنازته، لكن هذه الرواية طعن فيها بعض العلماء، وقال: إنها لا تصح عن عائشة رضي الله عنها، لكننا نبقى على الرواية الأولى الصحيحة، إذا ليس فيها دليل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نسخه، وإذا فهمت هي، فلا يعارض بقولها قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
* إشكال وجوابه:
في قوله: "زوارات القبور" ألا يمكن أن يحمل النهي عن تكرار الزيارة لأن "زوارات" صيغة مبالغة.
الجواب: هذا ممكن، لكننا إذا حملناه على ذلك، فإننا أضعنا دلالة المطلق "زائرات".
والتضعيف قد يحمل على كثرة الفاعلين لأن على كثرة الفعل، فـ "زوارات" يعني: النساء إذا كن مئة كان فعلهن كثيراً، والتضعيف باعتبار الفاعل موجود في اللغة العربية، قال تعالى: { جنات عدن مفتحة لهم الأبواب } [ص: 50]، فلما كانت الأبواب كثيرة كان فيها التضعيف، إذا الباب لا يفتح إلا مرة واحدة، وأيضاً قراءة { حتى إذا جاؤوها وفتحت } [الزمر: 73]، فهي مثلها.
فالراجح تحريم زيارة النساء للمقابر، وأنها من كبائر الذنوب.
وأنظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (343/24).
* * *
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الأوثان. الثانية: تفسير العبادة.
الأولى: تفسير الأوثان، وهي: كل ما عبد من دون الله، سواء كان صنماً أو قبراً أو غيره.
الثانية: تفسير العبادة، وهي: التذلل والخضوع للمعبود خوفاً ورجاء ومحبة وتعظيماً، لقوله: "لا تجعل قبري وثناً يعبد".
* * *(10/320)
الثالثة: أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه. الرابعة: قرنه بهذا اتخاذ قبور الأنبياء مساجد. الخامسة: ذكر شدة الغضب من الله. السادسة: وهي من أهمها: معرفة صفة عبادة اللات التي هي من أكبر الأوثان. السابعة: معرفة أنه قبر رجل صالح.
الثالثة: أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يستعذ إلا مما يخاف من وقوعه، وذلك في قوله: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد".
الرابعة: قرنه بهذا اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، وذلك في قوله: "اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
الخامسة: ذكر شدة الغضب من الله، تؤخذ من قوله: "اشتد غضب الله".
وفيه: إثبات الغضب من الله حقيقة، لكنه كغيره من صفات الأفعال التي نعرف معناها ولا نعرف كيفيتها.
وفيه أنه يتفاوت كما ثبت في الحديث الصحيح حديث الشفاعة: "إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب مثله قبله ولا بعده"(1).
السادسةـ وهي من أهمها - : معرفة صفة عبادة اللات التي هي من أكبر الأوثان: وذلك في قوله: "فمات، فعكفوا على قبره".
السابعة: معرفة أنه قبر رجل صالح، تؤخذ من قوله: "كان يلت لهم السويق"، أي: للحجاج، لأنه معظم عندهم، والغالب لا يكون معظماً إلا صاحب دين.
* * *
الثامنة: أنه اسم صاحب القبر، وذكر معنى التسمية. التاسعة: لعنه زوارات القبور. العاشرة: لعنة من أسرجها.
الثامنة: أنه اسم صاحب القبر، وذكر معنى التسمية، وهو أنه كان يلت السويق.
التاسعة: لعنة زوارات القبور، أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكر رحمه الله لفظ: "زوارات القبور" مراعاة للفظ الآخر.
العاشرة: لعنة من أسرجها، وذلك في قوله: "والمتخذين عليها المساجد والسرج".
وهنا مسألة مهمة لم تذكر، وهي: أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً كما في قبر اللات، وهذه من أهم الوسائل، ولم يذكرها المؤلف رحمه الله، ولعله اكتفى بالترجمة عن هذه المسألة بما حصل للات، فإذا قيل بذلك، فله وجه.
__________
(1) تقدم (ص 324).(10/321)
مسألة: المرأة إذا ذهبت للروضة في المسجد النبوي لتصلي فيها، فالقبر قريب منها، فتقف وتسلم، ولا مانع فيه.
والأحسن البعد عن الزحام ومخالطة الرجال، ولئلا يظن من يشاهدها أن المرأة يجوز لها قصد الزيارة، فيقع الإنسان في محذور، وتسليم المرء على النبي - صلى الله عليه وسلم - يبلغه حيث كان.
* * *
باب ما جاء في حماية المصطفى - صلى الله عليه وسلم - جناب التوحيد
وسده كل طريق يوصل إلى الشرك
قوله: "المصطفى"، أصلها: المصتفى، من الصفوة، وهو خيار الشيء، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل المصطفين لأنه أفضل أولي العزم من الرسل، والرسل هم المصطفون، والمراد به: محمد - صلى الله عليه وسلم -، والاصطفاء على درجات أعلاها اصطفاء أولي العزم من الرسل، ثم اصطفاء الرسل، ثم اصطفاء الأنبياء، ثم اصطفاء الصديقين، ثم اصطفاء الشهداء، ثم اصطفاء الصالحين.
قوله: "حماية"، من حمى الشيء، إذا جعل له مانعاً يمنع من يقرب حوله، ومنه حماية الأرض عن الرعي فيها، ونحو ذلك.
قوله: "جناب"، بمعنى جانب، والتوحيد، تفعيل من الوحدة، وهو إفراد الله تعالى بما يجب له من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
قوله: "وسده كل طريق"، أي: مع الحماية لم يدع الأبواب مفتوحة يلج إليها من شاء، ولكنه سد كل طريق يوصل إلى الشرك، لأن الشرك أعظم الذنوب، قال تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [النساء: 48].(10/322)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الشرك الأصغر لا يغفره الله، لعموم قوله: { أن يشرك به } ، وعلى هذا، فجميع الذنوب دونه لقوله: { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ، فيشمل كبائر الذنوب وصغائرها، فالشرك ليس بالأمر الهين الذي يتهاون به، فالشرك يفسد القلب والقصد، وإذا فسد القصد فسد العمل، إذ العمل مبناه على القصد، قال تعالى: { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون } [هود: 15،16]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات"(1).
إذاً، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - حمى جانب التوحيد حماية محكمة، وسد كل طريق يوصل إلى الشرك ولو من بعيد، لأن من سار على الدرب وصل، والشيطان يزين للإنسان أعمال السوء شيئاً فشيئاً حتى يصل إلى الغاية.
* * *
وقول الله تعالى: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم } الآية [التوبة: 128].
قوله: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } ، الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات: القسم، واللام، وقد، وهي مؤكدة لجميع مدخولها بأنه رسول، وأنه من أنفسهم، وأنه عزيز عليه ما يشق علينا، وأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم، فالقسم منصب على كل هذه الأوصاف الأربعة.
والخطاب في قوله: { جاءكم } قيل: للعرب، لقوله: { من أنفسكم } ، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - من العرب، قال تعالى: { هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم } [الجمعة: 2].
ويحتمل أن يكون عاماً للأمة كلها، ويكون المراد بالنفس هنا الجنس، أي: ليس من الجن ولا من الملائكة، بل هو من جنسكم، كما قال تعالى: { هو الذي خلقكم من نفس واحدة } [الأعراف، 189].
وعلى الاحتمال الأول فيه إشكال، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى جميع الناس من العرب والعجم.
__________
(1) تقدم (ص 220).(10/323)
ولكن يقال في الجواب: إنه خوطب العرب بهذا، لأن منة الله عليهم به أعظم من غيرهم، حيث كان منهم، وفي هذا تشريف لهم بلا ريب.
والاحتمال الثاني أولى، للعموم، ولقوله: { لقد من الله على المؤمنين إذا بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } [آل عمران: 164]، ولما كان المراد العرب، قال: { منهم } لا "من أنفسهم"، قال الله تعالى: { هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم } ، وقال تعالى عن إبراهيم وإسماعيل: { ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم } ، وعلى هذا، فإذا جاءت "من أنفسهم"، فالمراد: عموم الأمة، وإذا جاءت "منهم"، فالمراد: العرب، فعلى الاحتمال الثاني لا إشكال في الآية.
قوله: { رسول } ، أي: من الله، كما قال تعالى: { رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة } ، وفعول هنا بمعنى مفعل، أي: مرسل.
و { من أنفسكم } ، سبق الكلام فيها.
قوله: { عزيز } ، أي: صعب، لأن هذه المادة العين والزاي في اللغة العربية تدل على الصلابة، ومنه: "أرض عزاز"، أي: صلبة قوية، والمعنى: أنه يصعب عليه ما يشق عليكم، ولهذا بعث بالحنيفية السمحة، وما خير بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، وهذا من التيسير الذي بعث به الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: { ما عنتم } ، { ما } : مصدرية، وليس موصولة، أي: عنتكم، أي: مشقتكم، لأن العنت بمعنى المشقة، قال تعالى: { ذلك لمن خشي العنت منكم } [النساء: 25].
والفعل بعد { ما } يؤول إلى مصدر مرفوع، لكن بماذا هو مرفوع؟
يختلف باختلاف { عزيز } إذا قلنا: بأن { عزيز } صفة لرسول، صار المصدر المؤول فاعلاً به، أي: عزيز عليه عنتكم، وإن قلنا: عزيز خبر مقدم، صار عنتكم مبتدأ، والجملة حينئذ تكون كلها صفة لرسول، أو يقال: عزيز مبتدأ، وعنتكم فاعل سد مسد الخبر على رأي الكوفيين الذي أشار إليه ابن مالك في قوله: وقد يجوز نحو فائز أولو الرشد.(10/324)
قوله: { حريص عليكم } ، الحرص: بذل الجهد لإدراك أمر مقصود، والمعنى: باذل غاية جهده في مصلحتكم، فهو جامع بين أمرين: دفع المكروه الذي أفاده قوله: { عزيز عليه ما عنتم } ، وحصول المحبوب الذي أفاده قوله: { حريص عليكم } ، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - جامعاً بين هذين الوصفين، وهذا من نعمة الله علينا وعلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يكون على هذا الخلق العظيم الممثل بقوله تعالى: { وإنك لعلى خلق عظيم } [القلم: 4].
قوله: { بالمؤمنين رؤوف رحيم } ، { بالمؤمنين } : جار ومجرور خبر مقدم، و { رؤوف } : مبتدأ مؤخر، و { رحيم } : مبتدأ ثان، وتقديم الخبر يفيد الحصر.
والرأفة: أشد الرحمة وأرقها.
والرحمة: رقة بالقلب تتضمن الحنو على المرحوم والعطف عليه بجلب الخير له ودفع الضرر عنه.
وقولنا: رقة في القلب هذا باعتبار المخلوق، أما بالنسبة لله تعالى، فلا نفسرها بهذا التفسير، لأن الله تعالى ليس كمثله شيء، ورحمة الله أعظم من رحمة المخلوق لا تدانيها رحمة المخلوق ولا تماثلها، فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "إن لله مئة رحمة وضع منها رحمة واحدة يتراحم بها الخلق منذ خلقوا إلى يوم القيامة، حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه"(1).
فمن يحصي هذه الرحمة التي في الخلائق منذ خلقوا إلى يوم القيامة كمية؟ ومن يستطيع أن يقدرها كيفية؟ لا أحد يستطيع إلا الله - عز وجل - الذي خلقها؟
فهذه رحمة واحدة، فإذا كان يوم القيامة رحم الخلق بتسع وتسعين رحمة بالإضافة إلى الرحمة الأولى، وهل هذه الرحمة تدانيها رحمة المخلوق؟
__________
(1) البخاري: كتاب الأدب/ باب جعل الله الرحمة في مئة جزء، ومسلم: كتاب التوبة/ باب في سعة رحمة الله.(10/325)
الجواب: أبداً، لا تدانيها، والقدر المشترك بين رحمة الخالق ورحمة المخلوق أنها صفة تقتضي الإحسان إلى المرحوم، ورحمة الخالق غير مخلوقة، لأنها من صفاته، ورحمة المخلوق مخلوقة، لأنها من صفاته، فصفات الخالق لا يمكن أن تنفصل عنه إلى مخلوق لأننا لو قلنا بذلك لقلنا بحلول صفات الخالق بالمخلوق، وهذا أمر لا يمكن، لأن صفات الخالق يتصف بها وحده، وصفات المخلوق يتصف بها وحده، لكن صفات الخالق لها آثار تظهر في المخلوق، وهذه الآثار هي الرحمة التي نتراحم بها.
وقوله: { بالمؤمنين رؤوف رحيم } ، أي: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - في غير المؤمنين ليس رؤوفاً ولا رحيماً، بل هو شديد عليهم كما وصفه الله هو وأصحابه بذلك في قوله: { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم } [الفتح: 29].
قوله: { فإن تولوا } ، أي: أعرضوا مع هذا البيان الواضح بوصف الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا التفات من الخطاب إلى الغيبة، لأن التولي مع هذا البيان مكروه، ولهذا لم يخاطبوا به، فلم يقل: فإن توليتم.
والبلاغيون يسمونه التفاتاً، ولو قيل: إنه انتقال، لكان أحسن.
قوله: { فقل حسبي الله } ، الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أي: قل ذلك معتمداً على الله، متوكلاً عليه، معتصماً به: حسبي الله، وارتباط الجواب بالشرط واضح، أي: فإن أعرضوا، فلا يهمنك إعراضهم، بل قل بلسانك وقلبك: حسبي الله، و { حسبي } خبر مقدم، و(لفظ الجلالة) مبتدأ مؤخر، ويجوز العكس بأن نجعل: { حسبي } مبتدأ و(لفظ الجلالة) خبر، لكن لما كانت حسب نكرة لا تتعرف بالإضافة ، كان الأولى أن نجعلها هي الخبر.
قوله: { لا إله إلا هو } ، أي: لا معبود حق حقيق بالعبادة سوى الله- عز وجل -.
قوله: { عليه توكلت } ، عليه: جار ومجرور متعلق بتوكلت، وقدم للحصر.
والتوكل: هو الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار مع الثقة به، وفعل الأسباب النافعة.(10/326)
وقوله: { عليه توكلت } مع قوله: { لا إله إلا هو } فيها جمع بين توحيدي الربوبية والعبودية، والله تعالى يجمع بين هذه الأمرين كثيراً، { إياك نعبد وإياك نستعين } [الفاتحة: 5]، وقوله: { فاعبده وتوكل عليه } [هود: 123].
قوله: { وهو رب العرش العظيم } ، الضمير يعود على الله - سبحانه - .
و { رب العرش } ، أي: خالقه، وإضافة الربوبية إلى العرش - وإن كانت ربوبية الله - عامة تشريفاً للعرش وتعظيماً له.
ومناسبة التوكل لقوله: { رب العرش العظيم } ، لأن من كان فوق كل شيء ولا شيء فوقه، فإنه لا أحد يغلبه، فهو جدير بأن يتوكل عليه وحده.-
وقوله: { العرش } فسره بعض الناس بالكرسي، ثم فسرو الكرسي بالعلم، وحينئذ لا يكون هناك كرسي ولا عرش، وهذا التفسير باطل، والصحيح أن العرش غير الكرسي، وأن الكرسي غير العلم، ولا يصح تفسيره بالعلم، بل الكرسي من مخلوقات الله العظيمة الذي وسع السماوات والأرض، والعرش أعظم وأعظم، ولهذا وصفه بأنه عظيم بقوله تعالى: { وهو رب العرش العظيم } [التوبة 129]، وبأنه مجيد بقوله: { ذو العرش المجيد } [البروج: 15] على قراءة كسر الدال، وبأنه كريم في قوله: { لا إله إلا هو رب العرش الكريم } [المؤمنون: 116]، لأنه أعظم المخلوقات التي بلغنا علمها وأعلاها لأن الله استوى عليه.
وفيه دليل على أن كلمة العظيم يوصف بها المخلوق، لأن العرش مخلوق، وكذلك الرحيم، والرؤوف، والحكيم.
ولا يلزم من اتفاق الاسمين اتفاق المسميين، فإذا كان الإنسان رؤوفاً، فلا يلزم أن يكون مثل الخالق، فلا تقل: إذا كان الإنسان سميعاً بصيراً عليماً لزم أن يكون مثل الخالق، لأن الله سميع بصير عليم، كما أن وجود الباري سبحانه لا يستلزم أن تكون ذاته كذوات الخلق، فإن أسماءه كذلك لا يستلزم أن تكون كأسماء الخلق، وهناك فرق عظيم بين هذا وهذا.(10/327)
وقوله: { فقل حسبي الله } ، أي: كافينى، وهكذا يجب أن يعلن المؤمن اعتماده على ربه، ولا سيما في مثل هذا المقام الذي يتخلى الناس عنه، لأنه قال: { فإن تولوا } .
وهذه الكلمةـ كلمة الحسب - تقال في الشدائد، قالها إبراهيم حين ألقي في النار، والنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه حين قيل لهم: { إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } [آل عمران: 173].
* (تنبيه):
في سياقنا للآية الثانية فوائد نسأل الله أن ينفع بها.
* * *
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم".
قوله: "لا تجعلوا"، الجملة هنا نهي، فلا ناهية، والفعل مجزوم وعلامة جزمه حذف النون، والواو فاعل.
قوله: "بيوتكم"، جمع بيت، وهو مقر الإنسان وسكنه، سواء كان من طين أو حجارة أو خيمة أو غير ذلك، وغالب ما يراد به الطين والحجارة.
قوله: "قبوراً"، مفعول ثان لتجعلوا، وهذه الجملة اختلف في معناها، فمنهم من قال: لا تجعلوها قبوراً، أي: لا تدفنوا فيها، وهذا لا شك أنه ظاهر اللفظ، ولكن أورد على ذلك دفن النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيته.
وأجيب عنه بأن من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - دفن في بيته لسببين:
ما وري عن أبي بكر أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من نبي يموت إلا دفن حيث قبض"(1)، وهذا ضعفه بعض العلماء.
ما روته عائشة رضي الله عنها: "أنه خشي أن يتخذ مسجداً"(2).
__________
(1) سبق (ص 292).
(2) سبق (ص 392).(10/328)
وقال بعض العلماء: المراد بـ "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً"، أي: لا تجعلوها مثل القبور، أي: المقبرة لا تصلون فيها، وذلك لأنه من المتقرر عندهم أن المقابر لا يصلى فيها، وأيدوا هذا التفسير بأنه سبقها جملة في بعض الطرق: "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تجعلوها قبوراً"، وهذا يدل على أن المراد: لا تدعوا الصلاة فيها.
وكلا المعنيين صحيح، فلا يجوز أن يدفن الإنسان في بيته، بل يدفن مع المسلمين، لأن هذه هي العادة المتبعة منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليوم، ولأنه إذا دفن في بيته، فإنه ربما يكون وسيلة إلى الشرك، فربما يعظم هذا المكان، ولأنه يحرم من دعوات المسلمين الذين يدعون بالمغفرة لأموات المسلمين عند زيارتهم للمقابر، ولأنه يضيق على الورثة من بعده فيسأمون منه، وربما يستوحشون منه، وإذا باعوه لا يساوي إلا شيئاً قليلاً، ولأنه قد يحدث عنده من الصخب واللعب واللغو والأفعال المحرمة ما يتنافى مع مقصود الشارع، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "زوروا القبور، فإنها تذكركم الآخرة"(1).
وأما أن المعنى: لا تجعلوها قبوراً، أي: مثل القبور في عدم الصلاة فيها، فهو دليل على أنه ينبغي إن لم نقل: يجب أن يجعل الإنسان من صلاته في بيته ولا يخليه من الصلاة.
وفيه أيضاً: أنه من المتقرر عندهم أن المقبرة لا يصلى فيها.
إذاً، فيكون هذا النهي عن ترك الصلاة في البيوت لئلا تشبه المقابر، فيكون فيه دليل واضح على أن المقابر ليست محلاً للصلاة، وهذا هو الشاهد من الحديث للباب، لأن اتخاذ المقابر مساجد سبب قريب جداً للشرك.
واتخاذها مساجد سبق أن له مرتبتين:
الأولى: أن يبني عليها مسجداً.
الثانية: أن يتخذها مصلى يقصدها ليصلي عندها.
__________
(1) سبق (ص 428).(10/329)
والحديث يدل على أن الأفضل: أن المرء يجعل من صلاته في بيته وذلك جميع النوافل، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل صلاة المرء في بيته، إلا المكتوبة"(1)، إلا ما ورد الشرع أن يفعل في المسجد، مثل: صلاة الكسوف، وقيام الليل في رمضان، حتى ولو كنت في المدينة النبوية، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك وهو في المدينة، وتكون المضاعفة بالنسبة للفرائض أو النوافل التي تسن لها الجماعة.
قوله: "عيداً"، العيد: اسم لما يعتاد فعله، أو التردد إليه، فإذا اعتاد الإنسان أن يعمل عملاً كما لو كان كلما حال عليه الحول صنع طعاماً ودعا الناس، فهذا يسمى عيداً لأنه جعله يعود ويتكرر.
وكذلك من العيد: أن تعتاد شيئاً فتتردد إليه، مثل: ما يفعل بعض الجهلة في شهر رجب وهو ما يسمى بالزيارة الرجبية، حيث يذهبون إلى مكة إلى المدينة، ويزورون كما زعموا قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإذا أقبلوا على المدينة تسمع لهم صياحاً، وكانوا سابقاً يذهبون من مكة إلى المدينة على الحمير خاصة، ولما جاءت السيارات صاروا يذهبون على السيارات.
وأيهما المراد من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -: الأول، أي العمل الذي يتكرر بتكرر العام، أو التردد إلى المكان؟
الظاهر الثاني، أي: لا تترددوا على قبري وتعتادوا ذلك، سواء قيدوه بالسنة أو بالشهر أو بالأسبوع، فإنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك، وإنما يزار لسبب، كما لو قدم الإنسان من سفر، فذهب إلى قبره فزاره، أو زاره ليتذكر الآخرة كغيره من القبور.
__________
(1) البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة/ باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه، ومسلم: كتاب صلاة المساف/ باب استحباب صلاة النافلة في بيته.(10/330)
وما يفعله بعض الناس في المدينة كلما صلى الفجر ذهب إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - من أجل السلام عليه، فيعتاد هذا كل فجر، يظنون أن هذا مثل زيارته في حياته، فهذا من الجهل، وما علموا أنهم إذا سلموا عليه في أي مكان، فإن تسليمهم يبلغه.
قوله: "وصلوا علي"، هذا أمر، أي: قولوا: الله صل على محمد، وقد أمر الله بذلك في قوله: { إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً } [الأحزاب: 56].
وفضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - معروف، ومنه أن من صلى عليه مرة واحدة صلى الله عليه بها عشراً(1).
والصلاة من الله على رسوله ليس معناها كما قال بعض أهل العلم: إن الصلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار ، ومن الآدميين الدعاء.
فهذا ليس بصحيح، بل إن صلاة الله على المرء ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، كما قال أبو العالية وتبعه على ذلك المحققون من أهل العلم.
ويدل على بطلان القول الأول قوله تعالى: { أولئك عليهم صلوات ربهم ورحمة } [البقرة: 157]، فعطف الرحمة على الصلوات، والأصل في العطف المغايرة، ولأن الرحمة تكون لكل أحد، ولهذا أجمع العلماء على أنه يجوز أن تقول: فلان رحمه الله، واختلفوا: هل يجوز أن تقول: فلان صلى الله عليه؟
فمن صلى على محمد - صلى الله عليه وسلم - مرة أثنى الله عليه في الملأ الأعلى عشر مرات، وهذه نعمة كبيرة.
قوله: "فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم"، حيث: ظرف مبني على الضم في محل نصب، ويقال فيها: حيث، وحوث، وحاث، لكنها قليلة.
كيف تبلغه الصلاة عليه؟
__________
(1) مسلم: كتاب الصلاة/ باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه.(10/331)
الجواب: نقول: إذا جاء مثل هذا النص وهو من أمور الغيب، فالواجب أن يقال: الكيف مجهول لا نعلم بأي وسيلة تبلغه، لكن ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أن لله ملائكة سياحين يسيحون في الأرض يبلغون النبي - صلى الله عليه وسلم - سلام أمته عليه"(1)، فإن صح، فهذه هي الكيفية.
* * *
رواه أبو داود بإسناد حسنٍ ورواته ثقات(2)
قوله: "رواه أبو داود بإسناد حسن، ورواته ثقات"، هذا التعبير من الناحية الاصطلاحية، ظاهره أن بينهما اختلافاً، ولكننا نعرف أن الحسن: هو أن يكون الراوي خفيف الضبط، فمعناه أن فيه نوعاً من الثقة، فيجمع بين كلام المؤلف رحمه الله وبين ما ذكره عن رواية أبي داود بإسناد حسن: أن المراد بالثقة ليس غاية الثقة لأنه لو بلغ إلى حد الثقة الغاية لكان صحيحاً لأن ثقة الراوي تعود على تحقيق الوصفين فيه، وهما: العدالة والضبط، فإذا خف الضبط خفت الثقة، كما إذا خفت العدالة أيضاً تخف الثقة فيه.
فيجمع بينهما على أن المراد: مطلق الثقة، ولكنه لا شك فيما أرى أنه إذا أعقب قوله: "حسن" بقوله: "رواته ثقات" أنه أعلى مما لو اقتصر على لفظ: "حسن".
ومثل هذا ما يعبر به ابن حجر في "تقريب التهذيب" بقوله: "صدوق يهم"، وأحياناً يقول: "صدوق"، وصدوق أقوى، فيكون توثيق الرجل الموصوف بصدوق أشد من توثيق الرجل الذي يوصف بأنه يهم.
لا يقول قائل: إن كلمة يهم لا تزيده ضعفاً، لأنه ما من إنسان إلا ويهم.
فنقول: هذا لا يصح، لأن قولهم: (يهم) لا يعنون به الوهم الذي لا يخلو منه أحد ولولا أن هناك غلبة في أوهامه ما وصفوه بها.
* * *
__________
(1) النسائي: كتاب السهو/ باب السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال ابن القيم في "جلاء الإفهام" (ص: 23): "وهذا إسناد صحيح".
(2) مسند الإمام أحمد (2/367)، وسنن أبي داود: كتاب المناسك/ باب بزيارة القبور، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم": إسناده حسن، وقال النووي "إسناده صحيح".(10/332)
وعن علي بن الحسين رضي الله عنه، أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيدخل فيها، فيدعو، فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا علي، فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم". رواه في "المختارة"(1).
قوله: "وعن علي بن الحسين"، هو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، يسمى بزيد العابدين، من أفضل أهل البيت علماً وزهداً وفقهاً.
والحسين معروف: ابن فاطمة رضي الله عنها، وأبوه: علي رضي الله عنه.
قوله: "يجيء إلى فرجة"، هذا الرجل لا شك أنه لم يتكرر مجيئه إلى هذه الفرجة إلا لاعتقاده أن فيها فضلاً ومزية، وكونه يظن أن الدعاء عند القبر، له مزية فتح باب ووسيلة إلى الشرك، بل جميع العبادات إذا كانت عند القبر، فلا يجوز أن يعتقد أن لها مزية، سواء كانت صلاة أو دعاء أو قراءة، ولهذا نقول: تكره القراءة عند القبر إذا كان الإنسان يعتقد أن القراءة عند القبر أفضل.
قوله: "فنهاه"، أي: طلب منه الكف.
قوله: "ألا أحدثكم حديثاً"، قال: أحدثكم والرجل واحد، لان الظاهر أنه كان عند أصحابه يحدثهم، فجاء هذا الرجل إلى الفرجة.
و"ألا": أداة عرض، أي: أعرض عليكم أن أحدثكم.
وفائدتها: تنبيه المخاطب إلى ما يريد أن يحدثه به.
قوله: "عن أبي عن جدي"، أبوه: الحسين، وجده: علي بن أبي طالب.
قوله: "عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، السند متصل، وفيه عنعنة لكنها لا تضر، لأنها من غير مدلس، فتحمل على السماع.
__________
(1) البخاري في "التاريخ الكبير، وأبو يعلى، كما في "مجمع الزوائد".
وقال الهيثمي: "وفيه جعفر بن إبراهيم الجعفري، ذكره أبو حاتم ولم يذكر فيه جرحاً، وبقية رجاله ثقات".
وفيه أيضاً على بن عمر بن الحسين، مستور، كما في "التقريب"ز
ورواه أيضاً: الضياء في "المختارة"، كما في "اقتضاء الصراط المستقيم" (ص 322).(10/333)
قوله: "لا تتخذوا قبري عيداً"، يقال فيه كما في الحديث السابق: أنه نهى أن يتخذ قبره عيداً يعتاد ويتكرر إليه، لأنه وسيلة إلى الشرك.
قوله: "ولا بيوتكم قبوراً"، سبق معناه.
قوله: "وصلوا علي، فإن تسليمكم يبلغني حيث كنتم"، اللفظ هكذا، وأشك في صحته، لأن قوله: "صلوا علي" يقتضي أن يقال فإن صلاتكم تبلغني، إلا أن يقال هذا من باب الطي والنشر.
والمعنى: صلوا علي وسلموا، فإن تسليمكم وصلاتكم تبلغني، وكأنه ذكر الفعلين والعلتين، لكن حذف من الأولى ما دلت عليه الثانية، ومن الثانية ما دلت عليه الأولى.
وقوله: "وصلوا علي"، سبق معناها، والمراد: صلوا علي في أي مكان كنتم، ولا حاجة إلى أن تأتوا إلى القبر وتسلموا علي وتصلوا علي عنده.
قوله: "يبلغني"، تقدم كيف يبلغه - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: "رواه في المختارة"، الفاعل مؤلف المختارة، والمختارة: اسم الكتاب، أي: الأحاديث المختارة.
والمؤلف هو عبد الغني المقدسي، من الحنابلة.
وما أقل الحديث في الحنابلة، يعني المحدثين، وهذا من أغرب ما يكون، يعني أصحاب الإمام أحمد أقل الناس تحديثاً بالنسبة للشافعية.
فالحنابلة غلب عليهم رحمهم الله الفقه مع الحديث، فصاروا محدثين وفقهاء، ولكنهم رحمهم الله بشر، فإذا أخذ من هذا العلم صار ذلك زحاماً للعلم الآخر، أما الأحناف، فإنهم أخذوا بالفقه، لكن قلت بضاعتهم في الحديث، ولهذا يسمون أصحاب الرأي (يعني: العقل والقياس)، لقلة الحديث عندهم، والشافعية أكثر الناس عناية بالحديث والتفسير، والمالكية كذلك، ثم الحنابلة وسط، وأقلهم في ذلك الأحناف مع أن لهم كتباً في الحديث.
* * *
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية براءة. الثانية: إبعاده أمته عن هذا الحمى غاية البعد.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية براءة، وسبق ذلك في أول الباب.(10/334)
الثاني: إبعاده - صلى الله عليه وسلم - أمته عن هذا الحمى غاية البعد، تؤخذ من قوله: "لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً".
* * *
الثالثة: ذكر حرصه علينا ورأفته ورحمته. الرابعة: نهيه عن زيارة قبره على وجه مخصوص مع أن زيارته من أفضل الأعمال. الخامسة: نهيه عن الإكثار من الزيارة. السادسة: حثه على النافلة في البيت. السابعة: أنه مقرر عندهم أنه لا يصلى في المقبرة.
الثالثة: ذكر حرصه علينا ورأفته ورحمته، وهذا مذكور في آية براءة.
الرابعة: نهيه عن زيارة قبره على وجه مخصوص، تؤخذ من قوله: "ولا تجعلوا قبري عيداً"، فقوله: "عيداً" هذا هو الوجه المخصوص.
وزيارة قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - من أفضل الأعمال من جنسها، فزيارته فيها سلام عليه، وحقه - صلى الله عليه وسلم - أعظم من غيره.
وأما من حيث التذكير بالآخرة، فلا فرق بين قبره وقبر غيره.
الخامسة: نهيه عن الإكثار من الزيارة، تؤخذ من قوله: "لا تجعلوا قبري عيداً"، لكنه لا يلزم منه الإكثار، لأنه قد لا يأتي إلا بعد سنة، ويكون قد اتخذه عيداً، فإن فيه نوعاً من الإكثار.
السادسة: حثه على النافلة في البيت، تؤخذ من قوله: "ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً"، وسبق أن فيها معنيين:
المعنى الأول: أن لا يقبر في البيت، وهذا ظاهر الجملة.
والثاني: الذي هو من لازم المعنى أن لا تترك الصلاة فيها.
السابعة: أنه متقرر عندهم أنه لا يصلى في المقبرة، تؤخذ من قوله: "لا تجعلوا بيوتكم قبراً"، لأن المعنى: لا تجعلوها قبرواً، أي: لا تتركوا الصلاة فيها على أحد الوجهين، فكأنه من المتقرر عندهم أن المقابر لا يصلى فيها.
* * *
الثامنة: تعليل ذلك بأن صلاة الرجل وسلامه عليه يبلغه وإن بعد، فلا حاجة إلى ما يتوهمه من أراد القرب. التاسعة: كونه - صلى الله عليه وسلم - في البرزخ تعرض أعمال أمته في الصلاة والسلام عليه.(10/335)
الثامنة: تعليل ذلك بإن صلاة الرجل وسلامه عليه يبلغه وإن بعد، فلا حاجة إلى ما يتوهمه من أراد القرب، أي: كونه نهى - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل قبره عيداً، العلة في ذلك: أن الصلاة تبلغه حيث كان الإنسان، فلا حاجة إلى أن يأتي إلى قبره، ولهذا نسلم ونصلي عليه في أي مكان، فيبلغه السلام والصلاة.
ولهذا قال علي بن الحسين: "ما أنت ومن في الأندلس إلا سواء".
التاسعة: كونه - صلى الله عليه وسلم - في البرزخ تعرض أعمال أمته في الصلاة والسلام عليه، أي: فقط فكل من صلى عليه أو سلم عرضت عليه صلاته وتسليمه، ويؤخذ من قوله: "فإن تسليمكم يبلغني حيث كنتم"
* * *
باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان
سبب مجيء المؤلف بهذا الباب لدحض حجة من يقول: إن الشرك لا يمكن أن يقع في هذه الأمة، وأنكروا أن تكون عبادة القبور والأولياء من الشرك، لأن هذه الأمة معصومة منه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم"(1).
والجواب عن هذا سبق عند الكلام على المسألة الثامنة عشرة من مسائل باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما.
قوله: "أن بعض هذه الأمة"، أي: لا كلها، لأن في هذه الأمة طائفة لا تزال منصورة على الحق إلى قيام الساعة، لكنه سيأتي في آخر الزمان ريح تقبض روح كل مسلم، فلا يبقى إلى شرار الناس.
وقوله: "تعبد"، بفتح التاء، وفي بعض النسخ: "يعبد"، بفتح الياء المثناة من تحت.
فعلى قراءة "يعبد" لا إشكال فيها، لإن "بعض" مذكر.
وعلى قراءة "تعبد"، فإنه داخل في قول ابن مالك:
وربما أكسب ثان أولاً ... ... ... ... تأنيثاً أن كان لحذف موهلا
ومثلوا لذلك قولهم: قطعت بعض أصابعه، فالتأنيث هنا من أجل أصابعه لا من أجل بعض.
فإذا صحت النسخة "تعبد"، فهذا التأنيث اكتسبه المضاف من المضاف إليه.
قوله: "الأوثان"، جمع وثن، وهو: كل ما عبد من دون الله.
* * *
__________
(1) سبق (ص 201).(10/336)
وقوله تعالى: { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت } [النساء: 51].
ذكر المؤلف في هذا الباب عدة آيات:
الآية الأولى قوله تعالى: { ألم تر } ، الاستفهام هنا للتقرير والتعجيب، والرؤية بصرية بدليل أنها عديت بإلى، وإذا عديت بإلى صارت بمعنى النظر.
والخطاب إما للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أو لكل من يصح توجيه الخطاب إليه، أي: ألم تر أيها المخاطب؟
قوله: { إلى الذين أوتوا } ، أي: أعطوا، ولم يعطوا كل الكتاب، لأنهم حرموا بسبب معصيتهم، فليس عندهم العلم الكامل بما في الكتاب.
قوله: { نصيباً من الكتاب } المنزل.
والمراد بالكتاب: التوراة والإنجيل.
وقد ذكروا لذلك مثلاً، وهو كعب بن الأشرف حين جاء إلى مكة، فاجتمع إليه المشركون، وقالوا: ما تقول في هذا الرجل (أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -) الذي سفه أحلامنا ورأى أنه خير منا؟ فقال لهم: أنتم خير من محمد، ولهذا جاء في أخر الآية: { ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا } [النساء: 51].
قوله: { يؤمنون بالجبت والطاغوت } ، أي: يصدقون بهما، ويقرونهما لا ينكرونهما، فإذا أقر الإنسان هذه الأوثان، فقد آمن بها.
والجب: قيل: السر، وقيل: هو الصنم، والأصح: أنه عام لكل صنم أو سحر أو كهانة أو ما أشبه ذلك.
والطاغوت: ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع.
فالمعبود كالأصنام، والمتبوع كعلماء الضلال، والمطاع كالأمراء، فطاعتهم في تحريم ما أحل الله، أو تحليل ما حرم الله تعد من عبادتهم.
والمراد من كان راضياً بعبادتهم إياه، أو يقال: هو طاغوت باعتبار عابديه، لأنهم تجاوزوا به حده، حيث نزلوه فوق منزلته التي جعلها الله له، فتكون عبادتهم لهذا المعبود طغياناً، لمجاوزتهم الحد بذلك.
والطاغوت: مأخوذ من الطغيان، فكل شيء يتعدى به الإنسان حده يعتبر طاغوتاً.(10/337)
وجه المناسبة في الآية للباب لا يتبين إلا بالحديث، وهو "لتركبن سنن من كان قبلكم"، فإذا كان الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت، وأن من هذه الأمة من يرتكب سنن من كان قبله يلزم من هذا أن في هذه الأمة من يؤمن بالجبت والطاغوت، فتكون الآية مطابقة للترجمة تماماً.
* * *
وقوله تعالى: { قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنة الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت } [المائدة: 60].
الآية الثانية قوله تعالى: { قل هل أنبئكم } ، الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - رداً على هؤلاء اليهود الذي اتخذوا دين الإسلام هزواً ولعباً.
وقوله: { أنبئكم } ، أي: أخبركم، والاستفهام هنا للتقرير والتشويق، أي: سأقرر عليكم هذا الخبر.
قوله: { بشر من ذلك } ، شر: هنا اسم تفضيل، وأصلها أشر لكن حذفت الهمزة تخفيفاً لكثرة الاستعمال، ومثلها كلمة خير مخففة من أخير، والناس مخففة من الأناس، وكذا كلمة الله مخففة من الإله.
وقوله: { ذلك } المشار إليه ما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فإن اليهود يزعمون أنهم هم الذي على الحق، وأنهم خير من الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم -وأصحابه ليسوا على الحق، فقال الله تعالى: { قل هل أنبئكم } .
قوله: { مثوبة عند الله } ، مثوبة: تمييز لشر، لأن شر اسم تفضيل، وما جاء بعد أفعل التفضيل مبيناً له يكون منصوباً على التمييز.
قال ابن مالك:
اسم بمعنى من مبين نكرة ... ... ... ... ينصب تمييزاً بما قد فسره
إلى أن قال:
والفاعل المعنى انصبن بأفعلا ... ... ... ... مفضلاً كأنت أعلى منزلا
والمثوبة: من ثاب يثوب إذا رجع، ويطلق على الجزاء، أي: بشر من ذلك جزاء عن الله.
قوله: { عند الله } ، أي: في عمله وجزائه عقوبة أو ثواباً.(10/338)
قوله: { من لعنه الله } ، من: اسم موصول خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو من لعنه الله، لأن الاستفهام انتهى عند قوله { مثوبة عند الله } ، وجواب الاستفهام: { من لعنه الله } ولعنه، أي: طرده وأبعده عن رحمته.
قوله: { وغضب عليه } ، أي: أحل عليه غضبه، والغضب: صفة من صفات الله الحقيقية تقتضي الانتقام من المغضوب عليه، ولا يصح تحريفه إلى معنى الانتقام، وقد سبق الكلام عليه (ص 418).
والقاعدة العامة عند أهل السنة: أن آيات الصفات وأحاديثها تجرى على ظاهرها اللائق بالله - عز وجل ـ، فلا تجعل من جنس صفات المخلوقين، ولا تحرف فتنفى عن الله، فلا نغلو في الإثبات ولا في النفي.
قوله: { وجعل منهم القردة والخنازير } ، القردة: جمع قرد، وهو حيوان معروف أقرب ما يكون شبهاً بالإنسان، والخنازير: جمع خنزير، وهو ذلك الحيوان الخبيث المعروف الذي وصفه الله بأنه رجس.
والإشارة هنا إلى اليهود، فإنهم لعنوا كما قال تعالى: { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم... } الآية [المائدة: 78].
وجعلوا قردة بقوله تعالى: { كونوا قردة خاسئين } [البقرة: 65]، وغضب الله عليهم بقوله: { فباؤوا بغضب على غضب } [البقرة: 90].
قوله: { وعبد الطاغوت } ، فيها قراءتان في { عبد } وفي { الطاغوت } :
الأولى: بضم الباء { عبد } ، وعليها تكسر التاء في { الطاغوت } ، لأنه مجرور بالإضافة.
الثانية: بفتح الباء { عبد } على أنه فعل ماض معطوف على قوله: { لعنه الله } صلة الموصول، أي: ومن عبد الطاغوت، ولم يعد { من } مع طول الفصل، لأن هذا ينطبق على موصوف واحد، فلو أعيدت مَنْ لأوهم أنهم جماعة آخرون وهم جماعة واحدة، فعلى هذه القراءة يكون { عبد } فعلاً ماضياً، والفاعل ضمير مستتر جوازاً تقديره هو يعود على "من" في قوله: { من لعنه الله } ، { الطاغوت } بفتح التاء مفعولاً به.(10/339)
وبهذا نعرف اختلاف الفاعل في صلة الموصول وما عطف عليه، لأن الفاعل في صلة الموصول هو { الله } ، والفاعل في عبد يعود على "من".
وعلى كل حال، فالمراد بها عابد الطاغوت.
فالفرق بين القراءتين بالباء فقط، فعلى قراءة الفعل مفتوحة، وعلى قراءة الاسم مضمومة.
والطاغوت على قراءة الفعل في { عبد } تكون مفتوحة { عبد الطاغوت } ، وعلى قراءة الاسم تكون مكسورة بالإضافة { عبد الطاغوت } .
وذكر في تركيب { عبد } مع { الطاغوت } أربع وعشرون قراءة، ولكنها قراءات شاذة غير القراءتين السبعيتين { عَبَدَ } { عَبُدَ } .
* * *
وقوله تعالى: { قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً } [الكهف: 21].
الآية الثالثة قوله تعالى: { قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً } ، هذه الآية في سياق قصة أصحاب الكهف، وقصتهم عجيبة، كما قال تعالى: { أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا في آياتنا عجباً } [الكهف: 9]، وهم فتية آمنوا بالله وكانوا في بلاد شرك، فخرجوا منها إلى الله - عز وجل ـ، فيسر الله لهم غاراً، فدخلوا فيه، وناموا نومة طويلة بلغت { ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعاً } [الكهف: 25] وهم نائمون لا يحتاجون إلى أكل وشرب، ومن حكمة الله أن الله يقلبهم ذات اليمين وذات الشمال حتى لا يترسب الدم في أحد الجانبين، ولما خرجوا بعثوا بأحدهم إلى المدينة ليشتري لهم طعاماً، وآخر الأمر أن أهل المدينة اطلعوا على أمرهم، وقالوا: لابد أن نبني على قبورهم مسجداً.
وقوله: { قال الذين غلبوا على أمرهم } ، المراد بهم: الحكام في ذات الوقت قالوا مقسمين مؤكدين: { لنتخذن عليهم مسجداً } ، وبناء المساجد على القبور من وسائل الشرك كما سبق.
* فوائد الآيات السابقة:
من فوائد الآية الأولى ما يلي:
أن من العجب أن يعطى الإنسان نصيباً من الكتاب ثم يؤمن بالجبت والطاغوت.(10/340)
أن العلم قد لا يعصم صاحبه من المعصية، لأن الذين أوتوا الكتاب آمنوا بالكفر، والذي يؤمن بالكفر يؤمن بما دون من المعاصي.
وجوب إنكار الجبت والطاغوت، لأن الله تعالى ساق الإيمان بهما مساق العجب والذم، فلا يجوز إقرار الجبت والطاغوت.
ما ساقها المؤلف من أجله أن من هذه الأمة من يؤمن بالجبت والطاغوت لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لتركبن سنن من كان من قبلكم"(1)، فإذا وجد في بني إسرائيل من يؤمن بالجبت والطاغوت، فإنه سيوجد في هذه الأمة أيضاً من يؤمن بالجبت والطاغوت.
* ومن فوائد الآية الثانية ما يلي:
تقرير الخصم والاحتجاج عليه بما لا يستطيع إنكاره، بمعنى أنك تحتج على خصمك بأمر لا يستطيع إنكاره فإن اليهود يعرفون بأن فيهم قوماً غضب الله عليهم ولعنهم وجعل منهم القردة والخنازير، فإذا كانوا يقرون بذلك وهم يستهزئون بالمسلمين، فنقول لهم: أين محل الاستهزاء؟! الذين حلت عليهم هذه العقوبات أم الذين سلموا منها؟
والجواب: الذين حلت بهم العقوبة أحق بالاستهزاء.
اختلاف الناس بالمنزلة عند الله، لقوله: { بشر من ذلك مثوبة عند الله } ، ولا شك أن الناس يختلفون بزيادة الإيمان ونقصه وما يترتب عليه من الجزاء.
سوء حال اليهود الذي حلت بهم هذه العقوبات من اللعن والغضب والمسخ وعبادة الطاغوت.
إثبات أفعال الله الاختيارية، وأنه سبحانه يفعل ما يشاء، لقوله: { لعنه الله } ، فإن اللعن من صفات الأفعال.
إثبات الغضب لله، لقوله: { وغضب عليه } .
إثبات القدرة لله، لقوله: { وجعل منهم القردة والخنازير } .
وهل المراد بالقردة والخنازير هذه الموجودة؟
__________
(1) سبق (ص 192).(10/341)
والجواب: لا، لما ثبت في "صحيح مسلم" عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أن كل أمة مسخت لا يبقى لها نسل"(1)، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك، وعلى هذا، فليس هذا الموجود من القردة والخنازير هو بقية أولئك الممسوخين.
أن العقوبات من جنس العمل، لأن هؤلاء الذين مسخوا قردة، والقرد أشبه ما يكون شبهاً بالإنسان، فعلوا فعلاً ظاهره الإباحة والحل وهو محرم، وذلك أنه حرم عليهم الصيد يوم السبت ابتلاء من الله، فإذا جاء يوم السبت امتلأ البحر بالحيتان، وظهرت على سطح الماء، وفي غيره من الأيام تختفي ولا يأتي منها شيء، فلما طال عليهم الأمد صنعوا شباكاً، فصاروا ينصبونها في يوم الجمعة ويدعون الحيتان تدخل فيها يوم السبت، فإذا أتى يوم الأحد أخذوها، وهذه حيلة ظاهرها الحل، ولكن حقيقتها ومعناها الوقوع في الإثم تماماً، ولهذا مسخوا إلى حيوان يشبه الإنسان وليس بإنسان، وهو القرد، قال تعالى: { كونوا قردة خاسئين } [البقرة: 65]، وهو يفيد أن الجزاء من جنس العمل، ويدل عليه صراحة قوله تعالى: { فكلا أخذنا بذنبه } [العنكبوت: 40].
أن هؤلاء اليهود صاروا يعبدون الطاغوت، لقوله: { وعبد الطاغوت } ، ولا شك أنهم حتى الآن يعبدونه، لأنه عبدوا الشيطان وأطاعوه وعصوا الله ورسوله.
وفي الآية نكت نحوية في قوله: { عليه } و { منهم } في قوله تعالى: { من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير } ، فالضمير في { لعنه } الهاء، و { غضب عليه } مفرد، و { منهم } جمع، مع أن المرجع واحد، وهو { من } .
والجواب: أنه روعي في الإفراد اللفظ، وفى الجمع المعنى، وذلك أن { من } اسم موصول صالحه للمفرد وغيره، قال ابن مالك:
ومن وما وأل تساوي ما ذكر
لما ذكر الأسماء الموصولة من المفرد والمثنى والجمع من مذكر ومؤنث قال: ومن وما... إلخ.
__________
(1) مسلم: كتاب القدر/ باب بيان أن الأرزاق والآجال لا تزيد ولا تنقص عما سبق به القدر.(10/342)
وقال: { من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة } ، ولم يقل: وجعلهم قردة، لان اللعن والغضب عام لهم جميعاً، والعقوبة بمسخهم إلى قردة وخنازير خاص ببعضهم، وليس شاملاً لبني إسرائيل.
* ومن فوائد الآية الثالثة ما يلي:
ما تضمن سياق هذه الآية من القصة العجيبة في أصحاب الكهف وما تضمنته من الآيات الدالة على كمال قدرة الله وحكمته.
أن من أسباب بناء المساجد على القبور الغلو في أصحاب القبور، لأن الذين غلبوا على أمرهم بنوا عليهم المساجد، لأنهم صاروا عندهم محل الاحترام والإكرام غلوا فيهم.
أن الغلو في القبور وإن قل قد يؤدي إلى ما هو أكبر منه، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي حين بعثه: "ألا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته"(1).
* * *
عن أبي سعيد (رضي الله عنه)، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب، لدخلتموه". قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: "فمن". أخرجاه(2)
قوله في الحديث: "لتتبعن"، اللام موطئة للقسم، والنون للتوكيد، فالكلام مؤكد بثلاثة مؤكدات: القسم المقدر، واللام، والنون، والتقدير: والله لتتبعن.
قوله: "سنن من كان قبلكم"، فيها روايتان: "سُنَن" و "سَنَن".
أما "سنن" بضم السين: جمع سنة، وهي الطريقة.
وأما "سنن"، بالفتح: فهي مفرد بمعنى الطريق.
وفعل تأتي مفرده مثل: فنن جمعها أفنان، وسبب جمعها أسباب.
وقفوله: "من كان قبلكم"، أي: من الأمم.
__________
(1) مسلم: كتاب الجنائز/ باب الأمر بتسوية القبر.
(2) البخاري: كتاب الأنبياء/ باب ما ذكر عن بني إسرائيل، ومسلم: كتاب العلم/ باب اتباع سنن اليهود والنصارى، وأما لفظ "حذو القذة بالقذة" فقد أخرجه الإمام أحمد في المسند.(10/343)
وقوله: "لتتبعن سنن من كان قبلكم" ليس على ظاهره، بل هو عام مخصوص، لأننا لو أخذنا بظاهره كانت جميع هذه الأمة تتبع سنن من كان قبلها، لكننا نقول: إنه عام مخصوص، لأن في هذه الأمة من لا يتبع كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق، وقد يقال: إن الحديث على عمومه وأنه لا يلزم أن تتبع هذه الأمم الأمةُ السابقة في جميع سننها، بل بعض الأمة يتبعها في شيء وبعض الأمة يتبعها في شيء آخر، وحينئذ لا يقتضي خروج هذه الأمة من الإسلام، وهذا أوى لبقاء الحديث على عمومه، ومن المعلوم أن من طرق من كان قبلنا ما لا يخرج من الملة، مثل: أكل الربا، والحسد، والبغي، والكذب.
ومنه ما يخرج من الملة: كعبادة الأوثان.
السنن: هي الطرائق، وهي متنوعة، منها ما هو اعتداء على حق الخالق، ومنها ما هو اعتداء على حق المخلوق، ولنستعرض شيئاً من هذه السنن.
فمن هذه السنن: عبادة القبور والصالحين، فإنها موجودة في الأمم السابقة وقد وجت في هذه الأمة، قال تعالى عن قوم نوح: { وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً } [نوح: 23].
ومن ذلك الغلو في الصالحين كما وجد في الأمم السابقة وجد في هذه الأمة.
ومنها: دعاء غير الله، وقد جاء في هذه الأمة.
ومنها: بناء المساجد على القبور موجود في السابقين، وقد وجد في هذه الأمة.(10/344)
ومنها: وصف الله بالنقائص والعيوب، فقد قالت اليهود: { يد الله مغلولة } [المائدة: 64]، وقالوا: { إن الله فقير ونحن أغنياء } [آل عمران: 181]، وقالوا: إن الله تعب من خلق السماوات والأرض، وقد وجد في هذه الأمة من قال بذلك أو أشد منه، فقد وجد من قال: ليس له يد، ومن قال: لا يستطيع أن يفعل ما يريد فلم يستو على العرش، ولا ينزل إلى السماء الدنيا ولا يتكلم، بل وجد في هذه الأمة من يقول: بإنه ليس داخلاً في العالم، وليس خارجاً عنه ولا متصلاً به ولا منفصلاً عنه، فوصفوه بما لا يمكن وجوده، ومنهم من قال: لا تجوز الإشارة الحسية إليه، ولا يفعل، ولا يغضب، ولا يرضى، ولا يحب، وهذا مذهب الأشاعرة.
ومنها أكسل السحت، فقد وجد في الأمم السابقة ووجد في هذه الأمة.
ومنها: أكل الربا، فقد وجد في الأمم السابقة ووجد في هذه الأمة.
ومنها: التحيل على محارم الله، فقد وجد في الأمم السابقة ووجد في هذه الأمة.
ومنها: إقامة الحدود على الضعفاء ورفعها عن الشرفاء، فقد وجد في الأمم السابقة ووجد في هذه الأمة.
ومنها: تحريف كلام الله عن مواضعه لفظاً ومعنى، كاليهود حين قيل لهم: { ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة } [البقرة: 58]، فدخلوا على قفاهم، وقالوا: حنطة ولم يقولوا حطة، ووجد في هذه الأمة من فعل كذلك، فحرف لفظ الاستواء إلى الاستيلاء، قال تعالى: { الرحمن على العرش استوى } [طه: 5]، وقالوا هم: الرحمن على العرش استولى.
قال ابن القيم: إن اللام في استولى مزيدة زادها أهل التحريف كما زاد اليهود في (حطة) فقالوا: (حنطة).
نون اليهود ولام جهمي هما
أمر اليهود بأن يقولوا حطة
وكذلك الجهمي قيل له استوى
في وحي رب العرش زائدتان
فأبوا وقالوا حنطة لهوان
فأبى وزاد الحرف للنقصان
ووجد في الأمم السابقة من اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، ووجد في هذه الأمة من يعارض قول النبي - صلى الله عليه وسلم - بقول شيخه.(10/345)
فإذا تأملت كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وجدته مطابقاً للواقع: "لتتبعن سنن من كان قبلكم"، ولكن يبقى النظر: هل هذا الحديث للتحذير أو للإقرار؟
الجواب: لا شك أنه للتحذير وليس للإقرار، فلا يقول أحد سأحسد وسآكل الربا، وسأعتدي على الخلق، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك، فمن قال ذلك، فإننا نقول له: أخطأت، لأن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا شك أنه للتحذير، ولهذا قال الصحابة: اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟
ثم نقول لهم أيضاً: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأشياء ستقع، ومع ذلك أخبر بأنها حرام بنص القرآن.
فمن ذلك أنه أخبر أن الرجل يكرم زوجته ويعق أمه، وأخبر أن الإنسان يعصي أباه ويدني صديقه(1)، وهذا ليس بجائز بنص القرآن، لكن قصد التحذير من هذا العمل.
ووجد في الأمم السابقة من يقول للمؤمنين: إن هؤلاء لضالون، ووجد في هذه الأمة من يقول للمؤمنين: إن هؤلاء لرجعيون.
فالمعاصي لها أصل في الأمم على حسب ما سبق، ولكن من وفقه الله للهداية اهتدى.
والحاصل: أنك لا تكاد تجد معصية في هذه الأمة إلا وجدت لها أصلاً في الأمم السابقة.
ولا تجد معصية في الأمم السابقة إلا وجدت لها وارثاً في هذه الأمة.
* أما مناسبة الحديث للباب:
فلأنه لما عبدت الأمم السابقة الأصنام والأوثان فسيكون في هذه الأمة من يعبد الأصنام والأوثان.
قوله: "حذو القذة بالقذة"، حذو بمعني: محاذياً، وهي منصوبة على الحال من فاعل تتبعن، أي: حال كونكم محاذين لهم حذو القذة بالقذة.
والقذة: هي ريشة السهم، والسهم له ريش لابد أن تكون متساوية تماماً، وإلا، صار الرمي به مختلاً.
قوله: "حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه"، هذه الجملة تأكيد منه - صلى الله عليه وسلم - للمتابعة.
__________
(1) الترمذي: كتاب الفتن/ باب ما جاء في علامة حلول المسخ والخسف، قال الألباني: "ضعيف" السلسلة الضعيفة.(10/346)
وجحر الضب من اصغر الجحور، ولو دخلوا جحر أسد من باب أولى أن ندخله، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك على سبيل المبالغة، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوقه الله به يوم القيامة من سبع أرضين"(1)، ومن اقتطع ذراعاً، فمن باب أولى.
