ص -294- ... وبالجملة فالبيان لا يحمد إلا إذا لم يخرج إلى حد الإسهاب والإطناب،
وتغطية الحق، وتحسين الباطل. فإذا خرج إلى هذا فهو مذموم، وعلى هذا تدل الأحاديث كحديث الباب وحديث: " إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها " 1. رواه أحمد وأبو داود.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حسن. أحمد (2/165,187). أبو داود: كتاب الأدب (5005): باب ما جاء في المتشدق في الكلام والترمذي: كتاب الأدب (2853): باب ما جاء في الفصاحة والبيان وقال: حديث حسن غريب. من حديث عبد الله بن عمرو بن العا(7/50)
ص -رضي الله عنهما-. وحسنه الألباني في الصحيحة (880).
باب: " ما جاء في الكهان ونحوهم"
روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي صلي الله عليه وسلم عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب ما جاء في الكهان ونحوهم".
"الكاهن" هو الذي يأخذ عن مسترق السمع، وكانوا قبل المبعث كثيرا. وأما بعد المبعث فإنهم قليل؛ لأن الله تعالى حرس السماء بالشهب، وأكثر ما يقع في هذه الأمة ما يخبر به الجن أولياءهم من الإنس عن الأشياء الغائبة بما يقع في الأرض من الأخبار، فيظنه الجاهل كشفا وكرامة1، وقد اغتر بذلك كثير من الناس يظنون المخبر لهم بذلك عن الجن وليا لله، وهو من أولياء الشيطان، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 والواقع أن ذلك من تآلف روح الشيطان القرين مع روح قرينه الإنسان الخبيث، فيتناجيان ويتكلم الشيطان مع قرينه بما يحب من الأخبار التي يتلقاها الشيطان عن الشيطان الآخر قرين الإنسان الآخر. وهكذا فإن لكل إنسان قرينا من الشيطان كما جاء ذلك في القرآن والسنة. فيخبر شيطان الإنس بما أوحى إليه شيطان الجن من أخبار السائل وأحواله في منزله وخصوصية نفسه مما ألقاه إليه الشيطان القرين, فيظن الجهلة والمغفلون أن ذلك عن صلاح وتقوى وكرامات، وأنه بصلاحه قد كشف الحجاب عنه. وهذا من أضل الضلال ومن أعظم الخذلان، وإن اعتقده وخدع به كثير ممن ينتسب إلى ظاهر العلم والصلاح.(7/51)
ص -295- ... يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}1.
قوله: " روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي صلي الله عليه وسلم عن النبي صلي الله عليه وسلم قال:
" من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه بما يقول، لم تقبل له صلاة أربعين يوما ".
قوله: "عن بعض أزواج النبي صلي الله عليه وسلم" هي حفصة، ذكره أبو مسعود الثقفي؛ لأنه ذكر هذا الحديث في الأطراف في مسندها.
قوله: " من أتى عرافا" سيأتي بيان العراف إن شاء الله تعالى. وظاهر هذا الحديث أن الوعيد مرتب على مجيئه وسؤاله، سواء صدقه أو شك في خبره. فإن في بعض روايات الصحيح: " من أتى عرافا فسأله عن شيء، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ".
قوله: " لم تقبل له صلاة" إذا كانت هذه حال السائل، فكيف بالمسئول؟ قال النووي وغيره: معناه أنه لا ثواب له فيها، وإن كانت مجزئة بسقوط الفرض عنه، ولا بد من هذا التأويل في هذا الحديث; فإن العلماء متفقون على أنه لا يلزم من أتى العراف إعادة صلاة أربعين ليلة. اهـ ملخصا.
وفي الحديث النهي عن إتيان الكاهن ونحوه قال القرطبي: " يجب على من قدر على ذلك من محتسب وغيره أن يقيم من يتعاطى شيئا من ذلك من الأسواق وينكر عليهم أشد النكير، وعلى من يجيء إليهم، ولا يغتر بصدقهم في بعض الأمور، ولا بكثرة من يجيء إليهم ممن ينتسب إلى العلم؛ فإنهم غير راسخين في العلم، بل من الجهال بما في إتيانهم من المحذور".
وعن أبي هريرة عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " من أتى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية : 128.(7/52)
ص -296- ... كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلي الله عليه وسلم "1 رواه أبو داود.
وللأربعة والحاكم –وقال: صحيح على شرطهما- عن النبي صلي الله عليه وسلم2: " من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلي الله عليه وسلم "3.
قال: "عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلي الله عليه وسلم ". رواه أبو داود"4.
وفي رواية أبي داود: " أو أتى امرأة - قال مسدد: امرأته حائضا- أو أتى امرأة. قال مسدد: امرأته في دبرها - فقد برئ مما أنزل على محمد صلي الله عليه وسلم ". فناقل هذا الحديث من السنن حذف منه هذه الجملة، واقتصر على ما يناسب الترجمة.
قال: "وللأربعة والحاكم- وقال: صحيح على شرطهما- عن النبي صلي الله عليه وسلم: " من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلي الله عليه وسلم ".
هكذا بيض المصنف لاسم الراوي. وقد رواه أحمد والبيهقي والحاكم عن أبي هريرة مرفوعا.
قوله " من أتى كاهنا" قال بعضهم: لا تعارض بين هذا وبين حديث: " من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ". هذا على قول من يقول: هو كفر دون كفر، أما على قول من يقول بظاهر الحديث فيسأل عن وجه الجمع بين الحديثين. وظاهر الحديث أنه يكفر متى اعتقد صدقه بأي وجه كان. وكان غالب الكهان قبل النبوة إنما كانوا يأخذون عن الشياطين.
قوله: " فقد كفر بما أنزل على محمد صلي الله عليه وسلم". قال القرطبي: " المراد بالمنزل الكتاب والسنة". اهـ. وهل الكفر في هذا الموضع كفر دون كفر، فلا ينقل عن الملة، أم يتوقف فيه فلا يقال: يخرج عن الملة ولا لا يخرج؟ وهذا أشهر الروايتين عن أحمد رحمه الله تعالى.
قال: "ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفا": أبو يعلى اسمه أحمد بن علي بن المثنى الموصلي الإمام صاحب(7/53)
التصانيف كالمسند وغيره. روى عن يحيى بن معين وأبي خيثمة وأبي بكر ابن أبي شيبة وخلق، وكان من الأئمة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : الطهارة (135) , وأبو داود : الطب (3904) , وابن ماجه : الطهارة وسننها (639) , وأحمد (2/429) , والدارمي : الطهارة (1136)، وصححه الألباني في الإرواء (2006).
2 بياض بالأصل.
3 الترمذي : الطهارة (135) , وأبو داود : الطب (3904) , وابن ماجه : الطهارة وسننها (639) , وأحمد (2/476) , والدارمي : الطهارة (1136).
4 صحيح: أحمد (2/429). والبيهقي (8/135). والحاكم (1/8). عن أبي هريرة مرفوعا وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. قال الألباني في الإرواء (7/69): "وهو كما قالا" ا هـ .(7/54)
ص -297- ... الحفاظ; مات سنة سبع وثلاثمائة.
وهذا الأثر رواه البزار أيضا ولفظه:" من أتى كاهنا أو ساحرا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلي الله عليه وسلم " 1. وفيه دليل على كفر الكاهن والساحر؛ لأنهما يدعيان علم الغيب وذلك كفر، والمصدق لهما يعتقد ذلك ويرضى به، وذلك كفر أيضا2.
قال: "وعن عمران بن حصين رضي الله عنه مرفوعا: 3 " ليس منا من تَطير أو تُطيِّر له، أو تَكهن أو تُكهِّن له، أو سَحر أو سُحر له. ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أُنزل على محمد" ( رواه البزار بإسناد جيد).
ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله: " ومن أتى" إلى آخره.
قال البغوي: " العراف: الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك".
له. ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلي الله عليه وسلم ". رواه البزار بإسناد جيد، ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله: " ومن أتى كاهنا " " إلى آخره".
قوله: "ليس منا"4 فيه وعيد شديد يدل على أن هذه الأمور من الكبائر، وتقدم أن الكهانة والسحر كفر.
قوله: "من تطير" أي فعل الطيرة "أو تطير له" أي قبل قول المتطير له وتابعه، كذا معنى "أو تكهن أو تكهن له" كالذي يأتي الكاهن ويصدقه ويتابعه، وكذلك من عمل الساحر له السحر.
فكل من تلقى هذه الأمور عمن تعاطاها فقد برئ منه رسول الله صلي الله عليه وسلم؛ لكونها إما شركا كالطيرة، أو كفرا كالكهانة والسحر. فمن رضي بذلك وتابع عليه فهو كالفاعل لقبوله الباطل واتباعه.
قوله: "رواه البزار" هو أحمد بن عمرو بن عبد الخالق، أبو بكر البزار البصري صاحب(7/55)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جيد. البزار (2067- كشف الأستار). وقال المنذري في الترغيب (4/36): "رواه البزار وأبو يعلى بإسناد جيد موقوفا) ا هـ . وقال الحافظ في الفتح (10/217): إسناده جيد.
2 وذلك لأن في الكتاب المنزل: ( إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ). وقال في سورة الأنعام: ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ). وقال في سورة الجن: ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا من ارتضى من رسول ). فمن صدق العراف والكاهن فقد كذب بهذه الآيات, ومن كذبها كفر.
3 حسن. قال المنذري في الترغيب (4/33): "رواه البزار بإسناد جيد" ا هـ . وقال الهيثمي (5/117): "ورجاله رجال الصحيح خلا إسحاق بن الربيع وهو ثقة" ا هـ . أما حديث ابن عباس فقال عنه المنذري (4/33): "إسناده حسن" ا هـ .
4 فيه دليل على نفي الإيمان الواجب, وهو لا ينافي ما تقدم من أن الطيرة شرك، وأن الكهانة كفر.(7/56)
ص -298- ... المسند الكبير. وروى عن ابن بشار وابن المثنى وخلق، مات سنة اثنتين وتسعين ومائتين.
قوله: "قال البغوي إلى آخره" البغوي - بفتحتين - هو الحسين بن مسعود الفراء الشافعي، صاحب التصانيف وعالم أهل خراسان، كان ثقة فقيها زاهدا، مات في شوال سنة ست عشرة وخمسمائة رحمه الله تعالى.
وقيل: هو الكاهن. والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل. وقيل: الذي يخبر عما في الضمير.
وقال أبو العباس ابن تيمية: " العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق". قوله: "العرّاف: الذي يدعي معرفة الأمور" ظاهره: أن العراف هو الذي يخبر عن الوقائع كالسرقة وسارقها والضالة ومكانها.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: " إن العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم، كالحازر الذي يدعي علم الغيب أو يدعي الكشف".
وقال أيضا: " والمنجم يدخل في اسم العراف، وعند بعضهم هو معناه".
وقال أيضا: " والمنجم يدخل في اسم الكاهن عند الخطابي وغيره من العلماء، وحكى ذلك عن العرب. وعند آخرين: هو من جنس الكاهن، وأسوأ حالا منه، فيلحق به من جهة المعنى".
وقال الإمام أحمد: " العرافة طَرَف من السحر. والساحر أخبث". وقال أبو السعادات: "" العراف المنجم، والحازر الذي يدعي علم الغيب، وقد استأثر الله تعالى به".
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: " من اشتهر بإحسان الزجر عندهم سموه عائفا وعرافا".
والمقصود من هذا: معرفة أن من يدعي معرفة علم الشيء من المغيبات فهو إما داخل في(7/57)
ص -299- ... اسم الكاهن، وإما مشارك له في المعنى فيلحق به. وذلك أن إصابة المخبر ببعض الأمور الغائبة في بعض الأحيان يكون بالكشف. ومنه ما هو من الشياطين، ويكون بالفأل والزجر والطيرة والضرب بالحصى والخط في الأرض والتنجيم والكهانة والسحر، ونحو هذا من علوم الجاهلية، ونعني بالجاهلية كل من ليس من أتباع الرسل -عليهم السلام-، كالفلاسفة والكهان والمنجمين، وجاهلية العرب الذين كانوا قبل مبعث النبي صلي الله عليه وسلم؛ فإن هذه علوم لقوم ليس لهم علم بما جاءت به الرسل صلي الله عليه وسلم1، وكل هذه الأمور يسمى صاحبها كاهنا أو عرافا أو في معناهما، فمن أتاهم فصدقهم يما يقولون لحقه الوعيد. وقد ورث هذه العلوم عنهم أقوام فادعوا بها علم الغيب الذي استأثر الله بعلمه، وادعوا أنهم أولياء وأن ذلك كرامة.
ولا ريب أن من ادعى الولاية، واستدل بإخباره ببعض المغيبات فهو من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن، إن الكرامة أمر يجريه الله على يد عبده المؤمن التقي، إما بدعاء أو أعمال صالحة لا صنع للولي فيها، ولا قدرة له عليها، بخلاف من يدعي أنه ولي ويقول للناس: اعلموا أني أعلم المغيبات; فإن هذه الأمور قد تحصل بما ذكرنا من الأسباب، وإن كانت أسبابا محرمة كاذبة في الغالب، ولهذا قال النبي صلي الله عليه وسلم في وصف الكهان: " فيكذبون معها مائة كذبة " 2. فبين أنهم يصدقون مرة ويكذبون مائة، وهكذا حال من سلك سبيل الكهان ممن يدعي الولاية والعلم بما في ضمائر الناس، مع أن نفس دعواه دليل على كذبه؛ لأن في دعواه الولاية تزكية النفس المنهي عنها بقوله تعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} 3. وليس هذا من شأن الأولياء؛ فإن شأنهم الإزراء على نفوسهم وعيبهم لها; وخوفهم من ربهم، فكيف يأتون الناس ويقولون: اعرفوا أننا أولياء، وأنا نعلم الغيب؟ وفي ضمن(7/58)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومعنى الجاهلية: الإعراض عن العلم المنزل من الله على رسله هدى ورحمة, والاعتماد على التقاليد والعادات والظنون والتخرصات, وما يوحي به الشياطين, ويحددها قول الله تعالى: وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا وقد عادت الجاهلية إلى الناس اليوم مثل الجاهلية الأولى وشرا منها, ولا يمنع وجود القرآن والحديث؛ لأنهم اتخذوهما مهجورين, فوجودهما حجة عليهم فقط, ولا يغرنك منهم عمائم ولحى وصور فما وراءها إلا جاهلية وعقلية عامية، قد تكون شرا من عقلية من يتبعون أذناب الإبل والبقر، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
2 جزء من حديث عائشة. أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق (2210): باب ذكر الملائكة. ومسلم: كتاب السلام (2228) (122): باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان.
3 سورة النجم آية : 32.(7/59)
ص -300- ... ذلك طلب المنزلة في قلوب الخلق واقتناص الدنيا بهذه الأمور. وحسبك بحال الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم-، وهم سادات الأولياء، أفكان عندهم من هذه الدعاوى والشطحات شيء؟ لا والله، بل كان أحدهم لا يملك نفسه من البكاء إذا قرأ القرآن، كالصديق رضي الله عنه، وكان عمر رضي الله عنه
وقال ابن عباس - في قوم يكتبون أبا جاد وينظرون في النجوم-: " ما أرى مَن فعل ذلك له عند الله من خلاق ".
يسمع نشيجه من وراء الصفوف يبكي في صلاته، وكان يمر بالآية في ورده من الليل فيمرض منها ليالي يعودونه، وكان تميم الداري يتقلب على فراشه ولا يستطيع النوم إلا قليلا خوفا من النار، ثم يقوم إلى صلاته. ويكفيك في صفات الأولياء ما ذكره الله تعالى في صفاتهم في سورة الرعد والمؤمنين والفرقان والذاريات والطور1. فالمتصفون بتلك الصفات هم الأولياء الأصفياء، لا أهل الدعوى والكذب ومنازعة رب العالمين فيما اختص به من الكبرياء والعظمة وعلم الغيب، بل مجرد دعواه علم الغيب كفر، فكيف يكون المدعي لذلك وليا لله؟ ولقد عظم الضرر واشتد الخطب بهؤلاء المفترين الذين ورثوا هذه العلوم عن المشركين، ولبسوا بها على خفافيش القلوب. نسأل الله السلامة والعافية في الدنيا والآخرة.
قوله: "وقال ابن عباس في قوم يكتبون أبا جاد إلى آخره". هذا الأثر رواه الطبراني عن ابن عباس مرفوعا. وإسناده ضعيف. ولفظه: " رُبّ معلم حروف أبي جاد دارس في(7/60)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قوله تعالى: (13: 19و20) ( إنما يتذكر أولوا الألباب الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق) الآيات إلى 24. وقوله: (13: 30) (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب). وقوله: (57:22) (إن الذين هم عن خشية ربهم مشفقون) الآيات إلى (61). وقوله: (63:25) (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) الآيات إلى (76). وقوله: (51 : 15) (إن المتقين في جنات وعيون) الآيات إلى (19). وقوله: (17:52) (إن المتقين في جنات ونعيم) الآيات إلى (28). هذا وفي القرآن الكريم صفات المؤمنين كثرة جدا; بل أكثر آي القرآن في وصف الإيمان وأهله; وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ومن أدل الدلائل على أن الجهل ضرب على القلوب نطاقا كثيفا أن يعتقد الناس هذه الدرجة الرفيعة لعباد الرحمن في قوم يبولون على ثيابهم وهم في غاية القذر والوسخ, ولا يركعون لله ركعة; وقد سلبوا كل نعمة إلا الحيوانية; وربما تكلم الشيطان على ألسنتهم بالكلمة يفتن بها أولئك الجاهلين, ولا قوة إلا بالله.(7/61)
ص -301- ... النجوم ليس له عند الله خلاق
فيه مسائل:
الأولى: لا يجتمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن.
الثانية: التصريح بأنه كفر.
الثالثة: ذكر من تُكُهِّن له.
الرابعة: ذكر من تُطير له.
الخامسة: ذكر من سُحر له.
السادسة: ذكر من تعلم أبا جاد.
السابعة: ذكر الفرق بين الكاهن والعراف.
يوم القيامة " 1ورواه أحمد بن زنجويه عنه بلفظ: " رب ناظر في النجوم، ومتعلم حروف أبي جاد ليس له عند الله خلاق ".
قوله: "ما رأى" يجوز فتح الهمزة بمعنى: لا أعلم. ويجوز ضمها بمعنى: لا أظن.
وكتابة "أبي جاد" وتعلمها لمن يدعي بها علم الغيب هو الذي يسمى علم الحرف2، وهو الذي جاء فيه الوعيد، فأما تعلمها للتهجي وحساب الجمل فلا بأس به.
قوله: "وينظرون في النجوم" أي ويعتقدون أن لها تأثيرا كما سيأتي في باب التنجيم. وفيه من الفوائد عدم الاغترار بما يؤتاه أهل الباطل من معارفهم وعلومهم، كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 موضوع: الطبراني في الكبير (10980) عن ابن عباس مرفوعا. وقال الهيثمي (5/117): "وفيه خالد بن زيد العمري وهو كذاب" ا هـ . وأما الموقوف عن ابن عباس فرواه عبد الرزاق (11/26)، والبيهقي (8/139) عن ابن عباس وسنده صحيح.
2 وينسبه الدجالون المشركون إلى جعفر الصادق، ولهم في ذلك كلام كثير في منتهى الكفر، والظاهر أنه من وضع الرافضة الذين استجابوا لسلفهم اليهود فأعملوا في هدم الإسلام كل معول.
3 سورة غافر آية : 83.(7/62)
باب: " ما جاء في النُّشْرة"
عن جابر أن رسول الله صلي الله عليه وسلم سئل عن النُّشرة؟ فقال: " هي من عمل الشيطان ?"1. رواه أحمد بسند جيد. وأبو داود وقال: سئل أحمد عنها فقال: ابن مسعود يكره هذا كله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب ما جاء في النشرة".
بضم النون; كما في القاموس. قال أبو السعادات: النشرة ضرب من العلاج والرقية،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (3/294). وأبو داود: كتاب الطب (3868): باب في النشرة. وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية (3/73): "إسناده جيد" ا هـ . وحسنه الحافظ في الفتح (10/233).(7/63)
ص -302- ... يعالج به من يظن أن به مسا من الجن، سميت نشرة؛ لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء، أي يكشف ويزال.
قال الحسن: النشرة من السحر. وقد نشرت عنه تنشيرا، ومنه الحديث: " فلعل طبا أصابه، ثم نشره بقل أعوذ برب الناس " أي رقاه.
وقال ابن الجوزي: " النشرة حل السحر عن المسحور، ولا يكاد يقدر عليه إلا من يعرف السحر".
قال: "عن جابر -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلي الله عليه وسلم: " سئل عن النشرة؟ فقال: هي من الشيطان ". رواه أحمد بسند جيد، وأبو داود وقال: سئل أحمد عنها، فقال: ابن مسعود يكره هذا كله".
هذا الحديث رواه أحمد ورواه عنه أبو داود في سننه. والفضل بن زياد في كتاب المسائل عن عبد الرزاق عن عقيل بن معقل بن منبه عن جابر فذكره. قال ابن مفلح: إسناد جيد. وحسن الحافظ إسناده.
قوله: "سئل عن النشرة" والألف واللام في "النشرة" للعهد، أي النشرة المعهودة التي كان أهل الجاهلية يصنعونها هي من عمل الشيطان.
قوله: "وقال: سئل أحمد عنها فقال: ابن مسعود يكره هذا كله" أراد أحمد
وفي البخاري عن قتادة: " قلت لابن المسيب: رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته، أيُحل عنه أو يُنْشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه ". اهـ.
وروي عن الحسن أنه قال: " لا يحل السحر إلا ساحر ".
-رحمه الله- أن ابن مسعود يكره النشرة التي هي من عمل الشيطان كما يكره تعليق التمائم مطلقا.
قوله: "وللبخاري عن قتادة: قلت لابن المسيب: " رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته أيُحَل عنه، أو يُنَشّر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم يُنه عنه ".
قوله: "عن قتادة" هو ابن دعامة- بكسر الدال- الدوسي، ثقة فقيه من أحفظ التابعين. قالوا: إنه ولد أكمه، مات سنة بضع عشرة ومائة.(7/64)
ص -303- ... قوله: "رجل به طب" بكسر الطاء أي سحر، يقال: طُبّ الرجل- بالضم- إذا سحر. ويقال: كنوا عن السحر بالطب تفاؤلا، كما يقال للديغ: سليم.
وقال ابن الأنباري: " الطب من الأضداد، يقال لعلاج الداء: طب، والسحر من الداء يقال له: طب".
قوله: "يؤخّذ" بفتح الواو مهموزة وتشديد الخاء المعجمة وبعدها ذال معجمة. أي يحبس عن امرأته ولا يصل إلى جماعها. والأخذة- بضم الهمزة- الكلام الذي يقوله الساحر.
قوله: "أيُحل" بضم الياء وفتح الحاء مبني للمفعول.
قوله: "أو ينشر" بتشديد المعجمة.
قوله: "لا بأس به" يعني أن النشرة لا بأس بها؛ لأنهم يريدون بها الإصلاح، أي إزالة السحر، ولم ينه عما يراد به الإصلاح، وهذا من ابن المسيب يحمل على نوع من النشرة لا يعلم أنه سحر.
قوله: "وروى الحسن أنه قال: " لا يَحُل السحر إلا ساحر " هذا الأثر ذكره ابن الجوزي في جامع المسانيد.
والحسن هو ابن أبي الحسن واسمه: يسار- بالتحتية والمهملة- البصري الأنصاري مولاهم، ثقة فقيه، إمام من خيار التابعين. مات سنة عشر ومائة رحمه الله، وقد قارب التسعين.
قال ابن القيم: " النشرة حل السحر عن المسحور. وهي نوعان: " أحدهما" حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان. وعليه يُحمل قول الحسن، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور. " والثاني" النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة. فهذا جائز".
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن النشرة.
الثانية: الفرق بين المنهي عنه والمرخص فيه عما يزيل الإشكال.
قوله: "قال ابن القيم: النشرة حل السحر عن المسحور. وهي نوعان: حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان إلى آخره". ومما جاء في صفة النشرة الجائزة: ما رواه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ليث ابن أبي سليم قال: "بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السح(7/65)
ص -304- ... بإذن الله، تقرأ في إناء فيه ماء، ثم يصب على رأس المسحور1 الآية التي في سورة يونس: {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}2. وقوله: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}3 إلى آخر الآيات الأربع. وقوله: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى}4.
وقال ابن بطال: " في كتاب وهب بن منبه: أنه يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين، ثم يضربه بالماء ويقرأ فيه آية الكرسي والقواقل، ثم يحسو منه ثلاث حسوات، ثم يغتسل به يذهب عنه كل ما به، هو جيد للرجل إذا حبس عن أهله".
قلت: قول العلامة ابن القيم: " والثاني النشرة بالرقية والتعوذات والدعوات والأدوية المباحة فهذا جائز" يشير -رحمه الله- إلى مثل هذا، وعليه يحمل كلام من أجاز النشرة من العلماء.
والحاصل: أن ما كان منه بالسحر فيحرم، وما كان بالقرآن والدعوات والأدوية المباحة فجائز. والله أعلم.(7/66)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مثل هذا لا يعمل فه برأي ليث بن أبي سليم، ولا برأي ابن القيم (*) ولا غيرهما; وإنما يعمل بالسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يجئ عنه صلى الله عليه وسلم شيء مما يقول ابن أبي سليم ولا ابن القيم. وما ينقل عن وهب بن منبه فعلى سنة الإسرائيليين لا على هدى خير المرسلين. ومن باب هذا التساهل دخلت البدع ثم الشرك الأكبر. وعلى المؤمن الناصح لنفسه أن يعض بالنواجذ على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم-، ويتجنب المحدثات وإن كانت عمن يكون، فكل أحد يؤخذ من قوله ويرد عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. (*) قوله: (مثل هذا لا يعمل فيه برأي ليث بن أبي سليم ولا برأي ابن القيم) الخ. أقول: اعتراض الشيخ خامد على ما ذكره الشارح عن ابن أبي سليم ووهب ابن منبه وابن القيم ليس في محله, بل هو غلط من الشيخ حامد؛ لأن التداوي بالقرآن الكريم والسدر ونحوه من الأدوية المباحة ليس من باب البدع، بل هو من باب التداوي, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " عباد الله تداووا ولا تتداووا بحرام ". وثبت في سنن أبي داود في كتاب الطب أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في ماء في إناء وصبه على المريض, وبهذا يعلم أن التداوي بالسدر، وبالقراءة في الماء وصبه على المرضى ليس فيه محذور من جهة الشرع, إذا كانت القراءة سليمة وكان الدواء مباحا, والله ولي التوفيق.
2 سورة يونس آية : 81-82.
3 سورة الأعراف آية : 118.
4 سورة طه آية : 69.(7/67)
ص -305- ... باب: " ما جاء في التطير"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب ما جاء في التطير".
أي من النهي عنه والوعيد فيه، مصدر تَطيّر يتطير، و "الطِّيرة" بكسر الطاء وفتح الياء، وقد تسكن: اسم مصدر من تطير طيرة، كما يقال تخير خيرة، ولم يجئ في المصادر على هذه الزنة غيرهما، وأصله التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء وغيرهما، وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم، فنفاه الشارع وأبطله، وأخبر أنه لا تأثير له في جلب نفع ولا دفع ضر.
قال المدائني: "سألت رؤبة بن العجاج قلت: ما السانح؟ قال: ما ولاك ميامنه. قلت: فما البارح؟ قال: ما ولاك مياسره. والذي يجيء من أمامك فهو الناطح والنطيح، والذي يجيء من خلفك فهو القاعد والقعيد".
ولما كانت الطيرة من الشرك المنافي لكمال التوحيد الواجب لكونها من إلقاء الشيطان وتخويفه ووسوسته1 ذكرها المصنف -رحمه الله- في كتاب التوحيد تحذيرا مما ينافي كمال التوحيد الواجب.
وقول الله تعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}2.
وقوله: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}3.
قوله: "وقول الله تعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} الآية" ذكر تعالى هذه الآية في سياق قوله: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} الآية. المعنى: أن آل فرعون كانوا إذا أصابتهم الحسنة -أي الخُصْب والسعة والعافية، كما فسره مجاهد وغيره- قالوا: لنا هذه، أي نحن الجديرون والحقيقون به، ونحن أهله. وإن تصبهم سيئة. أي بلاء وقحط تطيروا بموسى ومن معه، فيقولون: هذا بسبب موسى وأصحابه أصابنا بشؤمهم. فقال الله تعالى: {أَلا إِنَّمَا(7/68)
طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ}. قال ابن عباس: "طائرهم: ما قضى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذلك بتعلق القلب بها خوفا وطمعا, ومنافاتها للتوكل على الله الذي لا ينفع ولا يضر غيره, واعتقاد النفع والضر في طائر ونحوه لا علم عنده ولا قصد, وإنما تذهب وتجيء في ضرورة معايشها وشئونها. فاعتقاد أن لهذه الحركات ذات اليمين وذات الشمال أثرا في جلب خير أو دفع ضر من سخف العقول وفساد الفطر, وتمكن الخرافات والجهل وعمى القلوب. وهذا اعتقاد المنجمين في النجوم التي سخرها الله تعالى تجري في بروجها ومداراتها المستقر لها, اعتقدوا لها تأثيرا في الكون، وهو اعتقاد الصابئة الذين أرسل الله إليهم إبراهيم عليه السلام.
2 سورة الأعراف آية : 131.
3 سورة يس آية : 19.(7/69)
ص -306- ... عليهم وقدر لهم". وفي رواية: "شؤمهم عند الله ومن قِبَله" أي إنما جاءهم الشؤم من قبله بكفرهم وتكذيبهم بآياته ورسله.
قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}1 أي أن أكثرهم جهال لا يدرون. ولو فهموا وعقلوا لعلموا أنه ليس فيما جاء به موسى -عليه السلام- إلا الخير والبركة والسعادة والفلاح لمن آمن به واتبعه.
قوله: " وقوله تعالى: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} الآية" المعنى- والله أعلم- :حظكم وما نابكم من شر معكم، بسبب أفعالكم وكفركم ومخالفتكم الناصحين، ليس هو من أجلنا ولا بسببنا. بل ببغيكم وعدوانكم. فطائر الباغي الظالم معه، فما وقع به من الشر فهو سببه الجالب له. وذلك بقضاء الله وقدره وحكمته وعدله; كما قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}2 . ويحتمل أن يكون المعنى: طائركم معكم. أي راجع عليكم، فالتطير الذي حصل لكم إنما يعود عليكم. وهذا من باب القصاص في الكلام. ونظيره قوله -عليه الصلاة والسلام-:
" إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم "34 .ذكره ابن القيم رحمه الله.
قوله تعالى: {أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ}5 أي من أجل أنَّا ذكرناكم وأمرناكم بتوحيد الله قابلتمونا بهذا الكلام؟ {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}6. قال قتادة: " أإن ذكرناكم بالله تطيرتم بنا؟"
ومناسبة الآيتين للترجمة: أن التطير من عمل أهل الجاهلية والمشركين. وقد ذمهم الله تعالى به ومقتهم; وقد نهى رسول الله صلي الله عليه وسلم عن التطير وأخبر أنه شرك. كما سيأتي في أحاديث الباب.
قال: "وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صَفَر " 7. أخرجاه. زاد مسلم: " ولا نوء ولا غول "8".
قال أبو السعادات: "العدوى" اسم من الإعداء. كالدعوى. يقال: أعداه الداء يعديه إعداء: إذا أصابه مثل ما بصاحب الداء.(7/70)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية : 37.
2 سورة القلم آية : 35-36.
3 البخاري : الاستئذان (6258) , ومسلم : السلام (2163) , وابن ماجه : الأدب (3697) , وأحمد (3/99).
4 رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة عن أنس رضي الله عنه.
5 سورة يس آية : 19.
6 سورة الأعراف آية : 81.
7 البخاري: كتاب الطب (5757): باب لا هامة. دون الزيادة. ومسلم: كتاب السلام (2220) (106): باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر عن أبي هريرة بزيادة "ولا نوء". ومسلم: كتاب السلام (2222) (107): باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر بزيادة "ولا غول".
8 مسلم : السلام (2220) , وأبو داود : الطب (3912) , وأحمد (2/397).(7/71)
ص -307- ... وقال غيره: "لا عدوى" هو اسم من الإعداء، وهو مجاوزة العلة من صاحبها إلى غيره، والمنفي نفس سراية العلة أو إضافتها إلى العلة. والأول هو الظاهر.
وفي رواية لمسلم: أن أبا هريرة كان يحدث بحديث لا عدوى، ويحدث عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: " لا يُورد مُمرِض على مُصِح "1. ثم إن أبا هريرة اقتصر على حديث: " لا يورد ممرض على مصح ". وأمسك عن حديث: " لا عدوى "، فراجعوه وقالوا: سمعناك تحدث به، فأبى أن يعترف به. قال أبو مسلمة- الراوي عن أبي هريرة-: فلا أدري أنسي أبو هريرة أو نسخ أحد القولين الآخر؟
وقد روى حديث: " لا عدوى " جماعة من الصحابة: أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله; والسائب بن يزيد، وابن عمر وغيرهم، وفي بعض روايات هذا الحديث: " وفِرّ من المجذوم كما تفر من الأسد " 2 .
وقد اختلف العلماء في ذلك. وأحسن ما قيل فيه: قول البيهقي، وتبعه ابن الصلاح وابن القيم وابن رجب وابن مفلح وغيرهم: أن قوله: " لا عدوى " على الوجه الذي يعتقده أهل الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى، وإن هذه الأمور تعدي بطبعها. وإلا فقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح من به شيء من الأمراض سببا لحدوث ذلك، ولهذا قال: " فر من المجذوم كما تفر من الأسد ". وقال: " لا يورد ممرض على مصح ". وقال في الطاعون: " من سمع به في أرض فلا يقدم عليه " 3. وكل ذلك بتقدير الله تعالى. ولأحمد والترمذي عن ابن مسعود مرفوعا: " لا يعدي شيء قالها ثلاثا، فقال أعرابي: يا رسول الله إن النُّقْبَة4 من الجَرَب تكون بمِشْفَر البعير أو بذنبه في الإبل العظيمة
فتجرب كلها؟ فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " فمن أجرب الأول؟ لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، خلق الله كل نفس وكتب حياتها ومصائبها ورزقها "5. فأخبر صلي الله عليه وسلم أن ذلك كله بقضاء الله وقدره، والعبد مأمور باتقاء أسباب الشر إذا كان في عافية. فكما أنه يؤمر أن لا يلقي(7/72)
نفسه في الماء وفي النار، مما جرت العادة أنه يهلك أو يضر، فكذلك اجتنب مقاربة المريض كالمجذوم، والقدوم على بلد الطاعون؛ فإن هذه كلها أسباب للمرض والتلف،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : السلام (2221) , وأحمد (2/434).
2 أخرجه البخاري تعليقا: كتاب الطب (10/158): باب الجذام وقد وصله أبو نعيم في المستخرج بسند صحيح وراجع الفتح (10/158)، النسائي : الخيل (3578) , وأبو داود : الجهاد (2513) , وأحمد (4/148) , والدارمي : الجهاد (2405).
3 صحيح. أحمد (1/440), والترمذي: كتاب القدر (2143): باب ما جاء لا عدوى ولا هامة ولا صفر. وإسناده صحيح كما قال الألباني في الصحيحة (3/143).
4 (1) النقبة -بضم النون وسكون القاف والباء الموحدة- أول شيء يظهر من الجرب، وجمعها: نقب؛ لأنها تنقب الجلد أي تخرقه.
5 الترمذي : الحدود (1448) , والنسائي : قطع السارق (4971 ,4972 ,4975) , وأبو داود : الحدود (4391) , وابن ماجه : الحدود (2591) , وأحمد (3/380) , والدارمي : الحدود (2310).(7/73)
ص -308- ... فالله سبحانه هو خالق الأسباب ومسبباتها، لا خالق غيره ولا مقدر غيره. وأما إذا قوي التوكل على الله والإيمان بقضاء الله وقدره، فقويت النفس على مباشرة بعض هذه الأسباب اعتمادا على الله ورجاء منه أن لا يحصل به ضرر، ففي هذه الحال تجوز مباشرة ذلك، لا سيما إذا كانت مصلحة عامة أو خاصة، وعلى هذا يحمل الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي.
" أن النبي صلي الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم فأدخلها معه في القصعة، ثم قال: كل بسم الله ثقة بالله وتوكلا عليه" 1. وقد أخذ به الإمام أحمد. وروي ذلك عن عمر وابنه وسلمان -رضي الله عنهم-. ونظير ذلك ما روي عن خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه أكل السم. ومنه مَشي سعد ابن أبي وقاص وأبي مسلم الخولاني على متن البحر. قال ابن رجب -رحمه الله-.
قوله: "ولا طيرة" قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: " يحتمل أن يكون نفيا أو نهيا أي لا تطيروا، ولكن قوله في الحديث: " لا عدوى ولا صفر ولا هامة " يدل على أن المراد النفي وإبطال هذه الأمور التي كانت الجاهلية تعانيها، والنفي في هذا أبلغ من النهي؛ لأن النفي يدل على بطلان ذلك وعدم تأثيره، والنهي إنما يدل على المنع منه".
وفي صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم أنه قال لرسول الله صلي الله عليه وسلم: " ومنا أناس يتطيرون. قال: ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم " 2. فأخبر أن تأذيه وتشاؤمه بالطيرة إنما هو في نفسه وعقيدته، لا في المتطير به، فوهمه وخوفه وإشراكه هو الذي يطيره ويصده لما رآه وسمعه، فأوضح صلي الله عليه وسلم لأمته الأمر، وبيّن لهم فساد الطيرة؛ ليعلموا أن الله سبحانه لم يجعل لهم عليها علامة، ولا فيها دلالة، ولا نصبها سببا لما يخافونه ويحذرونه، ولتطمئن قلوبهم، وتسكن نفوسهم إلى وحدانيته تعالى التي أرسل بها رسله، وأنزل بها كتبه، وخلق لأجلها السماوات والأرض، وعمر الدارين الجنة والنار بسبب التوحيد، فقطع صلي الله عليه وسلم(7/74)
علق الشرك من قلوبهم؛ لئلا يبقى فيها علقة منها، ولا يتلبسوا بعمل من أعمال أهل النار البتة.
فمن استمسك بعروة التوحيد الوثقى، واعتصم بحبله المتين، وتوكل على الله، قطع هاجس الطيرة من قبل استقرارها، وبادر خواطرها من قبل استمكانها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ضعيف. أبو داود: كتاب الطب (3925): باب في الطيرة. الترمذي: كتاب الأطعمة (1818): باب ما جاء في الأكل مع المجذوم. وابن ماجة: كتاب الطب (3542): باب الجذام وإسناده ضعيف. وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (4200).
2 مسلم: كتاب السلام (537) (121): باب تحريم الكهانة وإيان الكهان.(7/75)
ص -309- ... قال عكرمة: " كنا جلوسا عند ابن عباس، فمر طائر يصيح، فقال رجل من القوم: خير خير. فقال له ابن عباس: لا خير ولا شر ". فبادره بالإنكار عليه لئلا يعتقد تأثيره في الخير والشر. وخرج طاوس مع صاحب له في سفر، فصاح غراب، فقال الرجل: خير. فقال طاوس: وأي خير عند هذا؟ لا تصحبني. اهـ ملخصا.
وقد جاءت أحاديث ظن بعض الناس أنها تدل على جواز الطيرة، كقوله صلي الله عليه وسلم: " الشؤم في ثلاث: في المرأة، والدابة، والدار " 1. ونحو هذا.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: " إخباره صلي الله عليه وسلم بالشؤم في هذه الثلاثة ليس فيه إثبات الطيرة التي نفاها الله سبحانه، وإنما غايته أن الله سبحانه قد يخلق منها أعيانا مشئومة على من قاربها وساكنها، وأعيانا مباركة لا يلحق من قاربها منها شؤم ولا شر، وهذا كما يعطي سبحانه الوالدين ولدا مباركا يريان الخير على وجهه، ويعطي غيرهما ولدا مشئوما يريان الشر على وجهه، وكذلك ما يعطاه العبد من ولاية وغيرها، فكذلك الدار والمرأة والفرس. والله سبحانه خالق الخير والشر والسعود والنحوس، فيخلق بعض هذه الأعيان سعودا مباركة، ويقضي بسعادة من قاربها وحصول اليمن والبركة له. ويخلق بعضها نحوسا يتنحس بها من قاربها. وكل ذلك بقضائه وقدره، كما خلق سائر الأسباب وربطها بمسبباتها المتضادة والمختلفة، كما خلق المسك وغيره من الأرواح الطيبة ولذذ بها من قاربها من الناس. وخلق ضدها وجعلها سببا لألم من قاربها من الناس، والفرق بين هذين النوعين مدرك بالحس، فكذلك في الديار والنساء والخيل. فهذا لون والطيرة الشركية لون". انتهى.
قوله: "ولا هامة" بتخفيف الميم على الصحيح. قال الفراء: الهامة طير من طير الليل. كأنه يعني البومة. قال ابن الأعرابي: " كانوا يتشاءمون بها إذا وقعت على بيت أحدهم، يقول: نَعَتْ إليّ نفسي أو أحدا من أهل داري، فجاء الحديث بنفي ذلك وإبطاله".
قوله: "ولا صفر" بفتح الفاء، روى(7/76)
أبو عبيدة في غريب الحديث عن رؤبة أنه قال: " هي حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس، وهي أعدى من الجرب عند العرب. وعلى هذا فالمراد بنفيه ما كانوا يعتقدونه من العدوى". وممن قال بهذا: سفيان بن عيينة والإمام أحمد والبخاري وابن جرير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: كتاب الجهاد (2858): باب ما يذكر من شؤم الفرس. مسلم: كتاب السلام (2225) (116): باب الطيرة والفأل, وما يكون فيه من الشؤم. من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- بنحوه، وأخرجه بهذا اللفظ الترمذي: كتاب الأدب (2824): باب ما جاء في الشؤم. والنسائي في الخيل (6/220): باب شؤم الخيل. وابن ماجة: كتاب النكاح (995): باب ما يكون فيه اليمن والشؤم. وأحمد (2/8,38). من حديث ابن عمر أيضا.(7/77)
ص -310- ... وقال آخرون: المراد به شهر صفر، والنفي لما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسيء، وكانوا يحلون المحرم ويحرمون صفر مكانه، وهو قول مالك.
وروى أبو داود عن محمد بن راشد عمن سمعه يقول: أن أهل الجاهلية يتشاءمون بصفر، ويقولون: إنه شهر مشئوم; فأبطل النبي صلي الله عليه وسلم ذلك. قال ابن رجب: ولعل هذا القول أشبه الأقوال، والتشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهي عنها، وكذلك التشاؤم بيوم من الأيام كيوم الأربعاء، وتشاؤم أهل الجاهلية بشوال في النكاح فيه خاصة. قوله: "ولا نوء" النوء واحد الأنواء، وسيأتي الكلام عليه في بابه إن شاء الله تعالى.
قوله: "ولا غول" هو بالضم اسم، وجمعه أغوال وغيلان، وهو المراد هنا.
قال أبو السعادات: الغول واحد الغيلان، وهو جنس من الجن والشياطين كانت العرب تزعم أن الغول في الفلاة تتراءى للناس، تتلون تلونا في صور شتى وتغولهم، أي تضلهم عن الطريق وتهلكهم، فنفاه النبي صلي الله عليه وسلم وأبطله. فإن قيل: ما معنى النفي وقد قال النبي صلي الله عليه وسلم: 1 " إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان "2؟ أجيب عنه: بأن ذلك كان في الابتداء، ثم دفعها الله عن عباده. أو يقال: المنفي ليس وجود الغول، بل ما يزعمه العرب من تصرفه في نفسه، أو يكون المعنى بقوله: "لا غول " أنها لا تستطيع أن تضل أحدا مع ذكر الله والتوكل عليه. ويشهد له الحديث الآخر: " لا غول ولكن السعالي سحرة الجن " أي ولكن في الجن سحرة لهم تلبيس وتخييل. ومنه الحديث: " إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان ". أي ادفعوا شرها بذكر الله. وهذا يدل على أنه لم يرد بنفيها أو عدمها. ومنه حديث أبي أيوب: " كان لي تمر في سَهوة فكانت الغول تجيء فتأخذ".
ولهما عن أنس قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل. قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة "3.(7/78)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ضعيف. أخرجه أحمد (3/382,305) من حديث جابر رضي الله عنه. وسنده ضعيف كما أشار إلى ذلك الحافظ في تخريج الأذكار. ورواه الطبراني في الأوسط كما في الجامع الصغير عن أبي هريرة, وضعفه الألباني أيضا في ضعيف الجامع (535). وقال الهيثمي في المجمع (10/134): (( فيه عدي بن الفضل متروك )) ا هـ .
2 قال السيوطي في الجامع الصغير: (( رواه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة وهو ضعيف )).
3 البخاري : الطب (5757) , مسلم : السلام (2224) , والترمذي : السير (1615)، وأبو داود : الطب (3911) , وأحمد (2/420 ,2/434)، (3/173).(7/79)
ص -311- ... قوله: ولهما عن أنس قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " لاعدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل، قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة".
قوله: "ويعجبني الفأل" قال أبو السعادات: الفأل، مهموز فيما يسر ويسوء، والطيرة لا تكون إلا فيما يسوء، وربما استعملت فيما يسر. يقال: تفاءلت بكذا وتفاولت، على التحقيق والقلب، وقد أولع الناس بترك الهمزة تخفيفا، وإنما أحب الفأل؛ لأن الناس إذا أمّلوا فائدة الله ورجوا عائدته عند كل سبب ضعيف أو قوي فهم على خير، وإذا قطعوا آمالهم ورجاءهم من الله تعالى كان ذلك من الشر. وأما الطيرة فإن فيها سوء الظن بالله وتوقع البلاء. والتفاؤل: أن يكون رجل مريض فيسمع آخر يقول: يا سالم، أو يكون طالب ضالة فيسمع آخر يقول: يا واجد، فيقع في ظنه أنه يبرأ من مرضه ويجد ضالته. ومنه الحديث: " قيل يا رسول الله ما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة ".
قوله: "قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة". بيّن صلي الله عليه وسلم أن الفأل يعجبه، فدل على أنه ليس من الطيرة المنهي عنها.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: ليس في الإعجاب بالفأل ومحبته شيء من الشرك، بل ذلك إبانة عن مقتضى الطبيعة وموجب الفطرة الإنسانية التي تميل إلى ما يوافقها ويلائمها، كما أخبرهم صلي الله عليه وسلم: " أنه حبب إليه من الدنيا النساء والطي?"1، وكان يحب الحلواء والعسل، ويحب حسن الصوت بالقرآن والأذان ويستمع إليه، ويحب معالي الأخلاق ومكارم الشيم. وبالجملة يحب كل كمال وخير وما يفضي إليهما، والله سبحانه قد جعل في غرائز الناس الإعجاب بسماع الاسم الحسن ومحبته، وميل نفوسهم إليه، وكذلك جعل فيها الارتياح والاستبشار والسرور باسم الفلاح والسلام والنجاح والتهنئة والبشرى والفوز والظفر ونحو ذلك، فإذا قرعت هذه الأسماء الأسماع استبشرت بها النفوس وانشرح لها الصدر، وقوي بها القلب، وإذا سمعت أضدادها أوجب لها ضد هذه الحال. فأحزنها ذلك،(7/80)
وأثار لها خوفا وطيرة وانكماشا وانقباضا عما قصدت له وعزمت عليه; فأورث لها ضررا في الدنيا ونقصا في الإيمان ومقارفة الشرك.
وقال الحليمي: " وإنما كان صلي الله عليه وسلم يعجبه الفأل؛ لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق، والتفاؤل حسن ظن به، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح. وذلك من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حبب إلي من الدنيا: النساء والطيب, وجعلت قرة عيني في الصلاة ". أخرجه أحمد (3/128,199,285)، والنسائي (7/61) في عشرة النساء: باب حب النساء. وصححه الألباني في صحيح الجامع (3119).(7/81)
ص -312- ... قوله: " ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر قال: " ذكرت الطيرة عند رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال: أحسنها الفأل، ولا ترد مسلما، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك ".
قوله: "عن عقبة بن عامر" هكذا وقع في نسخ التوحيد، وصوابه: عن عروة بن عامر كذا أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما. وهو مكي اختلف في نسبه; فقال أحمد: عن عروة بن عامر القرشي، وقال غيره: الجهني. واختلف في صحبته، فقال الماوردي: له صحبة، وذكره ابن حبان في ثقات التابعين. وقال المزي: لا صحبة له تصح.
قوله: "فقال: أحسنها الفأل" قد تقدم أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يعجبه الفأل. وروى الترمذي وصححه عن أنس رضي الله عنه: " أن النبي صلي الله عليه وسلم كان إذا خرج لحاجته يحب أن يسمع: يا نجيح، يا راشد " 1. وروى أبو داود عن بريدة: " أن النبي صلي الله عليه وسلم كان لا يتطير من شيء، وكان إذا بعث عاملا سأله عن اسمه، فإذا أعجبه فرح به، وإن كره اسمه رئي كراهية ذلك في وجهه " 2. وإسناده حسن. وهذا فيه استعمال الفأل.
قال ابن القيم: " أخبر صلي الله عليه وسلم أن الفأل من الطيرة وهو خيرها، فأبطل الطيرة، وأخبر أن الفأل منها ولكنه خير منها، ففصل بين الفأل والطيرة لما بينهما من الامتياز والتضاد، ونفع أحدهما ومضرة الآخر، ونظير هذا: منعه من الرقى بالشرك، وإذنه في الرقية إذا لم يكن فيها شرك؛ لما فيها من المنفعة الخالية من المفسدة".
قوله: "ولا ترد مسلما" قال الطيبي: " تعريض بأن الكافر بخلافه".
قوله: " اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت ". أي لا تأتي الطيرة بالحسنات ولا تدفع المكروهات، بل أنت وحدك لا شريك لك الذى تأتي بالحسنات وتدفع السيئات. و "الحسنات" هنا النعم، و "السيئات" المصائب؛ كقوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ(7/82)
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح الترمذي: كتاب السير (1616): باب ما جاء في الطيرة. وقال: حسن غريب صحيح. وصححه الألباني في صحيح الجامع (4854).
2 صحيح. أبو داود: كتاب الطب (3920): باب في الطيرة. وحسنه الحافظ في الفتح (10/215). (*) وأخرجه أحمد أيضا (5/347-348). وصححه الألباني في الصحيحة (762).(7/83)
ص -313- ... عِنْدِكَ قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}1. ففيه نفي تعليق القلب بغير الله في جلب نفع أو دفع ضر، وهذا هو التوحيد، وهو دعاء مناسب لمن وقع في قلبه شيء من الطيرة، وتصريح بأنها لا تجلب نفعا ولا تدفع ضرا، ويعد من اعتقدها سفيها مشركا.
قوله: "ولا حول ولا قوة إلا بك" استعانة بالله تعالى على فعل التوكل، وعدم الالتفات إلى الطيرة التي قد تكون سببا لوقوع المكروه عقوبة لفاعلها. وذلك الدعاء إنما يصدر عن حقيقة التوكل الذي هو أقوى الأسباب في جلب الخيرات ودفع المكروهات.
و"الحول" التحول والانتقال من حال إلى حال. و "القوة" على ذلك بالله وحده لا شريك له. ففيه التبري من الحول والقوة والمشيئة بدون حول الله وقوته ومشيئته. وهذا هو التوحيد في الربوبية، وهو الدليل على توحيد الإلهية الذي هو إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة، وهو توحيد القصد والإرادة، وقد تقدم بيان ذلك بحمد الله.
قوله: "وعن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا: " الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل " 2. رواه أبو داود والترمذي وصححه. وجعل آخره من قول ابن مسعود".
ورواه ابن ماجه وابن حبان. ولفظ أبي داود: " الطيرة شرك، الطيرة شرك، الطيرة شرك ثلاثا ". وهذا صريح في تحريم الطيرة، وأنها من الشرك لما فيها من تعلق القلب على غير الله تعالى.
قال ابن حمدان: " تكره الطيرة". وكذا قال غيره من أصحاب أحمد.
قال ابن مفلح: " والأولى القطع بتحريمها؛ لأنها شرك، وكيف يكون الشرك مكروها الكراهية الاصطلاحية؟"
قال في شرح السنن: " وإنما جعل الطيرة من الشرك؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن يُذْهِبُه بالتوكل "3. رواه أبو داود والترمذي وصححه. وجعل آخره من قول ابن مسعود.
ولأحمد من حديث(7/84)
ابن عمرو: " مَنْ رَدَّته الطيرة عن حاجته فقد أشرك. قالوا: فما كفارة ذلك؟
الطيرة تجلب لهم نفعا أو تدفع عنهم ضرا إذا عملوا بموجبها، فكأنهم أشركوا مع الله تعالى".
قوله: "وما منا إلا" قال أبو القاسم الأصبهاني والمنذري: " في الحديث إضمار. التقدير: وما منا إلا وقد وقع في قلبه شيء من ذلك". اهـ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية : 78-88.
2 صحيح: أبو داود: كتاب الطب (3910): باب في الطيرة. الترمذي: كتاب السير (1614): باب ما جاء في الطيرة وقال: هذا حديث حسن صحيح. ابن ماجة: كتاب الطب (3538): باب من كان يعجبه الفأل ويكره الطيرة. ابن حبان (1427- موارد). وصححه الألباني في الصحيحة برقم (429). وزيادة: "وما منا إلا... " مدرجة كما نص على ذلك البخاري وغيره. راجع الترغيب والترهيب للمنذري (4/64).
3 الترمذي : السير (1614) , وأبو داود : الطب (3910) , وابن ماجه : الطب (3538) , وأحمد (1/389 ,1/440).(7/85)
ص -314- ... وقال الخلخالي: " حذف المستثنى لما يتضمنه من الحالة المكروهة. وهذا من أدب الكلام".
قوله: "ولكن الله يذهبه بالتوكل" أي لكن لما توكلنا على الله في جلب النفع ودفع الضر أذهبه الله عنا بتوكلنا عليه وحده.
قوله: "وجعل آخره من قول ابن مسعود" قال ابن القيم: " وهو من الصواب; فإن الطيرة نوع من الشرك".
قال: " ولأحمد من حديث ابن عمرو: مَنَ رَدَّته الطيرة عن حاجته فقد أشرك. قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: أن تقول: " اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك".
هذا الحديث رواه أحمد والطبراني عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وفي إسناده ابن لهيعة1 وبقية رجاله ثقات.
قوله: "من حديث ابن عمرو" وهو عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل السهمي أبو محمد. وقيل: أبو عبد الرحمن; أحد السابقين المكثرين من الصحابة وأحد العبادلة الفقهاء، مات في ذي الحجة ليالي الحرة على الأصح بالطائف2.
قوله: " من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك ". وذلك أن الطيرة هي التشاؤم بالشيء المرئي أو المسموع، فإذا رده شيء من ذلك عن حاجته التي عزم عليها كإرادة السفر ونحوه، فمنعه عما أراده وسعى فيه ما رأى وما سمع تشاؤما، فقد دخل في الشرك. كما تقدم، فلم يخلص توكله على الله بالتفاته إلى ما سواه فيكون للشيطان منه نصيب.
قوله: "فما كفارة ذلك؟" إلى آخره. فإذا قال ذلك وأعرض عما وقع في قلبه، ولم يلتفت(7/86)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو عبد الله بن لهيعة الحضرمي الغافقي المصري، قاضيها وعالمها ومسندها. قال الإمام أحمد: احترقت كتبه. وهو صحيح الكتاب. ومن كتب عنه قديما فسماعه صحيح. مات سنة 174.
2 واقعة الحرة وفتنة الحرة: الموقعة التي كانت من أهل الشام في أهل المدينة, بعث يزيد بن معاوية أهل الشام لقتال أهل المدينة حين امتنعوا عن بيعته، فغلبوا على أهلها واستباحوها ثلاثا, وقتل خلق كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، وكان ذلك سنة خمس وستين. (*) قوله: (وكان ذلك سنة خمس وستين) أقول: الصواب سنة ثلاث وستين.(7/87)
ص -315- ... إليه، كفّر الله عنه ما وقع في قلبه ابتداء لزواله عن قلبه بهذا الدعاء المتضمن للاعتماد على الله وحده، والإعراض عما سواه.
وتضمن الحديث أن الطيرة لا تضر من كرهها ومضى في طريقه، وأما من لا يخلص توكله على الله واسترسل مع الشيطان في ذلك، فقد يعاقب بالوقوع فيما يكره؛ لأنه أعرض عن واجب الإيمان بالله، وأن الخير كله بيده، فهو الذي يجلبه لعبده بمشيئته وإرادته، وهو الذي يدفع عنه الضر وحده بقدرته ولطفه وإحسانه، فلا خير إلا منه، وهو الذي يدفع الشر عن عبده، فما أصابه من ذلك فبذنبه، كما قال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}1.
قوله: "وله من حديث الفضل بن عباس: " إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك ".
فيه مسائل:
الأولى: التنبيه على قوله: " ألا إنما طائركم عند الله"، مع قوله: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ}.
الثانية: نفي العدوى.
الثالثة: نفي الطيرة.
الرابعة: نفي الهامة.
الخامسة: نفي الصفر.
السادسة: أن الفأل ليس من ذلك، بل مستحب.
السابعة: تفسير الفأل.
الثامنة: أن الواقع في القلوب من ذلك مع كراهته لا يضر، بل يذهبه الله بالتوكل.
التاسعة: ذكر ما يقول من وجده.
العاشرة: التصريح بأن الطيرة شرك.
الحادية عشرة: تفسير الطيرة المذمومة.
هذا الحديث عند الإمام أحمد من حديث الفضل بن عباس قال: " خرجت مع رسول الله صلي الله عليه وسلم يوما، فبرّح ظبي، فمال في شقه فاحتضنته، فقلت: يا رسول الله تطيرت، فقال: إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك ". وفي إسناده انقطاع، أي بين مسلمة راويه وبين الفضل. وهو الفضل بن العباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلي الله عليه وسلم . قال ابن معين: قتل يوم اليرموك. وقال غيره: قتل يوم مرج الصفر سنة ثلاث عشرة وهو ابن اثنتين وعشرين سنة. وقال أبو داود: قتل بدمشق. كان عليه درع رسول الله صلي الله عليه وسلم .
قوله: " إنما(7/88)
الطيرة ما أمضاك أو ردك ". هذا حد الطيرة المنهي عنها: أنها ما يحمل الإنسان على المضي فيما أراده، ويمنعه من المضي فيه كذلك. وأما الفأل الذي كان يحبه النبي صلي الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية : 79.(7/89)
ص -316- ... عليه وسلم فيه نوع بشارة، فيسر به العبد ولا يعتمد عليه بخلاف ما يمضيه أو يرده، فإن للقلب عليه نوع اعتماد. فافهم الفرق والله أعلم.
باب: " ما جاء في التنجيم"
قال البخاري في صحيحه: قال قتادة: " خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوما للشياطين،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب ما جاء في التنجيم".
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: " التنجيم هو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية".
وقال الخطابي: " علم النجوم المنهي عنه هو ما يدعيه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث التي ستقع في مستقبل الزمان، كأوقات هبوب الرياح ومجيء المطر، وتغير الأسعار; وما في معناها من الأمور التي يزعمون أنها تدرك معرفتها بمسير الكواكب في مجاريها، واجتماعها وافتراقها، يدّعون أن لها تأثيرا في السفليات، وهذا منهم تحكم على الغيب، وتعاط لعلم قد استأثر الله به، ولا يعلم الغيب سواه".
قوله: "قال البخاري في صحيحه: قال قتادة: خلق الله هذه النجوم لثلاث:(7/90)
ص -317- ... زينة للسماء، ورجوما للشياطين; وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به".
هذا الأثر علقه البخاري في صحيحه. وأخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وغيرهم. وأخرجه الخطيب في كتاب النجوم عن قتادة، ولفظه قال: "إنما جعل الله هذه النجوم لثلاث خصال: جعلها زينة للسماء، وجعلها يهتدى بها، وجعلها رجوما للشياطين. فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد قال برأيه، وأخطأ حظه وأضاع نصيبه; وتكلف ما لا علم له به، وإن ناسا جهلة بأمر الله قد أحدثوا في هذه النجوم كهانة: من أعرس بنجم كذا وكذا، كان كذا وكذا، ومن سافر بنجم كذا وكذا، كان كذا وكذا. ولعمري ما من نجم إلا يولد به الأحمر والأسود، والطويل والقصير، والحسن والدميم، وما علم هذه النجوم وهذا الدابة وهذا الطائر بشيء من هذا الغيب، ولو أن أحدا علم الغيب لعلمه آدم الذي خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء" انتهى1.
فتأمل ما أنكره هذا الإمام مما حدث من المنكرات في عصر التابعين. وما زال الشر يزداد في كل عصر بعدهم حتى بلغ الغاية في هذه الأعصار، وعمت به البلوى في جميع الأمصار فمقل ومستكثر، وعز في الناس من ينكره، وعظمت المصيبة به في الدين. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قوله: "خلق الله هذه النجوم لثلاث". قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ}2. وقال تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}3. وفيه إشارة إلى أن النجوم في السماء الدنيا، كما روى ابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " أما السماء الدنيا فإن الله خلقها من(7/91)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في قرة العيون: وقول قتادة -رحمه الله تعالى- يدل على أن علم التنجيم هذا قد حدث في عصره، فأوجب له إنكاره على من اعتقده وتعلق به، هذا العلم مما ينافي التحيد ويوقع في الشرك؛ لأنه ينسب الحوادث إلى غير من أحدثها، وهو الله سبحانه بمشيئته وإرادته كما قال تعالى: (3:35) ( هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض ). وقال: (27:65) ( قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون) .
2 سورة الملك آية : 5.
3 سورة النحل آية : 16.(7/92)
ص -318- ... دخان، وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا، وزينها بمصابيح، وجعلها رجوما للشياطين، وحفظا من كل شيطان رجيم ".
قوله: "وعلامات" أي دلالات على الجهات "يهتدى بها" أي يهتدي بها الناس في ذلك. كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}1 أي لتعرفوا بها جهة قصدكم، وليس المراد أنه يهتدى بها في علم الغيب، كما يعتقده المنجمون، وقد تقدم وجه بطلانه وأنه لا حقيقة له كما قال قتادة: "فمن تأول فيها غير ذلك" أي زعم فيها غير ما ذكر الله في كتابه من هذه الثلاث فقد أخطأ، حيث زعم شيئا ما أنزل الله به من سلطان، وأضاع نصيبه من كل خير؛ لأنه شغل نفسه بما يضره ولا ينفعه.
فإن قيل: المنجم قد يصدق؟ قيل: صدقه كصدق الكاهن، ويصدق في كلمة ويكذب في مائة. وصدقه ليس عن علم، بل قد يوافق قدرا، فيكون فتنة في حق من صدقه.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلامَاتٍ}2. فقوله: "علامات" معطوف على ما تقدم مما ذكره في الأرض، ثم استأنف فقال: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}3. ذكره ابن جرير عن ابن عباس بمعناه.
وقد جاءت الأحاديث عن النبي صلي الله عليه وسلم بإبطال علم التنجيم، كقوله: 4 " من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد " 5.
وعن رجاء بن حيوة أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " إن مما أخاف على أمتي: التصديق بالنجوم، والتكذيب بالقدر، وحيف الأئمة " رواه عبد بن حميد. وعن أبي مِحجن مرفوعا: " أخاف على أمتي ثلاثا: حيف الأئمة، وإيمانا بالنجوم، وتكذيبا للقدر " 6. رواه ابن عساكر، وحسنه السيوطي.
وكره قتادة تعلُّم منازل القمر، ولم يُرَخِّص ابن عيينة فيه. ذكره حرب عنهما.
ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق.
وعن أنس رضي الله عنه(7/93)
مرفوعا: " أخاف على أمتي بعدي خصلتين: تكذيبا بالقدر; وإيمانا بالنجوم " 7. رواه أبو يعلي وابن عدي والخطاب في كتاب النجوم، وحسنه السيوطي أيضا. والأحاديث في ذم التنجيم والتحذير منه كثيرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية : 97.
2 سورة النحل آية : 15-16.
3 سورة النحل آية : 16.
4 تقدم تخريجه برقم [239].
5 رواه الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة عن ابن عباس.
6 صحيح، أما حديث رجاء بن حيوة فمرسل. وأما حديث أبي محجن فأخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/39) أيضا وإسناده ضعيف كما في الصحيحة (3/119). والحديث له شواهد كثيرة عن أبي الدرداء وأنس وغيرهما يرتقي بها إلى درجة الصحة كما قال الألباني في الصحيحة (1127).
7 حسن أبو يعلى في مسنده (1023)، وابن عدي في الكامل (4/1350). وإسناده ضعيف فيه يزيد الرقاشي إلا أن للحديث شواهد. وراجع تخريج (272). فالحديث كما قال المناوي في الفيض (1/204): "حسن لغيره".(7/94)
ص -319- ... قوله: "وكره قتادة تعلم منازل القمر. ولم يرخص ابن عيينة فيه. ذكره حرب عنهما. ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق".
قال الخطابي: " أما علم النجوم الذي يدرك من طريق المشاهدة والخبر الذي يعرف به الزوال، وتعلم به جهة القبلة فإنه غير داخل فيما نهى عنه. وذلك أن معرفة رصد الظل ليس شيئا أكثر من أن الظل ما دام متناقصا فالشمس بعد صاعدة نحو وسط السماء من الأفق الشرقي، وإذا أخذ في الزيادة فالشمس هابطة من وسط السماء نحو الأفق الغربي، وهذا علم يصح إدراكه بالمشاهدة، إلا أن أهل هذه الصناعة قد دبروها بما اتخذوه من الآلات التي يستغني الناظر فيها عن مراعاة مدته ومراصدته. وأما ما يستدل به من النجوم على جهة القبلة؛ فإنها كواكب رصدها أهل الخبرة من الأئمة الذين لا نشك في عنايتهم بأمر الدين، ومعرفتهم بها وصدقهم فيما أخبروا به عنها، مثل أن يشاهدها بحضرة الكعبة، ويشاهدها على حال الغيبة عنها، فكان إدراكهم الدلالة منها بالمعاينة، وإدراكنا ذلك بقبول خبرهم؛ إذ كانوا عندنا غير متهمين في دينهم، ولا مقصرين في معرفتهم". انتهى1.
وروى ابن المنذر عن مجاهد أنه كان لا يرى بأسا أن يتعلم الرجل منازل القمر. وروي عن إبراهيم أنه كان لا يرى بأسا أن يتعلم الرجل من النجوم ما يهتدي به. قال ابن رجب: " والمأذون في تعلمه التسيير لا علم التأثير؛ فإنه باطل محرم، قليله وكثيره. وأما علم التسيير فيتعلم ما يحتاج إليه منه للاهتداء، ومعرفة القبلة والطرق جائز عند الجمهور".
قوله: "ذكره حرب عنهما" هو الإمام الحافظ حرب بن إسماعيل أبو محمد الكرماني، الفقيه من جلة أصحاب الإمام أحمد. روى عن أحمد وإسحاق وابن المديني وابن معين وغيرهم. وله كتاب المسائل التي سئل عنها الإمام أحمد وغيره، مات سنة ثمانين ومائتين.(7/95)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وحقيقة علم الفلك: معرفة حركات النجوم والكواكب وتنقلاتها ومنازلها. وقد اخترع لمعرفة ذلك آلات حاسبة ومنظارات مقربة; ومراصد كاملة الأسباب والآلات عرفوا بها شيئا كثيرا جدا من العوالم العلوية، حتى أصبحت كأنها على هذه الأرض. وكل ذلك لا يصح أن يختلف فيه مطلقا; لأنه كعلم الحساب. أما أن ينسب إلى هذه النجوم والكواكب شيء من الحوادث على الأرض من موت أو حياة أو حرب أو سلم يكون في المستقبل، فهذا هو الذي لا شك في كذبه وأنه ضلال.(7/96)
ص -320- ... وأما إسحاق فهو ابن إبراهيم بن مخلد أبو أيوب الحنظلي النيسابوري، الإمام المعروف بابن راهويه. روى عن ابن المبارك وأبي أسامة وابن عيينة وطبقتهم. قال أحمد: إسحاق عندنا إمام من أئمة المسلمين. روى عنه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم، وروى هو أيضا عن أحمد. مات سنة تسع وثلاثين ومائتين.
قال: "وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر ". رواه أحمد وابن حبان في صحيحه".
هذا الحديث رواه أيضا الطبراني والحاكم وقال: صحيح. وأقره الذهبي. وتمامه: " ومن مات وهو يدمن الخمر سقاه الله من نهر الغوطة: نهر يجري من فروج المومسات; يؤذي أهل النار ريح فروجهن " .
قوله: "وعن أبي موسى" هو عبد الله بن قيس بن سليم بن حضّار - بفتح المهملة وتشديد الضاد- أبي موسى الأشعري. صحابي جليل. مات سنة خمسين.
قوله: " ثلاثة لا يدخلون الجنة ". هذا من نصوص الوعيد التي كره السلف
الخمر، ومصدق بالسحر، وقاطع الرحم " 1. رواه أحمد وابن حبان في صحيحه.
فيه مسائل:
الأولى: الحكمة في خلق النجوم.
الثانية: الرد على من زعم غير ذلك.
الثالثة: ذكر الخلاف في تعلم المنازل.
الرابعة: الوعيد فيمن صدق بشيء من السحر ولو عرف أنه باطل.
تأويلها. وقالوا: أمِرُّوها كما جاءت، ومن تأولها فهو على خطر من القول على الله بلا علم. وأحسن ما يقال: إن كل عمل دون الشرك والكفر المخرج عن ملة الإسلام، فإنه يرجع إلى مشيئة الله، فإن عذّبه فقد استوجب العذاب، وإن غفر له فبفضله وعفوه ورحمته.
قوله: "مدمن الخمر" أي المداوم على شربها.
قوله: "وقاطع الرحم" يعني القرابة كما قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}2 الآية.
قوله: "ومصدق بالسحر" أي مطلقا. ومنه التنجيم; لما تقدم من الحديث. وهذا وجه(7/97)
مطابقة الحديث للترجمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ضعيف: أبو داود : الجهاد (2705)، وأحمد (4/399)، وابن حبان (1380,1381-موارد)، والحاكم (4/146)، وإسناده ضعيف، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (2597).
2 سورة محمد آية : 22.(7/98)
ص -321- ... قال الذهبي في الكبائر: " ويدخل فيه تعلم السيميا وعملها، وعقد المرء عن زوجته، ومحبة الزوج لامرأته وبغضها وبغضه، وأشباه ذلك بكلمات مجهولة. قال: وكثير من الكبائر- بل عامتها إلا الأقل- يجهل خلق من الأمة تحريمه، وما بلغه الزجر فيه; ولا الوعيد عليه". اهـ.
باب: " ما جاء في الاستسقاء بالأنواء"
وقول الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء".
أي من الوعيد، والمراد: نسبة السقيا ومجيء المطر إلى الأنواء. جمع "نوء" وهي منازل القمر. قال أبو السعادات: وهي ثمان وعشرون منزلة، ينزل القمر كل ليلة منزلة منها. ومنه قوله تعالى: {الْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ}2. يسقط في الغرب كل ثلاث عشرة ليلة منزلة مع طلوع الفجر، وتطلع أخرى مقابلتها ذلك الوقت من المشرق، فتنقضي جميعها مع انقضاء السنة. وكانت العرب تزعم أن مع سقوط المنزلة وطلوع رقيبها يكون مطر، وينسبونه إليها، ويقولون: "مطرنا بنوء كذا وكذا". وإنما سمي نوءا؛ لأنه إذا سقط الساقط منها ناء الطالع بالمشرق، أي نهض وطلع.
قال: "وقوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}. روى الإمام أحمد والترمذي"- وحسنه- وابن جرير وابن أبي حاتم والضياء في المختارة عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} يقول: شكركم {أَنَّكُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الواقعة آية : 82.
2 سورة يس آية : 39.(7/99)
ص -322- ... تُكَذِّبُونَ} تقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا: بنجم كذا وكذا " 1. وهذا أولى ما فسرت به الآية. وروي ذلك عن علي وابن عباس وقتادة والضحاك وعطاء الخراساني وغيرهم. وهو قول جمهور المفسرين. وبه يظهر وجه استدلال المصنف -رحمه الله- بالآية.
قال ابن القيم -رحمه الله-: أي تجعلون حظكم من هذا الرزق الذي به حياتكم: التكذيب به، يعني القرآن. قال الحسن: تجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون. قال: وخسر عبد لا يكون حظه من القرآن إلا التكذيب.
قوله: "عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب; والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم; والنياحة " . وقال: " النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب ". رواه مسلم". أبو مالك: اسمه الحارث بن الحارث الشامي. صحابي تفرد عنه بالرواية أبو سلام. وفي الصحابة أبو مالك الأشعري اثنان غير هذا.
قوله: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن" ستفعلها هذه الأمة إما مع العلم بتحريمها أو مع الجهل بذلك، مع كونها من أعمال الجاهلية المذمومة المكروهة المحرمة. والمراد بالجاهلية هنا: ما قبل المبعث، سموا بذلك لفرط جهلهم. وكل ما يخالف ما جاء به الرسول صلي الله عليه وسلم فهو جاهلية، فقد خالفهم رسول الله صلي الله عليه وسلم في كثير من أمورهم أو أكثرها، وذلك يدرك بتدبر القرآن ومعرفة السنة. ولشيخنا -رحمه الله- مصنف لطيف، ذكر فيه ما خالف رسول الله صلي الله عليه وسلم فيه أهل الجاهلية، بلغ مائة وعشرين مسألة2.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: " أخبر أن بعض أمر الجاهلية لا يتركه الناس كلهم ذما لمن لم يتركه، وهذا يقتضي أن كل ما كان من أمر الجاهلية وفعلهم فهو مذموم في دين(7/100)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ضعيف. أحمد (1/108,131) والترمذي: كتاب التفسير (3295): باب ومن سورة الواقعة وقال: حسن غريب صحيح. وابن جرير (27/119) وابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (4/299). وفي إسناده عبد الأعلى بن عامر الثعلبي ضعيف، وقد جاء موقوفا على ابن عباس رواه سعيد بن منصور في سننه، وإسناده صحيح كما في الفتح (2/522).
2 كتاب مسائل الجاهلية طبع في المطبعة السلفية، وهو نفيس جدا ككل كتب شيخ الإسلام التي تفيض علما ونورا، رحمه الله.(7/101)
ص -323- ... الإسلام; وإلا لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذم لها،
الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم،
ومعلوم أن إضافتها إلى الجاهلية خرج مخرج الذم، وهذا كقوله تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}1. فإن في ذلك ذما للتبرج وذما لحال الجاهلية الأولى، وذلك يقتضي المنع من مشابهتهم في الجملة.
قوله: "الفخر بالأنساب" أي التعاظم على الناس بالآباء ومآثرهم; وذلك جهل عظيم، إذ لا كرم إلا بالتقوى، كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}2. وقال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}3.
ولأبي داود عن أبي هريرة مرفوعا: " إن الله قد أذهب عنكم عُبِّية الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي، أو فاجر شقي، الناس بنو آدم وآدم خلق من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان " 4.
قوله: "والطعن في الأنساب" أي الوقوع فيها بالعيب والتنقص. ولما عَيّر أبو ذر رضي الله عنه رجلا بأمه5 قال له النبي صلي الله عليه وسلم: 6 " أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية ". متفق عليه. فدل على أن الطعن في الأنساب من عمل الجاهلية; وأن المسلم قد يكون فيه شيء من هذه الخصال المسماة بجاهلية ويهودية ونصرانية، ولا يوجب ذلك كفره ولا فسقه. قاله شيخ الإسلام رحمه الله.
قوله: "والاستسقاء بالنجوم" أي نسبة المطر إلى النوء وهو سقوط النجم. كما أخرج الإمام أحمد وابن جرير عن جابر السوائي قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " أخاف على أمتي ثلاثا: استسقاء بالنجوم، وحيف السلطان، وتكذيبا بالقدر " 7.
فإذا قال قائلهم: مطرنا بنجم كذا أو بنوء(7/102)
كذا. فلا يخلو إما أن يعتقد أن له تأثيرا في إنزال المطر، فهذا شرك وكفر. وهو الذي يعتقده أهل الجاهلية كاعتقادهم أن دعاء الميت والغائب يجلب لهم نفعا، أو يدفع عنهم ضرا. أو أنه يشفع بدعائهم إياه، فهذا هو الشرك الذي بعث
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأحزاب آية : 33.
2 سورة الحجرات آية : 13.
3 سورة سبأ آية : 37.
4 حسن. أبو داود: كتاب الأدب (5116): باب في التفاخر بالأحساب. وحسنه المنذري في الترغيب (3/614)، وصححه ابن تيمية في الاقتضاء (ص73).
5 وإنما عيره بسوادها فقط. فقال له: يا ابن السوداء. فكيف بالناس اليوم وقد أطلقوا لأقلامهم وألسنتهم العنان؟.
6 278- البخاري: كتاب الإيمان (30); باب المعاصي من أمر الجاهلية واللفظ له. ومسلم: كتاب الإيمان (1661) (38): باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس. عن أبي ذر رضي الله عنه، وأبو داود : الأدب (5157) , وأحمد (5/161).
7 صحيح. أحمد (5/89,90). وصححه الألباني لشواهده في السنة لابن أبي عاصم رقم (324) وراجع تخريج رقم [272].(7/103)
ص -324- ... الله رسوله صلي الله عليه وسلم بالنهي عنه وقتال من فعله. كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}1. والفتنة الشرك، وإما أن يقول: مطرنا بنوء كذا مثلا، لكن مع اعتقاده أن المؤثر هو الله وحده. لكنه أجرى العادة بوجود المطر عند سقوط ذلك النجم، والصحيح: أنه يحرم نسبة ذلك إلى النجم ولو على طريق المجاز، فقد صرح ابن مفلح في الفروع: بأنه يحرم قول: "مطرنا بنوء كذا". وجزم في الإنصاف بتحريمه ولو على طريق المجاز، ولم يذكر خلافا. وذلك أن القائل لذلك نسب ما هو من فعل الله تعالى الذي لا يقدر عليه غيره إلى خلق مسخر لا ينفع ولا يضر، ولا قدرة له على شيء، فيكون ذلك شركا أصغر. والله أعلم.
قوله: "والنياحة" أي رفع الصوت بالندب على الميت2؛ لأنها تَسخُّط بقضاء الله، وذلك ينافي الصبر الواجب، وهي من الكبائر لشدة الوعيد والعقوبة.
وقال: " النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة، وعليها سربال من قطران ودرع من جرب "3. رواه مسلم.
قوله: "والنائحة إذا لم تتب قبل موتها" فيه تنبيه على أن التوبة تكفر الذنب وإن عظم، هذا مجمع عليه في الجملة، ويكفر أيضا بالحسنات الماحية والمصائب، ودعاء المسلمين بعضهم لبعض، وبالشفاعة بإذن الله، وعفو الله عمن شاء ممن لا يشرك به شيئا. وفي الحديث عن ابن عمر مرفوعا: " إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر " 4. رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان.
قوله: "تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب" قال القرطبي: السربال واحد السرابيل، وهي الثياب والقُمُص، يعني أنهن يلطخن بالقطران، فيكون لهن كالقمص; حتى يكون اشتعال النار بأجسادهن أعظم، ورائحتهن أنتن، وألمهن بسبب الجرب أشد. وروي عن ابن عباس: إن القطران هو النحاس المذاب5.(7/104)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنفال آية : 39.
2 وضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية.
3 مسلم : الجنائز (934) , وابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1581) , وأحمد (5/342 ,5/344).
4 حسن. أحمد (2/132.153) والترمذي: كتاب الدعوات (3537): باب في فضل التوبة والاستغفار. وحسنه. وابن ماجة: كتاب الزهد (4253): باب ذكر التوبة. وابن حبان (2249-موارد). وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1899).
5 ذكر ذلك الحافظ ابن كثير وغيره عند تفسير قوله تعالى: (14: 49، 50) ( وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران ).(7/105)
ص -325- ... قال: "ولهما1 عن زيد بن خالد قال: " صلى لنا رسول الله صلي الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: أتدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب "2".
زيد بن خالد الجهني صحابي مشهور، مات سنة ثمان وستين، وقيل: غير ذلك، وله خمس وثمانون سنة.
قوله: "صلى لنا رسول الله صلي الله عليه وسلم" أي بنا، فاللام بمعنى الباء. قال الحافظ: وفيه إطلاق ذلك مجازا، وإنما الصلاة لله.
قوله: "بالحديبية" بالمهملة المضمومة وتخفيف يائها وتثقل3.
قوله: "على إثر سماء كانت من الليل" بكسر الهمزة وسكون المثلثة على المشهور: وهو ما يعقب الشيء.
قوله: "سماء" أي مطر؛ لأنه ينزل من السحاب، والسماء يطلق على كل ما ارتفع.
قوله: "فلما انصرف" أي من صلاته، أي التفت إلى المأمومين، كما يدل عليه
قوله: "أقبل على الناس" ويحتمل أنه أراد السلام.
قوله: "هل تدرون" لفظ استفهام ومعناه التنبيه. وفي النسائي: " ألم تسمعوا ما قال ربكم الليلة؟ "4. وهذا من الأحاديث القدسية. وفيه إلقاء العالم على أصحابه المسألة ليختبرهم.
فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من
قوله: "قالوا الله ورسوله أعلم" فيه حسن الأدب للمسئول عما لا يعلم أن يكل العلم إلى(7/106)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري في الصلاة في باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم; وفي الاستسقاء في باب قول الله تعالى: ( وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون)، ورواه مسلم في كتاب الإيمان (71) (125): باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء.
2 البخاري : الجمعة (1038) , ومسلم : الإيمان (71) , وأبو داود : الطب (3906) , وأحمد (4/117) , ومالك : النداء للصلاة (451).
3 قرية على حدود الحرم، وتسمى الآن الشميسي. وكان فيها صلح الحديبية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين سنة ست من الهجرة، وكان هذا الصلح الفتح المبين.
4 صحيح. أحمد (4/116)، النسائي (3/164,165). وصححه الألباني في صحيح الجامع (1326).(7/107)
ص -326- ... عالمه. وذلك يجب1.
قوله: "أصبح من عبادي" الإضافة هنا للعموم بدليل التقسيم إلى مؤمن وكافر كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ}2.
قوله: "مؤمن بي وكافر" إذا اعتقد أن للنوء تأثيرا في إنزال المطر فهذا كفر؛ لأنه أشرك في الربوبية، والمشرك كافر. وإن لم يعتقد ذلك فهو من الشرك الأصغر؛ لأنه نسب نعمة الله إلى غيره، ولأن الله لم يجعل النوء سببا لإنزال المطر فيه، وإنما هو فضل من الله ورحمة يحبسه إذا شاء وينزله إذا شاء.
ودل هذا الحديث على أنه لا يجوز لأحد أن يضيف أفعال الله إلى غيره ولو على سبيل المجاز. وأيضا الباء تحتمل معاني، وكلها لا تصدق بهذا اللفظ، فليست للسببية ولا للاستعانة، لما عرفت من أن هذا باطل. ولا تصدق أيضا على أنها للمصاحبة؛ لأن المطر قد يجيء في هذا الوقت وقد لا يجيء فيه، وإنما يجيء المطر في الوقت الذي أراد الله مجيئه فيه برحمته وحكمته وفضله، فكل معنى تحمل عليه الباء في هذا اللفظ المنهي عنه فاسد. فيظهر على هذا تحريم هذه اللفظة مطلقا لفساد المعنى.3 وقد تقدم القطع بتحريمه في كلام صاحب الفروع والإنصاف.
قال المصنف -رحمه الله-: "وفيه التفطن للإيمان في هذا الموضع" يشير إلى أنه الإخلاص.
قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب "4.
قوله: "فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته" فالفضل والرحمة صفتان لله، ومذهب أهل السنة والجماعة: أن ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله من صفات الذات: كالحياة(7/108)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وردهم هذا إنما كان يصح حينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته الدنيا حاضر المجلس؛ فإن الواجب رد العلم إلى الله ثم إليه. وأما بعد أن مات وفارق هذه الدنيا, فلا ينبغي رد العلم إلا إلى الله وحده. فمن الخطأ استعمال الناس هذه الجملة الآن وقولهم: "الله ورسوله أعلم".
2 سورة التغابن آية : 2.
3 وكذلك مثلها مما يستعمله الجاهلون, كقولهم: يا ربنا بمحمد وببنته، ونحو ذلك من ألفاظ في توسلاتهم ودعواتهم الجاهلية.
4 البخاري : الأذان (846) والجمعة (1038) , ومسلم : الإيمان (71) , وأبو داود : الطب (3906) , وأحمد (4/117).(7/109)
ص -327- ... والعلم، وصفات الأفعال; كالرحمة التي يرحم بها عباده، كلها صفات لله قائمة بذاته ليست قائمة بغيره، فتفطن لهذا فقد غلط فيه طوائف.
وفي هذا الحديث: إن نعم الله لا يجوز أن تضاف إلا إليه وحده، وهو الذي يحمد عليها، وهذه حال أهل التوحيد.
قوله: "وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا" إلى آخره، تقدم ما يتعلق بذلك. قال المصنف -رحمه الله-: "وفيه التفطن للكفر في هذا الموضع".
يشير إلى أن نسبة النعمة إلى غير الله كفر، ولهذا قطع بعض العلماء بتحريمه، وإن لم يعتقد تأثير النوء بإنزال المطر; فيكون من كفر النعم، لعدم نسبتها إلى الذي أنعم بها، ونسبتها إلى غيره، كما سيأتي في قوله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَ}1.
قال القرطبي في شرح حديث زيد بن خالد: " وكانت العرب إذا طلع نجم من الشرق، وسقط آخر من المغرب فحدث عند ذلك مطر أو ريح، فمنهم من ينسبه إلى الطالع، ومنهم من ينسبه إلى الغارب نسبة إيجاد واختراع، ويطلقون ذلك القول المذكور في الحديث. فنهى الشارع عن إطلاق ذلك؛ لئلا يعتقد أحد اعتقادهم ولا يتشبه بهم في نطقهم". انتهى.
قوله: " فمنهم من ينسبه نسبة إيجاد" يدل على أن بعضهم كان لا يعتقد ذلك، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}2. فدل على أن منهم من يعرف ويقر بأن الله هو الذي أوجد المطر، وقد يعتقد هؤلاء أن للنوء فيه شيئا من التأثير، والقرطبي في شرحه لم يصرح أن العرب كلهم يعتقدون ذلك المعتقد الذي ذكره. فلا اعتراض عليه بالآية للاحتمال المذكور.
ولهما من حديث ابن عباس معناه، وفيه: " قال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا. فأنزل الله هذه الآيات: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ(7/110)
عَظِيمٌ(7/111)
ص -328- ... قوله: "ولهما من حديث ابن عباس بمعناه، وفيه: قال بعضهم: "لقد صدق نوء كذا وكذا. فأنزل الله هذه الآيات {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}1. وبلفظه عن ابن عباس قال: "مطر الناس على عهد النبي صلي الله عليه وسلم، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: أصبح من الناس شاكر، ومنهم كافر. قالوا: هذه رحمة الله. وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا ". فقال: فنزلت هذه الآية: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} ".
هذا قسم من الله عز وجل يقسم بما يشاء من خلقه على ما شاء. وجواب القسم {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ}. فتكون "لا" صلة لتأكيد النفي; فتقدير الكلام: ليس الأمر كما زعمتم في القرآن أنه سحر، أو كهانة، بل هو قرآن كريم. قال ابن جرير: قال بعض أهل العربية: معنى قوله: " {فَلا أُقْسِمُ} فليس الأمر كما تقولون، ثم استؤنف القسم بعد فقيل: أقسم بمواقع النجوم. قال ابن عباس: يعني نجوم القرآن، فإنه نزل جملة ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا، ثم نزل مفرقا في السنين بعد2، ثم قرأ ابن عباس هذه الآية. ومواقعها: نزولها شيئا بعد شيء. وقال مجاهد: مواقع النجوم: مطالعها ومشارقها. واختاره ابن جرير. وعلى هذا فتكون المناسبة بين المقسم به والمقسم عليه- وهو القرآن- من وجوه:
أحدها: أن النجوم جعلها الله يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، وآيات القرآن يهتدى بها في ظلمات الغي والجهل، فتلك هداية في الظلمات الحسية، والقرآن هداية في الظلمات المعنوية، فجمع بين الهدايتين مع ما في النجوم من الزينة الظاهرة، وفي القرآن من الزينة الباطنة، ومع ما في النجوم من الرجوم(7/112)
للشياطين، وفي القرآن من رجوم شياطين الجن والإنس. والنجوم آياته المشهودة العيانية، والقرآن آياته المتلوة السمعية، مع ما في مواقعها عند الغروب من العبرة والدلالة على آياته القرآنية ومواقعها عند النزول. ذكره ابن القيم رحمه الله.
وقوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}3 قال ابن كثير: أي وإن هذا القسم الذي أقسمت به لقسم عظيم لو تعلمون عظمته لعظمتم المقسم به عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الواقعة آية : 75-76-77-78-79-80-81-82.
2 الآية تدل على أنه ما زال في الكتاب المكنون حتى كان ينزل به جبريل منجما، فكان ينزل مباشرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولا مفهوم لما قاله بعض المفسرين: إنه نزل إلى السماء الدنيا مرة، ثم كان ينزل بعد ذلك إلى رسول صلى الله عليه وسلم منها.
3 سورة الواقعة آية : 76.(7/113)
ص -329- ... وقوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ}1 هذا هو المقسم عليه، وهو القرآن، أي إنه وحي الله وتنزيله وكلامه، لا كما يقول الكفار: إنه سحر أو كهانة، أو شعر. بل هو قرآن كريم أي عظيم كثير الخير؛ لأنه كلام الله.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: " فوصفه بما يقتضي حسنه وكثرة خيره ومنافعه وجلالته؛ فإن الكريم هو البهي الكثير الخير العظيم; وهو من كل شيء أحسنه وأفضله. والله سبحانه وتعالى وصف نفسه بالكرم ووصف به كلامه، ووصف به عرشه، ووصف به ما كثر خيره وحسن منظره من النبات وغيره، ولذلك فسر السلف "الكريم" بالحسن. قال الأزهري: الكريم اسم جامع لما يحمد، والله تعالى كريم جميل الفعال، وإنه لقرآن كريم يحمد لما فيه من الهدى والبيان والعلم والحكمة".
وقوله: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ}2 أي في كتاب معظم محفوظ موقر. قاله ابن كثير.
وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: " اختلف المفسرون في هذا; فقيل: هو اللوح المحفوظ، والصحيح أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة، وهو المذكور في قوله: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ}3. ويدل على أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة قوله: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ}4 فهذا يدل على أنه بأيديهم يمسونه".
لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِين أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ}5.
قوله: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لا يمسه إلا المطهرون. قال: الكتاب الذي في السماء". وفي رواية: "لا يمسه إلا المطهرون يعني الملائكة". وقال قتادة: "لا يمسه عند الله إلا المطهرون". فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوسي النجس والمنافق الرجس". واختار هذا القول كثيرون، منهم ابن القيم -رحمه الله- ورجحه. وقال ابن زيد: زعمت قريش أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين، فأخبر الله تعالى أنه(7/114)
لا يمسه إلا المطهرون، كما قال تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ}6. قال ابن كثير: هذا قول جيد. وهو لا يخرج عن القول قبله. وقال البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه في هذه الآية: "لا يجد طعمه إلا من آمن به".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الواقعة آية : 77.
2 سورة الواقعة آية : 78.
3 سورة عبس آية : 13-14-15-16.
4 سورة الواقعة آية : 79.
5 سورة الواقعة آية : 75-76-77-78-79-80-81.
6 سورة الشعراء آية : 210-211-212.(7/115)
ص -330- ... قال ابن القيم -رحمه الله-: " هذا من إشارة الآية وتنبيهها، وهو أنه لا يلتذ به وبقراءته وفهمه وتدبره إلا من يشهد أنه كلام الله تكلم به حقا، وأنزله على رسوله وحيا، لا ينال معانيه إلا من لم يكن في قلبه حرج منه بوجه من الوجوه".
وقال آخرون: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ} أي من الجنابة والحدث. قالوا: ولفظ الآية خبر معناه الطلب. قالوا: والمراد بالقرآن هاهنا المصحف. واحتجوا على ذلك بما رواه مالك في الموطأ عن عبد الله بن محمد ابن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: إن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلي الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: " أن لا يمس القرآن إلا طاهر " 1 2.
وقوله: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}3. قال ابن كثير: هذا القرآن منزل من رب العالمين، وليس كما يقولون: إنه سحر أو كهانة أو شعر، بل هو الحق الذي لا مرية فيه; وليس وراءه حق نافع. وفي هذه الآية: أنه كلام الله تكلم به.
قال ابن القيم -رحمه الله-: ونظيره: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي}4. وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ}5 هو إثبات علو الله تعالى على خلقه؛ فإن النزول والتنزيل الذي تعقله العقول وتعرفه الفطر هو وصول الشيء من أعلى إلى أسفل، ولا يرد عليه قوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ}6 ؛ لأنا نقول: إن الذي أنزلها فوق سماواته. فأنزلها لنا بأمره.
قال ابن القيم -رحمه الله-: " وذكر التنزيل مضافا إلى ربوبيته للعالمين المستلزمة لملكه لهم وتصرفه فيهم، وحكمه عليهم، وإحسانه إليهم، وإنعامه عليهم، وأن من هذا شأنه مع(7/116)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح. مالك في الموطأ (1/199) في كتاب القرآن: باب الأمر بالوضوء لمن مس القرآن, مرسلا. وصححه الألباني لطرقه وشواهده في الإرواء (122). وقال: "والنفس تطمئن لصحة هذا الحديث لا سيما وقد احتج به إمام أهل السنة أحمد بن حنبل.... " ا هـ .
2 قال الحافظ ابن كثير: ورواه أبو داود في المراسيل من حديث الزهري. قال: قرأت في صحيفة عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الخ. قال: ومثل هذا لا ينبغي الأخذ به. وقد أسنده الدارقطني عن عمرو بن حزم وعبد الله بن عمر وعثمان بن أبي العاص. وفي إسناد كل منهما نظر. وقال الحافظ في التلخيص الحبير: (( وقد ضعف النووي وابن كثير في الإرشاد وابن حزم حديث حكيم بن حزام وحديث عمرو بن حزم جميعا )). والضمير في الآية يعود على الكتاب المكنون; فهي صريحة في أنهم الملائكة. والمقصود بالآية - ما قال ابن زيد - الرد على قريش زعمها أنه تنزلت به الشياطين، فليس في الآية دليل ولا شبه دليل لمن يقول: إن المصحف لا يمسه إلا طاهر.
3 سورة الواقعة آية : 80.
4 سورة السجدة آية : 13.
5 سورة النحل آية : 102.
6 سورة الزمر آية : 6.(7/117)
ص -331- ... الخلق كيف يليق به مع ربوبيته التامة أن يتركهم سدى، ويدعهم هَمَلًا، ويخلقهم عبثا. لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يثيبهم ولا يعاقبهم؟ فمن أقر بأنه رب العالمين أقر بأن القرآن تنزيله على رسوله. واستدل بكونه رب العالمين على ثبوت رسالة رسوله وصحة ما جاء به، وهذا الاستدلال أقوى وأشرف من الاستدلال بالمعجزات والخوارق، وإن كانت دلالتها أقرب إلى أذهان عموم الناس. وذلك إنما تكون لخواص العقلاء".
قوله: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ}1. قال مجاهد: " أتريدون أن تمالئوهم فيه وتركنوا إليهم " ؟
{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}2 3.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الواقعة.
الثانية: ذكر الأربع التي من أمر الجاهلية.
الثالثة: ذكر الكفر في بعضها.
الرابعة: أن من الكفر ما لا يخرج من الملة.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: " ثم وبخهم على وضعهم الإدهان في غير موضعه، وأنهم يداهنون فيما حقه أن يصدع به ويعرف به، ويعض عليه بالنواجذ; وتثنى عليه الخناصر; وتعقد عليه القلوب والأفئدة، ويحارب ويسالم لأجله، ولا يلتوى عنه يمنة ولا يسرة; ولا يكون للقلب التفات إلى غيره، ولا محاكمة إلا إليه، ولا مخاصمة إلا به; ولا اهتداء في طرق المطالب العالية إلا بنوره، ولا شفاء إلا به; فهو روح الوجود، وحياة العالم; ومدار السعادة; وقائد الفلاح، وطريق النجاة، وسبيل الرشاد، ونور البصائر. فكيف تطلب المداهنة بما هذا شأنه، ولم ينزل للمداهنة، وإنما نزل بالحق وللحق، والمداهنة إنما تكون في باطل قوي لا تمكن إزالته، أو في حق ضعيف لا تمكن إقامته، فيحتاج المداهن إلى أن يترك بعض الحق ويلتزم بعض الباطل، فأما الحق الذي قام به كل حق فكيف يداهن به؟".
قوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}. تقدم الكلام عليها أول الباب; والله تعالى أعلم.(7/118)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الواقعة آية : 81.
2 سورة الواقعة آية : 82.
3 283- مسلم: كتاب الإيمان (73) (127): باب بيان كفر من قال مطرنا بنوء كذا. * وحديث ابن عباس هذا ليس عند البخاري كما عزاه المؤلف هنا.(7/119)
ص -332- ... الخامسة: قوله: " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر " بسبب نزول النعمة.
السادسة: التفطن للإيمان في هذا الموضع.
السابعة: التفطن للكفر في هذا الموضع.
الثامنة: التفطن لقوله " لقد صدق نوء كذا وكذا".
التاسعة: إخراج العالم للتعليم للمسألة بالاستفهام عنها لقوله: "أتدرون ماذا قال ربكم"؟
العاشرة: وعيد النائحة.
باب "قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}".
لما كانت محبته سبحانه هي أصل دين الإسلام الذي يدور عليه قطب رحاه، فبكمالها يكمل، وبنقصها ينقص توحيد الإنسان، نبه المصنف على ذلك بهذه الترجمة.
قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً} الآية. قال في شرح المنازل: " أخبر تعالى أن من أحب من دون الله شيئا كما يحب الله تعالى فهو ممن اتخذ من دون الله أندادا، فهذا ند في المحبة لا في الخلق والربوبية؛ فإن أحدا من أهل الأرض لا يثبت هذا الند، بخلاف ند المحبة؛ فإن أكثر أهل الأرض قد اتخذوا من دون الله أندادا في الحب والتعظيم. ثم قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ}2. وفي تقدير الآية قولان: أحدهما: والذين آمنوا أشد حبا لله من أصحاب الأنداد لأندادهم وآلهتهم التي يحبونها ويعظمونها من دون الله.
وروى ابن جرير عن مجاهد في قوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} ؛ مباهاة ومضاهاة للحق بالأنداد. {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} من الكفار لأوثانهم. ثم روي عن ابن زيد قال:(7/120)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 165.
2 سورة البقرة آية : 165.(7/121)
ص -333- ... هؤلاء المشركون أندادهم آلهتهم التي عبدوا مع الله يحبونهم كما يحب الذين آمنوا بالله، والذين آمنوا أشد حبا لله من حبهم آلهتهم". 1 انتهى.
والثاني: والذين آمنوا أشد حبا لله من المشركين بالأنداد لله، فإن محبة المؤمنين خالصة، ومحبة أصحاب الأنداد قد ذهبت أندادهم بقسط منها، والمحبة الخالصة أشد من المشتركة. والقولان مرتبان على القولين في قوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}2 فإن فيها قولين أيضا: أحدهما: يحبونهم كما يحبون الله، فيكون قد أثبت لهم محبة الله، ولكنها محبة أشركوا فيها مع الله تعالى أندادهم. والثاني: أن المعنى يحبون أندادهم كما يحب المؤمنون الله، ثم بين تعالى أن محبة المؤمنين لله أشد من محبة أصحاب الأنداد لأندادهم .
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يرجح القول الأول، ويقول: إنما ذموا بأن شرّكوا بين الله وبين أندادهم في المحبة ولم يخلصوها لله كمحبة المؤمنين له، وهذه التسوية المذكورة في قوله تعالى: حكاية عنهم، وهم في النار أنهم يقولون لآلهتهم وأندادهم وهي محضرة معهم في العذاب: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}3. ومعلوم أنهم ما سووهم برب العالمين في الخلق والربوبية4، وإنما سووهم به في المحبة والتعظيم، وهذا أيضا هو العدل المذكور في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}5 به غيره في العبادة التي هي المحبة والتعظيم.
وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}6. وهذه تسمى آية المحنة. قال بعض السلف: ادعى قوم محبة الله فأنزل الله تعالى آية المحنة {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} إشارة إلى دليل المحبة(7/122)
وثمرتها وفائدتها. فدليلها وعلامتها: اتباع الرسول صلي الله عليه وسلم، وفائدتها وثمرتها: محبة المرسل لكم، فما لم تحصل منكم المتابعة فمحبتكم له غير حاصلة، ومحبته لكم منتفية.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مدارج السالكين أول الجزء الثالث من طبعة المنار.
2 سورة البقرة آية : 165.
3 سورة الشعراء آية : 97-98.
4 في قرة العيون: وقد وقع الشرك في الربوبية أيضا في كثير من الخاصة والعامة في آخر هذه الأمة، فاعتقدوا أن لهؤلاء الأموات تصرفا في الكون ونحو ذلك.
5 سورة الأنعام آية : 1.
6 سورة آل عمران آية : 31.(7/123)
ص -334- ... يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ}1 ذكر لها أربع علامات:
إحداها: أنهم أذلة على المؤمنين. قيل: معناه أرقاء رحماء مشفقين عاطفين عليهم، فلما ضمّن "أذلة" هذا المعنى عداه بأداة "على". قال عطاء -رحمه الله-: للمؤمنين كالولد لوالده وكالعبد لسيده، وعلى الكافرين كالأسد على فريسته، {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}2.
العلامة الثالثة3: الجهاد في سبيل الله بالنفس واليد والمال واللسان. وذلك تحقيق دعوى المحبة.
العلامة الرابعة: أنهم لا تأخذهم في الله لومة لائم. وهذه علامة صحة المحبة. فكل محب أخذه اللوم على محبوبه فليس بمحب على الحقيقة. وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}4. فذكر المقامات الثلاثة: الحب. وهو ابتغاء القرب إليه، والتوسل إليه بالأعمال الصالحة. والرجاء والخوف يدل على أن ابتغاء الوسيلة أمر زائد على رجاء الرحمة وخوف العذاب، ومن المعلوم قطعا أنه لا يتنافس إلا في قرب من يحب قربه، وحب قربه تبع لمحبة ذاته; بل محبة ذاته أوجبت محبة القرب منه. وعند الجهمية والمعطلة: ما من ذلك كله شيء فإنه عندهم لا تقرب ذاته من شيء، ولا يقرب من ذاته شيء، ولا يحب، فأنكروا حياة القلوب، ونعيم الأرواح وبهجة النفوس، وقرة العيون وأعلى نعيم الدنيا والآخرة. ولذلك ضربت قلوبهم بالقسوة وضرب دونهم ودون الله حجاب على معرفته ومحبته; فلا يعرفونه ولا يحبونه ولا يذكرونه إلا عند تعطيل أسمائه وصفاته، فذكرهم أعظم آثامهم وأوزارهم; بل يعاقبون من يذكره بأسمائه وصفاته ونعوت جلاله ويرمونهم بالأدواء التي هم أحق بها وأهلها، وحسب ذي البصيرة وحياة القلب ما يرى على كلامهم من(7/124)
القسوة والمقت والتنفير عن محبة الله تعالى ومعرفته وتوحيده والله المستعان.
وقال -رحمه الله تعالى- أيضا: لا تحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا
خفاء، فحدها وجودها، ولا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة، وإنما يتكلم الناس في أسبابها وموجباتها وعلاماتها وشواهدها وثمراتها وأحكامها. وأجمع ما قيل في ذلك: ما ذكره أبو بكر الكتاني عن الجنيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية : 54.
2 سورة الفتح آية : 29.
3لم يذكر الثانية. ولعله اكتفى بما في كلام عطاء من الإشارة إليها بقوله: وعلى الكافرين.
4 سورة الإسراء آية : 57.(7/125)
ص -335- ... قال أبو بكر: "جرت مسألة في المحبة بمكة - أعزها الله في أيام الموسم- فتكلم الشيوخ فيها; وكان الجنيد أصغرهم سنا، فقالوا: هات ما عندك يا عراقي، فأطرق رأسه ودمعت عيناه; ثم قال: عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، قائم بأداء حقوقه، ناظر إليه بقلبه; أحرق قلبه أنوار هيبته، وصفا شرابه من كأس مودته، وانكشف له الحياء من أستار غيبه، فإن تكلم فبالله، وإن نطق فعن الله، وإن تحرك فبأمر الله; وإن سكن فمع الله، فهو لله وبالله ومع الله. فبكى الشيوخ وقالوا: ما على هذا مزيد، جبرك الله يا تاج العارفين".
وذكر رحمه الله تعالى: أن الأسباب الجالبة للمحبة عشرة:
أحدها: قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به.
الثاني: التقرب إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض.
الثالث: دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال، فنصيبه من المحبة على قدر هذا.
الرابع: إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى.
الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته ومشاهدتها، وتقلبه في رياض هذه المعرفة وميادينها.
السادس: مشاهدة بره وإحسانه ونعمه الظاهرة والباطنة.
السابع: - وهو أعجبها- انكسار القلب بين يديه.
الثامن: الخلوة وقت النزول الإلهي1، وتلاوة كتابه ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.
التاسع: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام وعلمت أن فيه مزيدا لحالك ومنفعة لغيرك.
وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}2 .
العاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل . فمن هذه الأسباب العشرة وصل(7/126)
المحبون إلى منازل المحبة، ودخلوا على الحبيب.
قوله: "وقول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1وذلك إذا مضى ثلثا الليل كما في حديث النزول.
2 سورة التوبة آية : 24.(7/127)
ص -336- ... وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}".
أمر الله نبيه صلي الله عليه وسلم أن يتوعد من أحب أهله وماله وعشيرته وتجارته ومسكنه فآثارها، أو بعضها على فعل ما أوجبه الله عليه من الأعمال التي يحبها الله تعالى ويرضاها، كالهجرة والجهاد ونحو ذلك.
قال العماد ابن كثير -رحمه الله تعالى-: أي إن كانت هذه الأشياء {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا} أي انتظروا ماذا يحل بكم من عقابه. روى الإمام أحمد وأبو داود- واللفظ له- من حديث أبي عبد الرحمن السلمي عن عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم " 1.
فلا بد من إيثار ما أحبه الله من عبده وأراده على ما يحبه العبد ويريده، فيحب ما يحبه الله ويبغض ما يبغضه، ويوالي فيه ويعادي فيه، ويتابع رسوله صلي الله عليه وسلم كما تقدم في آية المحنة ونظائرها.
عن أنس أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين "2 أخرجاه.
قوله: "وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ". أخرجاه" أي البخاري ومسلم.
قوله: "لا يؤمن أحدكم" أي الإيمان الواجب، والمراد كماله، حتى يكون الرسول أحب إلى العبد من ولده ووالده والناس أجمعين، بل ولا يحصل هذا الكمال إلا بأن يكون الرسول أحب إليه من نفسه، كما في الحديث: " أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. فقال: والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك. فقال له عمر: فإنك الآن أحب(7/128)
إلي من نفسي. فقال: الآن يا عمر "3. رواه البخاري.
فمن قال: إن المنفي هو الكمال، فإن أراد الكمال الواجب الذي يذم تاركه ويعرض
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح. أحمد (2/ 28 , 42 , 84). وأبو داود: كتاب البيوع (3462): باب في النهي عن العينة. وقال الألباني في الصحيحة (1/ 15): "وهو حديث صحيح لمجموع طرقه".
2 البخاري : الإيمان (15) , ومسلم : الإيمان (44) , والنسائي : الإيمان وشرائعه (5013) , وابن ماجه : المقدمة (67) , وأحمد (3/177 ,3/275) , والدارمي : الرقاق (2741).
3 البخاري : الأيمان والنذور (6632) , وأحمد (4/233 ,4/336 ,5/293).(7/129)
ص -337- ... للعقوبة فقد صدق; وإن أراد أن المنفي الكمال المستحب، فهذا لم يقع قط في كلام الله ورسوله صلي الله عليه وسلم . قاله شيخ الإسلام رحمه الله.
فمن ادعى محبة النبي صلي الله عليه وسلم بدون متابعته وتقديم قوله على قول غيره فقد كذب، كما قال تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}1. فنفى الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول صلي الله عليه وسلم، لكن كل مسلم يكون محبا بقدر ما معه من الإسلام، وكل مسلم لا بد أن يكون مؤمنا وإن لم يكن مؤمنا الإيمان المطلق؛ لأن ذلك لا يحصل إلا لخواص المؤمنين.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: " وعامة الناس إذا أسلموا بعد كفر، أو ولدوا على الإسلام والتزموا شرائعه، وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله، فهم مسلمون ومعهم إيمان مجمل، لكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم يحصل شيئا فشيئا إن أعطاهم الله ذلك، وإلا فكثير من الناس لا يصلون إلى اليقين ولا إلى الجهاد; ولو شككوا لشكوا، ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا؛ إذ ليس عندهم من علم اليقين ما يدرأ الريب، ولا عندهم من قوة الحب لله ورسوله ما يقدمونه على الأهل والمال، فهؤلاء إن عوفوا من المحنة ماتوا ودخلوا الجنة; وإن ابتلوا بمن يدخل عليهم شبهات توجب ريبهم، فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب وإلا صاروا مرتابين، وانتقلوا إلى نوع من النفاق". انتهى.
وفي هذا الحديث: أن الأعمال من الإيمان؛ لأن المحبة عمل القلب.
وفيه: أن محبة الرسول واجبة تابعة لمحبة الله لازمة لها؛ فإنها محبة لله ولأجله، تزيد بزيادة محبة الله في قلب المؤمن وتنقص بنقصها، وكل من كان محبا لله فإنما يحب في الله ولأجله كما يحب الإيمان والعمل الصالح. وهذه المحبة ليس فيها شيء من شوائب الشرك كالاعتماد عليه ورجائه في حصول مرغوب منه أو دفع مرهوب منه. وما كان فيها(7/130)
ذلك فمحبته مع الله لما فيها من التعلق على غيره والرغبة إليه من دون الله، فبهذا يحصل التمييز بين المحبة في الله ولأجله، التي هي من كمال التوحيد، وبين المحبة مع الله التي هي محبة الأنداد من دون الله، لما يتعلق في قلوب المشركين من الإلهية التي لا تجوز إلا لله وحده.
قوله: "ولهما عنه - أي البخاري ومسلم، عن أنس رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النور آية : 47.(7/131)
ص -338- ... أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار "1 وفي رواية: " لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله "2 إلخ".
قوله: "ثلاث" أي ثلاث خصال. قوله: "من كن فيه" أي وجدت فيه تامة.
قوله: "وجد بهن حلاوة الإيمان" الحلاوة هنا هي التي يعبر عنها بالذوق لما يحصل به من لذة القلب ونعيمه وسروره وغذائه، وهي شيء محسوس يجده أهل الإيمان في قلوبهم.
قال السيوطي -رحمه الله- في التوشيح: "وجد حلاوة الإيمان" فيه استعارة تخييلية، شبه رغبة المؤمن في الإيمان بشيء حلو، وأثبت له لازم ذلك الشيء، وأضافه إليه".
وقال النووي: " معنى حلاوة الإيمان استلذاذ الطاعات وتحمل المشاق، وإيثار ذلك على أغراض الدنيا، ومحبة العبد لله بفعل طاعته وترك مخالفته، وكذلك الرسول صلي الله عليه وسلم".
قال يحيى بن معاذ: " حقيقة الحب في الله: أن لا يزيد بالبر ولا ينقص بالجفاء". قوله: "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما" يعني بالسوي: ما يحبه الإنسان بطبعه، كمحبة الولد والمال والأزواج ونحوها، فتكون "أحب" هنا على بابها. وقال الخطابي: " المراد بالمحبة هنا حب الاختيار لا حب الطبع كذا قال. وأما المحبة الشركية التي قد تقدم بيانها، فقليلها وكثيرها ينافي محبة الله ورسوله". وفي بعض الأحاديث.
" أحبوا الله بكل قلوبكم " 3. فمن علامات محبة الله ورسوله: أن يحب ما يحبه الله ويكره ما يكرهه الله، ويؤثر مرضاته على ما سواه، ويسعى في
وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار ".
مرضاته ما استطاع; ويبعد عما حرمه الله ويكرهه أشد الكراهة، ويتابع رسوله ويمتثل أمره ويترك نهيه، كما قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}4، فمن آثر أمر غيره على أمره وخالف ما نهى(7/132)
عنه، فذلك عَلَم على عدم محبته لله ورسوله؛ فإن محبة الرسول من لوازم محبة الله، فمن أحب الله وأطاعه أحب الرسول وأطاعه. ومن لا فلا; كما في آية المحنة ونظائرها. والله المستعان.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: " أخبر النبي صلي الله عليه وسلم أن هذه الثلاث من كُنّ فيه وجد حلاوة الإيمان؛ لأن وجود الحلاوة للشيء يتبع المحبة له. فمن أحب شيئا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الإيمان (16) , ومسلم : الإيمان (43) , والترمذي : الإيمان (2624) , والنسائي : الإيمان وشرائعه (4987 ,4988 ,4989) , وابن ماجه : الفتن (4033) , وأحمد (3/103 ,3/113 ,3/172 ,3/174 ,3/176 ,3/206 ,3/230 ,3/248 ,3/251 ,3/272 ,3/275 ,3/278 ,3/288).
2 البخاري : الأدب (6041).
3 ضعيف: رواه البيهقي في الدلائل كما في الدر المنثور (3/ 67). عن أبي سلمة بن عبد الرحمن مرسلا فهو ضعيف لإرساله. أفاده الدوسري في النهج السديد (356).
4 سورة النساء آية : 80.(7/133)
ص -339- ... واشتهاه، إذا حصل له مراده؛ فإنه يجد الحلاوة واللذة والسرور بذلك، واللذة أمر يحصل عقيب إدراك الملائم الذي هو المحبوب أو المشتهى. قال: فحلاوة الإيمان المتضمنة للذة والفرح تتبع كمال محبة العبد لله، وذلك بثلاثة أمور: تكميل هذه المحبة وتفريغها، ودفع ضدها. فتكميلها أن يكون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهم؛ فإن محبة الله ورسوله لا يكتفى فيها بأصل الحب، بل لا بد أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
قلت: ومحبة الله تعالى تستلزم محبة طاعته؛ فإنه يحب من عبده أن يطيعه. والمحب يحب ما يحبه محبوبه ولا بد.
ومن لوازم محبة الله أيضا: محبة أهل طاعته، كمحبة أنبيائه ورسله والصالحين من عباده، فمحبة ما يحبه الله ومن يحبه الله من كمال الإيمان، كما في حديث ابن عباس الآتي. قال: وتفريغها. أن يحب المرء لا يحبه إلا لله، قال: ودفع ضدها أن يكره ضد الإيمان كما يكره أن يقذف في النار". انتهى.
قوله: "أحب إليه مما سواهما" فيه جمع ضمير الله تعالى وضمير رسوله صلي الله عليه وسلم، وفيه قولان:
وفي رواية: " لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى "1 إلى آخره.
أحدهما: أنه ثنى الضمير هنا إيماء إلى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين، لا كل واحدة؛ فإنها وحدها لاغية. وأمر بالإفراد في حديث الخطيب2 إشعارا بأن كل واحد من(7/134)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الأدب (6041).
2 وذلك ما رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث عدي بن حاتم: "أن خطيبا خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يطع الله تعالى ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى. فقال له صلى الله عليه وسلم: بئس الخطيب أنت. قل: من يعص الله تعالى ورسوله فقد غوى". قال النووي: (( سبب الإنكار عليه أن الخطبة شأنها البسط والإيضاح, واجتناب الإشارات والرموز. قال: ولهذا ثبت أن رسول الله كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا لتفهم عنه, قال: وإنما ثنى الضمير في قوله: "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما"؛ لأنه ليس خطبة وعظ، وإنما هو تعليم حكم, فكلما قل لفظه كان أقرب إلى حفظه بخلاف الخطبة ))اهـ. أقول: ولعلها حادثة حال لها ظروفها التي اقتضت أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك والله أعلم.(7/135)
ص -340- ... العصيانين مستقل باستلزام الغواية؛ إذ العطف في تقدير التكرير، والأصل استقلال كل من المعطوفين في الحكم.
الثاني: حمل حديث الخطيب على الأدب والأولى، وهذا هو الجواز. وجواب ثالث: وهو أن هذا وارد على الأصل، وحديث الخطيب ناقل فيكون أرجح.
قوله: "كما يكره أن يقذف في النار" أي يستوي عنده الأمران. وفيه رد على الغلاة الذين يتوهمون أن صدور الذنب من العبد نقص في حقه مطلقا وإن تاب منه. والصواب: أنه إن لم يتب كان نقصا وإن تاب فلا، ولهذا كان المهاجرون والأنصار -رضي الله عنهم- أفضل هذه الأمة، مع كونهم في الأصل كفارا فهداهم الله إلى الإسلام، والإسلام يمحو ما قبله، وكذلك الهجرة. كما صح الحديث بذلك.
قوله: "وفي رواية: لا يجد أحد" هذه الرواية أخرجها البخاري في الأدب من صحيحه. ولفظها: " لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله، وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، وحتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما "1
وقد تقدم أن المحبة هنا عبارة عما يجده المؤمن من اللذة والبهجة والسرور والإجلال والهيبة ولوازم ذلك. قال الشاعر:
أهابك إجلالا وما بك قدرة ... عليّ ولكن ملء عين حبيبها(7/136)
قوله: "وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: " من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان، وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئا ". رواه ابن جرير". وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم الجملة الأولى منه فقط.
قوله: "من أحب في الله" أي أحب أهل الإيمان بالله وطاعته من أجل ذلك.
قوله: "وأبغض في الله" أي أبغض من كفر بالله وأشرك به وفسق عن طاعته؛ لأجل ما فعلوه مما يسخط الله وإن كانوا أقرب الناس إليه، كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}2 الآية. قوله: "ووالى في الله" هذا والذي قبله من لوازم محبة العبد لله تعالى، فمن أحب الله تعالى أحب فيه، ووالى أولياءه، وعادى أهل معصيته وأبغضهم، وجاهد أعداءه ونصر أنصاره. وكلما قويت محبة العبد لله في قلبه قويت هذه الأعمال المترتبة عليها; وبكمالها يكمل توحيد العبد، ويكون ضعفها على قدر ضعف محبة العبد لربه، فمقل ومستكثر ومحروم.
قوله: "فإنما تنال ولاية الله بذلك" أي توليه لعبده. و "ولاية" بفتح الواو لا غير: أي الأخوة3 والمحبة والنصرة، وبالكسر الإمارة، والمراد هنا الأول. ولأحمد والطبراني عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئا " . رواه ابن جرير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الإيمان (55) , والنسائي : البيعة (4197 ,4198) , وأبو داود : الأدب (4944) , وأحمد (4/102).
2 سورة المجادلة آية : 22.
3 لعل كلمة "الأخوة" زائدة أو مبدلة عن كلمة أخرى تناسب المقام.(7/137)
ص -341- ... " لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله، فإذا أحب لله وأبغض لله، فقد استحق الولاية لله " 1 . وفي حديث آخر: " أوثق عرى الإيمان الحب في الله، والبغض في الله عز وجل " 2 . رواه الطبراني.
قوله: "ولن يجد عبد طعم الإيمان" إلى آخره. أي لا يحصل له ذوق الإيمان ولذته وسروره، وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك، أي حتى يحب في الله، ويبغض في الله، ويعادي في الله; ويوالي فيه. وفي حديث أبي أمامة مرفوعا: " من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان " 3 . رواه أبو داود.
قوله: "وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا. وذلك لا يجدي على أهله شيئا" أي لا ينفعهم بل يضرهم، كما قال تعالى: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (3/ 430). وقال الهيثمي في المجمع (1/ 89): "وفيه رشدين بن سعد وهو منقطع ضعيف" ا.هـ.
2 حسن. الطبراني في الكبير (10531), (10537) من حديث ابن مسعود. وقال الهيثمي في المجمع (7/ 260 , 261): رواه الطبراني بإسنادين ورجاله أحدهما رجال الصحيح. وحسنه الألباني لشواهده في صحيح الجامع (2536). وراجع الصحيحة (1728).
3 صحيح. أبو داود: كتاب السنة (4681): باب الدليل على زيادة الإيمان ونقصانه. وصححه الألباني في الصحيحة (380) وصحيح الجامع (5841).(7/138)
ص -342- ... إِلا الْمُتَّقِينَ}1 . فإذا كانت البلوى قد عمت بهذا في زمن ابن عباس خير القرون، فما زاد الأمر بعد ذلك إلا شدة، حتى وقعت الموالاة على الشرك والبدع والفسوق والعصيان. وقد وقع ما أخبر به صلي الله عليه وسلم بقوله:
وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ}2 قال: المودة". فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية البقرة.
الثانية: تفسير آية براءة.
الثالثة: وجوب محبته صلي الله عليه وسلم على النفس والأهل والمال.
الرابعة: نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام.
الخامسة: أن للإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان وقد لا يجدها.
السادسة: أعمال القلب الأربع التي لا تنال ولاية الله إلا بها، ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها.
السابعة: فهم الصحابي للواقع: أن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا.
" بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ " 3 4 . وقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- من المهاجرين والأنصار في عهد نبيهم صلي الله عليه وسلم، وعهد أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- يؤثر بعضهم بعضا على نفسه محبة في الله وتقربا إليه. كما قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}5. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " "لقد رأيتنا على عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم، وما منا أحد يرى أنه أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم" ". رواه ابن ماجه.
قوله: " وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} قال: "المودة". هذا الأثر رواه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه.
قوله: "قال: المودة" أي التي كانت بينهم في الدنيا خانتهم أحوج ما كانوا إليها، وتبرأ بعضهم من بعض; كما قال تعالى: {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ(7/139)
بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}6.
قال العلامة ابن القيم في قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ}7 الآيتين: فهؤلاء المتبوعون كانوا على الهدى وأتباعهم ادعوا أنهم على طريقهم ومنهاجهم، وهم مخالفون لهم سالكون غير طريقهم، ويزعمون أن محبتهم لهم تنفعهم مع مخالفتهم، فيتبرءون منهم يوم القيامة؛ فإنهم اتخذوهم أولياء من دون الله، وهذا حال كل من اتخذ من دون الله وأولياء، يوالي لهم، ويعادي لهم، ويرضى لهم، ويغضب لهم؛
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزخرف آية : 67.
2 سورة البقرة آية : 166.
3 مسلم: كتاب الإيمان (145) و(146): باب بيان الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
4 رواه مسلم وابن ماجة عن أبي هريرة. والترمذي وابن ماجة عن ابن مسعود. وقد شرحه الحافظ ابن رجب شرحا نفيسا سماه " كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة" طبع مرارا.
5 سورة الحشر آية : 9.
6 سورة العنكبوت آية : 25.
7 سورة البقرة آية : 166.(7/140)
ص -343- ... فإن أعماله كلها باطلة، يراها يوم القيامة حسرات عليه مع كثرتها وشدة تعبه فيها ونصبه؛ إذ لم يجرد موالاته ومعاداته وحبه وبغضه وانتصاره وإيثاره لله ورسوله، فأبطل الله عز وجل ذلك العمل كله. وقطع تلك الأسباب، فينقطع يوم القيامة كل سبب وصلة ووسيلة ومودة كانت لغير الله، ولا يبقى إلا السبب الواصل بين العبد وربه، وهو حظه من الهجرة إليه وإلى رسوله وتجريده عبادته لله وحده ولوازمها: من الحب والبغض، والعطاء والمنع، والموالاة والمعاداة، والتقريب والإبعاد، وتجريد متابعة رسول الله صلي الله عليه وسلم تجريدا محضا بريئا من شوائب الالتفات إلى غيره، فضلا عن الشرك بينه وبين غيره; فضلا عن تقديم قول غيره عليه.
فهذا السبب هو الذي لا ينقطع بصاحبه، وهذه هي النسبة التي بين العبد وربه، وهي نسبة العبودية المحضة، وهي آخيته التي يجول ما يجول وإليها مرجعه، ولا تتحقق إلا بتجريده متابعة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، إذ هذه العبودية إنما جاءت على ألسنتهم، وما عرفت إلا بهم ولا سبيل إليها إلا بمتابعتهم. وقد قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً}1. فهذه هي الأعمال التي كانت في الدنيا على غير سنة رسله وطريقتهم ولغير وجهه، يجعلها الله هباء منثورا لا ينتفع منها صاحبها بشيء أصلا. وهذا من أعظم الحسرات على العبد يوم القيامة: أن يرى سعيه ضائعا. وقد سعد أهل السعي النافع بسعيهم. انتهى ملخصا.
الثامنة: تفسير: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ}2.
التاسعة: أن من المشركين من يحب الله حبا شديدا.
العاشرة: الوعيد على من كان الثمانية3 أحب إليه من دينه.
الحادية عشرة: أن من اتخذ ندا تساوي محبته محبة الله فهو الشرك الأكبر.(7/141)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الفرقان آية : 23.
2 سورة البقرة آية : 166.
3 هي الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال والتجارة والمساكن.(7/142)
ص -344- ... باب: قول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب قول الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}".
الخوف من أفضل مقامات الدين وأجلها، وأجمع أنواع العبادة التي يجب إخلاصها لله تعالى. قال الله تعالى: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}2. وقال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ}3. وقال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}4. وقال تعالى: {فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}5. وقال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}6. وأمثال هذه الآيات في القرآن كثير.
والخوف من حيث هو على ثلاثة أقسام:
أحدها: خوف السر، وهو أن يخاف من غير الله من وثن أو طاغوت أو يصيبه بما يكره، كما قال تعالى عن قوم هود -عليه السلام- إنهم قالوا له: {إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِ جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظرُونِ}7. وقال تعالى: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}8. وهذا هو الواقع من عباد القبور ونحوها من الأوثان يخافونها، ويخوفون بها أهل التوحيد إذا أنكروا عبادتها وأمروا بإخلاص العبادة لله، وهذا ينافي التوحيد.
الثاني: أن يترك الإنسان ما يجب عليه، خوفا من بعض الناس، فهذا محرم، وهو نوع من الشرك بالله المنافي لكمال التوحيد. وهذا هو سبب نزول هذه الآية. كما قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ(7/143)
إِيمَاناً وَقَالُوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية : 175.
2 سورة الأنبياء آية : 28.
3 سورة النحل آية : 50.
4 سورة الرحمن آية : 46.
5 سورة النحل آية : 51.
6 سورة المائدة آية : 44.
7 سورة هود آية : 54-55.
8 سورة الزمر آية : 36.(7/144)
ص -345- ... حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ}1 الآية.
وفي الحديث: " إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ما منعك إذ رأيت المنكر أن لا تغيره؟ فيقول: رب خشية الناس. فيقول: إياي كنت أحق أن تخشى " 2 3 .
الثالث: الخوف الطبيعي، وهو الخوف من عدو أو سبع أو غير ذلك. فهذا لا يذم، كما قال تعالى في قصة موسى -عليه السلام-: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ}4 الآية.
ومعنى قوله: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} أي يخوفكم أولياءه {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ}5. وهذا نهي من الله تعالى للمؤمنين أن يخافوا غيره، وأمر لهم أن يقصروا خوفهم على الله، فلا يخافون إلا إياه. وهذا هو الإخلاص الذي أمر الله به عباده ورضيه منهم. فإذا أخلصوا له الخوف وجميع العبادة أعطاهم ما يرجون، وأمنهم من مخاوف الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}6 الآية.
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-: " ومن كيد عدو الله: أنه يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه؛ لئلا يجاهدوهم، ولا يأمروهم بمعروف، ولا ينهوهم عن منكر. وأخبر تعالى أن هذا من كيد الشيطان وتخويفه. ونهانا أن نخافهم. قال: والمعنى عند جميع المفسرين: يخوفهم بأوليائه. قال قتادة: يعظمهم في صدوركم. فكلما قوي
وقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}7.
إيمان العبد زال خوف أولياء الشيطان من قلبه، وكلما ضعف إيمانه قوي خوفه منهم.(7/145)
فدلت هذه الآية على أن إخلاص الخوف من كمال شروط الإيمان".
قوله: "وقول الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ} الآية".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية : 173-174-175.
2 صحيح. أحمد (3/ 27 , 29 , 77) وابن حبان (1845) وابن ماجة: كتاب الفتن: (4008); باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عن أبي سعيد الخدري وصححه الألباني في صحيح الجامع (1814).
3 رواه ابن ماجة عن أبي سعيد بلفظ: "لا يحقر أحدكم نفسه; قالوا: يا رسول الله, كيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: يرى أمرا لله فيه مقال ثم لا يقول فيه، فيقول الله يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا: كذا وكذا؟ فيقول: خشيت الناس. فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى". ذكره ابن كثير عند تفسير قول الله تعالى في سورة المائدة: ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ). الآيات.
4 سورة القصص آية : 21.
5 سورة آل عمران آية : 175.
6 سورة الزمر آية : 36.
7 سورة التوبة آية : 18.(7/146)
ص -346- ... أخبر تعالى أن مساجد الله لا يعمرها إلا أهل الإيمان بالله واليوم الآخر، الذين آمنوا بقلوبهم وعملوا بجوارحهم، وأخلصوا له الخشية دون من سواه، فأثبت لهم عمارة المساجد بعد أن نفاها عن المشركين؛ لأن عمارة المساجد بالطاعة والعمل الصالح، والمشرك وإن عمل فعمله {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً}1، أو {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ}2. وما كان كذلك فالعدم خير منه، فلا تكون المساجد عامرة إلا بالإيمان الذي معظمه التوحيد مع العمل الصالح الخالص من شوائب الشرك والبدع، وذلك كله داخل في مسمى الإيمان المطلق عند أهل السنة والجماعة.
قوله: {يَخْشَ إِلا اللَّهَ} قال ابن عطية: " يريد خشية التعظيم والعبادة والطاعة، ولا محالة أن الإنسان يخشى المحاذير الدنيوية، وينبغي أن يخشى في ذلك كله قضاء الله وتصريفه".
وقال ابن القيم رحمه الله: " الخوف عبودية القلب، فلا يصلح إلا لله، كالذل والإنابة والمحبة والتوكل والرجاء وغيرها من عبودية القلب".
قوله: {فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}. قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: يقول: " إن أولئك هم المهتدون، وكل " عسى " في القرآن فهي واجبة 3". وفي الحديث:
وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ}4 الآية.
" إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان " 5. قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر ِ}6. رواه أحمد والترمذي والحاكم عن أبي سعيد الخدري.
قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ}7 .
قال ابن كثير -رحمه الله(7/147)
تعالى-: يقول تعالى مخبرا عن صفات قوم من المكذبين الذين يدّعون الإيمان بألسنتهم، ولم يثبت في قلوبهم: أنهم إذا جاءتهم محنة وفتنة في الدنيا اعتقدوا أنها من نقمة الله بهم، فارتدوا عن الإسلام. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "يعني فتنته أن يرتد عن دينه إذا أوذي في الله".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النور آية : 39.
2 سورة إبراهيم آية : 18.
3 قال ابن كثير: قال ابن عباس: "كقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ). وهي الشفاعة. وقال محمد بن إسحاق بن يسار: "وعسى" في القرآن من الله حق".
4 سورة العنكبوت آية : 10.
5 ضعيف. أحمد (3/ 68 , 76)، والترمذي: كتاب التفسير (3093): باب ومن سورة التوبة, والحاكم (1/ 212 , 213 , (2/ 332). وإسناده ضعيف. وضعفه الألباني في المشكاة (723) وضعيف الجامع (608).
6 سورة التوبة آية : 18.
7 سورة العنكبوت آية : 10.(7/148)
ص -347- ... وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: " الناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين: إما أن يقول أحدهم: آمنا، وإما أن لا يقول ذلك. بل يستمر على السيئات والكفر، فمن قال: آمنا امتحنه ربه وابتلاه وفتنه. والفتنة الابتلاء والاختبار، ليتبين الصادق من الكاذب، ومن لم يقل: آمنا. فلا يحسب أنه يعجز الله ويفوته ويسبقه. فمن آمن بالرسل وأطاعهم عاداه أعداؤهم وآذوه وابتلي بما يؤلمه، ومن لم يؤمن بهم ولم يطعهم عوقب في الدنيا والآخرة وحصل له ما يؤلمه، وكان هذا الألم أعظم وأدوم من ألم أتباعهم. فلا بد من حصول الألم لكل نفس آمنت أو رغبت عن الإيمان، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، والمعرض عن الإيمان تحصل له اللذة ابتداء ثم يصير في الألم الدائم; والإنسان لا بد أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصورات، فيطلبون منه أن يوافقهم عليها، وإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه; وإن وافقهم حصل له العذاب تارة منهم وتارة من غيرهم، كمن عنده دين وتقى حل بين قوم فجار ظلمة لا يتمكنون من فجورهم وظلمهم إلا بموافقته لهم أو سكوته عنهم، فإن وافقهم أو سكت عنهم سلم من شرهم في الابتداء، ثم يتسلطون عليه بالإهانة والأذى أضعاف ما كان يخافه ابتداء لو أنكر عليهم وخالفهم، وإن سلم منهم فلا بد أن يهان ويعاقب على يد غيرهم.
فالحزم كل الحزم بما قالت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- لمعاوية رضي الله عنه: " من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مئونة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا " 1 .
فمن هداه الله وألهمه رشده ووقاه شر نفسه امتنع من الموافقة على فعل المحرم وصبر على عداوتهم، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، كما كانت للرسل وأتباعهم.
ثم أخبر تعالى عن حال الداخل في الإيمان بلا بصيرة، وأنه إذا أوذي في الله جعل فتنة الناس له، وهي أذاهم ونيلهم إياه بالمكروه، وهو الألم(7/149)
الذي لا بد أن ينال الرسل وأتباعهم ممن خالفهم، جعل ذلك في فراره منه وتركه السبب الذي يناله به: كعذاب الله الذي فر منه المؤمنون بالإيمان.
فالمؤمنون لكمال بصيرتهم فروا من ألم عذاب الله إلى الإيمان، وتحملوا ما فيه من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه الترمذي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم وسيأتي في ص 342 .(7/150)
ص -348- ... الألم الزائل المفارق عن قرب. وهذا لضعف بصيرته فر من ألم أعداء الرسل إلى موافقتهم ومتابعتهم، ففر من ألم عذابهم إلى ألم عذاب الله، فجعل ألم فتنة الناس في الفرار منه بمنزلة عذاب الله، وغُبن كل الغبن إذ استجار من الرمضاء بالنار، وفر من ألم ساعة إلى ألم الأبد، وإذا نصر الله جنده وأولياءه قال: إني كنت معكم، والله أعلم بما انطوى عليه صدره من النفاق". انتهى.
وفي الآية رد على المرجئة والكرامية. ووجهه: أنه لم ينفع هؤلاء قولهم: آمنا بالله. مع عدم صبرهم على أذى من عاداهم في الله، فلا ينفع القول والتصديق بدون العمل. فلا يصدق الإيمان الشرعي على الإنسان إلا باجتماع الثلاثة: التصديق بالقلب وعمله، والقول باللسان، والعمل بالأركان. وهذا قول أهل السنة والجماعة سلفا وخلفا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وفيه الخوف من مداهنة الخلق في الحق. والمعصوم من عصمه الله.
قوله: " عن أبي سعيد مرفوعا. " إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله; إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره " 1".
هذا الحديث رواه أبو نعيم في الحلية والبيهقي، وأعله بمحمد بن مروان السدي وقال: ضعيف. وفيه أيضا عطية العوفي: ذكره الذهبي في الضعفاء والمتروكين. ومعنى الحديث صحيح، وتمامه: " وإن الله بحكمته جعل الروح والفرح في الرضى واليقين، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط " 2.
قوله: "إن من ضعف اليقين" الضعف بضم ويحرك، ضد القوة، ضعف ككرم ونصر، ضعفا، وضعفة، وضعافية، فهو ضعيف وضعوف وضعفان. والجمع: ضعاف وضعفاء وضعفة وضعفى، أو الضعَف - بالفتح- في الرأي وبالضم في البدن، فهي ضعيفة وضعوف. و "اليقين" كمال الإيمان. قال ابن مسعود: " اليقين الإيمان كله، والصبر نصف الإيمان " رواه أبو نعيم في الحلية، والبيهقي في الزهد من حديثه مرفوعا: قال: ويدخل في ذلك تحقيق الإيمان بالقدر(7/151)
السابق، كما في حديث ابن عباس مرفوعا. 3" فإن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ضعيف. أبو نعيم في الحلية (5/ 106), (10/ 41)، والبيهقي في الشعب (1/ 151 , 152). وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (2007).
2 صحيح موقوفا. وعلقه البخاري في صحيحه (1/ 47) كتاب الإيمان. وقال الحافظ في الفتح (1/ 48): وصله الطبراني بسند صحيح.. "وأخرجه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في الزهد من حديثه مرفوعا ولا يثبت رفعه" ا.هـ.
3 ضعيف. الرواية الأولى جزء من حديث رواه الحاكم (3/ 541)، وأبو نعيم في الحلية (1/ 314) بإسناد ضعيف. والرواية الثانية أخرجها الآجري في الشريعة ص (198) بسند ضعيف أيضا، والحديث ضعفه ابن رجب في جامع العلوم والحكم ص (184).(7/152)
ص -349- ... استطعت أن تعمل بالرضى في اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا ". وفي رواية " قلت: يا رسول الله كيف أصنع باليقين؟ قال: أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك "1 .
قوله: "أن ترضي الناس بسخط الله" أي تؤثر رضاهم على رضا الله، وذلك إذا لم يقم بقلبه من إعظام الله وإجلاله وهيبته، ما يمنعه من استجلاب رضا المخلوق بما يجلب له سخط خالقه وربه ومليكه الذي يتصرف في القلوب، ويفرج الكروب ويغفر الذنوب. وبهذا الاعتبار يدخل في نوع من الشرك؛ لأنه آثر رضا المخلوق على رضا الله، وتقرب إليه بما يسخط الله، ولا يسلم من هذا إلا من سلمه الله، ووفقه لمعرفته ومعرفة ما يجوز على الله من إثبات صفاته على ما يليق بجلاله، وتنزيهه تعالى عن كل ما ينافي كماله، ومعرفة توحيده من ربوبيته وإلهيته وبالله التوفيق.
قوله: "وأن تحمدهم على رزق الله" أي على ما وصل إليك من أيديهم، بأن تضيفه إليهم وتحمدهم عليه. فإن المتفضل في الحقيقة هو الله وحده الذي قدره لك وأوصله إليك، وإذا أراد أمرا قيّض له أسبابا. ولا ينافي هذا حديث:
" من لا يشكر الناس لا يشكر الله "23؛ لأن شكرهم إنما هو بالدعاء لهم لكون الله ساقه على أيديهم فتدعو لهم أو تكافئهم; لحديث: " ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه " 4 5. فإضافة الصنيعة إليهم لكونهم صاروا سببا في إيصال المعروف إليك، والذي قدره وساقه هو الله وحده.
قوله: "وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله"؛ لأنه لم يقدر لك ما طلبته على أيديهم، فلو قدره لك لساقته المقادير إليك. فمن علم أن المتفرد بالعطاء والمنع هو الله وحده، وأنه هو الذي يرزق العبد بسبب وبلا سبب، ومن حيث لا يحتسب، لم يمدح مخلوقا على رزق ولم يذمه على منع، ويفوض أمره إلى الله، ويعتمد عليه في أمر دينه ودنياه. وقد قرر النبي هذا(7/153)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الإيمان (26) , ومسلم : الإيمان (83) , والترمذي : فضائل الجهاد (1658) , والنسائي : مناسك الحج (2624) والجهاد (3130) , وأحمد (2/264) , والدارمي : الجهاد (2393).
2 البخاري : الجهاد والسير (2786) , ومسلم : الإمارة (1888) , والترمذي : فضائل الجهاد (1660) , والنسائي : الجهاد (3105) , وأبو داود : الجهاد (2485) , وابن ماجه : الفتن (3978) , وأحمد (3/37).
3 رواه أبو داود والترمذي - وقال: حسن صحيح - ، وابن حبان عن أبي هريرة.
