ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية: 127.
2 سورة الطور آية: 48.
3 مسلم: الطهارة (223) , والترمذي: الدعوات (3517) , وابن ماجه: الطهارة وسننها (280) , وأحمد (5/342 ,5/343) , والدارمي: الطهارة (653).
4 البخاري: الزكاة (1469) , ومسلم: الزكاة (1053) , والترمذي: البر والصلة (2024) , والنسائي: الزكاة (2588) , وأبو داود: الزكاة (1644) , وأحمد (3/12 ,3/47 ,3/93) , ومالك: الجامع (1880) , والدارمي: الزكاة (1646).
5 الترمذي: الدعوات (3519) , وأحمد (5/363).
6 سورة التغابن آية: 11.
7 سورة التغابن آية: 11.
8 سورة الحديد آية: 22.(5/171)
ص -442- ... عليه أيضًا في الدنيا ما أخذه منه أو خيرًا منه كما قال:{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}1 . قال ابن عباس: "يهد قلبه باليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه" . وفي الحديث الصحيح: "عجبًا للمؤمن لا يقضي اللّه له قضاء إلا كان خيراً له، إن أصابته ضراء فصبر كان خيرًا له، وإن أصابته سراء فشكر كان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن" 2.
وقوله:{وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}3 تنبيه على أن ذلك صادر عن علمه المتضمن لحكمته، وذلك يوجب الصبر والرضى.
قوله: "قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند اللّه فيرضى ويسلم" .
ش: هذا الأثر رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن علقمة وهو صحيح.
وعلقمة هو ابن قيس بن عبد اللّه النخعي الكوفي ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وسمع من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وابن مسعود وعائشة وغيرهم، وهو من كبار التابعين وأجلائهم وعلمائهم وثقاتهم مات بعد الستين.
قوله: "هو الرجل تصيبه المصيبة..." إلى آخره. هذا تفسير للإيمان المذكور في الآية لكنه تفسير باللازم وهو صحيح، لأن هذا اللازم للإيمان الراسخ في القلب، وقريب منه تفسير سعيد بن جبير: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}4. يعني: يسترجع يقول: إنا للّه وإنا إليه راجعون. وفي الآية أن الصبر سبب لهداية القلب، وأن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وأن الأعمال من الإيمان وفيها إثبات القدر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية: 155-157.
2 مسلم: الزهد والرقائق (2999) , وأحمد (6/15) , والدارمي: الرقاق (2777).
3 سورة التغابن آية: 11.
4 سورة التغابن آية: 11.(5/172)
ص -443- ... قال: وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال:"اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت" 1 .
ش: قوله: "هما" . أي الاثنتان.
قوله: "بهم كفر" . أي: هما بالناس، أي: فيهم كفر. قال شيخ الإسلام: أي: هاتان الخصلتان هما كفر قائم في الناس. فنفس الخصلتين كفر حيث كانتا في أعمال الكفار، وهما قائمتان بالناس، لكن ليس من قام به شعبة من شعب الكفر يصير كافرًا الكفر المطلق، حتى تقوم به حقيقة الكفر، كما أنه ليس من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمنًا حتى يقوم به أصل الإيمان، وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله: "ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة" 2. وبين كفر منكّر في الإثبات.
قوله: "الطعن في النسب" أي: عيبه، ويدخل فيه أن يقال: هذا ليس ابن فلان مع ثبوت نسبه في ظاهر الشرع ذكره بعضهم.
قوله: "والنياحة على الميت" أي: رفع الصوت بالندب بتعديد شمائله لما في ذلك من التسخط على القدر والجزع المنافي للصبر، وذلك كقول النائحة: واعضداه، واناصراه، واكاسياه ونحو ذلك. وفيه دليل على أن الصبر واجب، لأن النياحة منافية له، فإذا حرمت دل على وجوبه وفيه أن من الكفر ما لا ينقل عن الملة.
قال: ولهما عن ابن مسعود مرفوعًا: "ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعى بدعوى الجاهلية" 3.
ش: قوله: "ليس منا" هذا من نصوص الوعيد، وقد جاء عن سفيان الثوري وأحمد كراهة تأويلها ليكون أوقع في النفوس، وأبلغ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الإيمان (67) , وأحمد (2/377 ,2/431 ,2/441 ,2/496).
2 مسلم: الإيمان (82) , والنسائي: الصلاة (464).
3 البخاري: الجنائز (1297) , ومسلم: الإيمان (103) , والترمذي: الجنائز (999) , والنسائي: الجنائز (1860 ,1862 ,1864) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1584) , وأحمد (1/386 ,1/432 ,1/442 ,1/456 ,1/465).(5/173)
ص -444- ... في الزجر، وقيل أي: ليس من أهل سنتنا وطريقتنا، لأن الفاعل لذلك ارتكب محرمًا، وترك واجبًا. وليس المراد إخراجه من الإسلام بل المراد المبالغة في الردع عن الوقوع في ذلك، كما يقول الرجل لولده عند معاقبته: لست مني ولست منك، فالمراد أن فاعل ذلك ليس من المؤمنين الذين قاموا بواجبات الإيمان.
قوله: "من ضرب الخدود" . قال الحافظ: خص الخد بذلك لكونه الغالب، وإلا فضرب بقية الوجه مثله، قلت: بل ولو ضرب غير الوجه كالصدر، فكما لو ضرب الخد، فيدخل في معنى ضرب الخد، إذ الكل جزع مناف للصبر فيحرم.
قوله: "وشق الجيوب"، جمع جيب وهو الذي يدخل فيه الرأس من الثوب، وكانوا يشقونه حزنًا على الميت. قال الحافظ: والمراد إكمال فتحه إلى آخره. قلت: الظاهر أن فتح بعضه كفتحه كله.
قوله: "ودعا بدعوى الجاهلية" . قال شيخ الإسلام: هو ندب الميت. وقال غيره: هو الدعاء بالويل والثبور. وقال الحافظ: أي: من النياحة ونحوها. وكذا الندب به كقولهم: واجبلاه، وكذا الدعاء بالويل والثبور. وقال ابن القيم: الدعاء بدعوى الجاهلية، كالدعاء إلى القبائل والعصبية للإنسان، ومثله التعصب للمذاهب والطوائف، والمشايخ وتفضيل بعض على بعض في الهوى والعصبية، وكونه منتسبًا إليه يدعو إلى ذلك، ويوالي عليه، ويعادي ويزن الناس به، فكل هذا من دعوى الجاهلية.
قلت: الصحيح أن دعوى الجاهلية يعم ذلك كله، وقد جاء لعن من فعل ما في هذا الحديث عن ابن ماجة، وصححه ابن حبان عن أبي أمامة أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "لعن الخامشة وجهها، والشاقة جيبها، والداعية بالويل والثبور" 1 وهذا يدل على أن هذه الأمور من الكبائر، لأنها مشتملة على التسخط على الرب وعدم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1585).(5/174)
ص -445- ... الصبر الواجب، والإضرار بالنفس من لطم الوجه، وإتلاف المال; بشق الثياب وتمزيقها وذكر الميت بما ليس فيه، والدعاء بالويل والثبور والتظلم من اللّه تعالى، وبدون هذا يثبت التحريم الشديد، فأما الكلمات اليسيرة إذا كانت صدقًا لا على وجه النوح والتسخط فلا تحرم، ولا تنافي الصبر الواجب. نص عليه أحمد لما رواه في مسنده عن [عائشة] "أن أبا بكررضي اللّه عنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته فوضع فمه بين عينيه، ووضع يديه على صدغيه وقال: وانبياه واخليلاه واصفياه" 1. وكذلك صح عن "فاطمة رضي الله عنها أنها ندبت أباها صلى الله عليه وسلم فقالت: يا أبتاه أجاب ربًّا دعاه" . الحديث.
واعلم أن الحديث المشروح لا يدل على النهي عن البكاء أصلاً، وإنما يدل على النهي عما ذكر فيه فقط. وكذلك يدل على النهي عما في معناه كالبكاء برنة، وحلق الشعر، وخمش الوجوه، ونحو ذلك. أما البكاء على وجه الرحمة والرقة ونحو ذلك فيجوز، بل قال شيخ الإسلام: البكاء على الميت على وجه الرحمة حسن مستحب، ولا ينافي الرضى بقضاء اللّه، بخلاف البكاء عليه لفوات حظه منه.
قلت: ويدل لذلك قوله عليه السلام لما مات ابنه إبراهيم: "تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون" 2. وهو في الصحيح وفي الصحيحين عن أسامة بن زيد "أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم انطلق إلى أحد بناته ولها صبي في الموت فرفع إليه الصبي ونفسه تقعقع كأنها شن ففاضت عيناه فقال سعد: ما هذا يا رسول اللّه؟ قال: هذه رحمة جعلها اللّه في قلوب عباده وإنما يرحم اللّه من عباده الرحماء" 3.(5/175)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (6/31).
2 البخاري: الجنائز (1303) , ومسلم: الفضائل (2315) , وأبو داود: الجنائز (3126) , وأحمد (3/194).
3 البخاري: التوحيد (7377) , ومسلم: الجنائز (923) , والنسائي: الجنائز (1868) , وأبو داود: الجنائز (3125) , وأحمد (5/204 ,5/205 ,5/206).(5/176)
ص -446- ... قال: وعن أنس أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أراد اللّه بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا وإذا أراد اللّه بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة" 1.
ش: هذا الأثر رواه الترمذي، والحاكم، وحسنه الترمذي وفي إسناده سعد بن سنان. قال الذهبي في موضع: سعد ليس حجة وفي آخر كأنه غير صحيح. وأخرجه الطبراني، والحاكم عن عبد اللّه بن مغفل، وأخرجه ابن عدي عن أبي هريرة، والطبراني عن عمار بن ياسر وحسنه السيوطي.
قوله: "إذا أراد اللّه بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا" . قال شارح الجامع الصغير: أي: بصب البلاء والمصائب عليه جزاء لما فرط من الذنوب منه، فيخرج منها وليس عليه ذنب يوافي به يوم القيامة، كما يعلم من مقابله الآتي، ومن فعل ذلك به فقد أعظم اللطف به، لأن من حوسب بعمله عاجلاً في الدنيا خف جزاؤه عليه حتى يكفر بالشوكة يشاكها، حتى بالقلم يسقط من الكاتب، فيكفر عن المؤمن بكل ما يلحقه في دنياه حتى يموت على طهارة من دنسه.
قلت: وفي الصحيح: "لا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة" 2. وفي المسند وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في جسده وماله وفي ولده حتى يلقى اللّه وما عليه خطيئة" 3.
قال شيخ الإسلام: المصائب نعمة، لأنها مكفرات للذنوب، ولأنها تدعو إلى الصبر، فيثاب عليها، ولأنها تقتضي الإنابة إلى اللّه والذل له، والإعراض عن الخلق، إلى غير ذلك من المصالح العظيمة فنفس البلاء يكفر اللّه به الخطايا، ومعلوم أن هذا من أعظم النعم، ولو كان رجل من أفجر الناس فإنه لا بد أن يخفف اللّه عنه عذابه بمصائبه. فالمصائب رحمة ونعمة في حق عموم الخلق إلا أن يدخل صاحبها بسببها في معاصي أعظم مما كان قبل ذلك، فتكون(5/177)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الزهد (2396).
2 الترمذي: الزهد (2398) , وابن ماجه: الفتن (4023) , وأحمد (1/172) , والدارمي: الرقاق (2783).
3 الترمذي: الزهد (2399) , وأحمد (2/287 ,2/450).(5/178)
ص -447- ... شرًّا عليه من جهة ما أصابه في دينه، فإن من الناس من إذا ابتلي بفقر أو مرض أو جوع حصل له من الجزع والسخط والنفاق ومرض القلب، أو الكفر الظاهر، أو ترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات ما يوجب له ضررًا في دينه بحسب ذلك. فهذا كانت العافية خيرًا له من جهة ما أورثته المصيبة، لا من جهة المصيبة، كما أن من أوجبت له المصيبة صبرًا وطاعة كانت في حقه نعمة دينية، فهي بعينها فعل الرب عزّ وجل رحمة للخلق، واللّه تبارك وتعالى محمود عليها، فإن اقترن بها طاعة كان ذلك نعمة ثانية على صاحبها، وإن اقترن بها للمؤمن معصية، فهذا مما تتنوع فيه أحوال الناس كما تتنوع أحوالهم في العافية، فمن ابتلي فرزق الصبر كان الصبر عليه نعمة في دينه، وحصل له بعد ما كفر من خطاياه رحمة، وحصل له بثنائه على ربه صلاة ربه عليه حيث قال:{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}1. فحصل له غفران السيئات، ورفع الدرجات وهذا من أعظم النعم. فالصبر واجب على كل مصاب; فمن قام بالصبر الواجب حصل له ذلك. انتهى ملخصًا.
قوله: "وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه"، أي: أخر عنه العقوبة بذنبه.
قوله: "حتى يوافي به يوم القيامة"، هو بضم الياء وكسر الفاء منصوبًا بحتى مبنيًّا للفاعل. قال العزيزي: "أي: لا يجازيه بذنبه في الدنيا حتى يجيء في الآخرة مستوفي الذنوب وافيها فيستوفي ما يستحقه من العقاب".
قلت: وهذا مما يزهد العبد في الصحة الدائمة خوفًا أن تكون طيباته عجلت له في الحياة الدنيا، واللّه تعالى لم يرض الدنيا لعقوبة أعدائه، كما لم يرضها لإثابة أوليائه بل جعل ثوابهم أن أسكنهم في جواره ورضي عنهم. كما قال تعالى:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}2. لهذا "لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم(5/179)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية: 157.
2 سورة القمر آية: 54-55.(5/180)
ص -448- ... الأسقام قال رجل: يا رسول اللّه وما الأسقام؟ واللّه ما مرضت قط قال: قم عنا فلست منا" 1 رواه أبو داود. وهذه الجملة هي آخر الحديث.
فأما قوله: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن عظم الجزاء..." إلى آخره فهو أول حديث آخر لكن لما رواهما الترمذي بإسناد واحد عن صحابي واحد جعلهما المصنف كالحديث الواحد.
وفيه من الفوائد أن البلاء للمؤمن من علامات الخير خلافًا لما يظنه كثير من الناس، وفيه الخوف من الصحة الدائمة أن تكون علامة شر، وفيه تنبيه على رجاء اللّه وحسن الظن به فيما يقضيه لك مما تكره، وفيه معنى قوله تعالى:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} الآية2.
قال المصنف: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن اللّه إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط" 3. حسنه الترمذي.
ش: هذا الحديث رواه الترمذي ولفظه: حدثنا قتيبة، ثنا الليث عن يزيد ابن أبي حبيب عن سعد بن سنان عن أنس قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد اللّه بعبده الخير..." 4 الحديث الذي قبل هذا ثم قال: وبهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن عظم الجزاء..." الحديث. ثم قال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. ورواه ابن ماجة وصححه السيوطي. وروى الإمام أحمد عن محمود بن لبيد مرفوعًا: "إذا أحب اللّه قومًا ابتلاهم فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع" 5. قال المنذري: رواته ثقات.
قوله: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء"، بكسر المهملة وفتح الظاء فيهما، ويجوز ضمها مع سكون الظاء، أي: من كان ابتلاؤه أعظم فجزاؤه أعظم، فعظمة الأجر وكثرة الثواب مع عظم البلاء كيفية وكمية جزاء وفاقًا.(5/181)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الجنائز (3089).
2 سورة البقرة آية: 216.
3 الترمذي: الزهد (2396) , وابن ماجه: الفتن (4031).
4 الترمذي: الزهد (2396).
5 أحمد (5/427).(5/182)
ص -449- ... قلت: ولما كان الأنبياء عليهم السلام أعظم الناس جزاء كانوا أشد الناس بلاء، كما في حديث سعد: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس أشد بلاء؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة" 1. رواه الدارمي، وابن ماجة، والترمذي وصححه. وقد يحتج بقوله: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء" . من يقول: إن المصائب والأسقام يثاب عليها غير تكفير الخطايا، ورجح ابن القيم وغيره أن ثوابها تكفير الخطايا فقط إلا إن كانت سببًا لعمل صالح كالتوبة، والاستغفار والصبر والرضى، فإنه حينئذ يثاب على ما تولد منها كما في حديث "إذا سبقت للعبد من اللّه منْزلة لم يبلغها، أو قال: لم ينلها بعمله ابتلاه اللّه في جسده، أو في ولده، أو في ماله، ثم صبره حتى يبلغه المنْزلة التي سبقت له من اللّه عزّ وجل" 2. رواه أبو داود في رواية ابن داسة والبخاري في تاريخه وأبو يعلى في مسنده وحسنه بعضهم. وعلى هذا فيجاب عن الأول "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء" . أي: إذا صبر واحتسب.
قوله: "وإن اللّه إذا أحب قومًا ابتلاهم" . صريح في حصول الابتلاء لمن أحبه اللّه، ولما كان الأنبياء عليهم السلام أفضل الأحباب كانوا أشد الناس بلاء، وأصابهم من البلاء في اللّه ما لم يصب أحدًا لينالوا بذلك الثواب العظيم والرضوان الأكبر وليأتسي بهم من بعدهم، ويعلموا أنهم بشر تصيبهم المحن والبلايا فلا يعبدونهم.
فإن قلت: كيف يبتلي اللّه أحبابه؟!
قيل: لما كان أحد لا يخلو من ذنب كان الابتلاء تطهيرًا لهم كما صحت بذلك الأحاديث. وفي أثر إلهي: "أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب" ولأنه زيادة في درجاتهم لما يحصل مع المصيبة للمؤمن من الأعمال الصالحة كما تقدم في(5/183)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الزهد (2398) , وابن ماجه: الفتن (4023) , وأحمد (1/172 ,1/173 ,1/180 ,1/185) , والدارمي: الرقاق (2783).
2 أبو داود: الجنائز (3090) , وأحمد (5/272).(5/184)
ص -450- ... حديث "إذا سبقت للعبد من اللّه منْزلة..." 1 الحديث. ولأن ذلك يدعو إلى التوبة فإن اللّه تعالى يبتلي العباد بعذاب الدنيا ليتوبوا من الذنوب كما قال تعالى:{لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}2. فمن رزقه اللّه التوبة بسبب المصيبة كان ذلك من أعظم نعم اللّه عليه، ولأن ذلك يحصل به دعاء اللّه والتضرع إليه; ولهذا ذم اللّه من لا يستكين لربه، ولا يتضرع عند حصول البأساء كما قال تعالى:{وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ}3. ودعاء اللّه والتضرع إليه من أعظم النعم، فهذه النعمة والتي قبلها من أعظم صلاح الدين، فإن صلاح الدين في أن يعبد اللّه وحده ويتوكل عليه، وأن لا تدعو مع اللّه إلهًا آخر لا دعاء عبادة، ولا دعاء مسألة. فإذا حصلت لك التوبة التي مضمونها أن تعبد اللّه وحده، وتطيع رسله بفعل المأمور، وترك المحظور، كنت ممن يعبد اللّه، وإذا حصل لك الدعاء الذي هو سؤال اللّه حاجاتك، فتسأله ما تنتفع به، وتستعيذ به مما تستضر به، كان هذا من أعظم نعم اللّه عليك، وهذا كثيرًا ما يحصل بالمصائب. وإذا كانت هذه النعم في المصائب، فأولى الناس بها أحبابه، فعليهم حينئذ أن يشكروا اللّه. لخصت ذلك من كلام شيخ الإسلام رحمه اللّه.
قوله: "فمن رضي فله الرضى" . أي: من رضي بما قضاه اللّه وقدره عليه من الابتلاء فله الرضى من اللّه جزاءً وفاقًا. كما قال تعالى:{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}4. وهذا دليل على فضيلة الرضى، وهو أن لا يعترض على الحكم ولا يتسخطه ولا يكرهه، وقد وصى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً فقال: "لا تتهم اللّه في شيء قضاه لك" 5. فإذا نظر المؤمن بالقضاء والقدر في حكمة اللّه ورحمته، وأنه غير متهم في قضائه، دعاه ذلك إلى الرضى، قال ابن مسعود: إن اللّه بقسطه وعلمه جعل الروح والفرح في اليقين والرضى، وجعل الهم والحزن(5/185)
في الشك والسخط. وقال ابن عون: ارْضَ بقضاء اللّه من عسر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الجنائز (3090) , وأحمد (5/272).
2 سورة الروم آية: 41.
3 سورة المؤمنون آية: 76.
4 سورة البينة آية: 8.
5 أحمد (5/318).(5/186)
ص -451- ... ويسر فإن ذلك أقل لهمك، وأبلغ فيما تطلب من أمر آخرتك، واعلم أن العبد لن يصيب حقيقة الرضى حتى يكون رضاه عند الفقر والبلاء كرضاه عند الغنى والرخاء كيف تستقضي اللّه في أمرك، ثم تسخط إن رأيت قضاءه مخالفًا لهواك؟ ولعل ما هويت من ذلك لو وفق لك لكان فيه هلاكك، وترضى قضاءه إذا وافق هواك، وذلك لقلة علمك بالغيب، إذا كنت كذلك ما أنصفت من نفسك، ولا أصبت باب الرضى. ذكره ابن رجب قال: وهذا كلام حسن.
قوله: "ومن سخط"، هو بكسر الخاء قال أبو السعادات: السخط الكراهية للشيء وعدم الرضى به، أي: من سخط أقدار اللّه فله السخط أي: من اللّه وكفى بذلك عقوبة. قال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}1. وفيه دليل أن السخط من أكبر الكبائر وقد يستدل به على إيجاب الرضى كما هو اختيار ابن عقيل. واختار القاضي عدم الوجوب، ورجحه شيخ الإسلام، وابن القيم. قال شيخ الإسلام: ولم يجئ الأمر به كما جاء الأمر بالصبر، وإنما جاء الثناء على أصحابه ومدحهم. قال وأما ما جاء من الأثر: "من لم يصبر على بلائي، ولم يرض بقضائي فليتخذ ربًّا سواي" . فهذا إسرائيلي ليس يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قلت: قد روى الطبراني في الأوسط معناه عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه مرفوعًا: "من لم يرض بقضاء اللّه ويؤمن بقدر اللّه، فليلتمس إلهًا غير اللّه" . قال الهيثمي: فيه حزم بن أبي حزم وثقه ابن معين، وضعفه جمع وبقية رجاله ثقات. فإن ثبت هذا دل على وجوبه. قال شيخ الإسلام: وأعلى من ذلك، أي: من الرضى أن يشكر اللّه على المصيبة لما يرى من إنعام اللّه تعالى عليه بها. انتهى.
واعلم أنه لا تنافي بين الرضى وبين الإحساس بالألم فكثير ممن له أنين من وجع وشدة مرض قلبه مشحون من الرضى والتسليم لأمر اللّه.
فإن قيل: ما الفرق بين الرضى والصبر؟(5/187)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة محمد آية: 28.(5/188)
ص -452- ... فالجواب قال طائفة من السلف منهم عمر بن عبد العزيز، والفضيل، وأبو سليمان، وابن المبارك، وغيرهم: إن الراضي لا يتمنى غير حاله التي هو عليها بخلاف الصابر، وقال الخواص: "الصبر دون الرضى، الرضى أن يكون الرجل قبل نزول المصيبة راض بأي ذاك كان، والصبر أن يكون بعد نزول المصيبة يصبر".
قلت: كلام الخواص هذا عزم على الرضى ليس هو الرضى، فإنه إنما يكون بعد القضاء كما في الحديث: "وأسألك الرضى بعد القضاء" 1. لأن العبد قد يعزم على الرضى بالقضاء قبل وقوعه فإذا وقع انفسخت تلك العزيمة، فمن رضي بعد وقوع القضاء فهو الراضي حقيقة. قاله ابن رجب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: السهو (1306).
[30- باب ما جاء في الرياء]
أي: من الوعيد ولما كان خلوص العمل من الشرك والرياء شرطًا في قبوله لمنافاة الشرك والرياء للتوحيد، نبه المصنف على ذلك تحقيقًا للتوحيد. والرياء مصدر راءى يرائي مراءاة ورياء; وهو أن يري الناس أنه يعمل عملاً على صفة وهو يضمر في قلبه صفة أخرى، فلا اعتداد ولا ثواب إلا بما خلصت فيه النية للّه تعالى. ذكره القاضي أبو بكر بمعناه، وقال الحافظ: هو مشتق من الرؤية، والمراد به إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمد صاحبها انتهى. والفرق بينه وبين السمعة أن الرياء هو العمل لرؤية الناس، والسمعة العمل لأجل سماعهم، فالرياء يتعلق بحاسة البصر، والسمعة بحاسة السمع، ويدخل فيه أن يخفي عمله للّه ثم يحدث به الناس.
قال: وقول اللّه تعالى:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}1.
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد للناس: إنما أنا بشر مثلكم، أي: في البشرية ولكن اللّه مَنَّ عليّ وفضلني بالرسالة وليس لي من الربوبية ولا من الإلهية شيء، بل ذلك للّه وحده لا شريك له(5/189)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الكهف آية: 110.(5/190)
ص -453- ... كما قال:{يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}1، أي: معبودكم الذي أدعوكم إلى عبادته إله واحد لا شريك له {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ}2، أي: من كان يخاف لقاء اللّه يوم القيامة. قال شيخ الإسلام: أما اللقاء، فقد فسره طائفة من السلف والخلف بما يتضمن المعاينة والمشاهدة بعد السلوك والسير وقالوا: إن لقاء اللّه يتضمن رؤيته سبحانه وتعالى وأطال في ذلك واحتج له. وقال سعيد ابن جبير: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ}3. قال: من كان يخشى البعث في الآخرة رواه ابن أبي حاتم. {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}4، أي: كائنًا ما كان. قال ابن القيم أي: كما أنه إله واحد لا إله سواه، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده لا شريك له فكما تفرد بالإلهية يجب أن يفرد بالعبودية، فالعمل الصالح هو الخالص من الرياء، المقيد بالسنة انتهى. وهذان ركنا العمل المتقبل لا بد أن يكون صوابًا خالصًا، فالصواب أن يكون على السنة وإليه الإشارة بقوله: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً}5. والخالص: أن يخلص من الشرك الجلي والخفي وإليه الإشارة بقوله:{وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}6. روى عبد الرزاق وابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص وابن أبي حاتم والحاكم عن طاوس قال: "قال رجل يا نبي اللّه إني أقف المواقف أبتغي وجه اللّه وأحب أن يرى موطني فلم يرد عليه شيئًا حتى نزلت هذه الآية: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}، [الكهف، من الآية: 110] " . رواه الحاكم وصححه موصولاً عن طاوس عن ابن عباس.
وفي الآية دليل على الشهادتين، وأن اللّه تعالى فرض على نبينا صلى الله عليه وسلم أن يخبرنا بتوحيد الإلهية، ولا فتوحيد الربوبية لم ينكره الكفار الذين كذبوه وقاتلوه ذكره المصنف.
وفيها تسمية(5/191)
الرياء شركًا. وفيها أن من شروط الإيمان باللّه واليوم الآخر أن لا يشرك بعبادة ربه أحدًا. ففيه التصريح بأن الشرك الواقع من المشركين إنما هو في العبادة لا في الربوبية. وفيها الرد على من قال: أولئك يتشفعون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الكهف آية: 110.
2 سورة الكهف آية: 110.
3 سورة الكهف آية: 110.
4 سورة الكهف آية: 110.
5 سورة الكهف آية: 110.
6 سورة الكهف آية: 110.(5/192)
ص -454- ... بالأصنام ونحن نتشفع بصالح العمل لأنه قال: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}1. فليس بعد هذا بيان، افتتح الآية بذكر براءة النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أقرب الخلق إلى اللّه وسيلة، أي: براءته من الإلهية وختمها بقوله: أحدًا.
واعلم رحمك اللّه أن هذه الآية لا ينتفع بها إلا من ميز بين توحيد الربوبية وبين توحيد الإلهية تمييزًا تامًّا وعرف ما عليه غالب الناس إما طواغيت ينازعون اللّه في توحيد الربوبية الذي لم يصل إليه شرك المشركين، وإما مصدق لهم تابع لهم، وإما شاك لا يدري ما أنزل اللّه على رسوله، ولا يميز بين دين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين دين النصارى، ذكره المصنف.
وفيها أن أصل دين النبي صلى الله عليه وسلم الذي بعث به هو الإخلاص كما في هذه الآية وقوله:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ}2 . وذلك هو دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}3. وذلك هو الحنيفية الإبراهيمية جعلنا اللّه من أهلها بمنه وكرمه.
قال: عن أبي هريرةرضي اللّه عنه مرفوعًا قال اللّه تعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه"4 رواه مسلم.
ش: قوله: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك" لما كان المرائي قاصدًا بعمله اللّه تعالى وغيره، كان قد جعل اللّه تعالى شريكًا، فإذا كان كذلك، فاللّه تعالى هو الغني على الإطلاق، والشركاء بل جميع الخلق فقراء إليه بكل اعتبار، فلا يليق بكرمه وغناه التام أن يقبل العمل الذي جعل له فيه شريك، فإن كماله تبارك وتعالى وكرمه وغناه يوجب أن لا يقبل ذلك ولا يلزم من اسم التفضيل إثبات غنى للشركاء، فقد تقع المفاضلة بين(5/193)
الشيئين وإن كان أحدهما لا فضل فيه كقوله تعالى:{آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ}5. وقوله تعالى:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً}6.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الكهف آية: 110.
2 سورة هود آية: 1-2.
3 سورة الأنبياء آية: 25.
4 مسلم: الزهد والرقائق (2985) , وابن ماجه: الزهد (4202) , وأحمد (2/301 ,2/435).
5 سورة النمل آية: 59.
6 سورة الفرقان آية: 24.(5/194)
ص -455- ... قوله: "من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري"، أي: من قصد بذلك العمل الذي يعمله لوجهي غيري من المخلوقين تركته وشركه. وفي رواية عند ابن ماجة وغير:ه "فأنا منه بريء وهو للذي أشرك"1. قال الطَّيْبِي: الضمير المنصوب في تركته يجوز أن يرجع إلى العمل والمراد من الشرك الشريك.
قال ابن رجب: "واعلم أن العمل لغير اللّه أقسام فتارة يكون رياء محضًا، فلا يراد به سوى مراءاة المخلوقين لغرض دنيوي، كحال المنافقين في صلاتهم كما قال تعالى:{وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ}2. وكذلك وصف اللّه الكفار بالرياء في قوله:{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ}3. وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة الواجبة، أو الحج أو غيرهما من الأعمال الظاهرة أو التي يتعدى نفعها، فإن الإخلاص فيها عزيز، وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط، وأن صاحبه يستحق المقت من اللّه والعقوبة، وتارة يكون العمل للّه ويشاركه الرياء، فإن شاركه من أصله، فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه، ثم ذكر أحاديث تدل على ذلك، منها الحديث الذي ذكره المصنف، وحديث شداد بن أوس مرفوعًا: "من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك، وإن اللّه عزّ وجل يقول: أنا خير قسيم لمن أشرك بي فمن أشرك بي شيئًا فإن حشده4 وعمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به أنا عنه غني" . رواه أحمد.
وحديث الضحاك بن قيس مرفوعًا إن اللّه عزّ وجل يقول: "أنا خير شريك فمن أشرك معي شريكًا، فهو لشريكي يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم للّه عزّ وجل فإن اللّه لا يقبل من الأعمال إلا ما خلص له ولا(5/195)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الزهد والرقائق (2985) , وابن ماجه: الزهد (4202) , وأحمد (2/301 ,2/435).
2 سورة النساء آية: 142.
3 سورة الأنفال آية: 47.
4 في الطبعة السابقة: جدة.(5/196)
ص -456- ... تقولوا: هذا للّه والرحم فإنها للرحم وليس للّه منه شيء، ولا تقولوا هذا للّه ولوجوهكم، فإنه لوجوهكم وليس للّه منه شيء" رواه البزار وابن مردويه والبيهقي بسند قال المنذري: لا بأس به، وحديث أبي أمامة الباهلي: "أن رجلاً جاء إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: لا شيء له فأعادها عليه ثلاث مرات يقول له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: لا شيء له ثم قال: إن اللّه لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصًا وابتغي به وجهه" 1. رواه أبو داود والنسائي بإسناد جيد. ثم قال: فإن خالط نية الجهاد مثلاً نية غير الرياء مثل أخذ أجرة للخدمة، أو أخذ شيء من الغنيمة، أو التجارة، نقص بذلك أجر جهادهم ولم يبطل بالكلية.
وفي صحيح مسلم عن عبد اللّه بن عمرو2 عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الغزاة إذا غنموا غنيمة تعجلوا ثلثي أجرهم، فإن لم يغنموا شيئًا تم لهم أجرهم" 3.
قلت: هذا لا يدل على أنهم غزوا لأجلها فلا يدل على ثبوت الأجر لمن غزا يلتمس عرضًا. قال: وقد ذكرنا فيما مضى أحاديث تدل على أن من أراد بجهاده عرضًا من الدنيا أنه لا أجر له، وهي محمولة على أنه لم يكن له غرض في الجهاد إلا الدنيا.
قلت: ظاهر حديث أبي هريرة: "أن رجلاً قال: يا رسول اللّه رجل يريد الجهاد وهو يبتغي عرضًا من عرض الدنيا فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: لا أجر له. فأعاد عليه ثلاثًا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا أجر له" 4. رواه أبو داود. يدل على أن نية الجهاد إذا خالطها نية أجرة الخدمة أو أخذ شيء من الغنيمة أو التجارة لم يكن له أجر، ويحتمل أن يكون معنى: يريد الجهاد أي: يريد سفر الجهاد ولم ينو الجهاد، إنما نوى عرض الدنيا.
قال ابن رجب، وقال الإمام أحمد: التاجر والمستأجر والمكاري أجرهم على(5/197)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: الجهاد (3140).
2 في الطبعة السابقة: عمر دون الواو وهو خطأ.
3 مسلم: الإمارة (1906) , والنسائي: الجهاد (3125) , وأبو داود: الجهاد (2497) , وابن ماجه: الجهاد (2785) , وأحمد (2/169).
4 أبو داود: الجهاد (2516) , وأحمد (2/366).(5/198)
ص -457- ... قدر ما يخلص من نيتهم في غزواتهم، ولا يكونون مثل من جاهد بنفسه، وماله لا يخلط به غيره. وقال أيضًا فيمن يأخذ جعلاً على الجهاد: إذا لم يخرج لأجل الدراهم فلا بأس، كأنه خرج لدينه، فإن أعطي شيئًا أخذه وكذا روي عن عبد اللّه بن عمرو قال: إذا أجمع أحدكم على الغزو، فعوضه اللّه رزقًا فلا بأس بذلك. وأما إن أحدكم إن أعطي درهمًا غزا، وإن لم يعط درهمًا لم يغز، فلا خير في ذلك.
قلت: هذا يدل على الفرق بين ما كانت نية الدنيا مخالطة له من أول مرة، بحيث تكون هي الباعث له على العمل، أو من جملة ما يبعث عليه، كالذي يلتمس الأجر والذكر، فهذا الأجر له وبين ما كانت النية خالصة للّه من أول مرة، ثم عرض له أمر من الدنيا لا يبالي به، سواء حصل له أو لم يحصل، كالذي أجمع على الغزو سواء أعطي أو لم يعط. فهذا لا يضره. ونحوه التجارة في الحج كما قال تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ}1. وعلى هذا يُنَزل ما روي عن مجاهد أنه قال في حج الجمال وحج الأجير وحج التاجر: هو تام لا ينقص من أجورهم شيء، أي: لأن قصدهم الأصلي كان هو الحج دون التكسب.
قال: وأما إن كان أصل العمل للّه، ثم طرأ عليه نية الرياء، فإن كان خاطرًا ودفعه، فلا يضره بغير خلاف، وإن استرسل معه، فهل يحبط عمله أم لا يضره ذلك، ويجازى على أصل نيته؟ في ذلك اختلاف بين العلماء من السلف، حكاه الإمام أحمد وابن جرير الطبري، ورجحا أن عمله لا يبطل بذلك، وأنه يجازى بنيته الأولى، وهو مروي عن الحسن البصري وغيره. ويستدل لهذا القول بما أخرجه أبو داود في مراسيله عن عطاء الخراساني: "أن رجلاً قال: يا رسول اللّه إن بني سلمة كلهم يقاتل، فمنهم من يقاتل للدنيا، ومنهم من يقاتل نجدة، ومنهم من يقاتل ابتغاء وجه اللّه [فأيّهم الشّهيد؟]،قال: كلهم إذًا كان أصل أمره أن تكون كلمة اللّه هي العليا" .
وذكر ابن جرير أن هذا الاختلاف إنما هو(5/199)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية: 198.(5/200)
ص -458- ... في عمل مرتبط آخره بأوله، كالصلاة والصيام والحج، فأما ما لا ارتباط فيه، كالقراءة والذكر، وإنفاق المال ونشر العلم، فإنه ينقطع بنية الرياء الطارئة عليه، ويحتاج إلى تجديد نية. فأما إذا عمل العمل للّه خالصًا، ثم ألقى اللّه له الثناء الحسن في قلوب المؤمنين، ففرح بفضل اللّه ورحمته، واستبشر بذلك; لم يضره.
وفي هذا المعنى جاء في حديث أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير، يحمده الناس عليه، فقال: تلك عاجل بشرى المؤمن" 1. رواه مسلم انتهى ملخصًا.
إذا تبين هذا; فقد دل الكتاب والسنة على حبوط العمل بالرياء، وجاء الوعيد بالعذاب عليه، قال اللّه تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ}2. والآية بعدها.
وروى مسلم في صحيحه حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار: المقاتل ليقال جريء، والمتعلم ليقال عالم، والمتصدق ليقال جواد. فأما ما رواه البزار وابن منده والبيهقي عن معاذ بن جبل مرفوعًا: "من عمل رياء لا يكتب لا له، ولا عليه" . ذكره السيوطي في الدر ولم أقف على إسناده فما أظنه يثبت، والكتاب والسنة يدلان على خلافه، بل هو موضوع. [الرياء من الشرك الخفي]
قال: وعن أبي سعيد مرفوعًا: "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى قال: الشرك الخفي; يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل" 3. رواه أحمد.
ش: هذا الحديث رواه أحمد كما قال المصنف، ورواه ابن ماجة، وابن أبي حاتم، والبيهقي، وفيه قصة، ولفظ ابن ماجة والبيهقي: "خرج علينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر المسيح الدجال فقال ألا أخبركم..." 4. الحديث وفي سنده(5/201)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: البر والصلة والآداب (2642) , وابن ماجه: الزهد (4225) , وأحمد (5/156 ,5/168).
2 سورة هود آية: 15.
3 ابن ماجه: الزهد (4204) , وأحمد (3/30).
4 ابن ماجه: الزهد (4204) , وأحمد (3/30).(5/202)
ص -459- ... ضعف1. ومعناه صحيح. وروى ابن خزيمة في صحيحه معناه عن محمود بن لبيد2 قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس إياكم وشرك السرائر. قالوا: يا رسول اللّه وما شرك السرائر؟ قال: يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهدًا لما يرى من نظر الرجل إليه فذلك شرك السرائر" .
قوله: "عن أبي سعيد"، هو الخدري تقدمت ترجمته .
قوله: "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح الدجال؟" إنما كان الرياء كذلك، لخفائه وقوة الداعي إليه، وعسر التخلص منه لما يزينه الشيطان، والنفس الأمارة في قلب صاحبه.
قوله: "قالوا": بلى. فيه الحرص على العلم، وأن من عرض عليك أن يخبرك بما فيك فلا ينبغي لك رده، بل قابله بالقبول والتعلم.
قوله: "قال: الشرك الخفي"، سمي الرياء شركًا خفيًا، لأن صاحبه يظهر أن عمله للّه، ويخفي في قلبه أنه لغيره، وإنما تزين بإظهاره أنه للّه بخلاف الشرك الجلي. وفي حديث محمود بن لبيد الذي تقدم في باب الخوف من الشرك تسميته بالشرك الأصغر. وعن "شداد بن أوس قال: كنا نعد الرياء على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر" . رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص، وابن جرير في التهذيب والطبراني والحاكم وصححه. فظاهره أنه من الأصغر مطلقًا، وهو ظاهر قول الجمهور. وقال ابن القيم: وأما الشرك الأصغر; فكيسير الرياء والتصنع للخلق، والحلف بغير اللّه، وقول الرجل للرجل: ما شاء اللّه وشئت، وهذا من اللّه ومنك، وأنا باللّه وبك، وما لي إلا اللّه وأنت،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كلا فإن سنده حسن, وحسنه البوصيري في (الزوائد).
2 في الطبعة السابقة: "لبيدة" وهو خطأ.(5/203)
ص -460- ... وأنا متوكل على اللّه وعليك، ولولا اللّه وأنت لم يكن كذا وكذا، وقد يكون هذا شركًا أكبر بحسب حال قائله ومقصده انتهى. ففسر الشرك الأصغر باليسير من الرياء، فدل على أن كثيره أكبر، وضد الشرك الأكبر والأصغر التوحيد والإخلاص، وهو إفراد اللّه تعالى بالعبادة باطنًا وظاهرًا كما قال تعالى:{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}1. وقال تعالى:{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ}2 وقال تعالى:{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي}3. وقيل: الإخلاص استواء أحوال العبد في الظاهر والباطن، والرياء أن يكون ظاهره خيرًا من باطنه، أي: لملاحظة الخلق، والصدق في الإخلاص أن يكون باطنه أعمر من ظاهره.
قوله: "فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل"4. فسر الشرك الخفي بهذا أن يعمل الرجل العمل للّه، لكن يزيد فيه صفة كتحسينه وتطويله ونحو ذلك، لما يرى من نظر رجل، فهذا هو الشرك الخفي، وهو الرياء، والحامل له على ذلك هو حب الرياسة، والجاه عند الناس. قال الطّيْبِي: وهو من أضر غوائل النفس، وبواطن مكائدها، يبتلى به العلماء والعباد، والمشمرون عن ساق الجد لسلوك طريق الآخرة، فإنهم مهما قهروا أنفسهم، وفطموها عن الشهوات، وصانوها عن الشبهات، عجزت نفوسهم عن الطمع في المعاصي الظاهرة، الواقعة على الجوارح، فطلبت الاستراحة إلى التظاهر بالخير، وإظهار العلم والعمل، فوجدت مخلصًا من مشقة المجاهدة إلى لذة القبول عند الخلق، ولم تقنع باطلاع الخالق تبارك وتعالى، وفرحت بحمد الناس، ولم تقنع بحمد اللّه وحده، فأحب مدحهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية: 2-3.
2 سورة الزمر آية: 11.
3 سورة الزمر آية: 14.
4 ابن ماجه: الزهد (4204) , وأحمد (3/30).(5/204)
ص -461- ... وتبركهم بمشاهدته وخدمته وإكرامه وتقديمه في المحافل، فأصابت النفس في ذلك أعظم اللذات، وأعظم الشهوات. وهو يظن أن حياته باللّه تعالى وبعبادته، وإنما حياته هذه الشهوة الخفية التي تعمى عن دركها العقول الناقدة1. قد أثبت اسمه عند اللّه من المنافقين، وهو يظن أنه عند اللّه من عباده المقربين. وهذه مكيدة للنفس لا يسلم منها إلا الصديقون، ولذلك قيل: آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الرياسة. انتهى كلامه.
وفي الحديث من الفوائد شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ونصحه لهم، وأن الرياء أخوف على الصالحين من فتنة الدجال، والحذر من الرياء ومن الشرك الأكبر، إذ كان صلى الله عليه وسلم يخاف الرياء على أصحابه مع علمهم وفضلهم، فغيرهم أولى بالخوف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الطبعة السابقة: (الظاهر) و (يقتنع) و (فأجبت) و (النافذة).
[31- باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا]
قد ظن بعض الناس أن هذا الباب داخل في الرياء، وأن هذا مجرد تكرير فأخطأ، بل المراد بهذا أن يعمل الإنسان عملاً صالحًا يريد به الدنيا كالذي يجاهد للقطيفة والخميلة ونحو ذلك، ولهذا سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبدًا لذلك بخلاف المرائي، فإنه إنما يعمل ليراه الناس ويعظموه، والذي يعمل لأجل الدراهم والقطيفة ونحو ذلك أعقل من المرائي، لأن ذلك عمل لدنيا يصيبها. والمرائي عمل لأجل المدح، والجلالة في أعين الناس، وكلاهما خاسر نعوذ باللّه من موجبات غضبه، وأليم عقابه. قال:وقوله تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا...}1 .
قال ابن عباس: "من كان يريد الحياة الدنيا أي: ثوابها أي: مآلها وزينتها نوف إليهم: نوفر لهم ثواب أعمالهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة هود آية: 15.(5/205)
ص -462- ... بالصحة والسرور في الأهل والمال والولد، وهم فيها لا يبخسون لا ينقصون، ثم نسختها و {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} " رواه النحاس في ناسخه.