قوله: "قالوا اليهود والنصارى" يجوز فيها وجهان:
الأول: نصب اليهود والنصارى على أنه مفعول لفعل محذوف تقديره: أتعني اليهود والنصارى؟
الثاني: الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: أهم اليهود والنصارى؟
وعلى كل تقدير، فالجملة إنشائية لأنهم يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهي استفهامية، والاستفهام من باب الإنشاء.
واليهود: أتباع موسى عليه الصلاة والسلام، وسموا يهوداً نسبة إلى يهوذا من أحفاد إسحاق، أو لأنهم هادوا إلى الله، أي: رجعوا إليه بالتوبة من عبادة العجل.
والنصارى: هم أتباع عيسى عليه الصلاة والسلام، وسموا بذلك نسبة إلى بلدة تسمى الناصر، وقيل: من النصرة، كما قال تعالى: { من أنصاري إلى الله } [الصف: 14].
قوله: "قال فمن"، من هنا: اسم استفهام، والمراد به التقرير، أي: فمن أعني غير هؤلاء، أو فمن هم غير هؤلاء؟ فالصحابة رضي الله عنهم لما حدثهم - صلى الله عليه وسلم - بهذا الحديث كأنه حصل في نفوسهم بعض الغرابة، فلما سألوا قرر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم اليهود والنصارى.
* من فوائد الحديث:
ما أراده المؤلف بسياقه، وهو أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان، لأنه من سنن من قبلنا، وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - أننا سنتبعهم.
ويستفاد أيضاً من فحوى الكلام التحذير من متابعة من قبلنا في معصية الله.
أنه ينبغي معرفة ما كان عليه من كان قبلنا مما يجب الحذر منه لنحذره، وغالب ذلك - ولله الحمد - موجود في القرآن والسنة.
__________
(1) سبق (ص 75).(10/347)
استعظام هذا الأمر عند الصحابة، لقولهم اليهود والنصارى، فإن الاستفهام للاستعظام، أي: استعظام الأمر أن نتبع سنن من كان قبلنا بعد أن جاءنا الهدى من النبي - صلى الله عليه وسلم -.
أنه كلما طال العهد بين الإنسان وبين الرسالة، فإنه يكون أبعد من الحق، لأنه أخبر عن مستقبل ولم يخبر عن الحاضر، وأن من سنن من قبلنا أنه لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم، قال تعالى: { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون } [الحديد: 16].
فإذا كان طول الأمد سبباً لقسوة القلب فيمن قبلنا، فسيكون فينا، ويشهد لذلك ما جاء في "البخاري" من حديث أنس رضي الله عنه، أنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يأتي على الناس زمان إلا وما بعده شره منه، حتى تلقوا ربكم"(1)، ومن تتبع أحوال هذه الأمة وجد الأمر كذلك، لكن يجب أن نعرف الفرق بين الجملة والأفراد، لحديث أنس رضي الله عنه حديث صحيح سنداً ومتناً، فالمتن ليس فيه شذوذ، والسند في "البخاري"، والمراد به من حيث الجملة، ولذلك يوجد في أتباع التابعين من هو خير من كثير من التابعين، فلا تيأسوا، فتقولوا: إذاً لا يمكن أن يوجد في زماننا هذا مثل من سبق، لأننا نقول: إن مثل هذا الحديث يراد به الجملة، وإذا شئتم أن يتضح الأمر، فأنظرو إلى جنس الرجال وجنس النساء، أيهما خير؟
والجواب: جنس الرجال خير، قال تعالى: { وللرجال عليهن درجة } [البقرة: 228]، لكن يوجد في النساء من هي خير من كثير من الرجال، فيجب أن نعرف الفرق بين الجملة والأفراد.
__________
(1) كتاب الفتن/ باب لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه.(10/348)
فإذا نظرنا إلى مجموع القرن كله نجد أن ما بعد القرن شر منه، لا باعتبار الأفراد ولا باعتبار مكان دون مكان، فقد تكون أمة في بعض الجهات يرتفع الناس فيها من حسن إلى أحسن، كما لو نشأ فيها علماء نفع الله بهم، فإنهم يكونون أحسن ممن سبقهم.
أما الصحابة، فلا أحد يساويهم في فضل الصحبة، حتى أفرادهم لا يمكن لأحد من التابعين أن يساويهم فيها مهما بلغ من الفضل، لأنه لم يدرك الصحبة.
مسألة: ما هي الحكمة من ابتلاء الأمة بهذا الأمر: "لتتبعن سنن..." إلخ، وأن يكون فيها من كل مساوئ من سبقها؟
الجواب: الحكمة ليتبين بذلك كمال الدين، فإن لدين يعارض كل هذه الأخلاق، فإذا كان يعارضها دل هذا على أن كل نقص في الأمم السابقة، فإن هذه الشريعة جاءت بتكميله، لأن الأشياء لا تتبين إلا بضدها، كما قيل: وبضدها تتبين الأشياء.
* (تنبيه):
قوله: "حذو القذة بالقذة"(1) لم أجده في مظانه في "الصحيحين"، فليحرر.
* * *
ولمسلم(2) عن ثوبان (رضي الله عنه)، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض".
قوله: "زوى لي"، بمعنى جمع وضم، أي: جمع له الأرض وضمها.
قوله: "فرأيت"، أي: بعيني، فهي رؤية عينية، ويحتمل أن تكون رؤية منامية.
قوله: "مشارقها ومغاربها"، وهذا ليس على الله بعزيز، لأنه على كل شيء قدير، فمن قدرته أن يجمع الأرض حتى يشاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ما سيبلغ ملك أمته منها.
وهل المراد هنا بالزوي أن الأرض جمعت، أو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قوي نظره حتى رأى البعيد؟
الأقرب إلى ظاهر اللفظ: أن الأرض جمعت، لا أن بصره قوي حتى رأى البعيد؟
__________
(1) قوله "خذوا القذة بالقذة" لم تخرج في الصحيحين وإنما هي من حديث شداد بن أوس أخرجه الإمام في المسند.
(2) كتاب الفتن/ باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض.(10/349)
وقال بعض العلماء: المراد قوة بصر النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي أن الله أعطاه قوة بصر حتى أبصر مشارق الأرض ومغاربها، لكن الأقرب الأول، ونحن إذا أردنا تقريب هذا الأمر نجد أن صورة الكرة الأرضية الآن مجموعة يشاهد الإنسان فيها مشارق الأرض ومغاربها، فالله على كل شيء قدير، فهو قادر على أن يجمع له - صلى الله عليه وسلم - الأرض حتى تكون صغيرة فيدركها من مشارقها إلى مغاربها.
* اعتراض وجوابه:
فإن قيل: هذا إن حمل على الواقع، فليس بموافق للواقع، لأنه لو حصرت الأرض بحيث يدركها بصر النبي - صلى الله عليه وسلم - المجرد، فأين يذهب الناس والبحار والجبال والصحارى؟
والجواب: بأن هذا من الأمور الغيبية التي لا يجوز أن تورد عليها كيف ولم، بل نقول: إن الله على كل شيء قدير، إذ قوة الله - سبحانه - أعظم من قوتنا وأعظم من أن نحيط بها، ولهذا أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم(1)، فلا يجوز أن نقول: كيف يجري مجرى الدم؟ فالله أعلم بذلك.
وهذه المسائل التي لا ندركها يجب التسليم المحض لها، ولهذا نقول في باب الأسماء والصفات: تجرى على ظاهرها مع التنزيه عن التكييف والتمثيل وهذا ما اتفق عليه أهل السنة والجماعة.
وقوله: "فرأيت مشارقها ومغاربها"، أي أماكن الشرق والغرب منها.
__________
(1) البخاري: كتاب الاعتكاف/ باب زيارة المرأة زوجها في اعتكافه، ومسلم: كتاب السلام/ باب يستحب لمن رؤي خالياً بامرأة... .(10/350)
قوله: "وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها"، والمراد: أمة الإجابة التي آمنت بالرسول - صلى الله عليه وسلم - سيبلغ ملكها ما زوي للرسول - صلى الله عليه وسلم - منها، وهذا هو الواقع، فإن ملك هذه الأمة اتسع من المشرق ومن المغرب اتساعاً بالغاً، لكنه من الشمال والجنوب أقل بكثير، والأمة الإسلامية وصلت من المشرق إلى السند والهند وما وراء ذلك، ومن المغرب إلى ما وراء المحيط، وهذا يحقق ما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: "وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض"، الذي أعطاه هو الله.
والكنزان: هما الذهب والفضة كنوز كسرى وقيصر، فالذهب عند قيصر، والفضة عند كسرى، وكل منهما عنده ذهب وفضة، لكن الأغلب على كنوز قيصر الذهب، وعلى كنوز كسرى الفضة.
وقوله: "أعطيت" هل النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطيها في حياته، أم بعد موته؟
الجواب: بعد موته أعطيت أمته ذلك، لكن ما أعطيت أمته، فهو كالمعطى له، لأن امتداد ملك الأمة لا لأنها أمة عربية كما يقوله الجهال، بل لأنها أمة إسلامية أخذت بما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاء، فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة، وأن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، ويسبي بعضهم بعضاً".
قوله: "وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة"، هكذا في الأصل: "بعامة"، والمعنى بمهلكة عامة، وفي رواية في بعض النسخ: "بسنة عامة".(10/351)
السنة: الجدب والقحط، وهو يهلك ويدمر، قال - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف"(1)، وقال تعالى: { ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين } [الأعراف: 130]، ويحتمل أن يكون المعنى بعام واحد، فتكون الباء للظرفية.
وعامة، أي: عموماً تعمهم، هذه دعوة.
قوله: "وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم" أي لا يسلط عليهم عدواً. والعدو: ضد الولي، وهو: المعادي المبغض الحاقد، وأعداء المسلمين هنا: هم الكفار، ولهذا قال: "من سوى أنفسهم".
ومعنى: "يستبيح": يستحل، والبيضة: ما يجعل على الرأس وقاية من السهام.
والمراد: يظهر عليهم ويغلبهم.
قوله: "إذا قضيت قضاء، فإنه لا يرد"،
اعلم أن قضاء الله نوعان:
قضاء شرعي قد يرد، فقد يريده الله ولا يقبلونه.
قضاء كوني لا يرد، ولابد أن ينفذ.
وكلا القضاءين قضاء بالحق، وقد جمعهما قوله تعالى: { والله يقضى بالحق } [غافر: 20].
ومثال القضاء الشرعي: قوله تعالى: { وقضي ربك ألا تعبدوا إلا إياه } [الإسراء: 23]، لأنه لو كان كونياً، لكان كل الناس لا يعبدون إلا الله.
ومثال القضاء الكوني: قوله تعالى: { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً } [الإسراء: 4]، لأن الله تعالى لا يقضي شرعاً بالفساد، لكنه يقضي به كوناً وإن كان يكرهه سبحانه، فإن الله لا يحب الفساد ولا المفسدين، لكنه يقضي بذلك لحكمة بالغة، كما قسم خلقه إلى مؤمنين وكافرين، لما يترتب على ذلك من المصالح العظيمة.
والمراد بالقضاء في هذا الحديث: القضاء الكوني، فلا أحد يستطيع رده مهما كان من الكفر والفسوق، فقضاء الله نافذ على أكبر الناس عتواً واستكباراً، فقد نفذ على فرعون وأغرق بالماء الذي كان يفتخر به، وعلى طواغيت بني آدم فأهلكهم الله ودمرهم.
__________
(1) تقدم (ص 294).(10/352)
وفي قوله: "إذا قضيت قضاء، فإنه لا يرد" من كمال سلطان الله وقدرته وربوبيته ما هو ظاهر، لأنه ما من ملك سوى الله إلا يمكن أن يرد ما قضى به.
واعلم أن قضاء الله كمشيئته بالحكمة، فهو لا يقضي قضاء إلا والحكمة تقتضيه، كما لا يشاء شيئاً إلا والحكمة تقتضيه، ويدل عليه قوله تعالى: { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً } [الإنسان: 30]، فتبين أنه لا يشاء شيئاً إلا عن علم وحكمة، وليس لمجرد المشيئة.
خلافاً لما أنكر حكمة الله من الجهمية وغيرهم، فقالوا: إنه لا يفعل الأشياء إلا لمجرد المشيئة، فجعلوا على زعمهم المخلوقين أكمل تصرفاً من الله، لأن كل عاقل من المخلوقين لا يتصرف إلا لحكمة، ولهذا كان الذي يتصرف بسفه يحجر عليه، قال تعالى: { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً } [النساء: 5].
فنحن نقول: إن الله - جل وعلا - لا يفعل شيئاً ولا يحكم بشيء إلا لحكمة، ولكن هل يلزم من الحكمة أن نحيط بها علماً؟
الجواب: لا يلزم، لأننا أقصر من أن نحيط علماً بحكم الله كلها، صحيح أن بعض الأشياء نعرف حكمتها، لكن بعض الأشياء تعجز العقول عن إدراكها.
والمقصود من قوله: "إذا قضيت قضاء، فإن لا يرد" بيان أن من الأشياء التي سألها النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يعطها، لأنه الله قضى بعلمه وحكمته ذلك، ولا يمكن أن يرد ما قضاه الله- عز وجل -.
والقضاء قد يتوقف على الدعاء، بل إن كل القضاء أو أكثر القضاء له أسباب إما معلومة أو مجهولة، فدخول الجنة لا يمكن إلا بسبب يترتب دخول الجنة عليه، وهو الإيمان والعمل الصالح.
كذلك حصول المطلوب، قد يكون الله – عز وجل – منعه حتى نسأل لكن من الأشياء ما لا تقتفي الحكمة وجوده وحينئذ يجازى الداعي بما هو أكمل أو يؤخر له ويدخر له عند الله عز وجل، أو يصرف عنه من السوء ما هو أعظم، والدعاء إذا تمت فيه شروط القبول ولم يجب، فإننا نجزم بأنه ادخر له.(10/353)
وقوله: "وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة" هذه واحدة.
والثانية: قوله: "أن لا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً".
وهذه الإجابة قيدت بقوله: "حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً" إذا وقع ذلك منهم، فقد يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، فكأن إجابة الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في الجملة الأولى بدون استثناء، وفى الجملة الثانية باستثناء "حتى يكون بعضهم...".
وهذه هي الحكمة من تقديم قوله: "إذا قضيت قضاء، فإنه لا يرد"، فصارت إجابة الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - مقيدة.
ومن نعمة الله أن هذه الأمة لن تهلك بسنة بعامة أبداً، فكل من يدين بدين الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لن يهلك، وإن هلك قوم في جهة بسنة، فإنه لا يهلك الآخرون.
فإذا صار بعضهم يقتل بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً، فإنه يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، وهذا هو الواقع، فالأمة الإسلامية حين كانت أمة واحدة عوناً في الحق ضد الباطل كانت أمة مهيبة، ولما تفرقت وصار بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً، سلط الله عليهم عدواً من سوى أنفسهم، وأعظم من سلط عليهم فيما أعلم التتار، فقد سلطوا على المسلمين تسليطاً لا نظير له، فيقال: إنهم قتلوا في بغداد وحدها أكثر من خمسمائة عالم في يوم واحد، وهذا شيء عظيم، وقتلوا الخليفة، وجعلوا الكتب الإسلامية جسراً على نهر دجلة يطؤونها بأقدامهم ويفسدونها، وكانوا يأتون إلى الحوامل ويبقرون بطونهن ويخرجون أولادهن يتحركون أمامهم فيقتلونه، وهي حية تشاهد ثم تموت.(10/354)
قال ابن الأثير في "الكامل": " لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها كارهاً لذكرها فأنا أقدم رجلاً وأوخر أخرى، فمن الذين يسهل عليه نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني ويا ليتني مت قبل هذا وكن نسياً منسياً إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ذلك لا يجدي... "، وذكر كلاماً طويلاً ووقائع مفجعة، ومن أراد مزيداً من ذلك، فليرجع إلى حوادث سنة 617 من الكتاب المذكور.
وفي الحديث دليل على تحريم القتال بين المسلمين، وإهلاك بعضهم بعضاً، وسبي بعضهم بعضاً ، وأنه يجب أن يكونوا أمة واحدة حتى تبقى هيبتهم بين الناس وتخشاهم الأمم.
* * *
ورواه البرقاني في "صحيحه"، وزاد: "وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف، لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم
قوله: "إنما أخاف على أمتي الأثمة المضلين"، بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يخاف على الأمة إلا الأئمة المضلين.
والأئمة: جمع إمام، والإمام قد يكون إماماً في الخير أو الشر، قال تعالى في أئمة الخير: { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون } [السجدة، 24].
وقال تعالى عن آل فرعون أئمة: { وجعلناهم أئمة يدعو إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون } [القصص: 41].
والذي في حديث الباب: "الأئمة المضلين"، أئمة الشر، وصدق النبي - صلى الله عليه وسلم -، إن أعظم ما يخاف على الأمة الأئمة المضلون، كرؤساء الجهمية والمعتزلة وغيرهم الذين تفرقت الأمة بسببهم.(10/355)
والمراد بقوله: "الأئمة المضلين": الذين يقودون الناس باسم الشرع، والذين يأخذون الناس بالقهر والسلطان، فيشمل الحكام الفاسدين، والعلماء المضلين، الذين يدعون أن ما هم عليه شرع الله، وهم أشد الناس عداوة له.
قال الإمام أحمد رحمه الله: لو كان لي دعوة متسجابة، لصرفتها للسلطان، فإن بصلاحه صلاح الأمة.
قوله: "إذا وقع عليهم السيف..." إلخ، هذا من آيات النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا حق واقع، فإنه لما وقع السيف في هذه الأمة لم يرفع، فما زال بينهم القتال منذ قتل الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه، وصارت الأمة يقتل بعضهم بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً.
قوله: "ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين"، الحي: بمعنى القبيلة.
وهل المراد باللحوق هنا اللحوق البدني، بمعنى أنه يذهب هذا الحي إلى المشركين ويدخلون فيهم، أو اللحوق الحكمي، بمعنى أن يعملوا بعمل المشركين، أو الأمران معاً؟
الظاهر أن المراد جميع ذلك.
وأما الحي، فالظاهر أن المراد به الجنس، وليس واحد الأحياء، وإن قيل: إن المراد واحد الأحياء، فلا بد أن يكون لهذا الحي أثره وقيمته في الأمة الإسلامية، بحيث يتبين ويظهر، وربما يكون لهذا الحي إمام يزيغ ـ والعياذ بالله ـ ويفسد، فيتبعه كل الحي، ويتبين ويظهر أمره.
قوله: "وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان"، الفئام، أي: الجماعات، وهذا وقع، ففي كل جهة من جهات المسلمين من يعبدون القبور ويعظمون أصحابها ويسألونهم الحاجات والرغبات ويلتجئون إليهم، وفئام، أي: ليسوا أحياء، فقد يكون بعضهم من قبيلة، والبعض الآخر من قبيلة، فيجتمعون.(10/356)
قوله: "وإنه سيكون من أمتي كذابون ثلاثون"، حصرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدد، وكلهم يزعم أنه نبي أوحي إليه، وهم كذابون، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خاتما النبيين ولا نبي بعده، فمن زعم أنه نبي بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهو كاذب كافر حلال الدم والمال، ومن صدقه في ذلك، فهو كافر حلال الدم والمال، وليس من المسلمين ولا من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومن زعم أنه أفضل من محمد، وأنه يتلقى من الله مباشرة ومحمد - صلى الله عليه وسلم - يتلقى منه بواسطة الملك، فهو كاذب كافر حلال الدم والمال.
وقوله: "كذابون ثلاثون" هل ظهروا أم لا؟
الجواب: ظهر بعضهم، وبعضهم ينتظر، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحصرهم في زمن معين، وما دامت الساعة لم تقم، فهم ينتظرون.
* * *
يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى"(1).
قوله: "كلهم يزعم"، أي: يدعي.
قوله: "وأنا خاتم النبيين"، أي: آخرهم، وأكد ذلك بقوله: "لا نبي بعدي"، فإن قيل: ما الجواب عما ثبت في نزول عيسى بن مريم في آخر الزمان، مع أنه نبي ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام، فالجواب: إن نبوته سابقة لنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأما كونه يضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام، فليس تشريعاً جديداً ينسخ قبول الجزية، بل هو تشريع من محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأنه أخبر به مقرراً له.
قوله: "ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة"، المعنى: أنهم يبقون إلى آخر وجودهم منصورين.
__________
(1) مسند الإمام أحمد (5/278)، أبو داود (4252)، وابن ماجة (4100).(10/357)
هذا من نعمة الله، فلما ذكر أن حياً من الأحياء يلتحقون بالمشركين، وأن فئاماً يعبدون الأصنام، وأن أناساً يدعون النبوة، فيكون هنا الإخلال بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله بالشرك، وأن محمداً رسول الله بادعاء النبوة، وذلك أصل التوحيد، بل أصل الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
فلما بين ذلك لم يجعل الناس ييأسون، فقال: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة".
والطائفة: الجماعة.
وقوله: "على الحق"، جار ومجرور خبر تزال.
قوله: "منصورة"، خبر ثان، ويجوز أن يكون حالاً، والمعنى: لا تزال على الحق، وهي كذلك أيضاً منصورة.
قوله: "لا يضرهم من خذلهم ولا من خالقهم"، خذلهم، أي: لم ينصرهم ويوافقهم على ما ذهبوا إليه، وفي هذا دليل على أنه سيوجد من يخذلهم، لكنه لا يضرهم، لأن الأمور بيد الله، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك"(1)، وكذلك لا يضرهم من خالفهم، لأنهم منصورون بنصر الله، فالله – عز وجل – إذا نصر أحداً فلن يستطيع أحد أن يذله.
قوله: "حتى يأتي أمر الله"، أي: الكوني، وذلك عند قيام الساعة عندما يأتي أمره سبحانه وتعالى بأن تقبض نفس كل مؤمن، حتى لا يبقى إلى شرار الخلق، فعليهم تقوم الساعة.
الشاهد من هذا الحديث: قوله في رواية البرقاني: "حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين ويعبد فئام من أمتي الأوثان".
وقوله: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة"، هذه لم يحدد مكانها، فتشمل جميع بقاع الأرض في الحرمين والعراق وغيرهما.
فالمهم أن هذه الطائفة مهما نأت بهم الديار، فهي طائفة واحد منصورة على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالقهم حتى يأتي أمر الله.
مسألة: قال بعض السلف: إن الطائفة المنصورة هم أهل الحديث، فما مدى صحة هذا القول؟
__________
(1) تقدم (ص 259).(10/358)
الجواب: هذا ليس بصحيح على إطلاقه، بل لا بد من التفصيل، فإن أريد بذلك أهل الحديث المصطلح عليه، الذين يأخذون الحديث رواية ودراية وأخرج منهم الفقهاء وعلماء التفسير وما اشبه ذلك، فهذا ليس بصحيح، لأن علماء التفسير والفقهاء الذين يتحرون البناء على الدليل هم في الحقيقة من أهل الحديث، ولا يختص بأهل الحديث صناعة، لأن العلوم الشرعية تفسير، وحديث، وفقه... إلخ.
فالمقصود: إن كل من تحاكم إلى الكتاب والسنة، فهو من أهل الحديث بالمعنى العام.
وأهل الحديث هم: كل من يتحرى العمل بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيشمل الفقهاء الذين يتحرون العمل بالسنة، وإن لم يكونوا من أهل الحديث اصطلاحاً.
فشيخ الإسلام ابن تيمية مثلاً لا يعتبر اصطلاحاً، من المحدثين، ومع ذلك، فهو رافع لراية الحديث.
والإمام أحمد رحمه الله تنازعه طائفتان: أهل الفقه قالوا: إنه فقيه، وأهل الحديث قالوا: إنه محدث.
وهو إمام في الفقه والحديث والتفسير، ولا شك أن أقرب الناس تمسكاً بالحديث هم الذين يعتنون به.
ويخشى من التعبير بأن الطائفة المنصورة هم أهل الحديث أن يظن أنهم أهل الحديث الذين يعتنون به اصطلاحاً، فيخرج غيرهم.
فإذا قيل: أهل الحديث بالمعنى الأعم الذين يأخذون بالحديث، سواء انتسبوا إليه اصطلاحاً واعتنوا به أو لم يعتنوا، لكنهم أخذوا به، فيحنئذ يكون صحيحاً.
* * *
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النساء. الثانية: تفسير آية المائدة. الثالثة: تفسير آية الكهف.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النساء، وهي قوله تعالى: { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت } ، وقد سبق ذلك.
الثانية: تفسير آية المائدة، وهي قوله تعالى: { قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت } ، وقد سبق تفسيرها، والشاهد منها هنا قوله: { وعبد الطاغوت } .(10/359)
الثالثة: تفسير آية الكهف، يعني: قوله تعالى: { قال الذين غلبوا على أمرهم لتتخذن عليهم مسجداً } ، وقد سبق بيان معناها.
* * *
الرابعة: وهي أهمها: ما معنى الإيمان بالجبت والطاغوت؟ هل هو اعتقاد قلب؟ أو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟ الخامسة: قولهم: إن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدى سبيلاً من المؤمنين. السادسة: وهي المقصود بالترجمة: أن هذا لا بد أن يوجد في هذه الأمة كما تقرر في حديث أبي سعيد. السابعة: تصريحه بوقوعها - أعني: عبادة الأوثان - .
الرابعة: - وهي أهمها -: ما معنى الإيمان بالجبت والطاغوت؟ هل هو اعتقاد القلب أو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟
أما إيمان القلب واعتقاده، فهذا لا شك في دخوله في الآية.
وأما موافقة أصحابها في العمل مع بغضها ومعرفة بطلانها، فهذا يحتاج إلى تفصيل، فإن كان وافق أصحابها بناء على أنها صحيحة فهذا كفر وإن كان وافق أصحابها ولا يعتقد أنها صحيحة، فإنه لا يكفر، لكنه لا شك على خطر عظيم يخشى أن يؤدي به الحال إلى الكفر والعياذ بالله.
الخامسة: قولهم إن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدى سبيلاً من المؤمنين، يعني: إن هذا القول كفر وردة، لأن من زعم أن الكفار الذين يعرف كفرهم أهدى سبيلاً من المؤمنين، فإنه كافر لتقديمه الكفر على الإيمان.
السادسة – وهي المقصودة بالترجمة -: أن هذا لابد أن يوجد في هذه الأمة كما تقرر في حديث أبي سعيد.
السابعة: تصريحه بوقوعها، أعني: عبادة الأوثان، والترجمة التي أشار إليها رحمه الله هي قوله: "باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان"، وحديث أبي سعيد هو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟". أخرجاه.
وهذا يتضمن التحذير من أن تقع هذه الأمة في مثل ما وقع فيه من سبقها.
* * *(10/360)
الثامنة: العجب العجاب: خروج من يدعي النبوة، مثل المختار، مع تكلمه بالشهادتين، وتصريحه بأنه من هذه الأمة، وأن الرسول حق، وأن القرآن حق، وفيه أن محمداً خاتم النبيين، ومع هذا يصدق في هذا كله، مع التضاد الواضح، وقد خرج المختار في آخر عهد الصحابة، وتبعه فئام كثيرة.
الثامنة: العجب العجاب: خروج من يدعي النبوة، مثل المختار، مع تكلمه بالشهادتين، وتصريحه بأنه من هذه الأمة، وأن الرسول حق، وأن القرآن حق، وفيه أن محمداً خاتم النبيين، ومع هذا يصدق في هذا كله، مع التضاد الواضح، وقد خرج المختار في آخر عهد الصحابة، وتبعه فئام كثيرة.
والمختار هو ابن أبي عبيد الثقفي، خرج وغلب على الكوفة في أول خلافة ابن الزبير رضي الله عنه، وأظهر محبة آل البيت، ودعا الناس إلى الثأر من قتلة الحسين، فتتبعهم، وقتل كثيراً ممن باشر ذلك أو أعان عليه، فانخدع به العامة، ثم ادعى النبوة وزعم أن جبريل يأتيه.
ولا شك أن هذه المسألة من العجب العجاب أن يدي النبوة وهو يؤمن أن القرآن حق، وفى القرآن أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين، فكيف صادقاً، وكيف يصدق من هذا التناقض؟ ولكن من لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.
* * *
التاسعة: البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة. العاشرة: الآية العظمى: أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم. الحادية عشرة: أن ذلك الشرط إلى قيام الساعة. الثانية عشرة: ما فيه من الآيات العظيمة.
التاسعة: البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة، يعني: من هذه الأمة منصورة إلى يوم القيامة.
يؤخذ هذا من آخر الحديث: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى".(10/361)
العاشرة: الآية العظمى: أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، وهذه آية عظمى: أن الكثرة الكاثرة من بني آدم على خلاف ذلك، ومع ذلك لا يضرونهم، { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين } [البقرة: 249].
الحادية عشرة: أن ذلك الشرط إلى قيام الساعة، وقد سبق.
الثانية عشرة: ما فيه من الآيات العظيمة، أي: ما في هذا الحديث من الآيات العظيمة، والآيات: جمع آية، وهي العلامة، والآيات التي يؤيد الله بها رسله عليهم الصلاة والسلام هي العلامات الدالة على صدقهم.
* * *
منها إخباره بأن الله زوى له المشارق والمغارب، وأخبر بمعنى ذلك فوقع كما أخبر، بخلاف الجنوب والشمال. وإخباره بأنه أعطي الكنزين. وإخباره بإجابة دعوته لأمته في الاثنتين. وإخباره بأنه منع الثالثة. وإخباره بوقوع السيف، وأنه لا يرفع إذا وقع. وإخباره بإهلاك بعضهم بعضاً، وسبى بعضهم بعضا. وخوفه على أمته من الأئمة المضلين. وإخباره بظهور المتنبئين في هذه الأمة. وإخباره ببقاء الطائفة المنصورة. وكل هذا كما أخبر، مع أن كل واحدة منها أبعد ما يكون في العقول.
فمما في هذا الحديث: إخباره بأن الله – سبحانه وتعالى – زوى له المشارق والمغارب، وأخبر بمعنى ذلك، فوقع كما أخبر بخلاف الجنوب والشمال، فإن رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - امتدت نحو الشرق والغرب أكثر من امتدادها نحو الجنوب والشمال، وهذا من علم الغيب الذي أطلع الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - عليه.
ومنها: إخباره أنه - صلى الله عليه وسلم - أعطي الكنزين، وهما كنزا كسرى وقيصر.(10/362)
ومنها: إخباره بإجابة دعوته لأمته في الإثنتين، وهما ألا يهلكها بسنة بعامة، وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً... إلخ، ومنع الثالثة، وهي ألا يجعل بأس هذه الأمة بينها، فإن هذا سوف يكون كما صرح به حديث عامر بن سعد عن أبيه: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقبل ذات يوم من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية، دخل، فركع فيه ركعتين وصلينا معه، ودعا دعاء طويلاً، وانصرف إلينا، فقال: "سألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة: سألت ربي ألا يهلك أمتي بالسنة، فأعطانيها، وسألته ألا يهلك أمتي بالغرق، فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها"(1)، أي: منعني إياها.
ومن هذه الآيات التي تضمنها هذا الحديث: إخباره بوقوع السيف في أمته، وأنه إذا وقع، فإنه لا يرفع حتى تقوم الساعة، وقد كان الأمر كذلك، فإنه منذ سلت السيوف على المسلمين من بعضهم على بعض بقي هذا إلى يومنا هذا.
ومنها: إخباره بإهلاك بعضهم بعضاً وسبي بعضهم بعضاً، هذا أيضاً واقع.
ومنها: خوفه على أمته من الأئمة المضلين، والأئمة: جمع إمام، والإمام: هو من يقتدى به، إما لعلمه، وإما لسلطته، وإما لعبادته.
ومنها: إخباره بظهور المتنبئين في هذه الأمة، وأنهم ثلاثون، قال ابن حجر: "هذا الحصر بالثلاثين لا يعني انحصار المتنبئين بذلك، لأنهم أكثر من ذلك".
قلت: فيكون ذكر الثلاثين لبيان الحد الأدنى، أي أنهم لا ينقصون عن ذلك العدد، وإنما عدلنا عن ظاهر اللفظ للأمر الواقع، وهذا – والله أعلم – هو السر في ترك المؤلف رحمه الله العدد في مسائل الباب مع أنه صريح في الحديث.
ومنها: إخباره ببقاء الطائفة المنصورة، وهذا كله وقع كما أخبر.
قال الشيخ – رحمه الله -: "مع أن كل واحدة منها أبعد ما يكون في العقول".
* * *
__________
(1) مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة/ باب هلاك هذه الأمة بعضهم بعضاً.(10/363)
الثالثة عشرة: حصر الخوف على أمته من الأئمة المضلين.
الثالثة عشرة: حصر الخوف على أمته من الأئمة المضلين، ووجه هذا الحصر أن الأئمة ثلاثة أقسام: أمراء وعلماء وعباد، فهم الذين يخشى من إضلالهم لأنه متبوعون، فالأمراء لهم السلطة والتنفيذ، والعلماء له التوجيه والإرشاد، والعباد لهم تغرير الناس وخداعهم بأحوالهم، فهؤلاء يطاعون ويقتدى بهم، فيخاف على الأمة منهم، لأنهم إذا كانوا مضلين ضل بهم كثير من الناس، وإذا كانوا هادين اهتدى بهم كثير من الناس.
* * *
الرابعة عشرة: التنبيه على معنى عبادة الأوثان.
الرابعة عشرة: التنبيه على معنى عبادة الأوثان، يعني أن عبادة الأوثان لا تختص بالركوع والسجود لها، بل تشمل اتباع المضلين الذين يحلون ما حرم الله فيحله الناس، ويحرمون ما أحله الله فيحرمه الناس.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
* * *
باب ما جاء في السحر
السحر لغة: ما خفي ولطف سببه، ومنه سمي السَّحَر لأخر الليل، لأن الأفعال التي تقع فيه تكون خفية، وكذلك سمي السحور، لما يؤكل في آخر الليل، لأنه يكون خفياً، فكل شيء خفي سببه يسمى سحراً.
وأما في الشرع، فإنه ينقسم إلى قسمين:
الأول: عقد ورقي، أي: قراءات وطلاسم يتوصل بها الساحر إلى استخدام الشياطين فيما يريد به ضرر المسحور، لكن قد قال الله تعالى: { وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله } [البقرة: 102].
الثاني: أدوية وعقاقير تؤثر على بدن المسحور وعقله وإرادته وميله، فتجده ينصرف ويميل، وهو ما يسمى عندهم بالصرف والعطف.
فيجعلون الإنسان ينعطف على زوجته أو امرأة أخرى، حتى يكون كالبهيمة تقوده كما تشاء، والصرف بالعكس من ذلك.
فيؤثر في بدن المسحور بإضعافه شيئاً فشيئاً حتى يهلك.
وفي تصوره بأن يتخيل الأشياء على خلاف ما هي عليه.
وفي عقله، فربما يصل إلى الجنون والعياذ بالله.
فالسحر قسمان:(10/364)
شرك، وهو الأول الذي يكون بواسطة الشياطين، يعبدهم ويتقرب إليهم ليسلطهم على المسحور.
عدوان، وفسق وهو الثاني الذي يكون بواسطة الأدوية والعقاقير ونحوها.
وبهذا التقسيم الذي ذكرناه نتوصل به إلى مسألة مهمة، وهي: هل يكفر الساحر أو لا يكفر؟
اختلف في هذا أهل العلم:
فمنهم من قال: إنه يكفر.
ومنهم من قال: إنه لا يكفر.
ولكن التقسيم السابق الذي ذكرناه يتبين به حكم هذه المسألة، فمن كان سحره بواسطة الشيطان، فإنه يكفر لأنه لا يتأتى ذلك إلا بالشرك غالباً، لقوله تعالى: { واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة لا تكفر... } إلى قوله: { وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق } [البقرة:102]، ومن كان سحره بالأدوية والعقاقير ونحوها، فلا يكفر، ولكن يعتبر عاصياً معتدياً.
وأما قتل الساحر، فإن كان سحره بالأدوية والعقاقير ونحوهما، فلا يكفر، ولكن يعتبر عاصياً معتدياً.
وأما قتل الساحر، فإن كان سحره كفراً، قتل قتل ردة، إلا أن يتوب على القول بقبول توبته، وهو الصحيح، وإن كان سحره دون الكفر، قتل قتل الصائل، أي: قتل لدفع أذاه وفساده في الأرض، وعلى هذا يرجع في قتله إلى اجتهاد الإمام وظاهر النصوص التي ذكرها المؤلف أنه يقتل بكل حال، فالمهم أن السحر يؤثر بلا شك، لكنه لا يؤثر بقلب الأعيان إلى أعيان أخرى، لأنه لا يقدر على ذلك إلا الله ـ عز وجل ـ ، وإنما يخيل إلى المسحور أن هذا الشيء انقلب وهذا الشيء تحرك أو مشى وما أشبه ذلك، كما جرى لموسى عليه الصلاة والسلام أمام سحرة آل فرعون، حيث كان يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى.
إذا قال قائل: ما وجه إدخال باب السحر في كتاب التوحيد؟
نقول: مناسبة الباب لكتاب التوحيد:(10/365)
لأن من أقسام السحر ما لا يتأتى غالباً إلا بالشرك، فالشياطين لا تخدم الإنسان غالباً إلا لمصلحة، ومعلوم أن مصلحة الشيطان أن يغوي بني آدم فيدخلهم في الشرك والمعاصي.
* * *
وقول الله تعالى: { ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق } الآية [البقرة: 102].
وقوله: { يؤمنون بالجبت والطاغوت } [النساء: 51].
وقد ذكر المؤلف في الباب آيتين:
الآية الأولى قوله تعالى: { ولقد علموا } .
ضمير الفاعل يعود على متعلمي السحر، والجمة مؤكدة بالقسم واللام وقد.
ومعنى { اشتراه } ، أي: تعلمه.
قوله: { ما له في الآخرة من خلاق } ، أي: ما له من نصيب، وكل من ليس له في الآخرة من خلاق، فمقتضاه أن عمله حابط باطل، لكن إما أن ينتفي النصيب انتفاء كلياً فيكون العمل كفراً، أو ينتفي كمال النصيب فيكون فسقاً.
* * *
الآية الثانية قوله تعالى: { يؤمنون } ، أي: اليهود. { بالجبت } ، أي السحر كما فسرها عمر بن الخطاب.
واليهود كانوا من أكثر الناس تعلماً للسحر وممارسة له، ويدعون أن سليمان عليه السلام علمهم، إياه وقد اعتدوا، فسحروا النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: { الطاغوت } . أجمع ما قيل فيه: هو ما تجاوز به العبد حده، من معبود، أو متبوع، أو مطاع.
ومعنى "من معبود"، أي: بعلمه ورضاه، هكذا قال ابن القيم رحمه الله، وقد سبق في أول الكتاب(1) التعليق على هذا القول عند قوله: { واجتنبوا الطاغوت } .
* * *
قال عمر: "الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان"(2).
الشاهد: قوله: { بالجبت } ، حيث فسرها أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه بأنها السحر.
وأما تفسيره الطاغوت بالشيطان، فإنه من باب التفسير بالمثال.
__________
(1) سبق (ص 16).
(2) علقه البخاري في "الصحيح" ـ كتاب التفسير ـ قال الحافظ في الفتح 8/252: "إسناده قوي".(10/366)
والسلف رحمهم الله يفسرون الآية أحياناً بمثال يحتذى عليه، مثل قوله تعالى { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله } [فاطر: 32].
قال بعض المفسرين: الظالم لنفسه: الذي لا يصلي إلا بعد خروج الوقت، والمقتصد: الذي يصلي في آخر الوقت، والسابق بالخيرات: الذي يصلي في أول الوقت.
وهذا مثال من الأمثلة، وليس ما تدل عليه الآية على وجه الشمول، ولهذا فسرها بعضهم بأن الظالم لنفسه الذي لا يخرج الزكاة، والمقتصد من يخرج الزكاة ولا يتصدق، والسابق بالخيرات من يخرج الزكاة ويتصدق.
فتفسير عمر رضي الله عنه للطاغوت بالشيطان تفسير بالمثال، لأن الطاغوت أعم من الشيطان، فالأصنام تعتبر من الطواغيت، كما قال تعالى: { وعبد الطاغوت } [المائدة:60]، والعلماء والأمراء الذين يضلون الناس يعتبرون طواغيت، لأنه طغوا وزادوا ما ليس لهم به حق.
* * *
وقال جابر: "الطواغيت كهان كان ينزل عليهم الشيطان، في كل حي واحد"(1).
قوله: "الطواغيت كهان كان ينزل عليهم الشيطان، في كل حي واحد".
هذا أيضاً من باب التفسير بالمثال، حيث إنه جعل من جملة الطواغيت الكهان.
والكاهن، قيل: هو الذي يخبر عما في الضمير.
وقيل: الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل.
وكان هؤلاء الكهان تنزل عليهم الشياطين بما استرقوا من السمع من السماء، وكان كل حي من أحياء العرب لهم كان يستخدم الشياطين، فتسترق له السمع، فتأتي بخبر السماء إليه.
وكانوا يتحاكمون إليهم في الجاهلية.
والطواغيت ليسو محصورين في هؤلاء، فتفسير جابر رضي الله عنه تفسير بالمثال كتفسير عمر رضي الله عنه.
* * *
__________
(1) علقه البخاري في "الصحيح" ـ كتاب التفسير، وقال ابن حجر في "الفتح" (8/252): "وصله ابن أبي حاتم من طريق وهب بن منبه".(10/367)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: يا رسول الله! وما هن؟
قوله: "اجتنبوا السبع الموبقات".
النبي - صلى الله عليه وسلم - أنصح الخلق للخلق، فكل شيء يضر الناس في دينهم ودنياهم يحذرهم منه، ولهذا قال: "اجتنبوا"، وهي أبلغ من قوله: اتركوا، لأن الاجتناب معناه أن تكون في جانب وهي في جانب آخر، وهذا يستلزم البعد عنها.
و"اجتنبوا"، أي: اتركوا، بل أشد من مجرد الترك، لأن الإنسان قدر يترك الشيء وهو قريب منه، فإذا قيل: اجتنبه، يعني: اتركه مع البعد.
وقوله: "السبع الموبقات". هذا لا يقتضي الحصر، فإن هناك موبقات أخرى، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحصر أحياناً بعض الأنواع والأجناس، ولا يعني بذلك عدم وجود غيرها.
ومن ذلك الحديث: "السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله"(1)، فهناك غيرهم، ومثله:
"ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم"، ثم قال: "المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب"(2)، وأمثلة هذا كثيرة، وإن قلنا بدلالة حديث أبي هريرة في الباب على الحصر لكونه وقع بـ "أل" المعرفة، فإنه حصرها لأن هذه أعظم الكبائر.
قوله: "قالوا: يا رسول الله! وما هن؟".
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الجماعة والإمامة/ باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، ومسلم: كتاب الزكاة/ باب فضل إخفاء الصدقة.
(2) أخرجه مسلم في (الإيمان، باب غلظ تحريم إسبال الإزار).(10/368)
كان الصحابة رضي الله عنهم أحرص الناس على العلم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ألقى إليهم الشيء مبهماً طلبوا تفسيره وتبيينه، فلما حذرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من السبع الموبقات قالوا ذلك لأجل أن يجتنبوهن، فأخبرهم، وعلى هذه القاعدة [أن الصحابة رضي الله عنهم أحرص الناس على العلم]، لكن ما كانت الحكمة في إخفاءه، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخبرهم، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن لله تسعة وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة"(1)، ولم يرد تبيينها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث صحيح.
وقد حاول بعض الناس أن يصحح حديث سرد الأسماء التسعة والتسعين(2)، ولم يصب، بل نقل شيخ الإسلام اتفاق أهل المعرفة في الحديث على أن عدها وسردها لا يصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -(3)، وصدق رحمه الله بدليل الاختلاف الكبير فيها.
فمن حاول تصحيح هذا الحديث، قال: إن الثواب عظيم، "من أحصاها دخل الجنة"، فلا يمكن للصحابة أن يفوتوه، فلا يسألوا عن تعيينها فدل هذا على أنها قد عينت من قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
لكن يجاب عن ذلك بأنه ليس بلازم، ولو عينها النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكانت هذه الأسماء التسع والتسعين معلومة للعالم أشد من علم الشمس، ولنقلت في "الصحيحين" وغيرهما، لأن هذا مما تدعو الحاجة إليه، وتلح بحفظه والعناية به، فكيف لا يأتي إلا عن طريق واهية وعلى صور مختلفة؟!
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبينها لحكمة بالغة، وهي أن يطلبها الناس ويتحروها في كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى يعلم الحريص من غير الحريص.
__________
(1) أخرجه البخاري وغيره.
(2) أخرجه الترمذي (3507)، وابن حبان (2384)، والحاكم (1/22).
(3) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى" (6/382): "تعيينها ليس من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - باتفاق أهل المعرفة بحديثه".(10/369)
كما ولم يبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ساعة الإجابة يوم الجمعة، والعلماء اختلفوا في حديث أبي موسى الذي في مسلم، حيث قال فيه: "إنها ما بين أن يخرج الإمام إلى أن تقضى الصلاة"(1)، فإن بعضهم صححه وبعضهم ضعفه، لكن هو عندي صحيح، لأن علة التضعيف فيه واهية، والحال تؤيد صحته، لأن الناس مجتمعون أكبر اجتماع في البلد على صلاة مفروضة، فيكون هذا الوقت في هذه الحال حرياً بإجابة الدعاء، وكذلك ليلة القدر لم يبينها النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أنها من أهم ما يكون.
وقوله: "الموبقات"، أي: المهلكات، قال تعالى: { وجلعنا بينهم موبقاً } [الكهف: 52]، أي: مكان هلاك.
قوله: "قالوا: يا رسول الله! وما هن؟". سألوا عن تبيينها، وبه تتبين الفائدة من الإجمال، وهي أن يتطلع المخاطب لبيان هذا المجمل، لأنه إذا جاء مبيناً من أول وهلة، لم يكن له التلقي والقبول كما إذا أجمل ثم بين.
قوله: "وما هن"، "ما": اسم استفهام مبتدأ، و"هن": خبر المبتدأ.
وقيل بالعكس، "ما": خبر مقدم وجوباً، لأن الاستفهام له الصدارة، و"هن": مبتدأ مؤخر.
لأن "هن" ضمير معرفة، و"ما" نكرة، والقاعدة المتبعة أنه يخبر بالنكرة عن المعرفة ولا عكس.
* * *
قال الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات"(2).
قوله: "قال: الشرك بالله". قدمه لأنه أعظم الموبقات، فإن أعظم الذنوب أن تجعل لله نداً وهو خلقك.
والشرك بالله يتناول الشرك بربوبيته أو ألوهيته أو أسمائه أو صفاته.
__________
(1) أخرجه مسلم: كتاب الجمعة/ باب في الساعة التي في يوم الجمعة.
(2) أخرجه البخاري (كتاب الحدود، باب رمي المحصنات)، ومسلم (كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر).(10/370)
فمن اعتقد أن مع الله خالقاً أو معيناً، فهو مشرك، أو أن أحداً سوى الله يستحق أن يعبد، فهو مشرك وإن لم يعبده، فإن عبده، فهو أعظم، أو أن لله مثيلاً في أسمائه، فهو مشرك، أو أن الله استوى على العرش كاستواء الملك على عرش مملكته، فهو مشرك، أو أن الله ينزل إلى السماء الدنيا كنزول الإنسان إلى أسفل بيته من أعلى، فهو مشرك.
قال تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [النساء: 48]، وقال تعالى: { إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } [المائدة: 72].
وبين - صلى الله عليه وسلم - أن الشرك أعظم ما يكون من جناية والجرم بقوله حين سئل: أي الذنب أعظم "أن تجعل لله نداً وهو خلقك"(1)
فالذي خلقك وأوجدك وأمدك وأعدك ورزقك كيف تجعل له نداً؟ فلو أن أحداً من الناس أحسن إليك بما دون ذلك، فجلعت له نظيراً، لكان هذا الأمر بالنسبة إليه كفراً وجحوداً.
قوله: "والسحر"، أي: من الموبقات، وظاهر كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا فرق بين أن يكون ذلك بواسطة الشياطين أو بواسطة الأدوية والعقاقير.
لأنه إن كان بواسطة الشياطين، فالذي لا يأتي إلا بالإشراك بهم، فهو داخل في الشرك بالله.
وإن كان دون ذلك، فهو أيضاً جرم عظيم، لأن السحر من أعظم ما يكون في الجناية على بني آدم، فهو يفسد على المسحور أمر دينه ودنياه، ويقلقه فيصبح كالبهائم، بل أسوأ من ذلك، لأن البهيمة خلقت هكذا على طبيعتها، أما الآدمي، فإنه إذا صرف عن طبيعته وفطرته لحقه من الضيق والقلق ما لا يعلمه إلا رب العباد، ولهذا كان السحر يلي الشرك بالله ـ عز وجل ـ.
__________
(1) أخرجه البخاري (كتاب الديات، باب قوله تعالى: { ومن يقتل مؤمناً... } )، ومسلم في كتاب الإيمان، باب كون الشرك أقبح الذنوب).(10/371)
قوله: "وقتل النفس"، القتل: إزهاق الروح، والمراد بالنفس: البدن الذي فيه الروح، والمارد بالنفس هنا: نفس الآدمي وليس نفس البعير والحمار وما أشبهها.
وقوله "التي حرم الله".. مفعول "حرم" محذوف تقديره. حرم قتلها، فالعائد على الموصول محذوف.
وقوله: "إلا بالحق"، أي: بالعدل، لأن هذا حكم، والحق إذا ذكر بإزاء الأحكام، فالمراد به العدل، وإذا ذكر بإزاء الأخبار، فالمراد به الصدق، والعدل هو ما أمر الله به ورسوله، قال تعالى: { إن الله يأمر بالعدل } [النحل: 90].
والنفس المحرمة أربعة أنفس، هي: نفس المؤمن، والذمي، والمعاهد، والمستأمن، بكسر الميم: طالب الأمان.
فالمؤمن لإيمانه، والذمي لذمته، والمعاهد لعهده، والمستأمن لتأمينه.
والفرق بين الثلاثة ـ الذمي، والمعاهد، والمستأمن: أن الذمي هو الذي بيننا وبينه ذمة، أي: عهد على أن يقيم في بلادنا معصوماً مع بذل الجزية.
وأما المعاهد، فيقيم في بلاده، لكن بيننا وبينه عهد أن لا يحاربنا ولا نحاربه.
وأما المستأمن، فهو الذي ليس بيننا وبينه ذمة ولا عهد، لكننا أمناه في وقت محدد، كرجل حربي دخل إلينا بأمان للتجارة ونحوها، أو ليفهم الإسلام، قال تعالى: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه } [التوبة: 6]، وهناك فرق آخر، وهو أن العهد يجوز من جميع الكفار، والذمة لا تجوز إلا من اليهود والنصارى والمجوس دون بقية الكفار، وهذا هو المشهور من المذهب، والصحيح: أنها تجوز من جميع الكفار.
فهذه الأنفس الأربع قتلها حرام، لكنه ليست على حد سواء في التحريم، فنفس المؤمن أعظم، ثم الذمي، ثم المعاهد، ثم المستأمن.
وهل المستأمن مثل المعاهد أو أعلى؟
أشك في ذلك، لأن المستأمن من له عهد خاص، بخلاف المعاهدين، فالمعاهدون يتولى العهد أهل الحل والعقد منهم، فليس بيننا وبينهم عقود تأمينات خاصة، وأياً كان، فالحديث عام، وكل منهم معصوم الدم والمال.(10/372)
وقوله: "إلا بالحق"، أي: مما يوجب القتل، مثل: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة.
قوله: "وأكل الربا"، الربا في اللغة: الزيادة، ومنه قوله تعالى: { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت } [الحج: 5]، يعني: زادت.
وفي الشرع: تفاضل في عقد بين أشياء يجب فيها التساوي، ونسأ في عقد بين أشياء يجب فيها التقابض.
والربا: ربا فضل، أي: زيادة، وربا نسيئة، أي: تأخير، وهو يجري في ستة أموال بينها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح"(1)، فهذه هي الأموال الربوية بنص الحديث وإجماع المسلمين، وهذه الأصناف الستة إن بعت منها جنساً بمثله جرى فيه ربا الفضل وربا النسيئة، فلو زدت واحداً على آخر، فهو ربا فضل، أو سويته لكن أخرت القبض، فهو رباً نسيئة، وربما يجتمع النوعان كما لو بعت ذهباً متفاضلاً والقبض متأخر، فقد اجتمع في هذا العقد ربا الفضل وربا النسيئة، وعلى هذا، فإذا بعت جنساً بجنسه، فلا بد من أمرين: التساوي، والتقابض في مجلس العقد.
وإذا اختلفت الأجناس واتفقت العلة، أي: اتفق المقصود في العوضين، فإنه يجري ربا النسيئة دون ربا الفضل، فذهب بفضة متفاضلاً مع القبض جائز، وذهب بفضة متساوياً مع التأخير ربا لتأخر القبض.
قال - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد"(2).
وقولنا: اتفقا في الغرض والمقصود احترازاً مما إذا اختلف الغرض منها.
فالذهب مثلاً ثمن للأشياء، والفضة ثمن للأشياء، والبر قوت.
وعلى هذا يجوز بيع صاع من البر بدينار من الذهب مع التفرق وعدم التساوي لاختلاف القصد، لأن هذا يقصد به النقد والثمنية، وهذا يقصد به القوت.
__________
(1) أخرجه مسلم (كتاب المساقاة، باب الصرف).
(2) أخرجه مسلم (كتاب المساقاة، باب الصرف).(10/373)
فإن قيل: الحديث يدل على أنه لا يصح إلا بالقبض، فما هو الجواب؟
نقول: حقيقة إن هذا مقتضى الحديث أنك إذا بعت ذهباً ببر وجب التقابض، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد".
والجواب عن هذا أن نقول: قد دلت السنة من وجه آخر على أن القبض ليس بشرط فيما إذا كان أحدهما ثمناً، قال ابن عباس: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: "من أسلف في شيء، فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم"(1).
وعلى هذا، فحديث: "فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد" لا عموم لمفهومه، فلا يشترط القبض في كل صورة من صور المخالفة، وإنما يشترط القبض فيما فيما إذا اتفقا في الغرض، كذهب بفضة، أو بر بشعير، وأما ذهب أو فضة بشعير ونحوه، فلا يشترط القبض.
واختلف العلماء فيما عدا هذه الأصناف الستة، فالظاهرية قالوا: لا يجري الربا إلا في هذه الأصناف الستة لأنهم لا يرون القياس، فيقتصر على ما جاء به النص، فيجوز عندهم مبادلة أرز بذرة متفاضلاً مع تأخر القبض، لأنهما لا يدخلان في المنصوص عليه.
وأما أهل القياس من المذاهب الأربعة، فإنهم عدوا الحكم إلى غيرها، إلا أن بعضاً منهم لم يعد الحكم إلى غيرها، وهو من أهل القياس، مثل ابن عقيل رحمه الله، فإنه قال: لا يجري الربا إلا في هذه الأصناف الستة، لا لأنه لا قياس، ولكن لأن العلماء اختلفوا واضطربوا في العلة التي من أجلها كان الربا، فلما اضطربوا في العلة ألغينا جميع هذه العلل، وأبقينا النص على ما هو عليه من الحصر في المنصوص عليه.
والصحيح أن الربا يجري في غير الأصناف الستة، وأن العلة هي الكيل والادخار مع الطعم، وهو أن يكون قوتاً مدخراً، وهذا بالنسبة للبر والتمر والشعير.
__________
(1) أخرجه البخاري: (كتاب السلم، باب السلم في وزن معلوم)، ومسلم (كتاب المساقاة، باب السلم).(10/374)
وبالنسبة للذهب والفضة: العلة هي الجنس والثمنية، فقولنا: "الجنس" لأجل أن يشمل الحلي إذا بيع بعضه ببعض، فيجري فيه الربا، مع أنه ليس بثمن، والثمنية مثل الدراهم والدنانير والأوراق النقدية المعروفة، فإنها بمنزلة الذهب والفضة، أو يقال: العلة الثمنية فقط والحلي خارج عن الثمنية خروجاً طارئاً، لأن التحلي طارئ، والأصل في الذهب والفضة الثمنية، لأنهما ثمن الأشياء.
وأما الملح، فقال شيخ الإسلام: إنه يصلح به القوت، أي: فهو تابع له، فالعلة ليس أنه قوت، لكنه من ضرورياته، ولهذا لو طحنت براً ولم يكن فيه ملح، لم يبق إلا أياماً، يسير، فيفسد، فإذا كان فيه الملح منعه من الفساد، فيقول: لما كان يصلح به القوت جعل له حكمه.
وقوله: "وأكل الربا". ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الأكل، لأنه أعم وجود الانتفاع، هكذا قال أهل العلم، ولهذا قال تعالى في بني إسرائيل: { وأخذهم الربا وقد نهوا عنه } [النساء: 161]، ولم يقل أكلهم، والأخذ أعم من الأكل، فأكل الربا معناه أخذه، سواء استعمله في الأكل أو الفرش أو البناء أو المسكن أو غير ذلك.