4 صحيح. جزء من حديث ابن عمر أوله: "من استعاذكم بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه, ومن صنع... الحديث". رواه أبو داود: كتاب الزكاة (1673): باب عطية من سأل بالله. والنسائي: كتاب الزكاة (5/ 82): باب من سأل بالله عز وجل. وقال الأرناؤوط في تخريج جامع الأصول (11/ 692) وإسناده صحيح ا.هـ. وصححه الألباني في الصحيحة (254).
5 رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح. كذا في كشف الخفاء.(7/154)
ص -350- ... المعنى بقوله في الحديث: " إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره ". كما قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}1 .
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: " اليقين يتضمن اليقين في القيام بأمر الله وما وعد الله أهل طاعته، ويتضمن اليقين بقدر الله وخلقه وتدبيره، فإذا أرضيتهم بسخط الله لم تكن موقنا لا بوعده ولا برزقه؛ فإنه إنما يحمل الإنسان على ذلك إما ميل إلى ما في أيديهم، فيترك القيام فيهم بأمر الله لما يرجوه منهم، وإما ضعف تصديقه بما وعد الله أهل طاعته من النصر والتأييد والثواب في الدنيا والآخرة. فإنك إذا أرضيت الله نصرك ورزقك وكفاك مئونتهم. وإرضاؤهم بما يسخطه إنما يكون خوفا منهم ورجاء لهم، وذلك من ضعف اليقين. وإذا لم يقدر لك ما تظن أنهم يفعلونه معك فالأمر في ذلك إلى الله لا لهم. فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فإذا ذممتهم على ما لم يقدّر كان
وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من التمس رضا الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس "2 رواه ابن حبان في صحيحه.
ذلك من ضعف يقينك، فلا تخفهم ولا ترجهم ولا تذمهم من جهة نفسك وهواك; ولكن من حمده الله ورسوله منهم فهو المحمود، ومن ذمه الله ورسوله منهم فهو المذموم. ولما قال بعض وفد بني تميم: "أي محمد أعطني؛ فإن حمدي زَيْن وذَمِّي شَين ". قال النبي صلى الله عليه وسلم " ذاك الله " 3. ودل الحديث على أن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأعمال من مسمى الإيمان".
قوله: "وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من التمس رضا الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله،(7/155)
سخط الله عليه وأسخط عليه الناس ". رواه ابن حبان في صحيحه".
هذا الحديث رواه ابن حبان بهذا اللفظ، ورواه الترمذي عن رجل من أهل المدينة قال: "كتب معاوية رضي الله عنه إلى عائشة -رضي الله عنها-: أن اكتبي لي كتابا توصيني فيه، ولا تكثري علي، فكتبت عائشة -رضي الله عنها- إلى معاوية: سلام عليك، أما بعد:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة فاطر آية : 2.
2 صحيح. ابن حبان (1542- موارد). والترمذي: كتاب الزهد (2414) باب (64). وصححه الألباني في صحيح الجامع (5973).
3 حسن. أحمد (3/ 488), (6/ 393 , 394) عن الأقرع بن حابس, والترمذي كتاب التفسير (3267): باب ومن سورة الحجرات وقال: حديث حسن غريب من حديث البراء, وحسنه الأرناؤوط في تخريج جامع الأصول (2/ 363).(7/156)
ص -351- ... فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من التمس رضا الله بسخط الناس، كفاه الله مئونة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، وكله الله إلى الناس ". والسلام عليك. ورواه أبو نعيم في الحلية.
قوله: "من التمس" أي طلب.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية آل عمران.
الثانية: تفسير آية براءة.
الثالثة: تفسير آية العنكبوت.
الرابعة: أن اليقين يضعف ويقوى.
قال شيخ الإسلام: " وكتبت عائشة إلى معاوية، وروي أنها رفعته: " من أرضى الله بسخط الناس، كفاه الله مئونة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله، لم يغنوا عنه من الله شيئا ". هذا لفظ المرفوع. ولفظ الموقوف: "من أرضى الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذاما". وهذا من أعظم الفقه في الدين؛ فإن من أرضى الله بسخطهم كان قد اتقاه وكان عبده الصالح، والله يتولى الصالحين، والله كاف عبده {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاًوَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}1. والله يكفيه مئونة الناس بلا ريب. وأما كون الناس كلهم يرضون عنه قد لا يحصل ذلك; لكن يرضون عنه إذا سلموا من الأغراض ،وإذا تبين لهم العاقبة. "ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا" كالظالم الذي يعض على يديه. وأما كون حامده ينقلب ذاما، فهذا يقع كثيرا ويحصل في العاقبة. فإن العاقبة للتقوى لا تحصل ابتداء عند أهوائهم". اهـ.
وقد أحسن من قال:
إذا صح منك الود يا غاية المنى ... فكل الذي فوق التراب تراب
قال ابن رجب -رحمه الله-: فمن تحقق أن كل مخلوق فوق التراب فهو تراب، فكيف يقدم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الطلاق آية : 2-3.(7/157)
ص -352- ... طاعة من هو تراب على طاعة رب الأرباب؟ أم كيف يرضى التراب بسخط الملك الوهاب؟ إن هذا لشيء عجاب.
وفي الحديث: عقوبة من خاف الناس وآثر رضاهم على الله، وأن العقوبة قد تكون في الدين، عياذا بالله من ذلك. كما قال تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكَذِبُونَ}1 .
الخامسة: علامة ضعفه. ومن ذلك هذه الثلاث.
السادسة: أن إخلاص الخوف لله من الفرائض.
السابعة: ذكر ثواب من فعله.
الثامنة: ذكر عقاب من تركه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية : 77.(7/158)
باب: قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}". قال أبو السعادات: " يقال: توكل بالأمر. إذا ضمن القيام به; ووكلت أمري إلى فلان. إذا اعتمدت عليه; ووكل فلان فلانا إذا استكفاه أمره ثقة بكفايته; أو عجزا عن القيام بأمر نفسه". اهـ.
وأراد المصنف -رحمه الله- بهذه الترجمة بالآية بيان أن التوكل فريضة يجب إخلاصه لله تعالى; فإن تقديم المعمول يفيد الحصر. أي وعلى الله فتوكلوا لا على غيره، فهو من أجمع أنواع العبادة وأعظمها، لما ينشأ عنه من الأعمال الصالحة، فإنه إذا اعتمد على الله في جميع أموره الدينية والدنيوية، دون كل من سواه صح إخلاصه ومعاملته مع الله تعالى، فهو من أعظم منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}2. فلا يحصل كمال التوحيد بأنواعه الثلاثة إلا بكمال التوكل على الله; كما في هذه الآية، وكما قال تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ}3. وقوله: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً}4. والآيات في الأمر به كثيرة جدا. قال الإمام أحمد رحمه الله: "التوكل عمل القلب".
وقال ابن القيم في معنى الآية المترجم بها: فجعل التوكل على الله شرطا في الإيمان فدل على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية : 23.
2 سورة الفاتحة آية : 5.
3 سورة يونس آية : 84.
4 سورة المزمل آية : 9.(7/159)
ص -353- ... انتفاء الإيمان عند انتفائه; وفي الآية الأخرى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ}1. فجعل دليل صحة الإسلام التوكل، وكلما قوي إيمان العبد كان توكله أقوى، وإذا ضعف الإيمان ضعف التوكل، وإذا كان التوكل ضعيفا كان دليلا على ضعف الإيمان ولا بد. والله تعالى يجمع بين التوكل والعبادة، وبين التوكل والإيمان وبين التوكل والتقوى، وبين التوكل والإسلام، وبين التوكل والهداية.
وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}2 .
فظهر أن التوكل أصل لجميع مقامات الإيمان والإحسان، ولجميع أعمال الإسلام، وأن منزلته منها كمنزلة الجسد من الرأس، فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن فكذلك لا يقوم الإيمان ومقاماته وأعماله إلا على ساق التوكل.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: وما رجا أحد مخلوقا ولا توكل عليه إلا خاب ظنه فيه؛ فإنه مشرك {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}3 .
قال الشارح -رحمه الله تعالى-: قلت: لكن التوكل على الله قسمان: أحدهما: التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلاّ الله، كالذين يتوكلون على الأموات والطواغيت في رجاء مطالبهم من نصر، أو حفظ أو رزق أو شفاعة. فهذا شرك أكبر.
الثاني: التوكل في الأسباب الظاهرة، كمن يتوكل على أمير أو سلطان فيما أقدره الله تعالى عليه من رزق، أو دفع أذى ونحو ذلك، فهو نوع شرك أصغر. والوكالة الجائزة هي توكيل الإنسان الإنسان في فعل ما يقدر عليه نيابة عنه، لكن ليس له أن يعتمد عليه في حصول ما وُكل فيه، بل يتوكل على الله في تيسير أمره الذي يطلبه بنفسه أو نائبه،(7/160)
وذلك من جملة الأسباب التي يجوز فعلها، ولا يعتمد عليها بل يعتمد على المسبب الذي أوجد السبب والمسبب.
قال: "وقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآيات".
قال ابن عباس في الآية: "المنافقون لا يدخل في قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه، ولا يؤمنون بشيء من آيات الله، ولا يتوكلون على الله، ولا يصلون إذا غابوا،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يونس آية : 84.
2 سورة الأنفال آية : 2.
3 سورة الحج آية : 31.(7/161)
ص -354- ... ولا يؤدون زكاة أموالهم، فأخبر الله أنهم ليسوا بمؤمنين، ثم وصف المؤمنين فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}، فأدوا فرائضه" 1. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. ووجل القلب من الله يستلزم القيام بفعل ما أمر به وترك ما نهى
وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}2 .
عنه. قال السدي: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}3 هو الرجل يريد أن يظلم، أو قال: يهم بمعصية، فيقال له: اتق الله، اتّق الله، فيجل قلبه4 . رواه ابن أبي شيبة وابن جرير.
قوله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً}5. استدل الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعون، ومن تبعهم من أهل السنة بهذه الآية ونظائرها على زيادة الإيمان ونقصانه.
قال عمير بن حبيب الصحابي: " إن الإيمان يزيد وينقص، فقيل له: وما زيادته ونقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله وخشيناه فذلك زيادته، وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه ". رواه ابن سعد.
وقال مجاهد: "الإيمان يزيد وينقص وهو قول وعمل". رواه ابن أبي حاتم. وحكى الإجماع على ذلك الشافعي وأحمد وأبو عبيد وغيرهم رحمهم الله تعالى.
قوله: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي يعتمدون عليه بقلوبهم مفوضين إليه أمورهم، فلا يرجون سواه ولا يقصدون إلا إياه، ولا يرغبون إلا إليه، يعلمون أن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك وحده، والمعبود وحده لا شريك له. وفي الآية وصف المؤمنين حقا بثلاث مقامات من مقامات الإحسان، وهي: الخوف، وزيادة الإيمان، والتوكل على الله وحده. وهذه المقامات تقتضي كمال الإيمان وحصول أعماله الباطنة والظاهرة. مثال ذلك الصلاة، فمن أقام الصلاة وحافظ عليها وأدى الزكاة كما أمره الله استلزم ذلك العمل بما يقدر عليه من الواجبات وترك جميع المحرمات، كما قال(7/162)
تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ}6.
قال: وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}. قال ابن القيم "-
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تمامه عند ابن جرير: "وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا . يقول: تصديقا. وعلى ربهم يتوكلون. يقول: لا يرجون غيره" .
2 سورة الأنفال آية : 64.
3 سورة الأنفال آية : 2.
4 عند ابن جرير: هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية, أحسبه قال: فينزع عنه.
5 سورة الأنفال آية : 2.
6 سورة العنكبوت آية : 45.(7/163)
ص -355- ... رحمه الله-: " أي الله وحده كافيك وكافي أتباعك، فلا تحتاجون معه إلى أحد". وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وقوله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}1.
وقيل: المعنى حسبك الله وحسبك المؤمنون.
قال ابن القيم -رحمه الله-: " وهذا خطأ محض لا يجوز حمل الآية عليه; فإن الحسب والكفاية لله وحده كالتوكل والتقوى والعبادة. قال الله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ}2. ففرق بين الحسب والتأييد، فجعل الحسب له وحده، وجعل التأييد له بنصره وبعباده، وأثنى على أهل التوحيد من عباده حيث أفردوه بالحسب، فقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}3. ولم يقولوا: حسبنا الله ورسوله. ونظير هذا قوله سبحانه: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ}4. فتأمل كيف جعل الإيتاء لله والرسول، وجعل الحسب له وحده، فلم يقل: وقالوا: حسبنا الله ورسوله، بل جعله خالص حقه، كما قال: {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ}. فجعل الرغبة إليه وحده، كما قال تعالى: {إِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}5. فالرغبة والتوكل والإنابة والحسب لله وحده، كما أن العبادة والتقوى والسجود والنذر والحلف لا يكون إلا له سبحانه وتعالى". انتهى.
وبهذا يتبين مطابقة الآية للترجمة. فإذا كان هو الكافي لعبده وجب ألا يتوكل إلا عليه، ومتى التفت بقلبه إلى سواه وكله الله إلى من التفت إليه، كما في الحديث: " من تعلق شيئا وكل إليه " 6 .
قال: "وقول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}".
قال ابن القيم -رحمه الله- وغيره: أي كافيه. ومن كان(7/164)
الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه، ولا يضره إلا أذى لا بد منه، كالحر والبرد والجوع والعطش. وأما أن يضره بما يبلغ به مراده منه فلا يكون أبدا، وفرق بين الأذى الذي هو في الظاهر إيذاء وفي الحقيقة إحسان وإضرار بنفسه; وبين الضرر الذي يتشفى به منه. قال بعض السلف: " جعل الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الطلاق آية : 3.
2 سورة الأنفال آية : 62.
3 سورة آل عمران آية : 173.
4 سورة التوبة آية : 59.
5 سورة الشرح آية : 8.
6 304- تقدم تخريجه برقم (98).(7/165)
ص -356- ... لكل عمل جزاء من نفسه، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته، فقال: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} فلم يقل: فله كذا وكذا من الأجر كما قال في
وعن ابن عباس قال: " حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}1 " رواه البخاري والنسائي2.
الأعمال، بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه. فلو توكل العبد على الله حق توكله، وكادته السموات والأرض ومن فيهن، لجعل الله له مخرجا، وكفاه رزقه ونصره". انتهى.
وفي أثر رواه أحمد في الزهد عن وهب بن منبه قال: "قال الله عز وجل في بعض كتبه: بعزتي إنه من اعتصم بي فكادته السماوات بمن فيهن والأرضون بمن فيهن، فإني أجعل له من ذلك مخرجا، ومن لم يعتصم بي فإني أقطع يديه من أسباب السماء، وأخسف من تحت قدميه الأرض، فأجعله في الهواء ثم أكله إلى نفسه، كفى بي لعبدي مآلا. إذا كان عبدي في طاعتي أعطيه قبل أن يسألني، وأستجيب له قبل أن يدعوني، فأنا أعلم بحاجته التي نرفق به منه".
وفي الآية دليل على فضل التوكل، وأنه أعظم الأسباب في جلب المنافع ودفع المضار؛ لأن الله تعالى علق الجملة الأخيرة على الأولى تعليق الجزاء على الشرط، فيمتنع أن يكون وجود الشرط كعدمه؛ لأن الله تعالى رتب الحكم على الوصف المناسب له، فعلم أن توكله هو سبب كون الله حسبا له.
وفيها: تنبيه على القيام بالأسباب مع التوكل؛ لأنه تعالى ذكر التقوى ثم ذكر التوكل; كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}3. فجعل التوكل مع التقوى الذي هو قيام الأسباب المأمور بها. فالتوكل بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجز محض، وإن كان مشوبا بنوع من(7/166)
التوكل، فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكله عجزا ولا عجزه توكلا، بل يجعل توكله من جملة الأسباب التي لا يتم المقصود إلا بها كلها. ذكره ابن القيم بمعناه.
قال: "وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: " حسبنا الله ونعم الوكيل ". قالها
إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية : 173.
2 البخاري: كتاب التفسير (4563): باب الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم، والنسائي في التفسير من الكبرى ( كما في تحفة الأشراف (5/ 238 ).
3 سورة المائدة آية : 11.(7/167)
ص -357- ... جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}1 رواه البخاري.
قوله "حسبنا الله" أي كافينا، فلا نتوكل إلا عليه. قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}2 .
قوله: {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} أي نعم الموكول إليه، كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}3 ومخصوص "نعم" محذوف تقديره "هو".
قال ابن القيم -رحمه الله-: " هو حسب من توكل عليه وكافي من لجأ إليه، وهو الذي يؤمن خوف الخائف، ويجير المستجير، فمن تولاه واستنصر به وتوكل عليه; وانقطع بكليته إليه تولاه وحفظه وحرسه وصانه. ومن خافه واتقاه، أمنه مما يخاف ويحذر، ويجلب إليه ما يحتاج إليه من المنافع".
قوله: "قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار". قال تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ}4 .
قوله: "وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}". وذلك بعد منصرف قريش والأحزاب من أُحد "بلغه أن أبا سفيان ومن معه قد أجمعوا الكرة عليهم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم في سبعين راكبا حتى انتهى إلى حمراء الأسد، فألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان، فرجع إلى مكة بمن معه، ومر به ركب من عبد القيس فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينة. قال: فهل أنتم مبلغون محمدا عني رسالة؟ قالوا: نعم. قال: فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم. فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبو(7/168)
سفيان. فقال: حسبنا والله ونعم الوكيل ". ففي هاتين القصتين فضل هذه الكلمة العظيمة، وأنها قول الخليلين -عليهما الصلاة والسلام- في الشدائد. وجاء في الحديث:
فيه مسائل:
الأولى: أن التوكل من الفرائض.
الثانية: أنه من شروط الإيمان.
الثالثة: تفسير آية الأنفال.
الرابعة: تفسير الآية في آخرها.
الخامسة: تفسير آية الطلاق.
السادسة: عظم شأن هذه الكلمة: أنها قول إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم في الشدائد.
" إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل " 5.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية : 173.
2 سورة الزمر آية : 36.
3 سورة الحج آية : 78.
4 سورة الأنبياء آية : 86-87-88.
5ضعيف. رواه أحمد (1/326)، وابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا كما في الجامع الصغير، وضعفه المناوي في فيض القدير (1/ 455)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (829).(7/169)
ص -358- ... باب: قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}1 .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: " باب قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}". قصد المصنف -رحمه الله- بهذه الآية التنبيه على أن الأمن من مكر الله من أعظم الذنوب، وأنه ينافي كمال التوحيد، كما أن القنوط من رحمة الله كذلك، وذلك يرشد إلى أن المؤمن يسير إلى الله بين الخوف والرجاء، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، وأرشد إليه سلف الأمة والأئمة.
ومعنى الآية: أن الله -تبارك وتعالى- لما ذكر حال أهل القرى المكذبين للرسل بيّن أن الذي حملهم على ذلك هو الأمن من مكر الله وعدم الخوف منه، كما قال تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}2 أي الهالكون. وذلك أنهم أمنوا مكر الله لما استدرجهم بالسراء والنعم، فاستبعدوا أن يكون ذلك مكرا.
قال الحسن -رحمه الله-: " من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له " .
وقال قتادة: " بَغَت القومَ أمر الله، وما أخذ الله قوما قط إلا عند سلوتهم ونعمتهم وغرتهم. فلا تغتروا بالله " 3.
وفي الحديث: " إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج "4. رواه أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم.
وقوله: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} 5 .
وقال إسماعيل بن رافع: " من الأمن من مكر الله إقامة العبد على الذنب يتمنى على الله(7/170)
المغفرة" " رواه ابن أبي حاتم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 99.
2 سورة الأعراف آية : 97-98-99.
3 307- صحيح. أحمد (4/ 145)، وابن جرير في تفسيره (7/ 115). وحسنه العراقي في تخريج الإحياء (4/ 132)، وصححه العلامة الألباني في الصحيحة (413).
4 البخاري : التوحيد (7423) , وأحمد (2/335 ,2/339).
5 سورة الحجر آية : 56.(7/171)
ص -359- ... وهذا هو تفسير المكر في قول بعض السلف: " يستدرجهم الله بالنعم إذا عصوه، ويملي لهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر".
وهذا هو معنى المكر والخديعة ونحو ذلك، ذكره ابن جرير بمعناه.
قال: "وقول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}". القنوط: استبعاد الفرج واليأس منه، وهو يقابل الأمن من مكر الله، وكلاهما ذنب عظيم، وتقدم ما فيه لمنافاته لكمال التوحيد.
وذكر المصنف -رحمه الله تعالى- هذه الآية مع التي قبلها تنبيها على أنه لا يجوز لمن خاف الله أن يقنط من رحمته، بل يكون خائفا راجيا، يخاف ذنوبه ويعمل بطاعته، ويرجو رحمته، كما قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}1. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}2. فالرجاء مع المعصية وترك الطاعة غرور من الشيطان، ليوقع العبد في المخاوف مع ترك الأسباب المنجية من المهالك، بخلاف حال أهل الإيمان الذين أخذوا بأسباب النجاة خوفا من الله تعالى وهربا من عقابه; وطمعا في المغفرة ورجاء لثوابه.
والمعنى: أن الله تعالى حكى قول خليله إبراهيم -عليه السلام-، لما بشرته الملائكة بابنه إسحاق {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ}3؛ لأن العادة أن الرجل إذا كبر سنه وسن زوجته استبعد أن يولد له منها، والله على كل شيء قدير. فقالت الملائكة: " {بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ}4 الذي لا ريب فيه؛ فإن الله إذا أراد شيئا إنما يقول له: كن فيكون. {فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ}5 أي من الآيسين، فقال -عليه السلام-: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ} فإنه يعلم من قدرة الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك وأعظم;(7/172)
لكنه- والله أعلم- قال ذلك على وجه التعجب.
قوله: {إِلا الضَّالُّونَ} قال بعضهم: إلا المخطئون طريق الصواب، أو إلا الكافرون.
وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر فقال: " الشرك بالله واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله " .
كقوله: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}6.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية : 9.
2 سورة البقرة آية : 218.
3 سورة الحجر آية : 54.
4 سورة الحجر آية : 55.
5 سورة الحجر آية : 55.
6 سورة يوسف آية : 87.(7/173)
ص -360- ... قوله: "وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر؟ فقال: " الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله " 1". هذا الحديث رواه البزار وابن أبي حاتم من طريق شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس، ورجاله ثقات إلا شبيب بن بشر. فقال ابن معين: ثقة. ولينه أبو حاتم. وقال ابن كثير: في إسناده نظر، والأشبه أن يكون موقوفا.
قوله: "الشرك بالله" هو أكبر الكبائر. قال ابن القيم -رحمه الله-: " الشرك بالله هضم للربوبية وتنقص للإلهية، وسوء ظن برب العالمين". انتهى.
ولقد صدق ونصح. قال تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}2 وقال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}3. ولهذا لا يغفره الله إلا بالتوبة منه.
قوله: "واليأس من روح الله" أي قطع الرجاء والأمل من الله فيما يخافه ويرجوه، وذلك إساءة ظن بالله، وجهل به وبسعة رحمته وجوده ومغفرته.
قوله: "والأمن من مكر الله" أي من استدراجه للعبد وسلبه ما أعطاه من الإيمان، نعوذ بالله من ذلك. وذلك جهل بالله وبقدرته، وثقة بالنفس وعجب بها.
واعلم أن هذا الحديث لم يرد به حصر الكبائر في الثلاث، بل الكبائر كثيرة، وهذه الثلاث من أكبر الكبائر المذكورة في الكتاب والسنة، وضابطها ما قاله المحققون من العلماء: كل ذنب ختمه الله بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب. زاد شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: أو نفي الإيمان. قلت: ومن برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال: " ليس منا من فعل كذا وكذا " .
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما-: " هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار " .
وعن ابن مسعود قال: " أكبر الكبائر: الإشراك بالله،(7/174)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حسن. البزار (106- كشف الأستار)، وابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (1/ 485). وحسنه العراقي في تخريج الإحياء (4/ 17)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4479).
2 سورة الأنعام آية : 1.
3 سورة لقمان آية : 13.(7/175)
ص -361- ... والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله ". رواه عبد الرزاق1.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الأعراف.
الثانية: تفسير آية الحجر.
الثالثة: شدة الوعيد فيمن أمن مكر الله.
الرابعة: شدة الوعيد في القنوط.
قوله: وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله " رواه عبد الرزاق.
ورواه ابن جرير بأسانيد صحاح عن ابن مسعود رضي الله عنه .
قوله: "أكبر الكبائر الإشراك بالله" أي في ربوبيته أو عبادته. وهذا بالإجماع.
قوله: "والقنوط من رحمة الله" قال أبو السعادات: هو أشد اليأس. وفيه التنبيه على الرجاء والخوف، فإذا خاف فلا يقنط ولا ييأس، بل يرجو رحمة الله. وكان السلف يستحبون أن يقوى في الصحة الخوف، وفي المرض الرجاء. وهذه طريقة أبي سليمان الداراني وغيره. قال: ينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف، فإذا غلب الرجاء الخوف فسد القلب. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}2. وقال: {يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ}3. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}4. وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}5 الآية. قدم الحذر على الرجاء في هذه الآية.(7/176)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح. عبد الرزاق (10/ 459 , 460)، وابن جرير (5/ 26). وقال ابن كثير في تفسيره (1/ 484): "وهو صحيح إليه بلا شك" ا.هـ. وقال الهيثمي (1/ 104): "وإسناده صحيح" ا.هـ.
2 سورة الملك آية : 12.
3 سورة النور آية : 37.
4 سورة المؤمنون آية : 60-61.
5 سورة الزمر آية : 9.
باب: " من الإيمان بالله: الصبر على أقدار الله"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله". قال الإمام أحمد: ذكر الله تعالى الصبر في تسعين موضعا من كتابه. وفي الحديث الصحيح: " الصبر ضياء " 1. رواه أحمد ومسلم. وللبخاري ومسلم مرفوعا: " ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر "2 .
قال عمر رضي الله عنه: " وجدنا خير عيشنا بالصبر " 3رواه البخاري.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من حديث أبي مالك الأشعري مسلم: كتاب الطهارة (223) (1): باب فضل الوضوء، وأحمد (5/ 343 , 344).
2 البخاري : الزكاة (1469) , ومسلم : الزكاة (1053) , والترمذي : البر والصلة (2024) , والنسائي : الزكاة (2588) , وأبو داود : الزكاة (1644) , وأحمد (3/93) , ومالك : الجامع (1880) , والدارمي : الزكاة (1646).
3 البخاري معلقا (11/ 303) كتاب الرقاق. وقال الحافظ في الفتح (11/ 303): وقد وصله أحمد في كتاب الزهد بسند صحيح عن مجاهد قال: قال عمر..." ا.هـ.(7/177)
ص -362- ... قال علي رضي الله عنه: " إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد - ثم رفع صوته- فقال: ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له ". واشتقاقه: من صبر إذا حبس ومنع. والصبر: حبس النفس عن الجزع، وحبست اللسان عن التشكي والتسخط، والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحوهما. ذكره ابن القيم -رحمه الله-. واعلم أن الصبر ثلاثة أقسام: صبر على ما أمر الله به، وصبر عما نهى عنه، وصبر على ما قدره من المصائب.
وقوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}1. قال علقمة: " هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم".
قوله: "وقول الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}".
وأول الآية: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ}2 أي بمشيئته وإرادته وحكمته، كما قال في الآية الأخرى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}3 وقال: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}4. قوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}. قال ابن عباس في قوله: {إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} "إلا بأمر الله" يعني عن قدره ومشيئته. {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} أي من صابته مصيبة فعلم أنها بقدر الله فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله، هدى الله قلبه، وعوضه عما فاته من الدنيا هدى في قلبه، ويقينا صادقا. وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه.
قوله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}5 تنبيه على أن ذلك إنما يصدر عن علمه المتضمن لحكمته، وذلك يوجب الصبر والرضا.
قوله: "قال علقمة: " هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم(7/178)
أنها من عند الله فيرضى ويسلم ".
هذا الأثر رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. وعلقمة: هو ابن قيس بن عبد الله النخعي الكوفي. ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وسمع من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وابن مسعود وعائشة وغيرهم -رضي الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التغابن آية : 11.
2 سورة التغابن آية : 11.
3 سورة الحديد آية : 22.
4 سورة البقرة آية : 156-157.
5 سورة البقرة آية : 282.(7/179)
ص -363- ... عنهم-. وهو من كبار التابعين وأجلائهم وعلمائهم وثقاتهم مات بعد الستين.
قوله: "هو الرجل تصيبه المصيبة" إلخ. هذا الأثر رواه الأعمش عن أبي ظبيان، قال: كنا عند علقمة فقرئ عليه هذه الآية {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}1 قال: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم. هذا سياق ابن جرير.
وفي هذا دليل على أن الأعمال من مسمى الإيمان. قال سعيد بن جبير: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} يعني يسترجع. يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. وفي الآية بيان أن الصبر سبب لهداية القلب، وأنها ثواب الصابرين.
قوله: "وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت " 2". أي هما بالناس كفر حيث كانتا من أعمال الجاهلية، وهما قائمتان بالناس ولا يسلم منهما إلا من سلمه الله تعالى ورزقه علما وإيمانا يستضيء به. لكن ليس من قام به شعبة من شعب الكفر يصير كافرا كالكفر المطلق، كما أنه ليس من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمنا الإيمان المطلق. وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله: " ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة " 3 4 وبين كفر منكر في الإثبات.
قوله: "الطعن في النسب" أي عيبه، يدخل فيه أن يقال: هذا ليس ابن فلان مع ثبوت نسبه.
هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت "5 .
ولهما عن ابن مسعود مرفوعا: " ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية "6 .
قوله: "والنياحة على الميت" أي رفع الصوت بالندب وتعداد فضائل الميت، لما فيه من التسخط على القدر المنافي للصبر، كقول النائحة: واعضداه، واناصراه، ونحو ذلك. وفيه دليل على أن الصبر واجب، وأن من الكفر ما لا ينقل عن الملة.
قوله: "ولهما عن ابن مسعود مرفوعا: " ليس منا من ضرب الخدود; وشق(7/180)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التغابن آية : 11.
2 مسلم: كتاب الإيمان (67) (121): باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة.
3 أخرجه مسلم: كتاب الإيمان (82) (134): باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة، وذلك من حديث جابر بن عبد الله مرفوعا بلفظ: "إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة". أما الرواية بهذا اللفظ فهي عند ابن ماجة من حديث أنس (1080).
4 رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن جابر بن عبد الله بألفاظ متقاربة.
5 مسلم : الإيمان (67) , وأحمد (2/496).
6 البخاري : الجنائز (1297) , ومسلم : الإيمان (103) , والترمذي : الجنائز (999) , والنسائي : الجنائز (1860 ,1862 ,1864) , وابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1584) , وأحمد (1/386 ,1/432).(7/181)
ص -364- ... الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية ". هذا من نصوص الوعيد، وقد جاء عن سفيان الثوري وأحمد كراهية تأويلها ليكون أوقع في النفوس; وأبلغ في الزجر، وهو يدل على أن ذلك ينافي كمال الإيمان الواجب.
قوله: "من ضرب الخدود" وقال الحافظ: " خُص الخد لكونه الغالب، وإلا فضرب بقية الوجه مثله". قوله: "وشق الجيوب" هو الذي يدخل فيه الرأس من الثوب، وذلك من عادة أهل الجاهلية حزنا على الميت.
قوله: "ودعا بدعوى الجاهلية" قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: هو ندب الميت. وقال غيره: هو الدعاء بالويل والثبور. وقال ابن القيم -رحمه الله-: " الدعاء بدعوى الجاهلية كالدعاء إلى القبائل والعصبية، ومثله التعصب إلى المذاهب والطوائف والمشايخ، وتفضيل بعضهم على بعض، يدعو إلى ذلك ويوالي عليه ويعادي، فكل هذا من دعوى الجاهلية".
وعند ابن ماجه وصححه ابن حبان عن أبي أمامة: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الخامشة وجهها، والشاقة جيبها، والداعية بالويل والثبور " 1.
وهذا يدل على أن هذه الأمور من الكبائر، وقد يعفى عن الشيء اليسير من ذلك إذا كان صدقا، وليس على وجه النوح والتسخط. نص عليه أحمد -رحمه الله-؛ لما وقع لأبي بكر وفاطمة -رضي الله عنهما- لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وليس في هذه الأحاديث ما يدل على النهي عن البكاء، لما في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم قال: " تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون " 2 3 وفي الصحيحين.
عن أسامة بن زيد رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق إلى إحدى بناته4 ولها صبي في الموت، فرفع إليه ونفسه تقعقع كأنها شن، ففاضت عيناه، فقال سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء " 5 .(7/182)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حسن. ابن ماجة: كتاب الجنائز (1585): باب ما جاء في النهي عن ضرب الخدود وشق الجيوب وابن حبان (737- موارد) وصححه البوصيري في الزوائد. وحسنه الألباني في صحيح الجامع (4968).
2 البخاري: كتاب الجنائز (1303): باب قول النبي صلى الله عليه وسلم إنا بك لمحزونون مسلم: كتاب الفصائل (2315) (62): باب رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال.
3 رواه البخاري وغيره.
4 هي زينب كما في صحيح البخاري.
5 البخاري: كتاب الجنائز (1284): باب قول النبي صلى الله عليه وسلم يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه.... مسلم: كتاب الجنائز (923) (11): باب البكاء على الميت.(7/183)
ص -365- ... قوله: "وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة " 1 .
هذا الحديث رواه الترمذي والحاكم. وحسنه الترمذي. وأخرجه الطبراني والحاكم عن عبد الله بن مغفل. وأخرجه ابن عدي عن أبي هريرة، والطبراني عن عمار بن ياسر.
قوله: " إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا ". أي يصب عليه البلاء والمصائب لما فرط من الذنوب منه، فيخرج منها وليس عليه ذنب يوافي به يوم القيامة.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: المصائب نعمة؛ لأنها مكفرات للذنوب، وتدعو إلى الصبر فيثاب عليها. وتقتضي الإنابة إلى الله والذل له; والإعراض عن الخلق، إلى غير ذلك من المصالح العظيمة. فنفس البلاء يكفر الله به الذنوب والخطايا وهذا من أعظم النعم. فالمصائب رحمة ونعمة في حق عموم الخلق، إلا أن يدخل صاحبها بسببها في معاصي أعظم مما كان قبل ذلك، فيكون شرا عليه من جهة ما أصابه في دينه، فإن من الناس من إذا ابتلي بفقر أو مرض أو وجع، حصل له من النفاق والجزع ومرض القلب والكفر الظاهر، وترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات ما يوجب له الضرر في دينه، فهذا كانت العافية خيرا له من جهة ما أورثته المصيبة لا من جهة نفس المصيبة، كما أن من أوجبت له المصيبة صبرا وطاعة، كانت في حقه نعمة دينية، فهي بعينها فعل الرب عز وجل ورحمة للخلق، والله تعالى محمود عليها، فمن ابتلي فرزق الصبر كان الصبر عليه نعمة في دينه، وحصل له بعد ما كفر من خطاياه رحمة، وحصل له بثنائه على ربه صلاة ربه عليه، قال تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}2. وحصل له غفران السيئات ورفع الدرجات. فمن قام بالصبر الواجب حصل له ذلك. انتهى ملخصا.
وقال صلى الله عليه وسلم: " إن عظم الجزاء مع عظم البلاء،
قوله: "وإذا(7/184)
أراد بعبده الشر أمسك عنه" أي أخر عنه العقوبة بذنبه. "حتى يوافي به يوم القيامة" وهو بضم الياء وكسر الفاء منصوبا بحتى مبنيا للفاعل.
قال العزيزي:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح. الترمذي: كتاب الزهد (2396): باب ما جاء في الصبر على البلاء. وقال: هذا حديث حسن غريب. والحاكم (1/ 349 , 4/ 376 , 377). وصححه الألباني لشواهده وطرقه في الصحيحة (1220).
2 سورة البقرة آية : 157.(7/185)
ص -366- ... أي لا يجازيه بذنبه في الدنيا حتى يجيء في الآخرة مستوفر الذنوب وافيها، فيستوفي ما يستحقه من العقاب. وهذه الجملة هي آخر الحديث. فأما قوله: " وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن عظم الجزاء مع عظم البلاء " إلى آخره"، فهو أول حديث آخر، لكن لما رواهما الترمذي بإسناد واحد وصحابي واحد جعلهما المصنف كالحديث الواحد.
وفيه التنبيه على حسن الرجاء وحسن الظن بالله فيما يقضيه لك، كما قال تعالى: " {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}1 .
قوله: "وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط ". حسنه الترمذي".
قال الترمذي: حدثنا قتيبة ثنا الليث عن يزيد ابن أبي حبيب عن سعد بن سنان عن أنس، فذكر الحديث السابق ثم قال: وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن عظم الجزاء " الحديث. ثم قال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. ورواه ابن ماجه.
وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم. فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط " 2. حسنه الترمذي.
وروى الإمام أحمد عن محمود بن لبيد رفعه: " إذا أحب الله قوما ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع "3 قال المنذري: رواته ثقات. قوله: "إن عظم الجزاء" بكسر العين وفتح الظاء فيها. ويجوز ضمها مع سكون الظاء أي من كان ابتلاؤه أعظم كمية وكيفية. وقد يحتج بهذا الحديث من يقول: إن المصائب يثاب عليها مع تكفير الخطايا. ورجح ابن القيم أن ثوابها تكفير الخطايا فقط، إلا إذا كانت سببا لعمل صالح، كالصبر والرضا والتوبة والاستغفار، فإنه حينئذ يثاب على ما تولد منها، وعلى هذا يقال في معنى الحديث: إن عظم الجزاء مع عظم البلاء إذا صبر واحتسب.
قوله: "وإن الله إذا أحب(7/186)
قوما ابتلاهم" ولهذا ورد في حديث سعد " سئل صلى الله عليه وسلم أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل; يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 216.
2 حسن. الترمذي: كتاب الزهد (2396): باب ما جاء في الصبر على البلاء. وابن ماجة: كتاب الفتن (4031): باب الصبر على البلاء من حديث أنس. وحسنه الألباني في الصحيحة (146). وحسنه الأرناؤوط في تخريج شرح السنة (5/ 245).
3 صحيح. أحمد (5/ 427 , 429). وقال المنذري في الترغيب (4/ 283)، والهيثمي في المجمع (2/ 291)، والحافظ (10/ 108): "رواته ثقات". وصححه الألباني في صحيح الجامع (282).(7/187)
ص -367- ... الثالثة: الطعن في النسب.
الرابعة: شدة الوعيد فيمن ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية.
الخامسة: علامة إرادة الله بعبده الخير.
السادسة: إرادة الله به الشر.
السابعة: علامة حب الله للعبد.
الثامنة: تحريم السخط.
التاسعة: ثواب الرضا بالبلاء.
قوله: "فمن رضي فله الرضا" أي من الله تعالى; والرضا قد وصف الله تعالى به نفسه في مواضع من كتابه كقوله تعالى: {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}2. ومذهب السلف وأتباعهم من أهل السنة: إثبات الصفات التي وصف الله بها نفسه، ووصفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بجلاله وعظمته إثباتا بلا تمثيل وتنزيها بلا تعطيل، فإذا رضي الله تعالى عنه حصل له كل خير، وسلم من كل شر. والرضى هو أن يسلم العبد أمره إلى الله، ويحسن الظن به، ويرغب في ثوابه، وقد يجد لذلك راحة وانبساطا محبة لله وثقة به، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: " إن الله بقسطه وعدله جعل الروح والفرح في اليقين والرضا، وجعل لهم الحزن في الشك والسخط " .
قوله: "ومن سخط" وهو بكسر الخاء، قال أبو السعادات: السخط: الكراهية للشيء وعدم الرضا به. أي من سخط على الله فيما دبره فله السخط، أي من الله، وكفى بذلك عقوبة. وقد يستدل به على وجوب الرضا، وهو اختيار ابن عقيل. واختار القاضي عدم الوجوب، ورجحه شيخ الإسلام وابن القيم.(7/188)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح. أحمد (1/ 172 , 174 , 180 , 185) والترمذي: كتابه الزهد (2398): باب ما جاء في الصبر على البلاء وقال: حديث حسن صحيح. وابن ماجة: كتاب الفتن (4023): باب الصبر على البلاء والدارمي (2/ 320). ورواه أيضا النسائي في الكبرى [ كما في تحفة الأشراف (3/ 318) ]. وصححه الألباني في الصحيحة (143). وصححه الأرناءوط في تخريج شرح السنة (5/ 245).
2 سورة البينة آية : 8.(7/189)
ص -368- ... قال شيخ الإسلام: ولم يجئ الأمر به كما جاء الأمر بالصبر، وإنما جاء الثناء على أصحابه. قال:
وأما ما يروى: " من لم يصبر على بلائي ولم يرض بقضائي فليتخذ ربا سوائي " 1. فهذا إسرائيلي لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قال شيخ الإسلام: " وأعلى من ذلك- أي من الرضا- أن يشكر الله على المصيبة لما يرى من إنعام الله عليه بها". ا هـ والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ضعيف. أخرجه البيهقي في الشعب (1/ 149 , 150) من حديث أنس -رضي الله عنه- بإسناد ضعيف, ورواه ابن حبان في المجروحين (1/ 327)، والطبراني في الكبير (22/ 320) عن أبي هند الداري، وضعفه ابن حبان. وقال العراقي (كما في فيض القدير 4/ 47): إسناده ضعيف جدا. وراجع النهج السديد (410).(7/190)
باب: " ما جاء في الرياء"
وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب ما جاء في الرياء" .
أي من النهي والتحذير. قال الحافظ: " هو مشتق من الرؤية. والمراد به إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمدون صاحبها. والفرق بينه وبين السمعة: أن الرياء لما يُرى من العمل كالصلاة. والسمعة لما يُسمع كالقراءة والوعظ والذكر، ويدخل في ذلك التحدث بما عمله".
قوله: "وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}" أي ليس لي من الربوبية ولا من الإلهية شيء، بل ذلك كله لله وحده لا شريك له أوحاه إليّ {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} أي يخافه {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الكهف آية : 110.(7/191)
ص -369- ... قوله: "أحدا" نكرة في سياق النهي تعم، وهذا العموم يتناول الأنبياء والملائكة والصالحين والأولياء وغيرهم.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: أما اللقاء فقد فسره طائفة من السلف والخلف بما يتضمن المعاينة، وقالوا: لقاء الله يتضمن رؤيته سبحانه وتعالى يوم القيامة، وذكر الأدلة على ذلك.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في الآية: أي كما أن الله واحد لا إله سواه، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده لا شريك له، فكما تفرد بالإلهية يجب أن يفرد بالعبودية، فالعمل الصالح: هو الخالص من الرياء المقيد بالسنة.
وفي الآية دليل على أن أصل الدين الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم والمرسلين
وعن أبي هريرة مرفوعا: " قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه "1. رواه مسلم.
قبله، هو إفراده تعالى بأنواع العبادة، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}2. والمخالف لهذا الأصل من هذه الأمة أقسام: إما طاغوت ينازع الله في ربوبيته وإلهيته; ويدعو الناس إلى عبادته، أو طاغوت يدعو الناس إلى عبارة الأوثان، أو مشرك يدعو غير الله ويتقرب إليه بأنواع العبادة أو بعضها، أو شاك في التوحيد: أهو حق أم يجوز أن يجعل لله شريك في عبادته؟ أو جاهل يعتقد أن الشرك دين يقرب إلى الله، وهذا هو الغالب على أكثر العوام لجهلهم وتقليدهم من قبلهم، لما اشتدت غربة الدين ونسي العلم بدين المرسلين.
قوله: وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا " قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه ". رواه مسلم.
قوله: "من عمل عملا أشرك معي فيه غيري". أي من قصد بعمله غيري من المخلوقين تركته وشركه. ولابن ماجه: " فأنا بريء وهو الذي أشرك "3. قال الطيبي: " الضمير المنصوب في قوله:(7/192)
"تركته" يجوز أن يرجع إلى العمل".
قال ابن رجب -رحمه الله-: 4 واعلم أن العمل لغير الله أقسام: فتارة يكون رياء محضا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الزهد والرقائق (2985) , وابن ماجه : الزهد (4202) , وأحمد (2/301 ,2/435).
2 سورة الأنبياء آية : 25.
3 ابن ماجه : الزهد (4202) , وأحمد (2/301 ,2/435).
4 في شرح حديث إنما الأعمال بالنيات من جامع العلوم والحكم.(7/193)
ص -370- ... كحال المنافقين. كما قال تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلاً}1. وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر عن مؤمن في فرض الصلاة والصيام. وقد يصدر في الصدقة أو الحج الواجب أو غيرهما من الأعمال الظاهرة أو التي يتعدى نفعها، فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة.
وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه. وذكر أحاديث تدل على ذلك منها: هذا الحديث وحديث شداد بن أوس مرفوعا: " من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك، وإن الله عز وجل يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي، فمن أشرك بي شيئا فإن جِدّة عمله وقليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به. أنا عنه غني " 2. رواه أحمد. وذكر أحاديث في المعنى ثم قال: فإن خالط نية الجهاد مثلا نية غير الرياء، مثل أخذ أجرة الخدمة، أو أخذ شيء من الغنيمة أو التجارة نقص بذلك أجر جهاده ولم يبطل بالكلية.
قال ابن رجب: وقال الإمام أحمد -رحمه الله-: التاجر والمستأجر والمكري أجرهم على قدر ما يخلص من نياتهم في غزواتهم، ولا يكونون مثل من جاهد بنفسه وماله لا يخلط به غيره.
وقال أيضا فيمن يأخذ جُعل الجهاد: إذا لم يخرج لأجل الدراهم فلا بأس، كأنه خرج لدينه إن أُعطي شيئا أخذه. وروى عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: " إذا أجمع أحدكم على الغزو فعوضه الله رزقا فلا بأس بذلك، وأما إن أحدكم أُعطي دراهم غزا وإن لم يعط لم يغز فلا خير في ذلك ".
وروي عن مجاهد -رحمه الله- أنه قال في حج الجمّال وحج الأجير، وحج التاجر: "هو تام لا ينقص من أجرهم شيء". أي لأن قصدهم الأصلي كان هو الحج دون التكسب. قال: وأما إن كان أصل العمل لله ثم طرأ عليه نية الرياء، فإن كان خاطرا ثم دفعه فلا(7/194)
يضره بغير خلاف، وإن استرسل معه فهل يحبط عمله أم لا فيجازى على أصل نيته؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف قد حكاه الإمام أحمد وابن جرير، ورجحا أن عمله لا يبطل بذلك، وأنه
وعن أبي سعيد مرفوعا: " ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الشرك الخفي: يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل "3 رواه أحمد.
يجازى بنيته الأولى، وهو مروي عن الحسن وغيره. وفي هذا المعنى جاء حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أنه سئل عن الرجل يعمل العمل من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية : 142.
2 أحمد (4/ 125 , 126)، والحاكم (4/ 329). وقال الهيثمي: (10/ 221): "وفيه شهر بن حوشب وثقه أحمد وغيره, وضعفه غير واحد".
3 ابن ماجه : الزهد (4204).(7/195)
ص -371- ... الخير يحمده الناس عليه، فقال: تلك عاجل بشرى المؤمن "1. رواه مسلم. انتهى ملخصا. قلت: وتمام هذا المقام يتبين في شرح حديث أبي سعيد إن شاء الله تعالى.
قوله: "وعن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعا: " ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل " 2. رواه أحمد".
وروى ابن خزيمة في صحيحه عن محمود بن لبيد قال: " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس، إياكم وشرك السرائر، قالوا: يا رسول الله، وما شرك السرائر؟ قال: يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه، فذلك شرك السرائر " 3.
قوله: "عن أبي سعيد الخدري" وتقدم.
قوله: "الشرك الخفي" سماه خفيا؛ لأن صاحبه يظهر أن عمله لله وقد قصد به غيره، أو شركه فيه بتزيين صلاته لأجله. وعن شداد بن أوس قال: " كنا نعد الرياء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الكهف.
الثانية: الأمر العظيم في رد العمل الصالح إذا دخله شيء لغير الله.
الثالثة: ذكر السبب الموجب لذلك وهو كمال الغنى.
الرابعة: أن من الأسباب: أنه تعالى خير الشركاء.
الخامسة: خوف النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه من الرياء.
السادسة: أنه فسر ذلك بأن يصلي المرء لله لكن يزينها لما يرى من نظر رجل إليه.
الشرك الأصغر " 4. رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص، وابن جرير في التهذيب، والطبراني والحاكم وصححه.
قال ابن القيم: " وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء والتصنع للخلق والحلف بغير الله، وقول الرجل للرجل: ما شاء الله وشئت، وهذا من الله ومنك، وأنا بالله وبك، وما لي(7/196)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : البر والصلة والآداب (2642) , وابن ماجه : الزهد (4225) , وأحمد (5/156).
2 صحيح. أحمد (3/ 30) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (1/ 17) وصحيح الجامع (2604). ورواه أيضا ابن ماجة: كتاب الزهد (240) باب الرياء والسمعة وحسنه البوصيري في الزوائد.
3 صحيح. ابن خزيمة (937) وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (1/ 17).
4 حسن. الطبراني (7160) والحاكم (4/ 329) وصححه ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1/ 18).(7/197)
ص -372- ... إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا الله وأنت لم يكن كذا وكذا. وقد يكون هذا شركا أكبر بحسب حال قائله ومقصده". انتهى.
ولا خلاف أن الإخلاص شرط لصحة العمل وقبوله، وكذلك المتابعة، كما قال الفضيل بن عياض -رحمه الله- في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}1. قال: "أخلصه وأصوبه، قيل: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا، فالخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة".
وفي الحديث عن الفوائد: شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ونصحه لهم، وأن الرياء أخوف على الصالحين من فتنة الدجال. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يخافه على سادات الأولياء مع قوة إيمانهم وعلمهم، فغيرهم ممن هو دونهم بأضعاف أولى بالخوف من الشرك أصغره وأكبره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة هود آية : 7.(7/198)
باب: " من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا"
وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا".
فإن قيل: فما الفرق بين هذه الترجمة وبين ترجمة الباب قبله؟
قلت: بينهما عموم وخصوص مطلق، يجتمعان في مادة، وهو ما إذا أراد الإنسان بعمله التزين عند الناس والتصنع لهم والثناء، فهذا رياء كما تقدم بيانه، كحال المنافقين. وهو أيضا إرادة الدنيا بالتصنع عند الناس، وطلب المدحة منهم والإكرام. ويفارق الرياء بكونه عمل عملا صالحا، أراد به عرضا من الدنيا، كمن يجاهد ليأخذ مالا، كما في الحديث.
" تعس عبد الدينار " 2. أو يجاهد للمغنم أو غير ذلك من الأمور التي ذكرها شيخنا عن ابن عباس رضي الله عنه وغيره من المفسرين في معنى قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا}. وأراد المصنف -رحمه الله- بهذه الترجمة، وما بعدها أن العمل لأجل الدنيا شرك ينافي كمال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة هود آية : 15-16.
2 جزء من حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري: كتاب الجهاد (2887): باب الحراسة في الغزو في سبيل الله وسيأتي برقم (232).(7/199)
ص -373- ... التوحيد الواجب، ويحبط الأعمال، وهو أعظم من الرياء، لأن مريد الدنيا قد تغلب إرادته تلك على كثير من عمله، وأما الرياء فقد يعرض له في عمل دون عمل، ولا يسترسل معه، والمؤمن يكون حذرا من هذا وهذا.
قال: "وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}".
قال ابن عباس رضي الله عنه: "من كان يريد الحياة الدنيا" أي ثوابها. وزينتها: أي مالها. نوف أي نوفر لهم ثواب أعمالهم بالصحة والسرور في المال والأهل والولد. "وهم فيها لا يبخسون" لا ينقصون، ثم نسختها {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ}1 الآيتين. رواه النحاس في ناسخه.
قوله: "ثم نسختها" أي قيدتها. فلم تبق الآية على إطلاقها2 . وقال قتادة: " من كانت الدنيا همه وطلبته ونيته جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء. وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة " ذكره ابن جرير بسنده، ثم ساق حديث أبي هريرة 3 عن ابن المبارك عن حيوة بن شريح قال: حدثني الوليد ابن أبي الوليد أبو عثمان أن عقبة بن مسلم حدثه أن شُفيّ بن ماتع الأصبحي حدثه "أنه دخل المدينة فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس، فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو هريرة. قال: فدنوت منه حتى قعدت بين يديه، وهو يحدث الناس. فلما سكت وخلا قلت: أنشدك بحق وبحق لما حدثتني حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته. قال: فقال أبو هريرة: أفعل، لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله(7/200)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الإسراء آية : 18.
2 من العجيب جدا دعوى النسخ (*). فإن الآيتين في معنى واحد. وتفسير النسخ بتقييد مطلقها -يعني بالمشيئة- كذلك غير واضح, والظاهر أنها لا تثبت رواية عن ابن عباس -رضي الله عنهما-. (*) قوله: (من العجيب جدا دعوى النسخ) إلخ. أقول: ليس في ذلك ما يتعجب منه؛ لأن معنى النسخ عند السلف أوسع من معناه عند الفقهاء؛ لأن السلف يطلقون النسخ على تقييد المطلق وتخصيص العام؛ لكونهما غيرا المعنى المفهوم من النص المطلق والنص العام, ومعلوم أن آية هود مطلقة ظاهرها أن مريد الدنيا بأعماله يعطى مراده, وآية الأسرى بينت أنه لا يعطى من ذلك إلا ما شاء الله، وإن ذلك أيضا لا يحصل إلا لمن أراده الله, فاتضح من ذلك أن طالب الدنيا بأعماله قد يعطى مراده إذا شاء الله ذلك, وقد يعمل ولا يحصل له ما أراد؛ لأن الله سبحانه لم يشأ ذلك, وهذا واضح جدا, والله أعلم.
3 صحيح. أخرجه الترمذي: كتاب الزهد (2382): باب ما جاء في الرياء والسمعة. وقال: حديث حسن غريب. وابن حبان (2502- موارد)، والحاكم (1/ 418 , 419)، وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1/ 13: 15). وصحيح الجامع (1709).(7/201)
ص -374- ... صلى الله عليه وسلم في هذا البيت ما فيه أحد غيري وغيره، ثم نَشَغ أبو هريرة نَشْغة1 ثم أفاق فقال: لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت ما فيه غيري أحد وغيره. ثم نَشَغ أبو هريرة نَشْغة أخرى، ثم مال خارا على وجهه; واشتد به طويلا. ثم أفاق فقال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله -تبارك وتعالى- إذا كان يوم القيامة نزل إلى القيامة ليقضي بينهم، وكل أمة جاثية. فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قُتل في سبيل الله، ورجل كثير المال. فيقول الله تبارك وتعالى للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب. قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم آناء الليل وآناء النهار. فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت. ويقول الله له: بل أردت أن يقال: فلان قارئ فقد قيل ذلك. ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسّع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب، قال: فما عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدق. فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جواد، فقد قيل ذلك. ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقال له: فبماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت. فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله له: بل أردت أن يقال: فلان جريء فقد قيل ذلك. ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال: يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعّر بهم النار يوم القيامة " 2.(7/202)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نشغ بفتح النون والشين المعجمة وبعدها غين معجمة; أي شهق حتى كاد يغشى عليه أسفا وخوفا.
2 تمام الحديث عند ابن جرير وغيره: "قال أبو عثمان الوليد: فأخبرني عقبة أن شفيا هو الذي دخل على معاوية فأخبره بهذا. قال أبو عثمان: وحدثني العلاء بن أبي حكيم، أنه كان سيافا لمعاوية قال: فدخل عليه رجل فحدثه بهذا عن أبي هريرة, فقال معاوية: وقد فعل بهؤلاء هذا؟ فكيف بمن بقي من الناس؟ ثم بكى معاوية بكاء شديدا حتى ظننا أنه هلك, وقلنا: قد جاء هذا الرجل بشر. ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه فقال: صدق الله ورسوله ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون). قال المنذري: ورواه ابن خزيمة في صحيحه.(7/203)
ص -375- ... وقد سئل شيخنا المصنف -رحمه الله- عن هذه الآية فأجاب بما حاصله: ذكر عن السلف فيها أنواع مما يفعله الناس اليوم ولا يعرفون معناه.
فمن ذلك: العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله: من صدقة وصلاة، وصلة وإحسان إلى الناس، وترك ظلم، ونحو ذلك مما يفعله الإنسان أو يتركه خالصا لله، لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة، إنما يريد أن يجازيه الله بحفظ ماله وتنميته، أو حفظ أهله وعياله، أو إدامة النعمة عليهم، ولا همة له في طلب الجنة والهرب من النار، فهذا يعطى ثواب عمله في الدنيا وليس له في الآخرة من نصيب. وهذا النوع ذكره ابن عباس.
النوع الثاني: وهو أكبر من الأول وأخوف، وهو الذي ذكره مجاهد في الآية أنها نزلت فيه: وهو أن يعمل أعمالا صالحة ونيته رياء الناس، لا طلب ثواب الآخرة.
النوع الثالث: أن يعمل أعمالا صالحة يقصد بها مالا، مثل أن يحج لمال يأخذه أو يهاجر لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، أو يجاهد لأجل المغنم، فقد ذكر أيضا هذا النوع في تفسير هذه الآية، كما يتعلم الرجل لأجل مدرسة أهله أو مكسبهم أو رياستهم، أو يتعلم القرآن ويواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد، كما هو واقع كثيرا.
النوع الرابع: أن يعمل بطاعة الله مخلصا في ذلك لله وحده لا شريك له، لكنه على عمل يكفّره كفرا يخرجه عن الإسلام، مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا الله، أو تصدقوا أو صاموا ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم كفر أو شرك أكبر يخرجهم من الإسلام بالكلية، إذا أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله في الدار الآخرة، لكنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام وتمنع قبول أعمالهم، فهذا النوع أيضا قد ذكر في هذه الآية عن أنس بن مالك وغيره. وكان السلف يخافون منها، فقال بعضهم: لو أعلم أن الله تقبل مني سجدة واحدة لتمنيت الموت؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ(7/204)
الْمُتَّقِينَ}1 .
ثم قال: بقي أن يقال: إذا عمل الرجل الصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج ابتغاء وجه الله، طالبا ثواب الآخرة، ثم بعد ذلك عمل أعمالا قاصدا بها الدنيا، مثل أن يحج فرضه لله، ثم يحج بعده لأجل الدنيا كما هو واقع، فهو لما غلب عليه منهما. وقد قال بعضهم: القرآن كثيرا ما يذكر أهل الجنة الخلّص وأهل النار الخلص، ويسكت عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية : 27.(7/205)
ص -376- ... صاحب الشائبتين، وهو هذا وأمثاله اهـ.
في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش،
قوله: "في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش. طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع "1.
قوله: "في الصحيح" أي صحيح البخاري. قوله: "تعس" هو بكسر العين ويجوز الفتح، أي سقط، والمراد هنا هلك. قاله الحافظ. وقال في موضع آخر: وهو ضد سعد أي شقي. قال أبو السعادات: يقال: تعس يتعس إذا عثر وانكب لوجهه، وهو دعاء عليه بالهلاك.
قوله: "عبد الدينار" هو المعروف من الذهب كالمثقال في الوزن.
قوله: "تعس عبد الدرهم" وهو من الفضة، قدره الفقهاء بالشعير وزنا، وعندنا منه درهم من ضرب بني أمية، وهو زنة خمسين حبة شعير وخُمسا حبة، سماه عبدا له؛ لكونه هو المقصود بعمله، فكل من توجه بقصده لغير الله فقد جعله شريكا له في عبوديته كما هو حال الأكثر.
قوله: "تعس عبد الخميصة" قال أبو السعادات: هي ثوب خز أو صوف معلم. وقيل: لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلَّمة، وتجمع على خمائص. والخميلة بفتح الخاء المعجمة.
وقال أبو السعادات: ذات الخمل، ثياب لها خَمَل من أي شيء كان.
قوله: "تعس وانتكس" قال الحافظ: هو بالمهملة، أي عاوده المرض. وقال أبو السعادات: أي انقلب على رأسه، وهو دعاء عليه بالخيبة. قال الطيبي: فيه الترقي
بالدعاء عليه؛ لأنه إذا تعس انكب على وجهه. وإذا انتكس انقلب على(7/206)
رأسه بعد أن سقط.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الجهاد والسير (2887) , وابن ماجه : الزهد (4136).(7/207)
ص -377- ... قوله: "وإذا شيك" أي أصابته شوكة "فلا انتقش" أي فلا يقدر على إخراجها بالمنقاش قاله أبو السعادات. والمراد أن من كانت هذه حاله فإنه يستحق أن يدعى عليه بما يسوءه في العواقب، ومن كانت هذه حاله فلا بد أن يجد أثر هذه الدعوات في الوقوع فيما يضره في عاجل دنياه وآجل أخراه.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الدينار والدرهم وعبد القطيفة وعبد الخميصة. وذكر فيه ما هو دعاء بلفظ الخبر، وهو قوله: "تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش"، وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه ولم يفلح؛ لكونه تعس وانتكس، فلا نال المطلوب، ولا خلص من المكروه، وهذه حال من عبد المال.
وقد وصف ذلك بأنه "إن أُعطي رضي، وإن مُنِع سخط" كما قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ}1 . فرضاؤهم لغير الله، وسخطهم لغير الله، وهكذا حال من كان متعلقا منها برياسة أو صورة ونحو ذلك من أهواء نفسه، إن حصل له رضي، وإن لم يحصل له سخط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك وهو رقيق له؛ إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلب واستعبده فهو عبده - إلى أن قال:-
وهكذا أيضا طالب المال، فإن ذلك يستعبده ويسترقه. وهذه الأمور نوعان: فمنها ما يحتاج إليه العبد، كما يحتاج إلى طعامه وشرابه ومنكحه ومسكنه ونحو ذلك; فهذا يطلب من الله ويرغب إليه فيه. فيكون المال عنده يستعمله في حاجته بمنزلة حماره الذي يركبه، وبساطه الذي يجلس عليه من غير أن يستعبده فيكون هلوعا.
ومنها: ما لا يحتاج إليه العبد، فهذا ينبغي أن لا يعلق قلبه بها، فإذا تعلق قلبه بها صار مستعبدا لها، وربما صار مستعبدا ومعتمدا على غير الله فيها، فلا يبقى معه حقيقة العبودية لله ولا حقيقة التوكل عليه، بل فيه شعبة من العبادة لغير الله وشعبة من التوكل(7/208)
على غير الله، وهذا من أحق الناس بقوله صلى الله عليه وسلم: " تعس عبد الدينار; تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة ". وهذا هو عبد لهذه الأمور ولو طلبها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية : 58.(7/209)
ص -378- ... طلبها من الله؛ فإن الله إذا أعطاه إياها رضي، وإن منعه إياها سخط، وإنما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله ويسخطه ما يسخط الله، ويحب ما أحبه الله ورسوله ويبغض لله ورسوله، ويوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله، فهذا الذي استكمل الإيمان. انتهى ملخصا.
قوله: "طوبى لعبد" قال أبو السعادات: "طوبى" اسم الجنة، وقيل: هي شجرة فيها. ويؤيد هذا ما روى ابن وهب بسنده عن أبي سعيد قال: "قال رجل: يا رسول الله وما طوبى؟ قال: شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها".
ورواه الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى سمعت عبد الله بن لهيعة حدثنا دراج أبو السمح أن أبا الهيثم1 حدثه عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن رجلا قال: يا رسول الله، طوبى لمن رآك وآمن بك; قال: طوبى لمن رآني وآمن بي، وطوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني. قال له رجل: وما طوبى؟ قال: شجرة في الجنة مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها " 2.
وله شواهد في الصحيحين وغيرهما. وقد روى ابن جرير عن وهب بن منبه هاهنا أثرا غريبا عجيبا. قال وهب -رحمه الله-: "إن في الجنة شجرة يقال لها: طوبى يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها: زهرها رياط، وورقها برود3 وقضبانها عنبر، وبطحاؤها ياقوت، وترابها كافور، ووحلها مسك، يخرج من أصلها أنهار الخمر واللبن والعسل، وهي مجلس لأهل الجنة، بينما هم في مجلسهم إذ أتتهم الملائكة من ربهم يقودون نجبا مزمومة بسلاسل من ذهب، وجوهها كالمصابيح من حسنها، ووبرها كخز المرعزي من لينه، عليها رحال ألواحها من ياقوت، ودفوفها من ذهب وثيابها من سندس وإستبرق، فينيخونها ويقولون: إن ربنا أرسلنا إليكم لتزوروه وتسلموا عليه. قال: فيركبونها، قال: فهي أسرع من الطائر، وأوطأ(7/210)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن لهيعة وأبو الهيثم ضعيفان. كما صرح بذلك الإمامان أحمد وأبو داود. وقد روى البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها ".
2 صحيح: أحمد (3/ 71)، وابن حبان (2625- موارد). وصححه الألباني في الصحيحة (1241)، وصحيح الجامع (3818) لشواهده وطرقه.
3 الرياط: جمع ريطة -بفتح الراء المهملة- ثوب كالملاءة. قيل: كل ثوب رقيق لين. والبرد: كالعباءة (*). (*) قوله: (والبرد كالعباءة) فيه نظر, والصواب أن البرد لا يشبه العباءة بل هو نوع آخر, قال في القاموس ما نصه: (البرد بالضم: ثوب مخطط جمعه أبراد وأبرد وبرود, وأكسية يلتحق بها. الواحدة بالهاء) انتهى.(7/211)
ص -379- ... من الفراش. خَبّا من غير مِهنة، يسير الراكب إلى جنب أخيه وهو يكلمه ويناجيه، لا تصيب أُذن راحلة منها أُذن صاحبتها، ولا برك راحلة برك صاحبتها، حتى إن الشجرة لتنتحي عن طريقهم لئلا تفرق بين الرجل وأخيه. قال: فيأتون إلى الرحمن الرحيم فيسفر لهم عن وجهه الكريم حتى ينظروا إليه، فإذا رأوه قالوا: اللهم أنت السلام ومنك السلام، وحق لك الجلال والإكرام. قال: فيقول -تبارك وتعالى- عند ذلك: أنا السلام ومني السلام وعليكم حقت رحمتي ومحبتي، مرحبا بعبادي الذين خشوني بالغيب وأطاعوا أمري. قال: فيقولون: ربنا إنا لم نعبدك حق عبادتك، ولم نقدرك حق قدرك، فائذن لنا بالسجود قدامك. قال: فيقول الله: إنها ليست بدار نصب ولا عبادة، ولكنها دار ملك ونعيم، وإني قد رفعت عنكم نصب العبادة، فسلوني ما شئتم، بأن لكل رجل منكم أمنيته. فيسألونه، حتى إن أقصرهم أمنية ليقول: ربي، تنافس أهل الدنيا في دنياهم فتضايقوا فيها، رب فآتني من كل شيء كانوا فيه من يوم خلقتها إلى أن انتهت الدنيا. فيقول الله تعالى: لقد قَصّرت بك اليوم أمنيتك، ولقد سألت دون منزلتك، هذا لك مني وسأتحفك بمنزلتي؛ لأنه ليس في عطائي نكد ولا قِصَر يَدٍ.
قال: ثم يقول: اعرضوا على عبادي ما لم تبلغ أمانيهم ولم يخطر على بال. قال: فيعرضون عليهم حتى تقصر بهم أمانيهم1 التي في أنفسهم، فيكون فيما يعرضون عليهم براذين مُقرّنة على كل أربعة منها سرير من ياقوتة واحدة، على كل سرير منها قبة من ذهب مفزعة، في كل قبة منها فرش من فرش الجنة مظاهرة، في كل قبة منها جاريتان من الحور العين، على كل جارية منهن ثوبان من ثياب الجنة، وليس في الجنة لون إلا وهو فيهما، ولا ريح طيب إلا قد عبق بهما، ينفذ ضوء وجوههما غلظ القبة، حتى يظن من يراهما أنهما من دون القبة، يرى مخهما من فوق سوقهما
كالسلك الأبيض في ياقوتة حمراء، يريان له من الفضل على صحابته كفضل الشمس على الحجارة أو أفضل، ويرى(7/212)
لهما مثل ذلك. ثم يدخل عليهما فيحييانه ويقبلانه ويعانقانه ويقولان له: والله ما ظننا أن الله يخلق مثلك، ثم يأمر الله تعالى الملائكة فيسيرون بهم صفا في الجنة حتى ينتهي كل رجل منهم إلى منزلته التي أعدت له".
وقد روى هذا الأثر ابن أبي حاتم بسنده عن وهب بن منبه وزاد: "فانظروا إلى مواهب ربكم الذي وهب لكم، فإذا بقباب في الرفيق الأعلى، وغرف مبنية بالدر والمرجان أبوابها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في ابن جرير: "حتى يقضوهم أمانيهم". وفي ابن كثير: "حتى تقصر بهم أمانيهم".(7/213)
ص -380- ... من ذهب وسررها من ياقوت، وفرشها من سندس وإستبرق، ومنابرها من نور، يفور من أبوابها وعراصها نور مثل شعاع الشمس، عنده مثل الكوكب الدري في النهار المضيء، وإذا بقصور شامخة في أعلى عليين من الياقوت يزهو نورها، فلولا أنه مسخر إذا لالتمع الأبصار، فما كان من تلك القصور من الياقوت الأبيض فهو مفروش بالحرير الأبيض، وما كان منها من الياقوت الأخضر فهو مفروش بالسندس الأخضر، وما كان منها من الياقوت الأصفر فهو مفروش بالأرجوان الأصفر، مبوبة بالزمرد الأخضر والذهب الأحمر والفضة البيضاء، قوائمها وأركانها من الجوهر، وشُرَفها من قباب من لؤلؤ، وبروجها غرف من المرجان. فلما انصرفوا إلى ما أعطاهم ربهم قربت لهم براذين من ياقوت أبيض منفوخ فيها الروح، تحتها الولدان المخلدون، بيد كل وليد منهم حكمة برذون من تلك البراذين، ولجمها وأعنتها من فضة بيضاء منظومة بالدر والياقوت، سرر موضونة مفروشة بالسندس والإستبرق، فانطلقت بهم تلك البراذين تزف، فينظرون رياض الجنة، فلما انتهوا إلى منازلهم وجدوا الملائكة قعودا على منابر من نور ينتظرونهم ليزوروهم ويصافحوهم ويهنئوهم كرامة ربهم، فلما دخلوا قصورهم وجدوا فيها جميع ما تطاول به عليهم وما سألوا وما تمنوا، وإذا على باب كل قصر من تلك القصور أربعة جنان: جنتان ذواتا أفنان، وجنتان مدهامتان، وفيهما عينان نضاختان، وفيهما من كل فاكهة زوجان، وحور مقصورات في الخيام. فلما تبوءوا منازلهم واستقروا قرارهم قال لهم ربهم: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ}1. قال: هل رضيتم ثواب ربكم؟ قالوا: ربنا رضينا فارض عنا. قال: فبرضائي عنكم أحللتكم داري ونظرتم إلى وجهي، فعند ذلك قالوا: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا(7/214)
يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ}2. وهذا سياق غريب وأثر عجيب، ولبعضه شواهد في الصحيحين3 .
وقال خالد بن معدان: "إن في الجنة شجرة يقال لها: طوبى، ضُروع كلها، ترضع صبيان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 44.
2 سورة فاطر آية : 34-35.
3 قال هذا الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى في سورة الرعد: (13: 29) ( الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب). وقال فيه ابن كثير: إنه سياق غريب وأثر عجيب اهـ. وظاهر عليه صبغة الإسرائيليات الملفقة. وكم لوهب بن منبه وكعب الأحبار من هذه الخرافات والآثار السخيفة التي تمجها الفطر السليمة، وقد فتن الناس بهذه الإسرائيليات وفسدت بها عقائد كثير منهم ولا حول ولا قوة إلا بالله.(7/215)
ص -381- ... أهل الجنة، وإن سَقْط المرأة يكون في نهر من أنهار الجنة يتقلب فيه حتى تقوم القيامة، فيبعث ابن أربعين سنة" رواه ابن أبي حاتم.
قوله: "أخذ بعنان فرسه في سبيل الله" أي في جهاد المشركين.
قوله: "أشعث" مجرور بالفتحة؛ لأنه اسم لا ينصرف للوصفية ووزن الفعل. و "رأسه" مرفوع على الفاعلية، وهو طائر الشعر، شغله الجهاد في سبيل الله عن التنعم بالأدهان وتسريح الشعر.
قوله: "مغبرة قدماه" هو بالجر صفة ثانية لعبد.
قوله: "إن كان في الحراسة كان في الحراسة" هو بكسر الحاء أي حمى الجيش عن أن يهجم العدو عليهم.
قوله: "كان في الحراسة" أي غير مقصر فيها ولا غافل، وهذا اللفظ يستعمل في حق من قام بالأمر على وجه الكمال. قوله: "وإن كان في الساقة كان في الساقة" أي في مؤخرة الجيش، يقلب نفسه في مصالح الجهاد، فكل مقام يقوم فيه إن كان ليلا أو نهارا، رغبة في ثواب الله وطلبا لمرضاته ومحبة لطاعته.
فيه مسائل:
الأولى: إرادة الإنسان الدنيا بعمل الآخرة.
الثانية: تفسير آية هود.
الثالثة: تسمية الإنسان المسلم عبد الدينار والدرهم والخميصة.
الرابعة: تفسير ذلك بأنه إن أُعطي رضي، وإن لم يُعط سخط.
الخامسة: قوله: "تعس وانتكس".
السادسة: قوله: "وإذا شيك فلا انتقش".
السابعة: الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات.
قال ابن الجوزي -رحمه الله-: " وهو خامل الذكر لا يقصد السمو ". وقال الخلخالي: " المعنى ائتماره بما أمر، وإقامته حيث أقيم، لا يفقد من مقامه، وإنما ذكر الحراسة والساقة؛ لأنهما أشد مشقة". انتهى. وفيه فضل الحراسة في سبيل الله.
قوله: "إن استأذن لم يؤذن له" أي إن استأذن على الأمراء ونحوهم لم يؤذن له؛ لأنه لا جاه له عندهم ولا منزلة؛ لأنه ليس من طلابها، وإنما يطلب ما عند الله لا يقصد بعمله سواه.
قوله: "وإن شفع" بفتح أوله وثانيه "لم يشفّع" بفتح الفاء مشددة. يعني لو
ألجأته الحال إلى أن يشفع في أمر يحبه الله(7/216)
ورسوله لم تقبل شفاعته عند الأمراء ونحوهم.
وروى الإمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة مرفوعا: " رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره(7/217)
ص -382- ... وروى الإمام أحمد أيضا عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير قال: قال عثمان "-رضي الله عنه وهو يخطب على منبره-: " إني محدثكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم . لم يكن يمنعني أن أحدثكم به إلا الظن بكم. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها "2.
وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن المبارك: قال عبد الله بن محمد قاضي نصيبين: حدثني محمد بن إبراهيم ابن أبي سكينة أنه أملى عليه عبد الله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس وواعده الخروج. وأنشدها معه إلى الفضيل بن عياض في سنة سبع وسبعين ومائة. قال:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ... لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه ... فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل ... فخيولهم يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا ... رَهَج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا ... قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي غبار خيل الليل في ... أنف امرئ ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا ... ليس الشهيد بميت لا يكذب
قال: فلقيت الفضيل بكتابه في المسجد الحرام، فلما قرأه ذرفت عيناه فقال: صدق أبو عبد الرحمن ونصحني، ثم قال: أنت ممن يكتب الحديث؟ قلت: نعم، قال لي: اكتب هذا الحديث، وأملى عليّ الفضيل بن عياض: حدثنا منصور بن المعتمر عن أبي صالح عن أبي هريرة: " أن رجلا قال: يا رسول الله علمني عملا أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله، فقال: هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر، وتصوم فلا تفطر؟ فقال: يا رسول الله أنا أضعف من أن أستطيع ذلك، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: فوالذي نفسي بيده لو طُوِّقت ذلك ما بلغت، فضل المجاهدين في سبيل الله، أما علمت أن فرس المجاهد لَيْسَتَنُّ في طِوَله فيكتب له بذلك حسنات " ؟3 4(7/218)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : فضائل الجهاد (1667) , وابن ماجه : الجهاد (2766) , وأحمد (1/64) , والدارمي : الجهاد (2424). وضعّفه الألباني في ضعيف الجامع (2703).
2 البخاري: كتاب الجهاد (2785): باب فضل الجهاد والسير من حديث أبي هريرة بنحوه.
3 روى البخاري حديث سؤال الرجل هذا عن أبي هريرة. وفيه: فقال أبو هريرة: "فإن فرس المجاهد ليستن يمرح في طوله فيكتب له حسنات". والطول: الحبل. والاستنان: العدو. وروى مسلم مثله قريبا منه في فضل الجهاد في سبيل الله.(7/219)
ص -383- ... باب: " من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله، فقد اتخذهم أربابا من دون الله"
وقال ابن عباس: " يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟ " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب من أطاع من العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله، فقد اتخذهم أربابا من دون الله".
لقول الله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}1. وتقدم تفسير هذا في أصل المصنف -رحمه الله- عند ذكر حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه .
قوله: "وقال ابن عباس -رضي الله عنهما- " يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟ ".
قوله: "يوشك" بضم أوله وكسر الشين المعجمة أي يقرب ويسرع.
وهذا القول من ابن عباس -رضي الله عنهما- جواب لمن قال له: إن أبا بكر وعمر "-رضي الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية : 31.(7/220)
ص -384- ... عنهما- لا يريان التمتع بالعمرة إلى الحج، ويريان أن إفراد الحج أفضل أو ما هو معنى هذا، وكان ابن عباس يرى أن التمتع بالعمرة إلى الحج واجب ويقول: " إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط، فقد حل من عمرته شاء أم أبى "؛ لحديث سراقة بن مالك حين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلوها عمرة، ويحلوا إذا طافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة، فقال سراقة: " يا رسول الله ألِعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: بل للأبد "1. والحديث في الصحيحين.
وحينئذ فلا عذر لمن استفتى أن ينظر في مذاهب العلماء وما استدل به كل إمام، ويأخذ من أقوالهم ما دل عليه الدليل إذا كان له ملكة يقتدر بها على ذلك. كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}2.
وللبخاري ومسلم وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت " 3 4. هذا لفظ البخاري في حديث عائشة -رضي الله عنها-. ولفظه في حديث جابر: " افعلوا ما أمرتكم به، فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم "5 في عدة أحاديث تؤيد قول ابن عباس.
وبالجملة فلهذا قال ابن عباس لما عارضوا الحديث برأي أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-: " يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ". الحديث.
وقال الإمام مالك -رحمه الله تعالى-: " ما منا إلا راد ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم". وكلام الأئمة في هذا المعنى كثير.
وما زال العلماء -رحمهم الله- يجتهدون في الوقائع، فمن أصاب منهم فله أجران، ومن أخطأ فله أجر، كما في الحديث6 7 . لكن إذا استبان لهم الدليل أخذوا به وتركوا اجتهادهم. وأما إذا لم(7/221)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: كتاب العمرة (1785): باب عمرة التنعيم بلفظ: ألكم هذه خاصة يا رسول الله؟ فال: "لا بل للأبد" ومسلم: كتاب الحج (1216) (141): باب بيان وجوه الإحرام.. من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
2 سورة النساء آية : 59.
3 البخاري: كتاب الحج (1651): باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، كتاب العمرة (1785): باب عمرة التنعيم، كتاب التمني (7230): باب قول -النبي صلى الله عليه وسلم-: لو استقبلت من أمري ما استدبرت . ومسلم: كتاب الحج (1216) (143): باب بيان وجوه الإحرام، واللفظ له في الرواية التي ذكرها المؤلف من حديث جابر -رضي الله عنه- والبخاري: كتاب التمني (7229) باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: لو استقبلت من أمري ما استدبرت. ومسلم: كتاب الحج (1211) (130); باب بيان وجوه الإحرام من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
4 قال ذلك حين أمرهم في حجة الوداع أن يفسحوا حجهم إلى العمرة, ليكونوا متمتعين. ووجدوا في أنفسهم من ذلك لقرب ذهابهم إلى منى, وقصر المدة التي يقيمونها في مكة متمتعين بنسائهم حتى قالوا: "نذهب إلى منى ومذاكيرنا تقطر منيا". انظر: زاد المعاد في حجة الرسول -صلى الله عليه وسلم -.
5 البخاري : الحج (1568).
6 وذلك في حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطا فله أجر ". أخرجه البخاري: كتاب الاعتصام (7352): باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ. مسلم: كتاب الأقضية (1716) (15): باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ.
7 "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر".(7/222)
ص -385- ... يبلغهم الحديث أو لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم عندهم في حديث، أو ثبت وله معارض أو مخصص ونحو ذلك، فحينئذ يسوغ للإمام أن يجتهد. وفي عصر الأئمة الأربعة -رحمهم الله تعالى- إنما كان طلب الأحاديث ممن هي عنده باللقى والسماع، ويسافر الرجل في طلب الحديث إلى الأمصار عدة سنين. ثم اعتنى الأئمة بالتصانيف ودونوا الأحاديث ورووها بأسانيدها، وبينوا صحيحها من حسنها من ضعيفها. والفقهاء صنفوا في كل مذهب، وذكروا حجج المجتهدين، فسهل الأمر على طالب العلم، وكل إمام يذكر الحكم بدليله عنده، وفي كلام ابن عباس -رضي الله عنهما- ما يدل على أن من يبلغه الدليل فلم يأخذ به- تقليدا لإمامه- فإنه يجب الإنكار عليه بالتغليظ لمخالفته الدليل.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أحمد بن عمر البزاز، حدثنا زياد بن أيوب، حدثنا أبو عبيدة الحداد عن مالك بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال: " ليس منا أحد إلا يؤخذ من قوله ويدع غير النبي صلى الله عليه وسلم " .
وعلى هذا فيجب الإنكار على من ترك الدليل لقول أحد من العلماء كائنا من كان، ونصوص الأئمة على هذا، وأنه لا يسوغ التقليد إلا في مسائل الاجتهاد التي لا دليل فيها يرجع إليه من كتاب ولا سنة، فهذا هو الذي عناه بعض العلماء بقوله: لا إنكار في مسائل الاجتهاد. وأما من خالف الكتاب والسنة فيجب الرد عليه كما قال ابن عباس والشافعي ومالك وأحمد، وذلك مجمع عليه، كما تقدم في كلام الشافعي رحمه الله تعالى.
قوله: وقال الإمام أحمد: "عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}1.صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم( فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}2. أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعلّه إذا ردّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك(7/223)
".
أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك".
هذا الكلام من الإمام أحمد -رحمه الله- رواه عنه الفضل بن زياد وأبو طالب. قال الفضل عن أحمد: "نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاث وثلاثين موضعا، ثم جعل يتلو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النور آية : 63.
2 سورة النور آية : 63.(7/224)
ص -386- ... {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الآية. فذكر من قوله: الفتنة الشرك - إلى قوله: - فيهلك". ثم جعل يتلو هذه الآية: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما ً}1 .
وقال أبو طالب عن أحمد وقيل له: "إن قوما يدعون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره، فقال: أعجب لقوم سمعوا الحديث وعرفوا الإسناد وصحته يدعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره، قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الكفر. قال الله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}2 فيدعون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي". ذكر ذلك عنه شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-.
قوله: "عرفوا الإسناد" أي إسناد الحديث وصحته، فإذا صح إسناد الحديث فهو صحيح عند أهل الحديث وغيرهم من العلماء.
وسفيان: هو الثوري الإمام الزاهد العابد الثقة الفقيه، وكان له أصحاب يأخذون عنه، ومذهبه مشهور يذكره العلماء -رحمهم الله- في الكتب التي يذكر فيها مذاهب الأئمة، كالتمهيد لابن عبد البر، والاستذكار له، وكتاب الإشراف على مذاهب الأشراف لابن المنذر، والمحلى لابن حزم، والمغني لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة الحنبلي. وغير هؤلاء.
فقول الإمام أحمد -رحمه الله-: "عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته " إلخ إنكار منه لذلك، وأنه يؤول إلى زيغ القلوب الذي يكون به المرء كافرا. وقد عمت البلوى بهذا المنكر خصوصا ممن ينتسب إلى العلم، نصبوا الحبائل في الصد عن الأخذ بالكتاب والسنة، وصدوا عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيم أمره ونهيه،(7/225)
فمن ذلك قولهم:
لا يستدل بالكتاب والسنة إلا المجتهد. والاجتهاد قد انقطع3 ويقول: هذا الذي قلدته أعلم منك بالحديث وبناسخه ومنسوخه، ونحو ذلك من الأقوال التي غايتها ترك متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية : 65.
2 سورة البقرة آية : 217.
3 في قرة العيون: وقد أخطأوا في ذلك. وقد استدل الإمام أحمد -رحمه الله- بقوله –صلى الله عليه وسلم- : "لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك " أن الاجتهاد لا ينقطع.(7/226)
ص -387- ... الهوى، والاعتماد على قول من يجوز عليه الخطأ، وغيره من الأئمة يخالفه، ويمنع قوله بدليل، فما من إمام إلا والذي معه بعض العلم لا كله.
فالواجب على كل مكلف إذا بلغه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله وفهم معنى ذلك: أن ينتهي إليه ويعمل به، وإن خالفه من خالفه، كما قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}1. وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}2. وقد تقدم حكاية الإجماع على ذلك، وبيان أن المقلد ليس من أهل العلم، وقد حكى أيضا أبو عمر ابن عبد البر وغيره الإجماع على ذلك.
قلت: ولا يخالف في ذلك إلا جهال المقلدة، لجهلهم بالكتاب والسنة، ورغبتهم عنهما، وهؤلاء وإن ظنوا أنهم قد اتبعوا الأئمة فإنهم في الحقيقة قد خالفوهم، واتبعوا غير سبيلهم. كما قدمنا من قول مالك والشافعي وأحمد، ولكن في كلام أحمد -رحمه الله- إشارة إلى أن التقليد قبل بلوغ الحجة لا يذم، وإنما ينكر على من بلغته الحجة وخالفهم لقوم إمام من الأئمة، وذلك إنما ينشأ عن الإعراض عن تدبر كتاب الله وسنة رسوله، والإقبال على كتب من تأخروا والاستغناء بها عن الوحيين، وهذا يشبه ما وقع من أهل الكتاب الذين قال الله فيهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}3، كما سيأتي بيان ذلك في حديث عدي بن حاتم، فيجب على من نصح نفسه إذا قرأ كتب العلماء ونظر فيها، وعرف أقوالهم أن يعرضها على ما في الكتاب والسنة؛ فإن كل مجتهد من العلماء ومن تبعه وانتسب إلى مذهبه لا بد أن يذكر دليله، والحق في المسألة واحد، والأئمة مثابون على اجتهادهم، فالمنصف يجعل النظر في كلامهم وتأمله طريقا إلى معرفة المسائل واستحضارها ذهنا، وتمييزا(7/227)
للصواب من الخطأ بالأدلة التي يذكرها المستدلون، ويعرف بذلك من هو أسعد بالدليل من العلماء فيتبعه، والأدلة على هذا الأصل في كتاب الله أكثر وفي السنة كذلك، كما أخرج أبو داود بسنده عن أناس من أصحاب معاذ: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن قال: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضي بكتاب الله تعالى. قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو. قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 3.
2 سورة العنكبوت آية : 51.
3 سورة التوبة آية : 31.(7/228)
ص -388- ... الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله " 1. وساق بسنده عن الحارث بن عمر عن أناس من أصحاب معاذ بن جبل رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن - بمعناه".
والأئمة -رحمهم الله- لم يقصروا في البيان، بل نهوا عن تقليدهم إذا استبانت السنة، لعلمهم أن من العلم شيئا لم يعلموه، وقد يبلغ غيرهم، وذلك كثير كما لا يخفى على من نظر في أقوال العلماء.
قال أبو حنيفة -رحمه الله-: " إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن الصحابة -رضي الله عنهم- فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن التابعين فنحن رجال وهم رجال".
وقال: " إذا قلت قولا وكتاب الله يخالفه فاتركوا قولي لكتاب الله". قيل: إذا كان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالفه؟ قال: " اتركوا قولي لخبر الرسول صلى الله عليه وسلم". وقيل: إذا كان قول الصحابة يخالفه؟ قال: " اتركوا قولي لقول الصحابة".
وقال الربيع: " سمعت الشافعي -رحمه الله- يقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوا ما قلت".
وقال: " إذا صح الحديث بما يخالف قولي فاضربوا بقولي الحائط".
عن عدي بن حاتم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ
وقال مالك: " كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وتقدم له مثل ذلك، فلا عذر لمقلد بعد هذا. ولو استقصينا كلام العلماء في هذا لخرج عما قصدناه من الاختصار، وفيما ذكرناه كفاية لطالب الهدى2 .
قوله: "لعله إذا رد بعض قوله" أي قول الرسول صلى الله عليه وسلم "أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك" نبه -رحمه الله- أن رد قول الرسول صلى الله عليه وسلم سبب لزيغ القلب، وذلك هو الهلاك في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ(7/229)
قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 منكر. أبو داود: كتاب الأقضية (3592), (3593): باب اجتهاد الرأي في القضاء، والترمذي : الأحكام (1327), وأحمد (5/236 ,5/242) , والدارمي : المقدمة (168). وضعفه البخاري والترمذي والعقيلي والدارقطني وابن حزم وابن طاهر وابن الجوزي والذهبي والسبكي وابن حجر وغيرهم. راجع الضعيفة للألباني (881).
2 في قرة العيون: فعلى من اشتغل بمصنفات أهل مذهبه أن ينظر في أقوال المخالفين وما استدلوا به متبعا للدليل مع من كان معه. وبالله التوفيق.
3 سورة الصف آية : 5.(7/230)
ص -389- ... قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في معنى قول الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ}1: " فإذا كان المخالف لأمره قد حذر من الكفر والشرك، أو من العذاب الأليم، دل على أنه قد يكون مفضيا إلى الكفر والعذاب الأليم، ومعلوم أن إفضاءه إلى العذاب الأليم هو مجرد فعل المعصية، فإفضاؤه إلى الكفر إنما هو لما يقترن به من الاستخفاف في حق الأمر; كما فعل إبليس لعنه الله تعالى"اهـ. وقال أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله تعالى- عن الضحاك: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} قال: "يطبع على قلبه فلا يؤمن أن يظهر الكفر بلسانه فتضرب عنقه".
قال أبو جعفر ابن جرير: " أدخلت "عن" لأن معنى الكلام فليحذر الذين يلوذون عن أمره ويدبرون عنه معرضين".
قوله: "أو يصيبهم" في عاجل الدنيا عذاب من الله موجع على خلافهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قوله: "عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ}2 الآية.
( وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}3. فقلت له: " إنا لسنا نعبدهم. قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ فقلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم ". رواه أحمد والترمذي وحسنه4.
فقلت: "إنا لسنا نعبدهم. قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ فقلت، بلى، قال: فتلك عبادتهم". رواه أحمد والترمذي وحسنه".
هذا الحديث قد روي من طرق; فرواه ابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني، وأبو الشيخ وابن مردويه(7/231)
والبيهقي. قوله: "عن عدي بن حاتم" أي الطائي المشهور.
وحاتم: هو ابن عبد الله بن سعد بن الحشرج- بفتح الحاء- المشهور بالسخاء والكرم، قدم عدي على النبي صلى الله عليه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النور آية : 63.
2 سورة التوبة آية : 31.
3 سورة التوبة آية : 31.
4 تقدم تخريجه برقم (80).(7/232)
ص -390- ... في شعبان سنة تسع من الهجرة، فأسلم وعاش مائة وعشرين سنة.
وفي الحديث دليل على أن طاعة الأحبار والرهبان في معصية الله عبادة لهم من دون الله، ومن الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله؛ لقوله تعالى في آخر الآية: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}. ونظير ذلك قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}1. وهذا قد وقع فيه كثير من الناس مع من قلدوهم، لعدم اعتبارهم الدليل إذا خالف المقلد، وهو من هذا الشرك.
ومنهم من يغلو في ذلك ويعتقد أن الأخذ بالدليل والحالة هذه يكره، أو يحرم، فعظمت الفتنة. ويقول: هم أعلم منا بالأدلة، ولا يأخذ بالدليل إلا المجتهد، وربما تفوهوا بذم من يعمل بالدليل، ولا ريب أن هذا من غربة الإسلام كما قال شيخنا -رحمه الله- في المسائل:
" فتغيرت الأحوال، وآلت إلى هذه الغاية فصارت عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال، ويسمونها ولاية، وعبادة الأحبار هي العلم والفقه. ثم تغيرت الحال إلى أن عبد من ليس من الصالحين، وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين".
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النور.
الثانية: تفسير آية براءة.
الثالثة: التنبيه على معنى العبادة التي أنكرها عدي.
الرابعة: تمثيل ابن عباس بأبي بكر وعمر، وتمثيل أحمد بسفيان.
الخامسة: تغير الأحوال إلى هذه الغاية حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال وتسمى الولاية، وعبادة الأحبار هي العلم والفقه، ثم تغيرت الحال إلى أن عبد من دون الله من ليس من الصالحين، وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين.
وأما طاعة الأمراء ومتابعتهم فيما يخالف ما شرعه الله ورسوله فقد عمت بها البلوى قديما(7/233)
وحديثا في أكثر الولاة بعد الخلفاء الراشدين وهلم جرا. وقد قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}2. وعن زياد بن حُدير قال: قال لي عمر رضي الله عنه: "هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا، قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن، وحكم الأئمة المضلين". رواه الدارمي. جعلنا الله وإياكم من الذين يهدون بالحق وبه يعدلون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية : 121.
2 سورة القصص آية : 50.(7/234)
ص -391- ... باب: قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا به}
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
باب "قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ}1 الآيات.
قال العماد ابن كثير -رحمه الله تعالى-: " والآية ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل; وهو المراد بالطاغوت هاهنا".
وتقدم ما ذكره العلامة ابن القيم -رحمه الله- في حده للطاغوت، وأنه كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فكل من حاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد حاكم إلى الطاغوت الذي أمر الله تعالى عباده المؤمنين أن يكفروا به; فإن التحاكم ليس إلا إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن كان يحكم بهما، فمن تحاكم إلى غيرهما فقد تجاوز به حده، وخرج عما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزله منزلة لا يستحقها.
وكذلك من عبد شيئا دون الله فإنما عبد الطاغوت، فإن كان المعبود صالحا صارت عبادة العابد له راجعة إلى الشيطان الذي أمره بها، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ(7/235)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية : 60.(7/236)
ص -392- ... مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}1. وكقوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}2. وإن كان ممن يدعو إلى عبادة نفسه أو كان شجرا أو حجرا أو قبرا أو غير ذلك، مما يتخذه المشركون أصناما على صور الصالحين والملائكة وغير ذلك، فهي من الطاغوت الذي أمر الله تعالى عباده أن يكفروا بعبادته، ويتبرءوا منه; ومن عبادة كل معبود سوى الله كائنا من كان، وهذا كله من عمل الشيطان وتسويله، فهو الذي دعا إلى كل باطل وزينه لمن فعله; وهذا ينافي التوحيد الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله. فالتوحيد: هو الكفر بكل طاغوت عبده العابدون من دون الله، كما قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}3. وكل من عبد غير الله فقد جاوز به حده وأعطاه من العبادة ما لا يستحقه.
قال الإمام مالك -رحمه الله-: "الطاغوت ما عُبد من دون الله".
وكذلك من دعا إلى تحكيم غير الله ورسوله فقد ترك ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ورغب عنه، وجعل لله شريكا في الطاعة، وخالف ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أمره الله تعالى به في قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}4. وقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ(7/237)
فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}5. فمن خالف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم بأن حكم بين الناس بغير ما أنزل الله، أو طلب ذلك اتباعا لما يهواه ويريده، فقد خلع ربقة الإسلام والإيمان من عنقه، وإن زعم أنه مؤمن، فإن الله تعالى أنكر على من أراد ذلك، وأكذبهم في زعمهم الإيمان لما في ضمن قوله: "يزعمون" من نفي إيمانهم؛ فإن "يزعمون" إنما يقال غالبا لمن ادعى دعوى هو فيها كاذب لمخالفته لموجبها وعمله بما ينافيها، يحقق هذا قوله: "وقد أمروا أن يكفروا به"؛ لأن الكفر بالطاغوت ركن التوحيد كما في آية البقرة، فإذا لم يحصل هذا الركن لم يكن موحدا،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يونس آية : 28-29-30.
2 سورة سبأ آية : 40-41.
3 سورة الممتحنة آية : 4.
4 سورة المائدة آية : 49.
5 سورة النساء آية : 65.(7/238)
ص -393- ... والتوحيد هو أساس الإيمان الذي تصلح به جميع الأعمال وتفسد بعدمه؛ كما أن ذلك بين في قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}1 الآية. وذلك أن التحاكم إلى الطاغوت إيمان به. وقوله: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً}2 يبين تعالى في هذه الآية
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودا فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً}3 .
أن التحاكم إلى الطاغوت مما يأمر به الشيطان ويزينه لمن أطاعه، ويبين أن ذلك مما أضل به الشيطان من أضله; وأكده بالمصدر، ووصفه بالبعد، فدل على أن ذلك من أعظم الضلال وأبعده عن الهدى.
ففي هذه الآية أربعة أمور:
الأول: أنه من إرادة الشيطان. الثاني: أنه ضلال. الثالث: تأكيده بالمصدر. الرابع: وصفه بالبعد عن سبيل الحق والهدى. فسبحان الله ما أعظم هذا القرآن وما أبلغه! وما أدله على أنه كلام رب العالمين، أوحاه إلى رسوله الكريم، وبلغه عبده الصادق الأمين -صلوات الله وسلامه عليه-.
قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودا}. بين تعالى أن هذه صفة المنافقين، وأن من فعل ذلك أو طلبه، وإن زعم أنه مؤمن فإنه في غاية البعد عن الإيمان.
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-: " هذا دليل على أنه من دُعي إلى تحكيم الكتاب والسنة فأبى أنه من المنافقين".
قوله: {ويَصُدُّونَ} لازم وهو بمعنى يعرضون؛ لأن مصدره "صدودا" فما أكثر من اتصف بهذا الوصف! خصوصا ممن يدعي العلم؛ فإنهم صدوا عما توجبه الأدلة من(7/239)
كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى أقوال من يخطئ كثيرا ممن ينتسب إلى الأئمة الأربعة في تقليدهم من لا يجوز تقليده، واعتمادهم على قول من لا يجوز الاعتماد على قوله، ويجعلون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 256.
2 سورة النساء آية : 60.
3 سورة النساء آية : 60-61-62.(7/240)
ص -394- ... قوله المخالف لنص الكتاب والسنة وقواعد الشريعة هو المعتمد عندهم الذي لا تصح الفتوى إلا به. فصار المتبع للرسول صلى الله عليه وسلم بين أولئك غريبا، كما تقدم التنبيه على هذا في الباب الذي قبل هذا.
وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}1.
فتدبر هذه الآيات وما بعدها يتبين لك ما وقع فيه غالب الناس من الإعراض عن الحق، وترك العمل به في أكثر الوقائع. والله المستعان.
قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}2. قال أبو العالية في الآية: يعني لا تعصوا في الأرض؛ لأن من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصية الله فقد أفسد في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء إنما هو بطاعة الله ورسوله. وقد أخبر تعالى عن إخوة يوسف -عليه السلام- في قوله تعالى: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ}3 - إلى قوله -: {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ}4. فدلت الآية على أن كل معصية فساد في الأرض.
ومناسبة الآية للترجمة: أن التحاكم إلى غير الله ورسوله من أعمال المنافقين، وهو من الفساد في الأرض.
وفي الآية: التنبيه على عدم الاغترار بأقوال أهل الأهواء وإن زخرفوها بالدعوى. وفيها التحذير من الاغترار بالرأي ما لم يقم على صحته دليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فما أكثر من يصدق بالكذب ويكذب بالصدق إذا جاءه! وهذا من الفساد في الأرض ويترتب عليه من الفساد أمور كثيرة، تخرج صاحبها عن الحق وتدخله في الباطل. نسأل الله العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
فتدبر تجد ذلك في حال الأكثر إلا من عصمه الله، ومن عليه بقوة داعي الإيمان، وأعطاه عقلا كاملا عند ورود الشهوات، وبصرا نافذا عند ورود الشبهات،(7/241)
وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}5
وقوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}6 .
قوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}7 قال أبو بكر ابن عياش في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 11.
2 سورة البقرة آية : 11.
3 سورة يوسف آية : 70.
4 سورة يوسف آية : 73.
5 سورة الأعراف آية : 56.
6 سورة المائدة آية : 50.
7 سورة الأعراف آية : 56.(7/242)
ص -395- ... الآية: " إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى أهل الأرض وهم في فساد، فأصلحهم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم، فمن دعا إلى خلاف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهو من المفسدين في الأرض".
وقال ابن القيم -رحمه الله-: " قال أكثر المفسرين: لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله لها ببعث الرسل، وبيان الشريعة والدعاء إلى طاعة الله؛ فإن عبادة غير الله والدعوة إلى غيره والشرك به هو أعظم فساد في الأرض، بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك به ومخالفة أمره، فالشرك والدعوة إلى غير الله وإقامة معبود غيره، ومطاع متبع غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو أعظم فساد في الأرض، ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا أن يكون الله وحده هو المعبود المطاع، والدعوة له لا لغيره، والطاعة والاتباع لرسوله ليس إلا، وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا أمر بمعصيته وخلاف شريعته فلا سمع ولا طاعة. ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله، وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة رسوله، والدعوة إلى غير الله ورسوله". اهـ.
ووجه مطابقة هذه الآية للترجمة: أن التحاكم إلى غير الله ورسوله من أعظم ما يفسد الأرض من المعاصي، فلا صلاح لها إلا بتحكيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو سبيل المؤمنين، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}1 .
قوله: "وقول الله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}".
قال ابن كثير -رحمه الله-: " ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله تعالى(7/243)
المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الجهالات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية : 115.(7/244)
ص -396- ... والضلالات كما يحكم به التتار من السياسات المأخوذة عن جنكيز خان، الذي وضع لهم " الياسق"، وهو عبارة عن كتاب أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها عن مجرد نظره وهواه.
فصارت في بنيه شرعا يقدمونها على الحكم بالكتاب والسنة، فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم بسواه في قليل ولا كثير".1
قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}2 استفهام إنكار، أي لا حكم أحسن من حكمه تعالى. وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس له في الطرف الآخر مشارك، أي ومن أعدل من الله حكما لمن عقل عن الله شرعه، وآمن وأيقن أنه تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم بعباده من الوالدة بولدها، العليم بمصالح عباده القادر على كل شيء، الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره؟
وفي الآية، التحذير من حكم الجاهلية واختياره على حكم الله ورسوله، فمن فعل ذلك فقد أعرض عن الأحسن، وهو الحق، إلى ضده من الباطل.
قوله: "عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به "3. قال النووي: " حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح".
هذا الحديث رواه الشيخ أبو الفتح نضر بن إبراهيم المقدسي الشافعي في كتاب: "الحجة على تارك المحجة" بإسناد صحيح كما قاله المصنف -رحمه الله- عن النووي. ورواه الطبراني وأبو بكر بن عاصم، والحافظ أبو نعيم في الأربعين التي شرط لها أن تكون من صحيح(7/245)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومثل هذا وشر منه من اتخذ من كلام الفرنجة قوانين يتحاكم إليها في الدماء والفروج والأموال, ويقدمها على ما علم وتبين له من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- . فهو بلا شك كافر مرتد إذا أصر عليها ولم يرجع إلى الحكم بما أنزل الله. ولا ينفعه أي اسم تسمى به, ولا أي عمل من ظواهر أعمال الصلاة والصيام ونحوها.
2 سورة المائدة آية : 50.
3 ضعيف. مختصر الحجة على تارك المحجة (رقم 25- بترقيمي) مخطوط بدار الكتب، وأخرجه البغوي في شرح السنة (1/ 213)، وابن أبي عاصم في السنة (1/ 12). وعزاه الألباني في تخريج المشكاة (1/ 59) إلى الحسن بن سفيان في الأربعين (ق 95/ 1), والقاسم بن عساكر في أربعينه وقال: حديث غريب. وأعله الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم (364) بثلاث علل. وضعفه الألباني في تخريج المشكاة (1/ 59).(7/246)
ص -397- ... الأخبار، وشاهده في القرآن قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}1 الآية. وقوله: " {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}2. وقوله: " {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ}3، ونحوه هذه الآيات.
قوله: "لا يؤمن أحدكم" أي لا يكون من أهل كمال الإيمان الواجب الذي وعد الله أهله عليه بدخول الجنة والنجاة من النار. وقد يكون في درجة أهل الإساءة والمعاصي من أهل الإسلام.
قوله: "حتى يكون هواه تبعا لما جئت به". "الهوى" بالقصر، أي ما يهواه وتحبه نفسه وتميل إليه، فإن كان الذي تحبه وتميل إليه نفسه ويعمل به تابعا لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخرج عنه إلى ما يخالفه. فهذه صفة أهل الإيمان المطلق. وإن كان بخلاف ذلك أو في بعض أحواله أو أكثرها انتفى عنه من الإيمان كماله الواجب، كما في حديث أبي هريرة: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن "4 5 يعني أنه بالمعصية ينتفي عنه كمال الإيمان الواجب، وينزل عنه في درجة الإسلام، وينقص إيمانه، فلا يطلق عليه الإيمان إلا بقيد المعصية أو الفسوق. فيقال: مؤمن عاص، أو يقال: مؤمن بإيمانه فاسق بمعصيته; فيكون معه مطلق الإيمان الذي لا يصح إسلامه إلا به.6
كما قال تعالى: {فتحرير رقبة مؤمنة}7. والأدلة على ما عليه سلف الأمة وأئمتها -أن الإيمان: قول وعمل ونية يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم-(7/247)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية : 65.
2 سورة الأحزاب آية : 36.
3 سورة القصص آية : 50.
4 البخاري: كتاب الأشربة (5578): باب قول الله تعالى: إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون . ومسلم: كتاب الإيمان (57) (100): باب نقصان الإيمان بالمعاصي ونفيه عن المتلبس بالمعصية على إرادة نفي كماله.
5 رواه البخاري ومسلم.
6 في قرة العيون: وهذا التوحيد الذي لا يشوبه شرك ولا كفر. وهذا هو الذي يذهب إليه أهل السنة والجماعة خلافا للخوارج والمعتزلة؛ فإن الخوارج يكفرون بالذنوب، والمعتزلون لا يطلقون عليه الإيمان، ويقولون بتخليده في النار, وكلا الطائفتين ابتدع في الدين وترك ما دل عليه الكتاب والسنة. وقد قال تعالى: (4: 48) ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ). فقيد مغفرة ما دون الشرك بالمشيئة، وتواترت الأحاديث بما يحقق ما ذهب إليه أهل السنة. فقد أخرج البخاري وغيره عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير, ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه وزن ذرة من خير ".
7 سورة النساء آية : 92.(7/248)
ص -398- ... أكثر من أن تحصر، فمن ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}1 أي صلاتكم إلى بيت المقدس قبل تحويل القبلة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس: "آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله "2. الحديث، وهو في الصحيحين والسنن. والدليل على أن الإيمان يزيد قوله تعالى: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً}3 الآية.
وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً}4 الآية. خلافا لمن قال: إن الإيمان هو القول، وهم المرجئة، وإن قال: من الإيمان هو التصديق كالأشاعرة. ومن المعلوم عقلا وشرعا أن نية الحق تصديق، والعمل به تصديق، وقول الحق تصديق، وليس مع أهل البدع ما ينافي قول أهل السنة والجماعة ولله الحمد والمنة. قال الله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} - إلى قوله -: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا}5 . أي فيما عملوا به في هذه الآية من الأعمال الظاهرة والباطنة. وشاهده في كلام العرب قولهم: حملة صادقة. وقد سمى الله تعالى الهوى المخالف لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إلها، فقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}6 قال بعض المفسرين: لا يهوى شيئا إلا ركبه.
قال ابن رجب -رحمه الله-: أما معنى الحديث: فهو أن الإنسان لا يكون مؤمنا كامل الإيمان الواجب، حتى تكون محبته تابعة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي وغيرها. فيحب ما أمر به ويكره ما نهي عنه، وقد ورد القرآن بمثل هذا المعنى في غير موضع، وذم سبحانه من كره ما أحبه الله أو أحب ما كرهه الله كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}7.(7/249)
فالواجب على كل مؤمن أن يحب ما أحبه الله محبة توجب له الإتيان بما أوجب عليه منه، فإن زادت المحبة حتى أتى بما ندب إليه منه كان ذلك فضلا، وأن يكره ما يكرهه الله كراهة توجب له الكف عما حرم عليه منه، فإن زادت الكراهة حتى أوجبت الكف عما كرهه تنزيها كان ذلك فضلا. فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه أوجب ذلك له أن يحب بقلبه ما يحب الله ورسوله، ويكره ما يكرهه الله ورسوله، فيرضى ما يرضى به الله ورسوله، ويسخط ما يسخط الله ورسوله، ويعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض، فإن عمل بجوارحه شيئا يخالف ذلك، بأن ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسوله وترك ما يحبه الله ورسوله مع وجوبه والقدرة عليه، دل ذلك على نقص محبته الواجبة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 143.
2البخاري: كتاب الإيمان (53): باب أداء الخمس من الإيمان. ومسلم: كتاب الإيمان (17) (24): باب الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وشرائع الدين وأبو داود: كتاب الأشربة (3692): باب في الأوعية والترمذي: كتاب الإيمان (2611): باب ما جاء في إضافة الفرائض إلى الإيمان. والنسائي: كتاب الإيمان (8/ 120): باب آداء الخمس، وأحمد (4/113).
3 سورة المدثر آية : 31.
4 سورة التوبة آية : 124.
5 سورة البقرة آية : 177.
6 سورة الجاثية آية : 23.
7 سورة محمد آية : 28.(7/250)
ص -399- ... فعليه أن يتوب من ذلك ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة التي هي ركن العبادة إذا كملت، فجميع المعاصي تنشأ عن تقديم هوى النفس على محبة الله ورسوله.
وقال الشعبي: " كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد، -لأنه عرف أنه لا يأخذ الرشوة-، وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود، لعلمه أنهم يأخذون الرشوة. فاتفقا أن يأتيا كاهنا في جُهينة فيتحاكما إليه " 1. فنزلت {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ}2 الآية.
وقد وصف الله المشركين بأتباع الهوى في مواضع من كتابه، فقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ}3. وكذلك البدع إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع. ولهذا سمي أهلها أهل الأهواء، وكذلك المعاصي إنما تنشأ من تقديم الهوى على محبة الله ومحبة ما يحبه، وكذلك حب الأشخاص: الواجب فيه أن يكون تبعا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فيجب على المؤمن محبة ما يحبه الله من الملائكة والرسل والأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين عموما; ولهذا كان من علامات وجود حلاوة الإيمان: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله4 فتحرم موالاة أعداء الله ومن يكرهه الله عموما، وبهذا يكون الدين كله لله. ومن أحب لله وأبغض لله، وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان، ومن كان حبه وبغضه وعطاؤه ومنعه لهوى نفسه كان ذلك نقصا في إيمانه الواجب، فتجب التوبة من ذلك. انتهى ملخصا.
ومناسبة الحديث للترجمة: بيان الفرق بين أهل الإيمان وأهل النفاق والمعاصي في أقوالهم وأفعالهم وإرادتهم.
قوله: "وقال الشعبي". هو عامر بن شراحيل الكوفي، عالم أهل زمانه;
وقيل: " نزلت في رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف. ثم ترافعا إلى عمر، فذكر له(7/251)
أحدهما القصة، فقال للذي لم يرض برسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذلك؟ قال: نعم. فضربه بالسيف فقتله".
وكان حافظا علامة ذا فنون. كان يقول: "ما كتبت سوداء في بيضاء"5، وأدرك خلقا كثيرا من الصحابة، وعاش بضعا وثمانين سنة. قاله الذهبي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ضعيف بهذا اللفظ. رواه ابن جرير (5/ 97) مرسلا. وأما السبب الذي ذكره المصنف بقوله: "وقيل: نزلت في رجلين... فموضوع. فقد علقه الواحدي في أسباب النزول ص 107 , 108، والبغوي في تفسيره (1/ 552). وفي إسناده كذاب. وقد صح في سبب نزول هذه الآية ما أخرجه الطبراني (12045) وغيره عن ابن عباس قال: "كان أبو بردة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون إليه, فتنافر إليه أناس من المسلمين فأنزل الله تعالى: ( ألم تر إلى الذين يزعمون ) الآية. قال الهيثمي (7/ 6): رجاله رجال الصحيح, وقال الحافظ في الإصابة (4/ 19): وسنده جيد; وأفاده الدوسري في النهج السديد (449).
2 سورة النساء آية : 60.
3 سورة القصص آية : 50.
4 لما روى البخاري وغيره: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه، كما يكره أن يقذف في النار".
5 لشدة حفظه واستغنائه به عن الكتابة.(7/252)
ص -400- ... وفيما قاله الشعبي ما يبين أن المنافق يكون أشد كراهة لحكم الله ورسوله من اليهود والنصارى، ويكون أشد عداوة منهم لأهل الإيمان. كما هو الواقع في هذه الأزمنة وقبلها من إعانة العدو على المسلمين، وحرصهم على إطفاء نور الإسلام والإيمان، ومن تدبر ما في التاريخ وما وقع منهم من الوقائع عرف أن هذا حال المنافقين قديما وحديثا، وقد حذر الله نبيه صلى الله عليه وسلم من طاعتهم والقرب منهم، وحضه على جهادهم في مواضع من كتابه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}1 الآية. وقي قصة عمر رضي الله عنه وقتله المنافق الذي طلب التحاكم إلى كعب بن الأشرف اليهودي دليل على قتل من أظهر الكفر والنفاق، وكان كعب بن الأشرف هذا شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم والأذى له، والإظهار لعداوته فانتقض به عهده، وحل به قتله. وروى مسلم في صحيحه عن عمر: سمعت جابرا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله، قال محمد بن مسلمة: يا رسول الله، أتحب أن أقتله؟ قال: نعم، قال: ائذن لي فلأقلْ، قال: قل، فأتاه فقال له، وذكر ما بينهما وقال: إن هذا الرجل قد أراد صدقة وقد عنّانا. فلما سمعه قال: وأيضا والله لتملنه، قال: إنا قد اتبعناه الآن، ونكره أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير أمره، قال: وقد أردت أن تسلفني سلفا، قال: فما ترهنني؟ قال: ما تريد؟ قال: ترهنني نساءكم؟ قال: أنت أجمل العرب، أنرهنك نساءنا؟ قال: ترهنوني أولادكم؟ قال: يُسبُّ ابن أحدنا فيقال: رُهن في وسقين من تمر. ولكن نرهنك اللامة- يعني السلاح- قال: فنعم. وواعده أن يأتيه بالحارث وأبي عبس ابن جبر وعباد بن بشر. قال: فجاءوا فدعوه ليلا فنزل إليهم. -قال سفيان: قال غير عمرو:- قالت له امرأته: إني أسمع صوتا كأنه صوت دم، قال: إنما هذا محمد بن مسلمة ورضيعه وأبو نائلة2؛ إن(7/253)
الكريم لو دعي إلى طعنة ليلا لأجاب. قال محمد: إني إذا جاء فسوف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية : 73.
2 قال النووي: هكدا هو في جميع النسخ. قال القاضي -رحمه الله-: قال لنا شيخنا القاضي الشهيد: صوابه أن يقال: إنما هو محمد ورضيعه أبو نائلة. وكذا ذكر أهل السير أن أبا نائلة كان رضيعا لمحمد بن مسلمة. ووقع في صحيح البخاري: "ورضيعي أبو نائلة".(7/254)
ص -401- ... أمد يدي إلى رأسه، فإذا استمكنت منه فدونكم، قال: فلما نزل وهو متوشح. فقالوا: نجد منك ريح الطيب، قال: نعم، تحتي فلانة أعطر نساء العرب، قال: فتأذن لي أن أشم منه؟ قال: نعم. فشم، فتناول فشم، ثم قال: أتأذن لي أن أعود؟ قال: فاستمكن من رأسه. ثم قال: دونكم. قال: فقتلوه " 1.
وفي قصة عمر: بيان أن المنافق المغموض بالنفاق إذا أظهر نفاقه قتل، كما في الصحيحين وغيرهما:
أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ترك قتل من أظهر نفاقه منهم تأليفا للناس؛ فإنه قال: " لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه " 2. فصلوات الله وسلامه عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم كتاب الجهاد والسير (1801) (119): باب قتل كعب بن الأشرف طاغوت اليهود. من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-. وهذا تقصير، فالحديث أخرجه البخاري أيضا: كتاب الرهن (2510): باب رهن السلاح.
2 البخاري: كتاب المناقب (3518): باب ما ينهى من دعوى الجاهلية. مسلم: كتاب البر والصلة (2584) (63): باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما. من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-.(7/255)
باب: من جحد شيئا من الأسماء والصفات، وقول الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات. وقول الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} .
سبب نزول هذه الآية معلوم مذكور في كتب التفسير وغيرها. وهو أن مشركي قريش جحدوا اسم "الرحمن" عنادا. وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}2. و"الرحمن" اسمه وصفته، دل هذا الاسم على أن الرحمة وصفه سبحانه، وهي من صفات الكمال; فإذا كان المشركون جحدوا اسما من أسمائه تعالى، وهو من الأسماء التي دلت على كماله سبحانه وبحمده، فجحود معنى هذا الاسم ونحوه من الأسماء يكون كذلك، فإن جهم بن صفوان ومن تبعه يزعمون أنها لا تدل على صفة قائمة بالله تعالى، وتبعهم على ذلك طوائف من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم.
فلهذا كفرهم كثيرون من أهل السنة. قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-:
ولقد تقلد كفرهم خمسون في ... عشر من العلماء في البلدان
واللالكائي الإمام حكاه عن ... هم بل حكاه قبله الطبراني
فإن هؤلاء الجهمية ومن وافقهم على التعطيل جحدوا ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الرعد آية : 30.
2 سورة الإسراء آية : 110.(7/256)
ص -402- ... من صفات كماله ونعوت جلاله، وبنوا هذا التعطيل على أصل باطل أصّلوه من عند أنفسهم فقالوا: هذه الصفات هي صفات الأجسام. فيلزم من إثباتها أن يكون الله جسما، هذا منشأ ضلال عقولهم، لم يفهموا من صفات الله إلا ما فهموه من خصائص صفات المخلوقين، فشبهوا الله في ابتداء آرائهم الفاسدة بخلقه، ثم عطلوه من صفات كماله، وشبهوه بالناقصات والجمادات والمعدومات; فشبهوا أولا
وفي صحيح البخاري قال علي: " حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتريدون أن يُكَذَّب الله ورسوله؟ " 1.
وعطلوا ثانيا، وشبهوه ثالثا بكل ناقص ومعدوم، فتركوا ما دل عليه الكتاب والسنة من إثبات ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله على ما يليق بجلاله وعظمته. وهذا هو الذي عليه سلف الأمة وأئمتها؛ فإنهم أثبتوا لله ما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل، فإن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يحتذى حذوه، فكما أن هؤلاء المعطلة يثبتون لله ذاتا لا تشبه الذوات، فأهل السنة يقولون ذلك ويثبتون ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله من صفات كماله ونعوت جلاله، لا تشبه صفاته صفات خلقه; فإنهم آمنوا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يتناقضوا، وأولئك المعطلة كفروا بما في الكتاب والسنة من ذلك وتناقضوا. فبطل قول المعطلين بالعقل والنقل ولله الحمد والمنة، وإجماع أهل السنة من الصحابة والتابعين وتابعيهم وأئمة المسلمين.
وقد صنف العلماء -رحمهم الله تعالى- في الرد على الجهمية والمعطلة والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم في إبطال هذه البدع، وما فيها من التناقض والتهافت: كالإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في رده المشهور، وكتاب السنة لابنه عبد الله، وصاحب الحيدة عبد العزيز الكتاني في رده على بشر المريسي، وكتاب السنة لأبي عبد الله المروزي، ورد عثمان بن سعيد على الكافر العنيد. وهو بشر المريسي، وكتاب التوحيد لإمام الأئمة محمد بن(7/257)
خزيمة الشافعي، وكتاب السنة لأبي بكر الخلال، وأبي عثمان الصابوني الشافعي، وشيخ الإسلام الأنصاري، وأبي عمر بن عبد البر النمري، وخلق كثير من أصحاب الأئمة الأربعة وأتباعهم، وأهل الحديث. ومن متأخريهم: أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة، وشيخ الإسلام ابن تيمية وأصحابه وغيرهم -رحمهم الله تعالى-. فلله الحمد والمنة على بقاء السنة وأهلها مع تفرق الأهواء وتشعب الآراء. والله أعلم.
قوله: "وفي صحيح البخاري قال علي رضي الله عنه: " حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتريدون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: كتاب العلم (127): باب من خص بالعلم قوما دون قوم كراهية لا يفهموا.(7/258)
ص -403- ... أن يُكَذَّب الله ورسوله؟ ".
"علي": هو أمير المؤمنين أبو الحسن علي ابن أبي طالب، وأحد الخلفاء الراشدين. وسبب هذا القول - والله أعلم - ما حدث في خلافته من كثرة إقبال الناس على الحديث، وكثرة القصاص وأهل الوعظ. فيأتون في قصصهم بأحاديث لا تعرف من هذا القبيل1 فربما استنكرها بعض الناس وردها. وقد يكون لبعضها أصل أو معنى صحيح، فيقع بعض المفاسد لذلك، فأرشدهم أمير المؤمنين رضي الله عنه إلى أنهم لا يحدثون عامة الناس إلا بما هو معروف ينفع الناس في أصل دينهم وأحكامه، من بيان الحلال من الحرام الذي كلفوا به علما وعملا، دون ما يشغل عن ذلك مما قد يؤدي إلى رد الحق وعدم قبوله فيفضي بهم إلى التكذيب، ولا سيما مع اختلاف الناس في وقته، وكثرة خوضهم وجدلهم.
وقد كان شيخنا المصنف -رحمه الله- لا يحب أن يقرأ على الناس إلا ما ينفعهم في أصل دينهم، وعباداتهم ومعاملاتهم الذي لا غنى لهم عن معرفته، وينهاهم عن القراءة في مثل كتب ابن الجوزي: كالمنعش، والمرعش، والتبصرة؛ لما في ذلك من الإعراض عما هو أوجب وأنفع، وفيها ما الله به أعلم مما لا ينبغي اعتقاده. والمعصوم من عصمه الله.
وقد كان أمير المؤمنين معاوية ابن أبي سفيان ينهى القصاص عن القصص; لما في قصصهم من الغرائب والتساهل في النقل وغير ذلك; ويقول: " لا يقص إلا أمير أو مأمور " 2. وكل هذا محافظة على لزوم الثبات على الصراط
وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس: " أنه(7/259)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد كان هؤلاء القصاص لعدم تحريهم الصدق سببا في وضع كثير من الأحاديث على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- , ذكرها أئمة الجرح والتعديل, وحذروا الناس منها. ودونوا دواوين الصحاح والسنن والمسانيد. فلا ينبغي لأحد اليوم أن ينسب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- حديثا إلا بذكر من خرجه, وخير وأولى أن يشفعه ببيان درجته من الصحة أو الضعف، إذا كان في غير الصحيحين.
2 ثبت هذا مرفوعا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث عوف بن مالك بلفظ: " لا يقص إلا أمير, أو مأمور, أو مختال". أخرجه أبو داود: كتاب العلم (3665): باب في القصص. وأحمد (6/22 ، 6/27 ، 6/29). وصححه الألباني في صحيح الجامع (7630).(7/260)
ص -404- ... رأى رجلا انتفض لما سمع حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات - استنكارا لذلك- فقال: ما فَرَقُ هؤلاء؟ يجدون رِقّة عند مُحكمه، ويهلكون عند متشابهه " 1. انتهى.
المستقيم علما وعملا ونية وقصدا، وترك كل ما كان وسيلة إلى الخروج عنه من البدع ووسائلها، والله الموفق للصواب، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قوله: "وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس: " أنه رأى رجلا انتفض لما سمع حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكارا لذلك، فقال: ما فَرق هؤلاء؟ يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه ". قوله: "وروى عبد الرزاق" هو ابن همام الصنعاني المحدث، محدث اليمن صاحب التصانيف، أكثر الرواية عن معمر بن راشد صاحب الزهري، وهو شيخ عبد الرزاق يروي عنه كثيرا.
ومعمر- بفتح الميمين وسكون العين- أبو عروة ابن أبي عمرو راشد الأزدي الحراني ثم اليماني، أحد الأعلام من أصحاب محمد بن شهاب الزهري يروي عنه كثيرا.
قوله: "عن ابن طاوس" هو عبد الله بن طاوس اليماني. قال معمر: " كان من أعلم الناس بالعربية". وقال ابن عيينة: مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
قوله: "عن أبيه" هو طاوس بن كيسان الجندي -بفتح الجيم والنون- الإمام العلم، قيل: اسمه ذَكوان. قاله ابن الجوزي.
قلت: وهو من أئمة التفسير ومن أوعية العلم، قال في تهذيب الكمال: عن الوليد الموقري عن الزهري قال: " قدمت على عبد الملك بن مروان فقال: من أين قدمت يا زهري؟ قال: قلت: من مكة، قال: ومن خلفت يسودها وأهلها؟ قلت: عطاء ابن أبي رباح. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي. قال: فبم سادهم؟ قال: قلت: بالديانة والرواية. قال: إن أهل الديانة والرواية لينبغي أن يسودوا. قال: فمن يسود أهل اليمن؟ قلت: طاوس بن كيسان. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي. قال: فبم سادهم؟ قلت: بما ساد به عطاء. قال: إنه لينبغي ذلك.(7/261)
قال: فمن يسود أهل مصر؟ قلت: يزيد بن حبيب. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي. قال: فمن يسود أهل الشام؟ قلت: مكحول. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي، عبد نوبي أعتقته امرأة من هذيل. قال: فمن يسود أهل الجزيرة؟ قلت: ميمون بن مهروان. قال: فمن العرب أم من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح. أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (485). وقال الألباني في تخريج السنة: "إسناده صحيح رجاله ثقات على شرط مسلم غير ابن ثور واسمه محمد وهو ثقة اتفافا" ا.هـ.(7/262)
ص -405- ... الموالي؟ قال: قلت: من الموالي. قال: فمن يسود أهل خراسان؟ قال: قلت: الضحاك بن مزاحم. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي. قال: فمن يسود أهل البصرة؟ قال: قلت: الحسن البصري. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي. قال: ويلك، ومن يسود أهل الكوفة؟ قال: قلت: إبراهيم النخعي. قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من العرب. قال: ويلك يا زهري فرجت عني، والله لتسودن الموالي على العرب في هذا البلد حتى يخطب لها على المنابر والعرب تحتها. قال: قلت: يا أمير المؤمنين، إنما هو دين، مَن حفظه ساد، ومن ضيعه سقط " .
قوله: "عن ابن عباس" قد تقدم، وهو حبر الأمة وترجمان القرآن، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم وقال: " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " 1.
وروى عنه أصحابه أئمة التفسير: كمجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء ابن أبي رباح، وطاوس وغيرهم.
قوله: "ما فرق هؤلاء ؟" يستفهم من أصحابه، يشير إلى أناس ممن يحضر مجلسه من عامة الناس، فإذا سمعوا شيئا من محكم القرآن ومعناه حصل معهم فَرق أي خوف، فإذا سمعوا شيئا من أحاديث الصفات انتفضوا كالمنكرين له، فلم يحصل منهم الإيمان الواجب الذي أوجبه الله تعالى على عباده المؤمنين2. قال الذهبي: حدث وكيع عن إسرائيل بحديث: "إذا جلس الرب على الكرسي" فاقشعر رجل عند وكيع، فغضب وكيع وقال: "أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث ولا ينكرونها". أخرجه عبد الله بن أحمد في كتاب الرد على الجهمية. وربما حصل معهم من عدم تلقيه بالقبول ترك ما وجب من الإيمان به، فتشبه حالهم حال من قال الله فيهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}3. فلا يسلم من الكفر إلا من عمل بما وجب عليه في ذلك من الإيمان بكتاب الله كله واليقين، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ(7/263)
وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه برقم (44).
2 قال الشيخ -رحمه الله- في قرة عيون الموحدين: وقد ظهر من البدع في زمن ابن عباس بدعة القدرية كما في صحيح مسلم وغيره، فقتل من دعاتهم غيلان. قتله هشام بن عبد الملك لما أصر على قوله بنفي القدر. ثم بعد ذلك أظهر الجعد بن درهم بدعة الجهمية, فقتله خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى بعد صلاة العيد بمكة. اهـ.
3 سورة البقرة آية : 85.(7/264)
ص -406- ... يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ}1. فهؤلاء الذين ذكرهم ابن عباس -رضي الله عنهما- تركوا ما وجب عليهم من الإيمان بما لم يعرفوا معناه من القرآن، وهو حق لا يرتاب فيه مؤمن، وبعضهم يفهم منه غير المراد من المعنى الذي أراد الله فيحمله على غير معناه، كما جرى لأهل البدع: كالخوارج والرافضة والقدرية، ونحوهم ممن يتأول بعض آيات القرآن على بدعته. وقد وقع منهم الابتداع والخروج عن الصراط المستقيم; فإن الواقع من أهل البدع وتحريفهم لمعنى الآيات يبين معنى قول ابن عباس.
وسبب هذه البدع جهل أهلها وقصورهم في الفهم، وعدم أخذ العلوم الشرعية على وجهها، وتلقيها من أهلها العارفين لمعناها الذين وفقهم الله تعالى لمعرفة
المراد، والتوفيق بين النصوص، والقطع بأن بعضها لا يخالف بعضا، ورد المتشابه إلى المحكم. وهذه طريقة أهل السنة والجماعة في كل زمان ومكان، فلله الحمد لا نحصي ثناء عليه.
" ذكر ما ورد عن علماء السلف في المتشابه"
قال في الدر المنثور: أخرج الحاكم – وصححه-2 عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد، فنزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زجر، وأمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال. فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه، وقولوا آمنا به كل من عند ربنا ". قال: وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ}3 الآية. قال: طلب القوم التأويل، فأخطأوا التأويل وأصابوا الفتنة، وطلبوا ما تشابه منه فهلكوا بين ذلك. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ}4 قال: "منهن قوله تعالى:(7/265)
{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}5 إلى ثلاث آيات، ومنهن " {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه}6 إلى آخر الآيات".
وأخرج ابن جرير من طريق أبي مالك عن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مُرّة عن ابن مسعود وناس من الصحابة -رضي الله عنهم-: "المحكمات الناسخات التي يعمل بهن، والمتشابهات المنسوخات".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية : 7.
2 352- حسن: الحاكم (1/ 553). وحسنه الألباني في الصحيحة (587) لطرقه.
3 سورة آل عمران آية : 7.
4 سورة آل عمران آية : 7.
5 سورة الأنعام آية : 151.
6 سورة الإسراء آية : 23.(7/266)
ص -407- ... ولما سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر " الرحمن " أنكروا ذلك. فأنزل الله فيهم {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ}1 .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن إسحاق بن سويد أن يحيى بن يعمر وأبا فاختة تراجعا هذه الآية {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ}2 فقال أبو فاختة: "هن فواتح السور، منها يستخرج القرآن {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ} منها استخرجت البقرة، و {الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ}3 منها استخرجت آل عمران. وقال يحيى: هن اللاتي فيهن الفرائض، والأمر والنهي والحلال والحرام، والحدود وعماد الدين".4
وأخرج ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: "المحكمات فيهن حجة الرب وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس فيه تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه. "وأخر متشابهات" في الصدق، لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله بهن العباد كما ابتلاهم بالحلال والحرام، لا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق".
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان إنما قال: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ}؛ لأنه ليس من أهل دين لا يرضى بهن. {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}5 يعني فيما بلغنا "الم" و "المص" و "المر".
قلت: وليس في هذه الآثار ونحوها ما يشعر بأن أسماء الله تعالى وصفاته من المتشابه، وما قال النفاة من أنها من المتشابه دعوى بلا برهان.
قوله: "ولما سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن أنكروا ذلك فأنزل الله فيهم {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ}. روى ابن جرير عن قتادة: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية حين صالح قريشا كتب "هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فقال مشركو قريش:"6 لئن كنت رسول الله ثم قاتلناك لقد ظلمناك، ولكن أكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله. فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله دعنا نقاتلهم. فقال: لا. اكتبوا كما يريدون:(7/267)
إني محمد بن عبد الله. فلما كتب الكاتب "بسم الله
فيه مسائل:
الأولى: عدم الإيمان بجحد شيء من الأسماء والصفات.
الثانية: تفسير آية الرعد.
الثالثة: ترك التحديث بما لا يفهم السامع.
الرابعة: ذكر العلة أنه يُفضي إلى تكذيب الله ورسوله ولو لم يتعمد المنكر.
الخامسة: كلام ابن عباس لمن استنكر شيئا من ذلك وأنه أهلكه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الرعد آية : 30.
2 سورة آل عمران آية : 7.
3 سورة آل عمران آية : 1-2.
4 تمام الأثر عند ابن جرير: "وضرب لذلك مثلا. فقال: أم القرى مكة. وأم خراسان مرو. وأم المسافرين: الذي يجعلون إليه أمرهم. ويعنى بهم في سفرهم. قال: فذاك أمهم".
5 سورة آل عمران آية : 7.
6 الذي كان يقول ذلك هو سهيل بن عمرو الذي ندبته قريش ليتولى عنها عقد هذا الصلح مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.(7/268)
ص -408- ... الرحمن الر حيم" قالت قريش: أما الرحمن فلا نعرفه. وكان أهل الجاهلية يكتبون باسمك اللهم. فقال أصحابه: دعنا نقاتلهم. قال: لا. ولكن اكتبوا كما يريدون". وروي أيضا عن مجاهد قال: قوله: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}1. قال: "هذا ما كاتب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا في الحديبية; كتب "بسم الله الرحمن الرحيم" قالوا: لا تكتب الرحمن، لا ندري ما الرحمن؟ لا نكتب إلا باسمك اللهم. قال الله تعالى: {وهم يكفرون بالرحمن} الآية.
وروي أيضا عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ساجدا: يا رحمن يا رحيم، فقال المشركون: هذا يزعم أنه يدعو واحدا وهو يدعو مثنى مثنى، فأنزل الله: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}2 الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الرعد آية : 30.
2 سورة الإسراء آية : 110.(7/269)
باب: قوله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ}1
قول مجاهد ما معناه: " هو قول الرجل: هذا مالي ورثته عن آبائي".
وقال عون بن عبد الله: " يقولون لولا فلان لم يكن كذا".
وقال قتيبة: " يقولون: هذا بشفاعة آلهتنا".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ}".
ذكر المصنف -رحمه الله- ما ذكر بعض العلماء في معناها. وقال ابن جرير: فإن أهل التأويل اختلفوا في المعني بالنعمة. فذكر عن سفيان عن السدي {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية : 83.(7/270)
ص -409- ... يُنْكِرُونَهَا}. قال: "محمد صلى الله عليه وسلم". وقال آخرون: بل معنى ذلك أنهم يعرفون أن ما عدد الله تعالى ذكره في هذه السورة من النعم من عند الله، وأن الله هو المنعم عليهم بذلك، ولكنهم ينكرون ذلك، فيزعمون أنهم ورثوه عن آبائهم.
وأخرج عن مجاهد: " "يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها". قال: هي المساكن والأنعام وما يرزقون منها، والسرابيل من الحديد والثياب، تعرف هذا كفار قريش ثم تنكره، بأن تقول: هذا كان لآبائنا فورثونا إياه". وقال آخرون: معنى ذلك أن الكفار إذا قيل لهم: من رزقكم؟ أقروا بأن الله هو الذي يرزقهم ثم ينكرونه بقولهم: رزقنا ذلك بشفاعة آلهتنا.
وذكر المصنف مثل هذا عن ابن قتيبة، وهو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري قاضي مصر1 النحوي اللغوي، صاحب المصنفات البديعة المفيدة المحتوية على علوم جمة، اشتغل ببغداد وسمع الحديث على إسحاق بن راهويه وطبقته. توفي سنة ست وسبعين ومائتين.
وقال أبو العباس -بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه أن الله تعالى قال: " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر " الحديث. وقد تقدم-: " وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به.
قال بعض السلف: هو كقولهم: كانت الريح طيبة والملاح حاذقا، ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثير".
وقال آخرون: ما ذكره المصنف "عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي" أبو عبد الله الكوفي الزاهد عن أبيه وعائشة وابن عباس، وعنه قتادة وأبو الزبير والزهري، وثقه أحمد وابن معين. قال البخاري: مات بعد العشرين ومائة {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا}2 قال: "إنكارهم إياها أن يقول الرجل: لولا فلان ما كان كذا وكذا، ولولا فلان ما أصبت كذا وكذا". واختار ابن جرير القول الأول، واختار غيره أن الآية تعم ما ذكره العلماء في معناها. وهو الصواب والله أعلم.
قوله: "قال مجاهد" هو شيخ التفسير: الإمام(7/271)
الرباني، مجاهد بن جبر المكي مولى بني مخزوم. قال الفضل بن ميمون: سمعت مجاهدا يقول: عرضت المصحف على ابن عباس مرات; أقفه عند كل آية وأسأله فيم نزلت؟ وكيف نزلت؟ وكيف معناها؟ توفي سنة اثنتين ومائة. وله ثلاث وثمانون سنة -رحمه الله-.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعله قاضي الدينور; فإنه لم يتول القضاء إلا فيها.
2 سورة النحل آية : 83.(7/272)
ص -410- ... قوله: "وقال أبو العباس" هو شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الإمام الجليل -رحمه الله بعد حديث زيد بن خالد- وقد تقدم في باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء. قال: " وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به. قال بعض السلف: هو كقولهم: كانت الريح طيبة; والملاح حاذقا. ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثير". اهـ.
وكلام شيخ الإسلام يدل على أن حكم هذه الآية عام فيمن نسب النعم إلى غير الله الذي أنعم بها، وأسند أسبابها إلى غيره، كما هو مذكور في كلام المفسرين المذكور بعضه هنا.
قال شيخنا -رحمه الله-: " وفيه اجتماع الضدين في القلب، وتسمية هذا الكلام إنكارا للنعمة".
فيه مسائل:
الأولى: تفسير معرفة النعمة وإنكارها.
الثانية: معرفة أن هذا جار على ألسنة كثير.
الثالثة: تسمية هذا الكلام إنكارا للنعمة.
الرابعة: اجتماع الضدين في القلب.
باب: قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}". الند: المثل والنظير. وجعل الند لله: هو صرف أنواع العباده أو شيء منها لغير الله،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 22.(7/273)
ص -411- ... كحال عبدة الأوثان الذين يعتقدون فيمن دعوه ورجوه أنه ينفعهم ويدفع عنهم، ويشفع لهم. وهذه الآية في سياق قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}1. قال العماد ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: قال أبو العالية: لا تجعلوا لله أندادا أي عدلاء شركاء، وهكذا قال الربيع بن أنس وقتادة والسدي وأبو مالك وإسماعيل ابن أبي خالد.