وقوله: "ثم نسختها"، أي: قيدتها أو خصصتها، فإن السلف كانوا يسمون التقييد والتخصيص نسخًا، وإلا فالآية محكمة. وقال الضحاك: من عمل صالحًا من أهل الإيمان من غير تقوى، عجل له ثواب عمله في الدنيا، واختاره الفراء. قال ابن القيم: وهذا القول أرجح. ومعنى الآية على هذا: من كان يريد بعمله الحياة الدنيا وزينتها. وقالت طائفة: هذه الآية في حق الكفار بدليل قوله:{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ}1 أي: أنهم لم يعملوا إلا للحياة الدنيا وزينتها .{وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا}2. قال بعض المفسرين: أي: وحبط في الآخرة ما صنعوه، أو صنيعهم يعني: لم يكن لهم ثواب، لأنهم لم يريدوا به الآخرة، إنما أرادوا به الدنيا، وقد وفى إليهم ما أرادوا{وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}3 أي: كان عمله في نفسه باطلاً، لأنه لم يعمل لوجه صحيح، والعمل الباطل لا ثواب له. انتهى.
فإن قيل: الآية على القول الأول تقتضي تخليد المؤمن من المريد بعمله الدنيا في النار.
قيل: إن اللّه سبحانه ذكر جزاء من يريد بعمله الحياة الدنيا وزينتها، وهو النار، وأخبر بحبوط عمله وبطلانه، فإذا أحبط ما ينجو به وبطل، لم يبق معه ما ينجيه. فإن كان معه إيمان لم يرد به الحياة الدنيا وزينتها، بل أراد به اللّه والدار الآخرة، لم يدخل هذا الإيمان في العمل الذي حبط وبطل. ونجاة هذا الإيمان من الخلود في النار، وإن دخلها بحبوط عمله الذي به النجاة المطلقة. فالإيمان إيمانان إيمان: يمنع دخول النار، وهو الإيمان الباعث على أن تكون الأعمال للّه وحده يبتغي بها وجهه وثوابه، وإيمان يمنع الخلود في النار، فإن(5/206)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة هود آية: 16.
2 سورة هود آية: 16.
3 سورة هود آية: 16.(5/207)
ص -463- ... كان مع المرائي شيء منه، وإلا كان من أهل الخلود، فالآية لها حكم نظائرها من آيات الوعيد. ذكره ابن القيم.
وقد سئل شيخ الإسلام المصنف عن معنى هذه الآية فأجاب بما ملخصه: ذكر عن السلف من أهل العلم فيها أنواع مما يفعله الناس اليوم، ولا يعرفون معناه.
فمن ذلك العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه اللّه من صدقة وصلاة وإحسان إلى الناس، وترك ظلم، ونحو ذلك مما يفعله الإنسان، أو يتركه خالصًا للّه، لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة، إنما يريد أن يجازيه اللّه بحفظ ماله وتنميته، أو حفظه أهله وعياله، أو إدامة النعم عليهم، ولا همة له في طلب الجنة، والهرب من النار، فهذا يعطى ثواب عمله في الدنيا، وليس له في الآخرة من نصيب. وهذا النوع ذكره ابن عباس.
النوع الثاني: وهو أكبر من الأول وأخوف، وهو الذي ذكر مجاهد في الآية أنها نزلت فيه، وهو أن يعمل أعمالاً صالحة، ونيته رياء الناس لا طلب ثواب الآخرة.
النوع الثالث: أن يعمل أعمالاً صالحة يقصد بها مالًا مثل أن يحج لمال يأخذه، لا للّه، أو يهاجر لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، أو يجاهد لأجل المغنم، فقد ذكر أيضًا هذا النوع في تفسير هذه الآية. وكما يتعلم الرجل لأجل مدرسة أهله أو مكسبهم أو رياستهم، أو يتعلم القرآن ويواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد، كما هو واقع كثيرًا، وهؤلاء أعقل من الذين قبلهم، لأنهم عملوا لمصلحة يحصلونها، والذين قبلهم عملوا من أجل المدح والجلالة في أعين الناس، ولا يحصل لهم طائل، والنوع الأول أعقل من هؤلاء، لأنهم عملوا للّه وحده لا شريك له، لكن لم يطلبوا منه الخير الكثير الدائم وهو الجنة، ولم يهربوا من الشر العظيم وهو النار.(5/208)
ص -464- ... النوع الرابع: أن يعمل بطاعة اللّه مخلصًا في ذلك للّه وحده لا شريك له، لكنه على عمل يكفره كفرًا يخرجه عن الإسلام مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا اللّه أو تصدقوا أو صاموا ابتغاء وجه اللّه والدار الآخرة، ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم كفر أو شرك أكبر يخرجهم من الإسلام بالكلية إذا أطاعوا اللّه طاعة خالصة، يريدون بها ثواب اللّه في الدار الآخرة، لكنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام وتمنع قبول أعمالهم. فهذا النوع أيضًا قد ذكر في هذه الآية عن أنس بن مالك وغيره. وكان السلف يخافون منها، قال بعضهم: لو أعلم أن اللّه تقبل مني سجدة واحدة لتمنيت الموت، لأن اللّه يقول:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}1.
ثم قال: بقي أن يقال: إذا عمل الرجل الصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج ابتغاء وجه اللّه طالبًا ثواب الآخرة، ثم بعد ذلك عمل أعمالاً قاصدًا بها الدنيا مثل أن يحج فرضه للّه، ثم يحج بعده لأجل الدنيا، كما هو واقع، فهو لما غلب عليه منهما. وقد قال بعضهم: القرآن كثيرًا ما يذكر أهل الجنة الخلص، وأهل النار الخلص، ويسكت عن صاحب الشائبتين وهو هذا وأمثاله. انتهى. وقد أجاد وأفاد رحمه اللّه.
وفي الآية من الفوائد أن الشرك محبط للأعمال، وأن إرادة الدنيا وزينتها بالعمل كذلك، وأن اللّه يجازي الكافر بحسناته، وكذلك طالب الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة. الخامسة شدة الوعيد على ذلك. السادسة الفرق بين الحبوط والبطلان.
قال في: الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار، وتعس عبد الدرهم، وتعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل اللّه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية: 27.(5/209)
ص -465- ... أشعث رأسه، مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يُشَفَّع" 1 .
قوله: "في الصحيح"، أي: صحيح البخاري.
قوله: "تعس عبد الدينار"، هو بكسر العين، ويجوز الفتح، أي: سقط والمراد هنا: هلك، قاله الحافظ. وقال في موضع آخر: وهو ضد سعد، أي: شقي. وقيل معنى التعس: الكبة على الوجه. قال أبو السعادات: يقال: تعس يتعس، إذا عثر، وانكب لوجهه، وهو دعاء عليه بالهلاك.
قوله: "تعس عبد الخميصة"، قال أبو السعادات: هو ثوب خز أو صوف معلم. وقيل: لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة، وكانت من لباس الناس قديمًا، وجمعها الخمائص. والخميلة بفتح الخاء المعجمة، قال أبو السعادات: الخميل والخميلة: القطيفة، وهي ثوب له خمل من أي شيء كان، وقيل: الخميل الأسود من الثياب.
قوله: "تعس وانتكس"، قال الحافظ: هو بالمهملة أي: عاوده المرض. وقال أبو السعادات، أي: انقلب على رأسه، وهو دعاء عليه بالخيبة، لأن من انتكس في أمره فقد خاب وخسر. وقال الطيبي: وفيه الترقي بالدعاء عليه، لأنه إذا تعس انكب على وجهه، فإذا انتكس انقلب على رأسه بعد أن سقط.
قوله: "وإذا شيك"، أي: أصابته شوكة فلا انتقش. قال أبو السعادات، أي: إذا شاكته شوكة، فلا يقدر على انتقاشها، وهو إخراجها بالمنقاش. وقال الحافظ: أي: إذا دخلت فيه شوكة لم يجد من يخرجها بالمنقاش، قال: وفي الدعاء عليه بذلك إشارة إلى عكس مقصوده، لأن من عثر فدخلت في رجله الشوكة، فلم يجد من يخرجها يصير عاجزًا عن السعي والحركة في تحصيل مصالح الدنيا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجهاد والسير (2887) , والترمذي: الزهد (2375) , وابن ماجه: الزهد (4136).(5/210)
ص -466- ... وقال الطّيْبِي: المعنى أنه إذا وقع في البلاء لا يترحم عليه، فإن من وقع في البلاء إذا ترحم له الناس ربما هان الخطب عليه، ويتسلى بعض التسلي، وهؤلاء بخلافه، بل يزيد غيظهم بفرح الأعداء أو شماتتهم.
فإن قيل: لم سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الدينار والدرهم؟
قيل: لما كان ذلك هو مقصوده ومطلوبه الذي عمل له، وسعى في تحصيله بكل ممكن حتى صارت نيته مقصورة عليه يغضب ويرضى له صار عبدًا له.
قال شيخ الإسلام: فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الدينار والدرهم، وعبد القطيفة، وعبد الخميصة، وذكر فيه ما هو دعاء وخبر. وهو قوله: "تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش"، وهذه حال من أصابه شر لم يخرج منه ولم يفلح لكونه تعس وانتكس، فلا نال المطلوب، ولا خلص من المكروه، وهذه حال من عبد المال. وقد وصف ذلك بأنه إن أعطي رضي وإن منع سخط كما قال تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ}1. فرضاهم لغير اللّه، وسخطهم لغير اللّه، وهكذا حال من كان متعلقًا برئاسة أو بصورة، أو نحو ذلك من أهواء نفسه إن حصل له رضي، وإن لم يحصل له سخط، فهذا عبد ما يهواه من ذلك، وهو رقيق له، إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته، فما استرق القلب واستعبده، فهو عبده... إلى أن قال: وهكذا أيضًا طالب المال فإن ذلك يستعبده ويسترقه.
وهذه الأمور نوعان: فمنها ما يحتاج إليه العبد كما يحتاج إلى طعامه وشربه ومنكحه ومسكنه ونحو ذلك، فهذا يطلبه من اللّه ويرغب إليه فيه فيكون المال عنده، يستعمله في حاجته بمنْزلة حماره الذي يركبه، وبساطه الذي يجلس عليه من غير أن يستعبدوه فيكون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية: 58.(5/211)
ص -467- ... هلوعًا. ومنها ما لا يحتاج إليه العبد، فهذه ينبغي أن لا يعلق قلبه بها، فإذا تعلق قلبه بها، صار مستعبدًا لها وربما صار مستعبدًا معتمدًا على غير اللّه فيها، فلا يبقى معه حقيقة العبودية للّه، ولا حقيقة التوكل عليه، بل فيه شعبة من العبادة لغير اللّه، وشعبة من التوكل على غير اللّه، وهذا من أحق الناس بقوله صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، وتعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة"1. وهذا هو عبد لهذه الأمور، ولو طلبها من اللّه، فإن اللّه إذا أعطاه إياه رضي، وإن منعه إياها سخط. وإنما عبد اللّه من يرضيه ما يرضي اللّه، ويسخطه ما يسخط اللّه، ويحب ما أحب اللّه ورسوله، ويبغض ما أبغض اللّه ورسوله، ويوالي أولياء اللّه، ويعادي أعداء اللّه فهذا الذي استكمل الإيمان. انتهى ملخصًا.
قوله: "طوبى لعبد"، قال أبو السعادات: طوبى اسم الجنة، وقيل: هي شجرة فيها. قلت: قد روى ابن وهب عن عمرو بن الحارث أن دراجًا حدثه أن أبا الهيثم حدثه عن أبي سعيد في حديث: "فقال رجل: يا رسول اللّه وما طوبى؟ قال: شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها"2. رواه حرملة عنه. ورواه أحمد في مسنده من حديث عتبة بن عبد السلمي "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الحوض وذكر الجنة. ثم قال الأعرابي: "وفيها فاكهة؟ قال: نعم. وفيها شجرة تدعى طوبى... " 3 الحديث. قال الزجاج: في قوله: طوبى لهم. معناه: العيش الطيب. وقال ابن الأنباري: الحال المستطابة لهم، لأنه فعلى من الطيب، وقيل: معناه هنيئًا بطيب العيش لهم وهذه الأقوال ترجع إلى قول واحد.
قوله: "أخذ بعنان فرسه في سبيل اللّه"، أي: في طريق الجهاد.
قوله: "أشعث رأسه"، هو بنصب أشعث صفة لعبد لأنه غير مصروف للصفة ووزن الفعل، ورأسه مرفوع على الفاعلية لأشعث، وهو مغبر الرأس. وفيه فضل إصابة الغبار في سبيل اللّه.(5/212)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الرقاق (6435) , وابن ماجه: الزهد (4136).
2 أحمد (3/71).
3 أحمد (4/183).(5/213)
ص -468- ... قوله: "مغبرة قدماه"، هو كأشعث في الإعراب والمراد به كثرة الغبار له في سبيل اللّه لكثرة جهاده ومصابرته.
قوله: "إن كان في الحراسة" . قال بعضهم: هو بكسر الحاء أي: حماية الجيش ومحافظتهم عن أن يهجم عليهم عدوهم.
قوله: "كان في الحراسة"، أي: امتثل غير مقصر فيها بالنوم والغفلة ونحوهما.
قوله: "وإن كان في الساقة كان في الساقة"، أي: إن جعل في مؤخرة الجيش صار فيها ولزمها. وقال ابن الجوزي: المعنى: أنه خامل الذكر، لا يقصد السمو، فأي موضع اتفق له كان فيه. وقال الخلخالي: المعنى ائتماره لما أمر، وإقامته حيث أقيم لا يفقد من مكانه، وإنما ذكر الحراسة والساقة، لأنهما أشد مشقة وأكثر آفة. قلت: وفيه فضيلة الحرس في سبيل اللّه.
قوله: "إن استأذن لم يؤذن له"، أي: إن استأذن على الأمراء ونحوهم لم يأذنوا له، لأنه ليس بذي جاه ولا يقصد بعمله الدنيا فيطلبها منهم، ويتردد إليهم لأجلها بل هو مخلص للّه.
قوله: "وإن شَفَّع" بفتح أوله وثانيه مبني للفاعل، ويشفع بتشديد الفاء، مبني للمفعول، والمراد واللّه أعلم أنه لا يشفع عند الملوك ونحوهم، لعدم جاهه عندهم وعلى تقدير شفاعته إن شفع لم يشفع بل يردّون شفاعته.
قال بعضهم: قيل: إن هذا إشارة إلى عدم التفاته إلى الدنيا وأربابها بحيث لا يبتغي مالاً ولا جاهًا عند الناس، بل يكون عند اللّه وجيهًا ولم يقبل الناس شفاعته، ويكون عند اللّه شفيعًا مشفعًا، كما في الحديث الذي رواه أحمد [عن أنس بنحوه] ومسلم عن أبي هريرة مرفوعًا "رب أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على اللّه لأبره" 1. وقال الحافظ: فيه ترك حب الرئاسة والشهرة، وفضل الخمول والتواضع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: البر والصلة والآداب (2622).(5/214)
ص -469- ... قلت: وفيه أن هذه الأمور ونحوها لا تكون لهوان المؤمن على اللّه بل لكرامته، وفيه الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات. قاله المصنف.
[32- باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل اللّه أو تحليل ما حرمه اللّه فقد اتخذهم أربابًا من دون اللّه]
[لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق]
ش: لما كانت الطاعة من أنواع العبادة بل هي العبادة فإنها طاعة اللّه بامتثال ما أمر به على ألسنة رسله عليهم السلام ; نبه المصنف رحمه اللّه تعالى بهذه الترجمة على وجوب اختصاص الخالق تبارك وتعالى بها، وأنه لا يطاع أحد من الخلق إلا حيث كانت طاعته مندرجة تحت طاعة اللّه وإلا فلا تجب طاعة أحد من الخلق استقلالاً. والمقصود هنا الطاعة الخاصة في تحريم الحلال أو تحليل الحرام، فمن أطاع مخلوقًا في ذلك غير الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا ينطق عن الهوى، فهو مشرك كما بينه اللّه تعالى في قوله:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ}1 أي: علماءهم {أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}2. وفسرها النبي صلى الله عليه وسلم بطاعتهم في تحريم الحلال، وتحليل الحرام كما سيأتي في حديث عدي.
فإن قيل: قد قال اللّه تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}3.
قيل: هم العلماء، وقيل: هم الأمراء وهما روايتان عن أحمد. قال ابن القيم: والتحقيق بأن الآية تعم الطائفتين.
قيل: إنما تجب طاعتهم إذا أمروا بطاعة اللّه وطاعة رسوله، فكان العلماء مبلغين لأمر اللّه وأمر رسوله، والأمراء منفذين له، فحينئذ تجب طاعتهم تبعًا لطاعة اللّه ورسوله كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا طاعة في معصية إنما الطاعة في المعروف" 4. وقال: "على المرء المسلم(5/215)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية: 31.
2 سورة التوبة آية: 31.
3 سورة النساء آية: 59.
4 البخاري: أخبار الآحاد (7257) , ومسلم: الإمارة (1840) , والنسائي: البيعة (4205) , وأبو داود: الجهاد (2625) , وأحمد (1/82 ,1/94 ,1/124).(5/216)
ص -470- ... السمع والطاعة ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" 1. حديثان صحيحان فليس في هذه الآية ما يخالف آية براءة.
قال: "وقال ابن عباس: "يوشك أن تنْزل عليكم حجارة من السماء. أقول: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وتقولون: قال أبو بكر وعمر" .
ش: قوله: "يوشك"، بضم أوله وكسر الشين المعجمة. قال أبو السعادات أي: يقرب ويدنو ويسرع، وهذا الكلام قاله ابن عباس لمن ناظره في متعة الحج. وكان ابن عباس يأمر بها، فاحتج عليه المناظر بنهي أبي بكر وعمر عنها، أي: هما أعلم منك وأحق بالاتباع. فقال هذا الكلام الصادر عن محض الإيمان وتجريد المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم وإن خالفه من خالفه كائنًا من كان، كما قال الشافعي: أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد. فإذا كان هذا كلام ابن عباس لمن عارضه بأبي بكر وعمر وهما [هما]2 فماذا تظنه يقول لمن يعارض سنن الرسول صلى الله عليه وسلم بإمامه وصاحب مذهبه الذي ينتسب إليه؟ ويجعل قوله عيارًا على الكتاب والسنة، فما وافقه قبله، وما خالفه رده، أو تأوله فاللّه المستعان. وما أحسن ما قال بعض المتأخرين:
فإن جاءهم فيه الدليل موافقًا ... لما كان للآبا إليه ذهاب .
رضوه وإلا قيل: هذا مؤول ... ويركب للتأويل فيه صعاب .
ولا ريب أن هذا داخل في قوله تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ}3.
[التحذير من مخالفة الرسول]
قال المصنف، وقال أحمد بن حنبل: عجبت لقوم عرفوا الإسناد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الأحكام (7144) , ومسلم: الإمارة (1839) , والترمذي: الجهاد (1707) , وأبو داود: الجهاد (2626) , وابن ماجه: الجهاد (2864) , وأحمد (2/17 ,2/142).
2 سقطت من الطبعة السابقة.
3 سورة التوبة آية: 31.(5/217)
ص -471- ... وصحته يذهبون إلى رأي سفيان واللّه تعالى يقول:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ}1. أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
ش: هذا الكلام عن أحمد رواه عنه الفضل بن زياد وأبو طالب.
قال الفضل عن أحمد: نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول في ثلاثة وثلاثين موضعًا، ثم جعل يتلو: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ}2 الآية وجعل يكررها ويقول: وما الفتنة إلا الشرك لعله إذا ردّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيزيغ قلبه، فيهلكه وجعل يتلو هذه الآية:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}3.
وقال أبو طالب عن أحمد وقيل له: إن قومًا يدعون الحديث، ويذهبون إلى رأي سفيان؟ فقال: أعجب4. لقوم سمعوا الحديث وعرفوا الإسناد وصحته يدعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره. قال اللّه:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}5. وتدري ما الفتنة؟ الكفر قال اللّه تعالى:{وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}6. فيدعون الحديث عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي. ذكر ذلك شيخ الإسلام.
قلت: وكلام أحمد في ذمه التقليد وإنكار تأليف كتب الرأي كثير مشهور.
قوله: "عرفوا الإسناد"، أي: إسناد الحديث وصحته، أي: صحة الإسناد وصحته دليل على صحة الحديث.
قوله: "يذهبون إلى رأي سفيان"، أي: الثوري الإمام الزاهد العابد الثقة الفقيه، وكان له أصحاب ومذهب مشهور فانقطع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النور آية: 63.
2 سورة النور آية: 63.
3 سورة النساء آية: 65.
4 في الطبعة السابقة: أعجبت.
5 سورة النور آية: 63.
6 سورة البقرة آية: 217.(5/218)
ص -472- ... ومراد أحمد الإنكار على من يعرف إسناد الحديث وصحته، ثم بعد ذلك يقلد سفيان أو غيره، ويعتذر بالأعذار الباطلة إما بأن الأخذ بالحديث اجتهاد والاجتهاد انقطع منذ زمان، وإما بأن هذا الإمام الذي قلدته أعلم مني، فهو لا يقول إلا بعلم، ولا يترك هذا الحديث مثلاً إلا عن علم، وإما بأن ذلك اجتهاد، ويشترط في المجتهد أن يكون عالمًا بكتاب اللّه عالمًا بسنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وناسخ ذلك ومنسوخه، وصحيح السنة وسقيمها، عالمًا بوجوه الدلالات، عالمًا بالعربية والنحو والأصول، ونحو ذلك من الشروط التي لعلها لا توجد تامة في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، كما قاله المصنف، فيقال له: هذا إن صح، فمرادهم بذلك المجتهد المطلق، أما أن يكون ذلك شرطًا في جواز العمل بالكتاب والسنة، فكذب على اللّه، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى أئمة العلماء، بل الفرض والحتم على المؤمن إذا بلغه كتاب اللّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعلم معنى ذلك في أي شيء كان أن يعمل به ولو خالفه من خالفه، فبذلك أمرنا ربنا تبارك وتعالى ونبينا صلى الله عليه وسلم وأجمع على ذلك العلماء قاطبة إلا جهال المقلدين وجفاتهم، ومثل هؤلاء ليسوا من أهل العلم1 كما حكى الإجماع على أنهم ليسوا من أهل العلم أبو عمر بن عبد البر وغيره قال اللّه تعالى:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}2. وقال تعالى:{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ}3. فشهد تعالى لمن أطاع الرسول صلى الله عليه وسلم بالهداية، وعند جفاة المقلدين أن من أطاعه صلى الله عليه وسلم ليس بمهتد إنما المهتدي من عصاه، وعدل عن أقواله، ورغب عن سنته إلى مذهب أو شيخ ونحو ذلك، وقد وقع في هذا التقليد المحرم خلق كثير ممن يدعي العلم والمعرفة بالعلوم، ويصنف التصانيف في(5/219)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الطبعة السابقة: زيادة كلمة "منهم".
2 سورة الأعراف آية: 3.
3 سورة النور آية: 54.(5/220)
ص -473- ... الحديث والسنن، ثم بعد ذلك تجده جامدًا على أحد هذه المذاهب، ويرى الخروج عنها من العظائم.
وفي كلام أحمد إشارة إلى أن التقليد قبل بلوغ الحجة لا يذم، إنما المذموم المنكر الحرام الإقامة على ذلك بعد بلوغ الحجة، نعم وينكر الإعراض عن كتاب اللّه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والإقبال على تعلم الكتب المصنفة في الفقه استغناء بها عن الكتاب والسنة، بل إن قرؤوا شيئًا من كتاب اللّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنما يقرءون تبركًا لا تعلمًا وتفقهًا، أو لكون بعض الموقفين وقف على من قرأ البخاري مثلاً، فيقرؤونه لتحصيل الوظيفة لا لتحصيل الشريعة، فهؤلاء من أحق الناس بدخولهم في قول اللّه تعالى:
{وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً}
1. وقوله تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى...}2 إلى قوله:{وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى}3.
فإن قلت: فماذا يجوز للإنسان من قراءة هذه الكتب المصنفة في المذاهب؟ قيل: يجوز من ذلك قراءتها على سبيل الاستعانة بها على فهم الكتاب والسنة، وتصوير المسائل، فتكون من نوع الكتب الآلية، أما أن تكون هي المقدمة على كتاب اللّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الحاكمة بين الناس فيما اختلفوا فيه، المدعو إلى التحاكم إليها دون التحاكم إلى اللّه والرسول صلى الله عليه وسلم فلا ريب أن ذلك مناف للإيمان مضاد له كما قال تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}4.
فإذا كان التحاكم عند المشاجرة إليها دون اللّه ورسوله، ثم إذا5 قضى اللّه ورسوله أمرًا(5/221)
وجدت الحرج في نفسك، وإن قضى أهل الكتاب بأمر لم تجد حرجًا، ثم إذا قضى الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر لم تسلم له، وإذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة طه آية: 99-101.
2 سورة طه آية: 124.
3 سورة طه آية: 127.
4 سورة النساء آية: 65.
5 في الطبعة السابقة: "إنما" بدل "إذا".(5/222)
ص -474- ... قضوا بأمر سلمت له، فقد أقسم اللّه تعالى سبحانه وهو أصدق القائلين بأجل مقسم به، وهو نفسه تبارك وتعالى أنك لست بمؤمن والحالة هذه وبعد ذلك، فقد قال اللّه تعالى:{بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ}، [سورة القيامة، الآيتان: 1415-].
على أن الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم، قد نهوا عن تقليدهم مع ظهور السنة.
كلام أحمد الذي ذكره المصنف كاف عن تكثير النقل عنه.
وقال أبو حنيفة: "إذا جاء الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن الصحابة فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن التابعين، فنحن رجال وهم رجال".
وفي روضة العلماء سئل أبو حنيفة إذا قلت قولاً وكتاب اللّه يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لكتاب اللّه، قيل: إذا كان قول الرسول يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لخبر الرسول صلى الله عليه وسلم قيل: إذا كان قول الصحابة يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لقول الصحابة، فلم يقل: هذا الإمام ما يدعيه جفاة المقلدين له أنه لا يقول قولاً يخالف كتاب اللّه، حتى أنزلوه بمنْزلة المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى.
وروى البيهقي في السنن عن الشافعي أنه قال: "إذا قلت قولاً وكان عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي فما يصح من حديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أولى فلا تقلدوني". وقال الربيع: "سمعت الشافعي يقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقولوا بسنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت". وتواتر عنه أنه قال: "إذا صح الحديث أي: بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط".(5/223)
ص -475- ... وقال مالك: "كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم".
وكلام الأئمة مثل هذا كثير. فخالف المقلدون ذلك، وجمدوا على ما وجدوه في الكتب المذهبية، سواء كان صوابًا أم خطأ مع أن كثيرًا من هذه الأقوال المنسوبة إلى الأئمة ليست أقوالاً لهم منصوصًا عليها، وإنما هي تفريعات ووجوه واحتمالات وقياس على أقوالهم، ولسنا نقول: إن الأئمة على خطأ، بل هم إن شاء اللّه على هدى من ربهم، وقد قاموا بما أوجب اللّه عليهم من الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم ومتابعته، ولكن العصمة منتفية عن غير الرسول، فهو الذي {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}، [سورة النّجم، الآيتان: 3-4]. فما العذر في اتباعهم وترك اتباع الذي لا ينطق عن الهوى؟!
قوله: "لعله"، أي: لعل الإنسان الذي تصح عنده سنة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.
قوله: "إذا رد بعض قوله"، أي: قول النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: "أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك" . هذا تنبيه على أن رد قول الرسول صلى الله عليه وسلم سبب لزيغ القلب الذي هو سبب الهلاك في الدنيا والآخرة، فإذا كانت إساءة الأدب معه في الخطاب سببًا لحبوط الأعمال كما قال تعالى:{لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ}1. فما ظنك برد أحكامه وسنته لقول أحد من الناس كائنًا من كان؟. قال شيخ الإسلام: فإذا كان المخالف عن أمره قد حذر من الكفر والشرك، أو من العذاب الأليم، دل على أنه قد يكون مفضيًا إلى الكفر والعذاب الأليم، ومعلوم أن إفضاءه إلى العذاب هو مجرد فعل المعصية، فإفضاؤه إلى الكفر إنما هو لما يقترن به من استخفاف بحق الآمر، كما فعل إبليس لعنه اللّه.
فإذا علمت أن المخالفة عن أمره صلى الله عليه وسلم سبب للفتنة، التي هي(5/224)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحجرات آية: 2.(5/225)
ص -476- ... الشرك والعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، علمت أن من رد قوله وخالف أمره لقول أبي حنيفة، أو مالك أو غيرهما، لهم النصيب الكامل، والحظ الوافر من هذه الآية، وهذا الوعيد على مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم وقد استدل بهذه الآية كثير من العلماء على أن أصل الأمر للوجوب حتى يقوم دليل على استحبابه.
قال: عن "عدي بن حاتم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}، [التّوبة، من الآية: 31]، فقلت له: إنا لسنا نعبدهم. قال: أليس يحرمون ما أحل اللّه فتحرمونه، ويحلون ما حرم اللّه فتحلونه؟ فقلت بلى قال: فتلك عبادتهم" 1. رواه أحمد2 والترمذي وحسنه.
ش: هذا الحديث قد روي من طرق3. فرواه ابن سعد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن جرير وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في السنن وفيه قصة اختصرها المصنف.
قوله: "عن عدي بن حاتم"، أي: الطائي المشهور وهو ابن عبد اللّه ابن سعد بن الحشرج بفتح المهملة وسكون المعجمة وآخره
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: تفسير القرآن (3095).
2 عزو الحديث لأحمد عند الإطلاق يراد به المسند وهذا الحديث ليس في مسنده, والسيوطي في "الدر المنثور" 3/ 230 لم يعزه إليه مع أنه عزاه إلى من هو دون أحمد كما نقل عنه الشارح.
3 للحديث طريق واحد فقط أخرجه الترمذي (3094) وابن جرير (16631) و (16632) و (16633) عن غطيف بن أعين عن مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم, وغطيف ضعيف, وقال الترمذي; هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب وغطيف بن أعين ليس بالمعروف في الحديث, أقول: لكن له شاهد موقوف من حديث حذيفة عند ابن جرير (16634) بنحوه ربما يتقوى به. [وقد جزم الشّيخ الألباني رحمه الله بحسنه].(5/226)
ص -477- ... جيم، مات مشركًا وعدي يكنى أبا طريف بفتح المهملة صحابي شهير، حسن الإسلام، مات سنة ثمان وستين وله مائة وعشرون سنة.
قوله: "فقلت: إنا لسنا نعبدهم"، عن ظن عدي أن العبادة المراد بها التقرب إليهم بأنواع العبادة، من السجود والذبح والنذر ونحو ذلك فقال: إنا لسنا نعبدهم.
قوله: "أليس يحرمون ما أحل اللّه فتحرمونه..." إلى آخره.
صرح صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بأن عبادة الأحبار والرهبان هي طاعتهم في تحريم الحلال وتحليل الحرام، وهو طاعتهم في خلاف حكم اللّه ورسوله.
قال شيخ الإسلام: وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون اللّه حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم اللّه وعكسه يكونون على وجهين.
أحدهما: أنهم يعلمون أنهم بدلوا دين اللّه، فيتبعونهم على التبديل فيعتقدون تحليل ما حرم اللّه، وتحريم ما أحل اللّه اتباعًا لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل فهذا كفر، وقد جعله اللّه ورسوله شركًا وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون.
الثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال، وتحليل الحرام ثابتًا، لكنهم أطاعوهم في معصية اللّه كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصي، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما الطاعة في المعروف" 1.
ثم نقول: اتباع هذا المحلل للحرام والمحرم للحلال إن كان مجتهدًا قصده اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم لكن خفي عليه الحق في نفس الأمر، وقد اتقى اللّه ما استطاع، فهذا لا يؤاخذه اللّه بخطئه، بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه. ولكن من علم أن هذا الخطأ(5/227)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح البخاري: كتاب الأحكام (7145) وكتاب أخبار الآحاد (7257) , وصحيح مسلم: كتاب الإمارة (1840) , وسنن النسائي: كتاب البيعة (4205) , وسنن أبي داود: كتاب الجهاد (2625) , ومسند أحمد (1/82 ,1/94 ,1/124).(5/228)
ص -478- ... فيما جاء به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثم اتبعه على خطئه وعدل عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم فله نصيب من الشرك الذي ذمه اللّه، لا سيما إن اتبعه في ذلك لهواه ونصره باللسان واليد مع علمه بأنه مخالف للرسول صلى الله عليه وسلم. فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه، ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز تقليد أحد في خلافه، وأما إن كان المتبع للمجتهد عاجزًا عن معرفة الحق على التفصيل، وقد فعل ما يقدر عليه مثله من الاجتهاد في التقليد، فهذا لا يؤاخذ إن أخطأ كما في القبلة. وأما إن قلد شخصًا دون نظيره بمجرد هواه، ونصره بيده ولسانه من غير علم أن الحق معه، فهذا من أهل الجاهلية، فإن كان متبوعه مصيبًا لم يكن عمله صالحًا، وإن كان متبوعه مخطئًا، كان آثمًا كمن قال في القرآن برأيه، فإن أصاب فقد أخطأ، وإن أخطأ، فليتبوأ مقعده من النار. انتهى ملخصًا.
قال المصنف: وفيه تغير الأحوال إلى هذه الغاية [حتّى] صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال ويسمونها الولاية. وعبادة الأحبار هي العلم والفقه، ثم تغيرت الحال إلى أن عبد من ليس من الصالحين، وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين.
قوله: "صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال" . يشير إلى ما يعتقده كثير من الناس فيمن ينتسب إلى الولاية من الضر والنفع، والعطاء والمنع، ويسمون ذلك الولاية والسر ونحو ذلك وهو الشرك.
قوله: "وعبادة الأحبار هي العلم والفقه"، أي: هي التي تسمى اليوم العلم والفقه المؤلف على مذاهب الأئمة ونحوهم، فيطيعونهم في كل ما يطيعونك سواء وافق حكم اللّه أم خالفه، بل لا يعبؤون بما خالف ذلك من كتاب وسنة، بل يريدون كلام اللّه وكلام رسوله لأقوال من قلدوه، ويصرحون بأنه لا يحل العمل بكتاب ولا سنة، وأنه لا يجوز تلقي العلم والهدى منهما، وإنما الفقه والهدى عندهم(5/229)
ص -479- ... هو ما وجدوه في هذه الكتب. بل أعظم من ذلك وأطم رمي كثير منهم كلام اللّه وكلام رسوله بأنه لا يفيد العلم ولا اليقين في باب معرفة أسماء اللّه وصفاته وتوحيده، ويسمونها ظواهر لفظية، ويسمون ما وضعه الفلاسفة المشركون القواطع العقلية، ثم يقدِّمونها في باب الأسماء والصفات والتوحيد على ما جاء من عند اللّه، ثم يرمون من خرج عن عبادة الأحبار والرهبان إلى طاعة رب العالمين، وطاعة رسوله وتحكيم ما أنزل اللّه في موارد النّزاع بالبدعة أو الكفر.
قوله: "ثم تغيرت الأحوال إلى أن عبد من ليس من الصالحين"، وذلك كاعتقادهم في كثير ممن ينتسب إلى الولاية من الفساق والمجاذيب.
وقوله: "وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين"، وذلك كاعتقادهم العلم في أناس من جهلة المقلدين فيحسنون لهم البدع والشرك فيطيعونهم، ويظنون أنهم علماء مصلحون {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ}1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية: 12.
[33- باب قول اللّه تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً...}1] .
ش: لما كان التوحيد الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا اللّه مشتملاً على الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم مستلزمًا له، وذلك هو الشهادتان، ولهذا جعلهما النبي صلى الله عليه وسلم ركنًا واحدًا في قوله: "بني الإسلام على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا اللّه، وأن محمدًا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية: 60.(5/230)
ص -480- ... رسول اللّه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا" 1. نبه في هذا الباب على ما تضمنه التوحيد، واستلزمه من تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم في موارد النّزاع، إذ هذا هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا اللّه، ولازمها الذي لا بد منه لكل مؤمن، فإن من عرف أن لا إله إلا اللّه، فلا بد من الانقياد لحكم اللّه والتسليم لأمره الذي جاء من عنده على يد رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
فمن شهد أن لا إله إلا اللّه، ثم عدل إلى تحكيم غير الرسول صلى الله عليه وسلم في موارد النّزاع، فقد كذب في شهادته.
وإن شئت قلت: لما كان التوحيد مبنيًا على الشهادتين، إذ لا تنفك إحداهما عن الأخرى لتلازمهما، وكان ما تقدم من هذا الكتاب في معنى شهادة أن لا إله إلا اللّه التي تتضمن حق اللّه على عباده، نبه في هذا الباب على معنى شهادة أن محمدًا رسول اللّه، التي تتضمن حق الرسول صلى الله عليه وسلم فإنها تتضمن أنه عبد لا يعبد، ورسول صادق لا يكذب، بل يطاع ويتبع، لأنه المبلغ عن اللّه تعالى. فله عليه الصلاة والسلام منصب الرسالة، والتبليغ عن اللّه، والحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، إذ هو لا يحكم إلا بحكم اللّه ومحبته على النفس، والأهل والمال والوطن، وليس له من الإلهية شيء، بل هو عبد اللّه ورسوله كما قال تعالى:{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً}2 وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا عبد فقولوا عبد اللّه ورسوله" 3.
ومن لوازم ذلك متابعته وتحكيمه في موارد النّزاع، وترك التحاكم إلى غيره، كالمنافقين الذين يدعون الإيمان به، ويتحاكمون إلى غيره، وبهذا يتحقق العبد بكمال التوحيد وكمال المتابعة، وذلك هو كمال سعادته، وهو معنى الشهادتين.
إذا تبين هذا فمعنى الآية المترجم لها: أن اللّه تبارك وتعالى أنكر على من يدعي الإيمان بما أنزل اللّه على رسوله، وعلى(5/231)
الأنبياء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الإيمان (8) , ومسلم: الإيمان (16) , والترمذي: الإيمان (2609) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (5001) , وأحمد (2/26 ,2/92 ,2/120 ,2/143).
2 سورة الجن آية: 19.
3 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/23 ,1/24 ,1/47).(5/232)
ص -481- ... قبله، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب اللّه وسنة رسوله، كما ذكر المصنف في سبب نزولها. قال ابن القيم: والطاغوت: كل من تعدى به حده من الطغيان وهو مجاوزة الحد، فكل ما تحاكم إليه متنازعان غير كتاب اللّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو طاغوت إذ قد تعدى به حده. ومن هذا كل من عبد شيئًا دون اللّه فإنما عبد الطاغوت، وجاوز بمعبوده حده فأعطاه العبادة التي لا تنبغي له، كما أن من دعا إلى تحكيم غير اللّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فقد دعا إلى تحكيم الطاغوت. وتعلل تصديره سبحانه الآية منكرًا لهذا التحكيم على من زعم أنه قد آمن بما أنزله اللّه على رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى من قبله ثم هو مع ذلك يدعو إلى تحكيم غير اللّه ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويتحاكم إليه عند النّزاع وفي ضمن قوله: يزعمون نفي لما زعموه من الإيمان، ولهذا لم يقل: ألم تر إلى الذين آمنوا، فإنهم لو كانوا من أهل الإيمان حقيقة لم يريدوا أن يتحاكموا إلى غير اللّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. ولم يقل فيهم يزعمون فإن هذا إنما يقال غالبًا لمن ادعى دعوى هو فيها كاذب، أو منَزل منْزلة الكاذب، لمخالفته لموجبها وعمله بما ينافيها. قال ابن كثير: والآية ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت ههنا.
وقوله تعالى:{وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ}1 .
أي بالطاغوت وهو دليل على أن التحاكم إلى الطاغوت مناف للإيمان مضاد له، فلا يصح الإيمان إلا بالكفر به، وترك التحاكم إليه فمن لم يكفر بالطاغوت لم يؤمن باللّه.
وقوله:{وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً}2 .
أي: لأن إرادة التحاكم إلى غير كتاب اللّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من طاعة الشيطان، وهو إنما يدعو أحزابه ليكونوا من أصحاب السعير. وفي الآية دليل على أن ترك التحاكم إلى الطاغوت،(5/233)
الذي هو ما سوى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية: 60.
2 سورة النساء آية: 60.(5/234)
ص -482- ... الكتاب والسنة من الفرائض وأن التحاكم إليه غير مؤمن بل ولا مسلم.
وقوله تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً}1.
أي: إذا دُعوا إلى التحاكم إلى ما أنزل اللّه وإلى الرسول أعرضوا إعراضًا مستكبرين كما قال تعالى:{وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ}2 قال ابن القيم: هذا دليل على أن من دعي إلى تحكيم الكتاب والسنة، فلم يقبل، وأبى ذلك أنه من المنافقين. ويصدون هنا لازم لا متعد، وهو بمعنى يعرضون، لا بمعنى يمنعون غيرهم، ولهذا أتى مصدره على صدوداً، ومصدر المتعدي صدًّا. فإذا كان المعرض عن ذلك قد حكم اللّه سبحانه بنفاقهم، فكيف بمن ازداد إلى إعراضه منع الناس من تحكيم الكتاب والسنة، والتحاكم إليهما بقوله وعمله وتصانيفه؟! ثم يزعم مع ذلك أنه إنما أراد الإحسان والتوفيق؛ الإحسان في فعله ذلك، والتوفيق بين الطاغوت الذي حكمه، وبين الكتاب والسنة.
قلت: وهذا حال كثير ممن يدعي العلم والإيمان في هذه الأزمان، إذا قيل لهم: تعالوا نتحاكم إلى ما أنزل اللّه وإلى الرسول رأيتهم يصدون وهم مستكبرون، ويعتذرون أنهم لا يعرفون ذلك، ولا يعقلون، بل لعنهم اللّه بكفرهم فقليلاً ما يؤمنون.
وقوله تعالى:{فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}3.قال ابن كثير: أي: فكيف بهم إذا ساقتهم المقادير إليك في المصائب بسبب ذنوبهم، واحتاجوا إليك في ذلك. وقال ابن القيم قيل: المصيبة فضيحتهم إذا أنزل القرآن بحالهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية: 61.
2 سورة النور آية: 48.
3 سورة النساء آية: 62.(5/235)
ص -483- ... ولا ريب أن هذا أعظم المصيبة والإضرار فالمصائب التي تصيبهم بما قدمت أيديهم في أبدانهم وقلوبهم وأديانهم بسبب مخالفة الرسول عليه الصلاة والسلام، أعظمها مصائب القلب والدين، فيرى المعروف منكرًا، والهدى ضلالاً، والرشاد غيًّا، والحق باطلاً، والصلاح فسادًا، وهذا من المصيبة التي أصيب بها في قلبه، وهو الطبع الذي أوجبه مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم وتحكيم غيره، قال سفيان الثوري في قوله:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ}1. قال: هي أن تطبع على قلوبهم.
وقوله تعالى:{ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً}2.
قال ابن كثير: أي: يعتذرون ويحلفون إن أردنا بذهابنا إلى غيرك إلا الإحسان والتوفيق، أي: المداراة والمصانعة. وقال غيره: إلا إحسانًا، أي: لا إساءة، وتوفيقًا، أي: بين الخصمين، ولم نرد مخالفة لك، ولا تسخطًا لحكمك.
قلت: فإذا كان هذا حال المنافقين يعتذرون عن أمرهم، ويلبسونه لئلا يظن أنهم قصدوا المخالفة لحكم النبي صلى الله عليه وسلم أو التسخط، فكيف بمن يصرح بما كان المنافقون يضمرونه حتى يزعم أنه من حكم الكتاب والسنة في موارد النّزاع، فهو إما كافر وإما مبتدع ضال!؟ وفعل المنافقين الذي ذكره اللّه عنهم في هذه الآية هو بعينه الذي يفعله المحرفون للكلم عن مواضعه الذين يقولون: إنما قصدنا التوفيق بين القواطع العقلية بزعمهم التي هي الفلسفة والكلام، وبين الأدلة النقلية، ثم يجعلون الفلسفة التي هي سفاهة وضلالة الأصل، ويردون بها ما أنزل اللّه على رسوله من الكتاب والحكمة، زعموا أن ذلك يخالف الفلسفة التي يسمونها القواطع، فتطلبوا له وجوه التأويلات البعيدة، وحملوه على شواذ اللغة التي لا تكاد تعرف.
وقوله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ}3.(5/236)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النور آية: 63.
2 سورة النساء آية: 62.
3 سورة النساء آية: 63.(5/237)
ص -484- ... قال ابن كثير: أي: هذا الضرب من الناس هم المنافقون، واللّه أعلم بما في قلوبهم، وسيجزيهم على ذلك، فإنه لا تخفى عليه خافية، فاكتف به يا محمد فيهم، فإنه عالم ببواطنهم وظواهرهم.
وقوله تعالى:{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً}1.
قال ابن القيم: أمر اللّه رسوله صلى الله عليه وسلم فيهم بثلاثة أشياء:
أحدها: الإعراض عنهم إهانة لهم، وتحقيرًا لشأنهم، وتصغيرًا لأمرهم لا إعراض متاركة وإهمال، وبهذا يعلم أنها غير منسوخة.
الثاني: قوله: وعظهم وهو تخويفهم عقوبة اللّه وبأسه ونقمته إن أصروا على التحاكم إلى غير رسوله صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه.
الثالث: قوله: وقل لهم في أنفسهم قولًا بليغًا، أي: يبلغ تأثيره إلى قلوبهم ليس قولاً لينًا لا يتأثر به المقول له، وهذه المادة تدل على بلوغ المراد بالقول، فهو قول يبلغ به مراد قائله من الزجر والتخويف ويبلغ تأثيره إلى نفس المقول له، ليس هو كالقول الذي يمر على الأذن صفحًا.