قوله: "وأكل مال اليتيم"، اليتيم: هو الذي مات أبوه قبل بلوغه، سواء كان ذكراً أم أنثى، أما من ماتت أمه قبل بلوغه، فليس يتيماً لا شرعاً ولا لغة.
لأن اليتيم مأخوذ من اليتم، وهو الإنفراد، أي: انفرد عن الكاسب له، لأن أباه هو الذي يكسب له.
وخص اليتيم، لأنه لا أحد يدافع عنه، ولأنه أولى أن يرحم، ولهذا جعل الله له حقاً في الفيء، وإذا كان أحق أن يرحم، فكيف يسطو هذا الرجل الظالم على ماله فيأكله؟
ويقال في أكل مال اليتيم ما قيل في أكل الربا، فليس خاصاً بالأكل، بل حتى لو استعمله في السكن أو الفرش أو الكتب أو غيرها، فهو داخل في ذلك.(10/375)
وأكل ما غير اليتيم ليس من الكبائر، لأن اليتيم له شأن خاص، ولهذا توعد الله من يأكل أموال اليتامى، قال تعالى: { إن الذين يأكلون أموال اليتامي ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً } [النساء: 10].
قوله: "والتولي يوم الزحف". التولي: بمعنى الإدبار والإعراض، ويوم الزحف، أي: يوم تلاحم الصفين في القتال مع الكفار، وسمي يوم الزحف، لأن الجموع إذا تقابلت تجد أن بعضها يزحف إلى بعض، كالذي يمشي زحفاً كل واحد منهم يهاب الآخر، فيمشي رويداً رويداً.
والتولي يوم الزحف من كبائر الذنوب، لأنه يتضمن الإعراض عن الجهاد في سبيل الله، وكسر قلوب المسلمين، وتقوية أعداء الله، وهذا يؤدي إلى هزيمة المسلمين.
لكن هذا الحديث خصصته الآية، وهي قوله تعالى: { ومن يولهم يومئذ دبره إلا منحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله } [الأنفال: 16].
فالله سبحانه استثنى حالتين:
الأولى: أن يكون متحرفاً لقتال، أي: متهيئاً له، كمن ينصرف ليصلح من شأنه أو يهيئ الأسلحة ويعدها، ومنه الانحراف إلى مكان آخر يأتي العدو من جهته، فهذا لا يعد متولياً، إنما يعد متهيئاً.(10/376)
الثانية: المتحيز إلى فئة كما إذا حصرت سرية للمسلمين يمكن أن يقضي عليها العدو، فانصرف من هؤلاء لينقذها، فهذا لا بأس به لدعاء الضرورة إليه، بشرط ألا يكون على الجيش ضرر، فإن كان على الجيش ضرر وذهبت طائفة كبيرة إلى هذه السرية بحيث توهن قوة الجيش وتكسره أمام العدو، فإنه لا يجوز، لأن الضرر هنا متحقق، وإنقاذ السرية غير متحقق، فلا يجوز لأن المقصود إظهار دين الله، وفي هذا إذلال لدين الله، إلا إذا كان الكفار أكثر من مثلي المسلمين، فيجوز الفرار حينئذ، لقوله تعالى: { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن لم يكن منكم ألف يغلبوا ألفين } [الأنفال: 66]، أو كان عندهم عدة لا يمكن للمسلمين مقاومتها، كالطائرات إذا لم يكن عند المسلمين من الصواريخ ما يدفعها، فإذا علم أن الصمود يستلزم الهلاك والقضاء على المسلمين، فلا يجوز لهم أن يبقوا، لأن مقتضى ذلك أنهم يغررون بأنفسهم.
وفي هاتين الآيتين تخصيص السنة بالكتاب، وهو قليل، ومن تخصيص السنة بالكتاب أن من الشروط التي بين النبي - صلى الله عليه وسلم - والمشركين في الحديبية أن من جاء من المشركين مسلماً يرد إليهم(1)، وهذا الشرط عام يشمل الذكر والأنثى، فأنزل الله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار } [الممتحنة: 10].
قوله: "وقذف المحصنات". القذف: بمعنى الرمي، والمراد به هنا الرمي بالزنا، والمحصنات هنا الحرائر، وهو الصحيح، وقيل: العفيفات عن الزنا.
والغافلات: وهن: العفيفات عن الزنا البعيدات عنه، اللاتي لا يخطرعلى بالهن هذا الأمر.
__________
(1) أخرجه البخاري (كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية).(10/377)
والمؤمنات احترازاً من الكافرات، فمن قذف امرأة هذه صفاتها، فإن ذلك من الموبقات، ومع ذلك يقام عليه الحد ـ ثمانون جلدة ـ ، ولا تقبل شهادته ويكون فاسقاً، فجعل الله عليه ثلاثة أمور، قال تعالى: { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون } [النور: 2]، ثم قال: { إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا } [النور: 3].
وهذا الاستثناء لا يشمل أو الجمل بالاتفاق، ويشمل آخر الجمل بالاتفاق، واختلف العلماء في الجملة الثانية، وهي قوله: { ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً } ، فقيل: إنه يعود إليها، وقيل: لا يعود.
وبناءً على ذلك إذا تاب القاذف: هل تقبل شهادته أم لا؟
الجواب: اختلف في ذلك أهل العلم.
فمنهم من قال: لا تقبل شهادته أبداً ولو تاب، وأيدوا قولهم بأن الله أبد ذلك بقوله: { ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً } [النور: 4]، وفائدة هذا التأبيد أن الحكم لا يرتفع عنهم مطلقاً.
وقال آخرون: بل تقبل، لأن مبنى قبول الشهادة وردها على الفسق، فإذا زال وهو المانع من قبول الشهادة، زال ما يترتب عليه.
وينبغي في مثل هذا أن يقال: إنه يرجع إلى نظر الحاكم، فإذا رأى من المصلحة عدم قبول الشهادة لردع الناس عن التهاون بأعراض المسلمين، فليفعل.
وإلا، فالأصل أنه إذا زال الفسق وجب قبول الشهادة، وهل قذف المحصنين الغافلين المؤمنين كقذف المحصنات من كبائر الذنوب؟
الجواب: الذي عليه جمهور أهل العلم أن قذف الرجل كقذف المرأة، وإنما خص بذلك المرأة، لأن الغالب أن القذف يكون للنساء أكثر، إذ البغايا كثيرات قبل الإسلام، وقذف المرأة أشد، لأنه يستلزم الشك في نسب أولادها من زوجها، فيلحق بهن القذف ضرراً أكثر، فتخصيصه من باب التخصيص بالغالب، والقيد الأغلبي لا مفهوم له، لأنه لبيان الواقع.
والشاهد من هذا الحديث قوله: "السحر".
* * *(10/378)
وعن جندب مرفوعاً: "حد الساحر ضربة بالسيف". رواه الترمذي، وقال: "الصحيح أنه موقوف"(1)
قوله: "وعن جندب". ليس هو جندب بن عبدالله البجلي، بل جندب الخير المعروف بقاتل الساحر.
قوله: "مرفوعاً"، أي: إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيكون من قول النبي عليه الصلاة والسلام، لكن نقل المؤلف عن الترمذي قوله: والصحيح أنه موقوف، أي: من قول جندب.
قوله: "حد الساحر ضربة بالسيف". حده يعني: عقوبته المحددة شرعاً.
وظاهره أنه لا يكفر، لأن الحدود تطهر المحدود من الإثم.
والكافر إذا قتل على ردته، فالقتل لا يطهره.
وهذا محمول على ما سبق: أن من أقسام السحر ما لا يخرج الإنسان عن الإسلام، وهو ما كان بالأدوية والعقاقير التي توجب الصرف والعطف وما أشبه ذلك.
قوله: "ضربة بالسيف". روي بالتاء بعد الباء، وروي بالهاء، وكلاهما صحيح، لكن الأولى أبلغ، لأن التنكير وصيغة الوحدة يدلان على أنها ضربة قوية قاضية.
* * *
وفي "صحيح البخاري" عن بجالة بن عبدة، قال: "كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة". قال: "فقتلنا ثلاث سواحر"(2).
هذا كناية عن القتل، وليس معناه أن يضرب بالسيف مع ظهره مصفحاً.
__________
(1) أخرجه الترمذي في (الحدود، باب ما جاء في الساحر)، والطبراني في "الكبير" (رقم 1665)، والدارقطني (3/114)، والحاكم (4/360). قال الترمذي: "لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه، وإسماعيل بن مسلم المكي يضعف في الحديث والصحيح عن جندب موقوف، وقال الحافظ في "الفتح" (10/236): "إسناده ضعيف"، وضعفه الألباني "السلسلة الضعيفة (3/641).
(2) أخرجه الإمام أحمد في "المسند" (1/190)، وأبو داود في "السنن" (3043).(10/379)
قوله: "وفي صحيح البخاري". ذكر في الشرح ـ أعني "تفسير العزيز الحميد" ـ أن هذا اللفظ ليس في "البخاري"، والذي في "البخاري" أنه: "أمر بأن يفرق بين كل ذي محرم من المجوس"(1)، لأنهم يجوزون نكاح المحارم ـ والعياذ بالله، فأمر عمر أن يفرق بين ذوي الرحم ورحمه، لكن ذكر الشارح صاحب "تيسير العزيز الحميد": أن القطيعي رواه في الجزء الثاني من "فوائد"، وفيه: "ثم اقتلوا كل كاهن وساحر"، وقال (أي: الشارح): إسناده حسن. قال: وعلى هذا فعزو المصنف إلى البخاري يحتمل أنه أراد أصله لا لفظه. أهـ.
وهذا القتل هل هو حد أم قتله لكفره؟
يحتمل هذا وهذا بناء على التفصيل السابق(2) في كفر الساحر، ولكن بناء على ما سبق من التفصيل نقول: من خرج به السحر إلى الكفر فقتله قتل ردة، ومن لم يخرج به السحر إلى الكفر من باب دفع الصائل يجب تنفيذه حيث رآه الإمام.
والحاصل: أنه يجب أن تقتل السحرة، سواء قلنا بكفرهم أم لم نقل، لأنهم يمرضون ويقتلون، ويفرقون بين المرء وزوجه، وكذلك بالعكس، فقد يعطفون فيؤلفون بين الأعداء، ويتوصلون إلى أغراضهم، فإن بعضهم قد يسحر أحداً ليعطفه إليه وينال مأربه منه، كما لو سحر امرأة ليبغي بها، ولأنهم كانوا يسعون في الأرض فساداً، فكان واجباً على ولي الأمر قتلهم بدون استتابة مادام أنه لدفع ضررهم وفظاعة أمرهم، فإن الحد لا يستتاب صاحبه، متى قبض عليه وجب أن ينفذ فيه الحد.
* * *
وصح عن حفصة رضي الله عنها، "أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها، فقتلت"(3). وكذلك صح عن جندب(4). قال أحمد: عن ثلاثة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: "قال أحمد عن ثلاثة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -".
__________
(1) البخاري: كتاب الجزية/ باب الجزية والموادعة.
(2) تقدم (ص 490).
(3) الإمام مالك في "الموطأ" (كتاب العقول، باب ما جاء في الغيلة والسحر).
(4) البخاري في "التاريخ الكبير" (2/222)، والبيهقي (8/136)، والطبراني في "الكبير" (1725).(10/380)
وهم: عمر، وحفصة، وجندب الخير، أي: صح قتل الساحر عن ثلاثة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والقول بقتلهم موافق للقواعد الشرعية، لأنهم يسعون في الأرض فساداً، وفسادهم من أعظم الفاسد، فقتلهم واجب على الإمام، ولا يجوز للإمام أن يتخلف عن قتلهم، لأن مثل هؤلاء إذا تركوا وشأنهم انتشر فسادهم في أرضهم وفي أرض غيرهم، وإذا قتلوا سلم الناس من شرهم، وارتدع الناس عن تعاطي السحر.
* * *
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية البقرة. الثانية: تفسير آية النساء. الثالثة: تفسير الجبت والطاغوت والفرق بينهما. الرابعة: أن الطاغوت قد يكون من الجن وقد يكون من الإنس. الخامسة: معرفة السبع الموبقات المخصوصات بالنهي.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية البقرة، وهي قوله تعالى: { ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق } [البقرة: 102]، أي: نصيب، ومن لا خلاق له في الآخرة، فإنه كافر، إذ كل من له نصيب في الآخرة فإن ماله إلى الجنة.
الثانية: تفسير آية النساء، وهي قوله تعالى: { يؤمنون بالجبت والطاغوت } [النساء: 51]، وفسر عمر الجبت بالسحر والطاغوت بالشيطان، وفسر بأن الجبت: كل ما لا خير فيه من السحر وغيره.
وأما الطاغوت، فهو: كل ما تجاوز به الإنسان حده من معبود أو متبوع أو مطاع.
الثالثة: تفسير الجبت والطاغوت والفرق بينهما، وهذا بناء على تفسير عمر رضي الله عنه.
الرابعة: أن الطاغوت قد يكون من الجن، وقد يكون من الإنس. تؤخذ من قول جابر: الطواغيت كهان، وكذلك قول عمر: الطاغوت الشيطان، فإن الطاغوت إذا أطلق، فالمراد به شيطان الجن، والكهان شياطين الإنس.
الخامسة: معرفة السبع الموبقات المخصوصات بالنهي. وقد سبق بيانها.
* * *
السادسة: أن الساحر يكفر. السابعة: أنه يقتل ولا يستتاب. الثامنة: وجود هذا في المسلمين على عهد عمر، فكيف بعده؟!(10/381)
السادسة: أن الساحر يكفر، تؤخذ من قوله تعالى: { وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر... } [البقرة: 102].
السابعة: أنه يقتل ولا يستتاب. يؤخذ من قوله "حد الساحر ضربة بالسيف"(1)، والحد إذا بلغ الإمام لا يستتاب صاحبه، بل يقتل بكل حال، أما الكفر، فإنه يستتاب صاحبه، وهذا هو الفرق بين الحد وبين عقوبة الكفر، وبهذا نعرف خطأ من أدخل حكم المرتد في الحدود، وذكروا من الحدود قتل الردة.
فقتل المرتد ليس من الحدود، لأنه يستتاب، فإذا تاب ارتفع عنه القتل، وأما الحدود، فلا ترتفع بالتوبة إلا أن يتوب قبل القدرة عليه، ثم إن الحدود كفارة لصاحبها وليس بكافر، والقتل بالردة ليس كفارة وصاحبها كافر، لا يصلى عليه، ولا يغسل، ولا يدفن في مقابر المسلمين.
الثامنة: وجود هذا في المسلمين في عهد عمر، فكيف فيما بعده؟ تؤخذ من قوله: "كتب عمر: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة"، فهذا إذا كان في زمن الخليفة الثاني في القرون المفضلة، بل أفضلها، فكيف بعده من العصور التي بعدت عن وقت النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه وأصحابه؟ فهو أكثر انتشاراً بين المسلمين، وكلما بعد الناس عن زمن الرسالة استولت عليهم الضلالة والجهالة، فالضلالة: ارتكاب الخطأ عن جهل، والجهالة: ارتكاب الخطأ عن عمد، ولهذا نقول: من عمل سوء بجهالة، فهو آثم، ومن عمل سوء بجهل، فليس بآثم، قال تعالى: { إنما التوبة على الله للذين يعلمون السوء بجهالة } الآية [النساء: 17ٍ، والمراد بالجهالة هنا ليست ضد العلم، بل ضد الرشد، وهي السفه.
* * *
باب بيان شيء من أنواع السحر
* قوله: "باب بيان شيء من أنواع السحر".
أي: بيان حقائق هذه الأشياء مع حكمها.
وقد سبق أن السحر ينقسم إلى قسمين: كفر، وفسق(2)، فإن كان باستخدام الشياطين وما أشبه ذلك، فهو كفر.
__________
(1) تقدم (ص 407).
(2) أنظر (ص 489)(10/382)
وكذلك ما ذكره هنا من أنواع السحر: منها ما هو كفر، ومنها ما هو فسق حسب ما تقتضيه الأدلة الشرعية.
والأنواع: جمع نوع، والنوع أخص من الجنس، لأن الجنس اسم يدخل تحته أنواع، والنوع يدخل تحته أفراد، وقد يكون الجنس نوعاً باعتبار ما فوقه، والنوع جنساً باعتبار ما تحته.
فالإنسان نوع باعتبار الحيوان، والحيوان باعتبار الإنسان جنس، لأنه يدخل فيه الإنسان والإبل والبقر والغنم، والحيوان باعتبار الجسم نوع، لأن الجسم يشمل الحيوان والجماد.
و"أنواع" هنا باعتبار الجنس العام.
وسبق أن السحر في اللغة: كل ما كان خفي السبب دقيقاً في إدراكه حتى عد الفخر الرازي من جملة أنواع السحر الساعات، وهي في القديم عبارة عن آلات مركبة، فكيف بالساعات الإلكترونية اليوم؟
* * *
قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف، عن حيان بن العلاء، حدثنا قطن بن قبيصة، عن أبيه، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن العيافة، والطرق، والطيرة من الجبت".
قال عوف: العيافة: زجر الطير، والطرق: الخط يخط بالأرض، والجبت: قال الحسن: رنة الشيطان(1). إسناده جيد. ولأبي داود والنسائي وابن حبان في "صحيحه" لهم المسند منه.(2)
قوله: "العيافة"، مصدر عاف يعيف عيافة، وهي: زجر الطير للتشاؤم أو التفاؤل، فعند العرب قواعد في هذا الأمر، لأن زجر الطير له أقسام:
فتارة يزجرها للصيد، كما قال أهل العلم في باب الصيد: إن تعليم الطير بأن ينزجر إذا زجر، فهذا ليس من هذا الباب.
__________
(1) الإمام أحمد في "المسند" 5/60.
(2) أبو داود في "السنن" 3907، والنسائي في "الكبرى" كما في "تحفة الأشراف" 8/275، وابن حبان في "الصحيح" 7/656، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إسناده حسن" (الفتاوى 35/192)، وكذلك النووي في "رياض الصالحين" 612.(10/383)
وتارة يزجر الطير للتشاؤم أو التفاؤل، فإذا زجر الطائر وذهب شمالاً تشاءم، وإذا ذهب يميناً تفاءل، وإن ذهب أماماً، فلا أدري أيتوقفون أم يعيدون الزجر؟ فهذا من الجبت.
قوله: "الطرق". فسره عوف: بأنه الخط يخط في الأرض، وكأنه من الطريق، من طرق الأرض يطرقها إذا سار عليها، وتخطيطها مثل المشي عليها يكون له أثر في الأرض كأثر السير عليها.
ومعنى الخط بالأرض معروف عندهم، يضربون به على الرمل على سبيل السحر والكهانة، ويفعله النساء غالباً، ولا أدري كيف يتوصلون إلى مقصودهم وما يزعمونه من علم الغيب، وأنه سيحصل كذا على ما هو معروف عندهم؟! وهذا نوع من السحر.
أما خط الأرض ليكون سترة في الصلاة، أو لبيان حدودها ونحو ذلك، فليس داخلاً في الحديث.
فإن قيل: قد صح عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن نبي من الأنبياء يخط، فقال: من وافق خطه، فذاك(1).
قلنا: يجاب عنه بجوابين:
الأول: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - علقه بأمر لا يتحقق الوصول إليه، لأنه قال: فمن وافق خطه فذاك، وما يدرينا هل وافق خطه أم لا؟
الثاني: أنه إذا كان الخط بالوحي من الله تعالى كما في حال هذا النبي، فلا بأس به، لأن الله يجعل له علامة ينزل الوحي بها بخطوط يعلمه إياها.
أما هذه الخطوط السحرية، فهي من الوحي الشيطاني، فإن قيل: طريقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه يسد الأبواب جميعاً خاصة في موضوع الشرك، فلماذا لم يقطع ويسد هذا الباب؟
فالجواب: كأن هذا والله أعلم أمر معلوم، وهو أن فيه نبياً من الأنبياء يخط، فلا بد أن يجيب عنه الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: "من الجبت". سبق أن الجبت السحر، وعلى هذا، فتكون "من" للتبعيض على الصحيح، وليس للبيان، فالمعنى أن هذه الثلاثة: العيافة، والطرق، والطيرة من الجبت.
__________
(1) مسلم: كتاب المساجد/ باب تحريم الكلام في الصلاة.(10/384)
وقوله: "الطيرة" أي: من الجبت، على وزن فعلة، وهم اسم مصدر تطير، والمصدر منه تطير، وهي التشاؤم بمرئي أو مسموع، وقيل: التشاؤم بمعلوم مرئياً كان أو مسموعاً، زماناً كان أو مكاناً، وهذا أشمل، فيشمل ما لا يرى ولا يسمع، كالتطير بالزمان.
وأصل التطير: التشاؤم، لكن أضيفت إلى الطير، لأن غالب التشاؤم عند العرب بالطير، فعلقت به، وإلا، فإن تعريفها العام: التشاؤم بمرئي أو مسموع أو معلوم.
وكان العرب يتشاءمون بالطير وبالزمان وبالمكان وبالأشخاص، وهذا من الشرك كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -(1).
والإنسان إذا فتح على نفسه باب التشاؤم، ضاقت عليه الدنيا، وصار يتخيل كل شيء أنه شؤم، حتى إنه يوجد أناس إذا أصبح وخرج من بيته ثم قابله رجل ليس له إلا عين واحدة تشاؤم، وقال: اليوم يوم سوء، وأغلق دكانه، ولم يبع ولم يشتر ـ والعياذ بالله ـ ، وكان بعضهم يتشاءم بيوم الأربعاء، ويقول: أنه يوم نحس وشؤم، ومنهم من يتشاءم بشهر شوال، ولا سيما في النكاح، وقد نقضت عائشة رضي الله عنها هذا التشاؤم، بأنه - صلى الله عليه وسلم - عقد عليها في شوال، وبنى بها في شوال، فكانت تقول: "أيكن كان أحظى عنده مني؟"(2) والجواب: لا أحد.
فالمهم أن التشاؤم ينبغي للإنسان أن لا يطرأ له على بال، لأنه ينكد عليه عيشه، فالواجب الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - حيث كان يعجبه الفأل(3)، فينبغي للإنسان أن يتفاءل بالخير ولا يتشاءم، وكذلك بعض الناس إذا حاول الأمر مرة بعد أخرى تشاءم بأنه لن ينجح فيه فيتركه، وهذا خطأ، فكل شيء ترى فيه المصلحة، فلا تتقاعس عنه في أول محاولة، وحاول مرة بعد أخرى حتى يفتح الله عليك.
__________
(1) يأتي (ص 78).
(2) مسلم: كتاب النكاح/ باب التزوج في شوال.
(3) البخاري: (كتاب الطب، باب لا عدوى)، ومسلم (كتاب السلام، باب الطيرة والفأل).(10/385)
وأما قول الحسن: الجبت: رنة الشيطان، قال صاحب "تيسير العزيز الحميد"(1): لم أجد فيه كلاماً.
والظاهر أن رنة الشيطان، أي: وحي الشيطان، فهذه من وحي الشيطان وإملائه، ولا شك أن الذي يتلقى أمره من وحي الشيطان أنه أتى نوعاً الكفر، وقول الحسن جاء في "تفسير ابن كثير" باللفظ الذي ذكره المؤلف، وجاء في "المسند" (5/60) بلفظ: إنه الشيطان.
ووجه كون العيافة من السحر أن العيافة يستند فيها الإنسان إلى أمر لا حقيقة له: فماذا يعني كون الطائر يذهب يميناً أو شمالاً أو أماماً أو خلفاً؟ فهذا لا أصل له، وليس بسبب شرعي ولا حسي، فإذا اعتمد الإنسان على ذلك، فقد اعتمد على أمر خفي لا حقيقة له، وهذا سحر كما سبق تعريف السحر في اللغة.
وكذلك الطرق من السحر، لأنهم يستعملونه في السحر، ويتوصلون به إليه.
والطيرة كذلك، لأنها مثل العيافة تماماً تستند إلى أمر خفي لا يصح الاعتماد عليه، وسيأتي في باب الطيرة ما يستثنى منه(2).
قوله: "إسناده جيد...". قال الشيخ: إسناده جيد، وعندي أنه اقل من الجيد في الواقع، إلا أن يكون هناك متابعات، وكان بعض العلماء يذهب إلى أن الحديث إذا صح متنه، وكان موافقاً للأصول، فإنه يتساهل في سنده، والعكس بالعكس، إذا كان مخالفاً للأصول، فإنه لا يبالي بالسند، وهذا مسلك جيد بالنسبة لأخذ الحكم من الحديث، لكن بالنسبة للحكم على السند بأنه جيد بمجرد شهادة الأصول لهذا الحديث بالصحة، فهذا مشكل لأنه يلزم أنه لو جاءنا هذا السند في حديث آخر حكمنا بأنه جيد، فالأولى أن يقال: إن السند فيه ضعف، ولكن المتن، صحيح، فأنا أرى أن مثل هذا لا يحكم له بالجودة، إذ جيد أرقى من حسن، ثم الحكم بالحسن في مثل هذا السند في نفسي من شيء، لأنه ينبغي لنا أن نتحرى في الحديث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، إلا أن الذي يخفف الأمر هو صحة المتن، وأيهما أهم: السند أم المتن؟
__________
(1) أنظر: "تيسير العزيز الحميد" (ص 398).
(2) يأتي (571).(10/386)
الجواب: كلاهما مهمان، لكن المتن إذا كان صحيحاً تشهد له الأصول قد تستغني عنه بما تشهد به الأصول، أما السند، فلا بد منه، يقول ابن المبارك: لولا السند، لقال كل من شاء ما شاء.
* * *
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من اقتبس شعبة من النجوم، فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد". رواه أبو داود، وإسناده صحيح(1)
قوله: "من". شرطية، وفعل الشرط: "اقتبس"، وجوابه: "فقد اقتبس".
قوله: "اقتبس". أي تعلم، لأن التعلم وهو أخذ الطالب من العالم شيئاً من علمه بمنزلة الرجل يقتبس من صاحب النار شعلة.
قوله: "شعبة". أي: طائفة، ومنه قوله تعالى: { وجعلناكم شعوباً وقبائل } [الحجرات: 13]، أي: طوائف وقبائل.
قوله: "من النجوم". المراد: علم النجوم، وليس المراد النجوم أنفسها، لأن النجوم لا يمكن أن تقتبس وتتعلم، والمراد به هنا علم النجوم الذي يستدل به على الحوادث الأرضية، فيستدل مثلاً باقتران النجم الفلاني بالنجم الفلاني على أنه سيحدث كذا وكذا.
__________
(1) الإمام أحمد في "المسند" (1/227، 311)، وأبو داود في (الطب، باب في النجوم، 4/226)، وابن ماجة في (الأدب، باب تعلم النجوم)، وصححه النووي في "رياض الصالحين" (ص 630)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى" (35/193): "إسناده صحيح".(10/387)
ويستدل بولادة إنسان في هذا النجم على أنه سيكون سعيداً، وفي النجم الآخر على أنه سيكون شقياً، فيستدلون باختلاف أحوال النجوم على اختلاف الحوادث الأرضية، والحوادث الأرضية من عند الله، قد تكون أسبابها معلومة لنا، وقد تكون مجهولة، لكن ليس للنجوم بها علاقة، ولهذا جاء في حديث زيد بن خالد الجهني في غزوة الحديبية، قال: صلى بنا رسول الله ذات ليلة على إثر سماء من الليل، فقال: "قال الله تعالى: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فمن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا ـ بنوء يعني: بنجم، والباء للسببية، يعني: هذا المطر من النجم ـ، فإنه كافر بي مؤمن بالكوكب، ومن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب" (1).
فالنجوم لا تأتي بالمطر ولا تأتي بالرياح أيضاً، ومنه نأخذ خطأ العوام الذين يقولون: إذا هبت الريح طلع النجم الفلاني، لأن النجوم لا تأثير لها بالرياح، صحيح أن بعض الأوقات والفصول يكون فيها ريح ومطر، فهي ظرف لهما، وليست سبباً للريح أو المطر.
* وعلم النجوم ينقسم إلى قسمين:
الأول: علم التأثير، وهو أن يستدل بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، فهذا محرم باطل لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من اقتبس شعبة من النجوم، فقد اقتبس شعبة من السحر"(2)، وقوله في حديث زيد بن خالد: "من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب"، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشمس والقمر: "إنهما آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته"(3)، فالأحوال الفلكية لا علاقة بينها وبين الحوادث الأرضية.
__________
(1) البخاري: كتاب الأذان/ باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء.
(2) سبق (ص 518).
(3) البخاري: كتاب الكسوف/ باب الصلاة في كسوف الشمس، ومسلم: كتاب الكسوف/ باب ذكر النداء بصلاة الكسوف.(10/388)
الثاني: علم التسيير، وهو ما يستدل به على الجهات والأوقات، فهذا جائز، وقد يكون واجباً أحياناً، كما قال الفقهاء: إذا دخل وقت الصلاة يجب على الإنسان أن يتعلم علامات القبلة من النجوم والشمس والقمر، قال تعالى: { وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهاراً وسبلاً لعلكم تهتدون } [النحل: 15]، فلما ذكر الله العلامات الأرضية انتقل إلى العلامات السماوية، فقال تعالى: { وعلامات وبالنجم هم يهتدون } [النحل: 16]، فالاستدلال بهذه النجوم على الأزمات لا بأس به، مثل أن يقال: إذا طلع النجم الفلاني دخل وقت السيل ودخل وقت الربيع، وكذلك على الأماكن، كالقبلة، والشمال، والجنوب.
قوله: "فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد". المراد بالسحر هنا: ما هو أعم من السحر المعروف، لأن هذا من الاستدلال بالأمور الخفية التي لا حقيقة لها، كما أن السحر لا حقيقة له، فالسحر لا يقلب الأشياء، لكنه يموه، وهكذا اختلاف النجوم لا تتغير بها الأحوال.
قوله: "زاد ما زاد". أي: كلما زاد شعبة من تعلم النجوم ازداد شعبة من السحر.
ووجه ذلك: أن الشيء إذا كان من الشيء، فإنه يزداد بزيادته.
* وجه مناسبة الحديث لترجمة المؤلف:
أن من أنواع السحر: تعلم النجوم ليستدل بها على الحوادث الأرضية، وهذا الحديث وإن كان ضعيف السند، لكن من حيث المعنى الصحيح تشهد له النصوص الأخرى.
* * *
وللنسائي من حديث أبي هريرة: "من عقد عقدة، ثم نفث فيها، فقد سحر، ومن سحر، فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً، وكل إليه"(1).
قوله: "من عقد عقدة". "من" شرطية، والعقد معروف.
قوله: "ثم نفث فيها". النفث: النفخ بريق خفيف، والمراد هنا النفث من أجل السحر.
__________
(1) أخرجه النسائي في (كتاب تحريم الدم، باب الحكم في السحرة).(10/389)
أما لو عقد عقدة، ثم نفث فيها من أجل أن تحتكم بالرطوبة، فليس بداخل في الحديث، والنفث من أجل السحر يفعلونه بعض الأحيان للصرف، فيصرفون به الرجل عن زوجته، ولا سيما عند عقد النكاح، فيبعد الرجل عن زوجته، فلا يقوى على جماعها، فمن عقد هذه العقدة، فقد وقع في السحر كما قال تعالى: { ومن شر النفاثات في العقد } [الفلق: 4].
قوله: "ومن سحر فقد أشرك". "من" هذه شرطية، وفعل الشرط: "سحر"، وجوابه: "فقد أشرك".
وقوله: "فقد أشرك". هذا لا يتناول جميع السحر، إنما المراد من سحر بالطرق الشيطانية.
أما من سحر بالأدوية والعقاقير وما أشبهها، فقد سبق أنه لا يكون مشركاً(1)، لكن الذي يسحر بواسطة طاعة الشياطين واستخدامهم فيما يريد، فهذا لا شك أنه مشرك.
قوله: "ومن تعلق شيئاً وكل إليه". "تعلق شيئاً"، أي: استمسك به، واعتمد عليه.
"وكل إليه"، أي: جعل هذا الشيء الذي تعلق به عماداً له، ووكله الله إليه، وتخلى عنه.
ومناسبة هذه الجملة للتي قبلها: أن النافخ في العقد يريد أن يتوصل بهذا الشيء إلى حاجته ومآربه، فيوكل إلى هذا الشيء المحرم.
ووجه آخر: وهو أن من الناس من إذا سحر عن طريق النفخ بالعقد ذهب إلى السحرة وتعلق بهم، ولا يذهب إلى القراء والأدوية المباحة والأدعية المشروعة، ومن توكل على الله كفاه، قال تعالى: { ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره } [الطلاق: 5]، وإذا كان الله حسبك، فلا بد أن تصل إلى ما تريد.
لكن من تعلق شيئاً من المخلوقين وكل إليه، ومن وكل إلى شيء من المخلوقين وكل إلى ضعف وعجز وعورة، وقد يشمل الحديث من اعتمد على نفسه وصار معجباً بما يقول ويفعل، فإنه يوكل إلى نفسه، ويوكل إلى ضعف وعجز وعورة، ولهذا ينبغي أن تكون دائماً متعلقاً بالله في كل أفعالك وأحوالك حتى في أهون الأمور.
__________
(1) تقدم (ص 490).(10/390)
ونقول للإنسان: اعتمد على نفسك بالنسبة للناس، فلا تسألهم ولا تستذل أمامهم، واستغن عنهم ما استطعت، أما بالنسبة لله، فلا تستغن عنه، بل كن دائماً معتمداً على ربك حتى تتيسر لك الأمور، ومن هذا النوع من يتعلقون ببعض الأحراز يعلقونها، فإنهم يوكلون إلى هذا، ولا يحصل لهم مقصودهم، لكنهم لو اعتمدوا على الله، وسلكوا السبل الشرعية، حصل لهم ما يريدون، ومن هذا النوع أيضاً من تعلق شيئاً من القبور، وجعلها ملجأه ومغيثه عند طلب الأمور، فإنه يوكل إليه، والإنسان قد يفتن ويحصل له المطلوب بدعاء هؤلاء، ولكن هذا المطلوب الذي حصل حصل عند دعائهم لا بدعائهم، والآية صريحة في ذلك، قال الله تعالى: { ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة... } [الأحقاف: 3]، لكن الله تعالى قد يفتن من شاء من عباده.
* مناسبة الحديث:
أن هؤلاء الذين يتعلقون بالسحر، ويجعلونه صناعة يصلون بها إلى مآربهم يوكلون إلى ذلك، وآخر أمرهم الخسارة والندم.
* * *
وعند ابن مسعود، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا هل أنبئكم ما العضة؟ هي النميمة، القالة بين الناس"(1)
قوله: "ألا". أداة استفتاح، والغرض تنبيه المخاطب والاعتناء بما يلقى إليه لأهميته.
قوله: "هل أنبئكم ما العضة". الاستفهام للتشويق، كقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم } [الصف: 10].
لأن الإنسان مشتاق إلى العلوم يحب أن يعلم، وقد يكون المراد به التنبيه، لأن الموجه إليه الخطاب ينبغي أن ينتبه ليعلم، وهي تصلح للجميع.
ومعنى أنبئكم: أخبركم، وهي مرادفة للخبر في اصطلاح المحدثين، وقال بعض العلماء من ناحية اللغة لا الاصطلاح: إن الإنباء لغة يكون في الأمور الهامة، والإخبار أعم منه يكون في الهامة وغير الهامة.
__________
(1) مسلم: كتاب البر والصلة/ باب تحريم النميمة.(10/391)
قوله: "العضه" على وزن الحبل والصمت والوعد، بمعنى القطع، وأما رواية العضة على وزن عدة، فإنه بمعنى التفريق، وأياً كان، فإنها تتضمن قطعاً وتفريقاً.
قوله: "هي التميمة". فعيلة بمعنى مفعولة، وهي من نم الحديث إلى غيره، أي: نقله، والنميمة فسرها بقوله: "القالة بين الناس"، أي: نقل القول بين الناس، فينقل من هذا إلى هذا، فيأتي لفلان ويقول: فلان يسبك، فهو نم إليه الحديث ونقله، وسواء كان صادقاً أو كاذباً، فإن كان كاذباً فهو بهت ونميمة، وإن كان صادقاً، فهو نميمة.
والنميمة كما أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - تقطع الصلة، وتفرق بين الناس(1)، فتجد هذين الرجلين صديقين، فيأتي هذا النمام، فيقول لأحدهما: صاحبك يسبك، فتنقلب هذه المودة إلى عداوة، فيحصل التفرق، وهذا يشبه السحر بالتفرق، لأن السحر فيه تفريق، قال تعالى: { فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه } [البقرة: 102].
والنميمة من كبائر الذنوب، وهي سبب لعذاب القبر، ومن أسباب حرمان دخول الجنة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يدخل الجنة قتات"(2)، أي: نمام، وفي حديث ابن عباس المتفق عليه: أنه - صلى الله عليه وسلم - "مر بقبرين يعذبان، أحدهما كان يمشي بالنميمة"(3).
والنميمة كما هي من كبائر الذنوب، فهي في الحقيقة خلق ذميم، ولا ينبغي للإنسان أن يطيع النمام مهما كانت حاله، قال تعالى: { ولا تطع كل حلاف مهين * هماز مشاء بنميم } [ن: 10،11]، وأعلم أن من نم إليك نم فيك أو منك، فاحذره.
__________
(1) الإمام أحمد (6/459).
(2) البخاري: كتاب الأدب/ باب ما يكره من النميمة، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب غلظ تحريم النميمة، ولفظه: "لا يدخل الجنة نمام".
(3) البخاري: كتاب الجنائز/ باب عذاب القبر من الغيبة، ومسلم: كتاب الطهارة/ باب الدليل على نجاسة البول.(10/392)
وهي أيضاً من أسباب فساد المجتمع، لأن هذا النمام إذا أراد أن يعتدي على كل صديقين متحابين، ويفرق بينهما بنميمته فسد المجتمع، لأن المجتمع مكون من أفراد، فإذا تفرقت صار كما قال الله ـ عز وجل ـ : { ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم } [الأنفال: 46]، وإذا لم يكن المجتمع كإنسان واحد، فإنه لا يمكن أن يكون مجتمعاً، فهو أفراد متناثرة، والأفراد المتناثرة ليس لها قوة، ولهذا قال الشاعر:
لا تخاصم بواحدٍ أهل بيت ... ... ... فضعيفان يغلبان قوياً
وقال الآخر:
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً ... ... ... ... فإذا افترقن تكسرت أفراداً
ونحن لو تأملنا النصوص الشرعية، لوجدناها تحرم كل ما يكون سبباً للتفرق والقطيعة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ولا يبيع بعضكم على بيع أخيه"(1)، وقال: "لا يخطب الرجل على خطبة أخيه"(2)، وكل هذا لدفع ما يوجب العداوة والبغضاء بين الناس.
* * *
ولهما عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن من البيان لسحراً"(3)
قوله: "إن من البيان". "إن": حرف توكيد، ينصب الاسم ويرفع الخبر، و"من": يحتمل أن تكون للتبعيض، ويحتمل أن تكون لبيان الجنس، فعلى الأول يكون المعنى: إن بعض البيان سحر وبعضه ليس بسحر، وعلى الثاني يكون المعنى: إن جنس البيان كله سحر.
قوله: "لسحراً". اللام للتوكيد، و"سحراً": اسم إن.
والبيان: هو الفصاحة والبلاغة، وهو من نعمة الله على الإنسان، قال تعالى: { خلق الإنسان * علمه البيان } [الرحمن: 3،4].
والبيان نوعان:
__________
(1) البخاري: كتاب البيوع/ باب لا يبيع الرجل على بيع أخيه، ومسلم: كتاب البيوع/ باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه.
(2) البخاري: كتاب النكاح/ باب لا يخطب على خطبة أخيه، ومسلم: كتاب النكاح/ باب تحريم الخطبة على خطبة أخيه.
(3) البخاري: كتاب الطب/ باب إن من البيان لسحراً، ومسلم: كتاب الجمعة/ باب تخفيف الصلاة والخطبة.(10/393)
الأول: بيان لابد منه، وهذا يشترك فيه جميع الناس، فكل إنسان إذا جاع قال: إني جعت، وإذا عطش قال: إني عطشت، وهكذا.
الثاني: بيان بمعنى الفصاحة التامة التي تسبي العقول وتغير الأفكار، وهي التي قال فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إن من البيان لسحراً".
وعلى هذا التقسيم تكون "من" للتبعيض، أي: بعض البيان ـ وهو البيان الكامل الذي هو الفصاحة ـ سحر.
أما إذا جعلنا البيان بمعنى الفصاحة فقط، صارت "من" لبيان الجنس.
ووجه كون البيان سحراً: أنه يأخذ بلب السامع، فيصرفه أو يعطفه، فيظن السامع أن الباطل حق لقوة تأثير المتكلم، فينصرف إليه، ولهذا إذا أتى إنسان يتكلم بكلام معناه باطل لكن لقوة فصاحته وبيانه يسحر السامع حقاً، فينصرف إليه، وإذا تكلم إنسان بليغ يحذِّر من حق، ولفصاحته وبيانه يظن السامع أن هذا الحق باطل، فينصرف عنه، وهذا من جنس السحر الذي يسمونه العطف والصرف، والبيان يحصل به عطف وصرف، فالبيان في الحقيقة بمعنى الفصاحة، ولا شك أنها تفعل فعل السحر، وابن القيم يقول عن الحور: حديثها السحر الحلال.
وقوله: "إن من البيان لسحراً"، وهل هذا على سبيل الذم، أو على سبيل المدح، أو لبيان الواقع ثم ينظر إلى أثره؟
الجواب: الأخير هو المراد، فالبيان من حيث هو بيان لا يمدح عليه ولا يذم، ولكن ينظر إلى أثره، والمقصود منه، فإن كان المقصود منه رد الحق وإثبات الباطل، فهو مذموم، لأنه استعمال لنعمة الله في معصيته، وإن كان المقصود منه إثبات الحق وإبطال الباطل، فهو ممدوح، وإذا كان البيان يستعمل في طاعة الله وفي الدعوة إلى الله، فهو خير من العي، لكن إذا ابتلي الإنسان ببيان ليصد الناس عن دين الله، فهذا لا خير فيه، والعي خير منه، والبيان من حيث هو لا شك أنه نعمة، ولهذا امتن الله به على الإنسان، فقال تعالى: { علمه البيان } [الرحمن: 4].
* وجه مناسبة الحديث للباب:(10/394)
المؤلف كان حكيماً في تعبيره بالترجمة، حيث قال: باب بيان شيء من أنواع السحر، ولم يحكم عليها بشيء، لأن منها ما هو شرك، ومنها ما هو من كبائر الذنوب، ومنها دون ذلك، ومنها ما هو جائز على حسب ما يقصد به وعلى حسب تأثيره وآثاره.
* * *
فيه مسائل:
الأولى: أن العيافة والطرق والطيرة من الجبت. الثانية: تفسير العيافة والطرق. الثالثة: أن علم النجوم نوع من السحر. الرابعة: العقد مع النفث من ذلك. الخامسة: أن النميمة من ذلك. السادسة: أن من ذلك بعض الفصاحة.
قال: "فيه مسائل"، أي: في هذا الباب وما تضمنه من الأحاديث والآثار مسائل:
المسألة الأولى: أن العيافة والطرق والطيرة من الجبت. وقد سبق تفسير هذه الثلاثة وتفسير الجبت.
الثانية: تفسير العيافة والطرق. وقد بينت في الباب أيضاً وشرحت.
الثالثة: أن علم النجوم نوع من السحر. لقوله: "من اقتبس شعبة من النجوم، فقد اقتبس شعبة من السحر"، وسبق الكلام عليها أيضاً.
الرابعة: العقد مع النفث من ذلك. لحديث أبي هريرة: "من عقد عقدة ثم نفث فيها، فقد سحر"، وقد تقدم الكلام على ذلك.
الخامسة: أن النميمة من ذلك. لحديث ابن مسعود: "ألا هل أنبئكم ما العضه؟ هي النميمة"، وهي من السحر، لأنها تفعل ما يفعل الساحر من التفريق بين الناس والتحريش بينهم، وقد سبق بيان ذلك.
السادسة: أن من ذلك بعض الفصاحة. أي: من السحر بعض الفصاحة، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن من البيان لسحراً"، والمؤلف رحمه الله قال: بعض الفصاحة استدلالاً بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن من البيان"، لأن "من" هنا عند المؤلف للتبعيض، ووجه كون ذلك من السحر أن لسان البليغ ذي البيان قد يصرف الهمم وقد يلهب ما عنده من الفصاحة.
* * *
باب ما جاء في الكهان ونحوهم(10/395)
الكهان: جمع كاهن، والكهنة أيضاً جمع كاهن، وهم قوم يكونون في أحياء العرب يتحاكم الناس إليهم، وتتصل بهم الشياطين، وتخبرهم عما كان في السماء، تسترق السمع من السماء، وتخبر الكاهن به، ثم الكاهن يضيف إلى هذا الخبر ما يضيف من الأخبار الكاذبة، ويخبر الناس، فإذا وقع مما أخبر به شيء، اعتقده الناس عالماً بالغيب، فصاروا يتحاكمون إليهم، فهم مرجع للناس في الحكم، ولهذا يسمون الكهنة، إذ هم يخبرون عن الأمور في المستقبل، يقولون: سيقع كذا وسيقع كذا، وليس من الكهانة في شيء من يخبر عن أمور تدرك بالحساب، فإن الأمور التي تدرك بالحساب ليست من الكهانة في شيء، كما لو أخبر عن كسوف الشمس أو خسوف القمر، فهذا ليس من الكهانة، لأنه يدرك بالحساب، وكما لو أخبر أن الشمس تغرب في 20 من برج الميزان مثلاً في الساعة كذا وكذا، فهذا ليس من علم الغيب، وكما يقولون: إنه سيخرج في أول العام أو العام الذي بعده مذنب (هالي)، وهو نجم له ذنب طويل، فهذا ليس من الكهانة في شيء، لأنه من الأمور التي تدرك بالحساب، فكل شيء يدرك بالحساب، فإن الإخبار عنه ولو كان مستقبلاً لا يعتبر من علم الغيب، ولا من الكهانة.
وهل من الكهانة ما يخبر به الآن من أحوال الطقس في خلال أربع وعشرين ساعة أو ما أشبه ذلك؟
الجواب: لا، لأنه أيضاً يستند إلى أمور حسية، وهي تكيف الجو، لأن الجو يتكيف على صفة معينة تعرف بالموازين الدقيقة عندهم، فيكون صالحاً لأن يمطر، أو لا يمطر، ونظير ذلك في العلم البدائي إذا رأينا تجمع الغيوم والرعد والبرق وثقل السحاب، نقول يوشك أن ينزل المطر.
فالمهم أن ما استند إلى شيء محسوس، فليس من علم الغيب، وإن كان بعض العامة يظنون أن هذه الأمور من علم الغيب، ويقولون: إن التصديق بها تصديق بالكهانة.
والشيء الذي يدرك بالحس إنكاره قبيح، كما قال السفاريني:
فكل معلوم بحس أو حجا ... ... ... ... ... فنكره جهل قبيح بالهجا(10/396)
فالذي يعلم بالحس لا يمكن إنكاره ولو أن أحداً أنكره مستنداً بذلك إلى الشرع، لكان ذلك طعناً بالشرع.
* * *
روى مسلم في "صحيحة" عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "من أتى عرافاً، فسأله عن شيء فصدقه بما يقول لم تقبل له صلاة أربعين يوماً"(1)
قوله: "من": شرطية، فهي للعموم.
والعراف: صيغة مبالغة من العارف، أو نسبة، أي: من ينتسب إلى العرافة.
والعراف قيل: هو الكاهن، وهو الذي يخبر عن المسقيل.
وقيل: هو اسم عام للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يستدل على معرفة الغيب بمقدمات يستعملها، وهذا المعنى أعم، ويدل عليه الاشتقاق، إذ هو مشتق من المعرفة، فيشمل كل من تعاطى هذه الأمور وادعى بها المعرفة.
قوله: "فسأله، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً". ظاهر الحديث أن مجرد سؤاله يوجب عدم قبول صلاته أربعين يوماً، ولكنه ليس على إطلاقه، فسؤال العراف ونحوه ينقسم إلى أقسام:
القسم الأول: أن يسأله سؤالاً مجرداً، فهذا حرام لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من أتى عرافاً..."(2)، فإثبات العقوبة على سؤاله يدل على تحريمه، إذا لا عقوبة إلا على فعل محرم.
القسم الثاني: أن يسأله فيصدقه، ويعتبر قوله: فهذا كفر لأن تصديقه في علم الغيب تكذيب للقرآن، حيث قال تعالى: { قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله } [النمل: 65].
القسم الثالث: أن يسأله ليختبره: هل هو صادق أو كاذب، لا لأجل أن يأخذ بقوله، فهذا لا بأس به، ولا يدخل في الحديث.
__________
(1) مسلم: كتاب السلام/ باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان، دون قوله: "فصدقه بما يقول"). وهي عند الإمام أحمد في "المسند" (4/68،5/380).
(2) تقدم (ص 531).(10/397)
وقد سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن صياد، فقال: "ماذا خبأت لك؟ قال: الدخ فقال: اخسأ، فلن تعدو قدرك"(1)، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - سأله عن شيء أضمره، لأجل أن يختبره، فأخبره به.
القسم الرابع: أن يسأله ليظهر عجزه وكذبه، فيمتحنه في أمور يتبين بها كذبه وعجزه، وهذا مطلوب، وقد يكون واجباً.
وإبطال قول الكهنة لا شك أنه أمر مطلوب، وقد يكون واجباً، فصار السؤال هنا ليس على إطلاقه، بل يفصل فيه هذا التفصيل على حسب ما دلت عليه الأدلة الشرعية الأخرى.
وقد ذكر شيخ الإسلام أن الجن يخدمون الإنس في أمور، والكهان يستخدمون الجن ليأتوهم بخبر السماء، فيضيفون إليه من الكذب ما يضيفون، وخدمة الجن للإنس ليست محرمة على كل حال، بل هي على حسب الحال.
فالجني يخدم الإنس في أمور لمصلحة الإنس، وقد يكون للجن فيها مصلحة، وقد لا يكون له فيها مصلحة، بل لأنه يحبه في الله ولله، ولا شك أن من الجن مؤمنين يحبون المؤمنين من الإنس، لأنه يجمعهم الإيمان بالله.
وقد يخدمونهم لطاعة الإنس لهم فيما لا يرضي الله ـ عز وجل ـ ، إما في الذبح لهم، أو في عبادتهم، أو ما أشبه ذلك.
والأغرب من ذلك أنهم ربما يخدمون الإنس لأمر محرم من زنا أو لواط، لأن الجنية قد تستمتع بالإنسي بالعشق والتلذذ بالاتصال، أو بالعكس، وهذا أمر معلوم مشهود، حتى ربما كان الجني الذي في الإنسان ينطق بذلك، كما يعلم من الذين يقرؤون على المصابين بالجن.
__________
(1) البخاري: كتاب الجهاد/ باب كيف يعرض الإسلام على الصبي، ومسلم: كتاب الفتن/ باب ذكر ابن صياد.(10/398)
والنبي - صلى الله عليه وسلم - حضر إليه الجن وخاطبهم وأرشدهم، ووعدهم بعطاء لا نظير له، فقال لهم: "كل عظم ذكر اسم لله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة، فهي علف لدوابكم"(1)، وذكر أن في عهد عمر رضي الله عنه امرأة لها رئي من الجن، وكانت توصيه بأشياء، حتى إنه تأخر عمر ذات يوم، فأتوا إليها، فقالوا: ابحثي لنا عنه. فذهب هذا الجني الذي فيها، وبحث وأخبرهم أنه في مكان كذا، وأنه يسم إبل الصدقة(2).
قوله: "فصدقه". ليس في "صحيح مسلم"، بل الذي في "مسلم": "فسأله، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة"، وزيادتها في نقل المؤلف، إما لأن النسخة التي نقل منها بهذا اللفظ "فصدقه"، أو أن المؤلف عزاه إلى "مسلم" باعتبار أصله، فأخذ من "مسلم": "فسأله"، وأخذ من أحمد: "فصدقه".
قوله: "لم تقبل له صلاة أربعين ليلة". نفي القبول هنا هل يلزم منه نفي الصحة أولا؟
نقول: نفي القبول إما أن يكون لفوات شرط، أو لوجود مانع، ففي هاتين الحالين يكون نفي القبول نفياً للصحة، كما لو قلت: من صلى بغير وضوء لم يقبل الله صلاته، ومن صلى في مكان مغصوب لم يقبل الله صلاته عند من يرى ذلك.
وإن كان نفي القبول لا يتعلق بفوات شرط ولا وجود مانع، فلا يلزم من نفي القبول نفي الصحة، وإنما يكون المراد بالقبول المنفي: إما نفي القبول التام، أي: لم تقبل على وجه التمام الذي يحصل به تمام الرضا وتمام المثوبة.
وإما أن يراد به أن هذه السيئة التي فعلها تقابل تلك الحسنة في الميزان، فتسقطها، ويكون وزرها موازياً لأجر تلك الحسنة، وإذا لم يكن له أجر صارت كأنها غير مقبولة، وإن كانت مجزئة ومبرئة للذمة، لكن الثواب الذي حصل بها قوبل بالسيئة فأسقطته.
__________
(1) مسلم: كتاب الصلاة/ باب الجهر بالقراءة في الصبح.
(2) "آكام المرجان في أحكام الجان" (ص 38).(10/399)
ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من شرب الخمر، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً"(1).
وقوله: "أربعين يوماً". تخصيص هذا العدد لا يمكننا أن نعلله، لأن الشيء المقدر بعدد لا يستطيع الإنسان غالباً أن يعرف حكمته، فكون الصلاة خمس صلوات أو خمسين لا نعلم لماذا خصصت بذلك، فهذا من الأمور التي يقصد بها التعبد لله، والتعبد لله بما لا تعرف حكمته أبلغ من التعبد له بما تعرف حكمته، لأنه أبلغ في التذلل، صحيح أن الإنسان إذا عرف الحكمة اطمأنت نفسه أكثر، لكن كون الإنسان ينقاد لما لا يعرف حكمته دليل على كمال الانقياد والتعبد لله ـ عز وجل ـ، فهو من حيث العبودية أبلغ وأكمل، أما ذاك، فهو من حيث الطمأنينة إلى الحكم يكون أبلغ، لأن النفس إذا علمت بالحكمة في شيء اطمأنت إليه بلا شك، وازدادت أخذاً له وقبولاً، فهناك أشياء مما عينه الشرع بعدد أو كيفية لا نعلم ما الحكمة فيه، ولكن سبيلنا أن نكون كما قال الله تعالى عن المؤمنين: { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } [الأحزاب: 36].
فعلينا التسليم والانقياد وتفويض الأمر إلى الله تعالى.
ويؤخذ من الحديث: تحريم إتيان العراف وسؤاله، إلا ما استثني، كالقسم الثالث والرابع، لما في إتيانهم وسؤالهم من المفاسد العظيمة، التي ترتب على تشجيعهم وإغراء الناس بهم، وهم في الغالب يأتون بأشياء كلها باطلة.
* * *
__________
(1) الإمام أحمد في "المسند" (2/35)، والترمذي: كتاب الأشربة/ باب ما جاء في شارب الخمر، وقال: "حديث حسن"، والبغوي في "شرح السنة" (11/357)، والحاكم (4/162)، وصححه ووافقه الذهبي، وقال أحمد شاكر: "إسناده حسن" المسند (4917).(10/400)
وعن أبي هريرة (رضي الله عنه)، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "من أتى كاهناً، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - "رواه أبو داوود(1).
قوله: "من أتى كاهناً". تقدم معنى الكهان، وأنهم كانوا رجالاً في أحياء العرب تنزل عليهم الشياطين، وتخبرهم بما سمعت من أخبار السماء.
قوله: "فصدقه". أي: نسبه إلى الصدق، وقال: إنه صادق، وتصديق الخبر يعني: تثبيته وتحقيقه، فقال: هذا حق وصحيح وثابت.
قوله: "بما يقول". "ما" عامة في كل ما يقول: حتى ما يحتمل أنه صدق، فإنه لا يجوز أن يصدقه، لأن الأصل فيهم الكذب.
قوله "فقد كفر بما أنزل على محمد"، أي: بالذي أنزل، والذي أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - القرآن أنزل إليه بواسطة جبريل، قال تعالى: { وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين } [الشعراء: 192، 193]، وقال تعالى: { قل نزله روح القدس من ربك } [النحل: 102]، وبهذا نعرف أن القول الراجح في الحديث القدسي أنه من كلام الله تعالى معنى، وأما لفظه، فمن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لكنه حكاه عن الله، لأننا لو لم نقل بذلك لكان الحديث القدسي أرفع سنداً من القرآن، حيث إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يرويه عن ربه مباشرة والقرآن بواسطة جبريل.