وقال ابن عباس: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي لا تشركوا بالله شيئا من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر، وأنتم تعلمون أنه ربكم لا رب لكم يرزقكم غيره، وقد علمتم أن الذي يدعوكم الرسول إليه من توحيده هو الحق الذي لا شك فيه. وكذلك قال قتادة. وعن قتادة ومجاهد: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} قال: أكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله. وقال ابن زيد: الأنداد هي الآلهة التي جعلوها معه وجعلوا لها مثل ما جعلوا له. وعن ابن عباس {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} أشباها، وقال مجاهد: "فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون". قال: تعلمون أنه إله واحد في التوراة والإنجيل. وذكر حديثا في معنى هذه الآية الكريمة، وهو ما في مسند أحمد: عن الحارث الأشعري أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله أمر يحيى بن زكريا -عليه السلام- بخمس كلمات أن يعمل بهن، وأن يأمر بنى إسرائيل أن يعملوا بهن، وأنه كاد أن يبطئ بها. فقال له عيسى -عليه السلام-: إن الله أمرك بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، فإما أن تبلغهن وإما أن أبلغهن. فقال: يا أخي; إني أخشى إن(7/274)
سبقتني أن أُعذب أو يخسف بي. قال: فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس، حتى امتلأ المسجد وقُعد على الشرف. فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن: أولاهن: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، فإن مثل ذلك كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بذهب أو ورق; فجعل يعمل ويؤدي غَلّته إلى غير سيده، فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك؟ وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا. وآمركم بالصلاة؛ فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت، فإذا صليتم فلا تلتفتوا. وآمركم بالصيام; فإن مثل ذلك كمثل رجل معه صرة من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك. وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 21-22.(7/275)
ص -412- ... من ريح المسك. وآمركم بالصدقة; فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فشدوا يديه إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه، فقال لهم: هل لكم أن أفتدي نفسي منكم؟ فجعل يفتدي بالقليل والكثير حتى فك نفسه. وآمركم بذكر الله كثيرا; فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعا في أثره، فأتى حصنا حصينا فتحصن فيه، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله. قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن: الجماعة والسمع والطاعة، والهجرة; والجهاد في سبيل الله؛ فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جُثى1 جهنم. قالوا: يا رسول الله وإن صلى وصام؟ فقال: وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، فادعوا المسلمين بأسمائهم التي سماهم الله عز وجل المسلمين المؤمنين عباد الله" 2.
وهذا حديث حسن، والشاهد منه في هذه الآية قوله: "إن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا". وهذه الآية دالة على توحيد الله تعالى بالعبادة وحده لا شريك له. وقد استدل بها كثير من المفسرين على وجود الصانع، وهي دالة على ذلك بطريق الأولى. والآيات الدالة على هذا المقام في القرآن كثيرة جدا. وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد:
تأمل في نبات الأرض وانظر ... إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين ناظرات ... بأحداق هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات ... بأن الله ليس له شريك
وقال ابن المعتز:
فيا عجبا كيف يعصى الإل ... ه أم كيف يجحده الجاحد؟
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
قوله: "وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- في الآية: "الأنداد: هو الشرك، أخفى من دبيب(7/276)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الجثا: بضم الميم وفتح الثاء المثلثة مقصورا -جمع جثو بضم الجيم- وهو الشيء المجموع . قال ابن الأثير: وتروى هذه الكلمة "جثي" بضم الجيم وكسر الثاء وتشديد الياء.. جمع جاث: وهو الذي يجلس على ركبتيه.
2 صحيح. أحمد (4/ 130 , 202 , 344)، وصححه ابن حبان (1550- موارد)، والحاكم (1/ 421 , 422)، ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1720).(7/277)
ص -413- ... النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل. وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلان وحياتي. وتقول: لولا كليبة هذه لأتانا اللصوص. ولولا البط في الدار لأتانا اللصوص. وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت. وقول الرجل: لولا الله وفلان، لا تجعل فيها فلانا. هذا كله به شرك". رواه ابن أبي حاتم" بين ابن عباس -رضي الله عنهما- أن هذا كله من الشرك، وهو الواقع اليوم على ألسن كثير ممن لا يعرف التوحيد ولا الشرك، فتنبه لهذه الأمور؛ فإنها من المنكر العظيم الذي يجب النهي عنه والتغليظ فيه؛ لكونه من أكبر الكبائر. وهذا من ابن عباس -رضي الله عنهما- شبيه بالأدنى من الشرك على الأعلى.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من حلف بغير الله فقد كفر، أو أشرك " 1. رواه الترمذي وحسنه، وصححه الحاكم. وقال ابن مسعود: " لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا " 2.
"وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك " 3. رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم". قوله: "فقد كفر أو أشرك" يحتمل لي أن يكون شكا من الراوي، ويحتمل أن تكون أو بمعنى الواو، فيكون قد كفر وأشرك. ويكون من الكفر الذي هو دون الكفر الأكبر، كما هو من الشرك الأصغر. وورد مثل هذا عن ابن مسعود بهذا اللفظ.(7/278)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح. الترمذي: كتاب الأيمان والنذور (1535): باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله. والحاكم (1/ 18), (4/ 297) وصححه ووافقه الذهبي. من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6080). والحديث رواه أيضا أبو داود: كتاب الأيمان والنذور (3251): باب كراهية الحلف بالآباء.
2 صحيح. رواه الطبراني في الكبير (8902) بإسناد صحيح. وقال المنذري في الترغيب (3/ 607). وكذا الهيثمي في المجمع (4/ 177): "ورواته رواة الصحيح" ا.هـ.
3 وذلك لأن حقيقة اليمين والقصد منه: إنما هو تأكيد الحالف قوله بالقسم بالمحلوف به الذي يقدر أن ينتقم منه ويعاقبه إن كان كاذبا. ولذلك ترى أكثر العامة يحلفون بالله كذبا غير مبالين. فإذا استحلفوا بمن يعظمونه من الموتى والأولياء، ويعتقدون له السر والتصرف تكعكعوا وصدقوا، وإن كان في ذلك ذهاب بعض ما يحرصون عليه من منفعة, يضحون بها خوفا من عقاب وانتقام وتصرف ذلك الولي فيهم. ويؤكدون اعتقادهم هذا بحكايات مكذوبة يذيعها سدنة هذه المعابد الوثنية لجر النفع المادي باعتقاد العامة في أوليائهم. فيحكون أن رجلا سرق سمكة مملحة، وأكلها فاستحلفه المسروق منه بالله فأقسم بالله ثلاث مرات بأنه لم يأخذها ولم يرها فلم يحصل له شيء. فاستحلفه بأحمد البدوي فما كاد يلفظ الاسم حتى سبقت السمكة من بطنه ولفظها. وذلك منهم اعتقاد أن البدوي أغير وأعز وأقدر من الله. قبحهم الله وأخزاهم.(7/279)
ص -414- ... قوله: "وقال ابن مسعود: " لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا ".
ومن المعلوم أن الحلف بالله كاذبا كبيرة من الكبائر، لكن الشرك أكبر من الكبائر، وإن كان أصغر كما تقدم بيان ذلك. فإذا كان هذا حال الشرك الأصغر فكيف
بالشرك الأكبر الموجب للخلود في النار؟ كدعوة غير الله والاستغاثة به، والرغبة إليه، وإنزال حوائجه به; كما هو حال الأكثر من هذه الأمة في هذه الأزمان وما قبلها: من تعظيم القبور، واتخاذها أوثانا، والبناء عليها، واتخاذها مساجد، وبناء المشاهد باسم الميت لعبادة من بنيت باسمه وتعظيمه، والإقبال عليه بالقلوب والأقوال والأعمال. وقد عظمت البلوى بهذا الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، وتركوا ما دل عليه القرآن العظيم من النهي عن هذا الشرك وما يوصل إليه. قال الله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ}1. كفرهم الله تعالى بدعوتهم من كانوا يدعونه من دونه في دار الدنيا. وقد قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً}2. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً}3. وهؤلاء المشركون عكسوا الأمر فخالفوا ما بلغ به الأمة وأخبر به عن نفسه صلى الله عليه وسلم، فعاملوه بما نهاهم عنه من الشرك بالله والتعلق على غير الله حتى قال قائلهم:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذا بيدي ... فضلا وإلا فقل يا زلة القدم(7/280)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 37.
2 سورة الجن آية : 18.
3 سورة الجن آية : 20-21.(7/281)
ص -415- ... فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم
فانظر إلى هذا الجهل العظيم حيث اعتقد أنه لا نجاة له إلا بعياذه ولياذه بغير الله، وانظر إلى هذا الإطراء العظيم الذي تجاوز الحد في الإطراء الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم بقوله: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله ". رواه مالك وغيره1 2 . وقد قال تعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ}3 .
وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان "4 رواه أبو داود بسند صحيح.
وجاء عن إبراهيم النخعي " أنه يكره أعوذ بالله وبك. ويجوز أن يقول: بالله ثم بك. قال ويقول: لولا الله ثم فلان، ولا تقولوا: لولا الله وفلان".
فانظر إلى هذه المعارضة العظيمة للكتاب والسنة والمحادة لله ورسوله. وهذا الذي يقوله هذا الشاعر5 هو الذي في نفوس كثير خصوصا ممن يدعون العلم والمعرفة. ورأوا قراءة هذه المنظومة ونحوها لذلك وتعظيمها من القربات فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قوله: "وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء فلان ". رواه أبو داود بسند صحيح".
وذلك لأن المعطوف بالواو يكون مساويا للمعطوف عليه، لكونها إنما وضعت لمطلق الجمع، فلا تقتضي ترتيبا ولا تعقيبا. وتسوية المخلوق بالخالق شرك إن كان في الأصغر- مثل هذا- فهو أصغر، وإن كان في الأكبر فهو أكبر، كما قال الله تعالى عنهم في الدار الآخرة: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}6 بخلاف المعطوف بثم؛ فإن المعطوف بها يكون متراخيا عن المعطوف عليه بمهملة، فلا محذور لكونه صار تابعا.(7/282)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه برقم (160). ولم يروه مالك كما قال المؤلف هنا.
2 رواه البخاري عن ابن عباس عن عمر في باب قول الله تعالى: واذكر في الكتاب مريم من كتاب أحاديث الأنبياء، وفي كتاب الحدود في باب رجم الحبلى في الزنا إذا أحصنت. قال الحافظ في الفتح (ج 6 ص 314) تقول: أطريت فلانا: مدحته فأفرطت في مدحه.
3 سورة الأنعام آية : 50.
4 صحيح: أبو داود: كتاب الأدب (4980): باب لا يقال خبثت نفسي، وأحمد (5/384 ,5/398). وصححه الألباني في الصحيحة (137).
5 هو البوصيري في قصيدته المشهورة بالبردة التي هي عند الناس بمنزلة القرآن، وربما عظمها بعضهم أكثر. فإنه يواظب على قراءتها أكثر مما يواظب على قراءة القرآن.
6 سورة الشعراء آية : 97-98.(7/283)
ص -416- ... قوله: "وعن إبراهيم النخعي "أنه يكره أن يقول الرجل: أعوذ بالله وبك. ويجوز أن يقول: بالله ثم بك. قال: ويقول: لولا الله ثم فلان، ولا تقولوا: لولا الله وفلان".
وقد تقدم الفرق بين ما يجوز وما لا يجوز من ذلك. هذا إنما هو في الحي
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية البقرة في الأنداد.
الثانية: أن الصحابة يفسرون الآية النازلة في الشرك الأكبر أنها تعم الأصغر.
الثالثة: أن الحلف بغير الله شرك.
الرابعة: أنه إذا حلف بغير الله صادقا فهو أكبر من اليمين الغموس.
الخامسة: الفرق بين الواو وثم في اللفظ.
الحاضر الذي له قدرة وسبب في الشيء. وهو الذي يجري في حقه مثل ذلك. وأما في حق الأموات الذين لا إحساس لهم بمن يدعوهم، ولا قدرة لهم على نفع ولا ضر، فلا يقال في حقهم شيء من ذلك. فلا يجوز التعلق عليه بشيء ما بوجه من الوجوه، والقرآن يبين ذلك وينادي بأنه يجعلهم آلهة إذا سُئلوا شيئا من ذلك، أو رغب إليهم أحد بقوله أو عمله الباطن أو الظاهر، فمن تدبر القرآن ورزق فهمه صار على بصيرة من دينه وبالله التوفيق. والعلم لا يؤخذ قسرا وإنما يؤخذ بأسباب ذكرها بعضهم في قوله:
أخي لن تنال العلم إلا بستة ... سأنبيك عن تفصيلها ببيان
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة ... وإرشاد أستاذ وطول زمان
وأعظم من هذه الستة من رزقه الله تعالى الفهم والحفظ، وأتعب نفسه في تحصيله فهو الموفق لمن شاء من عباده، كما قال تعالى {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}1.
والجهل داء قاتل وشفاؤه ... أمران في التركيب متفقان
نص من القرآن أو من سنة ... وطبيب ذاك العالم الرباني
والعلم أقسام ثلاث ما لها ... من رابع والحق ذو تبيان
علم بأوصاف الإله وفعله ... وكذلك الأسماء للرحمن
والأمر والنهي الذي هو دينه ... وجزاؤه يوم المعاد الثاني(7/284)
والكل في القرآن والسنن التي ... جاءت عن المبعوث بالقرآن
بسواهما إلا من الهذيان
والله ما قال امرؤ متحذلق ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية : 113.(7/285)
ص -417- ... باب: " ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله"
عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تحلفوا بآبائكم. من حُلف له بالله فليُصَدِّق. ومن حُلف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله "1. رواه ابن ماجه بسند حسن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله"
"عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تحلفوا بآبائكم من حُلف بالله فليصدق، ومن حُلف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله ". رواه ابن ماجه بسند حسن".
قوله: "لا تحلفوا بآبائكم" تقدم النهي عن الحلف بغير الله عموما.
قوله: "من حلف بالله فليصدق" هذا مما أوجبه الله على عباده وحضّهم عليه في كتابه. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}2. وقال: {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ}3 وقال: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ}4. وهو حال أهل البر، كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} - إلى قوله-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}5 .
وقوله: " من حُلف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله ". أما إذا لم يكن له بحكم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح. ابن ماجة: كتاب الكفارات (2101): باب من حلف له بالله فليرض. وصححه الألباني في الإرواء (2765) وصحيح الجامع (7124).
2 سورة التوبة آية : 119.
3 سورة الأحزاب آية : 35.
4 سورة محمد آية : 21.
5 سورة البقرة آية : 177.(7/286)
ص -418- ... فيه مسائل:
الأولى: النهي عن الحلف بالآباء .
الثانية: الأمر للمحلوف له بالله أن يرضى .
الثالثة: وعيد من لم يرض .
بحكم الشريعة على خصمه إلا اليمين فأحلفه، فلا ريب أنه يجب عليه الرضا. وأما إذا كان فيما يجري بين الناس مما قد يقع في الاعتذارات من بعضهم لبعض ونحو ذلك، فهذا من حق المسلم على المسلم أن يقبل منه إذا حلف له معتذرا أو متبرئا من تهمة، ومن حقه عليه أن يحسن به الظن إذا لم يتبين خلافه، كما في الأثر عن عمر رضي الله عنه: " ولا تظنن بكلمة خرجت من مسلم شرا وأنت تجد لها في الخير محملا ".
وفيه: من التواضع والألفة والمحبة وغير ذلك من المصالح التي يحبها الله ما لا يخفى على من له فهم. وذلك من أسباب اجتماع القلوب على طاعة الله، ثم إنه يدخل في حسن الخلق الذي هو أثقل ما يوضع في ميزان العبد، كما في الحديث1، وهو من مكارم الأخلاق.
فتأمل أيها الناصح لنفسه ما يصلحك مع الله تعالى: من القيام بحقوقه وحقوق عباده، وإدخال السرور على المسلمين، وترك الانقباض عنهم والترفع عليهم؛ فإن فيه من الضرر ما لا يخطر بالبال ولا يدور بالخيال.
وبسط هذه الأمور وذكر ما ورد فيها مذكور في كتب الأدب وغيرها، فمن رزق ذلك والعمل بما ينبغي العمل به منه وترك ما يجب تركه من ذلك، دل على وفور دينه، وكمال عقله. والله الموفق والمعين لعبده الضعيف المسكين. والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه الترمذي- وقال: حسن صحيح-، وابن حبان عن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن, وإن الله ليبغض الفاحش البذيء ". ورواه أبو داود مختصرا.(7/287)
باب: "قول "ما شاء الله وشئت"
عن قتيلة " أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون. تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت "1. رواه النسائي وصححه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب قول ما شاء الله وشئت".
"عن قتيلة " أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح. النسائي: كتاب الأيمان والنذور (7/ 6): باب الحلف بالكعبة، وأحمد (6/371). وصححه الألباني في الصحيحة (136).(7/288)
ص -419- ... تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء الله ثم شئت ". رواه النسائي وصححه".
قوله: "عن قتيلة" بمثناة مصغرة بنت صيفي الأنصارية صحابية مهاجرة، لها حديث في سنن النسائي، وهو المذكور في الباب. ورواه عنها عبد الله بن يسار الجعفي.
وفيه: قبول الحق ممن جاء به كائنا من كان. وفيه: بيان النهي عن الحلف بالكعبة، مع أنها بيت الله التي حجها وقصدها بالحج والعمرة فريضة. وهذا يبين أن النهي عن الشرك بالله عام لا يصلح منه شيء، لا لملك مقرب ولا نبي مرسل، ولا للكعبة التي هي بيت الله في أرضه. وأنت ترى ما وقع من الناس اليوم من الحلف بالكعبة وسؤالها ما لا يقدر عليه إلا الله. ومن المعلوم أن الكعبة لا تضر ولا تنفع. وإنما شرع الله لعباده الطواف بها والعبادة عندها وجعلها للأمة قبلة، فالطواف بها
وله أيضا: عن ابن عباس " أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت. فقال: أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده "1.
مشروع والحلف بها ودعاؤها ممنوع. فميز أيها المكلف بين ما يشرع وما يمنع، وإن خالفك من خالفك من جهلة الناس الذين هم كالأنعام، بل هم أضل سبيلا.
قوله: "إنكم تشركون. تقولون: ما شاء الله وشئت". والعبد وإن كانت له مشيئة فمشيئته تابعة لمشيئة الله، ولا قدرة له على أن يشاء شيئا إلا إذا كان الله قد شاءه، كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}2. وقوله: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} 3 .
وفي هذه الآيات والأحاديث: الرد على القدرية والمعتزلة، نفاة القدر الذين يثبتون للعبد مشيئة تخالف ما(7/289)
أراده الله تعالى من العبد وشاءه. وسيأتي ما يبطل قولهم في "باب ما جاء في منكري القدر" إن شاء الله تعالى، وأنهم مجوس هذه الأمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجه : الكفارات (2117) , وأحمد (1/224).
2 سورة التكوير آية : 28-29.
3 سورة الإنسان آية : 30-31.(7/290)
ص -420- ... وأما أهل السنة والجماعة فتمسكوا بالكتاب والسنة في هذا الباب وغيره. واعتقدوا أن مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله تعالى في كل شيء مما يوافق ما شرعه الله وما يخالفه، من أفعال العباد وأقوالهم. فالكل بمشيئة الله وإرادته. فما وافق ما شرعه رضيه وأحبه، وما خالفه كرهه من العبد، كما قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}1 الآية. وفيه: بيان أن الحلف بالكعبة شرك، فإن النبى صلى الله عليه وسلم أقر اليهودي على قوله: "إنكم تشركون".
قوله: "وله أيضا عن ابن عباس -رضي الله عنهما-2 " أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت. قال: أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده ".
ولابن ماجه عن الطفيل أخي عائشة لأمها قال: " رأيت فيما يرى النائم كأني أتيت على نفر من اليهود، فقلت: من أنتم؟ قالوا: نحن اليهود. قلت: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون عزير ابن الله. قالوا: وإنكم لأنتم
هذا يقرر ما تقدم من أن هذا شرك، لوجود التسوية في العطف بالواو.
وقوله: "أجعلتني لله ندا" 3. فيه بيان أن من سوّى العبد بالله ولو في الشرك الأصغر، فقد جعله ندا لله شاء أم أبى، خلافا لما يقوله الجاهلون مما يختص بالله تعالى من عباده، وما يجب النهي عنه من الشرك بنوعيه. ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.
قوله4 "ولابن ماجه عن الطفيل أخي عائشة لأمها قال: " رأيت فيما يرى النائم كأني أتيت على نفر من اليهود فقلت: من أنتم؟ قالوا: نحن اليهود، قلت: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم(7/291)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية : 7.
2 قال ابن كثير: ج 1 ص 104 وقال سفيان بن سعيد الثوري عن الأجلح - عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس- وساقه. رواه ابن مردويه، وأخرجه النسائي وابن ماجة من حديث عيسى بن يونس عن الأجلح عنه. وهذا كله صيانة وحماية لجناب التوحيد. والله أعلم.
3 لفظ حديث. أخرجه البخاري: كتاب العلم (71): باب من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين. ومسلم: كتاب الزكاة (1037) (100): باب النهي عن المسألة. من حديث معاوية -رضي الله عنه-.
4 قال ابن كثير في التفسير (ج 1 ص 104): وقال حماد بن سلمة: حدثنا عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عن الطفيل بن سخبرة أخي عائشة لأمها - وساقه - ثم قال: هكذا رواه ابن مردويه في تفسير الآية. وأخرجه ابن ماجة من وجه آخر عن عبد الملك بن عمير به بنحوه.(7/292)
ص -421- ... تقولون: عزير ابن الله. قالوا: وإنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: من أنتم؟ قالوا: نحن النصارى. قلت: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله. قالوا: وإنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: هل أخبرت به أحدا؟ قلت: نعم. قال: فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: أما بعد، فإن طفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: من أنتم؟ قالوا: نحن النصارى. قلت: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله. قالوا: وإنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: هل أخبرت بها أحدا؟ قلت: نعم. قال: فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: أما بعد، فإن طفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم، كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها. فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده ".
قوله: "عن الطفيل أخي عائشة لأمها" هو الطفيل بن عبد الله بن سَخْبرة أخو عائشة لأمها، صحابي له حديث عند ابن ماجه، وهو ما ذكره المصنف في الباب.
وهذه الرؤيا حق أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل بمقتضاها، فنهاهم أن يقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، وأمرهم أن يقولوا: "ما شاء الله وحده".
وهذا الحديث والذي قبله أمرهم فيه أن يقولوا: "ما شاء الله وحده". ولا ريب أن هذا أكمل في الإخلاص وأبعد عن الشرك من أن يقولوا: "ثم شاء فلان"؛ لأن فيه التصريح بالتوحيد المنافي للتنديد في كل وجه. فالبصير يختار لنفسه أعلى مراتب الكمال في مقام التوحيد والإخلاص.
قوله: "كان يمنعني كذا وكذا أن(7/293)
أنهاكم عنها" ورد في بعض الطرق: "أنه كان يمنعه(7/294)
ص -422- ... الحياء منهم"1 وبعد هذا الحديث الذي حدثه به الطفيل عن رؤياه خطبهم صلى الله عليه وسلم فنهى عن ذلك نهيا بليغا، فما زال صلى الله عليه وسلم يبلغهم حتى أكمل الله له الدين وأتم له به النعمة، وبلّغ البلاغ المبين، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها. فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده "2.
فيه مسائل:
الأولى: معرفة اليهود بالشرك الأصغر.
الثانية: فهم الإنسان إذا كان له هوى.
الثالثة : قوله صلى الله عليه وسلم: "أجعلتني لله ندا" فكيف بمن قال: "ما لي من ألوذ به سواك" والبيتين بعده.
الرابعة: أن هذا ليس من الشرك الأكبر لقوله: "يمنعني كذا وكذا".
الخامسة: أن الرؤيا الصالحة من أقسام الوحي.
السادسة: أنها قد تكون سببا لشرع بعض الأحكام.
وفيه معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة " 3 4 .
قلت: وإن كانت رؤيا منام فهي وحي يثبت بها ما يثبت بالوحي أمرا ونهيا. والله أعلم.(7/295)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لعل الذي كان يمنعه -صلى الله عليه وسلم- أنه لم يكن الله أوحى إليه فيها شيئا. فلما أوحى إليه بلغه. أما الحياء في تبليغ الأوامر والنواهي (*) فهذا ما لا يليق برسول الله -صلى الله عليه وسلم- والله أعلم. (*) قوله: (أما الحياء في تبليغ الأوامر والنواهي) إلخ. أقول: هذا كلام جيد, والجواب عن الرواية التي ذكرها الشارح وهي قوله: (ورد في بعض الطرق أنه كان يمنعه الحياء منهم) أن يقال: إن صحت هذه الرواية فمعنى ذلك أنه كان -عليه الصلاة والسلام- يستحي منهم أن ينهاهم عن شيء لم يوح إليه أن ينهى عنه, وإن كان هو يستحسن تركه, فلما جاءه الوحي بالنهي عنه بسبب الرؤيا المذكورة نهاهم عن ذلك, كما أمرهم -صلى الله عليه وسلم- بالتماس ليلة القدر في السبع الأواخر من رمضان لما تواطئت رؤياهم على أنها في السبع الأواخر، وكان ذلك سببا لشرعية مزيد الاجتهاد في السبع المذكورة.
2 صحيح: ابن ماجة: كتاب الكفارات (2118): باب النهي أن يقال ما شاء الله وشئت. وصححه الألباني في الصحيحة لشواهده (138).
3 البخاري; كتاب التعبير (6987): باب الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة. ومسلم: كتاب الرؤيا (2264) (7). من حديث عبادة بن الصامت.
4 هذا الحديث إنما يخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- عما كان يرى قبل النبوة وهو يتحنث في غار حراء من الرؤيا التي كانت تجيء مثل فلق الصبح. وذلك في الدور الذي كان يهيئه الله فيه لتلقي الوحي، وكان ذلك الدور ستة أشهر، وهي بالنسبة إلى مدة النبوة الثلاثة والعشرين سنة جزء من ستة وأربعين جزءا منها. والله أعلم. قوله: (هذا الحديث إنما يخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- عما كان يرى قبل النبوة) إلخ. يريد الشيخ حامد -رحمه الله- بهذا الكلام أن قول النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الرؤيا الصالحة: أنها جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة, أنه خبر عما قد(7/296)
وقع ومضى, وليس الأمر كذلك بل الروايات الواردة في هذا الباب تدل على أن مراد النبي -صلى الله عليه وسلم- الخبر عن جنس الرؤيا في الماضي والمستقبل، وأنها تفيد وتحصل بها البشرى، وأن فائدتها جزء من أجزاء النبوة المتضمنة الأخبار عن المغيبات, ولهذا اختلفت ألفاظ الروايات في ذلك، ففي بعضها: جزء من خمسة وأربعين جزءا, وفي بعضها: جزء من ستة وأربعين جزءا، وفي بعضها: جزء من سبعين جزءا من النبوة, وفي بعضها غير ذلك. ولو كان المراد ما قاله الشيخ حامد لم تتنوع العبارات عنها, ووجه التنوع -والله أعلم- أن الرؤيا الصالحة في حد ذاتها تختلف بحسب صلاح الرائي وما يكتنف رؤياه من القرائن والشواهد الدالة على صدق الرؤيا, وقد نص العلماء على ما ذكرناه قال النووي -رحمه الله- في شرح مسلم ما نصه: (قال القاضي: أشار الطبري إلى أن هذا الاختلاف راجع إلى اختلاف حال الرائي، فالمرء الصالح تكون رؤياه جزء من ستة وأربعين جزءا، والفاسق جزء من سبعين جزءا, وقيل: المراد أن الخفي منها جزء من سبعين، والجلي جزء من ستة وأربعين). ثم نقل عن الخطابي عن بعض أهل العلم نحو ما قاله الشيخ حامد, ثم نقل عن المازري ما نصه: (وقيل: المراد أن للمنامات شبها مما حصل له وميز به من النبوة بجزء من ستة وأربعين). انتهى. والله أعلم.
باب: " من سَبَّ الدهر فقد آذى الله"
وقول الله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ}1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب من سب الدهر فقد آذى الله".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الجاثية آية : 24.(7/297)
ص -423- ... وقول الله تعالى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ}.
قال العماد ابن كثير في تفسيره: يخبر تعالى عن دهرية الكفار، ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ} ما ثم إلا هذه الدار، يموت قوم ويعيش آخرون، وما ثم معاد ولا قيامة. وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون للمعاد، ويقوله الفلاسفة الإلهيون منهم، وهم ينكرون البدأة والرجعة. وتقول الفلاسفة الدهرية الدورية، المنكرون للصانع، المعتقدون أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه، وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهى، فكابروا المعقول وكذبوا المنقول، ولهذا قالوا: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ}. قال الله تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ} أي يتوهمون ويتخيلون. فأما الحديث الذي أخرجه صاحبا الصحيح وأبو داود والنسائي
في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار "1.
من رواية سفيان ابن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار " 2.
وفي رواية: " لا تسبوا الدهر؛ فإني أنا الدهر "3.
وفي رواية: " لا يقل ابن آدم: يا خيبة الدهر؛ فإني أنا الدهر، أرسل الليل والنهار، فإذا شئت قبضتهما "4 اهـ 5.
قال في شرح السنة: حديث متفق على صحته أخرجاه من طريق معمر من أوجه عن أبي هريرة قال: ومعناه أن العرب كان من شأنها ذم الدهر أي سبه عند النوازل؛ لأنهم كانوا ينسبون إليه ما يصيبهم من المصائب والمكاره فيقولون: أصابتهم قوارع الدهر(7/298)
وأبادهم الدهر، فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد سبوا فاعلها، فكان مرجع سبها إلى الله عز وجل؛
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : التوحيد (7491) , ومسلم : الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) , وأبو داود : الأدب (5274) , وأحمد (2/238).
2 في ابن كثير: "أقلب ليله ونهاره".
3 مسلم: كتاب الألفاظ من الأدب (2246) (5): باب النهي عن سب الدهر. من حديث أبي هريرة أيضا، وأحمد (6/158).
4 مسلم : الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) , وأحمد (2/275 ,2/318) , ومالك : الجامع (1846).
5 هذه الرواية ليست في نسخ ابن كثير المطبوعة بأيدينا. وهي في تفسير البغوي.(7/299)
ص -424- ... إذ هو الفاعل في الحقيقة للأمور التي يصنعونها، فنهوا عن سب الدهر. ا هـ باختصار.
وقد أورده ابن جرير بسياق غريب جدا بهذا الطريق1 . قال: "كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار، وهو الذي يهلكنا ويميتنا ويحيينا، فقال الله في كتابه: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ}2. ويسبون الدهر. فقال الله عز وجل: " يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار" .
وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن منصور عن سريج بن النعمان عن ابن عيينة مثله. ثم روى عن يونس عن ابن وهب عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يقول الله تعالى: يسب ابن آدم الدهر وأنا الدهر، بيدي الليل والنهار "3. وأخرجه صاحب الصحيح والنسائي من حديث يونس بن يزيد به.
وقال محمد بن إسحاق عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله عز وجل: " استقرضت عبدي فلم يعطني، ويسبني عبدي، يقول: وادهراه، وأنا الدهر ". قال الشافعي وأبو عبيد وغيرهما من الأئمة في تفسير قوله: " لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر " 4: كانت العرب في جاهليتها إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة قالوا: يا خيبة الدهر، فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ويسبونه، وإنما فاعلها هو الله تعالى. فكأنما إنما سبوا الله سبحانه؛ لأنه فاعل ذلك في الحقيقة، فلهذا نهى عن سب الدهر بهذا الاعتبار؛ لأن الله هو الدهر الذي يعنونه ويسندون إليه تلك الأفعال. هذا أحسن ما قيل في تفسيره - وهو المراد - والله أعلم.
وقد غلط ابن حزم ومن نحا نحوه من الظاهرية في عدهم "الدهر" من الأسماء الحسنى أخذا من هذا الحديث. اهـ.
وقد بين معناه في الحديث بقوله: "أقلب الليل والنهار". وتقليبه: تصرفه تعالى فيه بما يحبه الناس ويكرهونه.(7/300)
وفي رواية: " لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر "5.
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن سب الدهر.
الثانية: تسميته أذى الله.
الثالثة: التأمل في قوله: " فإن الله هو الدهر ".
الرابعة: أنه قد يكون سابا ولو لم يقصده بقلبه.
وفي هذا الحديث زيادة لم يذكرها المصنف رحمه الله تعالى، وهي قوله: "بيدي الأمر".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان أهل الجاهلية " إلخ.
2 سورة الجاثية آية : 24.
3 الترمذي : تفسير القرآن (3058) , وابن ماجه : الفتن (4014).
4 أحمد (1/129) (2/ 300 , 506). وابن خزيمة (2479)، والحاكم (1/ 418) وإسناده ضعيف. والفقرة الأخيرة من الحديث بلفظ: "يشتمني ابن آدم يقول وادهراه..." عند ابن أبي عاصم في السنة (598). وإسنادها حسن كما قال الألباني.
5 مسلم : الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) , وأحمد (2/395 ,2/491 ,2/499).(7/301)
ص -425- ... قوله: "وفي رواية: " لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر ".
معنى هذه الرواية: هو ما صرح به في الحديث من قوله: " وأنا الدهر; أقلب الليل والنهار ". يعني أن ما يجري فيه من خير وشر بإرادة الله وتدبيره، بعلم منه تعالى وحكمة، لا يشاركه في ذلك غيره. ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فالواجب عند ذلك حمده في الحالتين، وحسن الظن به سبحانه وبحمده، والرجوع إليه بالتوبة والإنابة، كما قال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}1. وقال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}2. ونسبة الفعل إلى الدهر ومسبته كثيرة، كما في أشعار المولدين، كابن المعتز والمتنبي وغيرهما. وليس منه وصف السنين بالشدة ونحو ذلك كقوله تعالى: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ}3 الآية.
وقال بعض الشعراء:
إن الليالي من الزمان مهولة ... تطوى وتنشر بينها الأعمار
فقصارهن مع الهموم طويلة ... وطوالهن مع السرور قصار
وقال أبو تمام:
أعوام وصل كاد يُنسى طيبها ... ذكري النوى فكأنها أيام
ثم انبرت أيام هجر أعقبت ... نحوي أسى فكأنها أعوام
ثم انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 168.
2 سورة الأنبياء آية : 35.
3 سورة يوسف آية : 48.(7/302)
باب: "التسمي بقاضي القضاة ونحوه"
في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله "1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه".
ذكر المصنف -رحمه الله- هذه الترجمة إشارة إلى النهي عن التسمي بقاضي القضاة قياسا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الأدب (6206) , ومسلم : الآداب (2143) , والترمذي : الأدب (2837) , وأبو داود : الأدب (4961) , وأحمد (2/244).(7/303)
ص -426- ... على ما في حديث الباب؛ لكونه شبهه في المعنى فينهى عنه.
قوله: "في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله " 1.
لأن هذا اللفظ إنما يصدق على الله تعالى، فهو ملك الأملاك لا ملك أعظم ولا أكبر منه، مالك الملك ذو الجلال والإكرام. وكل ملك يؤتيه الله من يشاء من عباده فهو عارية يسرع ردها إلى المعير، وهو الله تعالى، ينزع الملك من ملكه تارة وينزع الملك
قال سفيان: " مثل شاهان شاه".
منه تارة2 فيصير لا حقيقة له سوى اسم زال مسماه. وأما رب العالمين فملكه دائم كامل لا انتهاء له، بيده القسط يخفضه ويرفعه; ويحفظ على عباده أعمالهم بعلمه سبحانه وتعالى، وما تكتبه الحفظة عليهم، فيجازي كل عامل بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر. كما ورد في الحديث: " اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أسألك من الخير كله، وأعوذ بك من الشر كله "3.(7/304)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي. قال العزيزي في الشرح الكبير: وفي الباب غيره أيضا. وفي قرة العيون: لأن هذا اللفظ إنما يصدق على الله فهو ملك الأملاك؛ لأنه هو الملك في الحقيقة له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، يتصرف في الملوك وغيرهم بمشيئته وإرادته كما قال تعالى: 3: 26 ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير) الآية. فلا ينبغي أن يعظم المخلوق بما يشبه ما يعظم به الخالق جل وعلا, وما كان مثل ذلك فينهى عنه كالذي ترجم به المصنف; لأنه لا يصدق هذا المعنى إلا على الله, فلا يصلح أن يسمى به المخلوق؛ لأن كل لفظ يقتضي التعظيم والكمال لا يكون إلا له -تعالى وتقدس- دون غيره.
2 قال تعالى: 3: 26 ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء ).
3 أحمد (5/395).(7/305)
ص -427- ... قوله: "قال سفيان" يعني ابن عيينة "مثل شاهنشاه1 " عند العجم عبارة عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (ج 12 ص 43) في حوادث سنة 429: وفي رمضان منها لقب جلال الدولة - السلجوقي - شاهنشاه الأعظم، ملك الملوك بأمر الخليفة القائم لله، وخطب له بذلك على المنابر, فنفرت العامة من ذلك, ورموا الخطباء بالآجر, ووقعت فتنة شديدة بسبب ذلك. واستفتوا القضاة والفقهاء في ذلك، فأفتى أبو عبد الله الصيمري -الشافعي- أن هذه الأسماء يعتبر فيها القصد والنية. وقد قال تعالى: ( إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا). وقال: ( وكان وراءهم ملك ). وإذا كان في الأرض ملوك جاز أن يكون بعضهم فوق بعض وأعظم من بعض، وليس في ذلك ما يوجب النكير. والمماثلة بين الخالق والمخلوقين. وكتب القاضي أبو الطيب الطبري: "أن إطلاق (ملك الملوك) جائز، ويكون معناه: ملك ملوك الأرض. وإذا جاز أن يقال: كافي الكفاة وقاضي القضاة; جاز أن يقال: ملك الملوك, وإذا كان في اللفظ ما يدل على أن المراد به ملك ملوك الأرض زالت الشبهة. ومنه قولهم: اللهم أصلح الملك, فيصرف الكلام إلى المخلوقين". وكتب التميمي الحنبلي نحو ذلك.=(7/306)
ص -428- ... ملك الأملاك. ولهذا مثل به سفيان؛ لأنه عبارة عنه بلغة العجم.(7/307)
ص -429- ... ..وفي رواية: " أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه "1 .
قوله: " أخنع " يعني أوضع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الآداب (2143) , وأحمد (2/315).(7/308)
ص -430- ... قوله: "وفي رواية " أغيظ رجل على الله وأخبثه ".
قوله: "أغيظ" من الغيظ وهو مثل الغضب والبغض، فيكون بغيضا إلى الله مغضوبا عليه1 . والله أعلم.
قوله: "وأخبثه" وهو يدل أيضا على أن هذا خبيث عند الله، فاجتمعت في حقه هذه الأمور لتعاظمه في نفسه وتعظيم الناس له بهذه الكلمة التي هي من أعظم التعظيم، فتعظمه في نفسه وتعظيم الناس له بما ليس له بأهل، وضعه عند الله يوم القيامة، فصار أخبت الخلق وأبغضهم إلى الله وأحقرهم؛ لأن الخبيث البغيض عند الله يكون يوم القيامة أحقر الخلق وأخبثهم، لتعاظمه في نفسه على خلق الله بنعم الله.
قوله: "أخنع: يعني أوضع"2 هذا هو معنى "أخنع"، فيفيد ما ذكرنا في معنى "أغيظ" أنه يكون حقيرا بغيضا عند الله.
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن التسمي بملك الأملاك.
الثانية: إن ما في معناه مثله كما قال سفيان.
الثالثة: التفطن للتغليظ في هذا ونحوه، مع القطع بأن القلب لم يقصد معناه.
الرابعة: التفطن أن هذا لأجل الله سبحانه.
وفيه التحذير من كل ما فيه تعاظم. كما أخرج أبو داود عن أبي مجلز قال: خرج معاوية رضي الله عنه على ابن الزبير وابن عامر، فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير. فقال معاوية لابن عامر: اجلس; فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من أحب أن يتمثل له الرجال قياما، فليتبوأ مقعده من النار " 3. وأخرجه الترمذي أيضا، وقال: حسن.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا على عصا، فقمنا إليه. فقال: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم، يعظم بعضهم بعضا " 4. رواه أبو داود.
قوله: "أغيظ رجل" هذا من الصفات التي تمر كما جاءت، وليس شيء مما ورد في الكتاب والسنة إلا ويجب اتباع الكتاب والسنة في ذلك، وإثباته على وجه يليق بجلال الله وعظمته تعالى، إثباتا بلا تمثيل وتنزيها بلا تعطيل كما تقدم، والباب كله واحد. وهذا هو قول أهل السنة والجماعة من(7/309)
الصحابة والتابعين فمن بعدهم من الفرق الناجية من الثلاث والسبعين فرقة.
وهذا التفرق والاختلاف إنما حدث في أواخر القرن الثالث وما بعده، كما لا يخفى على من له معرفة بما وقع في الأمة من التفرق والاختلاف والخروج عن الصراط المستقيم، والله المستعان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ويؤيده "اشتد غضب الله على من زعم أنه ملك الأملاك" أخرجه الطبراني.
2 "أخنع" بفتح الهمزة والنون بينهما معجمة ساكنة أي أدخلها في الخنوع، وهو الذل والضعة والهوان, ذكره الزمخشري. وفي رواية: "أخنى" من الخنا بمعنى الفحش في القول، ويحتمل أن يكون من قولهم: أخنى عليه الدهر أي أهلكه. وذكر أبو عبيد أنه ورد بلفظ: "أنخع" بتقديم النون على الخاء المعجمة وهو بمعنى أهلك. قال ابن بطال: وإذا كان الاسم أذل الأسماء كان من تسمى به أشد ذلا يوم القيامة أي أشدهم ذلا وصغارا. وفي قرة العيون: وهذا من الصفات التي تمر كما جاءت من غير تحريف ولا تأويل, ولا تشبيه ولا تمثيل. والله أعلم.
3 صحيح: أبو داود: كتاب الأدب (5229): باب في قيام الرجل للرجل، والترمذي: كتاب الأدب (2754): باب ما جاء في كراهية قيام الرجل للرجل. وصححه الألباني في الصحيحة برقم (357).
4 ضعيف: أبو داود: كتاب الأدب (5230): باب في قيام الرجل للرجل. وضعفه الألباني في الضعيفة (346) بقوله: "ضعيف، وفي إسناده اضطراب وضعف وجهالة" . اهـ.
باب: " احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك"
عن أبي شريح أنه كان يكنى أبا الحكم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله هو الحَكَم، وإليه الحُكْمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك".
"عن أبي شريح أنه كان يكنى أبا الحكم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "(7/310)
ص -431- ... إن الله هو الحكم وإليه الحكم، فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين. فقال: ما أحسن هذا! فما لك من الولد؟ قلت: شريح ومسلم وعبد الله. قال: فمن أكبرهم؟ قلت: شريح. قال: فأنت أبو شريح " 1. رواه أبو داود وغيره".
قوله: "عن أبي شريح" قال في خلاصة التذهيب: هو أبو شريح الخزاعي اسمه خويلد بن عمرو2 أسلم يوم الفتح، له عشرون حديثا، اتفقا على حديثين وانفرد البخاري بحديث، وروى عنه أبو سعيد المقبري ونافع بن جبير وطائفة. قال ابن سعد: مات بالمدينة سنة ثمان وستين. وقال الشارح: اسمه هانئ بن يزيد الكندي قاله الحافظ. وقيل: الحارث الضبابي قاله المزي.
قوله: "يكنى" الكنية ما صدر بأب أو أم ونحو ذلك واللقب ما ليس كذلك3 كزين العابدين ونحوه.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله هو الحكم وإليه الحكم ". فهو سبحانه الحكم في الدنيا والآخرة، يحكم بين خلقه في الدنيا بوحيه الذي أنزل على أنبيائه ورسله، وما من قضية إلا ولله فيها حكم بما أنزل على نبيه من الكتاب والحكمة، وقد يسر الله معرفة أكثر ذلك لأكثر العلماء من هذه الأمة; فإنها لا تجتمع على ضلالة؛ فإن العلماء وإن اختلفوا في بعض الأحكام فلا بد أن يكون المصيب فيهم واحدا، فمن رزقه الله تعالى قوة الفهم، وأعطاه ملكة يقتدر بها على فهم الصواب من أقوال العلماء يسر له ذلك بفضله ومنه عليه وإحسانه إليه، فما أجلها من عطية! فنسأل الله من فضله.
قوله: "وإليه الحكم في الدنيا والآخرة" كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}4. وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}5. فالحكم إلى الله هو الحكم إلى كتابه، والحكم إلى رسوله هو الحكم إليه في حياته وإلى سنته بعد(7/311)
وفاته.6
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح: أبو داود: كتاب الأدب (4955); باب في تغيير الاسم القبيح، والنسائي: كتاب آداب القضاء (8/ 226): باب إذا حكموا رجلا فقضى بينهم. وصححه الألباني في الإرواء (2615)، وصحيح الجامع (1841).
2 وبهامش الخلاصة: وقيل: عمرو بن خويلد. وقيل هانئ بن عمرو. وقيل: خويلد بن شريح بن عمرو. كذا في الكنى من كتاب ابن الملقن وجامع الأصول.
3 في كتب العربية: اللقب: ما أشعر بمدح أو ذم, كزين العابدين ونحوه.
4 سورة الشورى آية : 10.
5 سورة النساء آية : 59.
6 يعني رد الحكم إلى الله: رد الحكم إلى كتابه, ورد الحكم إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- رد الحكم إليه في حياته, ثم رده إلى سنته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.(7/312)
ص -432- ... 1 وقد قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: " بم تحكم؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي. فقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلى ما يرضي رسول الله "2. فمعاذ من أجل علماء الصحابة بالأحكام ومعرفة الحلال من الحرام، ومعرفة أحكام الكتاب والسنة. ولهذا ساغ له الاجتهاد إذا لم يجد للقضية حكما في كتاب الله، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بخلاف ما يقع اليوم وقبله من أهل التفريط في الأحكام ممن يجهل حكم الله في كتابه وسنة رسوله، فيظن أن الاجتهاد يسوغ له مع الجهل بأحكام الكتاب والسنة وهيهات.3
فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين. فقال: ما أحسن هذا! فما لك من الولد؟ قال: شريح، ومسلم، وعبد الله. قال: فمن أكبرهم؟ قلت: شريح. قال: فأنت أبو شريح "4 رواه أبو داود وغيره.
وأما يوم القيامة فلا يحكم بين الخلق إلا الله عز وجل إذا نزل لفصل القضاء بين العباد، فيحكم بين خلقه بعلمه، وهو الذي لا يخفى عليه خافية من أعمال خلقه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً}5.
والحكم يوم القيامة إنما هو بالحسنات والسيئات، فيؤخذ للمظلوم من الظالم من حسناته بقدر ظلامته إن كان له حسنات، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم، فطرح على سيئات الظالم لا يزيد على هذا مثقال ذرة، ولا ينقص هذا عن حقه بمثقال ذرة.
قوله: "فإن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين فقال: ما أحسن هذا! ". فالمعنى- والله أعلم- أن أبا شريح لما عرف منه قومه أنه صاحب إنصاف وتحر للعدل بينهم ومعرفة ما يرضيهم من الجانبين صار عندهم مرضيا وهذا هو الصلح؛ لأن مداره على الرضى لا على الإلزام. ولا على الكهان وأهل(7/313)
الكتاب من اليهود والنصارى، ولا على الاستناد إلى أوضاع أهل الجاهلية من أحكام كبرائهم وأسلافهم التي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه برقم (340).
2 الترمذي : الأحكام (1327) , وأبو داود : الأقضية (3592) , وأحمد (5/230 ,5/236 ,5/242) , والدارمي : المقدمة (168).
3 وبخلاف الصنف الآخر: الذين يعنون بأقوال الناس وآرائهم فيحفظونها متونا وشروحا مهما كانت معقدة وطويلة, ثم يقدمونها في العبادات والأحكام بين يدي الله ورسوله, فإنا لله وإنا إليه راجعون. ماذا حرم الناس من خير وهدى وعز وسلطان بهذا العزل لكتاب الله وسنة رسوله عن وظيفتها.
4 النسائي : آداب القضاة (5387) , وأبو داود : الأدب (4955).
5 سورة النساء آية : 40.(7/314)
ص -433- ... تخالف حكم الكتاب والسنة، كما قد يقع اليوم كثيرا، كحال الطواغيت الذين لا يلتفتون إلى حكم الله ولا إلى حكم رسوله، وإنما المعتمد عندهم ما حكموا به بأهوائهم وآرائهم.1
فيه مسائل:
الأولى: احترام أسماء الله وصفاته، ولو لم يقصد معناه.
الثانية: تغيير الاسم لأجل ذلك.
الثالثة: اختيار أكبر الأبناء للكنية.
وقد يلتحق بهذا بعض المقلدة لمن لم يسغ تقليده، فيعتمد على قول من قلده ويترك ما هو الصواب الموافق لأصول الكتاب والسنة. والله المستعان.
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فما لك من الولد؟ قال: شريح، ومسلم، وعبد الله. قال: فمن أكبرهم؟ قلت: شريح. قال: فأنت أبو شريح ". فيه تقديم الأكبر في الكنية وغيرها غالبا. وجاء هذا المعنى في غير ما حديث والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في قرة العيون: وأما ما يحكم به الجهلة من الأعراب, ونحوهم من سوالف آبائهم وأهوائهم فليس من هذا الباب؛ لما فيه من النهي العديد والخروج عن حكم الله ورسوله إلى ما يخالفه, كما قال تعالى: 5: 44 ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ). وهذا كثير, فمن الناس من يحكم بين الخصمين برأيه وهواه, ومنهم من يتبع في ذلك سلفه ويحكم بما كانوا يحكمون به, وهذا كفر إذا استقر وغلب على من تصدى لذلك ممن يرجع الناس إليه إذا اختلفوا. اهـ. والنص الصريح في إبطال حكم السوالف من حكام البدو غير المتدينين هو قوله تعالى: ( أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ). وأبو شريح كان من قضاة الجاهلية قبل الإسلام, ولذلك كنوه "بأبي الحكم"، فأنكرها عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وغيرها, ولفظ "الحكم" بفتحتين لا ينهى عنه في الإسلام؛ لقوله تعالى: ( فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها). وذلك لأنه يحكم بما شرعه الله من صلح وإصلاح, وقد أذن الله للمؤمنين بأن يحكموا بين الناس بالعدل.(7/315)
باب: " من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول"
وقول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول" أي فقد كفر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية : 65.(7/316)
ص -434- ... قوله: "وقول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}.
قال العماد ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: قال أبو معشر المدني عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: " قال رجل من المنافقين: ما أرى مثل قرائنا هؤلاء؟ أرغبنا بطونا1 وأكذبنا ألسنًا، وأجبننا عند اللقاء، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق، فقال: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}. وإن رجليه ليسفعان2 الحجارة، وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متعلق بنِسْعَة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم "3 .
عن ابن عمر ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم وقتادة - دخل حديث بعضهم في بعض - أنه قال رجل في غزوة تبوك: "ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء. فقال له عوف بن مالك: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه. فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق. قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقا بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الحجارة تنكب رجليه، وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب. فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ(7/317)
ل وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}، ما يلتفت إليه وما يزيده عليه ".
وقال عبد الله بن وهب: أخبرني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر قال: " قال رجل في غزوة تبوك في مجلس: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء. فقال رجل في المجلس: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فبلغ ذلك رسول الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في تفسير ابن كثير وتفسير ابن جرير: "ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا".
2 سفع الطائر ضريبته- كمنع- لطمها بجناحيه, وسفع فلان فلانا لطمه وضربه, والمعنى أن الحجارة تضرب رجليه من سرعة المسير وأنه مشغول عن ذلك.
3 النسعة- بكسر النون وسكون المهملة سير مضفور يجعل زماما للبعير وغيره (*). (*) قوله: (النسعة بكسر النون وسكون المهملة سير مضفور يجعل زمانا للبعير وغيره). أقول في قوله: يجعل زمانا للبعير نظر، والصواب أن النسعة حبل يشد به الرحل ولا يطلق على الزمام. قال في القاموس: (النسع بالكسر سير ينسج عريضا على هيئة أعنة النعال, يشد به الرحال، والقطعة منه نسعة, وسمي نسعا لطوله. انتهى المقصود.(7/318)
ص -435- ... صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن، قال عبد الله بن عمر: وأنا رأيته متعلقا بحِقْب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبه الحجارة، وهو يقول يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}1 " 2.وقد رواه الليث عن هشام بن سعد بنحو هذا.
وقال ابن إسحاق: "وقد كان جماعة من المنافقين منهم: وديعة بن ثابت أخو بني أمية بن زيد بن عمرو بن عوف، ورجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له مخشي بن حمير، يشيرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بنى الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا؟ والله لكأنا بكم غدا
مقرنين في الجبال، إرجافا وترهيبا للمؤمنين. فقال مخشي بن حمير: والله لوددت أني أقاضي على أن يُضْرَب كل رجل منا مائة جلدة; وأنا نتفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني لعمار بن ياسر: أدرك القوم فإنهم قد احترقوا، فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بل قلتم: كذا وكذا وكذا، فانطلق إليهم عمار، فقال ذلك لهم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه. فقال وديعة بن ثابت - ورسول الله واقف على راحلته- فجعل يقول وهو آخذ بحقها: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب. فقال مخشي بن حمير: يا رسول الله قعد بي اسمي واسم أبي، فكان الذي عناه أي بقوله تعالى: {نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ}3 في هذه الآية: مخشي ابن حمير فسمي عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتل شهيدا لا يُعلم بمكانه، فقتل يوم اليمامة فلم يوجد له أثر". وقال عكرمة في تفسير هذه الآية: "كان رجل ممن إن شاء الله عفا عنه يقول: اللهم إني أسمع آية أنا أعني بها تقشعر منها الجلود، وتجل منها القلوب. اللهم فاجعل وفاتي قتلا في سبيلك، لا(7/319)
يقول أحد أنا غسلت، أنا كفنت، أنا دفنت. قال: فأصيب يوم اليمامة، فما أحد من المسلمين إلا وقد وجد غيره".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية : 65-66.
2 حسن: رواه ابن جرير (10/ 119)، وابن أبي حاتم (4/ 64) عن ابن عمر وإسناد ابن أبي حاتم حسن، كما قال الشيخ مقبل في الصحيح المسند ص (71). قال الدوسري: وأما روايات محمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة فهي مرسلة، وقد أخرجها ابن جرير (10/ 119 , 120).
3 سورة التوبة آية : 66.(7/320)
ص -436- ... وقوله: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}1 أي بهذه المقالة التي استهزأتم بها {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ} أي مخشي بن حمير {نُعَذِّبْ طَائِفَةَ} أي لا يعفى عن جميعكم، ولا بد من عذاب بعضكم {إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}2 أي بهذه المقالة الفاجرة الخاطئة. انتهى.
قال شيخ الإسلام: " وقد أمره الله تعالى أن يقول لهم: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}3 وقول من يقول: إنهم كفروا بعد إيمانهم بلسانهم مع كفرهم أولا بقلوبهم لا يصح؛ لأن الإيمان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر، فلا يقال: قد كفرتم بعد إيمانكم؛ فإنهم لم يزالوا كافرين في نفس الأمر، وإن أريد أنكم أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان، فهم لم يظهروا للناس إلا لخواصهم، وهم مع خواصهم ما زالوا كذلك، ولا يدل اللفظ على أنهم ما زالوا منافقين".
وقال -رحمه الله- في موضع آخر: فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم: إنما تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له; بل إنما كنا نخوض ونلعب. وبين أن الاستهزاء بآيات الله كفر. ولا يكون هذا إلا ممن شرح صدرا بهذا الكلام، ولو كان الإيمان في قلبه لمنعه أن يتكلم بهذا الكلام، والقرآن يبين أن إيمان القلب يستلزم العمل الظاهر بحسبه. كقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}4 - إلى قوله -: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}5.
فنفى الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول، وأخبر أن المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم سمعوا وأطاعوا، فبين أن هذا من لوازم الإيمان". انتهى.
وفيه: بيان أن الإنسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها أو عمل يعمل به6 وأشدها خطرا(7/321)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية : 66.
2 سورة الدخان آية : 37.
3 سورة التوبة آية : 66.
4 سورة النور آية : 47.
5 سورة النور آية : 51.
6 ومن هذا الباب الاستهزاء بالعلم وأهله، وعدم احترامهم لأجله قوله: (ومن هذا الباب الاستهزاء بالعلم وأهله وعدم احترامهم لأجله) أقول: هذا القول فيه إجمال, والصواب التفصيل فإن كان الاستهزاء بالعلم الشرعي أو بالعلماء لأجله فلا شك أن ذلك ردة عن الإسلام؛ لأنه تنقص لما عظمه الله واستخفاف به, وفي ضمن ذلك احتقاره والتكذيب به, أما إن كان الاستهزاء بالعلماء يرجع إلى أمر آخر كالملابس أو حرص بعضهم على الدنيا أو اعتيادهم خلاف ما عليه الناس من العوائد التي لا تعلق لها بالشرع، أو لما يشبه ذلك، فهذا وأشباهه لا يكون ردة عن الإسلام؛ لأنه لا يرجع إلى الدين، وإنما يرجع الى أمور أخرى. والله سبحانه وتعالى أعلم.(7/322)
ص -437- ... فيه مسائل:
الأولى: وهي العظيمة أن من هزل بهذا إنه كافر.
الثانية: أن هذا هو تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائنا من كان.
الثالثة: الفرق بين النميمة وبين النصيحة لله ولرسوله.
الرابعة: الفرق بين العفو الذي يحبه الله وبين الغلظة على أعداء الله.
الخامسة: أن من الاعتذار ما لا ينبغي أن يقبل.
إرادات القلوب. فهي كالبحر الذي لا ساحل له. ويفيد الخوف من النفاق الأكبر؛ فإن الله تعالى أثبت لهؤلاء إيمانا قبل أن يقولوا ما قالوه، كما قال ابن أبي مليكة: " أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه " 1. نسأل الله السلامة والعفو والعافية في الدنيا والآخرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري تعليقا (1/ 109). ووصله ابن أبي خيثمة في تاريخه، وكذا محمد بن نصر المروزي في كتاب الإيمان له، وأبو زرعة الدمشقي في تاريخه كما قال الحافظ في الفتح (1/ 110).(7/323)
باب: قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} 1.
قال مجاهد: " هذا بعملي وأنا محقوق به ". وقال ابن عباس: "يريد من عندي".
وقوله: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}2. قال قتادة: " على علم مني بوجوه المكاسب ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب قول الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ}" الآية.
ذكر المصنف -رحمه الله تعالى- عن ابن عباس وغيره من المفسرين في معنى هذه الآية، وما بعدها ما يكفي في المعنى ويشفي.
قوله: "قال مجاهد: " هذا بعملي وأنا محقوق به ". وقال ابن عباس: " يريد من عندي" . وقوله: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}. قال قتادة: " على علم مني بوجوه المكاسب ". وقال آخرون: " على علم من الله أني له أهل ". وهذا معنى قول مجاهد: أوتيته على شرف".
وليس فيما ذكروه اختلاف وإنما هي أفراد المعنى.
قال العماد ابن كثير -رحمه الله- في معنى قوله تعالى: {إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ}3. " يخبر أن الإنسان في حال الضر يضرع إلى الله تعالى وينيب إليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة فصلت آية : 50.
2 سورة القصص آية : 78.
3 سورة الزمر آية : 49.(7/324)
ص -438- ... ويدعوه، ثم إذا خوله نعمة منه طغى وبغى و {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} أي لما يعلم الله من استحقاق له، ولولا أني عند الله حظيظ لما خولني هذا1 . قال تعالى: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ}2 أي ليس الأمر كما زعم، بل إنما أنعمنا عليه بهذه النعمة لنختبره فيما أنعمنا عليه أيطيع أم يعصي؟ مع علمنا المتقدم بذلك {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} 3 أي اختبار {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}4 فلهذا يقولون ما يقولون، ويدعون ما يدعون {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}5 أي قد قال هذه المقالة وزعم هذا الزعم، وادعى هذه الدعوى كثير ممن سلف من الأمم {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}6 أي فما صح قولهم، ولا نفعهم جمعهم، وما كانوا يكسبون.
كما قال تعالى مخبرا عن قارون: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَوَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَقَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ}7. وقال تعالى: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}8". اهـ.
"وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن ثلاثة..." 9 الحديث.10(7/325)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في تفسير ابن كثير زيادة: قال قتادة: "على علم عندي: على خير عندي".
2 سورة الزمر آية : 49.
3 في ابن كثير: "مع علمنا بذلك فهي فتنة".
4 سورة الأنعام آية : 37.
5 سورة الزمر آية : 50.
6 سورة الحجر آية : 84.
7 سورة القصص آية : 76-77-78.
8 سورة سبأ آية : 35.
9 البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء (3464): باب حديث أبرص وأعمى وأقرع في نبي إسرائيل. ومسلم: كتاب الزهد والرقائق (2964) (10).
10 وقد حذفناه من الشرح منعا للتكرار.(7/326)
ص -439- ... "أخرجاه" أي البخاري ومسلم. والناقة العشراء- بضم العين وفتح الشين وبالمد- هي الحامل.
قوله: "فأنتج" وفي رواية: "فنتج" معناه تولى نتاجها، والناتج للناقة كالقابلة للمرأة.
فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قذرني الناس به. قال: فمسحه فذهب عنه قذره، فأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإبل أو البقر- شك إسحاق- فأعطي ناقة عُشَراء، وقال: بارك الله لك فيها. قال فأتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به. فمسحه فذهب عنه، وأعطي شعرا حسنا. فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: البقر أو الإبل. فأعطي بقرة حاملا. قال: بارك الله لك فيها. فأتى الأعمى، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس. فمسحه فرد الله إليه بصره. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم. فأعطي شاة والدا. فأنتج هذان وولد هذا. فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم. قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته. فقال: رجل مسكين قد انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرا أتبلَّغ به في سفري، فقال: الحقوق كثيرة. فقال: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص
قوله: "ولّد هذا" هو بتشديد اللام، أي تولى ولادتها، وهو بمعنى "أنتج" في الناقة، فالمولد والناتج والقابلة بمعنى واحد، لكن هذا للحيوان، وذلك لغيره.
وقوله: "انقطعت بي الحبال" هو بالحاء المهملة والباء الموحدة: هي الأسباب. قوله: "لا أجهدك" معناه: لا أشق عليك في رد شيء تأخذ، أو تطلب من مالي. ذكره النووي.
وهذا الحديث عظيم، وفيه معتبر: فإن الأولين جحدا نعمة الله، فما أقرا لله بنعمة، ولا نسبا النعمة إلى المنعم بها، ولا أديا حق الله فيها فحل عليهما السخط. وأما الأعمى(7/327)
ص -440- ... فاعترف بنعمة الله، ونسبها إلى من أنعم عليه بها، وأدى حق الله فيها، فاستحق الرضا من الله بقيامه بشكر النعمة لما أتى بأركان الشكر الثلاثة التي لا يقوم الشكر إلا بها. وهي الإقرار بالنعمة ونسبتها إلى المنعم وبذلها فيما يجب.
يقذرك الناس فقيرا، فأعطاك الله عز وجل المال. فقال: إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر. فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت. وأتى الأقرع في صورته، فقال له مثل ما قال لهذا، ورد عليه مثل ما رد عليه هذا. فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت. قال: وأتى الأعمى في صورته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل، قد انقطعت بي الحبال في سفري. فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك. أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري. فقال: قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري، فخذ ما شئت ودع ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله. فقال: أمسك مالك، فإنما ابتُليتم، فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك " أخرجاه.
فيه مسائل:
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-:1 " أصل الشكر هو الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع له، والذل والمحبة، فمن لم يعرف النعمة بل كان جاهلا بها لم يشكرها، ومن عرفها ولم يعرف المنعم بها لم يشكرها أيضا، ومن عرف النعمة والمنعم لكن جحدها كما يجحد المنكر لنعمة المنعم عليه بها فقد كفرها، ومن عرف النعمة والمنعم بها، وأقر بها ولم يجحدها، ولكن لم يخضع له ولم يحبه ويرض به وعنه، لم يشكره أيضا، ومن عرفها وعرف المنعم بها وأقر بها، وخضع للمنعم بها، وأحبه ورضي به وعنه، واستعملها في محابه وطاعته، فهذا هو الشاكر لها، فلا بد في الشكر من علم القلب، وعمل يتبع العلم، وهو الميل إلى المنعم ومحبته والخضوع له".
قوله: "قذرني الناس" بكراهة رؤيته وقربه منهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في مدارج السالكين ج 2 ص 135-144.(7/328)
ص -441- ... الأولى: تفسير الآية.
الثانية: ما معنى: "ليقولن هذا لي".
الثالثة: ما معنى قوله: "إنما أوتيته على علم عندي".
الرابعة: ما في هذه القصة العجيبة من العبر العظيمة.
باب: "قول الله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله "باب قول الله: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
قال الإمام أحمد -رحمه الله- في معنى هذه الآية: حدثنا عبد الصمد حدثنا عمر بن إبراهيم حدثنا قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لما ولدت حواء طاف بها إبليس وكان لا يعيش لها ولد فقال: سميِّه عبد الحارث فإنه يعيش، فسمته عبد الحارث فعاش. وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره "2 3 . وهكذا رواه ابن جرير عن محمد بن بشار بندار عن عبد الصمد بن عبد الوارث به. ورواه الترمذي في تفسير هذه الآية عن محمد بن المثنى عن عبد الصمد به، وقال: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم، ورواه بعضهم عن عبد الصمد ولم يرفعه. ورواه الحاكم في مستدركه من حديث عبد الصمد مرفوعا، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. ورواه الإمام أبو محمد ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبي زرعة الرازي عن هلال بن فياض عن عمر بن إبراهيم به مرفوعا4.(7/329)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 190.
2 ضعيف: أحمد (5/ 11). والترمذي: كتاب التفسير (3077) باب: ومن سورة الأعراف. والحاكم (2/ 545). وابن جرير (15513). وضعفه الحافظ ابن كثير (2/ 274). وضعفه الألباني في الضعيفة (342) وراجع تعليق الشيخ أحمد شاكر على تفسير الطبري (13/ 309).
3 الترمذي : تفسير القرآن (3077) , وأحمد (5/11).
4 قال الحافظ ابن كثير: والغرض أن هذا الحديث معلول من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن عمر بن إبراهيم هذا هو البصري. وقد وثقه ابن معين. ولكن قال حاتم الرازي: لا يحتج به. ولكن رواه ابن مردويه من حديث المعتمر عن أبيه عن الحسن عن سمرة مرفوعا. فالله أعلم.
الثاني: أنه قد روي من قول سمرة نفسه, وليس مرفوعا. كما قال ابن جرير.
الثالث: أن الحسن نفسه فسر الآية بغير هذا. فلو كان هذا عنده عن سمرة مرفوعا لما عدل عنه- ثم ساق ابن كثير الروايات عن الحسن بمثل ما روى ابن جرير عنه، ثم قال: هذه أسانيد صحيحة عن الحسن: أنه فسر الآية بذلك; وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حملت عليه الآية. ولو كان هذا الحديث عنده محفوظا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عدل عنه هو ولا غيره, ولا سيما مع تقواه وورعه. فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابي, ويحتمل أنه تلقاه عن بعض أهل الكتاب من آمن منهم, مثل كعب أو وهب بن منبه أو غيرهما كما سيأتي بيانه إن شاء الله, إلا أننا برئنا من عهدة المرفوع. والله أعلم اهـ. وقال الإمام أبو محمد بن حزم في كتاب الملل والنحل: (( وهذا الذي نسبوه إلى آدم من أنه سمى ابنه عبد الحارث خرافة موضوعة مكذوبة من تأليف من لا دين له ولا حياء، لم يصح سندها قط، وإنما نزلت الآية في المشركين على ظاهرها )) .اهـ.(7/330)
ص -442- ... وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع، حدثنا سهيل بن يوسف عن عمرو عن الحسن {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}1 قال: " كان هذا في بعض أهل الملل ولم يكن آدم ". وحدثنا بشر بن معاذ قال: حدثني يزيد، حدثنا سعيد عن قتادة قال: كان الحسن يقول: " هم اليهود والنصارى، رزقهم الله أولادا فهوّدوا ونصّروا ". وهذا إسناد صحيح عن الحسن -رحمه الله-.
قال العماد ابن كثير في تفسيره: وأما الآثار: فقال محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: " كانت حواء تلد لآدم -عليه السلام- أولادا فتعبدهم لله وتسميهم عبد الله وعبيد الله ونحو ذلك، فيصيبهم الموت، فأتاهما إبليس فقال: أما إنكما لو تسميانه بغير الذي تسميانه به لعاش، فولدت له رجلا فسماه عبد الحارث، ففيه أنزل الله " {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} الآية. وقال العوفي عن ابن عباس: " فأتاهما الشيطان فقال: هل تدريان ما يولد لكما؟ أم هل تدريان ما يكون، أبهيمة أم لا؟ وزين لهما الباطل، إنه لغوي مبين; وقد كانت قبل ذلك ولدت ولدين فماتا، فقال لهما الشيطان: إنكما إن لم تسمياه بي لم يخرج سويا، ومات كما مات الأول. فسميا ولدهما عبد الحارث، فذلك قوله تعالى: " {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
وذكر مثله عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. ورواه ابن أبي حاتم. وقد تلقى هذا الأثر عن ابن عباس جماعة من أصحابه كمجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير، ومن الطبقة الثانية: قتادة والسدي وجماعة من الخلف; ومن المفسرين والمتأخرين جماعات لا يحصون كثرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 190.(7/331)
ص -443- ... قال العماد ابن كثير: وكأن أصله - والله أعلم - مأخوذ من أهل الكتاب1.
قلت: وهذا بعيد جدا.
قوله: "قال ابن حزم: اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله كعبد عمرو وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك، حاشا عبد المطلب".
ابن حزم: هو عالم الأندلس، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم القرطبي الظاهري. صاحب التصانيف، توفي سنة ست وخمسين وأربعمائة. وله اثنتان وسبعون سنة.
وعبد المطلب هذا: هو جد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو ابن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وما فوق عدنان مختلف فيه. ولا ريب أنهم من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل -عليهما السلام-.
حكى -رحمه الله- اتفاق العلماء على تحريم كل ما عبد لغير الله؛ لأنه شرك في الربوبية والإلهية; لأن الخلق كلهم ملك لله وعبيد له، استعبدهم لعبادته وحده، وتوحيده في ربوبيته وإلهيته، فمنهم من عبد الله ووحده في ربوبيته وإلهيته، ومنهم من أشرك به في إلهيته وأقر له بربوبيته وأسمائه وصفاته، وأحكامه القدرية جارية عليهم ولا بد، كما قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً}2 فهذه هي العبودية العامة. وأما(7/332)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال ابن كثير: وهذه الآثار يظهر عليها -والله أعلم- أنها من آثار أهل الكتاب, أما نحن فعلى مذهب الحسن البصري في هذا, وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء, وإنما المشركون من ذريته، ولهذا قال: ( فتعالى الله عما يشركون ).
فائدة: قال شيخنا العلامة الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ- أطال الله حياته لنفع المسلمين- (( أما قوله تعالى في آخر الآية: ( فتعالى الله عما يشركون ) فليس المراد به آدم وحواء؛ لأن الكلام قد تم قبله, وهذا ابتداء كلام مستأنف, وإنما المراد به المشركون، وما ساقه الشارح -رحمه الله- في قوله: ( فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما ) هو القول المعتمد الذي يدل عليه ظاهر القرآن)). اهـ.
2 سورة مريم آية : 93.(7/333)
ص -444- ... العبودية الخاصة فإنها تختص بأهل الإخلاص والطاعة، كما قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}1 ونحوها.
قوله: "حاشا عبد المطلب" هذا استثناء من العموم المستفاد من كل، وذلك أن تسميته بهذا الاسم لا محذور فيها؛ لأن أصله من عبودية الرق، وذلك أن المطلب أخو هاشم قدم المدينة، وكان ابن أخيه شيبة هذا قد نشأ في أخواله بني النجار من الخزرج؛ لأن هاشما تزوج فيهم امرأة، فجاءت منه بهذا الابن، فلما شب في أخواله، وبلغ سن التمييز سافر به عمه المطلب إلى مكة بلد أبيه وعشيرته2، فقدم به مكة وهو رديفه، فرآه أهل مكة وقد تغير لونه بالسفر، فحسبوه عبدا للمطلب، فقالوا: هذا عبد المطلب، فعلق به هذا الاسم وركبه، فصار لا يذكر ولا يدعى إلا به3 فلم يبق للأصل معنى مقصود. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أنا ابن عبد المطلب " 4 5. وقد صار معظما في قريش والعرب، فهو سيد قريش وأشرفهم في جاهليته، وهو الذي حفر زمزم وصارت له السقاية وفي ذريته من بعده. و عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد بني عبد المطلب، وتوفي في حياة أبيه.
وعن ابن عباس في الآية قال: " لما تغشاها آدم حملت، فأتاهما إبليس. فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة لتطيعنني أو لأجعلن له قرني أيل، فيخرج من بطنك فيشقه، ولأفعلن ولأفعلن، يخوفهما. سمياه عبد الحارث. فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتا. ثم حملت، فأتاهما فقال مثل قوله، فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتا. ثم حملت فأتاهما فذكر لهما فأدركهما حب الولد، فسمياه عبد الحارث. فذلك قوله: {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} ". رواه ابن أبي حاتم.
وله بسند صحيح عن قتادة قال: " شركاء في طاعته، ولم يكن في عبادته ".
وله بسند صحيح عن مجاهد في قوله: {لئن آتيتنا صالحا}6 قال: " أشفقا أن لا يكون إنسانا " وذكر معناه عن الحسن وسعيد وغيرهما.
قال الحافظ صلاح الدين العلائي في كتاب الدرة السنية في(7/334)
مولد خير البرية: " كان سن أبيه عبد الله حين حملت منه آمنة برسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ثمانية عشر عاما، ثم ذهب إلى المدينة ليمتار منها تمرا لأهله، فمات بها عند أخواله بني عدي بن النجار، والنبي صلى الله عليه وسلم حملٌ على الصحيح". انتهى.
قلت: وصار النبي صلى الله عليه وسلم لما أوضعته أمه في كفالة جده عبد المطلب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية : 36.
2 وكانت أمه سلمى قد شرط أبوها عمرو بن زيد الخزرجي النجاري على هاشم أن تلد عنده بالمدينة، فولدت له شيبة. ومات هاشم في الشام فبقي شيبة بالمدينة عند أخواله بني عدي بن النجار سبع سنين حتى ذهب عمه المطلب إليه وأحضره إلى مكة.
3 واسمه العلم: شيبة الحمد.
4 البخاري : الجهاد والسير (2864) , ومسلم : الجهاد والسير (1776) , والترمذي : الجهاد (1688) , وأحمد (4/280 ,4/281).
5 روى البخاري ومسلم عن البراء بن عازب- وسأله رجل من قيس-: أفررتم عن رسول الله يوم حنين؟ فقال: "لكن رسول الله لم يفر. كانت هوزان رماة وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا، فأكببنا على الغنائم فاستقبلتنا بالسهام. ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، وأن أبا سفيان آخذ بزمامها يقول: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، اللهم نزل نصرك". وكنا إذا حمي البأس اتقينا برسول الله. وأن الشجاع الذي يحاذي به".
6 سورة الأعراف آية : 189.(7/335)
ص -445- ... قال الحافظ الذهبي: وتوفي أبوه عبد الله وللنبي صلى الله عليه وسلم ثمانية وعشرون شهرا، وقيل أقل من ذلك، وقيل: وهو حمل. توفي بالمدينة، وكان قد قدمها ليمتار تمرا، وقيل: بل مر بها راجعا من الشام، وعاش خمسة وعشرين سنة. قال الواقدي: " وذلك أثبت الأقاويل في سنه ووفاته. وتوفيت أمه آمنة بالأبواء وهي راجعة به صلى الله عليه وسلم إلى مكة من زيارة أخوال أبيه بني عدي بن النجار، وهو يومئذ ابن ست سنين ومائة يوم. وقيل: ابن أربع سنين. فلما ماتت أمه حملته أم أيمن مولاته إلى جده، فكان في كفالته إلى أن توفي جده، وللنبي صلى الله عليه وسلم ثمان سنين فأوصى به إلى عمه أبي طالب". ا هـ.
قوله: "وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- في الآية". قد قدمنا نظيره عن ابن عباس في المعنى.
قوله: "وله بسند صحيح عن قتادة قال: " شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته ". قال شيخنا -رحمه الله-: " إن هذا الشرك في مجرد تسمية، لم يقصدا حقيقته التي يريدها إبليس، وهو محمل حسن يبين أن ما وقع من الأبوين من تسميتهما ابنهما عبد الحارث إنما هو مجرد تسمية لم يقصدا تعبيده لغير الله. وهذا معنى قول قتادة: شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته".(7/336)
ص -446- ... فيه مسائل:
الأولى: تحريم كل اسم معبد لغير الله1.
الثانية: تفسير الآية.
الثالثة: أن هذا الشرك في مجرد تسمية لم تقصد حقيقتها.
الرابعة: إن هبة الله للرجل البنت السوية من النعم.
الخامسة: ذكر السلف الفرق بين الشرك في الطاعة والشرك في العبادة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كتسمية عبد علي وعبد الحسين وغلام الحسين, وعبد النبي وعبد الرسول.
باب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}1 الآية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}"2 الآية.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر "3. أخرجاه في الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة. ورواه البخاري عن أبي اليمان عن أبي الزناد عن الأعرج عنه.
وأخرجه الجوزجاني عن صفوان بن صالح عن الوليد بن مسلم عن شعيب بسنده مثله 4. وزاد بعد قوله: " يحب الوتر-: هو الله الذي لا إله إلا هو، الرحمن; الرحيم; الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، القهار، الغفار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب،(7/337)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 180.
2 في قرة عيون الموحدين: أراد -رحمه الله- بهذه الترجمة الرد على من يتوسل بالأموات، وأن المشروع هو التوسل بالأسماء الحسنى والصفات العليا, والأعمال الصالحة.
3 البخاري : الشروط (2736) , ومسلم : الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2677) , والترمذي : الدعوات (3506) , وابن ماجه : الدعاء (3860) , وأحمد (2/258 ,2/314).
4 البخاري: كتاب التوحيد (7392): باب إن لله مائة اسم إلا واحدا.(7/338)
ص -447- ... المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الأحد، الفرد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المعطي، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور "1. ثم قال الترمذي: هذا حديث غريب.
وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة 2، ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث. والذي عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه. وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم وعبد الملك بن محمد الصنعاني عن زهير بن محمد أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك. أي أنهم جمعوها من القرآن، كما روي عن جعفر بن محمد وسفيان وأبي زيد اللغوي والله أعلم.
هذا ما ذكره العماد ابن كثير في تفسيره. ثم قال: ليعلم أن الأسماء الحسنى ليست منحصرة في تسعة وتسعين. بدليل ما رواه أحمد عن يزيد بن هارون عن فضيل بن مرزوق عن أبي سلمة الجهني عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك; ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك. أسألك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي. إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرحا. فقيل: يا رسول الله: ألا نتعلمها؟ فقال: بلى. ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها " 3. وقد أخرجه أبو حاتم وابن(7/339)
حبان في صحيحه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : الدعوات (3507) , وابن ماجه : الدعاء (3861).
2 ضعيف: الترمذي: كتاب الدعوات (3507): باب رقم (83). وقال: حديث غريب. وابن حبان (2384- موارد)، والحاكم (1/ 16). وأشار إلى ضعفه ابن تيمية في الفتاوى (22/ 482)، وابن كثير في تفسيره (2/ 269)، وابن حزم في المحلى (8/ 31). وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (1943)، والأرناؤوط في تخريج جامع الأصول (4/ 174 , 175).
3 صحيح: أحمد (1/ 391)، وابن حبان (2372- موارد). وصححه ابن القيم في بدائع الفوائد (1/ 166)، وفي شفاء العليل (274), وصححه الألباني في الصحيحة (199).(7/340)
ص -448- ... وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}1. قال: " إلحاد الملحدين: أن دعوا اللات في أسماء الله ". وقال ابن جريج عن مجاهد: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}. قال: " اشتقوا اللات من الله، واشتقوا العزى من العزيز ".
وقال قتادة: " يلحدون: يشركون ". وقال علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس: " الإلحاد التكذيب ".
وأصل الإلحاد في كلام العرب: العدول عن القصد، والميل والجور والانحراف. ومنه اللحد في القبر؛ لانحرافه إلى جهة القبلة عن سمت الحفر. قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
وحقيقة الإلحاد فيها الميل بالإشـ ... ـراك والتعطيل والنكران
وأسماء الرب تعالى كلها أسماء وأوصاف تعرف بها تعالى إلى عباده، ودلت على كماله جل وعلا.
وقال -رحمه الله-: " فالإلحاد إما بجحدها وإنكارها، وإما بجحد معانيها وتعطيلها وإما بتحريفها عن الصواب وإخراجها عن الحق بالتأويلات، وإما أن يجعلها أسماء لهذه المخلوقات كإلحاد أهل الاتحاد؛ فإنهم جعلوها أسماء هذا الكون محمودها ومذمومها. حتى قال زعيمهم: هو المسمى بمعنى كل اسم ممدوح عقلا وشرعا وعرفا. وبكل اسم مذموم عقلا وشرعا وعرفا. تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا". انتهى.
قلت: والذي عليه أهل السنة والجماعة قاطبة، متقدمهم ومتأخرهم: إثبات الصفات التي وصف الله بها نفسه، ووصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بجلال الله وعظمته، إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}2. وأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، يحتذي حذوه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 180.
2 سورة الشورى آية : 11.(7/341)
ص -449- ... ومثاله، فكما أنه يجب العلم بأن الله ذاتا حقيقة لا تشبه شيئا من ذوات المخلوقين، فله صفات حقيقة لا تشبه شيئا من صفات المخلوقين، فمن جحد شيئا مما وصف الله نفسه أو وصفه به رسوله، أو تأوله على غير ما ظهر من معناه فهو جهمي قد اتبع غير سبيل المؤمنين. كما قال تعالى: ? {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}1.
وقال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- أيضا:
"فائدة جليلة"
ما يجري صفة أو خبرا على الرب تبارك وتعالى أقسام:
أحدها: ما يرجع إلى نفس الذات، كقولك ذات وموجود.
الثاني: ما يرجع إلى صفاته ونعوته، كالعليم والقدير، والسميع والبصير.
الثالث: ما يرجع إلى أفعاله، كالخالق والرازق.
الرابع: التنزيه المحض، ولا بد من تضمنه ثبوتا; إذ لا كمال في العدم المحض، كالقدوس والسلام.
الخامس: - ولم يذكره أكثر الناس- وهو الاسم الدال على جملة أوصاف عديدة لا تختص بصفة معينة، بل دال على معان، نحو المجيد العظيم الصمد؛ فإن المجيد من اتصف بصفات متعددة، من صفات الكمال، ولفظه يدل على هذا؛ فإنه موضوع للسعة والزيادة والكثرة، فمنه " استمجد المرخ والعفار" 2، وأمجد الناقة، علفها. ومنه "رب العرش المجيد" صفة للعرش لسعته وعظمته وشرفه. وتأمل كيف جاء هذا الاسم مقترنا بطلب الصلاة من الله على رسوله كما علمناه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه في مقام طلب المزيد والتعرض لسعة العطاء، وكثرته ودوامه. فأتى في هذا المطلوب باسم يقتضيه; كما تقول: اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم، فهو راجع إلى التوسل إليه بأسمائه وصفاته، وهو من أقرب الوسائل وأحبها إليه. ومنه الحديث الذي في الترمذي: " ألِظُّوا بيا ذا الجلال والإكرام " 3.
ومنه: " اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان، بديع(7/342)
السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام " 4. فهذا سؤال له توسل إليه بحمده، وأنه لا إله إلا هو
فيه مسائل:
الأولى: إثبات الأسماء.
الثانية: كونها حسنى.
الثالثة: الأمر بدعائه بها.
الرابعة: ترك من عارض من الجاهلين الملحدين.
الخامسة: تفسير الإلحاد فيها.
السادسة: وعيد من ألحد.
المنان، فهو توسل إليه بأسمائه وصفاته. وما أحق ذلك بالإجابة وأعظمه موقعا عند المسئول! وهذا باب عظيم من أبواب التوحيد.
السادس: صفة تحصل من اقتران أحد الاسمين والوصفين بالآخر. وذلك قدر زائد على مفرديهما نحو الغني الحميد، الغفور القدير، الحميد المجيد، وهكذا عامة الصفات المقترنة والأسماء المزدوجة في القرآن؛ فإن الغني صفة كمال، والحمد كذلك، واجتماع الغنى مع الحمد كمال آخر، فله ثناء من غناه، وثناء من حمده، وثناء من اجتماعهما، وكذلك الغفور القدير، والحميد المجيد، والعزيز الحكيم، فتأمله فإنه أشرف المعارف.(7/343)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية : 115.
2 المرخ: شجر سريع الوري والاشتعال. والعفار- كسحاب- شجر يتخذ منه الزناد, والمراد: كثرت النار; ويضرب المثل للكثرة.
3 صحيح: الترمذي: كتاب الدعوات (3524 , 3525) باب رقم (92)، أحمد (1/ 177)، والنسائي في الكبرى (كما في تحفة الأشراف [3/ 167]) من حديث أنس رضي الله عنه. وصححه الألباني في الصحيحة (1536) لطرقه وشواهده.
4 صحيح: جزء من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد ورجل يصلي فقال: اللهم.. أخرجه أحمد (3/ 120 , 158 , 245 , 265)، وأبوداود: كتاب الصلاة (1495) باب الدعاء، والترمذي: كتاب الدعوات (3544) باب خلق الله مائة رحمة، والنسائي: كتاب السهو (3/ 53) باب الدعاء بعد الذكر، وابن ماجة: كتاب الدعاء (3858) باب اسم الله الأعظم. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي (1/ 503 , 504)، وابن حبان (2382- موارد). وصححه الأرناؤوط في تخريج شرح السنة (5/ 36 , 37).(7/344)
ص -450- ... باب "لا يقال " السلام على الله"
في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب لا يقال: السلام على الله".
قوله: "في الصحيح عن ابن مسعود إلخ". هذا الحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث شقيق بن سلمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " كنا إذا جلسنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة قلنا: السلام على الله قبل عباده; السلام على فلان وفلان " 1. الحديث وفي آخره ذكر التشهد الأخير. رواه الترمذي من حديث الأسود بن يزيد عن ابن مسعود.
وذكر في الحديث سبب النهي عن ذلك بقوله: " فإن الله هو السلام ومنه السلام " 2. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من الصلاة المكتوبة يستغفر ثلاثا ويقول: " اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: كتاب صفة الصلاة (835): باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب، ومسلم: كتاب الصلاة (402) (58): باب التشهد في الصلاة: باب تخيير الدعاء بعد الصلاة على النبي، وابن ماجة: في إقامة الصلاة (899): باب ما جاء في التشهد من حديث شقيق بن سلمة عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-.
2 الترمذي: في الصلاة (289): باب ما جاء في التشهد. من حديث الأسود بن يزيد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وأخرجه النسائي أيضا (2/ 237 , 238) من هذا الطريق أيضا.(7/345)
ص -451- ... يا ذا الجلال والإكرام "1 .
الصلاة قلنا: السلام على الله قبل عباده، السلام على فلان وفلان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا: السلام على الله؛ فإن الله هو السلام "2 .
وفي الحديث: " إن هذا هو تحية أهل الجنة لربهم تبارك وتعالى " 3.
وفي التنزيل ما يدل على أن الرب -تبارك وتعالى- يسلم عليهم في الجنة 4. كما قال تعالى: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}5 .
ومعنى قوله: "إن الله هو السلام" إن الله سالم من كل نقص ومن كل تمثيل، فهو الموصوف بكل كمال، المنزه عن كل عيب ونقص.
قال العلامة ابن القيم في بدائع الفوائد: " السلام اسم مصدر. وهو من ألفاظ الدعاء. يتضمن الإنشاء والإخبار، فجهة الخبر فيه لا تناقض الجهة الإنشائية، وهو معنى السلام المطلوب عند التحية. وفيه قولان مشهوران:
الأول: أن السلام هنا هو الله عز وجل . ومعنى الكلام: نزلت بركته عليكم ونحو ذلك. فاختير في هذا المعنى من أسمائه عز وجل اسم "السلام" دون غيره من الأسماء.
الثاني: أن السلام مصدر بمعنى السلامة، وهو المطلوب المدعو به عند التحية. ومن حجة أصحاب هذا القول: أنه يأتي منكرا، فيقول المسلم: "سلام عليكم"، ولو كان اسما من أسماء الله لم يستعمل كذلك. ومن حجتهم: أنه ليس المقصود من السلام هذا المعنى، وإنما المقصود منه الإيذان بالسلامة خبرا ودعاء".
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-: وفصل الخطاب أن يقال: الحق في مجموع القولين. فكل(7/346)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (6/145).
2 مسلم : الصلاة (402) , والنسائي : السهو (1298) , وأبو داود : الصلاة (968) , وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (899) , وأحمد (1/382 ,1/413) , والدارمي : الصلاة (1340).
3 أخرجه مسلم: كتاب المساجد (591) (135): باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته. من حديث ثوبان رضي الله عنه.
4 منكر. جزء من حديث طويل رواه ابن أبي الدنيا، وأبو نعيم معضلا. ورفعه منكر كما قال المنذري في الترغيب والترهيب (4/ 271).
5 سورة يس آية : 58.(7/347)
ص -452- ... باب" قول: " اللهم اغفر لي إن شئت"
في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة فإن الله لا مكره له "1 .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب قول: اللهم اغفر لي إن شئت".
يعني أن ذلك لا يجوز لورود النهي عنه في حديث الباب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الدعوات (6339) , ومسلم : الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2679) , والترمذي : الدعوات (3497) , وأبو داود : الصلاة (1483) , وأحمد (2/463 ,2/486) , ومالك : النداء للصلاة (494).(7/348)
ص -453- ... قوله: "في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت. ليعزم المسألة فإن الله لا مكره له ". بخلاف العبد؛ فإنه قد يعطي السائل مسألته لحاجته إليه، أو لخوفه أو رجائه، فيعطيه مسألته وهو كاره. فاللائق بالسائل للمخلوق أن يعلق حصول حاجته على مشيئة المسئول; مخافة أن يعطيه وهو كاره، بخلاف رب العالمين؛ فإنه –تعالى- لا يليق به ذلك لكمال غناه عن جميع خلقه، وكمال جوده وكرمه، وكلهم فقير إليه، محتاج لا يستغني عن ربه طرفة عين، وعطاؤه كلام.
وفي الحديث: " يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار. أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يمينه; وفي يده الأخرى القسط يخفضه ويرفعه " 1 2. يعطي تعالى لحكمة ويمنع لحكمة وهو الحكيم الخبير. فاللائق بمن سأل الله أن يعزم المسألة، فإنه لا يعطي عبده شيئا عن كراهة ولا عن عظم مسألة. وقد قال بعض الشعراء فيمن يمدحه:
ويعظم في عين الصغير صغارها ... ويصغر في عين العظيم العظائم
وهذا بالنسبة إلى ما في نفوس أرباب الدنيا، وإلا فإن العبد يعطي تارة ويمنع أكثر، ويعطي كرها، والبخل عليه أغلب. وبالنسبة إلى حاله هذه فليس عطاؤه بعظيم، وأما ما يعطيه الله تعالى عباده فهو دائم مستمر، يجود بالنوال قبل السؤال من حين وضعت النطفة(7/349)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : التوحيد (7419) , ومسلم : الزكاة (993) , والترمذي : تفسير القرآن (3045) , وابن ماجه : المقدمة (197) , وأحمد (2/313 ,2/500).
2 رواه البخاري في عدة مواضع من الجامع، ومسلم عن أبي هريرة وفيه زيادة: "وكان عرشه على الماء" بعد "خلق السماوات والأرض". وفي تفسير سورة هود من البخاري أول الحديث: "أنفق أنفق عليك, وقال: "يد الله ملأى... الحديث" قال الحافظ في الفتح: " وترد رواية: "يمين الله" على من فسر اليد هنا بالنعمة, وأبعد منه من فسرها بالخزائن ". اهـ. ومعنى: "يغيضها" ينقصها, يقال: غاض الماء إذا نقص. ومعنى: "سحاء" أي دائمة الصب والعطاء الكبير.(7/350)
ص -454- ... في الرحم. فنعمه على الجنين في بطن أمه دارّة، يربيه أحسن تربية، فإذا وضعته أمه عطف عليه والديه ورباه بنعمه حتى يبلغ أشده، يتقلب في نعم الله مدة حياته، فإن كانت حياته على الإيمان والتقوى، ازدادت نعم الله تعالى عليه إذا توفاه أضعاف أضعاف ما كان عليه في الدنيا من النعم التي لا يقدر قدرها إلا الله، مما أعده الله تعالى لعباده المؤمنين المتقين. وكل ما يناله العبد في الدنيا من النعم، وإن كان بعضها على يد مخلوق فهو بإذن الله وإرادته وإحسانه إلى عبده، فالله تعالى هو المحمود على النعم كلها، فهو الذي شاءها وقدّرها وأجراها عن كرمه وجوده وفضله، فله النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن.
قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ}1. وقد يمنع سبحانه عبده إذا سأله لحكمة وعلم بما يصلح عبده من العطاء والمنع، وقد يؤخر ما سأله عبده لوقته المقدر، أو ليعطيه أكثر. فتبارك الله رب العالمين.
ولمسلم: " وليعظم الرغبة؛ فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه "2 .
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن الاستثناء في الدعاء.
الثانية: بيان العلة في ذلك.
الثالثة: قوله: " ليعزم المسألة".
الرابعة: إعظام الرغبة.
الخامسة: التعليل لهذا الأمر.
وقوله: "ولمسلم: "وليعظم الرغبة" أي في سؤاله ربه حاجته; فإنه يعطي العظائم كرما وجودا وإحسانا. فالله تعالى لا يتعاظمه شيء أعطاه، أي ليس شيء عنده بعظيم، وإن عظم في نفس المخلوق؛ لأن سائل المخلوق لا يسأله إلا ما يهون عليه بذله بخلاف رب العالمين، فإن عطاءه كلام {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}3. فسبحان من لا يقدر الخلق قدره، لا إله غيره ولا رب سواه.(7/351)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية : 53.
2 مسلم : الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2679).
3 سورة يس آية : 82.(7/352)
ص -455- ... باب " لا يقول عبدي وأَمَتي
في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، " لا يقل أحدكم أطعم ربك وضئ ربك، وليقل سيدي ومولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل فتاي وفتاتي وغلامي "1 .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب لا يقول: عبدي وأمتي".
ذكر الحديث الذي في الصحيح "عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" لا يقولن أحدكم: أطعم ربك، وضِّئْ ربك. وليقل: سيدي ومولاي. ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي " .
هذه الألفاظ المنهي عنها وإن كانت تطلق لغة، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها تحقيقا للتوحيد، وسدا لذرائع الشرك؛ لما فيها من التشريك في اللفظ؛ لأن الله تعالى هو رب العباد جميعهم. فإذا أطلق على غيره شاركه في الاسم، فينهى عنه لذلك. وإن لم يقصد بذلك التشريك في الربوبية التي هي وصف الله تعالى. وإنما المعنى أن هذا مالك له. فيطلق عليه هذا اللفظ بهذا الاعتبار. فالنهي عنه حسما لمادة التشريك بين الخالق والمخلوق، وتحقيقا للتوحيد، وبعدا عن الشرك حتى في اللفظ. وهذا من أحسن مقاصد الشريعة؛ لما فيه من تعظيم الرب تعالى، وبعده عن مشابهة المخلوقين، فأرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى ما يقوم مقام هذه الألفاظ. وهو قوله: "سيدي ومولاي" وكذا قوله: " ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي "؛ لأن العبيد عبيد الله، والإماء إماء الله. قال الله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً}2. ففي إطلاق هاتين الكلمتين على غير الله تشريك في اللفظ، فنهاهم عن ذلك تعظيما لله تعالى وأدبا وبعدا عن الشرك وتحقيقا للتوحيد. وأرشدهم إلى أن يقولوا: "فتاي وفتاتي وغلامي". وهذا من باب حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد، فقد بلّغ(7/353)
صلى الله عليه وسلم أمته كل ما فيه لهم نفع، ونهاهم عن كل ما فيه نقص في الدين. فلا خير إلا دلهم عليه، خصوصا في تحقيق التوحيد، ولا شر إلا حذرهم منه، خصوصا ما يقرب من الشرك لفظا وإن لم يقصد به. وبالله التوفيق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: كتاب العتق (2552): باب كراهية التطاول على الرقيق. ومسلم: كتاب الألفاظ من الأدب (2449) (15) باب حكم إطلاق لفظة العبد والأمة والمولى والسيد.
2 سورة مريم آية : 93.(7/354)
ص -456- ... فيه مسائل:
الأولى: النهي عن قول: عبدي وأمتي.
الثانية: لا يقول العبد: ربي، ولا يقال له: أطعم ربك.
الثالثة : تعليم الأول قول: فتاي، وفتاتي، وغلامي.
الرابعة: تعليم الثاني قول: سيدي ومولاي.
الخامسة: التنبيه للمراد، وهو تحقيق التوحيد حتى في الألفاظ.
باب " لا يرد من سأل بالله
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سأل بالله فأعطوه،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب لا يرد من سأل بالله".
ظاهر الحديث1 النهي عن رد السائل إذا سأل بالله، لكن هذا العموم يحتاج إلى تفصيل بحسب ما ورد في الكتاب والسنة، فيجب إذا سأل السائل ما له فيه حق كبيت المال أن يجاب فيعطى منه على قدر حاجته وما يستحقه وجوبا، وكذلك إذا سأل المحتاج من في ماله فضل فيجب أن يعطيه على حسب حاله ومسألته، خصوصا إذا سأل من لا فضل عنده، فيستحب أن يعطيه على قدر حال المسئول ما لا يضر به ولا يضر عائلته، وإن كان مضطرا وجب أن يعطيه ما يدفع ضرورته.
ومقام الإنفاق من أشرف مقامات الدين، وتفاوت الناس فيه بحسب ما جبلوا عليه من الكرم والجود وضدهما من البخل والشح. فالأول محمود في الكتاب والسنة. والثاني مذموم فيهما. وقد حث الله تعالى عباده على الإنفاق لعظم نفعه وتعديه وكثرة ثوابه. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌالشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}2.
وقال تعالى:(7/355)
{وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}3. وذلك الإنفاق من خصال البر المذكورة في قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه برقم (301).
2 سورة البقرة آية : 267-268.
3 سورة الحديد آية : 7.(7/356)
ص -457- ... وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ}1 الآية. فذكره بعد ذكر أصول الإيمان وقبل ذكر الصلاة. ذلك- والله أعلم- لتعدي نفعه. وذكره –تعالى- في الأعمال التي أمر بها عباده، وتعبدهم بها ووعدهم عليها الأجر العظيم. قال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}2 .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه على الصدقة حتى النساء، نصحا للأمة وحثا لهم على ما ينفعهم عاجلا وآجلا. وقد أثنى الله سبحانه على الأنصار -رضي الله عنهم- بالإيثار، فقال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}3. والإيثار من أفضل خصال المؤمن كما تفيده هذه الآية الكريمة، وقد قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً}4 .
والآيات والأحاديث في فضل الصدقة كثيرة جدا، ومن كان سعيه للآخرة رغب في هذا ورغّب، وبالله التوفيق.
قوله: " من دعاكم فأجيبوه ". هذا من حقوق المسلمين بعضهم على بعض: إجابة دعوة المسلم، وتلك من أسباب الألفة والمحبة بين المسلمين.(7/357)
قوله: " ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه ". ندبهم صلى الله عليه وسلم على المكافأة على المعروف؛ فإن المكافأة على المعروف من المروءة التي يحبها الله ورسوله، كما دل عليه هذا الحديث، ولا يهمل المكافأة على المعروف إلا اللئام من الناس. وبعض اللئام يكافئ على الإحسان بالإساءة، كما يقع كثيرا من بعضهم. نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة، بخلاف حال أهل التقوى والإيمان فإنهم يدفعون السيئة بالحسنة طاعة لله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 177.
2 سورة الأحزاب آية : 35.
3 سورة الحشر آية : 9.
4 سورة الإنسان آية : 8-9.(7/358)
ص -458- ... ومحبة لما يحبه لهم ويرضاه، كما قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَوَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِوَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ}1. وقال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}2. وهم الذين سبقت لهم من الله تعالى السعادة.
لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له، حتى تُروا أنكم قد كافأتموه "3. رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح.
فيه مسائل:
الأولى: إعاذة من استعاذ بالله.
الثانية: إعطاء من سأل الله.
الثالثة: إجابة الدعوة.
الرابعة: المكافأة على الصنيعة.
الخامسة: أن الدعاء مكافأة لمن لم يقدر إلا عليه.
السادسة: قوله: حتى تروا أنكم قد كافأتموه.
قوله: " فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له ". أرشدهم صلى الله عليه وسلم إلى أن الدعاء في حق من لم يجد المكافأة مكافأة للمعروف، فيدعو له على حسب معروفه.
قوله: "تُروا- بضم التاء تظنوا- أنكم قد كافأتموه" ويحتمل أنها مفتوحة بمعنى تعلموا. ويؤيده ما في سنن أبي داود من حديث ابن عمر: "حتى تعلموا" 4. فتعين الثاني للتصريح به. وفيه: "من سألكم بالله فأجيبوه" 5. أي إلى ما سأل. فيكون بمعنى: أعطوه. وعند أبي داود في رواية أبي نُهيك عن ابن عباس: " من سألكم بوجه الله فأعطوه " 6. وفي رواية عبيد الله القواريري لهذا الحديث: "ومن سألكم بالله" 7، كما في حديث ابن عمر.(7/359)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المؤمنون آية : 96-97.
2 سورة فصلت آية : 34-35.
3 النسائي : الزكاة (2567) , وأبو داود : الزكاة (1672) , وأحمد (2/99 ,2/127).
4 أبو داود: كتاب الأدب (5109): باب في الرجل يستعيذ من الرجل من حديث ابن عمر.
5 عند أبي داود: "ومن سألكم بالله فأعطوه".
6 أبو داود: كتاب الأدب (5108): باب في الرجل يستعيذ من الرجل من حديث ابن عباس. ولفظه: "من سألكم بالله فأعطوه".
7 أبو داود: كتاب الأدب (5108): باب في الرجل يستعيذ من الرجل من حديث ابن عباس. وهو بهذا اللفظ من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.
باب: " لا يسأل بوجه الله إلا الجنة
عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يسأل بوجه الله إلا الجنة "1. رواه أبو داود.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة".
ذكر فيه حديث جابر رواه أبو داود عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يسأل بوجه الله إلا الجنة " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ضعيف: أبو داود: كتاب الزكاة (1671): باب كراهية المسألة بوجه الله عز وجل. وضعفه ابن القطان وغيره كما في فيض القدير (2/ 220). وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (6366).(7/360)
ص -459- ... وهنا سؤال: وهو أنه قد ورد في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عند منصرفه من الطائف حين كذبه أهل الطائف ومن في الطائف من أهل مكة، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء المأثور: " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس. أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يك بك غضب عليّ فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي ". وفي آخره: " أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل عليّ غضبك، أو ينزل بيّ سخطك. لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله " 1 2. والحديث المروي في الأذكار: " اللهم أنت أحق من ذُكر وأحق من عُبد " - 3 وفي آخره -: " أعوذ بنور وجهك
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن أن يسأل بوجه الله إلا غاية المطالب.
الثانية: إثبات صفة الوجه.
الذي أشرقت له السماوات والأرض ". وفي حديث آخر: " أعوذ بوجه الله الكريم، وباسم الله العظيم، وبكلماته التامة من شر السامة واللامة، ومن شر ما خلقت، أي رب ومن شر هذا اليوم ومن شر ما بعده، ومن شر الدنيا والآخرة "4. وأمثال ذلك في الأحاديث المرفوعة بالأسانيد الصحيحة أو الحسان.
فالجواب: أن ما ورد من ذلك فهو في سؤال ما يقرب إلى الجنة أو ما يمنعه من الأعمال التي تمنعه من الجنة، فيكون قد سأل بوجه الله وبنور وجهه ما يقرب إلى الجنة كما في الحديث الصحيح: " اللهم إني أسألك الجنة وما يقرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما يقرب إليها من قول وعمل " 5. بخلاف ما يختص بالدنيا كسؤال المال والرزق والسعة في المعيشة رغبة في الدنيا، مع قطع النظر عن كونه أراد بذلك ما يعينه على عمل الآخرة. فلا ريب أن الحديث يدل على المنع من أن يسأل حوائج دنياه بوجه الله، وعلى هذا فلا تعارض بين الأحاديث كما لا يخفى. والله أعلم.
وحديث الباب من جملة الأدلة المتواترة في الكتاب(7/361)
والسنة على إثبات الوجه لله تعالى؛ فإنه صفة كمال، وسلبه غاية النقص والتشبيه بالناقصات، كسلبهم جميع الصفات أو بعضها. فوقعوا في أعظم مما فروا منه، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وطريقة أهل السنة والجماعة سلفا وخلفا: الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته على ما يليق بجلال الله وعظمته، فيثبتون له ما أثبته لنفسه في كتابه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم وينفون عنه مشابهة المخلوق، فكما أن ذات الرب لا تشبه الذوات فصفاته كذلك لا تشبه الصفات، فمن نفاها فقد سلبه الكمال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ضعيف: رواه الطبراني في الكبير من حديث عبد الله بن جعفر, وقال الهيثمي (6/ 35) بعد أن عزاه للطبراني: "وفيه ابن إسحاق وهو مدلس ثقة وبقية رجاله ثقات". والحديث ضعفه الأرناؤوط في تخريج زاد المعاد (3/ 130). وضعفه الألباني في تخريح فقه السيرة لمحمد الغزالي ص (135, 136).
2 رواه ابن إسحاق والطبراني عن عبد الله بن جعفر.
3 ضعيف: أخرجه الطبراني في الكبير (8027) عن أبي أمامة. وقال الهيثمي (10/ 117): "وفيه فضال بن جبير وهو ضعيف مجمع على ضعفه" ا. هـ.
4 مسلم : صلاة المسافرين وقصرها (805) , والترمذي : فضائل القرآن (2883) , وأحمد (4/183).
5 صحيح: جزء من حديث أخرجه أحمد ( 3/474)، (6/ 134 , 146 , 147)، أبو داود: الصلاة (792)، وابن ماجة: كتاب الدعاء (3846): باب الجوامع من الدعاء من حديث عائشة -رضي الله عنها-. وصححه ابن حبان (2413- موارد)، والحاكم (1/ 521 , 522)، ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في الصحيحة (1542) وصحيح الجامع (1287).(7/362)
ص -460- ... باب: " ما جاء في اللّوِّ"
وقول الله تعالى: {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}1 .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب ما جاء في اللو".
أي من الوعيد والنهي عنه عند الأمور المكروهة، كالمصائب إذا جرى بها القدر لما فيه من الإشعار بعدم الصبر والأسى على ما فات، مما لا يمكن استدراكه، فالواجب التسليم للقدر، والقيام بالعبودية الواجبة وهو الصبر على ما أصاب العبد مما يكره. والإيمان بالقدر أصل من أصول الإيمان الستة. وأدخل المصنف -رحمه الله- أداة التعريف على "لو"، وهذه في هذا المقام لا تفيد تعريفا كنظائرها؛ لأن المراد هذا اللفظ كما قال الشاعر:
رأيت الوليد بن اليزيد مباركا ... شديدا بأعباء الخلافة كاهله
وقوله: "وقول الله عز وجل: {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}".
قاله بعض المنافقين يوم أحد؛ لخوفهم وجزعهم وخورهم.
قال ابن اسحاق: فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عبد الله بن الزبير قال: قال الزبير: " لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية : 154.(7/363)
ص -461- ... علينا أرسل الله علينا
وقوله: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}1 .
النوم. فما منا رجل إلا ذقنه في صدره، قال: فوالله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا. فحفظتها منه، وفي ذلك أنزل الله عز وجل: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} لقول معتب " 2. رواه ابن أبي حاتم.
قال الله تعالى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}3 أي هذا قدر مقدّر من الله عز وجل، وحكم حتم لازم لا محيد عنه ولا مناص منه.
وقوله: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} الآية.
قال العماد ابن كثير: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}: أي لو سمعوا مشورتنا عليهم بالقعود وعدم الخروج ما قتلوا مع من قتل. قال الله تعالى: {قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}4 أي إذا كان القعود يسلم به الشخص من القتل والموت، فينبغي لكم أن لا تموتوا، والموت لا بد آت إليكم، ولو كنتم في بروج مشيدة، فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين. قال مجاهد عن جابر بن عبد الله: "نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبيّ وأصحابه" يعني أنه هو الذي قال ذلك. وأخرج البيهقي عن أنس أن أبا طلحة قال: " غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، فجعل يسقط سيفي وآخذه ويسقط وآخذه. قال: والطائفة الأخرى - المنافقون- ليس لها هم إلا أنفسهم، أجبن قوم وأرعبه، وأخذله للحق، {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} إنما هم أهل ريب وشك بالله عز وجل " .
قوله: {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} يعني لا يغشاهم النعاس عن القلق والجزع والخوف(7/364)
{يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}5 .
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: " لما ذكر ما وقع من عبد الله بن أبيّ في غزوة أحد قال: فلما انخذل يوم أحد وقال: "يدع رأيي ورأيه ويأخذ برأي الصبيان؟" أو كما قال.. انخذل معه خلق كثير، كان كثير منهم لم ينافق قبل ذلك. فأولئك كانوا مسلمين وكان معهم إيمان، هو الضوء الذي ضرب الله به المثل. فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق لماتوا على الإسلام، ولم يكونوا من المؤمنين حقا الذين امتحنوا فثبتوا على المحنة، ولا من المنافقين حقا الذين ارتدوا عن الإيمان بالمحنة. وهذا حال كثير من المسلمين في زماننا أو أكثرهم، إذا ابتلوا بالمحنة التي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية : 168.
2 حسن: رواه ابن إسحاق كما قال ابن كثير في تفسيره (1/ 418). وابن جرير (4/ 94) عن الزبير بسند حسن: وانظر النهج السديد (532).
3 سورة آل عمران آية : 154.
4 سورة آل عمران آية : 168.
5 سورة آل عمران آية : 154.(7/365)
ص -462- ... يتضعضع فيها أهل الإيمان ينقص إيمانهم كثيرا، وينافق كثير منهم. ومنهم من يظهر الردة إذا كان العدو غالبا، وقد رأينا من هذا ورأى غيرنا من هذا ما فيه عبرة. وإذا كانت العافية، أو كان المسلمون ظاهرين على عدوهم كانوا مسلمين، وهم مؤمنون بالرسل باطنا وظاهرا، لكنه إيمان لا يثبت على المحنة، ولهذا يكثر في هؤلاء ترك الفرائض وانتهاك المحارم، وهؤلاء من الذين قالوا آمنا، فقيل لهم: {لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}1 أي الإيمان المطلق الذي أهله هم المؤمنون حقا؛ فإن هذا هو الإيمان إذا أطلق في كتاب الله تعالى، كما دل عليه الكتاب والسنة، فلم يحصل لهم ريب عند المحن التي تقلقل الإيمان في القلوب". انتهى.
قوله: وقد رأينا من هذا ورأى غيرنا ما فيه عبرة.
قلت: ونحن كذلك رأينا من ذلك ما فيه عبرة عند غلبة العدو، من إعانتهم العدو على المسلمين، والطعن في الدين، وإظهار العداوة والشماتة، وبذل الجهد في إطفاء نور الإسلام، وذهاب أهله، وغير ذلك مما يطول ذكره. والله المستعان.
قوله: "في الصحيح" أي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"احرص .. الحديث" 2.
وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أنني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان "3 .
اختصر المصنف -رحمه الله- هذا الحديث، وتمامه: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك ". أي في معاشك ومعادك. والمراد الحرص على فعل الأسباب التي تنفع العبد في دنياه وأخراه مما شرعه الله تعالى لعباده من الأسباب الواجبة والمستحبة والمباحة، ويكون العبد في حال فعله السبب مستعينا بالله وحده دون كل ما سواه ليتم له سببه وينفعه، ويكون اعتماده على الله تعالى في ذلك; لأن الله تعالى(7/366)
هو الذي خلق السبب والمسبب، ولا ينفعه سبب إلا إذا نفعه الله به، فيكون اعتماده في فعل السبب على الله تعالى. ففعل السبب سنة، والتوكل على الله توحيد. فإذا جمع بينهما تم له مراده بإذن الله.
قوله: "ولا تعجزن" النون نون التأكيد الخفيفة، نهاه صلى الله عليه وسلم عن العجز
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحجرات آية : 14.
2 جزء من حديث أبي هريرة الذي أخرجه. مسلم: كتاب القدر (2664) (34) باب في الأمر بالقوة وترك العجز...
3 مسلم : القدر (2664) , وابن ماجه : المقدمة (79) , وأحمد (2/366 ,2/370).(7/367)
ص -463- ... وذمه، والعجز مذموم شرعا وعقلا، وفي الحديث: " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني " 1 2. فأرشده صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إذا أصابه ما يكره أن لا يقول: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن يقول: قد قَدَّرَ الله وما شاء فعل، أي هذا قدر الله، والواجب التسليم للقدر والرضى به، واحتساب الثواب عليه.
قوله: "فإن "لو" تفتح عمل الشيطان" أي لما فيها من التأسف على ما فات والتحسر ولوم القدر، وذلك ينافي الصبر والرضى، والصبر واجب، والإيمان بالقدر
فرض، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}3 .
قال أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه: " الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ". وقال الإمام أحمد: "ذكر الله الصبر في تسعين موضعا من القرآن".
قال شيخ الإسلام رحمه الله- وذكر حديث الباب بتمامه- ثم قال في معناه: لا تعجز عن مأمور، ولا تجزع عن مقدور، ومن الناس من يجمع كلا الشرين، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالحرص على النافع والاستعانة بالله، والأمر يقتضي الوجوب، وإلا فالاستحباب، ونهى عن العجز وقال: " إن الله يلوم على العجز " 4. والعاجر ضد "الذين هم ينتصرون" فالأمر بالصبر والنهي عن العجز مأمور به في مواضع كثيرة; وذلك لأن الإنسان بين أمرين: أمر أُمر بفعله، فعليه أن يفعله ويحرص عليه ويستعين الله ولا يعجز. وأمرٌ أصيب به من غير فعله. فعليه أن يصبر عليه ولا يجزع منه. ولهذا قال بعض العقلاء- ابن المقفع أو غيره-: الأمور أمران: أمر فيه حيلة فلا تعجز عنه، وأمر لا حيلة فيه فلا تجزع منه.(7/368)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ضعيف: أخرجه أحمد (4/ 124) والترمذي: كتاب صفة القيامة (2459): باب رقم (25). وابن ماجة: كتاب الزهد (4260): باب ذكر الموت والاستعداد له من حديث شداد بن أوس. وصححه الحاكم على شرط البخاري (1/ 57) وتعقبه الذهبي بقوله: "لا والله وأبو بكر واه" ا. هـ. أي أبو بكر بن أبي مريم, وضعفه الألباني في تخريج رياض الصالحين (67).
2 رواه أحمد والترمذي- وحسنه-، والحاكم وقال: " صحيح على شرط البخاري "، وتعقبه الذهبي بأن فيه ابن أبي مريم وهو واه. وهذا من حديث شداد بن أوس. وهو عندهم بدون كلمة "الأماني".
3 سورة الحديد آية : 22-23.
4 ضعيف: أخرجه أحمد (6/ 25). وأبو داود: كتاب الأقضية (3627): باب الرجل يحلف على حقه. من حديث عوف بن مالك الأشجعي -رضي الله عنه-, وضعفه الألباني في تخريج الكلم الطيب (137)، وضعيف الجامع (1759).(7/369)
ص -464- ... وهذا في جميع الأمور لكن عند المؤمن: الذي فيه حيلة هو ما أمره الله به، وأحبه له؛ فإن الله لم يأمره إلا بما فيه حيلة له، إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وقد أمره بكل خير له فيه حيلة. وما لا حيلة له فيه هو ما أصيب به من غير فعله. واسم الحسنات والسيئات يتناول قسمين: فالأفعال مثل قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا}1. ومثل قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}2. ومثل قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}3. ومثل قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ}4 إلى آيات كثيرة من هذا الجنس والله أعلم.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيتين في آل عمران.
الثانية: النهي الصريح عن قول: " لو " إذا أصابك شيء.
الثالثة: تعليل المسألة بأن ذلك يفتح عمل الشيطان.
الرابعة: الإرشاد إلى الكلام الحسن.
الخامسة: الأمر بالحرص على ما ينفع، مع الاستعانة بالله.
السادسة: النهي عن ضد ذلك، وهو العجز.
والقسم الثاني. ما يجري على العبد بغير فعله من النعم والمصائب. كما قال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}5. والآية قبلها، فالحسنة في هاتين الآيتين: النعم. والسيئة: المصائب، هذا هو الثاني من القسمين.
وأظن شيخ الإسلام -رحمه الله- ذكره في هذا الموضع، ولعل الناسخ أسقطه والله أعلم.
ثم قال -رحمه الله-: " فإن الإنسان ليس مأمورا أن ينظر إلى القدر عندما يؤمر به من الأفعال، ولكن عندما يجري عليه من المصائب التي لا حيلة له في دفعها، فما أصابك بفعل الآدميين أو بغير فعلهم، فاصبر عليه وارض وسلم. قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ(7/370)
بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}6. ولهذا قال آدم لموسى:
"أتلومني على أمر قَدّره الله عليّ قبل أن أخلق بأربعين سنة؟ فحج آدم موسى" 7؛ لأن موسى قال له: "لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة" 8. فلامه على المصيبة التي حصلت بسبب فعله، لا لأجل كونها ذنبا. وأما كونه لأجل الذنب- كما يظنه طوائف من الناس- فليس مرادا بالحديث؛ فإن آدم -عليه السلام- كان قد تاب من
الذنب. والتائب من الذنب كمن لا ذنب له. ولا يجوز لوم التائب باتفاق الناس". انتهى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية : 160.
2 سورة الإسراء آية : 7.
3 سورة الشورى آية : 40.
4 سورة البقرة آية : 81.
5 سورة النساء آية : 79.
6 سورة التغابن آية : 11.
7 البخاري: كتاب القدر (6614): باب تحاج آدم وموسى عند الله. ومسلم: كتاب القدر (2652) باب حجاج آدم وموسى -عليهما السلام-. من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
8 رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن عمر بن الخطاب.(7/371)
ص -465- ... قال العلامة ابن القيم رحمه الله: تضمن هذا الحديث أصولا عظيمة من أصول الإيمان:
أحدها: أن الله سبحانه موصوف بالمحبة وأنه يحب حقيقة.
الثاني: أنه يحب مقتضى أسمائه وصفاته وما يوافقها، فهو القوي ويحب المؤمن القوي، وهو وتر ويحب الوتر، وجميل يحب الجمال; وعليم يحب العلماء، ونظيف يحب النظافة، ومؤمن يحب المؤمنين، ومحسن يحب المحسنين، وصابر يحب الصابرين، وشاكر يحب الشاكرين.
ومنها: أن محبته للمؤمنين تتفاضل، فيحب بعضهم أكثر من بعض.
ومنها: أن سعادة الإنسان في حرصه على ما ينفعه في معاشه ومعاده. والحرص هو بذل الجهد واستفراغ الوسع. فإذا صادف ما ينتفع به الحريص كان حرصه محمودا، وكماله كله في مجموع هذين الأمرين: أن يكون حريصا، وأن يكون حرصه على ما ينتفع به، فإن حرص على ما لا ينفعه أو فعل ما ينفعه من غير حرص؛ فإنه من الكمال بقدر ما فاته من ذلك، فالخير كله في الحرص على ما ينفع.
ولما كان حرص الإنسان وفعله إنما هو بمعونة الله ومشيئته وتوفيقه أمره أن يستعين بالله ليجتمع له مقام {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}1. فإن حرصه على ما ينفعه عبادة لله تعالى. ولا يتم إلا بمعونته فأمره أن يعبده وأن يستعين به. فالحريص على ما ينفعه، المستعين بالله ضد العاجز. فهذا إرشاد له قبل وقوع المقدور إلى ما هو من أعظم أسباب حصوله، وهو الحرص عليه مع الاستعانة بمن أزمة الأمور بيده ومصدرها منه ومردها إليه.
فإن فاته ما لم يقدر له فله حالتان: عجز. وهو مفتاح عمل الشيطان; فيلقيه العجز إلى "لو" ولا فائدة من "لو" هاهنا، بل هي مفتاح اللوم والعجز والسخط والأسف والحزن، وذلك كله من عمل الشيطان. فنهاه صلى الله عليه وسلم عن افتتاح عمله بهذا الافتتاح، وأمره بالحالة الثانية، وهي النظر إلى القدر وملاحظته، وأنه لو قدر له لم يفته ولم يغلبه عليه أحد، قلم يبق له هاهنا أنفع من شهود القدر، ومشيئة الرب النافذة التي(7/372)
توجب وجوب
المقدور، وإن انتفت امتنع وجوده; ولهذا قال: " فإن غلبك أمر فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل "2. فأرشده إلى ما ينفعه في الحالتين: حالة حصول المطلوب، وحالة فواته، فلهذا كان هذا الحديث مما لا يستغني عنه العبد أبدا، بل هو أشد إليه ضرورة، وهو يتضمن إثبات القدر والكسب والاختيار، والقيام بالعبودية ظاهرا وباطنا في حالتي حصول المطلوب وعدمه، وبالله التوفيق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الفاتحة آية : 5.
2 مسلم : القدر (2664) , وابن ماجه : المقدمة (79) , وأحمد (2/366).(7/373)
ص -466- ... "باب النهي عن سب الريح"
عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها، وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها، وشر ما أمرت به "1. صححه الترمذي.
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن سب الريح.
الثانية: الإرشاد إلى الكلام النافع إذا رأى الإنسان ما يكره.
الثالثة: الإرشاد إلى أنها مأمورة.
الرابعة: أنها قد تؤمر بخير وقد تؤمر بشر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب النهي عن سب الريح".
" عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها، وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها، وشر ما أمرت به ". صححه الترمذي".
لأنها- أي الريح- إنما تهب عن إيجاد الله تعالى وخلقه لها وأمره; لأنه هو الذي أوجدها وأمرها، فمسبتها مسبة للفاعل، وهو الله سبحانه، كما تقدم في النهي عن سب الدهر، وهذا يشبهه. ولا يفعله إلا أهل الجهل بالله ودينه وبما شرعه لعباده، فنهى أهل الإيمان عما يقوله أهل الجهل والجفاء، وأرشدهم إلى ما يجب أن يقال عند هبوب الرياح، فقال: " إذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها، وخير ما أمرت به "2. يعني إذا رأيتم ما تكرهون من الريح إذا هبت، فارجعوا إلى ربكم بالتوحيد وقولوا: " اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها، وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها، وشر ما أمرت به " .
ففي هذا عبودية لله وطاعة له ولرسوله، واستدفاع للشرور به، وتعرض لفضله ونعمته، وهذه حال أهل التوحيد والإيمان، خلافا لحال أهل(7/374)
الفسوق والعصيان الذين حُرموا ذوق طعم التوحيد الذي هو حقيقة الإيمان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح: الترمذي: كتاب الفتن (2252): باب ما جاء في النهي عن سب الرياح وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وأحمد (5/123). وصححه الألباني لشواهده وطرقه في صحيح الجامع (7192).
2 الترمذي : الفتن (2252) , وأحمد (5/123).(7/375)
ص -467- ... باب: قول الله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} 1 .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب قول الله تعالى: {ظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} الآية".
وهذه الآية ذكرها الله تعالى في سياق قوله تعالى في ذكر وقعة أُحد: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ}. يعني أهل الإيمان والثبات والتوكل الصادق، وهم الجازمون بأن الله تعالى ينصر رسوله صلى الله عليه وسلم وينجز له مأموله، ولهذا قال: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} يعني لا يغشاهم النعاس من الجزع والقلق والخوف {يظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}، كما قال تعالى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً}2.
وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك(7/376)
الساعة ظنوا أنها الفيصلة، وأن الإسلام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية : 154.
2 سورة الفتح آية : 12.(7/377)
ص -468- ... قد باد وأهله، وهذا شأن أهل الريب والشك إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة تحصل لهم هذه الأمور الشنيعة.
عن ابن جريج قال: " قيل لعبد الله بن أبي: قُتل بنو الخزرج اليوم. قال: وهل لنا من الأمور من شيء؟ " .
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- في الكلام على ما تضمنته وقعة أُحد1: وقد فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله سبحانه بأنه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل وأنه يسلمه للقتل، وفسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقضاء الله وقدره ولا حكمة له
وقوله: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ}2 .
قال ابن القيم في الآية الأولى: " فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وفسر بأن ما أصابه لم يكن بقدر الله وحكمته، ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله وأن يظهره الله على الدين كله. وهذا هو ظن السوء الذي ظن المنافقون والمشركون في سورة الفتح. وإنما كان هذا ظن السوء؛ لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه، وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق.
فمن ظن أنه يُديلُ الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة،
فيه. ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يظهره على الدين كله. وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح حيث يقول: " {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}3. وإنما كان هذا هو ظن السوء وظن الجاهلية- وهو المنسوب إلى أهل الجهل- وظن غير الحق؛ لأنه ظن غير ما(7/378)
يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، وذاته المبرأة من كل عيب وسوء، وخلاف ما يليق بحكمته وحمده وتفرده بالربوبية والإلهية، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه، وبكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصرهم ولا يخذلهم، ولجنده بأنهم هم الغالبون.
فمن ظن به أنه لا ينصر رسله ولا يتم أمره ولا يؤيده، ويؤيد حزبه ويعليهم ويظفرهم بأعدائهم ويظهرهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يُديل الشرك على التوحيد، والباطل على الحق إدالة مستقرة، يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالا لا يقوم بعده أبدا، فقد ظن بالله ظن السوء، ونسبه إلى خلاف ما يليق بجلاله وكماله وصفاته ونعوته؛ فإن حمده وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك، وتأبى أن يُذل حزبه وجنده، وأن تكون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زاد المعاد (ج 2 ص 103-106) وقد بسط القول في ذلك أيضا في إغاثة اللهفان.
2 سورة الفتح آية : 6.
3 سورة الفتح آية : 6.(7/379)
ص -469- ... فذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار.
وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته، وموجب حكمته وحمده، فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى الله وليستغفره من ظنه بربه ظن السوء. ولو فتّشت من فتشت لرأيت عنده تعنتا على القدر وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر وفتش نفسك هل أنت سالم؟
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ... وإلا فإني لا إخالك ناجيا(7/380)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به. فمن ظن به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه ولا عرف صفاته وكماله. وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه وقدره، فما عرفه ولا عرف ربوبيته وملكه وعظمته. وكذلك من أنكر أن يكون قدر ما قدره من ذلك وغيره لحكمة بالغة وغاية محمودة يستحق الحمد عليها، وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردة عن حكمته، وغاية مطلوبه هي أحب إليه من فواتها، وأن تلك الأسباب المكروهة له المفضية إليها، لا يخرج تقديرها عن الحكمة؛ لإفضائها إلى ما يحب وإن كانت مكروهة له، فما قدرها سدى ولا شاءها عبثا ولا خلقها باطلا. {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}1.
وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وعرف أسماءه وصفاته، وعرف موجب حكمته وحمده. فمن قنط من رحمته وأيس من روحه فقد ظن به ظن السوء. ومن جوّز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم، ويسوي بينهم وبين أعدائه فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن أنه يترك خلقه سدى معطلين عن الأمر والنهي، لا يرسل إليهم رسله ولا ينزل عليهم كتبه، بل يتركهم هَمَلا كالأنعام، فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن أنه لن يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازى المحسن فيها بإحسانه والمسيء بإساءته، ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه، ويظهر للعالمين كلهم صدقه وصدق رسله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصا لوجهه على امتثال أمره، ويبطله عليه فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية آل عمران.
الثانية: تفسير آية الفتح.
بلا سبب من العبد، وأنه يعاقبه بما لا صنع له فيه ولا اختيار له ولا قدرة ولا(7/381)
إرادة له في حصوله، بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به، أو ظن به أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه ورسله، ويجريها على أيديهم ليضلوا بها عباده، وأنه يحسن منه كل شيء حتى تعذيب من أفنى عمره في طاعته فيخلده في الجحيم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة ص آية : 27.(7/382)
ص -470- ... في أسفل سافلين، وينعم من استنفد عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه فيرفعه إلى أعلى عليين، وكلا الأمرين في الحسن عنده سواء، ولا يعرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق، وإلا فالعقل لا يقضي بقبح أحدهما وحسن الآخر، فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه وتمثيل، وترك الحق لم يخبر به وإنما رمز إليه رموزا بعيدة، وأشار إليه إشارات ملغزة ولم يصرح به، وصرح دائما بالتشبيه والتمثيل والباطل، وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه، وتأويله على غير تأويله، ويتطلبوا له وجوه الاحتمالات المستكرهة والتأويلات التي هي بالألغاز والأحاجي1 أشبه منها بالكشف والبيان، وأحالهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم لا على كتابه، بل أراد منهم أن لا يحملوا كلامه على ما يعرفونه من خطابهم ولغتهم، مع قدرته على أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به، ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل فلم يفعل; بل سلك بهم خلاف طريق الهدى والبيان، فقد ظن به ظن السوء؛ فإنه إن قال: إنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبر به هو وسلفه فقد ظن بقدرته العجز، وإن قال: إنه قادر ولم يبين، وعدَل عن البيان وعن التصريح بالحق إلى ما يوهم، بل يوقع في الباطل المحال والاعتقاد الفاسد، فقد ظن بحكمته ورحمته ظن السوء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يقال: كلمة محجية: مخالفة المعنى للفظ. وهي إما من معنى الناحية, وتقديرها أنها جاءت من غير حجاها, أو من معنى الفطنة وهي الأحجية والأحجوة. قال صاحب المثل السائر: وأما اللغز والأحجية فإنهما شيء واحد, وهو كل معنى يستخرج بالحدس والحزر لا بدلالة اللفظ عليه حقيقة ولا مجازا. ولا يفهم منه غرضه. انتهى من هامش الأصل نقلا عن سر الليال.(7/383)
ص -471- ... ومن ظن أنه هو وسلفه عبروا عن الحق بصريحه دون الله ورسوله، وأن الهدى والحق في كلامهم وعباراتهم، وأما كلام الله فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه والتمثيل والضلال، وظاهر كلام المتهوكين والحيارى هو الهدى والحق، فهذا أسوأ الظن بالله.فكل هؤلاء من الظانين بالله ظن السوء، ومن الظانين بالله غير الحق ظن الجاهلية.
ومن ظن به أن يكون في مُلكه ما لا يشاء ولا يقدر على إيجاده وتكوينه، فقد ظن بالله ظن السوء. ومن ظن أنه كان معطلا من الأزل إلى الأبد عن أن يفعل، ولا يوصف حينئذ بالقدرة على الفعل، ثم صار قادرا عليه بعد أن لم يكن قادرا، فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن أنه لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم الموجودات، ولا عدد السماوات ولا النجوم، ولا بني آدم وحركاتهم وأفعالهم، ولا يعلم شيئا من الموجودات في الأعيان، فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به أنه لا سمع له ولا بصر ولا علم ولا إرادة، ولا كلام يقوم به، وأنه لا يكلم أحدا من الخلق ولا يتكلم أبدا، ولا قال، ولا يقول، ولا له أمر ولا نهي يقوم به، فقد ظن به ظن السوء.(7/384)
ص -472- ... ومن ظن به أنه ليس فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، وأن نسبة ذاته إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل سافلين; وإلى الأمكنة التي يرغب عن ذكرها، وأنه أسفل كما أنه أعلى، وأن من قال: سبحان ربي الأسفل كان كمن قال: سبحان ربي الأعلى، فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه.
الثالثة: الإخبار بأن ذلك أنواع لا تحصر.
الرابعة: أنه لا يسلم من ذلك إلا من عرف الأسماء والصفات وعرف نفسه.
ومن ظن أنه يحب الكفر والفسوق والعصيان، ويحب الفساد كما يحب الإيمان والبر والطاعة والإصلاح، فقد ظن به السوء. ومن ظن به أنه لا يحب ولا يرضى، ولا يغضب ولا يسخط، ولا يوالي ولا يعادي، ولا يقرب من أحد من خلقه، ولا يقرب منه أحد، وأن ذوات الشياطين في القرب من ذاته كذوات الملائكة المقربين وأوليائه المفلحين، فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن به أنه يسوي بين المتضادين، أو يفرق بين المتساويين من كل وجه، أو يحبط طاعات العمر المديد الخالصة الصواب بكبيرة واحدة تكون بعدها، فيخلد فاعل تلك الطاعات في الجحيم أبد الآبدين بتلك الكبيرة، ويحبط بها جميع طاعاته ويخلده في العذاب كما يخلد من لم يؤمن به طرفة عين، واستنفد ساعات عمره في مساخطة ومعاداة رسله ودينه، فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن به أن له ولدا أو شريكا، أو أن أحدا يشفع عنده بدون إذنه، أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه، وأنه نصب لعباده أولياء من دونه يتقربون بهم إليه، ويتوصلون بهم إليه، ويجعلونهم وسائط بينه وبينهم، فيدعونهم ويخافونهم ويرجونهم فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه.
ومن ظن به أنه ينال ما عنده بمعصيته ومخالفته، كما يناله بطاعته والتقرب إليه، فقد ظن به خلاف حكمته، وخلاف موجب أسمائه وصفاته، وهو من ظن السوء. ومن ظن به أنه إذا ترك شيئا من أجله لم يعوضه خيرا منه، أو من فعل شيئا لأجله لم يعطه أفضل منه، فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن به أنه يغضب على عبده ويعاقبه ويحرمه بغير جرم، ولا(7/385)
سبب من العبد إلا بمجرد المشيئة ومحض الإرادة، فقد ظن به ظن السوء.
ومن ظن به أنه إذا صدقه في الرغبة والرهبة، وتضرع إليه وسأله واستعان به، وتوكل عليه أنه يخيبه ولا يعطيه ما سأله، فقد ظن به ظن السوء، وظن به خلاف ما هو أهله.
ومن ظن أنه يثيبه إذا عصاه كما يثيبه إذا أطاعه، وسأله ذلك في دعائه، فقد ظن به خلاف ما تقتضيه حكمته وحمده، وخلاف ما هو أهله وما لا يفعله.(7/386)
ص -473- ... ومن ظن به أنه إذا أغضبه وأسخطه وأوضع في معاصيه، ثم اتخذ من دونه أولياء ودعا من دونه ملكا أو بشرا حيا أو ميتا يرجو بذلك أن ينفعه عند ربه ويخلصه من عذابه، فقد ظن به ظن السوء.
فأكثر الخلق بل كلهم- إلا من شاء الله- يظنون بالله غير الحق وظن السوء؛ فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ناقص الحظ، وأنه يستحق فوق ما شاءه الله وأعطاه. ولسان حاله يقول: ظلمني ربي ومنعني ما أستحقه ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به. ومن فتش نفسه وتغلغل في معرفة طواياها، رأى ذلك فيها كامنا كمون النار في الزناد، فاقدح زناد من شئت ينبئك شراره عما في زناده، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتا "وتعتبا" على القدر وملامة له، واقتراحا عليه خلاف ما جرى به، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك؟
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ... وإلا فإني لا إخالك ناجيا
فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع، وليتب إلى الله ويستغفره في كل وقت من ظنه بربه ظن السوء، وليظن السوء بنفسه التي هي مادة كل سوء ومنبع كل شر، المركبة على الجهل والظلم. فهي أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، وأرحم الراحمين الغني الحميد، الذي له الغنى التام، والحمد التام، والحكمة التامة، المنزه عن كل سوء في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه، فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه، وصفاته كذلك، وأفعاله كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل، وأسماؤه كلها حسنى.
فلا تظنن بربك ظن سوء ... فإن الله أولى بالجميل
ولا تظنن بنفسك قط خيرا ... فكيف بظالم جان جهول
وقل: يانفس مأوى كل سوء ... أترجو الخير من ميت بخيل
وظن بنفسك السوأى ... تجدها كذاك وخيرها كالمستحيل
وما بك من تقى فيها وخير ... فتلك مواهب الرب الجليل
وليس لها ولا منها و لكن ... ن الرحمن فاشكر للدليل ا هـ.(7/387)
قوله: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ}1. قال ابن جرير في تفسيره: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} الظانين بالله أنه لن ينصرك وأهل الإيمان بك على أعدائك، ولن يُظهر كلمته فيجعلها العليا على كلمة الكافرين به. وذلك كان السوء من ظنونهم التي ذكرها الله في هذا الموضع. يقول -تعالى ذكره-: على المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الذين ظنوا هذا الظن دائرة السوء. يعني دائرة العذاب تدور عليهم به.
واختلف القراء في قراءة ذلك: فقرأته عامة قراء الكوفة {دَائِرَةُ السَّوْءِ} بفتح السين. وقرأ بعض قراء البصرة "دائرة السوء" بالضم. وكان الفراء يقول: الفتح أفشى في السين. وقلّ ما تقول العرب "دائرة السوء" بضم السين.
وقوله: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ}1 يعني ونالهم الله بغضب منه ولعنهم. يقول: وأبعدهم فأقصاهم من رحمته {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ}1 يقول: وأعد لهم جهنم يصلونها يوم القيامة {وَسَاءَتْ مَصِيراً} يقول: وساءت جهنم منزلا يصير إليه هؤلاء المنافقون والمنافقات والمشركون والمشركات.
وقال العماد ابن كثير -رحمه الله تعالى-: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ}1 أي يتهمون الله في حكمه، ويظنون بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يقتلوا ويذهبوا بالكلية؛ ولهذا قال تعالى: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ}. وذكر في معنى الآية الأخرى نحوا مما ذكره ابن جرير -رحمهما الله تعالى-.
قوله: " قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-" الذي ذكره المصنف في المتن قدمته لاندراجه في كلامه الذي سقته من أوله إلى آخره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الفتح آية : 6.(7/388)
ص -474- ... باب: " ما جاء في منكري القدر"
وقال ابن عمر: " والذي نفس ابن عمر بيده، لو كان لأحدهم مثل أُحد ذهبا، ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه، حتى يؤمن بالقدر ". ثم استدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: " الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره "1. رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب ما جاء في منكري القدر" أي من الوعيد الشديد ونحو ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الإيمان (8) , والترمذي : الإيمان (2610) , والنسائي : الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود : السنة (4695) , وابن ماجه : المقدمة (63) , وأحمد (1/27 ,1/28).(7/389)
ص -475- ... أخرج أبو داود عن عبد العزيز ابن أبي حازم عن أبيه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم " 1 2.
وعن عمر مولى غُفرة عن رجل من الأنصار عن حذيفة - وهو ابن اليمان- رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر، من مات منهم فلا تشهدوا جنازته ومن مرض منهم فلا تعودوه، وهم شيعة الدجال، وحق على الله أن يلحقهم بالدجال " 3 4.
قوله: "وقول ابن عمر: والذي نفسي بيده" إلخ. حديث ابن عمر أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن يحيى بن يعمر قال: " كان أول من تكلم في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين، أو معتمرين. فقلنا: لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر؟ فوفق الله تعالى لنا عبد الله بن عمر داخلا في المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إليّ، فقلت: أبا عبد الرحمن، إنه قد ظهر قِبلنا أناس يقرءون القرآن، ويتقفّرون العلم5 يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أُنف،(7/390)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حسن: أبو داود: كتاب السنة (4691: باب في القدر وحسنه الألباني في السنة لابن أبي عاصم (338, 339) لشواهده وطرقه الكثيرة فليراجع.
2 قال في عون المعبود (ج 4 ص 357) قال الخطابي: إنما جعلهم مجوسا لمضاهاة مذهبهم مذاهب المجوس في قولهم بالأصلين, وهما النور والظلمة، يزعمون أن الخير من فعل النور, والشر من فعل الظلمة. وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله, والشر إلى غيره.اهـ. وقال المنذري: هذا منقطع. أبو حازم- سلمة بن دينار- لم يسمع من ابن عمر. وقد روى هذا الحديث من طرق عن ابن عمر، ليس فيها شيء يثبت- اهـ.
3 حسن: أحمد (5/ 406 , 407) وأبو داود: كتاب السنة (4692): باب في القدر. وحسنه الألباني في تخريج السنة لابن أبي عاصم (329).
4 قال المنذري: عمر مولى غفرة- بضم الغين وسكون الفاء- لا يحتج بحديثه. ورجل من الأنصار مجهول، وقد روي من طرق أخرى عن حذيفة. ولا يثبت.