وهذا القول البليغ يتضمن ثلاثة أمور:
أحدها: عظم معناه، وتأثر النفوس به.
الثاني: فخامة ألفاظه وجزالتها.
الثالث: كيفية القائل في إلقائه إلى المخاطب فإن القول كالسهم، والقلب كالقوس الذي يدفعه وكالسيف، والقلب كالساعد الذي يضرب به.
وفي متعلق قوله:{فِي أَنْفُسِهِمْ} قولان:
أحدهما: بقوله{بَلِيغاً} أي: قولاً بليغًا في أنفسهم، وهذا حسن من جهة المعنى، ضعيف من جهة الإعراب، لأن صفة الموصوف لا تعمل فيما قبلها.
والقول الثاني: أنه متعلق بقل وفي المعنى على هذا قولان:
أحدهما: قل لهم في أنفسهم خاليًا بهم ليس معهم غيرهم بل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية: 63.(5/238)
ص -485- ... مسرًّا لهم النصيحة.
والثاني: أن معناه قل لهم في معنى أنفسهم، كما يقال: قل لفلان في كيت وكيت، أي: في ذلك المعنى.
قلت: وهذا القول أحسن.
ثم قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}1. قال ابن كثير: أي: إنما فرضت طاعته على من أرسله إليهم. وقال ابن القيم: هذا تنبيه على جلالة منصب الرسالة، وعظم شأنها، وأنه سبحانه لم يرسل رسله عليهم الصلاة والسلام إلا ليطاعوا بإذنه، فتكون الطاعة لهم لا لغيرهم، لأن طاعتهم طاعة مرسلهم، وفي ضمنه أن من كذب رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم فقد كذب الرسل. والمعنى أنك واحد منهم تجب طاعتك، وتتعين عليهم كما وجبت طاعة من قبلك من المرسلين، فإن كانوا قد أطاعوهم كما زعموا وآمنوا بهم، فما لهم لا يطيعونك، ويؤمنون بك؟! والإذن ههنا هو الإذن الأمري لا الكوني، إذ لو كان إذنًا كونيًا قدريًا لما تخلفت طاعتهم، وفي ذكره نكتة وهي أنه بنفس إرساله تتعين طاعته، وإرساله نفسه إذن في طاعته، فلا تتوقف على نص آخر سوى الإرسال بأمر فيه بالطاعة، بل متى تحققت رسالته، وجبت طاعته. فرسالته نفسها متضمنة للإذن في الطاعة. ويصح أن يكون الإذن ههنا إذنًا كونيًا قدريًا، ويكون المعنى: ليطاع بتوفيق اللّه وهدايته، فتضمن الآية الأمرين الشرع والقدر، ويكون فيها دليل على أن أحدًا لا يطيع رسله إلا بتوفيقه وإرشاده وهدايته، وهذا حسن جدًّا. والمقصود أن الغاية من الرسل هي طاعتهم ومتابعتهم، فإذا كانت الطاعة والمتابعة لغيرهم، لم تحصل الفائدة المقصودة من إرسالهم.
وقوله:{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً}2.
قال ابن القيم: لما علم سبحانه أن المرسل إليهم لا بد لهم من ظلم لأنفسهم، واتباع لأهوائهم، أرشدهم إلى ما يدفع عنهم شر ذلك(5/239)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية: 64.
2 سورة النساء آية: 64.(5/240)
ص -486- ... الظلم وموجبه، وهو شيئان:
أحدهما: منهم، وهو استغفارهم ربهم عزّ وجل.
والثاني: من غيرهم وهو استغفار الرسول صلى الله عليه وسلم لهم إذا جاءوه، وانقادوا له، واعترفوا بظلمهم، فمتى فعلوا ذلك وجدوا اللّه توابًا رحيمًا يتوب عليهم فيمحو أثر سيئاتهم ويقيهم شرها، ويزيدهم مع ذلك رحمته وبره وإحسانه.
فإن قلت: فما حظ من ظلم نفسه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الآية؟ وهل كلام بعض الناس في دعوى المجيء إلى قبره صلى الله عليه وسلم والاستغفار عنده، والاستشفاع به، والاستدلال بهذه الآية على ذلك صحيح أم لا؟ .
قيل: أما حظ من ظلم نفسه بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الآية فالاستغفار، وأن يتوب إلى اللّه توبة نصوحًا في كل زمان ومكان، ولا يشترط في صحة التوبة المجيء إلى قبره، والاستغفار عنده بالإجماع. وأما المجيء إلى قبره، والاستغفار عنده، والاستشفاع به، والاستدلال بالآية على ذلك، فهو استدلال على ما لا تدل الآية عليه بوجه من وجوه الدلالات، لأنه ليس في الآية إلا المجيء إليه صلى الله عليه وسلم لا المجيء إلى قبره، واستغفاره لهم، لاستشفاعهم به بعد موته، فعلم أن ذلك باطل، يوضح ذلك أن الصحابة الذين هم أعلم الناس بكتاب اللّه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما فهموا هذا من الآية، فعلم أن ذلك بدعة. وأكثر ما استدل به من أجاز ذلك رواية العتبي عن أعرابي مجهول على أن القصة لا نعلم لها إسنادًا. ومثل هذا لو كان حديثًا، أو أثرًا عن صحابي لم يجز الاحتجاج به، ولم يلزمنا حكمه لعدم صحته، فكيف يجوز الاحتجاج في هذا بقصة لا تصح عن بدوي لا يعرف؟!.
ثم قال تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}1.
قال ابن القيم: أقسم سبحانه بأجل مقسم به، وهو نفسه عزّ وجل(5/241)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية: 65.(5/242)
ص -487- ... على أنه لا يثبت لهم الإيمان، ولا يكونون من أهله حتى يحكم لرسوله صلى الله عليه وسلم في جميع موارد النّزاع، وفي جميع أبواب الدين فإن لفظة "ما" من صيغ العموم، ولم يقتصر على هذا حتى ضم إليه انشراح صدورهم بحكمه، بحيث لا يجدون في أنفسهم حرجًا، وهو الضيق والحصر من حكمه، بل يقبلون حكمه بالانشراح، ويقابلونه بالقبول، لا يأخذونه على إغماض، و ]لا]1 يشربونه على قَذَى، فإن هذا مناف للإيمان، بل لا بد أن يكون أخذه بقبول ورضى، وانشراح صدر. ومتى أراد العبد شاهدًا فلينظر في حاله، ويطالع قلبه عند ورود حكمه على خلاف هواه وغرضه، أو على خلاف ما قلد فيه أسلافه من المسائل الكبار وما دونها {بَلِ الأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} 2، فسبحان اللّه! كم من حزازة في نفوس كثير من النصوص، وبودهم أن لو لم ترد، وكم من حرارة في أكبادهم منها، وكم من شجى في حلوقهم من موردها، ثم لم يقتصر سبحانه على ذلك حتى ضم إليه قوله:{وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}3 فذكر الفعل مؤكدًا له بالمصدر القائم مقام ذكره مرتين، وهو الخضوع والانقياد لما حكم به طوعًا ورضى وتسليما، لا قهرًا أو مصابرة، كما يسلم المقهور لمن قهره كرهًا، بل تسليم عبد مطيع لمولاه وسيده الذي هو أحب شيء إليه، يعلم أن سعادته وفلاحه في تسليماته. انتهى.
وقد ورد في "الصحيح" أن سبب نزولها قصة الزبير لما اختصم هو والأنصاري في شراج الحرة، ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإذا كان سبب نزولها مخاصمة في مسيل ماء قضى فيه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقضاء، فلم يرضه الأنصاري،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقطت لا من الطبعة السابقة.
2 سورة القيامة آية: 14-15.
3 سورة النساء آية: 65.(5/243)
ص -488- ... فنفى تعالى عنه الإيمان بذلك، فما ظنك بمن لم يرض بقضائه صلى الله عليه وسلم وأحكامه في أصول الدين وفروعه؟! بل إذا دعوا إلى ذلك تولوا وهم معرضون، ولم يكفهم ذلك حتى صدوا الناس عنه، ولم يكفهم ذلك حتى كفروا، أو بدعوا من اتبعه صلى الله عليه وسلم وحكَّمه في أصول الدين وفروعه، ورضي بحكمه في ذلك، ولم يبغ عنه حولاً.
وقوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ}1 .المعنى واللّه أعلم أي: لو أوجبنا عليهم مثل ما أوجبنا على بني إسرائيل من قتلهم أنفسهم، أو خروجهم من ديارهم حين استتيبوا من عبادة العجل {مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ}2. وهذا توبيخ لمن لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في موارد الشجار، أي: نحن لم نكتب عليهم ذلك، بل إنما أوجبنا عليهم ما في وسعهم، فما لهم لا يحكمونك، ولا يرضون بحكمك؟! .
ثم قال تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً}3.
قال ابن القيم: "أخبر تعالى أنهم لو فعلوا ما يعظهم به، وهو أمره ونهيه المقرون بوعده ووعيده لكان فعل أمره، وترك نهيه خيرًا لهم في دينهم ودنياهم، وأشد تثبيتًا لهم على الحق، وتحقيقًا لإيمانهم، وقوة لعزائمهم وإراداتهم، وثباتًا لقلوبهم عند جيوش الباطل، وعند واردات الشبهات المضلة، والشهوات المردية. فطاعة اللّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم هي سبب ثبات القلب، وقوته قوة عزائمه وإراداته، ونفاذ بصيرته، وهذا دليل على أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم تثمر الهداية، وثبات القلب عليها، ومخالفته تثمر زيغ القلب، واضطرابه، وعدم ثباته".
ثم قال تعالى:{وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً(5/244)
عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية: 66.
2 سورة النساء آية: 66.
3 سورة النساء آية: 66-68.(5/245)
ص -489- ... صِرَاطاً مُسْتَقِيماً}1، فهذه أربعة أنواع من الجزاء المرتب على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم:
أحدها: حصول الخير المطلق بها.
الثاني: التثبت والقوة المتضمن للنصر والغلبة.
والثالث: حصول الأجر العظيم لهم في الآخرة.
والرابع: هدايتهم الصراط المستقيم. وهذه الهداية هي هداية ثانية أوجبتها طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فطاعته صلى الله عليه وسلم ثمرة الهداية السابقة عليها فهي محفوفة بهدايتين: هداية قبلها وهي سبب الطاعة، وهداية بعدها هي ثمرة لها، وهذا يدل على انتفاء هذه الأمور الأربعة عند انتفاء طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً}2.
قال ابن القيم: "فأخبر سبحانه أن طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم توجب مرافقة المنعم عليهم، وهم أهل السعادة الكاملة، وهم أربعة أصناف: النبيون وهم أفضلهم ثم الصديقون وهم بعدهم في الدرجة، ثم الشهداء، ثم الصالحون فهؤلاء المنعم عليهم النعمة التامة وهم السعداء الفائزون، ولا فلاح لأحد إلا بموافقتهم، والكون معهم، ولا سبيل إلى مرافقتهم إلا بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا سبيل إليها إلا بمعرفة سنته وما جاء به فدل على أن من عدم العلم بسنته وما جاء به، فليس له إلى مرافقة هؤلاء سبيل، بل هو ممن يعض على يديه يوم القيامة، ويقول: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً}، [الفرقان، من الآية: 27]".
قلت: ما لمن لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في موارد النّزاع إلى مرافقة هؤلاء المنعم عليهم سبيل، وكيف يكون له سبيل إلى ذلك، وعنده أن من حكّم الرسول صلى الله عليه وسلم في موارد النّزاع، فهو إما زنديق أو مبتدع، وأنى له بطاعة اللّه ورسوله، وهذا أصل(5/246)
اعتقاده الذي بنى عليه دينه، ومع ذلك َ{وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } إذا حكّموا غير الرسول صلى الله عليه وسلم ونبذوا حكمه {وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية: 67-68.
2 سورة النساء آية: 69.(5/247)
ص -490- ... قال المصنف وقوله: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}1.
قال أبو بكر بن عياش في الآية: "إن اللّه بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى أهل الأرض، وهم في فساد فأصلحهم اللّه بمحمد صلى الله عليه وسلم فمن دعا إلى خلاف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهو من المفسدين في الأرض". وقال ابن القيم: "قال أكثر المفسرين: لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة اللّه بعد إصلاح اللّه إياها ببعث الرسل، وبيان الشريعة، والدعاء إلى طاعة اللّه، فإن عبادة غير اللّه، والدعوة إلى غيره، والشرك به هو أعظم فساد في الأرض، بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك به، ومخالفة أمره. فالشرك والدعوة إلى غير اللّه، وإقامة معبود غيره، ومطاع متبع غير رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هو أعظم الفساد في الأرض، ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا أن يكون اللّه وحده هو المعبود، والدعوة له لا لغيره، والطاعة والاتباع لرسوله ليس إلا.
وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا أمر بمعصيته وخلاف شريعته، فلا سمع له ولا طاعة، ومن تدبر أحوال العالم، وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد اللّه وعبادته، وطاعة رسوله، وكل شر في العالم، وفتنة وبلاء، وقحط وتسليط عدو وغير ذلك، فسببه مخالفة رسوله، والدعوة إلى غير اللّه ورسوله". انتهى.
وبهذا يتبين وجه مطابقة الآية للترجمة، لأن من يدعو إلى التحاكم إلى غير ما أنزل اللّه وإلى الرسول، فقد أتى بأعظم الفساد.
قال وقوله:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}2.
قال أبو العالية في الآية "يعني: لا تعصوا في الأرض، وكان فسادهم ذلك معصية للّه، لأن من عصى اللّه في الأرض، أو أمر بمعصية اللّه، فقد أفسد في الأرض، لأن صلاح الأرض والسماء(5/248)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية: 56.
2 سورة البقرة آية: 11.(5/249)
ص -491- ... بالطاعة. قلت: ومطابقة الآية للترجمة ظاهر، لأن من دعا إلى التحاكم إلى غير ما أنزل اللّه، فقد أتى بأعظم الفساد. وفي الآية دليل على وجوب إطراح الرأي مع السنة، وإن ادعى صاحبه أنه مصلح، وأن دعوى الإصلاح ليس بعذر في ترك ما أنزل اللّه، والحذر من العجب بالرأي.
قال:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ...}1.
قال ابن كثير: "ينكر تعالى على من خرج عن حكم اللّه تعالى المشتمل على كل خير وعدل، الناهي عن كل شر إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة اللّه كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، كما يحكم به التتار من السياسات المأخوذة عن جنكزخان الذي وضع لهم كتابًا مجموعًا من أحكام اقتبسها من شرائع شتى من الملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها عن مجرد نظره، فصار في بنيه شرعًا يقدمونه على الحكم بالكتاب والسنة، ومن فعل ذلك، فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم اللّه ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير، قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}2 أي: يريدون .{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}3 أي: ومن أعدل من اللّه في حكمه لمن عقل عن اللّه شرعه، وآمن وأيقن، وعلم أنه تعالى أحكم الحاكمين، وأرحم بعباده من الوالدة بولدها فإنه تعالى العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء.
قلت وفي الآية إشارة إلى أن من ابتغى غير حكم اللّه ورسوله، فقد ابتغى حكم الجاهلية كائنًا ما كان.
[لا يؤمن العبد حتى يكون هواه تبعًا لما جاء به الرسول]
قال: عن عبد اللّه بن عمرو أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به" . قال النووي: حديث صحيح رويناه في كتاب "الحجة" بإسناد صحيح.(5/250)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية: 50.
2 سورة المائدة آية: 50.
3 سورة المائدة آية: 50.(5/251)
ص -492- ... ش: هذا الحديث رواه الشيخ أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الشافعي في كتاب "الحجة على تارك المحجة" بإسناد صحيح كما قال المصنف عن النووي، وهو كتاب يتضمن ذكر أصول الدين على قواعد أهل الحديث والسنة. ورواه الطبراني وأبو بكر بن [أبي] عاصم، والحافظ أبو نعيم في "الأربعين" التي شرط في أولها أن تكون من صحاح الأخبار.
وقال ابن رجب: "تصحيح هذا الحديث بعيدًا جدًّا من وجوه..." ذكرها، وتعقبه بعضهم.
قلت: ومعناه صحيح قطعًا وإن لم يصح إسناده. وأصله في القرآن كثير كقوله تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}1.
وقوله:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}2. وقوله:{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ}3. وغير ذلك من الآيات، فلا يضر عدم صحة إسناده.
قوله: "لا يؤمن أحدكم"، أي: لا يحصل له الإيمان الواجب ولا يكون من أهله.
قوله: "حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به" . قال بعضهم: هواه بالقصر، أي: ما يهواه، أي: تحبه نفسه وتميل إليه، ثم المعروف في استعمال الهوى عند الإطلاق أنه الميل إلى خلاف الحق ومنه {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}4. وقد يطلق على الميل والمحبة ليشمل الميل للحق وغيره، وربما استعمل في محبة الحق خاصة، والانقياد إليه، كما في حديث صفوان بن عسال أنه سئل هل سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الهوى. الحديث.
قال ابن رجب: "أما معنى الحديث، فهو أن الإنسان لا يكون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية: 65.
2 سورة الأحزاب آية: 36.
3 سورة القصص آية: 50.
4 سورة ص آية: 26.(5/252)
ص -493- ... مؤمنًا كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الأوامر والنواهي وغيرها، فيحب ما أمر به ويكره ما نهى عنه. وقد ورد القرآن بمثل هذا في غير موضع، وذم سبحانه من كره ما أحبه اللّه تعالى، أو أحب ما كره اللّه كما قال:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}1. وقال:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}2. فالواجب على كل مؤمن أن يحب ما أحبه اللّه محبة توجب له الإتيان بما وجب عليه منه، فإن زادت المحبة حتى أتى بما ندب إليه منه كان ذلك فضلاً. وأن يكره ما كرهه اللّه كراهة توجب له الكف عما حرم عليه منه، فازدادت الكراهة حتى أوجبت الكف عما كرهه تنزيهًا كان ذلك فضلاً.
فمن أحب اللّه ورسوله محبة صادقة من قلبه، أوجب ذلك له أن يحب بقلبه ما يحبه اللّه ورسوله ويكره ما يكرهه اللّه ورسوله. ويرضى بما يرضى به اللّه ورسوله، ويسخط ما يسخط اللّه ورسوله، وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض.
فإن عمل بجوارحه شيئًا يخالف ذلك، بأن ارتكب بعض ما يكرهه اللّه ورسوله، أو ترك بعض ما يحبه اللّه ورسوله مع وجوبه والقدرة عليه، دل ذلك على نقص محبته الواجبة، فعليه أن يتوب من ذلك، ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة. فجميع المعاصي تنشأ من تقديم هوى النفس على محبة اللّه ورسوله، وقد وصف اللّه المشركين باتباع الهوى في مواضع من كتابه فقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ}3، وكذلك البدع إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع، ولهذا سمي أهلها أهل الأهواء، وكذلك المعاصي إنما تقع من تقديم الهوى على محبة اللّه ومحبة ما يحبه اللّه وكذلك حب الأشخاص الواجب فيه أن يكون تبعًا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. فيجب على المؤمن محبة ما يحبه(5/253)
اللّه من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة محمد آية: 9.
2 سورة محمد آية: 28.
3 سورة القصص آية: 50.(5/254)
ص -494- ... الملائكة والرسل والصديقين، والأنبياء والشهداء والصالحين عمومًا. ولهذا كان علامة وجود حلاوة الإيمان "أن يحب المرء لا يحبه إلا للّه" 1. وتحرم موالاة أعداء اللّه ومن يكرهه اللّه عمومًا، وبهذا يكون الدين كله للّه. و "من أحب للّه، وأبغض للّه، وأعطى للّه، ومنع للّه، فقد استكمل الإيمان" . ومن كان حبه، وبغضه، وعطاؤه، ومنعه لهوى نفسه، كان ذلك نقصًا في إيمانه الواجب، فتجب عليه التوبة من ذلك، والرجوع إلى اتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من تقديم محبة اللّه ورسوله، وما فيه رضا اللّه ورسوله على هوى النفس ومرادها. انتهى ملخصًا.
ومطابقة الحديث للباب ظاهرة من جهة أن الرجل لا يؤمن حتى يكون هواه تبعًا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في كل شيء حتى في الحكم وغيره. فإذا حكم بحكم أو قضى بقضاء، فهو الحق الذي لا محيد للمؤمن عنه، ولا اختيار له بعده.
قال المصنف: وقال الشعبي: "كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد، عرف أنه لا يأخذ الرشوة، وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود، لعلمه أنهم يأخذون الرشوة، فاتفقا على أن يأتيا كاهنًا في جهينة فيتحاكما إليه فنَزلت:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ...}2.
ش: هذا الأثر رواه ابن جرير، وابن المنذر بنحوه.
قوله: "كان بين رجل من المنافقين، ورجل من اليهود خصومة"، لم أقف على تسمية هذين الرجلين، وقد روى ابن إسحاق وابن المنذر، وابن أبي حاتم قال: كان الجلاس بن الصامت قبل توبته، ومعتب بن قشير، ورافع بن زيد وبشير، كانوا يدعون الإسلام، فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فدعوهم إلى الكهان حكام الجاهلية فأنزل اللّه فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ...}3 الآية. فيحتمل أن يكون المنافق(5/255)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (5/375).
2 سورة النساء آية: 60.
3 سورة النساء آية: 60.(5/256)
ص -495- ... المذكور في قصة الشعبي أحد هؤلاء، بل روى الثعلبي عن ابن عباس أن المنافق اسمه بشير.
قوله: "عرف أنه لا يأخذ الرشوة"، هي بتثليث الراء قال أبو السعادات: وهو الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، وأصله من الرِّشاء الذي يتوصل به إلى الماء، والراشي: من يعطي الذي يعينه على الباطل، والمرتشي: الآخذ.
قلت: فعلى هذا رشوة الحاكم هي ما يعطاه ليحكم بالباطل، سواء طلبها أم لا. وفيه دليل على شهادة أن محمدًا رسول اللّه، لأن أعداءه يعلمون عدله في الأحكام، ونزاهته عن قذر الرشوة صلى الله عليه وسلم بخلاف حكام الباطل.
قوله: "فاتفقا على أن يأتيا كاهنًا في جهينة" . لم أقف على تسمية هذا الكاهن، وفي قصة رواها ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن السدي في سبب نزول الآية قال: فتفاخرت النضير وقريظة، فقالت النضير: نحن أكرم من قريظة، وقالت قريظة: نحن أكرم منكم، فدخلوا المدينة إلى أبي بردة الأسلمي وذكر القصة.
قال المصنف: وقيل: ونزلت في رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف، ثم ترافعا إلى عمر فذكر له أحدهما القصة. فقال للذي لم يرض برسول اللّه صلى الله عليه وسلم أكذلك؟ قال: نعم، فضربه بالسيف فقتله.
ش: هذه القصة قد رويت من طرق متعددة من أقربها لسياق المصنف ما رواه الثعلبي وذكره البغوي عن ابن عباس في قوله:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا...}1. قال: نزلت في رجل من المنافقين يقال له: بشير خاصم يهوديًّا فدعاه اليهودي إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف، ثم إنهما احتكما للنبي صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي فلم يرض المنافق، وقال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية: 60.(5/257)
ص -496- ... تعال نتحاكم إلى عمر بن الخطاب فقال اليهودي لعمر: قضى لنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فلم يرض بقضائه. فقال للمنافق: أكذلك؟ قال نعم، فقال عمر: مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل عمر فاشتمل على سيفه، ثم خرج فضرب عنق المنافق حتى برد، ثم قال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء اللّه ورسوله، فنَزلت.
وروى الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"، هذه القصة عن مكحول وقال في آخرها: فأتى جبريل عليه السلام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: إن عمر قد قتل الرجل، وفرق اللّه بين الحق والباطل على لسان عمر، فسمي الفاروق. ورواه أبو إسحاق بن دحيم في تفسيره على ما ذكره شيخ الإسلام، وابن كثير، ورواه ابن أبي حاتم، وابن مردويه من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود، وذكر القصة، وفيه: فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "ما كنت أظن أن يجترئ عمر على قتل مؤمن" فأنزل اللّه {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ...} الآية،1 فهدر دم ذلك الرجل وبرئ عمر من قتله، فكره اللّه أن يسن ذلك بعد، فقال:{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ...}2 إلى قوله:{وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} 3 .
وبالجملة فهذه القصة مشهورة متداولة بين السلف والخلف تداولاً يغني عن الإسناد، ولها طرق كثيرة، ولا يضرها ضعف إسنادها.
وكعب بن الأشرف المذكور هنا هو طاغوت من رؤساء اليهود وعلمائهم، ذكر ابن إسحاق وغيره أنه كان موادعًا للنبي صلى الله عليه وسلم في جملة من وادعه من يهود المدينة، وكان عربيًا من بني طيئ وكانت أمه من بني النضير قالوا: فلما قتل أهل بدر، شق ذلك عليه، وذهب إلى مكة ورثاهم لقريش، وفضل دين الجاهلية على دين الإسلام حتى أنزل اللّه فيه:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً}4. ثم لما رجع إلى(5/258)
المدينة أخذ ينشد الأشعار يهجو بها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية: 65.
2 سورة النساء آية: 66.
3 سورة النساء آية: 66.
4 سورة النساء آية: 51.(5/259)
ص -497- ... رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من لكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى اللّه ورسوله"1 وذكر قصة قتله، وقتله محمد بن مسلمة، وأبو نائلة وأبو عبس بن جبير، وعباد بن بشر رضي الله عنهم.
وفي القصة من الفوائد: أن الدعاء إلى تحكيم غير اللّه ورسوله من صفات المنافقين، ولو كان الدعاء إلى تحكيم إمام فاضل، ومعرفة أعداء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بما كان عليه من العلم والعدل في الأحكام.
وفيها الغضب للّه تعالى، والشدة في أمر اللّه كما فعل عمررضي اللّه عنه.
وفيها أن من طعن في أحكام النبي صلى الله عليه وسلم أو في شيء من دينه قتل كهذا المنافق بل أولى.
وفيها جواز تغيير المنكر باليد، وإن لم يأذن فيه الإمام، وكذلك تعزير من فعل شيئًا من المنكرات التي يستحق عليها التعزير. لكن إذا كان الإمام لا يرضى بذلك، وربما أدى إلى وقوع فرقة أو فتنة فيشترط إذنه في التعزير فقط.
وفيها أن معرفة الحق لا تكفي عن العمل والانقياد، فإن اليهود يعلمون أن محمدًا رسول اللّه ويتحاكمون إليه في كثير من الأمور.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: الجهاد (3132).
[34- باب من جحد شيئًا من الأسماء والصفات]
أي: من أسماء اللّه وصفاته، والمراد ما حكمه هل هو ناج أو هالك؟ ولما كان تحقيق التوحيد بل التوحيد لا يحصل إلا بالإيمان باللّه والإيمان بأسمائه وصفاته، نبه المصنف على وجوب الإيمان بذلك وأيضًا فالتوحيد ثلاثة أنواع: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد العبادة. والأولان وسيلة إلى الثالث، فهو الغاية والحكمة المقصود بالخلق والأمر. وكلها متلازمة فناسب التنبيه على الإيمان بتوحيد الصفات.
قال: وقول اللّه تعالى:{وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ...}1. أي: يجحدون هذا الاسم، لا أنهم يجحدون اللّه، فإنهم يقرون(5/260)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الرعد آية: 30.(5/261)
ص -498- ... به كما قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}1. والمراد بهذا كفار قريش أو طائفة منهم، فإنهم جحدوا هذا الاسم عنادًا أو جهلًا، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي يوم الحديبية: "اكتب: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. فقالوا: لا نعرف الرحمن ولا الرحيم، وفي بعض الروايات لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة"2. يعنون مسيلمة الكذاب، فإنه قبحه اللّه كان قد تسمى بهذا الاسم. وأما كثير من أهل الجاهلية فيقرون بهذا الاسم كما قال بعضهم:
وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق
قال ابن كثير: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ}3، أي: لا يقرون به، لأنهم يأبون من وصف اللّه بالرحمن الرحيم.
ومطابقة الآية للترجمة ظاهرة، لأن اللّه تعالى سمى جحود اسم من أسمائه كفرًا، فدل على أن جحود شيء من أسماء اللّه وصفاته كفر، فمن جحد شيئًا من أسماء اللّه وصفاته من الفلاسفة، والجهمية والمعتزلة ونحوهم، فله نصيب من الكفر بقدر ما جحد من الاسم أو الصفة، فإن الجهمية والمعتزلة ونحوهم، وإن كانوا يقرون بجنس الأسماء والصفات فعند التحقيق لا يقرون بشيء، لأن الأسماء عندهم أعلام محضة، لا تدل على صفات قائمة بالرب تبارك وتعالى وهذا نصف كفر الذين جحدوا اسم الرحمن.
وقوله:{قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}4. أي: قل يا محمد رادًّا عليهم في كفرهم بالرحمن تبارك وتعالى هو أي: الرحمن عزّ وجل{رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ}5، أي: لا معبود سواه {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}6، أي: إليه مرجعي وأوبتي، وهو مصدر من قول القائل: تبت متابًا وتوبة، قاله ابن جرير. وفي الآية دليل على أن التوكل عبادة، وعلى أن التوبة عبادة،(5/262)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزخرف آية: 87.
2 صحيح مسلم: كتاب الجهاد والسير (1784) , ومسند أحمد (3/268 ,4/86 ,4/328).
3 سورة الرعد آية: 30.
4 سورة الرعد آية: 30.
5 سورة الرعد آية: 30.
6 سورة الرعد آية: 30.(5/263)
ص -499- ... وإذا كان كذلك فالتوبة إلى غيره شرك. ولما "قال سارق وقد قطعت يده للنبي صلى الله عليه وسلم اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد قال النبي صلى الله عليه وسلم عرف الحق لأهله"1. رواه أحمد.
قال: وفي "صحيح البخاري" "قال علي: حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب اللّه ورسوله؟"
ش: هذا الأثر رواه البخاري مسندًا لا معلقًا لكنه في بعض الروايات علقه أولاً ثم ذكر إسناده، وفي بعضها ساق إسناده أولاً فرواه عن عبيد اللّه بن موسى عن معروف بن خربوذ عن أبي الطفيل عن علي به ولفظه: "أتحبون أن يكذب اللّه ورسوله" .
قوله: "بما يعرفون" . أي: بما يفهمون. قال الحافظ: وزاد آدم ابن أبي إياس في كتاب "العلم" له عن عبد اللّه بن داود عن معروف في آخره: ودعوا ما ينكرون. أي: ما يشتبه عليهم فهمه. قال: وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة. ومثله قول ابن مسعود: " ما أنت محدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة" . رواه مسلم قال: وممن رأى التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في "الغرائب" ومن قَبْلِهم أبو هريرة كما تقدم عنه في الجرابين وأن المراد ما يقع من الفتن، ونحوه عن حذيفة.
وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين، لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي، وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة، وظاهره في الأصل غير مراد فالإمساك عنه عند من يخشى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (3/435).(5/264)
ص -500- ... عليه الأخذ بظاهره مطلوب انتهى.
وما ذكره عن مالك في أحاديث الصفات ما أظنه يثبت عن مالك، وهل في أحاديث الصفات أكثر من آيات الصفات التي في القرآن؟ فهل يقول مالك أو غيره من علماء الإسلام: إن آيات الصفات لا تتلى على العوام، وما زال العلماء قديمًا وحديثًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم يقرؤون آيات الصفات، وأحاديثها بحضرة عوام المؤمنين وخواصهم، بل شرط الإيمان هو الإيمان باللّه، وصفات كماله التي وصف بها نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فكيف يكتم ذلك عن عوام المؤمنين؟! بل نقول: من لم يؤمن بذلك فليس من المؤمنين، ومن وجد في قلبه حرجًا من ذلك، فهو من المنافقين.
ولكن هذا من بدع الجهمية وأتباعهم الذين ينفون صفات الرب تبارك وتعالى، فلما رووا أحاديث الصفات مبطلة لمذاهبهم، قامعة لبدعهم تواصوا بكتمانها عن عوام المؤمنين، لئلا يعلموا ضلالهم، وفساد اعتقادهم فاعلم ذلك.
وفي الأثر دليل على أنه إذا خشي ضرر من تحديث الناس ببعض ما يعرفون فلا ينبغي تحديثهم به، وليس ذلك على إطلاق، وإن كثيرًا من الدين والسنن يجهله الناس، فإذا حدثوا به كذبوا بذلك وأعظموه، فلا يترك العالم تحديثهم، بل يعلمهم برفق ويدعوهم بالتي هي أحسن.(5/265)
ص -501- ... قال: وروى عبد الرزاق عن معمر عن [ابن] طاوس عن أبيه "عن ابن عباس أنه رأى رجلاً انتفض لما سمع حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكارًا لذلك فقال: ما فرق هؤلاء يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه" . انتهى.
ش: قوله: "روى عبد الرزاق هو ابن همام الصنعاني"، الإمام الحافظ صاحب التصانيف ك: "المصنف" وغيره. روى عنه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، وخلق لا يحصون مات سنة إحدى عشرة ومائتين.
ومعمر هو ابن راشد الأزدي أبو عروة البصري، نزل اليمن، ثقة ثبت، مات سنة أربع وخمسين ومائة، وله ثمان وخمسون سنة.
وابن طاوس هو عبد اللّه بن طاوس اليماني، ثقة فاضل عابد، مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة. وأبوه طاوس بن كيسان اليماني ثقة فقيه فاضل من جلة أصحاب ابن عباس وعلمائهم، مات سنة ست ومائة.
قوله: "إنه رأى رجلاً" . لم يسم هذا الرجل.
قوله: "انتفض"، أي: ارتعد لما سمع حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم فاستنكره، إما لأن عقله لا يحتمله، أو لكونه اعتقد عدم صحته فأنكره.
قوله: "فقال"، أي: ابن عباس وهو عبد اللّهرضي اللّه عنه.
قوله: "ما فرق هؤلاء" . يحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون "ما" استفهامية إنكارية. وفرق بفتح الفاء والراء وهو الخوف والفزع، أي: ما فزع هذا وأضرابه من أحاديث الصفات واستنكارهم لها؟ والمراد الإنكار عليهم، فإن الواجب على(5/266)
ص -502- ... العبد التسليم والإذعان والإيمان بما صح عن اللّه وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وإن لم يحط به علمًا. ولهذا قال الشافعي: "آمنت باللّه، وبما جاء عن اللّه على مراد اللّه، وآمنت برسول اللّه، وما جاء عن رسول اللّه على مراد رسول اللّه" .
والثاني: أن يكون بفتح الفاء وتشديد الراء، ويجوز تخفيفها. و "ما" نافية أي: ما فرق هذا وأضرابه بين الحق والباطل، ولا عرفوا ذلك، فلهذا قال: يجدون رقة وهي ضد القسوة، أي: لينًا وقبولاً للمحكم، ويهلكون عند متشابهه، أي: ما يشتبه عليهم فهمه، لأن آيات الصفات هي المتشابه كما تقوله الجهمية ونحوهم، ولأن في القرآن متشابهًا لا يعرف معناه كالألفاظ الأعجمية، فإن لفظ التشابه والمتشابه يدلان على بطلان ذلك، وإنما المراد بالمتشابه، أي: ما يشتبه فهمه على بعض الناس دون بعض، فالمتشابه أمر نسبي إضافي، فقد يكون مشتبهًا بالنسبة إلى قوم بينًا جليًا بالنسبة إلى آخرين. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج على قوم يتراجعون في القرآن فغضب وقال: "بهذا ضلت الأمم قبلكم; باختلافهم على أنبيائهم، وضرب الكتاب بعضه ببعض، وإن القرآن لم ينْزل ليكذب بعضه بعضا، ولكن نزل لأن يصدق بعضه بعضًا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه عليكم فآمنوا به"1. رواه ابن سعد، وابن الضريس وابن مردويه.
وأما قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} 2 . فقال ابن كثير: يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات، أي: بينات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم. فمن رد ما اشتبه عليه إلى الواضح منه، وحكم محكمه على متشابهه عنده فقد اهتدى، ومن عكس انعكس، ولهذا قال:{هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ}3، أي: أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه{وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}4، أي:(5/267)
تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (2/181).
2 سورة آل عمران آية: 7.
3 سورة آل عمران آية: 7.
4 سورة آل عمران آية: 7.(5/268)
ص -503- ... تحتمل أشياء أخرى من حيث اللفظ والتركيب لا من حيث المراد، ولهذا قال تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}1، أي: ضلال، وخروج عن الحق إلى الباطل {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ}، أي: إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، وينَزلوه عليها لاحتمال لفظه لما يصرفونه. فأما الحكم، فلا نصيب لهم فيه، لأنه دافع لهم، وحجة عليهم، ولهذا قال:{ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ}2، أي: الإضلال لأتباعهم، إيهامًا لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن، وهو حجة عليهم لا لهم. انتهى.
وقال ابن عباس: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}3، يعني أهل الشك، فيحملون المحكم على المتشابه، والمتشابه على المحكم، ويلبسون، فلبس اللّه عليهم {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ}4. قال: تأويله يوم القيامة لا يعلمه إلا اللّه. رواه ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. وقوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ}5. تقدم كلام ابن عباس. وقال مقاتل والسدي: يبتغون أن يعلموا ما يكون، وما عواقب الأشياء من القرآن.
قلت: فهذا التأويل الذي انفرد اللّه بعلمه هو العلم بحقائق الأشياء وما تؤول إليه وعواقبها، كالإخبار بما يكون، وما في الجنة من النعيم، وما في النار من العذاب; فإن هذه الأمور وإن علمناها لكن العلم بحقائقها مما لا يعلمه إلا اللّه. ولهذا قال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء. فعلى هذا يكون الوقف على الجلالة كما روي عن جماعة من السلف، وقيل: الوقف على قوله:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}6، أي: وما يعلم تأويله إلا اللّه والراسخون في العلم. فأما أهل الزيغ فلا يعلمون تأويله، وعلى هذا فالمراد بتأويله هو تفسيره وفهم معناه، وهذا هو المروي عن ابن عباس وجماعة من السلف. قال ابن أبي نجيح عن مجاهد عن "ابن عباس: أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله" . وقال(5/269)
مجاهد: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}7، يعرفون تأويله. ويقولون: آمنا به، وكذا قال الربيع بن أنس وغيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية: 7.
2 سورة آل عمران آية: 7.
3 سورة آل عمران آية: 7.
4 سورة آل عمران آية: 7.
5 سورة آل عمران آية: 7.
6 سورة آل عمران آية: 7.
7 سورة آل عمران آية: 7.(5/270)
ص -504- ... فقد تبين وللّه الحمد أنه ليس في الآية حجة للمبطلين في جعلهم ما أخبر اللّه به من صفات كماله هو المتشابه، ويحتجون على باطلهم بهذه الآية، فيقال: وأين في الآية ما يدل على مطلوبكم؟ وهل جاء نص عن اللّه أو عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه جعل ما وصف اللّه به نفسه، أو وصفه به رسوله متشابهًا؟! ولكن أصل ذلك أنهم ظنوا أن التأويل المراد في الآية هو صرف اللفظ عن ظاهره إلى ما يحتمله اللفظ لدليل يقترن بذلك، وهذا هو اصطلاح كثير من المتأخرين، وهو اصطلاح حادث، فأرادوا حمل كلام اللّه على هذا الاصطلاح فضلوا ضلالاً بعيدًا، وظنوا أن لنصوص الصفات تأويلاً يخالف ما دلت عليه، لا يعلمه إلا اللّه كما يقوله أهل التجهيل، أو يعلمه المتأولون كما يقوله أهل التأويل. وفي الأثر المشروح دليل على ذكر آيات الصفات، وأحاديثها بحضرة عوام المؤمنين وخواصهم، وأن من رد شيئًا منها أو استنكره بعد صحته، فهو ممن لم يفرق بين الحق والباطل، بل هو من الهالكين وأنه ينكر عليه استنكاره.
قال: ولما سمعت قريش رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يذكر الرحمن أنكروا ذلك فأنزل اللّه: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ}1.
ش: هكذا ذكر المصنف هذا الأثر بالمعنى، وقد روى ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج [عن مجاهد] في الآية، قال: هذا "لما كاتب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قريشًا في الحديبية، كتب: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}. فقالوا: لا نكتب الرحمن، ولا ندري ما الرحمن، ولا نكتب إلا باسمك اللهم، فأنزل اللّه {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ}" .
وفيه دليل على أن من أنكر شيئًا من الصفات، فهو من الهالكين، لأن الواجب على العبد الإيمان بذلك، سواء فهمه أم لم يفهمه، وسواء قبله عقله أو أنكره. فهذا هو الواجب على العبد في كل ما صح عن اللّه ورسوله صلى الله عليه وسلم وهو الذي ذكر اللّه تعالى عن الراسخين في العلم أنهم {يَقُولُونَ(5/271)
آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}2.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الرعد آية: 30.
2 سورة آل عمران آية: 7.(5/272)
ص -505- ... [35- باب قول اللّه تعالى:{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا...}1]
ش: المراد بهذه الترجمة التأدب مع جناب الربوبية عن الألفاظ الشركية الخفية، كنسبة النعم إلى غير اللّه، فإن ذلك باب من أبواب الشرك الخفي، وضده باب من أبواب الشكر كما في الحديث الذي رواه ابن حبان في "صحيحه" عن جابر مرفوعًا: "من أولي معروفًا فلم يجد له جزاء إلا الثناء فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره"2. وفي رواية جيدة لأبي داود "من أبلي فذكره فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره"3. قال المنذري "من أبلي" أي: من أنعم عليه، الإبلاء الإنعام. فإذا كان ذكر المعروف الذي يقدره اللّه على يدي إنسان من شكره، فذكر معروف رب العالمين، وآلائه وإحسانه ونسبة ذلك إليه أولى بأن يكون شكرًا.
قال المصنف: قال مجاهد ما معناه: هو "قول الرجل: هذا مالي ورثته عن آبائي" .
ش: هذا الأثر رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، ولفظه كما في "الدر" قال: المساكن والأنعام وسرابيل الثياب، والحديد يعرفه كفار قريش ثم ينكرونه بأن يقولوا: هذا كان لآبائنا ورثناه عنهم.
قال ابن القيم "ما معناه: لما أضافوا النعمة إلى غير اللّه فقد أنكروا نعمة اللّه بنسبتها إلى غيره، فإن الذي يقول هذا جاحد لنعمة اللّه عليه غير معترف بها، وهو كالأبرص والأقرع اللذين ذكرهما الملك بنعم اللّه عليهما فأنكراها وقالا: إنما ورثنا هذا كابرًا عن كابر، وكونها موروثة عن الآباء أبلغ في إنعام اللّه عليهم إذ أنعم بها على آبائهم ثم ورثهم إياها فتمتعوا هم وآباؤهم بنعمه".
وقال عون بن عبد اللّه: "يقولون: لولا فلان لم يكن كذا" .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية: 83.
2 أبو داود: الأدب (4813).
3 أبو داود: الأدب (4813).(5/273)
ص -506- ... ش: هذا الأثر رواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ولفظه كما في "الدر" "لولا فلان ما أصابني كذا وكذا، ولولا فلان لم أصب كذا وكذا".
وعون هذا هو ابن عبد اللّه بن عتبة بن مسعود الهذلي أبو عبد اللّه الكوفي ثقة عابد مات قبل سنة عشرين ومائة.
قوله: "لولا فلان..."، إلى آخره. قال ابن القيم ما معناه: هذا يتضمن قطع إضافة النعمة عن من لولاه لم تكن، وإضافتها إلى من لم يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا فضلاً عن غيره، وغايته أن يكون جزءًا من أجزاء السبب أجرى اللّه نعمته على يده، والسبب لا يستقل بالإيجاد وجعله سببًا هو من نعم اللّه عليه. فهو المنعم بتلك النعمة، وهو المنعم بما جعله من أسبابها، فالسبب والمسبب من إنعامه، وهو تعالى كما أنه قد ينعم بذلك السبب، فقد ينعم بدونه ولا يكون له أثر، وقد يسلبه سببيته، وقد يجعل لها معارضًا يقاومها، وقد يرتب على السبب ضد مقتضاه، فهو وحده المنعم على الحقيقة.
قال: وقال ابن قتيبة: "يقولون هذا بشفاعة آلهتنا" .
ش: ابن قتيبة هو عبد اللّه بن مسلم بن قتيبة الدينوري الحافظ، صاحب التفسير والمعارف وغيرها. وثقه الخطيب وغيره، مات سنة سبع وستين ومائتين. أو قبلها.
قوله: "يقولون هذا بشفاعة آلهتنا"، قال ابن القيم: هذا يتضمن الشرك مع إضافة النعمة إلى غير وليها، فالآلهة التي تعبد من دون اللّه أحقر وأذل من أن تشفع عند اللّه، وهي محضرة في الهوان والعذاب مع عابديها وأقرب الخلق إلى اللّه، وأحبهم إليه لا يشفع عنده إلا من بعد إذنه لمن ارتضاه;(5/274)
ص -507- ... فالشفاعة بإذنه من نعمه، فهو المنعم بالشفاعة، وهو المنعم بقبولها، وهو المنع بتأهيل المشفع له، إذ ليس كل أحد أهلاً أن يشفع له. فمن المنعم على الحقيقة سواه؟ قال تعالى:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}1. فالعبد لا خروج له عن نعمة اللّه وفضله ومنته وإحسانه طرفة عين، لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولهذا ذم سبحانه وتعالى من آتاه شيئًا من نعمه ف{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}2.