__________
(1) الإمام أحمد في "المسند" (2/8-4، 476)، وأبو داود: كتاب الطب/ باب في الكاهن، والترمزي: كتاب الطهارة/ باب في كراهية إتيان الحائض، وابن ماجة: كتاب الطهارة، باب النهي عن إتيان الحائض.(10/401)
ولأنه لو كان من كلام الله لفظاً، لوجب أن تثبت له أحكام القرآن، لأن الشرع لا يفرق بين المتماثلين، وقد علم أن أحكام القرآن لا تنطبق على الحديث القدسي ولا يتعبد بتلاوته ولا يقرأ في الصلاة، ولا يعجز لفظه، ولو كان من كلام الله، لكان معجزاً، لأن كلام الله لا يماثله كلام البشر، وأيضاً باتفاق أهل العلم فيما أعلم أنه لو جاء مشرك يستجير ليسمع كلام الله وأسمعناه الأحاديث القدسية، فلا يصح أن يقال: إنه سمع كلام الله. فدل هذا على أنه ليس من كلام الله، وهذا هو الصحيح، وللعلماء في ذلك قولان: هذا أحدهما، والثاني: أنه من قول الله لفظاً.
فإن قال قائل: كيف تصححون هذا والنبي صلى الله عليه وسلم ينسب القول إلى الله، ويقول: قال الله تعالى: ومقول القول هو هذا الحديث المسوق؟
قلنا: هذا كما قال الله تعالى عن موسى وفرعون وإبراهيم: قال موسى، قال فرعون، قال إبراهيم… مع أننا نعلم أن هذا اللفظ ليس من كلامهم ولا قولهم، لأن لغتهم ليست اللغة العربية، وإنما نقل نقلاً عنهم، ويدل هذا أن القصص في القرآن تختلف بالطول والقصر والألفاظ، مما يدل على أن الله سبحانه ينقلها بالمعنى، ومع ذلك ينسبها إليهم، كما قال تعالى: { وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني } [الزخرف: 26،27]، وقال عن موسى: { وقال موسى لقومه استعينوا بالله } [الأعراف: 128]، وقال عن فرعون: { قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم } [الشعراء: 34].
قوله: "بما أنزل على محمد". ذكر أهل السنة أن كل كلمة وصف فيها القرآن بأنه منزل أو أنزل من الله، فهي دالة على علو الله ـ سبحانه وتعالى ـ بذاته، وعلى أن القرآن كلام الله، لأن النزول يكون من أعلى، والكلام لا يكون إلا من متكلم به.(10/402)
قوله: "كفر بما أنزل على محمد". وجه ذلك: أن ما أنزل على محمد قال الله تعالى فيه: { قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله } [النمل: 65]، وهذا من أقوى طرق الحصر، لأن فيه النفي والإثبات، فالذي يصدق الكاهن في علم الغيب وهو يعلم أنه لا يعلم الغيب إلا الله، فهو كافر كفراً أكبر مخرجاً من الملة، وإن كان جاهلاً ولا يعتقد أن القرآن فيه كذب، فكفره كفر دون كفر.
* * *
وللأربعة، والحاكم ـ وقال: "صحيح على شرطهما" ـ عن أبي هريرة: "من أتى عرافاً أو كاهناً، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -"(1).
قوله: "وللأربعة والحاكم". الأربعة هم: أبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن ماجة، والحاكم ليس من أهل "السنن"، لكن له كتاب سمي "صحيح الحاكم".
قوله: "صحيح على شرطهما"، أي: شرط البخاري ومسلم، لكن قول "على شرطهما" هذا على ما يعتقد، وإلا، فقد يكون الأمر على خلاف ذلك.
ومعنى قوله: "على شرطهما"، أي: أن رجاله رجال "الصحيحين"، وأن ما اشترطه البخاري ومسلم موجود فيه.
ونحن لا ننكر أن هناك أحاديث صحيحة لم يذكرها البخاري ومسلم، لأنهما لم يستوعبا الصحيح كله، وهذا أمر واقع، ولكن ينظر في قول من قال: إن هذا الحديث على شرطهما، فقد تكون فيه علة خفية خفيت على هذا القائل، ويكون البخاري ومسلم علماها وتركا الحديث من أجلها.
قوله: "صحيح". يقولو: الحاكم ممن يتساهل بالتصحيح، ولهذا قالوا: لا عبرة بتصحيح الحاكم، ولا بتوثيق ابن بحان، ولا بوضع ابن الجوزي، ولا بإجماع ابن المنذر.
__________
(1) الإمام أحمد في "المسند" (2/429)، والبيهقي في "السنن" (7/195)، والهيثمي في "المجمع" (5/118). قال في "تيسير العزيز" ص 409: فعزو المصنف إلى الأربعة ليس كذلك فإنه لم يروه أحد منهم... ولعله أراد الذي قبله"، والحاكم في "المستدرك" (1/12) ـ وصححه ووافقه الذهبي.(10/403)
وهذا القول فيه مجازفة في الحقيقة، لأن كلمة (لا عبرة)، أي: لا يلتفت إليه، والصواب أنه لا يؤخذ مقبولاً في كل حال، مع أني تدبرت كلام ابن المنذر رحمه الله، ووجدت أنه دائماً إذا نقل الإجماع يقول: إجماع من نحفظ قوله من أهل العلم، وهو بهذا قد احتفظ لنفسه، ولا يكلف الله نفساً إلى وسعها.
ولكننا مع ذلك نقول: إذا كان الرجل ذا اطلاع واسع، فقد يكون هذا القول إجماعاً، أما إذا كان هذا الرجل لا يعرف إلى ما حوله، فإن قوله هذا لا يكون إجماعاً ولا يوثق به، ولا نحكم بأنه إجماع.
مثاله: فلو قال رجل: لم يدرس إلا المذهب الحنبلي في مسألة، وقال هذا إجماع من نحفظ قوله من أهل العلم، فإن قوله هذا لا يعتبر، لأنه لم يحفظ إلا قولاً قليلاً من أقوال أهل العلم.
قوله: "من أتى عرافاً أو كاهناً". "أو" يحتمل أن تكون للشك، ويحتمل أن تكون للتنويع، فالحديث الأول بلف عراف، والثاني بلفظ كاهن، والثالث جمع بينهما، فتكون "أو" للتنويع.
وجاء المؤلف بهذا الحديث مع أن الأول والثاني مغنيان عنه، لأن كثرة الأدلة مما يقوي المدلول، أرأيت لو أن رجلاً أخبرك بخبر فوثقت به، ثم جاء آخر وأخبرك به ازددت توثقاً وقوة، ولهذا فرق الشارع بين أن يأتي الإنسان بشاهد واحد أو شاهدين.
* * *
ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفاً(1).
وعن عمران بن حصين مرفوعاً: "ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن له، أو سحر أو سحر له، ومن أتى كاهناً، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -". رواه البزار بإسناد جيد(2)
__________
(1) الإمام أحمد في "المسند" (2/428)، وأبو يعلى في "المسند" (5408)، والهيثمي في "المجمع" (5/118 ـ 119).
(2) البزار في "المسند" (3044)، والهيثمي في "المجمع" (5/118). قال المنذري في "الترغيب": "إسناده جيد"، وقال الهيثمي: "ورجاله، رجال الصحيح".(10/404)
وظاهر صنيع المؤلف: أن حديث أبي هريرة: "من أتى عرافاً أو كاهناً" أنه موقوف، لأنه قال عن أبي هريرة، لكنه لما قال في الذي بعده: "موقوفاً" ترجح عندنا أن الحديث الذي قبله مرفوع.
قوله: "ليس منا". تقدم الكلام على هذه الكلمة، وأنها لا تدل على خروج الفاعل من الإسلام، بل على حسب الحال.
قوله: "مرفوعاً"، أي: إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قوله "تطير". التطير: هو التشاؤم بالمرئي أو المسموع أو المعلوم أو غير ذلك، وأصله من الطير، لأن العرب كانوا يتشاءمون أو يتفاءلون بها، وقد سبق ذلك(1).
ومنه ما يحصل لبعض الناس إذ شرع في عمل، ثم حصل له في أوله تعثر تركه وتشاءم، فهذا غير جائز، بل يعتمد على الله ويتوكل عليه، وما دمت أنك تعلم أن في هذا الأمر خيراً، فغامر فيه، ولا تشاءم، لأنك لم توفق فيه لأول مرة، فكم من إنسان لم يوفق في العمل أول مرة، ثم وفق في ثاني مرة أو ثالث مرة؟!
ويقال: إن الكسائي ـ إمام النحو ـ طلب النحو عدة مرات، ولكنه لم يوفق، فرأى نملة تحمل نواة تمر، فتصعد بها إلى الجدار، فتسقط، حتى كررت ذلك عدة مرات، ثم صعدت بها إلى الجدار وتجاوزته، فقال: سبحان الله! هذه النملة تكابد هذه النواة حتى نجحت، إذن أنا سأكابد علم النحو حتى أنجح. فكابد، فصار إمام أهل الكوفة في النحو.
قوله: "أو تطير له". بالبناء للمفعول، أي: أمر من يتطير له، مثل أن يأتي شخص، ويقول: سأسافر إلى المكان الفلاني، وأنت صاحب طير، وأريد أن تزجر طيرك لأنظر: هل هذه الوجهة مباركة أم لا، فمن فعل ذلك، فقد تبرأ منه الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله: "من تطير" يشمل من تطير لنفسه، أو تطير لغيره.
__________
(1) تقدم (ص 515).(10/405)
وقوله: "أو تكهن أو تكهن له". سبق أن الكهانة ادعاء علم الغيب في المستقبل(1)، يقول سيكون كذا وكذا، وربما يقع، فهذا متكهن، ومن الغريب أنه شاع الآن في أسلوب الناس قولهم: تكهن بأن فلاناً سيأتي، ويطلقون هذا اللفظ الدال على عمل محرم على أمر مباح، وهذا لا ينبغي، لأن العامي الذي لا يفرق بين الأمور يظن أن الكهانة كلها مباحة، بدليل إطلاق هذا اللفظ على شيء مباح معلوم إباحته.
قوله: "أو تكهن له"، أي: طلب من الكاهن أن يتكهن له، كأن يقول للكاهن: ماذا يصيبني غداً، أو في الشهر الفلاني، أو في السنة الفلانية، وهذا تبرأ منه الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: "أو سحر أو سحر له". تقدم تعريف السحر، وتقدم بيان أقسامه.
قوله: "أو سحر له"، أي: طلب من الساحر أن يسحر له، ومنه النشرة عن طريق السحر، فهي داخلة فيه، وكانوا يستعملونها على وجوه متنوعة، منها أنهم يأتون بطست فيه ماء، ويصبون فيه رصاصاً، فيتكون هذا الرصاص بوجه الساحر، أي: تكون صورة الساحر في هذا الرصاص، ويسمونها العامة عندنا "صب الرصاص"، وهذا من أنواع السحر المحرم، وقد تبرأ رسول الله من فاعله(2).
الشاهد من هذا الحديث: قوله: "ومن أتى كاهناً...." إلخ، وقوله: "ورواه الطبراني في "الأوسط" بإسناد حسن من حديث ابن عباس..." إلخ، فيكون هذا مقوياً للأول.
* * *
قال البغوي: "العراف: الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك"(3).
وقيل: هو الكاهن. والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل.
وقيل: الذي يخبر عما في الضمير.
* قوله: "قال البغوي: العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات...". العراف: صيغة مبالغة فإما أن يراد بها الصيغة، وإما أن يراد بها النسبة.
وهو الذي يدعي معرفة تتعلق بعلم الغيب، فيدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على مكان المسروق والضالة ونحوها.
__________
(1) تقدم (ص 530).
(2) تقدم (ص 540).
(3) شرح السنة (12/182).(10/406)
وظاهر كلام البغوي رحمه الله: أنه شامل لمن ادعى معرفة المستقبل والماضي، لأن مكان المسروق يعلم بعد السرقة، وكذلك الضالة قد حصل الضياع، ولكن المسألة ليست اتفاقية بين أهل العلم، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: "وقيل: هو"، أي: العراف الكاهن.
والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل.
قوله: "وقيل: هو الذي يخبر عما في الضمير"، أي: أن تضمر شيئاً فتقول: ما أضمرت؟ فيقول: أضمرت كذا وكذا.
أو المغيبات في المستقبل، تقول: ماذا سيحدث في الشهر الفلاني في اليوم الفلاني؟ ماذا ستلد امرأتي؟ متى يقدم ولدي؟ وهو لا يدري.
والخلاصة: أن العلماء اختلفوا في تعريف العراف، فقيل: هو الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على مكان المسروق والضالة ونحوها، فيكون شاملاً لمن يخبر عن أمور وقعت.
وقيل: الذي يخبر عما في الضمير.
وقيل: هو الكاهن، والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل.
* * *
وقال أبو العباس ابن تيمية: العراف: اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم، ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق"(1).
قوله: "وقال أبو العباس ابن تيمية". هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، يكنى بأبي العباس، ولم يتزوج، ولم يتركه من باب الرهبانية، ولكنه والله أعلم كان مشغولاً بالجهاد العلمي مع قلة الشهوة، وإلا لو كان قوي الشهوة لتزوج، وليس كما يدعي المزورون أن له ولداً مدفوناً إلى جانبه في دمشق، فإنه غير صحيح قطعاً.
وظاهر كلام الشيخ: أن شيخ الإسلام جزم بهذا، ولكن شيخ الإسلام قال: وقيل العراف، وذكره بقيل، ومعلوم أن ما ذكر بقيل ليس مما يجزم بأن الناقل يقول به، صحيح أنه إذا نقله ولم ينقضه، فهذا دليل على أنه ارتضاه.
__________
(1) مجموع الفتاوى (35/137).(10/407)
وعلى كل حال، فشيخ الإسلام ساق هذا القول وارتضاه، ثم قال: ولو قيل: إنه اسم خاص لبعض هؤلاء الرمال والمنجم ونحوهم، فإنهم يدخلون فيه بالعموم المعنوي، لأن عندنا عموماً معنوياً، وهو ما ثبت عن طريق القياس، وعموماً لفظياً، وهو ما دل عليه اللفظ، بحيث يكون اللفظ شاملاً له.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن استخدام الإنس للجن له ثلاث حالات.
الحال الأولى: أن يستخدم في طاعة الله، كأن يكون له نائباً في تبليغ الشرع، فمثلاً: إذا كان له صاحب من الجن مؤمن يأخذ عنه العلم، ويتلقى منه، وهذا شيء ثبت أن الجن قد يتعلمون من الإنس، فيستخدمه في تبليغ الشرع لنظرائه من الجن، أو في المعونة على أمور مطلوبة شرعاً، فهذا لا بأس به، بل إنه قد يكون أمراً محموداً أو مطلوباً، وهو من الدعوة إلى الله ـ عز وجل ـ، والجن حضروا النبي - صلى الله عليه وسلم - وقرأ عليهم القرآن، وولوا إلى قومهم منذرين، والجن فيهم الصلحاء والعباد والزهاد والعلماء، لأن المنذر لابد أن يكون عالماً بما ينذر، عابداً مطيعاً لله ـ سبحانه ـ في الإنذار.
الحال الثانية: أن يستخدمهم في أمور مباحة، مثل أن يطلب منهم العون على أمر من الأمور المباحة، قال: فهذا جائز بشرط أن تكون الوسيلة مباحة، فإن كانت محرمة، صار حراماً، كما لو كان الجني لا يساعده في أموره إلا إذا ذبح له أو سجد له أو ما أشبه ذلك.
ثم ذكر ما ورد أن عمر تأخر ذات مرة في سفره، فاشتغل فكر أبي موسى، فقالوا له: إن امرأة من أهل المدينة لها صاحب من الجن، فلو أمرتها أن ترسل صاحبها للبحث عن عمر، ففعل، فذهب الجني، ثم رجع، فقال: إن أمير المؤمنين ليس به بأس، وهو يسم إبل الصدقة في المكان الفلاني(1)، فهذا استخدام في أمر مباح.
__________
(1) تقدم (ص 534).(10/408)
الحال الثلاثة: أن يستخدمهم في أمور محرمة، كنهب أموال الناس وترويعهم، وما أشبه ذلك، فهذا محرم، ثم إن كان الوسيلة شركاً صار شركاً، وإن كان وسيلته غير شرك صار معصية، كما لو كان هذا المجني الفاسق يألف هذا الإنسي الفاسق ويتعاون معه على الإثم والعدوان، فهذا يكون إثماً وعدواناً، ولا يصل إلى حد الشرك.
ثم قال: إن من يسأل الجن، أو يسأل من الجن، ويصدقهم في كل ما يقولون، فهذا معصية وكفر، والطريق للحفظ من الجن هو قراءة آية الكرسي، فمن قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح، كما ثبت ذلك عنه - صلى الله عليه وسلم -(1)، وهي: { الله لا إله إلا هو الحي القيوم... } الآية.
* * *
وقال ابن عباس في قوم يكتبون (أباجاد) وينظرون في النجوم: "ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق"(2).
قوله: "يكتبون أباجاد وينظرون في النجوم". والواو هنا ليست عطفاً، ولكنها للحال، يعني: والحال أنهم ينظرون، فيربطون ما يكتبون بسير النجوم وحركتها.
قوله: "ما أرى من فعل ذلك". ويجوز بفتح الهمزة بمعنى: أعلم، وبالضم بمعنى: ما أظن.
وقوله: "أباجاد". هي: أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضطغ... وتعلم أباجاد ينقسم إلى قسمين:
الأول: تعلم مباح بأن نتعلمها لحساب الجمل، وما أشبه ذلك، فهذا لا بأس به، وما زال أناس يستعملونها، حتى العلماء يؤرخون بها، قال شيخنا عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في تاريخ بناء المسجد الجامع القديم:
جد بالرضا واعط المنى
تاريخه حين انتهى
والشهر في شوال يا
من ساعدوا في ذا البنا
قول المنيب اغفر لنا
رب تقبل سعينا
فقوله: "اغفر لنا" لو عددناها حسب الجمل صارت 1362هـ.
وقد اعتنى بها العلماء في العصور الوسطى، حتى في القصائد الفقهية والنحوية وغيرها.
__________
(1) البخاري: كتاب الخلق/ باب صفة إبليس وجنوده.
(2) عبد الرازق في "المصنف" (11/26)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/139).(10/409)
ويؤرخون بها مواليد العلماء ووفياتهم، ولم يرد ابن عباس هذا القسم.
الثاني: محرم، وهو كتابة "أبا جاد" كتابة مربوطة بسير النجوم وحركتها وطلوعها وغروبها، وينظرون في النجوم ليستدلوا بالموافقة أو المخالفة على ما سيحدث في الأرض، إما على سبيل العموم، كالجذب والمرض والجرب وما أشبه ذلك، أو على سبيل الخصوص، كأن يقول لشخص: سيحدث لك مرض أو فقر أو سعادة أو نحس في هذا وما أشبه ذلك، فهم يربطون هذه بهذه، وليس هناك علاقة بين حركات النجوم واختلاف الوقائع في الأرض.
وقوله: "ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق".
قوله: "خلاق"، أي: نصيب.
ظاهر كلام ابن عباس أنه يرى كفرهم، لأن الذي ليس له نصيب عند الله هو الكافر، إذ لا ينفى النصيب مطلقاً عن أحد من المؤمنين، وإن كان له ذنوب عذب بقدر ذنوبه، أو تجاوز الله عنها، ثم صار آخر أمره إلى نصيبه الذي يجده عند الله.
ولم يبين المؤلف رحمه الله حكم الكاهن والمنجم والرمال من حيث العقوبة في الدنيا، وذلك أننا إن حكمنا بكفرهم، فحكمهم في الدنيا أنهم يستتابون، فإن تابوا، وإلا، قتلوا كفراً.
وإن حكمنا بعدم كفرهم، إما لكون السحر لا يصل إلى الكفر، أو قلنا: إنهم لا يكفرون، لأن المسألة فيها خلاف، فإنه يجب قتلهم لدفع مفسدتهم ومضرتهم، حتى وإن قلنا بعدم كفرهم، لأن أسباب القتل ليست مختصة بالكفر فقط، بل للقتل أسباب متعددة ومتنوعة، قال تعال: { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض } [المائدة: 33]، فكل من أفسد على الناس أمور دينهم أو دنياهم، فإنه يستتاب، فإن تاب، وإلا، قتل، ولا سيما إذا كانت هذه الأمور تصل إلى الإخراج من الإسلام.
والنظر في النجوم ينقسم إلى أقسام:(10/410)
الأول: أن يستدل بحركاتها وسيرها على الحوادث الأرضية، سواء كانت عامة أو خاصة، فهو شرك إن اعتقد أن هذه النجوم هي المدبرة للأمور، أو أن لها شركاً، فهو كفر مخرج عن الملة، وإن اعتقد أنها سبب فقط، فكفره غير مخرج من الملة، ولكن يسمى كفراً، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - على إثر سماء كانت من الليل: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، أما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب"(1).
وقد سبق لنا أن هذا الكفر ينقسم إلى قسمين بحسب اعتقاد قائله(2).
الثاني: أن يتعلم علم النجوم ليستدل بحركاتها وسيرها على الفصول وأوقات البذر والحصاد والغرس وما أشبهه، فهذا من الأمور المباحة، لأنه يستعان بذلك على أمور دنيوية.
القسم الثالث: أن يتعلمها لمعرفة أوقات الصلوات وجهات القبلة، وما أشبه ذلك من الأمور المشروعة، فالتعلم هنا مشروع، وقد يكون فرض كفاية أو فرض عين.
* * *
فيه مسائل:
الأولى: لا يجتمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن. الثانية: التصريح بأنه كفر. الثالثة: ذكر من تكهن له. الرابعة: ذكر من تطير له. الخامسة: ذكر من سحر له. السادسة: ذكر من تعلم أباجاد.
فيه مسائل:
الأولى: لا يجتمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن. يؤخذ من قوله: "من أتى كاهناً، فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد"، ووجهه: أنه كذب بالقرآن وهذا من أعظم الكفر.
الثانية: التصريح بأنه كفر. تؤخذ من قوله: "فقد كفر بما أنزل على محمد".
الثالثة: ذكر من تكهن له. تؤخذ من حديث عمران بن حصين، حيث قال: "ليس منا"، أي: إنه كالكاهن في براءة النبي - صلى الله عليه وسلم - منه.
الرابعة: ذكر من تطير له. تؤخذ من قوله: "أو تطير له".
الخامسة: ذكر من سحر له. تؤخذ من قوله: "أو سحر له".
__________
(1) تقدم (ص 519).
(2) ص 519).(10/411)
وأتى المؤلف بذكر من تكهن له، أو سحر له، أو تطير له، لأنه قد يعارض فيه معارض، فيقول هذا في الكهان، وهذا من المتطيرين، وهذا في السحرة، فقال: إن من طلب أن يفعل له ذلك، فهو مثلهم في العقوبة.
السادسة: ذكر من تعلم أباجاد. وتعلم ذلك فيه تفصيل لا يحمد ولا يذم، إلا على حسب الحال التي تنزل عليها، وقد سبق ذلك.
* * *
السابعة: ذكر الفرق بين الكاهن والعراف.
السابعة: ذكر الفرق بين الكاهن والعراف. وفي هذه المسألة خلاف بين أهل العلم:
القول الأول: أن العراف هو الكاهن، فمهما مترادفان، فلا فرق بينهما.
القول الثاني: أن العراف هو الذي يستدل على معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها، فهو أعم من الكاهن، لأنه يشمل الكاهن وغيره، فهما من باب العام والخاص.
القول الثالث: أن العراف يخبر عن أمور بمقدمات يستدل عليها، والكاهن هو الذي يخبر عما في الضمير، أو عن المغيبات في المستقبل.
فالعراف أعم، أو أن العراف يختص بالماضي، والكاهن بالمستقبل، فهما متباينان، والظاهر أنهما متباينان، فالكاهن من يخبر عن المغيبات في المستقبل والعراف من يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك.
* * *
باب ما جاء في النشرة
* تعريف النشرة:
في اللغة، بضم النون: فعلة من النشر، وهو التفريق.
وفي الاصطلاح: حل السحر عن المسحور.
لأن هذا الذي يحل السحر عن المسحور: يرفعه، ويزيله، ويفرقه.
أما حكمها، فهو يتبين مما قاله المؤلف رحمه الله، وهو من أحسن البيانات.
ولا ريب أن حل السحر عن المسحور من باب الدواء والمعالجة وفيه فضل كبير لمن ابتغى به وجه الله لكن في القسم المباح منها. لأن السحر له تأثير على بدن المسحور وعقله ونفسه وضيق الصدر، حيث لا يأنس إلا بمن استعطف عليه.
وأحياناً يكون أمراضاً نفسية بالعكس، تنفر هذا المسحور عمن تنفره عنه من الناس، وأحياناً يكون أمراضاً عقلية، فالسحر له تأثير إما على البدن، أو العقل، أو النفس.(10/412)
* * *
عن جابر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن النشرة؟ فقال: "هي من عمل الشيطان". رواه أحمد بسند جيد، وأبو داود(1). وقال: "سئل أحمد عنها فقال: ابن مسعود يكره هذا كله.
قوله في "عن النشرة". أل للعهد الذهني، أي: المعروفة في الجاهلية التي كانوا يستعملونها في الجاهلية، وذلك طريق من طرق حل السحر، وهي على نوعين:
الأول: أن تكون باستخدام الشياطين، فإن كان لا يصل إلى حاجته منهم إلا بالشرك، كانت شركاً، وإن كان يتوصل لذلك بمعصية دون الشرك، كان لها حكم تلك المعصية.
الثاني: أن تكون بالسحر، كالأدوية والرقى والعقد والنفث وما أشبه ذلك، فهذا له حكم السحر على ما سبق.
ومن ذلك ما يفعله بعض الناس، أنهم يضعون فوق رأس المسحور طستاً فيه ماء ويصبون عليه رصاصاً ويزعمون أن الساحر يظهر وجهه في هذا الرصاص، فيستدل بذلك على من سحره، وقد سئل الإمام أحمد عن النشرة، فقال: إن بعض الناس أجازها، فقيل له: إنهم يجعلون ماء في طست، وإنه يغوص فيه، وإنه يبدو وجهه، فنفض يده وقال: ما أدري ما هذا؟ ما أدري ما هذا؟ فكأنه رحمه الله توقف في الأمر وكره الخوض فيه.
قوله: "من عمل الشيطان"، أي: من العمل الذي يأمر به الشيطان ويوحي به، لأن الشيطان يأمر بالفحشاء ويوحي إلى أوليائه بالمنكر، وهذا يغني عن قوله: إنها حرام، بل هو أشد، لأن نسبتها للشيطان أبلغ في تقبيحها والتنفير منها، ودلالة النصوص على التحريم لا تنحصر في لفظ التحريم أو نفي الجواز، بل إذا رتبت العقوبات على الفعل كان دليلاً على تحريمه.
قوله: "رواه أحمد بسند جيد وأبو داود" سند أبي داود إلى أحمد متصل، لأنه قد حدثه وأدركه.
__________
(1) الإمام أحمد في "المسند" (3/294)، وأبو داود: كتاب الطب/ باب في النشرة، والحاكم في "المستدرك" (4/420)، وصححه ووافقه الذهبي. قال الحافظ في "الفتح" (10/233): "إسناده حسن".(10/413)
قوله: "فقال: ابن مسعود يكره هذا كله". أجاب رحمه الله بقول الصحابي، وكأنه ليس عنده أثر صحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، وإلا لاستدل به.
والمشار إليه في قوله: "يكره هذا كله" كل أنواع النشرة، وظاهره: ولو كانت على الوجه المباح على ما يأتي، لكنه غير مراد، لأن النشرة بالقرآن والتعوذات المشروعة لم يقل أحد بكراهته، وسبق أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يكره تعليق التمائم من القرآن وغير القرآن.
وعلى هذا، فالكلية في قول أحمد: "يكره هذا كله" يراد بها النشرة التي من عمل الشيطان، وهي النشرة بالسحر والنشرة التي من التمائم.
وقوله: "يكره". الكراهة عند المتقدمين يراد بها التحريم غالباً، ولا تخرج عنه إلا بقرينة، وعند المتأخرين خلاف الأولى، فلا تظن أن لفظ المكروه في عرف المتقدمين أو كلامهم مثله في كلام المتأخرين، بل هو يختلف، انظر إلى قوله تعالى: { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً... } [الإسراء: 23]، إلى أن قال بعد أن ذكر أشياء محرمة: { كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهاً } [الإسراء: 38]، ولا شك أن المراد بالكراهة هنا التحريم.
* * *
وفي "البخاري" عن قتادة: "قلت لابن المسيب: رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته، أيحل عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع، فلم ينه عنه"(1).
قوله: "رجل به طب". أي: سحر، ومن المعلوم أن الطب هو علاج المرض، لكن سمي السحر طباً من باب التفاؤل، كما سمي اللديغ سليماً والكسير جبيراً.
قوله: "أو يؤخذ عن امرأته". أي: يحبس عن زوجته، فلا يتمكن من جماعها، وهو ليس به بأس، وهذا نوع من السحر.
__________
(1) البخاري في "الصحيح" تعليقاً: كتاب الطب/ باب هل يستخرج السحر.(10/414)
والعجيب أنه مشتهر عند الناس أنه إذا كان عند العقد، وعقد أحد عقده عند العقد، فإنه يحصل حبسه عن امرأته، وبالغ بعضهم، فقال: إذا شبك أحدهم بين أصابعه عند العقد حبس الزوج عن أهله، وهذا لا أعرف له أصلاً.
ولكن كثيراً ما يقع حبس الزوج عن زوجته ويطلبون العلاج.
وقد ذكر بعض أهل العلم أن من العلاج أن يطلقها، ثم يراجعها، فينفك السحر.
لكن لا أدري هل هذا يصح أم لا؟ فإذا صح، فالطلاق هنا جائز، لأنه طلاق للاستبقاء، فيطلق كعلاج، ونحن لا نفتي بشيء من هذا، بل نقول: لا نعرف عنه شيئاً.
و"أو" في قوله: "أو يؤخذ" يحتمل أنها للشك من الراوي: هل قال قتادة "به طب" أو قال: "يؤخذ عن امرأته"؟
أي: أو قلت: يؤخذ، ويحتمل أن تكون للتنويع، أي أنه سأله عن أمرين: عن المسحور، وعند الذي يؤخذ عن امرأته.
قوله: "أيحل عنه أو ينشر". لا شك أن "أو" هنا للشك، لأن الحل هو النشرة.
قوله: "لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح". كأن ابن المسيب رحمه الله قسم السحر إلى قسمين: ضار، ونافع.
فالضار محرم، قال تعالى: { ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم } [البقرة: 102]، والنافع لا بأس به، وهذا ظاهر ما روي عنه، وبهذا أخذ أصحابنا الفقهاء، فقالوا: يجوز حل السحر بالسحر للضرورة، وقال بعض أهل العلم: إنه لا يجوز حل السحر بالسحر، وحملوا ما روي عن ابن المسيب بأن المراد به ما لا يعلم عن حاله: هل هو سحر، أم غير سحر؟ أما إذا علم أنه سحر، فلا يحل، والله أعلم.
ولكن على كل حال حتى ولو كان ابن المسيب ومن فوق ابن المسيب ممن ليس قوله حجة يرى أنه جائز، فلا يلزم من ذلك أن يكون جائزاً في حكم الله حتى يعرض على الكتاب والسنة، وقد سئل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن النشرة؟ فقال: "هي من عمل الشيطان"(1).
* * *
وروي عن الحسن، أنه قال: "لا يحل السحر إلا ساحر"(2)
__________
(1) تقدم (ص 553).
(2) فتح الباري (10/233)(10/415)
قال ابن القيم: "النشرة: حل السحر عن المسحور، وهي نوعان: أحدهما: حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمل قول الحسن، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور. والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة، فهذا جائز".
قوله: "وروي عن الحسن: لا يحل السحر إلا ساحر". هذا الأثر إن صح، فمراد الحسن الحل المعروف غالباً، وأنه لا يقع إلا من السحرة.
قوله: "قال ابن القيم: النشرة حل السحر عن المسحور..." إلخ.
هذا الكلام جيد ولا مزيد عليه.
* * *
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن النشرة. الثانية: الفرق بين المنهي عنه والمرخص فيه مما يزيل الإشكال.
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن النشرة. تؤخذ من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "هي من عمل الشيطان"، وهنا ليس فيه صيغة نهي، لكن فيه ما يدل على النهي، لأن طرق إثبات النهي ليست الصيغة فقط، بل ذم فاعله ونحوه، وتقبيح الشيء وما أشبه ذلك يدل على النهي.
الثانية: الفرق بين المنهي عنه والمرخص فيه. تؤخذ من كلام ابن القيم رحمه الله وتفصيله.
* إشكال وجوابه:
ما الجمع بين قول الفقهاء رحمهم الله يجوز حل السحر بالسحر، وبين قولهم يجب قتل الساحر؟
الجمع أن مرادهم بقتل الساحر من يضر بسحره دون من ينفع، فلا يقتل، أو أن مرادهم بيان حكم حل السحر بالسحر للضرورة، وأما الإبقاء على الساحر، فله نظر آخر، والله أعلم.
* * *
باب ما جاء في التطير
* تعريف التطير:
واللغة: مصدر تطير، وأصله مأخوذ من الطير، لأ، العرب يتشاءمون أو يتفاءلون بالطيور على الطريقة المعروفة عندهم بزجر الطير، ثم ينظر: هل يذهب يميناً أو شمالاً أو ما أشبه ذلك، فإن ذب إلى الجهة التي فيها التيامن، أقدم، أو فيها التشاؤم، أحجم.(10/416)
أما في الاصطلاح، فهي التشاؤم بمرئي أو مسموع، وهذا من الأمور النادرة، لأن الغالب أن اللغة أوسع من الاصطلاح، لأن الاصطلاح يدخل على الألفاظ قيوداً تخصصها، مثل الصلاة لغة: الدعاء، وفي الاصطلاح أخص من الدعاء، وكذلك الزكاة وغيرها.
وإن شئت، فقل: التطير: هو التشاؤم بمرئي، أو مسموع، أو معلوم.
بمرئي مثل: لو رأى طيراً فتشاءم لكونه موحشاً.
أو مسموع مثل: من هم بأمر فسمع أحداً يقول لآخر: يا خسران، أو يا خائب، فيتشاءم.
أو معلوم، كالتشاؤم ببعض الأيام أو بعض الشهور أو بعض الشهور أو بعض السنوات، فهذه لا ترى ولا تسمع.
واعلم أن التطير ينافي التوحيد، ووجه منافاته له من وجهين:
الأول: أن المتطير قطع توكله على الله واعتمد على غير الله.
الثاني: أنه تعلق بأمر لا حقيقة له، بل هو وهم وتخييل، فأي رابطة بين هذا الأمر، وبين ما يحصل له، وهذا لا شك أنه يخل بالتوحيد، لأن التوحيد عبادة واستعانة، قال تعالى: { إياك نعبد وإياك نستعين } [الفاتحة: 4]، وقال تعالى: { فاعبده وتوكل عليه } [هود: 123].
فالطيرة محرمة، وهي منافية للتوحيد كما سبق، والمتطير لا يخلو من حالين:
الأول: أن يحجم ويستجيب لهذه الطيرة ويدع العمل، وهذا من أعظم التطير والتشاؤم.
الثاني: أن يمضي لكن في قلق وهم وغم يخشى من تأثير هذا المتطير به، وهذا أهون.
وكلا الأمرين نقص في التوحيد وضرر على العبيد، بل انطلق إلى ما تريد بانشراح صدر وتيسير واعتماد على الله ـ عز وجل ـ، ولا تسيء الظن بالله ـ عز وجل ـ.
* * *
وقول الله تعالى: { ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون } [الأعراف: 131].
وقد ذكر المؤلف رحمه الله في هذا الباب آيتين:
* الآية الأولى قوله تعالى: { ألا إنما طائرهم عند الله } .(10/417)
هذه الآية نزلت في قوم موسى كما حكى الله عنهم في قوله: { وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه } [الأعراف: 131]، قال الله تعالى: { ألا إنما طائرهم عند الله } ، ومعنى: { يطيروا بموسى ومن معه } : أنه إذا جاءهم البلاء والجدب والقحط قالوا: هذا من موسى وأصحابه، فأبطل الله هذه العقيدة بقوله: { ألا إنما طائرهم عند الله } .
قوله: { ألا إنما طائرهم عند الله } . { ألا } : أداة استفتاح تفيد التنبيه والتوكيد، و { إنما } : أداة حصر.
وقوله: { طائر } مبتدأ، و { عند الله } خبر، والمعنى: أن ما يصيبهم من الجدب والقحط ليس من موسى قومه، ولكنه من الله، فهو الذي قدره ولا علاقة لموسى وقومه به، بل إن الأمر يقتضي أن موسى وقومه سبب للبركة والخير، ولكن هؤلاء ـ والعياذ بالله ـ يلبسون على العوام ويوهمون الناس خلاف الواقع.
قوله: { ولكن أكثرهم لا يعلمون } . فهم في جهل، فلا يعلمون أن هناك إلهاً مدبراً، وأن ما أصابهم من الله وليس من موسى وقومه.
* * *
وقوله: { قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون } [يس: 19].
* الآية الثانية قوله تعالى: { قالوا طائركم معكم } .
أي: قال الذين أرسلوا إلى القرية في قوله تعلى: { وأضرب لهم مثلاً أصحاب القرية... } الآيات [يس: 13].
فقالوا ذلك رداً على قول أهل القرية: { إنا تطيرنا بكم } [يس: 18]، أي: تشاءمنا بكم، وإننا لا نرى أنكم تدلوننا على الخير، بل على الشر وما فيه هلاكنا، فأجابهم الرسل بقولهم: { طائركم معكم } ، أي: مصاحب لكم، فما يحصل لكم، فإنه منكم ومن أعمالكم، فأنتم السبب في ذلك.(10/418)
ولا منافاة بين هذه الآية والتي ذكرها المؤلف قبلها، لأن الأولى تدل على أن المقدر لها الشيء هو الله، والثانية تبين سببه، وهو أنه منهم، فهم في الحقيقة طائرهم معهم (أي الشؤم) الحاصل عليهم معهم ملازم لهم، لأن أعمالهم تستلزمه، كما قال تعالى: { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس } [الروم: 41]، وقال تعالى: { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون } [الأعراف: 96].
ويستفاد من الآيتين المذكروتين في الباب: أن التطير كان معروفاً من قبل العرب وفي غير العرب، لأن الأولى في فرعون وقومه، والثانية في أصحاب القرية.
وقوله: { أإن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون } . ينبغي أن تقف على قوله: { ذكرتم } ، لأنها جملة شرطية، وجواب الشرط محذوف تقديره: أإن ذكرتم تطيرتم، وعلى هذا، فلا تصلها بما بعدها.
وقوله: { بل أنتم قوم مسرفون } ، { بل } هنا للإضراب الإبطالي، أي: ما أصابكم ليس منهم، بل هو من إسرافكم.
وقوله: { مسرفون } . أي: متجاوزون للحد الذي يجب أن تكونوا عليه.
* * *
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر". أخرجاه(1)، وزاد مسلم(2): "ولا نوء، ولا غول".
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا عدوى". "لا" نافية للجنس، ونفي الجنس أعم من نفي الواحد والاثنين والثلاثة، لأنه نفي للجنس كله، فنفى الرسول - صلى الله عليه وسلم - العدوى كلها.
__________
(1) البخاري: كتاب الطب/ باب لا هامة، ومسلم: كتاب السلام/ باب لا عدوى ولا طيرة.
(2) في الموضع السابق (4/1744).(10/419)
والعدوى: انتقال المرض من المريض إلى الصحيح، وكما يكون في الأمراض الحسية يكون أيضاً في الأمراض المعنوية الخلقية، ولهذا أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن جليس السوء كنافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه رائحة كريهة(1).
فقوله: "لا عدوى" يشمل الحسية والمعنوية، وإن كانت في الحسية أظهر.
قوله: "ولا طيرة". اسم مصدر تطير، لأن المصدر منه تطير، مثل الخيرة اسم مصدر اختار، قال تعالى: { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } [الأحزاب: 36]، أي: الاختيار، أي يختاروا خلاف ما قضى الله ورسوله من الأمر.
واسم المصدر يوافق المصدر في المعنى، ولذلك تقول كلمته كلاماً بمعنى كلمته تكليماً، وسلمت عليه سلاماً بمعنى سلمت عليه تسليماً.
لكن لما كان يخالف المصدر في البناء سموه اسم مصدر، والطيرة تقدم أنها هي التشاؤم بمرئي أو مسموع أو معلوم(2).
قوله: "ولا هامة". الهامة، بتخفيف الميم فسرت بتفسيرين:
الأول: أنها طير معروف يشبه البومة، أو هي البومة، تزعم العرب أنه إذا قتل القتيل، صارت عظامه هامة تطير وتصرخ حتى يؤخذ بثأره، وربما اعتقد بعضهم أنها روحه.
التفسير الثاني: أن بعض العرب يقولون: الهامة هي الطير المعروف، لكنهم يتشاءمون بها، فإذا وقعت على بيت أحدهم ونعقت، قال: إنها تنعق به ليموت، ويعتقدون أن هذا دليل قرب أجله، وهذا كله ـ بلا شك ـ عقيدة باطلة.
قوله: "ولا صفر". قيل: إنه شهر صفر، كانت العرب يتشاءمون به ولا سيما في النكاح.
وقيل: إنه داء في البطن يصيب الإبل وينتقل من بعير إلى آخر، وعلى هذا، فيكون عطفه على العدوى من باب عطف الخاص على العام.
__________
(1) البخاري: كتاب البيوع/ باب في العطار وبيع المسك، ومسلم: كتاب البر والصلة/ باب استحباب مجالسة الصالحين.
(2) تقدم (ص 559).(10/420)
وقيل: إنه نهي عن النسيئة، وكانوا في الجاهلية ينسئون، فإذا أرادوا القتال في شهر المحرم استحلوه، وأخروا الحرمة إلى شهر صفر، وهذه النسيئة التي ذكرها الله بقوله تعالى: { فيحلوا ما حرم الله } [التوبة: 37]، وهذا القول ضعيف، ويضعفه أن الحديث في سياق التطير، وليس في سياق التغيير، والأقرب أن صفر يعني الشهر، وأن المراد نفي كونه مشؤوماً، أي: لا شؤم فيه، وهو كغيره من الأزمان يقدر فيه الخير ويقدر فيه الشر.
وهذا النفي في هذه الأمور الأربعة ليسس نفياً للوجود، لأنها موجودة، ولكنه نفي للتأثير، فالمؤثر هو الله، فما كان منها سبباً معلوماً، فهو سبب صحيح، وما كان منها سبباً موهوماً، فهو سبب باطل، ويكون نفياً لتأثيره بنفسه إن كان صحيحاً، ولكونه سبباً إن كان باطلاً.
فقوله: "لا عدوى": العدوى موجودة، ويدل لوجودها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يورد ممرض على مصح"(1)، أي: لا يورد صاحب الإبل المريضة على صاحب الإبل الصحيحة، لئلا تنتقل العدوى.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فر من المجذوم فرارك من الأسد"(2).
والجذام مرض خبيث معد بسرعة ويتلف صاحبه، حتى قيل: إنه الطاعون، فالأمر بالفرار من المجذوم لكي لا تقع العدوى منه إليك، وفيه إثبات لتأثير العدوى، لكن تأثيرها ليس أمراً حتمياً، بحيث تكون علة فاعلة، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفرار، وأن لا يورد ممرض على مصح من باب تجنب الأسباب لا من باب تأثير الأسباب بنفسها، فالأسباب لا تؤثر بنفسها، لكن ينبغي لنا أن نتجنب الأسباب التي تكون سبباً للبلاء، لقوله تعالى: { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } [البقرة: 195]، ولا يمكن أن يقال: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ينكر تأثير العدوى، لأن هذا أمر يبطله الواقع والأحاديث الأخرى.
__________
(1) مسلم: كتاب السلام/ باب لا عدوى ولا طيرة.
(2) البخاري في "الصحيح" تعليقاً في (كتاب الطب، باب الجذام).(10/421)
فإن قيل: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما قال: "لا عدوى. قال رجل: يا رسول الله الإبل تكون صحيحة مثل الظباء، فيدخلها الجمل الأجرب فتجرب؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فمن أعدى الأول؟"(1)، يعني أن المرض نزل على الأول بدون عدوى، بل نزل من عند الله ـ عز وجل ـ، فكذلك إذا انتقل بالعدوى فقد انتقل بأمر الله، والشيء قد يكون له سبب معلوم وقد لا يكون له سبب معلوم وقد لا يكون له سبب معلوم، فجرب الأول ليس سببه معلوماً، إلا أنه بتقدير الله تعالى، وجرب الذي بعده له سبب معلوم، لكن لو شاء الله تعالى لم يجرب، ولهذا أحياناً تصاب الإبل بالجرب، ثم يرتفع ولا تموت، وكذلك الطاعون والكوليرا أمراض معدية، وقد تدخل البيت فتصيب البعض فيموتون ويسلم آخرون ولا يصابون.
فعلى الإنسان أن يعتمد على الله، ويتوكل عليه، وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءه رجل مجذوم، فأخذ بيده وقال له: "كل" يعني من الطعام الذي كان يأكل منه الرسول - صلى الله عليه وسلم -"(2)، لقوة توكله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا التوكل مقاوم لهذا السبب المعدي.
وهذا الجمع الذي أشرنا إليه هو أحسن ما قيل في الجمع بين الأحاديث، وادعى بعضهم النسخ، فمنهم من قال: إن الناسخ قوله: "لا عدوى"، والمنسوخ قوله: "فر من المجذوم"، و"ولا يورد ممرض على مصح"، وبعضهم عكس، والصحيح أنه لا نسخ، لأن من شروط النسخ تعذر الجمع، وإذا أمكن الجمع وجب الرجوع إليه، لأن في الجمع إعمال الدليلين، وفي النسخ إبطال أحدهما، وإعمالهما أولى من إبطال أحدهما، لأننا اعتبرناهما وجعلناهما حجة، وأيضاً الواقع يشهد أنه لا نسخ.
__________
(1) البخاري: كتاب الطب/ باب لا صفر، ومسلم: كتاب السلام/ باب لا عدوى ولا طيرة.
(2) أبو داود: كتاب الطب/ باب في الطيرة، والترمذي: كتاب الأطعمة/ باب في الأكل مع المجذوم، وابن ماجة: كتاب الطب/ باب الجذام، والحاكم (4/139)، وصححه ووافقه الذهبي.(10/422)
وقوله: "ولا صفر". فيه ثلاثة أقوال سبقت، وبيان الراجح منها.
والأزمنة لا دخل لها في التأثير وفي تقدير الله ـ عز وجل ـ، فصفر كغيره من الأزمنة يقدر فيه الخير والشر، وبعض الناس إذا انتهى من شيء في صفر أرّخ ذلك وقال: انتهى في صفر الخير، وهذا من باب مداواة البدعة ببدعة، والجهل بالجهل، فهو ليس شهر خير ولا شهر شر.
أما شهر رمضان، قولنا: إنه شهر خير، فالمراد بالخير العبادة، ولا شك أنه شهر خير، وقولهم: رجب المعظم، بناء على أنه من الأشهر الحرم.
ولهذا أنكر بعض السلف على من إذا سمع البومة تنعق قال: خيراً إن شاء الله، فلا يقال: خير ولا شر، بل هي تنعق كبقية الطيور.
فهذه الأربعة التي نفاها الرسول - صلى الله عليه وسلم - تبين وجوب التوكل على الله وصدق العزيمة، ولا يضعف المسلم أما هذه الأشياء، لأن الإنسان لا يخلو من حالين:
إما أن يستجيب لها بأن يقدم أو يحجم أو ما أشبه ذلك، فيكون حينئذ قد علق أفعاله بما لا حقيقة له ولا أصل له، وهو نوع من الشرك.
وإما أن لا يستجيب بأن يكون عنده نوع من التوكل ويقدم ولا يبالي، لكن يبقى في نفسه نوع من الهم أو الغم، وهذا وإن كان أهون من الأول، لكن يجب ألا يستجيب لداعي هذه الأشياء التي نفاها الرسول - صلى الله عليه وسلم - مطلقاً، وأن يكون معتمداً على الله ـ عز وجل ـ.
وبعض الناس قد يفتح المصحف لطلب التفاؤل، فإذا نظر ذكر النار تشاءم، وإذا نظر ذكر الجنة قال: هذا فأل طيب، فهذا مثل عمل الجاهلية الذين يستقسمون بالأزلام.
فالحاصل أننا نقول: لا تجعل على بالك مثل هذه الأمور إطلاقاً، فالأسباب المعلومة الظاهرة تقي أسباب الشر، وأما الأسباب الموهومة التي لم يجعلها الشرع سبباً بل نفاها، فلا يجوز لك أن تتعلق بها، بل احمد الله على العافية، وقل: ربنا عليك توكلنا.
قوله: "لا نوء". واحد الأنواء، والأنواء: هي منازل القمر، وهي ثمان وعشرون منزلة، كل منزلة لها نجم تدور بمدار السنة.(10/423)
وهذه النجوم بعضها يسمى النجوم الشمالية، وهي لأيام الصيف، وبعضها يسمى النجوم الجنوبية، وهي لأيام الشتاء، وأجرى الله العادة أن المطر في وسط الجزيرة العربية يكون أيام الشتاء، أما أيام الصيف، فلا مطر.
فالعرب كانوا يتشاءمون بالأنواء، ويتفاءلون بها، فبعض النجوم يقولون: هذا نجم نحس لا خير فيه، وبعضها بالعكس يتفاءلون به فيقولون: هذا نجم سعود وخير، ولهذا إذا أمطروا قالوا: مطرنا بنوء كذا، ولا يقولون: مطرنا بفضل الله ورحمته، ولا شك أن هذا غاية الجهل.
ألسنا أدركنا هذا النوء بعينه في سنة يكون فيه مطر وفي سنة أخرى لا يكون فيه مطر؟
ونجد السنوات تمر بدون مطر مع وجود النجوم الموسمية التي كانت كثيراً ما يكون في زمنها الأمطار.
فالنوء لا تأثير له، فقولنا: طلع هذا النجم، كقولنا: طلعت الشمس، فليس له إلا طلوع وغروب، والنوء وقت تقدير، وهو يدل على دخول الفصول فقط.
وفي عصرنا الحاضر يعلق المطر بالضغط الجوي والمنخفض الجوي، وهذا وإن كان قد يكون سبباً حقيقياً، ولكن لا يفتح هذا الباب للناس، بل الواجب أن يقال: هذا من رحمة الله، هذا من فضله ونعمه، قال تعالى: { ألم تر أن الله يزجي سحاباً ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاماً فترى الودق يخرج من خلاله } [النور: 43]، وقال تعالى: { الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجله كسفاً فترى الودق يخرج من خلاله } [الروم: 48].
فتعليق المطر بالمنخفضات الجوية من الأمور الجاهلية التي تصرف الإنسان عن تعلقه بربه.
فذهبت أنواء الجاهلية، وجاءت المنخفضات الجوية، وما أشبه ذلك من الأقوال التي تصرف الإنسان عن ربه ـ سبحانه وتعالى ـ.
نعم، المنخفضات الجوية قد تكون سبباً لنزول المطر، لكن ليست هي المؤثر بنفسها، فتنبه.
قوله: "ولا غول". جمع غَولة أو غُولة، ونحن نسميها باللغة العامية: (الهولة)، لأنها تهول الإنسان.(10/424)
والعرب كانوا إذا سافروا أو ذهبوا يميناً وشمالاً تلونت لهم الشياطين بألوان مفزعة مخيفة، فتدخل في قلوبهم الرعب والخوف، فتجدهم يكتئبون ويستحسرون عن الذهاب إلى هذا الوجه الذي أرادوا، وهذا لاشك أنه يضعف التوكل على الله، والشيطان حريص على إدخال القلق والحزن على الإنسان بقدر ما يستطيع، قال تعالى: { إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئاً إلا بإذن الله } [المجادلة: 10].
وهذا الذي نفاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو تأثيرها، وليس المقصود بالنفي نفي الوجود، وأكثر ما يبتلى الإنسان بهذه الأمور إذا كان قلبه معلقاً بها، أما إن كان معتمدا على الله غير مبال بها، فلا تضره ولا تمنعه عن جهة قصده.
* * *
ولهما عن أنسٍ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا عدوى، ولا طيرة، ويعجبني الفأل". قالوا: وما الفأل؟ قال: "الكلمة الطيبة"(1).
قوله في حديث أنس: "لا عدوى، ولا طيرة". تقدم الكلام على ذلك.
قوله: "ويعجبني الفأل". أي: يسرني، والفأل بينه بقوله: "الكلمة الطيبة". فـ"الكلمة الطيبة" تعجبه - صلى الله عليه وسلم -، لما فيها من إدخال السرور على النفس والانبساط، والمضي قدماً لما يسعى إليه الإنسان، وليس هذا من الطيرة، بل هذا مما يشجع الإنسان، لأنها لا تؤثر عليه، بل تزيده طمأنينة وإقداماً وإقبالاً.
وظاهر الحديث: الكلمة الطيبة في كل شيء، لأن الكلمة الطيبة في الحقيقة تفتح القلب وتكون سبباً لخيرات كثيرة، حتى إنها تدخل المرء في جملة ذوي الأخلاق الحسنة.
__________
(1) تقدم (ص 516).(10/425)
وهذا الحديث جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه بين محذورين ومرغوب، فالمحذوران هما العدوى والطيرة، والمرغوب هو الفأل، وهذا من حسن تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمن ذكر المرهوب ينبغي أن يذكر معه ما يكون مرغوباً، ولهذا كان القرآن مثاني إذا ذكر أوصاف المؤمنين ذكر أوصاف الكافرين، وإذا ذكر العقوبة ذكر المثوبة، وهكذا.
قوله: "عن عقبة بن عامر". صوابه عن عروة بن عامر، كما ذكره في "التيسير"، وقد اختلف في نسبه وصحبته.
قوله: "ذكرت الطيرة عند رسول الله". وهذا الذكر إما ذكر شأنها، أو ذكر أن الناس يفعلونها، والمراد: تحدث الناس بها عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
ولأبي داود ـ بسند صحيح ـ عن عقبة بن عامر، قل: ذكرت الطيَرَة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أحسنها الفأل، ولا ترد مسلماً، فإذا رأى أحدكم ما يكره، فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك"(1).
قوله: "أحسنها الفأل". سبق أن الفأل ليس من الطيرة(2)، لكنه شبيه بالطيرة من حيث الإقدام، فإنه يزيد الإنسان نشاطاً وإقداماً فيما توجه إليه، فهو يشبه الطيرة من هذا الوجه، وإلا، فبينهما فرق لأن الطيرة توجب تعلق الإنسان بالمتطير به، وضعف توكله على الله، ورجوعه عما هم به من أجل ما رأى، لكن الفأل يزيده قوة وثباتاً ونشاطاً، فالشبه بينهما هو التأثير في كل منهما.
قوله: "ولا ترد مسلماً". يفهم منه أن من ردته الطيرة عن حاجته فليس بمسلم.
قوله: "فإذا رأى أحدكم ما يكره". فحينئذ قد ترد على قلبه الطيرة، ويبتعد عما يريد، ولا يقدم عليه، وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - دواء لذلك وقال: "فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات...." إلخ.
__________
(1) أبو داود (كتاب الطب، باب في الطيرة)، والبيهقي في "السنن" (8/139). قال النووي في "رياض الصالحين" (ص 620): "رواه أبو داود بإسناد صحيح".
(2) ص 570).(10/426)
قوله: "اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت". وهذا هو حقيقة التوكل، وقوله: "اللهم". يعني: يا الله، ولهذا بنيت على الضم، لأن المنادى علم، بل هو أعلم الأعلام وأعرف المعارف على الإطلاق، والميم عوض عن يا المحذوفة، وصارت في آخر الكلمة تبركاً بالابتداء باسم الله ـ سبحانه وتعالى ـ، وصارت ميماً، لأنها تدل على الجمع، فكأن الداعي جمع قلبه على الله.
قوله: "لا يأتي بالحسنات إلا أنت". أي: لا يقدرها ولا يخلقها ولا يوجدها للعبد إلا الله وحده لا شريك له، وهذا لا ينافي أن تكون الحسنات بأسباب، لأن خالق هذه الأسباب هو الله، فإذا وجدت هذه الحسنات بأسباب خلقها الله، صار الموجد هو الله.
والمراد بالحسنات: ما يستحسن المرء وقوعه، ويحسن في عينه.
ويشمل ذلك الحسنات الشرعية، كالصلاة والزكاة وغيرها، لأنها تسر المؤمن، ويشمل الحسنات الدنيوية، كالمال والولد ونحوها، قال تعالى: { إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولون قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون } [التوبة: 50]، وقال تعالى في آية أخرى: { إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها } [آل عمران: 120].
وقوله: "إلا أنت". فاعل يأتي، لأن الاستثناء هنا مفرغ.
قوله: "ولا يدفع السيئات إلا أنت". السيئات: ما يسوء المرء وقوعه وينفر منه حالاً أو مآلاً، ولا يدفعها إلا الله، ولهذا إذا أصيب الإنسان بمصيبة التجأ إلى ربه تعالى، حتى المشركون إذا ركبوا في الفلك، وشاهدوا الغرق، دعوا الله مخلصين له الدين.