5 يقال: اقتفرت الأثر, أي تتبعته وقفوته. فمعنى يتقفرون العلم أي يتطلبونه.(7/391)
ص -476- ... فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني منهم بريء، وأنهم مني برآء. والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا، فأنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه، حتى يؤمن بالقدر.
ثم قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه. وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا. قال: صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان ؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل. قال فأخبرني عن أماراتها؟ قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان. قال: فانطلق. فلبثت ثلاثا. وفي رواية: مليا. ثم قال: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم " 1.
ففي هذا الحديث أن الإيمان بالقدر من أصول الإيمان الستة المذكورة، فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره فقد ترك أصلا من أصول الدين وجحده، فيشبه من قال الله فيهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}3 الآية.
قوله: "وعن عبادة" قد تقدم ذكره في باب فضل التوحيد، وحديثه هذا رواه أبو داود ورواه(7/392)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: كتاب الإيمان (8) (1): باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، وأبو داود: كتاب السنة (4695): باب في القدر، والترمذي: كتاب الإيمان (2610): باب ما جاء في وصف جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم الإيمان والإسلام، والنسائي: كتاب الإيمان (8/ 97): باب نعت الإسلام وابن ماجة في المقدمة (63): باب في الايمان.
3 سورة البقرة آية : 85.(7/393)
ص -477- ... الإمام أحمد بكماله1 قال: حدثنا الحسن بن سوار حدثنا ليث عن معاوية عن أيوب بن زياد; حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة حدثني أبي قال: دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت، فقلت: يا أبتاه أوصني واجتهد لي، فقال: أجلسوني. قال: يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان، ولن تبلغ حقيقة العلم بالله حتى تؤمن بالقدر خيره وشره. قلت: يا أبتاه فكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره؟ قال: تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك.
يا بني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن أول ما خلق الله القلم; فقال له: اكتب. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة. يا بني، إن مت ولست على ذلك دخلت النار " ورواه الترمذي بسنده المتصل إلى عطاء ابن أبي رباح عن الوليد بن عبادة عن أبيه، وقال: حسن صحيح وغريب 2.
وفي هذا الحديث ونحوه: بيان شمول علم الله تعالى وإحاطته بما كان ويكون في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً}34.(7/394)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المسند (ج 5 ص 317) وهو عند أبي داود أخصر مما عند أحمد، ومن طريق جعفر بن مسافر الهذلي أخبرنا يحيى بن حسان أخبرنا الوليد بن رباح عن إبراهيم بن أبي جميلة عن أبي حفصة قال: قال عبادة بن الصامت لابنه الحديث. وسكت عنه المنذري.
2 صحيح: أحمد (5/ 317) وأبو داود: كتاب السنة (4700): باب في القدر. وأما رواية الترمذي فهي عنده في موضعين. كتاب القدر (2155): باب [17] وقال: حديث غريب. كتاب التفسير (3319): باب ومن سورة ن وقال: حديث حسن غريب. وفي الباب عن ابن عباس، وصححه الألباني لطرقه وشواهده في السنة لابن أبي عاصم (102 , 103 , 104 , 105).
3 سورة الطلاق آية : 12.
4 في قرة العيون: والآيات في إثبات القدر كثيرة, وقد استدل العلماء على إثبات القدر بشمول القدرة والعلم, كما في الآية.(7/395)
ص -478- ... وقد قال الإمام أحمد -رحمه الله- لما سئل عن القدر قال: "القدر قدرة الرحمن". واستحسن ابن عقيل هذا من أحمد -رحمه الله-.
والمعنى: أنه لا يمنع عن قدرة الله شيء، ونفاة القدر قد جحدوا كمال قدرة الله(7/396)
ص -479- ... فيه مسائل:
الأولى: بيان فرض الإيمان بالقدر.
الثانية: بيان كيفية الإيمان.
الثالثة: إحباط عمل من لم يؤمن به.
الرابعة: الإخبار أن أحدا لا يجد طعم الإيمان حتى يؤمن به.
الخامسة: ذكر أول ما خلق الله.
السادسة : أنه جرى بالمقادير في تلك الساعة إلى قيام الساعة.
السابعة: براءته صلى الله عليه وسلم ممن لم يؤمن به.
تعالى فضلوا عن سواء السبيل. وقد قال بعض السلف: " ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به خصموا وإن جحدوه كفروا".
قوله: "وفي المسند وسنن أبي داود عن ابن الديلمي" وهو أبو بسر - بالسين المهملة، وبالباء المضمومة-. ويقال: أبو بشر- بالشين المعجمة وكسر الباء- وبعضهم صحح الأول. واسمه: عبد الله بن فيروز. ولفظ أبي داود: قال: " لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه، عذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهبا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار "1. قال: فأتيت عبد الله بن مسعود فقال مثل ذلك، ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك، قال ثم أتيت زيد بن ثابت، قال: فحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك2. وأخرجه ابن ماجه.
وقال العماد ابن كثير -رحمه الله-: عن سفيان عن منصور عن ربعي بن حراش عن رجل عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر خيره وشره " 3. وكذا رواه الترمذي عن النضر بن شميل عن شعبة عن منصور به. ورواه من حديث أبي داود الطيالسي عن شعبة عن ربعي عن علي فذكره.
وقد ثبت في صحيح مسلم من رواية عبد الله بن وهب وغيره عن أبي هانئ الخولاني عن أبي عبد الرحمن الحبلى عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول(7/397)
الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.- زاد ابن وهب-: وكان عرشه على الماء " 4. رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب.
وكل هذه الأحاديث وما في معناها فيها الوعيد الشديد على عدم الإيمان بالقدر، وهي الحجة على نفاة القدر من المعتزلة وغيرهم. ومن مذهبهم: تخليد أهل المعاصي في النار، وهذا الذي اعتقدوه من أكبر الكبائر وأعظم المعاصي. وفي الحقيقة إذا اعتبرنا إقامة الحجة عليهم بما تواترت به نصوص الكتاب والسنة من إثبات القدر، فقد حكموا على أنفسهم بالخلود في النار إن لم يتوبوا. وهذا لازم لهم على مذهبهم هذا، وقد خالفوا ما تواترت به أدلة الكتاب والسنة من إثبات القدر، وعدم تخليد أهل الكبائر من الموحدين في النار5.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الجنائز (947) , والترمذي : الجنائز (1029) , والنسائي : الجنائز (1991) , وأحمد (3/266 ,6/32 ,6/40 ,6/97 ,6/231).
2 قال في عون المعبود (ج 4 ص 362) فيصير الحديث مرفوعا. قال المنذري: وفي إسناده أبو سفيان الشيباني، وثقه ابن معين وغيره، وتكلم فيه أحمد وغيره.
3 صحيح: الترمذي: كتاب القدر (2145): باب ما جاء في الإيمان بالقدر خيره وشره. وابن ماجة في المقدمة (81); باب في القدر والطيالسي (1/ 22). وصححه الألباني في صحيح الجامع (7460).
4 مسلم: كتاب القدر (2653) (16): باب حجج آدم وموسى عليهما السلام. والترمذي: كتاب القدر (2156): باب رقم [15].
5 في قرة العيون: وهذا الذي اعتقدوه من أكبر الكبائر وأعظم البدع، وكثير منهم وافقوا الجهمية في نفي صفات الرب -تعالى وتقدس-.(7/398)
ص -480- ... الثامنة: عادة السلف في إزالة الشبهة بسؤال العلماء.
التاسعة: إن العلماء أجابوه بما يزيل شبهته، وذلك أنهم نسبوا الكلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط.
باب: " ما جاء في المصورين"
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة "1. أخرجاه.
ولهما عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أشد الناس عذابا يوم القيام الذين يضاهئون بخلق الله " 2.
ولهما عن ابن عباس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كل مصور في النار، يُجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم " 3.
ولهما عنه مرفوعا: " من صور صورة في الدنيا، كُلِّفَ أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ "4.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب ما جاء في المصورين" أي من عظيم عقوبة الله لهم وعذابه.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من العلة: وهي المضاهاة بخلق الله؛ لأن الله تعالى له الخلق والأمر، فهو رب كل شيء ومليكه، وهو خالق كل شيء وهو الذي صور جميع المخلوقات، وجعل فيها الأرواح التي تحصل بها الحياة، كما قال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ}5. فالمصور لما صور الصورة على شكل ما خلقه الله تعالى من إنسان وبهيمة صار مضاهئا لخلق الله. فصار ما صوره عذابا له يوم القيامة، وكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ، فكان أشد الناس عذابا; لأن ذنبه من أكبر الذنوب.
فإذا كان هذا فيمن صور(7/399)
صورة على مثال ما خلقه الله تعالى من الحيوان، فكيف بحال من سوّى المخلوق برب العالمين وشبهه بخلقه، وصرف له شيئا من العبادة التي ما خلق الله الخلق إلا ليعبدوه وحده بما لا يستحقه غيره من كل عمل يحبه الله من العبد ويرضاه؟ فتسوية المخلوق بالخالق بصرف حقه لمن لا يستحقه من خلقه، وجعله شريكا له فيما اختص به تعالى وتقدس، هو أعظم ذنب عُصي الله تعالى به. ولهذا أرسل رسله وأنزل كتبه لبيان هذا الشرك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : التوحيد (7559) , ومسلم : اللباس والزينة (2111) , وأحمد (2/232).
2 البخاري: كتاب اللباس (5954): باب ما وطئ من التصوير. ومسلم: كتاب اللباس والزينة (2106) (92): باب تحريم تصوير صورة الحيوان.
3 أخرجه البخاري بنحوه: كتاب البيوع (2225): باب بيع التصاوير التي ليس فيها روح. ومسلم: كتاب اللباس والزينة (2110) (99): باب تحريم تصوير صورة الحيوان واللفظ له.
4 البخاري : التعبير (7042) , ومسلم : اللباس والزينة (2110) , والترمذي : اللباس (1751) , والنسائي : الزينة (5358 ,5359) , وأبو داود : الأدب (5024) , وأحمد (1/216 ,1/241).
5 مسلم : الجنائز (969) , والترمذي : الجنائز (1049) , والنسائي : الجنائز (2031) , وأبو داود : الجنائز (3218) , وأحمد (1/96).
5 سورة السجدة آية : 7-8-9.(7/400)
ص -481- ... والنهي عنه، وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى. فنجى الله تعالى رسله ومن أطاعهم، وأهلك من جهد التوحيد، واستمر على الشرك والتنديد، فما أعظمه من ذنب! {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}1. {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}2. قوله: "ولمسلم عن أبي الهياج الأسدي- حيان بن حصين- قال: قال لي علي رضي الله عنه" هو أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه.
قوله: " " ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرا مشرفا إلا سويته "3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية : 48.
2 سورة الحج آية : 31.
3 في قرة العيون: فهذا ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من إنكار هذه الأمور وإزالتها 2: 59 ( فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم). فأكثروا التصوير واستعملوه وأكثروا البناء على القبور وزخرفوها وجعلوها أوثانا، وزعموه دينا، وهو أعظم المنكرات وأكبر السيئات, تعظيما للأموات وغلوا، وعبادة لغير الله بأنواع العبادة التي هي حق الله على عباده.(7/401)
ص -482- ... فيه مسائل:
الأولى: التغليظ الشديد في المصورين.(7/402)
ص -483- ... الثانية: التنبيه على العلة وهو ترك الأدب مع الله. لقوله: " ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي "1.
فيه تصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا لذلك. أما الصور فلمضاهاتها لخلق الله. وأما تسوية القبور فلما في تعليتها من الفتنة بأربابها وتعظيمها، وهو من ذرائع الشرك ووسائله. فصرف الهمم إلى هذا وأمثاله من مصالح الدين ومقاصده وواجباته. ولما وقع التساهل في هذه الأمور وقع المحذور، وعظمت الفتنة بأرباب القبور، وصارت محطا لرحال العابدين المعظمين لها. فصرفوا لها جلّ العبادة: من الدعاء والاستعانة والاستغاثة، والتضرع لها، والذبح لها، والنذور، وغير ذلك من كل شرك محظور.
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-: 2 ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به ونهى عنه، وما كان عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم. رأى أحدهما مضادا للآخر، مناقضا له بحيث لا يجتمعان أبدا. فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يصلون عندها وإليها. ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد، ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله. ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها. ونهى عن أن تتخذ عيدا، وهؤلاء يتخذونها أعيادا ومناسك، ويجتمعون لها كاجتماعاتهم للعيد أو أكثر، وأمر بتسويتها.
كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي- فذكر حديث الباب- وحديث ثمامة بن شُفَي وهو عند مسلم أيضا قال: " كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم بدردس، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسوي، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها "3. وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين، ويرفعونها عن الأرض كالبيت; ويعقدون عليها القباب. ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه.(7/403)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : اللباس (5953) , ومسلم : اللباس والزينة (2111) , وأحمد (2/232 ,2/259).
2 في إغاثة اللهفان الجزء الأول.
3 مسلم : الجنائز (968) , والنسائي : الجنائز (2030) , وأبو داود : الجنائز (3219).(7/404)
ص -484- ... الثالثة: التنبيه على قدرته وعجزهم لقوله: " فليخلقوا ذرة أو حبة أو شعيرة ".
الرابعة: التصريح بأنهم أشد الناس عذابا.(7/405)
ص -485- ... الخامسة: أن الله يخلق بعدد كل صورة نفسا يعذب بها المصور في جهنم.(7/406)
ص -486- ... السادسة: أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح.(7/407)
ص -487- ... السابعة: الأمر بطمسها إذا وجدت.
كما روى مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال: " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تجصيص القبر وأن يعقد عليه، وأن يبنى عليه "1. ونهى عن الكتابة عليها، كما روى أبو داود في سننه. عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نهى عن تجصيص القبور، وأن يكتب عليها " 2. قال الترمذي: " حديث حسن صحيح ". وهؤلاء يتخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن وغيره، ونهى أن يزاد عليها غير ترابها.
كما روى أبو داود عن جابر أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى أن يجصص القبر، أو يكتب عليه، أو يزاد عليه " 3. وهؤلاء يزيدون عليه الآجر والجص والأحجار4 .
قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون الآجر على قبورهم.
والمقصود: أن هؤلاء المعظمين للقبور المتخذينها أعيادا، الموقدين عليها السرج; الذين يبنون عليها المساجد والقباب مناقضون لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم محادون لما جاء به، وأعظم ذلك اتخاذها مساجد، وإيقاد السرج عليها، وهو من الكبائر. وقد صرح الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم بتحريمه.
قال أبو محمد المقدسي: " ولو أُبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله، ولأن فيه تضييعا للمال في غير فائدة، وإفراطا في تعظيم القبور أشبه تعظيم الأصنام. قال: ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. يحذر ما صنعوا "5 . متفق عليه. ولأن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها، وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم، والتمسح بها والصلاة عندها". انتهى.
وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجا. ووضعوا لها مناسك حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابا وسماه "مناسك حج المشاهد" مضاهاة منه القبور بالبيت الحرام، ولا يخفى(7/408)
أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عباد الأصنام، فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصده، من النهي عما تقدم ذكره في القبور، وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه، ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز عن حصره.
فمنها: تعظيمها الموقع في الافتتان بها. ومنها: اتخاذها أعيادا. ومنها: السفر إليها. ومنها: مشابهة عباد الأصنام بما يفعل عندها من العكوف عليها والمجاورة عندها وتعليق الستور عليها وسدانتها، وعُبّادها يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام، ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد، والويل عندهم لقيِّمها ليلة يطفئ القنديل المعلق عليها. ومنها: النذر لها ولسدنتها. ومنها: اعتقاد المشركين فيها أن بها يكشف البلاء وينصر على الأعداء، ويستنزل غيث السماء، وتفرج الكروب، وتقضى الحوائج، وينصر المظلوم، ويجار الخائف إلى غير
ذلك. ومنها: الدخول في لعنة الله ورسوله باتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج عليها. ومنها: الشرك الأكبر الذي يفعل عندها.
ومنها: إيذاء أصحابها بما يفعله المشركون بقبورهم. فإنهم يؤذيهم ما يفعل عند قبورهم، ويكرهونه غاية الكراهية، كما أن المسيح -عليه السلام- يكره ما يفعله النصارى عند قبره، وكذلك غيره من الأنبياء والأولياء والمشايخ يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم. ويوم القيامة يتبرءون منهم، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً}6. قال الله تعالى للمشركين: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ}7. وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى(7/409)
ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}8 الآية وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}9.
ومنها:10 إماتة السنن وإحياء البدع.
ومنها: تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله، فإن عُبّاد القبور يقصدونها مع التعظيم والاحترام والخشوع ورقة القلب، والعكوف بالهمة على الموتى بما لا يفعلونه في المساجد، ولا يحصل لهم فيها نظيره ولا قريبا منه.
ومنها:11 أن الذي شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم عند زيارة القبور إنما هو تذكّر الآخرة، والإحسان إلى المزور بالدعاء له، والترحم عليه، والاستغفار له، وسؤال العافية له;
فيكون الزائر محسنا إلى نفسه وإلى الميت. فقلب هؤلاء المشركون الأمر وعكسوا الدين، وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت، ودعاءه والدعاء به، وسؤاله حوائجهم، واستنزال البركة منه، ونصره لهم على الأعداء، ونحو ذلك. فصاروا مسيئين إلى أنفسهم وإلى الميت. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى الرجال عن زيارة القبور سدا للذريعة. فلما تمكن التوحيد في قلوبهم أذن لهم في زيارتها على الوجه الذي شرعه، ونهاهم أن يقولوا هُجرا، ومن أعظم الهجر: الشرك عندها قولا وفعلا.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " زوروا القبور؛ فإنها تذكر الموت " 12 13 .
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: " مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه فقال: السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر "14. رواه أحمد(7/410)
والترمذي وحسنه15.
فهذه الزيارة التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وعلمهم إياها، هل تجد فيها شيئا مما يعتمده أهل الشرك والبدع؟ أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه؟ وما أحسن ما قال مالك بن أنس -رحمه الله-: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها". ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقص إيمانهم، عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك.
ولقد جرد السلف الصالح التوحيد وحموا جانبه، حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أراد الدعاء استقبل القبلة، وجعل ظهره إلى جدار القبر ثم دعا16 ونص على ذلك الأئمة الأربعة: أنه يستقبل القبلة وقت الدعاء حتى لا يدعو عند القبر، فإن الدعاء عبادة.
وفي الترمذي وغيره: " الدعاء هو العبادة " 17. فجرد السلف العبادة لله، ولم يفعلوا عند القبور منها إلا ما أذن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدعاء لأصحابها، والاستغفار لهم والترحم عليهم. وأخرج أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم "18. وإسناده جيد ورواته ثقات مشيرا إلى قوله: " لا تجعلوا بيوتكم قبورا ". أي لا تعطلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحري النافلة في البيوت ونهى عن تحري النافلة عند القبور، وهذا ضد ما عليه المشركون من النصارى وأشباههم.
ثم إن19 في تعظيم القبور واتخاذها أعيادا من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله، ما يغضب لأجله كل من في قلبه وقار لله وغيرة على التوحيد، وتهجين وتقبيح للشرك، ولكن ما لجرح بميت إيلام.
فمن المفاسد: اتخاذها أعيادا والصلاة إليها والطواف بها وتقبيلها واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها وعبادة أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصر والرزق والعافية، وقضاء الدين، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات(7/411)
وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم. فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيدا، وقد نزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد، فوضعوا لها الجباه، وقبّلوا الأرض، وكشفوا الرءوس، وارتفعت أصواتهم بالضجيج، وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج، ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يبدئ ولا يعيد، ونادوا ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين، ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر، ولا أجر من صلى إلى القبلتين!! فتراهم حول القبر رُكّعا وسجدا يبتغون فضلا من الميت ورضوانا، وقد ملئوا أكفهم خيبة وخسرانا.
فلغير الله- بل للشيطان- ما يراق هناك من العبرات، ويرتفع من الأصوات، ويطلب من الميت من الحاجات، ويُسأل من تفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وإغناء ذوي الفاقات، ومعافاة ذوي العاهات والبليات، ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين، تشبيها له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركا وهدى للعالمين. ثم أخذوا في التقبيل والاستلام. أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفد البيت الحرام؟ ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود، التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود، ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحِلاق، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق، وقد قربوا لذلك الوثن القرابين، وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين، فلو رأيتهم يهنئ بعضهم بعضا ويقول: أجزل الله لنا ولكم أجرا وافرا وحظا، فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحجة المتخلف إلى البيت الحرام، فيقول: لا، ولا بحجك كل عام.
هذا ولم نتجاوز فيما حكيناه عنهم، ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم; إذ هي فوق ما يخطر بالبال، ويدور في الخيال، وهذا مبدأ عبادة الأصنام في قوم نوح كما تقدم. وكل من شم أدنى رائحة من العلم والفقه يعلم أن من أهم الأمور، سد(7/412)
الذريعة إلى هذا المحظور. وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهى عنه وما يئول إليه، وأحكم في نهيه عنه وتوعده عليه، وأن الخير والهدى في اتباعه وطاعته، والشر والضلال في معصيته ومخالفته. اهـ كلامه -رحمه الله تعالى-20.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الجنائز (970) , والترمذي : الجنائز (1052) , والنسائي : الجنائز (2028) , وأبو داود : الجنائز (3225) , وأحمد (3/295 ,3/339).
2 صحيح: أبو داود: كتاب الجنائز (3225); باب في البناء على القبر بلفظ: "نهى أن يقعد على القبر وأن يتجصص ويبنى عليه". والترمذي: كتاب الجنائز (1052). بلفظ: "نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تجصص القبور وأن يكتب عليها أو أن يبنى عليها, وأن توطأ". وصححه الألباني في أحكام الجنائز ص (204).
3 صحيح: أبو داود: كتاب الجنائز (3225): باب في البناء على القبر. وصححه الألباني لطرقه في أحكام الجنائز ص (204).
4 اختصر المؤلف كلام ابن القيم هنا وحذف منه ما يأتي: "ونهى عمر بن عبد العزيز أن يبنى القبر بآجر، وأوصى أن لا يفعل ذلك بقبره، وأوصى الأسود بن يزيد أن لا تجعلوا على قبري آجرا. وأوصى أبو هريرة حين حضرته الوفاة أن لا يضربوا على قبره فسطاطا. وكره الإمام أحمد أن يضرب على القبر فسطاطا ". اهـ إغاثة اللهفان "ج 1 ص 103".
5 البخاري : الجنائز (1330) , ومسلم : المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي : المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/146 ,6/252 ,6/255 ,6/274) , والدارمي : الصلاة (1403).
6 سورة الفرقان آية : 17-18.
7 سورة الفرقان آية : 19.
8 سورة المائدة آية : 116.
9 سورة سبأ آية : 40-41.
10 اختصر المؤلف من كلام ابن القيم ما يأتي: ومنها: مشابهة اليهود والنصارى في اتخاذ المساجد والسرج عليها. ومنها: محادة الله ورسوله، ومناقضة ما شرعه فيها. ومنها: التعب العظيم مع الوزر الكبير والإثم العظيم.
11(7/413)
زاد في الإغاثة: ومنها: أن ذلك يتضمن عمارة المشاهد وخراب المساجد, ودين الله الذي بعث به رسوله بضد ذلك. ولهذا لما كانت الرافضة من أبعد الناس عن العلم والدين عمروا المشاهد وخربوا المساجد.
12 جزء من حديث أبي هريرة. أخرجه مسلم: كتاب الجنائز (976) (108): باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه. وتقدم تخريجه برقم [180].
13 حذف المؤلف -رحمه الله- من كلام ابن القيم حديث علي عند الإمام أحمد: "إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور, فزوروها فإنها تذكر الآخرة".
14 الترمذي: كتاب الجنائز (1053): باب ما يقول الرجل إذا دخل المقابر. وضعفه الألباني في أحكام الجنائز ص (197) وفي ضعيف الجامع (3371). والحديث لم يروه الإمام أحمد كما قال المؤلف.
15 حذف المؤلف -رحمه الله- حديث ابن مسعود: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور, فزوروا القبور؛ فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة". رواه ابن ماجة. وحديث أبي سعيد: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها؛ فإن فيها عبرة". رواه الإمام أحمد.
16 قال ابن القيم: فقال سلمة بن وردان: "رأيت أنس بن مالك رضي الله عنه يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يسند ظهره إلى جدار القبر ثم يدعو".
17 صحيح: أبو داود: كتاب الصلاة (1479): باب الدعاء، والترمذي: كتاب الدعوات (3372): باب في فضل الدعاء، والنسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف (9/ 30)، وابن ماجة: كتاب الدعاء (3828): باب فضل الدعاء، وأحمد (4/ 267) من حديث النعمان [بن] بشير رضي الله عنه. وصححه الترمذي، وابن حبان (2396)، والحاكم (1/ 490 , 491)، ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في صحيح الجامع (3401). وصححه الأرناؤوط في تخريج شرح السنة (1384).
18 أبو داود : المناسك (2042) , وأحمد (2/284 ,2/337 ,2/367 ,2/378 ,2/388).
19 الذي في نسخ إغاثة اللهفان التي بأيدينا المخطوطة والمطبوعة أن قول المؤلف -رحمه الله-: "ثم إن في(7/414)
تعظيم القبور" إلخ فصل متقدم قبل ما نقله المؤلف هنا.
20 اختصره المؤلف -رحمه الله تعالى-، وتصرف فيه بالتقديم والتأخير على حسب ما بيدنا من نسخ إغاثة اللهفان. والله يرحم الجميع ويغفر لنا ولهم.(7/415)
ص -488- ... باب: " ما جاء في كثرة الحلف"
وقول الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}1.
عن أبي هريرة رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب "2. أخرجاه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب ما جاء في كثرة الحلف" أي من النهي عنه والوعيد. "وقول الله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}".
قال ابن جرير: لا تتركوها بغير تكفير. وذكر غيره من المفسرين عن ابن عباس يريد لا تحلفوا. وقال آخرون: احفظوا أيمانكم عن الحنث فلا تحنثوا. والمصنف أراد من الآية المعنى الذي ذكره ابن عباس، فإن القولين متلازمان، فيلزم من كثرة الحلف كثرة الحنث مع ما يدل عليه من الاستخفاف، وعدم التعظيم لله، وغير ذلك مما ينافي كمال التوحيد الواجب أو عدمه.
"عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب ". أخرجاه". أي البخاري ومسلم. وأخرجه أبو داود والنسائي. والمعنى: أنه إذا حلف على سلعته أنه أعطي فيها كذا وكذا، أو أنه اشتراها بكذا وكذا، وقد يظنه المشتري صادقا فيما حلف عليه فيأخذها بزيادة على قيمتها، والبائع كذاب وحلف طمعا في الزيادة، فيكون قد عصى الله تعالى، فيعاقب بمحق البركة، فإذا ذهبت بركة كسبه دخل عليه من النقص أعظم من تلك الزيادة التي دخلت عليه بسبب حلفه، وربما ذهب ثمن تلك السلعة رأسا. وما عند الله لا ينال إلا بطاعته، وإن تزخرفت الدنيا للعاصي فعاقبتها اضمحلال وذهاب وعقاب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية : 89.
2 البخاري : البيوع (2087) , ومسلم : المساقاة (1606) , والنسائي : البيوع (4461) , وأبو داود : البيوع (3335) , وأحمد (2/242 ,2/413).(7/416)
ص -489- ... قوله: "وعن سلمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أُشَيْمِط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته، لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه " 1. رواه الطبراني بسند صحيح" .
وسلمان: لعله سلمان الفارسي أبو عبد الله، أسلم مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وشهد الخندق، روى عنه أبو عثمان النهدي وشرحبيل بن السمط وغيرهما. قال النبي صلى الله عليه وسلم: " سلمان منا أهل البيت2، إن الله يحب من أصحابي أربعة: عليا، وأبا ذر، وسلمان، والمقداد"?. أخرجه الترمذي وابن ماجه . قال الحسن: كان سلمان أميرا على ثلاثين ألفا يخطب بهم في عباءة يفترش نصفها ويلبس نصفها. وتوفي في خلافة عثمان رضي الله عنه قال أبو عبيدة: سنة ست وثلاثين عن ثلاثمائة وخمسين سنة. ويحتمل أنه سلمان بن عامر بن أوس الضبي.
قوله: "ثلاثة لا يكلمهم الله"3 نفي كلام الرب -تعالى وتقدس- عن هؤلاء
ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أُشَيْمِط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل " الله" بضاعته لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه ". رواه الطبراني بسند صحيح .
العصاة دليل على أنه يكلم من أطاعه. وأن الكلام صفة من صفات كماله. والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة أظهر شيء وأبينه. وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة من المحققين قيام الأفعال بالله سبحانه، وأن الفعل يقع بمشيئته تعالى وقدرته شيئا فشيئا، ولم يزل متصفا به. فهو حادث الآحاد قديم النوع، كما يقول ذلك أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي وأحمد وسائر الطوائف، كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}4. فأتى بالحروف الدالة على الاستقبال والأفعال الدالة على الحال والاستقبال أيضا. وذلك في القرآن كثير.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: " فإذا قالوا لنا يعني النفاة:(7/417)
فهذا يلزمه أن تكون الحوادث قائمة به. قلنا: ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل. ولفظ الحوادث مجمل، فقد يراد به الأعراض والنقائص، والله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح: الطبراني في الكبير (6111) وفي الصغير (2/ 21). وقال الهيثمي في المجمع (4/ 78): "ورواته محتج بهم في الصحيح" ا هـ. وصححه الألباني في صحيح الجامع (3067).
2 ضعيف: هذا الحديث هو في الأصل حديثان إلا أن المصنف جعلهما حديثا واحدا. أما الأول: منهما بلفظ: "سلمان منا أهل البيت". أخرجه الطبراني في الكبير (6040). والحاكم (3/ 598) وإسناده ضعيف جدا، وضعفه العجلوني في كشف الخفا، وضعفه جدا الألباني في ضعيف الجامع (3272). أما الثاني: بلفظ: "إن الله أمرني بحب أربعة... الحديث". أخرجه الترمذي: كتاب المناقب (3718) باب (21)، وابن ماجة في المقدمة (149) وغيرهما، وإسناده ضعيف. وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (1566).
3 في قرة العيون: هذا وعيد شديد في حقهم؛ لأنه قد تواتر أنه –تعالى- يكلم أهل الإيمان ويكلمونه في عرصات القيامة. والأدلة على ذلك في الكتاب والسنة أظهر شيء وأبينه. وفيه الرد على الجهمية والأشاعرة نفاة صفة الكلام.
4 سورة يس آية : 82.(7/418)
ص -490- ... تعالى منزه عن ذلك، ولكن يقوم به ما يشاء من كلامه وأفعاله ونحو ذلك: مما دل عليه الكتاب والسنة. والقول الصحيح: هو قول أهل العلم والحديث الذين يقولون: لم يزل الله متكلما إذا شاء، كما قال ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة السنة". اهـ.
قلت: ومعنى قيام الحوادث به تعالى: قدرته عليها وإيجاده لها بمشيئته وأمره. والله أعلم.
قوله: " ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم". لما عظم ذنبهم عظمت عقوبتهم، فعوقبوا بهذه الثلاث التي هي أعظم العقوبات.
قوله: "أشيمط زان" صغره تحقيرا له1؛ وذلك لأن داعي المعصية ضعف في حقه، فدل على أن الحامل له على الزنا: محبة المعصية والفجور، وعدم خوفه من الله. وضعف الداعي إلى المعصية مع فعلها يوجب تغليظ العقوبة عليه; بخلاف
الشاب، فإن قوة داعي الشهوة منه قد تغلبه مع خوفه من الله، وقد يرجع على نفسه بالندم، ولومها على المعصية فينتهي ويراجع.
وكذا العائل المستكبر ليست له ما يدعوه إلى الكبر؛ لأن الداعي إلى الكبر في الغالب كثرة المال والنعم والرياسة. و "العائل" الفقير، لا داعي له إلى أن يستكبر، فاستكباره مع عدم الداعي إليه يدل على أن الكبر طبيعة له، كامن في قلبه، فعظمت عقوبته لعدم الداعي إلى هذا الخلق الذميم الذي هو من أكبر المعاصي.
قوله: "ورجل جعل الله بضاعته" بنصب الاسم الشريف، أي الحلف به، جعله بضاعته لملازمته له وغلبته عليه. وهذه أعمال تدل على أن صاحبها إن كان موحدا فتوحيده ضعيف وأعماله ضعيفة، بحسب ما قام بقلبه وظهر على لسانه وعمله من تلك المعاصي العظيمة على قلة الداعي إليها. نسأل الله السلامة والعافية، ونعوذ بالله من كل عمل لا يحبه ربنا ولا يرضاه.
قوله: "وفي الصحيح" أي صحيح مسلم. وأخرجه أبو داود والترمذي، ورواه البخاري بلفظ "خيركم" 2.(7/419)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تصغير أشمط; وهو الذي بشعره شمط أي شيب.
2 بل رواه باللفظين, فرواية: "خير أمتي أهل قرني" في فضائل الصحابة. ورواية: "خيركم" في عدة مواضع منه.(7/420)
ص -491- ... قوله: "عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم- قال عمران؟ فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثا؟- ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السِّمَن "1.
قوله: "خير أمتي قرني" لفضيلة أهل ذلك القرن في العلم والإيمان والأعمال الصالحة التي يتنافس فيها المتنافسون، ويتفاضل فيها العاملون، فغلب الخير فيها وكثر أهله، وقلّ الشر فيها وأهله، واعتز فيها الإسلام والإيمان، وكثر فيها العلم والعلماء. "ثم الذين يلونهم" فضّلوا على من بعدهم لظهور الإسلام فيهم، وكثرة الداعي إليه والراغب فيه والقائم به. وما ظهر فيه من البدع أنكر واستعظم وأُزيل، كبدعة الخوارج والقدرية والرافضة، فهذه البدع وإن كانت قد ظهرت فأهلها في غاية الذل والمقت والهوان والقتل فيمن عاند منهم ولم يتب.
قوله: " فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثا؟" هذا شك من راوي الحديث عمران بن حصين رضي الله عنه . والمشهور في الروايات: أن القرون المفضلة ثلاثة، الثالث دون الأولين في الفضل، لكثرة البدع فيه، لكن العلماء متوافرون والإسلام فيه ظاهر والجهاد فيه قائم، ثم ذكر ما وقع بعد القرون الثلاثة من الجفاء في الدين، وكثرة الأهواء.
فقال: " "ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون " لاستخفافهم بأمر الشهادة وعدم تحريهم للصدق، وذلك لقلة دينهم وضعف إسلامهم.
قوله: "ويخونون ولا يؤتمنون" يدل على أن الخيانة قد غلبت على كثير منهم أو أكثرهم. "وينذرون ولا يوفون" أي لا يؤدون ما وجب عليهم، فظهور هذه الأعمال الذميمة يدل على ضعف إسلامهم وعدم إيمانهم.
قوله: "ويظهر فيهم السمن" لرغبتهم في الدنيا، ونيل شهواتهم والتنعم بها، وغفلتهم(7/421)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : المناقب (3650) , ومسلم : فضائل الصحابة (2535) , والترمذي : الفتن (2221) , والنسائي : الأيمان والنذور (3809) , وأبو داود : السنة (4657) , وأحمد (4/427 ,4/440).(7/422)
ص -492- ... عن الدار الآخرة والعمل لها. وفي حديث أنس: " لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم "1. قال أنس: سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم فما زال الشر يزيد في الأمة حتى ظهر الشرك
وفيه عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته "2.
وقال إبراهيم: " " كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار" " .
والبدع في كثير منهم حتى فيمن ينتسب إلى العلم ويتصدر للتعليم والتصنيف3 .
قلت: بل قد دعوا إلى الشرك والضلال والبدع، وصنفوا في ذلك نظما ونثرا فنعوذ بالله من موجبات غضبه.
قوله: " وفيه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته " 4".
قلت: وهذه حال من صرف رغبته إلى الدنيا ونسي المعاد، فخف أمر الشهادة واليمين عنده تحملا وأداء؛ لقلة خوفه من الله وعدم مبالاته بذلك، وهذا هو الغالب على الأكثر. والله المستعان. فإذا كان هذا قد وقع في صدر الإسلام الأول فما بعده أكثر بأضعاف. فكان الناس على حذر.
قوله: "قال إبراهيم -هو النخعي-: " كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار "(7/423)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الفتن (7068) , والترمذي : الفتن (2206) , وأحمد (3/132 ,3/177).
2 البخاري : المناقب (3651) , ومسلم : فضائل الصحابة (2533) , والترمذي : المناقب (3859) , وابن ماجه : الأحكام (2362) , وأحمد (1/378 ,1/417 ,1/442).
3 في قرة العيون: فحدث التفرق والاختلاف في الدين، أو حدث الغلو في أهل البيت من بني بويه في المشرق، لما كان لهم دولة، وبنوا المساجد على القبور وغلوا في أربابها، وظهرت دولة القرامطة وظهر فيهم الكفر والإلحاد في شرائع الدين، ومذهبهم معروف وظهر فيهم من البدع ما يطول عده، وكثر الاختلاف والخوض في أصول الدين, وما زال أهل السنة على الحق، ولكن كثرت البدع والأهواء حتى عاد المعروف منكرا والمنكر معروفا، نشأ على هذا الصغير وهرم عليه الكبير.
4 في قرة العيون: في هذا الحديث أن خير القرون ثلاثة بلا شك.(7/424)
ص -493- ... وذلك لكثرة علم التابعين، وقوة إيمانهم ومعرفتهم بربهم، وقيامهم بوظيفة
فيه مسائل:
الأولى: الوصية بحفظ الأيمان.
الثانية: الإخبار بأن الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة.
الثالثة: الوعيد الشديد فيمن لا يبيع ولا يشتري إلا بيمينه.
الرابعة: التنبيه على أن الذنب يعظم مع قلة الداعي.
الخامسة: ذم الذين يحلفون ولا يستحلفون.
السادسة: ثناؤه صلى الله عليه وسلم على القرون الثلاثة أو الأربعة، وذكر ما يحدث.
السابعة: أن الذين يشهدون ولا يستشهدون.
الثامنة: كون السلف يضربون الصغار على الشهادة والعهد.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنه من أفضل الجهاد، ولا يقوم الدين إلا به. وفي هذا رغبة في تمرين الصغار على طاعة ربهم ونهيهم عما يضرهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
باب: "ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه
وقوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً}1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب ما جاء في ذمة الله وذمة رسوله وقول الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} الآية".
قال العماد ابن كثير: وهذا مما يأمر الله تعالى به وهو الوفاء بالعهود والمواثيق، والمحافظة على الأيمان المؤكدة. ولهذا قال: {وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}. ولا تعارض بين هذا وقوله: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ}2، وبين قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا(7/425)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية : 91.
2 سورة البقرة آية : 224.(7/426)
ص -494- ... أَيْمَانَكُمْ}1 أي لا تتركوها بلا تكفير. وبين قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: " إني والله "-إن شاء الله- لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها، إلا أتيت الذي هو خير منها وتحللتها - وفي رواية -: وكفرت عن يميني " 2. لا تعارض بين هذا كله وبين الآية المذكورة هنا، وهي {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} ؛ لأن هذه الأيمان المراد بها الداخلة في العهود والمواثيق، لا الأيمان الواردة على حث أو منع، ولهذا قال مجاهد في الآية: يعني الحلف أي حلف الجاهلية. ويؤيده ما رواه الإمام أحمد عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا حلف في الإسلام، وإنما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة "3. وكذا رواه مسلم. ومعناه أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه; فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}4 تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها.
قوله: "عن بريدة" هو ابن الحصيب الأسلمي. وهذا الحديث من رواية ابنه سليمان عنه. قاله في المفهم.
قوله: "قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى " فيه من الفقه تأمير الأمراء ووصيتهم.
قال الحربي: السرية: الخيل تبلغ أربعمائة ونحوها. والجيش ما كان أكثر من ذلك. وتقوى الله: التحرز بطاعته من عقوبته. قلت: وذلك بالعمل بما أمر الله به والانتهاء عما نهى عنه.
اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا. وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال -أو خلال-: فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف
قوله: "ومن معه من المسلمين خيرا" أي ووصاه بمن معه أن يفعل معهم خيرا: من الرفق بهم، والإحسان إليهم، وخفض الجناح لهم، وترك التعاظم عليهم.
قوله: "اغزوا باسم الله" هذا أي(7/427)
اشرعوا في فعل الغزو مستعينين بالله مخلصين له. قلت: فتكون الباء في "بسم الله" هنا للاستعانة والتوكل على الله.
قوله: " قاتلوا من كفر بالله " هذا العموم يشمل جميع أهل الكفر المحاربين وغيرهم. وقد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية : 89.
2 البخاري : كفارات الأيمان (6721) , ومسلم : الأيمان (1649) , وابن ماجه : الكفارات (2107) , وأحمد (4/401).
3 مسلم : فضائل الصحابة (2530) , وأبو داود : الفرائض (2925) , وأحمد (4/83).
4 سورة النحل آية : 91.(7/428)
ص -495- ... خصص منهم من له عهد والرهبان والنسوان، ومن لم يبلغ الحلم، وقد قال متصلا به: " ولا تقتلوا وليدا ". وإنما نهى عن قتل الرهبان والنسوان؛ لأنه لا يكون منهم قتال غالبا. وإن كان منهم قتال أو تدبير قتلوا.
قلت: وكذلك الذراري والأولاد.
قوله: " ولا تغُلُّوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ". الغلول: الأخذ من الغنيمة من غير قسمتها. والغدر: نقض العهد. والتمثيل هنا: التشويه بالقتيل، كقطع أنفه وأذنه والعبث به. ولا خلاف في تحريم الغلول والغدر، وفي كراهية المثلة.
قوله: " وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال -أو خصال- ". الرواية بالشك وهو من بعض الرواة. ومعنى الخلال والخصال واحد.
قوله: " فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ". قيدناه عمن يوثق بعلمه وتقييده بنصب "أيتهن" على أن يعمل فيها "أجابوك" لا على إسقاط حرف الجر. و "ما" زائدة. ويكون تقدير الكلام: فإلى أيتهن أجابوك فاقبل منهم. كما تقول: جئتك إلى كذا وفي كذا، فيعدى إلى الثاني بحرف جر.
قلت: فيكون في ناصب "أيتهن" وجهان: ذكرهما الشارح. الأول: منصوب على الاشتغال. والثاني: على نزع الخافض.
عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله تعالى، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. قوله: "ثم ادعهم إلى الإسلام" كذا وقعت الرواية في جميع نسخ كتاب مسلم. "ثم ادعهم" بزيادة "ثم" والصواب إسقاطها. كما روي في غير كتاب مسلم، كمصنف أبي داود، وكتاب الأموال لأبي عبيد؛ لأن ذلك هو ابتداء تفسير الثلاث الخصال.
وقوله: "ثم ادعهم(7/429)
إلى التحول إلى دار المهاجرين" يعني المدينة. وكان في أول(7/430)
ص -496- ... الأمر وجوب الهجرة إلى المدينة على كل من دخل في الإسلام، وهذا يدل على أن الهجرة واجبة على كل من آمن من أهل مكة وغيرهم 1.
قوله: "فإن أبوا أن يتحولوا" يعني أن من أسلم ولم يهاجر ولم يجاهد لا يُعطى من الخمس ولا من الفيء شيئا. وقد أخذ الشافعي -رحمه الله- بالحديث في الأعراب، فلم ير لهم من الفيء شيئا، وإنما لهم الصدقة المأخوذة من أغنيائهم فترد على فقرائهم، كما أن أهل الجهاد وأجناد المسلمين لا حق لهم في الصدقة عنده; ومصرف كل مال في أهله. وسوّى مالك -رحمه الله- وأبو حنيفة -رحمه الله- بين المالين، وجوّزا صرفهما للضعيف.
قوله: " فإن هم أبوا فاسألهم الجزية ". فيه حجة لمالك وأصحابه والأوزاعي في أخذ الجزية من كل كافر: عربيا كان أو غيره; كتابيا كان أو غيره. وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أنها تؤخذ من الجميع إلا من مشركي العرب ومجوسهم. وقال الشافعي: لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما. وهو قول الإمام أحمد في ظاهر مذهبه، وتؤخذ من المجوس. قلت: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها منهم. وقال: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب "2 .
وقد اختلفوا في القدر المفروض من الجزية: فقال مالك: أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهما على أهل الورق، وهل ينقص منها الضعيف أو لا؟ قولان. قال الشافعي: فيه دينار على الغني والفقير. وقال أبو حنيفة -رحمه الله- والكوفيون: على الغني ثمانية وأربعون(7/431)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في قرة العيون: وكذلك إذا ظهرت المعاصي في بلدة. نص عليه الفقهاء في كتبهم ا هـ. يعني إذا غلبت المعاصي وأهلها ولم يقدر ولا يجد سبيلا للإنكار عليهم. أما إذا وجد السبيل لإقامة الحجة، فإن بقاءه يكون واجبا لتبليغ الدين خصوصا إذا كان يدعو إلى التوحيد ومحاربة الشرك والبدع، ويجد من يسمع له ويصغي إليه وينتفع بدعوته. والله الموفق.
2 الترمذي : الطلاق (1184) , وأبو داود : الطلاق (2194) , وابن ماجه : الطلاق (2039). رواه مالك في الموطأ (1/ 278) في الزكاة: باب جزية أهل الكتاب والمجوس. وله شواهد تقويه، وراجع جامع الأصول (2/ 660 , 661) بتحقيق الأرناؤوط.(7/432)
ص -497- ... درهما، والوسط أربعة وعشرون درهما. والفقير اثنا عشر درهما. وهو قول أحمد بن حنبل -رحمه الله-.
قال يحيى بن يوسف الصرصري الحنبلي رحمه الله:
وقاتل يهودا والنصارى وعصبةالمج ... وس فإن هم سلموا الجزية أصدد
على الأدون اثني عشر درهما افرضن ... وأربعة من بعد عشرين زيد
لأوسطهم حالا ومن كان موسرا ... ثمانية مع أربعين لتنقد
وتسقط عن صبيانهم ونسائهم ... وشيخ لهم فان وأعمى ومقعد
وذي الفقر والمجنون أو عبد مسلم ... ومن وجبت منهم عليه فيهتدي(7/433)
وعند مالك وكافة العلماء على الرجال الأحرار البالغين العقلاء دون غيرهم، وإنما تؤخذ ممن كان تحت قهر المسلمين لا ممن نأى بداره، ويجب تحويلهم إلى بلاد المسلمين أو حربهم..
قوله: "وإذا حاصرت أهل حصن" الكلام إلى آخره فيه حجة لمن يقول من الفقهاء وأهل الأصول: إن المصيب في مسائل الاجتهاد واحد. وهو المعروف من مذهب مالك وغيره. ووجه الاستدلال به أنه صلى الله عليه وسلم قد نص على أن الله تعالى قد حكم حكما معينا في المجتهدات، فمن وافقه فهو المصيب ومن لم يوافقه فهو المخطئ.
لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك؛ فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم ولكن أنزلهم على حكمك؛ فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا؟ "1. رواه مسلم.
فيه مسائل:
الأولى: الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه وذمة المسلمين .
الثانية: الإرشاد إلى أقل الأمرين خطرا .
الثالثة: قوله: " اغزوا بسم الله في سبيل الله " .
الرابعة: قوله: " قاتلوا من كفر بالله " .
الخامسة: قوله: " استعن بالله وقاتلهم " .
السادسة: الفرق بين حكم الله وحكم العلماء.
قوله: " " وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ". الحديث". الذمة العهد، وتخفر تنقض يقال: أخفرت الرجل إذا نقضت عهده، وخفرته أجرته، ومعناه أنه خاف من نقض من لم يعرف حق الوفاء بالعهد، كجملة الأعراب. فكأنه يقول: إن وقع نقض من متعد معتد كان نقض عهد الخلق أهون من نقض عهد الله تعالى. والله أعلم.
قوله: "وقول نافع وقد سئل عن الدعوة قبل القتال2 ذكر فيه أن مذهب مالك يجمع(7/434)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الجهاد والسير (1731) , والترمذي : الديات (1408) والسير (1617) , وأبو داود : الجهاد (2613) , وابن ماجه : الجهاد (2858) , وأحمد (5/358) , والدارمي : السير (2439).
2 ليس في نسخ المتن التي بأيدينا قول نافع هذا فليحرر.(7/435)
ص -498- ... بين الأحاديث في الدعوة قبل القتال. قال: وهو أن مالكا قال: لا يقاتل الكفار قبل أن يُدْعَوا، ولا تلتمس غرتهم إلا أن يكونوا قد بلغتهم الدعوة، فيجوز أن تلتمس غرتهم. وهذا الذي صار إليه مالك هو الصحيح؛ لأن فائدة الدعوة أن يعرف العدو أن المسلمين لا يقاتلون للدنيا ولا للعصبية، وإنما يقاتلون للدين فإذا علموا بذلك
السابعة: في كون الصحابي يحكم عند الحاجة بحكم لا يدري أيوافق حكم الله أم لا.
أمكن أن يكون ذلك سببا مميلا لهم إلى الانقياد إلى الحق، بخلاف ما إذا جهلوا مقصود المسلمين، فقد يظنون أنهم يقاتلون للملك وللدنيا فيزدادون عتوا وبغضا. والله أعلم.
باب: " ما جاء في الإقسام على الله"
عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك " 1. رواه مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب ما جاء في الإقسام على الله".
ذكر المصنف فيه حديث "جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان. قال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك ". رواه مسلم".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 440- مسلم: كتاب البر والصلة (2621) (137): باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله تعالى.(7/436)
ص -499- ... قوله: "يتألى" أي يحلف. والألية بالتشديد الحلف. وصح من حديث أبي هريرة قال البغوي في شرح السنة- وساق بالسند إلى عكرمة بن عمار- قال: " دخلت مسجد المدينة فناداني شيخ قال: يا يمامي، تعال، وما أعرفه; قال: لا تقولن لرجل: والله لا يغفر الله لك أبدا ولا يدخلك الجنة. قلت: ومن أنت يرحمك الله؟ قال: أبو هريرة، فقلت: إن هذه كلمة يقولها أحدنا لبعض أهله إذا غضب، أو لزوجته أو لخادمه، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابين، أحدهما مجتهد في العبادة، والآخر كأنه يقول مذنب، فجعل يقول: أقصر عما أنت فيه. قال: فيقول: خلّني وربي، قال: فوجده يوما على ذنب استعظمه فقال: اقصر، فقال: خلني وربي، أبعثت عليّ رقيبا؟ فقال: والله لا يغفر الله لك ولا يدخلك الجنة أبدا. قال: فبعث الله إليهما ملكا، فقبض أرواحهما، فاجتمعا عنده; فقال للمذنب: ادخل الجنة برحمتي. وقال للآخر: أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي؟ قال: لا يا رب، قال: اذهبوا به إلى النار. قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته ". ورواه أبو داود في سننه، وهذا لفظه عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: " كان رجلان في بني إسرائيل متآخيين فكان أحدهما يذنب، والآخر مجتهد في العبادة. فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر، فوجده يوما على ذنب فقال له: أقصر، فقال: خلني وربي أبعثت عليّ رقيبا؟ قال: والله لا يغفر الله لك ولا يدخلك الجنة، فقبضت أرواحهما، فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالما؟ أو كنت على ما في يدي قادرا؟ فقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار " .
قوله: " وفي حديث أبي هريرة أن القائل رجل عابد" يشير إلى قوله في هذا الحديث: "أحدهما مجتهد في العبادة". وفي هذه الأحاديث بيان خطر اللسان، وذلك يفيد التحرز من الكلام، كما في حديث(7/437)
معاذ: " قلت: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حسن: البغوي في شرح السنة (4187) من طريق عكرمة بن عمار عن ضمضم بن جوس عن أبي هريرة, وحسن إسناده الأرناؤوط في تخريجه لشرح السنة هناك. وأبو داود كتاب الأدب (4901): باب في النهي عن البغي وأخرجه أيضا أحمد (2/ 323 , 363).(7/438)
ص -500- ... أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم - أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم " 1 2. والله أعلم. فيه مسائل:
الأولى: التحذير من التألي على الله.
الثانية: كون النار أقرب إلى أحدنا من شِراك نعله.
الثالثة: أن الجنة مثل ذلك.
الرابعة: فيه شاهد لقوله: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة" إلخ.
الخامسة: أن الرجل قد يغفر له بسبب هو من أكره الأمور إليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح: رواه أحمد (5/ 231 , 237). والترمذي: كتاب الإيمان (2616): باب ما جاء في حرمة الصلاة. وابن ماجة: كتاب الفتن (3973): باب كف اللسان في الفتنة. وصححه الألباني في صحيح الجامع (5012).
2 رواه أحمد والترمذي وابن ماجة. وقال الترمذي: حسن صحيح. وفي قرة العيون: وفيه معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه ".(7/439)
ص -501- ... باب: لا يستشفع بالله على خلقه
عن جُبير بن مطعم رضي الله عنه قال: " جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله نُهِكت الأنفس، وجاع العيال، وهلكت الأموال، فاستسق لنا ربك، فإنا نستشفع بالله عليك، وبك على الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! سبحان الله! فما زال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب لا يستشفع بالله على خلقه".
وذكر الحديت1 وسياق أبي داود في سننه أتم مما ذكره المصنف -رحمه الله- ولفظه:
"عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: " أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله، جهدت الأنفس، وضاعت العيال، ونهكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله، ونستشفع بالله عليك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك، أتدري ما تقول؟ وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك، إنه لا يستشفع بالله على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يعني أن المصنف ساق حديث جبير بن مطعم ناسبا له إلى أبي داود ولكنه اختصره.(7/440)
ص -502- ... الاستواء بالعلو كما فسره الصحابة والتابعون والأئمة، خلافا للمعطلة والجهمية والمعتزلة ومن أخذ عنهم، كالأشاعرة ونحوهم ممن ألحد في أسماء الله وصفاته، وصرفها عن المعنى الذي وضعت له، ودلت عليه من إثبات صفات الله –تعالى- التي دلت على كماله جل وعلا، كما عليه السلف الصالح والأئمة ومن تبعهم ممن تمسك
فيه مسائل:
الأولى: إنكاره على من قال: " نستشفع بالله عليك".
الثانية: تغيره تغيرا عُرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة.
بالسنة، فإنهم أثبتوا ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله من صفات كماله على ما يليق بجلاله وعظمته إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل.
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- في مفتاح دار السعادة - بعد كلام سبق فيما يُعرّف العبد بنفسه وبربه من عجائب مخلوقاته- قال بعد ذلك:
" والثاني: أن يتجاوز هذا إلى النظر بالبصيرة الباطنة فتفتح له أبواب السماء; فيجول في أقطارها وملكوتها وبين ملائكتها، ثم يفتح له باب بعد باب حتى ينتهي به سير القلب إلى عرش الرحمن، فينظر سعته وعظمته وجلاله ومجده ورفعته، ويرى السماوات السبع والأرضين السبع بالنسبة إليه كحلقة ملقاة بأرض فلاة، ويرى الملائكة حافين من حول العرش لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتقديس والتكبير، والأمر ينزل من فوقه بتدبير الممالك والجنود التي لا يعلمها إلا ربها ومليكها، فينزل الأمر بإحياء قوم وإماتة آخرين، وإعزاز قوم وإذلال آخرين; وإنشاء ملك وسلب ملك، وتحويل نعمة من محل إلى محل، وقضاء الحاجات على اختلافها وتبيانها وكثرتها: من جبر كسير، وإغناء فقير; وشفاء مريض، وتفريج كرب، ومغفرة ذنب، وكشف ضر ونصر مظلوم، وهداية حيران، وتعليم جاهل، ورد آبق، وأمان خائف، وإجارة مستجير، ومدد لضعيف، وإغاثة لملهوف، وإعانة لعاجز، وانتقام من ظالم، وكف لعدوان، فهي مراسيم دائرة بين العدل والفضل، والحكمة والرحمة، تنفذ في أقطار العوالم، لا يشغله سمع(7/441)
شيء منها عن سمع غيره، ولا تغلطه كثرة المسائل والحوائج على اختلاف لغاتها وتبيانها واتحاد وقتها، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، ولا تنقص ذرة من خزائنه، لا إله إلا هو العزيز الحكيم. فحينئذ يقوم القلب بين يدي الرحمن مطرقا لهيئته خاشعا لعظمته عانيا لعزته، فيسجد بين يدي الملك الحق المبين، سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم المزيد، فهذا سفر القلب، وهو في وطنه وداره ومحل ملكه، وهذا من أعظم آيات الله وعجائب صنعه، فيا له من سفر ما أبركه وأروحه! وأعظم(7/442)
ص -503- ... الثالثة: أنه لم ينكر عليه قوله: " نستشفع بك على الله".
الرابعة: التنبيه على تفسير سبحان الله.
الخامسة: أن المسلمين يسألونه صلى الله عليه وسلم الاستسقاء.
ثمرته وربحه! وأجل منفعته وأحسن عاقبته! سفر هو حياة الأرواح، ومفتاح السعادة، وغنيمة العقول والألباب، لا كالسفر الذي هو قطعة من العذاب". اهـ كلامه رحمه الله.
وأما الاستشفاع بالرسول صلى الله عليه وسلم في حياته فالمراد به استجلاب دعائه، وليس خاصا به صلى الله عليه وسلم، بل كل حي صالح يرجى أن يستجاب له، فلا بأس أن يطلب منه أن يدعو للسائل بالمطالب الخاصة والعامة.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر لما أراد أن يعتمر من المدينة: " لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك " 1 2. وأما الميت فإنما يشرع في حقه الدعاء له على جنازته وعلى قبره وفي غير ذلك. وهذا هو الذي يشرع في حق الميت، وأما دعاؤه فلم يشرع، بل قد دل الكتاب والسنة على النهي عنه والوعيد عليه; كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ}3. فبين الله تعالى أن دعاء من لا يسمع ولا يستجيب شرك يكفر به المدعو يوم القيامة، أي ينكره ويعادي من فعله، كما في آية الأحقاف: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}4. فكل ميت أو غائب لا يسمع ولا يستجيب ولا ينفع ولا يضر. والصحابة -رضي الله عنهم-، لا سيما أهل السوابق منهم كالخلفاء الراشدين، لم ينقل عن أحد منهم ولا عن غيرهم أنهم أنزلوا حاجتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، حتى في أوقات الجدب، كما وقع لعمر رضي الله عنه 5 لما خرج ليستسقي بالناس خرج بالعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يستسقي؛ لأنه حي حاضر يدعو(7/443)
ربه6. فلو جاز أن يستسقي بأحد بعد وفاته لاستسقى عمر رضي الله عنه والسابقون الأولون بالنبي صلى الله عليه وسلم . وبهذا يظهر الفرق بين الحي والميت؛ لأن المقصود من الحي دعاؤه إذا كان حاضرا. فإنهم في الحقيقة إنما توجهوا إلى الله بطلب دعاء من يدعوه ويتضرع إليه، وهم كذلك يدعون ربهم، فمن تعدى المشروع إلى ما لا يشرع ضل وأضل. ولو كان دعاء الميت خيرا لكان الصحابة إليه أسبق وعليه أحرص، وبهم أليق، وبحقه أعلم وأقوم. فمن تمسك بكتاب الله نجا، ومن تركه واعتمد على عقله هلك. وبالله التوفيق.(7/444)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ضعيف: جزء من حديث ابن عمر أن عمر استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة فأذن له فقال... الحديث. أخرجه أبو داود: كتاب الصلاة (1498): باب الدعاء، والترمذي: كتاب الدعوات (3562): باب رقم (121)، وابن ماجة: كتاب المناسك (2894): باب فضل دعاء الحاج وإسناده ضعيف. وضعفه الألباني في تخريج المشكاة (2248)، وضعيف الجامع (6292).
2 رواه أبو داود وأحمد في المسند (ج 1 ص 29 وج 2 ص 59) عن عبد الله بن عمر "أن عمر استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة, فأذن له. فقال: يا أخي أشركنا في صالح دعائك; ولا تنسنا". قال عبد الرزاق في حديثه: فقال عمر: "ما أحب أن لي بها ما طلعت عليه الشمس" لقوله: يا أخي.
3 سورة فاطر آية : 13-14.
4 سورة الأحقاف آية : 6.
5 صحيح البخاري: كتاب الاستسقاء (1010): باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا. من حديث أنس رضي الله عنه.
6 رواه البخاري. وقد حصل ذلك في عام الرمادة سنة ثمان عشرة, ودام القحط تسعة أشهر. قال الحافظ في الفتح (ج 2 ص 339): وقد بين الزبير بن بكار في الأنساب صفة ما دعا به العباس في هذه الواقعة، والوقت الذي وقعت فيه. فأخرج بإسناده أن العباس لما استسقى به عمر قال: "اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب, ولم يكشف إلا بتوبة; وقد توجه القوم إليك بي لمكاني من نبيك. وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة, فاسقنا الغيث". فأرخت السماء مثل الجبال حتى أخصبت الأرض وعاش الناس.(7/445)
ص -504- ... باب:" ما جاء في حماية النبي صلى الله عليه وسلم حِمى التوحيد، وسدِّه طرق الشرك"
عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه1 قال: " انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا. فقال: السيد الله -تبارك وتعالى-. قلنا: وأفضلنا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"قوله: باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد، وسده طرق الشرك".
حمايته صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد عما يشوبه من الأقوال والأعمال التي يضمحل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال في أسد الغابة: عبد الله بن الشخير بن عوف بن كعب بن وفدان بن الحريش.. العامري ثم الكعبي ثم من بني الحريش، وهو بطن من بني عامر بن صعصعة، له صحبة. سكن البصرة- ثم ساق بسنده إلى مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه أنه قال: "قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من بني عامر; فقالوا: يا رسول الله، أنت سيدنا، وأنت والدنا، وأنت أفضلنا علينا فضلا، وأنت أطولنا علينا طولا, وأنت الجفنة الغراء, وأنت وأنت. فقال: قولوا بقولكم ،ولا يستهوينكم الشيطان". وقولهم: "أنت الجفنة الغراء". كانت العرب تدعو السيد المطعام (جفنة)؛ لأنه يضعها ويطعم الناس فيها, فسمي باسمها. و(الغراء) البيضاء أي أنها مملوءة بالشحم والدهن. قاله أبو السعادات في النهاية.(7/446)
ص -505- ... معها التوحيد أو ينقص1، وكذا كثير في السنة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم كقوله: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله " 2وتقدم. وقوله: " إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله عز وجل " 3ونحو ذلك. ونهى عن التمادح وشدد القول فيه، كقوله لمن مدح إنسانا: " ويلك قطعت عنق صاحبك "4 الحديث. أخرجه أبو داود عن عبد الرحمن ابن أبي بكرة عن أبيه: " أن رجلا أثنى على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: قطعت عنق صاحبك - ثلاثا "5 وقال: " إذا لقيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب " 6 أخرجه مسلم والترمذي وابن ماجه عن المقداد بن الأسود.
وفي هذا الحديث: "نهى عن أن يقولوا: أنت سيدنا. وقال: السيد الله -تبارك وتعالى-". ونهاهم أن يقولوا: "وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا" وقال: " لا يستجرينكم الشيطان " .
وكذلك قوله في حديث أنس: " أن ناسا قالوا: يا رسول الله يا خيرنا وابن خيرنا " إلخ. كره صلى الله عليه وسلم أن يواجهوه بالمدح فيفضي بهم إلى الغلو. وأخبر صلى الله عليه وسلم أن مواجهة
وسيدنا وابن سيدنا. فقال: يا أيها الناس، قولوا بقولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله7، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل ". رواه النسائي بسند جيد.
فيه مسائل:
الأولى: تحذير الناس من الغلو.
الثانية: : ما ينبغي أن يقول مَنْ قيل له: أنت سيدنا .
المادح للممدوح بمدحه- ولو بما هو فيه- من عمل الشيطان؛ لما تفضي محبة المدح إليه من تعاظم الممدوح في نفسه، وذلك ينافي كمال التوحيد؛ فإن العبادة لا تقوم إلا بقطب رحاها الذي لا تدور إلا عليه، وذلك غاية الذل في غاية المحبة، وكمال الذل يقتضي الخضوع والخشية والاستكانة لله تعالى، وأن لا يرى نفسه إلا في مقام الذم لها والمعاتبة لها في حق ربه، وكذلك الحب لا تحصل غايته إلا إذا كان يحب ما يحبه الله، ويكره ما يكرهه(7/447)
الله من الأقوال والأعمال والإرادات، ومحبة المدح من العبد لنفسه تخالف ما يحبه الله منه، والمادح يغره من نفسه فيكون آثما، فمقام العبودية يقتضي كراهة المدح
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في قرة العيون: وقد اشتمل هذا الكتاب- على اختصاره- على أكثر ذلك، والنهي عما ينافي التوحيد أو يضعفه، يعرف ذلك من تدبره وعرف ما تضمنه بابا بابا.
2 تقدم تخريجه برقم (160).
3 447- تقدم تخريجه برقم (135).
4 البخاري : الشهادات (2662) , ومسلم : الزهد والرقائق (3000) , وأبو داود : الأدب (4805) , وابن ماجه : الأدب (3744) , وأحمد (5/45 ,5/47).
5 البخاري : الشهادات (2662) والأدب (6061) , ومسلم : الزهد والرقائق (3000) , وأبو داود : الأدب (4805) , وأحمد (5/41).
6 مسلم: كتاب الزهد (2002) (69): باب النهي عن المدح إذا كان فيه إفراط والترمذي: كتاب الزهد (2393): باب ما جاء في كراهية المدحة والمداحين. وابن ماجة: كتاب الأدب (3742): باب المدح. والحديث أخرجه أبو داود أيضا: كتاب الأدب (4804): باب في كراهية التمادح.
7رواه مسلم من حديث أبي سعد وأبي هريرة, ورواه أبو داود وابن ماجة وابن حبان.(7/448)
ص -506- ... رأسا، والنهي عنه صيانة لهذا المقام، فمتى أخلص العبد الذل لله والمحبة له خلصت أعماله وصحت، ومتى أدخل عليها ما يشوبها من هذه الشوائب دخل على مقام العبودية بالنقص أو الفساد. وإذا أداه المدح إلى التعاظم في نفسه والإعجاب بها وقع في أمر عظيم ينافي العبودية الخاصة كما في الحديث: " الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني شيئا منهما عذبته "1 2 . وفي الحديث:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : البر والصلة والآداب (2620) , وأبو داود : اللباس (4090) , وأحمد (2/442).
2 رواه أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص. (*) بإسناد رجاله رجال الصحيح. (*) قوله: (رواه أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص) إلخ. أقول: وأخرجه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة خردل من كبرياء ".(7/449)
ص -507- ... الثالثة: قوله: " لا يستجرينكم الشيطان "، مع أنهم لم يقولوا إلا الحق.
الرابعة: قوله: " ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي " .
" لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر " 1 2. وهذه الآفات قد تكون محبة المدح سببا لها وسلما إليها، والعجب يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. وأما المادح فقد يفضي به المدح إلى أن ينزل الممدوح منزلة لا يستحقها، كما يوجد كثيرا في أشعارهم من الغلو الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وحذر أمته أن يقع منهم، فقد وقع الكثير منه حتى صرحوا فيه بالشرك في الربوبية والإلهية والملك، كما تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك. والنبي صلى الله عليه وسلم لما أكمل الله له مقام العبودية صار يكره أن يمدح، صيانة لهذا المقام، وأرشد الأمة إلى ترك ذلك نصحا لهم، وحماية لمقام التوحيد عن أن يدخله ما يفسده، أو يضعفه من الشرك ووسائله. " {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ}3، ورأوا أن فعل ما نهاهم صلى الله عليه وسلم عن فعله قربة من أفضل القربات، وحسنة من أعظم الحسنات!
وأما تسمية العبد بالسيد فاختلف العلماء في ذلك.
قال العلامة ابن القيم في بدائع الفوائد: " اختلف الناس في جواز إطلاق السيد على البشر. فمنعه قوم، ونقل عن مالك. واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: "يا سيدنا" قال: " السيد الله تبارك وتعالى " 4. وجوّزه قوم، واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: " قوموا إلى سيدكم " 5 6. وهذا أصح من الحديث الأول. قال هؤلاء: السيد أحد ما يضاف إليه، فلا يقال للتميمي: سيد كِندة، ولا يقال: الملك سيد البشر. قال: وعلى هذا فلا يجوز أن يطلق على الله هذا الاسم، وفي هذا نظر؛ فإن السيد إذا أطلق عليه تعالى فهو في منزلة المالك، والمولى والرب، لا بمعنى الذي يطلق على المخلوق". انتهى.
قلت: فقد صح عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال في معنى(7/450)
قول الله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً}7: "أي إلها وسيدا". وقال في قول الله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ}8: " أنه السيد الذي كمل في جميع أنواع السؤدد ". وقال أبو وائل: " هو السيد الذي انتهى سؤدده ". وأما استدلالهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: " قوموا إلى سيدكم ". فالظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يواجه سعدا به، فيكون في هذا المقام تفصيل والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الإيمان (91) , والترمذي : البر والصلة (1998 ,1999) , وأبو داود : اللباس (4091) , وابن ماجه : المقدمة (59) والزهد (4173) , وأحمد (1/412 ,1/416).
2 في قرة العيون: فأعلى مراتب العبد هاتان الصفتان: العبودية الخاصة والرسالة. وللنبي صلى الله عليه وسلم أكملهما. وقد أخبر الله تعالى أنه وملائكته يصلون عليه، وأثنى عليه بأحسن ثناء وأبلغه, وشرح له صدره ووضع عنه وزره ورفع له ذكره، فلا يذكر في الأذان والتشهد والخطب إلا ذكر معه. صلوات الله وسلامه عليه.
3 سورة البقرة آية : 59.
4 تقدم تخريجه برقم (450).
5 البخاري : الجهاد والسير (3043) , ومسلم : الجهاد والسير (1768) , وأبو داود : الأدب (5215) , وأحمد (3/22 ,3/71).
6 قال هذا حين رأى سعد بن معاذ آتيا على حمار قد أسندوه؛ لأنه كان مريضا من جرح أصابه من المشركين في الخندق. وقد دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم في بني قريظة بعد أن حاصرهم، وقبلوا أن ينزلوا على حكم سعد, فكان هذا القول منه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مريض ولا يستطيع أن ينزل عن الحمار وحده، فأمرهم أن يقوموا لينزلوه، ولأنه جاء لهذه القضية, فأراد أن يجعل له من التعظيم ما يناسب هذه الواقعة. وكان سعد بن معاذ سيد الأوس ورئيسهم -رضي الله عنهم-.
7 سورة الأنعام آية : 164.
8 سورة الإخلاص آية : 2.(7/451)
باب:ما جاء في قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}1 .
عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " جاء حَبْر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية : 67.(7/452)
ص -508- ... يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}" أي من الأحاديث والآثار في معنى هذه الآية الكريمة.
قال العماد ابن كثير -رحمه الله تعالى-: يقول تعالى: ما قدر المشركون الله حق قدره حتى عبدوا معه غيره، وهو العظيم الذي لا أعظم منه، القادر على كل شيء المالك لكل شيء، وكل شيء تحت قهره وقدرته. قال مجاهد: نزلت في قريش. وقال السُّدِّي: " ما عظموه حق عظمته ". وقال محمد بن كعب: " لو قدروه حق قدره ما كذبوه ". وقال علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس: " هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم، فمن آمن أن الله على كل شيء قدير، فقد قدر الله حق قدره، ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حق قدره ".
وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية1 ، الطريق فيها وفي أمثالها مذهب السلف، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف... وذكر حديث ابن مسعود كما ذكره المصنف -رحمه الله- في هذا الباب قال: ورواه البخاري في غير موضع من صحيحه. والإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي كلهم من حديث سليمان بن مهران، وهو الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة عن ابن مسعود بنحوه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: كتاب التفسير (4811): باب وما قدروا الله حق قدره كتاب التوحيد: (7414 , 7415): باب قول الله تعالى: لما خلقت بيدي (7451) باب قول الله تعالى: إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا (7513) باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم. ومسلم: كتاب صفات المنافقين (2786) (69): كتاب صفة القيامة والجنة والنار. وأحمد (1/ 457). والترمذي: كتاب التفسير (3238): باب ومن سورة الزمر.(7/453)
ص -509- ... والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع. فيقول: أنا الملك. فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر. ثم قرأ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 1. وفي رواية لمسلم: " والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا المالك أنا الله "2 .
وفي رواية للبخاري: " يجعل السماوات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع "3. أخرجاه.
قال الإمام أحمد: حدثنا معاوية حدثنا الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: " جاء رجل من أهل الكتاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا القاسم أبَلغك أن الله تعالى يجعل الخلائق على إصبع، والسماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول: أنا الملك. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر. قال: وأنزل الله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} 4 الآية. وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي من طرق عن الأعمش به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا الحسين بن حسن الأشقر، حدثنا أبو كدينة5 عن عطاء عن أبي الضحى عن ابن عباس قال: " مر يهودي برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس، فقال: كيف تقول يا أبا القاسم يوم يجعل الله السماوات على ذه - وأشار بالسبابة- والأرض على ذه، والجبال على ذه، وسائر الخلق على ذه؟ كل ذلك يشير بأصابعه، فأنزل الله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} 6. وكذا رواه الترمذي في التفسير بسنده عن أبي الضحى مسلم بن صبيح به. وقال: " حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه".
ثم قال البخاري: حدثنا سعيد بن عفير حدثنا الليث حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى(7/454)
الله عليه وسلم يقول: " يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه، فيقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ " 7. تفرد به من هذا الوجه، ورواه مسلم من وجه آخر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : تفسير القرآن (4811) , ومسلم : صفة القيامة والجنة والنار (2786) , والترمذي : تفسير القرآن (3238) , وأحمد (1/429 ,1/457).
2 البخاري : التوحيد (7414 ,7415) , ومسلم : صفة القيامة والجنة والنار (2786) , وأحمد (1/378).
3 البخاري : تفسير القرآن (4811) والتوحيد (7513) , ومسلم : صفة القيامة والجنة والنار (2786) , وأحمد (1/457).
4 مسلم : صفة القيامة والجنة والنار (2786) , وأحمد (1/378).
5 اسمه يحيى بن المهلب البجلي الكوفي. قال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب: صدوق من السابعة روى له الترمذي والنسائي أيضا.
6 الترمذي : تفسير القرآن (3240) , وأحمد (1/251).
7 البخاري : الرقاق (6519) , ومسلم : صفة القيامة والجنة والنار (2787) , وابن ماجه : المقدمة (192) , وأحمد (2/374) , والدارمي : الرقاق (2799).(7/455)
ص -510- ... ولمسلم عن ابن عمر مرفوعا: " يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين السبع، ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ "1 .
وروي عن ابن عباس قال: " ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن، إلا كخردلة في يد أحدكم " .
وقال البخاري في موضع آخر: حدثنا مقدم بن محمد حدثنا عمي القاسم بن يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله تعالى يقبض يوم القيامة الأرضين على إصبع، وتكون السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك "2 تفرد به أيضا من هذا الوجه. ورواه مسلم من وجه آخر.
وقد رواه الإمام أحمد من طريق آخر بلفظ أبسط من هذا السياق وأطول فقال: حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة، أنبأنا إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة عن عبيد الله بن مقسم عن ابن عمر " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 3 ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هكذا بيده يحركها، يقبل بها ويدبر، يمجد الرب تعالى نفسه: أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم. فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا: ليخرّنّ به " 4 اهـ.
قوله: "ولمسلم عن ابن عمر - الحديث" كذا في رواية مسلم. قال الحميدي وهي أتم، وهي عند مسلم من حديث سالم عن أبيه. وأخرجه البخاري من حديث عبيد الله عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: " إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين، وتكون السماء بيمينه "5 . وأخرجه مسلم من حديث عبيد الله بن مقسم.
قلت: وهذه الأحاديث وما في معناها تدل(7/456)
على عظمة الله وعظيم قدرته وعظم
وقال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: حدثني أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما السماوات السبع في الكرسي، إلا كدراهم سبعة ألقيت في تُرس " .
قال: وقال أبو ذر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض " 6.
وعن ابن مسعود قال: " بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ". أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله 7.
مخلوقاته. وقد تعرف -سبحانه وتعالى- إلى عباده بصفاته وعجائب مخلوقاته، وكلها تعرف وتدل على كماله، وأنه هو المعبود وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته8، وتدل على إثبات الصفات له على ما يليق بجلال الله وعظمته، إثباتا بلا تمثيل، وتنزيها بلا تعطيل، وهذا هو الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وعليه سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم بإحسان، واقتفى أثرهم على الإسلام والإيمان.(7/457)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : صفة القيامة والجنة والنار (2788) , وابن ماجه : المقدمة (198).
2 البخاري : التوحيد (7415) , ومسلم : صفة القيامة والجنة والنار (2786) , والترمذي : تفسير القرآن (3238) , وأحمد (1/378).
3 سورة الزمر آية : 67.
4 صحيح: أحمد (2/ 72) وابن خزيمة في التوحيد ص (71) وابن أبي عاصم في السنة (546) وإسناده صحيح على شرط مسلم كما قال الألباني في تخريج السنة لابن أبي عاصم (546).
5 أحمد (1/195).
6 صحيح: رواه ابن أبي شيبة في كتاب العرش (رقم 58- الكويت)، والذهبي في العلو (150- مختصر الألباني)، والبيهقي في الأسماء والصفات ص (510) من حديث أبي ذر. وصححه الألباني في الصحيحة (109)، ومختصر العلو (ص 130).
7 حسن: رواه ابن خزيمة في التوحيد ص (105 , 106 , 376 , 377). ورواه الذهبي في العلو (64)، والبيهقي في الأسماء (ص 401) وإسناده حسن, وصححه ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية ص (100) الذهبي في العلو أيضا. وقال الهيثمي في المجمع (1/ 86): " رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ". ا هـ.
8 في قرة العيون: وأن العبادة لا تصلح إلا له سبحانه وبحمده، ولا يصلح منها شيء لملك مقرب ولا لنبي مرسل، ولا لمن دونهما.(7/458)
ص -511- ... وتأمل ما في هذه الأحاديث الصحيحة من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ربه بذكر صفات كماله على ما يليق بعظمته وجلاله، وتصديقه اليهود فيما أخبروا به عن الله من الصفات التي تدل على عظمته، وتأمل ما فيها من إثبات علو الله تعالى على عرشه، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في شيء منها: إن ظاهرها غير مراد، وإنها تدل تشبيه صفات الله بصفات خلقه، فلو كان هذا حقا بلّغه أمينه أمته، فإن الله أكمل به الدين، وأتم به النعمة فبلّغ
ورواه بنحوه المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن عبد الله. قال الحافظ الذهبي -رحمه الله تعالى-. قال: وله طرق.
البلاغ المبين. صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين. وتلقى الصحابة -رضي الله عنهم- عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ما وصف به ربه من صفات كماله ونعوت جلاله، فآمنوا به وآمنوا بكتاب الله وما تضمنه من صفات ربهم جل وعلا، كما قال تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}1. وكذلك التابعون لهم بإحسان وتابعوهم، والأئمة من المحدثين والفقهاء كلهم وصف الله بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يجحدوا شيئا من الصفات، ولا قال أحد منهم: إن ظاهرها غير مراد، ولا أنه يلزم من إثباتها التشبيه، بل أنكروا على من قال ذلك غاية الإنكار، فصنفوا في رد هذه الشبهات المصنفات الكبار المعروفة الموجودة بأيدي أهل السنة والجماعة.
قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية -رحمه الله تعالى-: " وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلام الصحابة والتابعين، وكلام سائر الأئمة مملوءة كلها بما هو نص أو ظاهر أن الله تعالى فوق كل شيء، وأنه فوق العرش فوق السماوات مستو على عرشه، مثل قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}2. وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ(7/459)
اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}3. وقوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ}4. وقوله تعالى:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية : 7.
2 سورة فاطر آية : 10.
3 سورة آل عمران آية : 55.
4 سورة النساء آية : 158.(7/460)
ص -512- ... {ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}1 وقوله تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ}2. وقوله تلى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ}3. وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}4. وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}5. وقوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ}6 الآية. فذكر التوحيدين في هذه الآية. قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}7. وقوله تعالى: {تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}8. وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً}9. وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ(7/461)
الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}10. وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}11. فذكر عموم علمه وعموم قدرته وعموم إحاطته وعموم رؤيته. وقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ}12.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المعارج آية : 3-4.
2 سورة السجدة آية : 5.
3 سورة النحل آية : 50.
4 سورة البقرة آية : 29.
5 سورة الأعراف آية : 54.
6 سورة يونس آية : 3.
7 سورة الرعد آية : 2.
8 سورة طه آية : 4-5.
9 سورة الفرقان آية : 58-59.
10 سورة السجدة آية : 4-5.
11 سورة الحديد آية : 4.
12 سورة الملك آية : 16-17.(7/462)
ص -513- ... وقوله تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}1. وقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}2. وقوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً}3". انتهى كلامه -رحمه الله-.
قلت: وقد ذكر الأئمة -رحمهم الله تعالى- فيما صنفوه في الرد على نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة ونحوهم أقوال الصحابة والتابعين. فمن ذلك ما رواه الحافظ الذهبي في كتاب العلو وغيره بالأسانيد الصحيحة عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}4. قالت: " الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر ". رواه ابن المنذر
واللالكائي وغيرهما بأسانيد صحاح. قال: وثبت عن سفيان بن عيينة -رحمه الله تعالى- أنه قال: لما سئل ربيعة ابن أبي عبد الرحمن: كيف الاستواء؟ قال: " الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ; وعلينا التصديق " . وقال ابن وهب: كنا عند مالك فدخل رجل فقال: " يا أبا عبد الله "الرحمن على العرش استوى" كيف استوى؟ فأطرق مالك -رحمه الله- وأخذته الرّحضاء وقال: الرحمن على العرش استوى، كما وصف نفسه، ولا يقال: كيف؟ و"كيف" عنه مرفوع، وأنت صاحب بدعة، أخرجوه". رواه البيهقي بإسناد صحيح عن ابن وهب. ورواه عن يحيى بن يحيى أيضا، ولفظه: قال: "" الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة".
قال الذهبي: فانظر إليهم كيف أثبتوا الاستواء لله، وأخبروا أنه معلوم لا يحتاج لفظه إلى تفسير، ونفوا عنه الكيفية، قال البخاري في صحيحه: قال مجاهد "استوى" علا على العرش. وقال إسحاق بن راهويه: سمعت غير واحد من المفسرين يقول:(7/463)
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}5 اي ارتفع. وقال محمد بن جرير الطبري في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أي علا وارتفع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة فصلت آية : 42.
2 سورة الزمر آية : 1.
3 سورة غافر آية : 36-37.
4 سورة طه آية : 5.
5 سورة طه آية : 5.(7/464)
ص -514- ... وشواهده في أقوال الصحابة والتابعين وأتباعهم. فمن ذلك قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه
شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا
وتحمله ملائكة شداد ... ملائكة الإله مسومينا
وروى الدارمي والحاكم والبيهقي بأصح إسناد إلى علي بن الحسين بن شقيق، قال: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: " نعرف ربنا بأنه فوق سبع سماواته على العرش استوى، بائن من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية ". قال الدارمي: حدثنا الحسن بن الصباح البزار حدثنا علي بن الحسين بن شقيق عن ابن المبارك: قيل له: " كيف نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق السماء السابعة على العرش بائن من خلقه " .
وقد تقدم قول الأوزاعي: " كنا - والتابعون متوافرون - نقول: إن الله -تعالى ذكره- بائن من خلقه، ونؤمن بما وردت به السنة " .
وقال أبو عمر الطلمنكي في كتاب الأصول: أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله استوى على عرشه بذاته. وقال في هذا الكتاب أيضا: أجمع أهل السنة على أن الله تعالى استوى على عرشه على الحقيقة لا على المجاز. ثم ساق بسنده عن مالك قوله: " الله في السماء وعلمه في كل مكان ". ثم قال في هذا الكتاب: " أجمع المسلمون من أهل السنة أن معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}1 ونحو ذلك من القرآن: أن ذلك علمه، وأن الله فوق السماوات بذاته مستو على عرشه كيف شاء".وهذا لفظه في كتابه.
وهذا كثير في كلام الصحابة والتابعين والأئمة، أثبتوا ما أثبته الله في كتابه على لسان رسوله على الحقيقة على ما يليق بجلال الله وعظمته، ونفوا عنه مشابهة المخلوقين، ولم يمثلوا ولم يكيفوا، كما ذكرنا ذلك عنهم في هذا الباب.
وقال الحافظ الذهبي: وأول وقت سمعت مقالة من أنكر أن الله فوق عرشه: هو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحديد آية : 4.(7/465)
ص -515- ... الجعد بن درهم. وكذلك أنكر جميع الصفات. وقتله خالد بن عبد الله القسري وقصته مشهورة، فأخذ هذه المقالة عنه الجهم بن صفوان إمام الجهمية، فأظهرها واحتج لها بالشبهات، وكان ذلك في آخر عصر التابعين، فأنكر مقالته أئمة ذلك العصر مثل الأوزاعي وأبي حنيفة، ومالك والليث بن سعد والثوري، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة وابن المبارك ومن بعدهم من أئمة الهدى. فقال الأوزاعي إمام أهل الشام على رأس الخمسين ومائة عند ظهور هذه المقالة: ما أخبرنا عبد الواسع الأبهري بسنده إلى أبي بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني محمد بن علي الجوهري- ببغداد- حدثنا إبراهيم بن الهيثم حدثنا محمد بن كثير المصيصي سمعت الأوزاعي يقول: " كنا- والتابعون متوافرون- نقول: إن الله فوق عرشه. ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته ". أخرجه البيهقي في الصفات ورواته أئمة ثقات.
وقال الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى-: " لله أسماء وصفات لا يسع أحدا ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه كفر، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل،
عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكِثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله تعالى فوق ذلك، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم " 1. أخرجه أبو داود وغيره.
ونثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه، كما نفى عن نفسه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}2 ".اهـ من فتح الباري.
قوله: "عن العباس بن عبد المطلب" ساقه المصنف -رحمه الله- مختصرا، والذي في سنن أبي داود: عن العباس بن عبد المطلب قال: " كنت في البطحاء في عصابة فيهم رسول الله(7/466)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ضعيف: أبو داود: كتاب السنة (4723), (4724), (4725): باب في الجهمية والترمذي: كتاب التفسير (3320): باب ومن سورة الحاقة. وابن ماجة في المقدمة (193): باب فيما أنكرت الجهمية. وأحمد (1/ 206 , 207) وغيرهم. وضعفه الذهبي في العلو ص (49 , 50). وضعفه الألباني في تخريج السنة لابن أبي عاصم (577).
2 سورة الشورى آية : 11.(7/467)
ص -516- ... صلى الله عليه وسلم، فمرت بهم سحابة فنظر إليها فقال: "ما تسمون هذه؟" قالوا: السحاب. قال: "والمزن" قالوا: والمزن. قال: و"العنان". قالوا. والعنان- قال أبو داود: لم أتقن العنان جيدا- قال: "هل تدرون ما بعد ما بين السماء والأرض؟" قالوا: لا ندري. قال: "إن بعد ما بينهما إما واحدة أو اثنتان أو ثلاث وسبعون سنة، ثم السماء التي فوقها كذلك، حتى عد سبع سماوات، ثم فوق السابعة بحر بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال، بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم على ظهورهم العرش بين أسفله وأعلاه كما بين سماء إلى سماء، ثم الله تعالى فوق ذلك" 1. وأخرجه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي: " حسن غريب ". وقال الحافظ الذهبي: " رواه أبو داود بإسناد حسن" 2. وروى الترمذي نحوه من حديث أبي هريرة وفيه: " ما بين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : تفسير القرآن (3320) , وأبو داود : السنة (4723) , وابن ماجه : المقدمة (193).
2 في إسناده الوليد بن أبي ثور لا يحتج بحديثه. وقد ساقه أبو داود من غير طريق الوليد. وقال العلامة ابن القيم في تهذيب سنن أبي داود: أما رد الحديث بالوليد بن أبي ثور ففاسد؛ فإن الوليد لم ينفرد به بل تابعه عليه إبراهيم بن طهمان كلاهما عن سماك. ومن طريقه رواه أبو داود. ورواه أيضا عمرو بن أبي قيس عن سماك. ومن حديثه رواه الترمذي عن عبد بن حميد أخبرنا عبد الرحمن بن سعد عن عمرو بن أبي قيس. اهـ. ورواه ابن ماجة من حديث الوليد بن أبي ثور عن سماك. وأي ذنب للوليد في هذا; وأي تعلق عليه؟ وإنما ذنبه روايته ما يخالف قول الجهمية وهي علته المؤثرة عند القوم اهـ.(7/468)
ص -517- ... سماء إلى سماء خمسمائة عام ". ولا منافاة بينهما؛ لأن تقدير ذلك بخمسمائة عام هو على سير القافلة مثلا، ونيف وسبعون سنة على سير البريد؛ لأنه يصح أن يقال: بيننا وبين مصر عشرون يوما باعتبار سير العادة، وثلاثة أيام باعتبار سير البريد. وروى شريك بعض هذا الحديث عن سماك فوقفه. هذا آخر كلامه 1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في قرة العيون: قلت: وهذا الحديث له شواهد في الصحيحين وغيرهما مع ما يدل عليه صريح القرآن، فلا عبرة بقول من ضعفه. وقد ابتدأ المصنف -رحمه الله تعالى- هذا المصنف العظيم ببيان توحيد الإلهية؛ لأن أكثر الأمة ممن تأخر قد جهلوا هذا التوحيد, وأتوا بما ينافيه من الشرك والتنديد, فقام ببيان التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونهوهم عما كانوا عليه من الشرك المنافي لهذا التوحيد. فالدعوة إلى ذلك هي أهم الأمور وأوجبها لمن وفقه الله لفهمه, وأعطاه القدرة على الدعوة إليه, والجهاد لمن خالفه ممن أشرك بالله في عبادته، فقرر هذا التوحيد كما ترى في هذه الأبواب، ثم ختم كتابه بتوحيد الأسماء والصفات؛ لأن أكثر العامة ليس لهم التفات الى هذا العلم الذي خاض فيه من ينتسب إلى العلم. وأما من ينتسب إلى العلم فهم أخذوا عمن خاض في هذه العلوم, وأحسنوا الظن بأهل الكلام, وظنوا أنهم على شيء, فقبلوا ما وجدوه عنهم, فقرروا مذهب الجهمية, وألحدوا في توحيد الأسماء والصفات، وخالفوا ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وما عليه سلف الأمة وأئمة الحديث والتفسير من المتقدمين، وما زال أهل السنة متمسكين بذلك لكنهم قلوا، فهدى الله هذا الإمام إلى معرفة أنواع التوحيد فقررها بأدلتها, فلله الحمد على توفيقه وهدايته إلى الحق حين اشتدت غربة الإسلام، فضل عنه من ضل من أهل القرى والأمصار.وغيرهم. وبالله التوفيق. فقد اجتمع في هذا المصنف أنواع التوحيد الثلاثة التي أشار إليها العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-(7/469)
بقوله:.
والعلم أقسام ثلاث ما لها ... من رابع والحق ذو تبيان
علم بأوصاف الإله وفعل ... وكذلك الأسماء للرحمن
والأمر والنهي الذي هو دينه ... وجزاؤه يوم المعاد الثاني
وصلى الله على سيد المرسلين, وإمام المتقين, محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(7/470)
ص -518- ... فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}1 .
الثانية: إن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه صلى الله عليه وسلم، لم ينكروها ولم يتأولوها.
الثالثة: أن الحبر لما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم صدقه ونزل القرآن بتقرير ذلك.
الرابعة: وقوع الضحك من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم.
الخامسة: التصريح بذكر اليدين وأن السماوات في اليد اليمنى. والأرضين في الأخرى.
السادسة: التصريح بتسميتها الشمال.
السابعة: ذكر الجبارين والمتكبرين عند ذلك.
الثامنة: قوله: " كخردلة في كف أحدكم ".
التاسعة: عظم الكرسي بالنسبة إلى السماء.
العاشرة: عظم العرش بالنسبة إلى الكرسي.
الحادية عشرة: أن العرش غير الكرسي والماء.
الثانية عشرة: كم بين كل سماء إلى سماء.
الثالثة عشرة: كم بين السماء السابعة والكرسي.
الرابعة عشرة: كم بين الكرسي والماء.
الخامسة عشرة: أن العرش فوق الماء.
قلت: فيه التصريح بأن الله فوق عرشه كما تقدم في الآيات المحكمات، والأحاديث الصحيحة، وفي كلام السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وهذا الحديث له شواهد في الصحيحين وغيرهما، ولا عبرة بقول مَن ضعّفه لكثرة شواهده التي يستحيل دفعها وصرفها عن ظواهرها.
وهذا الحديث كأمثاله يدل على عظمة الله وكماله وعظم مخلوقاته، وأنه المتصف بصفات الكمال التي وصف بها نفسه في كتابه، ووصفه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى كمال قدرته، وأنه هو المعبود وحده لا شريك له دون كل ما سواه.
السادسة عشرة: أن الله فوق العرش.
السابعة عشرة: كم بين السماء والأرض.
الثامنة عشرة: كثف كل سماء مائة سنة.
التاسعة عشرة: أن البحر الذي فوق السماوات أسفله وأعلاه خمسمائة سنة. والله أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبالله التوفيق،(7/471)
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كمل مقابلة وتصحيحا وقراءة على يد شيخنا العلامة المحقق الفهامة، بقية أهل الاستقامة: الشيخ عبد الله بن الشيخ حسن آل الشيخ - متع الله بحياته - سنة 1362.
نبذة مختصرة من ترجمة الشيخ عبد الرحمن بن حسن
مؤلف فتح المجيد
قال الشيخ ابن بشر في كتاب "عنوان المجد" في حوادث سنة 1241: وفيها أقبل من مصر الشيخ العالم النحرير، البحر الزاخر الغزير، مفيد الطالبين، المحفوف بعناية رب العالمين، جامع أنواع العلوم الشرعية، ومحقق العلوم الدينية، والأحاديث النبوية، والآثار السلفية، وارث العلم كابرا عن كابر، الذي صارت الأصاغر بإفادته شيوخا أكابر، قاضي قضاة الإسلام والمسلمين مفتي فِرق الأنام الموحدين، وناصر سنة سيد المرسلين، الموفق للصواب في الجواب; الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، قدم على الإمام تركي بن عبد الله -قدس الله روحه-، ففرح وأكرمه غاية الإكرام، واغتبط بطلعته خاص المسلمين والعام، فعظموه وقاموا بما يستحقه من الإعظام، وبذل نفسه للطالبين وانتفع بعلمه كثير من المستفيدين - ثم ذكر العلماء الأفاضل من آل الشيخ وغيرهم الذي استفادوا من الشيخ وانتفعوا بعلمه وتخرجوا عليه، وهم جملة كثيرة. ثم قال: فضربت إليه آباط الإبل من أقطار نجد والأحساء، وظهرت آثار البركات من تعليمه وفشا. كيف لا وهو من شجرة مباركة أضاء نور طالعها للمسلمين وفشا، ولاح وميض برقه حين غشى، فكاد سنا برقه يذهب بالأبصار، يهدي الله لنوره من يشاء. اللهم يا سميع الدعاء، يا إله الأرض والسماء، نسألك بأسمائك الحسنى أن تجزيهم عنا وعن المسلمين أحسن ما جزيت من دعا إلى توحيدك، وأن تجعل العلم النافع فيهم وفي عقبهم باقيا إلى يوم لقائك وشهودك.
وقد صنف الشيخ عبد الرحمن بن حسن مصنفات في الأصول والفروع، أكثرها ردا على أهل المقالات، ومن غلط منهم في الصفات، وله(7/472)
مصنف فيما يحل ويحرم من الحرير، فمن طالعه دله على علمه الغزير، ردا على من أباح لبس المحرمة الروغان التي ابتلي الناس بلبسها في هذا الزمان، واختصر شرح التوحيد للشيخ سليمان بن عبد الله بن شيخ الإسلام الذي سبق ذكره؛ لأنه مات قبل أن يتمه.
وكان كثيرا ما يتعهده أهل بلدان نجد بالمراسلات والنصائح، ويعلمهم ما يجب عليهم من أمر دينهم، ويذكرهم نعمة هذا الدين; واجتماع شمل أهل الإسلام عليهم; وما منّ الله به على أهل نجد في آخر هذا الزمان. والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية : 67.(7/473)
حاشية كتاب التوحيد
الشيخ: عبدالرحمن بن محمد بن قاسم
الناشر:
-
الثالثة، 1408هـ(8/1)
ص -1- ... حاشية كتاب التوحيد
تأليف: شيخ الإسلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب قدس الله روحه
بقلم الفقير إلى ربه: عبدالرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي الحنبلي رحمه الله تعالى 1312 - 1392 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
ترجمة مؤلف المتن: شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى
هو الإمام العلامة الرباني، محيي السنة مجدد الدعوة، وحيد الزمان، بقية أكابر السلف، أبو علي شيخ الإسلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن الشيخ سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن مشرف بن عمر بن معضاد بن ريس بن زاخر بن محمد بن علوي بن وهيب بن قاسم بن موسى بن مسعود بن عقبة الحنظلي التميمي. ولد سنة 1115 هـ. في بلدة العيينة من أرض نجد، وقرأ القرآن قبل بلوغه العشر.
وكان حاد الفهم سريع الإدراك، يتعجب أهله من فطنته وذكائه، أخذ عن والده وغيره، ثم رحل للتزود من طلب العلم، فأتى البصرة والحجاز مرارا والأحساء وغيرها، وتضلع عن علماء تلك الأقطار، ومنهم: محمد حياة السندي المدني، والشيخ إسماعيل العجلوني، وعلي أفندي الداغستاني، والشيخ عبد الله بن إبراهيم النجدي ثم المدني، وغيرهم وأجازوه، وتنور وظهر له ما كان الناس عليه من الجهل بالتوحيد، وما وقعوا فيه من عبادة غير الله، وحج ووقف بالملتزم، وسأل الله أن يظهر هذا الدين بعد أن عفا بدعوته، وأن يرزقه القبول من الناس.
وقصد المدينة المنورة وحضر عند علمائها، وارتحل يريد الشام، وحصل له عائق لما اقتضته الحكمة الإلهية من ظهور هذا الدين في البلاد النجدية، فرجع إليها وقدم على والده في بلدة حريملاء، ودعا إلى السنة المحمدية، ثم ارتحل إلى العيينة، وأزال ما في الجبيلة وتلك الجهات من القباب والمساجد المبنية على قبور الصحابة وغيرها، ثم قدم الدرعية، وتلقاه الإمام محمد بن سعود وبادره بالقبول، فشمر في الدعوة إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة(8/2)
ص -2- ... وسائر شرائع الإسلام، والنهي عن الشرك بالله وسائر المحرمات، وأقام الله به علم الجهاد، وأدحض به شبه أهل الشرك والعناد، وجد الإمام في نصرته، وألبّ عليهم رؤساء العربان والبلدان، واستصرخوا عليهم بأهل نجران وأهل الحجاز وغيرهم فثبتهم الله ونصرهم على قلة منهم، وانتشر التوحيد، وعمرت به نجد بعد خرابها، واجتمعت بعد افتراقها، وكان لهم الغلبة والظهور.
وبالجملة فمحاسنه وفضائله أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تذكر، افتخرت به نجد على سائر الأمصار، وزها عصره على سائر الأعصار، وشهد له أهل عصره ومن بعدهم بالعلم وتجديد الدين، وتواتر الثناء عليه عن فضلائهم وأكابرهم.
قال العلامة الشيخ محمد بن علي الشوكاني قاضي صنعاء:
لقد أشرقت نجد بنور ضيائه ... وقام مقامات الهدى بالدلائل
فما هو إلا قائم في زمانه ... مقام نبي في إماتة باطل
وقال الشيخ محمد بن إسماعيل الصنعاني:
وقد جاءت الأخبار عنه بأنه ... يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي
وينشر جهرا ما طوى كل جاهل ... ومبتدع منه فوافق ما عندي
ويعمر أركان الشريعة هادما ... مشاهد ضل الناس فيها عن الرشد
وقال الشيخ ملا عمران نزيل لنجة:
فأتاهم الشيخ المشار إليه بالن ... صح المبين وبالكلام الجيد
يدعوهمو لله أن لا يعبدوا ... إلا المهيمن ذا الجلال السرمدي
لا يشركوا ملكا ولا من مرسل ... كلا ولا من صالح أو سيد
وقال عالم الأحساء الشيخ حسين بن غنام:
لقد رفع المولى به رتبة الهدى ... بوقت به يعلى الضلال ويرفع
سقاه نمير الفهم مولاه فارتوى ... وعام بتيار المعارف يقطع(8/3)
ص -3- ... فأحيا به التوحيد بعد اندراسه ... وأوهى به من مطلع الشرك مهيع
سما ذروة المجد التي ما ارتقى لها ... سواه ولا حاذى فناها سميدع
وشمر في منهاج سنة أحمد ... يشيد ويحمي ما تعفى ويرفع
وقال الشيخ عبد القادر بن بدران الدمشقي: (( ولما امتلأ وطابه من الآثار وعلم السنة، وبرع في مذهب أحمد أخذ ينصر الحق ويحارب البدع، ويقاوم ما أدخله الجاهلون في هذا الدين الحنيفي والشريعة السمحاء، ولم يزل مثابرا على الدعوة حتى توفاه الله )).
وقال في الفكر السامي: (( أصبح ابن عبد الوهاب ذا شهرة طبقت العالم الإسلامي وغيره، معدودا من الزعماء المؤسسين للمذاهب الكبرى )) ا هـ.
بل شهد له الموافق والمخالف أنه المصلح الأكبر، وكان -رحمه الله- مع قيامه بأعباء الدعوة ومجاهدة المشبهين والمبطلين متبتلا في العبادة كثير الإفادة غزير الاستفادة، رحل إليه في طلب العلم من جميع النواحي، ومجالسه مشهورة بالتدريس، معمورة بالفقهاء في جميع فنون العلم.
وصنف مصنفات شهيرة سارت في الآفاق، منها: كتاب كشف الشبهات، وكتاب أصول الإيمان، وفضائل الإسلام، وفضائل القرآن، وكتاب السيرة المختصرة، والسيرة المطولة، وكتاب مجموع الحديث، ومختصر الشرح الكبير والإنصاف، ومختصر الصواعق، وفتح الباري، والهدي، والعقل والنقل، وكتاب الإيمان، وله رسائل ونصائح وأجوبة، وله الاستنباط من كتاب الله ما يقصر عنه الفحول الأفاضل، وهذا الكتاب في التوحيد وما يجب من حق الله على العبيد، الذي لم يعلم له نظير في الوجود.
قال فيه الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله:
قد ألف الشيخ في التوحيد مختصرا ... يكفي أخا اللب إيضاحا وتبيانا
فيه البيان لتوحيد الإله بما ... قد يفعل العبد للطاعات إيمانا(8/4)
ص -4- ... حبا وخوفا وتعظيما له ورجا ... وخشية منه للرحمن إذعانا
وغير ذلك مما كان يفعله ... لله من طاعة سرا وإعلانا
وفيه توحيدنا رب العباد بما ... قد يفعل الله إحكاما وإتقانا
وفيه توحيدنا الرحمن أن له ... صفات مجد وأسماء لمولانا
وفيه تبيان إشراك يناقضه ... بل ما ينافيه من كفران من خانا
أو كان يقدح في التوحيد من بدع ... شنعاء أحدثها من كان فتانا
أو المعاصي التي تزري بفاعلها ... مما ينقص توحيدا وإيمانا
فساق أنواع توحيد الإله كما ... قد كان يعرفه من كان يقظانا
وساق فيه الذي قد كان ينقصه ... لتعرف الحق بالأضداد إمعانا
مضمنا كل باب من تراجمه ... من النصوص أحاديثا وقرآنا
الشيخ ضمنه ما يطمئن له ... قلب الموحد إيضاحا وتبيانا
فاشدد يديك بهذا الأصل معتصما ... يورثك فيما سواه الله عرفانا
وانظر بقلبك في مبنى تراجمه ... تلقى هنالك للتحقيق عنوانا
وللمسائل فانظر تلقها حكما ... يزداد منهن أهل العلم إتقانا
وقل جزى الله شيخ المسلمين كما ... قد شاد للملة السمحاء أركانا
وقال الشيخ أحمد بن مشرف رحمه الله تعالى:
وألف في التوحيد أوجز نبذة ... بها قد هدى الرحمن للحق من هدى
نصوصا من القرآن تشفي من العمى ... وكل حديث للأئمة مسند
ومن استقرأه علم ذلك.
أخذ عنه العلم عدة من العلماء الأجلاء من بنيه وبنيهم، وغيرهم من علماء الدرعية وسائر النواحي. وممن تأهل منهم أبناؤه: الشيخ عبد الله وحسين وعلي. وحفيده الشيخ عبد الرحمن بن حسن، والشيخ حمد بن ناصر بن معمر، والشيخ عبد العزيز الحصين .(8/5)
ص -5- ... والشيخ سعيد بن حجي، والشيخ محمد بن سويلم، والشيخ محمد بن سلطان وغيرهم ممن ولي القضاء، وممن لم يله الخلق الكثير.
توفي -رحمه الله- وأسكنه الفردوس الأعلى سنة 1206 هـ، وكان يوما مشهودا، وحصل بموته الخطب الجليل والفادح العظيم، ورثاه جماعة من العلماء ذكرنا منها طرفا في مجموع الرسائل. ومن أراد الاطلاع على حقيقة حاله وما منحه الله وما جرى له وعليه، فعليه بروضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب، للشيخ حسين بن غنام رحمهما الله تعالى.(8/6)
ص -7- ... بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، قيوم السماوات والأرضين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث بتوحيد رب العالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن (كتاب التوحيد) الذي ألفه شيخ الإسلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب أجزل الله له الأجر والثواب، ليس له نظير في الوجود، قد وضح فيه التوحيد الذي أوجبه الله على عباده وخلقهم لأجله، ولأجله أرسل رسله، وأنزل كتبه، وذكر ما ينافيه من الشرك الأكبر، أو ينافي كماله الواجب من الشرك الأصغر والبدع، وما يقرب من ذلك أو يوصل إليه، فصار بديعا في معناه لم يسبق إليه، علما للموحدين وحجة على الملحدين، واشتهر أي اشتهار، وعكف عليه الطلبة، وصار الغالب يحفظه عن ظهر قلب، وعم النفع به، وتصدى لشرحه والتعليق عليه جماعة من الجهابذة النبلاء، وأول من تصدى لشرحه وأجاد حفيده الشيخ سليمان بن الشيخ عبد الله، ثم هذبه وكمله حفيده أيضا الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وأبرزا فيهما من البيان ما ينبغي أن يرجع إليه، وعلق عليه أيضا الشيخ عبد الرحمن حاشية مفيدة، وعلق عليه تلميذه الشيخ حمد بن عتيق، وتلميذه الشيخ عبد الله أبا بطين وغيرهم، ولشدة الاعتناء بهذا السفر الجليل تطفلت عليه بوضع حاشية مختصرة منتخبة مما أبرزوه وغيره، تسهيلا للطالب، متوخيا فيها ما يلقيه أشياخنا الشيخ عبد الله بن الشيخ عبد اللطيف، والشيخ سعد بن الشيخ حمد بن عتيق، والشيخ محمد بن الشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف وغيرهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(8/7)
ص -12- ... بسم الله الرحمن الرحيم (1)
....................................................................
(1) ابتدأ بالبسملة اقتداء بالكتاب العزيز، وتأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم في مكاتباته، وعملا بحديث: " كل أمر ذي بال "1 أي حال وشأن يهتم به شرعا " لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع "2 وفي رواية "أبتر" أي ناقص البركة. وهو وإن تم حسا لم يتم معنى وحقيقة; ولم يفتتح المصنف كتابه بخطبة تنبئ عن مقصوده مفتتحة بالحمد والشهادة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم . ولعله حمد وتشهد نطقا عند وضع الكتاب، واقتصر على البسملة؛ لأنها من أبلغ الثناء والذكر، وللخبر، وكان صلى الله عليه وسلم يقتصر عليها في مراسلاته، فكأنه أجراه مجرى الرسائل إلى أهل العلم، لينتفعوا بما فيه تعلما وتعليما. وقال حفيده: (( وقع لي نسخة بخطه -رحمه الله- بدأ فيها بالبسملة، وثنى بالحمدلة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم )) .
والحمد ذكر محاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه، ومعنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هو الثناء على رسول الله صلى الله عليه وسلم والعناية به. وإظهار شرفه وفضله وحرمته.
وعلى هذا فالابتداء بالبسملة حقيقي وبالحمدلة نسبي إضافي، أي بالنسبة إلى ما بعد الحمد يكون مبدوءا به. والباء متعلقة بمحذوف، اختير كونه فعلا خاصا متأخرا، لئلا يتقدم فيه غير ذكر الله ( وليصح الابتداء في كل قول وعمل; ولأن الحذف أبلغ فلا حاجة إلى النطق بالفعل لدلالة الحال على أن كل قول أو فعل فإنما هو باسم الله.
والتقدير بسم الله أؤلف حال كوني مستعينا بذكره متبركا به. و "الاسم" مشتق من السمو وهو الارتفاع، أو الوسم وهو العلامة؛ لأن كل ما سمي فقد نوه باسمه ووسم، و"الله" علم على =(8/8)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : الأدب (4840) , وابن ماجه : النكاح (1894).
2 البخاري : اللباس (5951) , ومسلم : اللباس والزينة (2108) , والنسائي : الزينة (5361) , وأحمد (2/20 ,2/55).(8/9)
ص -13- ... .............................................................................................
= ربنا تبارك وتعالى، وهو أعرف المعارف الجامع لمعاني الأسماء الحسنى، وهو مشتق بمعنى أنه دال على صفة له. وأصله "الإله" حذفت الهمزة وأدغمت اللام في اللام فقيل "الله"، ومعناء ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين. و "الرحمن" رحمان الدنيا والآخرة. و "الرحيم" رحمة خاصة بالمؤمنين. و "الرحمن" دال على الصفة القائمة به. و "الرحيم" دال على تعلقها بالمرحوم.(8/10)
ص -11- ... كتاب التوحيد(1)
....................................................................
(1)كتاب: مصدر كتب يكتب كتابا وكتابة وكتبا، ومدار المادة على الجمع، ومنه تكتب بنو فلان إذا اجتمعوا، والكتيبة لجماعة الخيل. والكتابة بالقلم لاجتماع الحروف والكلمات، والمراد به هنا المكتوب، أي هذا مكتوب جامع لخصائص التوحيد وحقوقه ومكملاته، وما ينافيه من الشرك الأكبر، أو ينافي كماله الواجب من الشرك الأصغر. أو البدع القادحة في التوحيد، أو المعاصي المنقصة للتوحيد، وبيان الوسائل والذرائع الموصلة إلى الشرك والمقربة منه بالبراهين القاطعة من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة.
والتوحيد: مصدر وحّده يوحّده توحيدا، جعله واحدا أي فردا، ووحّده قال: إنه واحد أحد، أو قال لا إله إلا الله. والواحد والأحد وصف اسم الباري تعالى لاختصاصه بالأحدية.
وأقسام التوحيد ثلاثة :
(الأول) توحيد الربوبية. وهو العلم والإقرار بأن الله رب كل شيء وخالقه ومليكه، والمدبر لأمور خلقه جميعهم.
(والثاني) توحيد الأسماء والصفات. وهو أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال ونعوت الجلال، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل.
(والثالث) توحيد الإلهية. وهو إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، ويتعلق بأعمال العبد وأقواله الظاهرة والباطنة، خلاف ما زعمه المتكلمة والصوفية وغيرهم من أن المراد بالتوحيد مجرد توحيد الربوبية، وأنهم إذا أثبتوا ذلك فقد أثبتوا غاية التوحيد، وأن من أقر بما يستحقه –سبحانه- من الصفات، ونزهه عن كل ما نزه عنه، وأقر أنه –سبحانه- خالق كل شيء فهو الموحّد، =(8/11)
ص -12- ... قول الله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّّ لِيَعْبُدُونِ} (1) .
....................................................................
= بل لا يكون موحدا حتى يشهد أن لا إله إلا الله وحده، ويقر أنه وحده هو الإله المستحق للعبادة; ويلتزم بعبادته وحده لا شريك له. وأقسام التوحيد الثلاثة متلازمة، كل نوع منها لا ينفك عن الآخر، فمتى أتى بنوع منها ولم يأت بالآخر لم يكن موحدا. والقسم الثالث هو مقصود المصنف
-رحمه الله تعالى- بتصنيف هذا الكتاب، وإن كان قد ضمنه النوعين الآخرين؛ لأن هذا النوع هو أول دعوة الرسل أن:{ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } 1، ولعموم البلوى في زمانه بعبادة القبور والأشجار وغيرها، ودعوة الأنبياء والأولياء والصالحين وغيرهم، فمن أجل ذلك صرف العناية في بيان ذلك.
وإن شئت قلت كما قال ابن القيم وغيره: التوحيد نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات. وتوحيد في الطلب والقصد، وهو توحيد الإلهية والعبادة. وبهذا التوحيد ولأجله أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعي التوحيد، بل كل آية متضمنة للتوحيد شاهدة به داعية إليه؛ فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأقواله، وهو التوحيد العلمي الخبري.
وإما دعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما يعبد دونه وهو الإرادي الطلبي. وإما أمر ونهي، وهو حقوق التوحيد ومكملاته. وإما خبر عن أهل التوحيد وجزائهم وأهل الشرك وجزائهم، فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه وفي الشرك وأهله وجزائهم، وركنا التوحيد الصدق والإخلاص.
قال ابن القيم:
والصدق والإخلاص ركنا ذلك الت ... وحيد كالركنين للبنيان
وحقيقة الإخلاص توحيد المر ا ... د فلا يزاحمه مراد ثان(8/12)
(1) قول بالجر عطف على التوحيد، ويجوز الرفع على الابتداء. والعبادة لغة: التذلل والانقياد. وشرعا: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 59.(8/13)
ص -13- ... وقوله: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } 1 (1)
....................................................................
= الظاهرة والباطنة.
(وما خلقت) أي ما خلق الله الثقلين الجن والإنس إلا لحكمة عظيمة، وهي عبادته وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه. ففعل الأول وهو خلقهم ليفعلوا هم الثاني وهو عبادته، لا ليفعل هو سبحانه بهم الثاني فيجبرهم على العبادة; فإن من سبقت عليه الشقاوة لم يرد سبحانه وقوع العبادة منه، لما له في ذلك من الحكمة.
وقال بعض السلف: إلا لآمرهم وأنهاهم. واختاره الزجاج والشيخ وغرهما; قال تعالى: { أَيَحْسَبُ الأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً}2 لا يؤمر ولا ينهى. وقال: (اعبدوا ربكم) أي اتقوه، فقد أمرهم بما خلقوا له وأرسل الرسل بذلك، وكلما وردت العبادة في القرآن فمعناها توحيد الله بجميع أنواع العبادة. وسميت وظائف الشرع عبادات؛ لأنهم يفعلونها خاضعين لله فيكونون من أهل رضاه. قال تعالى: { مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} 3 أخبر أنه سبحانه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم، وفي الآية بيان عظم شأن التوحيد؛ إذ كان الخلق كلهم لم يخلقوا إلا له.
(1) الطاغوت: مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد، وكل من تعدى حده بأي نوع من الطغيان فهو طاغوت، ويكون واحدا وجمعا، ويؤنث ويذكر، وللسلف فيه تفاسير لا تنافي بينها، وكلها ترجع إلى ما قال ابن القيم: (( الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع )) ا هـ.
وأخبر تعالى أنه بعث في كل طائفة وقرن وجيل من الناس رسولا منذ حدث الشرك في قوم نوح إلى أن ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، يأمرهم (أن اعبدوا الله) أي وحدوا الله بالعبادة، (واجتنبوا) اتركوا وفارقوا عبادة ما سواه. ولهذا خلقت الخليقة وأرسلت الرسل وأنزلت الكتب،(8/14)
و (اجتنبوا) أبلغ من اتركوا، =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية : 36.
2 سورة القيامة آية : 36.
3 سورة الذاريات آية : 57.(8/15)
ص -14- ... وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } 1 (1) الآية (2)
....................................................................
= فإن اتركوا لعدم الفعل، واجتنبوا تقتضي ذلك وتقتضي المباعدة والمجانبة، وهذه الآية هي معنى لا إله إلا الله فإنها تضمنت النفي والإثبات، كما تضمنته لا إله إلا الله، ففي قوله: (اعبدوا الله) الإثبات، وقوله: (اجتنبوا الطاغوت) النفي. وهذه طريقة القرآن يقرن النفي بالإثبات، فينفي ما سوى الله، ويثبت عبادة الله وحده، والنفي المحض ليس بتوحيد وكذلك الإثبات بدون النفي، فلا يكون التوحيد إلا متضمنا للنفي والإثبات، وهذا هو حقيقة التوحيد، ففيها بيان عظم شأن التوحيد، وإقامة الحجة على العباد، ومعنى لا إله إلا الله. قال المصنف: (( وفيه الحكمة في إرسال الرسل، وأن الرسالة عمت كل أمة، وأن دين الأنبياء واحد )) .
(1) أي أمر ووصى وأوجب على ألسن رسله أن يعبد وحده دون ما سواه، والمراد بالقضاء هنا القضاء الشرعي الديني، فإن القضاء ينقسم إلى قسمين كوني قدري، وشرعي ديني، واشتملت هذه الآيات على جملة الشرائع، وابتدئت بالتوحيد فدل على أنه أوجب الواجبات؛ إذ لا يبتدأ إلا بالأهم فالأهم، وختمت بالنهي عن الشرك، فدل على أنه أعظم المحرمات، وفيها معنى لا إله إلا الله، فإن قوله: (ألا تعبدوا) هو معنى لا إله، وقوله: (إلا إياه) هو معنى إلا الله.
(2) أي وقضى أن تحسنوا بالوالدين إحسانا، كما قضى بعبادته وحده لا شريك له كقوله: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } 2، وعطف حقهما على حقه دليل على تأكد حقهما، وأنه أؤكد الحقوق بعد الله، وأكده أيضا بالمصدر المؤكد لما فرضه من حقهما؛ لأن الله جعلهما سببا لخروجك من العدم، ولم يخص نوعا من أنواع الإحسان ليعم جميع أنواعه، وتواترت السنة ببر الوالدين وتحريم عقوقهما.: { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ(8/16)
الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } 3 أي لا تسمعهما قولا سيئاً حتى =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الإسراء آية : 23.
2 سورة لقمان آية : 14.
3 سورة الإسراء آية : 23.(8/17)
ص -15- ... وقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً } 1 الآية. (1) وقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً } 2 (2).
....................................................................
= ولا التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيئ، تنبيها بما هو فوق ذلك من القول السيء، والفعل السيئ (ولا تنهرهما) أي لا يصدر إليهما منك قول قبيح: { وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} 3 لينا طيبا بأدب وتوقير.: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ } 4 أي تواضع لهما: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا } 5 أي في كبرهما وعند وفاتهما: { كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } 6 أي كما رحماني في تربيتهما لي في صغري أو لتربيتهما. وقوله: "الآية" أي إلى آخر الآية، أو اقرأ الآية.
(1) يأمر سبحانه عباده بعبادته وحده لا شريك له؛ فإنه الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه، وهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئا، وقرن الأمر بالعبادة التي فرضها بالنهي عن الشرك الذي حرمه، فدلت على أن اجتناب الشرك شرط في صحة العبادة. والشرك تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله. و (شيئا) نكرة في سياق النهي فتعم الشرك قليله وكثيره. وتسمى هذه الآية آية الحقوق العشرة؛ وذلك لأنها تضمنت عشرة حقوق. وابتدأت بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك، فدلت على أن التوحيد هو أوجب الواجبات، وأن الشرك أعظم المحرمات. وفيها تفسير التوحيد، وأنه عبادة الله وحده وترك الشرك وهذا وجه مطابقتها للترجمة قاله حفيد المصنف، وفي بعض النسخ المعتمدة تقديمها على آية الأنعام فقدمتها لمناسبة كلام ابن مسعود.
(2) أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله: (تعالوا) أي هلموا وأقبلوا (أتل) أي أقص عليكم وأخبركم بـ : {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } 7 حقا لا تخرصا ولا ظنا، بل(8/18)
وحيا منه وأمرا من عنده،: {أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً } 8 كأن في الكلام =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية : 36.
2 سورة الأنعام آية : 151.
3 سورة الإسراء آية : 23.
4 سورة الإسراء آية : 24.
5 سورة الإسراء آية : 24.
6 سورة الإسراء آية : 24.
7 سورة الأنعام آية : 151.
8 سورة الأنعام آية : 151.(8/19)
ص -16- ... .............................................................................................
= محذوفا تقديره: وصاكم ألا تشركوا به شيئا. فيكون المعنى حرم عليكم ما وصاكم بتركه من الإشراك به، ولهذا إذا سئل الصحابة -رضي الله عنهم- عما يقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يقول: " اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا "1 وذكر سبحانه في هذه الآية جملا من المحرمات، وابتدأها بالنهي عن الشرك، والنهي عنه يستدعي التوحيد بالاقتضاء، فدل على أن التوحيد أوجب الواجبات. وأن الشرك أعظم المحرمات، وهذا وجه مطابقتها للترجمة (وبالوالدين إحسانا) قال القرطبي: (( الإحسان إلى الوالدين برهما، وحفظهما وصيانتهما، وامتثال أمرهما، وإزالة الرق عنهما، وترك السلطنة عليهما )). و (إحسانا) نصب على المصدرية، أي أحسنوا بالوالدين إحسانا.: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } 2 أي لا تئدوا بناتكم خشية العيلة والفقر فإني رازقهم وإياكم، أي لا تخافوا من الفقر بسبب رزقهم فهو على الله، وخص الأولاد لأن قتلهم يجمع بين القتل وقطيعة الرحم. فالعناية بالنهي عنه آكد، وكان قتل البنات شائعا فيهم. وربما قتلوا بعض الذكور خشية الافتقار، فنهاهم الله عن ذلك.: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } 3 نهي عام عن جميع أنواع الفواحش وهي المعاصي. (وظهر وبطن) حالان تستوفيان أقسام ما جعلتا له من الأشياء.: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ } 4 قتلها (إلا بالحق)، وهذا مما نص على النهي عنه تأكيدا، وإلا فهو داخل في النهي عن الفواحش. (ذلكم وصاكم به) إشارة إلى هذه المحرمات التي أولها النهي عن الشرك، والوصية الأمر المؤكد المقرر، وسميت وصية الميت وصية؛ لأنه يعهدها لمن بعده ليتمسكوا بها. (لعلكم تعقلون) لعل للتعليل أن الله وصانا بهذه الوصايا وأمرنا بها،(8/20)
وأكد علينا فيها لنعقلها ونعمل بها.: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } 5 نهي عام عن القرب الذي يعم وجوه التصرف إلا ما يحسن، والسعي في نمائه. (حتى يبلغ أشده) أي الرشد وزوال السفه مع البلوغ: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ } 6 أمر بإقامة العدل في الأخذ =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الإيمان (18) , وأحمد (3/22).
2 سورة الأنعام آية : 151.
3 سورة الأنعام آية : 151.
4 سورة الأنعام آية : 151.
5 سورة الأنعام آية : 152.
6 سورة الأنعام آية : 152.(8/21)
ص -17- ... .............................................................................................
= والإعطاء.: {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} 1 أي من اجتهد في أداء الحق وأخذه فإن أخطأ بعد استفراغ الوسع وبذله الجهد فلا حرج عليه.: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} 2 أمر بالعدل في القول والفعل على القريب والبعيد، فلا يميل إلى الحبيب والقريب.: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} 3. (وبعهد الله أوفوا) أي وبوصية الله التي وصاكم بها فأوفوا، بأن تطيعوه فيما أمركم به ونهاكم عنه: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} 4 تتعظون وتنتهون عما كنتم فيه.: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} 5 أي الذي أوصيكم به في هاتين الآيتين المشتملتين على ترك المنهيات وأعظمها الشرك، وفعل الواجبات وأعظمها التوحيد. صراطا مستقيما واضحا سهلا واسعا (فاتبعوه) وهذه آية عظيمة عطفها على ما تقدم. و (أن) في موضع نصب أي: أتل (أن هذا صراطي) أي طريقي ومسلكي وشريعتي (مستقيما) قيما.
والصراط: الطريق الذي هو دين الإسلام، وهو طريق الله الذي نصبه لعباده موصلا إليه، وهو شريعة الله لا اعوجاج فيه، ولا طريق إليه سواه، وقد جمع ثلاثة أمور: السهولة والسعة والقرب، فهو أقرب الطرق إلى الله وأوسعها وأسهلها، ولو اجتمع أهل الأرض وأضعاف أضعافهم لوسعهم، بل الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا طريقه الذي نصبه على ألسن رسله، وجعله موصلا لعباده إليه، وهو إفراده بالعبودية، وإفراد رسله بالطاعة. فأمر باتباعه ونهايته الجنة، وتشعبت منه طرق فمن سلك الجادة منها نجا، ومن خرج إلى تلك الطرق أفضت به إلى النار. (ولا تتبعوا السبل) البدع والشبهات، {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} 6 أي تميل وتشتت بكم هذه الطرق المختلفة المضلة عن دينه وطريقه(8/22)
الذي ارتضاه لعباده. وهذه الآيات قيل: إنها المحكمات المذكورة في قوله: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} 7 .
وروى الإمام أحمد وغيره عن ابن مسعود قال " خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًا بيده ثم قال "هذا سبيل الله مستقيما"، ثم خطّ خطوطا عن يمينه وشماله، ثم =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية : 152.
2 سورة الأنعام آية : 152.
3 سورة المائدة آية : 8.
4 سورة الأنعام آية : 152.
5 سورة الأنعام آية : 153.
6 سورة الأنعام آية : 153.
7 سورة آل عمران آية : 7.(8/23)
ص -18- ... قال ابن مسعود رضي الله عنه (1): " من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمة (2) فليقرأ قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}1 إلى قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ}2 " الآية (3) .
....................................................................
= قال: "وهذه السبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه"، ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}"3، وذكر أولا (تعقلون) ثم (تذكرون) ثم (تتقون)؛ لأنهم إذا عقلوا تذكروا، فإذا تذكروا خافوا، وكأن المصنف قال: كتاب التوحيد الذي هو الحكمة في إيجاد الثقلين كما في الآية الأولى، والذي هو الحكمة في إرسال الرسل كما في الآية الثانية، والذي هو أوجب الواجبات كما في الآية الثالثة والرابعة والخامسة، والذي ضده هو الشرك أعظم المحرمات كما في الآية الخامسة، والذي هو حق الرب على العباد الذي افترضه عليهم، ولا يقبل منهم سواه كما يأتي في حديث معاذ بن جبل، والذي حقيقته وتفسيره عبادة الله وحده لا شريك له كما في الآية الرابعة وحديث معاذ.
(1) هو عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب الهذلي، أبو عبد الرحمن صحابي جليل، من السابقين الأولين، ومن كبار علماء الصحابة، شهد بدرا وما بعدها، ولازم النبي صلى الله عليه وسلم وكان صاحب نعليه، وحدث عنه كثيرا، وأمّره عمر على الكوفة ومات سنة 32 هـ. وأثره هذا رواه الترمذي وغيره وحسنه.
(2) بفتح التاء وكسرها، والخاتم حلقة ذات فص من غيرها. وحقيقة الختم الاستيثاق.
(3) أي من أراد أن ينظر إلى الوصية التي كأنها كتبت وختم عليها فلم تغير ولم تبدل، فليقرأ: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} 4(8/24)
الآيات الثلاث؛ لأن كل آية =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية : 151.
2 سورة الأنعام آية : 153.
3 ابن ماجه : المقدمة (11) , وأحمد (3/397).
4 سورة الأنعام آية : 151.(8/25)
ص -19- ... وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه (1) قال: " كنت رديف
....................................................................
= منها ختمت بقوله: (ذلكم وصاكم به)، فالرسول صلى الله عليه وسلم لو وصى لم يوص إلا بما وصى به الله تعالى، فصارت وصية الله تعالى، ووصية رسوله صلى الله عليه وسلم بالمعنى; ولذلك شبهها بالكتاب الذي كتب ثم ختم فلم يزد فيه ولم ينقص. وليس المراد أن النبي صلى الله عليه وسلم كتبها وختم عليها، وإنما هذه الآيات كأنها وصية ختمها الرسول صلى الله عليه وسلم فلا حاجة بنا أن يوصي، فإن الله قد وصى بما في هذه الآيات؛ لأن فيها ما يكفي عن توصية الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: " ائتوئي بكتاب أكتب لكم فيه شيئا لا تضلوا بعدي "، وذلك في أثناء مرضه صلى الله عليه وسلم ، فحيل بينهم وبين أن يكتب، وكثر اللغط. فقال: "اخرجوا عني". فقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: " إن الرزية كل الرزية ما حال بيننا وبين أن يكتب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الوصية " فذكرهم ابن مسعود رضي الله عنه أن عندهم من القرآن ما يكفيهم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لو وصى لم يوص إلا بما في كتاب الله.
وفي صحيح مسلم: " إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله "1. وروى الحاكم وصححه عن عبادة مرفوعا: " أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث "، ثم تلا {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ..} 2 حتى فرغ من الآيات الثلاث. ثم قال: " من أوفى بهن فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله، إن شاء أخذه وإن شاء عفا عنه " .
(1) ابن عمرو بن أوس بن كعب بن عمرو الخزرجي الأنصاري، أبو عبد الرحمن صحابي جليل مشهور من أعيان الصحابة كان إليه المنتهى في العلم والأحكام والقرآن، قال -عليه السلام-: " يحشر أمام العلماء برتوة "3 أي(8/26)
بخطوة أو رمية سهم، شهد بدرا وما بعدها، واستخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على أهل مكة يوم الفتح يعلمهم دينهم، تم بعثه إلى اليمن قاضيا معلما، مات بالشام في طاعون عمواس سنة 18 هـ، وله 38.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : المناقب (3788).
2 سورة الأنعام آية : 151.
3 أحمد (1/17).(8/27)
ص -20- ... النبي صلى الله عليه وسلم على حمار (1) فقال لي: " يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد، (2) وما حق العباد على الله؟ (3) قلت: الله ورسوله أعلم (4) .
....................................................................
(1) وفي رواية: اسمه عفير، أهداه إليه المقوقس صاحب مصر. والرديف هو الذي تحمله خلفك على ظهر الدابة، وفيه تواضعه صلى الله عليه وسلم لركوب الحمار والإرداف عليه، خلافا لما عليه أهل الكبر.
(2) أخرج السؤال بصيغة الاستفهام؛ ليكون أوقع في النفس، وأبلغ في فهم المتعلم، وحق الله على العباد هو ما يستحقه عليهم من عبادته وحده. قال ابن القيم:
حق الإله عبادة بالأمر لا ... بهوى النفوس فذاك للشيطان
من غير إشراك به شيئا هما ... سببا النجاة فحبذا السببان
(3) ليس على الله حق واجب بالعقل كما تزعمه المعتزلة، لكن هو سبحانه كتب ذلك على نفسه تفضلا وإحسانا، فهو متحقق لا محالة؛ لأنه قد وعدهم ذلك جزاء لهم على توحيده،: {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} 1، كتب على نفسه الرحمة، وأوجب على نفسه الحق، لم يوجبه عليه مخلوق. قال شيخ الإسلام: كون المطيع يستحق الجزاء هو استحقاق إنعام وفضل، ليس هو استحقاق مقابلة، كما يستحق المخلوق على المخلوق:
ما للعباد عليه حق واجب ... كلا ولا سعي لديه ضائع
إن عذبوا فبعدله أو نعموا ... فبفضله وهو الكريم الواسع
(4) فيه حسن الأدب من المتعلم، وأنه ينبغي لمن سئل عما لا يعلم أن يقول: الله أعلم. قال ابن مسعود: " من كان عنده علم فليقل به، وإلا فليقل: الله أعلم " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الروم آية : 6.(8/28)
ص -21- ... قال: " حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا(1)، وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئا(2). قلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس (3)؟
....................................................................
(1) أي يوحدوه بالعبادة ويفردوه، ويتجردوا من الشرك قليله وكثيره صغيره وكبيره، ومن لم يتجرد من الشرك لم يكن آتيا بعبادة الله وحده. بل هو مشرك قد جعل لله ندا في عبادته.
وأصل العبادة التذلل والخضوع، قال الشيخ: (( العبادة هي طاعة الله بامتثال ما أمر به على ألسنة الرسل )). وعرفها ابن القيم فقال:
وعبادة الرحمن غاية حبه ... مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائر ... ما دار حتى قامت القطبان
ومداره بالأمر أمر رسوله ... لا بالهوى والنفس والشيطان
قال المصنف: (( وفيه أن العبادة هي التوحيد لأن الخصومة فيه )) .
(2) أي ألا يعذب من يعبده ولا يشرك به شيئا، والعذاب كل ما يعيي الإنسان ويشق عليه، من العذب وهو المنع، فسمي عذابا لأنه يمنع المعاقب من معاودة مثل جرمه، ويمنع غيره من مثل فعله. قال الحافظ: اقتصر على نفي الإشراك؛ لأنه يستدعي التوحيد بالاقتضاء، ويستدعي إثبات الرسالة باللزوم; إذ من كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كذب الله (، ومن كذب الله فهو مشرك. وفي رواية: " ما من أحد يشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار "1.
(3) يعني بفضل التوحيد، وفضل من تمسك به عند الله، ففيه فضل التوحيد وعظم شأنه، وأنه حق الرب الذي أحقه وافترضه على عباده، ولا يقبل منهم سواه، وعظم شأن أهله، وهو ألا يعذبهم. وفيه تفسير التوحيد وأنه عبادة الله وحده وترك الشرك به. وفيه استحباب بشارة المسلم بما يسره. وفيه ما كان عليه الصحابة من الاستبشار بمثل هذا.(8/29)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : العلم (128) , ومسلم : الإيمان (32).(8/30)
ص -22- ... قال: لا تبشرهم فيتكلوا "1 (1) أخرجاه في الصحيحين (2).
....................................................................
(1) وفي رواية: " إني أخاف أن يتكلوا " أي يعتمدوا على ذلك، فيتركوا التنافس في الأعمال الصالحة اعتمادا على ما يتبادر من ظاهر الحديث. وفي رواية: فأخبر بها معاذ عند موته تأثما أي تحرجا من الإثم. قال أبو المظفر: ((لم يكن يكتمها إلا عن جاهل يحمله جهله على سوء الأدب بترك الخدمة في الطاعة. فأما الأكياس فإذا سمعوا بمثل هذا زادوا في الطاعة فلا وجه لكتمانها عنهم)) .
قال المصنف: وفيه جواز كتمان العلم للمصلحة، والخوف من الاتكال على سعة رحمة الله. وسئل عن معنى هذا الحديث، ومعنى " لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله "2 فقال: معنى حديث معاذ عند السلف على ظاهره، وهو من الأمور التي يقولون: أمرّوها كما جاءت، يعني نصوص الوعد والوعيد، وقوله: " لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله " على ظاهره، وهو أن الله لو يستوفي حقه من عبده لم يدخل أحد الجنة، ولكن كما قال: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} 3 .
(2) أي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما اللّذين هما أصح الكتب المصنفة. والبخاري هو الإمام محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة الجعفي، الحافظ الكبير صاحب الصحيح والتاريخ والأدب المفرد وغير ذلك. روى عن أحمد والحميدي وابن المديني وطبقتهم، وعنه مسلم والنسائي والترمذي وغيرهم، ولد سنة 194 هـ، وتوفي سنة 256 هـ.
و مسلم هو ابن الحجاج بن مسلم أبو الحسين القشيري النيسابوري، صاحب الصحيح والعلل والوحدان وغير ذلك، روى عن أحمد وابن معين وابن أبي شيبة والبخاري وطبقتهم، وعنه الترمذي وخلق. ولد سنة 204، وتوفي بنيسابور سنة 261 هـ.(8/31)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الجهاد والسير (2856) , ومسلم : الإيمان (30) , والترمذي : الإيمان (2643) , وابن ماجه : الزهد (4296) , وأحمد (3/260 ,5/228 ,5/229 ,5/230 ,5/234 ,5/236 ,5/238 ,5/242).
2 البخاري : الإيمان (48) , ومسلم : الإيمان (64) , والترمذي : البر والصلة (1983) والإيمان (2634 ,2635) , والنسائي : تحريم الدم (4105 ,4106 ,4108 ,4109 ,4110 ,4111 ,4112 ,4113) , وابن ماجه : المقدمة (69) والفتن (3939) , وأحمد (1/385 ,1/411 ,1/417 ,1/433 ,1/439 ,1/446 ,1/454 ,1/460(.
3 سورة الزمر آية : 35.(8/32)
ص -23- ... باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب (1)
وقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} 1 (3).
....................................................................
(1) "باب" خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا باب، ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف، و "ما" يجوز أن تكون موصولة، وأن تكون مصدرية. أي باب بيان عظيم فضل التوحيد وتكفيره للذنوب وهو أشمل وأولى؛ لرفع وهم أن ثم ذنوبا لا يكفرها التوحيد وليس بمراد، ولا ريب أن التوحيد أفضل الأعمال على الإطلاق، وأعظمها تكفيرا للذنوب، ولما ذكر معنى التوحيد، وكانت الأنفس لها تشوق وتشوف إلى معرفة المعاني، ونيل الفضائل وتحصيلها، ناسب ذكر فضله وتكفيره للذنوب؛ ترغيبا فيه، وتحذيرا من الشرك. والباب لغة: المدخل إلى الشيء. واصطلاحا: اسم لجملة من العلم تحته فصول ومسائل غالبا، وليس مرادهم الحصر بل إنه المقصود بالذات والمعظم.
(2) أي أخلصوا العبادة لله وحده، ولم يخلطوا توحيدهم بشرك، ولبس الشيء بالشيء تغطيته به وإحاطته به من جميع جهاته، ولا يغطي الإيمان ويحيط به ويلبسه إلا الكفر، وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه، ومنه سمي الشرك ظلما والمشرك ظالما؛ لأنه وضع العبادة في غير موضعها، وصرفها لغير مستحقها.
(3) أي هم الآمنون في الدنيا والآخرة المهتدون إلى الصراط المستقيم، ولما نزلت هذه الآية شق على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ظنوا أن الظلم =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية : 82.(8/33)
ص -24- ... عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه (1)
....................................................................
= المشروط هو ظلم العبد نفسه، وأنه لا أمن ولا اهتداء إلا لمن لم يظلم نفسه، فقالوا: يا رسول الله وأينا لم يظلم نفسه؟ قال: " ليس كما تقولون، لم يلبسوا إيمانهم بظلم: بشرك، أو لم تسمعوا إلى قول لقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 1 " . فبين صلى الله عليه وسلم أن من لم يلبس إيمانه بهذا الظلم كان من أهل الأمن والاهتداء، كما كان أيضا من أهل الاصطفاء في قوله: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} 2، فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة، الشرك، وظلم العباد في نفس أو مال أو عرض، وظلم نفسه بما دون الشرك، كان له الأمن التام والاهتداء التام، ومن لم يسلم من ظلمه لنفسه كان له الأمن والاهتداء مطلقا، بمعنى أنه لا بد أن يدخل الجنة كما وعد بذلك، ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه لنفسه، كما لو ظلمها ببخله ببعض الواجبات حبا للمال، أو أحب ما يبغضه الله حتى يقدم هواه على محبة الله ونحو ذلك.
وليس مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "بشرك" الشرك الأكبر، فيؤخذ منه أن من لم يشرك الشرك الأكبر يكون له الأمن التام والاهتداء التام، بل مراده صلى الله عليه وسلم نفي نوعي الشرك، فإن أهل الكبائر معرضون للوعيد، مع أنها دون الشرك الأصغر بإجماع أهل السنة، ومع ذلك لم يحصل لهم الأمن التام والاهتداء التام، كما وردت به نصوص الكتاب والسنة، فصاحب الشرك الأصغر أولى بلحوق الوعيد له، فظهرت مطابقة الآية للترجمة، وذلك أن من مات على التوحيد لم يلبسه بشرك فله الأمن على ما تقدم، بخلاف غيره من الأعمال مع عدمه، فتبين بذلك أفضلية التوحيد وأنه السبب في النجاة من النار.