قال المصنف: وقال أبو العباس بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه أن اللّه تعالى قال: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر..." 3 الحديث. وقد تقدم وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به. قال بعض السلف: هو كقولهم: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقًا، ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثير.
ش: قوله: "وقال أبو العباس"، هو: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللّه.
قوله: "قال بعض السلف"، لم أقف على تسمية هذا البعض.
قوله: "كانت الريح طيبة، والملاح حاذقًا"، الملاح: هو سائس السفينة.
والمعنى أن السفن إذا جرين بريح طيبة بأمر اللّه جريًا حسنًا نسبوا ذلك إلى طيب الريح، وحذق الملاح في سياسة السفينة، ونسوا ربهم الذي أجرى لهم الفلك في البحر رحمة بهم كما قال تعالى:{رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً}4. فيكون نسبة ذلك إلى طيب الريح وحذق الملاح من جنس نسبة المطر إلى الأنواء. وإن كان المتكلم بذلك لم يقصد أن الريح والملاح هو الفاعل لذلك من دون خلق اللّه وأمره وإنما أراد أنه سبب. لكن لا ينبغي أن يضيف ذلك إلا إلى اللّه وحده; لأن غاية الأمر في ذلك أن يكون الريح والملاح سببًا، أو جزء سبب. ولو شاء الرب تبارك وتعالى لسلبه سببيته، فلم يكن سببًا(5/275)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية: 53.
2 سورة القصص آية: 78.
3 البخاري: الجمعة (1038) , ومسلم: الإيمان (71) , والنسائي: الاستسقاء (1525) , وأبو داود: الطب (3906) , وأحمد (4/117) , ومالك: النداء للصلاة (451).
4 سورة الإسراء آية: 66.(5/276)
ص -508- ... أصلاً. فلا يليق بالمنعم عليه المطلوب منه الشكر أن ينسى من بيده الخير كله وهو على كل شيء قدير، ويضيف النعم إلى غيره، بل يذكرها مضافة منسوبة إلى مولاها والمنعم بها، وهو المنعم على الإطلاق كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}1. فهو المنعم بجميع النعم في الدنيا والآخرة وحده لا شريك له. فإن ذلك من شكرها، وضده من إنكارها. ولا ينافي ذلك الدعاء والإحسان إلى من كان سببًا أو جزء سبب في بعض ما يصل إليك من النعم من الخلق. قال المصنف: وفيه اجتماع الضدين في القلب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية: 53.
[36- باب قول اللّه:{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}1]
اعلم أن من تحقيق التوحيد الاحتراز من الشرك باللّه في الألفاظ، وإن لم يقصد المتكلم بها معنى لا يجوز، بل ربما تجري على لسانه من غير قصد، كمن يجري على لسانه ألفاظ من أنواع الشرك الأصغر لا يقصدها.
فإن قيل: الآية نزلت في الأكبر.
قيل: السلف يحتجون بما أنزل في الأكبر على الأصغر، كما فسرها ابن عباس، وغيره فيما ذكره المصنف عنه بأنواع من الشرك الأصغر، وفسرها أيضًا بالشرك الأكبر، وفسرها غيره بشرك الطاعة، وذلك لأن الكل شرك. ومعنى الآية: أن اللّه تبارك وتعالى نهى الناس أن يجعلوا له أندادًا، أي: أمثالاً في العبادة والطاعة، وهم يعلمون أن الذي فعل تلك الأفعال، فهو ربهم وخالقهم، وخالق من قبلهم، وجاعل على الأرض فراشًا، والسماء بناء، والذي أنزل من السماء ماء فأخرج به من أنواع الثمرات رزقًا لهم. فإذا كنتم تعلمون ذلك فلا تجعلوا له أندادًا. قال ابن القيم: فتأمل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية: 22.(5/277)
ص -509- ... هذه، وشدة لزومها لتلك المقدمات قبلها، وظفر العقل بها بأول وهلة، وخلوصها من كل شبهة وريب وقادح إذا كان اللّه وحده هو الذي فعل هذه الأفعال، فكيف تجعلون له أندادًا وقد علمتم أنه لا ند له يشاركه في فعله؟!.
[صور من الشرك الأصغر]
قال المصنف: قال ابن عباس في الآية: "الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: واللّه وحياتك يا فلانة، وحياتي. وتقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص. وقول الرجل لصاحبه: ما شاء اللّه وشئت، وقول الرجل: لولا اللّه وفلان، لا تجعل فيها فلان هذا كله به شرك" رواه ابن أبي حاتم.
ش: هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم، كما قال المصنف وسنده جيد.
قوله: "هو الشرك أخفى من دبيب النمل..." إلى آخره أي: إن هذه الأمور من الشرك خفية في الناس، لا يكاد يتفطن لها ولا يعرفها إلا القليل، وضرب المثل لخفائها بما هو أخفى شيء وهو أثر النمل، فإنه خفي، فكيف إذا كان على صفاة؟ فكيف إذا كانت سوداء، فكيف إذا كانت في ظلمة الليل؟ وهذا يدل على شدة خفائه على من يدعي الإسلام، وعسر التخلص منه، ولهذا جاء في حديث أبي موسى قال: خطبنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: "أيها الناس اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل، فقال له من شاء اللّه أن يقول: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول اللّه؟ قال: "قولوا: اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئًا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه"1. رواه أحمد والطبراني.
قوله: "وهو أن تقول: واللّه وحياتك يا فلانة وحياتي"، أي: إن من الحلف بغير اللّه، الحلف بحياة المخلوق وسيأتي الكلام عليه.
قوله: "وتقول: لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص"، أي: السراق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (4/403).(5/278)
ص -510- ... والمعنى أن من الشرك نسبة عدم السرقة إلى الكلبة التي إذا رأت السراق نبحتهم، فاستيقظ أهلها وهرب السراق. وربما امتنعوا من إتيان المحل الذي هي فيه خوفًا من نباحها، فيعلم بهم أهلها كما روى ابن أبي الدنيا في "الصمت" عن ابن عباس قال: "إن أحدكم ليشرك حتى يشرك بكلبه يقول: لولاه لسرقنا الليلة" .
قوله: "ولولا البط في الدار لأتى اللصوص" . البط بفتح الموحدة: طائر معروف يتخذ في البيوت، وإذا دخلها غريب صاح1 واستنكره، وهو الإوز بكسر الهمزة وفتح الواو ومعناها كالذي قبله. والواجب نسبة ذلك إلى اللّه تعالى، فهو الذي يحفظ عباده ويكلؤهم بالليل والنهار كما قال تعالى:{قُلْ مَنْ يَكْلأُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ}2.
قوله: "وقول الرجل لصاحبه: ما شاء اللّه وشئت"، وسيأتي الكلام عليها إن شاء اللّه.
قوله: "وقول الرجل: لولا اللّه وفلان لا تجعل فيها فلان"، هكذا ثبت بخط المصنف بلا تنوين، والمعنى: لا تجعل فيها أي: في هذه الكلمة فلانًا فتقول: لولا اللّه وفلان، بل قل: لولا اللّه وحده، ولا تقل: لولا اللّه وفلان فهو نهي عن ذلك.
قوله: "هذا كله به" . أي: باللّه شرك، وأعاد الضمير على اللّه، لأنه قد تقدم ذكر اسمه عزّ وجل فتبين أن هذه الأمور ونحوها من الألفاظ الشركية الخفية كما نص عليه ابن عباس رضي الله عنه.
قال: وعن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف بغير اللّه فقد كفر أو أشرك"3. رواه الترمذي وحسنه، وصححه الحاكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الطبعة السابقة: صلح.
2 سورة الأنبياء آية: 42.
3 سنن الترمذي: كتاب النذور والأيمان (1535) , وسنن أبي داود: كتاب الأيمان والنذور (3251) , ومسند أحمد (2/69 ,2/86 ,2/125).(5/279)
ص -511- ... ش: قوله: "عن عمر بن الخطاب" . هكذا وقع في الكتاب، وصوابه عن ابن عمر كذلك أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والحاكم. وصححه ابن حبان. وقال الزين العراقي في "أماليه": إسناده ثقات.
قوله: "من حلف بغير اللّه فقد كفر أو أشرك"1. قال بعضهم ما معناه: رواه الترمذي بأو التي للشك، وفي ابن حبان والحاكم عدمها. وفي رواية للحاكم: "كل يمين يحلف بها دون اللّه شرك" وفي "الصحيحين "من حديث ابن عمر مرفوعًا: "إن اللّه ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفًا فليحلف باللّه أو ليصمت" 2. وعن بريدة مرفوعًا: "من حلف بالأمانة فليس منا"3. رواه أبو داود. والأحاديث في ذلك كثيرة، وقد تقدم كلام ابن عباس في عده ذلك من الأنداد، وقال كعب: "إنكم تشركون في قول الرجل: كلا وأبيك، كلا والكعبة، كلا وحياتك، وأشباه هذا، احلف باللّه صادقًا أو كاذبًا، ولا تحلف بغيره" . رواه ابن أبي الدنيا في "الصمت". وأجمع العلماء على أن اليمين لا تكون إلا باللّه، أو بصفاته، وأجمعوا على المنع من الحلف بغيره. قال ابن عبد البر: لا يجوز الحلف بغير اللّه بالإجماع. انتهى ولا اعتبار بمن قال من المتأخرين: إن ذلك على سبيل كراهة التنْزيه، فإن هذا قول باطل. وكيف يقال ذلك لما أطلق عليه الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كفر أو شرك، بل ذلك محرم. ولهذا اختار ابن مسعودرضي اللّه عنه أن يحلف باللّه كاذبًا، ولا يحلف بغيره صادقًا. فهذا يدل على أن الحلف بغير اللّه أكبر من الكذب. مع أن الكذب من المحرمات في جميع الملل فدل ذلك أن الحلف بغير اللّه من أكبر المحرمات.
فإن قيل: إن اللّه تعالى أقسم بالمخلوقات في القرآن.
قيل: ذلك يختص باللّه تبارك وتعالى، فهو يقسم بما شاء من خلقه; لما في ذلك من الدلالة على قدرة الرب ووحدانيته، وإلهيته(5/280)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سنن الترمذي: كتاب النذور والأيمان (1535) , وسنن أبي داود: كتاب الأيمان والنذور (3251) , ومسند أحمد (2/69 ,2/86 ,2/125).
2 أبو داود: الجهاد (2612) , وأحمد (5/352).
3 الترمذي: الدعوات (3383) , وابن ماجه: الأدب (3800).(5/281)
ص -512- ... وعلمه وحكمته وغير ذلك من صفات كماله. وأما المخلوق فلا يقسم إلا بالخالق تعالى، فاللّه تعالى يقسم بما يشاء من خلقه. وقد نهانا عن الحلف بغيره فيجب على العبد التسليم والإذعان لما جاء من عند اللّه. قال الشعبي: الخالق يقسم بما شاء من خلقه والمخلوق لا يقسم إلا بالخالق، قال: ولأن أقسم باللّه فأحنث أحب إلي من أن أقسم بغيره فأبر. وقال مطرف بن عبد اللّه: "إنما أقسم اللّه بهذه الأشياء ليعجب بها المخلوقين، ويعرفهم قدرته لعظم شأنها عندهم، ولدلالتها على خالقها" ذكرهما ابن جرير.
فإن قيل: قد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي الذي سأله عن أمور الإسلام فأخبره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أفلح وأبيه إن صدق" رواه البخاري، وقال للذي سأله: "أي الصدقة أفضل أما وأبيك لَتُنَبِأَنَّه"1. رواه مسلم ونحو ذلك من الأحاديث.
قيل: ذكر العلماء عن ذلك أجوبة.
أحدها: ما قاله ابن عبد البر في قوله: "أفلح وأبيه إن صدق" هذه اللفظة غير محفوظة، وقد جاءت عن راويها إسماعيل بن جعفر "أفلح واللّه إن صدق"2. قال: وهذا أولى من رواية من روى عنه بلفظ: "أفلح وأبيه" لأنها لفظة منكرة تردها الآثار الصحاح، ولم تقع في رواية مالك أصلاً، وزعم بعضهم أن بعض الرواة عنه صحف قوله: "وأبيه" من قوله: "واللّه" انتهى. وهذا جواب عن هذا الحديث الواحد فقط ولا يمكن أن يجاب به عن غيره.
الثاني: أن هذا اللفظ كان يجري على ألسنتهم من غير قصد للقسم به، والنهي إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحلف ذكره(5/282)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الزكاة (1452) , ومسلم: الإمارة (1865) , والنسائي: البيعة (4164) , وأبو داود: الجهاد (2477).
2 البخاري: الإيمان (46) , ومسلم: الإيمان (11) , والنسائي: الصلاة (458) والصيام (2090) والإيمان وشرائعه (5028) , وأبو داود: الصلاة (391) والأيمان والنذور (3252) , وأحمد (1/162) , ومالك: النداء للصلاة (425) , والدارمي: الصلاة (1578).(5/283)
ص -513- ... البيهقي وقال النووي: إنه المرضي.
قلت: هذا جواب فاسد، بل أحاديث النهي عامة مطلقة ليس فيها تفريق بين من قصد القسم وبين من لم يقصد، ويؤيد ذلك أن سعد بن أبي وقاصرضي اللّه عنه حلف مرة باللات والعزى، ويبعد أن يكون أراد حقيقة الحلف بهما، ولكنه جرى على لسانه من غير قصد على ما كانوا يعتادونه قبل ذلك، ومع هذا نهاه النبي صلى الله عليه وسلم. غاية ما يقال: أن من جرى ذلك على لسانه من غير قصد معفو عنه، أما أن يكون ذلك أمرًا جائزًا للمسلم أن يعتاده فكلا. وأيضًا فهذا يحتاج إلى نقل أنّ ذلك كان يجري على ألسنتهم من غير قصد للقسم، وأن النهي إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحلف وأنى يوجد ذلك؟
الثالث: أن مثل ذلك يقصد به التأكيد لا التعظيم، وإنما وقع النهي عما يقصد به التعظيم.
قلت: وهذا أفسد من الذي قبله، وكأن من قال ذلك لم يتصور ما قال، فهل يراد بالحلف إلا تأكيد المحلوف عليه بذكر من يعظمه الحالف والمحلوف له؟ فتأكيد المحلوف عليه بذكر المحلوف به مستلزم لتعظيمه. وأيضًا فالأحاديث مطلقة ليس فيها تفريق، وأيضًا فهذا يحتاج إلى نقل أن ذلك جائز للتأكيد دون التعظيم وذلك معدوم.
الرابع: أن هذا كان في أول الأمر ثم نسخ، فما جاء من الأحاديث فيه ذكر شيء من الحلف بغير اللّه فهو قبل النسخ، ثم نسخ ذلك ونهي عن الحلف بغير اللّه. وهذا الجواب ذكره الماوردي. قال السهيلي: أكثر الشراح عليه، حتى قال ابن العربي: روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يحلف بأبيه حتى نهي عن ذلك قال السهيلي: ولا يصح ذلك، وكذلك قال غيرهم. وهذا الجواب هو الحق، يؤيده أن ذلك كان مستعملاً شائعًا. حتى ورد النهي عن ذلك كما في حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب يسير في ركب يحلف بأبيه فقال: "ألا إن اللّه ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفًا فليحلف باللّه أو ليصمت"1.(5/284)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الزكاة (1452) , ومسلم: الإمارة (1865) , والنسائي: البيعة (4164) , وأبو داود: الجهاد (2477).(5/285)
ص -514- ... رواه البخاري، ومسلم. وعنه أيضًا قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "من كان حالفًا فلا يحلف إلا باللّه"1. وكانت قريش تحلف بآبائها فقال: "ولا تحلفوا بآبائكم"2. رواه مسلم. وعن سعد بن أبي وقاصرضي اللّه عنه قال: حلفت مرة باللات والعزى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قل لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، ثم انفث عن يسارك ثلاثًا وتعوذ ولا تعد"3. رواه النسائي، وابن ماجة، وهذا لفظه. وفي هذا المعنى أحاديث، فما ورد فيه ذكر الحلف بغير اللّه، فهو جار على العادة قبل النهي، لأن ذلك هو الأصل حتى ورد النهي عن ذلك.
وقوله: "فقد كفر أو أشرك"، أخذ به طائفة من العلماء فقالوا: يكفر من حلف بغير اللّه كفر شرك، قالوا: ولهذا أمره النبي صلى الله عليه وسلم بتجديد إسلامه بقول: لا إله إلا اللّه. فلولا أنه كفر ينقل عن الملة لم يؤمر بذلك. وقال الجمهور: لا يكفر كفرًا ينقله عن الملة، لكنه من الشرك الأصغر كما نص على ذلك ابن عباس وغيره، وأما كونه أمر من حلف باللات والعزى أن يقول: لا إله إلا اللّه، فلأن هذا كفارة له مع استغفاره كما قال في الحديث الصحيح: "ومن حلف فقال في حلفه: واللات والعزى فليقل: لا إله إلا اللّه"4. وفي رواية: "فليستغفر"، فهذا كفارة له في كونه تعاطى صورة تعظيم الصنم، حيث حلف به لا أنه لتجديد إسلامه، ولو قدر ذلك فهو تجديد لإسلامه لنقصه بذلك لا لكفره لكن الذي يفعله عباد القبور إذا طلبت من أحدهم اليمين باللّه، أعطاك ما شئت من الأيمان صادقًا أو كاذبًا. فإذا طلبت منه اليمين بالشيخ أو تربته أو حياته، ونحو ذلك، لم يقدم على اليمين به إن كان كاذبًا. فهذا شرك أكبر بلا ريب، لأن المحلوف به عنده أخوف وأجل وأعظم من اللّه. وهذا ما بلغ إليه شرك عباد الأصنام، لأن جهد اليمين عندهم هو الحلف باللّه كما قال تعالى:{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ(5/286)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (3/361).
2 البخاري: المناقب (3836) , ومسلم: الأيمان (1646) , والترمذي: النذور والأيمان (1533 ,1534) , والنسائي: الأيمان والنذور (3766 ,3767 ,3768) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3249) , وابن ماجه: الكفارات (2094) , وأحمد (2/7 ,2/8 ,2/11 ,2/17 ,2/20 ,2/76 ,2/98 ,2/142) , ومالك: النذور والأيمان (1037) , والدارمي: النذور والأيمان (2341).
3 أحمد (4/55).
4 النسائي: الزينة (5103).(5/287)
ص -515- ... يَمُوتُ}1 فمن كان جهد يمينه الحلف بالشيخ أو بحياته، أو تربته فهو أكبر شركًا منهم، فهذا هو تفصيل القول في هذه المسألة.
والحديث دليل على أنه لا تجب الكفارة بالحلف بغير اللّه مطلقًا، لأنه لم يذكر فيه كفارة للحلف بغير اللّه ولا في غيره من الأحاديث، فليس فيه كفارة إلا النطق بكلمة التوحيد، والاستغفار. وقال بعض المتأخرين: تجب الكفارة بالحلف برسول اللّه صلى الله عليه وسلم خاصة، وهذا قول باطل ما أنزل اللّه به من سلطان، فلا يلتفت إليه وجوابه المنع.
قال المصنف: وقال ابن مسعود: "لأن أحلف باللّه كاذبًا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقًا" .
ش: هكذا ذكر المصنف هذا الأثر عن ابن مسعود ولم يعزه. وقد ذكره ابن جرير بغير سند أيضًا. قال: وقد جاء عن ابن عباس وابن عمر نحوه، ورواه الطبراني بإسناد موقوفًا هكذا. قال المنذري: ورواته رواة الصحيح.
قوله: "لأن أحلف باللّه..." إلى آخره. "أن" هي المصدرية، والفعل بعدها منصوب في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء. و "أحب" خبره، ومعناه ظاهر. وإنما رجح ابن مسعودرضي اللّه عنه الحلف باللّه كاذبًا على الحلف بغيره صادقًا، لأن الحلف باللّه توحيد، والحلف بغيره شرك، وإن قدر الصدق في الحلف بغير اللّه فحسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الكذب أسهل من سيئة الشرك. ذكره شيخ الإسلام. وفيه دليل على أن الحلف بغير اللّه صادقًا أعظم من اليمين الغموس، وفيه دليل على أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر. وفيه شاهد للقاعدة المشهورة وهي: ارتكاب أقل الشرين ضررًا إذا كان لا بد من أحدهما.
قال: وعن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقولوا ما شاء اللّه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية: 38.(5/288)
ص -516- ... وشاء فلان، ولكن قولوا ما شاء اللّه ثم شاء فلان"1. رواه أبو داود بسند صحيح.
ش: هذا الحديث رواه أبو داود، كما قال المصنف، ورواه أحمد وابن أبي شيبة، والنسائي، وابن ماجة، والبيهقي وله علة وله شواهد، وهو صحيح المعنى بلا ريب. وسيأتي الكلام على معناه في باب ما شاء اللّه وشئت إن شاء اللّه.
قال: وجاء عن إبراهيم النخعي أنه يكره أن يقول الرجل: أعوذ باللّه وبك، ويجوز أن يقول: باللّه ثم بك. قال: ويقول: لولا اللّه ثم فلان، ولا تقولوا: لولا اللّه وفلان.
هذا الأثر رواه المصنف غير معزو، وقد رواه عبد الرزاق، وابن أبي الدنيا في كتاب "الصمت" عن مغيرة قال: كان إبراهيم يكره أن يقول الرجل: أعوذ باللّه وبك، ويرخص أن يقول: أعوذ باللّه ثم بك، ويكره أن يقول: لولا اللّه وفلان، ويرخص أن يقول: لولا الله ثم فلان، لفظ ابن أبي الدّنيا، وذلك والله أعلم ؛ لأن الواو تقتضي مطلق الجمع; فمنع منها للجمع، لئلا توهم الجمع بين اللّه وبين غيره، كما منع من جمع اسم اللّه، واسم رسوله في ضمير واحد. و"ثم" إنما تقتضي الترتيب فقط، فجاز ذلك لعدم المانع.
ومطابقة الحديثين والأثرين للترجمة ظاهرة على ما فسر به ابن عباس رضي الله عنهما الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الأدب (4980) , وأحمد (5/384 ,5/393 ,5/398).
[37- باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف باللّه]
أي: من الوعيد; لأن ذلك يدل على قلة تعظيمه لجناب الربوبية، إذ القلب الممتلئ بمعرفة عظمة اللّه وجلاله وعزته وكبريائه لا يفعل ذلك.(5/289)
ص -517- ... قال: عن ابن عمر أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحلفوا بآبائكم، من حَلف باللّه فليصدق، ومن حُلف له باللّه فليرض ومن لم يرض فليس من اللّه"1. رواه ابن ماجة بسند حسن.
ش: هذا الحديث رواه ابن ماجة في "سننه" وترجم عليه "من حُلف له باللّه فليرض" 2. حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة، ثنا أسباط بن محمد عن محمد بن عجلان، عن نافع عن ابن عمر قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يحلف بأبيه فقال: "لا تحلفوا بآبائكم"3 الحديث. وهذا إسناد جيد على شرط مسلم عند الحاكم وغيره، فإنه متصل ورواته ثقات، بل قد روى مسلم عن ابن عجلان عن نافع عن ابن عمر "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء راكبًا وماشيًا"4. وأصل هذا الحديث في "الصحيحين" عن ابن عمر بلفظ: "لا تحلفوا بآبائكم، من كان حالفًا فليحلف باللّه أو ليصمت"5. وليس فيه هذه الزيادة.
قوله: "لا تحلفوا بآبائكم"6. تقدم ما يتعلق به في الباب قبله.
قوله: "من حلف باللّه فليصدق"7، أي: وجوبًا; لأن الصدق واجب، ولو لم يحلف باللّه فكيف إذا حلف به؟ وأيضًا فالكذب حرام لو لم يؤكد الخبر باسم اللّه فكيف إذا أكده باسم اللّه؟ .
قوله: "ومن حُلف له باللّه فليرض"8 أي: وجوبًا كما يدل عليه قوله: "ومن لم يرض فليس من اللَّه"9. ولفظ ابن ماجة: "ومن لم يرض باللّه فليس من اللّه"10. وهذا وعيد كقوله تعالى:{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ}11. قال ابن كثير: أي: فقد برئ من اللّه، وهذا عام في الدعاوي وغيرها، ما لم يفض إلى إلغاء حكم شرعي كمن تشهد عليه البينة الشرعية، فيحلف على تكذيبها فلا يقبل حلفه,ولهذا لما "رأى عيسى عليه السلام رجلاً يسرق فقال له: سرقت قال:(5/290)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجه: الكفارات (2101).
2 ابن ماجه: الكفارات (2101).
3 ابن ماجه: الكفارات (2101).
4 البخاري: الجمعة (1194) , ومسلم: الحج (1399) , والنسائي: المساجد (698) , وأبو داود: المناسك (2040) , وأحمد (2/4 ,2/57 ,2/58 ,2/65 ,2/72 ,2/80 ,2/101 ,2/107 ,2/155) , ومالك: النداء للصلاة (402).
5 البخاري: الأيمان والنذور (6646) , ومسلم: الأيمان (1646) , والترمذي: النذور والأيمان (1534) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3249) , وأحمد (2/7 ,2/11 ,2/17 ,2/20 ,2/76 ,2/98 ,2/142) , ومالك: النذور والأيمان (1037) , والدارمي: النذور والأيمان (2341).
6 ابن ماجه: الكفارات (2101).
7 ابن ماجه: الكفارات (2101).
8 ابن ماجه: الكفارات (2101).
9 ابن ماجه: الكفارات (2101).
10 ابن ماجه: الكفارات (2101).
11 سورة آل عمران آية: 28.(5/291)
ص -518- ... كلا واللّه الذي لا إله إلا هو، فقال عيسى: آمنت باللّه وكذبت عيني"1. رواه البخاري وفيه وجهان.
أحدهما: قال القرطبي: "ظاهر قول عيسى عليه السلام للرجل سرقت أنه خبر جازم، لكونه أخذ مالاً من حرز في خفية، وقول الرجل: كلا نفي لذلك، ثم أكده باليمين. وقول عيسى: آمنت باللّه وكذبت عيني أي: صدقت من حلف باللّه، وكذبت ما ظهر لي من كون الأخذ سرقة، فإنه يحتمل أن يكون الرجل أخذ ما له فيه حق، أو ما أذن له صاحبه في أخذه، أو أخذه ليقلبه، وينظر فيه ولم يقصد الغصب والاستيلاء".
قلت: وهذا فيه نظر وصدر الحديث يرده وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم "رأى عيسى رجلاً يسرق"، فأثبت صلى الله عليه وسلم سرقته.
الثاني: ما قاله ابن القيم: "إن اللّه تعالى كان في قلبه أجل من أن يحلف به أحد كاذبًا. فدار الأمر بين تهمة الحالف، وتهمة بصره، فرد التهمة إلى بصره، كما ظن آدم عليه السلام صدق إبليس لما حلف له أنه ناصح [كما في الأعراف 21]".
قلت: هذا القول أحسن من الأول وهو الصواب إن شاء اللّه تعالى. وحدثت عن المصنف أنه حمل حديث الباب على اليمين في الدعاوي،كمن يتحاكم عند الحاكم فيحكم على خصمه باليمين، فيحلف فيجب عليه أن يرضى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3444) , ومسلم: الفضائل (2368) , والنسائي: آداب القضاة (5427) , وابن ماجه: الكفارات (2102) , وأحمد (2/314 ,2/383).(5/292)
[38- باب قول: ما شاء اللّه وشئت]
أي ما حكم التكلم بذلك، هل يجوز أم لا؟ وإذا قلنا: لا يجوز فهل هو من الشرك أم لا؟ .
قال: عن قتيلة "أن يهوديًّا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تشركون تقولون: ما شاء اللّه وشئت، وتقولون: والكعبة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة وأن يقولوا ما شاء اللّه ثم شئت"1. رواه النسائي وصححه.
ش: هذا الحديث رواه النسائي في "السنن" و "اليوم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: الأيمان والنذور (3773) , وأحمد (6/371).(5/293)
ص -519- ... والليلة". وهذا لفظه في "اليوم والليلة" أخبرنا يوسف بن عيسى قال: ثنا الفضل بن موسى قال: أنا مسعر عن معبد بن خالد، عن عبد اللّه بن يسار، عن قتيلة امرأة من جهينة "أن يهوديًّا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنكم تنددون و[إنّكم] تشركون تقولون: ما شاء اللّه وشئت، وتقولون: والكعبة. فأمرهم النبي عليه السلام إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: "ورب الكعبة، ويقول أحدكم: ما شاء اللّه ثم شئت" . ورواه عن أحمد بن حفص حدثني أبي، حدثني إبراهيم بن طهمان، عن مغيرة عن معبد بن خالد عن قتيلة امرأة من جهينة قالت: دخلت يهودية على عائشة فقالت: إنكم تشركون وساق الحديث، ولم يذكر عبد اللّه بن يسار، والمشهور ذكره، وقد رواه ابن سعد، والطبراني، وابن منده، وأشار ابن سعد إلى أنها ليس لها غيره.
قوله: "عن قتيلة"، هو بضم القاف وفتح التاء بعدها مثناة تحتية مصغرًا بنت صيفي الجهنية، أو الأنصارية صحابية.
قوله: "إنكم تشركون تقولون: ما شاء اللّه وشئت" . هذا نص في أن هذا اللفظ من الشرك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر اليهودي على تسمية هذا اللفظ تنديدًا أو شركًا. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وأرشد إلى استعمال اللفظ البعيد من الشرك.
وقول: "ما شاء اللّه ثم شئت"، وإن كان الأولى قول: ما شاء اللّه وحده، كما يدل عليه حديث ابن عباس وغيره، وعلى النهي عن قول: ما شاء اللّه وشئت جمهور العلماء، إلا أنه حكي عن أبي جعفر الداودي ما يقتضي جواز ذلك احتجاجا بقوله تعالى:{وَمَا نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ}1. وقوله:{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ}2. ونحو ذلك. والصواب القول الأول، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر ذلك وقال لمن قال له ذلك: أجعلتني للّه ندًّا. وأقر اليهودي على تسميته تنديدًا وشركا، ومن المحال أن يكون هذا أمرًا جائزًا.(5/294)
وأما ما احتج من القرآن، فقد ذكروا عن ذلك جوابين:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية: 74.
2 سورة الأحزاب آية: 37.(5/295)
ص -520- ... أحدهما: أن ذلك للّه وحده، لا شريك له، كما أنه تعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته فكذلك هذا.
الثاني: أن قوله: "ما شاء اللّه وشئت"، تشريك في مشيئة اللّه، وأما الآية فإنما أخبر بها عن فعلين متغايرين، فأخبر تعالى أنه أغناهم وأن رسوله أغناهم. وهو من اللّه حقيقة، لأنه الذي قدر ذلك، ومن الرسول صلى الله عليه وسلم حقيقة باعتبار تعاطي الفعل، وكذا الإنعام أنعم اللّه على زيد بالإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم أنعم عليه بالعتق، وهذا بخلاف المشاركة في الفعل الواحد، فالكلام إنما هو فيه، والمنع إنما هو منه.
فإن قلت: قد ذكر النحاة أن "ثم" تقتضي اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم كالواو فلم جاز ذلك بثم؟ ومنع منه الواو. وغاية ما يقال: إن "ثم" تقتضي الترتيب بخلاف الواو، فإنها تقتضي مطلق الجمع، وهذا لا يغير صورة الاشتراك قبل النهي عن ذلك، إنما هو إذا أتى بصورة التشريك جميعًا، وهذا لا يحصل إلا بالواو بخلاف ثم، فإنها لا تقتضي الجمع، إنما تقتضي الترتيب، فإذا أتى بها زالت صورة التشريك والجمع في اللفظ. وأما المعنى، فللّه تعالى ما يختص به من المشيئة، وللمخلوق ما يختص به، فلو أتى بثم وأراد أنه شريك للّه تعالى في المشيئة كلولا اللّه ثم فلان، مثلاً لم يوجد ذلك فالنهي باق بحاله، بل يكون في هذه الصورة أشد ممن أتى بالواو مع عدم هذا الاعتقاد. ويشبه ذلك الجمع بين اسم اللّه واسم غيره في ضمير واحد، ولهذا "أنكره النبي صلى الله عليه وسلم على الخطيب قال: ومن يعصهما فقد غوى، فقال له: بئس الخطيب أنت"1 .
قوله: "فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة"، تقدم ما يتعلق بالحلف بغير اللّه قريبًا.
وفي الحديث من الفوائد: معرفة اليهود بالشرك الأصغر، وكثير ممن يدعي الإسلام لا يعرف الشرك الأكبر، بل يصرف خالص العبادات من الدعاء والذبح، والنذر لغير اللّه ويظن أن ذلك(5/296)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الجمعة (870) , والنسائي: النكاح (3279) , وأبو داود: الصلاة (1099) والأدب (4981) , وأحمد (4/256 ,4/379).(5/297)
ص -521- ... من دين الإسلام، فعلمتَ أن اليهود في ذلك الوقت أحسن حالاً ومعرفة منهم. وفيه فهم الإنسان إذا كان له هوى كما نبه عليه المصنف، وأن المعرفة بالحق لا تستلزم الإيمان ولا العمل، وقبول الحق ممن جاء به، وإن كان عدوًّا مخالفًا في الدين، وإن الحلف بغير اللّه من الشرك الأصغر لا يمرق به الإنسان من الإسلام.
قال: وله أيضًا عن ابن عباس "أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم ما شاء اللَّه وشئت. قال: "أجعلتني للّه ندًّا ما شاء اللّه وحده"1.
ش: هذا الحديث رواه النسائي، كما قال المصنف لكن في "اليوم والليلة" وهذا لفظه: أخبرنا علي بن خشرم عن عيسى، عن الأجلح عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس "أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فكلمه في بعض الأمر فقال: ما شاء اللَّه وشئت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجعلتني للّه عدلاً؟ قل: ما شاء اللّه وحده"2. ورواه ابن ماجة في الكفارات من "السنن" عن هشام بن عمار، عن عيسى نحوه. ولفظه: "إذا حلف أحدكم فلا يقل: ما شاء اللّه وشئت..."3 الحديث. وقد تابع عيسى على هذا الحديث سفيان الثوري، وعبد الرحمن وجعفر بن عون عن الأجلح وكلهم ثقات. وخالفهم القاسم بن مالك وهو ثقة فرواه عن الأجلح، عن أبي الزبير عن جابر، والأول أرجح. ويحتمل أن يكون عن الأجلح عنهما جميعًا.
قوله: "أجعلتني للّه ندًّا"، هذه رواية ابن مردويه، والرواية عند النسائي وابن ماجة "أجعلتني للّه عدلاً" والمعنى واحد. قال ابن القيم: ومن ذلك أي: من الشرك باللّه في الألفاظ قول القائل للمخلوق: ما شاء اللّه وشئت، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له رجل: ما شاء اللّه وشئت، وذكر الحديث المشروح. ثم قال: هذا مع أن اللّه قد أثبت للعبد مشيئة - كقوله:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ}4.(5/298)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (1/224).
2 أحمد (1/214).
3 ابن ماجه: الكفارات (2117).
4 سورة التكوير آية: 28.(5/299)
ص -522- ... فكيف بمن يقول: أنا متوكل على اللّه وعليك، وأنا في حسب اللّه وحسبك، وما لي إلا اللّه وأنت، وهذا من اللّه ومنك، وهذا من يركات اللّه وبركاتك، واللّه لي في السماء وأنت لي في الأرض. واللّه وحياة فلان أو يقول: نذرًا للّه ولفلان، وأنا تائب للّه ولفلان، وأرجو اللّه وفلانًا. فوازن بين هذه الألفاظ، وبين قول القائل: ما شاء اللّه وشئت، ثم انظر أيهما أفحش. يتبين لك أن قائلها أولى بجواب النبي صلى الله عليه وسلم لقائل تلك الكلمة، وأنه إذا كان قد جعله ندًّا بها، فهذا قد جعل من لا يداني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في شيء من الأشياء، بل لعله أن يكون من أعدائه ندًّا لرب العالمين. فالسجود، والعبادة، والتوكل، والإنابة، والتقوى، والخشية، والتوبة، والنذر، والحلف، والتسبيح، والتكبير، والتهليل، والتحميد، والاستغفار، وحلق الرأس خضوعًا وتعبدًا، والطواف بالبيت والدعاء، كل ذلك محض حق للّه الذي لا يصلح ولا ينبغي لسواه، من ملك مقرب ولا نبي مرسل. وفي "مسند" الإمام أحمد: "أن رجلاً أتى به النبي صلى الله عليه وسلم قد أذنب فلما وقف بين يديه قال: اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد فقال: عرف الحق لأهله"1.
قلت: إذا كان هذا كلامه صلى الله عليه وسلم لمن قال له: ما شاء اللّه وشئت فكيف بمن يقول فيه [البوصيري في البردة]؟!:
154-فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم .
ويقول في همزيته:
427-هذه علتي وأنت طبيبي ... ليس يخفى عليك في القلب داء .(5/300)
وأشباه هذا من الكفر الصريح.
قال: ولابن ماجة عن الطفيل أخي عائشة لأمها قال: "رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود قلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عُزَيْر بن اللّه. قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء اللّه، وشاء محمد. ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن اللّه، قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (3/435).(5/301)
ص -523- ... تقولون: ما شاء اللّه وشاء محمد. فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته قال: "هل أخبرت بها أحدًا؟ قلت: نعم قال: فحمد اللّه وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد فإن طفيلاً رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم وإنكم قلتم: كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها فلا تقولوا: ما شاء اللّه وشاء محمد ولكن قولوا: ما شاء اللّه وحده" .
ش: هذا الحديث لم يروه ابن ماجة بهذا اللفظ عن الطفيل، إنما رواه عن حذيفة ولفظه: حدثنا هشام بن عمار ثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة بن اليمان "أن رجلاً من المسلمين رأى في النوم أنه لقي رجلاً من أهل الكتاب فقال: نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون، تقولون: ما شاء اللّه وشاء محمد، وذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أما واللّه إن كنت لأعرفها لكم قولوا: ما شاء اللّه ثم شاء محمد"1. ورواه أحمد والنسائي بنحوه. وفي رواية للنسائي أن الراوي لذلك هو حذيفة نفسه. هذه رواية ابن عيينة، ثم ذكر ابن ماجة حديث الطفيل هذا فساق إسناده ولم يذكر اللفظ. فقال: حدثنا ابن أبي الشوارب، ثنا ابن عوانة عن عبد الملك، عن ربعي بن حراش، عن الطفيل بن سخبرة أخي عائشة لأمها، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه، هذا لفظ ابن ماجة. وهكذا رواه حماد بن سلمة وشعبة وابن إدريس عن عبد الملك، فقالوا: عن الطفيل وهو الذي رجحه الحفاظ، وقالوا: ابن عيينة وهم في قوله: عن حذيفة فقد تبين أن هذا الحديث المذكور لم يروه ابن ماجة بهذا اللفظ، لكن رواه أحمد والطبراني بنحو مما ذكره المصنف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجه: الكفارات (2118) , وأحمد (5/72) , والدارمي: الاستئذان (2699).(5/302)
ص -524- ... قوله: "عن الطفيل" هو ابن سخبرة وفي حديثه هذا أنه أخو عائشة لأمها، وكذا قال الحربي. وقال: الذي عندي أن الحارث بن سخبرة قدم مكة، فحالف1 أبا بكر فمات، فخلف أبو بكر على أم رومان فولدت له عبد الرحمن وعائشة، وكان لها من الحارث الطفيل بن الحارث، فهو أخو عائشة لأمها. وقيل غير ذلك. وهو صحابي ليس له إلا هذا الحديث قال البغوي: لا أعلم له غيره.
قوله: "رأيت فيما يرى النائم" . كما روى أحمد، والطبراني.
قوله: "على نفر من اليهود" وفي رواية أحمد، والطبراني: "كأني مررت برهط من اليهود فقلت: من أنتم فقالوا: نحن اليهود. والنفر رهط الإنسان وعشيرته"، وهو اسم جمع يقع على جماعة من الرجال خاصة، ما بين الثلاثة إلى العشرة، ولا واحد له من لفظه. قاله أبو السعادات.
قوله: "فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: عزير ابن اللّه"، أي: نعم القوم أنتم لولا ما أنتم عليه من الشرك، والمسبة للّه بنسبة الولد إليه وهذا لفظ الطبراني، ولفظ أحمد قال: أنتم القوم.
قوله: "قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء اللّه وشاء محمد" . عارضوه بذكر شيء مما في المسلمين من الشرك الأصغر فقالوا له: هذا الكلام، أي: نعم القوم أنتم لولا ما فيكم من الشرك.
وكذلك جرى له مع النصارى.
قوله: "فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت" . وفي رواية أحمد: "فلما أصبح أخبر بها من أخبر"، وفي رواية الطبراني: "فلما أصبحت أخبرت بها أناسًا" .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الطبعة السابقة: فخالف وهو تصحيف.(5/303)
ص -525- ... قوله: "ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته" . فيه حسن خلقه صلى الله عليه وسلم وعدم احتجابه عن الناس كالملوك بحيث إذا أراد أحد الوصول إليه أمكنه ذلك بلا كلفة ولا مشقة، بل يصلون إليه ويقضي حاجتهم ويخبرونه بما يحتاجون إليه من أمر دينهم ودنياهم، ويقصون عليه ما يرونه في المنام، بل كان صلى الله عليه وسلم يعتني بالرؤيا لأنها من أقسام الوحي، وكان إذا صلى الصبح كثيرًا ما يقول: "هل رأى أحد منكم رؤيا؟"1.
قوله: "فحمد اللّه وأثنى عليه" . وفي رواية أحمد: "فلما أصبحوا خطبهم فحمد اللّه وأثنى عليه" . وفي رواية الطبراني: "فلما صلى الظهر قام خطيبًا" . ففيه مشروعية حمد اللّه والثناء عليه في الخطب، وفيه الخطبة في الأمور المهمة. وأما معنى الحمد، فقد تقدم في باب قول اللّه تعالى:{أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً}2. وأما الثناء فقال ابن القيم: هو تكرار المحامد.
قوله: "ثم قال: أما بعد" . في رواية أحمد، والطبراني: "ثم قال: إن طفيلاً رأى رؤيا"، ولم يذكر أما بعد. وفي رواية للطبراني: فقام نبي اللّه على المنبر فقال: "إن أخاكم رأى رؤيا قد حدثكم بما رأى" . فيه مشروعية "أما بعد" في الخطب في هذا الحديث، وإلا فلا يضر فإنها ثابتة في خطبه عليه السلام، وفي غيره.
قوله: "وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها" وفي رواية أحمد، والطبراني "وإنكم كنتم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم أن أنهاكم عنها"3. وهذا الحياء منهم ليس على سبيل الحياء من الإنكار عليهم، بل كان صلى الله عليه وسلم يكرهها ويستحيي أن يذكرها، لأنه لم يأمر بإنكارها، فلما جاء الأمر الإلهي بالرؤيا الصالحة أنكرها، ولم يستحي في ذلك.
وفيه دليل على أنها من الشرك الأصغر، إذ لو كانت من الأكبر لأنكرها من أول مرة قالوها. وفيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الحياء وأنه من الأخلاق المحمودة.(5/304)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجنائز (1386) , ومسلم: الرؤيا (2275) , والترمذي: الرؤيا (2294) , وأحمد (5/8 ,5/10 ,5/14).
2 سورة الأعراف آية: 191.
3 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (770) , والترمذي: الدعوات (3420) , وأبو داود: الصلاة (767) , وأحمد (6/156).(5/305)
ص -526- ... قوله: "فلا تقولوا: ما شاء اللّه وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء اللّه وحده"1. هذا على سبيل الاستحباب وإلا فيجوز أن يقول: ما شاء اللّه ثم شاء فلان كما تقدم. وفيه أن الرؤيا قد تكون سببًا لشرع بعض الأحكام كما في هذا الحديث، وحديث الأذان، وحديث الذكر بعد الصلوات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (770) , والترمذي: الدعوات (3420) , وأبو داود: الصلاة (767) , وأحمد (6/156).
[39- باب من سب الدهر فقد آذى اللّه]
ش: مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة، لأن سب الدهر يتضمن الشرك كما سيأتي بيانه. ولفظ الأذى في اللغة هو لما خف أمره، وضعف أثره من الشرك والمكروه. ذكره الخطابي. قال شيخ الإسلام: وهو كما قال. وهذا بخلاف الضرر، فقد أخبر سبحانه أن العباد لا يضرونه كما قال تعالى:{وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً}1. فبين سبحانه أن الخلق لا يضرونه، لكن يؤذونه إذا سبوا مقلب الأمور.
وقال وقول اللّه تعالى:{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ...}2.
ش: قال ابن كثير: يخبر تعالى عن قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا}3. قال ابن جرير: أي: ما حياة إلا حياتنا التي نحن فيها، ولا حياة سواها تكذيبًا منهم بالبعث بعد الموت {نَمُوتُ وَنَحْيَا}4.