ولا ينافي هذا أن يكون دفعها بأسباب، فمثلاً لو رأى رجلاً غريقاً، فأنقذه فإنما أنقذه بمشيئة الله، ولو شاء الله لم ينقذه، فالسبب من الله.(10/427)
فعقيدة كل مسلم أنه لا يأتي بالحسنات إلا الله، ولا يدفع السيئات إلا الله، ولا يدفع السيئات إلا الله، وبمقتضى هذه العقيدة، فإنه يجب أن لا يسأل المسلم الحسنات ولا يسأل دفع السيئات إلا من الله، ولهذا كان الرسل صلوات الله وسلامه عليهم يسألون الله الحسنات ويسألون دفع السيئات، قال تعالى عن ذكريا: { رب هب لي من لدنك ذرية طيبة } [آل عمران: 38]، وقال تعالى عن أيوب: { وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين } [الأنبياء: 83]، وهكذا يجب أن يكون المؤمن أيضاً.
قوله: "ولا حول ولا قوة إلا بك". في معناها وجهان:
الأول: أنه لا يوجد حول ولا قوة إلا بالله، فالباء بمعنى في، يعني: إلا في الله وحده، ومن سواه ليس لهم حول ولا قوة، ويكون الحول والقوة المنفيان عن غير الله هما الحول المطلق والقوة المطلقة، لأن غير الله فيه حول وقوة، لكنها نسبية ليست بكاملة، فالحول الكامل والقوة الكاملة في الله وحده.
الثاني: أنه لا يوجد لنا حول ولا قوة إلا بالله، فالباء للاستعانة أو للسببية، وهذا المعنى أصح، وهو مقتضى ورودها في مواضعها، إذ إننا لا نتحول من حول إلى حول ولا نقوى على ذلك إلا بالله فيكون في هذه الجملة كمال التفويض إلى الله، وأن الإنسان يبرأ من حوله وقوته إلا بما أعطاه الله من الحول والقوة.
فإن صح الحديث، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أرشدنا إذا رأينا ما نكره مما يتشاءم به المتشائم أن نقول: "اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك".
* * *(10/428)
وعن ابن مسعود مرفوعاً: "الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل" رواه أبو داود والترمذي وصححه(1). وجعل آخره من قول ابن مسعودٍ.
قوله: "مرفوعاً". أي: إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: "الطيرة شرك، الطيرة شرك". هاتان الجملتان يؤكد بعضهما بعضاً من باب التوكيد اللفظي.
وقوله: "شرك". أي: إنها من أنواع الشرك، وليس الشرك كله، وإلا، لقال: الطيرة الشرك.
وهل المراد بالشرك هنا الشرك الأكبر المخرج من الملة، أو أنها نوع من أنواع الشرك؟
نقول: هي نوع من أنواع الشرك، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اثنتان في الناس هما بهم كفر"(2)، أي: ليس الكفر المخرج عن الملة، وإلا، لقال: "هما بهم الكفر"، بل هما نوع من الكفر.
لكن في ترك الصلاة قال: "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة"(3)، فقال: "الكفر"، فيجب أن نعرف الفرق بين "أل" المعرفة أو الدالة على الاستغراق، وبين خلو اللفظ منها، فإذا قيل: هذا كفر، فالمراد أنه نوع من الكفر لا يخرج من الملة، وإذا قيل: هذا الكفر، فهو المخرج من الملة.
فإذا تطير إنسان بشيء رآه أو سمعه، فإنه لا يعد مشركاً شركاً يخرجه من الملة، لكنه أشرك من حيث إنه اعتمد على هذا السبب الذي لم يجعله الله سبباً، وهذا يضعف التوكل على الله ويوهن العزيمة، وبذلك يعتبر شركاً من هذه الناحية، والقاعدة: "إن كل إنسان اعتمد على سبب لم يجعله الشرع سبباً، فإنه مشرك شركاً أصغر".
__________
(1) الإمام أحمد في "المسند" (1/389)، وأبو داود: كتاب الطب/ باب في الطيرة)، والترمذي: كتاب السير/ باب ما جاء في الطيرة ـ وقال: "حسن صحيح" ـ ، والحاكم (1/23) ـ وصححه ووافقه الذهبي.
(2) مسلم: كتاب الإيمان/ باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب.
(3) أخرجه مسلم (كتاب الإيمان، باب إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة).(10/429)
وهذا نوع من الإشراك مع الله، إما في التشريع إن كان هذا السبب شرعياً، وإما في التقدير إن كان هذا السبب كونياً، لكن لو اعتقد هذا المتشائم المتطير أن هذا فاعل بنفسه دون الله، فهو مشرك شركاً أكبر، لأنه جعل لله شريكاً في الخلق والإيجاد.
قوله: "وما منا". "منا": جار ومجرور خبر لمبتدأ محذوف، إما قبل (إلا) إن قدرت ما بعد إلا فعلاً، أي: وما منا أحد إلا تطير، أو بعد (إلا)، أي: وما منا إلا متطير.
والمعنى: ما منا إنسان يسلم من التطير، فالإنسان يسمع شيئاً فيتشاءم، أو يبدأ في فعل، فيجد أوله ليس بالسهل فيتشاءم ويتركه.
والتوكل: صدق الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار مع الثقة بالله، وفعل الأسباب التي جعلها الله تعالى أسباباً.
فلا يكفي صدق الاعتماد فقط، بل لابد أن تثق به، لأنه سبحانه يقول: { من يتوكل على الله فهو حسبه } !
قوله: "وجعل آخره من قول ابن مسعود". وهو قوله: "وما منا إلا..." إلخ.
وعلى هذا يكون موقوفاً، وهو مدرج في الحديث، والمدرج: أن يدخل أحد الرواة كلاماً في الحديث من عنده بدون بيان، ويكون في الإسناد والمتن، ولكن أكثره في المتن، وقد يكون في أول الحديث، وقد يكون في وسطه، وقد يكون في آخره، وهو الأكثر.
مثال ما كان في أول الحديث: قول أبي هريرة رضي الله عنه: "أسبغوا الوضوء، وبل للأعقاب من النار"(1)، فقوله: "أسبغوا الوضوء" من كلام أبي هريرة، وقوله: "ويل للأعقاب من النار" من كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) البخاري: كتاب الوضوء/ باب غسل الأعقاب، ومسلم: كتاب الطهارة/ باب وجوب غسل الرجلين.(10/430)
ومثال ما كان في وسطه قول الزهري في حديث بدء الوحي: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحنث في غار حراء، والتحنث: التعبد"(1)، ومثال ما كان في آخره: هذا الحديث الذي ذكره المؤلف، وكذا حديث أبي هريرة، وفيه: "فمن استطاع منكم أن يطيل غرته، فليفعل"(2)، فهذا من كلام أبي هريرة.
ولأحمد من حديث ابن عمرو "من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك قالوا: فما كفارة ذلك، قال: أن تقولوا اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك"(3).
قوله: "من ردته الطيرةعن حاجته". "من". شرطية، وجواب الشرط: "فقد أشرك"، واقترن الجواب بالفاء، لأنه لا يصلح لمباشرة الأداة، وحينئذ يجب اقترانه بالفاء، وقد جمع ذلك في بيت شعر معروف، وهو قوله:
اسمية طلبية وبجامد ... ... ... وبما وقد وبلن وبالتنفيس
وقوله: "عن حاجته" الحاجة: كل ما يحتاجه الإنسان بما تتعلق به الكمالات، وقد تطلق عن الأمور الضرورية.
قوله: "فقد أشرك". أي: شركاً أكبر إن اعتقد أن هذا المتشاءم به يفعل ويحدث الشر بنفسه، وإن اعتقده سبباً فقط فهو أصغر، لأنه سبق أن ذكرنا قاعدة مفيدة في هذا الباب، وهي: "إن كل من اعتقد في شيء أنه سبب ولم يثبت أنه سبب لا كوناً ولا شرعاً، فشركه شرك أصغر، لأنه ليس لنا أن نثبت أن هذا سبب إلا إذا كان الله قد جعله سبباً كونياً أو شرعياً، فالشرعي: كالقراءة والدعاء، والكوني: كالأدوية التي جرب نفعها".
__________
(1) البخاري: كتاب بدء الوحي/ باب كيف بدء الوحي، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب بدء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(2) البخاري: كتاب الوضوء/ باب فضل الوضوء، ومسلم: كتاب الطهارة/ باب استحباب إطالة الغرة.
(3) الإمام أحمد في المسند (2/220).(10/431)
وقوله: "فما كفارة ذلك". أي: ما كفارة هذا الشرك، أو ما هو الدواء الذي يزيل هذا الشرك؟ لأنه الكفارة قد تطلق على كفارة الشيء بعد فعله، وقد تطلق على الكفارة قبل الفعل، وذلك لأن الاشتقاق مأخوذ من الكفر، وهو الستر، والستر واق، فكفارة ذلك إن وقع وكفارة ذلك إن لم يقع.
وقوله: "اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك". يعني: فأنت الذي بيدك الخير المباشر، كالمطر والنبات، وغير المباشر، كالذي يكون سببه من عند الله على يد مخلوق، مثل: أن يعطيك إنسان دراهم صدقة أو هدية، وما أشبه ذلك، فهذا الخير من الله، لكن بواسطة جعلها الله سبباً، وإلا، فكل الخير من الله ـ عز وجل ـ.
وقوله: "فلا خير إلا خيرك". هذا الحصر حقيقي، فالخير كله من الله، سواء كان بسبب معلوم أو بغيره.
وقوله: "لا طير إلا طيرك". أي: الطيور كلها ملكك، فهي لا تفعل شيئاً، وإنما هي مسخرة، قال تعالى: { أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير } [الملك: 19]، وقال تعالى: { ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } [النحل: 72]، فالمهم أن الطير مسخرة بإذن الله، فالله تعالى هو الذي يدبرها ويصرفها ويسخرها تذهب يميناً وشمالاً، ولا علاقة لها بالحوادث.
ويحتمل أن المراد بالطير هنا ما يتشاءم به الإنسان، فكل ما يحدث للإنسان من التشاؤم والحوادث المكروهة، فإنه من الله كما أن الخير من الله، كما قال تعالى: { ألا إنما طائرهم عند الله } [الأعراف: 131].
لكن سبق لنا أن الشر في فعل الله ليس بواقع، بل الشر في المفعول لا في الفعل، بل فعله تعالى كله خير، إما خير لذاته، وإما لما يترتب عليه من المصالح العظيمة التي تجعله خيراً.
فيكون قوله: "لا طير إلا طيرك" مقابلاً لقوله: "ولا خير إلا خيرك".(10/432)
قوله: "ولا إله غيرك". "لا" نافية للجنس، و"إله" بمعنى: مألوه، كغراس بمعنى مغروس، وفراش بمعنى مفروش، والمألوه: هو المعبود محبة وتعظيماً يتأله إليه الإنسان محبة له وتعظيماً له.
فإن قيل: إن هناك آلهة دون الله، كما قال تعالى: { فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء } [هود: 101].
أجيب: أنها وإن عبدت من دون الله وسميت آلهة، فليست آلهة حقاً لأنها لا تستحق أن تعبد، فلهذا نقول: لا إله إلا الله، أي: لا إله حق إلا الله.
* يستفاد من هذا الحديث:
أنه لا يجوز للإنسان أن ترده الطيرة عن حاجته، وإنما يتوكل على الله ولا يبالي بما رأى أو سمع أو حدث له عند مباشرته للفعل أول مرة، فإن بعض الناس إذا حصل له ما يكره في أول مباشرته الفعل تشاءم، وهذا خطأ، لأنه مادامت هناك مصلحة دنيوية أو دينية، فلا تهتهم بما حدث.
أن الطيرة نوع من الشرك، لقوله: "من ردته الطيرة عن حاجته، فقد أشرك".
أ، من وقع في قلبه التطير ولم ترده الطيرة، فإن ذلك لا يضر كما سبق في حديث ابن مسعود: "وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل"(1).
أن الأمور بيد الله خيرها وشرها.
انفراد الله بالألوهية، كما انفرد بالخلق والتدبير.
* * *
وله من حديث الفضل بن عباس: "إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك"(2).
قوله في حديث الفضل: "إنما الطيرة". هذه الجملة عند البلاغيين تسمى حصراً، أي: ما الطيرة إلا ما أمضاك أو ردك لا ما حدث في قلبك ولم تلتفت إليه، ولا ريب أن السلامة منها حتى في تفكير الإنسان خير بلا شك، لكن إذا وقعت في القلب ولم ترده ولم يلتفت لها، فإنها لا تضره، لكن عليه أن لا يستسلم، بل يدافع، إذ الأمر كله بيد الله.
قوله: "ما أمضاك أو ردك". أما "ما ردك"، فلا شك أنه من الطيرة، لأن التطير يوجب الترك والتراجع.
وأما "ما أمضاك"، فلا يخلو من أمرين:
__________
(1) تقدم (ص 89).
(2) الإمام أحمد في "المسند"، وقال الشيخ حفظه الله: "في سنده مقال" (ص 580).(10/433)
الأول: أن تكون من جنس التطير، وذلك بأن يستدل لنجاحه أو عدم نجاحه بالتطير، كما لو قال: سأزجر هذا الطير، فإذا ذهب إلى اليمين، فمعنى ذلك اليمن والبركة، فيقدم، فهذا لا شك أنه تطير، لأن التفاؤل بمثل انطلاق الطير عن اليمين غير صحيح، لأنه لا وجه له، إذا الطير إذا طار، فإنه يذهب إلى الذي يرى أن وجهته، فإذا اعتمد عليه، فقد اعتمد على سبب لم يجعله الله سبباً، وهو حركة الطير.
الثاني: أن يكون سبب المضي كلاماً سمعه أو شيئاً شاهده يدل على تيسير هذا الأمر له، فإن هذا فأل، وهو الذي يعجب النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكن إن اعتمد عليه وكان سبباً لإقدامه، فهذا حكمه حكم الطيرة، وإن لم يعتمد عليه ولكنه فرح ونشط وازداد نشاطاً في طلبه، فهذا من الفأل المحمود.
والحديث في سنده مقال، لكن على تقدير صحته هذا حكمه.
* * *
فيه مسائل:
الأولى: التنبيه على قوله: { ألا إنما طائرهم عند الله } [الأعراف: 131]، مع قوله: { طائركم معكم } [يس: 19]. الثانية: نفي العدوى. الثالثة: نفي الطيرة. الرابعة: نفي الهامة. الخامسة: نفي الصفر السادسة: أن الفأل ليس من ذلك بل مستحب.
فيه مسائل:
الأولى: التنبيه على قوله: { ألا إنما طائرهم عند الله } ، مع قوله: { طائركم معكم } .
أي: لكي ينتبه الإنسان، فإن ظاهر الآيتين التعارض، وليس كذلك، فالقرآن والسنة لا تعارض بينهما ولا تعارض في ذاتهما، إنما يقع التعارض حسب فهم المخاطب، وقد سبق بيان الجمع أن قوله: { ألا إنما طائرهم عند الله } أن الله هو المقدر ذلك، وليس موسى ولا غيره من الرسل، وأن قوله: { طائركم معكم } من باب السبب، أي: أنتم سببه.
الثانية: نفي العدوى. وقد سبق أن المراد بنفيها نفي تأثيرها بنفسها لا أنها سبب للتأثير، لأن الله قد جعل بعض الأمراض سبباً للعدوى وانتقالها.
الثالثة: نفي الطيرة. أي: نفي التأثير لا نفي الوجود.(10/434)
الرابعة: نفي الهامة. والخامسة: نفي الصفر. وقد سبق تفسيرهما.
السادسة: أن الفأل ليس من ذلك، بل مستحب. تؤخذ من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يعجبني الفأل"(1)، وكل ما أعجب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهو حسن، قالت عائشة رضي الله عنها: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله"(2).
* * *
السابعة: تفسير الفأل. الثامنة: أن الواقع في القلوب من ذلك مع كراهية لا يضر بل يذهبه الله بالتوكل. التاسعة: ذكر ما يقول من وجده.
السابعة: تفسير الفأل. فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه: الكلمة الطيبة، وسبق أن هذا التفسير على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، لأن الفأل كل ما ينشط الإنسان على شيء محمود، من قول، أو فعل مرئي أو مسموع.
الثامنة: أن الواقع في القلوب من ذلك مع كراهته لا يضر، بل يذهبه الله بالتوكل. أي: إذا وقع في قلبك وأنت كاره له، فإنه لا يضرك ويذهبه الله بالتوكل، لقول ابن مسعود: "وما منا إلا... ولكن الله يذهبه بالتوكل"(3).
التاسعة: ذكر ما يقول من وجده. وسبق أنه شيئان:
أن يقول: "اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك". أو يقول: "اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك".
* * *
العاشرة: التصريح بأن الطيرة شرك. الحادية عشرة: تفسير الطيرة المذمومة.
العاشرة: التصريح بأن الطيرة شرك. وسبق أن الطيرة شرك، لكن بتفصيل، فإن اعتقد تأثيرها بنفسها، فهو شرك أكبر، وإن اعتقد أنها سبب، فهو شرك أصغر.
الحادية عشرة: تفسير الطيوة المذمومة. أي: ما أمضاك أو ردك.
باب ما جاء في التنجيم
التنجيم: مصدر نجم بتشديد الجيم، أي: تعلم علم النجوم، أو اعتقد تأثير النجوم.
__________
(1) تقدم (ص 516).
(2) البخاري: كتاب الوضوء/ باب التيمن في الوضوء والغسل، ومسلم: كتاب الطهارة/ باب التيمن في الطهور.
(3) تقدم ( ص 574).(10/435)
وعلم النجوم ينقسم إلى قسمين:
1- علم التأثير. ... ... ... ... 2- علم التسيير.
فالأول: علم التأثير. وهذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
أن يعتقد أن هذه النجوم مؤثرة فاعلة، بمعنى أنها هي التي تخلق الحوادث والشرور، فهذا شرك أكبر، لأن من ادعى أن مع الله خالقاً، فهو مشرك شركاً أكبر، فهذا جعل المخلوق المسخر خالقاً مسخراً.
أن يجعلها سبباً يدعي به علم الغيب، فيستدل بحركاتها وتنقلاتها وتغيراتها على أنه سيكون كذا وكذا، لأن النجم الفلاني صار كذا وكذا، مثل أن يقول: هذا الإنسان ستكون حياته شقاء، لأنه ولد في النجم الفلاني، وهذا حياته ستكون سعيدة لأنه ولد في النجم الفلاني. فهذا اتخذ تعلم النجوم وسيلة لادعاء علم الغيب، ودعوى علم الغيب كفر مخرج عن الملة، لأن الله يقول: { قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله } [النمل: 65]، وهذا من أقوى أنواع الحصر، لأنه بالنفي والإثبات، فإذا ادعى أحد علم الغيب، فقد كذب القرآن.
أن يعتقدها سبباً لحدوث الخير والشر، أي أنه إذا وقع شيء نسبة إلى النجوم، ولا ينسب إلى النجوم شيئاً إلا بعد وقوعه، فهذا شرك أصغر.
فإن قيل: ينتقض هذا بما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله في الكسوف: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده"(1)، فمعنى ذلك أنهما علامة إنذار.
والجواب من وجهين:
الأول: أنه لا يسلم أن للكسوف تأثيراً في الحوادث والعقوبات من الجدب والقحط والحروب، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته"(2)، لا في ما مضى ولا في المستقبل، وإنما يخوف الله بهما العباد لعلهم يرجعون، وهذا أقرب.
الثاني: أنه لو سلمنا أن لهما تأثيراً، فإن النص قد دل على ذلك، وما دل عليه النص يجب القول به، لكن يكون خاصاً به.
__________
(1) ، (2) البخاري: كتاب الكسوف/ باب الصدقة في الكسوف، ومسلم: كتاب الكسوف/ باب ذكر النداء بصلاة الكسوف.(10/436)
لكن الوجه الأول هو الأقرب: أننا لا نسلم أصلاً أن لهما تأثيراً في هذا، لأن الحديث لا يقتضيه، فالحديث ينص على التخويف، والمخوف هو الله تعالى، والمخوف عقوبته، ولا أثر للكسوف في ذلك، وإنما هو علامة فقط.
الثاني: علم التيسير. وهذا ينقسم إلى قسمين:
الأول: أن يستدل بسيرها على المصالح الدينية، فهذا مطلوب، وإذا كان يعين على مصالح دينية واجبة كان تعلمها واجباً، كما لو أراد أن يستدل بالنجوم على جهة القبلة، فالنجم الفلاني يكون ثلث الليل قبلة، والنجم الفلاني يكون ربع الليل قبلة، فهذا فيه فائدة عظيمة.
الثاني: أن يستدل بسيرها على المصالح الدنيوية، فهذا لا بأس به، وهو نوعان:
النوع الأول: أن يستدل بها على الجهات، كمعرفة أن القطب يقع شمالاً، والجدي وهو قريب منه يدور حوله شمالاً، وهكذا، فهذا جائز، قال تعالى: { وعلامات وبالنجم هم يهتدون } [النحل: 16].
النوع الثاني: أن يستدل بها على الفصول، وهو ما يعرف بتعلم منازل القمر، فهذا كرهه بعض السلف، وأباحه آخرون.
والذين كرهوه قالوا: يخشى إذا قيل: طلع النجم الفلاني، فهو وقت الشتاء أو الصيف: أن بعض العامة يعتقد أنه هو الذي يأتي بالبرد أو البحر أو بالرياح.
والصحيح عدم الكراهة، كما سيأتي إن شاء الله(1).
* * *
قال البخاري في "صحيحه": "قال قتادة: خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك، أخطِأ، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به"(2) انتهى.
قوله في أثر قتادة: "خلق الله هذه النجوم لثلاث". اللام للتعليل، أي: لبيان العلة والحكمة.
قوله: "لثلاث". ويجوز لثلاثة، لكن الثلاث أحسن، أي: لثلاث حكم، لهذا حذف تاء التأنيث من العدد.
والثلاث هي:
__________
(1) أنظر (ص 105)
(2) البخاري: كتاب بدء الخلق، باب في النجوم، معلقاً.(10/437)
الأولى: زينة للسماء، قال تعالى: { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين } [الملك: 5]، لأن الإنسان إذا رأى السماء صافية في ليلة غير مقمرة وليس فيها كهرباء يجد لهذه النجوم من الجمال العظيم ما لا يعلمه إلا الله، فتكون كأنها غابة محلاة بأنواع من الفضة اللامعة، هذه نجمة مضيئة كبيرة تميل إلى الحمرة، وهذه تميل إلى الزرقة، وهذه خفيفة، وهذه متوسطة، وهذا شيء مشاهد.
وهل نقول: إن ظاهر الآية الكريمة أن النجوم مرصعة في السماء، أو نقول: لا يلزم ذلك؟
الجواب: لا يلزم من ذلك أن تكون النجوم مرصعة في السماء، قال تعالى: { وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون } [الأنبياء: 33]، أي: يدورون، كل له فلك.
وأنا شاهدت بعيني أن القمر خسف نجمة من النجوم، أي غطاها، وهي من النجوم اللامعة الكبيرة كان يقرب حولها في آخر الشهر، وعند قرب الفجر غطاها، فكنا لا نراها بالمرة، وذلك قبل عامين في آخر رمضان.
إذن هي أفلاك متفاوتة في الارتفاع والنزول، ولا يلزم أن تكون مرصعة في السماء.
فإن قيل: فما الجواب عن قوله تعالى: { زينا السماء الدنيا } ؟
قلنا: إنها لا يلزم من تزيين الشيء بالشيء أن يكون ملاصقاً له، أرأيت لو أن رجلاً عمر قصراً وجعل حوله ثريات من الكهرباء كبيرة وجميلة، وليست على جدرانه، فالناظر إلى القصر من بعد يرى أنها زينة له، وإن لم تكن ملاصقة له.(10/438)
الثانية: رجوماً للشياطين، أي: لشياطين الجن، وليسوا شياطين الإنس، لأن شياطين الإنس لم يصلوها، لكن شياطين الجن وصلوها، فهم أقدر من شياطين الإنس، ولهم قوة عظيمة نافذة، قال تعالى عن عملهم الدال على قدرتهم: { والشياطين كل بناء وغواص } [ص: 37]، أي: سخرنا لسليمان: { وآخرين مقرنين في الأصفاد } [ص: 38]، وقال تعالى: { قال عفريت من الجن أنا أتيك به قبل أن تقوم من مقامك } [النمل: 39]، أي: من سبأ إلى الشام، وهو عرش عظيم لملكة سبأ، فهذا يدل على قوتهم وسرعتهم ونفوذهم.
وقال تعالى: { وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً } [الجن: 9]. والرجم: الرمي.
الثالثة: علامات يهتدى بها، تؤخذ من قوله تعالى: { وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهاراً وسبلاً لعلكم تهتدون * وعلامات وبالنجم هم يهتدون } [النحل: 16]، فذكر الله تعالى نوعين من العلامات التي يهتدى بها:
الأول: أرضية، وتشمل كل ما جعل الله في الأرض من علامة، كالجبال، والأنهار، والطرق، والأودية، ونحوها.
والثاني: أفقية في قوله تعالى: { وبالنجم هم يهتدون } .
والنجم: اسم جنس يشمل كل ما يهتدى به، ولا يختص بنجم معين، لأن كل قوم طريقة في الاستدلال بهذه النجوم على الجهات، سواء جهات القبلة أو المكان، براً أو بحراً.
وهذا من نعمة الله أن جعل علامات علوية لا يحجب دونها شيء، وهي النجوم، لأنك في الليل لا تشاهد جبالاً ولا أودية، وهذا من تسخير الله، قال تعالى: { وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه } [الجاثية: 13].
* * *
وكره قتادة تعلم منازل القمر. ولم يرخص ابن عيينة فيه. ذكره حرب عنهما. ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق.
قوله: "وكره قتادة تعلم منازل القمر". أي: كراهة تحريم بناءً على أن الكراهة في كلام السلف يراد بها التحريم غالباً.
وقوله: "تعلم منازل القمر" يحتمل أمرين(10/439)
الأول: أن المراد به معرفة منزلة القمر، الليلة يكون في الشرطين، ويكون في الإكليل، فالمراد معرفة منازل القمر كل ليلة، لأن كل ليلة له منزلة حتى يتم ثمانياً وعشرين وفي تسع وعشرين وثلاثين لا يظهر في الغالب.
الثاني: أن المراد به تعلم منازل النجوم، أي: يخرج النجم الفلاني، في اليوم الفلاني وهذه النجوم جعلها الله أوقاتاً للفصول، لأنها [28] نجماً، منها [14] يمانية، و[14] شمالية، فإذا حلت الشمس في المنازل الشمالية صار الحر، وإذا حلت في الجنوبية صار البرد، ولذلك كان من علامة دنو البرد خروج سهيل، وهو من النجوم اليمانية.
قوله: "ولم يرخص فيه ابن عيينة". هو سفيان بن عيينة المعروف، وهذا يوافق قول قتادة بالكراهة.
قوله: "وذكره حرب". من أصحاب أحمد، روى عنه مسائل كثيرة.
قوله: "إسحاق". هو إسحاق بن راهويه.
والصحيح أنه لا بأس بتعلم منازل القمر، لأنه لا شرك فيها، إلا أن تعلمها ليضيف إليها نزول المطر وحصول البرد، وأنها هي الجالبة لذلك، فهذا نوع من الشرك، أما مجرد معرفة الوقت بها: هل هو الربيع، أو الخريف، أو الشتاء، فهذا لا بأس به.
* * *
وعن أبي موسى، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر" رواه أحمد وابن حبان في "صحيحه"(1)
قوله في حديث أبي موسى: "الجنة". هي الدار التي أعدها الله لأوليائه المتقين، وسميت بذلك، لكثرة أشجارها لأنها تجن من فيها أي تستره.
__________
(1) الإمام أحمد في "المسند" (4/339)، وابن حبان (7/365).
قال الهيثمي في "المجمع" (5/74): "رجال أحم وأبي يعلى ثقات".(10/440)
قوله: "مدمن خمر". هو الذي يشرب الخمر كثيراً، والخمر حده الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "كل مسكر خمر"(1)، ومعنى "أسكر"، أي: غطى العقل، وليس كل ما غطى العقل فهو خمر، فالبنج مثلاً ليس بخمر، وإذا شرب دهناً فأغمي عليه، فليس ذلك بخمر، وإنما الخمر الذي يغطي العقل على وجه اللذة والطرب، فتجد الشارب يحس أنه في منزلة عظيمة وسعادة وما أشبه ذلك، قال الشاعر:
ونشربها فتتركنا ملوكاً ... ... ... ... وأسداً ما يهنئها اللقاء
وقال حمزة بن عبد المطلب ـ وكان قد سكر قبل تحريم الخمر ـ للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "وهل أنتم إلا عبيد أبي"(2)، فالذي يغطي العقل على سبيل اللذة محرم بالكتاب والسنة، ومن استحله، فهو كافر، إلا إن كان ناشئاً ببادية بعيدة، أو حديث عهد بالإسلام، ولا يعلم الحكم الشرعي في ذلك، فإنه يعرف ولا يكفر بمجرد إنكاره تحريمه.
قوله: "قاطع رحم". الرحم: هم القرابة، قال تعالى: { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } [الأنفال: 75]، وليس كما يظنه العامة أنهم أقارب الزوجين، لأن هذه تسمية غير شرعية، والشرعية في أقارب الزوجين: أن يسموا أصهاراً.
ومعنى قاطع الرحم: أن لا يصله، والصلة جاءت مطلقة في الكتاب والسنة، قال تعالى: { والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل } [الرعد: 21]، ومنه الأرحام وما جاء مطلقاً غير مقيد، فإنه يتبع فيه العرف كما قيل:
وكل ما أتى ولم يحدد ... ... ... ... ... بالشرع كالحرز فبالعرف احدد
فالصلة في زمن الجوع والفقر: أن يعطيهم ويلاحظهم بالكسوة والطعام دائماً، وفي زمن الغنى لا يلزم ذلك.
وكذلك الأقارب ينقسمون إلى قريب وبعيد، فأقربهم يجب له من الصلة أكثر مما يجب للأبعد.
__________
(1) مسلم (كتاب الأشربة)، باب بيان أن كل مسكر خمر.
(2) البخاري: كتاب المساقاة/ باب بيع الخطب، ومسلم: كتاب الأشربة/ باب تحريم الخمر.(10/441)
ثم الأقارب ينقسمون إلى قسمين من جهة أخرى: قسم من الأقارب يرى أن لنفسه حقاً لا بد من القيام به، ويريد أن تصله دائماً، وقسم آخر يقدر الظروف وينزل الأشياء منازلها، فهذا له حكم، وذلك له حكم.
والقطيعة يرجع فيها إلى العرف، إلا أنه يستثنى من ذلك مسألة، وهي: ما لو كان العرف عدم الصلة مطلقاً، بأن كنا في أمة تشتتت وتقطعت عرى صلتها كما يعرف الآن في البلاد الغربية، فإنه لا يعمل حينئذ بالعرف، ونقول: لابد من صلة، فإذا كان هناك صلة في العرف اتبعناها، وإذا لم يكن هناك صلة، فلا يمكن أن نعطل هذه الشريعة التي أمر الله بها ورسوله.
والصلة ليس معناها أن تصل من وصلك، لأن هذا مكافأة، وليست صلة، لأن الإنسان يصل أبعد الناس عنه إذا وصله، إنما الواصل، كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من إذا قطعت رحمه وصلها"(1)، هذا هو الذي يريد وجه الله والدار الآخرة.
وهل صلة الرحم حق لله أو للآدمي؟
الظاهر أنها حق للآدمي، وهي حق لله باعتبار أن الله أمر بها.
قوله: "ومصدق بالسحر". هذا هو شاهد الباب، ووجهه أن علم التنجيم نوع من السحر، فمن صدق به فقد صدق بنوع من السحر، فقد سبق: "أن من اقتبس شعبة من النجوم، فقد اقتبس شعبة من السحر"(2)، والمصدق به هو المصدق بما يخبر به المنجمون، فإذا قال المنجم: سيحدث كذا وكذا، وصدق به، فإنه لا يدخل الجنة، لأنه صدق بعلم الغيب لغير الله، قال تعالى: { قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله } [النمل: 65].
فإن قيل: لماذا لا يجعل السحر هنا عاماً ليشمل التنجيم وغير التنجيم؟
__________
(1) البخاري: كتاب الآداب/ باب ليس الواصل بالمكافئ.
(2) تقدم (ص 518).(10/442)
أجيب: إن المصدق بما يخبره به السحر من علم الغيب يشمله الوعيد هنا، وأما المصدق بأن للسحر تأثيراً، فلا يلحقه هذا الوعيد، إذا لا شك أن للسحر تأثيراً، لكن تأثيره تخييل، مثل ما وقع من سحرة فرعون حيث سحروا أعين الناس حتى رأوا الحبال والعصي كأنها حيات تسعى، وإن كان لا حقيقة لذلك، وقد يسحر الساحر شخصاً فيجعله يُحِب فلاناً ويبغض فلاناً، فهو مؤثر، قال تعالى: { فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه } [البقرة: 102]، فالتصديق بأثر السحر على هذا الوجه لا يدخله الوعيد لأنه تصديق بأمر واقع.
أما من صدق بأن السحر يؤثر في قلب الأعيان بحيث يجعل الخشب ذهباً أو نحو ذلك، فلا شك في دخوله في الوعيد، لأن هذا لا يقدر عليه إلا الله ـ عز وجل ـ .
وقوله: "ثلاثة لا يدخلون الجنة". هل المراد الحصر وأن غيرهم يدخل الجنة؟
الجواب: لا، لأن هناك من لا يدخلون الجنة سوى هؤلاء، فهذا الحديث لا يدل على الحصر.
وهل هؤلاء كفار لأن من لا يدخل الجنة كافر؟
اختلف أهل العلم في هذا الحديث وما يشبهه من أحاديث الوعيد على أقوال:
القول الأول: مذهب المعتزلة والخوارج الذين يأخذون بنصوص الوعيد، فيرون الخروج من الإيمان بهذه المعصية، لكن الخوارج يقولون: هو كافر، والمعتزلة يقولون: هو في منزلة بين المنزلتين، وتتفق الطائفتان على أنهم مخلدون في النار، فيجرون هذا الحديث ونحوه على ظاهره، ولا ينظرون إلى الأحاديث الأخرى الدالة على أن من في قلبه إيمان وإن قل، فإنه لا بد أن يدخل الجنة.
القول الثاني: أن هذا الوعيد فيمن استحل هذا الفعل بدليل النصوص الكثيرة الدالة على أن من في قلبه إيمان وإن قل، فلا بد أن يدخل الجنة، وهذا القول ليس بصواب، لأن من استحله كافر ولو لم يفعله، فمن استحل قطيعة الرحم أو شرب الخمر مثلاً، فهو كافر وإن لم يقطع الرحم ولم يشرب الخمر.(10/443)
القول الثالث: أن هذا من باب أحاديث الوعيد التي تمر كما جاءت ولا يتعرض لمعناها، بل يقال: هكذا قال الله وقال رسوله ونسكت، فمثلاً: قوله تعالى: { ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً } [النساء: 93]، هذه الآية من نصوص الوعيد، فنؤمن بها، ولا نتعرض لمعناها ومعارضتها للنصوص الأخرى، ونقول: هكذا قال الله، والله أعلم بما أراد، وهذا مذهب كثير من السلف، كمالك وغيره، وهذا أبلغ في الزجر.
القول الرابع: أن هذا نفي مطلق، والنفي المطلق يحمل على المقيد، فيقال: لا يدخلون الجنة دخولاً مطلقاً يعني لا يسبقه عذاب، ولكنهم يدخلون الجنة دخولاً يسبقه عذاب بقدر ذنوبهم، ثم مرجعهم إلى الجنة، وذلك لأن نصوص الشرع يصدق بعضها بعضاً، ويلائم بعضها بعضاً، وهذا أقرب إلى القواعد وأبين حتى لا تبقى دلالة النصوص غير معلومة، فتقيد النصوص بعضها ببعض.
وهناك احتمال: أن من كانت هذه حاله حَرِيٌ أن يختم له بسوء الخاتمة، فيموت كافراً، فيكون هذا الوعيد باعتبار ما يؤول حاله إليه، وحينئذ لا يبقى في المسألة إشكال، لأن من مات على الكفر، فلن يدخل الجنة، وهو مخلد في النار، وربما يؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً"(1)، فيكون هذا قولاً خامساً.
* * *
فيه مسائل:
الأولى: الحكمة في خلق النجوم. الثانية: الرد على من زعم غير ذلك. الثالثة: ذكر الخلاف في تعلم المنازل. الرابعة: الوعيد فيمن صدق بشيء من السحر ولو عرف أنه باطل.
فيه مسائل:
الأولى: الحكمة في خلق النجوم. وهي ثلاث:
أنها زينة للسماء.
ورجوم للشياطين.
وعلامات يهتدى بها.
وربما يكون هناك حكم أخرى لا نعلمها.
__________
(1) البخاري: كتاب الديانات/ باب قوله تعالى: { ومن يقتل مؤمناً متعمدا.... }(10/444)
الثانية: الرد على من زعم غير ذلك. لقول قتادة: "من تأول فيها غير ذلك، أخطأ، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به".
ومراد قتادة في قوله: "غير ذلك" ما زعمه المنجمون من الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، وأما ما يمكن أن يكون فيها من أمور حسية سوى الثلاث السابقة، فلا ضلال لمن تأوله.
الثالثة: ذكر الخلاف في تعلم المنازل. سبق ذلك(1).
الرابعة: الوعيد فيمن صدق بشيء من السحر ولو عرف أنه باطل.
من صدق بشيء من التنجيم أو غيره من السحر بلسانه ولو اعتقد بطلانه بقلبه، فإن عليه هذا الوعيد، كيف يصدق وهو يعرف أنه باطل، لأنه يؤدي إلى إغراء الناس به وبتعلمه وبممارسته؟!
__________
(1) أنظر (ص 105).(10/445)
القول المفيد
على
كتاب التوحيد
الجزء الثاني
لفضيلة الشيخ
محمد بن صالح العثيمين
دار الثريا للنشر
بسم الله الرحمن الرحيم
{ فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون }
باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء
الاستقصاء : طلب السقيا ، كالاستغفار : طلب المغفرة والاستعانة : طلب المعونة ، والاستعاذة : طلب العوذ ، والاستهداء : طلب الهدايا ، لأن مادة استفعل في الغالب تدل على الطلب ، وقد لا تدل على الطلب ، بل تدل على المبالغة في الفعل ، مثل : استكبر ، أي : بلغ في الكبر غايته ، وليس المعنى طلب الكبر ، والاستسقاء بالأنواء ، أي : أن تطلب منها أن تسقيك .
والاستسقاء بالأنوار ، أي : أن تطلب منها أن تسقيك .
والاستسقاء بالأنواء ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : شرك أكبر ، وله صورتان :
الأولى : أن يدعو الأنوار بالسقيا ، كأن يقول : يا نوء كذا ! اسقنا أو أغثنا ، وما أشبه ذلك ، فهذا شرك أكبر ، لأنه دعا غير الله ، ودعاء غير الله من الشرك الأكبر ، قال تعالى : { ومن يدع مع الله إلها أخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون } [المؤمنون : 17 ] ، وقال تعالى : { وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحداً } [الجن : 18] ، وقال تعالى : { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين } [يونس : 106].
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على النهي عن دعاء غير الله ، وأنه من الشرك الأكبر.
الثانية : أن ينسب حصول الأمطار إلى هذه الأنوار على أنها هي الفاعلة بنفسها دون الله ولو لم يدعها ، فهذا شرك أكبر في الربوبية ، والأول في العبادة ، لأن الدعاء من العبادة ، وهو متضمن للشرك في الربوبية ، لأنه لم يدعها إلا وهو يعتقد أنها تفعل وتقضي الحاجة .
القسم الثاني(11/1)
شرك أصغر ، وهو أن يجعل هذه الأنواء سسبباً مع اعتقاده أن الله هو الخالق الفاعل ، لأن كل من جعل سبباً لم يجعله الله سبباً لا بوجيه ولا بقدرة ، فهو مشرك شركاً أصغر .
وقال الله تعالى { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } [الواقعة : 82].
قوله تعالى : { وتجعلون } . أي : تصيرون ، وهى تنصب مفعولين : الأول : { رزق } ، والثاني { أن } ، وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول ثان ، والتقدير : وتجعلون رزقكم كونكم تكذبون أو تكذيبكم .
والمعني : تكذبون أنه من عند الله ، حيث تضيفون حصوله إلى غيره .
قوله : { رزقكم } . الرزق هو العطاء ، والمراد به هنا : ما هو أعم من المطر ، فيشمل معنيين :
الأول : أن المراد به رزق العلم ، لأن الله قال : { فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون عظيم * إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون * تنزيل من رب العالمين * أفبهذا الحديث أنتم مدهنون * وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } [ الواقعة : 75-83] ، أي : تخافونهم فتداهنونهم ، وتجعلون شكر ما رزقكم الله به من العلم والوحي أنكم تكذبون به ، وهذا هو ظاهر سياق الآية .
الثاني : أن المراد بالرزق المطر ، وقد روي في ذلك حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لكنه ضعيف { 1 } ، إلا أنه صح عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية : أن المراد بالرزق المطر ، وأن التكذيب به نسبته إلى الأنواء { 2 } ، وعليه يكون ما ساق المؤلف الآية من أجله مناسباً للباب تماماً .
والقاعدة في التفسير أن الآية إذا كانت تحتمل المعنيين جميعاً بدون منافاة تحمل عليهما جميعاً ، وإن حصل بينهما منافاة طلب المرجح .(11/2)
ومعنى الآية : أن الله يوبخ هؤلاء الذين يجعلون شكر الرزق التكذيب والاستكبار والبعد ، لأن شكر الرزق يكون بالتصديق والقبول والعمل بطاعة المنعم ، والفطرة كذلك لا تقبل أن تكفر بمن ينعم عليها ، فالفطرة والعقل والشرع كل منها يوجب أن تشكر من ينعم عليك ، سواء قلنا : المراد بالرزق المطر الذي به حياة الأرض ، أو قلنا : إن به القرآن الذي به حياة القلوب ، فإن هذا من أعظم الرزق ، فكيف يليق بالإنسان أن يقابل هذه النعمة بالتكذيب ؟!
واعلم أن التكذيب نوعان :
أحدهما : التكذيب بلسان المقال ، بأن يقول هذا كذب ، أو المطر من النوء ونحو ذلك .
والثاني : التكذيب بلسان الحال ، بأن يعظم الأنواء والنجوم معتقداً أنها السبب ، ولهذا وعظ عمر بن عبد العزيز الناس يوماً ، فقال : " أيها الناس ! إن كنتم مصدقين ، فأنتم حمقى ، وإن كنتم مكذبين ، فأنتم هلكى " . وهذا صحيح ، فالذي يصدق ولا يعمل أحمق ، والمكذب هالك ، فكل إنسان عاص نقول له الآن : أنت بين أمرين : إما أنك مصدق بما رتب على هذه المعصية ، أو مكذب ، فإن كنت مصدقاً ، فأنت أحمق ، كيف لا تخاف فتستقيم ؟! وإن كنت غير مصدق ، فالبلاء أكبر ، فأنت هالك كافر .
***
وعن أبى مالك الشعري رضى الله عنه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر بالإكساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة " .
قوله في حديث أبى مالك : " أربع في أمتي " . الفائدة من قوله : " أربع " ليس الحصر ، لأن هناك أشياس تشاركها في المعنى ، وإنما يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك باب حصر العلوم وجمعها بالتقسيم والعدد ، لأنه يقرب الفهم ، ويثبت الحفظ .
قوله : "من أمر الجاهلية " . أمر هنا بعنى شأن ، إي : من شأن الجاهلية وهو واحد الأمور ، وليس واحد الأوامر ، وليس الأوامر ، لأن واحد الأوامر طلب الفعل على وجه الاستعلاء .(11/3)
وقوله : " من أمر الجاهلية " . إضافتها إلى الجاهلية الغرض منها التقبيح والتنفير ، لأن كل إنسان يقال : فعلك فعل الجاهلية لا شك أنه يغضب ، إذ إنه لا أحد يرضى أن يوصف بالجهل ، ولا بأن فعله من أفعال الجاهلية ، فالغرض من الإضافة هنا أمران :
التنفير .
بيان أن هذه الأمور كلها جهل وحمق بالإنسان ، إذ ليست أهلاً بأن يراعيها الإنسان أو يعتني بها ، فالذي يعتني بها جاهل .
والمراد بالجاهلية هنا : ما قبل البعثة ، لأنهم كانوا على جهل وضلال عظيم حتى إن العرب كانوا أجهل خلق الله ، ولهذا يسمون بالأميين ، والأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب ، نسبة إلى الأم ، كأن أمه ولدته الآن .
لكن لما بعث فيهم هذا النبي الكريم ، قال تعالى : { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } [آل عمران : 164 ] ، فهذه منة عظيمة أن بعث فيهم النبي عليه الصلاة والسلام لهذه الأمور السامية :
يتلو عليه آيات الله .
ويزكيهم ، فيطهر أخلاقهم وعبادتهم وينميها .
ويعلمهم الكتاب .
والحكمة .
هذه فوائد أربع عظيمة لو وزنت الدنيا بواحدة منها لوزنتها عند من يعرف قدرها ، ثم بين الحال من قبل فقال { وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } و(إن هذه ليست نافية بل مؤكدة؛ فهي مخففة من الثقيلة، يعني: وإنهم كانوا من قبل لفي ضلال مبين.
إذن المراد بالجاهلية ما قبل البعثة ، لأن الناس كانوا فيها على جهل عظيم . فجهلمم شامل للجهل فى حقوق الله وحقوق عباده ، فمن جهلهم أنهم ينصبون النصب ويعبدونها من دون الله ، ويقتل أحدهم أبنته لكي لا يعير بها ، ويقتل أولاده من ذكور وإناث خشية الفقر .(11/4)
قوله : " لا يتركونهن " . المراد : لا يتركون كل واحد منها باعتبار المجموع بالمجموع ، بأن يكون كل واحد منها عند جماعة ، والثاني عند أخرين ، والثالث عند أخرين ، والرابع عند أخرين ، وقد تجتمع هذه الأقسام فى قبيلة ، وقد تخلو بعض القبائل منها جميعاً ، إنما الأمة كمجموع لابد أن يوجد فيها شيء من ذلك ، لأن هذا خبر من الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - ، والمراد بهذا الخبر التنفير ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد يخبر بأشياء تقع وليس غرضه أن يؤخذ بها ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - " التركبن سنن من كان قبلكم اليهود والنصارى { 1 } ، أي : فاحذروا ، وأخبر - صلى الله عليه وسلم - : " أن الظعينة تخرج من صنعاء إلى حضرموت لا تخشى إلا الله " { 2 } ، أي : بلا محرم ، وهذا خبر عن أمر واقع وليس إقراراً له شرعاً .
قوله "أمتي " أي : أمة الإجابة .
قوله : " الفخر بالأحساب " . الفخر : التعالى والتعاظم ، والباء للسببية ، أي : يفخر بسبب الحسب الذي هو عليه .
والحسب : ما يحتسبه الإنسان من شرف وسؤدد ، كأن يكون من بني هاشم فيفتخر بذلك ، أو من آباء وأجداد مشهورين بالشجاعة ، فيفتخر بذلك ، وهذا من أمر الجاهلية ، لأن الفخر في الحقيقة يكون بتقوى الله الذي يمنع الإنسان من التعالى والتعاظم ، والمتقي حقيقة هو الذي كلما أزدادت نعم الله عليه ازداد تواضعاً للحق وللخلق .
وإذا كان الفخر بالحسب من فعل الجاهلية ، فلا يجوز لنا أن نفعله ، ولهذا قال تعالى لنساء نبيه - صلى الله عليه وسلم - : { ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى } [الأحزاب : 33 ] ، وأعلم أن كل ما ينسب إلى الجاهلية ، فهو مذموم ومنهي عنه .
قوله : " الطعن فى الأنساب " . الطعن العيب ، لأنه وخز معنوي كوخز الطاعون فى الجسد ، ولهذا سمي العيب طعناً .(11/5)
والأنساب : جمع نسب ، وهو أصل الأنسان وقرابته ، فيطعن في نسبه كأن يقول : أنت ابن الدباغ ، أو أنت ابن مُقطَّعة البظور – وهى شيء في فرج المرأة يقطع عند ختان النساء - .
قوله : " والاستسقاء بالنجوم " . أي : نسبة المطر إلى النجوم مع أعتقاد أن الفاعل هو الله – عز وجل ، أما إن أعتقد أن النجوم هي التي تخلق المطر والسحاب أو دعاها من دون الله لتنزل المطر ، فهذا شرك أكبر مخرج من المللة .
قوله : " والنياحة على الميت " . هذا هو الرابع ، والنياحة : هي رفع الصوت بالبكاء على الميت قصداً ، وينبغي أن يضاف إليه على سبيل النوح ، كنوح الحمام .
والندب : تعداد محاسن الميت .
والنياحة من أمر الجاهلية ، ولابد أن تكون في هذة الأمة ، وإنما كانت من أمر الجاهلية :
إما من الجهل الذي هو ضد العلم .
أو من الجهالة التي هى السفة ، وهي ضد الحكمة .
وإنما كانت لأمور ، هي :
أنها لا تزيد النائح إلا شدة وحزناً وعذاباً .
أنها تسخط من قضاء الله وقدره وأعتراض عليه .
أنها تهيج أحزان غيره .
وقد ذكر عن ابن عقيل رحمه الله – وهو من علمائنا الحنابلة - أنه خرج في جنازة ابنه عقيل وكان أكبر أولاده وطالب علم ، فلما كانوا في المقبرة صرخ رجل وقال : { يا أيها العزيز إن له شيخاَ كبيراً فخذ أحدنا مكانه آنا نراك من المحسنين } [يوسف : 78 ] ، فقال له ابن عقيل رحمه الله : إن القرآن إنما نزل لتسكين الأحزان ، وليس لتهييج الأحزان .
4 – أنه مع هذه المفاسد لا يرد القضاء ، ولا يرفع ما نزل .
والنياحة تشمل ما إذا كانت من رجل أو أمرأة . لكن الغالب وقوعها من النساء ، ولهذا قال : " النائحة إذا لم تتب قبل موتها " ؟ أي : إن تابت قبل الموت ، تاب الله عليهما ، وظاهر الحديث أن هذا الذنب لا تكفره إلا التوبة ، وأن الحسنات لا تمحوه ، لأنه من كبائر الذنوب والكبائر لا تمحى بالحسنات ، فلا يمحوها إلا التوبة .(11/6)
وقال : " النائحة إذا لم تتب قبل موتها ، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب " . رواه مسلم { 1 } .
قوله " تقام يوم القيامة " . أي تقام من قبرها .
قوله : " وعليها سربال من قطران " . السربال : الثوب السابغ كالدرع ، والقطران معروف ، ويسمى " الزفت " وقيل : إنه النحاس المذاب .
قوله : " ودرع من جرب " . الجرب : مرض معروف يكون فى الجلد ، يؤرق الأنسان ، وربما يقتل الحيوان ، والمعنى أن كل جلدها يكون جرباً بمنزله الدرع ، وإذا أجتمع قطران وجرب زاد البلاء ، لأن الجرب أي شيء يمسه يتأثر به ، فكيف ومعه قطران ؟!
والحكمة أنها لما لم تغط المصيبة بالصبر غطيت بهذا الغطاء سربال من قطران ودرع من جرب ، فكانت العقوبة من جنس العمل .
ويستفاد من الحديث :
ثبوت رسالته - صلى الله عليه وسلم - ، لأنه أخبر عن أمر من أمور الغيب فوقع كما أخبر .
التنفير من هذه الأشياء الأربعة : الفخر بالأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة على الميت .
أن النياحة من كبائر الذنوب لوجود الوعيد عليها في الآخرة ، وكل ذنب عليه الوعيد فى الآخرة ، فهو من الكبائر .
أن كبائر الذنوب لا تكفر بالعمل الصالح ، لقوله : " إذا لم تتب قبل موتها"
أن من شروط التوبة أن تكون قبل الموت لقوله : "إذا لم تتب قبل موتها " ، ولقوله تعالى : { وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن } [ النساء : 18].
أن الشرك الأصغر لا يخرج من المللة ، فمن أهل العلم من قال : إنه داخل تحت المشيئة : إن شاء الله عذبه ، وإن شاء غفر له .(11/7)
ومن أهل العلم من قال : إنه ليس بداخل تحت المشيئة ، وإنه لابد أن يعاقب ، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيميه لإطلاق قوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } [النساء : 116] ، فقال : والشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر ، وبهذا نعرف عظم سيئة الشرك ، قال ابن مسعود رضي الله عنه : " لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلى من أن أحلف بغيره صادقاً " { 1 }
لأن الحلف بغير الله من الشرك ، والحلف بالله كاذباً من كبائر الذنوب وسيئة الشرك أعظم من سيئة الذنب .
ثبوت الجزاء والبعث .
أن الجزاء من جنس العمل .
ولهما عن زيد بن خالد رضى الله عنه ، قال " صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل ، فلما انصراف ، اقبل على الناس ، فقال " هل تدرون ماذا قال ربكم " ؟.
قوله في حديث زيد بن خالد " صلى لنا . أي إماماً ، لأن الإمام يصلي لنفسه ولغيره ، ولهذا يتبعه المأموم ، وقيل : إن اللام بمعنى الباء ، وهذا قريب وقيل : إن اللام للتعليل ، آي : صلى لآجلنا .
قوله : " صلاة الصبح بالحديبية " . أى صلاة الفجر ، والحديبية فيها لغتان : التخفيف ، وهو أكثر ، والتشديد ، وهى أسم بئر سمي بها المكان ، وقيل أن أصلها شجرة حدبا تسمى حديبية ، والأكثر على أنها بئر ، وهذا المكان قريب من مكة بعضه في الحل وبعضه فى الحرم ، نزل به الرسول - صلى الله عليه وسلم - في السنة السادسة من الهجرة لما قدم معتمراً ، فصده المشركون عن البيت ، وما كانوا أولياءه ، إن أولياؤه إلا المتقون ، ويسمى الآن الشميسي .
قوله : " على إثر سماء كانت من الليل " . الإثر معناه العقب ، والأثر معناه العقب ، والأثر : ما ينتج عن السير .
قوله : " سماء " . المراد به المطر .
قوله : " كانت من الليل " . " من " لابتداء الغاية هذا هو الظاهر – والله أعلم - ، ويحتمل أن تكون بمعنى فى للظرفية .(11/8)
قوله : " فلما أنصرف " أي : من صلاته ، وليس من مكانه بدليل قوله : " أقبل على الناس "
قوله : " هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ " . الأستفهام يراد به التنبيه والتشويق لما سيلقى عليهم ، وإلا ، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلم أنهم لا يعلمون ماذا قال الله ، لأن الوحي لا ينزل عليهم .
ومعنى قوله : " هل تدرون " . أي : هل تعلمون .
والمراد بالربوبية هنا الخاصة ، لأن ربوبية الله للمؤمن خاصة كما أن عبودية المؤمن له خاصة ، ولكن الخاصة لا تنافي العامة ، لأن العامة تشمل هذا وهذا ، والخاصة تختص بالمؤمن .
قوله : " قالوا : الله ورسوله " . فيه إشكال نحوي ، لأن : " اعلم " خبر عن اثنين ، وهي مفرد ، فيقال : أن أسم التفضيل : إن اسم التفضيل إذا نوي به معنى "من"، وكان مجرداً من أل والإضافة لزم فيه الإفراد والتذكير .
وفيه أيضاً إشكال معنوى ، وهو أنه جمع بين الله ورسوله بالواو ، مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما قال له الرجل : " ما شاء الله وشئت . قال أجعلتنى لله نداً ! " { 1 }
فيقال : أن هذا أمر شرعي ، وقد نزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وأما إنكاره على من قال : ما شاء وشئت ، فلأنه أمر كوني ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس له شأن فى الأمور الكونية .
والمراد بقولهم : " الله ورسوله أعلم " تفويض العلم إلى الله ورسوله ، وأنهم لا يعلمون .
قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " أصبح من عبادى مؤمن بي وكافر ، فأما من قال ، مطرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا ، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب " { 1 }
قوله : " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر " . " مؤمن " صفة لموصوف محذوف ، أي : عبد مؤمن ، وعبد كافر .(11/9)
و" أصبح " : من أخوات كان ، وأسمها : " مؤمن " ، وخبرها : " من عبادي ". ويجوز أن يكون " أصبح " فعلاً ماضياً ناقصاً ، وأسمها ضمير الشأن ، أي : أصبح الشأن ، فـ " من عبادي " خبر مقدم ، و"مؤمن " مؤخر ، أي : أصبح شأن الناس منهم مؤمن ومنهم كافر .
قوله : " فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته " . أي : قال بلسانه وقلبه ، والباء للسبيية ، وأفضل : العطاء والزيادة .