(2) ابن قيس بن أصرم الخزرجي الأنصاري أحد النقباء، شهد(8/34)
بدرا وما بعدها، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا، مات بالرملة سنة 34 هـ، وله 72.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : أحاديث الأنبياء (3360) , ومسلم : الإيمان (124) , والترمذي : تفسير القرآن (3067) , وأحمد (1/378,1/424).
2 سورة فاطر آية : 32.(8/35)
ص -25- ... قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من شهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، (1)
....................................................................
(1) أي من تكلم بها عارفا لمعناها عاملا بمقتضاها باطنا وظاهرا، فإن الشهادة تقتضي العلم بالمشهود به، فلو كان عن جهل لم تكن شهادة، وتقتضي الصدق، وتقتضي العمل بذلك، وبهذا يتبين أنه لابد من العلم بها والعمل والصدق. فبالعلم ينجو من طريقة النصارى، وبالعمل ينجو من طريقة اليهود، وبالصدق ينجو من طريقة المنافقين، و "وحده" تأكيد وبيان لمضمون معناها، حال من الاسم الشريف، وهو تأكيد للإثبات. و "لا شريك له" تأكيد للنفي، تأكيد بعد تأكيد، اهتمام بمقام التوحيد.
قال النووي: (( هذا حديث عظيم جليل الموقع، وهو أجمع أو من أجمع الأحاديث المشتملة على العقائد؛ فإنه صلى الله عليه وسلم جمع فيه ما يخرج من ملل الكفر على اختلاف عقائدهم وتباعدها، فاقتصر صلى الله عليه وسلم في هذه الأحرف على ما يباين جميعهم )) ا هـ.
ومعنى "لا إله إلا الله" لا معبود بحق إلا الله، فتضمنت هذه الكلمة العظيمة نفيا وإثباتا، فـ"لا إله" نفت الإلهية عن كل ما سوى الله. و "إلا الله" أثبتت الإلهية لله وحده، فنفت جميع ما يعبد من دون الله، وأثبتت العبادة لله وحده لا شريك له، والعبادة إنما تصدر عن تأله القلب بالحب والخضوع.
وقال شيخ الإسلام: (( الإله هو المعبود المطاع، فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب المخضوع له غاية الخضوع; ولهذا كانت لا إله إلا الله أصدق الكلام، وأهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداؤه وأهل غضبه ونقمته، فإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله )) ا هـ.
والحاصل أن لا إله إلا الله لا تنفع إلا من(8/36)
عرف مدلولها نفيا وإثباتا، واعتقد ذلك، وقبله وعمل به، وأما من قالها من غير علم بمعناها، ولا اعتقاد ولا عمل بمقتضاها =(8/37)
ص -26- ... وأن محمدا عبده ورسوله، (1) وأن عيسى عبد الله ورسوله، (2)
....................................................................
= من نفي الشرك وإخلاص القول والعمل لله وحده فغير نافع بالإجماع، بل تكون حجة عليه. والمشركون الأولون جحدوها لفظا ومعنى، فإنه صلى الله عليه وسلم لما قال لهم: " قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا "1 قالوا: (أجعل الآلهة إلها واحدا). ومشركو زماننا أقروا بها لفظا وجحدوها معنى، فتجد أحدهم يقولها ويأله غير الله بأنواع العبادة، بل يخلصون العبادة في الشدائد لغير الله، فهم أجهل من مشركي العرب، والمتكلمة وغيرهم يزعمون أن معنى الإله هو القادر على الاختراع، وأن من أقر بأن الله وحده خالق كل شيء فهو الموحد، وليس الأمر كذلك حتى يشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنه سبحانه وحده هو المستحق للعبادة، ويلتزم بها.
(1) أي وشهد أن محمدا عبده ورسوله بصدق ويقين، وذلك يقتضي اتباعه وتعظيم أمره ونهيه ولزوم سنته، وأتى بهاتين الصفتين وجمعهما رفعا للإفراط والتفريط؛ فإن كثيرا ممن يدعي أنه من أمته أفرط بالغلو قولا وفعلا، حتى جوزوا الاستغاثة به في جميع ما يستغاث بالله فيه، أو فرط بترك متابعته، والرضى عن سنته بالأوضاع والقوانين الباطلة، وشهادتهم ناقصة على حسب ما معهم من تلك الأمور. و "عبد" بمعنى "متعبد" عام، وبمعنى "عابد" خاص بمن عبد الله، وإضافته إلى الله إضافة تشريف كقوله: (أسرى بعبده)، ومعناه هنا المملوك العابد، والعبودية الخاصة وصفه، و "رسوله" أي مرسله بأداء شريعته.
(2) وفي رواية: وابن أمته، خلافا لما يعتقده اليهود أنه ابن زانية. أو ما يعتقده النصارى أنه الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، فلابد أن يشهد أنه عبد الله ورسوله عن علم ويقين، بل لا يصح توحيد عبد علم بمقالتهم في عيسى حتى يتبرأ منهم ومن مقالتهم، ويأتي بما هو الحق في ذلك، وهو(8/38)
شهادة أن عيسى عبد الله ورسوله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (3/492).(8/39)
ص -27- ... وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، (1) والجنة حق والنار حق، (2) أدخله الله الجنة على ما كان من العمل" " (3) أخرجاه 1.
....................................................................
(1) أي خلقه من أنثى بلا ذكر بالكلمة التي أرسل بها جبرائيل إلى مريم فنفخ في جيب درعها قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} 2 خلقه بقوله: (كن)، وأوجده بقدرته وحكمته، فكان بقوله: (كن)، وسمى كلمة؛ لوجوده بقوله تعالى: (كن)، فليس هو (كن)، ولكن كان ب (كن)، ف (كن) من الله قولا، وليس (كن) مخلوقا، وعيسى روح من الأرواح التي خلقها واستنطقها، وأخذ عليها الميثاق بقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} 3 بعثه إلى مريم فدخل فيها. قال الحافظ: (( وصفه بأنه منه فالمعنى أنه كائن منه، أي مكون ذلك وموجده بقدرته وحكمته )) ا هـ.
والمضاف إلى الله إذا كان عينا قائمة بنفسها كعيسى امتنع أن تكون صفة لله، وإنما هو إضافة مخلوق إلى خالقه، وهو على قسمين: إضافة تشريف وتكريم كبيت الله، وخليل الله، وروح الله. وإضافة لا تقتضي تشريفا كقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} 4 أي كائنة منه كونها وأوجدها سبحانه، وأما إذا كان المضاف إليه معنى لا يقوم بنفسه ولا بغيره من المخلوقات كالسمع والبصر، وجب أن يكون صفة لله قائما به، وفيه إثبات صفة الكلام خلافا للجهمية، فإنهم جعلوا كلام الله مخلوقا، والنصارى جعلوا كلامه معبودا.
(2) أي وشهد أن الجنة التي أخبر الله في كتابه أنه أعدها للمتقين حق ثابتة لا شك فيها، وأن النار التي أخبر أنه أعدها للكافرين حق ثابتة، وأنهما الآن مخلوقتان موجودتان.
(3) أي على ما كان فيه من صلاح أو فساد، وهذه الجملة جواب الشرط، أي من شهد إلى آخره أدخله الله الجنة بإخلاصه وصدقه(8/40)
والإيمان برسوله وما أرسل به، وإن كان مقرا وله ذنوب، فهذه الحسنة العظيمة ترجح بجميع السيئات =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : أحاديث الأنبياء (3435) , ومسلم : الإيمان (28) , وأحمد (5/313).
2 سورة آل عمران آية : 59.
3 سورة الأعراف آية : 172.
4 سورة الجاثية آية : 13.(8/41)
ص -28- ... ولهما في حديث عتبان (1) " فإن الله حرم على من قال لا إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ?"1 (2).
....................................................................
= فإنه يدخل الجنة على أحد ثلاثة تقادير. إما أن يلقى الله سالما من جميع الذنوب فيدخلها من أول وهلة، أو يلقى الله وهو مصر على كبيرة أو ذنب، وهو بين أمرين إما أن يعفو الله عنه فيدخله الجنة، أو يجازيه بجرمه ثم يدخله الجنة، ففيه فضل التوحيد وذلك أن من مات على التوحيد فمصيره إلى الجنة بكل حال.
(1) أي وللبخاري ومسلم في حديث طويل أخرجاه في صحيحيهما بكماله، وهذا طرف منه، عن عتبان بكسر العين بن مالك بن عمرو بن العجلان الخزرجي السالمي، صحابي مشهور بدري مات في خلافة معاوية.
(2) هذا هو حقيقة معناها، فإن من قالها يبتغي بها وجه الله لا بد أن يعمل بما دلت عليه من الإخلاص ونفي الشرك، فإن المقتضى لا يعمل عمله إلا باستجماع شروطه، وانتفاء موانعه، فقد يتخلف عنه مقتضاه لفوات شرط من شروطه، أو ولوجود مانع، ومما قيدت به في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم : "غير شاك" وفي الصحيح: " من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة "2. وفي رواية: " ما من أحد يشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار "3، ولمسلم: " لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة "4، وله أيضا: " من لقيت يشهد ألا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة "5، وفيهما مرفوعا: " ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة "6، فيحمل المطلق على المقيد .
قال شيخ الإسلام وغيره: قالها بصدق وإخلاص ويقين ومات على ذلك، فإن حقيقة التوحيد انجذاب القلب إلى الله جملة بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحا، فإذا مات على تلك الحال نال ذلك، فإنه قد تواترت الأحاديث بأنه يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن(8/42)
شعيرة، وما يزن خردلة، وما يزن ذرة، وتواترت بأن كثيرا =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الصلاة (425) , ومسلم : المساجد ومواضع الصلاة (33).
2 البخاري : العلم (129) , وأحمد (3/157 ,3/244).
3 البخاري : العلم (128) , ومسلم : الإيمان (32).
4 مسلم : الإيمان (27) , وأحمد (2/421).
5 مسلم : الإيمان (31).
6 البخاري : اللباس (5827) , ومسلم : الإيمان (94) , وأحمد (5/166).(8/43)
ص -29- ... .............................................................................................
= ممن يقولها يدخل النار ثم يخرج منها، وتواترت بأنه يحرم على النار من قال لا إله إلا الله، ومن شهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال.
قال الشارح وغيره: لا بد في شهادة ألا إله إلا الله من سبعة شروط لا تنفع قائلها إلا باجتماعها:
(أحدها) العلم المنافي للجهل. (الثاني) اليقين المنافي للشك. (الثالث) القبول المنافي للرد. (الرابع) الانقياد المنافي للترك. (الخامس) الإخلاص المنافي للشرك. (السادس) الصدق المنافي للكذب. (السابع) المحبة المنافية لضدها. ونظمها بعضهم فقال:
علم يقين وإخلاص وصدقك مع ... محبة وانقياد والقبول لها(8/44)
وركناها النفي والإثبات، نفي الإلهية عما سوى الله، وإثباتها لله وحده، وأكثر من يقولها اليوم لا يعرف معناها، ولا يعرف الإخلاص ولا اليقين، أو يقولها تقليدا أو عادة ولم يخالط الإيمان بشاشة قلبه، وغالبهم من يفتن عند الموت، وفي الحديث: " سمعت الناس يقولون شيئا فقلته "1، وحينئذ فلا منافاة بين الأحاديث؛ فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين تام لم يكن في هذه الحال مصرا على ذنب أصلا، فإن كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء، فإذا لا يبقى في قلبه إرادة لما حرمه الله ولا كراهة لما أمر الله به، وهذا هو الذي يحرم على النار وإن كانت له ذنوب قبل ذلك، وإن قالها على وجه خلص به من الشرك الأكبر دون الأصغر، ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك فهذه الحسنة لا يقاومها شيء من السيئات، فيرجح بها ميزان الحسنات، كما في حديث البطاقة، فيحرم على النار، ولكن تنقص درجته في الجنة بقدر ذنوبه، وهذا بخلاف من رجحت سيئاته بحسناته ومات مصرا على ذلك فإنه يستوجب النار، وإن قال لا إله إلا الله، وخلص بها من الشرك الأكبر، لكنه لم يمت على ذلك بل أتى بعدها بسيئات رجحت على حسنة توحيده، وإنما يخاف على المخلص أن يأتي بسيئات راجحة فيضعف إيمانه، فلا يقولها بإخلاص ويقين =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : العلم (86) , ومسلم : الكسوف (905) , وأحمد (6/345) , ومالك : النداء للصلاة (447).(8/45)
ص -30- ... وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (1) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " قال موسى عليه السلام: (2) يا رب علمني شيئا أذكرك وأدعوك به (3).
....................................................................
= مانع من جميع السيئات، ويخشى عليه من الشرك الأكبر والأصغر، فإن سلم من الأكبر بقي معه من الأصغر، فيضيف إلى ذلك سيئات تنضم إلى هذا الشرك، فيرجح جانب السيئات فيمتنع الإخلاص في القلب، فيصير المتكلم بها كالهاذي أو النائم.
فإذا كثرت الذنوب ثقل على اللسان قولها وقسا القلب، وكره العمل الصالح، وثقل عليه سماع القرآن، واستبشر بذكر غير الله، واطمأن إلى الباطل، واستحلى الرفث ومخالطة أهل الغفلة، وكره مخالطة أهل الحق، فمثل هذا إذا قالها قال بلسانه ما ليس في قلبه، فلا يقوى قولها على محو السيئات، فترجح سيئاته على حسناته. قال الحسن: " ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال " اهـ.
وفيه تحريم النار على أهل التوحيد الكامل، وأن العمل لا ينفع إلا إذا كان خالصا لله تعالى.
(1) واسمه سعد بن مالك بن سنان الخزرجي الأنصاري مشهور بكنيته ونسبته إلى بني خدرة، صحابي جليل وأبوه صحابي، استصغر بأحد وشهد ما بعدها، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا وأبي بكر وعمر وغيرهما، وعنه جمع من الصحابة والتابعين، مات سنة 74 هـ.
(2) ابن عمران بن قاهث بن عازر بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق رسول بني إسرائيل، وكليم الرحمن، قيل: ولد قبل عيسى سنة 1571، وتوفي سنة 1451.
(3) أي علمني شيئا يجتمع لي فيه الأمران أثني عليك به وأحمدك وأسألك به.(8/46)
ص -31- ... قال: قل يا موسى لا إله إلا الله. (1) قال: يا رب كل عبادك يقولون هذا (2)
....................................................................
(1) أي فإذا قلتها فقد دعوتني وأثنيت علي، فإن الدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة، ودعاء العبادة نحو: لا إله إلا الله وسبحان الله، وهو مستلزم لدعاء المسألة، ودعاء المسألة نحو "رب اغفر لي" متضمن لدعاء العبادة، وذلك أنه مأمور بهذا فإذا فعله فهو فاعل عبادة، ولا إله إلا الله اشتملت على الأمرين بل أعلاهما وأولاهما، وهي أكثر الأذكار وجودا وأيسرها حصولا، فإن أحرفها كلها جوفية ليس فيها حرف شفوي، فيمكن قائلها أن يقولها من غير فتح فمه، وهو أسلم وأبعد عن الرياء، وفي كونها جوفية أيضا إشارة إلى أنها تخرج من القلب; وأحرفها كلها مهملة فتنبئ عن التجرد من كل معبود سوى الله، وهي أفضل الأذكار وأعظمها معنى، فهي الكلمة العظيمة، وهي العروة الوثقى، وكلمة التقوى، وكلمة الإخلاص، وهي التي قامت بها السماوات والأرض، وشرعت لتكميلها السنة والفرض، ولأجلها جردت سيوف الجهاد، فمن قالها وعمل بها صدقا وإخلاصا وقبولا ومحبة أدخله الله الجنة على ما كان من العمل، وفيه أن الذاكر بها يقولها كلها، ولا يقتصر على لفظ الجلالة ولا على "هو" كما يفعله غلاة المتصوفة، فإن ذلك بدعة وضلالة، و "لا" نافية للجنس نفيا عاما إلا ما استثني، وخبرها محذوف تقديره لا إله حق إلا الله. قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 1. فإلهيته تعالى هي الحق، وكل ما سواه من الآلهة فإلهيته باطلة.
(2) وفي رواية: قد علمت ألا إله إلا الله، أي وإنما أريد شيئا تخصني به من بين عموم عبادك، فإن من طبع الإنسان ألا يشتد فرحه جدا إلا بشيء يختص به دون غيره، مع أن من رحمة الله وسنته المطردة أن ما اشتدت(8/47)
إليه الحاجة والضرورة =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحج آية : 62.(8/48)
ص -32- ... قال: يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري، (1) والأرضين السبع في كفة، (2) ولا إله إلا الله في كفة، (3) مالت بهن لا إله إلا الله " .(4)
....................................................................
= كان أكثر وجودا كالهواء والماء والملح، ولما كان النطق بلا إله إلا الله ضرورة فطرية كانت أكثر الأذكار وأيسرها وأفضلها وأعظمها. قال الشارح: (( وثبت بخط المصنف "يقولون" بالجمع، والذي في الأصول "يقول" بالإفراد، وهو في المسند من حديث عبد الله بن عمرو بلفظ الجمع )).
(1) عامر بالنصب عطف على السماوات أي لو أن السماوات السبع ومن فيهن من العمار غير الله تعالى، فاستثنى ممن في السماوات نفسه المقدسة؛ لأنه العلي الأعلى تعالى وتقدس، وهو العلي العظيم علو القدر وعلو القهر وعلو الذات، العظيم الذي لا أعظم منه، الكبير الذي لا أكبر منه، وجميع المخلوقات في كف الرحمن كالخردلة في يد أحدنا.
(2) بكسر الكاف وتشديد الفاء أي وضعن في كفة الميزان.
(3) يعني في كفة الميزان الأخرى. وفيه إثبات الميزان، وأنه حق، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} 1 توزن فيه الصحائف التي تكون أعمال العباد مكتوبة فيها، وله كفتان إحداهما للحسنات والأخرى للسيئات بإجماع السلف.
(4) أي رجحت بهن، فدل على عظم شأنها، وذلك لما اشتملت عليه من نفي الشرك وتوحيد الله الذي هو أفضل الأعمال وأساس الملة والدين، ولما يجتمع لقائلها من الذكر والدعاء، وما يحصل له من تكفير الذنوب والخطايا، فمن قالها بإخلاص ويقين وعمل بمقتضاها ولوازمها وحقوقها، واستقام على ذلك دخل الجنة، فإن هذه الحسنة لا يوازنها شيء. وأخرج أحمد عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أن نوحا عليه السلام قال لابنه عند موته: آمرك بلا إله إلا الله؛ فإن =(8/49)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنبياء آية : 47.(8/50)
ص -33- ... رواه ابن حبان والحاكم وصححه. (1)
....................................................................
= السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة، ولا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السماوات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة لفصمتهن لا إله إلا الله "1. وهي أفضل الذكر. ففي الحديث الصحيح: " أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وعلى كل شيء قدير "2 .
وللنسائي وابن ماجه وغيرهما: " أفضل الذكر لا إله إلا الله "3. وللترمذي وغيره: " دعوة أخي ذي النون: لا إله إلا أنت "4، وله أيضا وحسنه وصححه الذهبي: " يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر، ثم يقال: أتنكر من هذا شيئا؟ فيقول: لا يا رب، فيقال: ألك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا يا رب، فيقال: بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك، فيخرج له بطاقة فيها أشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة " .
قال الشيخ: (( ليس كل من تكلم بالشهادتين كان بهذه المثابة؛ لأن هذا العبد صاحب البطاقة كان في قلبه من التوحيد واليقين والإخلاص ما أوجب أن عظم قدره حتى صار راجحا على هذه السيئات)). وقال ابن القيم: (( والأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة، وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض )).
قال: وتأمل حديث البطاقة، ومعلوم أن كل موحد له هذه البطاقة، والكثير منهم يدخل النار بذنوبه، بل اليهود أكثر من يقولها، والذي يقولها ويخالفها أعظم كفرا ممن يجحدها أصلا؛ فإن الكافر الأصلي أهون كفرا من المرتد.
(1) ابن حبان: بكسر الحاء محمد بن(8/51)
حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن معبد ابن مرة بن هدبة بن سعد الدارمي، أبو حاتم التميمي البستي الشافعي الحافظ، صاحب التصانيف منها: الصحيح، والتاريخ، والثقات، والضعفاء، روى عن النسائي وأبي يعلى =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (2/169).
2 الترمذي : الدعوات (3585).
3 الترمذي : الدعوات (3383) , وابن ماجه : الأدب (3800).
4 الترمذي : الدعوات (3505) , وأحمد (1/170).(8/52)
ص -34- ... وللترمذي (1) وحسنه عن أنس: (2)
....................................................................
= وابن خزيمة وخلق، وعنه الحاكم وغيره، قال الحاكم: (( كان من أوعية العلم ومن عقلاء الرجال)). مات بمدينة بست في عشر الثمانين سنة 354 هـ.
و الحاكم: هو محمد ابن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن حمدويه، أبو عبد الله الضبي النيسابوري الشافعي الإمام الحافظ الرحال، سمع من نحو ألفي شيخ منهم: الدارقطني والقفال والبيهقي وغيرهم، يعرف بابن البيع، صاحب التصانيف منها: المستدرك وتاريخ نيسابور. قال أبو حاتم: (( قام الإجماع على ثقته)). ولد سنة 321 هـ، ومات سنة 405 هـ. وصححه أي قال: هذا حديث صحيح أي ثابت على شرط الشيخين، وما انفرد بتصحيحه ولم يكن مردودا بعلة فهو دائر بين الصحة والحسن، وأصح من صنف في الصحيح بعد الشيخين ابن خزيمة فابن حبان فالحاكم.
(1) واسمه محمد بن عيسى بن سورة بن موسى بن الضحاك، وقيل: ابن السكن السلمي أبو عيسى صاحب الجامع وأحد الحفاظ، وله في فنون الصناعة الحديثية ما لم يشاركه فيه غيره، وكان ضرير البصر. وترمذ: نسبة لبلدة قديمة بطرف جيحون مات بها سنة 279 هـ. وقال: (( أردت بالحسن ما لا يكون في سنده متهم بالكذب، ولا يكون شاذا، ويروى من غير وجه )). وقال الشيخ: (( الحسن في اصطلاحه ما روى من وجهين وليس في رواته من هو متهم بالكذب ولا شاذ، ولا مخالف للأحاديث الصحيحة )).
(2) رضي الله عنه ابن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام بن جندب ابن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، أبو حمزة الخزرجي الأنصاري خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خدمه عشر سنين، وقال له: (( اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة )). قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهو ابن عشر، فقالت أمه: هذا غلام يخدمك. آخر من مات من الصحابة بالبصرة سنة 92 هـ، وقد جاوز المائة.(8/53)
ص -35- ... سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، (1) ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا (2) لأتيتك بقرابها مغفرة (3) "1
....................................................................
(1) قراب بضم القاف: ملؤها أو ما يقارب ملأها.
(2) أي ثم مت حال كونك لا تشرك بي شيئا، وهذا شرط ثقيل في الوعد بحصول المغفرة وهو السلامة من الشرك قليله وكثيره، صغيره وكبيره، ولا يسلم من ذلك إلا من أتى الله بقلب سليم، ومن أتى بلا إله إلا الله وهو مشرك لم تصح منه أصلا، ولم ترجح حسناته بسيئاته، ولا يحرم على النار.
(3) أي ملء الأرض، ذكر المصنف -رحمه الله- آخر الحديث وهو حديث قدسي، وأوله: "قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم لو أتيتني"2 إلخ. وأخرج أحمد ومسلم وغيرهما عن أبي ذر: " ومن عمل قراب الأرض خطيئة ثم لقيني لا يشرك بي شيئا جعلت له مثلها مغفرة "3. وأخرج الطبراني في الثلاثة عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قال الله تعالى: يا ابن آدم مهما عبدتني ورجوتني ولم تشرك بي شيئا غفرت لك على ما كان منك، وإن استقبلتني بملء السماء والأرض خطايا وذنوبا استقبلتك بملئهن من المغفرة وغفرت لك ولا أبالي "4 حسنه السيوطي.
فمن جاء مع التوحيد بقراب الأرض خطايا لقيه الله بقرابها مغفرة، فإن أكمل العبد توحيده وأخلصه لله، وقام بشروطه أوجب ذلك مغفرة ما قد سلف من الذنوب، ومنعه من دخول النار، فإن التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب ولو كانت قراب الأرض. وفيه سعة كرم الله وجوده، وكثرة ثواب التوحيد وتكفيره الذنوب. قال المصنف: =(8/54)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : الدعوات (3540).
2 الترمذي : الدعوات (3540).
3 مسلم : الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2687) , وابن ماجه : الأدب (3821) , وأحمد (5/153).
4 الترمذي : الدعوات (3540).(8/55)
ص -36- ... .............................................................................................
= تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة، فإنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان وما بعده تبين لك معنى قول لا إله إلا الله، وتبين لك خطأ المغرورين، وفيه أن الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله، والتنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أن كثيرا ممن يقولها يخف ميزانه، وفيه أنك إذا عرفت حديث أنس عرفت أن قوله في حديث عتبان: " إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله "1 أن ترك الشرك ليس قولها باللسان فقط، فمغفرة الذنوب مشروطة بالسلامة من الشرك قليله وكثيره، فالذي لا يسلم من الأكبر لا تنفعه أصلا، والذي مات ومعه الأصغر تضعف معه، فلا يقوى قولها على تكفير السيئات، والذي معه البدع والمعاصي ينقص ثوابها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الأطعمة (5401) , ومسلم : المساجد ومواضع الصلاة (33).(8/56)
ص -37- ... باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب (1)
وقول الله تعالى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1. (2)
....................................................................
(1) أي هذا باب فيه أدلة من الكتاب والسنة تدل على أن من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، لما ذكر التوحيد وفضله ناسب أن يذكر تحقيقه، فإنه لا يحصل كمال فضله إلا بكمال تحقيقه، وتحقيق التوحيد قدر زائد على ماهية التوحيد، وتحقيقه من وجهين: واجب ومندوب، فالواجب تخليصه وتصفيته عن شوائب الشرك والبدع والمعاصي. فالشرك ينافيه بالكلية، والبدع تنافي كماله الواجب، والمعاصي تقدح فيه وتنقص ثوابه، فلا يكون العبد محققا للتوحيد حتى يسلم من الشرك بنوعيه، ويسلم من البدع والمعاصي، والمندوب تحقيق المقربين، تركوا ما لا بأس به حذرا مما به بأس، وحقيقته هو انجذاب الروح إلى الله، فلا يكون في قلبه شيء لغيره، فإذا حصل تحقيقه بما ذكر، فقد حصل الأمن التام، والاهتداء التام.
(2) وصف الله خليله -عليه السلام- بهذه الصفات التي هي الغاية في تحقيق التوحيد، وأثنى عليه بها فقال: (كان أمة) أي إماما على الحنيفية، قدوة يقتدى به، معلما للخير، أو لما اجتمع فيه من صفات الكمال والخير والأخلاق الحميدة ما يجتمع في أمة استحق اسمها، والقولان متلازمان، فإنه أمة على الحق وحده، وإمام لجميع الحنفاء، يقتدون به في ذلك. (قانتا) أي خاشعا مطيعا، والقنوت دوام الطاعة، والمصلي إذا طال قيامه أو ركوعه أو سجوده فهو قانت، قال تعالى : ( أمن=
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية : 120.(8/57)
ص -38- ... وقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ}. (1)
....................................................................
=: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} 1. (حنيفا) أي منحرفا عن الشرك إلى التوحيد، مقبلا على الله، معرضا عن كل ما سواه، فالحنيف هو المستقيم، وعند العرب ما كان على دين إبراهيم، وانتصب (حنيفا) على الحال.: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 2 فارقهم بالقلب واللسان والبدن، وأنكر ما كانوا عليه من الشرك، وما ذاك إلا من أجل تحقيقه التوحيد، بل ضم إلى ذلك البراءة من المشركين، وعاب ما كانوا عليه وكفرهم، كما قال الله عنه: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} 3، فتبرأ من العابد قبل المعبود، وضم إلى ذلك أن اعتزلهم، فلم يكن منهم بأي اعتبار كان.
قال تعالى: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} 4 إلى قوله: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ}فهذا هو تحقيق التوحيد، وبه تظهر مناسبة الآية للترجمة، حيث وصف خليله بهذه الصفات التي هي الغاية في تحقيق التوحيد، وقد أمرنا بالتأسي والاقتداء به، فقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 5. وقال المصنف: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} 6) لئلا يستوحش سالك الطريق من قلة السالكين، {قَانِتاً لِلَّهِ}لا للملوك ولا للتجار المترفين. {حَنِيفاً}لا يميل يمينا ولا شمالا كفعل العلماء المفتونين.: {وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 7 خلافا لمن كثر سوادهم، وزعم أنه من المسلمين.
(1) وصف المؤمنين السابقين إلى(8/58)
الجنة فأثنى عليهم بهذه الصفات الحميدة، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} 8 خائفون وجلون.: {وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} 9 أي يؤمنون بآياته الكونية والشرعية، ثم طبع على أعمالهم الصالحة بطابع الإخلاص، وهو السلامة من الشرك قليله وكثيره، صغيره وكبيره، فقال: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} 10 لا يعبدون معه غيره، بل يوحدونه، ويعلمون أنه لا إله إلا هو الأحد الصمد، ومن كان كذلك فقد بلغ النهاية من تحقيق التوحيد، =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية : 9.
2 سورة النحل آية : 120.
3 سورة الزخرف آية : 26.
4 سورة مريم آية : 48.
5 سورة الممتحنة آية : 4.
6 سورة النحل آية : 120.
7 سورة النحل آية : 120.
8 سورة المؤمنون آية : 57.
9 سورة المؤمنون آية : 58.
10 سورة المؤمنون آية : 59.(8/59)
ص -39- ... عن حصين بن عبد الرحمن (1) قال: كنت عند سعيد بن جبير (2) فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة (3)؟ فقلت: أنا (4)
....................................................................
= الموجب لدخول الجنة بغير حساب، ومن لا فلا، وذلك لأن الأعمال من حيث هي لا تصح مع الأكبر، فإن سلم من الأكبر فإن الأعمال لا تزكو ولا تنمو إلا بالسلامة من الأصغر.
(1) رحمه الله تعالى، هو ابن عم منصور بن المعتمر بن عبد الله بن ربيعة، وقيل: ابن عتاب بن فرقد السلمي أبو الهذيل الكوفي، أحد الأعلام، ومن كبار أصحاب الحديث، ثقة روى عن جابر وعمارة وسعيد بن جبير وغيرهم، وعنه شعبة والثوري وجماعة، مات سنة 136 هـ، وله 93.
(2) رحمه الله هو ابن هشام الوالبي الأسدي مولاهم، أبو محمد الإمام الفقيه، وكان من جلة أصحاب ابن عباس، روى عنه وعن ابن الزبير وغيرهما، وعنه ابناه عبد الملك وعبد الله، وأبو إسحاق ويعلى وجماعة، قتل بين يدي الحجاج سنة 95 هـ. فما أمهله الله بعده ولم يذق غمضا حتى مات، ورؤي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك ؟ فقال: قتلت بكل قتيل قتلة، وبسعيد بن جبير سبعين قتلة.
(3) أي كوكبا رجم به تلك الليلة، والقائل هو سعيد بن جبير، والكوكب النجم، و "انقض" بالقاف والضاد أي سقط، "والبارحة" هي أقرب ليلة مضت، قال ثعلب وغيره يقال قبل الزوال: رأيت الليلة، وبعد الزوال: رأيت البارحة، وهي مشتقة من برح إذا زال، وفيه فضيلة السلف، وأن ما يرونه من الآيات السماوية لا يعدونه عادة، بل يعلمون أنه آية من آيات الله.
(4) أي قال حصين بن عبد الرحمن: أنا رأيته.(8/60)
ص -40- ... ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة (1) ولكني لدغت، (2) قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت، (3) قال: فما حملك على ذلك؟ (4) قلت: حديث حدثناه الشعبي (5). قال: وما حدثكم؟(6)
....................................................................
(ا) القائل هو حصين، خاف أن يظن الحاضرون أنه رأى الكوكب المنقض وهو يصلي، فنفى عن نفسه إيهام العبادة، وهذا يدل على حرص السلف على الإخلاص، و "أما" بالتخفيف حرف استفهام بمنزلة ألا، فإذا وقعت "إن" بعدها كسرت، أو الهمزة للاستفهام، و "ما" اسم بمعنى شيء، أي ذلك الشيء حق، وعلى هذا تفتح أن بعدها، والأنسب هنا الأول.
(2) بضم اللام وكسر الدال، يقال: لدغته العقرب وذوات السموم، تلدغه لدغا لسعته، أي أصابته بسمها، واللدغ واللسع واللسب بمعنى، أو اللسع بالناب واللدغ بالفم، يعني فأوجب لي اللدغ الاستيقاظ، لا أني كنت أصلي.
(3) لفظ مسلم: "استرقيت" أي طلبت من يرقاني.
(4) سأله عن مستنده في فعله، هل كان مقتديا أولا؟ ففيه طلب الحجة على صحة المذهب.
(5) رحمه الله هو عامر بن شراحيل، وقيل: ابن عبد الله بن شراحيل الشعبي الحميري الهمداني، أبو علي، ولد في خلافة عمر، من كبار فقهاء التابعين وثقاتهم، روى عن علي وسعد بن أبي وقاص وغيرهما، وعنه أبو إسحاق السبيعي وأشعث وخلق، يقول: (( ما كتبت سوداء في بيضاء، ولا حدثني رجل بحديث إلا حفظته )). مات سنة 103 هـ. و "حديث" بالرفع فاعل بفعل محذوف، أي حملني على الاسترقاء حديث إلخ.
(6) يعني الشعبي به من جواز الرقية.(8/61)
ص -41- ... قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب (1) أنه قال: " لا رقية إلا من عين أو حمة "1. (2) قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، (3)
....................................................................
(1) ابن عبد الله بن الحارث الأسلمي المتوفي بمرو سنة 62 هـ.
(2) أي لا رقية أشفى وأولى من رقية العين والحمة، وإنما خص العين والحمة لكونهما تصدران من أنفس خبيثة شريرة روحانية شيطانية، فالرقية بالقوى الرحمانية كالنفث والريق أولى وأشفى ما يدفع الإيماني الروحاني به هذين النوعين، ولا يمنع جواز الرقية من غيرهما من الأمراض؛ لأنه أمر بالرقية مطلقا، وقد رقا صلى الله عليه وسلم ورقي، والعين هي إصابة العائن غيره بعينه إذا نظر إليه، عدوا كان العائن أو حاسدا أو غيرهما، فتؤثر فيه بإذن الله فيمرض بسببها، ومن أسباب العين أن يتعجب الشخص من الشيء يراه فتتبعه نفسه، فيتضرر ذلك الشيء منه، يقال: عانه يعينه فهو عائن، إذا أصابه بالعين، ويندفع شره بأسباب منها: التعوذ بالله من شره، والصبر عليه، وفراغ القلب من الاشتغال به، والإحسان إليه مهما أمكن، والصدقة وتقوى الله والتوكل عليه، والإقبال إليه، ومعرفة أن الأسباب كلها بيده سبحانه. و "الحمة" بضم الحاء وتخفيف الميم: الحية والعقرب وشبههما، أو السم أو الإبرة، وفي رواية: من الحية والعقرب.
(3) أي فعل الحسن من أخذ بما بلغه من العلم وعمل وبه، بخلاف من يعمل على جهل، أو لا يعمل بما يعلم، فذلك المسيء، وهذا الحديث رواه أحمد وابن ماجه عنه مرفوعا، ورواه أحمد وأبو داود والترمذي عن عمران بن حصين مرفوعا، ورجال أحمد ثقات، وأصله في الصحيحين، وفيه فضيلة علم السلف، وحسن أدبهم، وتلطفهم في تبليغ العلم، وأن من عمل بما بلغه فقد أحسن، ولا يتوقف العلم به على معرفة كلام أهل المذاهب وغيرهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الإيمان (220) , وأحمد (1/271).(8/62)
ص -42- ... ولكن حدثنا ابن عباس (1) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " عرضت علي الأمم (2) فرأيت النبي ومعه الرهط (3)، والنبي ومعه الرجل والرجلان (4)، والنبي وليس معه أحد (5)،
....................................................................
(1) عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- ابن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم ، حبر الأمة وترجمان القرآن، دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل "1، فصار آية في العلم والفهم، مات بالطائف سنة 68 هـ. قال المصنف: (( وفيه عمق علم السلف، لقوله: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن كذا وكذا. فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني )) ا هـ. فإن حصين ابن عبد الرحمن رضي الله عنه انتهى إلى ما سمع عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولكن أخبره سعيد بن جبير عن درجة أرفع من تلك الدرجة وهي التوكل.
(2) الله أعلم متى عرضت، وعرضها أن الله تبارك وتعالى أراه مثالها إذا جاءت الأنبياء ومن تبعهم يوم القيامة.
(3) والذي في صحيح مسلم "الرهيط" بالتصغير، والرهط بالسكون ويفتح، الجماعة دون العشرة جمعه أرهط وأرهاط، ولا واحد له من لفظه.
(4) أي أتباعه الواحد والاثنان لقلة متبعه.
(5) أي يبعث في قومه فلا يتبعه منهم أحد، بل منهم من قتله قومه، فإن الناجي من الأمم هم القليل، ولكن هم السواد الأعظم، وإن كانوا أقل القليل، فإنهم الأعظمون قدرا عند الله وإن قلوا، فليحذر المسلم أن يغتر بالكثرة، قال المصنف: (( وفيه ثمرة هذا العلم، وهو عدم الاغترار بالكثرة، وعدم الزهد في القلة، وأن كل أمة تحشر وحدها مع نبيها، والمراد أمة الإجابة لا أمة الدعوة )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الوضوء (143) , ومسلم : فضائل الصحابة (2477).(8/63)
ص -43- ... إذ رفع لي سواد عظيم (1) فظننت أنهم أمتي (2)، فقيل لي: هذا موسى وقومه (3)، فنظرت فإذا سواد عظيم (4) فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب (5) " 1 .
....................................................................
(1) السواد: ضد البياض، أي رفع لي أشخاص كثيرة، من بعد لا أدري من هم.
(2) لكثرتهم، وإنما ظن ذلك لما أوحي إليه وأطلع عليه من كثرة أمته، ولم يعرفهم النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الأشخاص التي ترى من بعد لا يدرك منها إلا الصورة.
(3) أي موسى بن عمران كليم الرحمن. وقومه: أتباعه على دينه من بني إسرائيل، ففيه فضيلة أتباعه منهم، وأنهم كثيرون جدا، بل هم أكثر الأمم تابعا لنبيها بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} 2 أي في زمانهم، وذلك أن في زمانهم وقبله ممن كفر خلقا لا يحصون كحزب جالوت وبختنصر وغيرهم.
(4) وفي رواية: "قد سد الأفق". وفي صحيح مسلم: " ولكن انظر إلى الأفق فإذا سواد يملأ الأفق، ثم قيل لي: انظر ها هنا وها هنا في آفاق السماء فإذا سواد قد ملأ الأفق "3.
(5) لتحقيقهم التوحيد، وفيه فضيلة هذه الأمة وأنهم أكثر الأمم تابعا لنبيهم صلى الله عليه وسلم ، وقد كثروا في عهد الصحابة -رضي الله عنهم- وفي وقت الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، فملؤوا القرى والأمصار والقفار، وكثر فيهم العلم، وما زالوا على السنة في القرون الثلاثة المفضلة. وقد قلوا في آخر الزمان حقيقة لا دعوى، لا سيما وقد كثرت فيهم عبادة غير الله، واستحلال كثير من المحرمات، قال المصنف: وفيه فضيلة هذه الأمة بالكمية والكيفية والكمية الكثرة والعدد، والكيفية =(8/64)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الإيمان (220) , وأحمد (1/271).
2 سورة الجاثية آية : 16.
3 البخاري : الطب (5705) , ومسلم : الإيمان (220) , وأحمد (1/271).(8/65)
ص -44- ... ثم نهض فدخل منزله (1)، فخاض الناس في أولئك (2) فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، (3) وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئا(4)،
....................................................................
= فضيلتهم في صفاتهم، وفي رواية: " ويدخل الجنة من هؤلاء من أمتك سبعون ألفا "1. وفي رواية: " تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر "2. وأخرج أحمد والبيهقي وغيرهما: " فاستزدت ربي فزادني مع كل ألف سبعين ألفا "3. قال الحافظ: (( وسنده جيد )).
ولمسلم: " مع كل واحد منهم سبعون ألفا "4 .
(1) أي قام من مجلسه الذي حدثهم فيه بهذا الحديث، فدخل منزله أي داره، وله تسعة أبيات بحجرها من جريد مشورة بمسوح الشعر عن يسار المصلي، قبل أن يزاد المسجد، ثم أدخلت فيه بعد ذلك.
(2) أي تباحث الحاضرون وأفاضوا وتناظروا واختلفوا في شأن السبعين ألفا بأي عمل نالوا هذه الدرجة، فإنهم عرفوا أنهم إنما نالوا ذلك بعمل هو أفضل الأعمال. وفي لفظ: فتذاكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيه إباحة المناظرة والمباحثة في معاني نصوص الشرع على وجه الاستفادة ولو كان بغير علم، وجواز الاجتهاد فيما لم يكن فيه دليل، لكن لا يجزم بصواب نفسه، قال المصنف: (( وفيه عمق علم السلف؛ لمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل. وفيه حرصهم على الخير )).
(3) فإنهم أفضل الخلق بعد الرسل، لا كان ولا يكون مثلهم.
(4) من أن لهم مزية على من ولد في الجاهلية وهو كذلك، وقد يكون من أدركته الجاهلية أفضل كما في الحديث: " خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا "5. وكما وقع لعمر وخالد وغيرهما.(8/66)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الطب (5705) , ومسلم : الإيمان (220) , والترمذي : صفة القيامة والرقائق والورع (2446) , وأحمد (1/271).
2 البخاري : الرقاق (6542) , ومسلم : الإيمان (216) , وأحمد (2/400 ,2/502).
3 أحمد (2/359).
4 مسلم : صلاة المسافرين وقصرها (770) , والترمذي : الدعوات (3420) , والنسائي : قيام الليل وتطوع النهار (1625) , وأبو داود : الصلاة (767) , وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (1357) , وأحمد (6/156).
5 البخاري : أحاديث الأنبياء (3353) , ومسلم : الفضائل (2378) , وأحمد (2/257 ,2/260 ,2/391 ,2/431 ,2/438 ,2/485 ,2/498 ,2/539).(8/67)
ص -45- ... وذكروا أشياء (1)، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه (2) فقال: " هم الذين لا يسترقون (3) ولا يكتوون (4)
....................................................................
(1) أي غير هاتين الخصلتين. وفي رواية: قالوا: أما نحن فولدنا في الشرك، ولكن آمنا بالله ورسوله، ولكن هؤلاء هم أبناؤنا.
(2) بما تفاوضوا فيه من أمر هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب.
(3) أي لا يطلبون من يرقيهم استسلاما للقضاء وتلذذا بالبلاء، وهكذا ثبت في الصحيحين، وفي رواية لمسلم: "ولا يرقون" قال شيخ الإسلام: هذه الزيادة وهم من الراوي، لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم : "ولا يرقون"، وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الرقى فقال: " من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل "1. وقال: " لا بأس بالرقى إذا لم تكن شركا "2. وقد رقى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم ، ورقى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، والفرق بين الراقي والمسترقي أن المسترقي سائل مستعط ملتفت إلى غير الله بقلبه، والراقي محسن، وإنما المراد وصف السبعين ألفا بتمام التوكل، فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم.
(4) أي لا يسألون غيرهم أن يكويهم، كما لا يسألون غيرهم أن يرقيهم، وقوله: "ولا يكتوون" أعم من أن يسألوا ذلك أو يفعل بهم باختيارهم، والكي في نفسه جائز، كما في الصحيح عن جابر " أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى أبي بن كعب طبيبا فقطع له عرقا وكواه "3. " وكوى أنس من ذات الجنب، والنبي صلى الله عليه وسلم حي "4. رواه البخاري. وفي الصحيح عن ابن عباس مرفوعا: " الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنهى أمتي عن الكي "5. وفي لفظ: " وما أحب أن أكتوى"6.
قال ابن القيم: (( قد تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع: أحدها فعله، والثاني عدم محبته، والثالث الثناء على من تركه، والرابع النهي عنه، ولا تعارض بينها؛ =(8/68)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : السلام (2199).
2 مسلم : السلام (2200) , وأبو داود : الطب (3886).
3 مسلم : السلام (2207) , وأبو داود : الطب (3864) , وابن ماجه : الطب (3493) , وأحمد (3/315).
4 البخاري : الطب (5721).
5 البخاري : الطب (5680) , وابن ماجه : الطب (3491) , وأحمد (1/245).
6 البخاري : الطب (5683) , ومسلم : السلام (2205) , وأحمد (3/343).(8/69)
ص -46- ... ولا يتطيرون (1) وعلى ربهم يتوكلون (2) .
....................................................................
= فإن فعله له يدل على جوازه، وعدم محبته لا يدل على المنع منه، وأما الثناء على تاركه فيدل على أن تركه أولى وأفضل وأكمل، أي في تحقيق التوحيد، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: هم الذين أخلصوا أعمالهم وتركوا ما لا بأس به، حذرا مما به البأس. وأما النهي عنه فعلى سبيل الاختيار والكراهة )) ا هـ.
فمن تركهما توكلا لا تجلدا ولا تصبرا فهو من كمال تحقيق التوحيد، ومن تركهما تجلدا وتصبرا لم يكن تركه من التوحيد في شيء فضلا عن أن يكون من تحقيقه.
(1) أي لا يتشاءمون بالطير ونحوها. ويأتي بيان الطيرة في بابها إن شاء الله تعالى.
(2) فتركوا الشرك رأسا ولم ينزلوا حوائجهم بأحد فيسألونه الرقية فما فوقها، وتركوا الكي وإن كان يراد للشفاء، والحامل لهم على ذلك قوة توكلهم على الله، وتفويض أمورهم إليه، وثقتهم به، ورضاهم عنه، وصدق الالتجاء إليه، وإنزال حوائجهم به سبحانه وتعالى، والاعتماد بالقلب الذي هو نهاية تحقيق التوحيد، وهو الأصل الجامع الذي تفرعت عنه تلك الأفعال والخصال، وعطفه على تلك من عطف العام على الخاص؛ لأن كل واحدة منها صفة خاصة من التوكل وهو أعم من ذلك، والحديث لا يدل على أنهم لا يباشرون الأسباب أصلا، فإن مباشرة الأسباب في الجملة أمر فطري ضروري، بل نفس التوكل مباشرة لأعظم الأسباب، وإنما المراد أنهم يتركون الأمور المكروهة مع حاجتهم إليها توكلا على الله كالاكتواء والاسترقاء، وأما مباشرة الأسباب والتداوي على وجه لا كراهة فيه، فغير قادح في التوكل، فلا يكون تركه مشروعا؛ لما في الصحيحين: " ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله "1. وأخرج أحمد " يا عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد، قالوا: ما هو؟ قال: الهرم" "2 . =(8/70)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الطب (5678) , وابن ماجه : الطب (3439).
2 الترمذي : الطب (2038) , وأبو داود : الطب (3855) , وابن ماجه : الطب (3436).(8/71)
ص -47- ... فقام عكاشة بن محصن (1) فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت منهم(2). ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم (3)، قال: سبقك بها عكاشة "1 (4).
....................................................................
قال ابن القيم: (( وقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات، والأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع ألم الجوع والعطش، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب، وتعطيلها يقدح في التوكل، فلا يجعل العبد عجزه توكلا، ولا توكله عجزا )).
(1) بضم العين وتشديد الكاف، ومحصن بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الصاد ابن حرثان بضم الحاء ابن قيس بن مرة الأسدي، من السابقين، شهد بدرا، واستشهد في قتال الردة مع خالد بيد طليحة سنة 12 هـ.
(2) وفي رواية للبخاري: " اللهم اجعله منهم "2. فقتل شهيدا. وفيه طلب الدعاء من الفاضل لكن في حياته، أما بعد وفاته فشرك أكبر. وفي رواية: منهم أنا؟ قال: "نعم".
(3) ذكره مبهما، ولا حاجة إلى البحث عن اسمه.
(4) أي قال ذلك سدا للذريعة لئلا يتتابع الناس فيسأل من ليس أهلا فيرد، فيعرفه الحاضرون، وسبق إلى الأمر بادر إليه، وسبقه إليه تقدمه وخلفه.
فال المصنف: (( وفيه استعمال المعاريض، وحسن خلقه صلى الله عليه وسلم حيث لم يقل أنت منهم، ولا لست منهم )). والحديث أورده المصنف غير معزو، وقد رواه البخاري مختصرا ومطولا، ومسلم واللفظ له، والترمذي وغيرهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الإيمان (218) , وأحمد (4/436 ,4/443).
2 البخاري : اللباس (5811) , ومسلم : الإيمان (216) , وأحمد (2/400 ,2/456 ,2/502).(8/72)
ص -48- ... باب الخوف من الشرك (1)
وقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 1 (2).
....................................................................
(1) أي باب وجوب الخوف من الشرك وتحتمه والتحذير منه، وبيان ما يتعلق به من الخسران الأبدي والعذاب السرمدي، وخاف الشيء: فزع منه واتقى ضد أمن. لما ذكر التوحيد وفضله وتحقيقه ناسب أن يذكر الخوف من ضده وهو الشرك، ليحذره المؤمن ويخافه على نفسه، قال حذيفة: " كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه ". وفي الحديث: " من أمن الله على دينه طرفة عين سلبه إياه ". فيحذر المؤمن زوال تلك النعمة، وكان صلى الله عليه وسلم يكثر من قول: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. قيل له: يا رسول الله وإن القلوب لتتقلب؟ قال: "إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء" 2. فإن شاء سبحانه أقامها على دينه، وإن شاء أزاغها، وحقيقة الخوف من الشرك صدق الالتجاء إلى الله والاعتماد عليه والابتهال والتضرع إليه، والبحث والتفتيش عن الشرك ووسائله وذرائعه، ليسلم من الوقوع فيه.
(1) أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به، أي عادل غيره به فيما يختص به سبحانه، وصارف خالص حقه لغيره، ومشبه المخلوق العاجز بمن له الكمال المطلق من جميع الوجوه، وإذا كان من مات على الشرك لا يغفر له، وجب على العبد شدة الخوف من الشرك الذي هذا شأنه عند الله، ومع كونه أعظم الذنوب عند الله سبحانه، ولا يغفر لمن لقيه به فهو هضم للربوبية، وتنقص للألوهية، وسوء ظن برب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية : 48.
2 الترمذي : القدر (2140) , وابن ماجه : الدعاء (3834).(8/73)
ص -49- ... {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 1 (1). وقال الخليل -عليه السلام-:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} (2) 2 (3).
....................................................................
(1) أي يغفر ما دون الشرك من الذنوب لمن يشاء من عباده، وفي الصحيح: أنه صلى الله عليه وسلم أعطى ثلاثا منها " وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئا المقحمات "3 يعني الكبائر، ففيه فضل السلامة من الشرك قليله وكثيره صغيره وكبيره، فتبين بهذه الآية ونحوها أن الشرك أعظم الذنوب؛ لأن الله أخبر أنه لا يغفره لمن لم يتب منه، وأما ما دونه من الذنوب فهو داخل تحت المشيئة، إن شاء غفر لمن لقيه به، وإن شاء عذبه، ولا يجوز أن يحمل قوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 4 على التائب؛ فإن التائب من الشرك مغفور له بنص القرآن، وفي الآية رد على الخوارج المكفرين بالذنوب، وعلى المعتزلة القائلين بتخليد أصحاب الكبائر في النار.
(2) هو إبراهيم بن آزر بن ناحور بن شاروخ بن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، ولد ببابل قبل عيسى بألفي عام، وهاجر إلى الشام، وتوفي به بعد أن عاش 157 سنة. ومعنى إبراهيم بالسريانية أب رحيم. والخلة أخي من المحبة؛ ولهذا اختص بها الخليلان إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم. ويأتي قوله: " فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا "5.
(3) أي اجعلني وبني في حيز وجانب عن عبادة الأصنام، وباعد بيننا وبينها، وهذا مما يخيف العبد، فإذا كان الخليل -عليه السلام- إمام الحنفاء الذي جعله الله أمة وحده وابتلي بكلمات فأتمهن، وقد كسر الأصنام بيده، يخاف أن يقع في الشرك، فكيف يأمن الوقوع فيه من هو دونه بمراتب، بل أولى بالخوف منه وعدم الأمن بالوقوع فيه. قال إبراهيم التيمي: (( ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم )). وقد وقع فيه الأذكياء من هذه الأمة بعد القرون(8/74)
المفضلة، فبنيت المساجد والمشاهد على القبور وغيرها، وصرفت لها العبادات بأنواعها، وأشبهوا ما وقع في الجاهلية وأعظم =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية : 48.
2 سورة إبراهيم آية : 35.
3 مسلم : الإيمان (173) , والترمذي : تفسير القرآن (3276) , والنسائي : الصلاة (451) , وأحمد (1/387 ,1/422).
4 سورة النساء آية : 48.
5 مسلم : المساجد ومواضع الصلاة (532).(8/75)
ص -50- ... وفي الحديث: " أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه فقال: الرياء "1. (1)
....................................................................
= واتخذوا ذلك دينا، وهي أوثان وأصنام، فإن الصنم ما كان مصورا على أي صورة، والوثن ما عبد مما ليس له صورة كالحجر والأبنية، وقد يسمى الصنم وثنا، كما قال الخليل: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً}2. فالأصنام أوثان كما أن القبور بالنص أوثان، فالوثن أعم.
وقال بعض العلماء: كل ما عبد من دون الله، بل كل ما يشغل عن الله يقال له صنم، وقد بين الخليل -عليه السلام- السبب الذي أوجب له الخوف من ذلك بقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ} 3. فإذا عرف الإنسان ذلك أوجب له الخوف أن يقع فيما وقع فيه الكثير، ولا يأمن الوقوع فيه إلا جاهل به، وبما يخلص منه من العلم بالله، وبما بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم من توحيده والنهي عن الشرك به.
(1) يصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل إليه، أي أشد خوف أخافه عليكم، وهذا من شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ورأفته ورحمته هم، فلا خير إلا دلهم عليه ولا شر إلا حذرهم عنه، وهذا الحديث أورده المصنف مختصرا غير معزو، وقد رواه أحمد والطبراني والبيهقي بأسانيد جيدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله تعالى يوم القيمة إذا جازى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء "4. والشرك قسمان: أكبر وأصغر، وبينهما فرق في الحكم والحد، فالأكبر: أن يسوي غير الله بالله فيما هو من خصائص الله كالمحبة، وحكمه أنه لا يغفر =(8/76)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (5/429).
2 سورة العنكبوت آية : 17.
3 سورة إبراهيم آية : 36.
4 أحمد (5/428).(8/77)
ص -51- ... وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار "1. رواه البخاري (1).
....................................................................
= لصاحبه أبدا إلا بالتوبة، وأنه يحبط جميع الأعمال، وأن صاحبه خالد مخلد في النار. والأصغر: هو ما أتي في النصوص أنه شرك، ولم يصل إلى حد الشرك الأكبر، وحكمه أنه لا يغفر لصاحبه إلا بالتوبة لعموم {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} 2، وأنه يحبط العمل الذي قارنه، ولا يوجب التخليد في النار، ولا ينقل عن الملة، ويدخل تحت الموازنة، إن حصل معه حسنات راجحة على ذنوبه دخل الجنة وإلا دخل النار، وإذا كان صلى الله عليه وسلم يخافه على أصحابه الذين وحدوا الله ورغبوا إلى ما أمروا به، وهاجروا وجاهدوا وعرفوا ما دعاهم إليه نبيهم، فكيف لا يخافه وما فوقه من لا يدانيهم، ومن لا نسبة له إليهم في علم ولا عمل؟ خصوصا إذا عرف أن أكثر الناس اليوم بل كثير من علماء الأمصار لا يعرفون من التوحيد إلا ما أقر به المشركون، لم يعرفوا معنى الإلهية التي نفتها كلمة الإخلاص عن كل ما سوى الله، ويقولون: من قالها فهو المسلم وإن فعل ما فعل.
فينبغي للإنسان أن يحذر كل الحذر، ويخاف أن يقع في الأكبر إذا كان الأصغر مخوفا على الصالحين، وهو وجه إيراده له مع أن الترجمة تشمل النوعين، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن أمته بوقوع الشرك، وقد عمت به البلوى في أكثر الأقطار، حتى اتخذوه دينا مع ظهور البراهين في النهي عنه والتخويف منه. وفيه أن الرياء من الشرك، وأنه من الأصغر، وأنه أخوف ما يخاف منه على الصالحين.
(1) وهذا الحديث فيه أيضا التحذير من الشرك والتخويف منه، فمن جعل لله ندا في العبادة يدعوه ويسأله ويستغيث به، نبيا كان أو غيره دخل النار. قال ابن القيم:
والشرك فاحذره فشرك ظاهر ... ذا القسم ليس بقابل الغفران(8/78)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : تفسير القرآن (4497) , ومسلم : الإيمان (92) , وأحمد (1/402 ,1/407 ,1/464).
2 سورة النساء آية : 48.(8/79)
ص -52- ... ولمسلم عن جابر رضي الله عنه (1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة (2) ، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار " (3) 1 .
....................................................................
وهو اتخاذ الند للرحمن أيا ... كان من حجر ومن إنسان
يدعوه أو يرجوه ثم يخافه ... ويحبه كمحبة الديان
والند المثل والشبيه، يقال: فلان ند فلان ونديده، أي مثله وشبيهه، واتخاذ الند على قسمين: أن يجعل لله شريكا في أنواع العبادة أو بعضها، فهذا شرك أكبر، والثاني ما كان من نوع الشرك الأصغر، كقول الرجل: ما شاء الله وشئت، ولولا الله وأنت، وكيسير الرياء، قال الشيخ: وكبخله - لحب المال - ببعض الواجب هو شرك أصغر، وحبه لما يبغضه الله، حتى يقدم هواه على محبة الله شرك أصغر.
(1) ابن عبد الله بن عمرو بن حرام السلمي الأنصاري، صحابي جليل أحد المكثرين عن النبي صلى الله عليه وسلم وعنه جماعة، ومناقبه مشهورة، ولأبيه مناقب مشهورة مات بالمدينة سنة 74 هـ، وله 94 سنة.
(2) أي من مات لم يتخذ مع الله شريكا في الإلهية، ولا في الخلق، ولا في العبادة دخل الجنة، ففيه فضيلة السلامة منه. ومن حديث أبي ذر: " أتاني جبرائيل فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق "2، وفي الرابعة: " على رغم أنف أبي ذر "3. ودخول من مات غير مشرك الجنة مقطوع به، لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مات مصرا عليها دخلها أولا، وإلا فهو تحت المشيئة، فإن عفا عنه دخلها أولا، وإلا عذب ثم خرج من النار وأدخل الجنة.
(3) فإذا كان التغيظ في النهي عن الشرك بهذه الشدة فينبغي شدة الخوف منه. وقوله: "شيئا" نكرة تعم قليل الشرك وكثيره، أما الأكبر فلا عمل معه البتة =(8/80)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : العلم (129) , وأحمد (3/157 ,3/244).
2 البخاري : الجنائز (1237) , ومسلم : الإيمان (94) , والترمذي : الإيمان (2644) , وأحمد (5/159 ,5/161).
3 البخاري : اللباس (5827) , ومسلم : الإيمان (94).(8/81)
ص -53- ... .............................................................................................
= ويوجب الخلود في النار، ولا فرق بين الكافر عنادا وغيره، ولا بين من انتسب إلى ملة الإسلام أو خالفها، ومن المعلوم بالضرورة من الدين المجمع عليه عند أهل السنة أن من مات على الشرك لا يدخل الجنة، ولا يناله من الله رحمة، ويخلد في النار أبد الآباد. وأن من مات لا يشرك بالله شيئا يدخل الجنة، وإن جرت عليه قبل ذلك أنواع من العذاب والمحن. وأما الشرك الأصغر كيسير الرياء، وقول الرجل: ما شاء الله وشئت، ومالي إلا الله وأنت، ونحو ذلك فيطلق عليه الشرك كما في حديث: " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك "1 ونحو ذلك، ولكن لا يخرج بذلك من الملة بالكلية، ولا يستحق اسم الكفر على الإطلاق، فهو أخف من الأكبر، وقد يكون أكبر بحسب حال قائله ومقصده، واقتصر على نفي الشرك لاستدعائه التوحيد بالاقتضاء، واستدعائه إثبات الرسالة باللزوم، فالمراد من مات حال كونه مؤمنا بجميع ما يجب الإيمان به إجمالا في الإجمالي، وتفصيلا في التفصيلي، وفيه قرب الجنة والنار، والجمع بن قربهما في حديث واحد متقارب في الصورة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : النذور والأيمان (1535) , وأبو داود : الأيمان والنذور (3251) , وأحمد (2/34 ,2/69 ,2/86 ,2/125).(8/82)
ص -54- ... باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله (1)
وقول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (2) الآية 1
....................................................................
(1) لما ذكر المصنف التوحيد وفضله وتحقيقه وما يوجب الخوف من ضده، نبه بهذه الترجمة على أنه لا ينبغي لمن عرف ذلك أن يقتصر على نفسه، فإن الرجل إذا علم وجب عليه العمل، فإذا علم وعمل وجبت عليه الدعوة إلى الله، حتى يكون من ورثة الأنبياء وعلى طريقهم وطريق أتباعهم، قال الحسن لما تلا : {مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ}2، قال: " هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحا في إجابته "، وقال: {إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 3 هذا خليفة الله. والدعوة إلى الله هي الدعوة إلى توحيده والإيمان به وبما جاءت به رسله، وذلك يتضمن الدعوة إلى أركان الإسلام وأصول الإيمان والإحسان، بل الأمر بما أمر به، والنهي عما نهى عنه، ولا تتم إلا بذلك، وأول ما يبدأ به الدعوة إلى التوحيد الذي هو معنى الشهادة، كما كان شأن المرسلين وأتباعهم كالمصنف رحمه الله، وكل واحد من الأمة يجب عليه أن يقوم من الدعوة بما يقدر عليه إذا لم يقم به غيره.
(2) يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل: يا محمد هذه الدعوة التي أدعو إليها والطريقة التي أنا عليها من الدعاء إلى توحيد الله وإخلاص العبادة لله وحده طريقتي ومسلكي ودعوتي إلى الله وحده لا شريك له، لا إلى حظ ولا رياسة، بل إلى الله، على بصيرة بذلك ويقين وبرهان وعلم مني به (أنا ومن =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يوسف آية : 108.
2 سورة فصلت آية : 33.
3 سورة فصلت آية : 33.(8/83)
ص -55- ... .........................................................................................
= اتبعني) أي ويدعو إليه على بصيرة أيضا من اتبعني وصدقني وآمن بي، والبصيرة المعرفة التي يميز بها بين الحق والباطل، وهي الخصيصة التي اختص بها الصحابة عن سائر الأمة وهي أعلى درجات العلماء. (وسبحان الله) أي أنزه الله وأعظمه وأقدسه وأجله عن أن يكون له شريك في ملكه أو نظير أو نديد، تعالى وتقدس عن ذلك علوا كبيرا. {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} 1 في الاعتقاد والعمل والمسكن، لست منهم ولا هم مني، بأي نسبة كانوا بحيث لا يعد منهم بوجه من الوجوه، إن نظر في الاجتماعات فليس منهم، وإن جلسوا في المجالس فليس منهم، وإن خرجوا إلى المحافل فليس منهم، فليس منهم في أي حال من الأحوال، وفيه وجوب الهجرة، وهو معلوم بالكتاب والسنة والإجماع، وبذلك يظهر وجه المطابقة بين الآية والترجمة. والنصوص في الدعوة إلى الله كثيرة كقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 2. وقوله:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} 3. وهي واجبة على من اتبعه أن يدعو إلى الله كما دعا إليه. وذكر ابن القيم أن مراتب الدعوة ثلاثة أقسام: وذلك بحسب حال المدعو، فإنه إما أن يكون طالبا للحق محبا له مؤثرا له على غيره إذا عرفه، فهذا يدعى بالحكمة، ولا يحتاج إلى موعظة وجدال، وإما أن يكون مشتغلا بضد الحق لكن لو عرفه آثره واتبعه، فهذا يحتاج إلى الموعظة بالترغيب والترهيب، وإما أن يكون معاندا معارضا، فهذا يجادل بالتي هي أحسن، فإن رجع وإلا انتقل معه إلى الجلاد إن أمكن.
ولا بد في الدعوة إلى الله من شرطين: أن تكون خالصة لوجه الله، وأن تكون على وفق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن يكون الداعي عارفا بما يدعو إليه، فإن أخل بالأول كان مشركا، وإن أخل(8/84)
بالثاني كان مبتدعا.
وقال الشيخ: يحتاج إلى شروط كما في الحديث، ينبغي لمن أمر بالمعروف ونهى عن المنكر أن يكون فقيها فيما يأمر به، فقيها فيما ينهى عنه، رفيقا فيما يأمر به، رفيقا فيما ينهى عنه، =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية : 79.
2 سورة النحل آية : 125.
3 سورة فصلت آية : 33.(8/85)
ص -56- ... وعن ابن عباس رضي الله عنهما " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن (1). قال له: إنك تأتي قوما من أهل الكتاب (2) فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله "1 (3)
....................................................................
= حليما فيما يأمر به، حليما فيما ينهى عنه، فالفقه قبل الأمر: ليعرف المعروف فيأمر به، ويعرف المنكر فينكره، والرفق عند الأمر: ليسلك أقرب الطرق إلى تحصيل المقصود، والحلم بعد الأمر: ليصبر على أذى المأمور المنهي.
وقال المصنف: (( فيه أن الدعوة إلى الله طريق من اتبعه صلى الله عليه وسلم ، وفيه التنبيه على الإخلاص؛ لأن كثيرا لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه، وأن البصيرة من الفرائض، وأن من دلائل حسن التوحيد كونه تنزيها لله عن المسبة. وأن من دلائل قبح الشرك كونه مسبة لله، وفيه إبعاد المسلم عن المشركين ألا يصير منهم ولو لم يشرك )).
(1) أرسله داعيا إلى الله سنة عشر قبل حجه صلى الله عليه وسلم ، ولم يزل على اليمن واليا وقاضيا إلى أن قدم في خلافة أبي بكر، ثم توجه إلى الشام فمات بها. قال الشيخ: (( ومن فضائله أنه بعثه إلى اليمن مبلغا عنه ومفقها ومعلما وحاكما )) ا هـ. وفيه مشروعية بعث الإمام الدعاة إلى الجهات يدعون إلى الله، بل يتعين عليه بتأكد.
(2) يعني بذلك اليهود والنصارى لأنهم كانوا في اليمن أكثر من مشركي العرب، وقد أوتوا علوما في أصول الأديان وفروعها، وليسوا أميين كسائر العرب، فنبهه على ذلك ليتهيأ لمناظرتهم، يعني خذ أهبتك لهم، فإنهم أهل علم، ليسوا كغيرهم. وقال الحافظ: (( هو كالتوطئة للوصية ليجمع همته عليها )).
(3) فإنه لا بد أن يأتوك بعلوم وأشياء، ولكن لا يكن همك إلا هذا الشأن. و "شهادة" بالرفع على أنه اسم يكن مؤخر، و"أول" خبرها، ويجوز العكس.(8/86)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الزكاة (1395) , ومسلم : الإيمان (19) , والترمذي : الزكاة (625) , والنسائي : الزكاة (2435) , وأبو داود : الزكاة (1584) , وابن ماجه : الزكاة (1783) , وأحمد (1/233) , والدارمي : الزكاة (1614).(8/87)
ص -57- ... وفي رواية: " إلى أن يوحدوا الله (1)، فإن هم أطاعوك لذلك (2)
....................................................................
(1) هذه الرواية في كتاب التوحيد من صحيح البخاري، أشار بها المصنف إلى التنبيه على معنى شهادة ألا إله إلا الله، فإن معناها توحيد الله بالعبادة ونفي عبادة ما سواه، وفي رواية: " فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله "1، وذلك هو الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، وفي رواية للبخاري: " أدعهم إلى شهادة ألا إله إلا الله وأني رسول الله "2، فهذه الروايات يفسر بعضها بعضا، والمراد بذلك العلم والعمل بما دلت عليه، من إفراد الله بالعبادة، بخلاف من قال: أول واجب النظر في الوجود، أو القصد إلى النظر، فلا واجب على المكلفين أعظم من التوحيد علما وعملا، ومن أدلته هذا النص وغيره؛ فإن قوله: " فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله "3 مع قوله: "إنك تأتي قوما من أهل الكتاب" يعني أنهم أهل علوم وكتب وحجج، ومع ذلك أمره أن يدعوهم إلى إفراد الله بالعبادة، لكونهم محتاجين إلى أن تبين لهم ذلك، فإن منهم من يجهله، أو يعلمه ولكن الشهوة تمنعه من ذلك، وحب المال والجاه والرياسة والعياذ بالله، وفيه أنه لا يحكم بإسلام شخص إلا بالنطق بالشهادتين كما هو مذهب أهل السنة.
وقال الشيخ: قد علم بالإضرار من دين الرسول، واتفقت الأمة أن أصل الإسلام، وأول ما يؤمر به الخلق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فبذلك يصير الكافر مسلما، وإذا لم يتكلم مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين. قال المصنف: (( وفيه أن التوحيد أول واجب، والنبي صلى الله عليه وسلم أخذ عشر سنين كلها في الدعوة إلى التوحيد، والنهي عن ضده وهو الشرك، وفيه أن الإنسان قد يكون من أهل العلم، وهو لا يعرفها، أو يعرفها ولا يعمل بها، والتنبيه على التعليم بالتدريج، والبداءة بالأهم فالأهم )).
(2) أي شهدوا وانقادوا لذلك،(8/88)
وكفروا بما يعبد من دون الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الزكاة (1458) , ومسلم : الإيمان (19) , وأبو داود : الزكاة (1584) , وابن ماجه : الزكاة (1783).
2 البخاري : الزكاة (1395) , ومسلم : الإيمان (19) , والترمذي : الزكاة (625) , والنسائي : الزكاة (2435) , وأبو داود : الزكاة (1584) , وابن ماجه : الزكاة (1783) , وأحمد (1/233) , والدارمي : الزكاة (1614).
3 البخاري : الزكاة (1458) , ومسلم : الإيمان (19).(8/89)
ص -58- ... فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة (1)، فإن هم أطاعوك لذلك (2) فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم (3)،
....................................................................
(1) ثنى بالأعمال بعد التوحيد لأنها لا تصح بدونه، فهو شرط لصحة جميع الأعمال. وفيه أن الصلاة أول واجب بعد الشهادتين، وأن المطالبة بالفرائض في الدنيا لا تكون إلا بعد الإسلام، فإن حصل دعي إلى الصلاة، وإلا لم يدع إليها، فإن الصلاة وغيرها من سائر الأعمال لا تصح بدونه، ولا يلزم من ذلك ألا يكون الكفار مخاطبين بها، ويزاد في عذابهم، وجمهور العلماء على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، المأمور بها والمنهي عنها، كالتوحيد إجماعا لقوله: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} 1 .
(2) وأقاموا الصلاة الشرعية، وفي رواية الفضل بن العلاء: "فإذا صلوا".
(3) فيه دليل على أن الزكاة أوجب الأركان بعد الصلاة، وقرنها الله بالصلاة في أكثر من ثمانين موضعا من كتابه، منها: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ}2. وعن ابن مسعود مرفوعا: " أمرت بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ومن لم يزك فلا صلاة له". وحديث: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة "3. وفيه أنها تؤخذ من الأغنياء فترد على الفقراء، وهو محتمل لفقراء المسلمين، وفقراء تلك البلدة، والمحلة، والقبيلة، والطائفة. وأنه يكفي إخراجها في صنف واحد، بل دلت السنة على جواز دفعها إلى شخص واحد، وإنما خص الفقراء لأنهم أكثر من تدفع إليهم، ولأن حقهم آكد من بقية الأصناف الثمانية. وفيه أن الإمام أو نائبه هو الذي يتولى قبضها، ومن امتنع منها أخذت منه قهرا.(8/90)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المدثر آية : 43.
2 سورة البينة آية : 5.
3 البخاري : الإيمان (25) , ومسلم : الإيمان (22).(8/91)
ص -59- ... فإن هم أطاعوك لذلك (1)، فإياك وكرائم أموالهم (2)، واتق دعوة المظلوم (3)؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب " (4). أخرجاه1.
....................................................................
(1) أي أدوا الزكاة المشروعة فاقبلها منهم، وفي رواية الفضل: " فإذا أقروا بذلك فخذ منهم "2.
(2) في أخذ الزكاة، بنصب "كرائم" على التحذير، جمع كريمة خيار المال، وفي المطالع: هي الجامعة للكمال الممكن في حقها، من غزارة لبن، وجمال صورة، أو كثرة لحم وصوف. وفيه أنه يحرم على العامل أخذ كرائم الأموال، ويحرم على صاحبه إخراج شراره، بل الوسط; لأن ذلك سبب لإخراجها بطيب نفس، ونية صحيحة، فإن طابت نفسه بالكريمة جاز.
(3) أي اجعل العدل وترك الظلم وقاية بينك وبين الله تقيك دعوة المظلوم، والمتقي من اتقى الله في عمله، ففعل كما أمر خالصاً لله. وفيه التنبيه على التحذير من جميع أنواع الظلم، فيجب على كل عامل وغيره أن يتحرى العدل فيما استعمل فيه، فلا يظلم بأخذ زيادة على الحق، ولا يحابي بترك شيء منه.
(4) أي فإن دعوة المظلوم لا ترد ولا تحجب عن الله (. وفيه مشروعية بعث الإمام العمال لجباية الزكاة، وأنه يعظ عماله وولاته، ويأمرهم بتقوى الله، وينهاهم عن الظلم، ولم يذكر في هذا الحديث الصوم والحج. قال الشيخ: أجاب بعض الناس أن بعض الرواة اختصره وليس كذلك، ولكن ذلك بحسب نزول الفرائض، وأول ما فرض الله الشهادتان ثم الصلاة، ولهذا لم يذكر وجوب الحج في عامة الأحاديث، إنما جاء في الأحاديث المتأخرة، أو أنه يذكر في كل مقام ما يناسبه، فيذكر تارة الفرائض التي يقاتل عليها كالصلاة والزكاة، وتارة الصلاة والصيام لمن لم يكن عليه زكاة، ويذكر تارة الصلاة والزكاة والصوم، فإما أن =(8/92)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الزكاة (1395) والمغازي (4347) , ومسلم : الإيمان (19) , والترمذي : الزكاة (625) , والنسائي : الزكاة (2435) , وأبو داود : الزكاة (1584) , وابن ماجه : الزكاة (1783) , وأحمد (1/233) , والدارمي : الزكاة (1614).
2 البخاري : التوحيد (7372) , ومسلم : الإيمان (19) , والترمذي : الزكاة (625) , وابن ماجه : الزكاة (1783) , وأحمد (1/233) , والدارمي : الزكاة (1614).(8/93)
ص -60- ... ولهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه (1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: " لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله (2)،
....................................................................
= يكون قبل فرض الحج، وإما أن يكون المخاطب لا حج عليه، وأما الصلاة والزكاة فلهما شأن ليس لسائر الفرائض، ولهذا ذكر تعالى في كتابه القتال عليهما؛ لأنهما عبادتان ظاهرتان. ولما بعث معاذا إلى اليمن لم يذكر في حديثه الصوم؛ لأنه تبع وهو باطن، ولا ذكر الحج لأن وجوبه خاص ليس بعام، ولا يجب في العمر إلا مرة.
(1) ابن مالك بن خالد بن ثعلبة الخزرجي الأنصاري، صحابي شهير، وأبوه صحابي أيضا، ذكر سهل أنه مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس عشرة، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة سنة 88، وقيل: 91 هـ، وقد جاوز المائة، روى عنه ابن عباس وأبو هريرة وابن المسيب والزهري وغيرهم.
(2) أي قال يوم حصار خيبر سنة 7 هـ، وفي الصحيحين عن سلمة بن الأكوع قال: كان علي رضي الله عنه قد تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر، وكان أرمد، وقال: أنا أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم !؟ فخرج علي فلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فلما كان مساء الليلة التي فتحها الله ( في صباحها، قال صلى الله عليه وسلم : " لأعطين الراية - أو ليأخذن الراية - غدا رجلا يحبه الله ورسوله، أو قال: يحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه، فإذا نحن بعلي وما نرجوه، فقالوا: هذا علي، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية، ففتح الله عليه "1 . وفي رواية بريدة: " إني دافع اللواء إلى رجل يحبه الله ورسوله "2. وقد صرح جماعة من أهل اللغة بترادف الراية واللواء، لكن روى أحمد والترمذي من حديث ابن عباس: كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه =(8/94)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : المناقب (3702) , ومسلم : فضائل الصحابة (2407) , وأحمد (4/51).
2 أحمد (5/353).(8/95)
ص -61- ... يفتح الله على يديه" (1). فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها (2)
....................................................................
= أبيض، وعن أبي هريرة: مكتوب فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله، والراية علم الجيش، يرجعون إليه عند الكر والفر، جمعها رايات، وكذا لواء الجيش علمه، وهو دون الراية، سمي لواء لأنه يلوى لكبره فلا ينشر إلا عند الحاجة، والغد اليوم التالي ليومك على أثره. والمحبة مواطأة القلب على ما يرضى الرب، وأصلها الميل إلى ما يوافق المحب، وفيه فضيلة علي رضي الله عنه وزيادة منقبته؛ لشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم له بذلك بخصوصه. قال الشيخ: هذا أصح حديث روي لعلي من الفضائل، وليس هذا الوصف مختصا به، ولا بالأئمة؛ فإن الله ورسوله يحب كل مؤمن تقي يحب الله ورسوله، لكن هذا الحديث من أحسن ما يحتج به على النواصب الذين لا يتولونه، أو يكفرونه أو يفسقونه كالخوارج، وفيه إثبات صفة المحبة خلافا للجهمية.
(1) أخبرهم صلى الله عليه وسلم على وجه البشارة بحصول الفتح، وكان قد اشتد عليهم الحصار، فهو علم من أعلام النبوة؛ لإخباره عنه قبل وقوعه في وقت مخصوص، فوقع طبق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم .
(2) بنصب ليلة، ورفع أي على البناء، لإضافتها وحذف صدر صلتها، أي سهروا تلك الليلة يبحثون ويتفاوضون، ويتناظرون فيمن سيعطاها. قال المصنف: "يدوكون" أي يخوضون، يعني فيمن يدفعها إليه، وفيه يقال: داك القوم يدوكون، إذا وقعوا في اختلاط واضطراب ودوران. وخاضوا في الحديث تفاوضوا فيه; وفيه حرص الصحابة على الخير، واهتمامهم به، وعلو مرتبتهم في العلم والإيمان، فينبغي التنافس في الخير، وعلو الهمة في طلبه.(8/96)
ص -62- ... فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو (1) أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طالب ؟ (2) فقيل: هو يشتكي عينيه (3)، فأرسلوا إليه (4) فأُتي به، فبصق في عينيه (5)
....................................................................
(1) حرصًا عليه لكونه محبوبا عند الله، وتفتح هذه البلدة على يديه، ففيه أن فعل الأسباب المباحة أو الواجبة أو المستحبة لا ينافي التوكل. وفي رواية لمسلم: أن عمر قال: (( ما أحببت الإمارة إلا يومئذ; رغبة فيما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم )). فإن قيل: إذا كان هذا ليس من خصائص علي رضي الله عنه فلم تمناه بعض الصحابة؟ أجاب شيخ الإسلام بأنه إذا شهد النبي صلى الله عليه وسلم لمعين بشهادة، أو دعا له بدعاء، أحب كثير من الناس أن يكون له مثل تلك الشهادة، ومثل ذلك الدعاء، وإن كان يشهد ويدعو لخلق كثير، ولكن تعيينه الشخص من أعظم فضائله. قال المصنف: (( وفيه فضيلة علي يعني لشهادته له على التعيين )).
(2) هو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته فاطمة الزهراء، الخليفة الرابع، من أسبق السابقين، ومن أهل بدر وبيعة الرضوان، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، ومناقبه مشهورة، قتله ابن ملجم في رمضان سنة 40 هـ، وفيه سؤال الإمام عن رعيته، وتفقد أحوالهم، وسؤاله عنهم في مجامع الخير.
(3) أي من الرمد كما تقدم. وفي صحيح مسلم: فأتى به أرمد. وفيه عن سلمة: فأرسلني إلى علي، فجئت به أقوده أرمد، فبصق في عينيه فبرأ.
(4) من يأتيه به، قال الشارح: وفي نسخة بخط المصنف: فأرسل إليه. مبني للفاعل، ويحتمل أنه لما لم يسم فاعله.
(5) بفتح الصاد أي بزق، ويقال: بزق ثم تفل ثم نفث ثم نفخ.(8/97)
ص -63- ... ودعا له فبرأ (1) كأن لم يكن به وجع (2)، وأعطاه الراية (3) فقال: انفذ على رسلك، حتى تنزل بساحتهم (4)، ثم ادعهم إلى الإسلام (5)،
....................................................................
(1) بفتح الراء والهمزة، أي عوفي في الحال عافية كاملة.
(2) من رمد ولا ضعف بصر، وذلك بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث: (( فدعا له فاستجيب له )). وللطبراني عن علي: (( فما رمدت ولا صدعت منذ دفع النبي صلى الله عليه وسلم إلي الراية )). وفيه علم من أعلام النبوة.
(3) أي دفعها إليه مع ما به من وجع العين، ولم يسع في طلبها. قال المصنف: فيه الإيمان بالقدر لحصولها لمن لم يسع ومنعها ممن سعى.
(4) بضم الفاء وكسر الراء وسكون السين، أي امض برفق وتؤدة ولين، متمهلا على رسلك، من غير عجلة ولا طيش حتى تنزل بساحتهم، وساحة القوم وسوحهم ما قرب من حصونهم، وفيه الأدب عند القتال، وترك الطيش والأصوات المزعجة، وأمر الإمام عماله بالرفق واللين، من غير ضعف ولا انتقاض عزيمة.
(5) أي والإيمان فإن الإسلام إذا أفرد دخل فيه الإيمان، كما أنه إذا أفرد الإيمان دخل فيه الإسلام بلا نزاع، والإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد والخضوع له، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله، وأصل الإسلام هو التوحيد، وهو معنى شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإن شئت قلت: هو شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وما اقتضته الشهادتان من إخلاص العبادة لله وحده دون ما سواه، فإن من عبد معه غيره لم يكن مسلما، والطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم فيما أمر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وهذا =(8/98)
ص -64- ... وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه (1)، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " (2).
....................................................................
= هو الشاهد للترجمة. وهكذا ينبغي لأهل الإسلام أن يكون قصدهم بجهادهم هداية الخلق إلى الإسلام والدخول فيه، وفيه مشروعية الدعوة قبل القتال، وإن كانوا قد دعوا قبل ذلك، فيندب إعادة الدعوة؛ ليعلم المشركون أن قصد المسلمين لهم بالدعوة والقتال هو دخولهم في الإسلام، ليس المراد التشفي منهم وأخذ أموالهم، لكن إن كانوا قد بلغتهم الدعوة جاز قتالهم ابتداء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون. فالدعوة دعوتان: واجبة وهي دعوة التبليغ، ومندوبة وهي تبليغهم قبل القتال كما فعل علي رضي الله عنه.
(1) أي في الإسلام إذا أجابوك إليه فأخبرهم بما يجب من حقوقه التي لا بد لهم من فعلها، كالصلاة والزكاة وغيرهما من شرائع الإسلام، بقوله: " فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها "1، فإن امتنعوا عن شيء من حقها فالقتال باق، فالنطق بالشهادتين سبب العصمة، لا أنه نفسه العصمة، أو هو العصمة لكن بشرط العمل؛ فإن لله حقوقا في الإسلام من لم يأت بها لم يكن مسلما. وفيه أيضا بعث الإمام الدعاة إلى الله كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه. قال عمر: " والله ما أرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسننكم " .
(2) أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر في محل رفع على الابتداء، والخبر خير. وحمر بضم الحاء المهملة وسكون الميم، والنعم بفتح النون والعين، أي هداية رجل على يديك خير لك من الإبل الحمر، وإنما عبر بها لأنها أنفس أموال العرب إذ ذاك. وكانوا يضربون بها المثل، والمراد خير من الدنيا وما عليها. وتشبيه أمور =(8/99)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : تفسير القرآن (3341) , وأحمد (3/295 ,3/300 ,3/332 ,3/394).(8/100)
ص -65- ... يدوكون أي: يخوضون (1).
....................................................................
= الآخرة بأمور الدنيا للتقريب إلى الإفهام، وإلا فذرة من ذرات الآخرة خير من الدنيا بأسرها وأمثالها معها. وفيه الترغيب في الدعوة إلى الله لتحصل للداعي هذه الفضيلة بهداية رجل واحد، ولهذا حلف النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق ولو لم يحلف، ترغيبا في هذا العمل وحضا عليه، ولو لم يهتد بالدعوة إلا رجل واحد، فكيف بهداية الفئام؟ كما وقع للمصنف -رحمه الله-، وغيره من أئمة الدين. وفيه جواز الحلف على الخبر والفتيا ولو لم يستحلف.
(1) فسر المصنف -رحمه الله- هذه اللفظة بأن المراد خوض السامعين، وبحثهم في هذا الخير وتمني حصوله.(8/101)
ص -66- ... باب تفسير التوحيد وشهادة ألا إله إلا الله (1)
وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} (2) الآية 1.
....................................................................
(1) عطف الشهادة على التوحيد من عطف الدال على المدلول؛ فإن التوحيد هو معنى لا إله إلا الله ومدلولها مطابقة، يعني باب بيان إيضاح التوحيد، توحيد الإلهية والعبادة؛ لأنه هو المقصود بالذات من تصنيف الكتاب، وبيان مدلول شهادة ألا إله إلا الله من النفي والإثبات، وما تضمنته من إخلاص العبادة لله وحده دون ما سواه، فالتفسير تارة بذكر ما تحت اللفظ من معنى، وتارة بذكر الضد والمنافي; فإن قيل: قدم في أول الكتاب ما يبين معنى لا إله إلا الله وما تضمنته من التوحيد، فما فائدة هذه الترجمة؟ قيل: في هذه الآيات التي في هذا الباب بخصوصها مزيد بيان لمعنى كلمة الإخلاص، وما دلت عليه من توحيد العبادة، والحجة على من تعلق على الأولياء والصالحين.
(2) يتبين معنى هذه الآية بذكر ما قبلها وهو قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} 2 صيغة عموم شمل كل مدعو من دون الله من الأنداد، وارغبوا إليهم، فإنهم يعني جميع من يدعي من دون الله: {فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ} 3 أي بالكلية (ولا تحويلا) أي ولا يحولونه إلى غيركم؛ فإن الذي يقدر على ذلك هو الله وحده لا شريك له، فهو المستحق أن يفرد بجميع العبادة.: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ} 4 أي يدعوهم أهل الشرك، ممن لا يملك كشف الضر ولا تحويله من الملائكة والأنبياء والصالحين وغيرهم، عباد أمثالهم مقهورون مربوبون. (فالذين) اسم موصول =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الإسراء آية : 57.
2 سورة الإسراء آية : 56.
3 سورة الإسراء آية : 56.
4 سورة الإسراء آية : 57.(8/102)
ص -67- ... .............................................................................................
= يتناول كل مدعو من دون الله. قال ابن عباس: " كان أهل الشرك يقولون نعبد الملائكة والمسيح وعزيرا "، والذين هم يدعون: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 1 أي يتبارون في طلب القرب، فيطلبون القرب من الله بالإخلاص له، وطاعته فيما أمرهم به، وترك ما نهاهم عنه. وقال ابن عطية: أخبر تعالى أن هؤلاء المعبودين يطلبون التقرب إلى الله، والتزلف إليه، فـ(أيهم) مبتدأ وخبره (أقرب) و(أولئك) يراد بهم المعبودون، وهو مبتدأ، وخبره (يبتغون)، والضمير في (يدعون) للكفار، وفي (يبتغون) للمعبودين، و (الوسيلة) ما يتقرب به، وتوسل إلى الله عمل عملا تقرب به إليه، ولما أعد الله لأوليائه الكرامة، جعل لذلك وسيلة، وهي عبادة الله بامتثال ما أمر به، وأعظم القرب التوحيد الذي بعث الله به رسله، وهو الذي يقربهم إلى الله أي إلى عفوه ورضاه، ووصف ذلك بقوله: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} 2 فلا يرجون أحدا سواه، ولا يخافون غيره. قال شيخ الإسلام: (( فالآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعوا، وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة، ويرجو رحمته ويخاف عذابه، فكل من دعا ميتا أو غائبا من الأنبياء والصالحين، سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها، فقد تناولته هذه الآية كما تتناول من دعا الملائكة والجن، فقد نهى الله عن دعائهم، وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله، لا يرفعونه بالكلية، ولا يحولونه من موضع إلى موضع آخر كتغيير صفته أو قدره، ولهذا قال: (ولا تحويلا) فذكر نكرة تعم أنواع التحويل، فكل من دعا ميتا أو غائبا من الأنبياء والصالحين، أو دعا الملائكة فقد دعا من لا يغيثه، ولا يملك كشف الضر عنه ولا تحويله )) ا هـ.
فإذا كان دعاء الأولياء والصالحين شركا، عرفنا أن التوحيد هو دعاء(8/103)
الله وحده لا شريك له، فكان في هذه الآية تفسير التوحيد، وأنها دلت على أن دعوة الله وحده هي التوحيد، وهذا وجه مطابقة الآية للترجمة، وهو تفسير الشيء بضده.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الإسراء آية : 57.
2 سورة الإسراء آية : 57.(8/104)
ص -68- ... وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} (1) الآية1.
وقوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} (2) الآية 2.
....................................................................
(1) وتمامها: {فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} 3 في ذريته من بعده، يدينون بها (لعلهم يرجعون) إليها، والكلمة هي: لا إله إلا الله بإجماع أهل العلم. وقد عبر عنها الخليل بمعناها الذي أريدت به، فعبر عما نفته بقوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} 4، وعما أثبتته بقوله: {إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} 5 أي خلقني، فقصر العبادة على الله وحده، ونفاها عن كل ما سواه ببراءته من ذلك. قال ابن كثير: (( هذه الكلمة، وهي عبادة الله وحده لا شريك له وخلع ما سواه من الأوثان، وهي لا إله إلا الله، جعلها في ذريته، يقتدي به فيها من هداه الله منهم، ففي الآية معنى لا إله إلا الله مطابقة، فإن هذه اللام تسمى لام النفي، ولام التبرئة، فتبين أن معناها النفي والإثبات، والتجريد والتفريد، والولاء والبراء، وتبين أن معنى لا إله إلا الله توحيد الله بإخلاص العبادة له، والبراءة من عبادة كل ما سواه )) .
(2) الأحبار العلماء، والرهبان هم العباد، وجعلوهم مشرعين في تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل، فصاروا بذلك أربابا؛ لأن التشريع من خصائص الربوبية، كما أن العبادة من مستحقات الربوبية، وفسر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية لعدي لما قال: إنهم لم يعبدوهم، فقال: " بلى إنهم حرموا عليهم الحلال، وحللوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم "6. رواه أحمد وغيره، وحسنه الترمذي. وقوله: (والمسيح ابن مريم) أي اتخذوه ربا بعبادتهم له.: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً(8/105)
وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 7. فدلت على أن من أطاع غير الله في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحله فقد اتخذه ربا ومعبودا، وجعله لله شريكا، وذلك ينافي التوحيد، فكل معبود رب، وكل مطاع ومتبع على غير ما =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزخرف آية : 26.
2 سورة التوبة آية : 31.
3 سورة الزخرف آية : 28.
4 سورة الزخرف آية : 26.
5 سورة الزخرف آية : 27.
6 الترمذي : تفسير القرآن (3095).
7 سورة التوبة آية : 31.(8/106)
ص -69- ... .............................................................................................
= شرعه الله ورسوله فقد اتخذه المطيع ربا ومعبودا، والرب هو المعبود، ولا يطلق معرفا إلا على الله تعالى، قال تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} 1 وهذا وجه مطابقة الآية للترجمة، أن من اتخذ شخصا يحلل ما حلل، ويحرم ما حرم فهو مشرك. والتوحيد الذي هو مدلول شهادة ألا إله إلا الله هو إفراد الله بالطاعة في تحريم ما حرم، وتحليل ما حلل، وهذه الآية كقوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} 2 يعني وأنتم كفار، ونحن بريئون منكم، وأنتم بريئون منا.
قال شيخ الإسلام: (( وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا على وجهين:
أحدهما: أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على هذا التبديل، فيعتقدون تحليل ما حرمه الله، أو تحريم ما أحل اتباعا لرؤسائهم، مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل، فهذا كفر، وقد جعله الله شركا.
الثاني: أن يكون اعتقادهم بتحريم الحلال، وتحليل الحرام ثابتا؛ لكونهم أطاعوهم في معصية الله، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب، كما ثبت "إنما الطاعة في المعروف"، ثم ذكر المحرم للحلال إن كان مجتهدا قصده اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن خفي عليه الحق، وقد اتقى الله، فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه، ولكن من علم أن هذا خطأ ثم اتبعه، وعدل عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم فله نصيب من هذا الشرك، لاسيما إن اتبع في ذلك هواه، ونصره باليد واللسان، مع(8/107)
علمه بأنه مخالف للرسول صلى الله عليه وسلم فهذا شرك، وإن كان المتبع للمجتهد عاجزا، وفعل ما يقدر عليه فلا يؤاخذ إن أخطأ )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية : 121.
2 سورة آل عمران آية : 64.(8/108)
ص -70- ... وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} (1) الآية 1 .
....................................................................
(1) (من) للتبعيض، أي فريق من الناس، وقد ذكر حال المتخذين الأنداد على سبيل الذم، فإنه ذكر حال المشركين حيث جعلوا لله أندادا، أي أمثالا ونظراء يعبدونهم معه و (يحبونهم كحب الله) أي يسوونهم في المحبة المقتضية الذل للمحبوب، والخضوع له كحب الله. وهو الله لا إله إلا هو، لا ضد له، ولا ند له، ولا شريك له، وكل من صرف من العبادة شيئا لغير الله رغبة إليه، أو رهبة منه فقد اتخذه ندا لله، وفي الصحيحين: عن ابن مسعود مرفوعا قال: " أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك "2.:{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} 3 من أصحاب الأنداد لأندادهم، ولحبهم له، وتمام معرفتهم به لا يشركون به شيئا، بل يعبدونه وحده. ثم توعد المشركين فقال: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} 4 يقول: لو علموا ما يعاينونه هنا، وما يحل بهم من الأمر الفظيع على شركهم، لانتهوا عما هم فيه من الضلالة.
قال المصنف: (( ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله، فدل على أنهم يحبون الله حبا عظيما ولم يدخلهم في الإسلام، فكيف بمن أحب الند حبا أكبر من حب الله؟ فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده ولم يحب الله ؟ )) ا هـ. فمن أشرك مع الله غيره في المحبة فقد جعله شريكا لله في العبادة، واتخذ ندا من دون الله، وذلك هو الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه لقوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} 5 والمراد محبة التأله والتعظيم المختصة برب العالمين، التي هي إحدى القاعدتين اللتين عليهما مدار العبادة كما قال ابن القيم:(8/109)
وعبادة الرحمن غاية حبه ... مع ذل عابده هما قطبان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 165.
2 البخاري : الأدب (6001) , ومسلم : الإيمان (86) , والترمذي : تفسير القرآن (3182 ,3183) , والنسائي : تحريم الدم
(4013 ,4014 ,4015) , وأبو داود : الطلاق (2310) , وأحمد (1/380 ,1/431 ,1/434 ,1/462 ,1/464).
3 سورة البقرة آية : 165.
4 سورة البقرة آية : 165.
5 سورة البقرة آية : 167.(8/110)
ص -71- ... وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : "من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه(1)
....................................................................
= إلى أن قال:
ليس العبادة غير توحيد المح ... بَة مع خضوع القلب والأركان
وهذا هو الذي اعترف به المشركون، وهم بين أطباق الجحيم، أنهم صاروا في الجحيم بسببه حيث قالوا: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 1، ومن المعلوم أنهم ما ساووهم به في الحلق والتدبير، إنما ساووهم به في هذه المحبة، فدلت الآية على أن من اتخذ ندا مع الله يحبه كمحبة الله فقد أشرك الشرك الأكبر المنافي للتوحيد، فإذا عرفنا أن هذا شرك، فالتوحيد ضده، وهو أن يفرد الرب بهذه المحبة المختصة التي هي التوحيد، وبذلك ظهر معنى التوحيد وتفسيره، وشهادة ألا إله إلا الله. وأما محبة الملائمات وهي المحبة الطبيعية فلا تكون شركا، ويأتي بيان ذلك في بابه إن شاء الله تعالى.
(1) أي وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبو مالك اسمه سعد بن طارق، كوفي ثقة مات في حدود الأربعين ومائة، وأبوه طارق بن أشيم الأشجعي صحابي له أحاديث. ورواه أحمد بلفظ " من وحد الله، وكفر بما يعبد من دون الله "2 فهذا يفسر لا إله إلا الله، فعلق صلى الله عليه وسلم عصمة المال والدم في هذا الحديث بأمرين: الأول: قول لا إله إلا الله عن علم ويقين، كما قد قيد ذلك في قولها في غير ما حديث، فإن من قالها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم قبل وجود النفاق، لا يقولها إلا عن صدق وعمل بها، وعلم بما دلت عليه من النفي والإثبات. والثاني: الكفر بما يعبد من دون الله، فلم يكتف باللفظ المجرد عن المعنى، بل لا بد من قولها والعمل بها، والبراءة مما ينافيها؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم علق عصمة الدم بالأمرين جميعا، قولها عن علم ويقين، والكفر بما =(8/111)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الشعراء آية : 98.
2 مسلم : الإيمان (23) , وأحمد (3/472 ,6/394).(8/112)
ص -72- ... .............................................................................................
= يعبد من دون الله، ففيه أنه لا يحرم ماله ودمه إلا إذا قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله، فإن قالها ولم يكفر بما يعبد من دون الله لم يأت بما يعصم ماله ودمه، وفيه معنى قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا} 1. قال المصنف: (( وهذا من أعظم ما يبين لك معنى لا إله إلا الله، فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه، فيا لها من مسألة ما أجلها وأعظمها، ويا له من بيان ما أوضحه، وحجة ما أقطعها للمنازع )) ا هـ. وهذا هو الشرط المصحح لقول لا إله إلا الله، فلا يصح قولها بدون هذه الخمس التي ذكر أصلا، قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} 2، وقال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} 3 الآية، أمر بقتالهم حتى يتوبوا من الشرك، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن أبوا عن ذلك أو بعضه قوتلوا إجماعا، بل أجمعوا على أن من قال: لا إله إلا الله ولم يعتقد معناها، ولم يعمل بمقتضاها، أنه يقاتل حتى يعمل بما دلت عليه من النفي والإثبات.
وفي الصحيحين: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها "4. وفي رواية: " ويؤمنوا بي وبما جئت به "5، فلا بد من الإيمان بجميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، فأيما طائفة امتنعت عن التزام شريعة من(8/113)
شرائع الإسلام الظاهرة، فإنه يجب قتالها كما قاتل أبو بكر مانعي الزكاة، واتفق عليه الصحابة والفقهاء، ويكفي المنصف ما ذكره العلماء من كل مذهب في باب حكم المرتد، فإنهم ذكروا فيه أشياء كثيرة يكفر بها الإنسان. والكفر لغة الستر، وكفر يكفر كفرا وكفرانا: ضد آمن، وسمي الكافر كافرا لأنه مغطى على قلبه، وشرعا: تكذيبه صلى الله عليه وسلم في شيء مما جاء به.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 256.
2 سورة الأنفال آية : 39.
3 سورة التوبة آية : 5.
4 البخاري : الإيمان (25) , ومسلم : الإيمان (22).
5 مسلم : الإيمان (21).(8/114)
ص -73- ... وحسابه على الله عز وجل "1 (1). وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب (2).
....................................................................
(1) أي الله تبارك وتعالى هو الذي يتولى حسابه، وهو المطلع على السرائر، فإن كان صادقا جازاه بجنات النعيم، وإن كان منافقا عذبه العذاب الأليم. وأما في الدنيا فالحكم على الظاهر، فمن أتى بالتوحيد والتزم شرائعه ظاهرا، وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك.
(2) ترجمة الكتاب فاتحته، وشرحها تفسيرها وتبينها، وتوضيح معناها; وذلك أن ما بعدها فيه ما يبين التوحيد، ويوضح معنى لا إله إلا الله، وفيه بيان أشياء كثيرة من الشرك الأصغر والأكبر، وما يوصل إلى ذلك من الغلو والبدع وتنزيه الرب تعالى عما لا يليق بجلاله، وقد جمع -رحمه الله- في هذا الكتاب على اختصاره من بيان التوحيد ما لم يسبقه إليه سابق، ولا لحقه فيه لاحق، وما لا يعذر أحد عن معرفته، فمن استحضره استغنى به عن غيره في بيان التوحيد، والرد على كل مبتدع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الإيمان (23) , وأحمد (3/472 ,6/394).(8/115)
ص -74- ... باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه 1
وقول الله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} (2) الآية 1 .
....................................................................
(1) من تبعيضية، ولبس بضم اللام، يعني من الشرك الأصغر المنافي لكمال التوحيد لبس الحلقة. وهي: كل شيء استدار من صفر وغيره، والخيط ونحوهما: كالودعة والتميمة والمسمار والخرزة ونحو ذلك، لرفع البلاء: إزالته بعد نزوله، أو دفعه: منعه قبل نزوله، ويجمع ذلك شيء واحد، وهو الطلب من غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله، واتخاذ تلك الأشياء ونحوها من أعمال الجاهلية، وكانوا يعلقونها على أولادهم ودوابهم، وذلك ينافي التوحيد بالكلية، أو ينافي كماله؛ لأن الشافي الكافي من كل شيء هو الله سبحانه، وطلب الشفاء والبركة بالحلق والخيوط وغيرها هضم لجناب التوحيد، ولبسها على قسمين: اعتقاد أنه سبب، فشرك أصغر، أو يدفع أو ينفع فشرك أكبر؛ لأنه اعتقد أن هنا متصرفا بالنفع والضر غير الله، والمصنف -قدس الله روحه- ابتدأ في تفسير التوحيد، وشهادة أن لا إله إلا الله، بذكر شيء مما يضاد ذلك من أنواع الشرك الأكبر والأصغر، فإن الضد لا يعرف إلا بضده كما قيل: وبضدها تتبين الأشياء. فمن لم يعرف الشرك لم يعرف التوحيد وبالعكس، وقدم الأصغر الاعتقادي ترقيا من الأدنى إلى الأعلى.
(2) أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ} 2 أي أخبروني عن الذين تدعون من دون الله، وتسألونهم من الأنداد والآلهة: {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ} 3 مرض أو فقر أو بلاء أو شدة: {هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ}4 أي أنتم تعلمون =(8/116)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية : 38.
2 سورة الزمر آية : 38.
3 سورة الزمر آية : 38.
4 سورة الزمر آية : 38.(8/117)
ص -75- ... عن عمران بن حصين (1)
....................................................................
= أنهم لا يقدرون على ذلك أصلا، وتعترفون بذلك، (أو أرادني برحمة) صحة وعافية وخير: {هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} 1 أي أنتم تعلمون أنهم لا يستطيعون شيئا من الأمر، وتعترفون أنهم لا يقدرون على شيء من ذلك، فإذا علمتم أنهم لا يقدرون على ذلك فلم تعلقون عليهم من دون الله، (قل) يا محمد (حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون) أي الله كافي من توكل عليه، والتوكل التفويض والاعتماد، فإذا كانت آلهتهم التي يدعون من دون الله لا قدرة لها على كشف ضر أراده الله بعبده، أو إمساك رحمة أنزلها على عبده، فيلزمهم بذلك أن يكون الله سبحانه وتعالى هو معبودهم وحده المفوض إليه جميع أمورهم، لزوما لا محيد لهم عنه.
وهذا في القرآن كثير يقيم تعالى الحجة على المشركين بما يبطل شركهم بالله، وتسويتهم غيره به في العبادة، بضرب الأمثال وغير ذلك مما يعلمون به أن ذلك لله وحده، ويقرون به على ما يجحدونه من عبادته وحده، هذا وهم إنما كانوا يدعونها على معنى أنها وسائط وشفعاء عند الله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 2 لا على أنهم يكشفون الضر، ويجيبون دعاء المضطر، كما قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} 3. قال مقاتل: سألهم النبي صلى الله عليه وسلم فسكتوا؛ لأنهم لا يعتقدون ذلك فيها، وإذا كان ذلك كذلك بطلت عبادتهم الآلهة مع الله، وإذا بطلت فلبس الحلقة والخيط ونحوهما كذلك. والمصنف -رحمه الله- استدل بالآية النازلة في الأكبر على الأصغر، كما استدل بها ابن عباس وحذيفة وغيرهما، وهذه الآية وأمثالها تبطل تعلق القلب بغير الله في جلب نفع، أو دفع ضر وأن ذلك لا يكون إلا بالله وحده، وأن جميع أنواع العبادة لا يصلح منها شيء لغير الله، كما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وكذلك(8/118)
لا يصلح شيء من أنواع التعلقات بغير الله عز وجل.
(1) رضي الله عنه ابن عبيد بن خلف الخزاعي صحابي ابن صحابي أسلم عام خيبر، وغزا عدة غزوات، وكان صاحب راية خزاعة يوم الفتح، وقال الطبراني: =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية : 38.
2 سورة الزمر آية : 3.
3 سورة النحل آية : 53.(8/119)
ص -76- ... " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي رجلا في يده حلقة من صفر (1) فقال ما هذه؟ قال من الواهنة (2). فقال انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا (3)،
....................................................................
= أسلم قديما هو وأبوه وأخته، وكان ببلاد قومه، ثم تحول إلى البصرة إلى أن مات بها سنة 52هـ.
(1) وفي رواية الحاكم: "دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عضدي حلقة صفر"، فالمبهم في رواية أحمد هو عمران راوي الحديث، والحلقة كان المشركون يجعلونها في أعضادهم، من نحاس أصفر وغيره، يزعمون أنها تحفظهم من أذى العين والجن ونحوهما، وكذا لبس حلقة الفضة للبركة، أو لمنع البواسير، وخواتيم لها فصوص مخصوصة للحفظ من الجن وغيرها.
(2) يحتمل أن الاستفهام للاستفصال عن سبب لبسها، ويحتمل أن يكون للإنكار، قال الشارح: وهو أظهر. ولفظه: "ويحك ما هذه" ؟ قال: من الواهنة، والواهنة عرق يأخذ بالمنكب وباليد كلها فيرقى منها، وقيل: مرض يأخذ بالعضد، أو ريح فيه تأخذ الرجال دون النساء، وربما علق عليها جنس من الخرز يقال له خرز العصمة، وإنما نهى عنها لأنها إنما تتخذ لتعصم من الألم، وفيه اعتبار المقاصد.
(3) انزعها بكسر الزاي، وأصل النزع الجذب بقوة والقلع، من نزعت الشيء من موضعه نزعا من باب ضرب، قلعته وانتزعته مثله، أي انبذها عنك. وهو لفظ أحمد، وهو أبلغ، فإنه يتضمن النزع وزيادة، وهو الطرح والإبعاد، وهذا زجر له وإنكار عليه، وقد أخبره صلى الله عليه وسلم أنها لا تنفعه بل تضره، وأن هذا الداء الذي لبسها له لا يزول، بل لا تزيده إلا وهنا أي ضعفا، معاملة له بنقيض قصده؛ لأنه علق قلبه بما لا ينفعه ولا يدفع عنه، وكذا كل أمر نهى عنه فإنه لا ينفع غالبا، وإن نفع بعض النفع فضرره أكبر من نفعه، وابتلاء من الله وامتحان. وهكذا =(8/120)
ص -77- ... فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا (1) "1. رواه أحمد بسند لا بأس به (2).
....................................................................
= شأن الأمور الشركية، ضررها على أصحابها في الدنيا في الغالب والآخرة، وذلك من أجل التفات قلوبهم إلى غير الله) ومن تعلق شيئا وكل إليه، ومن وكل إلى غير الله هلك. وإذا كان هذا في الأصغر الذي يجامع أصل التوحيد، فكيف بالأكبر الذي ينافيه بالكلية.
(1) نفى عنه الفلاح لو مات وهي عليه؛ لأنه شرك والحالة هذه، والفلاح من أجمع الكلمات التي نطقت بها العرب، وهو الفوز والظفر والسعادة. وفي رواية: "وكلت إليها". قال المصنف: (( فيه شاهد لكلام الصحابة: أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر، وأنه لم يعذر بالجهالة، والشاهد منه إنكار النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وأنه دليل على المنع من لبس الحلقة والخيط ونحوهما لذلك، وفيه إنكار المنكرات الشركية حتى إن من العلماء من جعلها ركنا سادسا من أركان الإسلام )) .
(2) وصححه ابن حبان والحاكم وأقره الذهبي، ورواه أيضا بنحوه عن أبي عامر الخراز عن الحسن.
وأحمد رضي الله عنه هو ابن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حيان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، ناصر السنة، العالم الرباني أبو عبد الله الشيباني المروزي ثم البغدادي، إمام عصره، وأعلمهم بالفقه والحديث، وأشدهم ورعا ومتابعة للسنة. يقول فيه ابن النحاس: (( عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، أتته الدنيا فأباها، والشبه فنفاها )). وقال إسحاق بن راهويه: (( هو حجة بين الله وبن عبيده في أرضه )). حملت به أمه في مرو وولد ببغداد سنة 164هـ، وطاف البلاد، وسمع من سفيان وبشر ويحيى وهشيم ووكيع وابن مهدي =(8/121)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجه : الطب (3531) , وأحمد (4/445).(8/122)
ص -78- ... وله عن عقبة بن عامر مرفوعا (1): " من تعلق تميمة فلا أتم الله له (2)،
....................................................................
= وعبد الرزاق وخلائق لا يحصون، وعنه ابناه وابن المديني والبخاري ومسلم وأبو داود وأبو زرعة وخلائق لا يحصيهم إلا الله عز وجل، ذكر الحفاظ بعضهم، وأنه كان يجتمع في مجلسه أكثر من خمسة آلاف، وفضائله سارت بها الركبان، وملأ ذكره الأمصار والبلدان، صنف المسند ثلاثين ألف حديث غير المكرر، والتفسير مائة ألف وعشرين ألفا، والناسخ والمنسوخ، والزهد وغيرها. توفي رضي الله عنه سنة 241 هـ، وحضر جنازته نحو من ألف ألف وستين ألفا، وقيل أسلم يوم موته عشرون ألفا من اليهود والنصارى.
(1) إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعقبة هو ابن عامر بن عمرو بن عبس بن عمرو بن عدي الجهني، صحابي مشهور فاضل روى كثيرا، وعنه جماعة من الصحابة والتابعين. أحد من جمع القرآن، فصيحا عالما شهد الفتوح وصفين، ولي إمارة مصر ثلاث سنين، ومات قريبا من الستين.
(2) أي علقها عليه أو على غيره من طفل أو دابة ونحو ذلك، متعلقا بها قلبه في طلب خير أو دفع شر، فلا أتم الله له ما قصده، دعاء عليه بنقيض قصده، أن الله لا يتم له أمره، ودعاؤه صلى الله عليه وسلم على متعلقها يفيد أنه محرم، وتحريمه يفيد أنه من المحرمات الشركية، وإنما كان شركا لما يقوم بقلبه من التعلق على غير الله، في جلب نفع أو دفع ضر، وكمال التوحيد لا يحصل إلا بترك ذلك، وكانوا يتلمحون من تعليقها تمام أمر من علقت عليه أن يتم له أمره، وذكر التميمة منكرة تعميما، حسما للمادة التي تؤول إلى الشرك. قال المنذري: (( التميمة خرزة كانوا يعلقونها، يرون أنها تدفع عنهم الآفات، وهذا جهل وضلال؛ إذ لا مانع ولا دافع =(8/123)
ص -79- ... ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له (1) "1. وفي رواية: " من تعلق تميمة فقد أشرك "2.
= غير الله )). وفي النهاية: (( التمائم جمع تميمة، وهي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم، يتقون بها العين في زعمهم، فأبطله الإسلام )) ا هـ. والتمائم أعم من ذلك، فتكون من عظام، ومن خرز، ومن كتابة، ومن غير ذلك.
....................................................................
(1) ودعة بفتح فسكون وتفتح، و "لا ودع" بتخفيف الدال أي لا ترك له ما يحب، أو لا جعله في دعة وسكون، بل حرك عليه كل مؤذ، وهذا دعاء عليه أيضا، معاملة له بنقيض قصده، وكانوا يتلمحون من اسمها الدعة والسكون. قال في النهاية: (( الودعة شيء أبيض يجلب من البحر، يعلق في حلوق الصبيان وغيرهم، وقيل يشبه الصدف يتقون به العين )). وفيه وعيد شديد لمن فعل ذلك، يفيد أنه محرم، وإذا تقرر أنه محرم فالرواية الثانية بينت أنه من المحرمات الشركية، ومع كونه شركا فقد دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنقيض مقصوده، ورواه أبو يعلى والحاكم وقال: صحيح الإسناد. وأقره الذهبي.
(2) وذلك " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل عليه رهط فبايع تسعة وأمسك عن واحد، فقالوا: يا رسول الله بايعت تسعة وأمسكت عن هذا؟ فقال: "إن عليه تميمة"، فأدخل يده فقطعها فبايعه، وقال: من تعلق تميمة فقد أشرك "3. رواه أحمد من حديث عقبة بن عامر. ورواه الحاكم بنحوه، ورواته ثقات. وإنما جعلها صلى الله عليه وسلم شركا؛ لأنه أراد رفع القدر المكتوب، وطلب دفع الأذى من غير الله تعالى الذي هو النافع الضار، والتعلق يكون بالفعل أو بالقلب أو بهما، وإنما كان شركا من جهة تعلق القلب على غير الله في جلب نفع أو دفع ضر، فكان شركا من هذه الحيثية. قال الشيخ: من تعلق قلبه بمخلوق فالمخلوق عاجز، وهو من الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة، وذلك أن يرجو العبد قضاء حاجته من غير ربه =(8/124)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (4/154).
2 أحمد (4/156).
3 أحمد (4/156).(8/125)
ص -80- ... ولابن أبي حاتم عن حذيفة (1) أنه " رأي رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه (2)،
....................................................................
= وصرف القلب عن التعلق بالمخلوق بمعرفة ألا خالق إلا الله، فلا يستقل سواه بإحداث أمر من الأمور بل ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، فإذا تحقق العبد ذلك كان سببا لأن ينال مطلوبه.
(1) رضي الله عنه ابن اليمان بن حسل، ويقال حسيل بن جابر بن ربيعة العبسي، حليف الأنصار، صحابي جليل ابن صحابي من السابقين، أصاب أبوه دما فهرب إلى المدينة فحالف بني عبد الأشهل، فسماه قومه اليمان؛ لكونه حالف اليمانية، وأراد شهود بدر فصده المشركون، وشهد أحدا فاستشهد أبوه بها لما هزم المسلمون وصاح الشيطان أخراكم، فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم، فإذا هو بأبيه، فقال: أي عباد الله أبي أبي، فما احتجزوا عنه حتى قتلوه، فقال حذيفة: غفر الله لكم، صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم . روى مسلم أنه أخبره بما كان وما يكون حتى تقوم الساعة، واستعمله عمر على المدائن، فلم يزل بها حتى توفي سنة 36 هـ.
و ابن أبي حاتم هو أبو محمد عبد الرحمن بن محمد بن إدريس بن المنذر، الرازي الحنظلي التميمي، الإمام الحافظ الثبت صاحب الجرح والتعديل، والعلل، والتفسير، وغيرها، روي عن أبي سعيد الأشج، ويونس ابن عبد الأعلى وطبقتهما، مات سنة 327 هـ.
(2) أي عن الحمى، وكان الجهال يعلقون الخيوط والتمائم، يزعم أحدهم أنها لا تصيبه الحمى إذا لبس ذلك أولا تضره، ولفظه: " دخل حذيفة على مريض، فرأى في عضده سيرا فقطعه وانتزعه ". وروى وكيع عن حذيفة أنه " دخل على مريض يعوده فلمس عضده، فإذا فيه خيط، فقال: ما هذا؟ قال: شيء رقي لي فيه، فقطعه وقال: لو مت وهو عليك ما صليت عليك ". وفيه وجوب إزالة المنكر =(8/126)
ص -81- ... وتلا قوله : {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} (1) .
....................................................................
= مع القدرة على ذلك، وإن كان يعتقد أنه سبب، فإنه لا يجوز من الأسباب إلا ما أباحه الله، مع عدم الاعتماد عليه، وأن تعليق الخيوط والحروز والطلاسم والتمائم ونحو ذلك شرك يجب إنكاره، وإزالته بالقول والفعل، وإن لم يأذن فيه صاحبه، بل يفيد شرعية المثابرة في قطع المنكرات، والمبادرة إلى إزالتها بلا ممالأة لأحد؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان "1. هذا حكم ما يوجد من المنكرات، وأهمها الأمور الشركية.
(1) قال ابن عباس: " تسألهم من خلقهم؟ فيقولون الله، وهم مع ذلك يعبدون غيره " وفي استدلال حذيفة بهذه الآية على أنه شرك، دليل على صحة الاستدلال على الشرك الأصغر بما نزل في الأكبر؛ لشمول الآية النوعين، ودخوله في مسمى الشرك. ودليل على صحة استدلال المصنف بالآية أول الباب، وكمال علم الصحابة بالتوحيد، وما ينافيه أو ينافي كماله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الإيمان (49) , والترمذي : الفتن (2172) , والنسائي : الإيمان وشرائعه (5008 ,5009) , وأبو داود : الصلاة (1140) والملاحم (4340) , وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (1275) والفتن (4013) , وأحمد (3/10 ,3/20 ,3/49 ,3/52 ,3/54 ,3/92).(8/127)
ص -82- ... باب ما جاء في الرقى والتمائم (1)
في الصحيح عن أبي بشير الأنصاري (2) أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره (3) " فأرسل رسولا (4) أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر (5)
....................................................................
(1) أي من النهي عما لا يجوز من ذلك، وذكر ما ورد عن السلف في ذلك، ولم يجزم بكونهما من الشرك؛ لأن فيهما تفصيلا. (والرقى) جمع رقية، وهي العوذة التي يرقى بها صاحب الآفة كالحمى والصرع. (والتمائم) جمع تميمة، خرزات كانت العرب تعلقها على أولادها يتقون بها العين في زعمهم، ويتلمحون من اسمها أنه يتم لهم مقصودهم فأبطلها الشرع.
(2) رضي الله عنه بفتح الباء وكسر الشين قال ابن سعد: اسمه قيس بن عبد الله، ويقال: ابن عبيد بن الحريث بمهملتين مصغر الحارث، ابن عمرو بن الجعد الساعدي، ويقال المازني، من بني مازن بن النجار. وقال ابن عبد البر وغيره: لا يوقف له على اسم صحيح، شهد الخندق وأحدا وهو غلام، روى عنه عباد وعمارة وغيرهما، ومات بعد الستين، ويقال إنه جاوز المائة، وحديثه في الصحيحين وغيرهما.
(3) قال الحافظ: (( لم أقف على تعيينه )).
(4) هو زيد بن حارثة كما رواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده.
(5) يبقين بالياء المثناة والقاف المفتوحتين، ويحتمل أن يكون بضم الياء وكسر القاف. و "قلادة" فاعل على الأول، ومفعول على الثاني، وهي ما يعلق في رقبة البعير وغيره، من وتر ونحوه، والبعير يقع على الذكر والأنثى، وجمعه أبعرة =(8/128)
ص -83- ... أو قلادة إلا قطعت (1) "1. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الرقى والتمائم والتولة شرك " (2) رواه أحمد وأبو داود 2.
....................................................................
= وأباعر وبعران. والوتر بفتحتين واحد أوتار القوس، وكان أهل الجاهلية إذا اخلولق الوتر أبدلوه بغيره، وقلدوه الدواب، اعتقادا منهم أنه يدفع عن الدابة العين، ويدفع عنهم المكاره، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرهم أنها لا ترد من أمر الله شيئا.
(1) شك الراوي هل قال شيخه: "قلادة من وتر"، أو قال: "قلادة" وأطلق ولم يقيد. وروي عن مالك أنه سئل عن القلادة فقال: ما سمعت بكراهتها إلا في الوتر. ولأبي داود: "ولا قلادة" بغير شك، فتكون أو بمعنى الواو. قال البغوي: تأول مالك أمره -عليه الصلاة والسلام- بقطع القلائد على أنه من أجل العين، وذلك أنهم كانوا يشدون تلك الأوتار والتمائم والقلائد، ويعلقون عليها العوذ، يظنون أنها تعصمهم من الآفات، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عنها، وأعلمهم أنها لا ترد من أمر الله شيئا. ووجه الدلالة من الحديث أن الأوتار والتمائم في الحكم شيء واحد، ويؤيده قوله: " من تعلق تميمة فلا أتم الله له "3.
(2) ولفظه عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود، أن " عبد الله رأى في عنقي خيطا فقال: ما هذا؟ قلت: خيط رقي لي فيه. قالت: فأخذه ثم قطعه، ثم قال: أنتم آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الرقى والتمائم والتولة شرك". فقلت: لقد كانت عيني تقذف، وكنت أختلف إلى فلان اليهودي، فإذا رقي سكنت، فقال عبد الله: إنما ذلك عمل الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا رقي كف عنها، إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافي =(8/129)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الجهاد والسير (3005) , ومسلم : اللباس والزينة (2115) , وأبو داود : الجهاد (2552) , وأحمد (5/216) , ومالك : الجامع (1745).
2 أبو داود : الطب (3883) , وابن ماجه : الطب (3530) , وأحمد (1/381).
3 أحمد (4/154).(8/130)
ص -84- ... وعن عبد الله بن عكيم مرفوعا (1): " من تعلق شيئا وُكِل إليه " 1 . رواه أحمد والترمذي (2).
....................................................................
= لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقما ". ورواه ابن ماجه وابن حبان والحاكم وقال: صحيح، وأقره الذهبي.
والمراد بالرقى المنهي عنها ما كان من جنس رقى الجاهلية، والتمائم ما يعلق على الحيوانات، من خرز ونحوه، ويأتي التفصيل فيهما. والتولة ممنوعة مطلقا إجماعا، قال الحافظ: التولة بكسر التاء وفتح الواو، شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها، وهو ضرب من السحر، وإنما كان من الشرك لما يراد به من دفع المضار، وجلب المنافع من غير الله تعالى. وقال علي رضي الله عنه: " إن كثيرا من هذه الرقى والتمائم شرك فاجتنبوها ". رواه وكيع، والإمام أحمد -رحمه الله- تقدمت ترجمته.
و أبو داود هو الإمام الحافظ سليمان بن الأشعث ابن إسحاق بن بشير بن شداد بن عمرو بن عمران الأزدي السجستاني صاحب الإمام أحمد، صنف السنن والمراسيل وغيرها.ولد سنة 202 هـ، وتوفي في شوال بالبصرة سنة 275هـ.
(1) عكيم بضم العين المهملة مصغر، ويكنى أبا معبد الجهني الكوفي، مخضرم. قال البخاري وغيره: أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرف له سماع صحيح، ذكر أنه جاء كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جهينة قبل وفاته بشهر، قال الخطيب: سكن الكوفة، وقدم المدينة في حياة حذيفة، وكان ثقة، روى عنه ابن أبي ليلى وابن وهب والوزان وغيرهم، مات في إمرة الحجاج.
(2) وقال: حسن غريب، وأبو داود والنسائي وغيرهما من طرق، والتعلق يكون بالقلب، ويكون بالفعل، ويكون بهما جميعا، فمن تعلق شيئا وكله الله إلى ذلك الشيء الذي تعلقه، فمن تعلق بالله وأنزل حوائجه به والتجأ إليه، وفوض أمره إليه كفاه، ومن تعلق بغيره، أو سكن إلى رأيه وعقله ودوائه وتمائمه =(8/131)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : الطب (2072).(8/132)
ص -85- ... التمائم شيء يعلق على الأولاد من العين (1)، لكن إذا كان المعلق من القرآن فرخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه ويجعله من المنهي عنه، منهم ابن مسعود رضي الله عنه (2).
....................................................................
= ونحو ذلك، وكله الله إلى ذلك وخذله، وهذا أمر معروف بالنصوص والتجارب: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 1. وأخرج أحمد عن وهب: أوحى الله إلى داود: " يا داود أما وعزتي وعظمتي، لا يعتصم بي عبد من عبادي دون خلقي، أعرف ذلك من نيته، فتكيده السماوات السبع ومن فيهن، والأرضون السبع ومن فيهن، إلا جعلت له من بينهن مخرجا، أما وعزتي وعظمتي، لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني، أعرف ذلك من نيته إلا قطعت أسباب السماء من يديه، وأسخت الأرض من تحت قدميه، ثم لا أبالي بأي أوديتها هلك ". وشاهده في الكتاب والسنة.
والأشياء التي يتعلق بها على قسمين:
الأول: ما هو سبب، فهذا ينظر هل أباحه الشرع أو لا؟.
القسم الثاني: ما ليس بسبب، فلا يتعلق به بالكلية، والذي يتعلق به يشترط فيه شرطان:
أحدهما: أن يتحقق أنه سبب.
والثاني: أن يكون مباحا.
(1) وكذا قال الخلخالي وغيره: التمائم جمع تميمة، وهي ما يعلق بأعناق الصبيان، من خرزات وعظام لدفع العين، وهذا منهي عنه؛ لأنه لا دافع إلا الله، ولا يطلب دفع المؤذيات إلا بالله وأسمائه وصفاته.
(2) لأن النهي عام، وأما تخصيصه بغير تمائم القرآن فتخصيص بغير مخصص، وقد اختلف السلف في تعليق التمائم التي من القرآن وأسماء الله وصفاته، فروي عن بعضهم تجويز ذلك، منهم عبد الله بن عمرو وأحمد في رواية، وحملوا الحديث على التمائم التي فيها شرك. وقال بعضهم: لا يجوز ذلك، وهو قول ابن مسعود وابن عباس وعقبة وأحمد في رواية اختارها الأكثر؛ لهذا الحديث وما في معناه =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الطلاق آية : 3.(8/133)
ص -86- ... والرقى هي التي تسمى العزائم (1)، وخص منه الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمة (2).
....................................................................
= وصححه الشارح لوجوه :
(الأول) عموم النهي ولا مخصص للعموم.
(والثاني) أنه إذا علق فلا بد أن يمتهنه المعلق بحمله معه في حال قضاء الحاجة وغيرها من الحالات القذرة.
(والثالث) سد الذريعة، فإنه يفضي إلى تعليق ما ليس كذلك، ولو لم يكن إلا هذه العلة وحدها لكفى بها حجة في المنع، سدا لذرائع الشرك.
(والرابع) أنه صلى الله عليه وسلم قد كان يرقى ورقي، فلو كان تعليق تمائم القرآن جائزا لأمر به. وليس في كتاب الله تعالى، ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يدل على إجازة تعليق شيء من القرآن، ولا ثبت عن أحد من الصحابة المقتدى بهم تجويزه ولا فعله مع توفر الدواعي إليه، وما ذاك إلا لأنه ينافي التوكل والإخلاص، ولعل عبد الله بن عمرو يعلقه في الألواح، لا أنه تميمة.
(1) واحدتها عزيمة وهي الرقية، وعزم الراقي قرأ العزائم، أو العزائم آيات من القرآن تقرأ على ذوي العاهات، وقيل أنواع منها ما ينفث به على المريض، وما يجعل في ماء ويسقاه المريض، ومنها هذه العزائم التي تكتب في صحن ونحوه.
(2) يشير إلى أن الرقى الموصوفة بكونها شركا هي التي يستعان فيها بغير الله، من دعاء غير الله، والاستغاثة والاستعاذة به، كالرقى بأسماء الملائكة والأنبياء والجن ونحو ذلك، وأما الرقى بالقرآن وأسماء الله وصفاته وما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذا حسن جائز، أو مستحب كما تقدم، وفي صحيح مسلم عن عوف بن مالك: " كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: "اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا"1. قال الخطابي: وقد رقى ورقي، وأمر بها وأجازها، فإذا كانت بالقرآن وبأسماء الله فهي مباحة =(8/134)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : السلام (2200) , وأبو داود : الطب (3886).(8/135)
ص -87- ... والتولة شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل إلى امرأته (1). وروى الإمام أحمد عن رويفع (2) قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا رويفع لعل الحياة ستطول بك (3)،
....................................................................
= أو مأمور بها، وإنما جاء المنع فيما كان بغير لسان العرب، فإنه ربما كان كفرا، أو قولا يدخله الشرك.
قال شيخ الإسلام: كل اسم مجهول فليس لأحد أن يرقى به فضلا عن أن يدعو به، ولو عرف معناه، وإنما يرخص لمن لا يحسنها، فأما جعل الألفاظ الأعجمية شعارا، فليس من دين الإسلام. قال السيوطي: أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: أن تكون من كلام الله وبأسمائه وصفاته، وباللسان العربي وما يعرف معناه من غيره، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها، بل بتقدير الله تعالى.
(1) وكذا قال غيره، وبهذا فسره ابن مسعود رضي الله عنه راوي الحديث، كما في صحيح ابن حبان والحاكم، قالوا: " يا أبا عبد الرحمن، هذه الرقى والتمائم قد عرفناها، فما التولة؟ قال: شيء تصنعه النساء يتحببن به إلى أزواجهن " وتقدم قول الحافظ، أنه من الشرك؛ لما يراد به من دفع ضر، أو جلب نفع من غير الله تعالى، وتسمى الصرف والعطف.
(2) هو ابن ثابت بن السكن بن عدي بن الحارث، من بني مالك بن النجار الأنصاري، له ثمانية أحاديث، نزل البصرة، وولي برقة وطرابلس، فافتتح أفريقية سنة 47 هـ، وتوفي ببرقة سنة 56 هـ، والحديث رواه أبو داود من طريقين، والنسائي وغيرهما.
(3) فيه علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم ؛ فإن رويفعا طالت حياته إلى سنة 56 هـ.(8/136)
ص -88- ... فأخبر الناس(1) أن من عقد لحيته (2)، أو تقلد وترا (3)، أو استنجى برجيع دابة أو عظم (4)،
....................................................................
(1) فيه دليل وجوب إخبار الناس بما أمروا به ونهوا عنه، مما يجب فعله أو تركه، وليس مختصاً برويفع، بل كل من كان عنده علم ليس عند غيره مما يحتاج إليه الناس وجب إعلامهم به. فإن الله قد أخذ العهد على العلماء، فإن اشترك هو وغيره في علم ذلك فالتبليغ فرض كفاية.
(2) بكسر اللام لا غير، والجمع لحى بالكسر والضم، ويفسر على وجهين: (أحدهما) ما كانوا يفعلونه في الحرب، يعقدون لحاهم، وذلك من زي الأعاجم يفتلونها ويعقدونها تكبرا وعجبا. (والثاني) معالجة الشعر ليتعقد ويتجعد، وذلك من فعل أهل التأنيث. قال ابن العراقي: والأولى حمله على عقد اللحية في الصلاة، كما في رواية محمد بن الربيع: "أن من عقد لحيته في الصلاة"، ويشبه هذا ما يفعله كثير من أهل الفسق والكبر، من فتل أطراف الشوارب وإبقائها مخالفة لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما أنه قال: " أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى "1 .
(3) أي جعله قلادة في عنقه أو عنق دابته، وهذا الشاهد للترجمة، وفيه مع ما تقدم أنه شرك لما كانوا يقصدونه بتعليقه على الدواب وغيرها. وفي رواية محمد بن الربيع: " أو تقلد وترا يريد تميمة "2. وكل دليل يصلح في الأوتار يصلح أن يكون دليلا في التمائم وبالعكس.
(4) الرجيع العذرة والروث، سمي رجيعا لأنه يرجع من حالته الأولى بعد أن كان طعاما أو علفا، أي أزال النجو به أو بعظم. وفي صحيح مسلم: " لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام؛ فإنها زاد إخوانكم من الجن "3. والاستنجاء بها كبيرة، وظاهر المذهب لا يجزئ، وفي الحديث "إنهما لا يطهران" .(8/137)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : اللباس (5893) , ومسلم : الطهارة (259) , والترمذي : الأدب (2763 ,2764) , والنسائي : الطهارة (15) والزينة (5045 ,5046 ,5226) , وأبو داود : الترجل (4199) , وأحمد (2/16 ,2/52 ,2/156) , ومالك : الجامع (1764).
2 النسائي : الزينة (5067) , وأبو داود : الطهارة (36) , وأحمد (4/109).
3 الترمذي : الطهارة (18) , وأحمد (1/457).(8/138)
ص -89- ... فإن محمدا بريء منه (1) "1. وعن سعيد بن جبير قال: " من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة (2) ". رواه وكيع (3). وله عن إبراهيم: " كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن " (4).
....................................................................
(1) وعيد شديد، ويدل على أنه من الكبائر تبرؤه صلى الله عليه وسلم ممن فعل هذه الأمور الأربعة وإجراء أحاديث الوعيد على ظاهرها أبلغ في الزجر، ولا يجوز صرفها عن ظاهرها بالتأويل.
(2) أي كان له مثل ثواب من أعتق رقبة لأنه مستعبد للشيطان، فإذا قطعها أعتقه من أسر الشيطان، ففيه فضل قطع التمائم وأنها شرك، ومثل هذا الأثر لا يقال بالرأي، وقال الشارح: له حكم الرفع، وهو مرسل تابعي، وألحق ابن العربي بالصحابة ما يجيء عن التابعي مما لا مجال للاجتهاد فيه، فنص على أنه في حكم المرفوع، وذكر أنه مذهب مالك والأكثر على خلافه. ووكيع هو ابن الجراح ابن وكيع بن مليح بن عدي الرؤاسي أبو سفيان، الثقة الحافظ العابد الكوفي، قال الإمام أحمد: (( ما رأيت أوعى للعلم، ولا أحفظ منه )). وقال ابن معين: (( ما رأيت أفضل منه )). صاحب تصانيف، منها الجامع وغيره، روى عنه الإمام أحمد وطبقته، وكان من كبار التاسعة مات سنة 197 هـ.
(3) أي ولوكيع بن الجراح عن إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود بن عمرو ابن ربيعة بن ذهل النخعي الكوفي الثقة الفقيه، مفتي أهل الكوفة، من كبار الفقهاء، روى عن الأسود وعبد الرحمن ابني يزيد ومسروق وعلقمة وغيرهم. وعن عائشة ولم يثبت سماعه منها، وعنه الأعمش وحماد وخلق، مات سنة 96 هـ، وله 50 سنة، ومراده -رحمه الله- أصحاب عبد الله بن مسعود: كعلقمة والأسود وأبي وائل والحارث ابن سويد وعبيدة السلماني ومسروق والربيع بن خثيم وسويد بن غفلة وغيرهم من سادات التابعين.
(4) وهذه الصيغة يستعملها إبراهيم في حكاية أقوالهم، وفي زمانهم كانوا يطلقون الكراهة على(8/139)
المحرم. وصححه الشارح؛ لأن ما كان من غير القرآن قد تقدم النهي عنه، وما كان من القرآن فإنه يتعين النهي عنه أيضا لما تقدم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي : الزينة (5067) , وأبو داود : الطهارة (36) , وأحمد (4/109).(8/140)
ص -90- ... باب من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما (1)
وقول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} (2) الآيات 1.
....................................................................
(1) أي وما يشبههما كبقعة ومغارة وزاوية وقبر ومشهد وموطئ وأثر ونحو ذلك. و (من) اسم شرط، والجواب محذوف تقديره: فقد أشرك بالله. ويحتمل أن (من) موصولة فيكون معناها باب بيان حكم من تبرك بالأشجار والأحجار ونحوها، وما يترتب عليه من الوعيد، وحكمه أنه مشرك الشرك الأكبر؛ لكونه تعلق على غير الله في حصول البركة من غيره، وإن كان الله جعل فيه بركة. والتبرك طلب البركة ورجاؤها واعتقادها، أو عائدة وأمل بركة تعود إليه من جهتها، من جلب نفع أو دفع ضر. وتبرك به تيمن وفاز منه بالبركة، واستبرك به تفاءل بالبركة، والبركة النماء والزيادة.
(2) أي هل نفعت أو ضرت، يعني أنتم تعلمون أن ذلك ليس إليها، فلم تعبدونها وتجعلونها شركاء لله؟ وهذه الأوثان الثلاثة هي أعظم أوثان الجاهلية من أهل الحجاز، ولهذا نص عليها بأعيانها، وإلا ففي الحجاز أوثان غيرها، لكن خص هذه الثلاثة بالذكر؛ لأنها أكبر أصنام العرب إذ ذاك، فصارت الفتنة بها أشد. فأما اللات فقرئ بالتخفيف والتشديد، فعلى الأولى قالوا: هي صخرة بيضاء منقوشة، عليها بيت بالطائف، وعلى الثانية قال ابن عباس: " رجل كان يلت السويق للحاج، فمات فعكفوا على قبره ". ولا منافاة بين عبادتهم الصخرة أو قبره. وأما العزى فكانت شجرة سمر عليها بناء وأستار بنخلة الشامية المسماة بالمضيق بين مكة والطائف، كانت قريش تعظمها، كما قال أبو سفيان يوم أحد: لنا العزى إلخ. ولما فتح رسول =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النجم آية : 19-20(8/141)
ص -91- ... .............................................................................................
= الله صلى الله عليه وسلم مكة بعث إليها خالدا فقطع الشجرة وهدم البيت، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم : "ارجع فإنك لم تصنع شيئا"، فلما رجع وجد امرأة عريانة ناشرة شعرها، تحفن التراب على وجهها فقتلها، فقال صلى الله عليه وسلم : "تلك العزى". وأما مناة فكانت بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة. قال الشيخ: (( كانت لأهل المدينة، ومن قال: إنها لغطفان؛ فلأنها كانت تعبدها، وهي في جهتها )) ا هـ.
وكانت خزاعة والأوس والخزرج يعظمونها، ويهلون منها للحج، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم عليا فهدمها يوم الفتح. ومناسبة الآية للترجمة أن عبادة المشركين لها إنما كانت بالتفات القلوب رغبة إليها في حصول ما يرجونه ببركتها، من نفع أو دفع ضر، فصارت أوثانا تعبد من دون الله، فالتبرك بقبور الصالحين كاللات، وبالأشجار والأحجار كالعزى ومناة، من جنس فعل أولئك المشركين مع تلك الأوثان، فمن فعل مثل ذلك فقد ضاهى عباد هذه الأوثان فيما كانوا يفعلونه معها من هذا الشرك، مع أن الواقع من هؤلاء المشركين مع معبوديهم أعظم مما وقع من أولئك، قال تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى} 1. أي كيف تجعلون هذه الإناث أندادا لله وتسمونها آلهة، وذلك أنهم اشتقوا اسم اللات من الإله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. وقيل: أتجعلون لكم ما تحبون وهم الذكور، وتجعلون لله الإناث؟ وهذا من قولهم: الملائكة بنات الله: {تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى} 2. أي جور وباطل {إِنْ هِيَ} يعني ألوهية هذه الأوثان: {إِلاَّ أَسْمَاءٌ}أي مجرد تسمية: {سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} 3 من تلقاء أنفسكم: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} 4 أي من حجة وبرهان، وتسمية الحجة سلطانا لما فيها من السلطة على(8/142)
القلوب والعقول، بالمصير لقبول المدلول: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ} 5 أي ليس لهم مستند إلا حسن ظنهم بآبائهم الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم: {وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} 6 فنهاية برهانهم مبني على أمرين: فساد العلم، وفساد الإرادة. وكل فساد في الوجود من الشرك فما دونه دائر على فساد العلم وفساد الإرادة أو هما جميعا، كما أنه لا استقامة إلا لمن عنده علم =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النجم آية : 21.
2 سورة النجم آية : 22.