قال ابن كثير: أي: يموت قوم ويعيش آخرون، وما ثم معاد ولا قيامة. وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون للمعاد، وتقوله الفلاسفة الإلهيون منهم، وهم ينكرون البدأة والرجعة، وتقوله الفلاسفة الدورية المنكرون للصانع، المعتقدون أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه. فزعموا أن هذا قد تكرر(5/306)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية: 176.
2 سورة الجاثية آية: 24.
3 سورة الجاثية آية: 24.
4 سورة الجاثية آية: 24.(5/307)
ص -527- ... مرات لا تتناهى، فكابروا العقول وكذبوا المنقول، ولهذا قالوا {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ}1. قال ابن جرير: أي: وما يهلكنا فيفنينا إلا مر الليالي والأيام، وطول العمر إنكارًا منهم أن يكون لهم رب يفنيهم ويهلكهم. ثم روى بإسناد على شرط "الصحيحين" عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار، وهو الذي يهلكنا ويميتنا ويحيينا" . فقال اللّه في كتابه: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ}2. قال فيسبون الدهر فقال اللّه تبارك وتعالى: "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار"3. قوله:{وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ}4. قال ابن جرير: يعني: من يقين علم {إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ}5. قال ابن كثير: يتوهمون ويتخيلون.
فإن قلت: فأين مطابقة الآية للترجمة إذا كانت خبرًا عن الدهرية المشركين؟
قيل: المطابقة ظاهرة، لأن من سب الدهر فقد شاركهم في سبه، وإن لم يشاركهم في الاعتقاد.
[النهي عن سب الدهر]
قال في "الصحيح" عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال اللّه تعالى "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار"6. وفي رواية: "لا تسبوا الدهر فإن الدهر هو اللّه"7 .
ش: قوله: في "الصحيح"، أي: "صحيح البخاري". ورواه أحمد بهذا اللفظ، وأخرجه مسلم بلفظ آخر.
قوله: "يؤذيني ابن آدم يسب الدهر"، فيه أن سب الدهر يؤذي اللّه تبارك وتعالى. قال الشافعي في تأويله واللّه أعلم: إن العرب كان من شأنها أن تذم الدهر، وتسبه عند المصائب التي تنْزل بهم، من موت، أو هرم، أو تلف، أو غير ذلك، فيقولون: إنما يهلكنا(5/308)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الجاثية آية: 24.
2 سورة الجاثية آية: 24.
3 مسلم: الإيمان (121) , وأحمد (4/204).
4 سورة الجاثية آية: 24.
5 سورة الجاثية آية: 24.
6 البخاري: تفسير القرآن (4826) , ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) , وأحمد (2/238 ,2/275 ,2/318 ,2/394 ,2/395 ,2/491 ,2/499) , ومالك: الجامع (1846).
7 البخاري: تفسير القرآن (4826) , ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) , وأبو داود: الأدب (5274) , وأحمد (2/238 ,2/259 ,2/272 ,2/275 ,2/318 ,2/394 ,2/395 ,2/491 ,2/496 ,2/499) , ومالك: الجامع (1846).(5/309)
ص -528- ... الدهر وهو الليل والنهار، ويقولون: أصابتهم قوارع الدهر، وأبادهم الدهر. فيجعلون الليل والنهار يفعلان الأشياء، فيذمون الدهر بأنه الذي يفنيهم، ويفعل بهم. قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الدهر"1. على أنه الذي يفنيكم والذي يفعل بكم هذه الأشياء، فإنكم إذا سببتم فاعل هذه الأشياء، فإنما تسبون اللّه تبارك وتعالى، فإنه فاعل هذه الأشياء. انتهى.
قلت: والظاهر أن المشركين نوعان.
أحدهما: من يعتقد أن الدهر هو الفاعل، فيسبه لذلك. فهؤلاء هم الدهرية.
الثاني: من يعتقد أن المدبر للأمور هو اللّه وحده لا شريك له، ولكن يسبون الدهر لما يجري عليهم فيه من المصائب والحوادث، فيضيفون ذلك إليه من إضافة الشيء إلى محله، لا لأنه عندهم فاعل لذلك.
والحديث صريح في النهي عن سب الدهر مطلقًا، سواء اعتقد أنه فاعل أو لم يعتقد ذلك، كما يقع كثيرًا ممن يعتقد الإسلام.
كقول ابن المعتز:
يا دهر ويحك ما أبقيت لي أحدًا ... وأنت والد سوء تأكل الولدا .
وقول أبي الطيب:
قبحا لوجهك يا زمان كأنه ... وجه له من كل قبح برقع .
وقول الطرفي:
إن تبتلى بلئام الناس يرفعهم ... عليك دهر لأهل الفضل قد خانا .
وقول الحريري:
ولا تأمن الدهر الخئون ومكره ... فكم خامل أخنى عليه ونابه .
ونحو ذلك كثير. وكل هذا داخل في الحديث.
قال ابن القيم: وفي هذا ثلاث مفاسد عظيمة:
أحدها: سبه من ليس أهلاً للسب، فإن الدهر خلق مسخر من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: تفسير القرآن (4826) , ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) , وأبو داود: الأدب (5274) , وأحمد (2/238 ,2/259 ,2/272 ,2/275 ,2/318 ,2/394 ,2/395 ,2/491 ,2/496 ,2/499) , ومالك: الجامع (1846).(5/310)
ص -529- ... خلق اللّه مقاد لأمره، متذلل لتسخيره، فسابه أولى بالذم والسب منه.
والثانية: أن سبه متضمن للشرك، فإنه إنما سبه لظنه أنه يضر وينفع وأنه مع ذلك ظالم قد ضر من لا يستحق العطاء، ورفع من لا يستحق الرفعة، وحرم من لا يستحق الحرمان. وهو عند شاتميه من أظلم الظلمة وأشعار هؤلاء الظلمة الخونة في سبه كثيرة جدًّا. وكثير من الجهال يصرح بلعنه وتقبيحه.
الثالثة: أن السب منهم إنما يقع على من فعل هذه الأفعال التي لو اتبع الحق فيها أهواءهم لفسدت السموات والأرض، وإذا وافقت أهواءهم حمدوا الدهر وأثنوا عليه، وفي حقيقة الأمر، فرب الدهر هو المعطي المانع الخافض الرافع المعز المذل، والدهر ليس له من الأمر شيء، فمسبتهم الدهر مسبة للّه عزّ وجل ولهذا كانت مؤذية للرب تعالى، فساب الدهر دائر بين أمرين لا بد له من أحدهما: إما مسبة اللّه أو الشرك به، فإنه إن اعتقد أن الدهر فاعل مع اللّه فهو مشرك، وإن اعتقد أن اللّه وحده هو الذي فعل ذلك، وهو يسب من فعله فهو يسب اللّه تعالى. انتهى. وأشار ابن أبي جمرة1 إلى أن النهي عن سب الدهر تنبيه بالأعلى على الأدنى، وأن فيه إشارة إلى ترك سب كل شيء مطلق، إلا ما أذن الشرع فيه، لأن العلة واحدة.
قوله: "وأنا الدهر"، قال الخطابي: معناه: أنا صاحب الدهر، ومدبر الأمور التي ينسبونها إلى الدهر، فمن سب الدهر من أجل أنه فاعل هذه الأمور عاد سبه إلى ربه الذي هو فاعلها، وإنما الدهر زمان جعل ظرفًا لمواقع الأمور.
قلت: ولهذا قال في الحديث: "وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الطبعة السابقة: حمزة وهو تصحيف.(5/311)
ص -530- ... الليل والنهار"1. وفي رواية لأحمد: "بيدي الليل والنهار أجده وأبليه وأذهب بالملوك" 2. وفي رواية: "لا تسبوا الدهر فإن اللّه هو الدهر، الأيام والليالي أجددها وأبليها وآتي بملوك بعد ملوك" . قال الحافظ: وسنده صحيح. فقد تبين بهذا خطأ ابن حزم في عده الدهر من أسماء اللّه الحسنى، وهذا غلط فاحش، ولو كان كذلك لكان الذين قالوا:{وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ}3 مصيبين.
قوله: "وفي رواية" . هذه الرواية رواها مسلم وغيره. قال المصنف: وفيه أنه قد يكون سبًّا ولو لم يقصده بقلبه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: تفسير القرآن (4826) , ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) , وأبو داود: الأدب (5274) , وأحمد (2/238 ,2/318 ,2/394 ,2/395 ,2/491 ,2/496 ,2/499).
2 أحمد (2/496).
3 سورة الجاثية آية: 24.
[40- باب التسمي بقاضي القضاة]
ونحوه كأقضى القضاة، وحاكم الحكام، أو سيد الناس ونحو ذلك. أي: ما حكم التسمي بذلك هل يجوز أم لا؟
قال في "الصحيح" عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أخنع اسم عند اللّه رجل يسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا اللّه"1. قال سفيان: "مثل شاهان شاه وفي رواية: "أغيظ رجل على اللّه وأخبثه"2.
قوله: "أخنع"، يعني أوضع.
ش: قوله: "في الصحيح" أي: "الصحيحين".
قوله: "إن أخنع" ذكر المصنف أن معناه: أوضع. وهذا التفسير رواه مسلم عن الإمام أحمد، عن أبي عمرو الشيباني، قال عياض: معناه: إنه أشد الأسماء صغارًا، وبنحو ذلك فسره أبو عبيد. والخانع: الذليل، وخنع الرجل: ذل. قال ابن بطال: وإذا كان الاسم أذل الأسماء كان من تسمى به أشد ذلاًّ. وقد فسر الخليل أخنع. أفجر، فقال: الخنع: الفجور. وفي رواية: "أخنى الأسماء"، من الخنا بفتح المعجمة وتخفيف النون مقصور،(5/312)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الأدب (6205 ,6206) , ومسلم: الآداب (2143) , والترمذي: الأدب (2837) , وأبو داود: الأدب (4961) , وأحمد (2/244 ,2/315).
2 مسلم: الآداب (2143) , والترمذي: الأدب (2837) , وأبو داود: الأدب (4961) , وأحمد (2/244 ,2/315).(5/313)
ص -531- ... وهو الفحش في القول. وفي رواية "اشتد غضب اللّه على من زعم أنه ملك الأملاك" رواه الطبراني.
قوله: "رجل يسمى" . بصيغة المجهول من التسمية، أي: يدعى بذلك ويرضى به. وفي بعض الروايات: تسمى بفتح الفوقانية وتشديد الميم ماضٍ معلوم من التسمي، أي: سمى نفسه.
قوله: "ملك الأملاك" هو بكسر اللام من ملك. والأملاك جمع ملك، ثم أكد النبي صلى الله عليه وسلم التشديد في تحريم التسمي بذلك بقوله: "لا مالك إلا اللّه"، فالذي تسمى بهذا الاسم قد كذب وفجر وارتقى إلى ما ليس له بأهل، بل هو حقيق برب العالمين، فإنه الملك في الحقيقة، فلهذا كان أذل الناس عند اللّه يوم القيامة. والفرق بين الملك والمالك أن المالك هو المتصرف بفعله وأمره، ذكره ابن القيم. فالذي تسمى بملك الأملاك، أو ملك الملوك قد بلغ الغاية في الكفر والكذب. ولقد كان بعض السلاطين المساكين يفتخر بهذا الاسم فأذله اللّه.
قوله: "قال سفيان": هو ابن عيينة تقدمت ترجمته.
قوله: "مثل شاهان شاه" - هو بكسر النون والهاء في آخره، وقد تنون وليست هاء تأنيث فلا يقال بالمثناة أصلاً، وإنما مثَّل سفيان بشاهان شاه لأنه قد كثرت التسمية به في ذلك العصر، فنبه سفيان بأن الاسم الذي ورد الخبر بذمه لا ينحصر في ملك الأملاك، بل كل ما أدى معناه بأي لسان كان، فهو مراد بالذم، ذكره الحافظ. والحديث صريح في تحريم التسمي بملك الأملاك ونحوه، كملك الملوك وسلطان السلاطين.
قال ابن القيم: "لما كان الملك للّه وحده لا ملك على الحقيقة سواه، كان أخنع اسم وأوضعه عنده، وأبغضه له اسم شاهان شاه،(5/314)
ص -532- ... أي: ملك الملوك، وسلطان السلاطين، فإن ذلك ليس لأحد غير اللّه. فتسمية غيره بهذا من أبطل الباطل، واللّه لا يحب الباطل وقد ألحق أهل العلم بهذا قاضي القضاة وقالوا: ليس قاضي القضاة إلا من يقضي الحق وهو خير الفاصلين الذي إذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن فيكون. ويلي هذا الاسم في القبح والكراهة والكذب سيد الناس وسيد الكل، وليس ذلك إلا لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم خاصة كما قال: "أنا سيد ولد آدم"، فلا يجوز لأحد قط أن يقول عن غيره: هو سيد الناس. كما لا يجوز له أن يقول: أنا سيد ولد آدم عليه السلام".
وقال ابن أبي جمرة: "يلتحق بملك الأملاك قاضي القضاة، وإن كان قد اشتهر في بلاد الشرق من قديم الزمان إطلاق ذلك على كبير القضاة. وقد سلم أهل المغرب من هذا، فاسم كبير القضاة عندهم قاضي الجماعة. وقد زعم بعض المتأخرين [هو ابن المنيّر] أن التسمي بقاضي القضاة ونحوها جائز، واستدل له بحديث: "أقضاكم علي" . قال: فيستفاد منه أن لا حرج على من أطلق على قاض أن يكون أعدل القضاة، وأعلمهم في زمانه أقضى القضاة، أو يريد إقليمه، أو بلده". وتعقبه العالم العراقي، فصوب المنع، ورد ما احتج به بأن التفضيل في ذلك وقع في حق من خوطب به، ومن يلتحق بهم، فليس مساويًا لإطلاق التفضيل بالألف واللام. قال: ولا يخفى ما في ذلك من الجرأة وسوء الأدب. ولا عبرة بقول من ولي القضاة، فنعت بذلك، فلذ في سمعه واحتال في الجواز، فإن الحق أحق أن يتبع".(5/315)
ص -533- ... قلت: وقد تبين بهذا مطابقة الحديث للترجمة.
قوله: وفي رواية: "أغيظ رجل على اللّه يوم القيامة وأخبثه"1 هذه الرواية رواها مسلم في "صحيحه". قال ابن أبي جمرة: وفي الحديث مشروعية الأدب في كل شيء، لأن الزجر عن ملك الأملاك، والوعيد عليه يقتضي المنع منه مطلقًا سواء أراد من تسمى بذلك أنه ملك على ملوك الأرض، أم على بعضها. وسواء كان محقًّا في ذلك أم مبطلاً، مع أنه لا يخفى الفرق بين من قصد ذلك وكان فيه صادقًا، ومن قصده وكان فيه كاذبًا.
قلت: يعني أن الثاني أشد إثمًا من الأول.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الأقضية (1718) , وأحمد (6/180 ,6/256).
[41- باب احترام أسماء اللّه تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك]
ش: أي: لأجل احترامها وهو تعظيمها. وذلك من تحقيق التوحيد. ويستفاد منه المنع من التسمي بهذا ابتداء من باب الأولى، لكن في الأسماء المختصة باللّه تعالى.
قال: عن أبي شريح أنه كان يسمى أبا الحكم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن اللّه هو الحكم، وإليه الحكم. فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين. فقال: ما أحسن هذا! فما لك من الولد؟ فقلت: شريح، ومسلم، وعبد اللّه. قال: فمن أكبرهم؟ قلت: شريح. قال: أنت أبو شريح"1. رواه أبو داود وغيره.
ش: هذا الحديث رواه أبو داود كما قال المصنف، ورواه النسائي ولفظ أبي داود من طريق يزيد بن المقدام بن شريح عن أبيه عن جده عن أبيه هانئ، وهو أبو شريح أنه "لما وفد على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مع قومه سمعهم يكنونه بأبي الحكم، فدعاه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: إن اللّه هو الحكم، وإليه الحكم فلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سنن النسائي: كتاب آداب القضاة (5387) , وسنن أبي داود: كتاب الأدب (4955).(5/316)
ص -534- ... تكنى أبا الحكم؟ فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء"1 الحديث. قال ابن مفلح: وإسناده جيد، ورواه الحاكم وزاد: "فدعا له ولولده".
قوله: "عن أبي شريح" . هو بضم المعجمة وفتح الراء وآخره مهملة مصغر، واسمه هانئ بن يزيد الكندي، قال الحافظ: وقيل: الحارثي الضبابي قاله المزي. وقيل: المذحجي وقيل: غير ذلك: صحابي نزل الكوفة، ولا عبرة بقول من قال: إنه الخزاعي، ولا من ظن أنه النخعي والد شريح القاضي، فإن ذلك خطأ فاحش.
قوله: "إنه كان يكنى أبا الحكم" . قال بعضهم: الكنية قد تكون بالأوصاف كأبي الفضائل، وأبي المعالي، وأبي الخير، وأبي الحكم. وقد تكون بالنسبة إلى الأولاد كأبي سلمة، وأبي شريح وإلى ما يلابسه كأبي هريرة فإنه عليه السلام رآه ومعه هرة فكناه بأبي هريرة، وقد تكون للعلمية الصرفة كأبي بكر.
قوله: "إن اللّه هو الحكم وإليه الحكم"، أما الحكم فهو من أسماء
اللّه تبارك وتعالى كما في هذا الحديث، وقد ورد عده في الأسماء الحسنى مقرونًا بالعدل، فسبحان اللّه ما أحسن اقتران هذين الاسمين! قال في "شرح السنة" الحكم: هو الحاكم الذي إذا حكم لا يرد حكمه، وهذه الصفة لا تليق بغير اللّه تعالى كما قال تعالى:{وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ}2 وقال بعضهم: عرف الخبر في الجملة الأولى، وأتى بضمير الفصل فدل على الحصر. وإن هذا الوصف مختص به لا يتجاوز إلى غيره.
وأما قوله: "وإليه الحكم"، أي: إليه الفصل بين العباد في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى:{لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}3. وقال:{إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ}4 وفيه الدليل على المنع من التسمي بأسماء اللّه المختصة به، والمنع مما يوهم عدم الاحترام لها كالتكني بأبي الحكم ونحوه.(5/317)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: آداب القضاة (5387) , وأبو داود: الأدب (4955).
2 سورة الرعد آية: 41.
3 سورة القصص آية: 88.
4 سورة الأنعام آية: 57.(5/318)
ص -535- ... قوله: "إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم" . أي: أنا لم أُكَنّ نفسي بهذه الكنية، وإنما كنت أحكم بين قومي فكنوني بها. وفيه جواز التحاكم إلى من يصلح للقضاء، وإن لم يكن قاضيًا، وأنه يلزم حكمه. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أحسن هذا" . قال الخلخالي: للتعجب، أي: الحكم بين الناس حسن، ولكن هذه الكنية غير حسنة. وقال غيره: أي: الذي ذكرته من الحكم بالعدل. وقيل: ما أحسن هذا! أي: ما ذكرت من وجه الكنية. قال بعضهم: وهو الأولى. قلت: فعلى هذا يكون حكمه لقومه قبل إسلامه، إذ يبعد أن يكون قاضيًا لهم قبل أن يلقى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ويتعلم منه; لأن هذه القصة كانت بعد إسلامه بقليل، لأنه كان مع وفد قومه حين أسلموا، وقدموا على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم. ولا يظن أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يُحَسِّنُ أمر حكام الجاهلية.
قوله: "قال: شريح ومسلم وعبد اللّه" . صريح في أن الواو لا تقتضي الترتيب وإنما تقتضي مطلق الجمع، فلذا سأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الأكبر، إذ لو كانت دالة على الترتيب لم يحتج إلى سؤال عن أكبرهم.
قوله: "فأنت أبو شريح"، أي رعاية للأكبر منا في التكريم والإجلال، فإن الكبير أولى بذلك. قال في "شرح السنة": فيه أن يكنى الرجل بأكبر بنيه، فإن لم يكن له ابن، فبأكبر بناته. وكذلك المرأة تكنى بأكبر بنيها فإن لم يكن لها ابن فبأكبر بناتها. انتهى. وفيه تقديم الأكبر، وفيه أن استعمال اللفظ الشريف الحسن مكروه في حق من ليس كذلك، ومنه أن يقول المملوك لسيده وغيره: "ربي" نبه عليه ابن القيم.
[42- باب من هزل بشيء فيه ذكر اللّه، أو القرآن أو الرسول]
ش: أي: إنه يكفر بذلك لاستخفافه بجناب الربوبية والرسالة، وذلك مناف للتوحيد. ولهذا أجمع العلماء على كفر من فعل شيئًا من(5/319)
ص -536- ... ذلك فمن استهزأ باللّه، أو بكتابه أو برسوله، أو بدينه، كفر ولو هازلاً لم يقصد حقيقة الاستهزاء إجماعًا.
قال: وقول اللّه تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ...}1.
ش: يقول تعالى مخاطبًا لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ}، أي: سألت المنافقين الذين تكلموا بكلمة الكفر استهزاء {لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}2، أي: يعتذرون بأنهم لم يقصدوا الاستهزاء والتكذيب، إنما قصدوا الخوض في الحديث واللعب:{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ}3، لم يعبأ باعتذارهم إما لأنهم كانوا كاذبين فيه، وإما لأن الاستهزاء على وجه الخوض واللعب لا يكون صاحبه معذورًا، وعلى التقديرين فهذا عذر باطل، فإنهم أخطئوا موقع الاستهزاء.
وهل يجتمع الإيمان باللّه، وكتابه، ورسوله، والاستهزاء بذلك في قلب؟! بل ذلك عين الكفر فلذلك كان الجواب مع ما قبله {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}4 .
قال شيخ الإسلام: فقد أمره أن يقول: كفرتم بعد إيمانكم. وقول من يقول: إنهم قد كفروا بعد إيمانهم بلسانهم مع كفرهم أولاً بقلوبهم لا يصح، لأن الإيمان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر. فلا يقال: قد كفرتم بعد إيمانكم فإنهم لم يزالوا كافرين في نفس الأمر، وإن أريد: إنكم أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان، فهم لم يظهروا ذلك إلا لخوضهم، وهم مع خوضهم ما زالوا هكذا، بل لما نافقوا وحذروا {أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ}،[التّوبة، من الآية: 64]، تبين ما في قلوبهم من النفاق وتكلموا بالاستهزاء، أي: صاروا كافرين بعد إيمانهم. ولا يدل اللفظ على أنهم ما زالوا منافقين إلى أن قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}5، فاعترفوا ولهذا قيل:{لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ(5/320)
إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ}6، فدل على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفرًا، بل ظنوا أن ذلك ليس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية: 65.
2 سورة التوبة آية: 65.
3 سورة التوبة آية: 65.
4 سورة التوبة آية: 66.
5 سورة التوبة آية: 65.
6 سورة التوبة آية: 66.(5/321)
ص -537- ... بكفر. فتبين أن الاستهزاء بآيات اللّه ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه، فدل على أنه كان عندهم إيمان ضعيف، ففعلوا هذا المحرم الذي عرفوا أنه محرم. ولكن لم يظنوه كفرًا وكان كفرًا كفروا به، فإنهم لم يعتقدوا جوازه.
وقوله: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ}1. قال ابن كثير: أي: لا يعفى عن جميعكم، ولا بد من عذاب بعضكم بأنهم كانوا مجرمين بهذه المقالة الفاجرة. قيل: إن الطائفة مخشي بن حُمَير عفا اللّه عنه وتسمى عبد الرحمن، وسأل اللّه أن يقتل شهيدًا لا يعلم مقتله، فقتل يوم اليمامة، ولم يعلم مقتله، ولا من قتله، ولا يدرى له عين ولا أثر. وقيل: إن الطائفة زيد بن وديعة. والأول أشهر، ويحتمل أن اللّه عفا عنهما جميعًا.
وفي الآية دليل على أن الرجل إذا فعل الكفر ولم يعلم أنه كفر لا يعذر بذلك، بل يكفر، وعلى أن الشاك2 كافر بطريق الأولى نبه عليه شيخ الإسلام.
[النهي عن الخوض بآيات الله والاستهزاء بها]
قال: عن ابن عمر، ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وقتادة دخل حديث بعضهم في بعض أنه "قال رجل في غزوة تبوك: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء. يعني: رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء. فقال له عوف بن مالك: كذبت ولكنك منافق، لأخبرن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فذهب عوف إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته فقال: يا رسول اللّه إنما كنا نخوض ونلعب ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقًا بنسعة3ناقة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وإن الحجارة لتنكب رجليه وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب فيقول له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: "أباللّه وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ما يلتفت إليه وما يزيد عليه" .(5/322)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية: 66.
2 في الطبعة السابقة: الساب.
3 بكسر فسكون: سير مضفور يجعل زماما للبعير.(5/323)
ص -538- ... ش: هذا الأثر ذكره المصنف مجموعًا من رواية ابن عمر، ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وقتادة، وقد ذكره قبله كذلك شيخ الإسلام. فأما أثر ابن عمر فرواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وغيرهما بنحو مما ذكره المصنف. وأما أثر محمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وقتادة فهي معروفة لكن بغير هذا اللفظ.
قوله: "عن ابن عمر" . هو عبد اللّه بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
ومحمد بن كعب هو محمد بن كعب بن سليم أبو حمزة القرظي المدني. قال البخاري: إن أباه كان ممن لم ينبت من بني قريظة، وهو ثقة عالم مات سنة عشرين ومئة.
وزيد بن أسلم هو مولى عمر بن الخطاب، والد عبد الرحمن وإخوته، يكنى أبا عبد اللّه، ثقة مشهور مات سنة ست وثلاثين ومئة.
وقتادة هو ابن دعامة وتقدم.
قوله: "دخل حديث بعضهم في بعض"، أي: إن الحديث مجموع من رواياتهم، فلذلك دخل بعضه في بعض.
قوله: "إنه قال رجل في غزوة تبوك"، لم أقف على تسمية القائل لذلك أبهم اسمه في جميع الروايات التي وقفت عليها. ولكن قد ورد تسمية جماعة ممن نزلت فيهم الآية مع اختلاف الرواية فيما قالوه من الكلام. ففي بعض الروايات أنهم قالوا ما ذكره المصنف.
وعن مجاهد في الآية: "قال رجل من المنافقين يحدثنا محمد أن ناقة فلان بواد كذا وكذا في يوم كذا وكذا وما يدريه بالغيب ؟!" . رواه ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. وعن قتادة قال: "بينما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في غزوته إلى تبوك، وبين يديه أناس من المنافقين، فقالوا: يرجو هذا الرجل أن تفتح له قصور الشام وحصونها؟! هيهات هيهات، فأطلع اللّه نبيه على ذلك، فقال نبي اللّه صلى الله عليه وسلم احبسوا علي الركب. فأتاهم فقال: "قلتم كذا، وقلتم كذا. قالوا: يا نبي اللّه إنما كنا نخوض ونلعب" فأنزل اللّه فيهم ما تسمعون. رواه ابن المنذر، وابن أبي حاتم.
وفي رواية جابر بن عبد اللّه عند ابن(5/324)
ص -539- ... مردويه: " كان فيمن تخلف من المنافقين بالمدينة وداعه بن ثابت أحد بني عمرو بن عوف، فقيل له: ما خلفك عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: الخوض واللعب، فأنزل اللّه فيه وفي أصحابه {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ...}" .
وسمى ابن عباس في رواية عند ابن مردويه منهم: وديعة بن ثابت ومخشي بن حمير، وأنهم قالوا: أتحسبون أن قتال بني الأصفر كقتال غيرهم، واللّه لكأنكم غدًا تفرون في الجبال. القصة بكمالها. فيحتمل أنهم قالوا ذلك كله، فإن المنافقين إذا خلوا إلى شياطينهم أخذوا في الاستهزاء باللّه وآياته ورسوله والمؤمنين، فلا يبعد أنهم قالوا ذلك. فكل ذكر بعض كلامهم، والآية تعم ذلك.
وفي هذه الروايات ذكر أسماء القائلين لبعضهم ذلك، منهم: وديعة بن ثابت وقيل وداعة، وزيد ابن وديعة، ومخشي بن حمير الذي تاب اللّه عليه، لكنه لم يقل ذلك إنما حضره.
وفي بعض الروايات أن عبد اللّه بن أُبَيّ هو الذي قال ذلك، لكن ردّه ابن القيم1 بأن ابن أبي تخلف عن غزوة تبوك.
وذكر ابن إسحاق أسماء الذين هموا بالفتك برسول اللّه صلى الله عليه وسلم فعد جماعة، فيحتمل أنهم من المستهزئين، ويحتمل أنهم غيرهم. ولهذا قال تعالى في المستهزئين:{قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}2 وفي الآخرين:{وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ}3 .
قوله: "ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء" . القراء جمع قارئ وهم عند السلف الذين يقرؤون القرآن ويعرفون معانيه، أما قراءته من غير فهم لمعناه، فلا يوجد في ذلك العصر، وإنما حدث بعد ذلك من جملة البدع.
قوله: "أرغب بطونًا"، أي: أوسع بطونًا. الرغب والرغيب: الواسع يقال: جوف رغيب وواد رغيب يصفونهم بسعة البطون، وكثرة الأكل، كما روى أبو نعيم عن شريح بن عبيد "أن رجلاً قال لأبي الدرداء: ما بالكم أجبن منا وأبخل إذا سئلتم، وأعظم لقمًا إذا(5/325)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كان هنا في الأصل سقط استدركناه من "فتح المجيد" للشيخ عبد الرحمن ابن حسن آل الشيخ رحمهم الله تعالى.
2 سورة التوبة آية: 66.
3 سورة التوبة آية: 74.(5/326)
ص -540- ... أكلتم، فأعرض عنه أبو الدرداء ولم يرد عليه شيئًا، وأخبر بذلك عمر بن الخطاب، فانطلق عمر إلى الرجل الذي قال ذلك، فأخذه بثوبه وخنقه، وقاده إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الرجل: إنما كنا نخوض ونلعب" .
قوله: "فقال له عوف بن مالك": كذبت ولكنك منافق. فيه المبادرة في الإنكار والشدة على المنافقين، وجواز وصف الرجل بالنفاق إذا قال أو فعل ما يدل عليه.
قوله: "لأخبرن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم" . فيه أن هذا وما أشبهه لا يكون غيبة ولا نميمة، بل هو من النصح للّه ورسوله، فينبغي الفرق بين الغيبة والنميمة، وبين النصيحة للّه ورسوله، فذكر أفعال المنافقين والفساق لولاة الأمور; ليزجروهم، ويقيموا عليهم أحكام الشريعة ليس من الغيبة والنميمة. انتهى.
قوله: "فوجد القرآن قد سبقه"، أي: جاءه الوحي من اللّه بما قالوه في هذه الآية {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ}1، وفيه دلالة على علم اللّه سبحانه، وعلى قدرته وإلهيته، وعلى أن محمدًا رسول اللّه.
قوله: "فجاء ذلك الرجل"، قد تقدم أنه ابن أبي كما رواه ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عمر، لكن ردّه ابن القيم2 [بأن ابن أُبَيّ تخلف عن غزوة تبوك].
وفي هذا الحديث من الفوائد:
أن الإنسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها أو عمل يعمل به، وأشدها خطرًا إرادات القلوب فهي كالبحر الذي لا ساحل له. ويفيد الخوف من النفاق الأكبر، فإن اللّه تعالى أثبت لهؤلاء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية: 65.
2 كان هنا في الأصل سقط استدركناه من "فتح المجيد" للشيخ عبد الرحمن ابن حسن آل الشيخ رحمهم الله تعالى.(5/327)
ص -541- ... إيمانًا قبل أن يقولوا ما قالوه، كما قال ابن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه" نسأل اللّه السلامة والعفو والعافية في الدنيا والآخرة.
[43- باب قول اللّه تعالى:{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي...} 1]
ذكر المصنف رحمه اللّه تعالى عن ابن عباس وغيره من المفسرين في معنى هذه الآية وما بعدها ما يكفي في المعنى ويشفي.
قوله: قال مجاهد: هذا بعملي وأنا محقوق به. وقال ابن عباس: يريد من عندي. وقوله:{قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي}2, قال قتادة: على علم مني بوجوه المكاسب. وقال آخرون: على علم من اللّه أني له أهل، وهذا معنى قول مجاهد: أوتيته على شرف.
قوله: باب: قول اللّه تعالى: { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ} الآية 3.
وليس فيما ذكروه اختلاف، وإنما هي أفراد المعنى.
قال ابن كثير رحمه اللّه في معنى قوله تعالى:{ ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ}4، يخبر أن الإنسان في حال الضر يضرع إلى اللّه تعالى وينيب إليه ويدعوه، ثم إذا خوله نعمة منا طغى وبغى وقال:{ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ}5، أي لما يعلم من استحقاقي له، ولولا أني عند اللّه حظيظ لما خولني هذا. قال تعالى:{ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ}6، أي ليس الأمر كما زعمتم، بل إنما أنعمنا عليه بهذه النعمة، لنختبره فيما أنعمنا عليه، أيطيع أم يعصي؟ مع علمنا المتقدم بذلك. { بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ}7، أي اختبار{وَلَكِنَّ(5/328)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة فصلت آية: 50.
2 سورة القصص آية: 78.
3 سورة فصلت آية: 50.
4 سورة الزمر آية: 49.
5 سورة الزمر آية: 49.
6 سورة الزمر آية: 49.
7 سورة الزمر آية: 49.(5/329)
ص -542- ... أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}1، فلهذا يقولون ما يقولون ويدعون ما يدعون {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}2، أي قد قال هذه المقالة وزعم هذا الزعم وادعى هذه الدعوى كثير ممن سلف من
الأمم { فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}3، أي: فما صح قولهم، ولا نفعهم جمعهم وما كانوا يكسبون، كما قال تعالى مخبرًا عن قارون:{ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ}4. وقال تعالى:{ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}5.
وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول:"إن ثلاثة من بني إسرائيل: أبرص، وأقرع، وأعمى، فأراد اللّه أن يبتليهم فبعث إليهم ملكًا فأتى الأبرص فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به. قال: فمسحه فذهب عنه قذره، فأعطي لونًا حسنًا وجلدًا حسنًا. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإبل أو البقر، شك إسحاق، فأعطي ناقة عشراء. وقال: بارك اللّه لك فيها. قال: فأتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به، فمسحه فذهب عنه وأعطي شعرًا حسنًا. فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: البقر أو الإبل. فأعطي بقرة حاملاً. قال: بارك اللّه لك فيها. فأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال:(5/330)
أن يرد اللّه إلي بصري فأبصر به الناس، فمسحه فرد اللّه إليه بصره. قال فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم. فأعطي شاة والدًا، فأنتج هذان، وولَّد هذا، فكان لهذا واد من الإبل ولهذا واد من البقر ولهذا واد من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية: 49.
2 سورة الزمر آية: 50.
3 سورة الزمر آية: 50.
4 سورة القصص آية: 78-76.
5 سورة سبأ آية: 35.(5/331)
ص -543- ... الغنم. قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيأته فقال: رجل مسكين [وابن سبيل] قد انقطعت به الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا باللّه ثم بك أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن والمال بعيرًا أتبلغ به في سفري. فقال: الحقوق كثيرة فقال: كأني أعرفك؟ ألم تكن أبرص يقذرك الناس؟ فقيرا فأعطاك اللّه عزّ وجل المال؟ فقال: إنما ورثت هذا المال كابرًا عن كابر. فقال: إن كنت كاذبًا فصيرك اللّه إلى ما كنت به، وأتى الأقرع في صورته فقال له مثل ما قال لهذا، وردّ عليه مثل ما ردّ عليه هذا. فقال: إن كنت كاذبًا فصيَّرك اللّه إلى ما كنت. قال: وأتى الأعمى في صورته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا باللّه ثم بك، أسألك بالذي ردّ عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري. فقال: قد كنت أعمى فردّ اللّه إِلَيَّ بصري، فخذ ما شئت ودع ما شئت، فواللّه لا أجهدك اليوم بشيء أخذته للّه. فقال: أمسك مالك فإنما ابتليتم، فقد رضي اللّه عنك وسخط على صاحبيك". أخرجاه.
قوله:"أخرجاه". أي: البخاري ومسلم.
والناقة العشراء: بضم العين وفتح الشين وبالمد: هي الحامل.
قوله:"أنتج". وفي رواية: فنتج; معناه: تولى نتاجها، والناتج للناقة كالقابلة للمرأة.
قوله:"ولَّد هذا". هو بتشديد اللام. أي: تولى ولادتها، وهو بمعنى: أنتج في الناقة، فالمولد والناتج والقابلة بمعنى واحد، لكن هذا للحيوان، وذلك لغيره.
قوله:"انقطعت بي الحبال": هو بالحاء المهملة والباء الموحدة: هي الأسباب.(5/332)
ص -544- ... قوله:"لا أجهدك". معناه: لا أشق عليك في رد شيء تأخذه، أو تطلبه من مالي. ذكره النووي.
وهذا حديث عظيم، وفيه معتبر، فإن الأولين جحدا نعمة اللّه، فما أقرا للّه بنعمته، ولا نسبا النعمة إلى المنعم بها، ولا أدّيا حق اللّه، فحل عليهما السخط. وأما الأعمى فاعترف بنعمة اللّه، ونسبها إلى من أنعم عليه بها، وأدّى حق اللّه فيها، فاستحق الرضى من اللّه بقيامه بشكر النعمة لما أتى بأركان الشكر الثلاثة التي لا يقوم الشكر إلا بها، وهي: الإقرار بالنعمة، ونسبتها إلى المنعم، وبذلها فيما يحب.
قال العلامة ابن القيم رحمه اللّه:"أصل الشكر هو الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع له، والذل، والمحبة، فمن لم يعرف النعمة، بل كان جاهلاً بها، لم يشكرها، ومن عرفها ولم يعرف المنعم بها، لم يشكرها أيضًا، ومن عرف النعمة والمنعم، لكن جحدها كما يجحدها المنكر لنعمة المنعم عليه بها، فقد كفرها، ومن عرف النعمة والمنعم بها وأقر بها ولم يجحدها، ولكن لم يخضع له ولم يحبه ولم يرض به وعنه، لم يشكره أيضًا، ومن عرفها وعرف المنعم بها وأقر بها وخضع للمنعم بها وأحبه ورضي به وعنه، واستعملها في محابه وطاعته، فهذا هو الشاكر لها. فلا بد في الشكر من علم القلب، وعمل يتبع العلم، وهو الميل إلى المنعم ومحبته والخضوع له".
قوله:"قذرني الناس"، بكراهة رؤيته وقربه منهم.
[44- بابقول اللّه تعالى:{فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}1].
قال ابن حزم: اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير اللّه، كعبد عمرو، وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك، حاشا عبد المطلب.
وعن ابن عباس في الآية قال: لما تغشى آدم حملت، فأتاهما إبليس، فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة، لتطيعني أو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية: 190.(5/333)
ص -545- ... لأجعلن له قرني أيل فيخرج من بطنك فيشقه ولأفعلن ولأفعلن يخوفهما، سمياه عبد الحارث، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتًا، ثم حملت فأتاهما فقال مثل قوله، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتًا ثم حملت فأتاهما فذكر لهما فأدركهما حب الولد، فسمياه عبد الحارث فذلك قوله: {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا}1 رواه ابن أبي حاتم.
وله بسند صحيح عن قتادة قال: شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته.
وله بسند صحيح عن مجاهد في قوله: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً}2.قال: أشفقا أن لا يكون إنسانًا، وذكر معناه عن الحسن وسعيد وغيرهما.
قوله: باب قول اللّه تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}3.
قال الإمام أحمد رحمه اللّه في معنى هذه الآية: حدثنا عبد الصمد حدثنا عمر بن إبراهيم حدثنا قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:"لما ولدت حواء طاف بها إبليس، وكان لا يعيش لها ولد، فقال: سميه عبد الحارث فإنه يعيش، فسمته عبد الحارث فعاش، فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره"4. رواه أحمد، والترمذي وحسنه، وابن جرير، والحاكم وصححه5. ولهذا ذكر الضمير في آخرها بصيغة الجمع استطرادًا من ذكر الشخص إلى الجنس. ومعنى الآية: أنه تعالى يخبر عن مبدأ الجنس الإنساني، وما فيه للّه من عجائب القدرة، فأوجد هذا الجنس على كثرته واختلاف أنواعه {مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} ، وهو آدم عليه السلام، {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} أي: وطئها و {حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً} ، وذلك(5/334)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية: 190.
2 سورة الأعراف آية: 189.
3 سورة الأعراف آية: 190.
4 الترمذي: تفسير القرآن (3077) , وأحمد (5/11).
5 انظر طعن الحافظ ابن كثير في تفسيره 3/ 612 في هذا الحديث وإعلاله من ثلاثة وجوه.(5/335)
ص -546- ... الحمل لا تجد المرأة له ألمًا، إنما هي النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة.
وقوله: { فَمَرَّتْ بِهِ}، قال مجاهد: استمرت عليه، وقال مهران: استخفته، وقال ابن جرير: استمرت بالماء وقامت به وقعدت {فَلَمَّا أَثْقَلَتْ} ، أي: صارت ذات ثقل بحملها. قال السدي: كبر في بطنها { دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا}1، أي: أن آدم وحواء عليهما السلام، { دَعَوَا اللَّهَ... لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً}2. بشرًا سويًّا. قال ابن عباس: أشفقا أن يكون بهيمة { لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}3، أي: لنشكرك على ذلك. انتهى ملخصًا من ابن كثير وفيه زيادة.
وقوله: { فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ}4، أي: للّه شركاء فيما آتاهما أي: لم يقوما بشكر ذلك على الوجه المرضي كما وعدا بذلك، بل جعلا لي فيه شركاء فيما أعطيتهما من الولد الصالح، والبشر السوي، بأن سمياه عبد الحارث، فإن من تمام الشكر أن لا يعبد الاسم إلا للّه، وإذا تأملت سياق الكلام من أوله إلى آخره مع ما فسره به السلف تبين قطعًا أن ذلك في آدم وحواء عليهما السلام، فإن فيه غير موضع يدل على ذلك5. والعجب ممن يكذب بهذه القصة، وينسى ما جرى أول مرة ويكابر بالتفاسير المبتدعة، ويترك تفاسير السلف وأقوالهم. وليس المحذور في هذه القصة بأعظم من المحذور في المرة الأولى.
وقوله تعالى: { عَمَّا يُشْرِكُونَ} هذا واللّه أعلم عائد إلى المشركين من القدرية، فاستطرد من ذكر الشخص إلى الجنس وله نظائر في القرآن.
قوله:"قال ابن حزم": هو أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري المشهور صاحب كتاب"الإجماع"و"الإيصال"و"المحلى"وغيرها من المصنفات.(5/336)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية: 189.
2 سورة الأعراف آية: 189.
3 سورة الأعراف آية: 189.
4 سورة الأعراف آية: 190.
5 قال ابن كثير 3/ 614: وأما نحن فعلى مذهب الحسن البصري رحمه الله في هذا وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء, وإنما المراد المشركون من ذريته, ولهذا قال تعالى: فتعالى الله عما يشركون.(5/337)
ص -547- ... قوله:"اتفقوا": الظاهر أن المراد أجمعوا، فمقصوده حكاية الإجماع لا حكاية الاتفاق على طريقة المتأخرين.
قوله: "حاشا عبد المطلب". قال ابن القيم: "لا تحل التسمية بعبد علي، وعبد الحسين، ولا عبد الكعبة، وقد روى ابن أبي شيبة عن هانئ [ابن يزيد أبي] شريح قال:"وفد على النبي صلى اللّه عليه وسلم قوم فسمعهم يسمون رجلاً عبد الحجر فقال له ما اسمك قال: عبد الحجر. فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم "إنما أنت عبد اللّه".
فقيل: كيف يتفقون على تحريم الاسم المعبد لغير اللّه؟ وقد صح عنه صلى اللّه عليه وسلم"تعس عبد الدينار"1 الحديث. وصح عنه أنه قال:"أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب"2.
فالجواب: أما قوله:"تعس عبد الدينار". فلم يرد الاسم، وإنما أراد به الوصف والدعاء على من يعبد قلبه الدينار والدرهم، فرضي بعبوديتهما عن عبودية اللّه تبارك وتعالى.
وأما قوله:"أنا ابن عبد المطلب". فهذا ليس من باب إنشاء التسمية بذلك، وإنما هو من باب الإخبار بالاسم الذي عرف به المسمى دون غيره، والإخبار بمثل ذلك على وجه تعريف المسمى لا يحرم. ولا وجه لتخصيص أبي محمد [ابن حزم] ذلك بعبد المطلب خاصة، فقد كان أصحابه يسمون بعبد شمس، وبني عبد الدار بأسمائهم، ولا ينكر عليهم النبي صلى اللّه عليه وسلم ذلك. فباب الإخبار أوسع من الإنشاء فيجوز فيه ما لا يجوز في الإنشاء. انتهى ملخصًا، وهو حسن.
ولكن بقي إشكال وهو أن في الصحابة من اسمه المطلب بن ربيعة ابن الحارث بن عبد المطلب.
فالجواب: أما من اسمه عبد شمس، فغيره النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى عبد اللّه كما ذكروا ذلك في تراجمهم، وأما المطلب بن ربيعة فذكر ابن عبد البر أن اسمه عبد المطلب وقال: كان على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم [ولم] يغير اسمه فيما علمت. وقال الحافظ: وفيما قاله نظر، فإن الزبير أعلم من(5/338)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجه: الجهاد (2775).