والرحمة : صفة من صفات الله ، يكون بها الإنعام والإحسان إلى الخلق .
وقوله : " فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب " . لأنه نسب المطر إلى الله ولم ينسبه إلى الكوكب ، ولم ير له تأثيراً في نزوله ، بل نزل بفضل الله .
قوله : " وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا " . الباء للسببية ، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب ، وصار كافراً بالله ، لأنه أنكر نعمة الله ونسبها إلى سبب لم يجعله الله سبباً ، فتعلقت نفسه بهذا السبب ، ونسي نعمة الله ، وهذا الكفر لا يخرج من المللة ، لأن المراد نسبة المطر إلى النوء على أنه سبب وليس إلى النوء على أنه فاعل .
لأنه قال : " مطرنا بنوء كذا " ، ولم يقل : أنزل علينا المطر نوء كذا ، لأنه لو قال ذلك ، لكان نسبة المطر إلى النوء نسبة إيجاد ، وبه نعرف خطأ من قال : إن المراد بقوله : " مطرنا بنوء كذا " نسبة المطر إلى النوء نسبة أيجاد ، لأنه لو كان هذا هو المراد لقال : أنزل علينا المطر نوء كذا ولم يقل مطرنا به .
فعلم أن المراد أن من أقر بأن الذي خلق المطر وأنزله هو الله ، لكن النوء هو السبب ، فهو كافر ، وعليه يكون من باب الكفر الأصغر الذى لا يخرج من المللة.
والمراد بالكوكب النجم ، وكانوا ينسبون المطر إليه ، ويقولون : إذا سقط النجم الفلاني جاء المطر ، وإذا طلع النجم الفلاني جاء المطر ، وليسوا ينسبونه إلى هذا نسبة وقت ، وإنما نسبة سبب ، فنسبة المطر إلى النوء تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
نسبة إيجاد ، وهذه شرك أكبر .
نسبة سبب ، وهذه شرك أصغر .(11/10)
نسبة وقت ، وهذه جائزة بأن يريد بقوله : مطرنا بنوء كذا ، أي : جاءنا المطر فى هذا النوء أي فى وقته .
ولهذا قال العلماء : يحرم أن يقول : مطرنا بنوء كذا ، ويجوز مطرنا في نوء كذا ، وفرقوا بيهما أن الباء للسببية ، و"في " للظرفية ، ومن ثم قال أهل العلم : إنه إذا قال : مطرنا بنوء كذا وجعل الباء للظرفية فهذا جائز ، وهذا وإن كان له وجه من حيث المعنى ، لكن لا وجه له من حيث اللفظ ، لأن لفظ الحديث : " من قال : مطرنا بنوء كذا " ، والباء للسببية أظهر منها للظرفية ، وهي وإن جاءت للظرفية كما فى قوله تعالى : { وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل } [الصافات : 137، 138 ] ، لكن كونها للسببية أظهر ، والعكس بالعكس ، "في " للظرفية أظهر منها للسببية وإن جاءت للسببية ، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - "دخلت امرأة النار في هرة " { 1 }
والحاصل أن الأقرب المنع ولو قصد الظرفية ، لكن إذا كان المتكلم لا يعرف من الباء إلا الظرفية مطلقاً ، ولا يظن أنها تأتى سببية ، فهذا جائز ، ومع ذلك فالأولى أن يقال لهم : قولوا : فى نوء كذا .
ولهما من حديث ابن عباس معناه وفيه { قال بعضهم لقد صدق نوء كذا وكذا . فأنزل الله هذه الآيات { 1 } : فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون عظيم * إنه لقران كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون * تنزيل من رب العالمين * أفبهذا الحديث أنت مدهنون * وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } " [الواقعة : 75-82].
قوله : " ولهما " . الظاهر أنه سبق قلم ، وإلا ، فالحديث في " مسلم " وليس في الصحيحين " .
ومعنى الحديث : أنه لما نزل المطر نسبه بعضهم إلى رحمة الله وبعضهم قال : لقد صدق نوء كذا وكذا ، فكأنه جعل النوء هو الذي أنزل المطر أو نزل بسببه .(11/11)
ومنه ما يذكر في بعض كتب التوقيت : "وقل أن يخلف نوؤه " ، أو : "هذا نوؤه صادق " ، وهذا لا يجوز ، وهو الذي أنكره الله – عز وجل – على عباده ، وهذا شرك أصغر ، ولو قال بإذن الله ، فإنه لا يجوز لأن كل الأسباب من الله ، والنوء لم يجعله الله سبباً .
قوله : { فلا أقسم بمواقع النجوم } . أختلف في { لا } ، فقيل : نافية، والمنفى محذوف ، وتقدير لا صحة لما تزعمون من أن القرآن كذب أو سحر وشعر وكهانة ، أقسم بمواقع النجوم إنه لقرآن كريم .
فأقسم لا علاقة لها بـ { لا } إطلاقاً ، وهذا له بعض الوجه ، وقيل : أن المنفي القسم ، فهي داخلة على أقسم ، أي : لا أقسم ولن أقسم على أن القرآن كريم ، لأن الأمر أبين من أن يحتاج إلى قسم ، وهذا ضعيف جداً .
وقيل : إن { لا } للتنبيه ، والجملة بعدها مثبتة ، لأن { لا } بمعنى انتبه ، أقسم بمواقع النجوم … وهذا هو الصحيح .
فإن قيل : ما الفائدة من أقسامه سبحانه مع أنه صادق بلا قسم ، لأن القسم إن كان لقوم يؤمنون به ويصدقون كلامه ، فلا حاجة إليه ، وإن كان لقوم لا يؤمنون به ، فلا فائدة منه ، قال تعالى : { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل أيه ما تبعوا قبلتك } [البقرة : 145] .
أجيب : أن فائدة القسم من وجوه :
الأول : أن هذا أسلوب عربي لتأكيد الأشياء بالقسم ، وإن كانت معلومة عند الجميع ، أو كانت منكرة عند المخاطب ، والقرآن نزل بلسان عربي مبين .
الثاني : أن المؤمن يزداد يقيناً من ذلك ، ولا مانع من زيادة المؤكدات التى تزيد فى يقين العبد ، قال تعالى عن إبراهيم { رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } [البقرة : 260 ] .
الثالث : أن الله يقسم بأمور عظيمة دالة على كمال قدرته وعظمته وعلمه فكأن يقيم فى هذا المقسم به البراهين على صحة ما أقسم عليه بواسطة عظم ما أقسم به.(11/12)
الرابع : التنويه بحال المقسم به ، لأنه لا يقسم إلا بشيء عظيم ، وهذان الوجهان لا يعودان إلى تصديق الخبر ، بل إلى ذكر الآيات التي أقسم بها تنويهاً له بها وتنبيهاً على عظمها .
الخامس : الاهتمام بالمقسم عليه ، وأنه جدير بالعناية والإثبات .
وقوله : { فلا أقسم بمواقع النجوم } . الله – سبحانه – يتحدث عن نفسه بضمير المفرد ، لأنه يدل على الانفراد والتوحيد ، فهو سبحانه واحد لا شريك له ، ويتحدث عن نفسه بضمير الجمع ، لأنه يدل على العظمة ، كقوله تعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } [الحجر : 9] ، وقوله : { إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وأثارهم } الآية [يس : 12 ] ولا يتحدث عن نفسه بالمثنى ، لأن المثنى محصور باثنين .
والباء حرف قسم ، والمواقع جمع موقع .
واختلف في النجوم ، فقيل أنها النجوم المعروفة ، فيكون المراد بمواقعها مطالعها ومغاربها .
وأقسم الله بها ، لما فيها من الدلالة على كمال القدرة في هذا الانتظام البديع وما فيها من مناسبة المقسم به والمقسم عليه ، وهو القرآن المحفوظ بواسطة الشهب ، فإن السماء عند نزول الوحي ملئت حرساً شديداً وشهباً .
وقيل : إن المراد أجال نزول القران ، ومنه قولهم : " نزل القرآن منجماً " ، وقول الفقهاء : يجب أن يكون دين المكاتب مؤجلاً بنجمين فأكثر ، فيكون الله أقسم بواقع نزول القرآن ، وقد سبقت لنا قاعدة مفيدة ، وهي أنه إذا كان المعنيان لا يتنافيان تحمل الآية على كل منهما ، وإلا ، طلب المرجح
قوله : { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } . { قسم } خبر إن ، وهذا القسم أكد الله عظمته بإن واللام تنويهاً بالمُقْسَم عليه وتعظيمه.
وقوله : { لو تعلمون } . مؤكِّد ثالث أنه قال : ينبغى أن تعلموا هذا الأمر ولا تجهلوه ، فهو أعظم من أن يكون مجهولاً ، فإنه يحتاج إلى علم وانتباه ، فلو تعلمون حق العلم لعرفتم عظمته ، فانتبهوا .(11/13)
قوله : { لقرآن } . مصدر مثل الغفران والشكران بمعنى اسم الفاعل ، وبمعنى اسم المفعول ، فعلى الأول يكون المراد أنه جامع للمعاني التي تضمنتها وبمعنى اسم السابقة من المصالح والمنافع ، قال تعالى : { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه } [المائدة : 48] ، وعلى الثاني يكون بمعنى المجموع ، لأنه مجموع مكتوب .
قوله : { كريم } . يطلق على كثير العطاء ، وهذا كمال فى العطاء متعد للغير ، ويطلق على الشئ البهيَّ الحَسَن ، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إياك وكرائم أموالهم " { 1 } ، أي : البهي منها والحسن ، وهذا كمال في الذات وهذان المعنيان موجودان في القرآن ، فالقرآن لا أحسن منه بذاته ، قال تعالى : { وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً } [الأنعام : 115] .
والقرآن يعطي أهله من الخيرات الدينية والدنيوية والجسمية والقلبية ، قال تعالى : { فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيراً } [الفرقان : 52] ، فهو سلاح لمن تمسك به ولكن يحتاج إلى أن تمسك به بالقول والعمل والعقيدة فلابد أن يصدق العقيدة العمل ، قال - صلى الله عليه وسلم - : " ألا إن في الجسد مضغة ، إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب " { 2 }
ووصف الله القرآن في آية أخرى بأنه مجيد ، والمجد صفة العظمة والعزة والقوة ، والقرآن جامع بين الأمرين : فيه قوة وعظمة ، وكذا خيرات كثيرة وإحسان لمن تمسك به .
قوله : { في كتاب مكنون } . كتاب فعال بمعنى مفعول ، مثل : فراش بمعنى مفروش ، وغِراس بمعنى مغروس ، وكتاب بمعنى مكتوب .
والمكنون : المحفوظ ، قال تعالى : { كأنهن بيض مكنون } [الصافات: 49] . واختلف المفسرون في هذا الكتاب على قولين :
الأول : أنه اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه كل شيء .(11/14)
الثانى : وإليه ذهب ابن القيم أنه الصحف التي في أيدي الملائكة ، قال تعالى : { كلا إنها تذكرة * فمن شاء ذكره * في صحف مكرمة * مرفوعة مطهرة * بأيدي سفرة … } [عبس : 11-15]، فقوله : { بأيدي سفرة } يرجع إن المراد الكتب التي في أيدى الملائكة ، لأن قوله : { لا يمسه إلا المطهرون } ، أي : الملائكة ، يوازن قوله : { بأيدي سفرة } ، وعلى هذا يكون المراد بالكتاب الجنس لا الواحد .
قوله : { لا يمسه إلا المطهرون } . الضمير يعود إلى الكتاب المكنون ، لأنه أقرب شيء ، وهو بالرفع { لا يمسه } باتفاق القراء ، وإنما نبهنا على ذلك ، لدفع قول من يقول : إنه خبر بمعنى النهي ، والضمير يعود على القرآن ، أي : نهى أن يمس القرآن إلا طاهر ، والآية ليس فيها ما يدل على ذلك ، بل هي ظاهرة في أن المراد به اللوح المحفوظ ، لأنه أقرب مذكور ، ولأنه خبر ، والأصل في الخبر أن يبقى على ظاهره خبراً لا أمراً ولا نهياً حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك ، ولم يرد ما يدل على خلاف ذلك ، بل الدليل على أنه لا يراد به إلا ذلك ، وأنه يعود إلى الكتاب المكنون ، ولهذا قال الله { إلا المطهرون } باسم المفعول ، ولم يقل : إلا المطَّهِّرون ، ولو كان المراد المطَّهِّرون لقال ذلك ، أو قال : إلا المتطهرون ، كما قال تعالى : { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } .
والمطهرون : هم الذين طهرهم الله تعالى ، وهم الملائكة ، طُهِّروا من الذنوب وأدناسها ، قال تعالى : { لا يعصون الله ما أمرهم } [التحريم : 6 ] .(11/15)
وقال تعالى : { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } [ الأنبياء : 20 ] ، وقال تعالى : { بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } [ الأنبياء : 26-27] ، وفرق بين المطِّهر الذي يريد أن يفعل الكمال بنفسه ، وبين المطَّهر الذي كمله غيره وهم الملائكة ، وهذا مما يؤيد ما ذهب إليه ابن القيم أن المراد بالكتاب الكتب التي في أيدي الملائكة ، وفي الآية إشارة على أن من طهر قلبه من المعاصي كان أفهم للقرآن ،وأن من تنجس قلبه بالمعاصي كان أبعد فهماً عن القرآن ، لأنه إذا كانت الصحف التي في أيدى الملائكة لم يمكن الله من مسها إلا هؤلاء المطهرين ، فكذلك معاني القرآن .
فاستنبط شيخ الإسلام من هذه الآية : أن المعاصي سبب لعدم فهم القرآن ، كما قال تعالى : { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } [ المطففين : 14] ، وهم الذين قال الله فيهم : { إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين } [ القلم : 15] ، فهم لا يصلون إلى معانيها وأسرارها ، لأنه ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون .
وقد ذكر بعض أهل العلم : أنه ينبغي لمن أستُفتَي أن يُقدِّم بين يدي الفتوى الاستغفار لمحو أثر الذنب من قلبه حتى يتبين له الحق ، واستنبطه من قوله تعالى : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً } [النساء : 105] .
قوله { تنزيل من رب العالمين } . خبر ثان لقوله : { وإنه } ، وهو كقوله وأنه لتنزيل رب العالمين [الشعراء، 192]، وقوله تنزيل من الرحمن الرحيم = { كتاب فصلت آياته } [فصلت : 2-3] ، فهو خبر مكرر مع قوله : { لقرآن } .(11/16)
و { تنزيل } ، أي : منزل ، فهي مصدر بمعنى اسم المفعول منزل من رب العالمين ، أنزله الله على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لأنه محل الوعي والحفظ بواسطة جبريل ، قال تعالى : { وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين } .
وقوله : { من رب العالمين } . أي : خالقهم ، ويستفاد من الآية ما يلى :
أن القرآن نازل لجميع الخلق ، ففيه دليل على عموم رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -
أنه نازل من ربهم ، وإذا كان كذلك ، فهو الحكم بينهم الحاكم عليهم.
أن نزول القرآن من كمال ربوبية الله ، فإذا أضيف إلى هذه الآية قوله تعالى : { تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته } ، علم أن القرآن رحمة للعباد أيضاً ، وربوبية الله مبنية على الرحمة ، قال تعالى : { الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم } [ الفاتحة : 2-3] وكل ما أمر الله به عباده أو نهاهم عنه ، فهو رحمة بهم .
أن القرآن كلام الله ، لأنه إذا كان الله أنزله ، فهو كلامه لا كلام غيره كما قاله السلف رحمهم الله ، وهو غير مخلوق ، لأن جميع صفات الله حتى الصفات الفعلية ليست مخلوقة .
والقرآن كلام الله منزل غير مخلوق .
فإن قيل : هل كل منزل غير مخلوق ؟
قلنا : لا ، لكن كل منزل يكون وصفاً إلى الله ، فهو غير مخلوق ، كالكلام ، وإلا فإن الله أنزل من السماء ماء وهو مخلوق ، وقال تعالى : { وأنزلنا الحديد } [الحديد : 25 ] وهو مخلوق ، وقال تعالى : { وأنزل لكم من الأنعام ثماينة أزواج } [الزمر : 6 ] والأنعام مخلوقة ، فإذا كان المُنْزَل من عند الله صفه لا تقوم بذاتها ، وإنما تقوم بغيرها ، لزم أن يكون غير مخلوق ، لأنه من صفات الله .
قوله : { أفبهذا الحديث أنتم مدهنون } . الاستفهام للإنكار والتوبيخ
والحديث : القرآن ، والمدهن :الخائف من غيره الذي يحابيه بقوله وفعله .(11/17)
والمعنى : أتدهنون بهذا الحديث وتخافون وتستخفون ؟ ! لا ينبغي لكم هذا ، بل ينبغي لمن معه القرآن أن يصدع به وأن يبينه ويجاهد به ، قال تعالى : { وجاهدهم به جهاداُ كبيراً } [الفرقان : 52 ] .
قوله : { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } . أكثر المفسرين على أنه على حذف مضاف ، أي : أتجعلون شكر رزقكم ، أي : ما أعطاكم الله من شيء من المطر ومن إنزال القرآن ، أي : تجعلون شكر هذه النعمة العظيمة أن تكذبوا بها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان ذكرها في المطر ، فإنها تشمل المطر وغيره .
وقيل : إنه ليس في الآية حذف ، والمعنى : تجعلون شكركم تكذيباً ، وقال : إن الشكر رزق ، وهذا هو الصحيح ، بل هو أكبر الأرزاق ، قال الشاعر:
إذا كان شكري نعمة الله نعمة ... ... على له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله ... ... وإن طالت الأيام واتصل العمر
فالنعمة تحتاج إلى شكر ، ثم إذا شكرتها ، فهي نعمة أخرى تحتاج إلى شكر ثان ، وإن شكرت في الثانية ، فهي نعمة تحتاج إلى شكر ثالث ، وهكذا أبداً ، قال تعالى : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } [ النحل : 18 ] .
قوله : { أنكم تكذبون } . { أن } وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول تجعلون الثاني ، أي : تُصيِّرون شكركم تكذيباً ، إن كانت وحياً كذَّب خبره ولم يمتثل أمره ولم يجتنب نهيه ، وإن كانت عطاء تنمو به الأجسام نسبة إلى غير الله ، قال : هذا من النوء أو هذا من عملي ، كما قال قارون : { إنما أوتيته على علم عندي } [ القصص : 78] .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية الواقعة : ذكر الأربع التي من أمر الجاهلية . الثالثة : ذكر الكفر في بعضها . الرابعة : أمن من الكف ما لا يخرج من المللة . الخامسة قوله : " أصبح من عبدي مؤمن بي وكافر " ، بسبب نزول النعمة .
فيه مسائل :(11/18)
الأول : تفسير آية الواقعة . وهي قوله تعالى : { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } ، وقد مر تفسيرها .
الثانية : ذكر الأربع التي من أمر الجاهلية . وهي الطعن في الأنساب ، والفخر بالأحساب ، والاستسقاء بالأنواء ، والنياحة على الميت .
الثالثة : ذكر الكفر في بعضها . وهي الاستسقاء بالأنواء ، وكذلك الطعن في النسب ، والنياحة على الميت ، كما في حديث : " اثنتان في الناس هما بهم كفر : الطعن في النسب ، والنياحة على الميت " { 1 }
الرابعة : أن من الكفر ما لا يخرج من المللة . وهي أن الاستسقاء بالأنواء بعضه كفر مخرج عن الملله وبعضه كفر دون ذلك ، وقد سبق بيان ذلك .
الخامسة : قوله : " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر " بسبب نزول النعمة .
أى : إن الناس ينقسمون عند نزول النعمة إلى مؤمن بالله وكافر به ، وقد سبق بيان حكم إضافة نزول المطر إلى النوء ، والواجب على الأنسان إذا جاءته النعمة أن لا يضيفها إلى أسبابها مجردة عن الله ، بل يعتقد أن هذا سبب محض إن كان هذا سبباً ، مثال ذلك : رجل غرق في ماء ، وكان عنده رجل قوي ، فنزل وأنقذه ، فإنه يجب على هذا الذي نجا أن يعرف نعمة اله عليه ، ولولا أن الله أمراُ قدرياً شرعياً أن ينقذك هذا الرجل ما حصل إنقاذ ، فأنت تعتقد أن هذا سبب محض .(11/19)
أما أن غرق ويسر الله له ، فخرج فقال : إن الولي الفلاني أنقذني ، فهذا شرك أكبر ، لأنه سبب غير صحيح ، ثم أن إضافته إليه لا يظهر منها أنه يريد أنه سبب ، بل يريد أنه منقذ بنفسه ، لأن اعتقاد أنه سبب وهو في قبره وارد ، ولذلك كان أصحاب الأولياء إذا نزلت بهم شدة يسألون الأولياء دون الله تعالى ، فيقعون في الشرك الأكبر من حيث لا يعلمون أو من حيث يعلمون ، ثم قد يفتنون ، فيحصل لهم ما يريدون عند دعاء الأولياء لا به ، لأننا نعلم أن هؤلاء الأولياء لا يستجيبون لهم ، لقوله تعالى : { إن تدعوهم لا يسمعون دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم [فاطر : 14 ] ، وقوله { ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة } [ الأحقاف : 5 ] .
السادسة : التفطن للإيمان في هذا الموضع .
السابعة : التفطن للكفر في هذا الموضع .
السادسة : التفطن للإيمان في هذا الموضع . وهو نسبة المطر إلى فضل الله ورحمته .
السابعة : التفطن للكفر في هذا الموضع . وهو نسبة المطر إلى النوء ،
الثامنة : التفطن لقوله : " لقد صدق نوء كذا وكذا " . التاسعة : إخراج العالم للمتعلم المسألة بالاستفهام عنها ، لقولة : " أتدرون ماذا قال ربكم ؟ " العاشرة : وعيد النائحة
فيقال : هذا بسبب النوء الفلاني ، و أشبه ذلك .
الثامنة التفطن لقوله : " لقد صدق نوء كذا وكذا " . وهذا قريب من قوله : " مطرنا بنوء كذا " ، لأن الثناء بالصدق على النوء مقتضاه أن هذا المطر بوعده ، ثم بتنفيذ وعده .
التاسعة : إخراج العالم للمتعلم المسألة بالاستفهام عنها لقوله : " أتدرون ماذا قال ربكم " . وذلك أن يلقي العالم على المتعلم السؤال لأجل أن ينتبه له ، وإلا ، فالرسول ، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يعلم أن الصحابة لا يعملون ماذا قال الله ، لكن أراد أن ينبههم لهذا ، الأمر ، فقال : " أتدرون ماذا قال ربكم ؟ " وهذا يوجب استحضار قلوبهم .(11/20)
العاشرة : وعيد النائحة . وذلك بقوله : " إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب " ، وهذا وعيد عظيم .
باب قول الله تعالى : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله } [البقرة : 165] .
قوله : باب قول الله تعالى : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً ... } جعل المؤلف رحمه الله تعالى الأية هي الترجمة ، ويمكن أن يُعنى بهذه الترجمة باب المحبة .
وأصل الأعمال كلها هو المحبة ، فالإنسان لا يعمل إلا لما يحب ، إما لجلب منفعه ، أو لدفع مضرة ، فإذا عمل شيئاً ، فلأنه يحبه إما لذاته كالطعام : أو لغيره كالدواء.
وعبادة الله مبنية على المحبة ، بل هي حقيقة العبادة ، إذ لو تعبدت بدون محبة صارت عبادتك قشراً لا روح فيها ، فإذا كان الإنسان في قلبه محبة لله وللوصول إلى جنته ، فسوف يسلك الطريق الموصل إلى ذلك .
ولهذا لما أحب المشركون آلهتهم توصلت بهم هذه المحبة إلى أن عبدوها من دون الله أو مع الله .
والمحبة تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : محبة عبادة ، وهي التي توجب التذلل والتعظيم ، وأن يقوم بقلب الإنسان من إجلال المحبوب وتعظيمه ما يقتضي أن يمتثل أمره ويجتنب نهيه ، وهذه خاصة بالله ، فمن أحب مع الله غيره محبة عبادة ، فهو مشرك شركاً أكبر ، ويعبر العلماء عنها بالمحبة الخاصة .
القسم الثاني : محبة ليست بعبادة في ذاتها ، وهذه أنواع :
النوع الأول : المحبة لله وفي الله ، وذلك بأن يكون الجالب لها محبة الله ، أى : كون الشيء محبوباً لله تعالى من أشخاص ، كالأنبياء ، والرسل ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين .
أو أعمال ، كالصلاة ، والزكاة ، وأعمال الخير ، أو غير ذلك .
وهذا النوع تابع للقسم الأول الذي هو محبة الله .
النوع الثاني : محبة إشفاق ورحمة ، وذلك كمحبة الولد . والصغار ، والضعفاء ، والمرضى .(11/21)
النوع الثالث : محبة إجلال وتعظيم لا عبادة ، كمحبة الإنسان لوالده ، ولمعلمه ، ولكبير من أهل الخير .
النوع الرابع : محبة طبيعية ، كمحبة الطعام ، والشراب ، والملبس ، والمركب ، والمسكن .
وأشرف هذه الأنواع النوع الأول ، والبقية من قسم المباح ، إلا إذا أقترن بها ما يقتضى التعبد صارت عبادة ، فالإنسان يحب والده محبة إجلال وتعظيم ، وإذا اقترن بها أن يتعبد لله بهذا الحب من أجل أن يقوم ببر والده صارت عبادة وكذلك يحب ولده محبة شفقة ، وإذا اقترن بها ما يقتضي أن يقوم بأمر الله بإصلاح هذا الولد صارت عبادة .
وكذلك المحبة الطبيعية ، كالأكل والشرب والملبس والمسكن إذا قصد بها الاستعانة على عبادة صارت عبادة ، ولهذا " حبب للنبي - صلى الله عليه وسلم - النساء والطيب " { 1 } من هذة الدنيا ، فحبب إليه النساء ، لأن ذلك مقتضى الطبيعة ولما يترتب عليه من المصالح العظيمة ، وحبب إليه الطيب ، لأنه ينشط النفس ويريحها ويشرح الصدر ، ولأن الطيبات للطيبين ، والله طيب لا يقبل إلا طيباً .
... فهذه الأشياء إذا أتخذها الأنسان بقصد العبادة صارت عبادة ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى " { 2 }
وقال العلماء : إن ما لا يتم الواجب إلا به ، فهو واجب ، قالوا : الوسائل لها أحكام المقاصد ، وهذا أمر متفق عليه .
وقد ذكر المؤلف رحمه الله فى هذا الباب آيتين :
الأولى التي ترجم بها وهي قوله : { ومن الناس } .
{ من } تبعيضية ، هي ومجرورها خبر مقدم ، و { من يتخذ } مبتدأ مؤخر .
قوله : { أنداداً } . جمع ند ، وهو الشبية والنظير .
قوله : { يحبونهم كحب الله } . أي : في كيفيته ونوعه ، فالنوع أن يحب غير الله محبة عبادة .(11/22)
والكيفية : أن يحبه كمحبة الله أو أشد ، حتى إن بعضهم يعظم محبوبه ويغار له أكثر مما يعظم الله ويغار له ، فلو قيل : أحلف بالله ، لحلف ، وهو كاذب ولم يبال ، ولو قيل : احلف بالند ، لم يحلف ، وهو كاذب ، وهذا شرك أكبر .
وقوله : { كحب الله } . للمفسرين فيها قولان :
الأولى : أنها على ظاهرها ، وأنها مضافة إلى مفعولها ، أي : يحبونهم كحبهم لله ، والمعنى يحبون هذه الأنداد كمحبة الله ، فيجعلونها شركاء لله في المحبة ، لكن الذين آمنوا أشد حباً لله من هؤلاء لله ، وهذا هو الصواب .
الثاني : أن المعنى كحب الله الصادر من المؤمنين .
أي : كحب المؤمنين لله ، فيحبون هذه الأنداد كما يحب المؤمنون الله – عز وجل - ، وهذا وإن احتمله اللفظ ، لكن السياق يأباه ، لأنه لو كان المعنى ذلك ، لكان مناقضاً لقوله تعالى فيما بعد : { والذين أمنوا أشد حباً لله } .
وكانت محبة المؤمنين لله أشد ، لأنها محبة خالصة ليس فيها شرك ، فمحبة المؤمنين أشد من حب هؤلاء لله .
فإن قيل : قد ينقدح في ذهن الإنسان أن المؤمنين يحبون هذه الأنداد نظراً لقوله : { أشد حباً لله } ، فما الجواب ؟
أجيب : أن اللغة العربية يجري فيها التفضيل بين شيئين وأحدهما خال منه تماماً ، ومنه قوله تعالى : { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً } [ الفرقان : 24 ] ، مع أن مستقر أهل النار ليس فيه خير ، وقال تعالى { الله خير أما يشركون } [ النمل : 59 ] ، والطرف الأخر ليس فيه شىء من هذه الموازنة ، ولكنها من باب مخاطبة الخصم بحسب اعتقاده .
مناسبة الآية لباب المحبة :(11/23)
مُنع الإنسان أن يحب أحداً كمحبة الله ، لأن هذا من الشرك الأكبر المخرج عن الملة ، وهذا يوجد في بعض العباد وبعض الخدم ، فبعض العباد يعظمون ويحبون بعض القبور أو الأولياء كمحبة الله أو أشد ، وكذلك بعض الخدم تجدهم يحبون هؤلاء الرؤساء أكثر مما يحبون الله ويعظمونهم أكثر مما يعظمون الله ، قال تعالى : { وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل * ربنا أتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً } [ الأحزاب : 67 ، 68 ] .
وقوله : { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره } [ التوبة : 24 ]
الآية الثانية قوله تعالى : { قل إن كان إباؤكم وأبناؤكم } .
{ آباؤكم } . اسم كان ، وباقي الآية مرفوع معطوف عليه ، وخبر كان { أحب إليكم من الله ورسوله } ، والخطاب في قوله : { قل } للرسول - صلى الله عليه وسلم - والمخاطب في قوله : { آباؤكم } الأمة .
والأمر في قوله : { فتربصوا } يراد به التهديد ، أي : انتظروا عقاب الله ، ولهذا قال : { حتى يأتى الله بأمره } بإهلاك هؤلاء المؤثرين لمحبة هؤلاء الأصناف الثمانية على محبة الله ورسوله وجهاد في سبيله .
فدلت الآية على أن محبة هؤلاء وإن كانت من غير محبة العبادة إذا فضلت على محبة الله صارت سبباً للعقوبة .
ومن هنا نعرف أن الإنسان إذا كان يهمل أوامر الله لأوامر والده ، فهو يحب أباه أكثر من ربه .
وما في القلوب وإن كان لا يعلمه إلا الله ، لكن له شاهد في الجوارح ، ولذا يروى عن الحسن ولذا يروى عن الحسب رحمه الله أنه قال : " ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه " ، فالجوارح مرآة القلب .(11/24)
فإن قيل : المحبة في القلب ولا يستطيع الإنسان أن يملكها ، ولهذا يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال : " اللهم إن هذا قسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما لا أملك " { 1 } ، وكيف للإنسان أن يحب شيئاً وهو يبغضه ، وهل هذا إلا من محاولات جعل الممتنع ممكناً ؟
أجيب : أن هذا إيراد ليس بوارد ، فالإنسان قد تنقلب محبته لشيء كراهة وبالعكس ، إما لسبب ظاهر أو لإرادة صادقة ، فمثلاً : لك صديق تحبه فيسرق منك وينتهك حرمتك ، فتكرهه لهذا السبب ، أو لإرادة صادقة ، كرجل يحب شرب الدخان ، فصار عنده إرادة صادقة وعزيمة ثابتة ، فكره الدخان ، فأقلع عنه.
وقال عمر رضى الله عنه للنبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنك لأحب إلى من كل شيء إلا من نفسي. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : لا والذي نفسي بيده ، حتى أكون أحب إليك من نفسك . قال : الآن والله لأنت أحب إلى من نفسي . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - الآن يا عمر " { 1 }
فقد ازدادت محبة عمر رضي الله عنه للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن الحب قد يتغير .
وربما تسمع عن شخص كلاماً وأنت تحبه فتكرهه ، ثم يتبين لك أن هذا الكلام كذب ، فتعود محبتك إياه .
عن أنس ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين". أخرجاه { 2 } .
قوله في حديث أنس : " لا يؤمن " . هذا نفي للإيمان ، ونفي الإيمان تارة يراد به نفي الكمال الواجب ، وتارة يراد به نفي الوجود ، أي : نفي الأصل .
والمنفي في هذا الحديث هو كمال الإيمان الواجب ، إلا إذا خلا القلب من محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إطلاقاً ، فلا شك أن هذا نفي لأصل الإيمان .
قوله : " من ولده " . يشمل الذكر والأنثى ، وبدأ بمحبة الولد ، لأن تعلق القلب به أشد من تعلقه بأبيه غالباً .(11/25)
قوله : " ووالده " يشمل أباه ، وجده وإن علا ، وأمه ، وجدته وإن علت .
قوله : "والناس أجمعين " . يشمل أخوته وأعمامة وأبناءهم وأصحابه ونفسه ، لأنه من الناس ، فلا يتم الإيمان حتى يكون الرسول أحب إليه من جميع المخلوقين
وإذا كان هذا في محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فكيف بمحبة الله تعالى ؟ !
ومحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تكون لأمور :
الأول : أنه رسول الله ، وإذا كان الله أحب إليك من كل شىء ، فرسوله أحب إليك من كل مخلوق .
الثاني : لِمَا قام به من عبادة الله وتبليغ رسالته .
الثالث : لما آتاه الله من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال .
الرابع : أنه سبب هدايتك وتعليمك وتوجيهك .
الخامس : لصبره على الأذى في تبليغ الرسالة .
السادس : لبذل جهده بالمال والنفس لإعلاء كلمة الله .
ويستفاد من هذا الحديث ما يلى :
وجوب تقديم محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على محبة النفس .
فداء الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالنفس والمال ، لأنه يجب أن تقدم محبته على نفسك ومالك .
أنه يجب على الإنسان أن ينصر سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويبذل لذلك نفسه وماله وكل طاقته ، لأن ذلك من كمال محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولذلك قال بعض أهل العلم في قوله : { إن شانئك هو الأبتر } [الكوثر : 3 ] ، أي : مبغضك ، قالوا : وكذلك من أبغض شريعته - صلى الله عليه وسلم - ، فهو مقطوع لا خير فيه .
جواز المحبة التي للشفقة والإكرام والتعظيم ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " أحب إليه من ولده ووالده … " ، فأثبت أصل المحبة ، وهذا أمر طبيعي لا ينكره أحد .(11/26)
وجوب تقديم قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - على قول كل الناس ، لأن من لازم كونه أحب من كل أن يكون قوله مقدماً على كل أحد من الناس ، حتى على نفسك ، فمثلاً : أنت تقول شيئاً وتهواه وتفعله ، فيأتي إليك رجل ويقول لك : هذا يخالف قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا كان الرسول أحب إليك من نفسك ، فأنت تنتصر للرسول أكثر مما تنتصر لنفسك ، وترد على نفسك بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فتدع ما نهواه من أجل طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا عنوان تقديم محبته على محبة النفس ، ولهذا قال بعضهم :
تعصي الإله وأنت تزعم حبه ... ... ... هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته ... ... ... ... إن المحب لمن يحب مطيع
إذا يؤخذ من هذا الحديث وجوب تقديم قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - على قول كل الناس حتى على قول أبى بكر وعمر وعثمان ، وعلى قول الأئمة الأربعة ومن بعدهم ، قال الله تعالى : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } [الأحزاب : 36 ] .
لكن إذا وجدنا حديثاً يخالف الأحاديث الأخرى الصحيحة أو مخالفاً لقول أهل العلم وجمهور الأمة ، فالواجب التثبت والتأني في الأمر ، لأن اتباع الشذوذ يؤدي إلى الشذوذ .(11/27)
ولهذا إذا رأيت حديثاً يخالف ما عليه أكثر الأمة أو يخالف الأحاديث الصحيحة التي كالجبال في رُسوِّها ، فلا تتعجل في قبوله ، بل يجب عليك أن تراجع وتطالع في سنده حتى يتبين لك الأمر ، فإذا تبين ، فإنه لا بأس أن يُخَصَّص الأقوى بأضعف منه إذا كان حجة ، فالمهم التثبت في الأمر ، وهذه القاعدة تنفعك في كثير من الأقوال التى ظهرت أخيراً ، وتركها الأقدمون وصارت محل نقاش بين الناس ، فإنه يجب اتباع هذه القاعدة ، ويقال : أين الناس من هذه الأحاديث ؟ ولو كانت هذه الأحاديث من شريعة الله ، لكانت منقولة باقية معلومة مثل ما ذكر أن الإنسان إذا لم يطف طواف الإفاضة قبل أن تغرب الشمس يوم العيد ، فإنه يعود محرماً ، فإن هذا الحديث { 1 } وإن كان ظاهر سنده الصحة ، لكنه ضعيف وشاذ ، ولهذا لم يُذكر أنه عمل به إلا رجل أو رجلان من التابعين ، وإلا ، فالأمة على خلافه ، فمثل هذه الأحاديث يجب أن يتحرى الإنسان فيها ويتثبت ، ولا نقول : إنها لا يمكن أن تكون صحيحة .
مناسبة هذا الحديث للباب :
مناسبة هذا الحديث ظاهرة ، إذ محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من محبة الله ، ولأنه إذا كان لا يكمل الإيمان حتى يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحب إلى الإنسان من نفسه والناس أجمعين ، فمحبة الله أولى وأعظم .
ولهما عنه ، قال : قال رسول - صلى الله عليه وسلم - " ثلاث من كن فيه ، وجد بهن حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه ، كما يكره أن يقذف في النار" { 1 } وفى رواية " لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى ….." { 2 } . إلى آخره .
قوله في حديث أنس الثاني : " ثلاث من كن فيه " أي : ثلاث خصال ، و" كن " بمعنى وجدن فيه .(11/28)
وإعراب " ثلاث " : مبتدأ ، وجاز الابتداء بها لأنها بها لأنها مفيدة على حد قول ابن مالك : ولا يجوز الابتداء بالنكرة ما لم تفد .
وقوله : " من كن فيه " . " من " : شرطية ، و " لكن " : أصلها كان ، فتكون فعلاً ماضياً ناسخاً ، والنون اسمها ، و " فيه " : خبرها .
قوله : "وجد بهن " . وجد : فعل ماض في محل جزم جواب الشرط ، والجملة من فعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر المبتدأ .
وقوله : " وجد بهن حلاوة الإيمان " . الباء للسببية ، وحلاوة مفعول وجد ، وحلاوة الإيمان : ما يجده الإنسان في نفسه وقلبه من الطمأنينة والراحة والانشراح ، وليست مدركة باللعاب والفم ، فالمقصود بالحلاوة هنا الحلاوة القلبية.
الخصلة الأولى من الخصال الواردة في الحديث :
قوله : " أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما " . الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - وكذا جميع الرسل تجب محبتهم .
قوله : " أحب إليه مما سواهما " . أي : أحب إليه من الدنيا كلها ونفسه وولده ووالده وزوجه وكل شيء سواهما ، فإن قبل : لماذا جاء الحديث بالواو " الله ورسوله " وجاء الخبر لهما جميعاً " أحب إليه مما سواهما " ؟
فالجواب : لأن محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من محبة الله ، ولهذا جعل قوله : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ركناً واحداً ، لأن الإخلاص لا يتم إلا بالمتابعة التي جاءت عن طريق النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ـ الخصلة الثانية: ـ
قوله : " وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله " .
قوله : " وأن يحب المرء " يشمل الرجل والمرأة .
قوله : " لا يحبه إلا لله " : اللام للتعليل ، أى : من أجل الله ، لأنه قائم بطاعة الله – عز وجل - .
وحب الإنسان للمرء له أسباب كثيرة : يحبه للدنيا ، ويحبه للقرابة ، ويحبه للزمالة ، ويحب المرء زوجته للاستمتاع ، ويحب من أحسن إليه ، لكن إذا أحببت هذا المرء لله ، فإن ذلك من أسباب وجود حلاوة الإيمان .
الخصلة الثالثة :(11/29)
قوله : " وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار " .
هذه الصورة في كافر أسلم ، فهو يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه ، كما يكره أن يقذف في النار ، وأنما ذكر هذه الصورة ، لأن الكافر يألف ما كان عليه أولاً ، فربما يرجع إليه بخلاف من لا يعرف الكفر أصلاً .
فمن كره العود في الكفر كما يكره القذف في النار ، فإن هذا من أسباب وجود حلاوة الإيمان .
قوله : " وفي رواية لا يجد حلاوة الإيمان " .
أتى المؤلف بهذه الرواية ، لأن انتفاء وجدان حلاوة الإيمان بالنسبة للرواية الأولى عن طريق المفهوم ، وهذه عن طريق المنطوق ، ودلالة المنطوق أقوى من دلالة المفهوم .
وعن ابن عباس قال : من أحب في الله ، وأبغض في الله ، ووالى في الله ، وعادى فى الله ، فإنما تنال ولاية الله بذلك ، ولن يجد عبد طعم الإيمان – وإن كثرت صلاته وصومه – حتى يكون كذلك ، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يُجدي على أهله شيئاً " رواه ابن جرير " { 1 } .
قوله في أثر ابن عباس رضي الله عنهما : " من أحب في الله " . " من " شرطية ، وفعل الشرط أحب ، وجوابه جملة : " فإنما تنال ولاية الله بذلك " .
و" في " : يحتمل أن تكون للظرفية ، لأن الأصل فيها الظرفية ، ويحتمل أن تكون للسببية ، لأن " في " تأتي أحياناً للسببية ، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " دخلت امرأة النار في هرة " { 2 } أي : بسبب هرة .
وقوله : " في الله " أي : من أجله ، إذا قلنا : إن في للسببية ، وأما إذا قلنا : إنها للظرفية ، فالمعنى : من أحب في ذات الله ، أي: في دينه وشرعه لا لعرض الدنيا .
قوله : " وأبغض في الله " . البغض الكره ، أي : أبغض في ذات الله إذا رأى من يعصى الله كرهه .(11/30)
وفرق بين " في " التى للسببية و " في " التي للظرفية ، فالسببية الحامل له على المحبة أو البغضاء هو الله ، والظرفية موضع الحب أو الكراهية هو في ذات الله – عز وجل -، فيبغض من أبغضه الله ، ويحب من أحبه .
قوله : " ووالى في الله " . الموالاة هي المحبة والنصرة وما أشبه ذلك .
قوله : " وعادي في الله " . المعاداة ضد الموالاة ، أي : يبتعد عنهم ويبغضهم ويكرههم في الله .
قوله : " فإنما تنال ولاية الله بذلك . هذا جواب الشرط ، أي : يدرك الإنسان ولاية الله ويصل إليها ، لأنه جعل محبته وبغضه وولايته ومعاداته لله .
وقوله : " ولاية " . يجوز في الواو وجهان : الفتح والكسر ، قيل : معناهما واحد، وقيل : بالفتح بمعنى النصرة ، قال تعالى { ما لكم من ولايتهم من شىء } ، وبالكسر بمعنى الولاية على الشيء .
قوله : " بذلك " . الباء للسببية ، والمشار إليه الحب في الله والبغض فيه ، والموالاة فيه والمعاداة فيه .
وهذا الأثر موقوف ، لكنه بمعنى المرفوع ، لأن ترتيب الجزاء على العمل لا يكون إلا بتوقيف ، إلا الإثر ضعيف .
فمعنى الحديث : أن الإنسان لا يجد طعم الإيمان وحلاوته ولذته حتى يكون كذلك ، ولو كثرت صلاته وصومه ، وكيف يستطيع عاقل فضلاً عن مؤمن أن يوالي أعداء الله ، فيرى أعداء الله يشركون به ويكفرون به ويصفونه بالنقائص والعيوب ، ثم يواليهم ويحبهم ؟ ! فهذا لو صلى وقام الليل كله وصام الدهر كله ، فإنه لا يمكن أن ينال طعم الإيمان ، فلابد أن يكون قلبك مملوءً بمحبة الله وموالاته ، ويكون مملوءاً ببغض أعداء الله ومعاداتهم ، وقال ابن القيم رحمه الله تعالى :
أتحب أعداء الحبيب وتدعي ... ... ... حبا له ما ذاك في إمكان
وقال الإمام أحمد رحمه الله : " إذا رأيت النصراني أغمض عيني ، كراهة أن أرى بعينى عدو الله " .(11/31)
هذا الذي يجد طعم الإيمان ، أما – والعياذ بالله - الذى يرى أن اليهود أو النصارى على دين مرضي ومقبول عند الله بعد بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهو خارج عن الإسلام ، مكذب بقول الله : { ورضيت لكم الإسلام ديناً } [ المائدة : 3 ] ،
وقوله : { إن الدين عند الله الإسلام } [آل عمران : 19 ] وقوله : { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } [آل عمران:85] ولكثرة اليهود والنصارى والوثنين صار في هذه المسألة خطر على المجتمع ، وأصبح كثير من الناس الآن لا يفرق بين المسلم وكافر ، ولا يدري أن غير المسلم عدو لله – عز وجل - ، بل هو عدو له أيضاً ، لقوله تعالى : { يا أيها الذين أمنوا لا يتخذوا عدوي وعدكم أوليا } [ الممتحنة : 1 ] ، فهم أعداء لنا ولو تظاهروا بالصداقة ، قال الله تعالى : { يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين } [ المائدة : 51 ].
فالآن أصبحنا في محنة وخطر عظيم ، لأنه يخشى على أبنائنا وأبناء قومنا أن يركنوا إلى هؤلاء ويوادوهم يحبوهم ، ولذلك يجب أن تخلص هذه البلاد بالذات منهم ، فهذه البلاد قال فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " لآخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً " { 1 } ، وقال " أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب " { 2 } وقال "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب"، وهذا كله من أجل أن لا يشتبه الأمر على الناس ويختلط أولياء الله بأعدائه .
قوله : " وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا ، وذلك لا يجدي على أهله شيئاً "
قوله : " عامة " . أي : أغلبية .(11/32)
"مؤاخاة الناس": أي مودتهم ومصاحبتهم، أي: أكثر مودة الناس ومصاحبتهم على أمر الدنيا ، وهذا قاله ابن عباس ، وهو بعيد العهد منا قريب العهد من النبوة ، فإذا كان الناس قد تغيروا في زمنه ، فما بالك بالناس اليوم ؟
فقد صارت مؤاخاة الناس – إلا النادر – على أمر الدنيا ، بل صار أعظم من ذلك ، يبيعون دينهم بدنياهم ، قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون } [الأنفال : 27 ] ، ولما كان غالب ما يحمل على الخيانة هو المال وحب الدنيا أعقبها بقوله : { وأعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم } [ الأنفال : 28 } .
ويستفاد من أثر ابن عباس رضي الله عنهما :
أن الله تعالى أولياء ، وهو ثابت بنص القرآن ، قال تعالى : { الله ولى الذين آمنوا } [ البقرة : 257] ، وقال تعالى : { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } [ المائدة : 55] ، فلله أولياء يتولون أمره ويقيمون دينه ، وهو يتولاهم بالمعونة والتسديد والحفظ والتوفيق ، والميزان لهذه الولاية قوله تعالى : { إلا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون } [يونس : 62] .
قال شيخ الإسلام : " من كان مؤمناً تقياً كان لله ولياً " . والولاية سبق أنها النصرة والتأييد والإعانة .
والولاية تنقسم إلى : ولاية من الله للعبد ، وولاية من العبد لله ، فمن الأولى قوله تعالى { الله ولي الذين آمنوا } [ البقرة : 257 ] ومن الثانية قوله تعالى { ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا …. } [ المائدة : 56 ] .(11/33)
والولاية التي من الله للعبد تنقسم إلى عامة وخاصة ، فالولاية العامة هي الولاية على العباد بالتدبير والتصريف ، وهذه تشمل المؤمن والكافر وجميع الخلق ، فالله هو الذي يتولى عباده بالتدبير والتصريف والسلطان وغير ذلك ، ومنه قوله تعالى . { ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق آلا له الحكم وهو أسرع الحاسبين } [ الأنعام : 62].
والولاية الخاصة : أن يتولى الله العبد بعناية وتوفيقه وهدايته ، وهذه خاصة بالمؤمنين ، قال تعالى : { الله ولي الذين أمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجهم من النور إلى الظلمات } [البقرة : 257] وقال : { آلا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولاهم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون } [ يونس : 62 ] .
وقال ابن عباس في قوله تعالى : { وتقطعت بهم الأسباب } [ البقرة : 166] ، قال " المودة " { 1 } .
قوله : " وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : { وتقطعت بهم الأسباب } ، قال : المودة " . يشير إلى قوله تعالى : { إذ تبرأ الذين أتبعوا من الذين أتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب } .
الأسباب : جمع سبب ، وهو كل ما يتوصل به إلى شيء .
وفى اصطلاح الأصوليين : ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم ، فكل ما يوصل إلى شىء ، فهو سبب ، قال تعالى : { من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع } [ الحج : 15 ] ، ومنه سمي الحبل سبباً ، لأن الإنسان يتوصل به إلى استخراج الماء من البئر .(11/34)
وقوله : " قال : المودة " . هذا الأثر ضعفه بعضهم ، لكن معناه صحيح ، فإن جميع الأسباب التي يتعلق بها المشركون لتنجيهم تنقطع بهم ، ومنها محبتهم لآصنامهم وتعظيمهم إياها ، فإنها لا تنفعهم ، ولعل ابن عباس رضي الله عنهما أخذ ذلك من سياق الآيات ، فقد قال الله تعالى : { ومن الناس من يتخذ من دون أخذ أنداداً يحبونهم كحب الله … } [البقرة : 165] ، ثم قال : { إذ تبرأ الذين أتبعوا من الذين أتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب } [البقرة : 166] .
وبه تعرف أن مراده المودة الشركية ، فأما المودة الإيمانية كمودة الله تعالى ومودة ما يحبة من الإعمال والإشخاص ، فإنها نافعة موصلة للمراد ، قال الله تعالى : { الإخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين … } [ الزخرف : 67] .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير أية البقرة : الثانية : تفسير آية براءة . الثالثة : وجوب محبته - صلى الله عليه وسلم - على النفس والأهل والمال . الرابعة : نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام .الخامسة : أن للإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان وقد لا يجدها . السادسة : أعمال القلب الأربع التي لا تنال ولاية الله إلا بها ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها. السابعة : فهم الصحابى للواقع ، أن عامة المؤاخاة على مر الدنيا . الثامنة : تفسير : { وتقطعت بهم الإسباب } . التاسعة : أن من المشركين من يحب الله حباً شديداً . العاشرة الوعيد على من كان الثمانية أحب إليه من دينه . الحادية عشرة : أن من أتخذ نداً تساوى محبته الله ، فهو الشرك الأكبر .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية البقرة . وهي قوله تعالى : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله } . وسبق ذلك .
الثانية : تفسير آية براءة . وهي قوله تعالى : { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم … } الأية : وسبق تفسيرها .(11/35)
الثالثة : وجوب محبته - صلى الله عليه وسلم - على النفس والأهل والمال . وفي نسخة : " وتقديمها على النفس والأهل والمال " .
ولعل الصواب : وجوب تقديم محبته كما هو مقتضى الحديث ، وأيضاً قوله : " على النفس " يدل على أنها قد سقطت كلمة تقديم أو وتقديمها ، وتؤخذ من حديث أنس السابق ومن قوله تعالى : { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم … أحب إليكم من الله ورسوله } ، فذكر الأقارب والأموال .
الرابعة : أن تفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام . سبق أن المحبة كسبية ، وذكرنا في ذلك حديث عمر رضي الله عنه لما قال للرسول - صلى الله عليه وسلم - :" والله إنك لأحب إلى من كل شىء إلا من نفسي . فقال له ومن نفسك . فقال : الآن ، أنت أحب إلى من نفسي " قوله : " الآن " يدل على حدوث هذه المحبة ، وهذا أمر ظاهر ، وفيه أيضاَ أن نفي الإيمان المذكور في قوله : " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده … " لا يدل على الخروج من الإسلام ، لقوله في الحديث الآخر : " ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان " ، لان حلاوة الإيمان أمر زائد على أصله ، أي إن الدليل مركب من الدليلين .
ونفي الشيء له ثلاث حالات : فالآصل أنه نفي للوجود ، وذلك مثل : " إيمان لعابد صنم " فإن منع مانع من نفي الوجود ، فهو نفي للصحة ، مثل " لا صلاة بغير وضوء " ، فإن منع مانع من نفي الصحة ، فهو نفي للكمال ، مثل : " لا صلاة بحضرة طعام " ، فقوله : " لا يؤمن أحدكم " نفي للكمال الواجب لا المستحب ، قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمة الله : " لاينفى الشيء إلا لانتفاء واجب فيه ما لم يمنع من ذلك مانع " .
الخامسة : إن للإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان وقد لا يجدها . تؤخذ من قوله : " ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان ، وهذا دليل انتفاء الحلاوة إذا أنتفت هذه الإشياء .(11/36)
السادسة : أعمال القلب الأربعة التي لا تنال ولاية الله إلا بها ، ولا يجد أحد طعم الأيمان إلا بها . وهي : الحب في الله ، والبغض في الله ، والولاء في الله ، والعداء في الله .
لا تنال ولاية الله إلا بها ، فلو صلى الأنسان وصام ووالى أعداء الله ، فإنه لاينال ولاية الله ، قال ابن القيم :
أتحب أعداء الحبيب وتدعي ... ... حبا له ما ذاك في إمكان
وهذا لا يقبله حتى الصبيان أن توالي من عاداهم .
وقوله : " ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها " مأخوذة من قول ابن عباس : ولن يجد عبد طعم الإيمان … " الخ .
السابعة : فهم الصحابى للواقع أن عامة المؤاخاة على أمر الدينا .
الصحابى يعني به ابن عباس رضي الله عنهما ، وقوله : " إن عامة المؤاخاة على أمر الدينا " ، هذا في زمنه فكيف بزمننا ؟ !
الثامنة : تفسير قوله : { وتقطعت بهم الإسباب } . فسرها بالمودة ، وتفسير الصحابى إذا كانت الإية من صيغ العموم تفسير بالمثال ، لأن العبرة في نصوص الكتاب والسنة بعموماتها ، فإذا ذكر فرد من أفراد هذا العموم ، فإنما يقصد به التمثيل ، أي مثل المودة ، لكن حتى الإسباب الأخرى التي يتقربون بها إلى الله وليست بصحيحة ، فإنها تنقطع بهم ولا ينالون منها خيراً .
التاسعة : أن من المشركين من يحب الله حباً شديداً . تؤخذ من قوله تعالى : { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله } ، وهم يحبون الأصنام حباً شديداً ، وتؤخذ من قوله تعالى : { والذين آمنوا أشد حباً لله } ، فأشد : اسم تفضيل يدل على الإشتراك بالمعنى مع الزيادة ، فقد أشتركوا في شدة الحب ، وزاد المؤمنون بكونهم أشد حباً لله من هؤلاء لأصنامهم .
العاشرة : الوعيد على من كان الثمانية أحب إليه من دينه . الثمانية هي المذكورة في قوله تعالى : { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترافتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها } .(11/37)
والوعيد في قوله : { فتربصوا } فأفاد المؤلف رحمه الله تعالى أن الإمر هنا للوعيد .
الحادية عشرة : أن من أتخذ نداً تساوى محبته الله فهو الشرك الأكبر . لقوله تعالى : { يحبونهم كحب الله } ، ثم بين في سياق الآيات أنهم مشركون شركاً أكبر ، بدليل ما لهم من العذاب .
باب قول الله تعالى
{ إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياء فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } [ أل عمران : 175] .
مناسبة الباب لما قبله .
أن المؤلف رحمه الله أعقب باب المحبة بباب الخوف ، لأن العبادة ترتكز على شيئين : المحبة ، والخوف .
فبالمحبة يكون امتثال الإمر ، وبالخوف يكون اجتناب النهي ، وإن كان تارك المعصية يطلب الوصول إلى الله ، ولكن هذا من لازم ترك المعصية ، وليس هو الأساس .
فلو سألت من لا يزني لماذا ، لقال : خوفاً من الله .
ولو سألت الذي يصلى ؛ لقال : طمعاً في ثواب الله ومحبة له .
وكل منهما ملازم للآخرة ؛ فالخائف والمطيع يريدان النجاة من عذاب الله والوصول إلى رحمته .
وهل الأفضل للإنسان أن يغلب جانب الخوف أو يغلب جانب الرجاء ؟
أختلف في ذلك :
فقيل : ينبغي أن يغلب جانب الخوف ، ليحمله ذلك على اجتناب المعصية ثم فعل الطاعة .
وقيل يغلب جانب الرجاء ، ليكون متفائلا، والرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يعجبه الفأل { 1 } .