3 سورة الأعراف آية : 71.
4 سورة يوسف آية : 40.
5 سورة الأنعام آية : 116.
6 سورة النجم آية : 23.(8/143)
ص -92- ... عن أبي واقد الليثي (1) قال: " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين (2) ونحن حدثاء عهد بكفر (3)، وللمشركين سدرة يعكفون عندها (4)
....................................................................
= صحيح وإرادة صحيحة.: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} 1 أرسل إليهم الرسل بالحق المنير، والحجة القاطعة بإبطال عبادتها، وفي هذه الآيات من الدلائل القطعية على بطلان عبادة هذه الطواغيت وأشباهها مما لا مزيد عليها.
(1) واسمه الحارث بن عوف، صحابي مشهور أسلم قبل الفتح، وكان يحمل لواء بني ليث وضمرة وسعد بن بكر يوم الفتح، وخرج إلى مكة فجاور بها سنة ومات سنة 68 هـ، وله 85 سنة.
(2) وفي حديث عمرو بن عوف عند الحاكم وغيره: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، ونحن ألف ونيف حتى إذا كنا بين حنين والطائف إلخ. وحنين واد بشرقي مكة، بينه وبينها بضعة عشر ميلا، قاتل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم هوازن بعد الفتح، والقصة مشهورة.
(3) أي قريب عهدنا بالكفر؛ لأنه ممن أسلم يوم الفتح، يشير إلى أهل مكة الذين أسلموا قريبا، فلذلك خفي عليهم هذا الشرك; ولهذا اعتذروا مما صدر منهم. قال المصنف: (( فيه أن غيرهم لا يجهله ذلك، وأن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يؤمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة )).
(4) أي يلبثون ويقيمون عندها ويعظمونها. والعكوف هو البقاء واللبث والإقامة على الشيء في المكان، عبادة وتعظيما وتبركا؛ وإنما عكفوا عندها لما كانوا يأملونه فيها من البركة، كما يعكف عباد القبور اليوم عندها ويجاورون، وتدفع الصدقات والنذور لتلك القبور، وفي حديث عمرو بن عوف قال: كان يناط بها السلاح =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النجم آية : 23.(8/144)
ص -93- ... وينوطون بها أسلحتهم (1)، يقال لها: ذات أنواط (2)، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط (3)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله أكبر إنها السنن (4)
....................................................................
= فسميت ذات أنواط، وكانت تعبد من دون الله، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم صرف عنها في يوم صائف إلى ظل هو أدنى منها إلخ. فيجمع بينهما بأن عبادتها هي العكوف عندها رجاء لبركتها.
(1) أي يعقلونها عليها لتنالهم بركتها، فعبادتهم لها بالتعظيم والعكوف والتبرك، وبهذه الثلاثة العكوف والتعظيم والتبرك عبدت الأوثان من دون الله، ولفظ ابن إسحاق وغيره: "وكانت لقريش شجرة خضراء عظيمة، يأتونها كل سنة فيعلقون عليها سلاحهم، ويعكفون عندها ويذبحون لها ".
(2) جمع نوط وهو مصدر، سمي به المنوط، وإنما سميت بذلك لكثرة ما يناط بها من السلاح. وفي رواية: " فتنادينا من جانبي الطريق، ونحن نسير إلى حنين يا رسول الله اجعل لنا " إلخ.
(3) سألوه أن يجعل لهم شجرة مثلها يتبركون بها، ويعلقون عليها أسلحتهم، ويعكفون عندها، ظنا منهم أن هذا أمر محبوب عند الله، وأنه صلى الله عليه وسلم لو جعل لهم مثل ذلك لجاز اتخاذها لحصول البركة، فطلبوه من النبي صلى الله عليه وسلم ، وإلا فهم أجل قدرا من أن يقصدوا مخالفة النبي على الله عليه وسلم.
(4) أي الله أجل وأعظم، صيغة تعجب، وإن كان إجلالا لله وتنزيها له عما لا يليق بجلاله وعظمته، ومما لا يليق بجلاله وعظمته أن يتخذ شجرة يطلب منها البركة. "إنها السنن" يعني سلكتم كما سلك الذين من قبلكم السنن المذمومة، والسنن بضم السين الطرق، والمراد تقليد من تقدمهم من أهل الشرك، وفي رواية: "سبحان الله" =(8/145)
ص -94- ... قلتم، والذي نفسي بيده كما قالت بنوا إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، (1) قال: إنكم قوم تجهلون (2)
....................................................................
= والمراد تعظيمه تعالى، وتنزيهه أن يشرك معه أحد في عبادته. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل التسبيح والتكبر في حال التعجب، تعظيما لله وتنزيها له سبحانه إذا سمع من أحد ما لا يليق به سبحانه، مما فيه هضم للربوبية، وتنقص في الألوهية، وهكذا ينبغي لكل مسلم أن يسبح ويكبر إذا سمع ما لا ينبغي أن يقال في الدين.
(1) أي اجعل لنا مثالا نعبده كما لهم آلهة، ولم يكن ذلك شكا منهم في وحدانية الله تعالى، وإنما معناه اجعل لنا شيئا نعظمه، ونتقرب به إلى الله. وشبه صلى الله عليه وسلم مقالتهم هذه بقول بني إسرائيل، بجامع أن كلا طلب أن يجعل له ما يألهه ويعبده من دون الله، وإن اختلف اللفظان فالمعنى واحد. فتغيير الاسم لا يغير الحقيقة، فدل على أن التبرك بالأشجار والأحجار شرك أكبر، لتسويته صلى الله عليه وسلم بين مقالتهم ومقالة بني إسرائيل، وحلف صلى الله عليه وسلم على ذلك وإن لم يستحلف مزيد تحذير وكمال شفقة، وتأكيدا لهذا الخبر وتعظيما له، فإن التبرك بالأشجار والأحجار يجعلها آلهة وإن لم يسموها آلهة، فما يفعله من يعتقد فيها من التبرك بها، والعكوف عندها، والذبح لها هو الشرك الأكبر وإن سمى عمله ما شاء من الأسماء. فأهل هذه الأزمنة يسمون شركهم توسلا وتشفعا وهو من أعظم الشرك.
(2) يعني عظمة الله: {إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ} 1 أي هالك وباطل مضمحل وزائل ما كانوا يعملونه من عبادة الأصنام، ولم يكفروا بطلبهم لأنهم حدثاء عهد بالإسلام، ولأنهم لم يفعلوا. وإسرائيل: هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل، أبو الأسباط الاثني عشر، كان في القرن التاسع عشر قبل المسيح، وغالب بني إسرائيل هم اليهود، ومعنى إسرائيل عبد الله،(8/146)
وكذا كل اسم فيه إيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 139.(8/147)
ص -95- ... لتركبن سنن من كان قبلكم " (1). رواه الترمذي وصححه (2).
....................................................................
(1) بضم السين، أي لتتبعن أنتم أيها الأمة طرق اليهود والنصارى ومناهجهم وأفعالهم، ويجوز فتح السين على الإفراد، أي طريقهم، وقد وقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم فركبوا طرق من كان قبلهم. وفي الصحيحين: " لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة "1 الحديث، وفي رواية: " لتتبعن سنن من كان قبلكم، شبرا بشبر وذراعا بذراع "2. وهو خبر معناه الذم، وفيه علم من أعلام النبوة. وأن الشرك لا بد أن يقع في هذه الأمة، وفيه الخوف منه، وأن الإنسان قد يستحسن شيئا يظنه يقربه إلى الله وهو أبعد ما يبعده. وفيه النهي عن التشبه بأهل الجاهلية وأهل الكتاب فيما كانوا يفعلونه، إلا ما دل الدليل على أنه من شرعنا، وأن ما ذم الله به اليهود والنصارى أنه لنا، فإنما قاله لنا لنحذره، فلا يجوز التبرك بالصالحين؛ لأن الصحابة لم يكونوا يفعلونه مع غير النبي صلى الله عليه وسلم لا أبي بكر ولا غيره، ولا فعله التابعون مع قاداتهم في العلم والدين، وللنبي صلى الله عليه وسلم في حال حياته خصائص كثيرة، لا يصلح أن يشاركه فيها غيره، فلا يجوز أن يقاس عليه أحد من الأئمة لعدم المقاربة فضلا عن المساواة له صلى الله عليه وسلم في الفضل والبركة، وعدم تحقق الصلاح فإنه لا يتحقق إلا بصلاح القلب، ولو ظننا صلاح شخص فلا نأمن أن يختم له بخاتمة سوء، ولأنه لا يؤمن أن يفتنه وتعجبه نفسه، ولا يتبرك بالكعبة ولا غيرها، سدا لذريعة الشرك، بل تنازع الفقهاء في وضع اليد على منبره صلى الله عليه وسلم لما كان موجودا، فكرهه مالك وغيره لأنه بدعة، وذكر أنه لما رأى عطاء فعله لم يأخذ عنه العلم.
(2) وقال: وفي الباب عن أبي سعيد وأبي هريرة، ورواه أحمد وأبو يعلى وابن أبي شيبة والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن إسحاق وابن عيينة وابن(8/148)
أبي حاتم والطبراني وغيرهم بنحوه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم : العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89 ,3/94).
2 البخاري : أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم : العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89 ,3/94).(8/149)
ص -96- ... باب ما جاء في الذبح لغير الله (1)
وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ ....} 1 الآية (2).
....................................................................
(1) أي من الوعيد على ذلك، وبيان أنه شرك أكبر ناقل عن الملة؛ لأنه عبادة من أجل العبادات، وقربة من أفضل القربات المالية، فصرفه لغير الله شرك، كمن يذبح لقبر أو شجرة أو حجر أو ملك أو نبي أو جني أو لطلعة سلطان أو للزيران أو غير ذلك.
(2) أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين، الذين يعبدون غير الله، ويذبحون لغيره: {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} 2 أي ذبحي، والناسك المخلص لله {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} أي ما أحيا عليه وما أموت عليه، من الإيمان والعمل الصالح لله رب العالمين خالصا لوجهه: {لا شَرِيكَ لَهُ} في شيء من ذلك، ولا في غيره من أنواع العبادة، فالصلاة أجل العبادات البدنية، والنسك أجل العبادات المالية، فمن صلى لغير الله فقد أشرك، ومن ذبح لغير الله فقد أشرك، ومطابقة الآية للترجمة أن الله تعبد عباده بأن يتقربوا إليه بالنسك، كما تعبدهم أن يتقربوا إليه بالصلاة، وإذا تقربوا إلى غيره بالذبح فقد جعلوا له شريكا في عبادته، وهو ظاهر في قوله: {لا شَرِيكَ لَهُ}نفى أن يكون لله شريك في هذه العبادات. وقوله: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} 3 أي من هذه الأمة؛ لأن إسلام كل نبي متقدم على قومه، فدلت هذه الآية أن أقوال العبد وأفعاله الظاهرة والباطنة لا يجوز صرف شيء منها لغير الله، ومن صرف منها شيئا لغير الله فقد أشرك، والقرآن كله يدل على ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية : 162-163.
2 سورة الأنعام آية : 162.
3 سورة الأنعام آية : 163.(8/150)
ص -97- ... وقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} 1 (1). عن علي رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: (2) " لعن الله من ذبح لغير الله (3)،
....................................................................
(1) يعني لا لغيره، قال شيخ الإسلام: أمره الله أن يجمع بين هاتين العبادتين، وهما الصلاة والنسك، الدالتان على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن، وقوة اليقين وطمأنينة القلب إلى الله وإلى ما أعده، عكس حال أهل الكبر والنفرة، وأهل الغنى عن الله، الذين لا حاجة لهم إلى ربهم، ولا ينحرون له خوفا من الفقر. ولهذا جمع بينهما في قوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} 2 والنسك الذبيحة لله ابتغاء وجهه، فالصلاة أجل ما يتقرب به إلى الله، وما يجتمع للعبد في الصلاة من الخشوع والذل والإقبال لا يجتمع له في غيرها، كما يعرفه أهل القلوب الحية، وما يجتمع له عند النحر إذا قارنه الإيمان والإخلاص من قوة اليقين، وحسن الظن أمر عجيب، فإنه إذا سمحت نفسه بالمال لله مع وقعه في النفس، ثم أذاق الحيوان الموت مع محبته له، صار بذلك أفضل من بذل سائر الأموال، فدل على أنه عبادة من أفضل العبادات، وكان صلى الله عليه وسلم كثير الصلاة، كثير النحر، وقد تضمنت الصلاة كثيرا من أنواع العبادة، وكذا النسك تضمن أمورا من العبادة التي لا يجوز صرف شيء منها لغير الله، ومن صرف منها شيئا لغير الله فقد أشرك.
(2) تطلق الكلمة على الجملة المفيدة كقوله: (كلا إنها كلمة) إشارة إلى قوله: {رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} 3، وعلى كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله، وكهذه الأربع، وعلى الخطبة، وعلى القصيدة.
(3) اللعن الطرد والإبعاد عن مظان الرحمة ومواطنها، واللعين والملعون من حقت عليه اللعنة أو دعي عليه بها، واللعن من الخلق السب والدعاء. قال شيخ الإسلام: إن الله يلعن من استحق اللعنة(8/151)
بالقول، كما يصلي على من استحق الصلاة =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الكوثر آية : 2.
2 سورة الأنعام آية : 162.
3 سورة المؤمنون آية : 99.(8/152)
ص -98- ... لعن الله من لعن والديه (1)، لعن الله من آوى محدثا (2)،
....................................................................
= من عباده. وقال في قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} 1 ظاهره أن ما ذبح لغير الله، مثل أن يقول هذه ذبيحة لكذا، وإذا كان هذا هو المقصود، فسواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبح للحم وقال فيه باسم المسيح أو نحوه، فإذا حرم ما قيل فيه باسم المسيح ونحوه فلأن يحرم ما قيل فيه لأجل المسيح أو قصد به ذلك أولى، فإن العبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله، وعلى هذا فلو ذبح لغير الله متقربا إليه حرم، وإن قال فيه: بسم الله كما يفعله طوائف من منافقي هذه الأمة، الذين يتقربون إلى الكواكب بالذبح والبخور، وما يفعل بمكة من الذبح للجن، وذكر المروزي أن ما ذبح عند استقبال السلطان تقربا إليه أفتى أهل بخارى بتحريمه؛ لأنه مما أهل به لغير الله، ووجه مطابقة الحديث للترجمة لعن من ذبح لغير الله، وبدأ بلعنه قبل غيره لغلظ تحريمه.
(1) فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري أنه قال: " من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه "2 فيكون هو السبب في لعن والديه، وجعله النبي صلى الله عليه وسلم سابا لاعنا لأبويه بتسببه إلى ذلك وتوسله إليه وإن لم يقصده، ويوجد من يباشرهما بالسب، وظاهر الخبر أن يتولى الابن لعنهما بنفسه، فلعن من نطق بسبهما، ولما أخبر أنه إذا سب أبا الرجل سب أباه كان كمن تولى ذلك بنفسه، وفيه دليل على أن من تسبب في شيء جاز أن ينسب إليه ذلك الشيء، وهذا الحديث أصل في قطع الذرائع.
(2) بفتح الهمزة ممدودة وهو الفار المستحق للحد الشرعي، فيحول بينه وبين أن يقام عليه، وفي الحديث: " من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في(8/153)
أمره "3. وفي الحديث: " إذا بلغت الحدود السلطان فلعن الله الشافع والمشفع "4.=
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 173.
2 البخاري : الأدب (5973) , ومسلم : الإيمان (90) , والترمذي : البر والصلة (1902) , وأحمد (2/164 ,2/195 ,2/216).
3 أبو داود : الأقضية (3597) , وأحمد (2/70).
4 مالك : الحدود (1580).(8/154)
ص -99- ... لعن الله من غير منار الأرض "1. (1) رواه مسلم (2).
....................................................................
= قال ابن الأثير: (( ويروى بكسر الدال وفتحها، فمعنى الكسر: من نصر جانيا وآواه وأجاره من خصمه، وحال بينه وبين أن يقتص منه. وبالفتح هو الأمر المبتدع نفسه، ويكون معنى الإيواء فيه الرضى به والإقرار عليه، فإنه إذا رضي بالبدعة وأقر فاعلها ولم ينكر عليه فقد آواه )). قال ابن القيم: (( هذه الكبيرة تختلف مراتبها باختلاف مراتب الحدث في نفسه، فكلما كان الحدث في نفسه أكبر كانت الكبيرة أعظم )).
(1) علامات حدودها أي قدم أو أخر ليغتصب من أرض جاره، سميت منارا لإنارتها بين الحقين أي حجزها وتمييزها بينهما، فيكون من ظلم الأرض الذي قال فيه -عليه الصلاة والسلام-: " من ظلم شبرا من الأرض طوقه من سبع أرضين يوم القيامة "2. متفق عليه. أو لإنارتها على الطرق، وهي الأعلام التي توضع على السبل، فإذا غيرها ضل السالك. وقال المصنف: (( هي المراسيم التي تفرق بين حقك وحق جارك، فتغيرها بتقديم أو تأخير; وفيه الفرق بين لعن المعين ولعن أهل المعصية على سبيل العموم )) ا هـ. فالحديث دليل على جواز لعن أنواع الفساق، كقوله: " لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده "3. وأما لعن الفاسق المعين فقيل: يجوز، اختاره ابن الجوزي. وقيل: لا يجوز اختاره أبو بكر عبد العزيز والشيخ، والشيخ عبد المغيث وصنف في ذلك مصنفا ذكره عنه الشيخ، وأنه المعروف عن أحمد.
(2) من طرق وفيه قصة، ورواه أحمد كذلك عن أبي الطفيل قال: قلنا لعلي: أخبرنا بشيء أسرّه إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال: ما أسرّ إلى شيئا كتمه الناس، ولكن سمعته يقول. فذكره، وفي آخره: " ولعن الله من غير تخوم الأرض "4 يعني المنار.(8/155)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (1/317).
2 البخاري : المظالم والغصب (2453) , ومسلم : المساقاة (1612) , وأحمد (6/259).
3 البخاري : الحدود (6783) , ومسلم : الحدود (1687) , والنسائي : قطع السارق (4873) , وابن ماجه : الحدود (2583) , وأحمد (2/253).
4 مسلم : الأضاحي (1978) , والنسائي : الضحايا (4422) , وأحمد (1/108).(8/156)
ص -100- ... وعن طارق بن شهاب (1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " دخل الجنة رجل في ذباب ودخل النار رجل في ذباب (2). قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ (3) قال: مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجاوزه أحد حتى يقرب له شيئا (4)،
....................................................................
(1) هو ابن عبد شمس بن هلال بن عوف البجلي الأحمسي أبو عبد الله، قال الحافظ: رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو رجل. وروى أبو داود والبغوي أنه قال: (( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وغزوت في خلافة أبي بكر )). وقال أبو داود: رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه، فروايته عنه مرسل صحابي، وهو مقبول على الراجح، توفي سنة 83هـ.
(2) أي بسبب ذباب ومن أجله، ولعل هذين الرجلين من بني إسرائيل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يحدث عنهم.
(3)كأنهم تقالوا هذا العمل، واستغربوه وتعجبوا منه، كيف بلغ الذباب إلى هذه الغاية التي بسببه دخل رجل الجنة ورجل دخل النار، أو احتقروه كيف كان تقريب الذباب سببا لدخول الجنة أو النار، فاستفهموه ليبين لهم ما استغربوه، فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم ما صير هذا الأمر الحقير عندهم عظيما، يستحق هذا عليه الجنة، ويستوجب الآخر عليه النار.
(4) وإن قلّ تعظيما لصنمهم، والصنم ما كان منحوتا على صورة وعبد من دون الله، ويطلق عليه الوثن كما مر، وكل ما عبد من دون الله يقال له صنم، بل كل ما يشغل عن الله يسمى صنما، ولا يجاوزه أي لا يمر به ولا يتعداه حتى يقرب له شيئا.(8/157)
ص -101- ... قالوا لأحدهما: قرب. قال: ليس عندي شيء أقرب (1)، قالوا: قرب ولو ذبابا. فقرب ذبابا (2) فخلوا سبيله فدخل النار (3). وقالوا للآخر: قرب. قال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل (4)،
....................................................................
(1) يعني للصنم، احتج بالعدم فلما عرفوا موافقته بالذبح لغير الله، واعتذر طمعوا فيه، وقنعوا منه بأيسر شيء؛ لأن قصدهم موافقتهم على ما هم عليه من الشرك.
(2) حصل به موافقتهم، وظاهره أنه لو وجد بدنة لقربها.
(3) بسبب قربانه الذباب للصنم؛ لأنه قصد غير الله بقلبه، وانقاد بعمله فوجبت له النار. ففيه بيان عظمة الشرك ولو في شيء قليل، وأنه يوجب النار لقوله: {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ}1. فإذا كان هذا فيمن- قرب ذبابا، فكيف بمن يستسمن الإبل وغيرها، ليتقرب بنحرها لمن كان يعبده من دون الله، من قبر أو مشهد أو طاغوت وغير ذلك؟ وفيه التحذير من الوقوع في الشرك، وأن الإنسان قد يقع فيه وهو لا يدري، والحذر من الذنوب وإن كانت صغيرة في الحسبان، كما قال أنس: " إنكم تعملون أعمالا هي أصدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات ". وفيه أنه دخل النار بسبب لم يقصده ابتداء، وإنما فعله تخلصا من شر أهل الصنم، وفيه أنه كان مسلما، وإلا لم يقل دخل النار في ذباب، وفيه أن عمل القلب هو المقصود الأعظم حتى عند عبدة الأوثان.
(4) أبى عليهم، وبادأهم بالإنكار، وعظم عليه أن يقرب لصنمهم شيئا، ونفر من الشرك وصرح بإخلاص العبادة لله عز وجل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية : 72.(8/158)
ص -102- ... فضربوا عنقه فدخل الجنة " (1). رواه أحمد (2).
....................................................................
(1) لامتناعه عن التقريب لغير الله، إيمانا واحتسابا وإجلالا وتعظيما لله، ففيه بيان فضيلة التوحيد والإخلاص وتفاوت الناس في الإيمان. قال المصنف: (( وفيه معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين، كيف صبر على القتل ولم يوافقهم على طلبتهم، مع كونهم لم يطلبوا منه إلا العمل الظاهر، ودل الحديث على أن الذبح عبادة، وأن صرفه لغير الله شرك، وأن الذابح لغير الله يكون من أهل النار )).
(2) وكذا أورده ابن القيم وغيره. ورواه أحمد في كتاب الزهد، وأبو نعيم في الحلية، موقوفا على سليمان بن ميسرة. قال الحافظ: سليمان بن ميسرة الأحمسي عن طارق بن شهاب، وعنه الأعمش وغيره، روى عن طارق وله صحبة، ووثقه النسائي وغيره.(8/159)
ص -103- ... باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله (1)
وقول الله تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} 1 الآية (2).
....................................................................
(1) لا نافية، ويحتمل أنها للنهي، واستظهره الشارح. أي لا يجوز الذبح لله بمكان أعد للذبح لغير الله؛ لأن ذلك فيه مشابهة ومضارعة للمشركين ظاهرة في المكان، وهو منهي عنه، كما في الحديث: " من تشبه بقوم فهو منهم "2. ولو قصد الذابح وجه الله؛ لأنه إحياء للمحل الشركي، وتعظيم له، فيكون وسيلة إلى وجود الشرك ورجوعه، وسد الذرائع من أهم ما جاءت به الشريعة، بل لا يجوز بعدا عن الشرك ومواضع الغضب، وكان أهل نجد كغيرهم يذبحون للجن لطلب الشفاء منهم لمرضاهم، ويتخذون للذبح لهم مكانا مخصوصا في دورهم، فأزال الله ذلك عنه بدعوة شيخ الإسلام قدس الله روحه.
(2) أي لا تصل في مسجد الضرار، وكان بناه جماعة من المنافقين مضارة لمسجد قباء، وكفرا بالله ورسوله،:{وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} 3. وهو أبو عمرو الفاسق، وكان بناؤه قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك. فسألوه أن يصلي فيه رجاء بركة صلاته، وذكروا أنهم بنوه للضعفاء وأهل العلة في الليلة الشاتية. فقال: " إنا على سفر، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله "، فلما قفل ولم يبق بينه وبين المدينة إلا يوم أو بعضه، نزل الوحي بخبر المسجد، فبعث إليه وهدمه وحرقه قبل قدومه. ومطابقة الآية للترجمة أن هذا المسجد لما أسس على معصية الله والكفر به، صار محل غضب، فنهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقوم فيه، لوجود العلة المانعة، وهو صلى الله عليه وسلم لا يصلي إلا لله، فكذلك المواضع المعدة للذبح لغير الله يجب اجتناب الذبح فيها لله، وهذا قياس صحيح يؤيده الحديث الآتي. وقوله: =(8/160)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية : 108.
2 أبو داود : اللباس (4031).
3 سورة التوبة آية : 107.(8/161)
ص -104- ... عن ثابت بن الضحاك (1) قال: " نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة (2)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا (3)،
....................................................................
=: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} 1 حثه على الصلاة في مسجد قباء الذي أسس من أول يوم بني على التقوى، وهي طاعة الله ورسوله، وجمعا لكلمة المسلمين، ومعقلا للإسلام وأهله. وكان صلى الله عليه وسلم يزوره، وفي الصحيح: " صلاة في مسجد قباء كعمرة "2. وقال بعضهم: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمارى فيه رجلان، فقال صلى الله عليه وسلم : " هو مسجدي هذا "3 رواه مسلم. ولا منافاة، فإنه إذا كان مسجد قباء بهذا الوصف قد أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بهذه الصفة بطريق الأولى. وقوله: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} 4 " لما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم فيه فقال: ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم به"؟ قالوا: ما نعلم إلا أنه كان لنا جيران من اليهود، فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا، فقال: هو ذاك فعليكموه "5.: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} 6 الذين يتنزهون من القذرات والنجاسات بعدما يتطهرون من أوضار الشرك وأقذاره.
(1) رضي الله عنه ابن خليفة بن ثعلبة بن عدي بن كعب بن عبد الأشهل الأشهلي الخزرجي الأنصاري، صحابي مشهور، شهد بيعة الرضوان، روى عنه أبو قلابة وغيره، مات أيام ابن الزبير، وقيل سنة 64 هـ.
(2) هضبة من وراء ينبع، قريبة من ساحل البحر، والرجل يحتمل أنه كردم ابن سفيان والد ميمونة، كما صرح به أبو داود وغيره في الرواية الآتية.
(3) الوثن يتناول كل معبود من دون الله من صورة أو قبر، وفي رواية أو نصب، وفي رواية أو طاغية، قال المصنف: وفيه المنع(8/162)
منه إذا كان فيه وثن من =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية : 108.
2 مالك : النداء للصلاة (416).
3 ابن ماجه : المناسك (3056) , وأحمد (4/80 ,4/82) , والدارمي : المقدمة (227).
4 سورة التوبة آية : 108.
5 الترمذي : الأدب (2761) , والنسائي : الطهارة (13) والزينة (5047).
6 سورة التوبة آية : 108.(8/163)
ص -105- ... قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا (1)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أوف بنذرك (2)؛
....................................................................
= أوثان الجاهلية يعبد ولو بعد زواله، وهو الشاهد من الحديث للترجمة؛ لأن في بعض الروايات بيان أنه سأله في حجة الوداع بعد زوال الأوثان من تلك الجهات، فكل موضع أسس للمعصية لا يجوز الذبح فيه ولا الصلاة.
(1) قال شيخ الإسلام: العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائد إما بعود السنة أو الشهر أو الأسبوع، فالعيد يجمع أمورا: منها يوم عائد كيوم الفطر ويوم الجمعة، ومنها اجتماع فيه، ومنها أعمال تتبع ذلك من العبادات والعادات، وقد يختص العيد بمكان بعينه، وقد يكون مطلقا، قال المصنف: (( وفيه استفصال المفتي إذا احتاج إلى ذلك، والمنع من الوفاء بالنذر بمكان عيد من أعياد الجاهلية ولو بعد زواله )). قال الشارح: وفيه سد الذريعة، وترك مشابهة المشركين، والمنع مما هو وسيلة إلى ذلك، فإن قيل: لم جعل محل اللات بالطائف مسجدا؟ قيل: لو ترك هذا المحل بهذه البلدة خشي أن يفتتن به، فيرجع إلى جعله وثنا، فجعله مسجدا والحالة هذه ينسي ما كان يفعل فيه، ويذهب به أثر الشرك، فاختص هذا المحل لهذه العلة، وهي قوة المعارض والله أعلم.
(2) دل على أن الوصف سبب الحكم، فيكون سبب الأمر بالوفاء خلو المكان عن هذين الوصفين، فلو كان في ذلك المكان الذي نذر أن ينحر فيه وثن أو عيد لمنعه ولم يستفصل في نيته، فدل على أنه لا عبرة هنا بالنية، فلما خلى من الموانع أمره أن يوفي بنذره، وذلك في حجة الوداع. وروى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن " امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا، لمكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية، قال: "لصنم"؟ قالت: لا. قال: "لوثن" قالت: لا. قال: "أوفي بنذرك" "1.وله عن ميمونة، بنت كردم(8/164)
" قالت: خرجت =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : الأيمان والنذور (3312).(8/165)
ص -106- ... فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله (1)، ولا فيما لا يملك آدم "1 (2)، رواه أبو داود، وإسناده على شرطهما (3).
....................................................................
= مع أبي، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت أبده بصري، فدنا إليه أي فأخذ يقدمه، فأقر له ووقف، فقال: يا رسول الله إني نذرت إن ولد لي ولد ذكر أن أنحر على رأس بوانة في عقبة من الثنايا عدة من الغنم؟ قال: لا أعلم، إلا أنها قالت خمسين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هل بها من الأوثان شيء"؟ قال: لا. قال: "فأوف بما نذرت لله". قال: فجمعها فجعل يذبحها فانفلتت منه شاة فطلبها وهو يقول: اللهم أوف بنذري، فذبحها "2. ويحتمل أن يكون نذر إبلا وغنما. ويحتمل أن يكون ذلك قضيتين.
(1) دل على أن أماكن الشرك والمعاصي لا يجوز أن تقصد العبادة فيها وأن هذا نذر معصية لو وجد في المكان مانع، وما كان من نذر المعصية لا يجوز الوفاء به بإجماع العلماء، وهل فيه كفارة يمين؟ على قولين: أحدهما: تجب لحديث عائشة: " لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين "3. رواه أحمد وأهل السنن، واحتج به أحمد، لكن قال الترمذي وأبو داود وغيرهما: لا يصح. قال الشيخ: ظاهر مذهب أحمد لزوم الكفارة، وكذلك مذهب أكثر السلف، وهو قول أبي حنيفة وغيره.
والثاني: لا كفارة عليه؛ لحديث الباب، وحديث عائشة الآتي، وهو مذهب مالك والشافعي، وحكى الوزير أنه مذهب الثلاثة، واختاره شيخ الإسلام.
(2) كأن يقول: إن شفى الله مريضي فلله علي أن أعتق عبد فلان، ونحو ذلك، فإن التزم في ذمته شيئا كعتق رقبة وهو في تلك الحال لا يملكها ولا قيمتها، فإن شفي مريضه صح نذره، وثبت ذلك في ذمته.
(3) أي شرط البخاري ومسلم، مخرج لرواته، فيهما، وشرطهما اتصال الإسناد بالعدول الضابطين من غير شذوذ ولا علة. وله شواهد، وقال الحافظ: صحيح الإسناد.(8/166)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : الأيمان والنذور (3313).
2 أبو داود : الأيمان والنذور (3314).
3 الترمذي : النذور والأيمان (1524) , وابن ماجه : الكفارات (2125).(8/167)
ص -107- ... باب من الشرك النذر لغير الله (1)
وقول الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} 1 (2). وقوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} 2 (3).
....................................................................
(1) لكونه عبادة يجب الوفاء به إذا نذره لله، فإذا صرفه لغير الله كان شركا في هذه العبادة، كالذبح لغير الله. والنذر مصدر نذر ينذر، أي أوجب على نفسه شيئا لم يكن واجبا عليه شرعا، تعظيما للمنذور له، وكل الأبواب التي ذكرها المصنف تدل على أن من أشرك مع الله غيره في القصد والطلب فقد ناقض كلمة الإخلاص.
(2) مدح الله الذين يتعبدون له بما أوجبوه على أنفسهم من الطاعات، وهو سبحانه لا يمدح إلا على فعل واجب أو مستحب، أو ترك محرم، وذلك هو العبادة، فمن فعل ذلك لغير الله متقربا إليه فقد أشرك.
(3) يخبر تعالى أن ما أنفقناه من نفقة أو نذرناه من نذر متقربين به إليه أنه يعلمه، ويجازينا عليه، فدل ذلك على أنه عبادة، فالنذور من عباد القبور ليشفعوا لهم شرك؛ لأنه عبادة لهم، فإنه معلوم بالضرورة أن من صرف شيئا من العبادة لغير الله فقد أشرك.
وقال صنع الله الحلبي: (( والنذر لغير الله إشراك مع الله، كالذبح لغير الله )).
وقال الفقهاء: خمسة لغير الله شرك: الركوع والسجود والنذر والذبح واليمين.
والحاصل أن النذر لغير الله فجور، فمن أين تحصل لهم الأجور.
وقال شيخ الإسلام: وما نذره لغير الله كالأصنام والشمس والقمر ونحو ذلك، بمنزلة أن يحلف بغير الله من المخلوقات، لا وفاء عليه ولا كفارة، وكذلك الناذر للمخلوق =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الإنسان آية : 7.
2 سورة البقرة آية : 270.(8/168)
ص -108- ... في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها(2) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه (2)،
....................................................................
= ليس عليه وفاء، فإن كلاهما شرك، والشرك ليس له حرمة، بل عليه أن يستغفر الله ويقول ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم " من حلف وقال في حلفه: واللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله "1 متفق عليه.
(1) أي في صحيح البخاري عن أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق أبي بكر -رضي الله عنهما-، زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأعلم الناس بحديثه، تزوجها وهي ابنة سبع، ودخل بها وهي ابنة تسع، وأفضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلا خديجة ففيها خلاف، فلا تفضل إحداهما على الأخرى، فإن لخديجة من الفضائل في بدء الوحي ما ليس لعائشة، من سبقها بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وتأييده في تلك الحال. ولعائشة من العلم بالأحاديث والأحكام ما ليس لخديجة، لعلمها بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن، وبيان الحلال من الحرام، وكان الصحابة يرجعون إليها بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فيما أشكل عليهم من أحواله وحديثه، توفيت سنة 57.
(2) أي يجب عليه الوفاء بذلك النذر الذي نذره خالصا لله، فصار عبادة، وقد أجمع العلماء على أن من نذر طاعة لشرط يرجوه كأن يقول: إن شفى الله مريضي فعلي أن أتصدق بكذا، وجب عليه إن حصل له ما علق نذره على حصوله، حيا كان أو ميتا، فإن كان حيا لزمه الوفاء به، وإن كان ميتا يفعل عنه، لوجوبه في ذمته، إلا أبا حنيفة فقال: لا يلزمه إلا بما جنسه واجب بأصل الشرع، والحديث حجة عليه، والأمر بالوفاء به دال على أنه عبادة، وقد علمنا من الآيتين والحديث أن النذر عبادة، فصرفه لغير الله شرك أكبر، ومنه الذين ينذرون الزيوت والشموع والأطياب للقبور، والمراد نذر الطاعة، لا نذر المجازات الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم : " إنه لا(8/169)
يأتي بخير "2 .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : تفسير القرآن (4860) , ومسلم : الأيمان (1647) , والترمذي : النذور والأيمان (1545) , والنسائي : الأيمان والنذور (3775) , وأبو داود : الأيمان والنذور (3247) , وابن ماجه : الكفارات (2096) , وأحمد (2/309).
2 مسلم : النذر (1639) , والنسائي : الأيمان والنذور (3801) , وأحمد (2/86).(8/170)
ص -109- ... ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه (1) "1.
....................................................................
(1) أي لا يوفي به؛ لأنه نذر معصية، زاد الطحاوي " ليكفر عن يمينه "2. وقال ابن القطان: (( عندي شك في هذه الزيادة، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز الوفاء بنذر المعصية )). وقال الحافظ: (( اتفقوا على تحريم النذر في المعصية، واختلفوا هل ينعقد موجبا للكفارة أولا ؟ )) وتقدم.
ولمسلم عن عقبة مرفوعا: " كفارة النذر إن لم يسم كفارة يمين "3. وقد يستدل بحديث الباب على صحة النذر في المباح، كما هو مذهب أحمد وغيره، ويؤيده حديث المرأة التي قالت: " نذرت أن أضرب على رأسك بالدف. فقال: أوفي بنذرك "4. رواه أحمد وغيره. وأما نذر اللجاج والغضب وهو تعليقه بشرط يقصد المنع منه، أو الحمل عليه، أو التصديق أو التكذيب، فيخير بين فعله وكفارة يمين. وقال الشيخ: موجب الحلف بنذر اللجاج والغضب عند الحنث، هو التخيير بين التكفير وبين فعل المنذور، وأكثر أهل العلم على أنه يجزئه كفارة يمين، وهو قول فقهاء الحديث.
وإن نذر مكروها كالطلاق استحب أن يكفر ولا يفعله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الأيمان والنذور (6696) , والترمذي : النذور والأيمان (1526) , والنسائي : الأيمان والنذور (3806 ,3807 ,3808) , وأبو داود : الأيمان والنذور (3289) , وابن ماجه : الكفارات (2126) , وأحمد (6/36 ,6/41 ,6/224) , ومالك : النذور والأيمان (1031) , والدارمي : النذور والأيمان (2338).
2 البخاري : الحج (1834) , ومسلم : الحج (1353) , والترمذي : السير (1590) , والنسائي : البيعة (4170) , وأبو داود : الجهاد (2480) , وابن ماجه : الجهاد (2773) , وأحمد (1/226 ,1/315 ,1/355).
3 البخاري : أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم : العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89).
4 الترمذي : الأمثال (2863).(8/171)
ص -110- ... باب من الشرك الاستعاذة بغير الله (1)
وقول الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} 1 (2).
....................................................................
(1) الاستعاذة الإلتجاء والإعتصام والتحرز، وحقيقتها الهرب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه، فالعياذ لدفع الشر، وأما اللياذ فطلب الخير. قال الشاعر:
يا من ألوذ به فيما أؤمله ... ومن أعوذ به فيما أحاذره
لا يجبر الناس عظما أنت كاسره ... ولا يهيضون عظما أنت جابره
فالعائذ بالله قد هرب إليه، واعتصم واستجار به، ولجأ إليه، والتزم بجنابه مما يخافه.
وهذا تمثيل، وإلا فما يقوم بالقلب من ذلك أمر لا تحيط به العبارة، وقد أمر الله عباده بها في مواضع من كتابه، وتواترت بها السنة عن المعصوم صلى الله عليه وسلم ، وهي عبادة من أجل العبادات، فصرفها لغير الله شرك أكبر، وإن استعاذ بالمخلوق الحي الحاضر فيما يقدر عليه فجائز، وسيأتي جواز: أعوذ بالله ثم بك.
وإن قال: أعوذ بالله وبك ولو فيما يقدر عليه كان مشركا شركا أصغر؛ لأن الواو تفيد أن ما بعدها مساو لما قبلها، عكس ثم، فإنها إنما تفيد التعقيب، وإن كان فيما لا يقدر عليه كان مشركا الشرك الأكبر، ولو قال أعوذ بالله ثم بك.
(2) أخبر عمن استعاذ بخلقه أن استعاذته زادته رهقا وهو الطغيان.
وذلك أن الرجل من العرب في الجاهلية كان إذا نزل واديا أو مكانا موحشا وخاف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه. فلما رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم خوفا منهم، زادوهم رهقا، أي خوفا وإرهابا وذعرا. فذمهم الله بهذه الآية =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الجن آية : 6.(8/172)
ص -111- ... وعن خولة بنت حكيم (1) قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق (2)،
....................................................................
= وأخبر أنهم يزيدونهم رهقا نقيض قصدهم، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يقول أحدهم إذا نزل منزلا " أعوذ بكلمات الله التامات من شر كل ما خلق "1. ووجه الاستدلال بالآية: أن الله حكى عن مؤمني الجن أنهم ذكروا أشياء من الشرك، كانوا يعتقدونها في الجاهلية، من جملتها الاستعاذة بغير الله.
قال المصنف: (( فيه أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية من كف شر أو جلب نفع لا يدل على أنه ليس من الشرك )).
(1) ابن أمية بن حارثة السلمية يقال لها أم شريك، ويقال: إنها هي الواهبة، وكانت قبل تحت عثمان بن مظعون. قال عمر بن عبد العزيز: (( نعمت المرأة الصالحة )).
(2) أي أعتصم بكلمات الله الكاملات، التي لا يلحقها نقص ولا عيب كما يلحق كلام البشر، أو الشافية الكافية، أو الكلمات هنا القرآن. من شر ما خلق، أي من شر كل مخلوق قام به الشر، لا من شر كل ما خلق الله. فإن الجنة والملائكة والأنبياء لا شر فيهم، وما موصولة وليس المراد بها العموم الإطلاقي، بل التقييدي الوصفي، والشر اسم جامع للسوء والفساد والظلم وجميع الرذائل والخطايا، ويقال على شيئين: على الألم، وعلى ما يفضي إليه. وقد شرع الله للمسلمين أن يستعيذوا بأسمائه وصفاته بدلا عما يفعله أهل الجاهلية من الاستعاذة بالجن، والأمر على جهة =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2708) , والترمذي : الدعوات (3437) , وابن ماجه : الطب (3547) , وأحمد (6/377 ,6/378 ,6/409) , والدارمي : الاستئذان (2680).(8/173)
ص -112- ... لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك (1) "1. رواه مسلم.
....................................................................
= الإرشاد إلى ما يدفع به الأذى.
وهذا الحديث مما استدل به أهل السنة على أن كلام الله غير مخلوق؛ لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك، ونهوا عن التعازيم والتعاويذ التي لا يعرف معناها، خشية أن يكون فيها شرك.
ومن ذبح لغير الله أو استعاذ به، أو تقرب إليه بما يحب فقد عبده، وإن لم يسم ذلك عبادة.
(1) قال القرطبي: (( هذا خبر صحيح، علمنا صدقه دليلا وتجربة منذ سمعته عملت به فلم يضرني شيء، إلى أن تركته فلدغتني عقرب ليلة، فتفكرت فإذا بي نسيته )). قال المصنف: (( فيه فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2708) , والترمذي : الدعوات (3437) , وابن ماجه : الطب (3547) , وأحمد (6/378 ,6/409) , والدارمي : الاستئذان (2680).(8/174)
ص -113- ... باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره (1)
وقول الله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ...} (2)
....................................................................
(1) الاستغاثة طلب الغوث، وهو إزالة الشدة، كالإستنصار طلب النصرة، والاستعانة طلب العون، والغياث هو المغيث، وأكثر ما يقال غياث المستغيثين، أي مدرك عباده في الشدائد إذا دعوه، ومجيبهم ومخلصهم.
والفرق بين الاستغاثة والدعاء أن الاستغاثة لا تكون إلا من المكروب، وأما الدعاء فهو أعم منها؛ لأنه يكون من المكروب وغيره، فعطف الدعاء كل الاستغاثة من عطف العام على الخاص، فبينهما عموم وخصوص مطلق، فكل استغاثة دعاء، وليس كل دعاء استغاثة، والمراد بيان تحريم الاستغاثة بغير الله، أو دعاء غيره من الأموات والغائبين، وأنه من الشرك الأكبر.
(2) نهى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو أحدا من سائر المخلوقين العاجزين عن إيصال النفع ودفع الضر، وأنه لا يجوز إلا ممن يملكه وهو الله وحده، وهذا النهي خرج مخرج الخصوص، والمراد به العموم، فهو عام لجميع الأمة.: {فَإِنْ فَعَلْتَ} 1 أي دعوت أحدا من دون الله: {فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} 2 أي من المشركين.
ولها نظائر، يخاطب تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك وهو مبرأ منه، لكنه أبلغ في الزجر والتحذير عن دعاء غير الله عز وجل، وفي الحديث: " الدعاء مخ العبادة "3. وفي لفظ: " هو العبادة ". صححه الترمذي وغيره، وأتى فيه النبي صلى الله عليه وسلم بضمير الفصل، والخبر المعرف بالألف واللام؛ ليدل على الحصر وأن العبادة ليست =(8/175)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يونس آية : 106.
2 سورة يونس آية : 106.
3 الترمذي : الدعوات (3371).(8/176)
ص -114- ... {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} (1) الآية 1 ، وقوله:: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} (2) الآية 2.
....................................................................
= غير الدعاء، أو إنما هي الدعاء نفسه، ثم الدعاء نوعان:
(دعاء مسألة) وهو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو دفع ضر، فالمعبود لا بد أن يكون مالكا لذلك، ولذلك أنكر الله على من عبد من لا يملك ضرا ولا نفعا.
(والنوع الثاني) دعاء عبادة بأي نوع من أنواع العبادة، وهو ما لم يكن فيه صيغة سؤال وطلب، وهما متلازمان.
(1) أي إن أصابك بفقر أو مرض أو غير ذلك من أنواع الضر فلا يكشف ذلك إلا الله وحده، فإنه المتفرد بالملك والقهر، والعطاء والمنع، والضر والنفع دون كل ما سواه، فيلزم من ذلك أن يكون هو المدعو وحده لا شريك له، فإن العبادة لا تصلح إلا لمالك الضر والنفع، ولا يملك ذلك ولا شيئا منه إلا هو سبحانه، فهو المستحق للعبادة وحده دون من لا ينفع ولا يضر.: { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} 3 الآية ونحوها. وفي حديث ابن عباس: " واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفوك إلا بشيء قد كتبه الله لك "4.
(2) أي اطلبوا الرزق عند الله وارغبوا إليه فيه عنده وحده لا شريك له دون ما سواه؛ لأنه المالك له، وغيره لا يملك شيئا من ذلك، وتقديم الظرف يفيد الاختصاص، " واعبدوه" أي أخلصوا له العبادة وحده لا شريك له.
وهذا من باب عطف العام على الخاص، فإن ابتغاء الرزق عند الله من العبادة التي أمر بها "واشكروا له" على ما أنعم به عليكم "إليه ترجعون" أي يوم القيامة فيجازي كلا بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، قال المصنف: (( وفيه أن طلب الرزق لا يبتغى إلا من الله كما أن الجنة لا تطلب إلا منه )).(8/177)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يونس آية : 106-107.
2 سورة العنكبوت آية : 17.
3 سورة الزمر آية : 38.
4 الترمذي : صفة القيامة والرقائق والورع (2516) , وأحمد (1/293).(8/178)
ص -115- ... وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} (1) الآيتين 1.
وقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} (2) الآية 2.
....................................................................
(1) حكم سبحانه أنه لا أضل ممن يدعو من دون الله أيّ مدعو كان، من وثن أو ولي أو غير ذلك، وأن ذلك المدعو لا يستجيب له ما طلب منه إلى يوم القيامة، فصارت دعوته له هي الغاية في الضلال والخسار: {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} 3، فالداعي لمن هو غافل عنه لا أضل منه {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً}. (4 يتبرؤون منهم، كما قال الله عنهم: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} 5.{وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} 6 أي جاحدين لها، فلا أضل ممن لا يحصل له إلا نقيض قصده، يتبرأ منه معبوده، ويجحد عبادته له، وأثبت تعاليمه أن دعاء غير الله عبادة له وأنه في غاية الضلال، وأكثر ما يستعمل في السؤال والطلب. وذكر المصنف فيها خمسة أمور أنه لا أضل ممن دعا غير الله، وأنه غافل عن دعاء الداعي لا يدري عنه، وأن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي وعداوته له، وأن تلك الدعوة عبادة للمدعو، وكفر المدعو بتلك العبادة، وأن هذه الأمور هي سبب كونه أضل الناس.
(2) يحتج تعالى على المشركين في اتخاذهم الشفعاء من دونه بما قد علموه من إجابة المضطرين، وكشف السوء النازل بهم من عنده، وجعلهم خلفاء أحياء بعد أمواتهم.
{أإله مع الله} أي أإله سوى الله يفعل هذه الأشياء بكم، وينعم عليكم هذه النعم؟ أي أنتم تعلمون وتعترفون أنه لا يفعل ذلك سوى الله، فإذا كانت آلهتكم لا تجيبكم في حال الاضطرار، فلا يصلح أن تجعلوها شركاء لله الذي يجيب المضطر ويكشف السوء {قليلا ما تذكرون} وتعتبرون نعم الله وأياديه عندكم،(8/179)
فلذلك أشركتم به غيره. ومن تأمل هذه الآيات ونظائرها تبين له أن الله احتج على المشركين بما أقروا به على ما جحدوه من قصر العبادة عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأحقاف آية : 5.
2 سورة النمل آية : 62.
3 سورة الأحقاف آية : 5.
4 سورة الأحقاف آية : 6.
5 سورة القصص آية : 63.
6 سورة الأحقاف آية : 6.(8/180)
ص -116- ... وروى الطبراني بإسناده (1): " أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين (2)، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق (3)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنه لا يستغاث بي، وإنما يستعاث بالله عز وجل " (4).
....................................................................
(1) إلى عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وقد بيض المصنف لاسم الراوي، والطبراني هو الإمام الحافظ سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطين، أبو القاسم اللخمي المعمر، صاحب المعاجم الثلاثة وغيرها، روى عن جماعة منهم: أبو زرعة والنسائي واسحق وخلق، وعنه ابن ريدة وأبو نعيم وخلق، وكان واسع الحفظ، بصيرا بالعلل والرجال، عاش مائة، وسمع وهو ابن ثلاث عشرة، وتوفي سنة 360 هـ.
(2) هو عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين.
(3) أي يرفع عنا أذيته فإنه قد آذى الله ورسوله.
(4) وهذا نص منه صلى الله عليه وسلم أنه لا يستغاث به، حماية لجناب التوحيد وسدا لذرائع الشرك، وتحذيرا من وسائله، وإذا كان هذا مع سيد الخلق فمن دونه بطريق الأولى.
قال شيخ الإسلام: (( والاستغاثة بمعنى أن يطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو اللائق بمنصبه، لا ينازع فيها مسلم فإن الصحابة كانوا يطلبون منه الدعاء، ويستسقون به، كما في الصحيح وغيره، وأما بالمعنى الذي نفاها فهي مما يجب نفيها، قال: وقد يكون في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عبارة لها معنى صحيح، لكن بعض الناس يفهم من تلك غير مراد الله ورسوله، وهذا يرد عليه فهمه، كما روى الطبراني " أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم =(8/181)
ص -117- ... .............................................................................................
= منافق يؤذي المؤمنين، فقال أبو بكر رضي الله عنه: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله ". فهذا إنما أراد به صلى الله عليه وسلم المعنى الثاني، وهو أن يطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله، وذكر قول أبي يزيد البسطامي: استغاثة المخلوق بالمخلوق كاستغاثة الغريق بالغريق، وقول أبي عبد الله القرشي كاستغاثة المسجون بالمسجون، ودعاء موسى: وبك المستغاث، قال: ولما كان هذا المعنى هو المفهوم عند الإطلاق، وكان مختصا بالله، صح إطلاق نفيه عما سوى الله )) ا هـ.
وقد تبين بما ذكر من الآيات والأحاديث أن دعاء الميت والغائب والحاضر فيما لا يقدر عليه إلا الله والاستغاثة بغير الله، في كشف الضر، أو تحويله هو الشرك الأكبر، بل هو أكبر أنواعه.(8/182)
ص -118- ... باب قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً} (1) الآية 1.
....................................................................
(1) أراد المصنف -رحمه الله- بهذه الترجمة الرد على كل مشرك كائنا من كان، وبيان حال المدعوين من دون الله، أنهم لا ينفعون ولا يضرون، سواء في ذلك الأنبياء والصالحون وغيرهم، وقوله: "أيشركون" استفهام إنكار وتوبيخ، وتعنيف للمشركين في عبادتهم مع الله من لا يخلق شيئا، وليس فيه ما يستحق به العبادة؛ فإنه إذا كان معبودهم لا يخلق شيئا بطلت عبادتهم له، وتقرر أن الخالق سبحانه هو المستحق للعبادة وحده، وقوله: "وهم يخلقون" أي ومن أشركوه مع الله في عبادته مخلوق، والمخلوق لا يستحق أن يكون شريكاً للخالق في العبادة التي خلقهم لها، وأخبر أنهم مع ذلك "لا يستطيعون لهم نصرا" أي لمن سألهم النصرة "ولا أنفسهم ينصرون" وهاتان الصفتان أبلغ مما قبلهما، أي فكيف يشركون به من لا يستطيع نصر عابديه، ولا نصر نفسه؟ وذلك برهان ظاهر قاطع ببطلان ما كانوا يعبدونه من دون الله، فإنه إذا كان المدعو لا يقدر أن ينصر نفسه فلأن لا ينصر غيره من باب الأولى، بل من هذه حاله فهو في غاية العجز، فكيف يكون إلها معبودا؟ فبطل تعلق المشركين بهذه البراهين، وهي كونهم لا يخلقون بل يخلقون، عبيد لمن خلقهم لعبادته، والعبد لا يكون معبودا، ولا قدرة لهم على نفع عابدهم، ولا على نفع أنفسهم، وخاب سعيهم، وظهر أنهم أخسر الناس صفقة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 191-192.(8/183)
ص -119- ... وقوله: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (1) الآية 1.
وفي الصحيح عن أنس قال: " شجّ النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد (2)
....................................................................
(1) أول الآية قوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} 2. يخبر سبحانه أن الملك له وحده، والملوك وجميع الخلق تحت تصرفه وتدبيره، فهو المستحق للعبادة وحده، ولهذا قال: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} 3. وهو القشرة على النواة نكرة في سياق النفي، ومع دخول "من" عليه من أبلغ النفي، فمن كانت هذه صفته لا يجوز أن يرغب إليه في دفع ضر، أو جلب نفع، وأخبر أنهم لا يسمعون دعاء من دعاهم، ولو فرض أنهم يسمعون فلا يستجيبون لداعيهم، وأنهم يوم القيامة يكفرون بشركهم، أي يجحدونه ويتنصلون منه، ويتبرءون ممن فعله معهم، ثم قال: "ولا ينبئك" أي يخبرك بعواقب الأمور، ومآلها وما تصير إليه "مثل خبير" بها، يعني نفسه تبارك تعالى، فإنه سبحانه أخبر بالواقع لا محالة، عن حال المدعوين من الملائكة والأنبياء وغيرهم، بما يدل على عجزهم وضعفهم، وأنهم قد انتفت عنهم الأسباب التي تكون في المدعو، وهي الملك وسماع الدعاء، والقدرة على الاستجابة، فمتى لم توجد هذه الشروط تامة بطلت دعوته.
(2) جبل معروف شرقي المدينة، كانت عنده الوقعة المشهورة، فأضيفت إليه، والشج الجرح في الرأس والوجه خاصة، وهو أن يضربه بشيء فيشق جلده، والحديث في الصحيحين، علقه البخاري عن حميد عن ثابت عن أنس، ووصله أحمد والترمذي والنسائي عن حميد عن أنس، ووصله مسلم عن ثابت عن أنس، وقد أخرج ابن إسحق في المغازي عن أنس، قال: " كسرت رباعية النبي صلى الله عليه وسلم وشج وجهه، فجعل الدم يسيل على وجهه، وجعل يمسح الدم وهو يقول: "كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم ؟ فنزلت هذه الآية(8/184)
"4 =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة فاطر آية : 13.
2 سورة فاطر آية : 13.
3 سورة فاطر آية : 13.
4 مسلم : الجهاد والسير (1791) , والترمذي : تفسير القرآن (3003) , وابن ماجه : الفتن (4027) , وأحمد (3/99 ,3/178 ,3/201 ,3/206 ,3/253 ,3/288).(8/185)
ص -120- ... وكسرت رباعيته (1)، فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم ؟ (2) فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}" (3).
....................................................................
= وذكر ابن هشام من حديث أبي سعيد أن عبد الله بن شهاب الزهري هو الذي شجه في وجهه، وأن عبد الله بن قميئة جرحه في وجنته، فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، وأن مالك بن سنان مص الدم من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وازدرده، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " لن تمسك النار" .
(1) الرباعية بفتح الراء وتخفيف الباء كل سن بعد ثنية، وللإنسان أربع رباعيات، قال الحافظ: كسرت فذهب منها فلقة، ولم تقلع من أصلها، وذكر ابن هشام أيضا أن عتبة بن أبي وقاص هو الذي كسر رباعية النبي صلى الله عليه وسلم السفلى، وجرح شفته السفلى، وجزم به غيره، وقال عليه السلام: " اللهم لا يحول عليه الحول حتى يموت كافرا " فما حال عليه الحول حتى مات كافرا إلى النار.
وروى الطبراني من حديث أبي أمامة قال: " رمى عبد الله بن قميئة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فشج وجهه، وكسر رباعيته، فقال: خذها وأنا ابن قميئة، فقال له: "مالك أقماك الله" فسلط عليه تيس الجبل، فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة ". وفي الحديث إثبات وقوع الابتلاء والأسقام بالأنبياء لينالوا جزيل الثواب، ولتعرف الأمم من أصابهم، فيتأسوا بهم، وليتيقنوا أنهم مخلوقون مربوبون، فلا يفتتن بهم، ويغلى فيهم، فيعبدون من دون الله.
(2) أي كيف يحصل لهم الظفر والفوز والسعادة، مع فعلهم هذا بنبيهم، زاد مسلم: " كسروا رباعيته، وأدموا وجهه " .
(3) أي ليس لك من الحكم في عبادي شيء، وإنما أنت عبد مأمور بإنذارهم وجهادهم، وليس لك إلا ما أمرتك به فيهم، وليس ذلك بهوان بالنبي صلى الله عليه وسلم على الله، فإنه أكرم خلق الله عليه، وأفضلهم على الإطلاق، ولكن ليتبين نزول قدره صلى الله عليه وسلم(8/186)
عن مقام الربوبية، فإنما هو عبد الله ورسوله.(8/187)
ص -121- ... وفيه عن ابن عمر -رضي الله عنهما- (1) " أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر: اللهم العن فلانا وفلانا (2) بعد ما يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (3) " 1.
....................................................................
(1) أي في صحيح البخاري، ورواه النسائي وغيره عن عبد الله بن عمر بن الخطاب الصحابي الجليل، الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاح، ففي الصحيح أنه قال لحفصة: " إن أخاك، أو إن عبد الله رجل صالح "2. وهو معروف بالورع، ليس في زمانه له نظير في ذلك، أسلم مع أبيه وهو صغير، وكان من أهل العلم، كثير الإتباع، شديد التحري والاحتياط، أجيز يوم الخندق، وأفتى ستين سنة، وبلغ ستاً وثمانين.
(2) هذا القنوت على صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، كما بينه في الرواية الآتية، وذلك بعد ما شج رأسه، وكسرت رباعيته يوم أحد، وأصل اللعن الطرد والإبعاد من الله، ومن الخلق السبّ، وتقدم.
(3) أي يدعو عليهم بعد التسميع، فأخبره الله أنه ليس له من الأمر شيء إلا ما أمر به، ومعنى "سمع الله لمن حمده" استجاب دعاء الحامدين له وقبله، فاستجب يا ربنا، ولك الحمد على ذلك، والحمد ضد الذم، ويكون على محاسن المحمود مع المحبة له، وفرق بينه وبين المدح بأن الإخبار عن محاسن الغير إما أن يكون إخبارا مجردا عن حب وإرادة، وهو المدح، أو يكون مقرونا بحبه وإرادته فهو الحمد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : المغازي (4070) , والنسائي : التطبيق (1078) , وأحمد (2/93 ,2/147).
2 مسلم : فضائل الصحابة (2478 ,2479) , والترمذي : المناقب (3825) , وابن ماجه : تعبير الرؤيا (3919) , وأحمد (2/5).(8/188)
ص -122- ... وفي رواية: " يدعو على صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام (1)، فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (2) " 1. وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه (3).
....................................................................
(1) إنما دعا عليهم لأنهم رؤوس المشركين يوم أحد، هم وأبو سفيان بن حرب، وأشد الناس عداوة له صلى الله عليه وسلم وهم السبب في غالب ما جرى عليه، ومع ذلك ما استجيب له صلى الله عليه وسلم فيهم.
(2) ( أو يتوب عليهم أو يعذبهم ) فتاب عليهم فأسلموا، وحسن إسلامهم، والمقصود أنه صلى الله عليه وسلم دعا في الصلاة، وهو أشرف الخلق، وخلفه الصحابة يؤمنون على دعائه، وهم صفوة الخلق بعد الرسل، ومع ذلك أنزل الله هذه الآية، فلا يبقى في قلب أحد شيء من التعلق بغير الله عز وجل، فإن في هذا كله أكبر دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم لا يملك ولا يقدر إلا على ما أقدره الله عليه، فبطل ما يعتقده فيه المشركون أنه ينفع دعاؤه بعد موته صلى الله عليه وسلم أو دعاء أحد من سائر الأنبياء والصالحين بهذه البراهين. قال المصنف: (( وفيه القنوت في النوازل وتسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم، ولعن المعين في القنوت )) ا هـ.
وفيه إثبات التسميع والتحميد للإمام، ومحل القنوت بعده، وآكديته في الفجر، وإن كان قد ورد في غيره فهذا الحديث أصح.
(3) أي في صحيح البخاري، وله طرق كثيرة في الصحيحين والمسانيد والسنن وغيرها، عن أبي هريرة وغيره، واسم أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر، قال النووي: (( على الأصح من ثلاثين قولا، كني بهريرة كانت له في صغره، وهو أول من كني بهذا )) ا هـ.
وكان اسمه في الجاهلية عبد شمس، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، وهو ابن عامر بن عبد ذي الشرى بن طريف ابن عتاب الدوسي، من حفاظ الصحابة وفضلائهم وأكابرهم، لم يحفظ عن رسول الله -صلى الله عليه(8/189)
وسلم- أحد منهم أكثر منه، مات سنة 57 هـ، وله 78.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : المغازي (4070) , والترمذي : تفسير القرآن (3005) , والنسائي : التطبيق (1078) , وأحمد (2/93 ,2/104 ,2/118 ,2/147).(8/190)
ص -123- ... قال: " قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} 1 فقال: يا معشر قريش أو كلمة نحوها (2)، اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا (3)،
....................................................................
(1) عشيرة الرجل هم بنو أبيه الأدنون، أو قبيلته؛ لأنهم أحق الناس ببره وإحسانه الديني والدنيوي، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} 2. وهذه نذارة خاصة، وإلا فقد أمره الله أيضا بالنذارة العامة، كما قال (أن أنذر الناس) وقد بلغهم ما أمر به صلى الله عليه وسلم .
وفي الصحيح من رواية ابن عباس: " صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا، وهو الجبل المعروف أسفل جبل أبي قبيس، فقال: يا صباحاه حتى اجتمع عليه ما بين أخشبي مكة، ولمسلم: فهتف يا صباحاه فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد، فاجتمعوا إليه، فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، وفي رواية: إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو، فانطلق يربأ أهله، فخشي أن يسبقوه، فجعل يهتف يا صباحاه ".
(2) المعشر الجماعة الذين أمرهم واحد، ويتناول الأنبياء والإنس والجن، جمعه معاشر، والكلمة بالنصب عطف على ما قبلها، وهو شك من الراوي، هل قال: يا معشر قريش، أو قال ما يقارب ذلك، خاطب العامة أولا.
(3) وفي رواية: " أنقذوا أنفسكم من النار "3. وعند الطبراني عن أبي أمامة: " اشتروا أنفسكم من النار، واسعوا في فكاكم " أي خلصوها بتوحيد الله، والإيمان به وبرسوله، واتباعي فيما جئتكم به، مما أنزل الله علي من توحيد الله، وإفراده بالعبادة، وترك ما كنتم تعبدونه من دون الله من الأوثان والأصنام، فإن ذلك هو الذي ينجيكم من عذاب الله، لا الاعتماد على الأحساب والأنساب، =(8/191)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الوصايا (2753) , ومسلم : الإيمان (204 ,206) , والنسائي : الوصايا (3644 ,3646 ,3647) , وأحمد (2/333 ,2/360 ,2/519) , والدارمي : الرقاق (2732).
2 سورة التحريم آية : 6.
3 مسلم : الإيمان (204) , والترمذي : تفسير القرآن (3185) , والنسائي : الوصايا (3644) , وأحمد (2/360 ,2/519).(8/192)
ص -124- ... يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أغني عنك من الله شيئا، ويا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا " (1).
....................................................................
= فإن ذلك غير نافع لكم، وفي صحيح البخاري: " يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا"1. وإنما الله –سبحانه- هو المتصرف في خلقه بما شاء، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
(1) عباس وصفية وفاطمة بالرفع، ويجوز النصب، وقال النووي: النصب أفصح، و(ابن)
و(عمة) و(بنت) بالنصب لا غير، أخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا يغني عنهم من الله شيئا، فأنذر الأقربين نذارة خاصة، وأخبر أنه لا يغني عنهم من الله شيئا، وبلغهم وأعذر إليهم، فأنذر قريشا ببطونها، وقبائل العرب في مواسمها، وأنذر عمه وعمته وهم أقرب الناس إليه، وإنما أفردهم لشدة قرابتهم، وأخبر أنه لا يغني عنهم من الله شيئا، وأن مجرد قربهم منه غير نافع لهم، ولا منج من عذاب الله إذا لم يؤمنوا به، ويقبلوا ما جاءهم به من التوحيد وسائر شرائع الإسلام، وترك الشرك، ثم خص بالنذارة من هي بضعة منه، وقال: " سليني من مالي ما شئت "؛ لأن هذا هو الذي يقدر عليه صلى الله عليه وسلم ، وأما ما كان من أمر الله فلا قدرة لأحد عليه، فإذا كان لا ينفع ابنته وعمه وعمته وقرابته فغيرهم بطريق الأولى والأحرى، وبين أنه لا ينجي من عذاب الله إلا الإيمان والعمل الصالح، وفيه أنه لا يجوز أن يسأل العبد إلا ما يقدر عليه من أمور الدنيا، وأما النجاة من النار ونحو ذلك من كل ما لا يقدر عليه إلا الله، فلا يجوز أن يطلب إلا من الله تعالى.
قال المصنف: (( فإذا صرح صلى الله عليه وسلم -وهو سيد المرسلين- أنه لا يغني شيئا عن سيدة نساء العالمين، وآمن الإنسان أنه لا يقول إلا الحق، ثم نظر فيما وقع في قلوب خواص الناس(8/193)
اليوم، من الالتجاء إلى غير الله، وسؤاله ما لا يقدر عليه إلا الله، تبين له التوحيد وغربة الدين )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : النذر (1641) , وأبو داود : الأيمان والنذور (3316) , وأحمد (4/430) , والدارمي : السير (2505).(8/194)
ص -125- ... باب قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 1 (2) .
....................................................................
(1) أي أزيل الفزع عن قلوب الملائكة، من الغشية التي تصيبهم عند سماع كلام الله عز وجل بالوحي إلى جبريل، يأمره الله عز وجل فتسمع الملائكة كلامه كجر سلسلة الحديد على الصفوان، فتنفزع عند ذلك تعظيماً لله وهيبة له. قال ابن عطية: (( في الكلام حذف يدل عليه الظاهر، كأنه قال: ولا هم شفعاء كما تزعمون أنتم، بل هم عبدة مسلمون لله أبدا منقادون )).
(2) أي قالوا: قال الله الحق، وذلك لأنهم إذا سمعوا كلام الله صعقوا، ثم إذا أفاقوا أخذوا يسألون، فيقولون: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} 2، فيقولون: قال الحق، فهو سبحانه الحق وقوله الحق ودعوته وحده هي الحق : {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 3، علو القدر وعلو الشرف وعلو القدر وعلو الذات فله العلو الكامل من جميع الوجوه والكبير الذي لا أكبر منه ولا أعظم منه تبارك وتعالى. أراد المصنف -رحمه الله- بهذه الترجمة بيان حال الملائكة الذين هم أقوى وأعظم من عبد من دون الله، فإذا كان هذا حالهم مع الله وهذه هيبتهم وخوفهم منه وخشيتهم له، فكيف يدعون من دون الله؟ وإذا كانوا -مع ما هم عليه من جلالة القدر- لا يجوز أن يدعوا من دون الله فغيرهم ممن لا يقدر على شيء من الأموات والأصنام أولى أن لا يدعى ولا يعبد من دون الله. قال المصنف: (( وفيها من الحجة على إبطال الشرك خصوصا من تعلق على الصالحين، وهي الآية التي قيل: إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب )) ا هـ.
وفيها إثبات صفة القول لله تعالى، وأنه قال ويقول.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة سبأ آية : 23.
2 سورة سبأ آية : 23.
3 سورة سبأ آية : 23.(8/195)
ص -126- ... في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قضى الله الأمر في السماء (1) ضربت الملائكة بأجنحتها، خضعانا لقوله (2)، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك (3)، { حتى إذا فزع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال ربكم قالوا: الحق وهو العلي الكبير} (4).
....................................................................
(1) أي إذا تكلم الله بالأمر الذي شاء كونه، وذلك بوحيه إلى جبريل به، كما صرح به في الحديث الآتي، وكما روى أبو داود وغيره من حديث ابن مسعود: " إذا تكلم الله بالوحي، سمع أهل السماوات.. إلخ "1 .
(2) أي لقول الله تعالى، وذلك أن الله إذا تكلم بالوحي فسمع أهل السماوات كلامه أرعدوا وخافوا وفزعوا، هيبة وخضعانا لقوله تبارك وتعالى، مع أنهم عباد مكرمون، أعطاهم الله من القوة والعظمة ما لا يعلمه إلا هو تعالى، ومع ذلك يعتريهم هذا الخوف والاضطراب، فعبادتهم من دون الله باطلة، وإذا كان هذا الحال معهم، فبطلان عبادة غيرهم بطريق الأولى، و (خضعانا) بفتحتين، من الخضوع وفي رواية بضم أوله وسكون ثانيه بمعنى خاضعين.
(3) بفتح الياء وسكون النون وضم الفاء والذال، أي كأن صوت الرب المسموع سلسلة على صفوان، وهو الحجر الأملس، ينفذهم ذلك، أي يخلص ذلك القول ويمضي في قلوب الملائكة حتى يفزعوا منه، وعند أبي داود وغيره: " إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كجر السلسلة على الصفاء، فيصعقون فلا يزالون كذلك، حتى يأتيهم جبرائيل "2 .
(4) أي حتى إذا أزيل عنها الخوف والغشي، قالت الملائكة بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم؟ قالوا: قال الله الحق، علموا أن الله لا يقول إلا الحق، فهو =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : السنة (4738).
2 أبو داود : السنة (4738).(8/196)
ص -127- ... فيسمعها مسترق السمع (1)، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض، وصفه سفيان بكفه (2)، فحرفها وبدد بين أصابعه (3)، فيسمع الكلمة، فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن (4)،
....................................................................
= سبحانه الحق، وقوله الحق، (وهو العلي الكبير) الذي لا أعظم منه، ولا أكبر منه تبارك وتعالى.
(1) أي يسمع مسترق السمع الكلمة التي قضاها الله، وسمعتها الملائكة وتحدثوا بها، ومسترق السمع هو من الشياطين، فإنهم يركب بعضهم بعضا حتى يصلوا إلى حيث يسمعون تحدث الملائكة بالأمر يقضيه الله. وفي صحيح البخاري من حديث عائشة: " إن الملائكة تنزل في العنان، وهو السحاب، فتذكر الأمر قضي في السماء، فتسترق الشياطين السمع، فتوحيه إلى الكهان، فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم "1. وسماعهم من الذين في العنان لا ينفي سماعهم من الذين في السماء.
(2) أي وصف ركوب الشياطين بعضهم فوق بعض بما يأتي، وسفيان هو ابن عيينة بن أبي عمران ميمون، الهلالي أبو محمد الكوفي ثم المكي، ثقة حافظ حجة، من كبار الأئمة، روى عن عبد الملك بن عمير والسبيعي وخلق، وعنه الأعمش وشعبة وجماعة، مات سنة 198 هـ، وله 91.
(3) حرفها، بحاء مهملة وراء مشددة: ميلها، و (بدد) أي فرق وباعد بين أصابعه من غير مماسة بعضها لبعض، ولا لصوق بعضها لبعض.
(4) أي يسمع المسترق وهو الشيطان الفوقاني الكلمة التي سمعت من السماء، فيلقيها إلى الشيطان الذي تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، ثم الآخر إلى من تحته، وهكذا حتى يلقيها آخرهم على لسان الساحر، أو على لسان الكاهن، وحينئذ يقع الرجم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : بدء الخلق (3210) , ومسلم : السلام (2228) , وأحمد (6/87).(8/197)
ص -128- ... فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه (1)، فيكذب معها مائة كذبة (2)، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا، كذا وكذا؟ (3)
....................................................................
(1) أي الشهاب، وهو النجم الذي يرمى به، أي ربما أدرك الشهاب المسترق لتلك الكلمة التي سمعت من السماء، قبل إلقائها فأحرقه، وربما ألقى الكلمة قبل أن يدركه، لما لله في ذلك من الحكمة، وإلا فلا يفوته سبحانه شيء، والحديث يدل على أنه كان يرمى قبل البعثة، كما رواه أحمد ومسلم وغيرهما عن ابن عباس: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في نفر من أصحابه، فرمي بنجم عظيم فاستنار، قال: "ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية؟" قالوا: كنا نقول: لعله يولد عظيم أو يموت عظيم، قال: " فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا تبارك اسمه إذا قضى أمرا سبح حملة العرش، ثم يسبح أهل السماء الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح هذه السماء الدنيا، ثم يستخبر أهل السماء الذين يلون حملة العرش، فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم، ويخبر أهل كل سماء سماء، حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء، ويخطف الجن السمع فيرمون، فما جاؤوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يزيدون فيه ويقرفون وينقصون "1 .
(2) بفتح فسكون، أي يكذب الساحر أو الكاهن مع تلك الكلمة التي ألقاها إليه وليه من الشياطين مائة كذبة، ويزيد وينقص، أو يكذب الشيطان مع الكلمة التي استرقها مائة كذبة، ويخبر بالجميع وليه من الإنس فما جاؤوا به على وجهه فهو صدق، وما خلط فيه فهو كذب، ومع هذا يفتتن الإنس بذلك، ويقبلون ما جاؤوا به مع كثرة الكذب.
(3) احتجاج من أهل الباطل لباطله، قال الشارح: (( وهكذا في نسخة بخط المصنف، كما في صحيح البخاري سواء )).(8/198)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : السلام (2229) , والترمذي : تفسير القرآن (3224) , وأحمد (1/218).(8/199)
ص -129- ... فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء (1) "1. وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه (2) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي (3)،
....................................................................
(1) الباء سببية، أي يصدق الساحر أو الكاهن أولياؤه من الإنس، بسبب تلك الكلمة، ويروج معها مائة كذبة. وفي الصحيح عن عائشة: " قلت: يا رسول الله إن الكهان كانوا يتحدثون بالشيء فنجده حقا، قال: تلك الكلمة الحق يخطفها الجني، فيقذفها في أذن وليه، ويزيد فيها مائة كذبة "2. قال المصنف: (( وفيه قبول النفوس للباطل، يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة كذبة )) ا هـ.
وفيه أن الشيء إذا كان فيه نوع من الحق، فلا يدل على أنه حق كله، فكثيرا ما يلبس أهل الضلال الحق بالباطل، ليكون أقبل لباطلهم، وفي هذه الأحاديث وما بعدها وما في معناها إثبات علو الله على خلقه، على ما يليق بجلاله وعظمته، وأنه لم يزل متكلما إذا شاء يسمعه الملائكة، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة.
(2) بكسر السين، ابن خالد بن عمرو بن قرط بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب العامري الكلابي، ويقال: الأنصاري، صحابي وأبوه أيضا صحابي، يقال: وفد أبوه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا له، وزوجه أخته الكلابية.
(3) هذا في جميع الأمور التي يقضيها الرب تبارك وتعالى، كما يدل عليه حديث أبي هريرة، والإرادة صفة من صفات الله عز وجل وهي نوعان: إرادة شرعية دينية، مستلزمة لمحبة الله ورضاه. وإرادة قدرية كونية عامة شاملة، وهو سبحانه يريد الخير ويأمر به، وينهى عن الشر ولا يأمر به، وإن كان مريدا له، فكل الأشياء كائنة بمشيئته وقدرته وخلقه، وفيه النص على أن الله يتكلم بالوحي متى شاء، قال المصنف: (( وفيه إثبات الصفات خلافا للأشعرية )).(8/200)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : تفسير القرآن (4800) , والترمذي : تفسير القرآن (3223) , وابن ماجه : المقدمة (194).
2 البخاري : الأدب (6213) , ومسلم : السلام (2228) , وأحمد (6/87).(8/201)
ص -130- ... أخذت السماوات منه رجفة (1)، أو قال: رعدة شديدة (2) خوفا من الله عز وجل (3)، فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجدا (4)،
....................................................................
(1) (السماوات) مفعول مقدم، والفاعل رجفة، أي أصاب السماوات من كلام الله رجفة، وأصل الرجفة الحركة والاضطراب، أي تحركت واضطربت، وهو صريح في أنها تسمع كلام الله تعالى، كما روى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: " إذا قضى الله أمرا تكلم تبارك وتعالى، رجفت السماوات والأرض والجبال، وخرت الملائكة سجدا " .
(2) شك من الراوي هل قال النبي صلى الله عليه وسلم رجفة، أو قال: رعدة شديدة، وهما متقاربان أو متحدان في المعنى، أي رجفة واضطراب خوفا من الله، وهذا من شدة حرص السلف على ألفاظ الحديث، وإن كانت تجوز روايته بالمعنى بشروطها المعروفة.
(3) هذا ظاهر في أن السماوات لها معرفة وإحساس، تخاف من الله بما جعل فيها من الإحساس والمعرفة بمن خلقها، وقد أخبر الله أن هذه المخلوقات العظيمة تسبحه وتقدسه، كقوله: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}1 . وثبت سماع تسبيح الطعام وهو يؤكل، والحصى والجذع، وهذه المخلوقات تسبح الله وتخشاه حقيقة، ولا يقال بلسان الحال.
(4) أي يقع منهم الأمران الصعوق،- وهو هنا الغشي- ويقع منهم السجود، والله أعلم أيهما قبل الآخر، وفيه إثبات عظمة الله تعالى، وعلو ذاته وقدرته وقهره، فإذا كانت السماوات على عظمتها وسعتها وما فيها من السكان ترجف ويصعق من =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الإسراء آية : 44.(8/202)
ص -131- ... فيكون أول من يرفع رأسه جبرائيل (1)، فيكلمه الله من وحيه بما أراد (2)، ثم يمر جبرئيل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبرائيل؟ فيقول جبرائيل: قال الحق وهو العلي الكبير (3). فيقولون كلهم مثل ما قال جبرائيل (4)،
....................................................................
= فيها، هيبة لله وخوفا منه، فالالتجاء إلى غيره، والتعلق عليه من أبطل الباطل وأمحل المحال؛ إذ هو سبحانه بيده أزمة الأمور، وكل من سواه مخلوق مربوب لا يملك نفعا ولا ضرا، وفي الحديث: " أن الأمة لو اجتمعوا أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك "1 .
(1) بفتح "أول" خبر "يكون"، مقدم على اسمها، ويجوز العكس، وإنما كان أول من يرفع رأسه جبرائيل؛ لأنه سفير الله وبين رسله وأمينه على وحيه. واسم جبرائيل عبد الله، وميكائيل عبيد الله، وإسرافيل عبد الرحمن، وكل شيء يرجع إلى إيل فهو معبد لله، قاله علي بن الحسين وغيره. وفيه فضيلة جبرائيل، وقد وصفه الله بقوله: (إنه لقول) أي تبليغ:{رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} 2. ورآه رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورته، وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق، فإذا كان هذا عظم أحد المخلوقات فخالقها أعظم وأجل وأكبر، بل السماوات والأرض ومن فيهن في كف الرحمن جل وعلا كخردلة في يد أحدنا، فكيف يسوى به غيره في العبادة؟ .
(2) فيه التصريح بأن الله يوحي إلى جبرائيل بما أراده من أمره كما تقدم.
(3) فيه إثبات علو الله تعالى وتقدس، وأنه قال ويقول، خلافا للجهمية.
(4) أي يقولون: قال الحق، وهو العلي الكبير، تبارك وتعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : صفة القيامة والرقائق والورع (2516) , وأحمد (1/293).
2 سورة التكوير آية : 19-21.(8/203)
ص -132- ... فينتهي جبرئيل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل " (1).
....................................................................
(1) من السماء والأرض، فالآية المذكورة والأحاديث تقرر أن الملك العظيم الذي تصعق الأملاك من كلامه، خوفا منه ومهابة، ولا يعلمون إلا ما علمهم به، وترجف منه المخلوقات، لا يجوز شرعا ولا عقلا أن يجعل له شريك من خلقه في عبادته التي هي حقه عليهم، وهم بهذه المثابة من هيبته وخشيته. وقصد المصنف الرد على المشركين عبدة الأوثان وغيرهم، فإنه إذا كان هذا حال الملائكة عند مجرد سماع كلام الله، مع ما أعطاهم الله من شدة القوة، وعظم الخلقة التي لا يعلمها إلا الله، علم أنه لا يجوز صرف شيء من أنواع العبادة لهم، لعجزهم عن النفع والضر، فكيف بمن هو دونهم بمراتب؟ ولكن أهل الشرك لا يفقهون، ثم هو سبحانه قد أرسل الرسل، وأنزل الكتب، تزجرهم عن ذلك الشرك، وأقام البراهين على بطلانه.(8/204)
ص -133- ... باب الشفاعة (1)
وقول الله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى
....................................................................
(1) أي بيان الشفاعة وإيضاحها، وبيان حكمها وحقيقتها، وبيان ما أثبته القرآن منها وما نفاه، ولما كان المشركون في قديم الدهر وحديثه إنما وقعوا في الشرك لتعلقهم بأذيال الشفاعة، كما أخبر الله عنهم، حتى إنه صلى الله عليه وسلم لما ألقى الشيطان في تلاوته " وإن شفاعتهن لترتجى " رضي المشركون عنه، وسجدوا معه، ظنوا أنه صلى الله عليه وسلم قاله، وأنه وافقهم على دينهم، من دعاء الملائكة والأصنام للشفاعة. أراد المصنف -رحمه الله- في هذا الباب إقامة الحجج على أن ذلك هو عين الشرك، وأن الشفاعة التي يظنها من دعا غير الله أنه يشفع كما يشفع الوزير عند الملك، منفية دنيا وأخرى، وإنما الله الذي يأذن للشافع ابتداء، لا يشفع الشافع ابتداء كما يظنه أعداء الله. والشفاعة: مصدر من الشفع ضد الوتر، وشفع فيه أعانه. وفي النهاية: (( هي السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم )) ا هـ.
وهي نوعان: شفاعة منفية، وهي التي تطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله.
ومثبتة، وهي التي تطلب من الله، ولا تكون إلا لأهل التوحيد، ومقيدة بأمرين: إذن الله للشافع أن يشفع، ورضاه عن المشفوع له.
والناس في الشفاعة ثلاث طوائف: طرفان ووسط، فطائفة أنكروها كاليهود والنصارى والخوارج المكفرين بالذنوب، وطائفة أثبتوها وغلوا في إثباتها، حتى جوزوا طلبها من الأولياء والصالحين، وأهل السنة والجماعة أثبتوا الشفاعة الشرعية، كما ذكر الله في كتابه، ولا تطلب إلا من الله، كأن تسأله تعالى أن يشفع فيك نبيك محمدا صلى الله عليه وسلم ، فإن الشفاعة محض فضل وإحسان.(8/205)
ص -134- ... رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ}1 (2)، وقول الله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} 2 (3).
....................................................................
(1) الإنذار الإعلام بأسباب المخافة، والتحذير منها، (أنذر) أي خوف يا محمد بالقرآن (الذين يخافون) يخشون (أن يحشروا) أي يجمعوا ويبعثوا إلى ربهم يوم القيامة، وهم المؤمنون المخلصون، أصحاب القلوب الحية الواعية الذين لم يتخذوا لهم من دون الله وليا ولا شفيعا، بل أخلصوا قصدهم وطلبهم وجميع أعمالهم لله وحده، ولم يلتفتوا إلى أحد سواه فيما يرون نفعه ويخافون ضره.
(2) أي لا قريب لهم، ولا شفيع يشفع فيهم من عذابه إذا أراده بهم. قال الزجاج: كل موضع (ليس) نصب على الحال، كأنه قال: متخلين من ولي وشفيع، والعامل فيه (يخافون). وقال ابن كثير: ليس لهم يومئذ: {مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} 3 فيعملون في هذه الدار عملا ينجيهم الله به من عذاب يوم القيامة، ويتركون التعلق على الشفعاء وغيرهم؛ لأنه ينافي الإخلاص الذي لا يقبل الله من أحد عملا بدونه.
(3) اللام للملك، أي هي ملك لله تعالى، فليس لمن تطلب منه شيء منها، وإنما تطلب ممن يملكها دون ما سواه؛ لأن ذلك عبادة وتأله لا يصلح إلا له تعالى، وقال قبلها: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ} 4 فأخبر –سبحانه- أن وقوع الشفاعة على هذا الوجه منتف عقلا وشرعا، فقوله: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} 5 تقرير لبطلان اتخاذ الشفعاء من دونه؛ لأنه مالك الملك، فيجب اندراج ملك الشفاعة في ذلك، فإذا كان هو مالكها بطل أن تطلب ممن لا يملكها .
قال ابن جرير: نزلت لما قال الكفار: ما نعبد أوثاننا هذه إلا لتقربنا إلى الله زلفى، قال الله: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ(8/206)
وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} 6. فتعلمون أن من طلبها من غير الله أنه خاسر السعي، وأنها غير حاصلة له؛ لأنه طلبها =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية : 51.
2 سورة الزمر آية : 44.
3 سورة الأنعام آية : 51.
4 سورة الزمر آية : 43.
5 سورة الزمر آية : 43.
6 سورة الزمر آية : 44.(8/207)
ص -135- ... وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} 1 (1). وقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} 2 (2).
....................................................................
= من غير مالكها، بل طلبها من غير الله إفك وافتراء، كما قال تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} 3 .
(1) قد تبين مما تقدم من الآيات أن الشفاعة التي نفاها القرآن هي التي تطلب من غير الله، وفي هذه الآية رد على المشركين الذين اتخذوا الشفعاء من دون الله، من الملائكة والأنبياء والأصنام وغيرها، وظنوا أنهم يشفعون عنده بغير إذنه، فأنكر عليهم، وبين عظيم ملكوته وكبريائه، وأن أحدا لا يتمكن أن يتكلم يوم القيامة إلا إذا أذن له، وأن الشفاعة إنما تقع في الدار الآخرة بإذنه، كقوله: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّّّّّّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} 4. فبين –تعالى- أنها لا تقع إلا بشرطين: إذن الرب للشافع أن يشفع، ورضاه عن المأذون فيه. وهو سبحانه لا يرضى من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة إلا ما أريد به وجهه، ولقيه العبد به مخلصا غير مشرك.
(2) (كم) تكثيرية (لا تغني) أي لا تجدي ولا تنفع (شفاعتهم شيئا إلا من بعد) إذن الرب تبارك وتعالى لمن شاء أن يشفع له، ورضي قوله وعمله، فصار ممن استحق الشفاعة، وذلك لمن سلم من الشرك قليله وكثيره، وهذه الآية كقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} 5. وقوله: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 6. وإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين، فكيف ترجى شفاعة هذه الأنداد عند(8/208)
الله؟ سبحان الله ما أعظم شأنه !.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 255.
2 سورة النجم آية : 26.
3 سورة الأحقاف آية : 28.
4 سورة طه آية : 109.
5 سورة البقرة آية : 255.
6 سورة سبأ آية : 23.(8/209)
ص -136- ... وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} 1 الآيتين (1). قال أبو العباس: (2)
....................................................................
(1) أي: {قُلِ} 2 يا محمد لهؤلاء المشركين: {ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} 3 أنهم آلهة من دون الله، ليكشفوا الضر الذي نزل بكم، ثم وصفهم بقوله: {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} 4 من خير وشر، ونفع وضر.: {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} 5 لا يملكون شيئا استقلالا، ولا على سبيل الشركة.: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} 6 عوين يعينه بشيء.: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} 7 في الشفاعة، قاله تعالى تكذيبا لهم حيث قالوا: {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 8.
قال ابن القيم وغيره في هذه الآية: أنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب لمن عقلها، فقد قطع الله بها جميع الأسباب التي يتعلق بها المشركون، على أي وجه كان، فإن المشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له من النفع، والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من أربع: إمّا أن يكون مالكا لما يريده، أو شريكا للمالك، أو معينا وظهيرا، أو شفيعا، فنفى –سبحانه- المراتب الأربع نفيا مرتبا، فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه، ولم يجعل –سبحانه- الاستغاثة بالميت أو غيره سببا لإذنه، وإنما السبب كمال التوحيد، لا ما يمنع الإذن، فالمشرك قد أتى بأعظم حائل بينه وبين حصول الشفاعة، فهو كمن استعان في حاجة بما يمنع حصولها.
(2) هذه كنية شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله ابن الخضر بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله ابن تيمية الحراني، العالم الرباني، مفتي الأمة،(8/210)
بحر العلوم، ناصر السنة، قامع البدعة، صاحب المصنفات المشهورة المقبولة، المؤيدة بالكتاب والسنة، وما عليه سلف الأمة، الجديرة بأن تحفظ في أعماق القلوب، من تدبرها علم أنه قد جمع من العلوم النقلية والعقلية، ومن الإحاطة =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة سبأ آية : 22.
2 سورة سبأ آية : 22.
3 سورة سبأ آية : 22.
4 سورة سبأ آية : 22.
5 سورة سبأ آية : 22.
سورة سبأ آية : 22.
7 سورة سبأ آية : 23.
8 سورة يونس آية : 18.(8/211)
ص -137- ... نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون (1)، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عونا لله (2)، ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب (3)
....................................................................
= بمذاهب أهل الملل والنحل، وآراء المذاهب، وما قالت الفرق، ما لم يعلم مثله عن أحد من العلماء، وبين هذا الدين وعقائده، ورد سائر البدع بما لم يسبق إليه، ترجم له طوائف من الحفاظ، وأثنوا عليه في أسفار، وشهرته وإمامته في علوم الإسلام، وتفننه تغني عن الإطالة في وصفه، قال ابن دقيق العيد: (( كأن العلوم بين عينيه، يأخذ ما يشاء، ويدع ما يشاء )). ولد سنة 661 هـ، وتوفي -قدس الله روحه، ونور ضريحه- سنة 728 هـ .
(1) أي نفى في هذه الآية الكريمة عما سواه -تعالى وتقدس- كل ما يتعلق به المشركون من الاعتقاد في غير الله، من الملك والشركة والمعاونة والشفاعة، فإن هذه الأمور الأربعة هي التي يتعلق بها المشركون.
(2) فنفى الملك بقوله: {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} 1. ونفى القسط بقوله: (ومالهم) أي لمن يدعون من الملائكة وغيرهم (فيهما) أي في السماوات والأرض (من شرك). ونفى العون بقوله: {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} 2. أي ما لله ممن يدعونهم عوين، فمن ليس بمالك، ولا شريك للمالك، ولا ظهير له، فكيف يدعى من دونه؟ فهو –سبحانه- الذي يأذن للشافع ابتداء فيشفع، فبنفي هذه الأمور عن كل مدعو غير الله- وهي التي لا بد أن يكون المدعو مالكا لأحدها حتى يستحق أن يدعى- بطلت دعوة غير الله؛ إذ ليس عند غيره من النفع والضر ما يوجب قصده بشيء من العبادة.
(3) وهو سبحانه لا يأذن إلا لأهل التوحيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة سبأ آية : 22.
2 سورة سبأ آية : 22.(8/212)
ص -138- ... كما قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى} 1 (1). فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة، كما نفاها القرآن (2)، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده، لا يبدأ بالشفاعة أولا، ثم يقال له: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع (3). وقال له أبو هريرة: " من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه "2 (4).
....................................................................
(1)أي لمن رضي الله عنه من أهل الإيمان به وحده، وقال ابن عباس: (( إلا لمن قال لا إله إلا الله )).
(2) أي التي تطلب من غير الله، فيما لا يقدر عليه إلا الله، كقول أحدهم: الشفاعة، أو اشفع لي، منتفية دنيا وأخرى كما أخبر الله به في كتابه، ولو طلبها منه على سبيل الشفاعة إلى الله، فهو فعل المشركين الذي كفرهم الله به، فإنهم يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 3. قال تعالى مكذبا لدعواهم ومكفرا لهم: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 4 .
(3) هذا قطعة من حديث الشفاعة، المخرج في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس وغيره في أهل الموقف، وهو إخبار منه صلى الله عليه وسلم بتحقيق الشفاعة، وأنه لا يشفع إلا من بعد إذن الله تعالى له في الشفاعة، وفي المشفوع فيهم.
(4) هذا الحدث رواه البخاري وغيره، قال: " قلت: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه "5. وفي رواية: " خالصا مخلصا من قلبه "6. والمراد =(8/213)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنبياء آية : 28.
2 البخاري : العلم (99) , وأحمد (2/373).
3 سورة الزمر آية : 3.
4 سورة الزمر آية : 3.
5 البخاري : العلم (99) , وأحمد (2/373).
6 البخاري : العلم (99) , وأحمد (2/373).(8/214)
ص -139- ... فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله (1).
....................................................................
= مع قوله: محمد رسول الله، لكن قد يكتفى بها لاقتضائها لها، و (خالصا) احتراز من المنافق و(أسعد) أفعل تفضيل، وقيل أي سعيد الناس، أو المخلص أكثر سعادة بها، فجعل أسعد الناس بشفاعته أكملهم إخلاصا.
ورواه أحمد وابن حبان وصححه وفيه: " وشفاعتي لمن قال لا إله إلا الله مخلصا، يصدق قلبه لسانه ولسانه قلبه "1 وفي صحيح مسلم عنه قال: " لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا "2. فهذان الحديثان ونحوهما مما يبين أنها لأهل التوحيد والإخلاص بإذن الله، وكذا في أحاديث الشفاعة كلها، إنما يشفع في أهل التوحيد كما في الكتاب العزيز.
وقال الحافظ: (( المراد بهذه الشفاعة المسؤول عنها بعض أنواع الشفاعة، وهي التي يقول "أمتي أمتي" "فيقال: أخرج من في قلبه وزن كذا من الإيمان".
وأما الشفاعة العظمى في الإراحة من كرب الموقف، فأسعد الناس بها من يسبق إلى الجنة )) ا هـ.
وله صلى الله عليه وسلم ثلاث شفاعات: الشفاعة الكبرى في أهل الموقف ليقضى بينهم، وشفاعته في أهل الجنة في دخولها، ولقوم من العصاة الذين يدخلون النار بذنوبهم، ويشفع لمن استوجب النار، ولقوم من أهل الجنة في زيادة ثوابهم، وبعض الكفار في تخفيف عذابهم.
(1) فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم زعمهم الكاذب، وأخبر أن أعظم الأسباب التي تنال بها شفاعته تجريد التوحيد لله وحده، لا الالتجاء إلى الأولياء والصالحين وغيرهم، ودعاؤهم وطلبهم الشفاعة، فلا تنال بذلك، بل هو أصل شرك العالم، ولكن كما قال بعض السلف: من جهل المشرك اعتقاده أن من اتخذه وليا أو شفيعا أنه يشفع له، وينفعه عند الله، كما يكون خواص الملوك والولاة تنفع من والاهم،(8/215)
ولم يعلموا أن الله لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، وأنه لا يأذن في الشفاعة إلا من رضي قوله وعمله، وهو لا يرضى من القول والعمل إلا توحيده واتباع رسوله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (2/307).
2 البخاري : الدعوات (6304) والتوحيد (7474) , ومسلم : الإيمان (198 ,199) , والترمذي : الدعوات (3602) , وابن ماجه : الزهد (4307) , وأحمد (2/426) , ومالك : النداء للصلاة (492) , والدارمي : الرقاق (2805).(8/216)
ص -140- ... وحقيقته: أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع؛ ليكرمه (1) وينال المقام المحمود (2)، فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك (3)، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع (4)، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص (5). انتهى كلامه رحمه الله (6).
....................................................................
(1) أي بالشفاعة فيمن أذن له أن يشفع فيه، فهذا هو حقيقة أمر الشفاعة، لا كما يظنه المشركون والجهال أن الشفاعة هي كون الشفيع يشفع ابتداء فيمن شاء، فيدخله الجنة، وينجيه من النار، ولهذا يسألونها من الأموات وغيرهم.
(2) أي الذي يحمده فيه الخلائق كلهم، بل وخالقهم، وهو الشفاعة.
(3) وهي التي تطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، كيا رسول الله اشفع لي.
(4) كقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} 1 والآيتين بعدها في الباب، فلما أثبتها في مواضع ونفاها في مواضع علمنا قطعا أنها شفاعتان.
(5) أي قيدها صلى الله عليه وسلم بقوله: " من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه "2؛ لئلا يتوهم المشركون أنها نائلتهم، وإنما تنال الموحدين الذين استحقّوا دخول النار بسبب ذنوبهم، فيشفع لهم في الخروج بعد التطهير، كما تواتر: " أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة- مثقال ذرة، مثقال خردلة- من إيمان "3 .
(6) أي كلام شيخ الإسلام الذي ساقه المصنف هنا، فقام مقام الشرح والتفسير في هذا الباب، وهو كاف واف بتحقيق مع الإيجاز.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 255.
2 البخاري : العلم (99) , وأحمد (2/373).
3 البخاري : الإيمان (22) , ومسلم : الإيمان (184) , وأحمد (3/56).(8/217)
ص -141- ... باب قوله الله تعالى {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} (1) الآية 1.
في الصحيح عن ابن المسيب عن أبيه (2)
....................................................................
(1) الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمنفي هنا هداية التوفيق والإلهام، وهو خلق الهدى في القلب وإيثاره وذلك لله وحده، وهو القادر عليه، كقوله: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 2. 3.{فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} ( {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}4 وأما هداية البيان والإرشاد والدلالة فقال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} 5. فهو المبين عن الله، والدال على دينه وشرعه.
أراد المصنف -رحمه الله- بهذه الترجمة الرد على عباد القبور، الذين يعتقدون في الأنبياء والصالحين النفع والضر، فيسألونهم من أنواع المطالب الدنيوية والأخروية، فإن سبب هذه الآية موت أبي طالب، وإذا كان صلى الله عليه وسلم قد حرص على هدايته عند موته فلم يتيسر له ذلك، ودعا له بعد موته، ونهي عن ذلك، وذكر الله أنه لا يقدر على هداية من أحب هدايته لقرابته ونصرته، تبين أعظم بيان، ووضح أوضح برهان أنه صلى الله عليه وسلم لا يملك ضرا ولا نفعا، ولا عطاء ولا منعا، وأنه صلى الله عليه وسلم لا يقدر إلا على ما أقدره الله عليه، وأن الأمر كله بيد الله، فبطلت عبادته من دون الله، وإذا بطلت عبادته- وهو أشرف الخلق- فعبادة غيره أولى بالبطلان.
(2) أي في الصحيحين عن ابن المسيب بفتح الياء، واسمه سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشي المخزومي، أحد العلماء، والفقهاء الكبار السبعة من التابعين، اتفق أهل الحديث أن مراسيله أصح المراسيل. قال ابن المديني: (( لا أعلم في التابعين أوسع علما منه )). مات بعد التسعين، وقد ناهز الثمانين. وأبوه المسيب صحابي، بقي إلى خلافة(8/218)
عثمان، وكذلك جده حزن صحابي، استشهد باليمامة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة القصص آية : 56.
2 سورة البقرة آية : 272.
3 سورة آل عمران آية : 20.
4 سورة البقرة آية : 213.
5 سورة الشورى آية : 52.(8/219)
ص -142- ... قال: " لما- حضرت أبا طالب الوفاة (1) جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم (2)، وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل (3)، فقال له: يا عم قل: لا إله إلا الله (4)
....................................................................
(1) أي حضرته علاماتها ومقدماتها، وإلا فلو كان قد انتهى إلى المعاينة لم ينفعه الإيمان لو آمن.
(2) حرصا على هدايته وشفقة عليه، لما رأى منه النصح والاجتهاد، فيما يصلح أمره، والذب عنه بماله وحاله وولده، وصنع الصنائع التي لم يصنعها أحد من الأقارب والأباعد معه صلى الله عليه وسلم وفيه جواز- عيادة المشرك إذا رجي إسلامه، وحمل العلم إذا كان فيه مصلحة راجحة.
(3) ويحتمل أن يكون المسيب حضر مع الإثنين فإنهم كلهم من بني مخزوم، وكانوا إذ ذاك كفارا، فقتل أبو جهل على كفره، وأسلم الآخران، وكانت كنية أبي جهل أبا الحكم فسماه النبي صلى الله عليه وسلم أبا جهل، وأخبر أنه فرعون هذه الأمة.
(4) أمره صلى الله عليه وسلم بقولها ليحصل له بذلك الفوز والسعادة والظفر، ولعلمه صلى الله عليه وسلم بعلم أبي طالب بما دلت عليه، من نفي الشرك بالله، وإخلاص العبادة لله وحده، فإن من قالها عن علم ويقين وقبول فقد برئ من الشرك والمشركين، ودخل في الإسلام؛ لأن العرب يعلمون ما دلت عليه، فلا يقولها إلا من ترك الشرك وبرئ منه، وكذلك الحاضرون يعلمون ما دلت عليه من نفي الشرك والبراءة منه، ولهذا عارضوه بما يأتي، و (عم) منادي مضاف، يجوز فيه إثبات الياء وحذفها، وإبقاء الكسرة دليل عليها كما هنا، وفيه ثلاث لغات أخر.(8/220)
ص -143- ... كلمة أحاج لك بها عند الله (1). فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ (2) فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأعادا (3)،
....................................................................
(1) (كلمة) بالنصب بدل من لا إله إلا الله، ويجوز الرفع خبر مبتدأ محذوف، و (أحاج) بتشديد الجيم من المحاجة، وهي مفاعلة من الحجة، والجيم مفتوحة على الجزم في جواب الأمر، أي أشهد لك بها عند الله، وبرهانا أعتذر بها لك عنده وفيه دليل على أن الأعمال بالخواتيم؛ لأنه لو قالها في تلك الحال معتقدا ما دلت عليه من النفي والإثبات لنفعته، ودخل بها في الإسلام.
(2) لما علما من شدة تمسكه بملتهم، مع حياطته النبي صلى الله عليه وسلم وخشيا أن تترك تلك الآلهة والأوثان التي يتعلقون بها من دون الله، ذكراه الحجة الملعونة التي يحتج بها المشركون على المرسلين، وهي تقليد الآباء والكبراء،:{إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} 1. فإن ملة عبد المطلب الشرك وعبادة الأوثان، كما كانت قريش وغيرهم في جاهليتهم كذلك، وأخرجا الكلام مخرج الاستفهام مبالغة في الإنكار، لعظمة هذه الحجة في قلوب الظالمين، ولذلك اكتفيا بها في المجادلة، مع مبالغته صلى الله عليه وسلم وتكريره.
قال المصنف: (( فلأجل عظمتها ووضوحها عندهما اقتصرا عليها، وفيه المسألة الكبيرة: تفسير قوله: "قل: لا إله إلا الله" بخلاف ما عليه من يدعي العلم، وفيه أن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال للرجل: قل: لا إله إلا الله، فقبح الله من أبو جهل أعلم منه بأصل الإسلام )).
(3) أي أعاد النبي صلى الله عليه وسلم على عمه قوله: "قل: لا إله إلا الله" وفي رواية: "فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيدها عليه "، يعني أنه بالغ صلى الله عليه وسلم وكرر، لعله أن يحصل لعمه هذا الفوز العظيم،(8/221)
فأعادا معارضته صلى الله عليه وسلم بقولهما: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ لأنهما =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزخرف آية : 23.(8/222)
ص -144- ... فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب (1)، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله (2)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك" (3).
....................................................................
= عرفا أن أبا طالبا لو قالها لبرئ من ملة عبد المطلب، وهي الشرك بالله في الإلهية، فصارا سببا لصدوده عن الحق، وعن هذا الخير العظيم الذي فيه السعادة الأبدية. قال المصنف: وفيه مضرة أصحاب السوء على الإنسان، فينبغي الحذر من قربهم، والحذر من الاستماع لهم كما قيل:
إذا ما صحبت القوم فاصحب خيارهم ... ولا تصحب الأردى فتردى مع الردى
وفيه مضرة تعظيم الأسلاف والأكابر إذا زاد على المشروع، بحيث أن تجعل أقوالهم حجة يرجع إليها عند التنازع.
(1) "آخر" منصوب على الظرفية، أي آخر تكليمه إياهم، ويجوز فيه الرفع. قال الحافظ:
(( الظاهر أن أبا طالب قال: أنا... كما في المسند، فغيره الراوي بلفظة (هو) استقباحا للفظ المذكور، وهو من التصرفات الحسنة )).
(2) تأكيد من الراوي في نفي وقوع ذلك من أبي طالب، وذلك لما لله فيه من الحكمة، وليعلم أن هذا الدين لا ينال بالنسب، وإنما يحصل بالتقوى.
(3) اللام للقسم، وفي رواية لهما: " أما والله لأستغفرن لك ". وفيه جواز الحلف من غير استحلاف وكأنه هنا لتأكيد العزم على الاستغفار، تطييبا لنفس أبي طالب، وكانت وفاته بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين، وتوفيت خديجة أم المؤمنين -رضي الله عنها- بعده بثمانية أيام.(8/223)
ص -145- ... فأنزل الله عز وجل:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} (1). وأنزل الله في أبي طالب: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} " (2).
....................................................................
(1) الإتيان بالفاء المفيدة للترتيب في قوله: فأنزل الله، تفيد أنها نزلت في أبي طالب، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أتى قبر أمه لما اعتمر، فاستأذن ربه أن يستغفر لها، فنزلت هذه الآية، ولا منافاة، فإنه قد تتعدد أسباب النزول، وهذه الآية عامة في حقه صلى الله عليه وسلم وحق غيره، وفيه تحريم الإستغفار للمشركين وتحريم كل موالاتهم ومحبتهم، بل إذا حرم الاستغفار لهم فمحبتهم وموالاتهم أولى.
(2) أي : {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} 1 أي لقرابتك أو أحببت أن يهتدي،: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 2 فله الحكمة البالغة في إضلال من شاء،:{وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} 3 أي بمن قدر له الهدى. وأجمع المفسرون على أنها نزلت في أبي طالب، وهي عامة، ومن حكمة الرب في عدم هدايته ليبين لعباده أن ذلك إليه سبحانه دون من سواه، فلو كان عند النبي صلى الله عليه وسلم - الذي هو أفضل خلقه- من هداية القلوب، وتفريج الكروب، والنجاة من العذاب، ونحو ذلك شيء لكان أحق الناس بذلك، وأولاهم به عمه الذي كان يحوطه ويحميه إلى أن بلّغ الوحي، وعادى قومه هو وأولاده، وقام بنصرته بالمال والرجال، وأقر أن ما جاء به هو الحق، إلا أنه لم ينقد إليه، ولم يتبرأ من دين المشركين، فظهر بذلك بطلان التعلق عليه صلى الله عليه وسلم - فضلا عن غيره- بشيء من خصائص الرب جل وعلا. قال المصنف: (( وفيه الرد على من زعم إسلام عبد المطلب وأسلافه )).(8/224)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة القصص آية : 56.
2 سورة البقرة آية : 272.
3 سورة الأنعام آية : 117.(8/225)
ص -146- ... باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين (1)
وقول الله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ}1 (2).
....................................................................
(1) أي باب ما جاء من الدليل والبرهان على أن سبب كفر بني آدم أو سبب أول كفر بني آدم، وتركهم دينهم الذي خلقوا له، ولا صلاح ولا فلاح لهم إلا به هو الغلو في الصالحين من الأنبياء والأولياء وغيرهم بالقول والاعتقاد فيهم، وضابط الغلو: تعدي ما أمر الله به، وهو الطغيان الذي خطى الله عنه، ولما ذكر بعض ما يفعله عباد القبور مع الأموات من الشرك، أراد أن يبين السبب في ذلك، ليحذروا الغلو مطلقا لا سيما في الصالحين، فإنه أصل الشرك قديما وحديثا، لقرب الشرك بالصالحين من النفوس، فإن الشيطان يظهره في قالب المحبة والتعظيم.
(2) في موضعين من كتابه، أي لا تتعدوا ما حد الله لكم، ولا ترفعوا المخلوق عن منزلته التي أنزله الله، وأهل الكتاب هنا هم اليهود والنصارى، والغلو كثير في النصارى؛ فإنهم غلوا في عيسى فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله، واليهود تنقصوه فحطوه من منزلته، حتى جعلوه ولد بغي، فالنصارى أفرطوا، واليهود فرطوا، والخطاب وإن كان لأهل الكتاب، فهو تحذير لهذه الأمة أن يفعلوا مع نبيهم ما فعلت النصارى مع المسيح، واليهود مع العزير. قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ} 2. ومن تشبه بهم من هذه الأمة وغلا في الدين بإفراط أو تفريط فهو منهم، فعل من دعا نبيا أو وليا من دون الله =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية : 171.
2 سورة الحديد آية : 16.(8/226)
ص -147- ... في الصحيح " عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} (1). قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح (2)
....................................................................
= فقد اتخذه إلها، وضاهى النصارى في شركهم، واليهود في تفريطهم.
وقد نرى الله عن الغلو في كتابه في مواضع، كقوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} 1 الآية وغيرها، والغلو شامل لجميع أمور الدين، فشمل الغلو في محبة الصالحين.
(1) كان هؤلاء أهل دين وفضل وخير، وماتوا في زمن متقارب فأسفوا عليهم، وصاروا يترددون على قبورهم، فأتاهم الشيطان وسول لهم أن يصوروا صورهم؛ ليكون أسهل عليهم من المجيء إلى قبورهم، ولم يكونوا قصدوا عبادتهم، وإنما قصدوا التذكر بهم؛ ليكون أدعى لهم على فعل الخير والتأسي بهم.
(2) هذا الأثر اختصره المصنف، ولفظ البخاري عنه: " صارت الأوثان التي في قوم نوح في العرب بعد، فأما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت، لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين في قوم نوح ". وروى ابن جرير عن موسى عن محمد بن قيس: أن يغوث ويعوق ونسرا كانوا قوما صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم: لو صورنا صورهم كان أشوق لنا إلى العبادة، فصوروا صورهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر فعبدوهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة هود آية : 112.(8/227)
ص -148- ... فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، وسموها بأسمائهم (1)، ففعلوا ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عُبدت " (2).
....................................................................
(1) أي فإذا هلك أولئك الصالحون، وحزن عليهم قومهم حزنا شديدا، وسوس لهم الشيطان، وألقى إليهم أن انصبوا إلى مجالسهم حالة التعليم والتذكير أنصابا على صورهم المعلومة عندكم، جمع نصب، والأمر منه بالكسر، والمراد بالأنصاب هنا الأصنام المصورة على صور أولئك الصالحين التي نصبوها في مجالسهم؛ ليتذكروا أفعالهم بها، وسموها بأسمائهم حتى لا تنسوهم، وكلما ترونها تذكركم إياهم، وقد أخرج الشيطان لهم هذه الحيلة في قالب المحبة؛ لعدم قدرته عليهم إلا بهذه الدرجة، ومقصوده من بعدهم الذين لم يعرفوا ما نصبت له، ليوسوس لهم أنهم كانوا معبودين في أولاكم.
(2) أي فعل أولئك ما أوحاه الشيطان إليهم من تصوير صالحيهم، ولم تعبد تلك الصور، لقرب عهدهم بمعرفة الهالكين وما صوروا لأجله، حتى إذا هلك الذين صوروا الأصنام، ونسي العلم الذي فيه بيان الشرك والتوحيد، أو نسي العلم الذي نصبوا لأجله الأنصاب، وهو تذكر العلم الذي كانوا يأخذونه عنهم، والعبادة التي كانوا يفعلونها؛ ليتأسوا بهم فيها، عبدت تلك الصور، وفي رواية: أنهم قالوا: ما عظم أولنا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله، فهذا هو السبب في عبادة هؤلاء الصالحين، وهذه هي الشبهة التي ألقاها الشيطان على المشركين من الأولين والآخرين. وفي رواية: "ونسخ" أي درست آثاره بذهاب العلماء، حتى صاروا لا يميزون بين التوحيد والشرك، فوقعوا في الشرك ظنا منهم أنه ينفعهم.
وعبدت تلك الأصنام لما قال لهم إبليس: إن من كان قبلكم كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فصارت هذه الأصنام بهذا التصوير سلما لعبادتها، ففيه مضرة =(8/228)
ص -149- ... قال ابن القيم: (( قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم )) (1).
....................................................................
= فقد العلم، و مضرة الغلو فإن كل ما عبد من دون الله من- قبر أو صنم- فالأصل في عبادته الغلو واندراس العلم، والجهل بحقيقة دين المرسلين، فالله المستعان.
قال الكلبي: (( كان لعمرو بن ربيعة رئي من الجن، فأتاه فقال: أجب أبا ثمامة، وادخل بلا ملامة، ثم ائت سيف جدة تجد بها أصناما معدة، ثم أوردها تهامة ولا تهب، ثم ادع العرب إلى عبادتها تجب، فأتى جدة فوجد بها ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا، وفي الأصنام التي كانت عبدت على عهد نوح وإدريس، ثم إن الطوفان طرحها هناك، فاستثارها عمرو، وحضر الموسم، ودعا إلى عبادتها فأجيب )) ا هـ.
وعمرو بن ربيعة وعمرو بن لحي، أول من غير دين إبراهيم، والمعبود في الحقيقة هو الشيطان الذي زين لهم عبادتها، وأمرهم بها كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} 1 .
(1) ابن القيم هو الإمام العلامة محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي، المعروف بابن قيم الجوزية، الثقة الحجة الورع الزاهد، المتفنن في سائر العلوم، صاحب التصانيف الرائقة السائرة المقبولة، أخذ عن شيخ الإسلام والمزي وغيرهما، وعد في أكابر السلف، مات -قدس الله روحه- سنة 751 هـ، وما ذكره -رحمه الله- هو بمعنى ما ذكره البخاري وابن جرير وغيرهما، إلا أنه ذكر عكوفهم على قبورهم قبل تصوير تماثيلهم، وذلك أعظم الوسائل الموصلة إلى الشرك، بل هو الشرك؛ لأن العكوف لله في المساجد عبادة، فإذا كان على القبور صار عكوفهم- تعظيما =(8/229)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يس آية : 60-62.(8/230)
ص -150- ... .............................................................................................
= ومحبة- عبادة لها، وقد تقدم أن العكوف هو البقاء والإقامة على الشيء في المكان عبادة وتعظيما وتبركا، كما كان المشركون يفعلون ذلك عند أصنامهم، لما يعتقدون فيها من البركة. والأمد: الزمان، أي طال عليهم الزمان، ونسوا ما قصده الأولون، فتبين أن مبدأ الشرك هو الغلو فيهم، وأن سبب تلك العبادة ما جرى من الأولين من التعظيم بالعكوف على قبورهم، ونصب صورهم في مجالسهم، فصارت بذلك أوثانا تعبد من دون الله، وهذا أول شرك حدث في الأرض.
قال القرطبي: (( وإنما صور أوائلهم الصور ليتأسوا بها، ويتذكروا أفعالهم الصالحة، فيجتهدوا كاجتهادهم، ويعبدوا الله عند قبورهم، ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم، فوسوس لهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها )) ا هـ.
أي فعبدوهم وما زال الشيطان يوحي إلى عباد القبور، إلى أن دعوا الناس إلى عبادتها، واتخاذها أعيادا ومناسك، ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم، ثم نقلهم إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل الرتب العالية، وعادوا أهل التوحيد، ووالوا أهل الشرك والتنديد، وزعموا أنهم أولياء الله: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 1 .
قال المصنف: وفيه أن من فهم هذا الباب وبابين بعده تبين له غربة الإسلام، ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب، وفيه معرفة أن أول شرك حدث على وجه الأرض بشبهة محبة الصالحين، ومعرفة أول شيء غير به دين الأنبياء، وقبول البدع مع كون الشرائع والفطر تردها، وأن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل بأمرين: الأول: محبة الصالحين. والثاني: فعل أناس من أهل العلم والدين شيئا أرادوا به خيرا، فظن من بعدهم أنهم أرادوا غيره. ومنها معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو ومعرفة ما يؤول(8/231)
إليه، ومنها مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح، ومعرفة النهي عن التماثيل، والحكمة في إزالتها ومعرفة شأن هذه القصة، وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها.
قال حفيده: (( ومنها مضرة التقليد، وكيف آل بأهله إلى المروق من الإسلام )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنفال آية : 34.(8/232)
ص -151- ... وعن عمر رضي الله عنه (1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله "1. أخرجاه (2).
....................................................................
(1) هو ابن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي العدوي، أمير المؤمنين، وأفضل الصحابة بعد الصديق -رضي الله عنهما-، ولي الخلافة بعده عشر سنين ونصفا، فامتلأت الدنيا عدلا، وفتحت في أيامه ممالك كسرى وقيصر، استشهد في ذي الحجة سنة 23 هـ، قتله أبو لؤلؤة الخارجي.
(2) الإطراء: مجاوزة الحد في المدح، والكذب فيه، أي لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى -عليه السلام- حتى ادعوا فيه الإلهية، وإنما أنا عبد الله ورسوله، فصفوني بذلك كما وصفني ربي، وقولوا: عبد الله ورسوله، لا تجاوزوا هذا القول، فأبى المشركون إلا مجاوزة أمره، وارتكاب نهيه، وعظموه بما نهاهم عنه، وضاهوا النصارى في غلوهم وشركهم، وناقضوا أمره أعظم مناقضة، وأظهر لهم الشيطان هذا الشرك في قالب التعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم ومحبته، والتوحيد والإخلاص في قالب التنقص، حتى جوزوا الاستغاثة به في كل ما يستغاث فيه بالله، ومنهم من يقول: نحن نعبد الله ورسوله، وارتكبوا ما نهوا عنه، وشاقوا الله ورسوله. وفيه أن الألفاظ التي يذكرها بعض الناس في الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما لا يحبه صلى الله عليه وسلم ، ولا يحب إلا ما جاء الأمر به حتى في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ، وفيما يثني عليه ويمدح به، ومن العجب أن الشيطان أظهر لهم ذلك في صورة محبته، ومحبته إنما يصدقها تجريد التوحيد الذي بعث من أجله، وتجريد المتابعة، وتقديم محبته على النفس والمال والولد والناس أجمعين، والثناء عليه بما أثنى به عليه ربه، أو أثنى به هو على نفسه، من غير غلو ولا تقصير.(8/233)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/23 ,1/24 ,1/47).(8/234)
ص -152- ... ......... قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو (1) "1 ولمسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " هلك المتنطعون (2) قالها ثلاثا (3) "2.
....................................................................
(1) أي التشدد في الدين ومجاوزة الحد، بأن يزاد في مدح الشيء أو ذمه على ما يستحق ونحو ذلك، فهو الداء العضال الذي هلكت به الأمم الماضية، وهذا الحديث ذكره المصنف -رحمه الله- غير معزو، وقد رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة جمع: هلم القط لي حصيات من حصى الخذف، فلما وضعتها في يده قال: نعم بأمثال هؤلاء وإياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين "3. لفظ ابن ماجه، وإسناده صحيح، وشواهده في الكتاب والسنة. وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار. وقال شيخ الإسلام: (( هذا الحديث عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال )).
(2) أي المتكلفون المتعمقون المتأنقون، الغالون في الكلام، المتكلمون بأقاصى حلوقهم، مأخوذ من النطع وهو الغار الأعلى من الفم، ثم استعمل في كل متعمق قولا وفعلا، أو الغالون في عباداتهم، بحيث تخرج عن قوانين الشريعة، أو الذي يدخل الباطل في قالب الحق لقوة فصاحته، وأما الفصاحة التي توضح الحق وترد الباطل، وتظهر عظمة العلم والدليل فممدوحة.
(3) أي قال هذه الكلمة ثلاث مرات، مبالغة في الإبلاغ والتعليم، وقد بلغ البلاغ المبين صلى الله عليه وسلم ومطابقة هذا الحديث للترجمة أن التنطع من الغلو والزيادة؛ لما فيه من الخروج إلى ما يوصل إلى الشرك بالله عز وجل. وهذا الحديث رواه أحمد أيضا وأبي داود وغيرهما.(8/235)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي : مناسك الحج (3057).
2 مسلم : العلم (2670) , وأبو داود : السنة (4608) , وأحمد (1/386).
3 النسائي : مناسك الحج (3057).(8/236)
ص -153- ... باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده (1) ؟
في الصحيح عن عائشة -رضي الله عنها-: " أن أم سلمة ذكرت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- كنيسة رأتها بأرض الحبشة (2)
....................................................................
(1) أي باب ذكر ما ورد في النصوص من التغليظ والتهديد، والوعيد الشديد على من يعبد الله عند قبر رجل صالح مع أنه لا يقصد إلا الله، ومع كونه معصية فهو وسيلة وذريعة من أعظم الوسائل والذرائع إلى الشرك، وقد أبدى صلى الله عليه وسلم وأعاد، وكرر وغلظ في ذلك، فكيف إذا عبد الرجل الصالح فإنه أحق وأولى بما هو أعظم من هذا التغليظ، والمقصود أنه إذا كانت عبادة الله عند القبور منهيا عنها، ومغلظا فيها، فكيف بعبادة صاحب القبر، فإن ذلك شرك أكبر، وعبادة الله عنده وسيلة إلى عبادته، وكلما أدى إلى محرم فهو محرم، فإن الوسائل لها حكم الغايات، فوسائل الشرك محرمة؛ لأنها تؤدي إليه، ولما رأى المصنف -قدس الله روحه- تهافت الناس على عبادة القبور، نوع التحذير من الافتتان بالقبور، وأخرجه في أبواب مختلفة، ليكون أوقع في القلوب، وأحسن في التعليم، وأعظم في الترهيب، وأبلغ في التحذير.
(2) أم سلمة هي هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، القرشية المخزومية، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أبي سلمة، وكانت قد هاجرت مع أبي سلمة إلى الحبشة، وتوفيت سنة 62 هـ، والكنيسة- بفتح الكاف =(8/237)
ص -154- ... وما فيها من الصور (1)، أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح –أو العبد الصالح- بنوا على قبره مسجدا (2)، وصوروا فيه تلك الصور (3)، أولئك شرار (4) الخلق عند الله "1 .
....................................................................
= وكسر النون- متعبد النصارى، وفي رواية: "يقال لها: مارية"، وفيه أن أم سلمة ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته، وهو في الصحيحين، وفيهما أيضا أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأتاها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
(1) أي وذكرت له ما فيها من تلك الصور، وفي رواية: "وذكرتا له من حسنها وتصاوير فيها".
(2) أي موضعا للعبادة، وإن لم يسم مسجدا كالكنائس والمشاهد، و "أولئك" بكسر الكاف، خطاب للمرأة، والرجل الصالح هو القائم بحقوق الله، وحقوق عباده، وفيه التحري في الرواية، وجواز الرواية بالمعنى لمن يحسن ذلك.
(3) بكسر الكاف أيضا، وتفتح كالماضية، والإشارة إلى ما ذكرت له أم سلمة وأم حبيبة من التصاوير التي في تلك الكنيسة، كما في بعض ألفاظ الحديث، فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها، ذكرهم على وجه العيب والذم والإشانة.
(4) شرار بكسر الشين جمع شر كالخيار جمع خير، وإنما سموا بذلك لضلالهم، وسنهم لمن بعدهم الغلو في قبور صالحيهم حتى أفضى بهم ذلك الغلو إلى عبادتها، وهو عام فيمن فعلهم من هذه الأمة، وأي زجر وأي تغليظ وتقريع وتعيير أبلغ من هذا؟ وهم إنما صوروا صورهم ليتأسوا بهم، ويتذكروا أفعالهم الصالحة، فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك وأنذر، وأبدى وأعاد، =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الصلاة (427) , ومسلم : المساجد ومواضع الصلاة (528) , والنسائي : المساجد (704) , وأحمد (6/51).(8/238)
ص -155- ... فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور وفتنة التماثيل (1).
....................................................................
= أولا بالبناء على القبور، ثم بالتصوير، ثم بكونهم شرار الخلق؛ سدا للذريعة المؤدية إلى الشرك.
وفيه ونحوه دلالة ظاهرة على تحريم بناء المساجد على القبور، وزخرفتها وإسراجها، وعبادة الله عندها، أو تعليق شيء من الصور عليها، لا سيما وقد لعن صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك كما سيأتي.
(1) هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية على الحديث، أدرجه المصنف -رحمهما الله تعالى- غير منسوب؛ لأنه معلوم عند غالب من يقرأ هذا الكتاب، وعني -رحمه الله- أن الذين بنوا هذه الكنيسة جمعوا فيها بين فتنتين، ضل بهما كثير من الخلق، فأما فتنة القبور فلأنهم افتتنوا بقبور الصالحين، وعظموها تعظيما مبتدعا، فآل بهم إلى الشرك. وأما فتنة التماثيل- أي الصور- فإنهم لما افتتنوا بقبور الصالحين، وعظموها وبنوا عليها المساجد، وصوروا فيها تلك الصور، آل بهم الأمر إلى أن عبدوها، وهاتان الفتنتان هما سبب عبادة الصالحين، كاللات والعزى وود وغيرها، وهذه العلة هي التي لأجلها نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ المساجد على القبور، وهي التي أوقعت الكثير من الأمم في ذلك، والفتنة بالقبور كالفتنة بالأصنام وأشد؛ فإن الشرك بقبر رجل يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر، ولهذا تجد أهل الشرك يتضرعون عندها، ويخشعون ويخضعون، ويعبدون عبادة لا يفعلونها في بيوت الله، ويلهجون بذكرهم أكثر مما يذكرون الله، وينفقون نفائس الأموال في ذلك، ولأجل هذه المفسدة حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها، حتى نهى عن الصلاة في المقبرة. قال شيخ الإسلام: وإذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركا بها، فهذا عين المحادة، فإن المسلمين قد أجمعوا على ما قد علموه بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم أن الصلاة عند(8/239)
القبور منهي عنها، وأنه لعن من اتخذها مساجد، فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك الصلاة عندها، واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها، فقد تواترت =(8/240)
ص -156- ... ولهما عنها قالت: " لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه(1)، فإذا اغتم بها كشفها(2)، فقال -وهو كذلك-: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" (3).
....................................................................
= النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك، والتغليظ فيه، وقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها، متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة، وصرحوا بتحريم ذلك، ومن أطلق الكراهة منهم فينبغي أن تحمل كراهته على التحريم، إحسانا للظن بالعلماء، وأن لا يظن بهم أن يجوزوا فعل ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عنه، ولعن فاعله.
(1) نزل بضم النون وكسر الزاي، أي لما نزل به ملك الموت لقبض روحه الشريفة، والملائكة الكرام، وروى بالفتح، أي لما نزل به الموت. وفي رواية: نزلت، أي لما حضرت المنية والوفاة. و"طفق" بفتح الطاء وكسر الفاء وتفتح، أي جعل، "والخميصة" كساء له أعلام.
(2) أي إذا غمته فاحتبس نفسه عن الخروج كشفها عن وجهه؛ لشدة ما يعالج صلى الله عليه وسلم من كرب الموت.
(3) أي قال صلى الله عليه وسلم في هذه الحالة الحرجة، وهي شدة النزع، لشدة اهتمامه، واعتنائه بمقام التوحيد، وخوفه أن يعظم قبره، كما فعل من مضى: "لعنة الله على اليهود والنصارى"، وفي لفظ: " قاتل الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "1 أي كنائس وبيعا، أي يتعبدون ويسجدون فيها لله، وإن لم يسموها مساجد، فإن الاعتبار بالمعنى لا بالاسم، وفي لفظ لمسلم: " كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد "2. ومثل ذلك القباب والمشاهد المبنية على =(8/241)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الصلاة (436) , ومسلم : المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي : المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/121 ,6/146 ,6/252 ,6/255 ,6/274) , والدارمي : الصلاة (1403).
2 مسلم : المساجد ومواضع الصلاة (532).(8/242)
ص -157- ... يحذر ما صنعوا (1)، ولولا ذلك لأبرز قبره (2)، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا" 1. أخرجاه (3).
....................................................................
= قبور الأنبياء والصالحين، فإنما هي المساجد الملعون من بناها على قبورهم، فأفاد أن هذا من أخوف ما خافه صلى الله عليه وسلم على أمته، ولولا أن ضرره عظيم لما ذكره في هذا المقام، وخص قبور الأنبياء لأن عكوف الناس على قبور أنبيائهم أعظم، واتخاذها مساجد أشد، ولم يكن هذا اللعن في سياق الموت لهذه الطائفتين إلا على سبيل التحذير الشديد؛ لئلا تقع أمته في شيء من فعلهم عند قبره، فلعنهم على تحري الصلاة عندها، وإن كان المصلي لا يصلي إلا لله؛ لأنه ذريعة إلى عبادتها، فكيف إذا عبدها، وهذا هو الغاية التي يكون اتخاذ القبور مساجد ذريعة إليها، واللعنة ليست مختصة باليهود والنصارى، بل تعم من فعل فعلهم.
(1) هذا من كلام عائشة -رضي الله عنها- أي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى تحذيرا لأمته أن يفعلوا ما فعلت اليهود والنصارى، فيقع بهم من اللعنة ما وقع بهم، فإنه من الغلو في الأنبياء، وأعظم وسائل الشرك، قال القرطبي: (( وكل ذلك لقطع الذريعة المؤدية إلى عبادة من فيها، كما كان السبب في عبادة الأصنام )).
(2) وفي لفظ: لأبرزوا قبره، أي ولولا تحذير النبي صلى الله عليه وسلم ما صنعوا، ولعنه من فعل ذلك لأبرز قبره، أي لدفن خارج بيته، أو مع قبور الصحابة الذين كانت قبورهم في البقيع.
(3) أي البخاري ومسلم، ويغنى عنه قوله في أوله: ولهما؛ فلعله سبقة قلم، و"خشي" روي بفتح الخاء وضمها، فعلى الفتح يكون هو الذي خشي ذلك صلى الله عليه وسلم ، وأمرهم أن يدفنوه في المكان الذي قبض فيه، وعلى رواية الضم يحتمل أن يكون الصحابة هم الذين خافوا أن يقع ذلك من بعض الأمة، فلم يبرزوا =(8/243)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الصلاة (436) , ومسلم : المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي : المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34) , والدارمي : الصلاة (1403).(8/244)
ص -158- ... ولمسلم عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه (1) قال: " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس (2) وهو يقول: إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل (3)؛
....................................................................
= قبره خشية أن يقع ذلك غلوا وتعظيما، لما تقرر عندهم من مناقضة ذلك لدين الإسلام، بما أبدى وأعاد صلى الله عليه وسلم من النهي والتحذير منه ولعن فاعله. قال القرطبي: ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي صلى الله عليه وسلم فأعلوا- حيطان تربته، وسدوا المداخل إليها، وجعلوها محدقة بقبره، خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة، إذا كان مستقبل المصلي، فتصور الصلاة إليه بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين، وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال، حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره. قال المصنف: وفيه ما ذكر صلى الله عليه وسلم فيمن بنى مسجدا يعبد الله فيه على قبر رجل صالح، ولو صحت نية الفاعل، والنهي عن التماثيل، وتغليظ الأمر في ذلك، ونهيه عن فعله عند قبره قبل أن يوجد القبر، وأنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم، ولعنه إياهم على ذلك، وأن مراده بذلك تحذيرنا عن قبره، ومنها العلة في عدم إبراز قبره.
(1) هو أبو عبد الله البجلي العلقي، والعلق بطن من بجيلة من كهلان، ويقال: جندب الخير، وينسب إلى جده سفيان، صحابي مشهور، مات بعد الستين.
(2) أي خمس ليال، وقيل خمس سنين، والأول أظهر؛ لكونه لعن أيضا وهو في سياق الموت من فعله.
(3) نفى أن تكون حاجته وانقطاعه إلى غير الله عز وجل والليل المنقطع إليه، المحبوب غاية الحب، مشتق من الخلة بفتح الخاء وهي تخلل المودة في القلب، كما قال الشاعر: =(8/245)
ص -159- ... فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا (1)، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا، لاتخذت أبا بكر خليلا (2)، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد (3)،
....................................................................
قد تخللت مسلك الروح مني ... وبذا سمي الخليل خليلا
والخلة فوق المحبة، فإن المحبة عامة والخلة خاصة، وهي نهاية المحبة، وبرئ من الشيء سلم وخلص. قال القرطبي: (( وإنما كان ذلك؛ لأن قلبه صلى الله عليه وسلم قد امتلأ من محبة الله وتعظيمه ومعرفته، فلا يسع لمخالة غيره )).
(1) أي فلا أريد مع خلة ربي أحدا، بل حسبي ذلك؛ لئلا تزاحم خلة غيره خلته، وفيه إثبات أنه خليل الله، ولا ينافي عبوديته لله.
(2) فيه إثبات فضيلة الصديق رضي الله عنه؛ إذ لو كان النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل الفرض والتقدير متخذا خليلا لاتخذ أبا بكر، وفي صحيح مسلم: " ولكن أخي وحبيبي "1. قال المصنف: فيه الرد على الرافضة والجهمية اللتين هما شر أهل البدع، بل أخرجهم بعض السلف من الثنتين والسبعين فرقة. وفيه التصريح بأن الصديق أفضل الصحابة، وفيه إشارة إلى خلافته؛ لأن من كانت محبته لشخص أشد، كان أولى بالنيابة عنه من غيره، وقد استخلفه على الصلاة بالناس، وغضب لما قيل له: يصلي بهم عمر، وذلك في مرضه الذي توفي فيه صلى الله عليه وسلم . واسم أبي بكر عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، الصديق الأكبر، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفضل الصحابة بالإجماع، ومناقبه مشهورة، مات 13 هـ، وله 63.
(3) (ألا) حرف استفتاح، واتخاذها إما أن يكون سجودا لها تعظيما وعبادة، أو توجها منهم إليها حالة الصلاة، جمعا بين العبادة وتعظيم الأنبياء، وعلى كل تقدير فإنهم يستحقون اللعن بذلك، والحديث أعم من ذلك، فيشمله ويشمل بناء المساجد والقباب عليها.(8/246)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : المناقب (3656).(8/247)
ص -160- ... ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك (1) "1. فقد نهى عنه في آخر حياته (2)، ثم إنه لعن وهو في السياق من فعله (3)، والصلاة عندها من ذلك (4) وإن لم يبن مسجد (5)،
....................................................................
(1) يحذر الأمة أن تتخذ القبور مساجد كالذين من قبلهم، وأكد النهي فقال: "فإني أنهاكم عن ذلك" أي عن اتخاذها مساجد، سدا لذريعة الشرك، ففيه النهي عن اتخاذ القبور مساجد من ثلاثة أوجه:
(الأول) ذم من كان قبلهم على ذلك .
(والثاني) تحذيرهم أن لا يتخذوها .
(والثالث) قوله: "فإني أنهاكم عن ذلك" فبالغ في النهي، نصيحة لأمته عن أعظم ما يحل بهم.
(2) أي كما في حديث جندب، وهذا وما بعده من كلام شيخ الإسلام.
(3) كما في حديث عائشة رضي الله عنها؛ لأن التردد على القبور يوجب التأله لأربابها، ويورث عبادتهم، و (سياق) أصله سواق، قلبت الواو ياء لكسر السين، وسياق وسواق مصدران من ساق يسوق، والمراد سياق الموت، سمي بذلك كأن روحه الشريفة تساق لتخرج من البدن.
(4) أي من اتخاذها مساجد، فمن صلى عند القبور فقد اتخذها مساجد، فهو داخل في لعن الرسول صلى الله عليه وسلم ومرتكب نهه شاء أم أبى، وفائدة التنصيص على زمن النهي، يقضي بأنه من الأمر المحكم الذي لم ينسخ؛ لكونه صدر في آخر حياته صلى الله عليه وسلم .
(5) أي إن الصلاة عند القبور وإليها من اتخاذها مساجد الملعون من فعله، ولو بدون بناء مساجد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : المساجد ومواضع الصلاة (532).(8/248)
ص -161- ... وهو معنى قولها: خشي أن يتخذ مسجدا (1)؛ فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا (2)، وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدا (3)، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجدا (4).
....................................................................
(1) أي معنى قول عائشة رضي الله عنها: يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا، كما اتخذت اليهود والنصارى قبور أنبيائهم مساجد، وعن أبي سعيد مرفوعا: " الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام "1. أخرجه الخمسة. وفي الصحيح أن " عمر رأى أنس بن مالك يصلي عند قبر، فقال: القبر القبر " فإنه مستقر عندهم ما نهاهم عنه النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة عند القبور، وفي هذا وأمثاله إبطال زعم من زعم أن النهي لأجل النجاسة، وهو أبعد شيء عن مقاصد الشارع، بل العلة الخوف على الأمة من نجاسة الشرك، كما هو معلوم من النصوص المستفيضة عن الرسول صلى الله عليه وسلم .
(2) لما علموا من تشديده صلى الله عليه وسلم في ذلك وتغليظه، ولعن من فعله.
(3) لكونه أعد لها، وإن لم يبن فيه مسجد، و (قصد إلى الشيء) توجه إليه.
(4) وإن لم يقصد بذلك، كما إذا عرض لمن أراد أن يصلي، فأوقع الصلاة في ذلك الموضع الذي حانت الصلاة عنده، من غير أن يقصد ذلك الموضع بخصوصه، فإنه يصير بفعل الصلاة فيه مسجدا، فالأول في الأمكنة المعدة للصلاة، وهذا في أي موضع صلى فيه وإن لم يعد لها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : الصلاة (317) , وأبو داود : الصلاة (492) , وابن ماجه : المساجد والجماعات (745).(8/249)
ص -162- ... كما قال صلى الله عليه وسلم : " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا "1 (1). ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا: " إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء (2)، والذين يتخذون القبور مساجد (3) "2 .
....................................................................
(1) أخرجه البخاري ومسلم من حديث جابر: " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي "3، وفيه: " وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " ، فسمى الأرض مسجدا، بمعنى أنه تجوز الصلاة في كل بقعة منها، إلا ما استثنى من المواضع التي لا تجوز الصلاة فيها، كالمقبرة والمكان النجس، قال البغوي: أراد أن أهل الكتاب لم تبح لهم الصلاة إلا في بيعهم وكنائسهم، فأباح الله لهذه الأمة الصلاة حيث كانوا، تخفيفا عليهم وتيسيرا، وهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم . وقوله: " طهورا" أراد به التيمم، وفيه المبالغة في النهي عن بناء المساجد عند القبور كيف بين لهم أولا، ثم قبل موته بخمس قال ما قال، ثم لما كان في النزع لم يكتف بما تقدم، بل لعن حالة النزع من فعل ذلك.
(2) أي ينفخ في الصور نفخة الفزع وهم أحياء أو مقدماتها، كخروج الدابة وطلوع الشمس من مغربها، وهذا أيضا من أبلغ التغليظ؛ فإنه أخبر عمن تقوم عليهم الساعة أنهم هم شرار الخلق، كقوله: " ويبقى شرار الناس "4، وقوله: " حتى لا يقال في الأرض الله الله " 5. و(شرار الناس) بكسر الشين: جمع شر، ضد خيارهم.
(3) أي وإن من شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد بالصلاة عندها وإليها، وبناء المساجد عليها، وتقدم في الأحاديث الصحيحة أن هذا من عمل اليهود والنصارى، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لعنهم على ذلك، تحذيرا للأمة أن يفعلوا مع نبيهم وصالحيهم فعلهم، وهذا المعنى متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم =(8/250)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الصلاة (438) , ومسلم : المساجد ومواضع الصلاة (521) , والنسائي : الغسل والتيمم (432) والمساجد (736) , وأحمد (3/304) , والدارمي : الصلاة (1389).
2 أحمد (1/435).(8/251)
ص -163- ... ورواه أبو حاتم في صحيحه (1).
....................................................................