2 البخاري: الحدود (6830) , وأحمد (1/47 ,1/55).(5/339)
ص -548- ... غيره بنسب قريش، ولم يذكر أن اسمه إلا المطلب، وقد ذكر العسكري أن أهل النسب إنما يسمونه المطلب.
وأما أهل الحديث فمنهم من يقول: المطلب، ومنهم من يقول: عبد المطلب. وأما عبد يزيد أبو ركانة فذكره الذهبي في"التجريد"وقال أبو ركانة: طلق امرأته وهذا لا يصح، والمعروف أن صاحب القصة ركانة، وروى حديثه أبو داود في"السنن"عن ابن عباس قال: طلق عبد يزيد أبو ركانة وإخوته أم ركانة وذكر الحديث، ثم قال: وحديث نافع بن عجير، وعبد اللّه علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده أن ركانة طلق امرأته البتة، فجعلها النبي صلى اللّه عليه وسلم واحدة، أصح، لأنهم ولد الرجل وأهله، وهم أعلم به. فقد تبين أنه ليس من الصحابة من أولاء ]من] تصح له صحبته. فعلى هذا لا تجوز التسمية بعبد المطلب ولا غيره مما عبد لغير اللّه، وكيف تجوز التسمية وقد أجمع العلماء على تحريم التسمية بـ: عبد النبي، وعبد الرسول، وعبد المسيح، وعبد علي، وعبد الحسين، وعبد الكعبة؟! وكل هذه أولى بالجواز من عبد المطلب لو جازت التسمية به. وأيضًا فقد نص النبي صلى اللّه عليه وسلم على أن التسمية بعبد الحارث من وحي الشيطان، وأمره بعبد المطلب كعبد الحارث، لا فرق بينهما، إلا أن أصدق الأسماء الحارث وهمام، فلعله أولى بالجواز. لا يقال: إن الحارث اسم للشيطان، لأنه وإن كان اسمًا له، فلا فرق في ذلك بين جميع من اسمه الحارث. فلا يجوز التسمية به وإن نوى عبد الحارث بن هشام أو غيره.
فإن قلت: إذا كان ابن حزم قد حكى الإجماع على جواز التسمية بعبد المطلب، فكيف يجوز خلافه؟
قلت: كلام ابن حزم ليس صريحًا في حكاية الإجماع على جواز ذلك بعبد المطلب، فإن لفظه: اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير اللّه، كعبد العزى، وعبد هبل، وعبد عمرو، وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك حاشا عبد المطلب. واتفقوا على إباحة كل اسم بعد ما ذكرنا ما لم يكن(5/340)
ص -549- ... اسم نبي، أو اسم ملك إلى آخر كلامه. فيحتمل أن مراده حكاية الخلاف فيه، ويكون التقدير: اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير اللّه حاشا عبد المطلب، أي: فإنهم لم يتفقوا على تحريمه، بل اختلفوا، ويؤيده أنه قال بعده: واتفقوا على إباحة كل اسم بعد ما ذكرنا إلى آخره. ويكون المراد حاشا عبد المطلب، فلا أحفظ ما قالوا فيه، ويكون سكوتًا منه عن حكاية إجماعًا، أو خلاف فيه، وعلى تقدير أن مراده حكاية الإجماع من جواز ذلك، فليس كل من حكى إجماعًا يسلم له، ولا كل إجماع يكون حجة أيضًا، فكيف والخلاف موجود، والسنة فاصلة بين المتنازعين؟ وغاية حجة من أجازه قوله عليه السلام:"أنا ابن عبد المطلب" ونحوه، أو أن بعض الصحابة اسمه عبد المطلب. وقد تقدم الجواب عن ذلك، وأيضًا فلو كان قوله:"أنا ابن عبد المطلب" حجة على جواز التسمية به لكان قوله:"إنما بنو هاشم، وبنو عبد مناف شيء واحد" حجة على جواز التسمية بعبد مناف، ولكن فرق بين إنشاء التسمية وبين الإخبار بذلك عمن هو اسمه.
وقوله:"في الآية"، أي: المترجم لها
قوله:"تغشاها"، أي: حواء، أي.: وطئها، عليهما السلام.
قوله:"أو لأجعلن له"، أي: لولدكما.
قوله:"قرني أيل". هو بالتثنية أو الإضافة، وأيل بفتح الهمزة وكسر المثناة التحتية المشددة: ذكر الأوعال، والمعنى: أنه يخوفهما بكونه يجعل للولد قرني وعل، فيخرج من بطنها فيشقه كما قال: فيخرج من بطنك فيشقه.
قوله:"ولأفعلن ولأفعلن" يخوفهما بغير ما ذكر، ويزعم أنه يفعل بهما غير ذلك.
قوله:"سمياه عبد الحارث"، قال سعيد ين جبير: كان اسمه في(5/341)
ص -550- ... الملائكة الحارث، وكان مراده أن سمياه بذلك، ليكون قد وجد له صورة الإشراك به، فإن هذا من باب كيد إبليس إذا عجز عن الآدمي أن يوقعه في المعصية الكبيرة، قنع منه بالصغيرة، وأيضًا فإنه يحصل له منهما طاعته كما أطاعا أول مرة، كما روى ابن جرير، وابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:"خدعهما مرتين" قال: زيد خدعهما في الجنة وخدعهما في الأرض.
قوله:"فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتًا". إلخ. هذا واللّه أعلم من الامتحان فإن الإنسان لا عزم له، وإن عاين ماذا عساه أن يعلن من الآيات إلا بتوفيق اللّه تعالى. فإن الطبيعة البشرية تغلب عليه كما غلبت على الأبوين مرتين، مع ما وقع لهما قبل من التحذير والإنذار عن كيد إبليس وعداوته لهما، ومع ذلك أدركهما حب الولد فسمياه عبد الحارث، وكان ذلك شركًا في التسمية وإن لم يقصدا العبادة للشيطان، بل قصدا به فيما ظنا، إما دفع شره عن حواء، وإما الخوف على الولد من الموت. كما روى عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن أبي بن كعب قال:"لما حملت حواء، أتاها الشيطان فقال: أتطيعينني ويسلم ولدك؟ سميه عبد الحارث فلم تفعل فولدت فمات، ثم حملت فقال لها مثل ذلك فلم تفعل. ثم حملت الثالثة فقال: أتطيعينني يسلم لك ولدك وإلا فإنه يكون بهيمة فهيبها فأطاعاه". رواه ابن أبي حاتم. قلت: وإسناده صحيح. ورواه سعيد ابن منصور وابن المنذر. وعن ابن عباس قال:"كانت حواء تلد لآدم أولادًا فتعبدهم للّه، وتسميه عبد اللّه وعبيد اللّه ونحو ذلك فيصيبهم الموت، فأتاها إبليس وآدم فقال: إنكما لو تسميانه بغير ما تسميانه لعاش، فولدت له رجلاً فسمياه عبد الحارث ففيه أنزل {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ...} إلى آخر الآية". رواه ابن مردويه.
قوله: شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته، أي: لكونهما أطاعاه في التسمية بعبد الحارث، لا أنهما عبداه فهو دليل على(5/342)
ص -551- ... الفرق بين شرك الطاعة وبين شرك العبادة. قال بعضهم: تفسير قتادة في هذه الآية بالطاعة، لأن المراد بها على كلام كثير من المفسرين آدم وحواء عليهما السلام، فناسب تفسيرها بالطاعة، لأنهما أطاعا الشيطان في تسمية الولد بعبد الحارث.
وقد استشكله بعض المعاصرين بما حاصله أنهم قد فسروا العبادة بالطاعة، فيلزم على قول قتادة أن يكون الشرك في العبادة.
والجواب: أن تفسير العبادة بالطاعة من التفسير اللازم، فإنه لازم العبادة أن يكون العابد مطيعًا لمن عبده بها، فلذا فسرت بالطاعة. أو يقال: هو من التفسير بالملزوم وإرادة اللازم، أي: لما كانت الطاعة ملزومًا للعبادة، والعبادة لازمة لها، فلا تحصل إلا بالطاعة، جاز تفسيرها بذلك وهو أصح. وبالجملة فلا إشكال في ذلك بحمد اللّه.
فإن قلت: قد سمى النبي صلى اللّه عليه وسلم طاعة الأحبار والرهبان في معصية اللّه عبادة.
قلت: راجع الكلام على حديث عدي يتضح الجواب.
قوله:"أشفقا"، أي: خافا أي: آدم وحواء أن لا يكون إنسانًا. قال أبو صالح: أشفقا أن يكون بهيمة فقال: لئن آتيتنا بشرًا سويًّا. رواه ابن أبي حاتم. وفي هذا أن هبة اللّه للرجل البنت السوية من النعم ذكره المصنف، وذلك أن اللّه سبحانه وتعالى قادر على أن يجعلها غير سوية، وأن يجعلها من غير الجنس. فلا ينبغي للرجل أن يسخط مما وهبه اللّه له كما يفعل أهل الجاهلية، بل يحمد اللّه الذي جعلها بشرية سوية. ولهذا كانت عائشة رضي الله عنها إذا بشرت بمولود لم تسأل إلا عن صورته لا عن ذكوريته وأنوثيته.
قوله:"وذكر". أي: ذكر ابن أبي حاتم فإنه روى ذلك عمن ذكر المصنف معناه عن الحسن، وهو البصري.قوله:"وسعيد"، أي ابن جبير وغيره كالسدي. وغيره.(5/343)
ص -552- ... [45- باب قول اللّه تعالى: { وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ }1]
يخبر تعالى أن له أسماء وصفها بكونها حسنى أي: حسان. وقد بلغت الغاية في الحسن فلا أحسن منها، كما يدل عليه من صفات الكمال، ونعوت الجلال، فأسماؤه الدالة على صفاته هي أحسن الأسماء وأكملها، فليس في الأسماء أحسن منها، ولا يقوم غيرها مقامها. وتفسير الاسم منها بغيره ليس تفسيرًا بمراد محض، بل هو على سبيل التقريب والتفهيم، فله من كل صفة كمال أحسن اسم وأكمله وأتمه معنى وأبعده، وأنزهه عن شائبة نقص، فله من صفة الإدراكات العليم الخبير دون العالم الفقيه، والسميع البصير دون السامع والباصر، ومن صفات الإحسان البر الرحيم الودود، دون الرفيق والشفيق والمشوق. وكذلك العلي العظيم، دون الرفيع الشريف، وكذلك الكريم، دون السخي. والخالق البارئ المصور، دون الصانع الفاعل المشكل، والعفو الغفور، دون الصفوح الساتر. وكذلك سائر أسماء اللّه تعالى يجري على نفسه أكملها وأحسنها، ولا يقوم غيره مقامه فأسماؤه أحسن الأسماء، كما أن صفاته أكمل الصفات، فلا نعدل عما سمى به نفسه إلى غيره، كما لا يتجاوز ما وصف به نفسه،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية: 180.(5/344)
ص -553- ... ووصفه به رسوله صلى اللّه عليه وسلم إلى ما وصفه به المبطلون.
ومن هنا يتبين لك خطأ من أطلق عليه اسم الصانع والفاعل والمربي ونحوها; لأن اللفظ الذي أطلقه سبحانه على نفسه، وأخبر به عنها أتم من هذا، وأكمل وأجل شأنًا، فإنه يوصف من كل صفة كمال بأكملها وأجلها وأعلاها. فيوصف من الإرادة بأكملها، وهو الحكمة وحصول كل ما يريد بإرادته. كما قال تعالى: { فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}، [البروج: 16]، وبإرادة اليسر لا العسر. كما قال تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ }1
وبإرادة الإحسان وتمام النعمة على عباده كقوله تعالى: { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} 2. فإرادة التوبة له وإرادة الميل لمبتغي الشهوات. وقوله: { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ }3. وكذلك العليم الخبير أكمل من الفقيه العارف، والكريم الجواد أكمل من السخي، والرحيم أكمل من الشفيق، والخالق البارئ المصور أكمل من الفاعل الصانع; ولهذا لم تجئ هذه في أسمائه الحسنى، فعليك بمراعاة ما أطلقه سبحانه على نفسه من الأسماء والصفات، والوقوف معها وعدم إطلاق ما لم يطلقه على نفسه، ما لم يكن مطابقًا لمعنى أسمائه وصفاته.
وحينئذ فيطلق المعنى لمطابقته لها دون اللفظ، ولا سيما إذا كان مجملًا، أو منقسما، أو ما يمدح به وغيره، فإنه لا يجوز إطلاقه إلا مقيدًا، وهذا كلفظ الفاعل والصانع، فإنه لا يطلق عليه في أسمائه الحسنى إلا إطلاقًا مقيدًا كما أطلقه على نفسه كقوله: { فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ }،4, وقوله: { وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}5. وقوله: { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} فإن اسم الفاعل والصانع منقسم المعنى إلى ما يمدح عليه(5/345)
ويذم، فلهذا المعنى - واللّه أعلم - لم يجئ في الأسماء الحسنى المريد، كما جاء فيها السميع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية: 185.
2 سورة النساء آية: 27.
3 سورة المائدة آية: 6.
4 سورة إبراهيم آية: 27.
5 سورة النمل آية: 88.(5/346)
ص -554- ... البصير، ولا المتكلم الآمر الناهي، لانقسام مسمى هذه الأسماء، بل وصف نفسه بكمالاتها، وشرف أنواعها.
ومن هنا يعلم غلط بعض المتأخرين، وزلقه الفاحش في اشتقاقه له سبحانه من كل فعل أخبر به عن نفسه اسمًا مطلقًا، وأدخله في أسمائه الحسنى، فاشتق منها اسم الماكر، والمخادع، والفاتن، والمضل، تعالى اللّه عن ذلك علوًّا كبيرًا. انتهى ملخصًا من كلام الإمام ابن القيم.
وقيل: فصل الخطاب في أسماء اللّه الحسنى، هل هي توقيفية أم لا؟
وحاصله أن ما يطلق عليه من باب الأسماء والصفات توقيفي، وما يطلق من باب الإخبار لا يجب أن يكون توقيفيًّا، كالقديم والشيء الموجود، والقائم بنفسه، والصانع، ونحو ذلك.
فادعوه بها، أي: اسألوه، وتوسلوا إليه بها كما تقول: اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم. فإن ذلك من أقرب الوسائل وأحبها إليه، كما في"المسند"والترمذي"ألظوا بياذا الجلال والإكرام"1. والحديث الآخر سمع النبي صلى اللّه عليه وسلم رجلاً يدعو وهو يقول: "اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت اللّه الذي لا إله إلا أنت، الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، فقال:"والذي نفسي بيده لقد سأل اللّه باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى"2. رواه الترمذي وغيره.
وقوله عليه السلام:"اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك، لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك"3. حديث صحيح رواه مسلم، وغيره.
ومنه:"اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت، المنان، بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام"4. رواه الترمذي بنحوه، واللفظ لغيره.(5/347)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الدعوات (3524).
2 الترمذي: الدعوات (3475) , وابن ماجه: الدعاء (3857).
3 مسلم: الصلاة (486) , والترمذي: الدعوات (3493) , والنسائي: التطبيق (1100 ,1130) والاستعاذة (5534) , وأبو داود: الصلاة (879) , وابن ماجه: الدعاء (3841) , وأحمد (6/58) , ومالك: النداء للصلاة (497).
4 الترمذي: الدعوات (3544) , والنسائي: السهو (1300) , وأبو داود: الصلاة (1495) , وابن ماجه: الدعاء (3858) , وأحمد (3/120 ,3/158 ,3/245 ,3/265).(5/348)
ص -555- ... قال ابن القيم: "فهذا سؤال له، وتوسل إليه بحمده وأنه لا إله إلا هو المنان. فهو توسل إليه بأسمائه، وصفاته، وما أحق ذلك بالإجابة، وأعظمه موقعًا عند السؤال! وأعلم أن الدعاء بها أحد مراتب إحصائها الذي قال فيه النبي صلى اللّه عليه وسلم:"إن للّه تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة"1 رواه البخاري، وغيره.
وهي ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: إحصاء ألفاظها، وأسمائها، وعددها.
المرتبة الثانية: فهم معانيها، ومدلولها.
المرتبة الثالثة: دعاؤه بها كما في الآية، وهو نوعان:
دعاء ثناء وعبادة، ودعاء طلب ومسألة، فلا يثني عليه إلا بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، وكذا لا يسأل إلا بها. فلا يقال: يا موجود ويا شيء ويا ذات اغفر لي، بل يسأل في كل مطلوب باسم يكون مقتضيًا لذلك المطلوب. فيكون السائل متوسلاً إليه بذلك الاسم. ومن تأمل أدعية الرسل، لا سيما خاتمهم عليه وعليهم السلام، وجدها مطابقة لهذا كما تقول: رب اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم. ولا يحسن: إنك أنت السميع العليم البصير، ولكن أسماؤه تعالى منها ما يطلق عليه مفردًا، وهو غالب الأسماء كالقدير، والسميع، والبصير، والحكيم. فهذا يسوغ أن يدعى به مفردًا، ومقترنًا بغيره. فتقول: يا عزيز، يا حكيم، يا قدير، يا سميع، يا بصير، وإن انفرد كل اسم. وكذلك في الثناء عليه، والخبر عنه. وبه يسوغ لك الإفراد والجمع.
ومنها ما لا يطلق عليه مفردًا، بل مقرونًا بمقابله. كالمانع، والضار، والمنتقم، والمذل، فلا يجوز أن يفرد هذا عن مقابله، فإنه مقرون بالمعطي، والنافع، والعفو، والعزيز والمعز. فهو المعطي المانع، الضار النافع، المنتقم العفو، المعز المذل; لأن الكمال في اقتران كل اسم من هذا بمقابله، لأنه يراد به أنه(5/349)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الشروط (2736) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2677) , والترمذي: الدعوات (3508) , وابن ماجه: الدعاء (3860 ,3861) , وأحمد (2/258 ,2/267 ,2/427 ,2/499 ,2/503 ,2/516).(5/350)
ص -556- ... المتفرد بالربوبية، وتدبير الخلق، والتصرف فيهم إعطاء ومنعًا، ونفعًا وضرًا، وانتقامًا وعفواً، وإعزازًا وإذلالاً. فأما الثناء عليه بمجرد المنع والانتقام والإضرار، فلا يسوغ، فهذه الأسماء الممزوجة يجري الاسمان منها مجرى الاسم الواحد الذي يمتنع فصل بعض حروفه من بعض. ولذلك لم تجئ مفردة، ولم تطلق عليه إلا مقترنة. فلو قلت: يا ضار، يا مانع، يا مذل، لم تكن مثنيًا عليه، ولا حامدًا له حتى تذكر مقابلتها". انتهى ملخصًا من كلام ابن القيم. وفيه بعض زيادة، وبه يظهر الجواب عما قد يرد على ما سبق.
ذكر الأسماء الحسنى التي ورد عدها في الحديث:
لما كان إحصاء الأسماء الحسنى والعمل بها أصلا للعمل بكل معلوم، وكانت سعادة الدنيا والآخرة مرتبة عليها فما حصل من آثارها للعباد، هو الذي أوجب لهم دخول الجنة، ولهذا جاء الحديث الصحيح المتفق عليه أن"من أحصاها دخل الجنة"1. وذكرنا مراتب الإحصاء، لأن العبد محتاج، بل مضطر إلى معرفتها فوق كل ضرورة.
وقد قيل: إن اللّه ذكرها كلها في القرآن. ولا ريب أن اللّه تعالى ذكر أكثرها بلفظها، و[ما] لم يذكره بلفظه، ففي القرآن ما يدل عليه.
قال الترمذي: حدثنا إبراهيم بن يعقوب، أخبرنا صفوان بن صالح، أخبرنا الوليد بن مسلم أخبرنا شعيب بن أبي حمزة: عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:"إن للّه تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة هو اللّه الذي لا إله إلا هو. الرحمن. الرحيم. الملك القدوس. السلام. المؤمن. المهيمن. العزيز. الجبار. المتكبر. الخالق. البارئ. المصور. الغفار. القهار. الوهاب. الرزاق. الفتاح. العليم. القابض. الباسط. الخافض. الرافع. المعز. المذل. السميع.(5/351)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الشروط (2736) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2677) , والترمذي: الدعوات (3506 ,3507 ,3508) , وابن ماجه: الدعاء (3860 ,3861) , وأحمد (2/258 ,2/267 ,2/290 ,2/314 ,2/427 ,2/499 ,2/503 ,2/516).(5/352)
ص -557- ... البصير. الحكم. العدل. اللطيف. الخبير. الحليم. العظيم. الغفور. الشكور. العلي. الكبير. الحفيظ. المقيت. الحسيب. الجليل. الكريم. الرقيب. المجيب. الواسع. الحكيم. الودود. المجيد. الباعث. الشهيد. الحق. الوكيل. القوي. المتين. الولي. الحميد. المحصي. المبدئ. المعيد. المحيي. المميت. الحي. القيوم. الواجد. الماجد. الواحد. الأحد. الصمد. القادر. المقتدر. المقدم. المؤخر. الأول. الآخر. الظاهر. الباطن. الوالي. المتعال. البر. التواب. المنعم. المنتقم. العفو. الرؤوف. مالك الملك. ذو الجلال والإكرام. المقسط. الجامع. الغني. المغني. المانع. الضار. النافع. النور. الهادي. البديع. الباقي. الوارث. الرشيد. الصبور"1.
قال الترمذي: هذا حديث غريب جدًّا حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح، ولا نعرفه إلا من حديث صفوان بن صالح، وهو ثقة عند أهل الحديث.
وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ولا نعلم في كبير شيء من الروايات ذكر الأسماء الحسنى إلا2 في هذا الحديث، وقد روى آدم بن3 أبي إياس هذا الحديث بإسناد غير هذا عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم وذكر فيه الأسماء، وليس له إسناد صحيح.
قلت: يشير إلى عدد الأسماء سردًا، وإلا فصدر الحديث متفق عليه. وقد خرجه بالعدد المذكور ابن المنذر، وابن خزيمة في"صحيحه"وابن حبان والطبراني، والحاكم في"المستدرك"وغيرهم به، ولم يذكروا فيه"المعطي"، وإسناده صحيح، ولكن المستغرب منه ذكر العدد.
ورواه ابن ماجة من طريق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الشروط (2736) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2677) , والترمذي: الدعوات (3508) , وابن ماجه: الدعاء (3860 ,3861) , وأحمد (2/258 ,2/267 ,2/427 ,2/499 ,2/503 ,2/516).
2 سقطت من الطبعة السابقة: "إلا ".
3 في الطبعة السابقة "عن "وهو خطأ.(5/353)
ص -558- ... عبد الملك بن الصنعاني عن زهير بن محمد التميمي عن موسى بن عقبة عن الأعرج، وساق الأسماء، وخالف سياق الترمذي في الترتيب والزيادة والنقص.
فأما الزيادة فهي البارئ الراشد البرهان الشديد الواقي القائم الحافظ الناظر السامع المعطي الأبد المنير التام القديم الوتر".وعبد الملك لين الحديث، وزهير مختلف فيه، وحديث الوليد أصح إسنادًا وأحسن سياقًا، وأجدر أن يكون مرفوعًا ولهذا قال النووي: هو حديث حسن. قال بعضهم: والعلة في كونهما لم يخرجاه بذكر الأسامي تفرد الوليد بن مسلم عالم الشاميين الثقة. وقد قيل: إن العدد المذكور مدرج.
قال في"الإرشاد"ما معناه: ذكر جماعة من الحفاظ المحققين المتقنين أن سرد الأسماء في حديث أبي هريرة مدرج فيه، وأن جماعة من أهل العلم جمعوها من القرآن، كما روي ذلك عن جعفر بن محمد وسفيان بن عيينة، وأبي زيد اللغوي. وقال البيهقي: يحتمل أن يكون التفسير للأسماء وقع من بعض الرواة، ولهذا الاحتمال ترك الشيخان إخراج حديث الوليد في"الصحيح".
قال في"البدر": والدليل على ذلك وجهان:
أحدهما: أن أصحاب الحديث لم يذكروها.
والثاني: أن فيها تغييرًا بزيادة ونقصان، وذلك لا يليق بالمرتبة العليا النبوية، كذا قال، وفيه نظر، فإن الزيادة والنقصان قد تكون من الرواة، وإن كان الحديث صحيحًا كما في غير ذلك من الأحاديث. وقد رواه الطبراني في"الدعاء"، والحاكم وغيرهما، فزادوا "الرب الإله الحنان المنان البارئ"وفي لفظ:"القائم الفرد". وفي لفظ:"القادر"بدل: الفرد و"المغيث الدائم الحميد". وفي لفظ:"الجميل الصادق المولى النصير القديم الوتر الفاطر العلام المليك الأكرم المدبر المالك الشاكر الرفيع ذو الطول، ذو المعارج ذو الفضل الخلاق"، ولا أظنه يثبت، وإن كان بعض العدد صحيحًا. وعد جعفر بن محمد منها:(5/354)
ص -559- ... "المنعم المتفضل السريع". وقال ابن حزم: جاءت في إحصائها أحاديث مضطربة، لا يصح منها شيء أصلاً، ونقل عنه أنه قال: صح عندي قريبًا من ثمانين اسما، اشتمل عليها الكتاب، والصحاح من الأخبار، فليطلب الباقي بطريق الاجتهاد.
وقال القرطبي في"شرح الأسماء الحسنى": العجب من ابن حزم ذكر من الأسماء الحسنى نيفًا وثمانين فقط، واللّه يقول:{ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ }1. ثم ساق ما ذكره ابن حزم. وفيه من الزيادة على ما تقدم "الرب الإله الأعلى الأكبر الأعز السيد السبوح الوتر المحسن الجميل الرفيق الدهر".
وقد عدها الحافظ فزاد "الخفي السريع الغالب العالم الحافظ المستعان". وفي هذا نظر يفهم مما تقدم، وإن كان قد ذكر بعضها فيما لا يثبت من الحديث، فهذه خمسة وستون ومائة اسم، أقربها من جهة الإسناد سياق الترمذي، وما عدا ذلك ففيه أسماء صحيحة ثابتة، وفي بعضها توقف، وبعضها خطأ محض، كالأبد والناظر والسامع والقائم والسريع، فهذه وإن ورد عدادها في بعض الأحاديث، فلا يصح ذلك أصلا.
وكذلك الدهر والفعال والفالق والمخرج والعالم، مع أن هذه لم ترد في شيء من الأحاديث إلا حديث "لا تسبوا الدهر فإن اللّه هو الدهر"2. وقد مضى معناه، وبينا خطأ ابن حزم في عده من الأسماء الحسنى هناك.
واعلم أن الأسماء الحسنى لا تدخل تحت حصر، ولا تحد بعدد فإن للّه تعالى أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده، ولا يعلمها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، كما في الحديث الصحيح:"أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك"3. رواه أحمد وابن حبان في"صحيحه"وغيرهما.
وقال ابن القيم: "فجعل أسماءه ثلاثة أقسام: قسم سمى به نفسه فأظهره لمن شاء من ملائكته أو غيرهم، ولم ينزل به كتابه، وقسم أنزل به كتابه، وتعرف به(5/355)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية: 38.
2 البخاري: تفسير القرآن (4826) , ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2246) , وأبو داود: الأدب (5274) , وأحمد (2/238 ,2/259 ,2/272 ,2/275 ,2/318 ,2/394 ,2/395 ,2/491 ,2/496 ,2/499 ,2/506) , ومالك: الجامع (1846).
3 أحمد (1/452).(5/356)
ص -560- ... إلى عباده، وقسم استأثر به في علم غيبه، فلم يطلع عليه أحدًا من خلقه، ولهذا قال:"استأثرت به"، أي: انفردت بعلمه، وليس المراد انفراده بالمسمى به، لأن هذا الانفراد ثابت في الأسماء التي أنزل بها كتابه. ومن هذا قوله عليه السلام في حديث الشفاعة:"فيفتح علي من محامده بما لا أحسنه الآن"1. وتلك المحامد هي بأسمائه وصفاته. ومنه قوله:"لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك"2.
وأما قوله صلى اللّه عليه وسلم:"إن للّه تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة"3. فالكلام جملة واحدة.
وقوله:"من أحصاها دخل الجنة"4. صفة لا خبر مستقبل، والمعنى: له أسماء متعددة من شأنها أن من أحصاها دخل الجنة، وهذا كقولك: لفلان ألف شاة أعدها للأضياف فلا يدل على أنه لا يملك غيرها. وهذا لا خلاف بين العلماء فيه.
وقوله تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ }5، أي: اتركوهم، وأعرضوا عن مجادلتهم، قال ابن القيم: والإلحاد في أسمائه: هو العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها، وهو مأخوذ من الميل، كما يدل عليه مادة اللحد، ومنه اللحد وهو الشق في جانب القبر الذي قد مال عن الوسط، ومنه اللمحد في الدين المائل عن الحق إلى الباطل.
إذا عرف هذا فالإلحاد في أسمائه:
أحدها: أن يسمي الأصنام بها، كتسميتهم اللات من الإله، والعزى من العزيز، وتسميتهم الصنم إلهًا، وهذا إلحاد حقيقة، فهم عدلوا بأسمائه إلى أوثانهم وآلهتهم الباطلة.
الثاني: تسميته بما لا يليق بجلاله، كتسمية النصارى له أبًا وتسمية الفلاسفة له موجبًا بذاته، أو علة فاعلة بالطبع، ونحو ذلك.
وثالثها: وصفه بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائص، كقول أخبث اليهود: إنه فقير،(5/357)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: تفسير القرآن (4712) , ومسلم: الإيمان (194) , والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2434) وصفة الجنة (2557).
2 مسلم: الصلاة (486) , والترمذي: الدعوات (3493) , والنسائي: التطبيق (1100 ,1130) , وأبو داود: الصلاة (879) , وابن ماجه: الدعاء (3841) , وأحمد (6/58) , ومالك: النداء للصلاة (497).
3 البخاري: الشروط (2736) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2677) , والترمذي: الدعوات (3508) , وابن ماجه: الدعاء (3860 ,3861) , وأحمد (2/258 ,2/267 ,2/427 ,2/499 ,2/503 ,2/516).
4 البخاري: الشروط (2736) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2677) , والترمذي: الدعوات (3506 ,3507 ,3508) , وابن ماجه: الدعاء (3860 ,3861) , وأحمد (2/258 ,2/267 ,2/290 ,2/314 ,2/427 ,2/499 ,2/503 ,2/516).
5 سورة الأعراف آية: 180.(5/358)
ص -561- ... وقولهم: إنه استراح بعد أن خلق خلقه، وقولهم: { يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}، [المائدة، من الآية: 64]، وأمثال ذلك مما هو إلحاد في أسمائه وصفاته.
ورابعها: تعطيل الأسماء الحسنى عن معانيها، وجحد حقائقها، كقول من يقول من الجهمية وأتباعهم: إنها ألفاظ مجردة، لا تتضمن صفات، ولا معاني، فيطلقون عليه اسم السميع والبصير والحي والرحيم والمتكلم، ويقولون: لا حياة له ولا سمع ولا بصر ولا كلام ولا إرادة تقوم به، وهذا من أعظم الإلحاد فيها عقلاً وشرعًا ولغة وفطرة، وهو يقابل إلحاد المشركين، فإن أولئك أعطوا من أسمائه وصفاته لآلهتهم، وهؤلاء سلبوا كماله، وجحدوها وعطلوها، وكلاهما ألحد في أسمائه، ثم الجهمية وفروخهم متفاوتون في هذا الإلحاد، فمنهم الغالي والمتوسط والمتلوث، وكل من جحد شيئًا مما وصف اللّه به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى اللّه عليه وسلم فقد ألحد في ذلك فليقل أو ليستكثر.
وخامسها: تشبيه صفاته بصفات خلقه، تعالى اللّه عما يقول المشبهون علوًّا كبيرًا، فهذا الإلحاد في مقابله إلحاد المعطلة، فإن أولئك نفوا صفات كماله وجحدوها، وهؤلاء شبهوها بصفات خلقه، فجمعهم الإلحاد، وتفرقت بهم طرقه، وبرأ اللّه أتباع رسوله، وورثته القائمين بسنته عن ذلك كله، فلم يصفوه إلا بما وصف به نفسه، ولم يجحدوا صفاته، ولم يشبهوها بصفات خلقه، ولم يعدلوا بها عما أنزلت عليه لفظًا ولا معنى، بل أثبتوا له الأسماء والصفات، ونفوا عنه مشابهة المخلوقات فكان إثباتهم بريئًا من التشبيه، وتنْزيههم خاليًا من التعطيل، لا كمن شبه كأنه يعبد صنمًا، أو عطل حتى كأنه لا يعبد إلا عدمًا، وأهل السنة وسط في النحل، كما أن أهل الإسلام وسط في الملل توقد مصابيح معارفهم: { مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ(5/359)
يَشَاءُ}، [النّور، من الآية: 35]. {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، [الأعراف، من الآية: 180] وعيد وتهديد.(5/360)
ص -562- ... قوله: {يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ}، [الأعراف، من الآية: 180] يشركون، أي يشركون غيره في أسمائه كتسميتهم الصنم إلهًا، ويحتمل أن المراد الشرك في العبادة، لأن أسماءه تعالى تدل على التوحيد، فالإشراك بغيره إلحاد في معاني أسمائه سبحانه وتعالى لا سيما مع الإقرار بها، كما كانوا يقرون باللّه ويعبدون غيره، فهذا الاسم وحده أعظم الأدلة على التوحيد، فمن عبد غيره; فقد ألحد في هذا الاسم، وعلى هذا بقية الأسماء، وهذا الأثر لم يروه ابن أبي حاتم عن ابن عباس إنما رواه عن قتادة فاعلم ذلك.
قوله:"وعنه: سمو اللات من الإله، والعزى من العزيز".
هذا الأثر معطوف على سابقه، أي: رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس، وكذلك الأثر الثاني عن الأعمش معطوف على سابقه أي: رواه ابن أبي حاتم عنه.
والأعمش اسمه سليمان بن مهران أبو محمد الكوفي الفقيه ثقة حافظ ورع مات سنة 147 وكان مولده أول سنة 61.
قوله:"يدخلون فيها ما ليس منها"، أي: كتسمية النصارى له أبًا ونحوه كما سبق.
[46- باب لا يقال: السلام على اللّه]
لما كان حقيقة لفظ الإسلام السلامة والبراءة والخلاص والنجاة من الشر والعيوب، فإذا قال المسلم: السلام عليكم فهو دعاء للمسلم عليه، وطلب له أن يسلم من الشر كله، واللّه هو المطلوب منه لا المطلوب له، وهو المدعو لا المدعو له، وهو الغني له ما في السموات وما في الأرض، استحال أن يسلم عليه سبحانه وتعالى، بل هو المسلم على عباده كما قال تعالى: { قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}1 وقال: { وَسَلامٌ عَلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النمل آية: 59.(5/361)
ص -563- ... الْمُرْسَلِينَ}1 وقال: { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ }2 فهو السلام ومنه السلام لا إله غيره ولا رب سواه.
في"الصحيح"عن ابن مسعود رضي اللّه عنه قال:"كنا إذا كنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الصلاة قلنا: السلام على اللّه من عباده، السلام على فلان، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم لا تقولوا السلام على اللّه، فإن الله هو السلام"3.
ش: قوله:"في"الصحيح"" أي"الصحيحين".
قوله:"قلنا: السلام على اللّه"، أي: يقولون ذلك في التشهد الأخير كما هو مصرح به في بعض ألفاظ الحديث:"كنا نقول قبل أن يفرض التشهد: السلام على اللّه، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم إن اللّه هو السلام، ولكن قولوا التحيات للّه"4.
قوله:"فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: لا تقولوا السلام على اللّه"، أي: - واللّه أعلم - لما تقدم، ولأن السلام اسمه، كما يرشد إليه آخر الحديث.
قوله:"فإن اللّه هو السلام". أنكر عليه السلام التسليم على اللّه، وأخبر أن ذلك عكس ما يجب له سبحانه، فإن كل سلام ورحمة له ومنه فهو مالكها ومعطيها، وهو السلام. قال ابن الأنباري: أمرهم أن يعرفوه إلى الخلق لحاجتهم إلى السلامة، وقال غيره: وهذا كله حماية منه صلى اللّه عليه وسلم لجناب التوحيد حتى يعرف للّه تعالى ما يستحقه من الأسماء والصفات وأنواع العبادات.
قوله: "السلام على فلان وفلان". اختلف العلماء في معنى السلام المطلوب عند التحية على قولين:
أحدهما: أن المعنى اسم السلام عليكم، والسلام هنا هو اللّه عزّ وجل. ومعنى الكلام: نزلت بركة اسم السلام عليكم، وحملت عليكم فاختير في هذا المعنى من أسمائه اسم السلام دون غيره، ويدل عليه قوله في آخر الحديث.
قوله:"فإن اللّه هو السلام". فهذا صريح في كون السلام اسمًا من أسمائه، فإذا قال المسلم: السلام عليكم;(5/362)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الصافات آية: 181.
2 سورة الأحزاب آية: 44.
3 البخاري: الأذان (835) , ومسلم: الصلاة (402) , والنسائي: التطبيق (1168 ,1169) والسهو (1298) , وأبو داود: الصلاة (968) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (899) , وأحمد (1/382 ,1/413 ,1/427 ,1/431 ,1/464) , والدارمي: الصلاة (1340).
4 البخاري: التوحيد (7381) , ومسلم: الصلاة (402) , والنسائي: التطبيق (1168 ,1169) والسهو (1298) , وأبو داود: الصلاة (968) , وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (899) , وأحمد (1/382 ,1/413 ,1/427 ,1/431) , والدارمي: الصلاة (1340).(5/363)
ص -564- ... كان معناه: اسم السلام عليكم، يدل عليه ما رواه أبو داود، عن ابن عمر أن رجلاً سلم على النبي صلى اللّه عليه وسلم فلم يرد عليه حتى استقبل الجدار، ثم تيمم ورد عليه وقال:"إني كرهت أن أذكر اللّه إلا على طهر"1. ففي هذا بيان أن السلام ذكر للّه وإنما يكون ذكرًا إذا تضمنت اسمًا من أسمائه.
الثاني: أن السلام مصدر بمعنى السلامة، وهو المطلوب المدعو به عند التحية، لأنه ينكر بلا ألف ولام، فيجوز أن يقول المسلم: سلام عليكم، ولو كان اسمًا من أسمائه تعالى لم يستعمل كذلك، بل كان يطلق عليه معرفًا كما يطلق على سائر أسمائه الحسنى. فيقال: السلام، المؤمن، المهيمن، فإن التنكير لا يصرف اللفظ إلى معين، فضلاً عن أن يصرفه إلى اللّه وحده، بخلاف المعرف فإنه ينصرف إليه تعيينًا إذا ذكرت أسماؤه الحسنى. ويدل على ذلك عطف الرحمة والبركة عليه في قوله: سلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته، ولأنه لو كان اسمًا من أسمائه تعالى لم يستقم الكلام بالإضمار، وذلك خلاف الأصل ولا دليل عليه، ولأنه ليس المقصود من السلام هذا المعنى، وإنما المقصود منه الإيذان بالسلامة خبرًا ودعاء.
قال ابن القيم: "والصواب في مجموعهما أي: القولين، وذلك أن من دعا اللّه بأسمائه الحسنى يسأل في كل مطلوب ويتوسل إليه بالاسم المقتضي لذلك المطلوب المناسب لحصوله، حتى كأن الداعي مستشفع إليه، متوسل به. فإذا قال: رب اغفر لي، وتب علي إنك أنت التواب الرحيم الغفور، فقد سأله أمرين، وتوسل إليه باسمين من أسمائه، مقتضيين لحصول مطلوبه وهذا كثير جدًّا وإذا ثبت هذا فالمقام لما كان مقام2 طلب السلامة التي هي أهم ما عند الرجل أتى في طلبها بصيغة اسم من أسمائه تعالى، وهو السلام الذي تطلب منه السلامة.(5/364)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: الطهارة (38) , وأبو داود: الطهارة (17) , وابن ماجه: الطهارة وسننها (350) , وأحمد (4/345) , والدارمي: الاستئذان (2641).
2 في الطبعة السابقة: هذا المقام لما كان طلب.(5/365)
ص -565- ... فتضمن لفظ السلام معنيين. أحدهما: ذكر اللّه تعالى كما في حديث ابن عمر.
والثاني: طلب السلامة وهو مقصود المسلم. فقد تضمن"سلام عليكم"اسمًا من أسماء اللّه، وطلب السلامة منه. انتهى ملخصًا.
[47- باب قول اللهم اغفر لي إن شئت]
ش: لما كان العبد لا غناء له عن رحمة اللّه ومغفرته طرفة عين، بل فقير بالذات إلى الغني بالذات كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}1. نهي عن قول ذلك، لما فيه من إيهام الاستغناء عن مغفرة اللّه ورحمته كما سيأتي، وذلك مضاد للتوحيد.
في"الصحيح"عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال:"لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة، فإن اللّه لا مكره له"2. ولمسلم."وليعظم الرغبة، فإن اللّه لا يتعاظمه شيء أعطاه"3.
ش: قوله:"في"الصحيح""، أي:"الصحيحين".
قوله:"اللهم اغفر لي إن شئت". قال القرطبي: إنما نهى الرسول صلى اللّه عليه وسلم عن هذا القول، لأنه يدل على فتور الرغبة، وقلة الاهتمام بالمطلوب. وكأن هذا القول يتضمن أن هذا المطلوب إن حصل وإلا استغنى عنه، ومن كان هذا حاله لم يتحقق من حاله الافتقار والاضطرار الذي هو روح عبادة الدعاء، وكان ذلك دليلاً على قلة معرفته بذنوبه، وبرحمة ربه. وأيضًا فإنه لا يكون موقنًا بالإجابة. وقد قال عليه السلام:"ادعوا اللّه وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن اللّه لا يستجيب دعاء من قلب غافلٍ لاهٍ"4.
قوله:"ليعزم المسألة". قال القرطبي أي: ليجزم في طلبته،(5/366)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة فاطر آية: 15.
2 البخاري: الدعوات (6339) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2679) , والترمذي: الدعوات (3497) , وأبو داود: الصلاة (1483) , وأحمد (2/243 ,2/318 ,2/463 ,2/486 ,2/500 ,2/530) , ومالك: النداء للصلاة (494).
3 البخاري: الدعوات (6339) والتوحيد (7477) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2679) , والترمذي: الدعوات (3497) , وأبو داود: الصلاة (1483) , وابن ماجه: الدعاء (3854) , وأحمد (2/243 ,2/318 ,2/457 ,2/463 ,2/486 ,2/500 ,2/530) , ومالك: النداء للصلاة (494).
4 الترمذي: الدعوات (3479).(5/367)
ص -566- ... ويحقق رغبته، ويتيقن الإجابة، فإنه إذا فعل ذلك دل على علمه بعظيم ما يطلب من المغفرة والرحمة، وعلى أنه مفتقر إلى ما يطلب مضطر إليه، وقد وعد اللّه المضطر بالإجابة بقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ }1.
قوله:"فإنه لا مكره له". أي: فإن اللّه لا مكره له. هذا لفظ البخاري في الدعوات، ولفظ مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم "لا يقولن أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللّهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة في الدعاء، فإن اللّه صانع ما شاء، لا مكره له"2. قال القرطبي: هذا إظهار لعدم فائدة تقبل الاستغفار والرحمة بالمشيئة. كأن اللّه تعالى لا يضطره إلى فعل شيء دعاء ولا غيره، بل يفعل ما يريد ويحكم ما يشاء. ولذلك قيد اللّه تعالى الإجابة بالمسألة في قوله:{فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ}3. فلا معنى لاشتراط المشيئة بقيله.
قوله:"ولمسلم" أي: من وجه آخر.
قوله:"وليعظم الرغبة" هو بالتشديد، فإن اللّه لا يتعاظمه شيء أعطاه يقال: تعاظم زيد هذا الأمر، أي: كبر عليه وعسر. قال: والرغبة يعني الطلبة والحاجة التي يريد.
وقيل: السؤال والطلب بتكرار الدعاء والإلحاح فيه، والأول أظهر، أي: لسعة جوده وكرمه، لا يعظم عليه إعطاء شيء، بل جميع الموجودات في أمره يسير، وهو أكبر من ذلك، وهذا هو غاية المطالب، فالاقتصار على الداني في المسألة إساءة ظن بجوده وكرمه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النمل آية: 62.
2 البخاري: الدعوات (6339) والتوحيد (7477) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2679) , والترمذي: الدعوات (3497) , وأبو داود: الصلاة (1483) , وابن ماجه: الدعاء (3854) , وأحمد (2/243 ,2/318 ,2/457 ,2/463 ,2/486 ,2/500 ,2/530) , ومالك: النداء للصلاة (494).
3 سورة الأنعام آية: 41.(5/368)
[48- باب لا يقول: عبدى وأمتي]
ش: أي: لما في ذلك من الإيهام من المشاركة في الربوبية، فنهي عن ذلك أدبًا مع جناب الربوبية، وحماية لجناب التوحيد.(5/369)
ص -567- ... قال في"الصحيح"عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال:"لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضيء ربك، وليقل: سيدي ومولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي وغلامي"1.
ش: قوله:"في الصحيح"، أي:"الصحيحين".
قوله:"لا يقل أحدكم"، هو بالجزم على النهي، والمراد أن يقول ذلك لمملوكه أو مملوك غيره، فالكل منهي عنه.