وقيل في فعل الطاعة : يغلب جانب الرجاء ، فالذي من عليه بفعل هذه الطاعة سيمن عليه بالقبول ، ولهذا قال بعض السلف : إذا وفقك الله للدعاء ، فانتظر الإجابة ، لأن الله يقول : { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } [ غافر : 60] ، وفي فعل المعصية يغلب جانب الخوف ، لأجل أن يمنعه منها ثم إذا خاف من العقوبة تاب .(11/38)
وهذا أقرب شيء ، ولكن ليس بذاك القرب الكامل ؛ لأن الله يقول : { والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجله أنهم إلى ربهم راجعون } [ المؤمنون : 60] ، أي : يخافون أن لا يقبل منهم ، لكن قد يقال هذه الآية يعارضها أحاديث أخرى ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث القدسي عن ربه : " أنه عند ظن عبدي بي ، وأنا معه حين يذكرني " { 1 } .
وقيل : في حال المرض يغلب جانب الرجاء ، وفي حال الصحة يغلب جانب الخوف ، فهذه أربعه أقوال .
وقال الإمام أحمد : ينبغي أن يكون خوفه ورجاؤه واحداً ؛ فأيهما غلب هلك صاحبه ، أي : يجعلهما كجناحي الطائر ، والجناحان للطائر إذا لم يكونا متساوين سقط .
وخوف الله تعالى درجات ؛ فمن الناس من يغلو في خوفه ، ومنهم من يفرط ، ومنهم من يعتدل في خوفه .
والخوف العدل هو الذي يرد عن محارم الله فقط ، وإن زدت علي هذا؛ فإنه يوصلك إلى اليأس من روح الله .
ومن الناس من يفرط في خوفه بحيث لا يردعه عما نهى الله عنه .
والخوف أقسام :
الأول : خوف العبادة والتذلل والتعظيم والخضوع ، وهو ما يسمى بخوف السر.
وهذا لا يصلح إلا لله – سبحانه - ، فمن أشرك فيه مع الله غيره ؛ فهو مشرك شركاً أكبر ، وذلك مثل : مَن يخاف من الأصنام أو الأموات ، أو من يزعمونهم أولياء ويعتقدون نفعهم وضرهم ؛ كما يفعله بعض عباد القبور : يخاف من صاحب القبر أكثر مما يخاف الله .
الثاني : الخوف الطبيعي والجبلي ؛ فهذا في الأصل مباح ، لقوله تعالى عن موسى : { فخرج منها خائفاً يترقب } ، وقوله عنه أيضاً : { رب إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون } ، لكن إن حمل على ترك واجب أو فعل محرم ؛ فهو محرم ، وإن استلزم شيئاَ مباحاً كان مباحاً ، فمثلاً من خاف من شيء لا يؤثر عليه وحمله هذا الخوف على ترك صلاة الجماعة مع وجوبها ؛ فهذا الخوف محرم ، والواجب عليه أن لا يتأثر به .(11/39)
وإن هدده إنسان على فعل محرم ، فخافه وهو لا يستطيع أن ينفذ ما هدده به ، فهذا خوف محرم لأنه يؤدي إلى فعل محرم بلا عذر ، وإن رأى ناراً ثم هرب منها ونجا بنفسه ؛ فهذا خوف مباح ، وقد يكون واجباً إذا كان يتوصل به إلى إنقاذ نفسه .
وهناك ما يسمى بالوهم وليس بخوف ، مثل أن يرى ظل شجرة تهتز فيظن أن هذا عدو يتهدده ، فهذا لا ينبغي للمؤمن أن يكون كذلك ، بل يطارد هذه الأوهام لأنه حقيقة لها ، وإذا لم تطاردها ؛ فإنها تهلكك .
مناسبة الخوف للتوحيد : إن من أقسام الخوف ما يكون شركاً منافياً للتوحيد .
* * *
وقد ذكر المؤلف فيه ثلاث آيات :
أولها ما جعلها ترجمة للباب ، وهي قوله تعالى : { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه } .
{ إنما ذلكم } : صيغة حصر والمشار إليه التخويف من المشركين .
{ ذلكم } : ذا : مبتدأ ، { الشيطان } : يحتمل أن يكون خبر المبتدأ ، وجمله
{ يخوف } حال من الشيطان .
ويحتمل أن يكون { الشيطان } صفة لـ { ذلكم } ، أو عطف بيان ، و
{ يخوف } : خبر المبتدأ ، والمعنى : ما هذا التخويف الذي حصل إلا من شيطان يخوف أولياءه .
و { يخوف } تنصب مفعولين ، الأول محذوف تقديره : يخوفكم ، والمفعول الثاني : { أولياءه } .
ومعنى يخوفكم ، أي : يوقع الخوف فى قلوبكم منهم ، { أولياءه } ؛ أي : أنصاره الذين ينصرون الفحشاء والمنكر ؛ لأن الشيطان يأمر بذلك ؛ فكل من نصر الفحشاء والمنكر ؛ فهو من أولياء الشيطان ؛ ثم قد يكون النصر في الشرك وما ينافي التوحيد ، فيكون عظيماً وقد يكون دون ذلك .(11/40)
وقوله : { يخوف أولياءه } من ذلك ما وقع في الآية التي قبلها ، حيث قالوا : { إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم } [ أل عمران : 173] ، وذلك ليصدهم عن واجب من واجبات الدين ، وهو الجهاد ، فيخوفونهم بذلك ، وكذلك ما يحصل في نفس من أراد أن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر ، فيخوفه الشيطان ليصده عن هذا العمل ، وكذلك ما يقع في قلب الداعية .
والحاصل : أن الشيطان يخوف كل من أراد أن يقوم بواجب ، فإذا ألقى الشيطان في نفسك الخوف ؛ فالواجب عليك أن تعلم أن الإقدام على كلمة الحق ليس هو الذي يدنى الإجل ، وليس السكوت والجبن هو الذي يبعد الأجل ؛ فكم من داعية صدع بالحق وما على فراشه ؟ ! وكم من جبان قتل في بيته ؟ !
وانظر إلى خالد بن الوليد ، كان شجاعاً مقداماً ومات على فراشه ، وما دام الإنسان قائماً بأمر الله ؛ فليثق بأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، وحزب الله هم الغالبون .
قوله : { فلا تخافوهم } . لا ناهية ، والهاء ضمير يعود على أولياء الشيطان ، وهذا النهي للتحريم بلا شك ؛ أي : بل أمضوا فيما أمرتكم به وفيما أوجبته عليكم من الجهاد ، ولا تخافوا هؤلاء ، وإذا كان الله مع الإنسان ، فإنه لا يغلبه أحد ، لكن نحتاج في الحقيقة إلى صدق النية والإخلاص والتوكل التام ، ولهذا قال تعالى : { إن كنتم مؤمنين } ، وعلم من هذه الآية أن للشيطان وساوس يلقيها في قلب ابن أدم منها التخويف من أعدائه ، وهذا ما وقع فيه كثير من الناس ، وهو الخوف من أعداء الله فكانوا فريسة لهم ، وإلا لو اتكلوا على الله وخافوه قبل كل شيء لخافهم الناس ، ولهذا قيل في المثل : مَن خاف الله خافه كل شيء ، ومن اتقى الله أتقاه كل شيء ، ومن خاف من غير الله خاف من كل شيء .
ويفهم من الآية أن الخوف من الشيطان وأوليائة مناف للإيمان ، فإن كان الخوف يؤدي إلى الشرك ، فهو مناف لأصله ، وإلا ، فهو مناف لكماله .(11/41)
وقوله : { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } [ التوبة : 18] .
الآية الثانية قوله تعالى : { إنما يعمر } .
{ إنما } : أداة حصر ، والمراد بالعمارة العمارة المعنوية ، وهي عمارتها بالصلاة والذكر وقراءة القرآن ونحوها ، وكذلك الحسية بالبناء الحسي ؛ فإن عمارتها به حقيقة لا تكون إلا ممن ذكرهم الله ؛ لأن من يعمرها وهو لم يؤمن بالله واليوم الآخر لم يعمرها حقيقة ؛ لعدم انتفاعه بهذه العمارة ؛ فالعمارة النافعة الحسية والمعنوية من الذين آمنوا بالله واليوم الأخر ، ولهذا لما أفتخر المشركون بعمارة المسجد الحرام ، قال تعالى : { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الأخر } ، وأضاف سبحانه المساجد إلى نفسه تشريفاً ؛ لآنها موضوع عبادته .
قوله : { من أمن بالله } . { من } : فاعل يعمر ، والإيمان بالله يتضمن أربعة أمور ، وهى :
الإيمان بوجوده ، وربوبيته ، وألوهيته ، وأسمائه وصفاته .
واليوم الآخر : هو يوم القيامة ، وسمي بذلك ، لأنه لا يوم بعده .
قال شيخ الإسلام : ويدخل في الإيمان بالله واليوم الآخر كل ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - مما يكون بعد الموت مثل فتنة القبر وعذابه ونعيمه .
لأن حقيقة الأمر أن الإنسان إذا مات قامت قيامته وارتحل إلى دار الجزاء .
ويقرن الله الإيمان به بالإيمان باليوم الآخر كثيراً ؛ لأن الإيمان باليوم الآخر يحمل الإنسان إلى الامتثال ، فإنه إذا آمن أن هناك بعثاً وجزاءً ؛ حمله ذلك على العمل لذلك اليوم ، ولكن من لا يؤمن باليوم الإخر لا يعمل ؛ إذ كيف يعمل لشيء وهو لا يؤمن به ؟ !
قوله : { وأقام الصلاة } . أي : أتى بها على وجه قويم لا نقص فيه ، والإقامة نوعان :
إقامة واجبة ، وهي التي يقتصر فيها على فعل الواجب من الشروط والأركان والواجبات .(11/42)
وإقامة مستحبة : وهي التي يزيد فيها على فعل ما يجب فيأتيى بالواجب والمستحب .
قوله : { وآتى الزكاة } . { آتى } تنصب مفعولين : الأول هنا الزكاة ، والثاني : محذوف : تقديره مستحقيها .
والزكاة : هي المال الذي أوجبه الشارع في الأموال الزكوية وتختلف مقاديرها حسب ما تقتضيه حكمة الله – عز وجل -.
قوله : { ولم يخش إلا الله } . في هذه الآية حصر طريقة الإثبات والنفي . { لم يخش } نفي : { إلا الله } إثبات ، والمعنى : أن خشيته انحصرت في الله – عز وجل - ؛ فلا يخشى غيره .
والخشية نوع من الخوف ، لكنها أخص منه ، والفرق بينهما :
1 – أن الخشية تكون مع العلم بالمخشي وحاله ، لقوله تعالى : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } [ فاطر : 28] ، والخوف قد يكون من الجاهل .
2 – أن الخشية تكون بسبب عظمة المخشي ، بخلاف الخوف ، فقد يكون من ضعف الخائف لا من قوة المخوف .
قوله : { فعسى أولئك أن يكون من المهتدين } . قال ابن عباس : " عسى من الله واجبة " { 1 } ، وجاءت بصيغة الترجي ، لئلا يأخذ الإنسان الغرور بأنه حصل على هذا الوصف ، وهذا كقوله تعالى : { إلا المستضعفين من الرجال والنساء والوالدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً * فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفواً غفوراً } [ النساء : 98-99] ، فالله لا يكلف نفساً إلا وسعها ؛ فالذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً جديرون بالعفو .
الشاهد من الآية : قوله : { ولم يخش إلا الله } ، ولهذا قال تعالى : { فلا تخشوا الناس واخشون } [ المائدة : 44 ] ، ومن علامات صدق الإيمان أن لا يخشى إلا الله في كل ما يقول ويفعل .(11/43)
ومن أراد أن يصحح هذا المسير ، فليتأمل قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " واعلم أن الأمة لو أجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك " { 1 } .
وقوله : { ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله } [ العنكبوت : 10] الآية .
الآية الثالثة قوله تعالى : { ومن الناس } . جار ومجرور خبر مقدم ، و { من } تبعيضية .
وقوله : { من يقول } . { من } : مبتدأ مؤخر ، والمراد بهؤلاء : من لا يصل الإيمان إلى قرارة قلبه ؛ فيقول : آمنا بالله ، لكنه إيمان متطرف ؛ كقوله تعالى : { ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه } [ الحج : 11 ] ، { على حرف } ؛ أي : على طرف .
فإذا امتحنه الله بما يُقَدِر عليه من إيذاء الأعداء في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ، قوله : { فإذا أوذي في الله } . { في } : للسببية ، أي : بسبب الإيمان بالله وإقامة دينه .
ويجوز أن تكون { في } للظرفية على تقدير : " فإذا أوذي في شرع الله " ؛ أي : إيذاء في هذا الشرع الذي تمسك به .
قوله : { جعل فتنة الناس } . { جعل } : صير ، والمراد بالفتنة هنا الإيذاء ، وسمي فتنه ؛ لأن الإنسان يتفتن به ، فَيُصد عن سبيل الله ؛ كما قال تعالى : { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا } [ البروج : 10 ] وأضاف الفتنة إلى الناس من باب إضافة المصدر إلى فاعله .(11/44)
قوله : { كعذاب الله } . ومعلوم أن الإنسان يفر من عذاب الله ، فيوافق أمره ؛ فهذا يجعل فتنة الناس كعذاب الله ؛ فيفر من إيذائهم بموافقة أهوائهم وأمرهم جعلاً لهذه الفتنة كالعذاب ؛ فحينئذ يكون قد خاف من هؤلاء كخوفة من الله ؛ لأنه جعل إيذاءهم كعذاب الله ، ففر منه بموافقة أمرهم ، فالآية موافقة للترجمة .
وفي هذه الآية من الحكمة العظيمة ، وهي ابتلاء الله العبد لآجل أن يمحص إيمانة ، وذلك على قسمين :
الأول : ما يقدره الله نفسه على العبد ؛ كقوله تعالى : { ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير أطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة } [ الحج : 11] وقوله تعالى : { وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون } [ البقرة : 155 ، 156] .
الثاني : ما يقدره الله على أيدي الخلق من الإيذاء امتحاناً واختباراً ، وذلك كالآية التي ذكر المؤلف .
وبعض الناس إذا أصابته مصائب لا يصبر ، فيكفر ويرتد أحياناً - - والعياذ بالله - ، وأحياناً يكفر بما خالف فيه أمر الله - - عز وجل - - في موقفه في تلك المصيبة ، وكثير من الناس ينقص إيمانه بسبب المصائب نقصاً عظيماً ؛ فليكن المسلم على حذر ، فالله حكيم يمتحن عباده بما يتبين به تحقق الإيمان ، قال تعالى : { ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم } [ محمد : 31] .
قوله : " الآية " . أي : إلى آخر الآية ، وهي قوله تعالى : { ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين } .
كانوا يدعون أن ما يحصل لهم من الإيذاء بسبب الإيمان ، فإذا انتصر المسلمون قالوا : نحن معكم نريد أن يصيبنا مثل ما أصابكم من غنيمة وغيرها .
وقوله : { أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين } . قيل في مثل هذا السياق : إن الواو عاطفة على محذوف يقدر بحسب ما يقتضيه السياق .(11/45)
وقيل : إنها عاطفة على ما سبقها على تقدير أن الهمزة بعدها ، أي : وأليس الله
قوله : { أعلم } مجرور بالفتحة ؛ لأنه ممنوع من الصرف للوصفية ووزن الفعل .
فالله أعلم بما في صدور العالمين ، أي بما في صدور الجميع ، فالله أعلم بما في نفسك منك ، وأعلم بما في نفس غيرك ؛ لأن علم الله عام .
وكلمة { أعلم } : اسمم تفضيل ، وقال بعض المفسرين ولا سيما المتأخرون منهم: (أعلم) بمعنى عالم، وذلك فراراً من أن يقع التفضيل بين الخالق والمخلوق ، وهذا التفسير الذي ذهبوا إليه ذهبوا إليه كما أنه خلاف اللفظ ، ففيه فساد المعنى ؛ لأنك إذا قلت : أعلم بمعنى عالم ، فإن كلمة عالم تكون لإنسان وتكون لله ، ولا تدل على التفاضل ؛ فالله عالم والإنسان عالم .
وأما تحريف اللفظ ، فهو ظاهر ، حيث حرفوا اسم التفضيل الدال على ثبوت المعنى وزيادة إلى أسم فاعل لا يدل على ذلك .
والصواب أن { أعلم } على بابها ، وأنها اسم تفضيل ، وإذا كانت اسم تفضيل ، فهي دالة دلالة واضحة على عدم تماثل علم الخالق وعلم المخلوق ، وأن علم الخالق أكمل .
وقوله : { بما في صدور العالمين } . المراد بالعالمين : كل من سوى الله ، لأنهم عَلَمٌ على خالقهم ، فجميع المخلوقات دالة على كمال الله وقدرته وربوبيته والله أعلم بنفسك منك ومن غيرك ، لعموم الآية .
وفي الآية تحذير من أن يقوم الإنسان خلاف ما في قلبه ، ولهذا لما تخلف كعب بن مالك في غزوة تبوك قال للرسول - صلى الله عليه وسلم - حين رجع : " إنى قد أوتيت جدلآ ، ولو جلست إلى غيرك من ملوك الدنيا ؛ لخرجت منهم بعذر ، لكن لا أقول شيئاً تعذرني فيه فيفضحني الله فيه " { 1 }
الشاهد من الآية : قوله : { فإذا أوذي في الله فتنة الناس كعذاب الله } ؛ فخاف الناس مثل خوف الله تعالى .(11/46)
عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً : " إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله ، وأن تحمَدهم على رزق الله ، وأن تذمهم على مالم يؤتك الله ، إن رزق الله لا يجره حرص حريص ، ولا يرده كراهية كاره " { 1 } .
قوله في حديث أبي سعيد : " إن من ضعف اليقين " . "من" . للتبعيض ، والضعف ضد القوة ، ويقال : ضعف بفتح الضاد ، أو ضعف بضم الضاد ، وكلاهما بمعنى واحد ، أي : من علامة ضعف اليقين .
قوله : " أن ترضي الناس " . " أن ترضي " : اسم إن مؤخراً ، و" من ضعف اليقين " خبرها مقدماً ، والتقدير : إن إرضاء الناس بسخط الله من ضعف اليقين .
قوله : " بسخط الله " . الباء للعوض ، يعني : أي تجعل عوض إرضاء الناس سخط الله ، فتستبدل هذا ، بهذا؛ من ضعف اليقين .
واليقين أعلى درجات الإيمان ، وقد يراد به العلم ، كما تقول : تيقنت هذا الشيء، أي : علمته يقيناً لا يعتريه الشك ، فمن ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله ؛ إذ إنك خفت الناس أكثر مما تخاف الله ، وهذا مما أبتليت به الأمة الإسلامية اليوم ؛ فتجد الإنسان يجيء إلى شخص فيمدحه ، وقد يكون خالياً من هذا المدح ، ولا يبين ما فيه من عيوب ، وهذا من النفاق وليس من النصح والمحبة ، بل النصح أن تبين له عيوبه ليتلافاها ويحترز منها ، ولا بأس أن تذكر له محامده تشجيعاً إذا أمن في ذلك من الغرور
قوله : " وأن تحمدهم على رزق الله" . الحمد : وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم .
ولكنه هنا ليس بشرط المحبة والتعظيم ، لأنه يشمل المدح .
و" رزق الله " : عطاء الله ، أي : إذا أعطوك شيئاً حمدتهم ونسيت المسبِّب وهو الله ، والمعنى : أن تجعل الحمد كله لهم متناسياً بذلك المسبب ، وهو الله ، فالذي أعطاك سبب فقط ، والمعطي هو الله ، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنما أنا قاسم والله يعطي " { 1 } .(11/47)
أما إن كان في قلبك أن الله هو الذي منَّ عليك بسياق هذا الرزق ، ثم شكرت الذي أعطاك ؛ فليس هذا داخلاً في الحديث ، بل هو من الشرع ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من صنع إليكم معروفاً ، فكافئوه ، فإن لم تجدوا ما تكافئونه به ، فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه " { 2 } .
إذن الحديث ليس على ظاهره من كل وجه ، فالمراد بالحمد : أن تحمدهم الحمد المطلق ناًسياً المسبب وهو الله - - عز وجل -، وهذا ضعف اليقين ، كأنك نسيت المنعم الأصلي ، وهو الله - - عز وجل - ، الذي له النعمة الأولى ، وهو سفه أيضاً ، لأن حقيقة الإمر أن الذي أعطاك هو الله ، فالبشر الذي أعطاك هذا الرزق لم يخلق ما أعطاك ، فالله هو الذي خلق ما بيده ، وهو الذي عطف قلبه حتى أعطاك ، أرأيت لو أن إنساناً له طفل ، فأعطى طفله ألف درهم وقال له : أعطها فلاناً ، فالذي أخذ الدراهم يحمد الأب؛ لأنه لو حمد الطفل فقط لعدَّ هذا سفهاً ، لأن الطفل ليس إلا مرسلاً فقط، وعلى هذا ؛ فنقول : إنك إذا حمدتهم ناسياً بذلك ما يجب لله من الحمد والثناء ؛ فهذا هو الذي من ضعف اليقين ، أما إذا حمدتهم على أنهم سبب من الإسباب ، وأن الحمد كله لله - عز وجل - ، فهذا حق ، وليس من ضعف اليقين .
قوله : " وأن تذمهم على مالم يؤتك الله " . هذه عكس الأولى ، فمثلاً : لو أن إنساناً جاء إلى شخص يوزع دراهم ، فلم يعطه ، فسبه وشتمه ، فهذا من الخطأ لأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن .
لكن من قَصَّر بواجب عليه ، فَيُذَم لأجل أنه قصر بالواجب لا أجل أنه لم يعط ، فلا يذم من حيث القدر ، لأن الله لو قَدَّر ذلك لوجدت الأسباب التي يصل بها إليك هذا العطاء .
وقوله : " ما لم يؤتك " . علامة جزمه حذف الياء ، والمفعول الثاني محذوف ؛ لأنه فضلة ، والتقدير : مالم يؤتكه .
قوله : " إن رزق الله لا يجره حرص ولا يرده كراهية كاره " .
هذا تعليل ؛ لقوله : " أن تحمدهم وأن تذمهم " .(11/48)
و"رزق الله " : عطاؤه لكن حرص الحريص من سببه بلا شك ، فإذا بحث عن الرزق وفعل الأسباب ، فإنه يكون فعل الأسباب الموجبة للرزق ، لكن ليس المعنى أن هذا السبب موجب مستقل ، وإنما الذي يرزق هو الله تعالى ، وكم من إنسان يفعل أسباباً كثيرة للرزق ولا يرزق ، وكم من إنسان يفعل أسباباً قليلة فيرزق ، وكم من إنسان يأتيه الرزق بدون سعي ، كما لو وجد ركازاً في الإرض أو مات له قريب غني يرثه ، أو ما أشبه ذلك.
وقوله : " ولا يرده كراهية كاره " . أي رزق الله إذا قدر للعبد ، فلن يمنعه عنه كراهية كاره ، فكم من إنسان حسده الناس ، وحاولوا منع رزق الله ، فلم يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً .
وعن عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من التمس رضا الله بسخط الناس ؛ رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ، ومن التمس رضا الناس بسخط الله ، سخط عليه وأسخط عليه الناس " رواه ابن حبان في " صحيحه " { 1 }
قوله في حديث عائشة رضي الله عنها : " من التمس رضا الله بسخط الناس " .
"التمس " : طلب ، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - في ليلة القدر : " التمسوها في العشر " { 2 }
وقوله : " رضا الله " . أي : أسباب رضاه ، وقوله : " بسخط الناس " : الباء للعوَض ؛ أي طلب ما يرضي الله ولو سخط الناس به بدلا من هذا الرضا وجواب الشرط : " رضي الله عنه وأرضى عنه الناس " .
وقوله : " رضي الله عنه وأرضى عنه الناس " . هذا ظاهر ، فإذا التمس العبد رضا ربه بنية صادقة رضي الله عنه ؛ لأنه أكرم من عبده ، وأرضى عنه الناس ، وذلك بما يلقي في قلوبهم من الرضا عنه ومحبته ؛ لأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء .(11/49)
قوله : " ومن التمس رضا الناس بسخط الله " . " التمس " : طلب ، أي : طلب ما يرضى الناس ، ولو كان يسخط الله ، فنتيجة ذلك أن يعامل بنقيض قصده ، لهذا قال : " سخط الله عليه وأسخط عليه الناس " ، فألقى في قلوبهم سخطه وكراهيته .
مناسبة الحديث للترجمة :
قوله : " ومن التمس رضا الناس بسخط الله " ؛ أي خوفاً منهم حتى يرضوا عنه ، فقدم خوفهم على مخافة الله تعالى .
فيستفاد من الحديث ما يلي :
وجوب طلب ما يرضي الله وإن سخط الناس ؛ لأن الله هو الذي ينفع ويضر .
أنه لا يجوز أن يلتمس ما يسخط الله من أجل إرضاء الناس كائناً من كان .
إثبات الرضا والسخط لله على وجه الحقيقة ، لكن بلا مماثلة للمخلوقين ؛ لقوله تعالى : { ليس كمثله شيء } ، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة ، وأما أهل التعطيل ؛ فأنكروا حقيقة ذلك ، قالوا : لأن الغضب غليان دم القلب لطلب الإنتقام ، وهذا لا يليق بالله ، وهذا خطأ ؛ لأنهم قاسوا سخط الله أو غضبه بغضب المخلوق ، فنرد عليهم بأمرين : بالمنع ، ثم النقض :
فالمنع : أن نمنع أن يكون معنى الغضب المضاف إلى الله – عز وجل – كغضب المخلوقين .
والنقص : فنقول للأشاعرة : أنتم أثبتم لله – عز وجل – الإرادة ، وهى ميل النفس إلى جلب منفعه أو دفع مضرة ، والرب عز وجل لا يليق به ذلك ، فإذا قالوا : هذه إرادة المخلوق . نقول : والغضب الذي ذكرتم هو غضب المخلوق .
وكل إنسان أبطل ظواهر النصوص بأقيسة عقلية ، فهذه الأقيسة باطلة لوجوه :
الأولى : أنها تبطل دلالة النصوص ، وهذا يقتضي أن تكون هي الحق ، ومدلول النصوص باطل ، وهذا ممتنع .
الثاني : أنه تقول على الله بغير علم ؛ لأن الذي يبطل ظاهر النص يُؤوِّله إلى معنى آخر ؛ فيقال له : ما الذي أدراك أن الله أراد هذا المعنى دون ظاهر النص ؟ ففيه تقول على الله في النفي والإثبات في نفي الظاهر ، وفي إثبات ما لم يدل عليه دليل .(11/50)
الثالث : أن فيه جناية على النصوص ، حيث أعتقد أنها دالة على التشبيه ، لأنه لم يعطل إلا لهذا السبب ، فيكون ما فهم من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - كفراً أو ضلالاً.
الرابع : أن فيها طعناً في الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين ، لأننا نقول : هذه المعاني التي صرفتم النصوص إليها هل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخلفاؤه يعلمون بها أم لا ؟
فإن قالوا : لا يعلمون ، فقد اتهموهم بالقصور ، وإن قالوا : يعلمون ولم يبينوها ، فقد اتهموهم بالتقصير .
فلا تستوحش من نص دل على صفة أن تثبتها ، لكن يجب عليك أن تجتنب أمرين هما :
التمثيل والتكيف ، لقوله تعالى : { فلا تضربوا لله الإمثال } [ النحل : 74 ] ، وقوله : { ولا تقف ما ليس لك به علم } [الإسراء : 36 ] ، فإذا أثبت الله لنفسه وجهاً أو يدين؛ فلا تستوحش من إثبات ذلك ،لأن الذي أخبر به عن نفسه أعلم بنفسه من غيره وأصدق قيلاً وأحسن حديثاً ، وهو يريد لخلقه الهداية ، وإذا أثبت رسوله ذلك له ؛ فلا تستوحش من إثباته ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - : أصدق الخلق ، وأعلمهم بما يقول عن الله ، وأبلغهم نطقاً وفصاحة ، وأنصح الخلق للخلق .
فمن أنكر صفة أثبتها الله لنفسه أو أثبتها له رسول ، وقال : هذا تقشعر منه الجلود وتنكره القلوب ، فيقال : هذا لا ينكره إلا إنسان في قلبه مرض ، أما الذين آمنوا ؛ فلا تنكره قلوبهم ، بل تؤمن به وتطمئن إليه ، ونحن لم نكلف إلا بما بلغنا ، والله يريد لعباده البيان والهدى ، قال تعالى : { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم } [النساء:26]؛ فهو لا يريد أن يعمي عليهم الأمر؛ فيقول : إنه يغضب وهو لا يغضب ، وقوله : إنه يهرول وهو لا يهرول ، هذا خلاف البيان .
فيه مسائل :(11/51)
الأولى : تفسير آية آل عمران . الثانية : تفسير آية براءة . الثالثة . تفسير آية العنكبوت . الرابعة : أن اليقين يَضّعف ويقوى . الخامسة : علامة ضعفه ، ومن ذلك هذه الثلاث .السادسة : إن إخلاص الخوف لله من الفرائض . السابعة : ذكر ثواب من فعله . الثامنة : ذكر عقاب من تركه .
فيه مسائل :
الأولى: تفسير آية أل عمران . وهي قوله تعالى : { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } ، وسبق .
الثانية : تفسير أية براءة . وهي قوله تعالى : { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الإخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } ، وسبق .
الثالثة : تفسير آية العنكبوت . وهي قوله تعالى : { ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله } ، وقد تكلمنا على تفسيرها فيما سبق الرابعة : أن اليقين يضعف ويقوى : تؤخذ من الحديث : " إن من ضعف اليقين …" الحديث .
الخامسة : علامة ضعفه ، ومن ذلك هذه ثلاث . وهي : أن ترضي الناس بسخط الله ، وأن تحمدهم على رزق الله ، وأن تذمهم على مالم يؤتك الله .
السادسة : أن إخلاص الخوف لله من الفرائض . وتؤخذ من قوله في الحديث : " من التمس …. " الحديث ، ووجهه ترتيب العقوبة على من قدم رضا الناس على رضا الله تعالى .
السابعة : ذكر ثواب من فعله . وهو رضا الله عنه ، وأنه يرضي عنه الناس ، وهو العاقبة الحميدة .
الثامنة : ذكر عقاب من تركه . وهو أن يسخط الله عليه ويسخط عليه الناس ، ولا ينال مقصوده .
وخلاصة الباب :(11/52)
أنه يجب على المرء أن يجعل الخوف من الله فوق كل خوف ، وأن لا يبالي بأحد في شريعة الله تعالى ، وأن يعلم أن من التمس رضا الله تعالى وإن سخط الناس عليه ؛ فالعاقبة له ، وإن التمس رضا الناس وتعلق بهم وأسخط الله ؛ أنقلبت عليه الأحوال ، ولم ينل مقصوده بل حصل له عكس مقصوده ، وهو أن يسخط الله عليه ويسخط عليه الناس .
***
باب قول الله تعالى :
{ وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } [ المائدة : 23] .
مناسبة هذا الباب لما قبله :
هي أن الإنسان إذا أفرد الله – سبحانه – بالتوكل ، فإنه يعتمد عليه في حصول مطلوبه وزوال مكروهه ، ولا يعتمد على غيره.
والتوكل : هو الإعتماد على الله – سبحانه وتعالى – في حصول المطلوب ، ودفع المكروه ، مع الثقة به وفعل الأسباب المأذون فيها ، وهذا أقرب تعريف له ، ولابد من أمرين :
الأول : أن يكون الاعتماد على الله اعتماداً صادقاً حقيقياً .
الثاني : فعل الأسباب المأذون فيها .
فمن جعل أكثر اعتماده على الأسباب ، نقص توكله على الله ، ويكون قادحاً في كفاية الله ، فكأنه جعل السبب وحده هو العمدة فيما يصبو إليه من حصول المطلوب وزوال المكروه .
ومن جعل اعتماده على الله ملغياً للأسباب ، فقد طعن في حكمة الله ، لأن الله جعل لكل شيء سبباً ، فمن اعتمد على الله اعتماداً مجرداً ، كان قادحاً في حكمة الله ، لأن الله حكيم ، يربط الإسباب بمسبباتها ، كمن يعتمد على الله في حصول الولد وهو لا يتزوج .
والنبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم المتوكلين ، ومع ذلك كان يأخذ بالأسباب ، فكان يأخذ الزاد في السفر ، ولما خرج إلى أحد ظاهر بين درعين ، أي : لبس درعين اثنين { 1 } ، ولما خرج مهاجراً أخذ من يدله الطريق { 2 } ، ولم يقل سأذهب مهاجراً وأتوكل على الله ، ولن أصطحب معي من يدلني الطريق ، وكان - صلى الله عليه وسلم - يتقى الحر والبرد ، ولم ينقص ذلك من توكله .(11/53)
ويذكر عن عمر رضي الله عنه أنه قدم ناس من أهل اليمن إلى الحج بلا زاد ، فجيء بهم إلى عمر ، فسألهم ، فقالوا : نحن المتوكلون على الله ، فقال : لستم المتوكلين ، بل أنتم المتواكلون .
والتوكل نصف الدين ، ولهذا نقول في صلاتنا : { إياك نعبد وإياك نستعين } [ الفاتحة : 5 ] فنطلب من الله العون اعتماداً عليه سبحانه بأنه سيعيننا على عبادته .
وقال تعالى : { فاعبده وتوكل عليه } [ هود : 123] ، وقال تعالى : { عليه توكلت وإليه أنيب } [ هود : 88] ، ولا يمكن تحقيق العبادة إلا بالتوكل ، لأن الإنسان لو وكل إلى نفسه وكل إلى ضعف وعجز ولم يتمكن من القيام بالعباده فهو حين يعبد الله يشعر أنه متوكل على الله ، فينال بذلك أجر العبادة وأجر التوكل ، ولكن الغالب عندنا ضعف التوكل ، وأننا لا نشعر حين نقوم بالعبادة أو العادة بالتوكل على الله والأعتماد عليه في أن ننال هذا الفعل ، بل نعتمد في الغالب على الإسباب الظاهرة وننسى ما وراء ذلك ، فيفوتنا ثواب عظيم ، وهو ثواب التوكل ، كما أننا لا نوفق إلى حصول المقصود كما هو الغالب ، سواء حصل لنا عوارض توجب انقطاعها أو عوارض توجب نقصها .
والتوكل ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأول : توكل عبادة وخضوع ، وهو الإعتماد المطلق على من توكل عليه ، بحيث يعتقد أن بيده جلب النفع ودفع الضر ، فيعتمد عليه اعتماداً كاملاً ، مع شعوره بافتقاره إليه ، فهذا يجب إخلاصه لله تعالى ، ومن صرفه لغير الله ، فهو مشركاً أكبر ، كالذين يعتمدون على الصالحين من الأموات والغائبين ، وهذا لا يكون إلا ممن يعتقد أن لهؤلاء تصرفاً خفياً في الكون ، فيعتمد عليهم في جلب المنافع ودفع المضار .(11/54)
الثاني : الاعتماد على شخص في رزقه ومعاشه وغير ذلك ، وهذا من الشرك الأصغر ، وقال بعضهم : من الشرك الخفي ، مثل اعتماد كثير من الناس على وظيفته في حصول رزقه ، ولهذا تجد الإنسان يشعر من نفسه أنه معتمد على هذا اعتماد افتقار ، فتجد في نفسه من المحاباة لمن يكون هذا الرزق عنده ما هو ظاهر ، فهو لم يعتقد أنه مجرد سبب ، بل جعله فوق السبب .
الثالث : أن يعتمد على شخص فيما فوض إليه التصرف فيه ، كما لو وكلت شخصاً في بيع شيء أو شرائه ، وهذا لا شيء فيه ، لأنه أعتمد عليه وهو يشعر أن المنزلة العليا فوقه ، لأنه جعله نائباً عنه ، وقد وكل النبي - صلى الله عليه وسلم - على ابن أبي طالب أن يذبح ما بقي من هديه { 1 } ، ووكل أبا هريرة على الصدقة { 2 } ، ووكل عروة بن الجعد أن يشتري له شاة { 3 } ، وهذا بخلاف القسم الثاني ، لأنه يشعر بالحاجة إلى ذلك ، ويرى اعتماده علي المتوكَّل عليه اعتماد افتقار .
ومما سبق يتبين ن التوكل من أعلى المقامات وأنه يجب على الإنسان أن يكون مصطحباً له في جميع شؤونه ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله : " ولا يكون للمعطله أن يتوكلوا على الله ولا للمعتزلة القدرية " ، لأن المعطلة يعتقدون انتفاء الصفات عن الله تعالى ، والإنسان لا يعتمد إلا علي من كان كامل الصفات المستحقة لأنه يعتمد عليه .
وكذلك القدرية ، لأنهم يقولون : إن العبد مستقل بعمله ، والله ليس له تصرف في أعمال العباد .
ومن ثم نعرف أن طريق السلف هو خير الطرق ، وبه تكمل جميع العبادات وتتم به جميع أحوال العابدين .
***
وقد ذكر المؤلف في هذا الباب أربع آيات ، أولها ما جعله ترجمة للباب ، وهي :
قوله تعالى : { وعلي الله فتوكلوا } . { على الله } متعلقة : { توكلوا } ، وتقديم المفعول يدل على الحصر ، أي : على الله لا على غيره ، { فتوكلوا } ، أي : اعتمدوا .(11/55)
والفاء لتحسين اللفظ وليست عاطفة ، لأن في الجملة حرف عطف وهو الواو ، ولا يمكن أن نعطف الجملة بعاطفين ، فتكون لتحسين اللفظ ، كقوله تعالى : { بل الله فاعبد } ، والتقدير : " بل الله أعبد " .
قوله : { إن كنتم مؤمنين } . { إن } : شرطية ، وفعل الشرط { كنتم } ، وجوابه قيل : إنه محذوف دل عليه ما قبله ، وتقدير الكلام : إن كنتم مؤمنين فتوكلوا ، وقيل : إنه في مثل هذا التركيب لا يحتاج إلى جواب اكتفاء بما سبق ، فيكون ما سبق كأنه فعل معلق بهذا الشيء ، وهذا أرجح ، لأن الأصل عدم الحذف .
وقول أصحاب موسى في هذه الآية يفيد أن التوكل من الإيمان ومن مقتضياته ، كما لو قلت : إن كنت كريماً فأكرم الضيف . فيقتضي أن إكرام الضيف من الكرم. وهذه الآية تقتضي انتفاء كمال الإيمان بانتفاء التوكل على الله إلا إن حصل اعتماد كلي على غير الله فهو شرك أكبر ينتفي الإيمان كله.
وقوله : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } [ الأنفال : 2] الآية.
الآية الثانية قوله تعالى : { إنما المؤمنون } . { إنما } : أداة حصر ، والحصر هو إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما عداه ، والمعنى : ما المؤمنون إلا هؤلاء .
وذكر الله في هذه الآية وما بعدها خمسة أوصاف :
أحدها : قوله { الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } ، أي : خافت لما فيها من تعظيم الله تعالى ، مثال ذلك : رجل هم بمعصية ، فذكر الله أو ذُكر به ، وقيل هل : اتق الله . فإن كان مؤمناً ، فإنه سيخاف ، وهذا هو علامة الإيمان .(11/56)
الوصف الثاني : قوله : { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناُ } ، أي تصديقاً وامتثالا ، وفي هذا دليل على أن الإنسان قد ينتفع بقراءة غيره أكثر مما ينتفع بقراءة نفسه كما أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن مسعود أن يقرأ عليه ، فقال : كيف أقرا عليك وعليك أنزل ؟ فقال : " إني أحب أن أسمعه من غيري " . فقرأ عليه من سورة النساء حتى بلغ قوله تعالى : " فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } [ النساء : 41 ] قال : " حسبك " . فنظرت ، فإذا عيناه تذرفان { 1 } .
الوصف الثالث : قوله { وعلى ربهم يتوكلون } ، أي : يعتمدون على الله لا على غيره ، وهم مع ذلك يعملون الأسباب ، وهذا هو الشاهد .
الوصف الرابع : قوله : { الذين يقيمون الصلاة } ، أي : يأتون بها مستقيمة كاملة ، والصلاة : اسم جنس تشمل الفرائض والنوافل .
الوصف الخامس : قوله : { ومما رزقاناهم ينفقون } . { من } للتبعيض ، فيكون اله يمدح من أنفق بعض ماله لا كله ، أو تكون لبيان الجنس ، فيشمل الثناء من أنفق البعض ومن أنفق الكل ، والصواب : أنها لبيان الجنس ، وأن من أنفق الكل يدخل في الثناء إذا توكل على الله تعالى في أن يرزقه وأهله كما فعله أبو بكر { 1 } ، أم أن كان أهله في حاجة أو كان المنفق عليه ليس بحاجة ماسة تستلزم إنفاق المال كله ، فلا ينبغي أن ينفق ماله عليه .
وقوله : { يا أيها النبي حسبك الله …….. } [ الأنفال : 64 ] الآية .
وقوله : { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } [ الطلاق : 3 ] الآية.(11/57)
الآية الثالثة قوله تعالى : { يا أيها النبي } . المراد به الرسول - صلى الله عليه وسلم - يخاطب الله رسوله بوصف النبوة أحياناً وبوصف الرسالة أحياناً ، فحينما يأمره أن يبلغ ينادية بوصف الرسالة ، وأما في الأحكام الخاصة ، فالغالب أن يناديه بوصف النبوة ، قال تعالى : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } [ التحريم : 1 ] ، وقال تعالى : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } [ الطلاق : 1] .
و { النبي } فعيل بمعنى مفعل بفتح العين ومفعل بكسرها ، أي : منبأ ، ومنبيء ، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - منبأ من قبل الله ، ومنبي لعباد الله .
قوله : { حسبك الله } . أي كافيك ، والحسب : الكافي ، ومنه قوله أُعطي درهماً فحسب ، وحسب خبر مقدم ، ولفظ الجلالة مبتدأ مؤخر ، والمعنى : ما الله إلا حسبك ، ويجوز العكس ، أي : أن تكون حسب مبتدأ ولفظ الجلالة خبره ، ويكون المعنى : ما حسبك إلا الله ، وهذا أرجح .
قوله : { ومن اتبعك من المؤمنين } . { من } اسم موصول مبنية على السكون ، وفي عطفها رأيان لأهل العلم : قيل : حسبك الله ، وحسبك من اتبعك من المؤمنين ، فـ { من } معطوفة على الله لأنه أقرب ، ولو كان العطف على الكاف في حسبك لوجب إعادة الجار ، وهذا كقوله تعالى : { هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين } [ الأنفال : 62 ] ، فالله أيد رسوله بالمؤمنين ، فيكونون حسباً له هنا كما كان الله حسباً له .
وهذا ضعيف ، والجواب عنه من وجوه :
أولا : قولهم عطف عليه لكونه أقرب ليس صحيح ، فقد يكون العطف على شيء سابق ، حتى إن النحويين قالوا : إذا تعددت المعطوفات يكون العطف على الأول.
ثانياً : قولهم لو عطف على الكاف لوجب إعادة الجار ، والصحيح أنه ليس بلازم ، كما قال ابن مالك :
ليس عندي لازما إذ قد أتى في النثر والنظم الصحيح مثبتا(11/58)
ثالثا: استدلالهم بقوله تعالى : { هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين } .
فالتأييد لهم غير كونهم حسبه ، لأن معنى كونهم حسبه أن يعتمد عليهم ، ومعنى كونهم يؤيدونه أي ينصرونه مع استقلاله بنفسه ، وبينهما فرق .
رابعاً : أن الله - سبحانه - حينما يذكر الحسب يخلصه لنفسه ، قال تعالى :
{ ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله } [ التوبه : 59] ، ففرق بين الحسب والإيتاء ، وقال تعالى : { قل حسبي الله عليه يتوكل المؤمنون } [ الزمر : 38 ] ، فكما أن التوكل على غير الله لا يجوز ، فكذلك الحسب لا يمكن أن يكون غير الله حسباً ، فلو كان ، لجاز التوكل عليه ، ولكن الحسب هو الله ، وهو الذي عليه يتوكل المتوكلون .
خامساً : أن في قوله : { ومن أتبعك } ما يمنع أن يكون الصحابة حسباً للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك لأنهم تابعون ، فكيف يكون التابع حسباً للمتبوع ؟! هذا لا يستقيم أبداً ، فالصواب أنه معطوف على الكاف في قوله : { حسبك } ، أي : وحسب من اتبعك من المؤمنين ، فتوكلوا عليه جميعاً أنت ومن اتبعك .
* * *
وعن ابن عباس ، قال : " حسبنا الله ونعم الوكيل " قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار ، وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا له : { إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فذادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل } [ آل عمران : 173 ] الآية . رواه البخارى { 1 } ... .
الآية الرابعة قوله تعالى : { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } . جملة شرطية تفيد بمنطوقها أن من يتوكل على الله ، فإن الله يكفيه مهماته وييسر له أمره ، فالله حسبه ولو حصل له بعض الأذية ، فإن الله يكفيه الأذى ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - سيد المتوكلين ، ومع ذلك يصيبه الإذى ولا تحصل له المضرة ، لأن الله حسبه ، فالنتيجة لمن اعتمد على الله أن يكفيه ربه المؤونة .(11/59)
والآية تفيد بمفهومها أن من توكل على غير الله خذل، لأن غير الله لا يكون حسباً كما تقدم ، فمن توكل على غير الله تخلى الله عنه ، وصار موكولاً إلى هذا الشيء ولم يحصل له مقصوده ، وابتعد عن الله بمقدار توكله على غير الله .
قوله في أثر ابن عباس رضي الله عنهما : " قالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا له { إن الناس قد جمعوا لكم } " .
وهذا في نص القرآن لما انصرف أبو سفيان من أحد أراد أن يرجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ليقضي عليهم بزعمه ، فلقي ركباً ، فقال لهم : إلى أين تذهبون؟ قالوا : نذهب إلى المدينة. فقال : بلغوا محمداً وأصحابه أنا راجعون إليهم فقاضون عليهم . فجاء الركب إلى المدينة ، فبلغوهم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن منعه : حسبنا الله ونعم الوكيل . وخرجوا في نحو سبعين راكباً ، حتى بلغوا حمراء الآسد ، ثم إن أبا سفيان تراجع عن رأيه وانصرف إلى مكة ، وهذا من كفاية الله لرسوله وللمؤمنين ، حيث اعتمدوا عليه تعالى .
قوله : " قال لهم الناس " . أي الركب .
قوله: "إن الناس" أي: أبا سفيان ومن معه، وكلمة الناس هنا يُمِّل بها الأصوليون للعام الذي أريد به الخصوص.
قوله: "حسبنا" أي: كافينا وهي مبتدأ ولفظ الجلالة خبره.
قوله : { نعم الوكيل } . { نعم } : فعل ماض ، { الوكيل } : فاعل ، والمخصوص محذوف تقديره : هو ، أي : الله ، والوكيل : المعتمد عليه سبحانه ، والله - سبحانه- يطلق عليه اسم وكيل ، وهو أيضاً مُوكِّل ، والوكيل في مثل قوله تعالى : { نعم الوكيل } ، وقوله تعالى : { وكفى بالله وكيلاً } [ النساء : 81] ، وأما الموكل ، ففي مثل قوله تعالى : { فإن يكفرْ بها هؤلاء فقد وكَّلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين } [ الأنعام : 89 ] .(11/60)
وليس المراد بالتوكيل هنا إنابة الغير فيما يحتاج إلى الاستنابة فيه ، فليس توكيله سبحانه من حاجة له ، بل المراد بالتوكيل الاستخلاف في الأرض لينظر كيف يعملون .
وقول ابن عباس رضي الله عنهما : " إن إبراهيم قالها حين ألقي في النار " قول لا مجال للرأي فيه ، فيكون له حكم الرفع .
وابن عباس ممن يروي عن بني إسرائيل ، فيحتمل أنه أخذه منهم ، ولكن جزمه بهذا ، وقرنه لما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - مما يبعد أن يكون أخذه من بني إسرائيل .
الشاهد من الآية : قوله تعالى : ( وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) ، حيث جعلوا الله وحده ( تنبيه ) :
قولنا : " وابن عباس ممن يروي عن بني إسرائيل " قول مشهور عند علماء المصطلح ، لكن فيه نظر ، فإن ابن عباس رضي الله عنهما ممن ينكر الأخذ عن بني إسرائيل ، ففي " صحيح البخاري" (5/291- فتح ) أنه قال : " يا معشر المسلمين ! كيف تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أنزل على نبيه - صلى الله عليه وسلم - أحدث الأخبار بالله تقرؤونه لم يشب ، وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله وغيروا بأيديهم الكتاب ؟! فقالوا : هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً ، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم ؟ ! ولا والله ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أنزل عليكم " .
فيه مسائل :
الأولى : أن التوكل من الفرائض . الثانية : أنه من شروط الإيمان . الثالثة : تفسير آية الأنفال . الرابعة : تفسير الآية في آخرها . الخامسة : تفسير آية الطلاق . السادسة : عظم شأن هذه الكلمة ، وأنها قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومحمد - صلى الله عليه وسلم - في الشدائد
فيه مسائل :
الأول : أن التوكل من الفرائض . ووجهه أن الله علق الإيمان بالتوكل في قوله تعالى : { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } ، وسبق تفسيرها .(11/61)
الثانية : أنه من شروط الإيمان . تؤخذ من قوله تعالى : { إن كنتم مؤمنين } . وسبق تفسيرها .
الثالثة : تفسير آية الأنفال . وهي قوله تعالى : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم - .. } الآية ، والمراد بالإيمان هنا الإيمان الكامل ، وإلا ، فالإنسان يكون مؤمناً وإن لم يتصف بهذه الصفات ، لكن معه مطلق الإيمان ، وقد سبق تفسير ذلك .
الرابعة : تفسير الآية في آخرها ، أي : آخر الأنفال . وهي قوله تعالى : { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } ، أي : حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين ، وهذا الراجح على ما سبق .
الخامسة : تفسير آية الطلاق . وهي قوله تعالى : { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } ، وقد سبق تفسيرها .
السادسة : عظم شأن هذه الكلمة ، وأنها قول إبراهيم عليه السلام ومحمد - صلى الله عليه وسلم - في الشدائد . يعني قول : { حسبنا الله ونعم الوكيل } .
وفي الباب مسائل غير ما ذكره المؤلف ، منها :
زيادة الإيمان ، لقوله تعالى : { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً } .
ومنها : أنه عند الشدائد ينبغي للإنسان أن يعتمد على الله مع فعل الأسباب ، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه قالوا ذلك عندما قيل لهم : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، ولكنهم فوضوا الأمر إلى الله ، وقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل .
ومنها : أن اتباعه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الإيمان سبب لكفاية الله للعبد .
***
باب قول الله تعالى :
{ أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون } [ الأعراف : 99].
هذا الباب اشتمل على موضوعين :
الأول : الأمن من مكر الله .
والثاني : القنوط من رحمة الله . وكلاهما طرفا نقيض.
واستدل المؤلف للأول بقوله تعالى : { أفأمنوا } .(11/62)
الضمير يعود على أهل القرى ، لأن ما قبلها قوله تعالى : { أفأمن أهل القري أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون * أو أمن أهل القري أن يأتهم بأسنا ضحى وهم يلعبون * أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون } [ الأعراف : 97،98،99] .
فقوله : { وهم نائمون } يدل على كمال الأمن لأنهم في بلادهم ، وأن الخائف لا ينام ، وقوله : { ضحى وهم يلعبون } يدل أيضاً على كمال الأمن والرخاء وعدم الضيق ، لأنه لو كان عندهم ضيق في العيش لذهبوا يطلبون الرزق والعيش وما صاروا في الضحى - في رابعة النهار - يلعبون .
والاستفهامات هنا كلها للإنكار والتعجب من حال هؤلاء ، فهم نائمون وفي رغد ، ومقيمون على معاصي الله وعلى اللهو ، ذاكرون لترفهم ، غافلون عن ذكر خالقهم ، فهم في الليل نوم ، وفي النهار لعب ، فبين الله - عز وجل - أن هذه من مكره بهم ، ولهذا قال : { أفأمنوا مكر الله } ، ثم ختم الآية بقوله : { فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون } فالذي يمّن الله عليه بالنعم والرغد والترف وهو مقيم على معصيته يظن أنه رابح وهو في الحقيقة خاسر .
فإذا أنعم الله عليك من كل ناحية : أطعمك من جوع ، وآمنك من خوف ، وكساك من عري ، فلا تظن أنك رابح وأنت مقيم على معصية الله ، بل أنت خاسر ، لأن هذا من مكر الله بك .
قوله : { إلا القوم الخاسرون } . الاستثناء للحصر ، وذلك لأن ما قبله مفرغ له ، فالقوم فاعل ، والخاسرون صفتهم .
وفي قوله تعالى : { فأمنوا مكر الله } دليل على أن الله مكراً ، والمكر هو التوصل إلى الإيقاع بالخصم من حيث لا يشعر ، ومنه ما جاء في الحديث : " الحرب خدعة " (1)1).
فإن قيل : كيف يوصف الله بالمكر مع أن ظاهره أنه مذموم ؟
__________
(1) البخاري : كتاب الجهاد / باب الحرب خدعة ، ومسلم : كتاب الجهاد / باب جواز الخداع في الحرب .(11/63)
قيل : إن المكر في محله محمود يدل على قوة الماكر ، وأنه غالب على خصمه ، ولذلك لا يوصف الله به على الإطلاق ، فلا يجوز أن تقول : إن الله ماكر ، وإنما تذكر هذه الصفة في مقام تكون فيه مدحاً ، مثل قوله تعالى : { ويمكرون ويمكر الله } [ الأنفال : 30 ] ، وقال تعالى : { ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون } [النمل : 50 ] ، ومثل قوله تعالى : { فأمنوا مكر الله } [ الأعراف : 99] ، ولا تنفي عنه هذه الصفة على سبيل الإطلاق ، بل أنها في المقام التي تكون مدحاً يوصف بها وفي المقام التي لا تكون مدحاً لا يوصف بها.
وكذلك لا يسمى الله بها ، فلا يقال : إن من أسماء الله الماكر .
وأما الخيانة ، فلا يوصف الله بها مطلقاً لأنها ذم بكل حال ، إذ إنها مكر في موضع الائتمان ، وهو مذموم ، قال تعالى : { وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم } [ الأنفال : 71 ] ، ولم يقل : فخانهم .
وأما الخداع ، فهو كالمكر يوصف به حيث يكون مدحاً ، لقوله تعالى : { إن المنافقين يخادعون الله وهو يخادعهم } [ النساء : 142 ] ، والمكر من الصفات الفعلية ، لأنها تتعلق بمشيئة الله - سبحانه .
ويستفاد من هذه الآية :
الحذر من النع التي يجلبها الله للعبد لئلا تكون استدراجاً ، لأن كل نعمة فلله عليك وظيفة شكرها ، وهي القيام بطاعة المنعم ، فإذا لم تقم بها مع توافر النعم ، فاعلم أن هذا من مكر الله .
تحريم الأمن من مكر الله ، وذلك لوجهين :
الأول : أن الجملة بصيغة الاستفهام الدال على الإنكار والتعجب .
الثاني : قوله تعالى { فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون } .
وقوله : { ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون } . [ الحجر : 56 ] .
الموضوع الثاني مما اشتمل عليه هذا الباب القنوط من رحمة الله .
واستدل المؤلف له بقوله تعالى : { ومن يقنط من رحمة ربه } .(11/64)
{ من } : اسم استفهام ، لأن الفعل بعدها مرفوع ، ثم إنها لم تكن لها جواب ، والقنوط : أشد البأس، لأن الإنسان يقنط ويبعد الرجاء والأمل ، بحيث يستبعد حصول مطلوبه أو كشف مكروبة .
قوله : { من رحمة ربه } . هذه رحمة مضافة إلى الفاعل ومفعولها محذوف ، والتقدير ( رحمة ربه إياه ) .
قوله : { إلا الظالمون } . إلا أداة حصر ، لأن الاستفهام في قوله : { ومن يقنط } مراد به النفي ، و { الضالون } فاعل يقنط .
والمعنى لا يقنط من رحمة الله إلا الضالون ، والضال : فاقد الهداية ، التائه الذي لا يدري ما يجب لله سبحانه ، مع أنه سبحانه قريب الغيَر ، ولهذا جاء في الحديث : " عجب ربنا من قنوط عباده ، وقرب غيره ، ينظر إليكم أزلين قنطين ، فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب " (1).
وأما معنى الآية ، فإن إبراهيم عليه السلام لما بشرته الملائكة بغلام عليم قال لهم : { أبشر تموني على أن مسني الكبر فيم تبشرون * قالوا بشرنك بالحق فلا تكن من القانطين * قال ومن يقنط من رحمة الله إلا الضالون } [ الحجر : 54-56] .
فالقنوط من رحمة الله لا يجوز ، لأنه سوء ظن بالله - عز وجل ، وذلك من وجهين :
الأول : أنه طعن في قدرته سبحانه ، لأن من علم الله على كل شيء قدير لم يستبعد شيئاً على قدرة الله .
الثاني : أنه طعن في رحمته سبحانه ، لأن من علم أن الله رحيم لا يستبعد أن برحمة الله سبحانه ، ولهذا كان القانط من رحمة الله ضالاً .