= معلوم بالاضطرار من دينه، وكل ذلك شفقة منه صلى الله عليه وسلم على الأمة، وخوف من أن يقودهم ذلك إلى الشرك بها وأصحابها، وتقدم الإجماع على النهي عن البناء على القبور، والقطع بتحريمه، وفي صحيح مسلم: "نهى أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه".
قال شيخ الإسلام: لا فرق بين الجديدة والعتيقة، انقلبت تربتها أو لم تنقلب، ولا فرق أن يكون بينه وبين الأرض حائل أولا، لعموم الاسم وعموم العلة، وإن كان موضع قبر أو قبرين؛ لأنه لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ومعلوم أن قبورهم لا تنجس، فمن علق النهي بنجاسة التربة خاصة، فهو بعيد عن مقصود النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا تجوز في مسجد بني في مقبرة سواء كان له حيطان تحجز بينه وبين القبور، أو كان مكشوفا، وفي صحيح مسلم من حديث أبي مرثد: " لا تصلوا إلى القبور"1. وقال ابن القيم: (( وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه، وفهم عن الرسول مقاصده، جزم جزما لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة واللعن والنهي بصيغة: "لا تفعلوا"، "إني أنهاكم" ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحق بمن عصاه؛ فإن هذا وأمثاله صيانة منه لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك، وغضب لربه أن يعدل به سواه )) ا هـ. وقد وقع بسبب البناء على القبور من المفاسد التي لا يحيط بها على التفصيل إلا الله، ما يغضب لله من أجله من في قلبه رائحة إيمان، ولقد أبدى صلى الله عليه وسلم وأعاد، وحذر من ذلك، حتى في النزع سدا لذريعة الشرك قبل وقوعه، وتحذيرا للناس منه، وقد طبق العالم اليوم، وعادت الجاهلية الأولى، بل زادوا عليهم دعاءهم في الشدائد، واعتقاد النفع والضر فيهم من دون الله عز وجل فإنا لله وإنا إليه راجعون.
(1) أبو حاتم هو محمد بن حبان، تقدمت ترجمته، وأن أصح ما صنف في الصحيح بعد الصحيحين صحيح(8/252)
ابن خزيمة فابن حبان فالحاكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الجنائز (972) , والترمذي : الجنائز (1050) , والنسائي : القبلة (760) , وأبو داود : الجنائز (3229) , وأحمد (4/135).(8/253)
ص -164- ... باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله (1)
روى مالك في الموطأ (2) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يُعبد (3)،
....................................................................
(1) أي ذكر ما ورد من الدليل والبرهان أن الغلو- وهو مجاوزة الحد- في قبور الأنبياء والصالحين بالبناء عليها، واتخاذ المساجد عليها، والصلاة عندها، والذبح والنذر وغير ذلك من أنواع الغلو يجعلها أوثانا؛ لأنه يورث التأله والعبادة شيئا فشيئا، والوثن يعم الأصنام وغيرها مما يعبد من دون الله، كما عبدت اللات والعزى ومناة وغيرها.
(2) أي روى مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي، إمام دار الهجرة، أحد الأئمة الأربعة، وأحد الحفاظ. قال أحمد: (( مالك أثبت في كل شيء )). وقال البخاري: (( أصح الأسانيد كلها مالك عن نافع عن ابن عمر )). وروى عن جماعة من التابعين، نافع وغيره، وعنه الشافعي والأوزاعي وخلق، ولد سنة 93 هـ، ومات سنة 179 هـ.
روى هذا الحديث عن زيد بن أسلم عن عطاء مرسلا، ومرسله ثقة. ورواه البزار عن زيد عن عطاء عن أبي سعيد مرفوعا، وسنده من تقبل زيادته، وله شاهد عند أحمد من حديث أبي هريرة، والموطأ اشتهر في عصره حتى قال الشافعي: (( ما تحت أديم السماء كتاب أكثر صوابا بعد كتاب الله من موطأ مالك )). وهو كما قال؛ فإن حديثه أصح من حديث نظرائه.
(3) خاف صلى الله عليه وسلم أن يقع في أمته ذلك، كما وقع من اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم، فرغب إلى ربه أن لا يجعل قبره وثنا يعبد، وقد استجاب =(8/254)
ص -165- ... اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد (1) "1. ولابن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد (2):
....................................................................
= الله دعاءه فصان قبره، وأحاطه بثلاثة جدران، مثلثة لا يستطيع أحد الوصول إليه ولا استقباله
قال ابن القيم:
فأجاب رب العالمين دعاءه ... وأحاطه بثلاثة الجدران
حتى غدت أرجاؤه بدعائه ... في عزة وحماية وصيان
فدل الحديث على أن قبر النبي صلى الله عليه وسلم لو عبد لكان وثنا، لكن حماه الله بما حال بينه وبين الناس، فلا يوصل إليه، ودل على أن الوثن هو ما يباشره العابد من القبور والتوابيت التي عليها، وقد عظمت الفتنة بالقبور بتعظيمها وعبادتها، حتى اتخذت دينا يضلل من أنكر عبادتها.
(1) أتى صلى الله عليه وسلم بهذه الجملة بعد دعائه ربه أن لا يجعل قبره وثنا يعبد، تنبيها على سبب لحوق شدة الغضب عليهم ولعنهم، وهو توصلهم بذلك إلى أن تصير أوثانا تعبد، وفيه إشارة إلى ما ترجم له المصنف، وفيه تحريم البناء على القبور والصلاة عندها، وأنه من الكبائر. وكره مالك أن يقول: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وعلل الكراهة بقوله: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " .
قال المصنف: (( وفيه أنه لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه )).
(2) ابن جرير هو الإمام الحافظ محمد بن جرير بن يزيد بن خالد، وقيل: يزيد بن كثير بن غالب الطبري من أهل آمد طبرستان، صاحب التفسير والتاريخ والأحكام وغيرها. قال ابن خزيمة:
(( لا أعلم على وجه الأرض أعلم من محمد بن جرير )). وكان من المجتهدين، وله أصحاب يتفقهون على مذهبه، ولد سنة 224 هـ، ومات سنة 310 هـ.
وسفيان هو ابن سعيد بن مسروق الثوري من ثور بن عبد مناة بن أد =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مالك : النداء للصلاة (416).(8/255)
ص -166- ... "{أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى} قال: كان يلت لهم السويق (1)، فمات فعكفوا على قبره " (2).
....................................................................
= ابن طابخة، أبو عبد الله الكوفي، ثقة حافظ فقيه مجتهد، وله أيضا أتباع يتفقهون على مذهبه، مات سنة 161 هـ، وله 64 .
ومنصور هو ابن المعتمر بن عبد الله بن ربيعة أبو عتاب السلمي الكوفي، ثقة ثبت فقيه، روى عن أبي وائل والنخعي والحسن وغيرهم، وعنه أيوب والأعمش وغيرهما، مات سنة 132 هـ،
ومجاهد هو ابن جبر بفتح الجيم وسكون الباء الموحدة أبو الحجاج المخزومي المقري، مولى السائب المكي، ثقة إمام في العلم والتفسير، أخذه عن ابن عباس وغيره، وروى عن علي والعبادلة وغيرهم، وعنه عطاء وعكرمة وغيرهما، ولد سنة 21 هـ، ومات وهو ساجد سنة 104 هـ.
(1) أي للحاج، والسويق دقيق الحنطة أو الشعير، ولته خلطه وبله بالسمن أو الماء.
(2) وفي رواية: كان اللات رجلا في الجاهلية، وكان له غنم، فكان يسلو من رسلها، ويأخذ من زبيب الطائف والأقط، فيجعل منه حيسا، فيطعم من يمر من الناس، فلما مات عبدوه وقالوا: هو اللات، رواه سعيد بن منصور والفاكهي. والمعنى أن اللات كان رجلا صالحا يطعم الحجاج السويق، فلما مات غلوا فيه وعظموه لأجل عمله الصالح الذي كان يعمله، فعكفوا على قبره حتى عبدوه، وصار قبره وثنا من أوثان المشركين، فقد تقرر أن سبب عبادة اللات هو الغلو في قبره حتى صار وثنا يعبد، كما كان ذلك هو السبب في عبادة الصالحين ود وسواع وغيرهما، وكما كان ذلك هو السبب في عبادة الصالحين اليوم من الأموات وغيرهم، فإنهم غلوا فيهم، وبنوا على قبورهم القباب والمشاهد، وجعلوها ملاذا لقضاء المآرب، وهو الشاهد للترجمة. والعكوف على الشيء: الإقبال عليه مواظبا والاحتباس فيه، والاستدارة حوله، ومنه الاعتكاف في المساجد.(8/256)
ص -167- ... وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: كان يلت السويق للحاج (1). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور (2)،
....................................................................
(1) رواه البخاري عن مسلم بن إبراهيم عن أبي الأشعث عن أبي الجوزاء، وهو أوس بن عبد الله الربعي بفتحتين من ربيعة الأزد، روى عن أي هريرة وابن عباس وغيرهما، وعنه بديل وقتادة والأشعث وغيرهم، ثقة مشهور مات سنه 83 هـ.
(2) اللعن: الطرد والإبعاد ويقع بالقول، "وزائرات " جمع زائرة، وفي رواية "زوارات القبور"، وفيه دلالة صريحة على تحريم زيارة النساء القبور وهو قول أكثر أهل العلم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور نهيا عاما، ثم أذن فيه بقوله: "فزوروها" وحديث الإذن مخصص بهذا الحديث، فهو من العام المخصوص، ولم تدخل النساء في الإذن لأوجه: (منها) أن قوله: "فزوروها" صيغة تذكير، ولو كان للعموم لكان النساء على عهده صلى الله عليه وسلم وعهد خلفائه يزرنها. (ومنها) أنه علل الإذن للرجال بأن ذلك يذكر الموت، ويرقق القلب، وتدمع العين، والمرأة يخرجها إلى الجزع والندب والنياحة لما فيها من الضعف، والعلة في المنع أنهم كانوا حديثي عهد بكفر، فلما طال مكثهم في الإسلام نسخ لزوال العلة، والعلة في النساء باقية بحالها، وليس في زيارتهن من المصلحة ما يعارض تلك المفسدة؛ لأنه ليس في زيارتهن إلا دعاؤهن للميت، أو اعتبارهن به، وذلك ممكن في بيوتهن، وفي الحديث: " ارجعن مأزورات غير مأجورات، فإنكن تفتن الحي وتؤذين الميت ". وفي الصحيح نهيه النساء عن اتباع الجنائز.(8/257)
ص -168- ... والمتخذين عليها المساجد والسرج (1)"1. رواه أهل السنن (2).
....................................................................
(1) أي ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتخذين على القبور المساجد المبنية، والموقدين عليها السرج وكذا الصلاة عندها، والدعاء ونحو ذلك، وهذا حرام باتفاق العلماء. وفي صحيح مسلم: " لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها "2. وإذا كانت المساجد بنيت لذكر الله، وقراءة القرآن والصلاة، كانت القبور بذلك مساجد. قال ابن القيم: (( اتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها من الكبائر )). ووجه إيراد المصنف هذا الحديث في هذا الباب دون الذي قبله هو أنه لعن المتخذين عليها المساجد والسرج، وقرن بينهما، فهما قرينان فدل على أنه لأجل نجاسة الشرك؛ إذ ليس لعن المسرجين من أجل نجاسة البقعة، فكذا البناء.
(2) أبو داود والترمذي وابن ماجه، ولم يخرجه النسائي، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه من طريقين: عن أبي هريرة عند أحمد والترمذي وصححه، وعن حسان عند ابن ماجه. قال شيخ الإسلام: (( هذا الحديث تعددت طرقه، فهو في الأصل معروف، ومثله حجة بلا ريب )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : الصلاة (320) , والنسائي : الجنائز (2043) , وأبو داود : الجنائز (3236) , وابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1575) , وأحمد (1/229 ,1/287 ,1/324 ,1/337).
2 مسلم : الجنائز (972) , والترمذي : الجنائز (1050), والنسائي : القبلة (760) , وأبو داود : الجنائز (3229), وأحمد (4/135).(8/258)
ص -169- ... باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك (1)
وقول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ
....................................................................
(1) المصطفى المختار، والجناب هو الجانب، والمراد حمايته صلى الله عليه وسلم التوحيد عما يقرب منه، أو يخالفه من الشرك وأسبابه؛ إذ هو أعظم الفرائض، بل لا تصح إلا به، وهو الذي جاءت الرسل بالقيام به، والنهي عما ينافيه، ومع حمايته لجنابه اجتهد في سد كل طريق يوصل أمته إلى الشرك، وحذر وأنذر، وأبدى وأعاد، وخص وعم، وقطع الوسائل والذرائع المفضية إليه، فصلّى الله عليه وسلّم كما بلغ البلاغ المبين، وفي الأبواب المتقدمة شيء من حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم لجناب التوحيد، ولكن أراد المصنف -رحمه الله- هنا حمايته الخاصة.
(2) يخبر تعالى عباده على سبيل الامتنان أنه بعث فيهم رسولا عظيما، أرسله إليهم من أنفسهم، أي من جنسهم، يرجعون معه إلى نفس واحدة، وبلغتهم ولسانهم، يعرفونه ويتحققون مكانه، ويعلمون صدقه وأمانته ونصيحته وشفقته، وذلك أقرب وأسرع إلى فهم الحجة، وأبعد من اللجاجة، ويقتضي مدحا لنبيه صلى الله عليه وسلم وأنه من صميم العرب، كما قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} 1 الآية. وقال جعفر للنجاشي: (( إن الله بعث فينا رسولا منا، نعرف نسبه وصفته، ومدخله ومخرجه، وصدقه وأمانته )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية : 164.(8/259)
ص -170- ... عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}1 (1) الآية. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تجعلوا بيوتكم قبورا (2)،
....................................................................
(1) أي شديد عليه جدا الذي يعنت أمته، وهو لحاق الأذى الذي يضيق به الصدر، ولا يهتدي للمخرج عنه، والذي يشق عليها من كفر وضلال وامتحان، وفي الحديث: " بعثت بالحنيفية السمحة "2. وفي الصحيح: " إن هذا الدين يسر "3، فشريعته كلها سهلة سمحة كاملة، يسيرة على من يسرها الله عليه. وقوله: " حريص عليكم " أي راغب ومجتهد على هدايتكم، وحصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم، والحرص شدة طلب الشيء على الاجتهاد فيه، حتى قال: " ما بقي شيء يقرب من الجنة، ويباعد من النار إلا وقد بينته لكم ". وقوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} 4. أي بليغ الرأفة والشفقة بهم لا بغيرهم، كقوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 5. وقال عليه السلام: " ما بعث الله من نبي إلا كان عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، ويحذرهم من شر ما يعلمه لهم "6. فاقتضت هذه الأوصاف أن أنذر أمته وحذرهم عن الشرك الذي هو أعظم الذنوب، ولا ريب أن الإنذار عنه زبدة رسالته، وقد بين صلى الله عليه وسلم لأمته ذرائعه الموصلة إليه، وأبلغ في نهيهم عنها، ومن ذلك تعظيم القبور والغلو فيها، والصلاة عندها وإليها، ونحو ذلك مما يوصل إلى عبادتها، وهذا وجه الدلالة من الآية.
(2) أي لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور؛ لأن النهي عن الصلاة عند القبور قد تقرر عندهم، فنهاهم أن يجعلوا بيوتهم كذلك، وأمر بتحري العبادة فيها، ونهاهم عن تحريها عند القبور، عكس ما يفعله المشركون من النصارى، ومن تشبه بهم من هذه الأمة. وفي الصحيحين: " اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبورا "7. ولمسلم: "(8/260)
لا تجعلوا بيوتكم مقابر؛ فإن الشيطان يفر من البيت الذي يسمع سورة البقرة تقرأ فيه "8. وفي هذا ونحوه إبعاد لأمته عن الشرك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية : 128.
2 أحمد (5/266).
3 البخاري : الإيمان (39) , والنسائي : الإيمان وشرائعه (5034).
4 سورة التوبة آية : 128.
5 سورة الشعراء آية : 215.
6 مسلم : الإمارة (1844) , والنسائي : البيعة (4191) , وابن ماجه : الفتن (3956) , وأحمد (2/191).
7 البخاري : الصلاة (432) والجمعة (1187) , ومسلم : صلاة المسافرين وقصرها (777) , والترمذي : الصلاة (451) , والنسائي : قيام الليل وتطوع النهار (1598) , وأبو داود : الصلاة (1448) , وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (1377) , وأحمد (2/6 ,2/16 ,2/122).
8 مسلم : صلاة المسافرين وقصرها (780) , والترمذي : فضائل القرآن (2877) , وأبو داود : المناسك (2042) , وأحمد (2/388).(8/261)
ص -171- ... ولا تجعلوا قبري عيدا (1)، وصلوا علي؛ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم (2) "1. رواه أبو داود بإسناد حسن، ورواته ثقات (3).
....................................................................
(1) نهى صلى الله عليه وسلم عن زيارة قبره على وجه مخصوص، واجتماع معهود كالعيد الذي يكون على وجه مخصوص في زمان مخصوص، وذلك يدل على المنع في جميع القبور؛ لأن قبره أفضل قبر على وجه الأرض، وقد نهى عن اتخاذه عيدا، فقبر غيره أولى بالنهي كائنا من كان، والعيد اسم لما يعود من الاجتماع العام ويتكرر على وجه معتاد، أو يعتاد مجيئه وقصده من زمان ومكان، من المعاودة والاعتياد، والمكان الذي يقصد فيه الاجتماع، وانتيابه للعبادة وغيرها، وهو الشاهد للترجمة، نهى أن يتخذ قبره عيدا للصلاة والدعاء وغير ذلك من وسائل الشرك، كما اتخذ المشركون أعيادا زمانية ومكانية، وقد أبطلها الشرع، وعوض عنها عيد الفطر وعيد الأضحى والكعبة والمشاعر.
(2) يشير بذلك إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم عنه، فلا حاجة لكم إلى اتخاذه عيدا تنتابونه وترددون إليه لأجل ذلك، ومن اتخاذه عيدا أن تتكرر زيارته على وجه مخصوص، وتبليغه صلى الله عليه وسلم حيث صلي عليه من خصائصه. وقال الحسن بن الحسن: (( ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء )). وأنكر مالك: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لئلا يتخذ ذريعة إلى جعله عيدا.
(3) وقال الحافظ ابن عبد الهادي: هو حديث حسن، جيد الإسناد. وله شواهد يرتقي بها إلى درجة الصحة. وقال شيخ الإسلام: (( ومثل هذا إذا كان له شواهد علم أنه محفوظ، وهذا له شواهد متعددة )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : المناسك (2042) , وأحمد (2/367).(8/262)
ص -172- ... وعن علي بن الحسين (1) " أنه رأى رجلا يجيئ إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو، فنهاه (2) وقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تتخذوا قبري عيدا (3)
....................................................................
(1) يعني ابن علي بن أبي طالب، المعروف بزين العابدين، أفضل التابعين من أهل بيته وأعلمهم. قال الزهري: (( ما رأيت قرشيا أفضل منه )). مات سنة 93 هـ، وأبوه الحسين، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته، حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستشهد يوم عاشوراء سنة 61 هـ، وله 56.
(2) الفرجة بضم الفاء وسكون الراء، وهي الكوة في الجدار والخوخة ونحوهما، والرجل المبهم صرح باسمه سعيد بن منصور في سننه أنه سهيل بن أبي صالح، قال: " رآني الحسن بن الحسن بن علي عند القبر، فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى، فقال: هلم إلى العشاء، فقلت: لا أريده، فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: إذا دخلت المسجد فسلم " . وذكر الحديث. وفيه حرص السلف على قطع الوسائل والذرائع، وسد أبوابها المفضية إلى الشرك.
(3) فيه دليل على النهي عن قصد القبور والمشاهد لأجل الدعاء والصلاة عندها؛ لأن ذلك نوع من اتخاذها عيدا، ويدل أيضا على أن قصد الرجل القبر لأجل السلام إذا لم يكن يريد المسجد من اتخاذه عيدا المنهي عنه، قال شيخ الإسلام: ما علمت أحدا رخص فيه؛ لأن ذلك نوع من اتخاذه عيدا، ويدل أيضا على أن قصد القبر للسلام إذا دخل المسجد ليصلي منهي عنه؛ لأن ذلك من اتخاذه عيدا وأنه لم يشرع، وكره مالك لأهل المدينة كلما دخل الإنسان المسجد أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم ؛=(8/263)
ص -173- ... ولا بيوتكم قبورا، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم " (1).
....................................................................
= لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك، وإنما كانوا يأتون إلى مسجده فيصلون، فإذا قضوا الصلاة قعدوا أو خرجوا، ولم يكونوا يأتون القبر للسلام، لعلمهم أن الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم في الصلاة أفضل وأكمل، وكانت الحجرة في زمانهم يؤتى إليها من الباب، ومع التمكن لا يدخلون عليه، لا للسلام ولا للصلاة، ولا للدعاء لأنفسهم ولا لغيرهم، فلم يكونوا يعتادون الصلاة والسلام عليه عند قبره؛ لنهيهم بقوله: " لا تتخذوا قبري عيدا "1 وغير ذلك، وإنما كان يأتي أحدهم من خارج، إذا قدم من سفر، كما كان ابن عمر يفعله، فيقول: " السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه "، ثم ينصرف ولا يقف للدعاء. قال شيخ الإسلام: لأنه لم ينقل عن أحد من الصحابة، فصار بدعة، واتفق الأئمة على أنه إذا دعا لا يستقبل القبر، وفي هذا الحديث أيضا دليل على منع شد الرحل إلى قبره صلى الله عليه وسلم أو غيره من القبور والمشاهد؛ لأن ذلك من اتخاذها أعيادا، ومن أعظم أسباب الإشراك بها كما هو الواقع، واتفق الأئمة على المنع من ذلك؛ لما في الصحيحين: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى "2. فدخل في النهي شدها لزيارة القبور والمشاهد، بل هي أولى بالنهي، وإذا نوى بشد الرحل زيارة القبر فقط حرم، وإن نواه والمسجد جاز.
(1) وفيما رواه منصور عن أبي صالح: "ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء". فإن قيل: إذا سمع سلام المسلم عند قبره حصلت المزية بسلامه. قيل: هذا لو حصل الوصول إلى قبره كسائر قبور المسلمين، أما وقد منع الناس من الوصول إليه بثلاثة الجدران فلا تحصل المزية، سواء سلم عليه عند قبره، أو في مسجده إذا دخله، أو في أقصى المشرق أو المغرب، فالكل(8/264)
يبلغه كما وردت به الأحاديث، وليس في شيء منها أنه يسمع صوت المسلم بنفسه، إنما فيها أن ذلك يعرض عليه، ويبلغه صلى الله عليه وسلم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (2/367).
2 البخاري : الجمعة (1189) , ومسلم : الحج (1397) , والنسائي : المساجد (700) , وأبو داود : المناسك (2033) , وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (1409) , وأحمد (2/238) , والدارمي : الصلاة (1421).(8/265)
ص -174- ... رواه في المختارة (1).
....................................................................
(1) هو كتاب جمع فيه مؤلفه الأحاديث الجياد الزائدة على الصحيحين. ومؤلفه هو أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي الحافظ، ضياء الدين الحنبلي، أحد الأعلام. قال الذهبي: (( أفنى عمره في هذا الشأن، مع الدين المتين، والورع والفضيلة التامة والإتقان )). قال شيخ الإسلام:
(( تصحيحه في مختارته خير من تصحيح الحاكم بلا ريب )). مات سنة 643 هـ.
وروى هذا الحديث أبو يعلى، والقاضي إسماعيل، ورواه سعيد بن منصور في سننه من طريقين عن أبي صالح وأبي سعيد مولى المهدي. قال شيخ الإسلام: (( فهذان المرسلان يدلان على ثبوت الحديث )). ا هـ.
وقد روي من وجوه مسندة. وقال الشارح حافظ عصره: (( هذا والذي قبله جيدان، حسنا الإسنادين )). قال شيخ الإسلام: (( فانظر هذه السنة، كيف مخرجها من أهل المدينة، وأهل البيت الذين لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قرب النسب وقرب الدار؛ لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم، فكانوا له أشد )).(8/266)
ص -175- ... باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان (1)
وقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 1 (2).
....................................................................
(1) لما ذكر المصنف -رحمه الله- التوحيد وما ينافيه من الشرك، أو ينافي كماله، أو ما يكون وسيلة إلى ما ينافيه، ذكر أن الشرك لا بد أن يقع في هذه الأمة بعبادة الأوثان، والوثن يطلق على كل من قصد بأي نوع من أنواع العبادة، من صنم أو قبر أو مشهد أو غير ذلك، لقول الخليل: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً} 2، مع قوله: (قالوا نعبد أصناما). وقال -عليه الصلاة والسلام- لعدي وفي عنقه صليب: " ألق عنك هذا الوثن "3 .
(2) (ألم تر) ألم تنظر (إلى الذين أوتوا) أعطوا (نصيبا) حظا (من الكتاب) اليهود والنصارى (يؤمنون) يصدقون (بالجبت) الشيء الفشل، الذي لا خير فيه من أمور الدين، وقال الجوهري: كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر. (والطاغوت) الشيطان، وسيأتي تمام الكلام فيهما.
وقوله: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} 4 أي يفضلون الكفار على المسلمين، بجهلهم وكفرهم بكتاب الله الذي بأيديهم، وأخرج أحمد وغيره من غير وجه عن ابن عباس وغيره: " أنه جاء حيي بن الأخطب، وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة، فقالوا: أنتم أهل الكتاب، وأهل العلم، فأخبرونا عنا وعن محمد، فقالوا: ما أنتم وما محمد؟ فقالوا: نحن نصل الأرحام، وننحر الكوما، ونسقي الماء على اللبن، ونفك العناة، ونسقي الحجيج، ومحمد صنبور، قطع أرحامنا، واتبعه سراق الحجيج من غفار، فنحن خير أم هو؟ فقالوا: أنتم خير وأهدى سبيلا، فأنزل الله هذه الآية ". قال =(8/267)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية : 51.
2 سورة العنكبوت آية : 17.
3 الترمذي : تفسير القرآن (3095).
4 سورة النساء آية : 51.(8/268)
ص -176- ... وقوله: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} 1 (2).
....................................................................
= المصنف: وفيه معرفة الإيمان بالجبت والطاغوت في هذا الموضع، هل هو اعتقاد قلب، أو هو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟ أي فالإيمان بالجبت والطاغوت في هذا الموضع هو موافقة أصحابها مع بغضها، ومعرفة بطلانها، كفعل علماء السوء مع أهل الحق، حرفة يهودية، ووراثة غضبية. ومطابقة الآية للترجمة أنه إذا كان الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت، فهذه الأمة التي أوتيت القرآن لا يستنكر ولا يستبعد أن تعبد الجبت والطاغوت؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن هذه الأمة ستفعل مثل ما فعلت الأمم قبلها.
(1) يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم (قل) يا محمد لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من أهل الكتاب الطاعنين في دينكم الذي هو توحيد الله، وإفراده بالعبادة دون ما سواه (هل) أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة، مما تظنونه بنا في قولكم: لم نر أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم، ولا شرا من دينكم، وديننا هو توحيد الله وإفراده بالعبادة، وهم أنتم أيها المتصفون بهذه الصفات المذمومة المفسرة بقوله: (من لعنه الله) وأبعده من رحمته وطرده، (وغضب عليه) غضبا لا يرضى بعده أبدا (وجعل منهم القردة) أصحاب السبت (والخنازير) كفار مائدة عيسى. وعن ابن عباس: كلاهما من أصحاب السبت، فشبابهم مسخوا قردة، وشيوخهم مسخوا خنازير، وقد " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير أهي مما مسخ الله؟ فقال: إن الله لم يهلك قوما فجعل لهم نسلا ولا عاقبة، وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك "2 رواه مسلم.
(2) أي وجعل منهم(8/269)
من عبد الطاغوت، أي أطاع الشيطان فيما سول له، قال شيخ الإسلام: الصواب أنه معطوف على قوله: (من لعنه الله وغضب عليه) فهو فعل ماض، معطوف على ما قبله أي: ومن عبد الطاغوت، ولم يعد لفظ (من)؛ =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية : 60.
2 أحمد (1/390 ,1/395 ,1/396 ,1/421).(8/270)
ص -177- ... وقوله: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} 1 (1).
عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لتتبعن سنن من كان قبلكم (2) حذو القذة بالقذة (3)، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه (4).
....................................................................
= لأنه جعل هذه الأفعال كلها صفة لصنف واحد، وهم اليهود. وقوله: (أولئك شر مكانا) أي مما تظنون بنا (وأضل عن سواء السبيل) ومطابقة الآية للترجمة أنه إذا كان اليهود ممن عبد الطاغوت، فكذلك يكون في هذه الأمة.
(1) أي قال ذلك أصحاب الكلمة والنفوذ، في زمن أصحاب الكهف (لنتخذن عليهم مسجدا) ليعرفوا فيقصدهم الناس ويتبركون بهم، ذمهم الله بذلك، تحذيرا لنا أن نتخذ القبور أوثانا، وتقدم لعن النبي صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى لاتخاذهم المساجد على قبور أنبيائهم، وأن مراده تحذيرنا أن نفعل فعلهم، فيجرنا ذلك إلى الشرك، ويأتي إخباره بذلك، وهو وجه الاستدلال بالآية.
(2) "تتبعن" بضم العين وتشديد النون، أي لتسلكن طرق من كان قبلكم من الأمم، في عبادة الأوثان وغيرها مما ذمهم الله به، وهو الشاهد للترجمة، وبه أيضا تظهر مناسبة الآيات للترجمة.
(3) بنصب "حذو" على المصدر، أي تحذون حذوهم، و "القذة" بضم القاف واحدة القذذ، وهي ريش السهم، مبالغة منه صلى الله عليه وسلم في الوصف، أي لتفعلن أفعالهم، ولتتبعن طرائقهم، حتى تشبهوهم وتحاذوهم في كل ما فعلوه، كما تشبه قذة السهم القذة الأخرى وتساويها، لا تزيد واحدة على الأخرى.
(4) أي لو تصور دخولهم جحر ضب مع ضيقه لدخلتموه، لشدة سلوككم طريق من قبلكم، و "الجحر" بضم فسكون غار الضب. وفي حديث آخر: " حتى لو كان فيهم من يأتي أمه علانية لكان فيكم من يفعل ذلك "2. وهذا كله شدة مبالغة =(8/271)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الكهف آية : 21.
2 الترمذي : الإيمان (2641).(8/272)
ص -178- ... قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن "1. أخرجاه (1).
ولمسلم عن ثوبان رضي الله عنه (2)
....................................................................
= منه صلى الله عليه وسلم وبيان أن أمته لا تدع شيئا مما كان يفعله اليهود والنصارى إلا فعلته كله، لا تترك منه شيئا، وقد أكد هذا الخبر بأنواع من التأكيدات، من ذلك اللام في قوة: والله لتتبعن، ثم بنون التوكيد، ثم بقوله: "حذو القذة بالقذة"، ثم بالغ أشد مبالغة في التشبه بهم، حتى إن اليهود والنصارى لو دخلوا جحر ضب لدخلته هذه الأمة، ولهذا قال سفيان بن عيينة وغيره من السلف: " من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى ".
(1) أي البخاري ومسلم واللفظ له، و "اليهود" بالرفع خبر مبتدأ محذوف، أي أهم اليهود والنصارى الذين نتبع سننهم؟ ويجوز النصب بفعل محذوف تقديره: تعني، و "من" استفهام تقرير، أي فمن القوم إلا هم، فبين صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ونحوه أن كل ما وقع من أهل الكتاب، مما ذمهم الله به في هذه الآيات وغيرها لا بد أن يقع جميعه في هذه الأمة، وهذا اللفظ وإن كان خبرا، فمعناه النهي عن متابعتهم، وهذا من علامة نبوته صلى الله عليه وسلم ومن معجزاته، فقد سلك كثير من أمته مسلك اليهود والنصارى في إقامة سائر شعائرهم في الأديان، وفي عاداتهم من تعظيم القبور، واتخاذها مساجد حتى عبدوها، وإقامة الحدود والتعزيرات على الضعفاء دون الأقوياء، وملابسهم ومراكبهم، والتسليم بالإشارة، واتخاذ الأحبار والرهبان أربابا، والإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والإقبال على كتب البدع والضلال، وغير ذلك مما نهى الله عنه.
(2) ثوبان يقال إنه من العرب، من بني حكمي بن سعد، وقيل من السراة، مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم اشتراه فأعتقه، وخدمه ولازمه إلى أن مات صلى الله عليه وسلم ، ونزل بعده(8/273)
الشام، ومات بحمص سنة 54 هـ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم : العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89 ,3/94).(8/274)
ص -179- ... أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها (1)، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها (2)، وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض (3)،
....................................................................
(1) أي زواها جميعها، يقال: زويت الشيء، جمعته وقبضته، يريد تقريب البعيد منها، حتى اطلع عليه صلى الله عليه وسلم اطلاعه على القريب، بأن طويت له، وجعلت مجموعة كهيئة كف في مرآة ينظره، فأبصر ما تملكه أمته من أقصى مشارق الأرض ومغاربها، وفي رواية أبي داود: " فأريت مشارق الأرض ومغاربها ". قال القرطبي: (( ظاهر اللفظ يقتضي أن الله قوى إدراك بصره، ورفع عنه الموانع المعتادة، فأدرك البعيد من موضعه، كما أدرك بيت المقدس من مكة، وأخذ يخبرهم عنه وهو ينظر إليه )).
(2) زوي يحتمل أن يكون مبنيا للفاعل، وأن يكون مبنيا للمفعول. ولأحمد وغيره: " إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها "1 وقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم وقال القرطبي: (( هذا الخبر وجد مخبره كما قال صلى الله عليه وسلم ، وكان ذلك من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن ملك أمته اتسع إلى أن بلغ أقصى طنجة، الذي هو منتهى عمارة المغرب، إلى أقصى المشرق مما وراء خراسان والنهر، وكثير من بلاد السند والهند والصغد، ولم يتسع ذلك الاتساع من جهة الجنوب والشمال، ولذلك لم يذكر أنه أريه ولا أخبر أن ملك أمته يبلغه )).
(3) بالنصب على البدلية، قال القرطبي: يعني به كنز كسرى وهو ملك الفرس، وكنز قيصر وهو ملك الروم، وقصورهما وبلادهما، وقد قال: " والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله "2 وعبر بالأحمر عن كنز قيصر؛ لأن الغالب عندهم الذهب، وبالأبيض عن كسرى؛ لأن الغالب عندهم الجوهر والفضة، =(8/275)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الإمارة (1855) , وأحمد (6/24) , والدارمي : الرقاق (2797).
2 أبو داود : الجهاد (2608).(8/276)
ص -180- ... وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة (1)، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم (2)، وإن ربي قال: يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد (3)،
....................................................................
= وقد وجد ذلك في خلافة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه سيق إليه تاج كسرى وحليته، وما كان في بيوت أمواله، وجميع ما حوته مملكته على سعتها وعظمتها، وكذلك فعل الله بقيصر لما فتح بلاده.
(1) هكذا ثبت بأصل المصنف بالباء، وهي رواية في صحيح مسلم وغيره، وفي بعضها بحذفها، قال القرطبي: وكأنها زائدة؛ لأن عامة صفة السنة، والسنة الجدب الذي يكون به الهلاك العام، ويسمى الجدب والقحط سنة، ويجمع على سنين كقوله: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} 1 أي الجدب المتوالي.
(2) أي لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم من الكفار، فيستأصل معظمهم وجماعتهم، وبيضة كل شيء حوزته، وقال الجوهري وغيره: بيضة القوم ساحتهم، سأل الله أن لا يسلط العدو على معظم المسلمين وجماعتهم وإمامهم ما داموا بهذه الأوصاف المذكورة، ولو اجتمع عليهم كل من بين أقطار الأرض حتى يقع منهم ما ذكر فقد يسلطون عليهم.
(3) أي إذا حكمت حكما مبرما نافذا أو معلقا فإنه لا يرد بشيء، ولا يقدر أحد على رده، كما قال صلى الله عليه وسلم : " ولا راد لما قضيت "، وفي بعض الروايات قال: " دعوت ربي ثلاثا، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة، سألته أن لا يهلك أمتي بسنة عامة، وأجابني، وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، وأجابني، وسألته الثالثة أن لا يجعل بأسهم بينهم شديدا ومنعني هذا، وقال: حتى يهلك بعضهم بعضا، ويسبي بعضهم بعضا ". وحتى هنا للغاية يعني إذا فعل بعضهم ببعض هكذا سلط عليهم العدو حينئذ، وما داموا مجتمعين على الحق فلا يسلط عليهم، ولكن عند فرقتهم يسلط عليهم عقوبة لهم.(8/277)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 130.(8/278)
ص -181- ... وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكها بسنة عامة (1)، وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها (2) حتى (3) يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا "1. ورواه البرقاني في صحيحه (4).
....................................................................
(1) ولفظ أبي داود: " ولا أهلكهم بسنة عامة " أي أعطاه الله سؤاله لأمته أن لا يهلكها بسنة عامة، وهي الجدب الذي يهلك أخضرهم ويابسهم، فأجاب الله دعاءه، وكان في الأمم السابقة عذاب الاستئصال بخلاف هذه الأمة، فإن الله -وله الحمد والمنة- قد دفع عنها ذلك، ببركة دعاء نبيها صلى الله عليه وسلم .
(2) أي وإني أعطيتك لأمتك أن لا أسلط عليهم عدوا من سواهم فيتولاهم جميعا، ويهلكهم ويذلهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطار الأرض. ولفظ أبي داود: "من بين أقطارها"- جوانبها، أي لم يسلطهم الله عليهم، كما فعل بالأمم الماضية المكذبة، وهذا أيضا من خصائص هذه الأمة ببركة نبينا صلى الله عليه وسلم .
(3) (حتى) لإنتهاء الغاية، أي أن أمرها ينتهي حتى يوجد ذلك منهم، فإن الله لا يسلط الكفار على معظم المسلمين وجماعتهم وإمامهم، ما داموا بضد هذه الأوصاف المذكورة في قوله: " حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا "2. فأما إذا وجدت هذه الأوصاف فقد يسلط الكفار على جماعتهم ومعظمهم كما وقع، فقد سلط بعضهم على بعض، لكثرة اختلافهم وتفرقهم، ولكن بحمد الله لا تزال طائفة منهم باقية على الحق، تقوم بها الحجة على الخلق، منصورة كما سيأتي.
(4) البرقاني بفتح الباء، الموحدة وسكون الراء، نسبة إلى قرية كانت بنواحي خوارزم، خربت وكانت مزرعة. هو الإمام الحافظ الكبير أبو بكر أحمد بن محمد =(8/279)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الفتن وأشراط الساعة (2889) , والترمذي : الفتن (2176) , وأبو داود : الفتن والملاحم (4252) , وابن ماجه : الفتن (3952) , وأحمد (5/284).
2 البخاري : الهبة وفضلها والتحريض عليها (2587) , ومسلم : الهبات (1623).(8/280)
ص -182- ... وزاد: " وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين (1)،
....................................................................
= ابن غالب الخوارزمي الشافعي، روى عن الدارقطني وغيره، وعنه الخطيب وغيره.
قال الخطيب: كان ثبتا ورعا، لم نر في شيوخنا أثبت منه، عارفا بالفقه، كثير التصانيف. صنف مسندا ضمنه ما اشتمل عليه الصحيحان، وجمع حديث الثوري وحديث شعبة وطائفة، وهذا المسند هو صحيحه الذي عزا إليه المصنف هذا الحديث. ولد سنة 336 هـ، ومات سنة 425 هـ.
وروى هذا الحديث أيضا بتمامه أبو داود وغيره عن ثوبان.
(1) أي الأمراء والعلماء والعباد الذين يقتدى بهم الناس، وهم يحكمون في الناس بغير عام فيضلونهم ويضلونهم، فهم ضالون عن الحق، مضلون لغيرهم. قال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} 1 .
وقال عمر لزياد بن حدير: " يا زياد هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قال: لا. قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن، وحكم الأئمة المضلين " . وقال معاذ: " احذروا زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم " .
وقال عبد الله بن المبارك:
وهل أفسد الدين إلا الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها(8/281)
وأتى صلى الله عليه وسلم بإنما التي هي للحصر، بيانا لشدة خوفه على أمته من أئمة الضلال، فيوقعوهم في الإثم، لما أطلعه الله عليه من غيبه أنه سيقع، ولم يخف من جدب السنين ولا تسليط العدو.
وروى الدارمي " إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلين "2 .
وحذر صلى الله عليه وسلم أمته وأنذرهم عن الإحداث في الدين، وابتداع دين لم يشرعه الله ولعن من فعل ذلك، وأخبر الله تبارك وتعالى: أنه أكمل الدين، وأن القول عليه بغير علم رتبة فوق رتبة الشرك، فقال: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 3. فكل من أحدث حدثا ليس في كتاب الله، ولا في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم فهو ملعون، وحدثه =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية : 119.
2 الترمذي : كتاب الفتن (2229) , وأبو داود : كتاب الفتن والملاحم (4252) , وأحمد (4/123 ,5/278) , والدارمي : كتاب المقدمة (209).
3 سورة الأعراف آية : 33.(8/282)
ص -183- ... وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة (1)، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين (2)، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان (3)،
....................................................................
= مردود، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " 1. وقال: " من أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا "2. وقال: " كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة "3.
(1) وفي رواية أبي داود: " وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع إلى يوم القيامة "4. وقد وقع كما أخبر، فإنه لما وقع بقتل عثمان رضي الله عنه لم يرفع، وكذلك يكون إلى يوم القيامة، ولكن يكثر تارة ويقل أخرى، ويكون في جهة دون أخرى.
(2) الحي واحد الأحياء، وهي القبائل، وفي رواية أبي داود: " حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين "5. والمعنى أنهم يكونون معهم، ويرتدون برغبتهم عن الإسلام وأهله، ولحوقهم بأهل الشرك.
(3) الفئام مهموز: الجماعات الكثيرة. ولفظ أبي داود: " حتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان "6 وهو الشاهد للترجمة، وفيه الرد على من أنكر وقوع الشرك وعبادة الأوثان في هذه الأمة مما هو مشاهد، وفي الصحيحين: " لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات دوس على ذي الخلصة "7 طاغية دوس التي كانوا يعبدونها في الجاهلية. وفي صحيح مسلم: " لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى "8. وقيل: إن القبر المنسوب إلى ابن عباس في الطائف قبر اللات، فإن قيل: ورد ?"أن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب "9. قيل: قد أجيب عنه بأجوبة منها: أن يأسه غير معصوم، ومنها أنه يئس أن تطبق على عبادة الأصنام.(8/283)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الصلح (2697) , ومسلم : الأقضية (1718) , وأبو داود : السنة (4606) , وابن ماجه : المقدمة (14) , وأحمد (6/73 ,6/146 ,6/180 ,6/240 ,6/256 ,6/270).
2 البخاري : الحج (1870) والجزية (3180) والفرائض (6755) والاعتصام بالكتاب والسنة (7300) , ومسلم : الحج (1370) , والترمذي : الولاء والهبة (2127) , وأبو داود : المناسك (2034) , وأحمد (1/119).
3 مسلم : الجمعة (867) , والنسائي : صلاة العيدين (1578) , وابن ماجه : المقدمة (45) , وأحمد (3/310) , والدارمي : المقدمة (206).
4 الترمذي : الفتن (2202) , وابن ماجه : الفتن (3952) , وأحمد (5/284).
5 الترمذي : الفتن (2219) , وأبو داود : الفتن والملاحم (4252) , وابن ماجه : الفتن (3952) , وأحمد (5/278).
6 أبو داود : الفتن والملاحم (4252) , وابن ماجه : الفتن (3952) , وأحمد (5/284).
7 البخاري : الفتن (7116) , ومسلم : الفتن وأشراط الساعة (2906) , وأحمد (2/271).
8 مسلم : الفتن وأشراط الساعة (2907).
9 مسلم : صفة القيامة والجنة والنار (2812) , والترمذي : البر والصلة (1937) , وأحمد (3/313 ,3/354 ,3/366).(8/284)
ص -184- ... وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي (1)، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي (2)، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة (3)
....................................................................
(1) وفي رواية "دجالون"، والدجل التمويه، والمراد ممن تقوم لهم شوكة وتبدو لهم شبهة، وأما مطلقا فلا يحصون، قال القاضي عياض: (( عد من تنبأ ممن اشتهر بذلك وعرف واتبعه جماعة على ضلاله، فوجد هذا العدد فيهم )). ا هـ.
وقد ظهر مصداق ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده، ممن كان لهم أصحاب يصدقونهم ويأخذون بطريقهم، كمسيلمة باليمامة، والأسود باليمن، وطليحة في بني أسد، وسجاح في تميم، والمختار بن أبي عبيد في عصر ابن الزبير، والحارث في عصر عبد الملك بن مروان، وفي عصر بني العباس جماعة، وصار لكل منهم شوكة. وأما من ادعاها مطلقة فكثيرون، وغالبهم ينشأ فيهم عن جنون وسوداء، وقد أهلك الله من وقع منهم ذلك، واتضح كذبهم، وآخرهم الدجال الأكبر أعاذنا الله من فتنته.
(2) الخاتم بفتح التاء بمعنى الطابع، وبكسرها بمعنى فاعل الطبع والختم، أي "هوصلوات الله وسلامه عليه آخر النبيين، لا نبي يوحي الله إليه بعده إلى قيام الساعة، وقال تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} 1. قال الحسن: الخاتم الذي ختم به، وعيسى إنما ينزل في آخر الزمان حاكما بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم مصليا إلى قبلته، فهو كأحد أمته، بل هو أفضل هذه الأمة. قال صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده لينزلن فيكم عيسى بن مريم حكما مقسطا، فليكسر الصليب، وليقتل الخنزير، وليضع الجزية "2.
(3) قائمة بالعلم والجهاد والذب عن الدين، قال بعض السلف: هم أهل الحديث. ويحتمل أن تكون هذه الطائفة جماعة متعددة من أنواع المسلمين، منهم محدثون وفقهاء ومجاهدون وآمرون وناهون، والمراد العاملون بكتاب الله وسنة =(8/285)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأحزاب آية : 40.
2 البخاري : البيوع (2222) , ومسلم : الإيمان (155) , والترمذي : الفتن (2233) , وأبو داود : الملاحم (4324) , وابن ماجه : الفتن (4078) , وأحمد (2/240 ,2/272 ,2/290 ,2/394 ,2/482 ,2/493 ,2/538).(8/286)
ص -185- ... لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم (1) حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى (2) " 1.
....................................................................
= نبيه صلى الله عليه وسلم ولا يلزم منه أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد، ولا في قطر واحد، بل يجوز اجتماعهم في بلد وقطر وجهة، وافتراقهم في بلدان وأقطار وجهات من الأرض. وفي رواية: " لا تزال هذه الأمة قائمة "2 أي على أمر الله، ففيه حماية إجماع هذه الأمة عن أن تزل عن أمر الله، ولا تسمى أمته إلا الذين يعتد بإجماعهم، وفيه أن الإجماع حجة.
(1) كما أخبر الله بذلك في كتابه بنصره لهم، كما في قوله: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} 3. وكقوله: {لِيُظْهِرَهُ} أي يعليه وينصره: {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} أي على سائر الأديان. وغيرهما من الآيات. قال المصنف: (( وفيه الآية العظيمة أهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، والبشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة )).
(2) ونص شيخ الإسلام وغيره على تواتر " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله "4 أي إلى قيام الساعة، كما روى الحاكم من حديث عقبة ابن عامر: " لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك "5. ولعل المراد به ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من قبض ما بقي من المؤمنين بالريح الطيبة، ووقوع الآيات العظام، ثم لا يبقى إلا شرار الناس، وعليهم تقوم الساعة، وكل جملة من هذا الحديث علم من أعلام النبوة; فإن كل ما أخبر به صلى الله عليه وسلم مما يقع فيه وقع كما أخبر. و(تبارك) كمل وتعاظم وتقدس، جاء بناؤه على السعة والمبالغة من باب مجد، والمجد كثرة صفات الجلال والكمال، والسعة والفضل، فدل على كمال بركته وعظمها وسعتها، ولا يقال إلا لله سبحانه وتعالى كما أطلقه على نفسه في قوله:(8/287)
(تبارك الله رب العالمين) وغيرها، فهو سبحانه المتبارك، وما بارك فيه فهو المبارك. وقوله: (تعالى) أي تعاظم، جاء أيضا على بناء السعة والمبالغة، فهو دال على كمال العلو ونهايته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : الفتن والملاحم (4252) , وابن ماجه : الفتن (3952) , وأحمد (5/278 ,5/284) , والدارمي : المقدمة (209).
2 البخاري : العلم (71) , ومسلم : الإمارة (1037).
3 سورة الروم آية : 47.
4 مسلم : الإمارة (1920) , والترمذي : الفتن (2229) , وأبو داود : الفتن والملاحم (4252) , وابن ماجه : المقدمة (10) , وأحمد (5/279).
5 مسلم : الإمارة (1924).(8/288)
ص -186- ... باب ما جاء في السحر (1)
وقول الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ
....................................................................
(1) أي من الوعيد وبيان منافاته للتوحيد، وتكفير فاعله. والسحر في اللغة: الصرف، وهو عبارة عما خفي ولطف سببه، سمي سحرا لأنه بأمور خفية لا تدرك بالأبصار، أو لأنه يصرف الشيء عن جهته، وسحره عمل له السحر، وعن الأمر صرفه. وفي الحديث: " إن من البيان لسحرا "1 شبهه به لكون البيان يحصل منه ما يحصل من السحر، وسمي السحر سحرا لأنه يقع خفيا آخر الليل، وقوله: (سحروا أعين الناس) أخفوا عنهم عملهم، ولا يتوصل إليه إلا بالتقرب إلى الأرواح الخبيثة بشيء مما تحب، والاستعانة بالتحيل على استخدامها بالإشراك بها والاتصاف بهيئاتها الخبيثة، ولهذا لا يعمل السحر إلا مع الأنفس الخبيثة المناسبة لتلك الأرواح، وتأثيره بإذن الله الكوني القدري لا الشرعي الديني، فإن الله لم يأذن فيه. ولما كان من أنواع الشرك ذكره المصنف تحذيرا منه كغيره من أنواع الشرك، وهو عزائم ورقى وكلام يتكلم به، وأدوية وتدخينات وغير ذلك، ومنه ما يؤثر في القلوب والأبدان، فيمرض ويقتل ويفرق بين المرء وزوجه .
قال تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} 2. وقال: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} 3 يعني السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن وينفثن في عقدهن، وقد سحر لبيد بن الأعصم رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر في بئر ذروان، حتى إنه ليخيل إليه صلى الله عليه وسلم أنه يفعل الشيء وما يفعله، وإنما هو في جسده الشريف، وظاهر جوارحه الكريمة، لا في عقله وقلبه، فلا يقدح في مقام النبوة.(8/289)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : النكاح (5146) , والترمذي : البر والصلة (2028) , وأبو داود : الأدب (5007) , وأحمد (2/16 ,2/59 ,2/62 ,2/94) , ومالك : الجامع (1850).
2 سورة البقرة آية : 102.
3 سورة الفلق آية : 4.(8/290)
ص -187- ... خَلاقٍ}1 (1). وقوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 2 (2). قال عمر: " الجبت السحر (3)،
....................................................................
(1) أي ولقد علم أهل الكتاب الذين استبدلوا بالسحر عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم والإيمان به، (لمن اشتراه) أي السحر ورضي به، عوضا عن شرع الله ودينه، لا نصيب له ولا حظ له في الآخرة، وأنه لا دين له، وهذا من أبلغ الوعيد، فدلت الآية على تحريمه، وهو كذلك محرم في جميع أديان الرسل، قال تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} 3. وذهب أكثر السلف إلى أنه يكفر لقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} 4. وقوله: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} 5. وما تلته هو السحر.: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} 6. وقوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}
وأجمع الأئمة على كفر من تعلمه واستعمله، إلا الشافعي فقال: إذا تعلمه قلنا له: صف لنا سحرك، فإن وصف ما يوجب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب، وأنها تفعل ما يلتمس منها، فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافر.
وهل يقتل بمجرد فعله واستعماله؟ المشهور في المذهب يقتل، وفاقا لمالك وقول بعض الصحابة، فإن قتل بسحره قتل إجماعا إلا أبا حنيفة فقال: حتى يتكرر، أو يقر بذلك في حق معين.
(2) قال الجوهري وغيره: الجبت كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر ونحو ذلك، و (الطاغوت) مجاوزة الحد، وكل شيء جاوز المقدار والحد في العصيان فهو طاغوت.
(3) تفسير عمر هذا من تفسير الشيء ببعض أفراده، ومراده أن السحر داخل في الجبت، وفي الكليات: (( الجبت الشيطان أو الساحر )). اهـ، والجبت هو الباطل، والسحر منه؛ لأنه باطل خلاف الحق.(8/291)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 102.
2 سورة النساء آية : 51.
3 سورة طه آية : 69.
4 سورة البقرة آية : 102.
5 سورة البقرة آية : 102.
6 سورة البقرة آية : 102.(8/292)
ص -188- ... والطاغوت الشيطان (1)". وقال جابر: " الطواغيت كهان كان ينزل عليهم الشيطان في كل حي واحد (2)".
....................................................................
(1) رواه ابن أبي حاتم وغيره، وكذا قال ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وغيرهم، وهو أيضا تفسير له ببعض أفراده. وقال الحافظ: (( قوله: الطاغوت الشيطان قوي جدا، فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية، من عبادة الأوثان والتحاكم إليها والاستنصار بها )) ا هـ.
والطاغوت مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد، فمعناه ما قاله ابن القيم: (( الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع )).
(2) جابر هو ابن عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله عنه، وأراد أن الكهان من الطواغيت، فهو من أفراد المعنى، وليس المراد الحصر، والشيطان أراد به الجنس لا الشيطان الذي هو إبليس خاصة، بل تنزل عليهم الشياطين ويخاطبونهم، ويخبرونهم بما يسترقون من السمع، فيصدقون مرة ويكذبون مائة كذبة، ويزيدون وينقصون، والحي واحد الأحياء وهم القبائل، أي في كل قبيلة كاهن يتحاكمون إليه ويسألونه عن المغيبات، ويخبرهم من إخبار الشيطان له، فلطاعته لها تنزل عليه، كما قال تعالى: {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} 1. وكذلك كان الأمر قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فأبطل الله ذلك بالإسلام، وحرست السماء بكثرة الشهب. وهذا الأثر رواه ابن أبي حاتم بنحوه عن وهب، قال: سألت جابر بن عبد الله عن الطواغيت التي كانوا يتحاكمون إليها قال: إن في جهينة واحدا، وفي أسلم واحدا، وفي هلال واحدا، وفي كل حي واحدا، وهم كهان كانت تنزل عليهم الشياطين. ومطابقة هذا الأثر للترجمة أن الساحر طاغوت، إذ كان يطلق على الكاهن فالساحر أولى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الشعراء آية : 222.(8/293)
ص -189- ... عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اجتنبوا السبع الموبقات (1)، قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله (2)، والسحر (3)، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق (4)،
....................................................................
(1) اجتنبوا ابعدوا، وهو أبلغ من قول لا تفعلوا ودعوا واتركوا؛ لأن النهي عن القربان أبلغ من النهي عن المباشرة، قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ} 1 والموبقات المهلكات، جمع موبقة، سميت موبقات؛ لأنها تهلك فاعلها في الدنيا، لما يترتب عليها من العقوبات، وفي الآخرة من العذاب. وقال ابن عباس: (( هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع )). وفي رواية: (( إلى السبعمائة )).
(2) أي إحدى السبع الموبقات الشرك بالله وهو أن يجعل لله ندا يدعوه ويرجوه ويخافه كما يخاف الله، بدأ به لأنه أعظم ذنب عصي الله به، ولأن فاعله مخلد في النار، قال تعالى: {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ} 2. وقال: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} 3. ولما " سئل -عليه السلام- أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك "4.
(3) أصله في اللغة: صرف الشيء عن وجهه كما تقدم، وقال البيضاوي: هو ما يستعان في تحصيله بالتقرب إلى الشيطان، مما لا يستقل به الإنسان، وهو الشاهد من الحديث للترجمة.
(4) أي قتل النفس المسلمة المعصومة التي حرم الله قتلها إلا بالحق، أي بأن تفعل ما يوجب قتلها كالشرك، والنفس بالنفس، والزاني بعد الإحصان، واختلفوا في توبته، فقال ابن عباس وغيره: لا تقبل لقوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} 5. وقال جمهور السلف والخلف: تقبل توبته لقوله تعالى بعد ذكر الشرك =(8/294)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية : 151.
2 سورة المائدة آية : 72.
3 سورة لقمان آية : 13.
4 البخاري : الأدب (6001) , ومسلم : الإيمان (86) , والترمذي : تفسير القرآن (3183) , والنسائي : تحريم الدم (4013 ,4014 ,4015) , وأبو داود : الطلاق (2310) , وأحمد (1/380 ,1/431 ,1/434 ,1/462 ,1/464).
5 سورة النساء آية : 93.(8/295)
ص -190- ... وأكل الربا (1)، وأكل مال اليتيم (2)، والتولي يوم الزحف (3)، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات (4)".
....................................................................
= وقتل النفس: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} 1. وعن ابن عباس ما يوافق قول الجمهور، وكذا قتل المعاهد، لقوله -عليه السلام-: " من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة "2 .
(1) وهو فضل مال بلا عوض، وأكله تناوله بأي وجه كان. قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} 3 إلى قوله: (وحرم الربا) قال ابن دقيق العيد: (( وهو مجرب لسوء الخاتمة، نعوذ بالله من ذلك )).
(2) المراد التعدي فيه، وعبر بالأكل لأنه أعم وجوه الانتفاع، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} 4. واليتيم في الأصل: المنفرد، وهو من مات أبوه ولم يبلغ.
(3) أي الفرار والإدبار عن الكفار وقت التحام القتال، وإنما يكون كبيرة إذا فر إلى غير فئة المسلمين، أو غير متحرف لقتال كما قال تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} 5 .
(4) القذف في الأصل الرمي البعيد، وشرعا الشتم والعيب والبهتان. و (المحصنات) جمع محصنة بفتح الصاد، أي التي أحصنها الله تعالى وحفظها من الزنا، وبالكسر التي حفظت فرجها من الزنا، والمراد بهن الحرائر العفيفات، ولا يختص بالمتزوجات، بل حكم البكر كذلك إجماعا، إلا من دون تسع سنين، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ(8/296)
الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 6. وقذفهن رميهن بزنا أو لواط، والغافلات وصف أغلبي أي عن =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الفرقان آية : 70.
2 البخاري : الجزية (3166) , والنسائي : القسامة (4750) , وابن ماجه : الديات (2686) , وأحمد (2/186).
3 سورة البقرة آية : 275.
4 سورة النساء آية : 10.
5 سورة الأنفال آية : 16.
6 سورة النور آية : 23.(8/297)
ص -191- ... وعن جندب مرفوعا: (1)" حد الساحر ضربة بالسيف "1 (2). رواه الترمذي وقال: ( الصحيح أنه موقوف) (3).
....................................................................
= الفواحش وما رمين به، فهو كناية عن البريئات؛ لأن الغافل برئ عما بهت به، والمؤمنات بالله احترازا من قذف الكافرات، فإنه ليس من الكبائر، وإن كانت ذمية فمن الصغائر، لا يوجب الحد، وفي الأمة المسلمة التعزير دون الحد، وأورد المصنف -رحمه الله- هذا الحديث غير معزو، وهو متفق عليه.
(1) هو جندب بن كعب بن عبد الله بن جزء بن عامر بن مالك بن عامر بن دهمان، الأزدي الغامدي، أبو عبد الله وربما نسب إلى جده، وهو جندب الخير، وفد مع قومه على النبي صلى الله عليه وسلم قاله الكلبي، وقال ابن حبان: صحابي وروى ابن السكن عن بريدة مرفوعا قال: "جندب وما جندب؟ يضرب ضربة فيكون أمة وحده"، وأخرج البخاري في تاريخه أنه كان عند الوليد رجل يلعب، فذبح إنسانا فأبان رأسه، فعجبنا فأعاده، فجاء جندب الأزدي فقتله. زاد البيهقي: إن كان صادقا فليحيي نفسه، قتل جندب رضي الله عنه بصفين.
(2) روي بالهاء وبالتاء وكلاهما صحيح، وبهذا الحديث أخذ مالك وأحمد وأبو حنيفة فقالوا: يقتل الساحر. ولم ير الشافعي عليه القتل بمجرد السحر إلا إن عمل في سحره ما يبلغ به الكفر كما تقدم، وهو رواية عن أحمد. قال الشارح: والأول أولى؛ ولأثر عمر الذي ذكره المصنف، وعمل به الناس في خلافته من غير نكير فكان إجماعا.
(3) ورواه الطبراني عن جندب البجلي. وقال الحافظ: (( الصواب أنه غيره )). وقد رواه ابن قانع والحسن بن سفيان من وجهين عن الحسن عن جندب الأزدي " أنه جاء إلى ساحر فضربه بالسيف حتى مات; وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول. فذكره."
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : الحدود (1460).(8/298)
ص -192- ... وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة (1) قال: " كتب عمر بن الخطاب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة (2). قال: فقتلنا ثلاث سواحر " (3).
وصح عن حفصة -رضي الله عنها- " أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقتلت " (4).
....................................................................
(1) بجالة بفتحتين وعبدة بفتحتين، العنبري التميمي بصري ثقة، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، وكان كاتبا لجزء بن معاوية في خلافة عمر.
(2) ظاهره أنه يقتل من غير استتابة، وهو المشهور عن أحمد، وبه قال مالك وأبو حنيفة؛ لأن الصحابة لم يستتيبوهم، ولأن علم السحر لا يزول بالتوبة. وعنه يستتاب وفاقا للشافعي، واختاره الشيخ وغيره؛ لأن ذنبه لا يزيد على الشرك، وصحح الشارح الأول لظاهر عمل الصحابة، فلو كانت الاستتابة واجبة لفعلوها أو بينوها، وقياسه على المشرك لا يصح؛ لأنه أكثر فسادا وتشبيها من المشرك وقال الشيخ وغيره: إن رأى الإمام قتله كالزنديق فله ذلك للمصلحة.
(3) أي قال ذلك بجالة، ولم يذكر البخاري قتل السواحر، ولعل المصنف -رحمه الله- أراد أصله لا لفظه، ورواه أحمد وأبو داود والترمذي والبيهقي والقطيعي وغيرهم.
(4) أي الجارية، وهذا الأثر يؤيد قتل الساحر. وقد رواه عبد الرزاق ومالك في الموطأ في (باب ما جاء في الغيلة والسحر) وقال بعد ذلك: الساحر الذي يعمل السحر ولم يعمل ذلك له غيره، هو مثل الذي قال الله فيه: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} 1 .
وحفصة هي أم المؤمنين ابنة عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-، تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد خنيس بن حذافة سنة 2 أو 3 هـ بعد عائشة، ولدت قبل البعثة بخمس، وماتت سنة 1 أو 45 هـ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 102.(8/299)
ص -193- ... وكذلك صح عن جندب (1). قال أحمد: ( عن ثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ) (2).
(1) أشار المصنف -رحمه الله- إلى جندب بن كعب بن عبد الله الأزدي قاتل الساحر المتقدم ذكره، وتعددت الطرق عنه به.
(2) أي قال أحمد بن حنبل -رحمه الله-: صح قتل الساحر أو جاء قتل الساحر عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعني عمر وحفصة وجندب. وروي عن عثمان وابن عمر وقيس بن سعد وعمر بن عبد العزيز، وهو المشهور عند أكثر أهل العلم، وعمل به في خلافة عمر من غير نكير.(8/300)
ص -194- ... باب بيان شيء من أنواع السحر (1)
قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر (2) حدثنا عوف عن حيان ابن العلاء (3) حدثنا قطن بن قبيصة عن أبيه (4)
....................................................................
(1) لما ذكر المصنف -رحمه الله- ما جاء في السحر ذكر شيئا من أنواعه لكثرة وقوعها، وخفائها على الناس، حتى اعتقد كثير أن من صدر عنه خارق فهو ولي لله، وحتى آل الأمر إلى أن عبد أربابها، وهذا العمل بعينه من الناس أحوال شيطانية، واستدراج من الشيطان لبني آدم إلى الشرك، ولا بد للمسلم أن يفرق بين ولي الله وبين عدو الله، من ساحر وكاهن ونحوهم، ممن قد يجري على يديه شيء من الخوارق، وأولياء الله هم أحبابه المتقربون إليه بالطاعات وترك المحرمات، وإن لم تجر على أيديهم خوارق، وإن جرت فكرامة من الله، وليست وحدها دليلا على الولاية.
(2) هو أبو عبد الله المعروف بغندر الهذلي مولاهم البصري، ثقة روى عن شعبة وخلق، ولازمه عشرين سنة، وعنه الإمام أحمد وغيره مات سنة 206 هـ.
(3) عوف هو ابن أبي جميلة، أبو سهل العبدي البصري، المعروف بخوف الأعرابي، روى عن أبي العالية والحسن وجماعة، وعنه شعبة والثوري وغيرهم، مات سنة 146 هـ، وله 86 سنة. وحيان بن العلاء، ويقال: أبو العلاء البصري مقبول.
(4) قطن بفتحتين أبو سهل البصري صدوق، وأبوه قبيصة بفتح أوله ابن مخارق بن شداد بن معاوية بن ربيعة بن نهيك بن هلال بن عامر البصري، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم ونزل البصرة.(8/301)
ص -195- ... أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت (1) "1. قال عوف: " العيافة زجر الطير والطرق الخط يخط بالأرض " (2).
....................................................................
(1) أي السحر، قال القاضي: والجبت في الأصل الشيء الفشل الذي لا خير فيه، ثم استعير لما يعبد من دون الله، وللساحر والسحر.
(2) والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها، وهو من عادات العرب، ولذلك صار كثيرا في أشعارهم، ويقال: عاف يعيف عيفة إذا زجر وحدس وظن، والاعتبار في ذلك غالبا بأسمائها كما يتفاءل بالعقاب على العقاب، وبالغراب على الغربة، بالهدهد على الهدى، والفرق بينها وبين الطيرة أن الطيرة هي التشاؤم بها، وقد تستعمل في التشاؤم بغير الطير من حيوان وغيره، وكانت بنو أسد يذكرون بالعيافة ويوصفون بها، حتى قيل إن قوما من الجن تذاكروا عيافتهم، فأتوهم فقالوا: ضلت لنا ناقة فلو أرسلتم معنا من يعيف، فقالوا لغليم منهم: انطلق معهم، فاستردفه أحدهم فلقيهم عقاب كاسرة أحد جناحيها، فاقشعر الغلام وبكى، فقالوا: مالك؟ فقال: كسرت جناحا، ورفعت جناحا، وحلفت بالله صراحا، ما أنت بإنسي وما تبغي لقاحا.
(3) يخطه الرمالون وغيرهم ويدعون به علم المغيبات. وقال ابن عباس: هو الذي يخطه الحازر، يأتي صاحب الحاجة فيعطيه حلوانا، فيقول له: اقعد حتى أخط لك، وبين يدي الحازر غلام له معه ميل، ثم يأتي إلى أرض رخوة فيخط فيها خطوطا كثيرة بالعجلة، لئلا يلحقها العدد، ثم يرجع فيمحو منها على مهل خطين خطين، وغلامه يقول للتفاؤل: أبن عيان أسرع البيان، فإن بقي خطان فهو علامة النجح، وإن بقي خط واحد فهو علامة الخيبة، وأما ما رواه مسلم وغيره عن =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : الطب (3907) , وأحمد (5/60).(8/302)
ص -196- ... "والجبت قال الحسن: رنة الشيطان ". إسناده جيد (1). ولأبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه المسند منه (2).
....................................................................
= معاوية بن الحكم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومنا رجال يخطون. فقال: " كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه فذاك "1. فقال النووي وغيره: من وافق خطه فهو مباح له، لكن لا طريق لنا إلى العلم باليقين بالموافقة، فلا يباح بل يصير من أنواع الكهانة، لمشاركته لها في المعنى ا هـ.
قال المصنف: وخط ذلك النبي عدم لا يوجد من يعرفه. وفي النهاية وغيرها: الطرق الضرب بالحصى والودع والخرز الذي يفعله النساء. قال الشارح: وأيا ما فهو من الجبت.
(1) الحسن هو ابن أبي الحسن البصري المشهور، واسم أبيه يسار الأنصاري مولاهم، ثقة فقيه فاضل مات سنة 110 هـ، وقد جاوز 90 سنة، فسر -رحمه الله- الجبت ببعض أفراده. قال المصنف: (( عادة السلف يفسرون اللفظ العام ببعض أفراده، وقد يكون السامع يعتقد أن ذلك ليس من أفراده، وهذا كثير في كلامهم جدا، ينبغي التفطن له )) ا هـ.
والرنين هو الصوت، ورن يرن رنينا: صوت وصاح ورفع صوته بالبكاء، والرنة الواحدة والصوت، وله رنة أي صيحة فالمعنى صوت توجعا وتغيظا، ويدخل فيه كل أصوات الملاهي وغيرها.
وأضافه إلى الشيطان لأنه الذي يدعو إلى ذلك، وذكر بقي بن مخلد في تفسيره وغيره أن إبليس رن أربع رنات: رنة حين لعن، ورنة حين أهبط، ورنة حين ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورنة- حين نزلت فاتحة الكتاب. وعن سعيد بن جبير أنه لما لعن تغيرت صورته، ورن رنة فكل رنة منها إلى يوم القيامة. وعن ابن عباس: " لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة رن إبليس واجتمعت إليه جنوده ".
(2) أي رووا من هذا الحديث كل ما أسند عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يذكروا التفسير الذي فسره به عوف، وقد رواه أبو داود بالتفسير(8/303)
المذكور بدون قول الحسن رحمه الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : المساجد ومواضع الصلاة (537) , وأبو داود : الصلاة (930) والطب (3909) , وأحمد (5/447 ,5/448).(8/304)
ص -197- ... وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر (1)، زاد ما زاد "1. رواه أبو داود بإسناد صحيح (2).
....................................................................
(1) اقتبس أخذ وحصل وعلم، وقبست العلم واقتبسته إذا علمته، والقبس الشعلة من النار، واقتباسها أخذها منها، والشعبة الطائفة والقطعة، ومنه: " الحياء شعبة من الإيمان "2 أي جزء منه ولفظ أبي داود: " من اقتبس علما من النجوم "، وإنما شبه صلى الله عليه وسلم علم النجوم بعلم السحر؛ لأن حرمته منصوصة في القرآن العزيز، أي من علم طائفة من علم النجوم المحرم فقد اقتبس شعبة من السحر المحرم تعلمه، ولفظ رزين: " من اقتبس بابا من علم النجوم بغير ما ذكر الله، فقد اقتبس شعبة من السحر "3. فصرح صلى الله عليه وسلم بأن علم النجوم من السحر، وقال تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} 4 .
(2) وصححه الذهبي والنووي، رواه أحمد وابن ماجه وغيرهما، ولفظ أحمد: "ما زاد زاد" أي كلما زاد المقتبس من تعلم النجوم زاد اقتباسه من شعب السحر، وفي الإثم الحاصل بزيادة الاقتباس من شعبه، وزيادة البعد من الله، فإنما يعتقدونه في النجوم من معرفة الحوادث التي لم تقع، وربما تقع في مستقبل الزمان، مثل إخبارهم بوقت هبوب الرياح، ومجيء المطر ووقوع الثلج، وظهور الحر والبرد، وتغير الأسعار ونحوها، ويزعمون أنهم يدركون معرفتها بسير الكواكب، واجتماعها وافتراقها باطل، كما أن تأثير السحر باطل، بل هو مما استأثر الله به. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} 5. وقال -عليه الصلاة والسلام-: " ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى(8/305)
يأتي المطر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : الطب (3905) , وابن ماجه : الأدب (3726) , وأحمد (1/227).
2 البخاري : الإيمان (9) , ومسلم : الإيمان (35) , والنسائي : الإيمان وشرائعه (5004 ,5005 ,5006) , وأبو داود : السنة (4676) , وابن ماجه : المقدمة (57) , وأحمد (2/414 ,2/442).
4 سورة طه آية : 69.
5 سورة لقمان آية : 34.(8/306)
ص -198- ... وللنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه (1): " من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر (2) فقد أشرك (3)،
....................................................................
= إلا الله "1. وغير ذلك مما استأثر الله بعلمه.
وأما ما يدرك بطريق المشاهدة من علم النجوم الذي يعرف به الزوال وجهة القبلة ونحو ذلك، فغير داخل فيما نهى عنه، قال تعالى: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} 2 .
(1) يعني مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم . والنسائي هو الإمام الحافظ أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر بن دينار أبو عبد الرحمن، صاحب السنن الكبرى والمجتبي وغيرهما، روى عن محمد بن المثني وابن بشار وقتيبة وخلق لا يحصون، وكان إليه المنتهى في العلم بعلل الحديث، مات بفلسطين سنة 303 هـ وله 88 سنة.
(2) العقدة جمعها عقد وهي ما تعقده السحرة، ويقال لها عزيمة أيضا، وذلك أن السحرة إذا أرادوا عمل السحر عقدوا الخيوط، ونفثوا على كل عقدة، حتى ينعقد ما يريدونه من السحر بإذن الله تعالى، ولهذا أمر الله بالاستعاذة من شرهم في قوله: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} 3 يعني السواحر اللاتي يفعلن ذلك، والنفث و النفخ من الريق، وهو دون التفل، والنفث فعل الساحر، فإذا تكيفت نفسه بالخبث والشر الذي يريده بالمسحور، ويستعين عليه بالأرواح الخبيثة نفخ في تلك العقد نفخا معه ريق، فيخرج من نفسه الخبيثة نفس مما زج للشر والأذى، مقترن بالريق الممازج لذلك، وقد يتساعد هو والروح الشيطانية على أذى المسحور فيصبه السحر بإذن الله القدري الكوني لا الشرعي.
(3) هذا نص في أن الساحر مشرك، وقد حكى الحافظ عن بعضهم أنه لا يتأتى إلا مع الشرك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : التوحيد (7379) , وأحمد (2/52).
2 سورة النحل آية : 16.
3 سورة الفلق آية : 4.(8/307)
ص -199- ... ومن تعلق شيئا وكل إليه (1)"1. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ألا هل أنبئكم ما العضه (2) هي النميمة القالة بين الناس "2. رواه مسلم (3).
....................................................................
(1) أى ومن تعلق قلبه شيئا بحيث يعتمد عليه ويرجوه، وكله الله إلى ذلك الشيء وخذله، وخلى بينه وبينه؛ فإن تعلق قلبه بربه كفاه وتولاه، كما قال تعالى {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} 3.
ومن تعلق على السحرة والشياطين وغيرهم من المخلوقين وكله الله إلى من تعلق به، ومن وكل إلى غير الله هلك وخسر خسرانا مبينا، وضل ضلالا بعيدا، بل من تعلق قلبه بغير الله في جلب نفع أو درء ضر فقد أشرك.
(2) (ألا) أداة تنبيه (أنبئكم) أخبركم و (العضه) بفتح فسكون هو أكثر ما يروى في كتب الحديث، وفي كتب الغريب بكسر ففتح، العضاهة الكذب والبهتان والسحر، وعلى الأول من عضه الرجل يعضه عضها وعضيهة وعضهة كذب وسحر ونم. قال الزمخشري: (( أصلها العضهة، فعلة من العض، وهي من البهت، فحذفت لامه كما حذفت من السنة والشفة، وتجمع على عضين )). قال النووي: تقديره ألا أنبئكم بالعضه الفاحش الغليظ التحريم، وإيراد المصنف له هنا يدل على أن معناه عنده أو السحر.
(3) النميمة فعيلة بمعنى مفعولة، ونم الحديث ينمه نمأت ورفعه إشاعة له وإفسادا، وسعى به ليوقع فتنة أو وحشة، والنمام الذي يتحدث مع القوم فينم عليهم، فيكشف ما يكره كشفه، سواء كره المنقول عنه أو إليه أو غيرهما، وسواء كان الكشف بالعبارة أو بالإشارة أو بغيرهما، فحقيقتها إفشاء السر، وهتك الستر عما يكره كشفه. والقالة: كثرة القول، وإيقاع الخصومة بما يحكي بعضهم لبعض.=
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي : تحريم الدم (4079).
2 مسلم : البر والصلة والآداب (2606) , وأحمد (1/437).
3 سورة الزمر آية : 36.(8/308)
ص -200- ... ولهما عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن من البيان لسحرا "1 (1).
....................................................................
= وفي الحديث: "ففشت القالة بين الناس". قال يحيى بن أبي كثير: " يفسد النمام والكذاب في ساعة، ما لا يفسد الساحر في سنة ". وقال أبو الخطاب: (( ومن السحر السعي بالنميمة والإفساد بين الناس )).
قال في الفروع: ووجهه أنه يقصد الأذى بكلامه وعمله على وجه المكر والحيلة، أشبه السحر، وهذا يعرف بالعرف والعادة أنه يؤثر وينتج ما يعمله الساحر أو أكثر، فيعطى حكمه تسوية بين المتماثلين أو المتقاربين، لكن يقال: الساحر إنما يكفر لوصف السحر، وهو أمر خاص، ودليله خاص وهذا ليس بساحر، وإنما يؤثر عمله ما يؤثره السحر، فيعطى حكمه إلا فيما اختص به من الكفر وعدم قبول التوبة; وبه يظهر مطابقة الحديث للترجمة؛ إذ هو من أنواع السحر لما فيه من القطيعة; بل قد يكون تارة أعظم لما ينشأ من فساده. وعلى كل من حملت إليه أن لا يصدقه؛ لأنه فاسق وأن ينهاه ويبغضه، ولا يظن بأخيه السوء، ولا يحمله ما نقل فيه على التجسس والبحث، ولا يرضى لنفسه ما نهي النمام عنه، فيقول: حكى فلان كذا إلا لمصلحة. واتفقوا على تحريم الغيبة والنميمة في غير النصيحة الواجبة، وفيه دليل على أنها من الكبائر.
(1) وأورد البخاري وغيره سبب قول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، أنه " قدم رجلان من المشرق فخطبا فعجب الناس لبيانهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من البيان لسحرا "2. أو " إن بعض البيان لسحر ". يعني إن بعض البيان يعمل عمل السحر، ومعنى السحر إظهار الباطل في صورة الحق، والبيان البلاغة والفصاحة، وإنما شبهه بالسحر لحدة عمله في سامعه، وسرعة قبول القلب، وتقدم أن هذا من التشبيه البليغ؛ لكون ذلك يعمل عمل السحر، فيجعل الحق في قالب الباطل، =(8/309)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : النكاح (5146) , والترمذي : البر والصلة (2028) , وأبو داود : الأدب (5007) , وأحمد (2/16 ,2/59 ,2/62 ,2/94) , ومالك : الجامع (1850).
2 البخاري : الطب (5767) , والترمذي : البر والصلة (2028) , وأبو داود : الأدب (5007) , وأحمد (2/16 ,2/62) , ومالك : الجامع (1850).(8/310)
ص -201- ... .............................................................................................
= والباطل في قالب الحق، فيستميل به قلوب الجهال، حتى يقبلوا الباطل وينكروا الحق. قال صعصعة بن صوحان: " صدق نبي الله صلى الله عليه وسلم إن الرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه، فيذهب بالحق ". والمراد البيان الذي فيه تمويه على السامع وتلبيس، شبهه بالسحر لفساده .
وأخرج أحمد وأبو داود عن ابن عمر مرفوعا: " إن الله يبغض البليغ من الرجال، الذي يتخلل بلسانه كما تخلل البقرة بلسانها "1. وأما البيان الذي يوضح الحق ويقرره، ويبطل الباطل ويبينه فهذا ممدوح، كحالة الرسل وأتباعهم.
" وسأل رجل عمر بن عبد العزيز عن حاجة فأحسن المسألة، فقال: هذا والله السحر الحلال ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : الأدب (2853) , وأبو داود : الأدب (5005).(8/311)
ص -202- ... باب ما جاء في الكهان ونحوهم (1)
روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم (2)
....................................................................
(1) أي باب ذكر ما جاء في أحكام الكهان من التغليظ الأكيد، والوعيد الشديد، وما جاء من الأحكام في نحوهم كالعرافين والمنجمين والرمالين. لما ذكر السحر وأنواعه ذكر أحكام الكهان ونحوهم؛ لمشابهتهم للسحرة، والكهان هم الذين يتعاطون الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان، ويدعون معرفة الأسرار، ويأخذون عن مسترق السمع. قال الشارح: الكاهن لفظ يطلق على العراف والذي يضرب بالحصى والمنجم، وقال الخطابي: (( الكهان -فيما علم بشهادة الامتحان- قوم لهم أذهان حادة، ونفوس شريرة، وطبائع نارية، فهم يفزعون إلى الجن ويستفتونهم في الحوادث، فيلقون إليهم الكلمات )) ا هـ.
وكانوا قبل البعثة كثيرين كشق وسطيح، فمنهم من يزعم أن له تابعا من الجن يلقي إليه الأخبار، ومنهم من يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات وأسباب يستدل بها على مواقعها، من كلام من يسأله أو فعله أو حاله، وهذا يخصونه باسم العراف، كالذي يدعي معرفة المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك، وبعد البعثة قل مسترقو السمع؛ لأن الله حرس السماء بالشهب، وأكثر ما يقع ما يخبر به الجن أولياءهم من الإنس مما يسمونه كشفا وكرامة وولاية، وقد اغتر بهم كثير من الناس يظنون أنهم أولياء الله وهم من أولياء الشيطان، كما قال تعالى: {وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} 1 الآية.
(2) هي حفصة بنت عمر -رضي الله عنها -، ذكره أبو مسعود الثقفي في مسندها، وكذلك سماها بعض الرواة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية : 128.(8/312)
ص -203- ... عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه بما يقول، لم تقبل له صلاة أربعين يوما "1 (1). وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم "2. رواه أبو داود (2).
....................................................................
(1) وفي بعض روايات الصحيح: "من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة"3. قال الشارح: ليس في مسلم "فصدقه بما يقول"، فظاهر الحديث أن الوعيد مرتب على مجيئه، سواء صدقه أو شك في خبره؛ لأن إتيان الكهان منهي عنه، كما في صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم "فلا تأتهم"، ولأنه إذا شك في خبره فقد شك في أنه لا يعلم الغيب، وذلك موجب للوعيد، بل يجب أن يقطع ويعتقد أنه لا يعلم الغيب إلا الله. وقوله: لم تقبل له صلاة أي لا ثواب له فيها، لاقترانها بالمعصية، وإن كانت مجزئة بسقوط الفرض عنه في الدنيا لوجود شروطها وأركانها، فإنها لا تلزمه الإعادة إجماعا، وفيه النهي عن إتيان الكاهن ونحوه، وإذا كانت هذه حال السائل فحال المسؤول أسوأ وأشر وأعظم. قال القرطبي: (( يجب على من قدر على ذلك من محتسب وغيره أن يقيم من يتعاطى شيئا من ذلك من الأسواق، وينكر عليهم أشد النكير، وعلى من يجيء إليهم )).
(2) هذا الحديث مختصر، ولفظه: " من أتى كاهنا فصدقه بما يقول، أو أتى امرأة حائضا أو امرأة في دبرها، فقد برئ مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم "4. ورواه أحمد والترمذي والنسائي بنحوه وغيرهم، وله شواهد صحيحة.(8/313)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : السلام (2230) , وأحمد (5/380).
2 الترمذي : الطهارة (135) , وابن ماجه : الطهارة وسننها (639) , وأحمد (2/476) , والدارمي : الطهارة (1136).
3 مسلم : السلام (2230) , وأحمد (4/68 ,5/380).
4 الترمذي : الطهارة (135) , وأبو داود : الطب (3904) , وابن ماجه : الطهارة وسننها (639) , وأحمد (2/408 ,2/476) , والدارمي : الطهارة (1136).(8/314)
ص -204- ... وللأربعة والحاكم وقال: صحيح على شرطهما عن (1)..........................." من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم "1 (2). ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفا (3).
....................................................................
(1) هكذا بيض المصنف لاسم الراوي، والأربعة هم أهل السنن أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه، وقد رواه أحمد والبيهقي والحاكم عن أبي هريرة مرفوعا وإسناده على شرط الصحيح، وصححه العراقي في آماليه، وقواه الذهبي، والمصنف تبع فيه الحافظ في الفتح، أو لعله أراد الذي قبله.
(2) المراد بالمنزل الكتاب والسنة، أي من ارتكب الكهانة فقد برئ من دين محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه. وفي الطبراني عن واثلة مرفوعا: " من أتى كاهنا فسأله عن شيء حجبت عنه التوبة أربعين ليلة، فإن صدقه بما قال كفر ". والأحاديث التي فيها الكفر مقيدة بتصديقه، وظاهر الحديث أنه يكفر متى اعتقد صدقه بأي وجه كان، وهل الكفر في هذا الموضع كفر دون كفر فلا ينقل عن الملة، أو يتوقف فيه كما هو أشهر الروايتين عن أحمد؟ والذي يصدق العراف أو الكاهن لم يكفر بالطاغوت، بل مؤمن به، وغالب الكهان قبل النبوة إنما يأخذون عن الشياطين.
(3) أي مثل حديث أبي هريرة موقوفا على ابن مسعود، وأبو يعلى هو الإمام الحافظ محدث الجزيرة أحمد بن علي بن المثني التميمي الموصلي، صاحب التصانيف كالمسند وغيره، روى عن يحيى بن معين وخلق، مات سنة 307هـ. وهذا الأثر رواه البزار أيضا، ولفظه: " من أتى كاهنا أو ساحرا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم "2. ومثل هذا له حكم الرفع، وفيه دليل على كفر الكاهن =(8/315)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : الطهارة (135) , وابن ماجه : الطهارة وسننها (639) , وأحمد (2/408 ,2/476) , والدارمي : الطهارة (1136).
2 الترمذي : الطهارة (135) , وأبو داود : الطب (3904) , وابن ماجه : الطهارة وسننها (639) , وأحمد (2/408 ,2/429 ,2/476) , والدارمي : الطهارة (1136).(8/316)
ص -205- ... وعن عمران بن حصين مرفوعا: " ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سَحَرَ أو سُحر له (1)، ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ". رواه البزار بإسناد جيد (2).
....................................................................
= والساحر مع ما تقدم؛ لأنهما يدعيان علم الغيب الذي استأثر الله به، كما أخبر به في كتابه، وذلك كفر والمصدق لهما يعتقد ذلك ويرضى به وذلك كفر أيضا؛ لأن الله أمرنا في كتابه بالإيمان به وحده، والكفر بهذه الأمور كقوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} 1 .
(1) فيه وعيد شديد فيدل على أن هذه الأمور من الكبائر، ولا ينافي ما تقدم من أن الطيرة شرك. وقوله: تطير أي فعل الطيرة، أو تطير له أي قبل قول المتطير له وتابعه، وكذا الكهانة، كالذي يأتي الكاهن ويصدقه ويتابعه، وكذا من عمل الساحر له السحر، فكل من تلقى هذه الأمور عمن تعاطاها أو عملت له عالما راضيا بذلك فقد برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لكونها إما شركا كالطيرة، أو كفرا كالكهانة والسحر، فمن رضي بذلك وتابع فهو كالفاعل؛ لقبوله الباطل واتباعه، ويأتي حديث: " ثلاثة لا يدخلون الجنة "2. وذكر منهم: المصدق بالسحر.
(2) ورواه أبو نعيم من حديث علي، فتعدد طرقه تثبت أن له وجودا في الأصل، وإن كان فيها مقال، وقال المنذري: (( إسناد البزار جيد )). ا هـ. والبزار هو الإمام الحافظ المشهور أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البصري، صاحب المسند الكبير سماه البحر الزاخر، صدوق روى عن ابن بشار وابن المثني وخلق، أصله من البصرة ومات في الرملة سنة 292هـ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية : 51.
2 أحمد (4/399).(8/317)
ص -206- ... ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله: " ومن أتى" إلى آخره (1) .
قال البغوي: ( العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك ) (2). وقيل: هو الكاهن، والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل (3). وقيل: الذي يخبر عما في الضمير (4).
....................................................................
(1) فهو من رواية البزار، وقال المنذري: (( إسناد الطبراني حسن )).
(2) البغوي هو الإمام الحجة منسوب إلى بغ مدينة بين هراة ومرو، ويقال لها أيضا: بغشور. واسمه الحسين بن مسعود، محي الدين الفراء الشافعي، عالم خراسان وصاحب التصانيف كالتهذيب وشرح السنة والمصابيح والتفسير، سمع عن جماعات منهم القاضي الحسين والمليحي والداودي والصيرفي، وعنه محمد العطاري ومحمد أبو الفتوح الطائي وجماعة، مات سنة 516هـ. وظاهر كلامه أن العراف هو الذي يخبر عن الواقع كالسرقة وسارقها والضالة ومكانها وغير ذلك بأسباب ومقدمات، بأقيسة فاسدة يدعي معرفتها بها، وخيالات شيطانية، وربما تنزلت عليه الشياطين، وما زجت أنفاسه الخبيثة أنفاس إخوانه من الشياطين، فإنها تنزل على الكاهن والمنجم والرمال والساحر ونحوهم، وكل من ادعى شيئا من هذه الأمور لقوله تعالى: {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} 1 .
(3) ويدعي معرفة الأسرار، ويأخذ عن مسترق السمع ونحو ذلك، وسمي عرافا لادعائه المعرفة.
(4) أي وقيل: الذي يخبر عما في الضمير داخل أيضا في اسم العراف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الشعراء آية : 222.(8/318)
ص -207- ... قال أبو العباس ابن تيمية: ( العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم (1) ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق ) (2).
وقال ابن عباس في قوم يكتبون أبا جاد (3)
....................................................................
(1) كالحازر الذي يدعي علم الغيب، أو يدعي الكشف. وقال أيضا: والمنجم يدخل في اسم العراف، وعند بعضهم هو في معناه. وقال أيضا: والمنجم يدخل في اسم الكاهن عند الخطابي وغيره من العلماء، وحكى ذلك عن العرب، وعند آخرين هو من جنس الكاهن وأسوأ حالا منه، فيلحق به من جهة المعنى. وقال الإمام أحمد: (( العرافة طرف من السحر، والساحر أخبث )). وقال ابن القيم: (( من اشتهر بإحسان الزجر عندهم سموه عائفا وعرافا )).
(2) فهؤلاء أدخلهم شيخ الإسلام في اسم العراف، والمقصود من هذا معرفة من يدعي معرفة علم شيء من المغيبات، فهو إما داخل في اسم الكاهن، وإما مشارك له في المعنى فيلحق به، وذلك أن إصابة المخبر ببعض الأمور الغائبة في بعض الأحيان يكون بالكشف، ومنه ما هو من الشياطين، ويكون بالفأل والزجر والطيرة والضرب بالحصى والخط في الأرض والتنجيم والكهانة والسحر، ونحو ذلك من علوم الجاهلية أعداء الرسل كالفلاسفة والكهان والمنجمين، وجاهلية العرب قبل البعثة، وكل هذه الأمور يسمى صاحبها كاهنا وعرافا أو ما في معناهما، ومن أتاهم فصدقهم بما يقولون لحقه الوعيد، وكذا الذي يعزم على المصروع، ويزعم أنه يجمع الجن وأنها تطيعه، والذي يحل السحر، فإذا كان ذلك لا يحصل إلا بالشرك والتقرب إلى الجن فإنه يكفر.
(3) كتابة أبي جاد وتعلمها لمن يدعي بها علم الغيب هو الذي جاء فيه الوعيد، وهو الذي يسمى علم الحروف، فيقطون حروف أبجد هوز حطي كلمن سعفص =(8/319)
ص -208- ... وينظرون في النجوم (1): " ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق " (2).
....................................................................
= قرشت ثخذ ضظغ، فيجعلون الألف واحدا والباء اثنين، إلى نهاية الحرف العاشر، ثم يبدءون بالكاف عشرة واللام عشرين، وهكذا إلى الشين مائتين، إلى أن تتم هذه الحروف، وأما تعلمها للتهجي وحساب الجمل فلا بأس به.
(1) أي ويعتقدون أن لها تأثيرا، فيأخذون أمورهم ومقاصدهم بما يبين لهم على زعمهم الفاسد من النجوم بأعداد وحساب، يزعمون أنهم يدركون بذلك علم الغيب، يعني فهذا النوع أيضا من العرافين.
(2) لا أرى بالفتح بمعنى لا أعلم، ويجوز الضم بمعنى لا أظن لهم عند الله من نصيب. وهذا الأثر رواه الطبراني عن ابن عباس مرفوعا، ولفظه: " رب معلم حروف أبي جاد، دارس في النجوم، ليس له عند الله خلاق يوم القيامة ". ورواه عنه حميد بن زنجويه بلفظ: " رب ناظر في النجوم ". وقد استأثر الله بعلم الغيب كما قال: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ} 1. وفيه من الفوائد عدم الإغترار بما يؤتاه أهل الباطل من معارفهم وعلومهم، والحذر من كل علم لا تعلم صحته من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية : 59.(8/320)
ص -209- ... باب ما جاء فى النشرة (1)
عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " سئل عن النشرة؟ فقال: هي من عمل الشيطان "1 (2). رواه أحمد بسند جيد وأبو داود (3) وقال: سئل أحمد عنها فقال: ابن مسعود يكره هذا كله (4).
....................................................................
(1) بضم النون من نشر الشيء فرقه، فالنشرة ضرب من العلاج والرقية، يعالج به من يظن أن به سحرا أو مسا من الجن، سميت بذلك لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء، أي يحل ويكشف ويزال عنه، ومنه الحديث: (( فلعل طبا أصابه ))، ثم نشره ب: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} 2 أي رقاه.
(2) أي الأكبر أو جنس الشياطين، وأل في النشرة للعهد أي النشرة المعهودة التي كان أهل الجاهلية يصنعونها، هي من عمل الشيطان أو بواسطته؛ لأنهم ينشرون عن المسحور بأسحار واستخدامات شيطانية، فهذه حرام بالاتفاق.
(3) في سننه عن جابر، ورواه الفضل بن زياد في كتاب المسائل، عن عبد الرزاق عن عقيل بن معقل بن منبه عن عمه وهب بن منبه عن جابر، قال ابن مفلح: إسناده جيد، وحسنه الحافظ.
(4) أراد أحمد -رحمه الله- أن ابن مسعود يكره النشرة التي هي من عمل الشيطان، كما يكره تعليق التمائم مطلقا، فدل على أنه يذهب إلى ما ذهب إليه ابن مسعود، وهو تحريم هذا كله، ومستنده الحديث. وروى ابن أبي شيبة وأبو داود في المراسيل عن الحسن رفعه: " النشرة من عمل الشيطان "3 .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : الطب (3868) , وأحمد (3/294).
2 سورة الفلق آية : 1.
3 أبو داود : الطب (3868) , وأحمد (3/294).(8/321)
ص -210- ... وللبخاري عن قتادة (1) " قلت لابن المسيب: رجل به طب (2) أو يؤخذ عن امرأته (3) أيحل عنه أو ينشر(4) ؟ قال: لا بأس به إنما يريدون به الإصلاح (5)، فأما ما ينفع فلم ينه عنه ". انتهى (6) .
....................................................................
(1) أي روى في صحيحه تعليقا، وفي بعض النسخ وفي البخاري، ووصله الأثرم عن قتادة بنحوه، وقتادة هو ابن دعامة بن قتادة بن عزيز بن عمرو بن ربيعة ابن عمرو بن الحارث بن سدوس البصري، ثقة فقيه من أحفظ التابعين، قالوا إنه ولد أكمه سنة 61هـ، روى عن أنس وغيره، وعنه أيوب السختياني، مات سنة 117هـ.
(2) بكسر الطاء أي سحر، يقال طب الرجل بالضم إذا سحر، ويقال: كنوا عن السحر بالطب تفاؤلا، كما يقال للديغ: سليم، والطب اسم للبرء من الداء، أو اسم للداء من الأضداد.
(3) بفتح الواو مهموز وتشديد الخاء المعجمة، أي يحبس عن امرأته ولا يصل إلى جماعها، والأخذة بضم الهمزة والتأخيذ رقية بسحر تحبس بها السواحر أزواجهن عن غيرهن من النساء، وأخذ سحر، أو خرزة يؤخذ بها، وأخذته رقته بالسحر، أي فماذا يصنع به؟
(4) يحل بضم الياء وفتح الحاء مبني للمجهول من حل العقدة يحلها نقضها وفكها، وينشر بضم الياء وتشديد الشين، ونشر عنه إذا رقاه، كأنك تفرق عنه العلة.
(5) أي لا بأس بمعالجته بأمور مباحة، لم يرد بها إلا المصلحة ودفع المضرة.
(6) هذا من ابن المسيب رضي الله عنه يحمل على نوع من النشرة لا محذور فيه، كالرقى بأسماء الله وكلامه، ولا يعلم أنه سحر، وحاشاه رضي الله عنه أن يفتي بجواز قصد الساحر الكافر المأمور بقتله ليعمل السحر، فإنما هو فساد وكفر.(8/322)
ص -211- ... وروي عن الحسن أنه قال: " لا يحل السحر إلا ساحر " (1).
قال ابن القيم: النشرة حل السحر عن المسحور، وهي نوعان: حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمل قول الحسن، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب فيبطل عمله عن المسحور (2). والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والدعوات والأدوية المباحة فهذا جائز (3) .
....................................................................
(1) ذكره عنه ابن الجوزي في جامع المسانيد، وقال: هي حل السحر عن المسحور، ولا يكاد يقدر عليه إلا من يعرف السحر.
(2) فيزول ذلك السحر، والناشر هو الذي يحل السحر، والمنتشر هو الذي يحل عنه السحر بطلبه أو رضاه، وهو حرام، وتقدم حكمه وذكر الوعيد عليه.
(3) ذكر المصنف -رحمه الله- كلام هذا الإمام الجليل، لما فيه من الجمع بين القولين، وبيان أنه لا تنافي بينهما، وإنما يصدق بعضها بعضا، ومما جاء في النشرة المباحة ما رواه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ليث بن أبي سليم قال: بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن الله، تقرأ في إناء فيه ماء ثم يصب على رأس المسحور: {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ} 1 إلى قوله: {مجرمون} 2، وقوله: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 3. الأربع الآيات، وقوله: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} 4 الآية. وقال ابن بطال: في كتاب وهب بن منبه إنه يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين، ثم يضربه بالماء، ويقرأ فيه آية الكرسي والقواقل، ثم يحسو منه ثلاث حسوات، ثم يغتسل به يذهب عنه كل ما به، وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله، فالنوع الثاني الذي ذكر ابن القيم يشير إلى نحو هذا، وعليه يحمل قول من أجاز النشرة من العلماء، إحسان ظن بهم، وما كان بالسحر فيحرم.(8/323)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يونس آية : 81.
2 سورة يونس آية : 82.
3 سورة الأعراف آية : 118.
4 سورة طه آية : 69.(8/324)
ص -212- ... باب ما جاء في التطير (1)
....................................................................
(1) أي من النهي عنه والوعيد فيه، مصدر تطير يتطير، والطيرة اسم مصدر من تطير طيرة، كما يقال تخير خيرة، ولم يجيء في المصادر على هذه الزنة غيرهما، والتطير التشاؤم بالشيء بما يقع من المرئيات أو المسموعات في قلوب أهل الشرك والعقائد الضعيفة، الذين لا يجعلون توكلهم على الله، وأصله التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء والعطاس والنجوم وغير ذلك، فكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم، فنفاه الشرع وأبطله، وأخبر أنه لا تأثير له في جلب نفع أو دفع ضر، وإنما هو خواطر وحدوس وتخمينات لا أصل لها. قال المدائني: (( سألت رؤبة بن العجاج ما السانح؟ قال: ما ولاك ميامنه، قلت: فما البارح؟ قال: ما ولاك مياسره، والذي يجيء من خلفك فهو القاعد والقعيد )). ا هـ.
ومن العرب من يتشاءم بالبارح، ويتبرك بالسانح وبالعكس، ولم تكن قاطبة تعتقد هذا وتقول به، بل قد جاء عن بعضهم إنكاره ومنه:
وما أنا ممن يزجر الطير همه ... أطار غراب أم تعرض ثعلب
ولا السانحات البارحات عشية ... أمَرَّ سليم القرن أم مَرّ أعضب(8/325)
وغير ذلك مما هو مشهور عنهم، وفي الصحيح عنه -عليه الصلاة والسلام- حين سئل عنه قال: "ذلك شيء يجده أحدكم فلا يصدنه". وقال: "إذا تطيرت فلا ترجع". ولا يضر إلا من أشفق منه وخاف واعتنى به، فيكون أسرع إليه من السيل إلى منحدره، وتفتح له أبواب الوساوس فيما يسمعه ويراه، ويفتح له الشيطان من المناسبات القريبة والبعيدة في اللفظ والمعنى ما يفسد عليه دينه، وينكد عليه عيشه، ولما كان التطير من الشرك المنافي لكمال التوحيد الواجب؛ لكونه من إلقاء الشيطان وتخويفه ووسوسته، ولكونه يتعلق القلب به خوفا وطمعا، ولكونه منافيا للتوكل على الله، واعتقاد نفع أو ضر بسبب طائر ونحوه، أفرده المصنف -رحمه الله- بالترجمة، وإن كان من الشرك الأصغر فهو من أقبح الشرك.(8/326)
ص -213- ... وقول الله تعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} 1 (2). وقوله: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} 2 الآية (3) .
....................................................................
(1) (ألا) أداة تنبيه، و (إنما) أداة حصر، أي إنما جاءهم الشؤم من قبله، قدره وقضاه عليهم بكفرهم وتكذيبهم بآياته ورسله، ردا لمقالة آل فرعون الكاذبة الباطلة، حيث قال الله تعالى عنهم: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ} أي الخصب والرخاء والسعة والعافية،:{قَالُوا لَنَا هَذِهِ} أي نحن الجديرون والحقيقون به، ونحن أهله،:{وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} بلاء وقحط،: {يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} 3 فيقولون: هذا بسبب موسى وأصحابه أصابنا بشؤمهم كما يقول المتطير لمن يتطير به، فأخبر سبحانه أن طائرهم عنده، فقال تعالى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ}، أي ليس شؤمهم إلا عند الله، أي من قبله وحكمه الكوني القدري. قال ابن عباس: (( طائرهم ما قضي عليهم وقدر لهم )). وقال الزجاج: (( الشؤم الذي وعدوا به من العقاب عنده، لا ما ينالهم في الدنيا )).
(2) تسجيل على أكثرهم بالجهالة وعدم العلم، وأنهم لا يدرون، ولو فهموا وعقلوا لعلموا أن موسى ما جاء إلا بالخير والبركة والفلاح لمن آمن به واتبعه.
(3) وهذه الآية أيضا رد على من كذب الرسل، فأصيبوا بالبلاء، فإنهم لما ضاقت عليهم الحيل وعييت عليهم العلل، ادعوا أن سبب البلاء جاء من قبل الرسل وبسببهم، ف : {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} 4 ،فقالت لهم الرسل: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} أي سبب شؤمكم، أو حظكم وما نالكم من شر معكم بسبب أفعالكم وكفركم، لا من قبلنا كما تزعمون، ولا بسببنا بل ببغيكم وعدوانكم، وسوء عقيدتكم وقبح أعمالكم،(8/327)
فما وقع بكم من الشر فعملكم الخبيث سببه الجالب له، وذلك بقضاء الله وقدره وحكمته وعدله، ويحتمل أن يكون المعنى: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} أي راجع عليكم، فالتطير الذي حصل =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 131.
2 سورة يس آية : 19.
3 سورة الأعراف آية : 131.
4 سورة يس آية : 18.(8/328)
ص -214- ... وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا عدوى ولا طيرة (1)
....................................................................
= لكم إنما يعود عليكم، وقوله: {أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ} 1 أي من أجل أنّا ذكرناكم وأمرناكم بتوحيد الله قابلتمونا بهذا الكلام،: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} 2. قال قتادة: أئن ذكرناكم بالله تطيرتم بنا؟ ومناسبة الآيتين للترجمة أن التطير من عمل الجاهلية المشركين، وقد ذمهم الله به ومقتهم، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التطير، وأخبر أنه شرك كما سيأتي.
(1) العدوى الفساد وما يعدي من جرب وغيره، أي يتجاوز من واحد إلى آخر من الإعداء كالدعوى، يقال أعداه الداء يعديه إعداء. إذا أصابه مثل ما بصاحب الداء، وذلك بأن يكون ببعير جرب مثلا فتتقى مخالطته بإبل أخرى حذرا أن يتعدى ما به من الجرب إليها، فيصيبها ما أصابه فأبطله الإسلام؛ لأنهم كانوا يظنون أن المرض بنفسه وطبعه يتعدى، فأخبر -عليه الصلاة والسلام- أن الله هو الذي يمرض وينزل الداء. فإن قيل: جاء عنه صلى الله عليه وسلم " وفر من المجذوم كما تفر من الأسد "، وقال: " لا يورد ممرض على مصح "3 .
وقال في الطاعون: " من سمع به في أرض فلا يقدم عليه "4. قيل: اختلف العلماء في ذلك، والأولى ما قاله البيهقي وابن القيم وابن رجب وغيرهم من أهل التحقيق في ذلك وهو أن قوله: "لا عدوى" على الوجه الذي يعتقده أهل الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله، وأن الأمور تتعدى بطبعها، وإلا فقد يجعل الله بمشيئته وتقديره مخالطة الصحيح من به شيء من الأمراض سببا لحدوث ذلك، أو ذريعة إلى إعدائه أو لأذيته بالتوهم والخوف، وذلك سبب لإصابة المكروه به. ولهذا قال: " فر من المجذوم "5. ولما قال -عليه الصلاة والسلام-: " لا يعدي شيء. قال له أعرابي: النقبة من الجرب تكون بمشفر البعير أو بذنبه في الإبل العظيمة فتجرب(8/329)
كلها، فقال: فمن أجرب الأول؟ لا =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يس آية : 19.
2 سورة الأعراف آية : 81.
3 الترمذي : الأشربة (1866) , وأبو داود : الأشربة (3687).
4 الترمذي : البيوع (1295) , وابن ماجه : الأشربة (3381).
5 البخاري : الاعتصام بالكتاب والسنة (7288) , ومسلم : الحج (1337) , والنسائي : مناسك الحج (2619) , وابن ماجه : المقدمة (1 ,2) , وأحمد (2/247 ,2/258 ,2/313 ,2/355 ,2/428 ,2/447 ,2/456 ,2/467 ,2/482 ,2/495 ,2/508).(8/330)
ص -215- ... .............................................................................................
= عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، خلق الله كل نفس وكتب حياتها ومصائبها ورزقها ". رواه أحمد وغيره، فأخبر أن ذلك كله بقضاء الله وقدره، ولكن العبد مأمور باتقاء الشر إذا كان في عافية، فكما أنه يؤمر أن لا يلقي نفسه في الماء، وفي النار، فكذلك اجتناب مقاربة المريض كالمجذوم، فإن هذه أسباب للمرض والتلف.
قال ابن حبيب في المجذومين: يحكم عليهم بتنحيتهم ناحية، إذا كثروا، وهو الذي عليه فقهاء الأمصار، وأرسل -عليه الصلاة والسلام- إلى المجذوم في وفد ثقيف: " ارجع فقد بايعناك "1. وإذا قوي توكل العبد جاز له، كما أخذ -عليه الصلاة والسلام- بيد المجذوم، وقال: " كل، بسم الله ثقة بالله وتوكلا عليه "2 .
وقوله: "ولا طيرة" يحتمل أن يكون نفيا أو نهيا أي لا تطيروا، والخبر قطعا يدل على أن المراد النفي والإبطال لهذه الأمور التي كانت الجاهلية تعانيها، والنفي في هذا أبلغ من النهي؛ لأن النفي يدل على بطلان ذلك وعدم تأثيره، والنهي إنما يدل على المنع منه، ولما قيل له -عليه الصلاة والسلام-: " ومنا أناس يتطيرون. قال: ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم "3. فأخبر أن تأثيره وتشاؤمه بالطير إنما هو في نفسه وعقيدته، لا في المتطير به، فوهمه وخوفه وإشراكه هو الذي يطيره ويصده لما رآه وسمعه، فبين فساد الطيرة، وأن الله لم يجعل فيها دلالة، ولا نصبها سببا. وفي المصباح: (( كانت العرب إذا أرادت المضي لمهم مرت بمجامع الطير وأثارتها لتستفيد هل تمضي أو ترجع؟ فنهى الشارع عن ذلك، وقال: "لا هامة ولا طيرة"، وقال: "أقروا الطير في وكناتها" أي على مجاثمها )). ا هـ. ومر طائر يصيح فقال رجل:- خير خير. فقال ابن عباس: لا خير ولا شر، فأنكر عليه لئلا يعتقد تأثيره، وصاح غراب فقال رجل: خير. فقال طاووس: وأي خير عند هذا؟ لا تصحبني.
وأما(8/331)
قوله -عليه الصلاة والسلام-: " إن كان الشؤم في شيء ففي الدار والمرأة والفرس "4. ونحوه فالمراد لمن يتشاءم بها، فيكون شؤمها عليه، وإلا فمن توكل على الله ولم يتشاءم ولم يتطير لم تكن مشؤومة عليه =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : صفة القيامة والرقائق والورع (2518) , والنسائي : الأشربة (5711) , وأحمد (1/200) , والدارمي : البيوع (2532).
2 أبو داود : الجهاد (2716).
3 الترمذي : البيوع (1289) , والنسائي : قطع السارق (4958) , وأبو داود : اللقطة (1710) والحدود (4390).
4 مالك : الجهاد (994).(8/332)
ص -216- ... ولا هامة ولا صفر " أخرجاه (1).
....................................................................
= لحديث أنس: " الطيرة على من تطير" .
وقال ابن القيم: إخباره بالشؤم ليس فيه إثبات الطيرة التي نفاها الله، وإنما غايته أن الله سبحانه قد يخلق منها أعيانا مشؤومة على من قاربها وساكنها، وأعيانا مباركة لا يلحق من قاربها منها شؤم ولا شر، كما يعطي الوالدين ولدا مباركا يريان الخير على وجهه، ويعطي غيرهما ولدا مشؤوما يريان الشر على وجهه، والله خالق الخير والشر، فيخلق بعض هذه الأعيان مباركة، ويقضي بسعادة من قاربها، ويخلق بعضها مشؤومة يتضرر بها من قاربها، وكل ذلك بقضاء الله وقدره، كما خلق سائر الأسباب، وكما خلق المسك وضده، وذلك مدرك بالحس، فهذا لون والطيرة الشركية لون آخر.
(1) الهامة بتخفيف الميم وقد تشدد: البومة، إذا وقعت إلى بيت أحدهم يقول: نعت إلي نفسي، أو أحدا من أهل داري، أو يخرب المنزل، وقيل: إن العرب كانت تعتقد أن عظام الميت، وقيل: روحه تنقلب هامة تطير، ولا تزال تنادي على قبره ونحوه، للأخذ بثأره. قال النووي: (( ويجوز أن يكون المراد النوعين، فإنهما جميعا باطلان، وجاءت السنة بنفي ذلك وإبطاله، وضلالة الجاهلية فيما تعتقده من ذلك )).
و"صفر" بفتح الفاء قيل: المراد تأخيرهم المحرم إلى صفر، وهو النسيء الذي كانوا يفعلونه، يحلون المحرم ويحرمون صفر مكانه، وكانوا يتشاءمون بصفر، ويقولون: إنه شهر مشؤوم، فأبطل صلى الله عليه وسلم ذلك، والتشاؤم به من جنس الطيرة المنهي عنها، وكذلك التشاؤم بيوم من الأيام، وتشاؤم أهل الجاهلية بشوال في النكاح خاصة. وقيل: صفر حية في البطن، وهي دود تصيب الماشية والناس، وربما قتلت صاحبها، وكانت أعدى من الجرب عند العرب، وهذا المشهور عند أكثر أهل العلم، منهم: سفيان وأحمد والبخاري وجابر بن عبد الله وهو راوي الحديث، ويجوز أن يكونا مرادين معا، وأن الصفرين(8/333)
جميعا باطلان.(8/334)
ص -217- ... زاد مسلم: " ولا نوء ولا غول (1)"1 .
ولهما عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل (2).
....................................................................
(1) النوء واحد الأنواء يزعمون أنهم يمطرون به، وسيأتي في بابه إن شاء الله تعالى، والغول بالضم اسم وجمعه أغوال وغيلان، قال الجمهور: كانت العرب تزعم أن الغول، وهي جنس من الشياطين في الفلاة، تتراءى للناس وتتلون تلونا في صور شتى، فتضلهم عن الطريق فتهلكهم، فنفاه النبي صلى الله عليه وسلم وأبطله، ويقال: ليس المراد نفي وجود الغول، بل ما تزعمه العرب من تصرفه في نفسه أو أنها لا تستطيع أن تضل أحدا مع ذكر الله، لحديث: " لا غول ولكن السعالي سحرة الجن "، أي ولكن في الجن سحرة لهم تلبيس وتخييل، ومنه الحديث: " إذا تغولت الغيلان، فبادروا بالأذان "، أي ادفعوا شرها بذكر الله، فدل أنه لم يرد بنفيها عدمها.
(2) الفأل مهموز فيما يسوء ويسر، والطيرة لا تكون إلا فيما يسوء، وإنما أعجبه الفأل لأنه حسن ظن بالله، والعبد مأمور بحسن الظن بالله، وإذا أمل الفائدة منه ورجا العائدة من كل سبب ضعيف أو قوي فهو على خير، والتشاؤم سوء ظن بالله، وإذا قطع الإنسان ظنه بالله كان عمله من الشر، والطيرة فيها سوء ظن بالله، وتوقع للبلاء، والتفاؤل نحو أن يكون الرجل مريضا فيسمع من يقول: يا سالم، أو يا مفلح، أو يكون طالبا ضالة فيسمع من يقول: يا واجد، فيقع في ظنه أنه يبرأ من مرضه ويجد ضالته، وتفرح نفسه وتنشط من غير اعتماد عليه، وإنما هو حسن ظن بالله، وإن أوجب مضيا أو ردا صار من الطيرة. ولما طلع سهيل بن عمرو عام الحديبية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سهل أمركم " .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : السلام (2220).(8/335)
ص -218- ... قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة (1) "1 .
ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر (2) قال: " ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أحسنها الفأل (3)،
....................................................................
(1) بين صلى الله عليه وسلم أن الفأل يعجبه، فدل على أنه ليس من الطيرة المنهي عنها. قال ابن القيم: ليس في الإعجاب بالفأل ومحبته شيء من الشرك، بل ذلك إبانة عن مقتضى الطبيعة، وموجب الفطرة الإنسانية التي تميل إلى ما يوافقها ويلائمها، والله جعل في غرائز الناس الإعجاب بسماع الاسم الحسن ومحبته، وميل نفوسهم إليه، وكذلك جعل فيها الارتياح والاستبشار والسرور باسم الفلاح والسلامة والنجاح والتهنئة والبشرى والفوز والظفر ونحو ذلك، فإذا سمعت الأسماع أضدادها أوجب لها ضد هذه الحال، فأحزنها وأثار لها خوفا وتطيرا وانكماشا، وانقباضا عما قصدته وعزمت عليه، فأورث لها ضررا في الدنيا ونقصا في الإيمان ومقارفة للشرك.
(2) صوابه عن عروة بن عامر، وكذا رواه العسكري من طريق حبيب بن أبي ثابت عنه، كما رواه أحمد وأبو داود وغيرهما، وهو مكي اختلف في نسبه، فقال أحمد: عروة بن عامر القرشي. وقال غير:ه الجهني. واختلف في صحبته، وقال المزي: (( لا صحبة له تصح )).
(3) تقدم أنه صلى الله عليه وسلم قال: " ويعجبني الفأل "2. وصحح الترمذي أنه كان إذا خرج لحاجة يحب أن يسمع يا نجيح يا رشيد، ولأبي داود إذا بعث عاملا سأله عن اسمه، فإذا أعجبه فرح به، وإذا كره اسمه رئي كراهية ذلك في وجهه، ففيه استعمال الفأل. قال ابن القيم: (( أخبر أن الفأل من الطيرة، وهو خيرها، فأبطل الطيرة، وأخبر أن الفأل منها، ولكنه خير منها، ففصل بين الفأل والطيرة؛ لما بينهما من الامتياز والتضاد ونفع أحدهما ومضرة الآخر )).(8/336)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الطب (5776) , ومسلم : السلام (2224) , والترمذي : السير (1615) , وأبو داود : الطب (3916) , وابن ماجه : الطب (3537) , وأحمد (3/118 ,3/130 ,3/154 ,3/173 ,3/178 ,3/251 ,3/275 ,3/277).
2 البخاري : الجهاد والسير (3073) , والنسائي : الزكاة (2448).(8/337)
ص -219- ... ولا ترد مسلما (1)، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت (2)، ولا حول ولا قوة إلا بك (3) "1 .
وعن ابن مسعود مرفوعا: " الطيرة شرك الطيرة شرك (4).
....................................................................
(1) أي لا ترد المسلم عن شيء قصده لإيمانه أنه لا نافع ولا ضار إلا الله، وإنما ترد المشرك الذي يعتقدها، قال الطيبي: (( تعريض بأن الكافر بخلافه )).
(2) أي لا تأتي الطيرة بالحسنات، ولا تدفع المكروهات بل أنت وحدك لا شريك لك الذي تأتي بالحسنات وتدفع السيئات، والحسنات هنا النعم، والسيئات المصائب. كقوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} 2 إلى قوله: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} 3، ففيه نفي تعليق القلب بغير الله في جلب نفع أو دفع ضر، وهذا هو التوحيد، وفيه التصريح بأنها لا تجلب نفعا ولا تدفع ضرا، فيعد من اعتقدها سفيها مشركا.
(3) أي ولا تحول ولا انتقال من حال إلى حال، ولا قوة على ذلك إلا بالله وحده لا شريك له، وهذا استعانة به سبحانه على فعل التوكل وعدم الالتفات إلى الطيرة التي قد تكون سببا لوقوع المكروه عقوبة لفاعلها، ومعاملة له بنقيض قصده، وهذا الدعاء إنما يصدر عن حقيقة التوكل الذي هو أقوى الأسباب في جلب الخيرات ودفع المكروهات.
(4) ولفظ أبي داود: " الطيرة شرك الطيرة شرك الطيرة شرك "4 ثلاثا. وهذا صريح في تحريم الطيرة، وأنها من الشرك؛ لما فيها من تعلق القلب على غير الله، ولو لم يكن فيها إلا سوء الظن بالله لكفى بها قبحا. قال في شرح السنن: (( وإنما جعل الطيرة من الشرك؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن الطيرة تجلب لهم نفعا أو تدفع عنهم ضرا إذا عملوا بموجبها، فكأنهم أشركوا مع الله )).(8/338)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : الطب (3919).
2 سورة النساء آية : 78.
3 سورة النساء آية : 79.
4 أحمد (5/425).(8/339)
ص -220- ... وما منا إلا... ولكن الله يذهبه بالتوكل (1)"1. رواه أبو داود والترمذي وصححه (2)، وجعل آخره من قول ابن مسعود (3). ولأحمد من حديث ابن عمرو (4):
....................................................................
(1) أي وما منا أحد إلا ويعتريه ويخطر له ويقع في قلبه من الطيرة شيء، فحذف اعتمادا على فهم السامع، ولكن لما توكلنا على الله في جلب النفع ودفع الضر أذهبه الله عنا بتوكلنا عليه، واعتمادنا عليه والاستناد عليه. وللطبراني وغيره من حديث حارثة: " ثلاث لازمة أمتي: الطيرة والحسد وسوء الظن، قيل: وما يذهبهن؟ قال: إذا حسدت فاستغفر الله، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيرت فامض ". قال المصنف: (( فيه أن الواقع في القلوب مع كراهته لا يضر، بل يذهبه الله بالتوكل )).
(2) ورواه ابن ماجه وابن حبان وغيرهم.
(3) وهو قوله: وما منا إلا إلى آخره، نقله الترمذي عن سليمان بن حرب، ووافقه على ذلك أهل العلم وهو المتعين؛ فإنه صلى الله عليه وسلم معصوم من الشرك بالإجماع. وقال ابن القيم: وهو الصواب؛ فإن الطيرة نوع من الشرك، كما هو في أثر مرفوع: " من ردته الطيرة فقد قارف الشرك "2 .
(4) هو أبو محمد عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي، كان اسمه العاص فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، أحد السابقين المكثرين، وأحد العبادلة الفقهاء، من أحفظ الصحابة، واختلف في وفاته وموضعها، فقيل: مات بالطائف ليالي الحرة سنة 63هـ، وقيل غير ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : السير (1614) , وأبو داود : الطب (3910) , وابن ماجه : الطب (3538) , وأحمد (1/389 ,1/438 ,1/440).
2 مسلم : البر والصلة والآداب (2577) , وأحمد (5/160).(8/340)
ص -221- ... " من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك (1). قالوا: وما كفارة ذلك يا رسول الله؟ قال: أن يقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك (2) "1 .
وله من حديث الفضل ابن عباس (3)
....................................................................
(1) وذلك أن الطيرة هي التشاؤم بالشيء المرئي أو المسموع، فإذا رده شيء من ذلك عن حاجته التي عزم عليها كإرادة السفر ونحوه، فمنعه عما أراده وسعى فيه ما رأى وما سمع تشاؤما فقد دخل في الشرك؛ لكونه لم يخلص توكله على الله بالتفاته إلى ما سواه، فكان للشيطان منه نصيب.
(2) أي لا معبود بحق سواك، فإذا قال ذلك وأعرض عما وقع في قلبه، ولم يلتفت إليه كفر الله عنه ما وقع في قلبه ابتداء، لزواله من قلبه بهذا الدعاء المتضمن للاعتماد على الله وحده، والإعراض عما سواه، ففيه أن الطيرة لا تضر من كرهها، ومضى في طريقه، وأما من استرسل مع الشيطان في ذلك فقد يعاقب بالوقوع فيما يكره؛ لأنه أعرض عن واجب الإيمان بالله الذي الخير كله بيديه، يجلبه لعبده بمشيئته وقدرته وإرادته، ويدفع عنه الضر بقدرته وإحسانه، فلا خير إلا منه، وهو الذي يدفع الشر عن عبده، وما أصابه من ذلك فبذنبه، كما قال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} 2. قال المصنف: الطيرة تعم أنواعا، منها ما لا إثم فيه كما قال عبد الله: وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل، فإذا وقع في القلب شيء وكرهه ولم يعمل به، بل خالفه وقال ذلك لم يضره شيء، فإن عمل من الحسنات شيئا فهو أبلغ وأتم في الكفارة، ولو قدرنا أن تلك الطيرة من الشرك الخفي أو الظاهر ثم تاب، وقال هذا الكلام على طريق التوبة فكذلك.
(3) أي روى أحمد من حديث الفضل بن عباس بن عبد المطلب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فبرح =(8/341)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (2/220).
2 سورة النساء آية : 79.(8/342)
ص -222- ... " إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك (1) "1.
....................................................................
= ظبي فمال في شقه فاحتضنته، فقلت: يا رسول الله تطيرت، فقال: "إنما الطيرة"... "2 إلى آخره، وفي إسناده انقطاع بين ابن مسلمة راويه وبين الفضل، شهد الفضل الفتح وحنينا، وثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم وكان رديفه في حجة الوداع، وكان أكبر أولاد العباس، وبه يكنى، مات رضي الله عنه سنة 13هـ، وله 22 سنة.
(1) هذا حد الطيرة المنهي عنها فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقاعدة كلية، وهي ما يحمل الإنسان على المضي فيما أراده أو يمنعه من المضي فيه، فتلك الطيرة، ومن مضى أو امتنع بسببها فقد أشرك، وأما الفأل الذي كان يحبه -عليه الصلاة والسلام-، ففيه نوع بشارة فيسربه العبد ولا يعتمد عليه، بخلاف ما يمضيه أو يرده؛ فإن للقلب عليه نوع اعتماد، وهذا فرق واضح بين الطيرة والفأل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (1/213).
2 أحمد (1/213).(8/343)
ص -223- ... باب ما جاء في التنجيم (1)
....................................................................
(1) أي ذكر ما لا يجوز منه وذمه وتحريمه، وما ورد من الوعيد فيه، وذكر ما يجوز. قال شيخ الإسلام: التنجيم هو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية، كالمطر والربيع والمحل وغير ذلك. وقال: السحر محرم بالكتاب والسنة والإجماع، وذلك أن علم النجوم الذي هو من السحر نوعان: علمي وهو الاستدلال بحركات النجوم على الحوادث وعملي وهو الذي يقولون فيه: إنه تأثير القوى السماوية بالقوى المنفعلة الأرضية كالطلاسم ونحوها. وفي كشف الظنون: هو علم يعرف به الاستدلال على حوادث علم الكون والفساد بالتشكلات الفلكية، وهي أوضاع الأفلاك والكواكب كالمقارنة والتثليث والتسديس والتربيع إلى غير ذلك، وينقسم إلى حسابيات وطبيعيات ووهميات. وقال الخطابي: (( علم النجوم المنهي عنه هو ما يدعيه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث التي لم تقع وستقع، كأوقات هبوب الرياح، ومجيء المطر، وظهور الحر والبرد، وتغير الأسعار وما في معناها من الأمور التي يزعمون أنهم يدركون معرفتها بمسير الكواكب في مجاريها واجتماعها وافتراقها، ويدعون أن لها تأثيرا في السفليات وأنها تجري على قضايا موجباتها، وهذا منهم تحكم على الغيب وتعاط لعلم قد استأثر الله به لا يعلمه سواه )). وقال الشارح: (( علم التنجيم على ثلاثة أقسام: أحدها: القول بأن الكواكب فاعلة مختارة، وأن الحوادث مركبة على تأثيرها، وهذا كفر بالإجماع. الثاني: الاستدلال على الحوادث بمسير الكواكب واجتماعها وافتراقها، فلا شك في تحريمه، وتقدم أنه من الشرك، وإن قالوا: إن ذلك بتقدير الله ومشيئته، فإن ذلك من علم الغيب الذي استأثر الله به، وينبغي أن يقطع بكفره. والثالث: ما ذكره المصنف في تعلم المنازل للتسيير لا التأثير )).(8/344)
ص -224- ... قال البخاري في صحيحه: قال قتادة: "خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء (1)، ورجوما للشياطين (2)، وعلامات يهتدي بها(3)، فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه (4)،
....................................................................
(1) قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} 1 أي زينا السماء الدنيا منكم التي هي أدنى سماء إليكم من غيرها بمصابيح، جمع مصباح وهو السراج، عبر بها عن الكواكب، ونكرها للتعظيم، أي بمصابيح عظيمة ليست كمصابيحكم التي تعرفونها.
(2) قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ} 2 أي جعلنا المصابيح رجوما جمع رجم سمي به ما يرجم به أي يرمي، والمراد بالشياطين مسترقو السمع كما تقدم. وروى ابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعا: " أما السماء الدنيا فإن الله خلقها من دخان، وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا، وزينها بمصابيح النجوم، وجعلها رجوما للشياطين، وحفظها من كل شيطان رجيم "
(3) أي دلالات على الجهات والبلدان ونحو ذلك، "يهتدي بها " بصيغة المجهول أي يهتدي بها الناس في ذلك، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} 3، لا في علم الغيب كما يزعمه المنجمون، وتقدم وجه بطلان زعمهم، وأنه لا حقيقة له.
(4) أي فمن زعم فيها غير ما ذكر الله في كتابه من هذه الثلاث فقط فادعى بها علم الغيب، بأن زعم أن فيها سعدا ونحسا ونحو ذلك، فقد أخطأ حيث زعم شيئا ما أنزل الله به من سلطان، وأضاع نصيبه أي حظه من الدين ومن كل خير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الملك آية : 5.
2 سورة الملك آية : 5.
3 سورة الأنعام آية : 97.(8/345)
ص -225- ... وتكلف ما لا علم له به " انتهى (1) .
وكره قتادة تعلم منازل القمر، ولم يرخص ابن عيينة فيه (2).
....................................................................
(1) وأشغل نفسه بما يضره ولا ينفعه، ولا سبيل له إليه، وليس مأمورا به، وهذا الأثر أخرجه البخاري في صحيحه تعليقا، كما قال المصنف -رحمه الله-، وأخرجه أيضا عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والخطيب وغيرهم، ولفظه: " إنما جعل الله هذه النجوم لثلاث خصال: جعلها زينة للسماء، وجعلها يهتدي بها، وجعلها رجوما للشياطين، فمن تعاطي فيها غير ذلك فقد قال برأيه، وأخطأ حظه، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به، وإن ناسا جهلة بأمر الله، قد أحدثوا في هذه النجوم كهانة، من أعرس بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا، ومن سافر بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا، ولعمري ما من نجم إلا يولد به الأحمر والأسود والطويل والقصير والحسن والدميم، وما علم هذه النجوم وهذه الدابة وهذا الطائر بشيء من هذا الغيب، ولو أن أحدا علم الغيب لعلمه آدم الذي خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء " ا هـ.
والأحاديث في ذم التنجيم والتحذير منه كثيرة، منها قوله: " من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر "1. وقوله: " مما أخاف على أمتي التصديق بالنجوم ". رواه عبد بن حميد من وجهين محتجا به من طرق، ونحوه عند ابن عساكر وأبي يعلى وابن عدي والخطيب وحسنه السيوطي، وغير ذلك مما هو معلوم، وأصله في الكتاب والسنة كثير، وأجمع عليه السلف والأئمة، وقول قتادة -رحمه الله- يدل على أن علم التنجيم هذا قد حدث في عصره، فأوجب له إنكاره على من اعتقده وتعلق به، وهذا العلم مما ينافي التوحيد ويوقع في الشرك؛ لأنه ينسب الحوادث إلى غير من أحدثها وهو الله تعالى بمشيئته وإرادته، كما قال تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} 2،: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ(8/346)
وَالأََّرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ} 3 .
فسلك مسلك قتادة سدا للباب وحسما للمادة؛ لئلا يتوصل إلى الممنوع. وهذا القسم من علم النجوم هو تعلم منازل الشمس والقمر للاستدلال بذلك على =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : الطب (3905) , وابن ماجه : الأدب (3726) , وأحمد (1/227).
2 سورة فاطر آية : 3.
3 سورة النمل آية : 65.(8/347)
ص -226- ... ذكره حرب عنهما (1) ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق (2).
....................................................................
= القبلة وأوقات الصلوات والفصول، وإذا كان هذا كراهة بعض السلف لعلم التسيير فكيف بعلم التأثير؟ قال الخطابي: أما علم النجوم الذي يدرك من طريق المشاهدة والخبر الذي يعرف به الزوال وتعلم به جهة القبلة فإنه غير داخل فيما نهي عنه، وذلك أن معرفة رصد الظل ليس شيئا بأكثر من أن الظل ما دام متناقصا فالشمس بعد صاعدة نحو وسط السماء من الأفق الشرقي، وإذا أخذ في الزيادة فالشمس هابطة من وسط السماء نحو الأفق الغربي، وهذا علم يصح إدراكه بالمشاهدة إلا أن أصل هذه الصناعة قد دبروها بما اتخذوه من الآلات التي يستغني الناظر فيها عن مراعاة مدته ومراصدته، وأما ما يستدل به من النجوم على جهة القبلة، فإنها كواكب رصدها أهل الخبرة من الأئمة الذين لا نشك في عنايتهم بأمر الدين، ومعرفتهم بها، وصدقهم فيما أخبروا به عنها، مثل أن يشاهدها بحضرة الكعبة ويشاهدها حال الغيبة عنها، فكان إدراكهم الدلالة منها بالمعاينة وإدراكنا ذلك بقبول خبرهم، إذ كانوا عندنا غير متهمين في دينهم، ولا مقصرين في معرفتهم.
(1) أي عن قتادة وابن عيينة، وحرب هو ابن إسماعيل بن خلف الحنظلي الإمام الحافظ أبو محمد الكرماني الفقيه، من جلة أصحاب أحمد، روى عنه وعن إسحاق وابن المديني وغيرهم، وله كتاب المسائل التي سأل عنها أحمد وغيره، مات سنة 280هـ.
(2) إسحاق هذا هو ابن إبراهيم بن مخلد الحنظلي التميمي النيسابوري الإمام المعروف بابن راهويه، سمي بذلك لأن أباه ولد في طريق مكة، فقالت المراوذة: راهويه؛ لأنه ولد في الطريق، إمام من أئمة المسلمين، وروى عنه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم، مات سنة 239هـ، وإنما رخصا فيه لأن فيه مصلحة ومنفعة دينية، كعلم الأوقات والطرقات، ودنيوية كقطع الأشجار وجذ الثمار، وروى =(8/348)
ص -227- ... وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لا يدخلون الجنة (1): مدمن الخمر (2)، وقاطع الرحم (3)،
....................................................................
= ابن المنذر عن مجاهد أنه كان لا يرى بأسا أن يتعلم الرجل من النجوم ما يهتدي به. قال ابن رجب: والمأذون في تعلمه علم التسيير لا علم التأثير، فإنه باطل محرم قليله وكثيره، وأما علم التسيير فتعلم ما يحتاج إليه للاهتداء ومعرفة القبلة والطرق جائز عند الجمهور، وما زاد عليه لا حاجة إليه لإشغاله عما هو أهم منه، ورجح الشيخ وابن القيم أن تعلم معرفة وقت الكسوف الشمسي والقمري لا يدخل في النهي.
(1) يعني الأشعري واسمه عبد الله بن قيس بن حضار بن حرب بن عامر، صحابي جليل مشهور باسمه وكنيته، قدم المدينة مع جعفر، واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على بعض اليمن، وعمر على البصرة، ثم عثمان على الكوفة، مات بالكوفة، وقيل: بمكة سنة 50هـ، وقيل غير ذلك.
(2) هذا من أحاديث الوعيد نقرها ونمرها كما جاءت، ولا نتأولها تأويلات تخرجها عن مقصود رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغيرها عن معانيها التي دلت عليه، وهو أبلغ في الزجر، وأردع عن الجرائم، وأحسن ما يقال: إن كل عمل دون الشرك والكفر المخرج من الملة فهو راجع إلى مشيئة الله، فإن عذبه به فقد استوجب العذاب، وإن غفر له فبفضله ورحمته.
(3) أي المداوم على شربها حتى مات ولم يتب، سميت خمرا لمخامرتها العقل، أو لتغطيته، أو لتخمير المشروب.
(4) أي القرابة بكونه لا يقوم بواجبها، كما قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} 1 .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة محمد آية : 22-23.(8/349)
ص -228- ... ومصدق بالسحر (1) "1. رواه أحمد وابن حبان في صحيحه (2) .
....................................................................
(1) أي بجميع أنواعه ومنه التنجيم، كما في الحديث: " من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر "2. وهذا وجه مطابقة الحديث للترجمة، وليس المراد أن يعتقد أنه حق، لكن إذا صدق ساحرا بما يخبر به ففيه الوعيد على ذلك، وإن كان يرى ويعتقد أنه حرام، وكل هذه الثلاثة المذكورة في الحديث من الكبائر. قال الذهبي والشيخ وغيرهما: ويدخل فيه تعلم السيميا وعملها وهي محض السحر، ويدخل فيه عقد المرء عن زوجته، ومحبة الزوج لامرأته وبغضها وبغضه وأشباه ذلك، بكلمات مجهولة.
(2) ورواه الطبراني والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (4/399).
2 أبو داود : الطب (3905) , وابن ماجه : الأدب (3726) , وأحمد (1/227).(8/350)
ص -229- ... باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء (1)
وقول الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} 1. وعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه
....................................................................
(1) أي من النهي عن ذلك والوعيد الشديد، والتغليط الأكيد، وبيان أنه كفر، والاستسقاء طلب السقيا، والمراد به هنا نسبة السقيا ومجيء المطر إلى الأنواء جمع نوء، والنوء في أصله ليس هو نفس الكوكب، فإنه مصدر ناء ينوء نوءا نهض وطلع، فالنوء هو الطالع سمي نوءا؛ لأنه إذا سقط الساقط منها بالمغرب ناء مقابله الطالع بالمشرق، وقيل: ناء سقط وغاب، ولا تخالف بين القولين، وهي ثمانية وعشرون نجما، معروفة المطالع في أزمنة السنة كلها، مشهورة بمنازل القمر، ينزل كل ليلة منزلة منها في كل شهر. قال تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} 2. تسقط كل ثلاث عشرة ليلة منزلة مع طلوع الفجر، وتطلع أخرى مقابلها ذلك الوقت من المشرق، تنقضي جميعها مع انقضاء السنة، وكانت العرب تزعم أن سقوط المنزلة وطلوع رقيبها يكون مطر وينسبونه إلى النجم الساقط، ويقولون: مطرنا بنوء كذا.
(2) أي تجعلون حظكم من شكر الله عليكم إذا أصابكم المطر والبركة والخير: {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} بنسبة النعم لغير الله من الكواكب والمخلوقات التي لا قدرة لها على شيء، وأخرج أحمد والترمذي وغيرهما عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أ}"يقول: شكركم : {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} تقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا " ويأتي عن ابن عباس نحوه، وروي عن جمهور المفسرين، وبه يظهر وجه استدلال المصنف بالآية. ويقال: وتجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون، والآية تشمل المعنيين.
(3) هو الحارث بن الحارث الشامي صحابي، يكنى أبا طالب وخلطه غير واحد بأبي مالك الأشعري، وهو متقدم الوفاة، وهذا متأخر حتى روى عنه أبو سلام(8/351)
كما في صحيح مسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الواقعة آية : 82.
2 سورة يس آية : 39.(8/352)
ص -230- ... أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن (1): الفخر بالأحساب (2)، والطعن في الأنساب (3)،
....................................................................
(1) خرج مخرج الذم نسبة إلى الجهل، أي ستفعلها هذه الأمة إما مع العلم بتحريمها أو مع الجهل بذلك، مع كونها من أعمال الجاهلية المذمومة المكروهة المحرمة، ولكنها تارة تكثر وتارة تقل، وذلك بظهور الإسلام وضعفه، والمراد بالجاهلية هنا ما قبل المبعث، سموا بذلك لفرط جهلهم، وكل ما يخالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو جاهلية. قال شيخ الإسلام: (( أخبر أن بعض أمر الجاهلية لا يتركه الناس كلهم، ذما لمن لم يتركه، وهذا يقتضي أن ما كان من أمر الجاهلية وفعلهم فهو مذموم في دين الإسلام، وإلا لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذم لها، كما قال تعالى: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} 1. فإن في ذلك ذما للتبرج، وذما لحال الجاهلية الأولى، وهذا يقتضي المنع من مشابهتهم في الجملة )).
(2) أي التشرف بالآباء والتعاظم بعدّ مناقبهم ومآثرهم وفضائلهم، وذلك جهل عظيم؛ إذ لا شرف إلا بالتقوى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 2،:{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} 3 ولأبي داود: " إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي، أو فاجر شقي، الناس بنو آدم وآدم من تراب "4. قال المصنف: (( فخر الإنسان بعمله منهي عنه، فكيف افتخاره بعمل غيره ))؟
(3) أي الوقوع فيها بالتنقص والعيب وقصد الذم، والحط من الرتبة كليس فلان من ذرية فلان أو آل فلان، قدحا لا لبيان المطلوب شرعا، ويأتي أيضا. ولما عير أبو ذر رجلا بأمه قال -عليه الصلاة والسلام-: " إنك امرؤ فيك جاهلية "5. متفق عليه، قال شيخ الإسلام: (( فدل على أن(8/353)
الطعن في الأنساب من عمل الجاهلية المذموم، وأن المسلم قد يكون فيه شيء من هذه الخصال المسماة بجاهلية ويهودية ونصرانية، ولا يوجب كفره )) ا هـ، والمراد العملية لا الاعتقادية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأحزاب آية : 33.
2 سورة الحجرات آية : 13.
3 سورة سبأ آية : 37.
4 الترمذي : المناقب (3955) , وأبو داود : الأدب (5116).
5 البخاري : الإيمان (30) , ومسلم : الأيمان (1661) , وأبو داود : الأدب (5157 ,5158) , وأحمد (5/161).(8/354)
ص -231- ... والاستسقاء بالنجوم (1)، والنياحة (2) "1. وقال: " النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة (3)
....................................................................