قوله:"أطعم ربك"، بفتح الهمزة من الإطعام.
قوله:"وضيء ربك"، أمر من الوضوء وفيهما في هذا الحديث زيادة:"اسق ربك"، وكأن المؤلف اختصرها.
قال الخطابي: وسبب المنع أن الإنسان مربوب معبد بإخلاص التوحيد للّه تعالى، وترك الإشراك به، فترك المضاهاة بالاسم لئلا يدخل في معنى الشرك، ولا فرق في ذلك بين الحر والعبد. وأما من لا تعبد عليه من سائر الحيوانات والجمادات، فلا يكره أن يطلق ذلك عليه عند الإضافة كقوله: رب الدار والثوب.
قال ابن مفلح في"الفروع": وظاهر النهي التحريم، وقد يحتمل أنه للكراهية، وجزم به غير واحد من العلماء.
فإن قلت: قد قال اللّه تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ}2.وقال النبي صلى اللّه عليه وسلم في اشتراط الساعة:"أن تلد الأمة ربتها"3 فهذا يدل على الجواز.
قيل: فأما الآية ففيها جوابان. أحدهما وهو الأظهر: أن هذا جائز في شرع من قبلنا، وقد ورد شرعنا بخلافه. والثاني: أنه ورد لبيان الجواز، والنهي للأدب والتنْزيه دون التحريم.
وأما الحديث فليس من هذا الباب للتأنيث، والنهي عنه أن يقول ذلك للذكر لما فيه من إيهام المشاركة، وهو معدوم في الأنثى. أو يقال: بحمله على الكراهة في الأنثى أيضًا لورود الحديث بذلك دون الذكر، لأنه لم يرد فيه إلا النهي، ويقال وهو أظهر: إن هذا ليس فيه إلا(5/370)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: العتق (2552) , ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2249) , وأبو داود: الأدب (4975) , وأحمد (2/316).
2 سورة يوسف آية: 42.
3 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/27 ,1/51 ,1/52).(5/371)
ص -568- ... وصفها بذلك لا دعاؤها به، وتسميتها به، وفرق بين الدعاء والتسمية، وبين الوصف، كما تقول: زيد فاضل، فتصفه بذلك ولا تسميه به ولا تدعوه به.
قوله:"وليقل سيدي"، قيل: إن الفرق بين الرب والسيد، أن الرب من أسماء اللّه تعالى اتفاقًا، واختلف في السيد هل هو من أسماء اللّه تعالى؟ ولم يأت في القرآن أنه من أسماء اللّه. لكن في حديث عبد اللّه بن الشخير:"السيد اللّه"1. وسيأتي.
فإن قلنا: ليس من أسماء اللّه فالفرق واضح، إذ لا التباس، وإن قلنا: إنه من أسماء اللّه فليس في الشهرة والاستعمال، كلفظ الرب فيحصل الفرق. وأما من حيث اللغة فالسيد من السؤدد وهو التقدم، يقال: ساد قومه إذا تقدمهم، ولا شكر في تقديم السيد على غلامه، فلما حصل الافتراق جاز الإطلاق.
قلت: وحديث ابن الشخير لا ينفي إطلاق لفظ السيد على غير اللّه، بل المراد أن اللّه هو الأحق بهذا الاسم بأنواع العبارات، كما أن غيره لا يسمى به.
"ومولاي". قال النووي: المولى يطلق على ستة عشر معنى، منها الناظر والمولى والمالك، وحينئذ فلا بأس أن يقول: مولاي.
قال في"الفروع"ولا يقل: عبدي وأمتي، كلكم عبيد اللّه، وإماء اللّه. ولا يقل العبد لسيده: ربي. وفي مسلم أيضا:"ولا مولاي فمولاكم اللّه". وظاهر النهي للتحريم. وقد يحتمل أنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الأدب (4806) , وأحمد (4/25).(5/372)
ص -569- ... للكراهة، وجزم به غير واحد من العلماء كما في"شرح مسلم"انتهى كلامه.
قلت: فظاهر رواية مسلم معارضة لحديث الباب، وأجيب بأن مسلمًا قد بين الاختلاف فيه عن الأعمش، وأن منهم من ذكر هذه الزيادة، ومنهم من حذفها.
قال عياض: وحذفها أصح. فظهر أن اللفظ الأول أرجح، وإنما صرنا للترجيح للتعارض بينهما والجمع متعذر، والعلم بالتاريخ مفقود، فلم يبق إلا الترجيح.
قلت: الجمع ممكن بحمل النهي على الكراهة، أو على خلاف الأولى.
قوله:"ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي"، لأن حقيقة العبودية إنما يستحقها اللّه تعالى، ولأن فيها تعظيمًا لا يليق بالمخلوق، وقد بين النبي صلى اللّه عليه وسلم العلة في ذلك. كما رواه أبو داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة مرفوعًا:"لا يقولن أحدكم: عبدي وأمتي، ولا يقولن المملوك: ربي وربتي، وليقل المالك: فتاي وفتاتي، وليقل المملوك: سيدي وسيدتي، فإنكم المملوكون، والرب اللّه عزّ وجل"1. ورواه أيضًا بإسناد صحيح موقوفًا، فهذه علة له. وفي رواية لمسلم:"لا يقولن أحدكم: عبدي فإن كلكم عبيد اللّه"2.
قال في"مصابيح الجامع"النهي إنما جاء متوجهًا إلى السيد إذ هو في مظنه الاستطالة، وأما قول الغير: هذا عبد زيد، وهذه أمة خالد فجائز، لأنه يقول إخبارًا أو تعريفًا، وليس في مظنة الاستطالة.
قلت: وهو حسن، وقد رويت أحاديث تدل على ذلك، وقال أبو جعفر النحاس: لا نعلم بين العلماء خلافًا أنه لا ينبغي لأحد أن يقول لأحد من المخلوقين: مولاي، ولا يقول: عبدك وعبدي، وإن كان مملوكًا، وقد حظر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على المملوكين، فكيف للأحرار؟.
قوله:"وليقل: فتاي وفتاتي، وغلامي"، أي: لأنها ليست دالة(5/373)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: العتق (2552) , ومسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2249) , وأبو داود: الأدب (4975) , وأحمد (2/316 ,2/423 ,2/444 ,2/484 ,2/491 ,2/496 ,2/508).
2 مسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها (2249) , وأحمد (2/463 ,2/484 ,2/496).(5/374)
ص -570- ... على الملك كدلالة عبدي وأمتي، فأرشد عليه السلام إلى ما يؤدي المعنى من السلامة من الإيهام والتعاظم مع أنها تطلق على الحر والمملوك، لكن إضافته تدل على الإخلاص.
[49- باب لا يرد من سئل باللّه]
ش: أي: إعظامًا وإجلالاً للّه تعالى أن يسأل به في شيء، ولا يجاب السائل إلى سؤاله ومطلوبه، ولهذا أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بإبرار القسم وتنازعوا هل هو أمر استحباب، أو إيجاب؟ وظاهر كلام شيخ الإسلام التفريق بين أن يقصد إلزامه بالقسم فتجب إجابته، أو يقصد إكرامه فلا تجب عليه. ولهذا أوجب على المقسم في الأولى الكفارة، إذا لم يفعل المحلوف عليه، دون الثانية، لأنه كالأمر، ولا يجب إذا كان للإكرام لأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم أبا بكر بوقوفه في الصف ولم يقف، ولأن أبا بكر أقسم على النبي صلى اللّه عليه وسلم ليخبرنه بالصواب والخطأ لما فسر الرؤيا، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم:"لا تقسم". كما في"الصحيحين"قال: لأنه علم أنه لم يقصد الإقسام عليه مع المصلحة المقتضية للكتم.
قال: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:"من استعاذ باللّه فأعيذوه، ومن سأل باللّه فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفًا فكافؤوه، فإن لم تجدوا ما تكافؤوه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه"1. رواه أبو داود، والنسائي بسند صحيح.
ش: قوله:"من استعاذ باللّه فأعيذوه"، أي: من سألكم أن تدفعوا عنه شركم أو شر غيركم باللّه، كقوله: باللّه عليك أن تدفع عني شر فلان أو شرك، أعوذ باللّه من شرك أو شر فلان ونحو ذلك، فأعيذوه، أي: امنعوه مما استعاذ منه وكفوه عنه لتعظيم اسم اللّه تعالى، ولهذا لما قالت الجونية للنبي صلى اللّه عليه وسلم أعوذ باللّه منك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: الزكاة (2567) , وأبو داود: الزكاة (1672) , وأحمد (2/99 ,2/127).(5/375)
ص -571- ... قال:"لقد عذت بمعاذ، ألحقي بأهلك"1. ولفظ أبي داود:"من استعاذكم باللّه فأعيذوه ومن سألكم باللّه فأعطوه"2.
قوله:"ومن سأل باللّه فأعطوه". وفي حديث ابن عباس عند أحمد وأبي داود:"ومن سألكم بوجه اللّه فأعطوه". ومعناه ظاهر، وهو أن يقول: أسألك باللّه أو بوجه اللّه ونحو ذلك، أن تفعل أو تعطيني كذا، ويدخل في ذلك القسم عليه باللّه أن يفعل كذا، وظاهر الحديث، وجوب إعطائه ما سأل ما لم يسأل إثمًا، أو قطيعة رحم. وقد جاء الوعيد على ذلك في عدة أحاديث، منها: حديث أبي موسى مرفوعًا:"ملعون من سئل بوجه اللّه، وملعون من يسأل بوجهه ثم منع سائله ما لم يسأل هجرًا". رواه الطبراني. قال في"تنبيه الغافلين": ورجال إسناده رجال الصحيح، إلا شيخه يحيى بن عثمان بن صالح، والأكثر على توثيقه، فإن بلغ هذا الإسناد أو إسناد غيره مبلغًا يحتج به كان ذلك من الكبائر.
وعن أبي عبيد مولى رفاعة بن رافع مرفوعًا"ملعون من سأل بوجه اللّه وملعون من سئل بوجه اللّه فمنع سائله". رواه الطبراني أيضًا. وعن ابن عباس مرفوعًا:"ألا أخبركم بشر الناس: رجل يُسأل باللّه ولا يعطي"3. رواه الترمذي وحسنه، وابن حبان في"صحيحه". وعن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم"ألا أخبركم بشر البرية؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه قال: الذي يُسأل باللّه ولا يعطي"4. رواه أحمد.
إذا تبين هذا فهذه الأحاديث دالة على إجابة من سئل باللّه أو أقسم به، ولكن قال شيخ الإسلام: إنما تجب على معين، فلا تجب على سائل يقسم على الناس، وظاهر كلام الفقهاء أن ذلك مستحب كإبرار القسم، والأول أصح.
قوله:"ومن دعاكم فأجيبوه". أي: من دعاكم إلى طعام فأجيبوه فإن كانت وليمة عرس وتوفرت الشروط المبينة في كتب الفقه وجبت الإجابة، وإن كان لغيرها استحب إجابتها، وتجب(5/376)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الطلاق (5254) , والنسائي: الطلاق (3417) , وابن ماجه: الطلاق (2050).
2 النسائي: الزكاة (2567) , وأبو داود: الأدب (5109) , وأحمد (2/68).
3 الترمذي: فضائل الجهاد (1652) , والنسائي: الزكاة (2569) , ومالك: الجهاد (976) , والدارمي: الجهاد (2395).
4 أحمد (2/396).(5/377)
ص -572- ... مطلقًا وهو الصحيح لظاهر الأحاديث، وهي لم تفرق بين وليمة العرس وغيرها، وإن كانت وليمة العرس آكد وأوجب.
قوله:"ومن صنع إليكم معروفًا فكافؤوه". المعروف: اسم جامع لمخير.
وقوله:"فكافؤوه"، أي: على إحسانه بمثله أو خير منه، وقد أشار شيخ الإسلام إلى مشروعية المكافأة، لأن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها، فهو إذا أحسن إليه ولم يكافئه يبقى في قلبه نوع تأله لمن أحسن إليه، فشرع قطع ذلك بالمكافأة، فهذا معنى كلامه. وقال غيره: إنما أمر بالمكافأة ليخلص القلب من إحسان الخلق ويتعلق بالحق. ولفظ أبي داود:"من أتى إليكم معروفًا..."1.
قوله:"فإن لم تجدوا ما تكافئوه". هكذا ثبت بحذف النون في خط المصنف، وهكذا هو في غيره من أصول الحديث. قال الطيبي: سقطت من غير ناصب ولا جازم، إما تخفيفًا أو سهوًا من الناسخ.
قوله:"فادعوا له..." إلى إلخ يعني من أحسن إليكم أيَّ إحسان فكافئوه بمثله، فإن لم تقدروا فبالغوا في الدعاء له جهدكم حتى تحصل المسألة، ووجه المبالغة أنه رأى في نفسه تقصيرًا في المجازاة لعدم القدرة عليها، فأحالها إلى اللّه، ونعم المجازي هو، وهذا الحديث رواه أيضًا أحمد بإسناد صحيح، وابن حبان، والحاكم، وصححه النووي. وقد روى الترمذي وصححه النسائي وابن حبان عن أسامة بن زيد مرفوعًا:"من صنع إليكم معروفًا فقال لفاعله: جزاك اللّه خيرًا فقد أبلغ في الثناء"2.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسائي: الزكاة (2567) , وأبو داود: الزكاة (1672) والأدب (5109) , وأحمد (2/68).
2 الترمذي: البر والصلة (2035).(5/378)
ص -573- ... [50- باب لا يسأل بوجه اللّه إلا الجنة]
أي إعظامًا وإجلالاً وإكرامًا لوجه اللّه أن يسأل به إلا غاية المطالب، وهذا من معاني قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ}1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الرحمن آية: 27.
قال: عن جابر بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:"لا يسأل بوجه اللّه إلا الجنة"1. رواه أبو داود أيضًا.
ش: قوله:"عن جابر". هو جابر بن عبد اللّه.
قوله:"لا يسأل بوجه اللّه إلا الجنة"2 روي بالنفي والنهي، وروي بالبناء للمجهول، وهو الذي في الأصل، وروي بالخطاب للمفرد، وفيه إثبات الوجه خلافًا للجهمية ونحوهم، فإنهم أَوَّلُوا الوجه بالذات، وهو باطل، إذ لا يسمى ذات الشيء وحقيقته وجهًا، فلا يسمى الإنسان وجها، ولا تسمى يده وجهًا، ولا تسمى رجله وجهًا. والقول في الوجه عند أهل السنة كالقول في بقية الصفات، فيثبتونه للّه على ما يليق بجلاله وكبريائه من غير كيف ولا تحديد، إثبات بلا تمثيل، وتنْزيه بلا تعطيل.
قوله:"إلا الجنة"، كأن يقول:"اللهم إني أسألك بوجهك الكريم أن تدخلني الجنة". وقيل: المراد لا تسألوا من الناس شيئًا بوجه اللّه"كأن يقول: أعطني شيئًا بوجه اللّه، فإن اللّه أعظم من أن يسأل به شيء من الحطام.
قلت: والظاهر أن كلا المعنيين صحيح، قال الحافظ العراقي: "وذكر الجنة إنما هو للتنبيه به على الأمور العظام لا للتخصيص، فلا يسأل بوجهه في الأمور الدنيئة، بخلاف الأمور العظام تحصيلاً أو دفعًا، كما يشير إليه استعاذة النبي صلى اللّه عليه وسلم به".
قلت: والظاهر أن المراد لا يسأل بوجه اللّه إلا الجنة، أو ما هو وسيلة إليها، كالاستعاذة بوجه اللّه من غضبه ومن النار ونحو ذلك مما هو وارد في أدعيته صلى اللّه عليه وسلم وتعوذاته،"ولما نزل قوله تعالى: { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ(5/379)
فَوْقِكُمْ}3. قال النبي صلى اللّه عليه وسلم:"أعوذ بوجهك". { أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ }4 قال:"أعوذ بوجهك" رواه البخاري. وهذا الحديث رواه في"المختارة"أيضًا ولكن في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الزكاة (1671).
2 أبو داود: الزكاة (1671).
3 سورة الأنعام آية: 65.
4 سورة الأنعام آية: 65.(5/380)
ص -574- ... إسناده سليمان بن معاذ. قال ابن معين: ليس بشيء، وضعفه عبد الحق وابن القطان.
[51- باب ما جاء في ال "لو"]
اعلم أن من كمال التوحيد الاستسلام للقضاء والقدر رضا باللّه ربًا فإن هذا من جنس المصائب، والعبد مأمور عند المصائب بالصبر والإرجاع والتوبة. وقول "لو" لا يجدي عليه إلا الحزن والتحسر مع ما يخاف توحيده من نوع المعاندة للقدر الذي لا يكاد يسلم منها من وقع منه هذا إلا ما شاء اللّه، فهذا وجه إيراده هذا الباب في التوحيد.
قال وقول اللّه تعالى: { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}1.
ش: قال ابن كثير: فسر ما أخفوه في أنفسهم بقوله: { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}2 أي: يسرون هذه المقالة عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد اللّه بن الزبير عن أبيه عن عبد اللّه بن الزبير قال الزبير: لقد رأيتُنِي مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا: أرسل اللّه علينا النوم، فما منا رجل إلا ذقنه في صدره فواللّه إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم: { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}. فحفظتها منه وفي ذلك أنزل اللّه عزّ وجل: { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}3. لقول معتب. رواه ابن أبي حاتم. قال اللّه تعالى: { قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}4. أي: هذا قدر مقدر من اللّه عزّ وجل وحكم حتم لازم لا محيد عنه ولا مناص منه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية: 154.
2 سورة آل عمران آية: 154.
3 سورة آل عمران آية: 154.
4 سورة آل عمران آية: 154.(5/381)
ص -575- ... قلت: فتبين وجه إيراد المصنف الآية على الترجمة، لأن قول"لو"في الأمور المقدرة من كلام المنافقين، ولهذا رد اللّه عليهم ذلك بأن هذا قدر، فمن كتب عليه شيء فلا بد أن يناله، فماذا يغني عنكم قول"لو"و"ليت"إلا الحسرة والندامة؟! فالواجب عليكم في هذه الحالة الإيمان باللّه والتعزي بقدره مع ما ترجون من حسن ثوابه، وفي ذلك عين الفلاح لكم في الدنيا والآخرة، بل يصل الأمر إلى أن تنقلب المخاوف أمانًا والأحزان سرورًا وفرحًا كما قال عمر بن عبد العزيز: أصبحت وما لي سرور إلا في مواقع القضاء والقدر.
قال: وقوله تعالى: { الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا...}1.
ش: روى ابن جرير عن السدي قال: خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم أحد في ألف رجل، وقد وعدهم الفتح إن صبروا، فلما خرجوا رجع عبد اللّه ابن أبي في ثلاثمائة، فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم، فلما غلبوه وقالوا له: ما نعلم قتالاً ولئن أطعتنا لترجعن معنا فنَزل: { الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا...}2. وعن ابن جريج في الآية. قال: هو عبد اللّه بن أبي { الَّذِينَ... وَقَعَدُوا}3. الذين خرجوا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم يوم أحد. رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم. فعلى هذا إخوانهم هم المسلمون المجاهدون، وسموا إخوانهم لموافقتهم في الظاهر. وقيل: إخوانهم في النسب لا في الدين. { لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}4. قال ابن كثير: لو سمعوا مشورتنا عليهم في القعود، وعدم الخروج ما قتلوا مع من قتل قال اللّه تعالى: { قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}5. أي: إن كان القعود يسلم به الشخص من القتل والموت فينبغي أنكم لا تموتون، والموت لا بد آت إليكم ولو كنتم في بروج مشيدة. فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين. قال مجاهد: عن جابر بن(5/382)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية: 168.
2 سورة آل عمران آية: 168.
3 سورة آل عمران آية: 168.
4 سورة آل عمران آية: 168.
5 سورة آل عمران آية: 168.(5/383)
ص -576- ... عبد اللّه نزلت هذه الآية في عبد اللّه بن أبي.
قلت: وكان أشار على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يوم أحد بعدم الخروج، فلما قدر اللّه الأمر قال ذلك تصويبًا لرأيه، ورفعًا لشأنه فردّ اللّه عليه وعلى أمثاله { قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}1. فلا تعذرون عن ذلك. فعلم أن ذلك بقضاء اللّه وقدره. أي: يستوي الذي في وسط الصفوف والذي في البروج المشيدة في القتل والموت. بل { لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}2، فلا ينجي حذر من قدر. وفي ضمن ذلك قول"لو"ونحوه في مثل هذا المقام; لأن ذلك لا يجدي شيئًا؛ إذ المقدر قد وقع فلا سبيل إلى دفعه أبدًا. { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا }3.
قال في"الصحيح"عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال:"احرص على ما ينفعك، واستعن باللّه، ولا تعجز. وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر اللّه وما شاء فعل; فإن لو تفتح عمل الشيطان"4.
ش: قوله:"في"الصحيح"" أي:"صحيح مسلم".
قوله:"احرص على ما ينفعك..." إلخ. هذا الحديث اختصره المصنف رحمه اللّه ولفظه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:"المؤمن القوي خير وأحب إلى اللّه من المؤمن الضعيف. وفي كل خير، احرص على ما ينفعك"5 إلى آخره.
فقوله عليه السّلام:"المؤمن القوي خير وأحب إلى اللّه من المؤمن الضعيف"6. فيه أن اللّه سبحانه موصوف بالمحبة، وأنه يحب على الحقيقة كما قال: { ُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}7. وفيه أنه سبحانه يحب مقتضى أسمائه وصفاته، وما يوافقها فهو القوي، ويحب المؤمن القوي،،هو وتر يحب الوتر، وجميل يحب الجمال، وعليم يحب العلماء، ومحسن(5/384)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية: 168.
2 سورة آل عمران آية: 154.
3 سورة الطور آية: 48.
4 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) والزهد (4168) , وأحمد (2/366 ,2/370).
5 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) والزهد (4168) , وأحمد (2/366 ,2/370).
6 مسلم: القدر (2664) , وابن ماجه: المقدمة (79) والزهد (4168) , وأحمد (2/366 ,2/370).
7 سورة المائدة آية: 54.(5/385)
ص -577- ... يحب المحسنين، وصبور يحب الصابرين، وشكور يحب الشاكرين.
قلت: الظاهر أن المراد القوة في أمر اللّه وتنفيذه، والمسابقة بالخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على ما يصيب في ذات اللّه ونحو ذلك، لا قوة البدن. ولهذا مدح اللّه الأنبياء بذلك في قوله: { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ}1. فالأيدي: القوة، والعزائم في تنفيذ أمر اللّه. وقوله: { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ}2.
وقوله:"وفي كل خير"، أي: كل من المؤمن القوي والمؤمن الضعيف على خير وعافية، لاشتراكهما في الإيمان والعمل الصالح. ولكن القوي في إيمانه ودينه أحب إلى اللّه.
وفيه أن محبة المؤمنين تتفاضل فيحب بعضهم أكثر من بعض.
وقوله:"احرص على ما ينفعك"، هو بفتح الراء وكسرها قال ابن القيم: سعادة الإنسان في حرصه على ما ينفعه في معاشه ومعاده. والحرص: هو بذل الجهد واستفراغ الوسع. فإذا صادف ما ينتفع به الحريص كان حرصه محمودًا، وكماله كله في مجموع هذين الأمرين أن يكون حريصًا، وأن يكون حرصه على ما ينتفع به. فإن حرص على ما لا ينفعه أو فعل ما ينفعه بغير حرص، فإنه من الكمال بحسب ما فاته من ذلك، فالخير كله في الحرص على ما ينفع.
قوله:"واستعن باللّه". قال ابن القيم: "لما كان حرص الإنسان وفعله إنما هو بمعونة اللّه، ومشيئته، وتوفيقه، أمره أن يستعين به ليجتمع له مقام { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، [الفاتحة: 5]، فإن حرصه على ما ينفعه عبادة للّه، ولا تتم إلا بمعونته. فأمره بأن يعبده ويستعين به.
وقال غيره:"استعن باللّه"، أي: اطلب الإعانة في جميع أمورك من اللّه لا من غيره. كما قال تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، [الفاتحة: 5]، فإن العبد عاجز لا يقدر على شيء إن لم يعنه(5/386)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة ص آية: 45.
2 سورة ص آية: 17.(5/387)
ص -578- ... اللّه عليه، فلا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا اللّه عزّ وجل. فمن أعانه اللّه فهو المعان، ومن خذله فهو المخذول. وقد كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يقول في خطبته ويعلم أصحابه أن يقولوا:"الحمد للّه نستعينه ونستهديه"1. ومن دعاء القنوت:"اللهم إنا نستعينك" وأمر معاذ بن جبل أن لا يدع في دبر كل صلاة أن يقول:"اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك"2. وكان ذلك من دعائه صلى اللّه عليه وسلم. ومنه أيضًا:"اللهم أعني ولا تعن علي"3. وإذا حقق العبد مقام الاستعانة وعمل به، كان مستعينًا باللّه عزّ وجل متوكلاً عليه، راغبًا وراهبًا إليه; فيستحق له مقام التوحيد إن شاء اللّه تعالى.
قوله:"ولا تعجز"، وهو بكسر الجيم وفتحها. استعمل الحرص والاجتهاد في تحصيل ما ينفعك من أمر دينك ودنياك التي تستعين بها على صيانة دينك، وصيانة عيالك، ومكارم أخلاقك. ولا تفرط في طلب ذلك، ولا تتعاجز عنه متكلاً على القدر، أو متهاونًا بالأمر. فتنسب للتقصير وتلام على التفريط شرعًا وعقلًا مع إنهاء الاجتهاد نهايته، وبلاغ الحرص غايته. فلا بد من الاستعانة باللّه والتوكل عليه والالتجاء في كل الأمور إليه، فمن ملك هذين الطريقين حصل على خير الدارين.
وقال ابن القيم: "العجز ينافي حرصه على ما ينفعه، وينافي استعانته باللّه، فالحريص على ما ينفعه المستعين باللّه ضد العاجز، فهذا إرشاد له قبل رجوع المقدور إلى ما هو من أعظم أسباب حصوله، وهو الحريص عليه مع الاستعانة بمن أزمة الأمور بيده، ومصدرها منه، ومردها إليه".
قوله:"وإن أصابك شيء…"، إلى آخره. العبد إذا فاته ما لم يقدر له فله حالتان: حالة عجز وهي مفتاح عمل الشيطان فيلقيه(5/388)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: النكاح (1105) , والنسائي: الجمعة (1404) , وأبو داود: النكاح (2118) , وابن ماجه: النكاح (1892) , وأحمد (1/392 ,1/432) , والدارمي: النكاح (2202).
2 مسلم: العلم (2670) , وأبو داود: السنة (4608) , وأحمد (1/386).
3 الترمذي: الدعوات (3551) , وأبو داود: الصلاة (1510) , وابن ماجه: الدعاء (3830) , وأحمد (1/226).(5/389)
ص -579- ... العجز إلى"لو"ولا فائدة في"لو"ههنا، بل هي مفتاح اللوم والجزع والسخط والأسف والحزن، وذلك كله من عمل الشيطان، فنهاه صلى اللّه عليه وسلم عن افتتاح عمله بهذا المفتاح، وأمره بالحالة الثانية، وهي النظر إلى القدر وملاحظته، وأنه لو قدر له لم يفته، ولم يغلبه عليه أحد فلم يبق له ههنا أنفع من شهود القدر، ومشيئة الرب النافذة، التي توجب وجود المقدور وإذا انتفت امتنع وجوده، فلهذا قال:"وإن أصابك شيء"، أي: غلبك الأمر ولم يحصل المقصود بعد بذل جهده والاستعانة باللّه فلا تقل:"لو أني فعلت لكان كذا وكذا ولكن قل قدر اللّه وما شاء فعل". فأرشده إلى ما ينفعه في الحالتين. حالة حصول مطلوبه، وحالة فواته. فلهذا كان هذا الحديث مما لا يستغني عنه العبد أبدًا، بل هو أشد شيء إليه ضرورة، وهو يتضمن إثبات القدر والكسب، والاختيار، والقيام بالعبودية باطنًا وظاهرًا في حالتي حصول المطلوب وعدمه، هذا معنى كلام ابن القيم.
وقال القاضي: قال بعض العلماء: هذا النهي إنما هو لمن قاله معتقدًا ذلك حتما، وأنه لو فعل ذلك لم يصبه قطعًا. فأما من رد ذلك إلى مشيئة اللّه تعالى، وأنه لن يصيبه إلا ما شاء اللّه، فليس من هذا، واستدل بقول أبي بكر الصديق في الغار: لو أن أحدهم رفع رأسه لرآنا. قال القاضي: وهذا ما لا حجة فيه، لأنه أخبر عن مستقبل، وليس فيه دعوى لرد القدر بعد وقوعه. قال: وكذا جميع ما ذكره البخاري فيما يجوز من"اللو"كحديث:"لولا حدثان قومك بالكفر، لأتممت البيت على قواعد إبراهيم"1. و:"لو كنت راجمًا بغير بينة لرجمت هذه"2. و"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك"3. وشبه ذلك، وكله مستقبل لا اعتراض فيه على قدر ولا كراهة فيه، لأنه إنما أخبر عن اعتقاده فيما كان يفعل لولا المانع وعما هو في قدرته، فأما ما ذهب فليس في قدرته.
فإن قيل: ما تصنعون بقوله صلى اللّه عليه وسلم:"لو(5/390)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: العلم (2663) , وأبو داود: السنة (4605) , وابن ماجه: المقدمة (13).
2 أحمد (3/428).
3 الترمذي: النذور والأيمان (1535) , وأبو داود: الأيمان والنذور (3251) , وأحمد (2/34 ,2/69 ,2/86 ,2/125).(5/391)
ص -580- ... استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة؟"1. قيل: هذا كقوله:"لولا حدثان قومك بالكفر"2. ونحوه مما هو خبر عن مستقبل لا اعتراض فيه على قدر، بل هو إخبار لهم أنه لو استقبل الإحرام بالحج; ما ساق الهدي ولا أحرم بالعمرة، بقوله لهم لما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة حثًا لهم وتطييبًا لقلوبهم لما رآهم توقفوا في أمره، فليس من المنهي عنه، بل هو إخبار لهم عما كان يفعل في المستقبل لو حصل، ولا خلاف في جواز ذلك، وإنما ينهى عن ذلك في معارضة القدر مع اعتقاد أن ذلك المانع لو يقع لوقع خلاف المقدور.
قوله:"فإن لو تفتح عمل الشيطان"، أي: من الجزع والعجز واللوم والسخط من القضاء والقدر ونحو ذلك، ولهذا من قالها على وجه النهي عنه، فإن سلم من التكذيب بالقضاء والقدر لم يسلم من المعاندة له، واعتقاد أنه لو فعل ما زعم لم يقع المقدور ونحو ذلك، وهذا من عمل الشيطان.
فإن قيل: ليس في هذا رد للقدر ولا تكذيب به، إذ تلك الأسباب التي تمناها من القدر، فهو يقول: لو أني وقفت لهذا القدر لاندفع به عني ذلك القدر، فإن القدر يدفع بعضه ببعض.
قيل: هذا حق، ولكن ينفع قبل وقوع القدر المكروه، فأما إذا ما وقع فلا سبيل إلى دفعه، وإن كان له سبب إلى دفعه أو تخفيفه بقدر آخر، فهو أولى به من قول: لو كنت فعلت، بل وحقيقته في هذه الحال أن يستقبل فعله الذي يدفع به المكروه، ولا يتمنى ما لا مطمع في وقوعه، فإنه عجز محض واللّه يلوم على العجز، ويحب الكيس ويأمر به، والكيس مباشرة الأسباب التي ربط اللّه بها بمسبباتها النافعة للعبد في معاشه ومعاده. انتهى ملخصًا من كلام ابن القيم.(5/392)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الجهاد والسير (2856) واللباس (5967) والاستئذان (6267) والرقاق (6500) والتوحيد (7373) , ومسلم: الإيمان (30) , والترمذي: الإيمان (2643) , وابن ماجه: الزهد (4296) , وأحمد (5/228 ,5/230 ,5/234 ,5/236 ,5/238 ,5/242).
2 الترمذي: العلم (2663) , وأبو داود: السنة (4605) , وابن ماجه: المقدمة (13).(5/393)
ص -581- ... [52- باب النهي عن سب الريح]
ش: أي لأنها مأمورة ولا تأثير لها في شيء إلا بأمر اللّه فسبها كسب الدهر، وقد تقدم النهي عنه، فكذلك الريح.
قال: عن أبي بن كعب رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال:"لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون، فقولوا: اللهم إنا نسألك خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به"1. صححه الترمذي.
ش: قوله:"عن أبي بن كعب"، أي: ابن قيس بن عبيد بن زيد ابن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري الخزرجي أبو المنذر. صحابي بدري جليل وكان من قراء الصحابة وقضاتهم وعلمائهم وله مناقب مشهورة اختلف في سنة موته، فقال الهيثم بن عدي: مات سنة تسعة عشر. وقال خليفة بن خياط: سنة اثنين وثلاثين، يقال فيها مات أبي بن كعب، ويقال: بل مات في خلافة عمر. قلت: وقيل غير ذلك.
قوله:"لا تسبوا الريح"، أي: لا تشتموها ولا تلعنوها للحوق ضرر فيها فإنها مأمورة مقهورة، فلا يجوز سبها، بل تجب التوبة عند التضرر بها وهو تأديب من اللّه تعالى لعباده، وتأديبه رحمة للعباد، فلهذا جاء في حديث أبي هريرة مرفوعًا:"الريح من روح اللّه تأتي بالرحمة وبالعذاب، فلا تسبوها ولكن سلوا اللّه من خيرها وتعوذوا باللّه من شرها" 2. رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. وكونها قد تأتي بالعذاب لا ينافي كونها من رحمة اللّه وعن ابن عباس أن رجلاً لعن الريح عند النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال:"لا تلعنوا الريح، فإنها مأمورة، وإنه من لعن شيئًا ليس له بأهل رجعت اللعنة إليه". رواه الترمذي، وقال: غريب.
قال الشافعي: "لا ينبغي شتم الريح فإنها خلق مطيع للّه، وجند من جنوده، يجعلها اللّه رحمة إذا شاء، ونقمة إذا شاء. ثم روي(5/394)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الفتن (2252) , وأحمد (5/123).
2 أبو داود: الأدب (5097) , وابن ماجه: الأدب (3727) , وأحمد (2/267).(5/395)
ص -582- ... بإسناده حديث منقطع أن رجلاً شكا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الفقر، فقال له:"لعلك تسب الريح". وقال مطرف: "لو حبست الريح عن الناس لأنتن ما بين السماء والأرض".
قوله:"فإذا رأيتم ما تكرهون"، أي: من الريح إما شدة حرها، أو بردها، أو قوتها.
قوله: فقولوا:"اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح"، أمر صلى اللّه عليه وسلم بالرجوع إلى خالقها وآمرها الذي أزمة الأمور كلها بيده، ومصدرها عن قضائه، فما استجلبت نعمة بمثل طاعته وشكره، ولا استدفعت نقمة بمثل الالتجاء إليه والتعوذ به، والاضطرار إليه والاستكانة له ودعائه، والتوبة إليه والاستغفار من الذنوب.
قالت عائشة: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا عصفت الريح قال:"اللهم إني أسألك من خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به"1. وإذا تخيلت السماء تغير لونه، وخرج ودخل وأدبر وأقبل، فإذا مطرت سري ذلك عنه، فعرفت عائشة ذلك فسألته، فقال:"لعله يا عائشة كما قال قوم عاد:{ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}2". رواه البخاري ومسلم، فهذا ما أمر به صلى اللّه عليه وسلم وفعله عند الريح وغيرها من الشدائد المكروهات، فأين هذا ممن يستغيث بغير اللّه من الطواغيت والأموات، فيقولون: يا فلان الزمها أو أزلها. فاللّه المستعان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: تفسير القرآن (4829) , ومسلم: صلاة الاستسقاء (899) , وأبو داود: الأدب (5098) , وابن ماجه: الدعاء (3891) , وأحمد (6/66 ,6/240).
2 سورة الأحقاف آية: 24.(5/396)
[53- باب قول اللّه تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ...}1]
ش: أراد المصنف بهذه الترجمة التنبيه على وجوب حسن الظن باللّه، لأن ذلك من واجبات التوحيد، ولذلك ذم اللّه من أساء الظن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية: 154.(5/397)
ص -583- ... من حسن الظن ما يناسب كل اسم وصفة، لأن كل صفة لها عبودية خاصة، وحسن ظن خاص. وقد جاء الحديث القدسي، قال اللّه تعالى:"أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني"1. رواه البخاري ومسلم. وعن جابر رضي اللّه عنه:"أنه سمع النبي صلى اللّه عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن باللّه عزّ وجل"2. رواه مسلم وأبو داود. وفي حديث عند أبي داود وابن حبان:"حسن الظن من حسن العبادة"3. رواه الحاكم، ولفظهما:"حسن الظن باللّه من حسن العبادة"4.
قوله: { يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ}5. قال ابن القيم: ثم أخبر عن الكلام الذي صدر عن ظنهم الباطل وهو قولهم: {هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ}6. وقولهم: { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}7. فليس مقصودهم بالكلمة الأولى والثانية إثبات القدر ورد الأمر كله للّه، ولو كان مقصودهم لما ذموا عليه، ولما حسن الرد عليهم بقوله: { قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}8. ولا كان مصدر هذا الكلام ظن الجاهلية، ولهذا قال غير واحد من المفسرين: إن ظنهم الباطل ههنا هو التكذيب بالقدر، وظنهم أن الأمر لو كان إليهم لكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه تبعًا لهم يسمعون منهم، لما أصابهم القتل، ولكان التصرف والظفر لهم، فكذبهم اللّه عزّ وجل في هذا الظن الباطل الذي هو ظن الجاهلية، وهو الظن المنسوب إلى أهل الجهل الذين يزعمون بعد نفاذ القضاء والقدر الذي لم يكن بد من نفاذه: أنهم كانوا قارين على دفعه وأن الأمر لو كان إليهم لما نفذ(5/398)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: التوحيد (7405) , ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2675) , والترمذي: الزهد (2388) والدعوات (3603) , وابن ماجه: الأدب (3822) , وأحمد (2/251 ,2/354 ,2/391 ,2/413 ,2/445 ,2/480 ,2/482 ,2/515 ,2/517 ,2/524 ,2/534).
2 مسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2877) , وأبو داود: الجنائز (3113) , وابن ماجه: الزهد (4167) , وأحمد (3/293 ,3/315 ,3/325 ,3/330 ,3/334 ,3/390).
3 أبو داود: الأدب (4993) , وأحمد (2/407).
4 الترمذي: الدعوات (3970) , وأبو داود: الأدب (4993) , وأحمد (2/297 ,2/304 ,2/359 ,2/407).
5 سورة آل عمران آية: 154.
6 سورة آل عمران آية: 154.
7 سورة آل عمران آية: 154.
8 سورة آل عمران آية: 154.(5/399)
ص -584- ... القضاء، فأكذبهم اللّه بقوله: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}1. فلا يكون إلا ما سبق به قضاؤه وقدره، وجرى به قلمه وكتابه السابق، وما شاء اللّه كان ولا بد، شاء الناس أم أبوا، وما لم يشأ لم يكن، شاءه الناس أو لم يشاؤوه، وما جرى عليكم من الهزيمة والقتل فبأمره الكوني الذي لا سبيل إلى دفعه، سواء كان لكم من الأمر شيء أو لم يكن، فإنكم لو كنتم في بيوتكم وقد كتب القتل على بعضكم; لخرج من كتب عليه القتل من بيته إلى مضجعه ولا بد، سواء كان له من الأمر شيء أو لم يكن. وهذا من أظهر الأشياء إبطالاً لقول القدرية النفاة، الذين يجوزون أن يقع ما لا يشاء اللّه وأن يشاء ما لا يقع.
وقوله: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ}2، أي: يختبر ما فيها من الإيمان والنفاق. فالمؤمن لا يزداد بذلك إلا إيمانًا وتسليمًا، والمنافق ومن في قلبه مرض لا بد أن يظهر ما في قلبه على جوارحه ولسانه.
قوله: {وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ}3، هذه حكمة أخرى، وهي تمحيص ما في قلوب المؤمنين وهو تخليصه وتنقيته وتهذيبه، فإن القلوب يخالطها تغليب الطباع وميل النفوس، وحكم العادة، وتزيين الشيطان، واستيلاء الغفلة مما يضاد ما أودع فيها من الإيمان والإسلام والبر والتقوى فلو تركت في عافية دائمة مستمرة، لم تتخلص من هذه المخاطر ولم تتمحص منه، فاقتضت حكمة العزيز الرحيم أن قيض لها من المحن والبلايا ما يكون كالدواء الكريه لمن عرض له داء إن لم يتداركه طبيب بإزالته وتنقيته ممن هو في جسده، وإلا خيف عليه من الفساد والهلاك، فكانت نعمته سبحانه عليهم بهذه الكثرة والهزيمة، وقتل من قتل منهم تعادل4 نعمته عليهم بنصره،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية: 154.
2 سورة آل عمران آية: 154.
3 سورة آل عمران آية: 154.
4 في الطبعة السابقة: "تعاد ".(5/400)
ص -585- ... وتأييدهم وظفرهم بقدرتهم، فله عليهم النعمة التامة في هذا وهذا.
قوله: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ}1. يعني أهل الإيمان واليقين والثبات والتوكل الصادق، وهم الجازمون بأن اللّه عزّ وجل سينصر رسوله، وينجز له مأموله، ولهذا قال: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ}2، يعني: لا يغشاهم النعاس من القلق: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}3، كما قال في الآية الأخرى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ}4. وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفاصلة وأن الإسلام قد باء وأهله.
قال ابن القيم: ظن الجاهلية: هو المنسوب إلى أهل الجهل وظن غير الحق، لأنه غير ما يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العلا وذاته المبرأة من من كل عيب وسوء، أو خلاف ما يليق بحكمته وحمده وتفرده بالربوبية والإلهية، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه. وقد ذكر المؤلف تفسير ابن القيم لهذه الآية، وهو أحسن ما قيل فيها وسيأتي ما يتعلق به إن شاء اللّه تعالى.
قوله: {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ}5. هذا أيضًا من حكاية مقال المنافقين. والظاهر أن المعنى: إنا أخرجنا كرهًا، ولو كان الأمر إلينا ما خرجنا، كما أشار إليه ابن أبي بذلك، ولفظه استفهام، ومعناه النفي، أي: ما إن شيء من الأمر، أي: أمر الخروج، وقيل غير ذلك فرد اللّه عليهم بقوله: {إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}6، أي: ليس لكم من الأمر شيء ولا لغيركم، بل الأمر كله للّه، فهو الذي إذا شاء فلا مرد له.
وقوله: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}7، تقدم الكلام عليها في باب ما جاء في ال "لو".
وقوله: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ(5/401)
مَا فِي صُدُورِكُمْ}8، أي: قدر اللّه هذه الهزيمة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية: 154.
2 سورة آل عمران آية: 154.
3 سورة آل عمران آية: 154.
4 سورة الفتح آية: 12.
5 سورة آل عمران آية: 154.
6 سورة آل عمران آية: 154.
7 سورة آل عمران آية: 154.
8 سورة آل عمران آية: 154.(5/402)
ص -586- ... والقتل، ليختبر اللّه ما في صدوركم بأعمالكم، لأنه قد علمه غيبًا فيعلمه شهادة لأن المجازاة إنما تقع على من يعلم مشاهدة، لا على ما هو معلوم منهم غير مغمور { وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ }1 أي: يطهرها من الشدة والمرض بما يريكم من عجائب آياته وباهر قدرته، وهذا خاص بالمؤمنين دون المنافقين{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}2 قيل معناه: إن اللّه لا يبتليكم ليعلم ما في صدوركم فإنه عليم بذلك وإنما ابتلاكم ليظهر أسراركم. واللّه أعلم.
قال وقوله: { الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ}3.
ش: قال ابن كثير: يتهمون اللّه تعالى في حكمه، ويظنون بالرسول صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه أن يقتلوا ويذهبوا بالكلية، ولهذا قال:{ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ}4
أي: أبعدهم من رحمته{ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}5.
[بعض أنواع ظن السوء برب العالمين]
قال ابن القيم في الآية الأولى: فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وفسر أن ما أصابهم لم يكن بقدر اللّه وحكمته، ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله، وأن يظهره على الدين كله، وهذا هو ظن السوء الذي ظن المنافقون والمشركون في سورة الفتح، وإنما كان هذا ظن السوء، لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه، وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق، فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره، أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة; فـ{ ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}6. وأكثر الناس يظنون باللّه ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم، فقَلَّ من(5/403)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية: 154.
2 سورة آل عمران آية: 154.
3 سورة الفتح آية: 6.
4 سورة الفتح آية: 6.
5 سورة الفتح آية: 6.
6 سورة ص آية: 27.(5/404)
ص -587- ... يسلم من ذلك إلا من عرف اللّه وأسماءه وصفاته، وهو موجب حكمته وحمده، فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا، وليتب إلى اللّه تعالى ويستغفره من ظنه بربه ظن السوء، ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتًا على القدر، وملامة له، يقول: إنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم؟
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ... وإلا فإني لا إخالك ناجيًا.
ش: قوله:"فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله". إلى آخره. هذا تفسير غير واحد من المفسرين وهو مأخوذ من تفسير قتادة والسدي، وذكر ذلك عنهما ابن جرير وغيره بالمعنى.