__________
(1) الإمام أحمد في " مسنده " (4/11، 12 ) ، وابن ماجة ( المقدمة ، 1/64 ) ، ابن أب عاصم في " السنة " (554) ، والآجري في " الشريعة " (ص95) قال الشيخ الإسلام ابن تيميه : " حديث حسن " ( الوسطية " ، ص 13) .(11/65)
ولا ينبغي للإنسان إذا وقع في كربة أن يستبعد حصول مطلوبه أو كشف مكروبة ، وكم من إنسان وقع في كربة وظن أن لا نجاة منها ، فنجاه الله سبحانه : إما بعمل صالح سابق مثل ما وقع ليونس عليه السلام ، قال تعالى : { فلولا أنه من المسبحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون } [ الصافات : 144] ، أو بعمل لاحق ، وذلك كدعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر (1) وليلة الأحزاب(2) ، وكذلك أصحاب الغار(3) .
وتبين مما سبق أن المؤلف رحمة الله أراد أن يجمع الإنسان في سيره إلى الله تعالى بين الخوف فلا يأمن مكر الله ، وبين الرجاء فلا يقنط من رحمته ، فالأمن من مكر الله ثلمٌ في جانب الخوف ، والقنوط من رحمته ثلم في جانب الرجاء .
وعن ابن عباس ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الكبائر ؟ فقال : " الشرك بالله ، واليأس من روح الله ، والأمن من مكر الله " (4).
__________
(1) خاري : كتاب المغازي / باب قوله تعالى : ( إذا تستغيثون ربكم .. ) ، ومسلم : كتاب الجهاد /باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر .
(2) البخاري : كتاب المغازي / باب غزوة الخندق ، ومسلم : كتاب الجهاد / باب استحباب الدعاء بالنصر .
(3) بالبخاري : كتاب الأنبياء / باب حديث الغار ، ومسلم كتاب الذكر والدعاء /باب قصة أصحاب الغار.
(4) البراز كما في " كشف الأستار " (106) ، وابن أبي حاتم في " التفسير " كما في " الدر المنشور " (2/148) ، وقال : " إسناده حسن" .
وقال الثيثمي ( 1/104 ) : " رواء البزار والطيرني ، ورجاله موثقون " .(11/66)
قوله : في حديث ابن عباس رضي الله عنهما : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الكبائر ". جمع كبيرة ، والمراد بها : كبائر الذنوب ، وهذا السؤال يدل على أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر ، وقد دل على ذلك القرآن ، قال تعالى : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم } [النساء : 31 ] ، وقال تعالى { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش } [النجم : 32 ] ، والكبائر ليست على درجة واحدة ، فبعضها أكبر من بعض .
واختلف العلماء : هل هي معدودة أو محدودة ؟
فقال بعض أهل العلم : إنها معدودة ، وصار يعددها ويتتبع النصوص الواردة في ذلك .
وقيل إنها محدودة ، وقد حدها شيخ الإسلام ابن تيميه رحمة الله ، فقال : " كل ما رتب عليه عقوبة خاصة ، سواء كانت في الدنيا أو الآخرة ، وسواء كانت بفوات محبوب أو بحصول مكروه " ، وهذا واسع جداً يشمل ذنوباً كثيرة .
ووجه ما قاله : أن المعاصي قسمان :
قسم نهي عنه فقط ولم يذكر عليه وعيد ، فعقوبة هذا تأتي بالمعنى العام للعقوبات ، وهذه المعصية مكفرة بفعل الطاعات ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - : " الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر " (1). وكذلك ما ورد في العمرة إلى العمرة (2)، والوضوء من تكفير الخطايا (3)، فهذه من الصغائر .
وقسم رتب عليه عقوبة خاصة ، كاللعن ، أو الغضب ، أو التبرؤ من فاعله ، أو الحد في الدنيا ، أو نفي الإيمان ، وما أشبه ذلك ، فهذه كبيرة تختلف في مراتبها .
والسائل في هذا الحديث إنما قصده معرفة الكبائر ليجتنبها ، خلافاً لحال كثير من الناس اليوم حيث يسأل ليعلم فقط ، ولذلك نقصت بركة علمهم .
__________
(1) مسلم : كتاب الطهارة / باب الصلوات الخمس ..
(2) البخاري : كتاب العمرة / باب وجوب العمرة وفضلها ، ومسلم : كتاب الحج / باب فضل الحج والعمرة .
(3) مسلم : كتاب الطهارة / باب فضل الوضوء .(11/67)
قوله : " الشرك بالله " . ظاهر الإطلاق : أن المراد به الشرك الأصغر والأكبر ، وهو الظاهر ، لأن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر ، قال ابن مسعود : " لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلى من أن أحلف بغيره صادقاً " (1)، وذلك لأن سيئة الشرك أعظم من سيئة الكذب ، فدل على أن الشرك من الكبائر مطلقاً .
والشرك بالله بتضمن الشرك بربو بيته ، أو بألوهيته ، أو بأسمائه وصفاته .
قوله : " اليأس من روح الله" . اليأس : فقد الرجاء ، والروح بفتح الراء قريب من معنى الرحمة ، وهو الفرج والتنفيس ، واليأس من روح الله من كبائر الذنوب لنتائجه السيئة .
قوله : " الأمن من مكر الله " . بأن يعصي الله مع استدراجه بالنعم ، قال تعالى : { والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون * وأملي لهم إن كيدي متين } [ الأعراف : 182- 183 ] .
وظاهر هذا الحديث : الحصر ، وليس كذلك : لأن هناك كبائر غير هذه ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجيب كل مسائل بما يناسب حاله ، فلعله رأي هذا السائل عنده شيء من الأمن من مكر الله أو اليأس من روح الله ، فأراد أن يبين له ذلك وهذه مسألة ينبغي أن يفطن لها الإنسان فيما يأتي من النصوص الشرعية مما ظاهره التعارض ، فيحمل كل واحد منها علي الحال المناسبة ليحصل التآلف بين النصوص الشرعية.
وعن ابن مسعود ، قال : " أكبر الكبائر : الإشراك بالله والأمن من مكر الله ، والقنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله " . رواه عبد الرزاق (2).
قوله في أثر ابن مسعود : " الإشراك بالله " : هذا أكبر الكبائر ، لأنه انتهاك لأعظم الحقوق ، وهو حق الله تعالى الذي أوجدك وأعدك وأمدك ، فلا أحد أكبر عليك نعمة من الله تعالى .
قوله : " الأمن من مكر الله " . سبق شرحه .
__________
(1) تقدم (ص606)
(2) عبد الرزاق في " المصنف " (10/ 459) ، وابن جرير (5/26) ، والطبراني في " الكبير " (5783) .(11/68)
قوله : " القنوط من رحم الله واليأس من روح الله " . المراد بالقنوط : أن يستبعد رحمة الله ويستبعد حصول المطلوب ، والمراد باليأس هنا أن يستبعد الإنسان زوال المكروه ، وإنما قلنا ذلك ، لئلا يحصل تكرار في كلام ابن مسعود .
والخلاصة : أن السائر إلى الله يعتريه شيئان يعوقانه عن ربه ، وهما الأمن من مكر الله ، والقنوط من رحمة الله ، فإذا أصيب بالضراء أو فات عليه ما يجب ، تجده أن لم يتداركه ربه يستولي عليه القنوط ويستبعد الفرج ولا يسعى لأسبابه ، وأما الأمن من مكر الله ، فتجد الإنسان مقيماً على المعاصي مع توافر النعم عليه ، ويرى أنه على حق فيستمر في باطله ، فلا شك أن هذا استدراج .
***
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية الأعراف . الثانية : تفسير آية الحجر . الثالثة : شدة الوعيد فيمن أمن مكر الله . الرابعة : شدة الوعيد في القنوط .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية الأعراف . وهي قوله تعالى : { فأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون } ، وقد سبق تفسيرها .
الثانية : تفسير آية الحجر . وهي قوله تعالى : { ومن يقنط م رحمة ربه إلا الضالون } ، وقد سبق تفسيرها .
الثالثة : شدة الوعيد فيمن أمن مكر الله . وذلك بأنه من أكبر الكبائر ، كما في الآية والحديث ، وتؤخذ من الآية الأولى ، والحديثين .
الرابعة : شدة الوعيد في القنوط ، تؤخذ من الآية الثانية والحديثين .
باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله
" الصبر " . في اللغة : الحبس ، ومنه قولهم : " قتل صبراً " ، أي : محبوساً مأسوراً .
وفي الاصطلاح : حبس النفس على أشياء وعن أشياء ، وهو ثلاثة أقسام :(11/69)
الأول : الصبر على طاعة الله ، كما قال تعالى : { وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها } [ طه : 132 ] وقال تعالى : { إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً فأصبر لحكم ربك } [ الإنسان : 23-24] ، وهذا من الصبر على الأوامر ، لأنه إنما نزل عليه القرآن ليبلغه ، فيكون مأموراً بالصبر على الطاعة ، وقال تعالى : { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه } [الكهف : 28] ، وهذا صبر على طاعة الله .
الثاني : الصبر عن معصية الله ، كصبر يوسف عليه السلام عن إجابة امرأة العزيز حيث دعته إلى نفسها في مكانة لها فيها العزة والقوة والسلطان عليه ، ومع ذلك صبر وقال : { رب السجن أحب إلى مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين } [ يوسف : 33] ، فهذا صبر عن معصية الله .
الثالث : الصبر على أقدار الله ، قال تعالى : { فاصبر لحكم ربك } [ الإنسان : 24 ] ، فيدخل في هذه الآية حكم الله القدري ، ومنه قوله تعالى : { فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم } [ الأحقاف : 35 ] ، لأن هذا صبر على تبليغ الرسالة وعلى أذى قومه، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - لرسول إحدى بناته : " مرها ، فلتصبر ولتحتسب " (1).
إذن الصبر ثلاثة أنواع ، أعلاها الصبر على طاعة الله ، ثم الصبر عن معصية الله ، ثم الصبر على أقدار الله .
__________
(1) البخاري : كتاب الجنائز /باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يعذب الميت ببعض بكاء أهله " . ومسلم : كتاب الجنائز / باب البكاء على الميت .(11/70)
وهذا الترتيب من حيث هو لا باعتبار من يتعلق به ، وإلا ، فقد يكون الصبر على المعصية أشق على الإنسان من الصبر على الطاعة إذا فتن الإنسان مثلاً بامرأة جميلة تدعوه إلى نفسها في مكان خال لا يطلع عليه إلا الله وهو رجل شاب ذو شهوة ، فالصبر عن هذه المعصية أشق ما يكون على النفوس ، قد يصلي الإنسان مائة ركعة وتكون أهون عليه من هذا .
وقد يصاب الإنسان بمصيبة يكون الصبر عليها أشق من الصبر على الطاعة ، فقد يموت له مثلاً قريب أو صديق أو عزيز عليه جداً ، فتجده يتحمل من الصبر على هذه المصيبة مشقة عظيمة .
وبهذا يندفع الإيراد الذي يورده بعض الناس ويقول : إن هذا الترتيب فيه نظر ، إذ بعض المعاصي يكون الصبر عليها أشق من بعض الطاعات ، وكذلك بعض الأقدار يكون الصبر عليها أشق ، فنقول : نحن نذكر المراتب من حيث هي بقطع النظر عن الصابر .
وكان الصبر على الطاعة أعلى ، لأنه يتضمن إلزاماً وفعلاً ، فتلزم نفسك الصلاة فتصلي ، والصوم فتصوم ، والحج فتحج .. فيه إلزام وفعل وحركة فيها نوع من المشقة والتعب ، ثم الصبر على المعصية لأن فيه كفاً فقط ، أي : إلزاما للنفس بالترك ، أما الصبر على الأقدار ، فلأن سببه ليس باختيار العبد ، فليس فعلاً ولا تركاً ، وإنما هو من قدر الله المحض .
وخص المؤلف رحمه الله في هذا الباب الصبر على أقدار الله ، لأنه مما يتعلق بتوحيد الربوبية ، لأن تدبير الخلق والتقدير عليهم من مقتضيات ربوبية الله تعالى .
قوله : " على أقدار الله " . جمع قدر وتطلق على المقدور وعلى فعل المقدر ، وهو الله تعالى ، أما بالنسبة لفعل المُقدِر ، فيجب على الإنسان الرضا به والصبر ، وبالنسبة للمقدور ، فيجب عليه الصبر ويستحب له الرضا .
مثال ذلك : قدر الله على سيارة شخص أن تحترق ، فكون الله قدر أن تحترق هذا قدر يجب على الإنسان أن يرضي به ، لأنه من تمام الرضا بالله رباً .(11/71)
وأما بالنسبة للمقدور الذي هو احتراق السيارة ، فالصبر عليه واجب ، والرضا به مستحب وليس بواجب على القول الراجح .
والمقدور قد يكون طاعات ، وقد تكون معاصي ، وقد يكون من أفعال الله المحضة ، فالطاعات يجب الرضا بها ، والمعاصي لا يجوز الرضا بها من حيث هي مقدور ، أما من حيث كونها قدر الله ، فيجب الرضا بتقدير الله بكل حال ، ولهذا قال ابن القيم :
فلذالك نرضى بالقضاء ونسخط ال ... ... مقضي حين يكون بالعصيان
فمن نظر بعين القضاء والقدر إلى رجل يعمل معصية ، فعليه الرضا لأن الله هو الذي قدر هذا ، وله الحكمة في تقديره ، وإذا نظر إلى فعله ، فلا يجوز له أن يرضي به لأنه معصية ، وهذا هو الفرق بين القدر والمقدور .
وقول الله تعالى : { ومن يؤمن بالله يهد قلبه } [ التغابن : 11] .
قال علقمة : " هو الرجل تصيبه المصيبة ، فيعلم أنها من عند الله ، فيرضي ويسلم " .
قوله تعالى : { ومن يؤمن بالله } . { من } : اسم شرط جازم ، فعل الشرط { يؤمن } ، وجوابه { يهد } ، والمراد بالإيمان بالله هنا الإيمان بقدره . قوله : { يهد قلبه } . يرزقه الطمأنينة ، وهذا يدل على أن الإيمان يتعلق بالقلب ، فإذا اهتدى القلب اهتدت لجوارح ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " إن في الجسد مضغه ، إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، آلا وهي القلب " (1).
***
قوله : " قال علقمة " . هو م أكابر التابعين .
قوله : " هو الرجل نصيبه المصيبة .. " إلخ . وتفسير علقمة هذا من لازم الإيمان ، لأن من آمن بالله علم أن التقدير من الله ، فيرضى ويسلم ، فإذا علم أن المصيبة من الله اطمأن القلب وارتاح ، ولهذا كان من أكبر الراحة والطمأنينة الإيمان بالقضاء والقدر .
***
__________
(1) خاري : كتاب الإيمان / باب فضل من استيرا لدينه ، ومسلم : كتاب المساقاة / باب أخذ الحلال وترك الشبهات .(11/72)
وفي " صحيح مسلم " عن أبي هريرة ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : " اثنتان في الناس هما بهم كفر : الطعن في النسب ، والنياحة على الميت " (1)
قوله في حديث أبي هريرة : " اثنتان " . مبتدأ ، وسوغ الابتداء به التقسيم ، أو أنه مفيد للخصوص .
قوله : " بهم كفر " : الباء يحتمل أن تكون بمعنى " من " ، أي : هما منهم كفر ، ويحتمل أن تكون بمعنى " في " أي : هما فيهم كفر .
قوله : " كفر " . أي : هاتان الخصلتان كفر ولا يلزم من وجود خصلتين من الكفر في المؤمن أن يكون كافراً ، كما لا يلزم من وجود خصلتين في الكافر من خصال الإيمان ، كالحياء ، والشجاعة ، والكرم ، أن يكون مؤمناً .
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمة الله : ( بخلاف قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بين الرجل والشرك والكفر ترك الصلاة " فإنه هنا أتى بأل الدالة على الحقيقة ، فالمراد بالكفر هنا الكفر المخرج عن المللة ، بخلاف مجيء " كفر " نكرة ، فلا يدل على الخروج عن الإسلام .
قوله : " الطعن في النسب " . أي : العيب فيه أو نفيه ، فهذا عمل من أعمال الكفر .
قوله : " النياحة على الميت " . أي : أن يبكي الإنسان على الميت بكاء على صفة نوح الحمام ، لأن هذا يدل على التضجر وعدم الصبر ، فهو مناف للصبر الواجب ، وهذه الجملة هي الشاهد للباب . والناس حال المصيبة على مراتب أربع :
الأولى : السخط ، وهو إما أن يكون بالقلب كأن يسخط على ربه ويغضب على قدر الله عليه ، وقد يؤدى إلى الكفر ، قال تعالى : { ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير أطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجه خسر الدنيا والآخرة } [ الحج : 11] ، وقد يكون باللسان ، كالدعاء بالويل والثبور وما أشبه ذلك ، وقد يكون بالجوارح ، كلطم الخدود ، وشق الجيوب ، ونتف الشعور ، و أشبه ذلك .
الثانية : الصبر ، وهو كما قال الشاعر :
__________
(1) تقدم ( ص 574)(11/73)
الصبر مثل اسمه مر مذ أقته ... ... لكن عواقبه أحلى من العسل
فيرى الإنسان أن هذا الشيء ثقيل عليه ويكرهه ، لكنه يتحمله ويتصبر ، وليس وقوعه وعدمه سواء عنده ، بل يكره هذا ولكن إيمانه يحميه من السخط .
الثالثة : الرضا ، وهو أعلى من ذلك ، وهو أن يكون الأمران عنده سواء بالنسبة لقضاء الله وقدرة وإن كان قد يحزن من المصيبة ، لأنه رجل يسبح في القضاء والقدر ، أينما ينزل به القضاء والقدر فهو نازل به على سهل أو جبل ، إن أصيب بنعمه أو أصيب بضدها ، فالكل عنده سواء ، لا لأن قلبه ميت ، بل لتمام رضاء ربه – سبحانه وتعالى – يتقلب في تصرفات الرب – عز وجل - ، ولكنها عنده سواء ، إذ إنه ينظر إليها باعتبارها قضاء لربه ، وهذا الفرق بين الرضا والصبر .
الرابعة : الشكر ، وهو أعلى المراتب ، وذلك أن يشكر الله على ما أصابه من مصيبة ، وذلك يكون في عباد الله الشاكرين حين يرى أن هناك مصائب أعظم منها ، وأن مصائب الدنيا أهون من مصائب الدين ، وأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، وأن هذه المصيبة سبب لتكفير سيئاته وربما لزيادة حسناته شكر الله على ذلك ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما يصيب المؤمن من هو ولا غم ولا شيء إلا كفر له بها ، حتى الشوكة يشاكها " (1).
كما أنه قد يزداد إيمان المرء بذلك .
ولهما عن ابن مسعود مرفوعاً : " ليس منا من ضرب الخدود ، وشق الجيوب ، ودعا بدعوى الجاهلية " (2)
قوله في حديث ابن مسعود : " مرفوعاً " . أي : إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - .
قوله : " من ضرب الخدود " . العموم يراد به الخصوص ، أي : من أجل المصيبة .
__________
(1) البخاري : كتاب المناقب / باب ما ينهى من دعوى الجاهلية ، ومسلم : كتاب الإيمان /باب تحريم ضرب الخد وج …
(2) البخاري : كتاب المرضي / باب كفارة المرض ، ومسلم : كتاب البر والصلة / باب ثواب المؤمن .(11/74)
قوله : " ومن شق الجيوب " . هو طوق القميص الذي يدخل منه الرأس ، وذلك عند المصيبة تسخطاً وعدم تحمل لما وقع عليه .
قوله : " ودعا بدعوى الجاهلية " . دعوى مضاف والجاهلية مضاف إليه ، وتنازع هنا أمران :
الأول : صيغة العموم ( دعوى الجاهلية ) ، لأنه مفرد مضاف فيعم .
الثاني : القرينة ، لأن ضرب الخدود وشق الجيوب يفعلان عند المصيبة فيكون دعا بدعوى الجاهلية عند المصيبة ، مثل قولهم : واويلاه ! وانقطاع ظهراه !
والأولى أن ترجح صيغة العموم ، والقرينة لا تخصصه ، فيكون المقصود بالدعوى كل دعوي منشؤها الجهل .
وذكر هذا الأصناف الثلاثة ، لأنها غالباً ما تكون عند المصائب ، وإلا ، فمثله هدم البيوت ، وكسر الأواني ، وتخريب الطعام ، ونحوه مما يفعله بعض الناس عند المصيبة .
وهذه الثلاثة من الكبائر ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تبرأ من فاعلها .
ولا يدخل في الحديث ضرب الخد في الحياة العادية ، مثل ضرب الأب لابنه ، لكن يكره الضرب على الوجه للنهي عنه ، وكذلك شق الجيب لأمر غير المصيبة.
وعن أنس ، أن رسول الله قال : " إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه ، حتى يوافي به يوم القيامة " (1)
قوله في حديث أنس : " إذا أراد الله بعبده الخير " . الله يريد بعبده الخير والشر ولكن الشر المراد لله تعالى ليس مراداً لذاته بدليل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :
" والشر ليس إليك " (2)، ومن أراد الشر لذاته كان إليه ، ولكن الله يريد الشر لحكمة ، وحينئذ يكون خيراً باعتبار ما يتضمنه من الحكمة .
__________
(1) الترمذي : كتاب الزهد / باب ما جاء في الصبر على البلاء ، والحاكم في " المستدرك " ( 4 / 651 ) ، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ( ص 154 ) ، والبغوي في " شرح السنة " (5/ 245) .
(2) مسلم : كتاب الصلاة المسافرين / باب الدعاء في صلاة الليل .(11/75)
قوله : " عجل له بالعقوبة في الدنيا " . العقوبة : مؤاخذة المجرم بذنبه ، وسميت بذلك ، لأنها تعقب الذنب ، ولكنها لا تقال إلا في المؤاخذة على الشر .
وقوله : " عجل له العقوبة في الدنيا " . كان ذلك خيراً من تأخيرها للآخرة ، لأنه يزول وينتهى ، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للمتلاعنين : " إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة " (1).
وهناك خير أولى من ذلك وهو العفو عن الذنب ، وهذا أعلى ، لأن الله إذا لم يعاقبه في الدنيا ولا في الآخرة ، فهذا هو الخير كله ، ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جعل تعجيل العقوبة خيراً باعتبار أن تأخر العقوبة إلى الآخرة أشد ، كما قال تعالى : ( ولعذاب الآخرة أشد وأبقي ) [ طه : 127 ] .
والعقوبة أنواع كثيرة :
منها : ما يتعلق بالدين ، وهي أشدها ، لأن العقوبات الحسية قد ينتبه لها الإنسان ، أما هذه ، فلا ينتبه لها إلا من وفقه الله ، وذلك كما لو خفت المعصية في نظر العاصي ، فهذه عقوبة دينية تجعله يستهين بها ، وكذلك التهاون بترك الواجب ، وعدم الغيرة على حرمات الله ، وعدم القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كل ذلك من المصائب ، ودليله قوله تعالى : ( فإن تولوا فأعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ) [ المائدة : 49 ] .
ومنها العقوبة بالنفس ، وذلك كالأمراض العضوية والنفسية .
ومنها العقوبة بالأهل ، كفقدانهم ، أو أمراض تصيبهم .
ومنها : العقوبة بالمال ، كنقصه أو تلفه وغير ذلك .
قوله : " وإذا أراد بعبده الشر ، أمسك عنه بذنبه " . " أمسك عنه " ، أي : ترك عقوبته
والإمساك فعل من أفعال الله ، وليس معناه تعطيل الله عن الفعل ، بل هو لم يزل ولا يزال فعالاً لما يريد ، لكنه يمسك عن الفعل في شيء ما لحكمة بالغة ، ففعله حكمة ، وإمساكه حكمة .
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم .(11/76)
قوله : " حتى يوافي به يوم القيامة " . أي : يوافيه الله به : أي : يجازيه به يوم القيامة ، وهو الذي يقوم به الناس من قبورهم لله رب العالمين .
وسمي بيوم القيامة لثلاثة أسباب :
قيام الناس من قبورهم ، لقوله تعالى : (يوم يقوم الناس لرب العالمين ) [ المطففين : 6].
قيام الأشهاد ، لقوله تعالى : ( آنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) [ غافر : 51] .
قيام العدل ، لقوله تعالى : ( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة ) [ الأنبياء : 47 ] والغرض من سياق المؤلف لهذا الحديث : تسلية الإنسان إذا أصيب بالمصائب لئلا يجزع ، فإن ذلك يكون خيراً ، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، فيحمد الله أنه لم يؤخر عقوبته إلى الآخرة .(11/77)
وعلى فرض أن أحداً لم يأت بخطيئة وأصابته مصيبة ، فنقول له : إن هذا من باب امتحان الإنسان على الصبر ، ورفع درجاته باحتساب الأجر ، لكن لا يجوز للإنسان إذا أصيب بمصيبة، وهو يرى أنه لم يخطئ أن يقول : أنا لم أخطئ ، فهذه تزكية ، فلو فرضنا أن أحداً لم يصب ذنباً وأصيب بمصيبة ، فإن هذه المصيبة لا تلاقي ذنباً تكفره لكنها تلاقي قلباً تمحصه ، فيبتلي الله الإنسان بالمصائب لنظر هل يصبر أو لا ؟ ولهذا كان أخشى الناس لله - عز وجل - وأتقاهم محمد - صلى الله عليه وسلم - ، يوعك كما يوعك رجلان منا (1)، وذلك لينال أعلي درجات الصبر فينال مرتبة الصابرين على أعلي وجوهها ، ولذلك شدد عليه صلى الله عليه وسلم عند الفزع ومع هذه الشدة كان ثابت القلب ودخل عليه عبدالرحمن بن أبي بكر وهو يستاك فأمده بصره (يعني ينظر) فعرفت عائشة رضي الله عنها أنه يريد السواك ، فقالت : آخذه لك ؟ فأشار برأسه نعم . فأخذت السواك وقضمته وآلانته للرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فأعطته إياه ، فاستن به ، قالت عائشة : ما رأيته استن استناناً أحسن منه ، ثم رفع يده وقال : " في الرفيق الأعلى " (2).
فانظر إلى هذا الثبات واليقين والصبر العظيم مع هذه الشدة العظيمة ، كل هذا لأجل أن يصل الرسول - صلى الله عليه وسلم - أعلى درجات الصابرين ، صبر لله ، وصبر بالله ، وصبر في الله حتى نال أعلى الدرجات . فمن أُصيب بمصيبة، فحدثته نفسه أن مصائبه أعظم من مصائبه فإن يُدلّ على ربه بعمله ومُمنّ عليه به؛ فليعذر هذا.
ومن ذلك يتضح لنا أمران :
أن إصابة الإنسان بالمصائب تعتبر تكفيراً لسيئاته وتعجيلاً للعقوبة في الدنيا ، وهذا خير من تأخيرها له في الآخرة .
__________
(1) البخاري : كتاب المرضي / باب أشد الناس بلاء الأنبياء ، ومسلم كتاب البر والصلة /باب ثواب المؤمن.
(2) البخاري : كتاب المغازى / باب مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - .(11/78)
قد تكون المصائب أكبر من المعائب ليصل المرء بصبره أعلى درجات الصابرين ، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن عظم الجزاء مع عظم البلاء ، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم ، فمن رضي ، فله الرضا ، ومن سخط فله السخط " حسنه الترمذي (1).
قوله : " وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن عظم الجزاء مع عظم البلاء " . هذا الحديث رواه الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - - فَصَحابيَّة صحابي الحديث الذي قبله .
قوله : " إن عظم الجزء مع عظم البلاء " . أي : يتقابل عظم الجزاء مع البلاء ، فكلما كان البلاء أشد وصبر الإنسان صار الجزاء أعظم ، لأن الله عدل لا يجزي المحسن بأقل من إحسانه ، فليس الجزاء على الشوكة يشاكها كالجزاء على الكسر إذا كُسر ، وهذا دليل على كمال عدل الله ، وأنه لا يظلم أحداً ، وفيه تسلية المصاب .
قوله : " وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم " . أي : أختبرهم بما يقدر عليهم من الأمور الكونية ؛ كالأمراض ، وفقدان الأهل ، أو بما يكلفهم به من الأمور الشرعية ، قال تعالى : ( إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً * فاصبر لحكم ربك ) [ الإنسان : 23، 24 ] فذكره الله بالنعمة وأمره بالصبر ، لأن هذا الذي نُزل عليه تكليف يكلف به .
كذلك من الابتلاء الصبر عن محارم الله ، كما في الحديث : " ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال ، فقال : إني أخاف الله " (2)، فهذا جزاؤه إن الله يظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله .
__________
(1) الترمذي : كتاب الزهد / باب ما جاء في الصبر على البلاء ، وابن ماجة : كتاب الفتن / باب الصبر على البلاء .
(2) خاري : كتاب الجماعة والإمامة /باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة ، ومسلم : كتاب الزكاة / باب إخفاء الصدقة .(11/79)
قوله : " فمن رضي ، فله الرضا ، ومن سخط ؛ فله السخط " . " من " شرطية ، والجواب : " فله الرضا " ، أي : فله الرضا؛ من الله وإذا رضي الله عن شخصاً رضي الناس عنه جميعاً، والمراد بالرضا الرضا بقضاء الله من حيث إنه قضاء الله ، وهذا واجب بدليل قوله : " ومن سخط " فقابل الرضا بالسخط ، وهو عدم الصبر على ما يكون من المصائب القدرية الكونية .
ولم يقل هنا " فعليه السخط " مع أن مقتضى السياق أن يقول فعليه ، كقوله تعالى : ( من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ) [ فصلت : 46] .
فقال بعض العلماء : إن اللام بمعنى على ، كقوله تعالى : ( أولئك لهم اللعنة ولهم سواء الدار ) [ الرعد : 25 ] أي : عليهم اللعنة .
وقال آخرون : إن اللام على ما هي عليه ، فتكون للاستحقاق ، أي : صار عليه السخط باستحقاقه له ، فتكون أبلغ من " على " ، كقوله تعالى : ( أولئك لهم اللعنة ) ؛ أي حقت عليهم باستحقاقهم لها ، وهذا أصح .
ويستفاد من الحديث :
إثبات المحبة والسخط والرضا لله - عز وجل ، وهي من الصفات الفعلية لتعلقها بمشيئة الله تعالى ؛ لأن (إذا ) في قوله : " إذا أحب قوماً للمستقبل ، فالحب يحدث ، فهو من الصفات الفعلية .
والله تعالى يجب العبد عند وجود سبب المحبة ، ويبغضه عند وجود سبب البغض ، وعلى هذا ؛ فقد يكون هذا الشخص في يوم من الأيام محبوباً إلى الله وفي أخر مبغضاً إلى الله ، لأن الحكم يدور مع علته .
وأما الأعمال ؛ فلم يزل الله يحب الخير والعدل والإحسان ونحوها ، وأهل التأويل ينكرون هذه الصفات ، فيؤولون المحبة الرضا بالثواب أو إرادته ، والسخط بالعقوبة أو إدارتها ، قالوا لأن إثبات هذه الصفات يقضي النقص ومشابهة المخلوقين ، والصواب ثبوتها لله - عز وجل على الوجه اللائق به كسائر الصفات التي يثبتها من يقول بالتأويل .
ويجب في كل صفة أثبتها لنفسه أمران :
إثباتها على حقيقتها وظاهرها .
الحذر من التمثيل أو التكييف .
فيه مسائل :(11/80)
الأولى : تفسير آية التغابن . الثانية : أن هذا من الإيمان بالله . الثالثة : الطعن في النسب . الرابعة : شدة الوعيد فيمن ضرب الخدود ، وشق الجيوب ، ودعا الجاهلية . الخامسة : علامة إرادة الله بعبده الخير . السادسة : إدارة الله به الشر . السابعة : علامة حب الله للعبد . الثامنة : تحريم السخط . التاسعة : ثواب الرضا بالبلاء .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية التغابن . وهي قوله تعالى : ( ومن يؤمن بالله يهد قلبه ) ، وقد فسرها علقمة كما سبق تفسيراً مناسباً للباب .
الثانية : أن هذا من الإيمان بالله . المشار إليه بقوله : (هذا ) هو الصبر على أقدار الله .
الثالثة : الطعن في النسب . وهو عيبه أو نفيه ، وهو من الكفر ، لكنه لا يُخرج من الملة .
الرابعة : شدة الوعيد فيمن ضرب الخدود ، أو شق الجيوب ، أو دعا بدعوى الجاهلية . لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تبرا منه .
الخامسة : علامة إرادة الله بعبده الخير . وهو أن يعجل له الله العقوبة في الدنيا .
السادسة : إرادة الله به البشر . أي إرادة الله به الشر ، وهو أن يؤخر له العقوبة في الآخرة .
السابعة : علامة حب الله للعبد. وهي الابتلاء.
الثامنة : تحريم السخط . يعني : مما به العبد ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " ومن سخط ، فله السخط " ، وهذا وعيد .
التاسعة : ثواب الرضا بالبلاء . وهو رضا الله عن العبد ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " من رضي ، فله الرضا " .
باب ما جاء في الرياء
المؤلف رحمه الله تعالى أطلق الترجمة ، فلم يفصح بحكمه لأجل أن يحكم الإنسان بنفسه على الرياء على ما جاء فيه .
تعريف الرياء :(11/81)
مصدر راءي يرائي ، أي : عمل ليراه الناس ، ويقال مراءاة كما يقال : جاهد جهاداً ومجاهدة ، ويدخل في ذلك من عمل ليسمعه الناس ويقال له مسمع ، وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أنه قال : " من راءي الله به ، ومن سمع الله به " (1).
والرياء خلق ذميم ، وهو من صفات المنافقين ، قال تعالى : ( وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً ) [ النساء : 143].
والرياء يبحث في مقامين :
المقام الأول : في حكمة .
فنقول : الرياء من الشرك الأصغر ، لأن الإنسان قصد بعبادته غير الله وقد يصل إلى الأكبر ، وقد مثل ابن القيم للشرك الأصغر ، فقال : " مثل يسير الرياء " ، وهذا يدل على أن الرياء كثير قد يصل إلى الأكبر .
المقام الثاني : في حكم العبادة إذا خالطها الرياء ، وهو على ثلاثة أوجه :
الأول : أن يكون الباعث على العبادة مراءاة الناس من الأصل ، كمن قام يصلي من أجل مراءاة الناس ولم يقصد وجه الله ، فهذا شرك والعبادة باطلة .
الثاني : أن يكون مشاركاً للعبادة في أثنائها ، بمعنى أن يكون الحامل له في أول أمره الإخلاص لله ثم يطرأ الرياء في أثناء العبادة .
فإن كانت العبادة لا ينبني أخرها على أولها ، فأولها صحيح بكل حال ، والباطل آخرها .
مثال ذلك رجل عهده مئة ريال قد أعدها للصدقة فتصدق بخمسين مخلصاً وراءى في الخمسين الباقية ، فالأولى حكمها صحيح ، والثانية باطلة .
أما إذا كانت العبادة ينبني أخرها على أولها، فهي على حالين .
__________
(1) البخاري : كتاب الرقاق / باب الرياء والسمع ، ومسلم : كتاب الزهد / باب تحريم الرياء .(11/82)
أ - ) أن يدافع الرياء ولا يسكن إليه ، بل يعرض عنه ويكرهه ، فإنه لا يؤثر عليه شيئاً ، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله تجاوز عن آمتي ما حدثت به نفسها ما لم تعمل أو تتكلم " (1).
مثال ذلك : رجل قام يصلي ركعتين مخلصاً لله ، وفي الركعة الثانية أحس بالرياء فصار يدافعه ، فإن ذلك لا يضره ولا يؤثر على صلاته شيئاً .
ب ) أن يطمئن إلى هذا الرياء ولا يدافعه ، فحينئذ تبطل جميع العبادة لأن آخرها مبني على أولها ومرتبط به .
مثال ذلك : رجل قام يصلي ركعتين مخلصاً لله ، وفي الركعة الثانية طرأ عليه الرياء لإحساسه بشخص ينظر إليه ، فأطمأن لذلك ونزع إليه ، فتبطل صلاته كلها لارتباط بعضها ببعض .
الثالث : ما يطرأ بعد أنتهاء العبادة ، فإنه لا يؤثر عليها شيئاً ، اللهم إلا أن يكون فيه عدوان ، كالمن والأذي بالصدقة ، فإن هذا العدوان يكون إثمه مقابلاً لأجر الصدقة فيبطلها ، لقوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذي ) [ البقرة : 264] .
وليس من الرياء أن يفرح الإنسان بعلم الناس بعبادته ، لأن هذا إنما طرأ بعد الفراغ من العبادة .
وليس من الرياء أيضاً أن يفرح الإنسان بفعل الطاعة في نفس ، بل ذلك دليل على إيمانه ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " من سرته حسناته وساءته سيئاته فذلك المؤمن" وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : " تلك عاجل بشري المؤمن " (2)
وقول الله تعالى : ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلي إنما إلهكم إله واحد ) [ الكهف : 110] .
__________
(1) البخاري : كتاب العنق / باب الخطأ والنسيان ، ومسلم : كتاب الإيمان / باب تجاوز الله عن حديث النفس.
(2) مام أحمد في " المسند " (1/18، 26) ، والترمذي ( كتاب الفتن ، باب ما جاء في لزوم الجماعة ) ، والحم وصححه ووافقه الذهبي (1/125) ، وصححه أحمد شاكر (114) .(11/83)
قوله تعالى : ( قل إنما إنا بشر مثلكم ) . يأمر الله نبيه أن يقول للناس : إنما أنا بشر مثلكم ، وهو قصر النبي - صلى الله عليه وسلم - على البشرية ، وأنه ليس رباً ولا ملكاً ، وأكد هذه البشرية بقوله : ( مثلكم ) ، فذكر المثل من باب تحقيق البشرية .
قوله : ( يوحي إلى ) . الوحي في اللغة : الإعلام بسرعة وخفاء ، ومنه قوله تعالى : ( فخرج على قومه من المحراب فإويحي إليهم أن سبحوا بكرة وعشياً ) [مريم : 11] .
وفي الشرع : إعلام الله بالشرع .
والوحي : هو الفرق بيننا وبينه - صلى الله عليه وسلم - ، فهو متميز بالوحي كغيره من الأنبياء والرسل.
قوله : ( إنما إلهكم إله واحد) . هذه الجملة في تأويل مصدر نائب فاعل ( يوحي ) ، وفيها حصر طريقه (إنما) ، فيكون معناها : ما إلهكم إلا إله واحد ، وهو الله فإذا ثبت ذلك ، فإنه لا يليق بك أن تشرك معه غيره في العبادة التي هي خالص حقه ، ولذلك قال تعالى بعد هذا : ( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً ) [ الكهف : 110 ] .
فقوله تعالى : (فمن كان يرجو لقاء ربه ) المراد بالرجاء : الطلب والأمل ، أي : من كان يؤمل أن يلقي ربه ، والمراد باللقيا هنا الملاقاة الخاصة ، لأن اللقيا على نوعين :
الأول : عامة لكل إنسان ، قال تعالى : ( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه ) [ الانشقاق : 6 ] ، ولذلك قال مفرعاً على ذلك : ( فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً ) [ الانشقاق : 7 ] ( وأما من أوتي كتابه وراء ظهره - .. ) الآية [ الانشقاق : 10] .
الثاني : الخاصة بالمؤمنين ، وهو لقاء الرضا والنعيم كما في هذه الآية ، وتتضمن رؤيته تبارك وتعالى ، كما ذكر بعض أهل العلم .(11/84)
فقوله : ( فليعمل عملاً صالحاً ) الفاء رابطة لجواب الشرط ، والأمر للإرشاد ، أي : من كان يريد أن يلقي الله على الوجه الذي يرضاه سبحانه ، فليعمل عملاً صالحاً : والعمل الصالح ما كان خالصاً صواباً .
وهذا وجه الشاهد من الآية .
فالخالص : ما قصد به وجه الله ، والدليل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : " أنما الأعمال بالنيات " (1).
والصواب : ما كان على شريعة الله ، والدليل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا ، فهو رد " (2)
ولهذا قال العلماء : هذان الحديثان ميزان الأعمال ، فالأول : ميزان الأعمال الباطنة . والثاني : ميزان الأعمال الظاهرة .
قوله : ( ولا يشرك ) . لا : ناهية والمراد بالنهي الإرشاد .
قوله : ( بعبادة ربه أحداً ) . خص العبادة لأنها خالص حق الله ، ولذلك أتى بكلمة " رب " إشارة إلى العلة ، فكما أن ربك خلقك ولا يشاركه أحد في خلقك ، فيجب أن تكون العبادة له وحده ، ولذلك لم يقل : ( لا يشرك بعبادة الله ) ، فذكر الرب من باب التعليل ، كقوله تعالى : ( يا أيها الناس أعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم ).
وقوله ( أحداً ) نكرة في سياق النهي ، فتكون عامة لكل أحد .
والشاهد من الآية : أن الرياء من الشرك ، فيكون داخلاً في النهي عنه.
وفي هذه الآية دليل على ملاقاة الله تعالى ، وقد استدل بها بعض أهل العلم على ثبوت رؤية الله ، لأن الملاقاة معناها المواجهة .
وفيها دليل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بشر لا يستحق أن يعبد ، لأنه حصر حاله بالبشرية ، كما حصر الألوهية بالله .
__________
(1) بالبخاري : كتاب بدء الوحي / باب كيف كان بدء الوحي ، ومسلم : كتاب الإمارة / باب إنما الأعمال بالنيات .
(2) باليخاري : كتاب البيوع / باب النجش ، ومسلم : كتاب الأقضية /باب نقص الآحكام .(11/85)
وعن أبي هريرة مرفوعاٌ : قال الله تعالى : " أنا أغني الشركاء عن الشرك ، ومن عمل عملاً أشرك معي فيه غيري ، تركته وشركه " . رواه مسلم (1).
قوله في حديث أبي هريرة : " قال الله تعالى " . هذا الحديث يرويه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه ، ويسمى هذا النوع بالحديث القد سي .
قوله : " أنا أغنى الشركاء عن الشرك " . قوله " أغني " . اسم تفضيل ، وليست فعلاً ماضياً ، ولهذا أضيفت إلى الشركاء .
يعني : إذا كان بعض الشركاء يستغني عن شركته مع غيره ، فالله إغني الشركاء عن المشاركة .
فالله لا يقبل عملاً له فيه شرك أبداً ، ولا يقبل إلا العمل الخالص له وحده ، فكما أنه خالق وحده ، فكيف تصرف شيئاً من حقه إلى غيره ! فهذا ليس عدلاً ، ولهذا قال الله عن لقمان : ( إن الشرك لظلم عظيم ) [ لقمان : 13] ، فالله الذي خلقك وأعدك إعداداً كاملاً بكل مصالحك وأمدك بما تحتاج إليه ، ثم تذهب وتصرف شيئاً من حقه إلى غيره ؟ ! فلا شك أن هذا من أظلم الظلم .
قوله : " عملاً " . نكرة في سياق الشرط ، فتعم أي عمل من صلاة ، أو صيام ، أو حج ، أو جهاد ، أو غيره .
قوله : " تركته وشركه " . أي : لم أثبه على عمله الذي أشرك فيه .
وقد يصل هذا الشرك إلى حد الكفر ، فيترك الله جميع أعماله ، لأن الشرك يحبط الأعمال إذا مات عليه .
والمراد بشركه : عمله الذي أشرك فيه ، وليس المراد شريكه ، لأن الشريك الذي أشرك به مع الله قد لا يتركه ، كمن أشرك نبياً أو ولياً ، فإن الله لا يترك ذلك النبي والولي .
ويستفاد من هذا الحديث :
بيان غني الله تعالى ، لقوله : " أنا إغني الشركاء عن الشرك " .
بيان عظم حق الله وأنه لا يجوز لأحد أن يشرك أحداً مع الله في حقه .
بطلان العمل الذي صاحبه الرياء ، لقوله : " تركته وشركه " .
__________
(1) مسلم : كتاب الزهد / باب من أشرك في عمله غير الله .(11/86)
تحريم الرياء ، لأن ترك الإنسان وعمله وعدم قبوله يدل على الغضب ، وما أوجب الغضب ، فهو محرم .
أن صفات الأفعال لا حصر لها ، لأنها متعلقة بفعل الله ، ولم يزل الله ولا يزال فعالاً .
وعن أبي سعيد مرفوعاً : " ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال ؟ " . قالوا : بلي . قال : " الشرك الخفي ، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته ، لما يري من نظر رجل إليه " رواه أحمد (1).
قوله في حديث أبي سعيد : " ألا " . أداة عرض ، والغرض منها تنبيه المخاطب ، فهو أبلغ من عدم الإتيان بها .
قوله : " بما هو " . ما : أسم موصول بمعنى الذي .
قوله : " أخوف عليكم عندي " . أي عند الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأنه - صلى الله عليه وسلم - من رحمته بالمؤمنين يخاف عليهم كل الفتن ، وأعظ فتنه في الأرض هي فتنة المسيح الدجال ، لن النبي - صلى الله عليه وسلم - من فتنة هذا الشرك الخفى أشد من خوفه من فتنة المسيح الدجال ، وإنما كان كذلك ، لأن التخلص منه صعب جداً ، ولذلك قال بعض السلف : " ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص " ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أسعد الناس بشفاعتي من قال : لا إله إلا الله خالصاً من قلبه " (2).، ولا يكفي مجرد اللفظ بها ، بل لابد من إخلاص وأعمال يتعبد بها الإنسان لله - عز وجل .
قوله : " المسيح الدجال " . المسيح ، أي : ممسوح العين اليمني ، فذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - عيبين في الدجال : أحدهما حسي ، وهو أن الدجال أعور العين اليمني ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله لا يخفى عليكم ، إنه ليس بأعور الدجال أعور العين اليمنى " (3).
__________
(1) الإمام أحمد ( 3/ 30 ) ، وابن ماجة : كتاب الزهد / باب الرياء والسمعة ، والحاكم ( 4/ 329) وصححه.
(2) البخاري : كتاب الرفاق / باب صفة الجنة والنار .
(3) البخاري : كتاب المغازي / باب حجة الوداع ، ومسلم : كتاب الفتن / باب ذكر الدجال .(11/87)
والثاني معنوي : وهو الدجال ، فهو صيغة مبالغة ، أو يقال بأنه نسبة إلى وصفه الملازم له ، وهو الدجل والكذب والتمويه، وهو رجل من بني آدم ، ولكن الله - سبحانه وتعالى بحكمته يخرجه ليفتن الناس به ، وفتنته عظيمة ، إذ ما في الدنيا منذ خلق آدم إلى أن تقوم الساعة فتنة أشد من فتنة الدجال . والمسيح الدجال ثبتت به الأحاديث واشتهرت حتى كان من المعلوم بالضرورة ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أمته أن يتعوذوا بالله منه في كل صلاة ، وقد حاول بعض الناس إنكاره وقالوا : ما ورد من صفته متناقض ولا يمكن أن يصدق به ، لكن هؤلاء يقيسون الأحاديث بعقولهم وأهوائهم ، وقدرة الله بقدرتهم ، ويقولون : كيف يكون اليوم عن سنة والشمس لها نظام لا تتعداه ؟ وهذا لا شك جهل منهم بالله ، فالذي جعل هذا النظام هو الله ، وهو القادر على أن يغيره متي شاء ، فيوم القيامة تكور الشمس ، وتتكدر النجوم ، وتكشط السماء ، كل ذلك بكلمة " كن " . ورد هذه الأحاديث بمثل هذه التعالىل دليل على ضعف الإيمان وعدم تقديره الله حق قدرته ، قال تعالى : ( وما قدروا الله حق قدره ) [ الزمر : 67].
فالذي نؤمن به أنه سيخرج في أخر الزمان ، ويحصل منه كل ما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ونؤمن أن الله على كل شيء قدير ، وأنه قادر على أن يبعث على الناس .
من يفتنهم عن دينهم ، ليتميز المؤمن من الكافر والخبيث من الطيب ، مثل ما ابتلي الله بني إسرائيل بالحيتان يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم ، ومثل ما ابتلي الله المؤمنين بأن أرسل عليهم الصيد وهم حرم ، تناله أيدهم ورماحهم ليعلم الله من يخافه بالغيب ، وقد يبتلي الله أفراد الناس بأشياء يمتحنهم بها ، قال تعالى : { ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة } [ الحج : 11] .
قوله : " الشرك الخفي " . الشرك قسمان خفي وجلي .(11/88)
فالجلي : ما كان بالقول مثل الحلف بغير الله أو قول ما شاء الله وشئت ، أو بالفعل مثل : الانحناء لغير الله تعظيماً .
والخفي : ما كان في القلب ، مثل : الرياء ، لأنه لا يبين ، إذا لا يعلم ما في القلوب إلا الله ، ويسمي أيضاً " شرك السرائر " . وهذا هو الذي بينه الله بقوله : ( يوم تبلى السرائر ) [ الطارق : 9 ] ، لأن الحساب يوم القيامة على السرائر ، قال تعالى : ( أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور ) [العاديات : 9، 10] وفي الحديث الصحيح فيمن كان يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهي عن المنكر ويفعله : أنه " يلقي في النار حتى تندلق أقتاب بطنه ، فيدور عليها كما يدور الحمار برحاه ، فيجتمع عليه أهل النار ، فيسألونه ، فيخبرهم أنه كان يأمر بالمعروف ولا يفعله ، وينهي عن المنكر ويفعله " (1).
قوله : " يقوم الرجل ، فيصلي ، فيزين صلاته " . يتساوي في ذلك الرجل والمرأة ، والتخصيص هنا يسمي مفهوم اللقب ، أي أن الحكم يعلق بما هو أشرف ، لا لقصد التخصيص ولكن لضرب المثل .
وقوله : " فيزين صلاته " . أي : يحسنها بالطمأنينة ، ورفع اليدين عند التكبير ونحو ذلك .
قوله : " لما يرى من نظر رجل إليه " . " ما " موصولة ، وحذف العائد ، أي : للذي يراه نظر رجل ، وهذه هي العلة لتحسين الصلاة ، فقد زين صلاته ليراه هذا الرجل فيمدحه بلسانه أو يعظمه بقلبه ، وهذا شرك .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية الكهف . الثانية : الأمر العظيم في رد العمل الصالح إذا دخله شيء لغير الله . الثالثة : ذكر السبب الموجب لذلك ، وهو كمال الغني . الرابعة : أن من الأسباب أنه تعالى خير الشركاء . الخامسة : خوف النبي - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه من الرياء .
__________
(1) البخاري : كتاب بدء الخلق / باب صفة النار ، ومسلم : كتاب الزهد / باب عقوبة من يأمر بمعروف ولا يفعله .(11/89)
السادسة : أنه فسر ذلك بأن المرء يصلي لله ، لكن ، يزينها لما يرى من نظر الرجل إليه .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير أية الكهف . وسبق الكلام عليها .
الثانية : الآمر العظيم في رد العل الصالح إذا دخله شيء لغير الله .
وذلك لقوله : " تركته وشركه " ، وصار عظيماً لأنه ضاع على العامل خساراً ، وفحوص الحديث تدل على غضب الله عز وجل من ذلك .
الثالثة : ذكر السبب الموجب لذلك ، وهو كمال الغني . يعنى الموجب للرد هو كمال غني الله - عز وجل عن كل عمل فيه شرك ، وهو غني عن كل عمل ، لكن العمل الصالح يقبله ويثيب عليه .
الرابعة : أن من الأسباب أنه تعالى خير الشركاء . أي : من أسباب رد العمل إذا أشرك فيه العامل مع الله أحداً ، أن الله خير الشركاء ، فلا ينازع من جعل شريكاً له فيه .
الخامسة : خوف النبي - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه من الرباء . وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - : " ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال " . وإذا كان يخاف ذلك على أصحابه ، فالخوف على من بعدهم من باب أولي .
السادسة : أنه فسر ذلك بأن يصلي المرء لله ، لكن يزينها لما يرى من نظر رجل إليه . وهذا التفسير ينطبق تماماً على الرياء ، فيكون أخوف علينا عند رسوله - صلى الله عليه وسلم - من المسيح الدجال .
ولم يذكر المؤلف مسألة خوف النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته من المسيح الدجال ، لأن المقام في الرياء لا فيما يخافه النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته .
***
باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا
قوله : " من الشرك " . " من " للتبعيض ، أي : بعض الشرك .(11/90)
قوله : " الدنيا " . مفعول بإرادة ، لأن إرادة مصدر مضاف إلى فاعله وإذا أردت أن تعرف المصدر إن كان مضافاً إلى فاعله أو مفعوله ، فحوله إلى فعل مضارع مقرون بأن ، فإذا قلنا : باب من الشرك أن يريد الإنسان بعمله الدنيا ، فالإنسان فاعل ، وعلي هذا ، فإرادة مصدر مضاف إلى فاعله ، والدني مفعول به .
وعنوان الباب له ثلاث احتمالات :
الأول : أن يكون مكرراً مع ما قبله ، وهذا بعيد أن يكتب المؤلف ترجمتين متتابعتين لمعني واحد .
الثاني : أن يكون الباب الذي قبله أخص من هذا الباب ، لأنه خاص في الرياء ، وهذا أعم ، وهذا محتمل .
الثالث : أن يكون هذا الباب نوعاً مستقلاً عن الباب الذي قبله ، وهذا هو الظاهر ، لأن الإنسان في الباب السابق يعمل رياء يريد أن يمدح في العبادة ، فيقال ، هو عابد ، ولا يريد النفع المادي .
وفي هذا الباب لا يريد أن يمدح بعبادته ولا يريد المراءاة ، بل يعبد الله مخلصاً له ، ولكنه يريد شيئاً من الدنيا ، كالمال ، والمرتبة ، والصحة في نفسه وأهله وولده وما أشبه ذلك ، فهو يريد بعمله نفعاً في الدنيا ، غافلاً عن ثواب الآخرة .
أمثلة تبين كيفية إرادة الإنسان بعمله الدنيا :
أن يريد المال ، كمن أذن ليأخذ راتب المؤذن ، أو حج ليأخذ المال .
أن يريد المرتبة ، كمن تعلم في كلية ليأخذ الشهادة فترتفع مرتبته .
أن يريد دفع الأذي والأمراض والآفات عنه ، كمن تعبد لله كي يجزيه الله بهذا في الدنيا بمحبة الخلق له ودفع السوء عنه وما أشبه ذلك .
أن يتعبد لله يريد صرف وجوه الناس إليه بالمحبة والتقدير .
وهناك أمثلة كثيرة .
تنبيه :
فإن قيل : هل يدخل فيه من يتعلمون في الكليات أو غيرها يريدون شهادة أو مرتبة بتعلمهم ؟
فالجواب : أنهم يدخلون في ذلك إذا لم يريدوا غرضاَ شرعياَ ، فنقول لهم :(11/91)
أولاً : لا تقصدوا بذلك المرتبة الدنيوية ، بل اتخذوا هذه الشهادات وسيلة للعمل في الحقول النافعة للخلق ، لأن الأعمال في الوقت الحاضر مبنية على الشهادات ، والناس لا يستطعون الوصول إلى منفعة الخلق إلا بهذه الوسيلة ، وبذلك تكون النية سليمة .
ثانياً : أن من أراد العلم لذاته قد لا يجده إلا في الكليات ، فيدخل الكلية أو نحوها لهذا الغرض ، وأما بالنسبة للمرتبة ، فإنها لا تهمه .
ثالثاً : أن الإنسان إذا أراد بعمله الحسنيين - حسني الدنيا وحسني الأخرة ، فلا شيء عليه لأن الله يقول : { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب } [ الطلاق : 2،3] فرغبه في التقوي بذكر المخرج من كل ضيق والرزق من حيث لا يحتسب .
فإن قيل : من أراد بعمله الدنيا كيف يقال إنه مخلص مع أنه أراد المال مثلاً ؟
أجيب : إنه أخلص العبادة ولم يرد بها الخلق إطلاقاً ، فلم يقصد مراءاة الناس ومدحهم ، بل قصد أمراً مادياً ، فإخلاصه ليس كاملاً لأن فيه شركاً ، ولكن ليس كشرك الرياء يريد أن يمدح بالتقريب إلى الله ، وهذا لم يرد مدح الناس بذلك ، بل أراد شيئاً دنيئاً غيره .
ولا مانع أن يدعو الإنسان في صلاته ويطلب أن يرزقه الله المال ، ولكن لا يصلي من أجل هذا الشيء ، فهذه مرتبة دنيئة .
أما طلب الخير في الدنيا بأسبابه الدنيوية ، كالبيع ، والشراء ، والزراعة ، فهذا لا شيء فيه ، والأصل أن لا نجعل في العبادات نصيباً من الدنيا ، وقد سبق البحث في حكم العبادة إذا خالطها الرياء في باب الرياء .
ملاحظة :
بعض الناس عندما يتكلمون على فوائد العبادات يحولونها إلى فوائد دنيوية .
فمثلاً يقولون : في الصلاة رياضة وإفادة للأعصاب ، وفي الصيام فائدة إزالة الرطوبة وترتيب الوجبات ، والمفروض ألا نجعل الفوائد الدنيوية هي الأصل ، لأن الله لم يذكر ذلك في كتابه ، بل ذكر أن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر .(11/92)