(1) أي نسبة السقيا ومجيء المطر إلى النجوم نسبة تأثير أو إيجاد، وهو الذي خافه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، فأخرج أحمد وغيره " أخاف على أمتي ثلاثا: استسقاء بالنجوم، وحيف السلطان، وتكذيبا بالقدر "2. فإذا قال: مطرنا بنوء كذا أو بنجم كذا، فلا يخلو إما أن يعتقد أن له تأثيرا في إنزال المطر فهذا شرك أكبر بالإجماع، وهو الذي يعتقده أهل الجاهلية، كاعتقادهم في الأموات والغائبين لجلب نفع أو دفع ضر، وإما أن ينسب إنزال المطر إلى النجم، مع اعتقاد أن الله هو الفاعل، وصحح الشارح أنه يحرم نسبة ذلك إلى النجم، وصرح ابن مفلح في الفروع أنه يحرم قول: مطرنا بنوء كذا، وجزم في الإنصاف بتحريمه، ولم يذكرا خلافا، وهو الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم ونفاه وأبطله، وأخبر أنه من أمر الجاهلية، حماية منه لجناب التوحيد، وسدا لذرائع الشرك ولو بالعبارات الموهمة التي لا يقصدها الإنسان، وذلك لأنه نسب ما هو من فعل الله إلى خلق مسخر لا ينفع ولا يضر، ولا قدرة له على شيء فيكون شركا أصغر، والله أعلم. وفيه التنبيه على ما هو أولى منه كدعاء الأموات وسؤالهم الذي هو عين الشرك، وهذا بخلاف ما لو قال: مطرنا في نوء كذا، فكما لو قال: مطرنا في شهر كذا فلا بأس بذلك.
(2) أي رفع الصوت بالندب على الميت، وإفراط رفعه بالبكاء، وإن لم يقترن بندب ولا نوح، وضرب الخدود وشق الجيوب ونحو ذلك؛ لأن ذلك تسخط بقضاء الله وقدره، وذلك ينافي الصبر الواجب، وهي من الكبائر لشدة الوعيد والعقوبة، فأما البكاء من غير نياحة ولا ندب وشق جيب فقال شيخ الإسلام: (( البكاء على الميت على وجه الرحمة حسن مستحب، ولا ينافي الرضا بقضاء الله )).
(3) أي تبعث من قبرها، وتوقف يوم(8/355)
الحساب والجزاء، وفيه تنبيه على أن التوبة تكفر الذنب وإن عظم، وهو إجماع في الجملة لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ تَابَ} 3 =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الجنائز (934) , وأحمد (5/342 ,5/344).
2 أحمد (5/89).
3 سورة مريم آية : 60.(8/356)
ص -232- ... وعليها سربال من قطران (1) ودرع من جرب "1. رواه مسلم (2). ولهما عن زيد بن خالد الجهني (3) قال: " صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية (4) على إثر سماء كانت من الليل (5)،
....................................................................
= الآية، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: " إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر"2، ولذلك لا يجوز إطلاق الوعيد على شخص عرف بفعل ذنوب توعد الشرع عليها بوعيد لذلك، ولأنها تكفر أيضا بالحسنات الماحية والمصائب، ودعاء المسلمين بعضهم لبعض، وبالشفاعة بإذن الله، وعفو الله عمن شاء ممن لا يشرك به شيئا.
(1) واحد السرابيل وهي الثياب والقمص، يعني أنهن يلطخن بالقطران، فيكون لهن كالقمص حتى يكون اشتعال النار والتصاقها بأجسادهن أعظم، ورائحتهن أنتن، وألمها بسبب الحر أشد، وقال ابن عباس: " القطران هو النحاس المذاب " اهـ. ليكون أشد لحر النار وصليها أعاذنا الله منها.
(2) الدرع ثوب ينسج من حديد يلبس في الحرب وقاية من سلاح العدو، والجرب داء، ويقال: خلط غليظ يحدث تحت الجلد من مخالطة البلغم الملح للدم، فيحدث منه بثور صغار له حكة شديدة ألبستهما عوضا عن الثوبين الذين مزقتهما في الدنيا من أجل المصيبة.
(3) المدني صحابي مشهور شهد الحديبية، وكان معه لواء جهينة يوم الفتح، مات سنة 68هـ، وله 85 سنة، وقيل غير ذلك.
(4) صلى لنا أي صلى بنا، فاللام بمعنى الباء، والحديبية بتخفيف الياء وتشدد تقدم أنها قرية سميت ببئر هناك على مرحلة من مكة، تسمى الآن الشميسي، كان بها الصلح سنة 6 من الهجرة، وهو الفتح المبين.
(5) إثر بكسر الهمزة وهو ما يعقب الشيء، و"سماء" أي مطر كان في تلك الليلة، سماه بذلك لكونه ينزل من جهة السماء، والسماء يطلق على كل ما ارتفع.(8/357)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الجنائز (934) , وابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1581) , وأحمد (5/342 ,5/343 ,5/344).
2 الترمذي : الدعوات (3537) , وابن ماجه : الزهد (4253).(8/358)
ص -233- ... فلما انصرف أقبل على الناس (1) قال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ (2) قالوا: الله ورسوله أعلم (3) قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر (4)، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته. فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب (5)،
....................................................................
(1) أي لما التفت إليهم من صلاته بوجهه الشريف صلى الله عليه وسلم ، ويحتمل أنه أراد السلام لا القيام من مكانه، كما يدل عليه قوله: أقبل على الناس أي التفت إلى المأمومين كما هو معلوم من حاله وحال أصحابه، وإتيانهم بالذكر المندوب.
(2) لفظ استفهام، ومعناه التنبيه. وفي النسائي: " ألم تسمعوا ما قال ربكم الليلة؟ "1، وهذا من الأحاديث القدسية، وفيه إلقاء العالم على أصحابه المسألة ليختبرهم.
(3) أي من كل عالم، وفيه حسن الأدب للمسئول إذا سئل عما لا يعلم أن يكل العلم إلى عالمه، وذلك واجب.
(4) يعني إذا اعتقد أن للنوء تأثيرا في إنزال المطر فهذا كفر؛ لأنه شرك في الربوبية، وإن لم يعتقد ذلك فهو من الشرك الأصغر؛ لأنه نسب نعمة الله إلى غيره؛ لأن الله لم يجعل النوء سببا لإنزال المطر فيه، ودل على أنه لا يجوز لأحد أن يضيف أفعال الله إلى غيره، والإضافة في قوله: (عبادي) هنا للعموم؛ لقوله: " مؤمن بي وكافر "2، كقوله: {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} 3. قال المصنف: (( وفيه التفطن للإيمان في هذا الموضع، يشير إلى أنه الإخلاص )).
(5) أي من نسب المطر إلى الله، واعتقد أنه أنزله بفضله ورحمته من غير استحقاق من العبد على ربه، وأثنى به عليه، فقال: مطرنا بفضل الله ورحمته. وفي رواية: "فأما من حمدني على سقياي، وأثنى علي فذاك من آمن بي". والفضل والرحمة =(8/359)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الأذان (846) والجمعة (1038) والمغازي (4147) , ومسلم : الإيمان (71) , والنسائي : الاستسقاء (1525) , وأبو داود : الطب (3906) , وأحمد (4/116) , ومالك : النداء للصلاة (451).
2 البخاري : الأذان (846) , ومسلم : الإيمان (71) , والنسائي : الاستسقاء (1525) , وأبو داود : الطب (3906) , وأحمد (4/117) , ومالك : النداء للصلاة (451).
3 سورة التغابن آية : 2.(8/360)
ص -234- ... وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب (1) "1 .
ولهما من حديث ابن عباس معناه، وفيه: " قال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا (2)، فأنزل الله هذه
....................................................................
= صفتان لله، ومذهب أهل السنة والجماعة أن ما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الذات، كالحياة والعلم، وصفات الأفعال كالرحمة التي يرحم الله بها عباده، كلها صفات لله قائمة بذاته، ليست قائمة بغيره، وفيه أن النعم لله لا يجوز أن تضاف إلا إليه وحده، وهو الذي يحمد عليها، ولا ينافي الدعاء لمن أحسن إليك وذكر ما أولاك من المعروف، إذا سلم دينك، والسر -والله أعلم- أن العبد يتعلق قلبه بمن يظن حصول الخير من جهته وإن كان لا صنع له في ذلك، وذلك نوع شرك خفي فمنع من ذلك.
(1) يعني نسبة المطر إليه، قال الشافعي وغيره: على ما كان أهل الشرك يعنون من إضافة المطر إلى أنه يمطر نوء كذا، فذلك كفر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم . وقال المصنف: فيه التفطن للكفر في هذا الموضع يشير إلى أن نسبة النعمة إلى غير الله كفر، ولهذا قطع بعض العلماء بتحريمه، وإن لم يعتقد تأثير النوء بإنزال المطر، فيكون من جحد النعم؛ لعدم نسبتها إلى الذي أنعم بها، ونسبتها إلى غيره كما سيأتي. ولما كان إنزال الغيث من أعظم نعم الله وإحسانه إلى عباده لما اشتمل عليه من منافعهم، فلا يستغنون عنه أبدا كان من شكره أن يضيفوه إليه سبحانه ويشكروه؛ فإن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها، والله سبحانه هو المنعم على الإطلاق.
(2) أي صدق سحاب ومطر النجم الفلاني، ولفظه عن ابن عباس قال: مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر"، قالوا هذه رحمة الله، وقال بعضهم: لقد =(8/361)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الجمعة (1038) , ومسلم : الإيمان (71) , والنسائي : الاستسقاء (1525) , وأبو داود : الطب (3906) , وأحمد (4/117) , ومالك : النداء للصلاة (451).(8/362)
ص -235- ... الآية. {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} 1 إلى قوله: {تُكَذِّبُونَ} (1) .
....................................................................
= صدق نوء كذا وكذا "2. قال: فنزلت هذه الآية، وفي رواية أخرى: " ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم كافرين "3 .
(1) هذا قسم من الله سبحانه، يقسم بما شاء من خلقه على ما شاء، والأكثرون أن المراد نجوم السماء، ومواقعها مغاربها ومطالعها، وجوابه: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} 4 فتقديره: ليس الأمر كما زعمتم في القرآن أنه سحر وكهانة، بل هو قرآن كريم، وقال ابن عباس: يعني نجوم القرآن، نزل جملة ليلة القدر إلى السماء الدنيا، ثم نزل مفرقا في السنين بعدد مواقعها، أي وإن هذا القسم الذي أقسمت به لقسم عظيم، لو تعلمون عظمته لعظمتم المقسم به عليه،:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} أي إنه وحي الله وتنزيله وكلامه، لا كما يقوله الكفار: إنه سحر أوكهانة أو شعر، بل هو قرآن كريم، أي عظيم كثير الخير؛ لأنه كلام الله: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} 5 معظم محفوظ موقر. قيل: هو اللوح المحفوظ، وصحح ابن القيم أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة، وهو المذكور في قوله: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} 6. ويدل عليه قوله: {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} 7 يعني الملائكة، وقال جماعة: {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}من الجنابة والحدث. والمراد بالقرآن ههنا المصحف؛ لما رواه مالك وغيره أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم " أن لا يمس القرآن إلا طاهر "8. وقوله: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 9 أي هذا القرآن منزل من رب العالمين، لا كما يقولون: إنه سحر وكهانة وشعر، أو مخلوق، بل هو الحق الذي لا مرية فيه، منزل من رب العالمين:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} 10 على قلب محمد صلى(8/363)
الله عليه وسلم بإجماع المسلمين: {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ} الذي ذكرت نعوته الموجبة لإعظامه: {أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} متهاونون به. وعن ابن عباس وغيره مكذبون. وقوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} أي شكركم التكذيب، وأكثر الروايات أنها نزلت في القائلين بنوء كذا وكذا من غير تعرض لما تقدم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الواقعة آية : 75.
2 مسلم : الإيمان (73).
3 مسلم : الإيمان (72) , والنسائي : الاستسقاء (1524) , وأحمد (2/362 ,2/368 ,2/421 ,2/525).
4 سورة الواقعة آية : 77.
5 سورة الواقعة آية : 78.
6 سورة عبس آية : 13-16.
7 سورة الواقعة آية : 79.
8 مالك : النداء للصلاة (468).
9 سورة الواقعة آية : 80.
10 سورة الشعراء آية : 193.(8/364)
ص -236- ... باب قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}1 الآية (1).
....................................................................
(1) لما كان من المحبة محبة خاصة لا تصلح إلا لله عز وجل، وهي محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع وكمال الطاعة، وإيثاره على غيره، ولا يجوز تعليقها بغير الله أصلا، ومتى أحب العبد بها غير ه تعالى كان مشركا شركا لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وقد سوى المشركون بين الله وبين آلهتهم فيها، ترجم لها المصنف -رحمه الله- بهذه الآية الكريمة؛ ليظهر ويوضح ما دلت عليه من للشرك باتخاذ الند، وهو المثل والشرك في محبة التأله والتعظيم التي هي أصل دين الإسلام، وبكمالها يكمل، وبنقصها ينقص. قال ابن كثير: يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا، وما لهم في الآخرة من العذاب والنكال، حيث جعلوا لله أندادا، أي أمثالا ونظراء: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} أي يساوونهم بالله في المحبة والتعظيم، وهو اختيار شيخ الإسلام في الآية، كما حكى الله هذه التسوية عنهم في قوله: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} 2. وقال: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} 3. وهذا الند وهذه التسوية وهذا العدل إنما هو في المحبة لا في الخلق والربوبية؛ فإنه ليس أحد من أهل الأرض يثبته، بخلاف المحبة؛ فإن أكثر أهل الأرض قد اتخذوا من دون الله أندادا وساووهم به وعدلوهم بربهم في المحبة والتعظيم.: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ}أي أشد حبا لله من أصحاب الأنداد لله، وقيل لأندادهم، فدلت الآية على أن من أحب شيئا كحب الله فقد اتخذه ندا لله، قال المصنف: (( وفيه أن من اتخذ ندا تساوي محبته محبة الله فهو الشرك الأكبر )). ا هـ. والمحبة قسمان: مشتركة ومختصة. والمشتركة ثلاثة(8/365)
أنواع: طبيعية كمحبة الجائع للطعام، ومحبة إجلال وإعظام، ومحبة إشفاق كمحبة الولد لوالده والوالد لولده، ومحبة أنس وإلف كمحبة الشريك =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 165.
2 سورة الشعراء آية : 97-98.
3 سورة الأنعام آية : 1.(8/366)
ص -237- ... وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} إلى قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} 1 الآية (1).
....................................................................
= في تجارة أو صناعة أو سفر أو غير ذلك، فهذه الثلاثة لا تستلزم التعظيم، ولا يؤاخذ أحد بها، ولا تزاحم المحبة المختصة، فلا يكون وجودها شركا في محبة الله، لكن لا بد أن يكون الله ورسوله أحب إليه من تلك. وأما المختصة فهي محبة العبودية، المستلزمة للذل والخضوع والتعظيم والطاعة والإيثار على مراد النفس، فهذه لا تصلح إلا لله وحده، ومتى أحب العبد بها غيره فقد أشرك الشرك الأكبر.
(1) أمر الله نبيه أن يتوعد من أحب هذه الأصناف فآثرها أو بعضها على حب الله ورسوله، وفعل ما أوجب الله عليه من الأعمال التي يحبها ويرضاها، كالهجرة والجهاد ونحو ذلك. وكانت نزلت في المسلمين الذين بمكة، لما أمروا بالهجرة قالوا: إن نحن هاجرنا ضاعت أموالنا، وذهبت تجارتنا، وخربت ديارنا وقطعنا أرحامنا، وكان منهم من يتعلق به أهله وولده، ويقولون: ننشدك بالله أن تضيعنا فيرق لهم ويدع الهجرة، فبدأ الله بالآباء والأبناء والإخوان، وكذا الأصدقاء ونحوهم، وزهدهم فيه، ثم قطع علائقهم عن زخارف الدنيا فقال: {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا}أي اكتسبتموها، وأصل الإقتراف اقتطاع الشيء من مكانه إلى غيره،:{وَتِجَارَةٌ}أي أمتعة اشتريتموها للتجارة والربح : {تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا}بفوات وقت رواجها : {وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا} أي منازل تعجبكم الإقامة فيها: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ}أي إن كانت هذه الأشياء أحب إليكم: {مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ}
والمراد بالحب هنا الحب الاختياري المستتبع لأثره، الذي هو الملازمة وتقديم الطاعة، لا ميل الطبع؛ فإنه أمر جبلي لا يمكن تركه، ولا يؤاخذ العبد عليه، ولا يكلف بالامتناع منه.{فتربّصوا} أي انتظروا(8/367)
ماذا يحل بكم من عقابه. قال المصنف: (( وفيه الوعيد على من كانت الثمانية أحب إليه من دينه )).
ا هـ. وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} 2 .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية : 24.
2 سورة آل عمران آية: 31.(8/368)
ص -238- ... عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين "1. أخرجاه (1) ولهما عنه (2)
....................................................................
= فإنه لما كثر المدعون لمحبة الله طولبوا بإقامة البينة، فجاءت هذه الآية ونحوها، فمن ادعى محبة الله وهو يحب ما ذكر على الله ورسوله فهو كاذب، كمن يدعي محبة الله وهو على غير طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
(1) أي لا يؤمن الإيمان الواجب، والمراد كماله، ونفي اسم الشيء على معنى نفي الكمال عنه مستفيض في كلام العرب، ولابن حبان: " لا يبلغ العبد حقيقة الإيمان ". ومعنى الحقيقة هنا الكمال، حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إلى العبد " من ولده ووالده والناس أجمعين "2؛ لأن بسببه صلى الله عليه وسلم الحياة الأبدية، والإنقاذ من الضلال إلى الهدى، بل ولا يحصل هذا الكمال إلا بأن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه، كما في قصة عمر لما قال له: " لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال: والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك. قال له عمر: فإنك الآن أحب إلي من نفسي. فقال: الآن يا عمر ". رواه البخاري. ومحبته صلى الله عليه وسلم تقتضي طاعته واتباع ما أمر به، وتقديم قوله دون من سواه. قال شيخ الإسلام: وكل مسلم يكون محبا بقدر ما معه من الإسلام، وكل مسلم لا بد أن يكون مؤمنا، وإن لم يكن مؤمنا الإيمان المطلق؛ لأن ذلك لا يحصل إلا لخواص المؤمنين، وفي هذا الحديث أن الأعمال من الإيمان؛ لأن المحبة من عمل القلب، وفيه أن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة تابعة لمحبة الله لازمة لها.
(2) أي وللبخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه.(8/369)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الإيمان (15) , ومسلم : الإيمان (44) , والنسائي : الإيمان وشرائعه (5013 ,5014) , وابن ماجه : المقدمة (67) , وأحمد (3/177 ,3/207 ,3/275 ,3/278) , والدارمي : الرقاق (2741).
2 مسلم : البر والصلة والآداب (2564) , وأحمد (2/277).(8/370)
ص -239- ... قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان (1): أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما (2)، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله (3)،
....................................................................
(1) أي ثلاث خصال من وجدن فيه تامة وجد بهن حلاوة الإيمان، لما يحصل به من لذة القلب ونعيمه وسروره وغذائه، والحلاوة هنا هي التي يعبر عنها بالذوق، وهي حلاوة محسوسة، يجدها أهل الإيمان في قلوبهم، أعلى من حلاوة المطعوم الحلو في الفم، فيستلذ الطاعات ويتحمل المشقات في رضى الله، ويحبه بفعل طاعته وترك مخالفته، وقد شبه الإيمان بالشجرة في قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} 1، فالكلمة هي كلمة الإخلاص، والشجرة الإيمان، وأغصانها الأمر والنهي، وورقها ما يهتم به المؤمن من الخير، وثمرها عمل الطاعات، وحلاوة الثمر جني الثمرة، وغاية كماله تناهي نضج الثمرة، وبه تظهر حلاوتها.
(2) وفي لفظ: " أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين "2. والمراد بالسوي هنا ما يحبه الإنسان بطبعه، كمحبة المال والولد والأزواج ونحوها، وثنى الضمير هنا لتلازم المحبتين، ومحبة الله تستلزم محبة طاعته؛ فإنه يحب من عبده أن يطيعه، والمحب يحب ما يحب محبوبه ولا بد.
(3) أي يحب المرء الذي يعتقد إيمانه وعبادته، لا يحبه إلا لله، أي لأجل طاعة الله، وكان الصحابة يؤثر بعضهم بعضا على نفسه محبة في الله ولله وتقربا إليه، قال الله عنهم: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} 3. ومن لازم محبة الله محبة أهل طاعته، كمحبة أنبيائه ورسله والصالحين من عباده، ومحبة الله ومحبة من يحبه الله من كمال الإيمان، وحقيقة الحب في الله أن لا ينقص بالجفاء ولا يزيد بالبر.(8/371)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة إبراهيم آية : 24.
2 البخاري : الصلاة (481) والمظالم والغصب (2446) والأدب (6027) , ومسلم : البر والصلة والآداب (2585) , والنسائي : الزكاة (2560) , وأحمد (4/405).
3 سورة الحشر آية : 9.(8/372)
ص -240- ... وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار (1) "1.
وفي رواية: " لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى "2 إلى آخره (2). وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: " من أحب في الله وأبغض في الله (3)،
....................................................................
(1) يعود أي يرجع، فمعناه يصير والعود والرجوع بمعنى الصيرورة، والمقصود أنه يستوي عنده الأمران، كراهة عوده إلى الكفر ككراهة قذفه في النار. وفيه دليل على فضيلة من أكره على الكفر فأبى إلى أن يقتل. قال شيخ الإسلام: أخبر صلى الله عليه وسلم أن هذه الثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان؛ لأن وجود الحلاوة للشيء يتبع المحبة له، فمن أحب شيئا واشتهاه، إذا حصل له مراده فإنه يجد الحلاوة واللذة والسرور بذلك، والسرور أمر يحصل عقيب إدراك الملائم الذي هو المحبوب أو المشتهى، فحلاوة الإيمان المتضمنة للذة والفرح تتبع كمال محبة العبد لله، وذلك بثلاثة أمور: تكميل هذه المحبة، وتفريغها ودفع ضدها، فتكميلها أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما؛ فإن محبة الله ورسوله لا يكتفى فيها بأصل الحب، بل لا بد أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وتفريغها أن يحب المرء لا يحبه إلا لله، ودفع ضدها أن يكره ضد الإيمان كما يكره أن يقذف في النار.
(2) هذه الرواية أخرجها البخاري في الأدب من صحيحه، ولفظه: " لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله، وحتى أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، وحتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما".
(3) أي أحب أهل الإيمان بالله وطاعته من أجل ذلك، فالحب في الله من ثمرات حب الله، ومن موجبات الإسلام. "وأبغض في الله" أي أبغض من كفر بالله وأشرك =(8/373)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الإيمان (16) , ومسلم : الإيمان (43) , والترمذي : الإيمان (2624) , والنسائي : الإيمان وشرائعه (4987 ,4988 ,4989) , وابن ماجه : الفتن (4033) , وأحمد (3/103).
2 البخاري : الأدب (6041).(8/374)
ص -241- ... ووالى في الله وعادى في الله (1)، فإنما تنال ولاية الله بذلك (2)، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك (3)،
....................................................................
= به وعصاه، لارتكابه ما يسخط الله، وإن كانوا أقرب الناس إليه، كما قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ} 1 الآية.
(1) والى بالمحبة والنصرة بحسب القدرة، وعادى من كان عدوا لله ممن أشرك به وكفر وظاهر بالمعاصي، وهذا والذي قبله من لوازم محبة العبد لله، فمن أحب الله أحب فيه ووالى أولياءه وعادى أهل معصيته وأبغضهم، وكلما قويت محبة العبد لله في قلبه قويت هذه الأعمال المترتبة عليها، وبكمالها يكمل توحيد العبد، وبضعفها يضعف، وهذه المراتب الأربع هي ثمرة الإيمان ودعائم الملة.
(2) أي توليه لعبده، والولاية بفتح الواو وتكسر المحبة والنصرة، وبالكسر الإمارة، والمراد هنا الأولى. وأخرج أحمد وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله، فإذا أحب لله وأبغض لله فقد استحق الولاية لله "2 .
(3) أي لا يحصل له ذوق الإيمان ولذته وسروره والفرح به، وإن كثرت عبادته حتى يكون كذلك، أي حتى يحب في الله ويبغض في الله، ويعادي في الله ويوالي في الله، قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} 3. وفي حديث أبي أمامة مرفوعا: " من أحب في الله وأبغض في الله، وأعطى لله ومنع لله، فقد استكمل الإيمان "4 رواه أبو داود، وللترمذي من حديث معاذ =(8/375)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المجادلة آية : 22.
2 أحمد (3/430).
3 سورة يونس آية : 58.
4 أبو داود : السنة (4681).(8/376)
ص -242- ... وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا (1)، وذلك لا يجدي على أهله شيئا (2) ". رواه ابن جرير (3). وقال ابن عباس في قوله: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} 1 قال: المودة (4) .
....................................................................
= نحوه، وزاد أحمد: "ونصح لله"، وله عن عمرو بن الجموح: " لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله "2. ومن حديث البراء: " أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله "3 .
(1) أي إذا ضعف داعي الإيمان أحب دنياه وأحب لها، وآخى لأجلها، وهذا هو الغالب على أكثر الخلق؛ فإنك لا تجد غالبهم إلا وهو يقدم محبة دنياه، ويؤثر ما يهواه على ما يحبه الله ورسوله، وإذا كانت البلوى قد عمت بهذا في زمن ابن عباس خير القرون، فما زاد الأمر بعد ذلك إلا شدة، حتى وقعت الموالاة على الشرك والبدع والفسوق والعصيان، ووقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم من غربة الإسلام، وأنه سيعود غريبا كما بدأ.
(2) أي لا ينفعهم بل يضرهم، كما قال تعالى: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} 4 .
(3) وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم الجملة الأولى منه فقط.
(4) أي الوصل التي كانت بينهم في الدنيا، يتواصلون بها ويتحابون بها، تقطعت بهم، وخانتهم أحوج ما كانوا إليها، وصارت عداوةً يوم القيامة، وتبرأ بعضهم من بعض، ولعن بعضهم بعضا، كما قال تعالى: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} 5. وأول الآية: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} 6. فالمتبعون كانوا =(8/377)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 166.
2 أحمد (3/430).
3 مسلم : فضائل الصحابة (2504) , وأحمد (5/64).
4 سورة الزخرف آية : 67.
5 سورة العنكبوت آية : 25.
6 سورة البقرة آية : 166.(8/378)
ص -243- ... .............................................................................................
= على الهدى وأتباعهم ادعوا أنهم على طريقتهم، وهم مخالفون لهم، ويزعمون أن محبتهم لهم تنفعهم مع مخالفتهم، فيتبرؤون منهم يوم القيامة، فإنهم اتخذوهم أولياء من دون الله، وهكذا حال كل من اتخذ من دون الله وليا؛ فإن الله عز وجل أبطل ذلك العمل، وقطع تلك الأسباب، ولم يبق إلا السبب الواصل بين العبد وربه، وهو تجريد عبادته وحده من الحب والبغض والعطاء والمنع والموالاة والمعاداة، وتجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا هو السبب الذي لا ينقطع بصاحبه. وهذا الأثر رواه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه.(8/379)
ص -244- ... باب قول الله تعالي: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1(1).
....................................................................
(1) لما كان الخوف من الله أجل مقامات الدين وأشرفها وأفضلها، وأجمع أنواع العبادة التي يجب إخلاصها لله تعالى، نبه المصنف بالترجمة بهذه الآية على وجوب إخلاص الخوف لله، وقد ذكره الله في غير موضع من كتابه، كقوله:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} 2،{وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} 3،:{وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ} 4، وغير ذلك من الآيات. و {إِنَّمَا} أداة حصر، والشيطان علم لإبليس اللعين، {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} 5 أي يخوفكم بأوليائه، ويوهمكم أنهم ذو بأس شديد، وقال قتادة: يعظمهم في صدوركم. {فَلا تَخَافُوهُمْ} أولياءه الذين خوفكم إياهم،{وَخَافُونِ}في مخالفة أمري، وتوكلوا علي فإني كافيكم وناصركم عليهم، وهذا هو الإخلاص الذي أمر الله به عباده ورضيه منهم،: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 6 جعله شرطا في الإيمان؛ لأن الإيمان يقتضي أن تؤثروا خوف الله على خوف الناس، ولأن من عرف أن الخوف عبادة، وصرفه لغير الله شرك، لم يصرفه لغيره،
وكلما قوي إيمان العبد زال خوف أولياء الشيطان من قلبه، وكلما ضعف إيمانه قوي خوفه منهم، قال المصنف: وفيه أن إخلاص الخوف من الفرائض، والخوف على ثلاثة أقسام :
(أحدها) خوف السر، وهو أن يخاف من غير الله من وثن أو طاغوت أو غير ذلك أن يصيبه بما يكره، كما قال تعالى:{وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} 7، وهو الواقع من عباد القبور ونحوها، يخافونها ويخوفون بها أهل التوحيد .
(الثاني) أن يترك ما يجب عليه من جهاد وأمر بمعروف ونهي عن منكر لغير عذر خوفا من بعض الناس، فهذا محرم، وهو نوع من الشرك بالله المنافي لكمال التوحيد،(8/380)
وهذا هو سبب نزول الآية، كقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} 8. وفي =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية : 175.
2 سورة النحل آية : 50.
3 سورة الأنبياء آية : 28.
4 سورة الأحزاب آية : 39.
5 سورة آل عمران آية : 175.
6 سورة البقرة آية : 91.
7 سورة الزمر آية : 36.
8 سورة آل عمران آية : 173.(8/381)
ص -245- ... وقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ} 1 (1).
....................................................................
= الحديث: " إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: ما منعك إذ رأيت المنكر أن لا تغيره؟ فيقول: رب خشية الناس، فيقول: إياي كنت أحق أن تخشى "2. رواه أحمد وغيره .
(الثالث) الخوف الطبيعي، وهو الخوف من عدو أو سبع أو غير ذلك، فهذا لا يذم، كقوله: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ} 3. وأما خوف وعيد الله الذي توعد به العصاة، وهو الذي قال الله فيه: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} 4 ونحو ذلك، فهو أعلى مراتب الإيمان.
(1) (إنما) أداة حصر، يخبر تعالى أنه لا يعمر مساجده حقيقة إلا الذين آمنوا بقلوبهم، وعملوا بجوارحهم، وداوموا على إقام الصلاة بأركانها وواجباتها وسننها، وأعطوا الزكاة مستحقيها، وأخلصوا لله الخشية، أي المخافة والهيبة التي ينبني عليها أساس العبادة، والتي هي مخ عبودية القلب، ولا تصلح إلا لله وحده، وهي الشرط الذي هو وجه مناسبة الآية للترجمة، ولا محالة أن الإنسان يخشى المحاذير الدنيوية، ولكن ينبغي له أن يخشى في ذلك قضاء الله وتصريفه. وقوله: {فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} 5 أي وأولئك هم المهتدون، وكل عسى في القرآن فهي واجبة. وفي الحديث: " إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان "6. قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ}الآية. رواه أحمد والترمذي وغيرهما. فأثبت تعالى عمارتها للمؤمنين بعد أن نفى ذلك عن المشركين؛ لأن عمارة المساجد بالطاعة والعمل الصالح، لا مجرد العمارة بالبناء فقط، وإن كان يدخل فيها، ويعم ترميمها وتنظيفها، فلا تكون عامرة إلا بالإيمان والعمل الصالح،(8/382)
الخالص من شوائب الشرك والبدع، وإدامة العبادة والذكر، وصيانتها عما لم تبن له.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية : 18.
2 ابن ماجه : الفتن (4008) , وأحمد (3/47).
3 سورة القصص آية : 21.
4 سورة إبراهيم آية : 14.
5 سورة التوبة آية : 18.
6 الترمذي : تفسير القرآن (3093).(8/383)
ص -246- ... وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} 1 الآية (1). وعن أبي سعيد مرفوعا: " إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله (2)،
....................................................................
(1) أي ومن بعض الناس من يدعي الإيمان بلسانه، ولم يثبت في قلبه: {فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ}، أي لأجل الله جل وعلا، فأصابته محنة اعتقد أنها من نقمة الله فارتد عن الإسلام. قال ابن عباس: يعني فتنته أن يرتد عن دينه إذا أوذي في الله. وقال ابن القيم: (( أخبر عن حال الداخل في الإيمان بلا بصيرة، أنه إذا أوذي في الله: {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ}له -وهي أذاهم ونيلهم له بالمكروه، وهو الألم الذي لا بد أن ينال الرسل وأتباعهم ممن خالفهم- جعل ذلك في فراره منه، وتركه السبب الذي يناله به،: {كَعَذَابِ اللَّهِ} الذي فر منه المؤمنون بالإيمان، فالمؤمنون لكمال بصيرتهم فروا من ألم عذاب الله إلى الإيمان، وتحملوا ما فيه من الألم الزائل المفارق عن قريب، وهذا لضعف بصيرته فر من ألم أعداء الرسل إلى موافقتهم، ففر من ألم عذابهم إلى عذاب الله، فجعل ألم فتنة الناس بمنزلة ألم عذاب الله، وغبن كل الغبن إذ استجار من الرمضاء بالنار، وفر من ألم ساعة إلى ألم الأبد، وإذا نصر الله جنده وأولياءه قال: إني كنت معكم، والله عليم بما انطوى عليه صدره من النفاق )) ا هـ. فلا ينبغي للعبد أن يخاف غير الله، ولا يصدق عليه الإيمان الشرعي إلا باعتقاد القلب وعمله، وقول اللسان وعمل الجوارح، وفيه الخوف من مداهنة الخلق، والمعصوم من عصمه الله، ومطابقة الآية للترجمة أن الخوف من الناس أن ينالوه بما يكره بسبب الإيمان بالله من جملة الخوف من غير الله.
(2) الضعف بالضم في لغة قريش، وبالفتح في لغة تميم ضد القوة والصحة، فالمضموم مصدر ضعف ضعفا كقرب قربا،(8/384)
والمفتوح من باب قتل، واليقين ضد =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة العنكبوت آية : 10.(8/385)
ص -247- ... وأن تحمدهم على رزق الله (1)، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله (2)،
....................................................................
= الشك: كمال الإيمان. وقال ابن مسعود: (( اليقين الإيمان كله، والصبر نصف الإيمان )). وروي عنه مرفوعا. ويدخل فيه تحقيق الإيمان بالقدر السابق، كما في حديث ابن عباس مرفوعا: " فإن استطعت أن تعمل بالرضى في اليقين فافعل، فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا ". وفي رواية: كيف أصنع باليقين؟ قال: " أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك "1. فمن ضعفه أن تؤثر رضاهم على رضى الله، فتوافقهم على ترك المأمور أو فعل الحظور، استجلابا لرضاهم، وذلك لأنه لم يقم بقلبه من إعظام الله وإجلاله وهيبته ما يمنعه من استجلاب رضى المخلوق، بما يجلب له سخط خالقه، وبهذا الاعتبار يدخل في نوع من الشرك؛ لأنه آثر رضى المخلوق على رضى الخالق، وتقرب إليه بما يسخط الله، ومن قوي إيمانه آثر رضى الخالق على رضي المخلوق، فحصل له رضي الله ورضى الخلق.
(1) وتشكرهم على ما وصل إليك من أيديهم بأن تضيفه إليهم وتحمدهم عليه، وتنسى الله عز وجل فإن المتفضل في الحقيقة هو الله الذي قدره لك وأوصله إليك، وإذا أراد أمرا قيض له أسبابا. ولا ينافي هذا الحديث " من لا يشكر الناس لا يشكر الله "2؛ لأن شكرهم إنما هو بالدعاء لهم، لكون الله ساقه على أيديهم، فتدعو لهم أو تكافئهم لحديث: " من صنع إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه "3. فإضافة الصنيعة إليهم إنما هو لكونهم صاروا أسبابا في إيصال المعروف إليك، وإلا فالذي قدره وساقه هو الله وحده.
(2) لأنه لم يقدر لك ما طلبته على أيديهم، فلو قدره لك لساقته المقادير إليك.(8/386)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : السنة (4700).
2 الترمذي : البر والصلة (1954) , وأبو داود : الأدب (4811) , وأحمد (2/258 ,2/295 ,2/302 ,2/388 ,2/492).
3 النسائي : الزكاة (2567) , وأبو داود : الأدب (5109) , وأحمد (2/68).(8/387)
ص -248- ... إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره (1) ".
....................................................................
(1) بل كل شيء بقضاء الله وقدره سبحانه وبحمده، قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1. ومن علم أن المتفرد بالعطاء والمنع هو الله وحده، وأنه هو الذي يرزق بسبب وبلا سبب ومن حيث لا يحتسب، لم يمدح مخلوقا على رزق، ولم يذمه على منع، ويفوض أمره إلى الله، ويعتمد عليه في أمر دينه ودنياه، ويسلم قلبه له، وقد بايع جماعة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يسألوا الناس شيئا ولم يبح إلا لضرورة، محافظة على كمال الحب لله، وإخلاص التوكل عليه. قال شيخ الإسلام: اليقين يتضمن اليقين في القيام بأمر الله، وما وعد الله أهل طاعته، واليقين بقدر الله وخلقه وتدبيره، فإذا أرضيتهم بقدر الله لم تكن موقنا لا بوعده ولا برزقه، فإنه إنما يحمل الإنسان على ذلك إما ميل إلى ما في أيديهم، فيترك القيام فيهم بأمر الله لما يرجوه منهم، وإما ضعف تصديقه بما وعد الله نصرك ورزقك، وكفاك مؤنتهم، وإرضاؤهم بما يسخطه إنما يكون خوفا منهم، ورجاء لهم، وذلك من ضعف اليقين، وإذا لم يقدر لك ما تظن أنهم يفعلونه معك فالأمر في ذلك إلى الله لا لهم، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فإذا ذممتهم على ما لم يقدر كان ذلك من ضعف يقينك، فلا تخفهم ولا ترجهم، ولا تذمهم من جهة نفسك وهواك، ولكن من حمده الله ورسوله منهم فهو المحمود، ومن ذمه الله ورسوله منهم فهو المذموم، ولما قال بعض وفد بني تميم: " أي محمد أعطني فإن حمدي زين وذمي شين ". قال: "ذلك الله عز وجل".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة فاطر آية : 2.(8/388)
ص -249- ... وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من التمس رضى الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس "1. رواه ابن حبان في صحيحه (1) .
....................................................................
(1) بهذا اللفظ، ورواه أبو نعيم في الحلية والبيهقي، وأعله بمحمد بن مروان السدي، وقال: ضعيف. وفيه أيضا عطية العوفي ذكره الذهبي في الضعفاء والمتروكين، ومعناه صحيح، وتمامه: " وإن الله بحكمته جعل الروح والفرح في الرضى واليقين، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط ". وفيه: أن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأعمال من مسمى الإيمان، والشاهد من حديث الباب قوله: " ومن التمس رضى الناس بسخط الله ". ورواه الترمذي عن رجل من أهل المدينة، قال: كتب معاوية إلى عائشة أن اكتبي لي كتابا، توصيني فيه ولا تكثري علي، فكتبت إليه: سلام عليك أما بعد: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من التمس رضى الله بسخط الناس، كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله، وكله الله إلى الناس "2. والسلام عليك. "التمس" أي طلب وقال شيخ الإسلام: وكتبت عائشة إلى معاوية، وروي أنها رفعته. " من أرضى الله بسخط الناس، كفاه الله مؤنة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله، لم يغنوا عنه من الله شيئا "3. هذا لفظ المرفوع، ولفظ الموقوف: " من أرضى الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله، عاد حامده من الناس ذاما "4. وهذا من أعظم الفقه في الدين؛ فإن من أرضى الله بسخطهم كان قد اتقاه، وكان عبده الصالح، والله يتولى الصالحين، والله كاف عبده،: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} 5. والله يكفيه =(8/389)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سنن الترمذي : كتاب الزهد (2379).
2 الترمذي : الزهد (2414).
3 الترمذي : الزهد (2414).
4 الترمذي : الزهد (2414).
5 سورة الطلاق آية : 2-3.(8/390)
ص -250- ... .............................................................................................
= مؤنة الناس بلا ريب، وأما كون الناس كلهم يرضون عنه فقد لا يحصل ذلك، لكن يرضون عنه إذا سلموا من الأغراض، وإذا تبينت العاقبة، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا، وأما كون حامده ينقلب له ذاما فهذا يقع كثيرا، ويحصل في العاقبة، فإن العاقبة للتقوى لا تحصل ابتداء عند أهوائهم. وفي هذا الحديث بيان عقوبة من خاف الناس وآثر رضاهم على رضى الله، وأن العقوبة قد تكون في الدين كقوله: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ} 1 الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية : 77.(8/391)
ص -251- ... باب قول الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 1 (1).
وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} 2 الآية (2).
....................................................................
(1) التوكل الاعتماد والتفويض، وهو من عمل القلب، يقال: توكل بالأمر إذا ضمن القيام به، ووكلت أمري إلى فلان إذا اعتمدت عليه، أراد المصنف بالترجمة بهذه الآية بيان أن التوكل فريضة يجب إخلاصه لله؛ فإن تقديم المعمول يفيد الحصر، أي " وعلى الله فتوكلوا " لا على غيره، فهو أجمع أنواع العبادة، وأعلى مقامات التوحيد، وأعظمها وأجلها؛ لما ينشأ عنه من الأعمال الصالحة، فإنه إذا اعتمد على الله في جميع أموره الدينية والدنيوية دون كل من سواه صح إخلاصه ومعاملته مع الله، ولذلك أمر الله به في غير آية من كتابه، بل جعله شرطا في الإيمان والإسلام، كما في الآية، وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} 3، فدل على انتفاء الإيمان والإسلام بانتفائه. وقال شيخ الإسلام: وما رجا أحد مخلوقا أو توكل عليه إلا خاب ظنه فيه؛ فإنه شرك. والتوكل قسمان: أحدهما التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله، كالتوكل على الأموات والغائبين ونحوهم من الطواغيت، فهذا شرك أكبر. وأما التوكل على الأحياء الحاضرين والسلاطين ونحوهم فيما أقدرهم الله عليه، من رزق أو دفع أذى ونحو ذلك فهو نوع شرك أصغر، والمباح أن يوكل شخصا بالنيابة عنه في التصرف من أمور دنياه، فهذا جائز بالإجماع، لكن لا يقول: توكلت عليه، بل وكلته؛ فإنه ولو وكله فلا بد أن يتوكل في ذلك على الله.
(2) وجلت خافت، قال ابن عباس: المنافقون لا يدخل في قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه، ولا يؤمنون بشيء من آياته، ولا يتوكلون على الله، =(8/392)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية : 23.
2 سورة الأنفال آية : 2.
3 سورة يونس آية : 84.(8/393)
ص -252- ... وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 1 (1).
وقوله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 2 (2) .
....................................................................
= ولا يصلون إذا غابوا، ولا يؤدون زكاة أموالهم، فأخبر تعالى أنهم ليسوا بمؤمنين، ثم وصف المؤمنين فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}الآية، فأدوا فرائضه. وقال السدي: (( هو الرجل يهم يريد أن يظلم، أو قال: يهم بمعصية، فيقال له: اتق الله. فيوجل قلبه )). رواهما ابن جرير وغيره. وقوله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً}. دلت على زيادة الإيمان ونقصانه، وقد أجمع عليه أهل السنة:{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي لا يرجون غيره بل يعتمدون عليه، ويفوضون أمورهم إليه، فوصفهم –تعالى- بأعلى مقامات الإحسان وهي الخوف، وزيادة الإيمان، والتوكل على الله وحده، وهذه تقتضي كمال الإيمان، وحصول أعماله الظاهرة والباطنة.
(1) أي الله وحده كافيك وكافي أتباعك، فلا تحتاجون معه إلى أحد، ونظيرها قوله: {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} 3. فالرغبة والتوكل والحسب ونحو ذلك لله وحده، كما أن العبادة والتقوى والسجود لا يكون إلا لله وحده، وبه يظهر مطابقة الآية للترجمة، فإذا كان هو الكافي لعبده وحده، وجب أن لا يتوكل إلا عليه.
(2) أي كافيه، وقد جعل الله سبحانه لكل عمل جزاء، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته، وإذا كان الله سبحانه نفسه كافيا عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه فلا مطمع فيه لعدو، ولو توكل عليه حق توكله فكادته السماوات والأرض ومن فيهن لجعل له فرجا ومخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب، وفيها دليل على فضل التوكل وأنه أعظم الأسباب في جلب المنافع ودفع المضار،(8/394)
والتنبيه بالقيام بالأسباب مع التوكل، فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكله عجزا، ولا عجزه توكلا، بل يجعل توكله من جملة الأسباب التي لا يتم المقصود إلا بها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنفال آية : 64.
2 سورة الطلاق آية : 3.
3 سورة الأنفال آية : 62.(8/395)
ص -253- ... وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (1). قالها إبراهيم -عليه السلام- حين ألقي في النار (2)، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له الناس: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 1. رواه البخاري والنسائي (3) .
....................................................................
(1):{حَسْبُنَا اللَّهُ} أي كافينا فلا نتوكل إلا عليه، قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} 2 .{وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} أي نعم الموكول إليه أمور عباده، ونعم من توكل عليه المتوكلون، كما قال: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} 3. ومخصوص نعم محذوف، تقديره: نعم الوكيل الله، فهو سبحانه حسب من توكل عليه، وكافي من لجأ إليه.
(2) وفي رواية: "كان آخر قول إبراهيم حين ألقي في النار: حسبنا الله ونعم الوكيل ". رواه البخاري. وذلك لما دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فأبوا، فكسر أصنامهم، فجمعوا له حطبا، وأضرموا له نارا، ورموه بالمنجنيق،{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} 4 ، فعارضه جبرائيل في الهوى، فقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا،: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}، فقال الله: {كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ} 5 .
(3) وذلك بعد منصرف قريش والأحزاب من أحد، فمر بهم ركب من عبد القيس فقالوا: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينة. قالوا: هل أنتم مبلغون عنا محمدا رسالة؟ قالوا: نعم. قالوا: فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم، فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو =(8/396)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية : 173.
2 سورة الزمر آية : 36.
3 سورة الحج آية : 78.
4 سورة الأنبياء آية : 68.
5 سورة الانبياء آية : 69-70.(8/397)
ص -254- ... .............................................................................................
= بحمراء الأسد، خارجا لقتالهم في سبعين راكبا، منهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير وسعد وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وأبو عبيدة -لما بلغه أن أبا سفيان ومن معه قد أجمعوا الكرة عليهم- فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه، فقال: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} 1، ورد الله كيد أبي سفيان، وألقى الرعب في قلبه، فرجع إلى مكة. وفي الحديث: " إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل ". فهي كلمة التفويض والاعتماد، والكلمة التي شرع أن تقال عند الكروب والشدائد. وفيه أن التوكل أعظم الأسباب في حصول الخير، ودفع الشر في الدنيا والآخرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية : 173-174.(8/398)
ص -255- ... باب قول الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} 1 (1) .
....................................................................
(1) أراد المصنف بالترجمة بهذه الآية التنبيه على أن الأمن من مكر الله من أعظم الذنوب، وأنه ينافي التوحيد، كما أن القنوط من رحمة الله كذلك، وذلك يرشد إلى أن المؤمن يسير إلى الله بين الخوف والرجاء، كما دل عليه الكتاب والسنة، وأجمع عليه سلف الأمة، فلا يغلب جانب الرجاء فيأمن مكر الله، ولا يغلب جانب الخوف فييأس من روح الله. قال بعض السلف: (( من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن )). قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} 2 ومعنى الآية أن الله تعالى لما ذكر حال أهل القرى المكذبين للرسل، بين أن الذي حملهم على ذلك هو الأمن من مكر الله، وعدم الخوف منه، وذلك أنهم أمنوا مكر الله لما استدرجهم بالسراء والنعم، فتمادوا في المعاصي والمخالفات، واستبعدوا أن يكون ذلك مكرا. وفي الحديث: " إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج "3. رواه أحمد وغيره. وقال الحسن: (( من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له )). وفسر السلف المكر باستدراج الله العبد بالنعم إذا عصى، وإملائه له حتى يأخذه أخذ عزيز مقتدر. قال المصنف: (( مكر الله هو أنه إذا عصاه وأغضبه أنعم عليه بأشياء يظن أنها من رضاه عليه )) ا هـ. وخوف العبد ينشأ من أمور: معرفته بالجناية وقبحها، وتصديق الوعيد وأن الله رتب على المعصية عقوبتها، وكونه لا يعلم لعله يمنع من التوبة ويحال بينه وبينها إذا ارتكب الذنب،(8/399)
وبهذه الثلاثة يتم له الخوف، وقوته بحسب قوتها وضعفها، وذلك قبل الذنب، فإذا عمله كان خوفه أشد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 99.
2 سورة الإسراء آية : 57.
3 البخاري : التوحيد (7423) , وأحمد (2/335 ,2/339).(8/400)
ص -256- ... وقوله: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} 1 (1).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " سئل عن الكبائر فقال: الإشراك بالله، واليأس من روح الله (2)،
....................................................................
(1) القنوط استبعاد الفرَج، واليأس منه -والفرق بينهما لطيف- وسوء الظن بالله، وهو يقابل الأمن من مكر الله، وكلاهما ذنب عظيم منافيان لكمال التوحيد، ذكرهما المصنف تنبيها على أنه لا يجوز لمن خاف الله أن يقنط من رحمته، بل يكون خائفا راجيا، يخاف ذنبه ويعمل بطاعة الله ويرجو رحمة ربه، كما قال تعالى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} 2. وقال: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} 3. ومعنى الآية أن الله لما بشر إبراهيم بإسحق استبعد ذلك على كبر سنه، فقالت له الملائكة: {بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ} الذي لا ريب فيه،: {فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} 4 أي الآيسين. فقال:{وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ} 5. فإنه يعلم من قدرة الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك وأعظم، لكنه قال ذلك على وجه التعجب، والضالون المخطئون طريق الصواب، أو الكافرون، كقوله:{إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} 6. وفي الترمذي وغيره مرفوعا: " العاجز الراجي لرحمة الله أقرب منها من العابد القنط ". وقال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} 7 الآية. وقال الشيخ: (( القنوط بأن يعتقد بأن الله لا يغفر له إما بكونه إذا تاب لا يقبل توبته، وإما أن يقول: نفسه لا تطاوعه على التوبة بل هو مغلوب معها، فهو ييأس من توبة نفسه )).
(2) أي قطع الرجاء والأمل من الله،(8/401)
فيما يرومه ويقصده ويخافه ويرجوه، قال تعالى: {وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} وذلك إساءة ظن بالله، وجهل بسعة رحمته وجوده ومغفرته، والإشراك بالله في ربوبيته أو عبادته هو أكبر الكبائر بالإجماع، ولهذا بدأ به، وقد تقدم في غير موضع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحجر آية : 56.
2 سورة الإسراء آية : 57.
3 سورة الزمر آية : 9.
4 سورة الحجر آية : 55.
5 سورة الحجر آية : 56.
6 سورة يوسف آية : 87.
7 سورة الزمر آية : 53.(8/402)
ص -257- ... والأمن من مكر الله (1)" .
وعن ابن عباس قال: " أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله (2)، واليأس من روح الله ". رواه عبد الرزاق (3).
....................................................................
(1) أي من استدراجه للعبد، أو سلبه ما أعطاه من الإيمان، وذلك جهل بالله وبقدرته، وثقة بالنفس وعجب بها، وهذا الحديث رواه البزار وابن أبي حاتم ورجاله ثقات، إلا أن في سنده شبيب بن بشر لينه أبو حاتم، ووثقه ابن معين. وقال ابن كثير: (( في إسناده نظر والأشبه أن يكون موقوفا )).
(2) قال أبو السعادات: (( القنوط هو أشد اليأس، وفي التنبيه على الرجاء والخوف، فإذا خاف فلا يقنط، ولا ييأس بل يرجو رحمة الله، فينبغي له عند استكمال العافية والنعم أن يرجح جانب الخوف؛ فإنه إذا غلب الرجاء الخوف فسد القلب، وعند المصائب والموت يغلب جانب الرجاء، ويحسن الظن بالله عز وجل )) .
(3) هو ابن همام بن نافع الحميرى مولاهم، أبو بكر الصنعاني الحافظ، المصنف الشهير، سئل أحمد: أرأيت أحدا أحسن حديثا من عبد الرزاق؟ قال: لا. روى عن أبيه وعمه وهب ومعمر وغيرهم، وعنه ابن عيينة ومعتمر وهما من شيوخه، وأحمد وإسحاق وخلق، ولد سنة 126هـ، ومات ببغداد سنة 211هـ. ورواه أيضا ابن جرير بأسانيد صحاح، ولا يظن أن الكبائر محصورة في هذين الحديثين فقط، فقد تقدم حديث: " اجتنبوا السبع الموبقات "1. وقول ابن عباس: (( هن إلى السبعين أقرب منهن إلى السبع )). وفي رواية: (( إلى السبعمائة )). وقد عرفوها بما فيه حد في الدنيا، أو وعيد في الآخرة، أو نفي إيمان، أو لعن أو غضب أو عذاب، ومن برئ منه الرسول صلى الله عليه وسلم ، أو قال: "ليس منا". وما سوى ذلك صغائر، وليس المراد ليتهاون بها، بل كل المعاصي يجب اجتنابها، فكم من صغيرة عادت كبيرة.(8/403)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : تفسير القرآن (4477 ,4761) والأدب (6001) والحدود (6811) والديات (6861) والتوحيد (7520 ,7532) , ومسلم : الإيمان (86) , والترمذي : تفسير القرآن (3182 ,3183) , والنسائي : تحريم الدم (4013 ,4014 ,4015) , وأبو داود : الطلاق (2310) , وأحمد (1/380 ,1/431 ,1/434 ,1/462 ,1/464 ).(8/404)
ص -258- ... باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله (1)
وقول الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}1 (2).
....................................................................
(1) أراد المصنف -رحمه الله- بيان وجوب الصبر على الأقدار وبيان فضله، وتحريم ضده المنقص لكمال التوحيد، والإيمان عند أهل السنة: نطق باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان يزيد وينقص. والصبر في اللغة الحبس والكف، ومنه: قتل فلان صبرا، إذا أمسك وحبس، ومنه: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} 2 أي احبس نفسك معهم. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والصبر ضياء". ولهما: " ما أعطى أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر "3. وقال علي: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ثم رفع صوته وقال: أما إنه لا إيمان لمن لا صبر له. قال أحمد: ذكره الله في تسعين موضعا من كتابه، وهو حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي والتسخط، والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحوهما، وينقسم إلى ثلاثة أقسام: صبر على ما أمر الله به، وصبر عما نهى الله عنه، وصبر على ما قدره الله من المصائب، وهو واجب بالإجماع.
(2) أول الآية: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} أي بقدره ومشيئته وإرادته الكونية القدرية، وحكمته التامة، كقوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} 4 الآية.{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} أي من أصابته مصيبة فعلم أنها من قدر الله فصبر واحتسب، واستسلم لقضاء الله، هدى الله قلبه، وعوضه عما فاته من الدنيا هدى في قلبه ويقينا صادقا، وقد يخلف عليه ما كان أخذ منه، أو خيرا منه، كما قال:{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ(8/405)
رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التغابن آية : 11.
2 سورة الكهف آية : 28.
3 البخاري : الزكاة (1469) , ومسلم : الزكاة (1053) , والترمذي : البر والصلة (2024) , والنسائي : الزكاة (2588) , وأبو داود : الزكاة (1644) , وأحمد (3/93) , ومالك : الجامع (1880) , والدارمي : الزكاة (1646).
4 سورة الحديد آية : 22.(8/406)
ص -259- ... قال علقمة: (( هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم )) (1)
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اثنتان في الناس هما بهم كفر (2):
....................................................................
وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}1. وفي الحديث الصحيح: " عجبا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن "2. وقوله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 3 تنبيه على أن ذلك إنما يصدر عن علمه المتضمن لحكمته، وذلك يوجب الصبر والرضى.
(1) هذا الأثر رواه الأعمش عن ابن ظبيان قال: كنا عند علقمة، فقرئ عليه هذه الآية: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ}إلى آخرها، وهذا سياق ابن جرير، وقد رواه ابن أبي حاتم، وصححه الشارح، وروي أيضا عن ابن مسعود، وهذا التفسير منهم للإيمان المذكور في الآية باللازم؛ إذ هو لازم للإيمان الراسخ في القلب، وفيه دليل على أن الأعمال من مسمى الإيمان، وفيها بيان أن الصبر سبب لهداية القلوب، وأنها من ثواب الصابر. وقال سعيد بن جبير: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} 4 يعني يسترجع يقول: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} 5. وعلقمة: هو ابن قيس بن عبد الله بن علقمة ابن سلامان بن كهل بن بكر بن عوف، ويقال: ابن المنتشر بن النخع الكوفي، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، وسمع من أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم، وهو من كبار التابعين وعلمائهم وثقاتهم، مات بعد الستين وله تسعون.
(2) "هما" أي الإثنتان، بالناس أي فيهم، "كفر" حيث كانتا من أعمال الجاهلية هما قائمتان بالناس، ولا يسلم منهما إلا من سلمه الله، فأطلق الكفر على من قامت به خصلة من هاتين الخصلتين، لكن ليس من قامت به شعبة من شعب الكفر يصير =(8/407)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 155-157.
2 مسلم : الزهد والرقائق (2999) , وأحمد (4/332 ,4/333 ,6/15 ,6/16) , والدارمي : الرقاق (2777).
3 سورة البقرة آية : 282.
4 سورة التغابن آية : 11.
5 سورة البقرة آية : 156.(8/408)
ص -260- ... الطعن فى النسب (1)، والنياحة على الميت (2) "1 .
ولهما عن ابن مسعود مرفوعا: " ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب (3)،
....................................................................
=كافرا الكفر المطلق، حتى يقوم به حقيقة الكفر، كما أنه ليس من قامت به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمنا الإيمان المطلق، حتى يقوم به أصل الإيمان. وفرق بين الكفر المعرف بأل وذلك المخرج من الملة، كما في قوله: " ليس بين العبد وبين الكفر والشرك إلا ترك الصلاة "2، وبين الكفر المنكر في الإثبات فذلك يقتضي التشديد والتهويل والزجر.
(1) أي عيبه، ويدخل فيه أن يقال: ليس هذا ابن فلان مع ثبوت نسبه، أو ليس بنو فلان من بني فلان مع انتسابهم إليهم، وهذا مع عدم وجود دلائل ظاهرة، أو حكم شرعي بنفيه، فلا يجوز الطعن بمستور النسب ومجهوله، فإن الناس مأمونون على أنسابهم. أما إذا كان ذلك لبيان النسب وإثباته وترجيعه إلى أصله فهذا لا يدخل في هذا الوعيد.
(2) أي رفع الصوت بالندب وتعداد فضائل الميت ومحاسنه، والتوجع والتفجع؛ لما فيه من التسخط على قدر الله المنافي للصبر، كقول النائحة: واعضداه واناصراه. ونحو ذلك، والشاهد فيه تحريم الجزع المنافي لكمال التوحيد، وفيه دليل على وجوب الصبر، وأن من الكفر ما لا ينقل عن الملة.
(3) هذا من نصوص الوعيد، وقد كره السلف تأويلها؛ ليكون أوقع في النفوس، وأبلغ في الزجر، وهو يدل على أن ذلك ينافي كمال الإيمان الواجب، وخص الخد لكونه في الغالب، وإلا فضرب بقية الوجه مثله، والجيوب جمع جيب، وهو الذي يدخل فيه الرأس من الثوب، وشقها تمزيقها جزعا على الميت، وذلك من عادة أهل الجاهلية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الإيمان (67) , وأحمد (2/377 ,2/441 ,2/496).
2 مسلم : الإيمان (82) , والنسائي : الصلاة (464).(8/409)
ص -261- ... ودعى بدعوى الجاهلية(1) "1. وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا (2)،
....................................................................
(1) قال شيخ الإسلام: هو ندب الميت. وقال غيره: هو الدعاء بالويل والثبور. وقال ابن القيم: الدعاء بدعوى الجاهلية كالدعاء إلى القبائل والعصبية، ومثله التعصب إلى المذاهب والطوائف والمشائخ، وتفضيل بعضهم على بعض، يدعو إلى ذلك ويوالي عليه، وعن أبي أمامة أنه -عليه الصلاة والسلام- لعن الخامشة وجهها، والشاقة جيبها، والداعية بالويل والثبور. رواه ابن ماجه، وصححه ابن حبان، وهذه الأمور من الكبائر؛ لما اشتملت عليه من التسخط على الرب جل وعلا، وقد يعفى عن اليسير منها إذا لم يكن على وجه النوح والتسخط، نص عليه أحمد. " ولما دخل أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته وضع فمه بين عينيه، ويده على صدغيه، وقال: وانبياه واخليلاه واصفياه ". رواه أحمد. وصح عن فاطمة أنها قالت: " يا أبتاه أجاب ربا دعاه "2 الحديث. والحديث لا يدل على البكاء أصلا، وإنما يدل على النهي عما ذكر فيه، وعلى البكاء برنة، وحلق شعر، وخمش وجه، ونحو ذلك. وأما البكاء على وجه الرحمة والرأفة ونحو ذلك فحسن مستحب، لا ينافي الرضى بقضاء الله، بخلاف البكاء عليه لفوات حظه منه، ولما مات إبراهيم قال صلى الله عليه وسلم : " تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون "3 .
(2) أي صب عليه المصائب والبلاء صبا؛ لما فرط من الذنوب منه، فيخرج منها وليست عليه ذنب يوافي به يوم القيامة. وفي الصحيح: " ولا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة "4. فالمصائب نعمة؛ لأنها تكفر الذنوب، وتدعو إلى الصبر، فيثاب عليها، وتقتضي الإنابة إلى الله والذل له، والإعراض =(8/410)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الجنائز (1297) , ومسلم : الإيمان (103) , والترمذي : الجنائز (999), والنسائي : الجنائز (1860 ,1862 ,1864) , وابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1584) , وأحمد (1/386 ,1/432 ,1/442 ,1/456 ,1/465).
2 البخاري : المغازي (4462) , وابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1630) , والدارمي : المقدمة (87).
3 البخاري : الجنائز (1303) , ومسلم : الفضائل (2315) , وأبو داود : الجنائز (3126) , وأحمد (3/194).
4 الترمذي : الزهد (2398) , وابن ماجه : الفتن (4023) , وأحمد (1/172 ,1/173 ,1/180 ,1/185) , والدارمي : الرقاق (2783).(8/411)
ص -262- ... وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي (1) به يوم القيامة "1 .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوما ابتلاهم (2)،
....................................................................
= عن الخلق، إلى غير ذلك من المصالح، إلا أن يدخل صاحبها بسببها في معاص أعظم مما كان قبل ذلك، فتكون شرا عليه من جهة ما أصابه في دينه، فهذا العافية خير له من جهة ما أورثته المصيبة، لا من جهة نفس المصيبة.
(2) يوافي بضم الياء وكسر الفا، منصوب بحتى، أي لا يجازي بذنبه في الدنيا، بل يؤخر عنه العقوبة، حتى يجيء في الآخرة مستوفي الذنوب وافيها، فيستوفي ما يستحقه من العذاب، وهذا مما يزهد العبد في الصحة الدائمة، خوفا أن تكون طيباته عجلت له في الحياة الدنيا، وفيه أن البلاء للمؤمن من علامات الخير، والخوف من الصحة الدائمة خشية أن تكون علامة شر، والتنبيه على رجاء الله، وحسن الظن به فيما يقضيه لك مما تكره، وهذه الجملة هي آخر الحديث. ورواه الترمذي وحسنه والحاكم والطبراني، والحاكم أيضا عن عبد الله بن مغفل، وابن عدي عن أبي هريرة، ولما روى الترمذي هذا الحديث والذي بعده بإسناد واحد وصحابي واحد، وكان معناهما واحدا، ساقهما المصنف كالحديث الواحد.
(2) بكسر العين وفتح الظاء فيهما، ويجوز ضمها مع سكون الظاء، أي من كان ابتلاؤه أعظم كمية وكيفية كان ثوابه أعظم وفضله أجزل، فإذا صبر واحتسب فإنه حينئذ يثاب على ما تولد منها، ورجح ابن القيم أن ثوابها تكفير الخطايا فقط، إلا إذا كانت سببا لعمل صالح كالصبر والرضى والتوبة والاستغفار فإنه حينئذ يثاب على ما تولد منها.
(3) هذا صريح في حصول الابتلاء لمن أحبه الله، ولهذا ورد في حديث سعد: " أي الناس أشد بلاء؟ قال: "الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على قدر دينه، =(8/412)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : الزهد (2396).(8/413)
ص -263- ... فمن رضي فله الرضي (1)، ومن سخط فله السخط "1. حسنه الترمذي (2) .
....................................................................
= فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة "2. وهذا ونحوه من أدلة التوحيد، فإذا عرف العبد أن الأنبياء والأولياء يصيبهم البلاء في نفوسهم، الذي هو في الحقيقة رحمة، ولا يدفعه عنهم إلا الله، عرف أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا دفعا، فلأن لا يكون لغيرهم أولى وأحرى، وفي أثر إلهي: "أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعائب".
(1) أي من رضي بما قضاه الله وقدره عليه من الابتلاء، فله الرضى من الله جزاء وفاقا، والرضى قد وصف الله به نفسه في مواضع من كتابه، ومذهب السلف إثبات الصفات التي وصف الله بها نفسه، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يليق بجلاله وعظمته، فإذا رضي الله عنه حصل له كل خير، وسلم من كل شر، والرضى هو أن يسلم العبد أمره إلى الله، ويحسن الظن به، ويرغب في ثوابه.
(2) سخط بكسر الخاء وهو الكراهية للشيء، وعدم الرضى به، أي من سخط على الله فيما دبره، فله السخط من الله، وكفى بذلك عقوبة. وعن محمود ابن لبيد مرفوعا: " إذا أحب الله قوما ابتلاهم فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع "3. وقال المنذري: رواته ثقات. وقد يستدل به على وجوب الرضى، واختار الشيخ وغيره عدم الوجوب، وقال: لم يجئ الأمر به كما جاء الأمر بالصبر، وإنما جاء الثناء على أصحابه، وأعلى من الرضى أن يشكر الله على المصيبة، لما يرى من إنعام الله عليه بها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : الزهد (2396).
2 الترمذي : الزهد (2398) , وابن ماجه : الفتن (4023) , وأحمد (1/173 ,1/180 ,1/185) , والدارمي : الرقاق (2783).
3 أحمد (5/427).(8/414)
ص -264- ... باب ما جاء في الرياء
وقول الله تعال: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 1 الآية.
....................................................................
(1) أي من النهي والتحذير عنه، وبيان أنه من الشرك الأصغر، ما لم يرد في أصل العمل وإلا كان من الأكبر، ولما كان خلوص العمل من الشرك والرياء شرطا في قبوله، لمنافاة الشرك والرياء للتوحيد، نبه عليه المصنف تحقيقا للتوحيد. والرياء مصدر راءى يرائي مراءاة ورياء، وهو أن يري الناس أنه يعمل عملا على صفة، وهو يضمر في قلبه صفة أخرى، فهو مستحق للذم والعقاب، ولا ثواب له إلا فيما خلصت فيه النية لله تعالى. وقال الحافظ: (( الرياء إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمدونه عليها )) ا هـ. والفرق بينه وبين السمعة، أن الرياء لما يرى من العمل كالصلاة والصدقة، والسمعة لما يسمع كالقراءة والوعظ والذكر، ويدخل في ذلك التحدث به. وهذه الترجمة والتي بعدها في الشرك في النية، وهو البحر الذي لا ساحل له، وقل من ينجو منه، فمن أراد بعمله غير وجه الله، أو نوى شيئا غير التقرب إلى الله وطلب الجزاء منه فقد أشرك في نيته وإرادته، والإخلاص أن يخلص لله في أقواله وأفعاله وإراداته ونياته.
(2) أي (قل) يا محمد: {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} فليس لي من الربوبية ولا من الإلهية شيء، بل ذلك لله وحده لا شريك له، أوحي إلي أن توحدوه: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} يخاف المصير إليه، ويأمل لقاء الله ورؤيته. وقال شيخ الإسلام: (( فسره طائفة من السلف والخلف بما يتضمن المعاينة، وقالوا: لقاء الله يتضمن رؤيته سبحانه يوم القيامة )) ا هـ. وفسر اللقاء بالمعاينة؛ فإنه تعالى أجل وأعظم من أن تحيط به =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الكهف آية : 110.(8/415)
ص -265- ... وعن أبي هريرة مرفوعا: " قال الله تعالى: أنا أغني الشركاء عن الشرك (1)، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه "1. رواه مسلم (2) .
....................................................................
= الأبصار: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} 2 وهو ما كان موافقا لشرع الله، مقصودا به وجهه،: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} أن لا يرائي بعمله، بل لا بد أن يريد به وجه الله وحده لا شريك له، وهذان ركنا العمل المتقبل، أن يكون خالصا لله، وأن يكون صوابا على شريعة رسوله صلى الله عليه وسلم . قال ابن القيم: أي كما أنه إله واحد لا إله إلا هو، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده لا شريك له، فكما تفرد بالإلهية يجب أن يتفرد بالعبودية، فالعمل الصالح هو الخالص من الرياء، المقيد بالسنة. و(أحدا) نكرة في سياق النهي فتعم، والآية دليل على أن أصل الدين الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم هو إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، وتضمنت النهي عن الشرك كله قليله وكثيره صغيره وكبيره.
(1) أي أنا أغنى عن المشاركة، وذلك أنه لما كان المرائي قاصدا بعمله الله وغيره، كان قد جعل لله شريكا، فإذا كان كذلك فالله هو الغني على الإطلاق، وجميع الخلق فقراء إليه بكل اعتبار، فلا يليق بكرمه وغناه التام أن يقبل العمل الذي جعل له فيه شريك؛ فإن كماله وكرمه وغناه يوجب أن لا يقبل ذلك، وأخرج أحمد وغيره من حديث شداد بن أوس: " من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك، وإن الله يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي، فمن أشرك بي شيئا فإن جدة عمله وقليله وغيره لشريكه الذي أشرك به، أنا عنه غني "3 .
(2) أي من قصد بعمله غيري من المخلوقين تركته وشركه، وفي بعض الأصول وشريكه، وبعضها وشركته. ولابن ماجه: " فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك " 4 أي =(8/416)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الزهد والرقائق (2985) , وابن ماجه : الزهد (4202) , وأحمد (2/301 ,2/435).
2 سورة الكهف آية : 110.
3 أحمد (4/125).
4 ابن ماجه : الزهد (4202) , وأحمد (2/301 ,2/435).(8/417)
ص -266- ... ............................................................................................
= فمن عمل شيئا لي ولغيري لم أقبله، بل أتركه لذلك الغير، فعمل المرائي باطل لا ثواب له، ويأثم به. والضمير في "تركته" يجوز أن يرجع إلى العمل. قال ابن رجب: (( العمل لغير الله أقسام: فتارة يكون رياء محضا كحال المنافقين، قال تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} 1 وهذا الرياء المحض لا بكاد يصدر عن مؤمن في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة أو الحج أو غيرهما من الأعمال الظاهرة، أو التي يتعدى نفعها، فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة، وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه، وإن كان أصله لله ثم طرأ عليه نية الرياء، فإن كان خاطرا ثم دفعه فلا يضره بغير خلاف، وإن استرسل معه فهل يحبط عمله أولا؟ فيجازى على أصل نيته، فيه خلاف، رجح أحمد وغيره لا يبطل بذلك، وأنه يجازى بنيته الأولى )) ا هـ. ولا يظن الظان أنه يكتفي فيه بحبوط عمله فلا له ولا عليه، قال الشيخ: بل هو مستحق للذم والعقاب، وقد دل الكتاب والسنة على حبوط العمل بالرياء، وجاء الوعيد عليه، وأما إذا عمل العمل لله خالصا، ثم ألقى الله الثناء الحسن في قلوب المؤمنين، ففرح بفضل الله ورحمته واستبشر بذلك لم يضره، وفي حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس عليه، فقال: " تلك عاجل بشرى المؤمن "2 رواه مسلم. وفي حديث أبي هريرة: يدخل علي الرجل في بيتي وأنا أصلي فيسرني ذلك، فقال: " يرحمك الله، لك أجران: أجر السر وأجر العلانية "3؛ لأنه لم يقصد رؤية أحد عند الشروع، ولا قام بقلبه أن يراه أحد.(8/418)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية : 142.
2 مسلم : البر والصلة والآداب (2642) , وابن ماجه : الزهد (4225) , وأحمد (5/156 ,5/168).
3 ابن ماجه : الزهد (4226).(8/419)
ص -267- ... وعن أبي سعيد مرفوعا: " ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ (1) قالوا: بلى يا رسول الله; قال: الشرك الخفي (2).
....................................................................
(1) "أخوف" اسم تفضيل مبني على زيادته على غيره في أصل الفعل، أي أشد خوف خافه صلى الله عليه وسلم على أصحابه أكثر مما خافه عليهم من فتنة المسيح الدجال؛ لخفائه وقوة الداعي إليه، وعسر التخلص منه، لما يزينه الشيطان والنفس الأمارة في قلب صاحبه.
(2) سماه خفيا؛ لأنه عمل قلب لا يعلمه إلا الله، ولأن صاحبه يظهر أن عمله لله، وقد قصد به غيره، أو شركه فيه بتزيين صلاته لأجله. وعن شداد بن أوس قال: " كنا نعد الرياء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر ". رواه ابن جرير وغيره، وصححه الحاكم. قال ابن القيم: وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء، والتصنع للخلق، والحلف بغير الله، وقول الرجل: ما شاء الله وشئت، وهذا من الله ومنك، وما لي إلا الله وأنت، وأنا متوكل على الله وعليك، ولولا الله وأنت لم يكن كذا وكذا، وقد يكون هذا أكبر بحسب حال قائله ومقصده، ولا خلاف أن الإخلاص شرط لصحة العمل وقبوله، وكذا المتابعة كما قال الفضيل في قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 1 قال: (( أخلصه وأصوبه، فإن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا، والخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة )). وقوله: بلى، فيه الحرص على العلم، وأن من عرض عليك أن يخبرك بما فيك فلا ينبغي لك رده، بل قابله بالقبول والتعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة هود آية : 7.(8/420)
ص -268- ... يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل "1. رواه أحمد (1) .
....................................................................
(1) ورواه ابن ماجه وابن أبي حاتم والبيهقي وغيرهم، وفيه قصة، ولفظ ابن ماجه: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر المسيح الدجال، فقال: "ألا أخبركم" الحديث. وفسر صلى الله عليه وسلم ما خافه على أصحابه بتزيين صلاة الرجل لأجل الناظر إليه، وسماه أيضا شرك السرائر، وحذرهم منه فيما رواه ابن خزيمة في صحيحه عن محمود بن لبيد قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إياكم وشرك السرائر، قالوا: يا رسول الله وما شرك السرائر؟ قال: يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه، فذلك شرك السرائر ". وفيه شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ونصحه لهم، وأن الرياء أخوف على الصالحين من فتنة الدجال، وإذا كان يخافه على سادات الأولياء مع قوة إيمانهم وعلمهم، فغيرهم ممن هو دونهم بأضعاف أولى بالخوف من الشرك أكبره وأصغره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجه : الزهد (4204) , وأحمد (3/30).(8/421)
ص -269- ... باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا (1)
وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} 1 الآيتين (2) .
....................................................................
(1) أراد المصنف -رحمه الله- بهذه الترجمة وما بعدها أن العمل لأجل الدنيا شرك، ينافي كمال التوحيد الواجب، ويحبط الأعمال، وهو أعظم من الرياء؛ لأن مريد الدنيا قد تغلب إرادته تلك على كثير من عمله، وأما الرياء فقد يعرض له في عمل دون عمل، ولا يسترسل معه، فإن قيل: فما الفرق بين هذه الترجمة وبين ترجمة الباب قبله؟ قيل: بينهما عموم وخصوص مطلق، يجتمعان في مادة، وهو ما إذا أراد الإنسان بعمله التزين عند الناس، والتصنع لهم والثناء، فهذا رياء، وهو أيضا إرادة الدنيا بالتصنع عند الناس، وطلب المدحة منهم والإكرام، ويفارق الرياء لكونه عمل عملا صالحا أراد به عرضا من الدنيا، كمن يجاهد ليأخذ مالا، أو يجاهد للمغنم، أو غير ذلك، ولهذا سماه عبدا لذلك، بخلاف المرائي؛ فإنه إنما يعمل ليراه الناس ويعظموه، والذي يعمل لأجل الدراهم أعقل من المرائي، وكلاهما خاسر، نعوذ بالله من موجبات غضبه.
(2) قال ابن عباس: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}أي ثوابها:{ وَزِينَتَهَا}أي مالها: {نُوَفِّ}أي نوفر لهم ثواب:{أَعْمَالَهُمْ}بالصحة والسرور في المال والأهل والولد،: {وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ} لا ينقصون {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ} 2؛ لأنهم لم يعملوا إلا للحياة الدنيا وزينتها:{وَحَبِطَ} في الآخرة: {مَا صَنَعُوا} فيها، فلم يكن لهم ثواب؛ لأنهم لم يريدوا به الآخرة، إنما أرادوا به الدنيا، وقد وفي إليهم ما أرادوا {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: 3 أي كان عملهم في نفسه باطلا؛ لأنه =(8/422)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة هود آية : 15.(8/423)
ص -270- ... ............................................................................................
= لم يعمل لوجه صحيح، والعمل الباطل لا ثواب له، قيل: ثم نسختها: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} 1 الآية يعني قيدتها، فلم تبق الآية على إطلاقها. وقال الضحاك: من عمل صالحا من أهل الإيمان من غير تقوى عجل له ثواب عمله في الدنيا. ورجحه ابن القيم. وقال قتادة: يقول تعالى: (( من كانت الدنيا همه وطلبته ونيته، جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء، وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة )). وثبت من حديث أبي هريرة: " إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب. قال فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة له: كذبت، ويقول الله له: بل أردت أن يقال: فلان قارئ فقد قيل ذلك. وذكر صاحب المال وأن الله يقول له: بل أردت أن يقال: فلان جواد. وذكر المجاهد وأن الله يقول له: بل أردت أن يقال: فلان جريء فقد قيل ذلك. ثم قال: يا أبا هريرة أولئك أول من تسعر بهم النار يوم القيامة. وهؤلاء لهم أعمال، لكن لم يريدوا بها وجه الله، ولما سئل عنه كاد يغشى عليه خوفا، وكذا معاوية لما سمعه، وقال: صدق الله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} الآية "2 .
وسئل المصنف -رحمه الله- عن هذه الآية فقال: ذكر عن السلف فيها أنواع مما يفعله الناس اليوم، ولا يعرفون معناه، فمن ذلك العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله، من صلاة وصدقة وصلة وإحسان وترك ظلم ونحو ذلك، مما يفعله الإنسان أو يتركه خالصا لله، لكن لا يريد به ثواب الآخرة،(8/424)
إنما يريد أن يجازيه الله بحفظ ماله وتنميته أو حفظ أهله وعياله، أو إدامة النعمة عليهم، ولا هم له في طلب الجنة والهرب من النار، فهذا قد يعطى ثواب عمله في الدنيا، وليس له في الآخرة من نصيب، وهذا النوع ذكره ابن =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الإسراء آية : 18.
2 مسلم : الإمارة (1905) , والترمذي : الزهد (2382) , والنسائي : الجهاد (3137) , وأحمد (2/321).(8/425)
ص -271- ... في الصحيح (1) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تعس عبد الدينار (2)،
....................................................................
= عباس .
(النوع الثاني) وهو أكبر من الأول وأخوف، وهو الذي ذكر مجاهد في الآية أنها نزلت فيه، وهو أن يعمل أعمالا صالحة ونيته رئاء الناس، لا طلب ثواب الآخرة .
(النوع الثالث) أن يعمل أعمالا صالحة يقصد بها مالا، مثل أن يحج لمال يأخذه، أو يهاجر لدنيا يصيبها، أو يجاهد لأجل المغنم، فقد ذكر أيضا هذا النوع في تفسير هذه الآية، وكما يتعلم الرجل لأجل مدرسة أهله أو رياستهم، أو يتعلم القرآن ويواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد كما هو واقع كثيرا.
(النوع الرابع) أن يعمل بطاعة الله مخلصا في ذلك، لكنه على عمل يكفره كفرا يخرجه عن الإسلام، مثل اليهود والنصارى وكثير من هذه الأمة، إذا أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله، لكنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام، وتمنع قبول أعمالهم، فهذا النوع أيضا قد ذكر في هذه الآية عن أنس وغيره، وكان السلف يخافون منها، قال بعضهم: لو أعلم أن الله تقبل مني سجدة لتمنيت الموت؛ لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} 1. بقي أن يقال: إذا عمل الرجل الصلاة والزكاة والصوم والحج ابتغاء وجه الله، طالبا ثواب الآخرة، ثم بعد ذلك عمل أعمالا صالحة قاصدا بها الدنيا، مثل أن يحج فرضه ثم يحج بعده لأجل الدنيا، كما هو واقع فهو لما غلب عليه منهما. وقد قال بعضهم: القرآن كثيرا ما يذكر أهل الجنة الخلص، وأهل النار الخلص، ويسكت عن صاحب الشائبتين، وهو هذا والله أعلم.
(1) أي صحيح البخاري في الجهاد بلفظ: " تعس عبد الدنيا والدرهم والخميصة والخميلة "2 . وفي رواية: "والقطيفة" الخ وبعضه في الرقاق.
(2) تعس بكسر العين ويجوز الفتح، أي سقط. وقال الحافظ: والمراد هنا هلك، وقال: وهو ضد سعد(8/426)
أي شقي. وفي النهاية: (( يقال تعس يتعس إذا عثر =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية : 27.
2 البخاري : الرقاق (6435) , وابن ماجه : الزهد (4136).(8/427)
ص -272- ... تعس عبد الدرهم (1)، تعس عبد الخميصة (2)، تعس عبد الخميلة (3)، إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط (4)، تعس وانتكس (5) " ،
....................................................................
= وانكب لوجهه )) ا هـ. فتعس دعاء عليه بالهلاك، وقيل: التعس الشر، ومنه قوله: {فَتَعْساً لَهُمْ}أراد إلزامهم الشر. وقيل: البعد. وعبد الدينار طالبه الحريص على جمعه، القائم على حفظه، لا يرضى ولا يغضب ولا يحب ولا يبغض إلا لأجله، سماه عبدا له لشدة شغفه وحرصه عليه، ولكونه هو المقصود بعمله، وكل من توجه بقصده لغير الله فقد جعله شريكا له في عبوديته، وخص العبد بالذكر دون المالك والجامع إيذانا بانغماسه في محبة الدنيا وشهواتها، كالأسير الذي لا يجد خلاصا، والدينار مثقال معروف من الذهب، مضروب من المعاملات القديمة، قيل: أصله فارسي، وقيل: عربي.
(1) وهو قطعة من الفضة، سميت به للمعاملة وهو ستة دوانق نصف مثقال وخمسه، ويزن المثقال اثنتين وسبعين شعيرة متوسطة.
(2) جمعها خمائص، ثوب خز أو صوف معلم، أو هو الكساء المربع له أعلام، وقيل: لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة.
(3) بفتح الخاء جمعها خمل، كل ثياب لها خمل من أي شيء كان، والطنفسة والخمل الهدب، وفي رواية: "القطيفة"، وفسرت بذلك، بدأ بعبد العين ثم بعبد العروض، فكأن المراد كل ما كان من الدنيا نقدا أو عرضا.
(4) يؤذن بشدة الحرص على ذلك، كما قال تعالى: {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} 1 فصار سخطهم ورضاهم لغير الله.
قال الحافظ: (( أي عاوده المرض )). وفي النهاية: (( انقلب على رأسه، وهو دعاء عليه بالخيبة )). قال الطيبي: (( فيه الترقي بالدعاء عليه؛ لأنه إذا تعس انكب على وجهه، وإذا انتكس انقلب على رأسه بعد أن سقط )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية : 58.(8/428)
ص -273- ... وإذا شيك فلا انتقش (1).
....................................................................
(1) أي إذا أصابته شوكة فلا يقدر على إخراجها بالمنقاش، دعاء عليه أيضا، حتى لو تصيبه الشوكة في رجله لم يجد من يأخذها بالمنقاش، لحقارته وهوانه والمراد أن من كانت هذه حاله فإنه يستحق أن يدعى عليه بما يسوءه في العواقب، وأنه يجد أثر هذه الدعوات، في الوقوع فيما يضره في العاجلة والآجلة. قال شيخ الإسلام: فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، وذكر فيه ما هو دعاء بلفظ الخبر، وهذه حال من إذا أصابه شر لم يخرج منه، ولم يفلح لكونه تعس وانتكس، فلا نال المطلوب، ولا خلص من المكروه، وهذه حال من عبد المال، وقد وصف ذلك بأنه إذا أعطي رضي، وإن منع سخط، كقوله: {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} 1 فرضاهم لغير الله، وسخطهم لغير الله، وهكذا حال من كان متعلقا منها برياسة أو بصورة، ونحو ذلك من أهواء نفسه، إن حصل له رضي، وإن لم يحصل له سخط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك، وهو رقيق له؛ إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلب واستعبده فهو عبده، وهكذا حال من طلب المال، فإن ذلك يستعبده ويسترقه، وهذه الأمور نوعان: ما يحتاج إليه العبد كطعامه وشرابه ومنكحه ومسكنه ونحو ذلك، فهذا يطلب من الله ويرغب إليه فيه، فيكون المال عنده، يستعمله في حاجته، بمنزلة حماره الذي يركبه، وبساطه الذي يجلس عليه، من غير أن يستعبده، فيكون هلوعا. وما لا يحتاج إليه العبد، فينبغي أن لا يعلق قلبه بها، فإذا تعلق قلبه بها صار مستعبدا ومعتمدا على غير الله، فلا يبقى معه حقيقة العبودية، ولا حقيقة التوكل على الله بل فيه شعبة من العبادة لغير الله، وشعبة من التوكل على غيره، وهذا أحق الناس بقوله: "تعس" الخ، فهذا هو عبد لهذه الأمور، ولو طلبها(8/429)
من الله، فإن الله إذا أعطاه إياها رضي، وإن منعه إياها سخط، وإنما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله، ويسخطه ما يسخط الله، ويحب ما يحب الله، ويبغض ما يبغض الله، فهذا الذي استكمل الإيمان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية : 58.(8/430)
ص -274- ... "طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله (1)، أشعث رأسه (2)، مغبرة قدماه (3)، إن كان في الحراسة كان في الحراسة (4)،
....................................................................
(1) طوبى اسم الجنة، وقيل شجرة فيها، لما روى أحمد من حديث أبي سعيد: " قال رجل: يا رسول الله وما طوبى؟ قال: شجرة في الجنة، مسيرة مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكامها "1. وروى ابن جرير وغيره عن وهب: أن في الجنة شجرة يقال لها طوبى، يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، وقيل: طوبى فرح وقرة عين، وقيل غبطة، وقيل حسنى، و "عنان" بكسر العين سير اللجام، لما ذكر حال من سخطه ورضاه لأطماع الدنيا، إن حصلت رضي وإن لم تحصل سخط، قاطعا النظر عن رضى الله وسخطه، حتى صار عبدا لتلك، بين حال عبد الله الصادق، الساعي في مراضي الله، والمبتعد عن مساخطه، ولو كان في ذلك مشقة النصب والتعب، فقال: "طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله" الخ أي ملازمها في جهاد المشركين، قال -عليه الصلاة والسلام-: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر فهو في سبيل الله "2 .
(2) أشعث صفة لعبد، مجرور بالفتحة؛ لأنه اسم لا ينصرف للوصف ووزن الفعل، ورأسه مرفوع على الفاعلية، أي هو ثائر الشعر، أشغله الجهاد في سبيل الله عن التنعم بالادهان وتسريح الشعر.
(3) مغبرة بالجر صفة ثانية لعبد، أي من الغبار والتراب، بخلاف المترفين المتنعمين.
(4) الحراسة بكسر الحاء، أي إن كان في حماية الجيش عن أن يهجم العدو عليهم فهو فيها، غير مقصر ولا غافل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : الفتن (2180) , وأحمد (5/218).
2 مسلم : الإيمان (50) , وأحمد (1/458 ,1/461).(8/431)
ص -275- ... وإن كان في الساقة كان في الساقة (1)، إن استأذن لم يؤذن له (2)، وإن شفع لم يشفع (3) "1.
....................................................................
(1) أي وإن كان في آخر الجيش فهو فيها، يقلب نفسه في مصالح الجهاد، فكل مقام يقوم فيه سواء كان ليلا أو نهارا، رغبة في ثواب الله، وطلبا لمرضاته، ومحبة لطاعته. قال ابن الجوزي: المعنى أنه خامل الذكر، لا يقصد السمو، فأين اتفق له السير سار، فكأنه قال: إن كان في الحراسة استمر فيها، وإن كان في الساقة استمر فيها، وإنما ذكر الحراسة والساقة؛ لأنهما أشد مشقة. وفيه فضل الحراسة في سبيل الله، وأخرج أحمد وغيره عن عثمان مرفوعا: " حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها "2 .
(2) أي إن استأذن على الأمراء ونحوهم لم يؤذن له؛ لأنه لا جاه له عندهم ولا منزلة، ولأنه ليس من طلابها، وإنما يطلب ما عند الله، لا يقصد بعمله سواه.
(3) بفتح أوله وثانيه، أي لو ألجأ الحال إلى أن يشفع في أمر يحبه الله ورسوله لم يشفع بتشديد الفاء مبني للمفعول، أي لم تقبل شفاعته عند الأمراء ونحوهم، وهذه الأمور ونحوها لا تكون لهوان المؤمن على الله، بل لكرامته، وفيه فضل الخمول والتواضع وفضل الجهاد في سبيل الله. وعن أبي هريرة أن رجلا قال: " يا رسول الله علمني عملا أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله. فقال: هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر، وتصوم فلا تفطر؟ فقال: أنا أضعف من أن أستطيع ذلك، ثم قال: أما والذي نفسي بيده لو طوقت ذلك ما بلغت فضل المجاهدين في سبيل الله؛ إن فرس المجاهد في سبيل الله ليستن في طوله، فيكتسب له بذلك حسنات " .(8/432)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : تفسير القرآن (4855) , ومسلم : الإيمان (177) , والترمذي : تفسير القرآن (3068).
2 البخاري : الأذان (756) , ومسلم : الصلاة (394) , والترمذي : الصلاة (247) , والنسائي : الافتتاح (910 ,911) , وأبو داود : الصلاة (822) , وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (837) , وأحمد (5/316 ,5/321) , والدارمي : الصلاة (1242).(8/433)
ص -276- ... باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه فقد اتخذهم أربابا (1)
وقال ابن عباس: " يوشك (2) أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقولون: قال أبو بكر وعمر " .
....................................................................
(1) أي شركاء مع الله، كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاّض لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1. وإنما تجب طاعة الأحبار والرهبان إذا أمروا بطاعة الله، فهي تبع لا استقلال، وأما إذا أمروا بمعصية الله فلا سمع لهم ولا طاعة، " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق "2 كما هو معلوم بالضرورة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولما كانت هذه الطاعة من أنواع العبادة، بل هي العبادة، فإنها طاعة الله بامتثال ما أمر به على ألسن رسله، نبه المصنف بهذه الترجمة على وجوب اختصاص الرب تعالى بها، وأنه لا يطاع سواه إلا حيث كانت طاعته مندرجة تحت طاعة الله، والمقصود هنا الطاعة الخاصة في تحريم الحلال وتحليل الحرام.
(2) "يوشك" أي يقرب ويدنو ويسرع، وهذا القول من ابن عباس -رضي الله عنهما- جواب لمن قال له: إن أبا بكر وعمر -رضي الله عنهما- لا يريان التمتع بالعمرة إلى الحج، ويريان إفراد الحج أفضل. وكان ابن عباس يرى أن التمتع بالعمرة إلى الحج واجب؛ لحديث سراقة بن مالك حين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلوها عمرة، ويحلوا إذا طافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة، =(8/434)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية : 31.
2 البخاري : أخبار الآحاد (7257) , ومسلم : الإمارة (1840) , والنسائي : البيعة (4205) , وأبو داود : الجهاد (2625) , وأحمد (1/94 ,1/129 ,1/131).(8/435)
ص -277- ... .............................................................................................
= فقال سراقة: ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال: "بل للأبد". وحديث: " افعلوا ما أمرتكم به، فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم به "1 في أحاديث. فلهذا قال ابن عباس -لما عارضوا الحديث برأي أبي بكر وعمر- (( يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء )). الحديث. فإذا كان هذا قول ابن عباس في الخليفتين الراشدين، فكيف بمن ترك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول من هو دونهم؟ وقال الشافعي: (( أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد )). وما زال العلماء يجتهدون في الوقائع، لكن إذا استبان لهم الدليل أخذوا به وتركوا اجتهادهم، وفي عصر الأئمة الأربعة إنما طلب الحديث ممن هو عنده باللقاء والسماع، ويسافر الرجل في طلب الحديث إلى الأمصار عدة سنين، ثم اعتنى الأئمة بالتصانيف، ودونوا الأحاديث، ورووها بأسانيدها، وبينوا صحيحها من حسنها من ضعيفها، وناسخها ومنسوخها، والفقهاء صنفوا في كل مذهب، وذكروا حجج المجتهدين، فسهل الأمر على طالب العلم، فعليه أن ينظر في مذاهب العلماء، وما استدل به كل إمام ويأخذ من أقوالهم ما دل عليه الدليل، إذا كان له ملكة يقتدر بها، كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} 2. وإذا لم يكن له ملكة، سأل أعلم من يجده؛ لقوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 3. وفي كلام ابن عباس ما يدل على أنه من بلغه الدليل فلم يأخذ به تقليدا لإمامه فإنه يجب الإنكار عليه بالتغليظ؛ لمخالفة الدليل، وأجمع الأئمة على هذا، وأنه لا يسوغ التقليد إلا في مسائل الاجتهاد التي قد يخفى دليلها، فهذا هو الذي عناه العلماء(8/436)
بقولهم: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، وأما من خالف الكتاب والسنة فيجب الرد عليه بالإجماع، وليس ما خالف الكتاب والسنة مذهبا لأحد من الأئمة، وهم أجل من أن يقال ذلك في حقهم، لتصريحهم بذلك، ونهيهم عن تقليدهم إذا استبانت السنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الحج (1568) , والنسائي : مناسك الحج (2805) , وأحمد (3/317).
2 سورة النساء آية : 59.
3 سورة النحل آية : 43.(8/437)
ص -278- ... وقال الإمام أحمد: (( عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته (1) يذهبون إلى رأي سفيان (2)،
....................................................................
(1) أي عرفوا إسناد الحديث، وصحة إسناد الحديث، فإذا صح إسناد الحديث فهو دليل على صحة الحديث عند أهل الحديث وغيرهم من العلماء.
(2) هو الثوري الإمام الزاهد الثقة الفقيه تقدمت ترجمته، كان له أصحاب يأخذون عنه، ومذهبه مشهور، يذكره العلماء في الكتب التي يذكر فيها مذاهب الأئمة، فقول الإمام أحمد إنكار منه لذلك، وأنه يؤول إلى زيغ القلوب الذي يكون به المرء كافرا، وقد عمت البلوى بهذا المنكر، خصوصا ممن ينتسب إلى العلم، نصبوا الحبائل في الصد عن الكتاب والسنة، كقولهم: لا يستدل بالكتاب والسنة إلا المجتهد والاجتهاد قد انقطع. وقولهم: الذي قلدناه أعلم منك بالحديث وبناسخه ومنسوخه، ونحو ذلك من الأقوال التي غايتها ترك الكتاب والسنة، والاعتماد على قول من يجوز عليه الخطأ، ومعه بعض العلم لا كله، وإن ظنوا أنهم اتبعوا الأئمة، فإنهم في الحقيقة قد خالفوهم واتبعوا غير سبيلهم، وذلك إنما نشأ عن الإعراض عن تدبر الكتاب والسنة، والإقبال على كتب من تأخر، والاستغناء بها عن الوحيين، والواجب على كل مكلف إذا بلغه الدليل أن ينتهي إليه ويعمل به، وإن خالفه من خالفه كائنا من كان، كما قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} 1. فإذا قرأ كتب العلماء ونظر فيها، وعرف أقوالهم، وجب عليه أن يعرضها على ما في الكتاب والسنة؛ فإن كل مجتهد من العلماء ومن تبعه وانتسب إلى مذهبه لا بد أن يذكر دليلا، والحق في المسألة واحد، والمنصف يجعل النظر في كلامهم وتأمله طريقا إلى معرفة المسائل، واستحضارها ذهنا، وتمييزا للصواب من الخطأ بالأدلة التي يذكرها المستدلون، وبذلك يعرف من هو أسعد بالدليل(8/438)
من العلماء، فيتبعه، والأئمة -رضي =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 3.(8/439)
ص -279- ... والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1(1) أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك (2)؛
....................................................................
= الله عنهم- لم يقصروا في البيان، بل نهوا عن تقليدهم إذا استبانت السنة، لعلمهم أن من العلم شيئا لم يعلموه، وقد يبلغ غيرهم، وذلك كثير. وقال مالك: (( كل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم )). وكلهم قالوا نحو ذلك، بل قال الشافعي: (( إذا صح الحديث بما يخالف قولي فاضربوا بقولي الحائط )). لكن في كلام أحمد إشارة إلى أن التقليد قبل بلوغ الحجة لا يذم، وإنما ينكر على من بلغته الحجة وخالفها لقول إمام من الأئمة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: " كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال أقضي بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلوا. فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله "2 .
(1) عداه بعن لتضمين معنى الإعراض، أي فليحذر الذين يلوذون عن أمره ويدبرون معرضين،
" أن يصيبهم فتنة " في الدنيا. قال الضحاك: (( يطبع على قلبه فلا يؤمن أن يظهر الكفر بلسانه فتضرب عنقه )).: {أَوْ يُصِيبَهُمْ} في الآخرة: {عَذَابٌ أَلِيمٌ} موجع على خلاف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال شيخ الإسلام: (( فإذا كان المخالف أمره قد حذر من الكفر والشرك أو من العذاب الأليم، دل على أنه قد يكون مفضيا إلى الكفر والعذاب الأليم، ومعلوم أن إفضاءه إلى العذاب الأليم هو مجرد فعل المعصية، فإفضاؤه إلى الكفر إنما هو لما يقترن به من الاستخفاف في حق الآمر كما فعل إبليس )).
(2) وفي رواية أبي طالب عنه قال: قال الله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ(8/440)
أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} 3 فيدعون الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النور آية : 63.
2 البخاري : تفسير القرآن (4547) , ومسلم : العلم (2665) , والترمذي : تفسير القرآن (2994) , وأبو داود : السنة (4598) , وابن ماجه : المقدمة (47) , وأحمد (6/48 ,6/124 ,6/132 ,6/256) , والدارمي : المقدمة (145).
3 سورة البقرة آية : 217.(8/441)
ص -280- ... لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك )) (1) .
عن عدي بن حاتم رضي الله عنه (2) " أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية ": {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} 1 الآية. " فقلت: إنا لسنا نعبدهم، قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ فقلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم ".
....................................................................
(1) أي لعل الإنسان الذي تصح عنده سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رد بعض قول الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقع في قلبه شيء من الزيغ في ذلك، تنبيه منه -رحمه الله- أن رد قول الرسول صلى الله عليه وسلم سبب لزيغ القلب، وذلك هو الهلاك في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} 2. وفي رواية الفضل عنه: وجعل يتلو: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} 3 الآية. وإذا كان رفع الصوت فوق صوته سببا لحبوط العمل، فما ظنك برد أحكامه وسننه لقول أحد من الناس كائنا من كان، وإذ علمت أن مخالفة أمره سبب للشرك، علمت أن من رد قوله وخالف أمره لقول أحمد أو غيره له النصيب الكامل، والحظ الوافر من هذه الآية.
(2) هو الطائي المشهور بالسخاء والكرم، ابن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي، بن جرول بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طي بن أدد ابن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان، قدم عدي رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم في شعبان سنة 9هـ، فأسلم وثبت في الردة، وحضر فتوح العراق، وحروب علي، وعاش مائة وعشرين سنة، ومات سنة 68هـ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية : 31.
2 سورة الصف آية : 5.
3 سورة النساء آية : 65.(8/442)
ص -281- ... رواه أحمد والترمذي وحسنه (1) .
....................................................................
(1) وروي من طرق تثبت أنه محفوظ، فرواه ابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردوية والبيهقي وغيرهم. وقول عدي: "لسنا نعبدهم". ظن أن العبادة المراد بها التقرب إليهم بأنواع العبادة من السجود والذبح والنذر، وقوله: "أليس يحرمون" الخ صريح في أن طاعتهم في تحريم الحلال وتحليل الحرام عبادة لهم من دون الله، ومن الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله، لقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1. وقال: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} 2. وهذا قد وقع فيه كثير من الناس مع من قلدوه؛ لعدم اعتبارهم الدليل إذا خالف المقلد، وهو من هذا الشرك العظيم، والذنب الوخيم، ومنهم من يغلو في ذلك، ويعتقد أن الأخذ بالدليل غير ممكن اليوم كما تقدم. قال شيخ الإسلام: وهؤلاء الذين: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} 3 حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وعكسه، يكونون على وجهين :
أحدهما: أنهم يعلمون أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على التبديل، فيعتقدون تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل، اتباعا لرؤسائهم مع علمهم بأنهم خالفوا دين الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا كفر، وقد جعله الله ورسوله شركا، وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون .
الثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال، وتحليل الحرام ثابتا، لكنهم أطاعوهم في معصية الله، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص.
فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب، ثم اتباع هذا المحرم والمحلل إن كان مجتهدا قصده اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ، لكن خفي عليه الحق في نفس الأمر، وقد اتقى الله ما(8/443)
استطاع، فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه، بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه، ولكن من علم أن هذا خطأ فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إذا اتبعه على خطئه، فله نصيب من هذا الشرك الذي ذمه الله، وأما إن كان المتبع للمجتهد عاجزا عن معرفة الحق =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية : 31.
2 سورة الأنعام آية : 121.
3 سورة التوبة آية : 31.(8/444)
ص -282- ... .............................................................................................
= على التفصيل، وقد فعل ما يقدر عليه مثله من الاجتهاد في التقليد، فهذا لا يؤاخذ إن أخطأ، وأما إن قلد شخصا دون نظيره بمجرد هواه، ونصره بيده ولسانه من غير علم أن الحق معه، فهذا من أهل الجاهلية، فإن كان متبوعه مصيبا كان عمله صالحا، وإن كان متبوعه مخطئا كان آثما، كمن قال في القرآن برأيه فإن أصاب فقد أخطأ، وإن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار. قال المصنف: وفيه تقريب الأحوال إلى هذه الغاية، حتى صارت عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال، وتسمى الولاية، وعبادة الأحبار هي العلم والفقه، ثم تغيرت الأحوال إلى أن عبد من دون الله من ليس من الصالحين، وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين، وأما طاعة الأمراء ومتابعتهم بما يخالف ما شرعه الله ورسوله، فقد عمت به البلوى قديما وحديثا في أكثر البلاد، بعد الخلفاء الراشدين، وهلم جرا، وقد قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} 1 .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة القصص آية : 50.(8/445)
ص -283- ... باب قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} 1 .
....................................................................
(1)ترجم المصنف -رحمه الله- بهذه الآية، الدالة على كفر من أراد التحاكم إلى غير كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وإن كان مع ذلك يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله والمرسلين قبله، كما ذكر ذلك في سبب نزولها أنها نزلت في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخاصما، فجعل اليهودي يقول: بيني وبينك محمد، وذلك يقول: بيني وبينك كعب بن الأشرف، كما ذكره المصنف. أو أنها نزلت في جماعة من المنافقين ممن أظهر الإسلام وأبطن الكفر، أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية أو غير ذلك، والآية أعم من ذلك كله، فحيث كان التوحيد هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله مشتملا على الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم مستلزما له، نبه المصنف على ما تضمنه التوحيد واستلزمه، من تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم في موارد النزاع؛ إذ هذا هو مقتضى الشهادة ولازمها، فمن عرفها لا بد له من الانقياد لحكم الله، والتسليم لأمره الذي جاء على يد رسوله صلى الله عليه وسلم ، فمن شهد أن لا إله إلا الله، ثم عدل إلى تحكيم غير الرسول صلى الله عليه وسلم في موارد النزاع، فقد كذب في شهادته. ومعنى الآية أن الله أنكر على من يدعي الإيمان بما أنزله الله على رسوله وعلى الأنبياء قبله، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ فإن قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} استفهام إنكار وتبكيت، وذم لمن =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية : 60.(8/446)
ص -284- ... {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً}1 الآيات (1) .
....................................................................
= عدل عن الكتاب والسنة، ورغب فيما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت ههنا، كما تقدم من قول ابن القيم: إنه ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فكل من حاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فقد حاكم إلى الطاغوت الذي أمر الله عباده المؤمنين أن يكفروا به، أي بما جاءهم به الطاغوت الذي يتحاكمون إليه؛ فإن التحاكم ليس إلا إلى كتاب الله وسنة رسوله، ومن كان يحكم بهما. فمن حاكم إلى غيرهما فقد تجاوز به حده، وخرج عما شرعه الله ورسوله، وكذلك من عبد شيئا دون الله فإنما عبد الطاغوت، فهو الذي دعا إلى كل باطل وزينه لمن فعله، وهذا ينافي التوحيد؛ فإن التوحيد هو الكفر بكل طاغوت عبده العابدون من دون الله. فمن دعا إلى تحكيم غير الله ورسوله فقد ترك ما جاء به الرسول، ورغب عنه، وجعله شريكا لله في الطاعة، وخالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أمر الله به في قوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} 2 الآية. وفي آية الباب أنكر الله زعمهم الإيمان وأكذبهم؛ لما في ضمن (يزعمون) من نفي إيمانهم؛ فإن (يزعمون) إنما يقال غالبا لمن ادعى دعوى هو فيها كاذب، يحققه قوله: {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ}؛ لأن الكفر بالطاغوت ركن التوحيد، فإذا اختل هذا الركن لم يكن موحدا، ومن لم يكفر بالطاغوت لم يؤمن بالله، والتوحيد هو أساس الإيمان الذي تصح به الأعمال، وتفسد بفساده، كما في قوله: {وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} 3 .
(1) يعني أن الشيطان يريد أن يضل هؤلاء -المتحاكمين إلى الطاغوت- عن سبيل الحق والهدى ضلالا بعيدا، فيجور بهم جورا شديدا، فبين تعالى(8/447)
في هذه الآية أن التحاكم إلى الطاغوت مما يأمر به الشيطان، ويزينه لمن أطاعه، وأن ذلك مما أضل به الشيطان من أضله، وأكده بالمصدر، ووصفه بالبعد، فدل على أن ذلك من أعظم الضلال، والبعد عن الهدى، فلا يمكنهم الرجوع إلى الحق أبدا، =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية : 60.
2 سورة النساء آية : 65.
3 سورة البقرة آية : 256.(8/448)
ص -285- ... وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} 1 (1) .
....................................................................
= {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} 2. فإن المنافقين يكرهون الحق وأهله، ويهوون ما يخالفه من الباطل، فيمتنعون بذلك من المصير إليك لتحكم بينهم، ويمنعون غيرهم، فبين تعالى صفتهم، وأن من فعل ذلك أو طلبه، وإن زعم أنه مؤمن فإنه في غاية البعد من الإيمان، قال ابن القيم: هذا دليل على أن من دعي إلى تحكيم الكتاب والسنة فأبى أنه من المنافقين، و (يصدون) لازم، وهو بمعنى يعرضون؛ لأن مصدره (صدودا). وما أكثر من اتصف بهذا الوصف خصوصا من يدعي العلم، فإنهم صدوا عما توجبه الأدلة من كتاب الله وسنة نبيه إلى أقوال من يخطئ كثيرا، ممن ينتسب إلى الأئمة الأربعة في تقليدهم من لا يجوز تقليده، وجعلوا قوله المخالف لنص الكتاب والسنة وقواعد الشريعة هو المعتمد عندهم، الذي لا تصح الفتوى إلا به، بل ومن يجعل المعتمد النظم والقوانين الإفرنجية ويدعي الإسلام. وقال شيخنا: (( المرتضي بالسياسات والقوانين كافر يجب قتله، وإن المنافقين أشد من الكفار الخلص، ومن ظن أن حكم غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن من حكمه فهو كافر بإجماع المسلمين فالله المستعان )).
(1) قال أبو العالية وغيره: يعني لا تعصوا في الأرض؛ لأن من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصية الله فقد أفسد في الأرض، فدلت الآية على أن كل معصية فساد في الأرض. ومناسبة الآية للترجمة أن التحاكم إلى غير الله ورسوله من أعمال المنافقين، وهو من أعظم الفساد في الأرض، ولغرورهم المؤمنين بقولهم الذي لا حقيقة له، وموالاتهم الكافرين، يقولون: نريد أن نداري الفريقين، ونصطلح مع هؤلاء وهؤلاء، وفي الآية(8/449)
التنبيه على عدم الاغترار بأهل الأهواء، وإن زخرفوها =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 11.
2 سورة النساء آية : 61.(8/450)
ص -286- ... وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} 1 (1) .
وقوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} 2 الآية (2) .
....................................................................
= بالدعوى، والتحذير من الاغترار بالرأي ما لم يقم على صحته دليل من كتاب أو سنة، ويترتب عليه من الفساد أمور كثيرة، تخرج صاحبها من الحق، وتدخله في الباطل.
(1) قال أكثر المفسرين: أفسدوا فيها بالمعاصي، والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله لها ببعثة الرسل، وبيان الشريعة والدعاء إلى طاعة الله؛ فإن عبادة غير الله والدعوة إلى غيره والشرك به، هو أعظم فساد في الأرض، بل فساد الأرض في الحقيقة هو بالشرك بالله، ومخالفة أمره، ولا صلاح للأرض ولأهلها إلا أن يكون الله هو المعبود وحده دون ما سواه، والدعوة له لا لغيره، والطاعة والإتباع له ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وغيره وإنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإذا أمر بمعصية الله فلا سمع ولا طاعة. ووجه مطابقة الآية للترجمة أن التحاكم إلى غير الله ورسوله من أعظم ما يفسد في الأرض من المعاصي، فلا صلاح لها إلا بتحكيم كتاب الله وسنة رسوله وهو سبيل المؤمنين، قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} 3 .
(2) قال ابن كثير: ينكر تعالى على كل من خرج عن حكم الله، المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الجهالات والضلالات، كما يحكم به التتار من السياسات المأخوذة عن جنكسخان الذي وضع لهم كتابا مجموعا من أحكام اقتبسه من شرائع شتى، وفيها كثير من الأحكام أخذها(8/451)
عن مجرد نظره، وصار في بنيه شرعا، يقدمونه على الحكم بالكتاب والسنة، ومن فعل ذلك فهو كافر، يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 56.
2 سورة المائدة آية : 50.
3 سورة النساء آية : 115.(8/452)
ص -287- ... عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به"(1).
....................................................................
= فلا يحكم بسواه في قليل ولا في كثير. وقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} 1. استفهام إنكار، أي لا حكم أحسن من حكمه تعالى، وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس له في الطرف الآخر مشارك، أي ومن أعدل من الله حكما لمن عقل عن الله شرعه، وآمن وأيقن أنه تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم بعباده من الوالدة بولدها، العليم بمصالح عباده، القادر على كل شيء، والحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.
(1) الهوى مقصور، مصدر هواه أحبه، وشرعا: ميل النفس إلى مشتهيات الطبع. أي لا يكون مؤمنا كامل الإيمان حتى يكون ما تهواه نفسه وتحبه وتميل إليه. "تبعا" موافقا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحتى لا يخرج عنه إلى ما يخالفه بحال، فهذه صفة أهل الإيمان الخلص، وأما إن كان بخلاف ذلك أو في بعض أحواله أو أكثرها، فإنه ينتفي عنه من الإيمان كماله الواجب، كما في حديث: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن "2 الحديث. يعني أنه بالمعصية ينتفي عنه كمال الإيمان الواجب وينقص إيمانه، فلا يطلق عليه الإيمان إلا بقيد المعصية أو الفسوق، فيقال: مؤمن عاص، أو يقال: مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فيصير معه مطلق الإيمان الذي لا يصح إسلامه إلا به، لا الإيمان المطلق، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، وبه جاء الكتاب والسنة، وأن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، خلافا للخوارج والمعتزلة؛ فإن الخوارج يكفرون بالذنوب، والمعتزلة لا يطلقون عليه الإيمان، ويقولون بتخليده في النار، وكلا الطائفتين ابتدع في الدين، وترك ما دل عليه الكتاب والسنة. وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا(8/453)
دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} 3. فقيد ما دون الشرك بالمشيئة، وتواترت الأحاديث بما يحقق ما =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية : 50.
2 النسائي : الجهاد (3143) , وأبو داود : العتق (3965) , وأحمد (4/384).
3 سورة النساء آية : 48.(8/454)
ص -288- ... قال النووي: (( حديث صحيح، رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح )) (1) .
....................................................................
= عليه أهل السنة، كما في الصحيحين وغيرهما: " أنه يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، وما يزن خردلة، وما يزن ذرة من إيمان "1 .
(1) هذا الحديث رواه الشيخ أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي بإسناد صحيح في كتاب "الحجة على تارك المحجة"، وهو كتاب يتضمن ذكر أصول الدين على قواعد أهل الحديث والسنة. ورواه الطبراني وأبو بكر بن عاصم والحافظ أبو نعيم في الأربعين التي شرط لها أن تكون من صحيح الأخبار، ومعناه صحيح قطعا، وشاهده في القرآن كثير، كقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} 2 الآية، وقوله: {مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} 3، وقوله: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إ} 4. ونحو هذه الآيات. وسمى الهوى المخالف لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم إلها، فقال: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} 5 أي لا يهوى شيئا إلا ركبه، ووصف المشركين باتباع الهوى في مواضع كثيرة من كتابه، وسائر البدع إنما تنشأ عن تقديم الهوى على محبة الله ومحبة ما يحبه. والنووي: هو محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري بن حسن بن حسين بن حزام بن محمد بن جمعة، الحزامي الحواربي الشافعي، الإمام المشهور، صاحب المصنفات المفيدة، ولد بنوى قرية من قرى دمشق سنة 631هـ، وتوفي سنة 676هـ.(8/455)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : المناقب (3611) , ومسلم : الزكاة (1066) , والنسائي : تحريم الدم (4102) , وأبو داود : السنة (4767) , وأحمد
(1/131).
2 سورة النساء آية : 65.
3 سورة الأحزاب آية : 36.
4 سورة القصص آية : 50.
5 سورة الجاثية آية : 23.(8/456)
ص -289- ... وقال الشعبي: " كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة (1)، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد، عرف أنه لا يأخذ الرشوة (2). وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود; لعلمه أنهم يأخذون الرشوة، فاتفقا على أن يأتيا كاهنا في جهينة، فيتحاكما إليه (3)،
....................................................................
(1) الخصومة الجدل، وتخاصم القوم واختصموا تجادلوا وتنازعوا. والشعبي: هو عامر بن شراحيل الكوفي، عالم زمانه تقدمت ترجمته. قال مكحول: (( ما رأيت أفقه منه )). وروى ابن إسحق وغيره أنه كان بين الجلاس بن الصامت قبل توبته ومعتب بن قشير ورافع بن زيد وبشير، وكانوا يدعون الإسلام فدعاهم رجال من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعوهم إلى الكهان، فنزلت الآية. وروي عن ابن عباس أن المنافق اسمه بشر، فالله أعلم.
(2) هي بتثليث الراء وأصلها من الرشاء الذي يوصل به إلى الماء، الجعل يعطيه أحد الخصمين للقاضي أو غيره ليحكم له، أو يحمل له على ما يريد، ورشاه أعطاه الرشوة، وراشاه مراشاة حاباه وصانعه.
(3) جهينة حي مشهور من قضاعة، والكاهن: طاغوت يتحاكمون إليه كما في سائر أحياء العرب في الجاهلية، انتهى كلام الشعبي رحمه الله. رواه ابن جرير وابن المنذر بنحوه. وفيه ما يدل على أن المنافق يكون أشد كراهة لحكم الله ورسوله من اليهود والنصارى، وهو أشد عداوة منهم لأهل الإيمان، كما هو الواقع في هذه الأزمنة وقبلها من إعانتهم العدو على المسلمين، وحرصهم على إطفاء نور الإسلام والإيمان، ومن تدبر ما في التاريخ، وما وقع منهم من الوقائع، عرف أن هذا حال المنافقين قديما وحديثا، وقد حذر الله نبيه صلى الله عليه وسلم من طاعتهم والقرب =(8/457)
ص -290- ... فنزلت: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} 1 " الآية (1). وقيل: " نزلت في رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف (2).
....................................................................
= منهم، وحضه على جهادهم، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} 2 .
(1) ولابن جرير وغيره في سبب نزولها، تفاخرت النضير وقريظة، فدخلوا المدينة إلى أبي برزة الكاهن الأسلمي، وذكر القصة. وأبو برزة هذا غير أبي برزة الصحابي.
(2) يهودي من طيئ من بني نبهان، وأمه من بني النضير، وكان شديد العداوة للنبي صلى الله عليه وسلم والأذى له، وقد خرج اللعين إلى مكة يحرض على قتاله صلى الله عليه وسلم ، ويرثي قتلى بدر لقريش، ويفضل دين الجاهلية على دين الإسلام، ولما رجع إلى المدينة أخذ ينشد الأشعار، يهجو بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم، فانتقض بذلك عهده، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " "من لي بكعب بن الأشرف؛ فإنه قد آذى الله ورسوله"؟ فقال محمد بن مسلمة: أتحب أن أقتله؟ قال: "نعم" قال: فأذن لي أن أقول له شيئا، قال: "قل"، فأتاه فقال له: إن هذا الرجل قد سألنا الصدقة، وإنه قد عنانا، قال: وأيضا والله لتملنه، قال: إنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أي شيء يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا، قال: نعم أرهنوني نساءكم، ثم قال: أبناءكم، ووعده أن يرهنه الأمة، فواعده أن يأتيه ليلا، فأتاه هو وأبو نائلة، ومعهما عباد ابن بشر وأبو عبس، فنزل إليهم، فقالت، له امرأته: أين تخرج هذه الساعة؟ وفي =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية : 60.
2 سورة التوبة آية : 73.(8/458)
ص -291- ... ثم ترافعا إلى عمر فذكر له أحدهما القصة، فقال للذي لم يرض برسول الله صلى الله عليه وسلم : أكذلك؟ قال: نعم. فضربه بالسيف فقتله " (1) .
....................................................................
= رواية: أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدم، قال: إنما هو أخي محمد بن مسلمة، ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم لو دعي إلى طعنة بليل لأجاب، قال محمد: فإذا جاء فإني مائل بشعره فأشمه، فإذا استمكنت منه فدونكم فاضربوه، فلما نزل متوشحا، قالوا: نجد منك ريح الطيب، قال: نعم تحتي فلانة أعطر نساء العرب، قال: تأذن لي أن أشمه؟ قال: نعم، فاستمكن منه، ثم قال: دونكم فقتلوه، وذلك في السنة الثالثة من الهجرة ".
(1) هذه القصة رويت من طرق متعددة، فهي مشهورة متداولة بين السلف والخلف تداولا يغني عن الإسناد، وفيها أن المنافق المغموص بالنفاق، إذا أظهر نفاقه قتل، كما في الصحيحين وغيرهما. والنبي صلى الله عليه وسلم إنما ترك قتل من أظهر نفاقه منهم تأليفا للناس؛ فإنه قال: " لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه "1. وفيها أيضا أن من طعن في شيء من الدين، أو في أحكام النبي صلى الله عليه وسلم قتل، وأن معرفة الحق لا تكفي عن العمل والانقياد؛ فإن اليهود يعلمون أن محمدا رسول الله، ويتحاكمون إليه في كثير من الأمور.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : تفسير القرآن (4905) , ومسلم : البر والصلة والآداب (2584) , والترمذي : تفسير القرآن (3315) , وأحمد (3/392).(8/459)
ص -292- ... باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات (1)
وقول الله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} 1 الآية (2).
....................................................................
(1) أي هذا باب بيان حكم من جحد شيئا من أسماء الله تعالى وصفاته، وأنه يكفر بذلك، ولما كان التوحيد لا يحصل إلا بالإيمان بالله وأسمائه وصفاته، نبه عليه المصنف -رحمه الله-، وتقدم أن أنواع التوحيد الثلاثة متلازمة، فمن أقر بربوبية الله تعالى وإلهيته وجحد أسماءه وصفاته أو شيئا منها فقد كفر.
(2) سبب نزول الآية معلوم، ويأتي طرف منه، والمراد أن بعض كفار قريش يجحدون اسم الرحمن عنادا، فأنزل الله هذه الآية، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 2. فالرحمن: اسمه وصفته، ودل هذا الاسم على أن الرحمة وصفه القائم به سبحانه، وهي من صفات الكمال. ومطابقة الآية للترجمة ظاهرة؛ لأن الله سمى جحود اسم من أسمائه كفرا، فدل على أن جحود شيء من أسمائه وصفاته كفر، فمن جحد شيئا من أسماء الله وصفاته من الفلاسفة والجهمية والمعتزلة ونحوهم، فله نصيب من الكفر، بقدر ما جحده من الاسم أو الصفة، وإن أقر بجنسها لكن زعم أنها أعلام محض، لا تدل على صفات قائمة به تعالى، فجحود معنى هذا الاسم ونحوه من الأسماء كجحود لفظه؛ فإن الجهمية يزعمون أنها لا تدل على صفة قائمة بالله تعالى، وتبعهم على ذلك طوائف من المعتزلة والأشاعرة وغيرهم، فلهذا كفرهم كثير من أهل السنة. قال ابن القيم:
ولقد تقلد كفرهم خمسون في ... عشر من العلماء في البلدان
فجحدوا ما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الرعد آية : 30.(8/460)
ص -293- ... وفي صحيح البخاري قال علي:"حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله"(1)؟
....................................................................
= كماله ونعوت جلاله، وبنوا هذا التعطيل على أصل فاسد أصلوه من عند أنفسهم، ولم يفهموا من صفات الله إلا ما فهموه من خصائص صفات المخلوقين، فشبهوا الله في ابتداء آرائهم الفاسدة بخلقه، ثم عطلوه من صفات كماله، وشبهوه بالناقصات والجمادات والمعدومات، فشبهوا أولا، وعطلوا ثانيا، وشبهوا ثالثة بكل ناقص أو معدوم، وتركوا ما دل عليه صريح الكتاب والسنة، وما عليه سلف الأمة من إثبات ما وصف الله به نفسه، ووصفه به رسوله، على ما يليق بجلال الله وعظمته، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1. وصنف أئمة السنة في الرد عليهم المصنفات الكثيرة المشهورة، كالإمام أحمد وطبقته، وشيخ الإسلام وطبقته، وخلق لا يحصون من أهل السنة والجماعة. وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ رَبِّي}أي قل يا محمد ردا عليهم في كفرهم بالرحمن: (هو) أي الرحمن عز وجل: { رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} أي لا معبود سواه: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} 2 أي إليه مرجعي وتوبتي.
(1) أسنده البخاري. وفي لفظ: " أتحبون أن يكذب الله ورسوله ". زاد ابن أبي إياس في كتاب العلم له عن عبد الله بن داود عن معروف: ودعوا ما ينكرون، أي ما يشتبه عليهم فهمه، مما قد يؤدي إلى رد الحق وعدم قبوله، ويفضي بهم إلى التكذيب. وقال ابن مسعود: (( ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة )). رواه مسلم. وكان معاوية ينهى عن القصص؛ لما فيه من التساهل في النقل، ويقول: لا يقص إلا أمير أو مأمور. وهذا الأثر قاله علي رضي الله عنه حين كثر القصاص في خلافته، وصاروا يذكرون أحاديث لا تعرف من هذا =(8/461)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الشورى آية : 11.
2 سورة الرعد آية : 30.(8/462)
ص -294- ... وروى عبد الرزاق عن معمر (1) عن ابن طاوس (2)
....................................................................
= القبيل، فربما استنكرها بعض الناس وردها، وقد يكون لبعضها أصل ومعنى صحيح، فيقع بعض المفاسد لذلك. وضابطه: أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة، وظاهره في الأصل غير مراد، فأرشدهم أن لا يحدثوا عامة الناس إلا بما هو معروف، ينفع الناس في أصل دينهم وأحكامه، من بيان الحلال والحرام الذي كلفوا به علما وعملا، دون ما يشغل عن ذلك، أو يؤدي إلى رد الحق وعدم قبوله، فيفضي إلى التكذيب. وفي الأثر دليل على أنه إذا خشي ضررا من تحديث الناس ببعض ما لا يعرفون فلا ينبغي، وليس على إطلاقه؛ فإن كثيرا من الدين والسنن يجهله الناس، فإذا حدثوا به كذبوا بذلك وأعظموه، فلا يترك العالم تحديثهم، بل يعلمهم برفق ويدعوهم بالتي هي أحسن.
(1) معمر بفتحتين وسكون العين، ابن راشد، أبو عروة بن أبي عمرو الأزدي الحداني مولاهم البصري ثم اليماني، أحد الأعلام، شهد جنازة الحسن البصري، وروى عن قتادة وثابت والزهري، وهو أحد أصحابه يروي عنه كثيرا، وعنه يحيى بن أبي كثير وابن عيينة وابن المبارك وطبقتهم، مات سنة 153هـ.
(2) هو أبو محمد الأبناوي عبد الله بن طاووس اليماني الفقيه بن الفقيه، روي عن أبيه وعطاء وعمرو بن شعيب وغيرهم، وعنه ابناه طاووس ومحمد وعمرو ابن دينار ومعمر وخلق، قال معمر: كان من أعلم الناس بالعربية، مات سنة 131هـ. وأبوه طاووس بن كسيان الجندي الإمام العلم، مولى بحير بن ريسان، وقيل: مولى همدان، من أبناء الفرس، كان ينزل الجند، وقيل اسمه ذكوان، وطاوس لقبه. وقال ابن حبان: (( أمه من فارس وأبوه من النمر بن قاسط )).(8/463)
ص -295- ... عن أبيه عن ابن عباس أنه " رأى رجلا انتفض لما سمع حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكارا لذلك (1)، فقال: ما فرق هؤلاء؟ (2) يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه " (3) .
....................................................................
(1) أي اضطرب وارتعد من وقع ما ورد على قلبه، لما سمع الحديث في الصفات؛ لجهله بذلك، والاستنكار استفهامك شيئا تنكره، واستنكر الأمر جهله.
(2) بفتح الفاء والراء وضم القاف مخففا، و (ما) استفهامية، أي ما خوف هؤلاء وفزعهم، يستفهم من أناس من أصحابه، يشير إلى أناس ممن يحضر مجلسه من عامة الناس، إذا سمعوا شيئا من محكم القرآن حصل معهم فرق، أي خوف، فإذا سمعوا شيئا من أحاديث الصفات انتفضوا كالمنكرين للمعنى، فلم يحصل منهم الإيمان الواجب الذي أوجبه الله على عباده، والمراد الإنكار عليهم؛ فإن الواجب على العبد التسليم والإذعان والإيمان بما صح عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وإن لم يحط به علما. ولهذا قال الشافعي: (( آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم )). ولا يتم الإيمان إلا بقبول اللفظ بمعناه الذي دل عليه ظاهرا، فإن لم يقبل معناه أورده، أو شك فيه لم يكن مؤمنا به، فيكون هلاكا. ويجوز فتح القاف مع تشديد الراء وتخفيفها، أي ما فرق هذا واضرابه بين الحق والباطل، ولا عرفوا ذلك.
(3) أي يجدون لينا وقبولا للمحكم، ويهلكون عندما يشتبه عليهم فهمه ومعرفته، والهلاك يقال لمن ارتكب أمرا عظيما، فهؤلاء الذين ذكرهم ابن عباس تركوا ما وجب عليهم من الإيمان بما لم يعرفوا معناه من القرآن، وهو حق لا يرتاب =(8/464)
ص -296- ... ولما سمعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن أنكروا ذلك، فأنزل الله : {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} 1 (1) .
....................................................................
= فيه مؤمن. وذكر ابن جرير وغيره عن جماعة من الصحابة وغيرهم، أن المحكم هو الناسخ الذي يعمل به، والمتشابه هو المنسوخ. وقيل: (الم) و (المص) و (المر)، ولم يقل أحد من الصحابة ولا التابعين لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم بإدخال أسماء الله تعالى وصفاته أو شيء منها في المتشابه الذي استأثر الله بعلم معانيه، أو لا معنى له، بل هي حق على حقيقتها، ولها معان حقيقة فهمها السلف على ما يليق بجلال الله وعظمته، وفسروها بما يخالف تأويل الجهمية وأضرابهم، وما قاله النفاة أنها من المتشابه دعوى بلا برهان، وفي الأثر دليل على ذكر آيات الصفات وأحاديثها بحضرة عوام المؤمنين وخواصهم، وأن من رد شيئا منها أو استنكره بعد صحته فهو ممن لم يفرق بين الحق والباطل، وينكر عليه استنكاره، وفيه دليل على أن من أنكر شيئا من الصفات فهو من الهالكين؛ لأن الواجب الإيمان به، فهمه أو لم يفهمه.
(1) قال قتادة وغيره من السلف: لما صالح النبي صلى الله عليه وسلم قريشا كتب (بسم الله الرحمن الرحيم) فقالوا: أما الرحمن فلا نعرفه، وكان أهل الجاهلية يكتبون: باسمك اللهم. وقال مجاهد وغيره: قالوا: لا نكتب الرحمن، ولا ندري ما الرحمن؟ ولا نكتب إلا باسمك اللهم، فنزلت الآية. وعن ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ساجدا "يا رحمن يا رحيم"، فقال المشركون: هذا يزعم أنه يدعو واحدا، وهو يدعو مثنى مثنى، فأنزل الله :": {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} 2 ذكر ذلك ابن جرير وغيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الرعد آية : 30.(8/465)
ص -297- ... باب قول الله تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} 1 الآية (1).
قال مجاهد ما معناه: هو قول الرجل: هذا مالي ورثته عن آبائي (2).
وقال عون بن عبد الله: (3)
....................................................................
(1) ترجم المصنف بهذه الآية حضا على التأدب مع جناب الربوبية عن الألفاظ الشركية الخفية، كنسبة النعم إلى غير الله؛ فإن ذلك باب من أبواب الشرك الخفي؛ لدلالتها على كفرهم بنعم الله، بإضافتها إلى غيره وإشراكه فيها، مع معرفتهم أن الله هو مسديها، وأنهم إنما جحدوها عتوا وعنادا. وذكر بعض ما ذكره بعض العلماء في معناها، وذكر المفسرون عن السدي وغيره: هي نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . وعن آخرين أنها ما عدد الله في هذه السورة من النعم من عند الله، وأن الله هو المنعم عليهم بذلك، ولكنهم ينكرون ذلك، فيزعمون أنهم ورثوه عن آبائهم.
(2) ولفظه قال: (( هي المساكن والأنعام وما يرزقون منها، والسرابيل من الحديد والثياب، يعرف هذا كفار قريش ثم ينكرونه، بأن يقولوا هذا كان لآبائنا فورثونا إياه )). رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما، وقائل هذا جاحد نعمة الله، غير معترف بها.
(3) هو ابن عتبة بن مسعود الهذلي، أبو عبد الله الكوفي الزاهد، روى عن أبيه وعائشة وابن عباس، وعنه قتادة وأبو الزبير والزهري، وثقه أحمد وابن معين، مات قبل 120هـ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية : 83.(8/466)
ص -298- ... يقولون: لولا فلان لم يكن كذا (1). وقال ابن قتيبة: يقولون هذا بشفاعة آلهتنا (2).
وقال أبو العباس بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه أن الله قال: " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر " الحديث. وقد تقدم (3): (( وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به )) (4) .
قال بعض السلف: هو كقولهم: كانت الريح طيبة والملاح حاذقا (5)،
....................................................................
(1) قال: إنكارهم إياها أن يقول الرجل: لولا فلان لم يكن كذا وكذا ، ولولا فلان ما أصبت كذا وكذا. رواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وهذا يتضمن قطع إضافة النعمة عمن لولاه لم تكن؛ فإنه –سبحانه- هو وحده المنعم على الحقيقة.
(2) أي أن الكفار إذا قيل لهم: من رزقكم؟ أقروا بأن الله هو الذي يرزقهم، ثم ينكرونه بقولهم: رزقنا ذلك بشفاعة آلهتنا، وهذا يتضمن الشرك، مع إضافة النعم إلى غير وليها، والآية تعم ما ذكره العلماء في معناها. وابن قتيبة: هو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري قاضي دينور، النحوي اللغوي صاحب التصانيف البديعة المشهورة، روى عن إسحق بن راهويه وجماعة، وتوفي سنة 276هـ.
(3) أي في باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء.
(4) يعني مثل قوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} 1،:{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا}2. وخبر: " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ". وما قاله بعض السلف.
(5) أي ماهرا في صنعته، وهو صاحب السفينة، سمي بذلك لملازمته الماء الملح، ومعناه أن الله إذا أجرى السفينة وسلمها، نسبوا ذلك إلى الريح والملاح، =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الواقعة آية : 82.
2 سورة النحل آية : 83.(8/467)
ص -299- ... ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثير (1) .
....................................................................
= ونسوا الله عز وجل الذي أجرى لهم الفلك في البحر رحمة بهم، وإن كان المتكلم بذلك لم يقصد أن الريح والملاح هو الفاعل لذلك من دون خلق الله وأمره، وإنما أراد أنه سبب لذلك، لكن لا ينبغي أن يضيف ذلك إلا إلى الله وحده، فهو المنعم على الإطلاق: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} 1 .
(1) وكلام الشيخ يدل على أن حكم هذه الآية عام فيمن نسب النعم إلى غير الله الذي أنعم بها، وأسند أسبابها إلى غيره مما هو مذكور في كلام المفسرين وغيره. قال المصنف: (( وفيه اجتماع الضدين في القلب، وتسمية هذا الكلام إنكارا للنعمة )).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية : 53.(8/468)
ص -300- ... باب قول الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1).
....................................................................
(1) ترجم المصنف - رحمه الله - بهذه الآية الكريمة، التي ابتدأها الله عز وجل بأعلى المقامات التي أجلها عبادة الله وحده، وامتن عليهم بإيجادهم، وما أوجده لأجلهم، فلا يجعلوا له أندادا، أي شركاء ونظراء، يصرفون لهم شيئا مما يستحقه سبحانه وتعالى، فيقعوا في الشرك الأصغر أو الأكبر، وساق في الباب ما ألحق بالأصغر، فإن من تحقيق التوحيد الاحتراز من الشرك بالله في الألفاظ، وإن لم يقصد المتكلم بها معنى لا يجوز، بل ربما تجري على لسانه من غير قصد، وإن كانت الآية نزلت في الأكبر، فالسلف يحتجون بما نزل في الأكبر على الأصغر، كما فسرها ابن عباس وغيره، وقد قال تعالى في أول الآية بعد أن عدد فرق المكلفين: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 1 تنجون من عذاب الله {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ} 2 أي ومن كان هذا وصفه فهو المستحق أن يعبد وحده،: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 3 أشباها ونظراء، تصرفون أنواع العبادة أو شيئا منها لهم، كحال عبدة الأوثان، الذين كانوا يعبدونها من دون الله،: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} 4 أنه ربكم لا يرزقكم غيره. قال أبو العالية وقتادة: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} 5 أي عدلاء شركاء. وقال ابن زيد: هي الآلهة التي جعلوها معه، وجعلوا لها مثل ما جعلوا له. وقال قتادة ومجاهد: أكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله، وقال ابن عباس: أي لا تشركوا به شيئا من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر: {وَأَنْتُمْ(8/469)
تَعْلَمُونَ} أنه ربكم، لا يرزقكم غيره. وقال مجاهد: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه إله واحد في التوراة والإنجيل. حكاه ابن كثير وغيره، وذكر حديث الحارث الأشعري " إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات: أولهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، فإن مثل ذلك كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله، بذهب أو ورق، فجعل يعمل =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 21.
2 سورة البقرة آية : 22.
3 سورة البقرة آية : 22.
4 سورة البقرة آية : 184.
5 سورة البقرة آية : 22.(8/470)
ص -301- ... قال ابن عباس في الآية: الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل (1)، وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلانة وحياتي (2)، وتقول: لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص (3)، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص (4)، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت (5)
....................................................................
= ويؤدي غلته إلى غير سيده، فأيكم يسره أن يكون عبده كذلك، وإن الله خلقكم ورزقكم، فاعبدوه ولا تشركوا به شيئا "1. وهذه الآية دالة على توحيد الله بالعبادة، وقد استدل بها كثير من المفسرين على وجود الصانع، وهي دالة على ذلك بطريق الأولى، والآيات الدالة على هذا المقام كثيرة جدا.
(1) الصفا الحجر الأملس، ذكر ما مثل به من الشرك؛ لخفائه على الأكثر حتى لا يكاد يفطن له، ولا يعرفه إلا القليل، وضرب المثل لخفائه بما هو أخفى شيء، أي أنه أخفى من دبيب النمل الأسود على الصفا الأسود في ظلمة الليل الأسود، وهذا يدل على شدة خفائه على من يدعي الإسلام، وعسر التخلص منه.
(2) أي من الشرك الحلف بغير الله كالحلف بحياة المخلوق، والحلف بالمخلوق شرك.
(3) وفي بعض الأصول: كلبة، وهي واحدة الكلاب، وهي ما تتخذ لحفظ المواشي وغيرها، واللصوص: السراق جمع لص ويثلث.
(4) البط: من طير الماء، الإوز، واحدته بطة، يتخذ في البيوت، فإذا دخلها غير أهلها استنكره وصاح، والواجب نسبة ذلك إلى الله، فهو الذي يحفظ عباده، ويكلؤهم بالليل والنهار.
(5) لأن المعطوف بالواو يكون مساويا للمعطوف عليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : الأمثال (2863) , وأحمد (4/130 ,4/202).(8/471)
ص -302- ... وقول الرجل: لولا الله وفلان. لا تجعل فيها فلانا (1)، هذا كله به شرك. رواه ابن أبي حاتم(2). وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله قال: " من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك (3) "1 .
....................................................................
(1) أي لا تجعل في مقالتك فلانا، بل لولا الله وحده. ولا تقل: لولا الله وفلان. قال الشارح: ثبت بخط المصنف فلان بلا تنوين.
(2) أي هذا كله شرك بالله تعالى، وقد وقع هذا اليوم على ألسن كثير ممن لا يعرف التوحيد ولا الشرك، فيجب التنبه لهذه الأمور؛ فإنها أكبر الكبائر، وهذا من ابن عباس - رضي الله عنهما - تنبيه بالأدنى من الشرك على الأعلى، وتقدم تفسيره للآية أيضا.
(3) وفي رواية: " فقد كفر ". وفي رواية: " فقد أشرك ". والصواب عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، وورد مثل هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه بهذا اللفظ، والشرك والكفر قد يطلقان بمعنى واحد، وهو الكفر بالله، وقد يفرق بينهما، فيخص الشرك بقصد الأوثان وغيرها من المخلوقات مع الاعتراف بالله، فيكون الكفر أعم. وما أورده المصنف يحتمل أن يكون شكا من الراوي، ويحتمل أن تكون أو بمعنى الواو، فيكون قد كفر وأشرك، كما جاء مصرحا به عند أحمد: " فقد كفر وأشرك ". ويكون من الكفر الذي هو دون الكفر الأكبر، كما قال الجمهور: لا يكفر كفرا ينقل عن الملة، لكنه من الشرك الأصغر، كما نص عليه ابن عباس وغيره. لكن ما يفعله عباد القبور، وهو ما إذا طلب منهم اليمين بالله أسرعوا، وإذا طلب منهم اليمين بالشيخ أو حياته ونحوه لم يقدم أحدهم عليه إن كان كاذبا، فهذا شرك أكبر بلا ريب؛ لأنه صار المحلوف به عنده أخوف وأجل وأعظم من الله عز وجل وهذا =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : النذور والأيمان (1535) , وأبو داود : الأيمان والنذور (3251) , وأحمد (2/34 ,2/69 ,2/86 ,2/125).(8/472)