وقوله:"وإن أمره سيضمحل". أي: سيذهب جملة حتى لا يبقى له أثر. والاضمحلال: ذهاب الشيء جملة.
قوله:"وفسر أن ما أصابهم لم يكن بقدر اللّه وحكمته". قال القرطبي: وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}1 يعني التكذيب بالقدر وذلك أنهم تكلموا فيه، فقال اللّه: قل إن الأمر كله للّه، يعني: القدر خيره وشره من اللّه.
وأما تفسيره بإنكار الحكمة، فلم أقف عليه عن السلف، فهو تفسير صحيح فمن أنكر أن ذلك لم يكن لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد والشكر، فقد ظن باللّه ظن السوء، وقد أشار تعالى إلى بعض الحكم والغايات المحمودة في ذلك، في سورة"آل عمران"فذكر شيئًا كثيرًا منها في الآية المفسرة: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}2. فهذا بعض الحكمة في ذلك. فمن أنكره، فقد ظن ظن السوء باللّه وحكمته وعلمه ورحمته لكمال علمه وقدرته ورحمته، ولأن من أسمائه الحق، وذلك هو موجب لهيبته وربوبيته.
قوله:"لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه". أي: لأن الذي يليق به
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية: 154.
2 سورة آل عمران آية: 154.(5/405)
ص -588- ... سبحانه أنه يظهر الحق على الباطل وينصره، فلا يجوز في عقل ولا شرع أن يظهر الباطل على الحق. قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ }1. وقال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً}2.
قوله:"ولا يليق بحكمته وحمده"، أي: إن الذي يليق بحكمته وحمده أن لا يكون في السموات ولا في الأرض حركة ولا سكون إلا وله في ذلك الحكمة البالغة والحمد الكامل التام عليها، فكيف بمثل هذا الأمر العظيم الذي وقع على سيد المرسلين صلى اللّه عليه وسلم وعلى سادات الأولياء، رضي الله عنهم، فله سبحانه وتعالى في ذلك الحكمة، وله عليه الحمد، بل والشكر. ومن تأمل ما في سورة"آل عمران: [121-179]" في سياق القصة; رأى من ذلك العجب، فمن ظن باللّه تعالى أنه لا يفعل ذلك بقدرة وحكمة يستحق عليها الحمد والشكر، فقد ظن به ظن السوء.
قوله:"فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق"، فهذا ظن السوء، لأنه نسبه - أي سبحانه - إلى ما لا يليق بجلاله وكماله ونعوته وصفاته، فإن حمده وحكمته وعزته تأبى ذلك، وتأبى أن يذل حزبه وجنده وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين المعاندين له، فمن ظن به ذلك، فما عرفه ولا عرف أسماءه وصفاته وكماله.
قوله:"أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره"، أي: فذلك ظن السوء، لأنه نسبة له إلى ما لا يليق بربوبيته وملكه وعظمته.
قوله:"أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد"، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}3.
قال ابن القيم: وكذلك من أنكر أن يكون قدر ما قدره من ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنبياء آية: 18.
2 سورة الإسراء آية: 81.
3 سورة ص آية: 27.(5/406)
ص -589- ... وغيره لحكمة بالغة وغاية محمودة يستحق عليها الحمد، وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردة عن حكمة وغاية مطلوبة هي أحب إليه من فواتها1. وأن تلك الأسباب المكروهة المفضية إليها لا يخرج تقديرها عن الحكمة لانضمامها إلى ما يحب، وإن كانت مكروهة له، فما قدرها سدى ولا شاءها عبثًا، ولا خلقها باطلاً {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}2.
قوله:"ووعده الصادق"؛ لأن اللّه تعالى وعد رسوله صلى اللّه عليه وسلم أن يظهر أمره ودينه على الدين كله {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التّوبة، من الآية: 33، والصّفّ من الآية: 9]، فمن ظن به تعالى أن دين نبيه سيضمحل ويبطل، ولا يظهر على الدين كله، فقد ظن به ظن السوء، لأنه ظن أنه يخلف الميعاد واللّه تعالى لا يخلف الميعاد.
قوله:"وأكثر الناس يظنون باللّه ظن السوء"، فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم. قال ابن القيم: فمن قنط من رحمته، وأيس من روحه، فقد ظن به ظن السوء، ومن جوز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم ويسوي بينهم وبين أعدائه، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه يترك خلقه سدى معطلين عن الأمر والنهي، ولا يرسل إليهم رسله، ولا ينْزل إليهم كتبه، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه لن يجمعهم بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازي فيها المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه، ويظهر للعالمين كلهم صدقه، وصدق رسله، وأن أعداءه كانوا هم الكافرين، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصًا لوجهه على امتثال أمره، ويبطله عليه بلا سبب من العبد، أو أنه يعاقبه [بما لا صنع له فيه، ولا اختيار له، ولا قدرة ولا إرادة له في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الطبعة السابقة: قوتها.
2 سورة ص آية: 27.(5/407)
ص -590- ... حصوله، بل يعاقبه] على فعله سبحانه به، أو ظن به أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه ورسله، [ويُجْريها على أيديهم ليُضلّوا بها عباده]، وأنه يحسن منه كل شيء حتى يعذب من أفنى عمره في طاعته، أي: كمحمد صلى اللّه عليه وسلم فيخلده في الجحيم، أو في أسفل سافلين، وينعم من استنفد عمره في عداوته، وعداوة رسله ودينه، كأبي جهل فيرفعه إلى أعلى عليين، وكلا الأمرين في الحسن سواء عنده، ولا يعرف امتناع أحدهما، ووقوع الآخر إلا بخبر صادق، وإلا فالعقل لا يقضي بقبح أحدهما، وحسن الآخر، فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل، وتشبيه وتمثيل، وترك الحق لم يخبر به، وإنما رمز إليه1 رموزًا بعيدة، وصرح دائمًا بالتشبيه والتمثيل والباطل، وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه، وتأويله على غير تأويله، وإعانتهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم لا على كتابه مع قدرته على أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به، ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل; فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن به أن يكون له في ملكه ما لا يشاء ولا يقدر على إيجاده وتكوينه، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه لا سمع له، ولا بصر، ولا علم، ولا إرادة، ولا كلام يقوم به، وأنه لم يكلم أحدًا من الخلق، ولا يتكلم أبدًا، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه ليس فوق سماواته على عرشه بائنًا من خلقه، وأن نسبة ذاته تعالى إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل سافلين، وأنه أسفل كما أنه أعلى، وأن من قال: سبحان ربي الأسفل كمن قال: سبحان ربي الأعلى، فقد ظن به أقبح الظن، ومن ظن أنه يحب الكفر والفسوق والعصيان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الطبعة السابقة: إليهم.(5/408)
ص -591- ... والفساد، ولا يحب الإيمان والبر والطاعة والصلاح، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه لا يحب، ولا يرضى، ولا يغضب، ولا يوالي، ولا يعادي، ولا يقرب من أحد من خلقه، ولا يقرب عنده أحد، وأن ذوات الشياطين في القرب منه، كذوات الملائكة المقربين، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه يسوي بين المتضادين، أو يفرق بين المتساويين في كل وجه، أو يحبط طاعات العمر المديد الخالصة الصواب بكبيرة واحدة تكون بعدها، فيخلده في الجحيم لتلك الكبيرة، كما يخلد من لم يؤمن به طرفة عين، واستنفد عمره في مساخطه، ومعاداة رسله ودينه; فقد ظن به ظن السوء.
وبالجملة فمن ظن به خلاف ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله، أو عطل حقائق ما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أن له ولدًا أو شريكًا، أو أن أحدًا يشفع عنده بدون إذنه، أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه، أو أنه نصب لعباده أولياء من دونه، يتقربون بهم إليه، ويجعلونهم وسائط بينه وبينهم فيدعونهم، ويخافونهم، ويرجونهم; فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه، ومن ظن به أنه ينال ما عنده بمعصيته ومخالفته، كما ينال بطاعته، والتقرب إليه، فهو من ظن السوء، ومن ظن أنه إذا ترك لأجله شيئًا لم يعوضه خيرًا منه، أو من فعل شيئًا لأجله، لم يعطه أفضل منه، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه يغضب على عبده، ويعاقبه بغير جرم، ولا سبب من العبد إلا بمجرد المشيئة; فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه إذا صدق في الرغبة والرهبة، وتضرع إليه وسأل واستعان به، وتوكل عليه أنه يخيبه، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن أنه يثيبه إذا عصاه، كما يثيبه إذا أطاعه، وسأله ذلك في دعائه، فقد ظن به خلاف ما هو أهله، وما لا يفعله، ومن ظن أنه إذا أغضبه وأسخطه، ووقع في معاصيه، ثم اتخذ من دونه أولياء، ودعا من دونه ملكًا، أو بشرًا حيًا أو ميتًا يرجو بذلك(5/409)
ص -592- ... أن ينفعه عند ربه، ويخلصه من عذابه، فقد ظن به ظن السوء، ومن ظن به أنه يسلط على رسوله محمد صلى اللّه عليه وسلم أعداءه تسليطًا مستقرًا دائمًا في حياته ومماته، وابتلاه بهم لا يفارقونه، فلما مات استبدوا بالأمر دون وصيه، وأهل بيته، وسلبوهم حقهم، وأذلوهم من غير جرم، ولا ذنب لأوليائه، وأهل الحق، وهو يرى ذلك، ويقدر على نصرة أوليائه وحزبه، ولا ينصرهم، ثم جعل المبدلين لدينه مضاجعيه صلى اللّه عليه وسلم في حفرته تسلم أمته عليه وعليهم كل وقت، كما تظنه الرافضة; فقد ظن به أقبح الظن. انتهى اختصارًا. وهو ينبهك على إحسان الظن باللّه في كل شيء.
فليعتن اللبيب. اللب: العقل، واللبيب العاقل.
قوله:"ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتًا على القدر"، وملامة له، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا.
قلت: بل يبوحون بذلك، ويصرحون به جهارًا في أشعارهم وكلامهم.
قال ابن عقيل في"الفنون": الواحد من العوام إذا رأى مراكب مقلدة بالذهب والفضة، ودارًا مشيدة مملوءة بالخدم والزينة، قال: انظر إلى إعطائهم مع سوء أفعالهم، ولا يزال يلعنهم، ويذم معطيهم حتى يقول: فلان يصلي الجماعات والجمع، ولا يؤذي الذر، ولا يأخذ ما ليس له، ويؤدي الزكاة إذا كان له مال، ويحج ويجاهد، ولا ينال خلة بقلبه، ويظهر الإعجاب كأنه ينطق إنه لو كانت الشرائع حقًّا لكان الأمر بخلاف ما ترى، وكان الصالح غنيًّا، والفاسق فقيرًا.
قال أبو الفرج ابن الجوزي: وهذه حالة قد شملت خلقًا كثيرًا من العلماء والجهال، أولهم إبليس فإنه نظر بعقله، فقال: كيف يفضل الطين على جوهر النار؟! وفي ضمن اعتراضه: إن حكمتك قاصرة وأنا أجود. واتبع إبليس في تفضيله واعتراضه خلق كثير، مثل الراوندي والمعري، ومن قوله:(5/410)
ص -593- ... إذا كان لا يحظى برزقك عاقل ... وترزق مجنونًا وترزق أحمقا
ولا ذنب يا رب السماء على امرئ ... رأى منك ما لا ينتهي فتزندقا
[وأمثال ذلك كثير في أولئك الذين ابتعدوا عن كتاب اللّه وسنة رسوله، وانطلقوا إلى أهوائهم، واعتمدوا على عقولهم القاصرة التي جعلتهم يعترضون على اللّه جل وعلا].
وكان أبو طالب المكي يقول: ليس على المخلوق أضر من الخالق. قال ابن الجوزي: ودخلت على صدقة بن الحسين الحداد، وكان فقيهًا غير أنه كان كثير الاعتراض، وكان عليه جرب، فقال: هذا ينبغي أن يكون على حمد لا علي. وكان يتفقد بعض الأكابر أكولاً، فيقول: بعث لي هذا على الكبر وقت لا أقدر على أكله. وكان رجل يصحبني قد قارب ثمانين سنة، كثير الصلاة والصوم، فمرض واشتد به المرض، فقال: إن كان يريد أن أموت فيميتني، وأما هذا التعذيب، فما له معنى، واللّه لو أعطاني الفردوس كان مكفورًا. ورأيت آخر تزيا بالعلم إذا ضاق عليه رزقه يقول: أيشٍ هذا التدبير؟ وعلى هذا كثير من العوام إذا ضاقت أرزاقهم اعترضوا، وربما قالوا: ما يريد يصلي. وإذا رأوا رجلاً صالحًا مؤذيًا قالوا ما يستحق قدحًا في القدر، وكان قد جرى في زماننا تسلط من الظلمة، وقال بعض من تزيا بالدين: هذا حكم بارد. وما فهم ذلك الأحمق، فإن للّه على الظالم ]أن يسلط عليه أظلم منه]، وفي الحمقى من يقول: أي فائدة في خلق الحيات والعقارب، وما علم أن ذلك نموذج لعقوبة المخالف، وهذا أمر قد شاع، ولهذا مددت النفس فيه.
واعلم أن المعترض قد ارتفع أن يكون شريكًا وعلا الخالق بالحكم عليه، وهؤلاء كلهم كفرة، لأنهم رأوا حكمة الخالق قاصرة، وإذا كان قد توقف القلب عن الرضى بحكم الرسول صلى اللّه عليه وسلم يخرج عن الإيمان. قال:{ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ }1. فكيف يصح الإيمان مع الاعتراض على اللّه؟ وكان في زمن ابن عقيل رجل رأى بهيمة على غاية من السقم،(5/411)
فقال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية: 65.(5/412)
ص -594- ... وارحمتي1 لك، واقلة حيلتي في إقامة التأويل لمعذبك. فقال له ابن عقيل: إن لم تقلد على حمل هذا الأمر لأجل رقبتك الحيوانية ومناسبتك الجنسية، فعندك عقل تعرف به حكم الصانع وحكمته يوجب عليك التأويل، فإن لم تجد استطرحت الفاطر العقل، حيث خانك العقل عن معرفة الحكمة في ذلك. انتهى.
قوله:"وفتش نفسك هل أنت سالم؟". قال ابن القيم: أكثر الخلق إلا من شاء اللّه يظنون باللّه غير الحق، وظن السوء، فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق، ناقص الحظ، وأنه يستحق فوق ما أعطاه اللّه، ولسان حاله يقول: ظلمني ربي، ومنعني ما أستحقه، ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكره، ولا يتجاسر على التصريح به، ومن فتش نفسه، وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها، رأى ذلك فيها كامنًا كمون النار في الزناد، فاقرع زناد من شئت ينبئك شرارها عما في زناده، فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع، وليتب إلى اللّه ويستغفره كل وقت من ظنه بربه ظن السوء، وليظن السوء بنفسه التي هي مأوى كل سوء وصنيع كل شر، المركبة على الجهل والظلم، فهو أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، وأرحم الراحمين، الغني الحميد الذي له الغنى التام، والحكمة التامة، المنَزَّه عن كل سوء في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه، فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه، وصفاته كذلك وأفعاله كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل، وأسماؤه كلها حسنى.
فلا تظنن بربك ظن سوء ... فإن اللّه أولى بالجميل.
ولا تظنن بنفسك قط خيرًا ... فكيف بظالم جان جهول
وظن بنفسك السوأى تجدها ... كذاك وخيرها كالمستحيل
وما بك من تقى فيها وخير ... فتلك مواهب الرب الجليل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الطبعة السابقة: وراحمتي.(5/413)
ص -595- ... وليس لها ولا منها ولكن ... من الرحمن فاشكر للدليل.
قوله:"فإن تنج منها". أي: من هذه الخصلة العظيمة.
قوله:"من ذي عظيمة". أي: تنج من شر عظيم.
قوله:"وإني لا إخا لك". هو بكسر الهمزة. أي: أظنك واللّه أعلم.
[54- باب ما جاء في منكري القدر]
ش: أي من الوعيد. والقدر بالفتح والسكون: ما يقدره اللّه من القضاء. ولما كان توحيد الربوبية لا يتم إلا بإثبات القدر. ـ قال القرطبي: القدر: مصدر قدرت الشيء بتخفيف الدال أقدره وأقدره قدرًا وقدرًا إذا حصلت بمقداره، ويقال فيه: قدرت أقدر تقديرًا مشدد الدال ـ، فإذا قلنا: إن اللّه تعالى قدر الأشياء، فمعناه: إنه تعالى علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه، فلا محدث في العالم العلوي والسفلي إلا هو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته، هذا هو المعلوم من دين السلف الماضين الذي دلت عليه البراهين; ذكر المصنف ما جاء في الوعيد فيمن أنكره تنبيهًا على وجوب الإيمان، ولهذا عده النبي صلى اللّه عليه وسلم من أركان الإيمان كما ثبت في حديث جبريل عليه السلام لما سئل عن الإيمان، فقال:"أن تؤمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره قال: صدقت"1. وعن عبد اللّه بن عمرو بن العاص. قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:"إن اللّه تعالى كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة قال: وكان عرشه على الماء"2. وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:"كل شيء بقدر حتى العجز والكيس"3. رواهما مسلم في"صحيحه"وعن علي رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:"لا يؤمن عبد حتى يؤمن(5/414)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/27 ,1/28 ,1/51 ,1/52 ,2/107).
2 مسلم: القدر (2653) , والترمذي: القدر (2156) , وأحمد (2/169).
3 مسلم: القدر (2655) , وأحمد (2/110) , ومالك: الجامع (1663).(5/415)
ص -596- ... بأربع:يشهد أن لا إله إلا اللّه، وأني رسول اللّه بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، والبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر"1.
رواه الترمذي، وابن ماجة، والحاكم في"مستدركه". والأحاديث في ذلك كثيرة جدًّا، قد أفردها العلماء بالتصنيف.
قال البغوي في"شرح السنة": الإيمان بالقدر فرض لازم، وهو أن يعتقد أن اللّه تعالى خالق أعمال العباد خيرها وشرها كتبها عليهم في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم. قال اللّه تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}2. فالإيمان والكفر،[والطاعة والمعصية كلها بقضاء اللّه وقدره وإرادته ومشيئته غير أنه يرضى الإيمان والطاعة]3. ووعد عليهما الثواب، ولا يرضى الكفر والمعصية وأوعد عليهما بالعقاب. قال اللّه تعالى: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}4.قال: والقدر سر من أسرار اللّه تعالى لم يطلع عليه ملكًا مقربًا، ولا نبيًا مرسلاً، ولا يجوز الخوض فيه والبحث عنه بطريق العقل، بل يعتقد أن اللّه تعالى خلق الخلق، فجعلهم فريقين: أهل يمين خلقهم للنعيم فضلاً، وأهل شمال خلقهم للجحيم عدلاً. قال اللّه تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ }5. وقد"سأل رجل علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر. قال: طريق مظلم، فلا تسلكه، فأعاد السؤال فقال: بحر عميق لا تلجه، فأعاد السؤال فقال: سر اللّه خفي عليك فلا تفشه".
وقال شيخ الإسلام: "مذهب أهل السنة في هذا الباب وغيره ما دل عليه الكتاب والسنة، وكان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وهو أن اللّه خالق كل شيء وربه ومليكه، وقد دخل في ذلك جميع الأعيان القائمة بأنفسها وصفاتها القائمة بها من أفعال العباد وغير أفعال(5/416)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: القدر (2145) , وابن ماجه: المقدمة (81).
2 سورة الصافات آية: 96.
3 ما بين المعقفين استدركناه من شرح السنة.
4 سورة إبراهيم آية: 27.
5 سورة الأعراف آية: 179.(5/417)
ص -597- ... العباد، وأنه سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في الوجود شيء إلا بمشيئته وقدرته، لا يمتنع عليه شيء شاءه، بل هو قادر على كل شيء، ولا يشاء شيئًا إلا وهو قادر عليه، وأنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فقد دخل في ذلك أفعال العباد وغيرها، وقد قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم، قدر أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم، وكتب ذلك وكتب ما يصيرون إليه من سعادة وشقاوة، فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء، وقدرته على كل شيء، ومشيئته لكل ما كان، وعلمه بالأشياء قبل أن تكون، وتقديره لها وكتابته إياها قبل أن تكون. وغلاة القدرية ينكرون علمه المتقدم وكتابته السابقة، ويزعمون أنه أمر ونهي، وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه، بل الأمر أنف، أي: مستأنف.
وهذا القول أول ما حدث في الإسلام بعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين، وبعد إمارة معاوية بن أبي سفيان في زمن الفتنة التي كانت بين ابن الزبير وبين أمية في آخر عصر عبد اللّه بن عمر، وعبد اللّه بن عباس وغيرهما من الصحابة، وكان أول من ظهر ذلك عنه بالبصرة معبد الجهني، فلما بلغ الصحابة قول هؤلاء تبرءوا منهم وأنكروا مقالتهم، ثم لما كثر خوض الناس في القدر صار جمهورهم يقر بالعلم المتقدم والكتاب السابق، ولكن ينكرون عموم مشيئة اللّه وعموم خلقه وقدرته، ويظنون أنه لا معنى لمشيئته إلا أمره، فما شاء فقد أمر به، وما لم يشأ لم يأمر به; فلزمهم أنه قد يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء. وأنكروا أن يكون اللّه خالقًا لأفعال العباد، أو قادرًا عليها، أو أن يخص بعض عباده من النعم مما يقتضي إيمانهم به وطاعتهم له.
وزعموا أن نعمته التي بها يمكن الإيمان والعمل الصالح على الكفار كأبي جهل وأبي لهب مثل نعمته بذلك على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، بمنْزلة رجل دفع إلى والديه بمال قسمه بينهم بالسوية، ولكن هؤلاء أحدثوا أعمالهم الصالحة، وهؤلاء أحدثوا أعمالهم(5/418)
ص -598- ... الفاسدة من غير نعمة خص اللّه بها المؤمنين، وهذا قول باطل، وقد قال اللّه تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}1. وقال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}2.
وقال ابن القيم ما معناه: مراتب القضاء والقدر أربع مراتب:
الأولى: علم الرب سبحانه بالأشياء قبل كونها.
الثانية: كتابة ذلك عنده في الأزل قبل خلق السموات والأرض.
الثالثة: مشيئته المتناولة لكل موجود فلا خروج لكائن كما لا خروج له عن علمه.
الرابعة: خلقه لها وإيجاده وتكوينه، فاللّه خالق كل شيء، وما سواه مخلوق.
[الإيمان بالقدر خيره وشره]
قال: وقال ابن عمر: "والذي نفس ابن عمر بيده لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبًا ثم أنفقه في سبيل اللّه ما قبله اللّه منه حتى يؤمن بالقدر. ثم استدل بقول النبي صلى اللّه عليه وسلم:"الإيمان أن تؤمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"3 رواه مسلم.
ش: قوله:"وقال ابن عمر": هو عبد اللّه بن عمر بن الخطاب.
قوله:"لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبًا، ثم أنفقه في سبيل اللّه ما قبله اللّه منه..." إلخ. هذا قول ابن عمر لغلاة القدرية الذين أنكروا أن يكون اللّه تعالى عالمًا بشيء من أعمال العباد قبل وقوعها منهم، وإنما يعلمها بعد كونها منهم كما تقدم عنهم. قال القرطبي: ولا شك في تكفير من يذهب إلى ذلك، فإنه جحد معلوم من الشرع بالضرورة،(5/419)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحجرات آية: 17.
2 سورة الحجرات آية: 8-7.
3 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/27 ,1/28 ,1/51 ,1/52 ,2/107).(5/420)
ص -599- ... ولذلك تبرأ منهم ابن عمر، وأفتى بأنهم لا تقبل منهم أعمالهم ولا نفقاتهم، وأنهم كمن قال اللّه فيهم:{ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ}1. وهذا المذهب قد ترك اليوم، فلا يعرف من ينسب إليه من المتأخرين من أهل البدع المشهورين. فقال شيخ الإسلام لما ذكر كلام ابن عمر هذا: وكذلك كلام ابن عباس، وجابر بن عبد اللّه، وواثلة بن الأسقع وغيرهم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسائر أئمة المسلمين فيهم كثير، حتى قال فيهم الأئمة، كمالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل وغيرهم: "إن المنكرين لعلم اللّه المتقدم ينكرون القدر"2.
وقوله:"ثم استدل بقول النبي صلى اللّه عليه وسلم"الإيمان أن تؤمن باللّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"3. فجعل النبي صلى اللّه عليه وسلم في هذا الحديث كأنه لما سئل عن الإسلام، ذكر أركان الإسلام الخمسة لأنها أصل الإسلام، ولما سئل عن الإيمان أجاب بقوله:"أن تؤمن باللّه..." إلى آخره. فيكون المراد حينئذ بالإيمان جنس تصديق القلب، وبالإسلام جنس العمل، والقرآن والسنة مملوءان بإطلاق الإيمان على الأعمال، كما هما مملوءان بإطلاق الإسلام على الإيمان الباطن، مع ظهور دلالتهما أيضًا على الفرق بينهما، ولكن حيث أفرد أحد الاسمين دخل فيه الآخر، وإنما يفرق بينهما حيث فرق بين الاسمين، ومن أراد تحقيق ما أشرنا إليه فليراجع كتاب"الإيمان"الكبير لشيخ الإسلام.
إذا تبين هذا، فوجه استدلال ابن عمر بالحديث من جهة أن النبي صلى اللّه عليه وسلم عد الإيمان بالقدر من أركان الإيمان، فمن أنكره لم يكن مؤمنًا، إذ الكافر(5/421)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية: 54.
2 كلمة القدر لم تكن في الأصل, ولكن يقتضيها سياق الكلام.
3 مسلم: الإيمان (8) , والترمذي: الإيمان (2610) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4990) , وأبو داود: السنة (4695) , وابن ماجه: المقدمة (63) , وأحمد (1/27 ,1/28 ,1/51 ,1/52 ,2/107).(5/422)
ص -600- ... بالبعض كافر بالكل، فلا يكون مؤمنًا متقيًا، واللّه لا يقبل إلا من المتقين.
وهذا قطعة من حديث جبريل عليه السلام، وقد أخرجه مسلم بطوله أول كتاب الإيمان في"صحيحه"من حديث يحيى بن يعمر عن ابن عمر، ولفظه:"عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحدًا من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبد اللّه بن عمر بن الخطاب داخلاً المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه، والآخر عن شماله، فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي، فقلت: يا أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا أناس يقرؤون القرآن ويتقفرون1 العلم، وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف. قال: فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد اللّه بن عمر: لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبًا فأنفقه، ما قبله اللّه منه حتى يؤمن بالقدر. ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، فقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام.... وذكر الحديث.
وقوله:"خيره وشره"، أي: خير القدر وشره، أي: أنه تعالى قدر الخير والشر قبل خلق الخلق، وأن جميع الكائنات بقضائه وقدره وإرادته، لقوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً}2. {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}3. {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}4
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي يطلبونه ويتتبعونه.
2 سورة الفرقان آية: 2.
3 سورة الصافات آية: 96.
4 سورة القمر آية: 49.(5/423)
ص -601- ... وغير ذلك.
فإن قلت: كيف قال:"وتؤمن بالقدر خيره وشره"وقد قال في الحديث:"والشر ليس إليك"1.
قيل: إثبات الشر في القضاء والقدر إنما هو بالإضافة إلى العبد، والمفعول إن كان مقدرًا عليه، فهو بسبب جهله وظلمه وذنوبه، لا إلى الخالق، فله في ذلك من الحكم ما تقصر عنه أفهام البشر، لأن الشر إنما هو بالذنوب وعقوباتها في الدنيا والآخرة، فهو شر بالإضافة إلى العبد، أما بالإضافة إلى الرب سبحانه وتعالى، فكله خير وحكمة، فإنه صادر عن حكمه وعلمه، وما كان كذلك فهو خير محض بالنسبة إلى الرب سبحانه وتعالى، إذ هو موجب أسمائه وصفاته، ولهذا قال:"والشر ليس إليك"، أي: تمتنع إضافته إليك بوجه من الوجوه، فلا يضاف الشر إلى ذاته وصفاته، ولا أسمائه ولا أفعاله، فإن ذاته منْزهة عن كل شر، وصفاته كذلك، إذ كلها صفات كمال، ونعوت جلال، لا نقص فيها بوجه من الوجوه، وأسماؤه كلها حسنى ليس فيها اسم ذم ولا عيب، وأفعاله حكمة ورحمة ومصلحة وإحسان وعدل، لا تخرج عن ذلك البتة، وهو المحمود على ذلك كله، فتستحيل إضافة الشر إليه، فإنه ليس شر في الوجود إلا الذنوب وعقوبتها، وكونها ذنوبًا تأتي من نفس العبد، فإن سبب الذنب الظلم والجهل، وهما في نفس العبد. فإنه ذات مستلزمة للجهل والظلم، وما فيه من العلم والعدل فإنما حصل له بفضل اللّه عليه، وهو أمر خارج عن نفسه، فمن أراد اللّه به خيرًا أعطاه الفضل فصدر منه الإحسان والبر والطاعة، ومن أراد به شرًّا أمسكه عنه وخلاه ودواعي نفسه وطبعه وموجبها، فصدر عنه موجب الجهل والظلم من كل شر وقبيح، وليس منعه من ذلك شرًّا، وللّه في ذلك الحكمة التامة، والحجة البالغة، فهذا عدله، وذلك فضله يؤتيه من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم، وهو العلي الحكيم. هذا معنى كلام ابن القيم، وهو الحق.(5/424)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (771) , والترمذي: الدعوات (3421 ,3422 ,3423) , والنسائي: الافتتاح (897) , وأبو داود: الصلاة (760) , وأحمد (1/102).(5/425)
ص -602- ... وحاصله أن الشر راجع إلى مفعولاته، لا إلى ذاته وصفاته، ويتبين ذلك بمثال وللّه المثل الأعلى. لو أن ملكًا من ملوك العدل كان معروفًا بقمع المخالفين وأهل الفساد، مقيمًا للحدود والتعزيرات الشرعية على أرباب أصحابها، لعدوا ذلك خيرًا يحمده عليه الملوك، ويمدحه الناس ويشكرونه على ذلك، فهو خير بالنسبة إلى الملوك، يمدح ويثنى به ويشكر عليه وإن كان شرًّا بالنسبة إلى من أقيم عليه، فرب العالمين أولى بذلك، لأن له الكمال المطلق من جميع الوجوه والاعتبارات. وأيضًا فلولا الشر هل كان يعرف الخير؟ فإن الضد لا يعرف إلا بضده، فإن لم تحط به خبرًا فاذكر كلام ابن عقيل في الباب الذي قبل هذا، وأسلم تسلم، واللّه أعلم.
[ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك].
قال:"وعن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه: يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول:" إن أول ما خلق اللّه القلم، فقال: [له] اكتب. قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة"، يا بني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: "من مات على غير هذا فليس مني"1.
ش قوله:"يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان..." إلى آخره. ابنه هذا هو الوليد بن عبادة كما صرح به الترمذي في روايته، وفيه أن للإيمان طعمًا، وهو كذلك، فإن له حلاوة وطعمًا، من ذاقه تسلى به عن الدنيا وما عليها وقد قال النبي صلى اللّه عليه وسلم:"ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان..."2. الحديث وإنما يكون العبد كذلك إذا كان مؤمنًا بالقدر، إذ يمتنع أن توجد الثلاث فيه وهو لا يؤمن بالقدر بل يكذب به ويرد على اللّه كلامه وعلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم مقالته، فإن المحبة التامة تقتضي المتابعة التامة، فمن لم يؤمن بالقدر، لم(5/426)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: السنة (4700).
2 البخاري: الإيمان (16) , ومسلم: الإيمان (43) , والترمذي: الإيمان (2624) , والنسائي: الإيمان وشرائعه (4987 ,4988 ,4989) , وابن ماجه: الفتن (4033) , وأحمد (3/103 ,3/113 ,3/172 ,3/174 ,3/230 ,3/248 ,3/288).(5/427)
ص -603- ... يكن اللّه ورسوله أحب إليه مما سواهما، فلا يجد حلاوة الإيمان ولا طعمه، بل إن كان منكرًا للعلم القديم، فهو كافر كما تقدم، ولهذا روي عن بعض الأئمة القدرية الكبار بإسناد صحيح أنه قال لما ذكر حديث ابن مسعود رضي اللّه عنه:"حدثني الصادق المصدوق...". الحديث: لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته، ولو سمعت زيد بن وهب يقول هذا لأجبته، ولو سمعت عبد اللّه بن مسعود يقول هذا ما قبلته، ولو سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول هذا لرددته، وذكر كلمة بعدها. فهذا كفر صريح نعوذ باللّه من موجبات غضبه، وأليم عقابه.
وقد بين في الحديت كيفية الإيمان بالقدر: أن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وهذا كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم في حديث جابر رضي اللّه عنه:"لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره حتى إن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه"1. رواه الترمذي.
والمعنى: أن العبد لا يؤمن حتى يعلم أن ما يصيبه إنما أصابه في القدر، أي: ما قدر عليه من الخير والشر، لم يكن ليخطئه، أي: يجاوزه فلا يصيبه، وإنما أخطأه من الخير والشر في القدر، أي: لم يقدر عليه، لم يكن ليصيبه، كما قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}2. وقال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}3.
قوله:"إن أول ما خلق اللّه القلم"، قال شيخ الإسلام: قد ذكرنا أن للسلف في العرش والقلم أيهما خلق قبل الآخر قولين، كما ذكر ذلك الحافظ أبو العلاء الهمداني وغيره.
أحدهما: أن القلم خلق أولاً، كما أطلق ذلك غير واحد، وهذا هو الذي يفهم من ظاهر كتب المصنفين في"الأوائل"للحافظ أبو(5/428)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: القدر (2144).
2 سورة الحديد آية: 22.
3 سورة التوبة آية: 51.(5/429)
ص -604- ... عروبة الحراني ولد القاسم الطبراني، للحديث الذي رواه أبو داود في"سننه"عن عبادة ابن الصامت، وذكر الحديث المشروح.
والثاني: أن العرش خلق أولاً. قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في تصنيفه في"الرد على الجهمية1": حدثنا محمد بن كثير العبدي، أنبأنا سفيان الثوري، ثنا أبو هاشم، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:"إن اللّه كان على عرشه قبل أن يخلق شيئًا، فكان أول ما خلق اللّه القلم، فأمره أن يكتب ما هو كائن، وأن ما يجري على الناس على أمر قد فرغ منه" وكذلك ذكر الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب"الأسماء والصفات"لما ذكر بدء الخلق، ثم ذكر حديث الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير،"عن ابن عباس أنه سئل عن قول اللّه تعالى:{ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ }2. على أي شيء [كان الماء]؟ قال: على متن الريح". وروى حديث القاسم بن [أبي بزة]، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه كان يحدث أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال:"أول شيء خلقه اللّه القلم، وأمره فكتب كل شيء يكون" قال البيهقي: "وإنما أراد - واللّه أعلم - أول شيء خلقه بعد خلق الماء والريح والعرش، وذلك في حديث عمران بن حصين الذي أشار إليه، وهو ما رواه البخاري من غير وجه مرفوعًا عنه:"كان اللّه ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء"3. ورواه البيهقي كما رواه محمد بن هارون الروياني في"مسنده"وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهما، من حديث الثقات المتفق على ثقتهم، عن أبي إسحاق، عن الأعمش، عن جامع بن شداد، عن صفوان بن محرز،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو من مطبوعات المكتب الإسلامي.
2 سورة هود آية: 7.
3 مسلم: الفتن وأشراط الساعة (2941) , وأبو داود: الملاحم (4310) , وابن ماجه: الفتن (4069) , وأحمد (2/201).(5/430)
ص -605- ... عن عمران بن حصين عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:"كان اللّه ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، ثم كتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السموات". وذكر أحاديث وآثارًا، ثم قال ما معناه: فثبت في النصوص الصحيحة أن العرش خلق أولاً.
وقال ابن كثير: "قال قائلون: خلق القلم أولاً، وهذا اختيار ابن جرير وابن الجوزي وغيرهما".
قال ابن جرير: "وبعد القلم السحاب الرقيق، وبعده العرش، واحتجوا بحديث عبادة".
والذي عليه الجمهور أن العرش مخلوق قبل ذلك، كما دل على ذلك الحديث الذي رواه مسلم في"صحيحه"يعني حديث عبد اللّه بن عمرو بن العاص الذي تقدم. قالوا: وهذا التقدير هو كتابته بالقلم المقادير، وقد دل الحديث أن ذلك بعد خلق العرش، فثبت تقديم العرش على القلم الذي كتب به المقادير كما ذهب إلى ذلك الجماهير. ويحمل حديث القلم على أنه أول المخلوقات من هذا العالم. انتهى بمعناه.
قوله:"اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة". قال شيخ الإسلام: وكذلك في حديث ابن عباس وغيره، وهذا يبين أنه إنما أمره حينئذ أن يكتب مقدار هذا الخلق إلى قيام الساعة، لم يكن حينئذ ما يكون بعد ذلك.
قوله:"من مات على غير هذا لم يكن مني". أي: لأنه إذا كان جاحدًا للعلم القديم فهو كافر، كما قال كثير من أئمة السلف: ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن جحدوا كفروا. يريدون أن من أنكر العلم القديم السابق بأفعال العباد، وأن اللّه قسمهم قبل خلقهم إلى شقي وسعيد، وكتب ذلك عنده في كتاب حفيظ، فقد كذب القرآن، فيكفر بذلك، كما نص عليه الشافعي وأحمد وغيرهما، وإن أقروا بذلك وأنكروا أن اللّه خلق أفعال العباد، وشاءها وأرادها بينهم إرادة كونية قدرية، فقد خصموا، لأن ما أقروا به حجة عليهم فيما أنكروه. وفي تكفير هؤلاء نزاع مشهور، وبالجملة فهم(5/431)
ص -606- ... أهل بدعة شنيعة، والرسول صلى اللّه عليه وسلم بريء منهم، كما هو بريء من الأولين.
وقد بيض المصنف آخر هذا الحديث ليعزوه، وقد رواه أبو داود وهذا لفظه، ورواه أحمد والترمذي وغيرهما.
[من لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه اللَّه بالنار]
قال: وفي رواية لابن وهب قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:"فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه اللَّه بالنار".
ش: قوله:"وفي رواية لابن وهب". هو الإمام الحافظ عبد اللّه بن وهب بن مسلم القرشي مولاهم المصري الفقيه، ثقة إمام مشهور عابد، له مصنفات، منها"الجامع"وغيره، مات سنة سبع وتسعين ومائة وله اثنان وسبعون سنة.
قوله:"أحرقه اللّه بالنار"، أي: لكفره أو بدعته إن كان ممن يقر بالعلم السابق وينكر خلق أفعال العباد، فإن صاحب البدعة متعرض للوعيد كأصحاب الكبائر، بل أعظم.
قال: وفي"المسند"و"السنن""عن أبن الديلمي قال: أتيت أُبَيَّ بن كعب فقلت: في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل اللّه يذهبه من قلبي. فقال: لو أنفقت مثل أحد ذهبًا ما قبله اللّه منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار. قال: فأتيت عبد اللّه بن مسعود وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت، كلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي صلى اللّه عليه وسلم". حديث صحيح رواه الحاكم في"صحيحه".
ش: قوله: وفي"المسند"، أي"مسند الإمام أحمد"، و"السنن" أي"سنن أبي داود"وابن ماجة فقط، بمعنى ما ذكر المصنف، وفيه زيادة اختصرها المصنف، ولفظ ابن ماجة: حدثنا علي بن محمد، حدثنا إسحاق بن سليمان، قال: سمعت أبا سنان عن وهب بن خالد الحمصي"عن ابن الديلمي قال: وقع في(5/432)
ص -607- ... نفسي شيء من هذا القدر خشيت أن يفسد علي ديني وأمري، فأتيت أُبَيَّ بن كعب، فقلت: يا أبا المنذر إنه قد وقع في قلبي شيء من هذا القدر، فخشيت على ديني وأمري، فحدثني من ذلك بشيء لعل اللّه أن ينفعني. فقال: لو أن اللّه عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم، ولو كان لك مثل أحد ذهبًا أو مثل جبل أحد تنفقه في سبيل اللّه ما قبل منك حتى تؤمن بالقدر فتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وإنك إن مت على غير هذا دخلت النار، ولا عليك أن تأتي يا أخي عبد اللّه بن مسعود فتسأل، فأتيت عبد اللّه فسألته، فذكر مثل ما قال أبي، وقال لي: لا عليك أن تأتي حذيفة، فأتيت حذيفة فسألته، فقال مثل ما قال: ائت زيد بن ثابت فاسأله، فأتيت زيد بن ثابت فسألته فقال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: "لو أن اللّه عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم، ولو كان مثل أحد أو مثل جبل أحد ذهبًا تنفقه في سبيل اللّه ما قبله اللّه منك حتى تؤمن بالقدر كله، فتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وإنك إن مت على غير هذا دخلت النار". هذا حديث ابن ماجة. ولفظ أبي داود كما ذكره المصنف إلا أنه قال: ثم أتيت عبد اللّه بن مسعود فقال مثل ذلك، ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك، ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني عن النبي صلى اللّه عليه وسلم بمثل ذلك.
قوله:"عن ابن الديلمي". هو عبد اللّه بن فيروز الديلمي. وفيروز قاتل الأسود العنسي الكذاب. وعبد اللّه هذا ثقة من كبار التابعين، بل ذكره بعضهم في الصحابة. والديلمي نسبة إلى جبل الديلم، وهو من أبناء الفرس الذين بعثهم كسرى إلى اليمن.
قوله:"وقع في نفسي شيء من القدر". أي: شك أو اضطراب يؤدي إلى شك فيه، أو جحد له.(5/433)
ص -608- ... قوله:"لو أنفقت مثل أحد ذهبًا ما قبله اللّه منك". هذا تمثيل على سبيل الفرض لا تحديد، إذ لو فرض إنفاق ملء السموات والأرض كان ذلك.
قوله:"حتى تؤمن بالقدر". أي: بأن جميع الأمور الكائنة خيرها وشرها، وحلوها ومرها، ونفعها وضرها، وقليلها وكثيرها، وكبيرها وصغيرها بقضائه وقدره وإرادته ومشيئته وأمره، كما ذكر عن علي رضي اللّه عنه 1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إلى هنا قام المؤلف رحمه الله بشرح هذا الكتاب ولم يتيسر له إتمامه, وقد التمسنا من الأستاذ العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم بارك الله فيه أن يتمم شرحه, ولكن الوقت لم يسعفه, فلم نر بدا من إتمام هذا النقص بنقل ما تبقى من أبواب الكتاب مع الشرح من كتاب "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد "للشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى وبالله التوفيق.(5/434)
ص -609- ... [55- باب ما جاء في المصورين]
عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال اللّه تعالى:"ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة"1. أخرجاه.
ولهما عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال:"أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهؤون بخلق اللّه"2.
ولهما عن ابن عباس: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول:"كل مصور في النار، يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم"3.
ولهما عنه مرفوعًا"من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ"4.
ولمسلم عن"أبي الهياج قال: قال لي علي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ "أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته"5.
فيه مسائل:
الأولى: التغليظ الشديد في المصورين.
الثانية: التنبيه على العلة، وهو ترك الأدب مع اللّه، لقوله:"ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي".
الثالثة: التنبيه على قدرته، وعجزهم، لقوله:"فليخلقوا ذرة أو حبة أو شعيرة".
الرابعة: التصريح بأنهم أشد الناس عذابًا.
الخامسة: أن اللّه يخلق بعدد كل صورة نفسًا يعذب بها المصور في جهنم.
السادسة: أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح.
السابعة: الأمر بطمسها إذا وجدت.
ش: قوله: باب ما جاء في المصورين.
أي: من عظيم عقوبة اللّه لهم وعذابه. وقد ذكر النبي صلى اللّه عليه وسلم العلة، وهي المضاهاة بخلق اللّه، لأن اللّه تعالى له الخلق والأمر، فهو رب كل شيء ومليكه، وهو خالق كل شيء، وهو الذي صور جميع المخلوقات، وجعل فيها الأرواح التي تحصل بها الحياة، كما قال اللّه تعالى:{ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ(5/435)
وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ}6. فالمصور لما صور الصورة على شكل ما خلقه اللّه تعالى من إنسان وبهيمة صار مضاهيًا لخلق اللّه، فصار ما صور عذابًا له يوم القيامة، وكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ. فكان أشد الناس عذابًا، لأن ذنبه من أكبر الذنوب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: التوحيد (7559) , ومسلم: اللباس والزينة (2111) , وأحمد (2/232 ,2/259 ,2/391 ,2/451 ,2/527).
2 البخاري: اللباس (5954).
3 مسلم: اللباس والزينة (2110).
4 البخاري: البيوع (2225) والتعبير (7042) , ومسلم: اللباس والزينة (2110) , والترمذي: اللباس (1751) , والنسائي: الزينة (5358 ,5359) , وأبو داود: الأدب (5024) , وأحمد (1/216 ,1/241 ,1/246 ,1/308 ,1/350 ,1/359 ,1/360).
5 مسلم: الجنائز (969) , والترمذي: الجنائز (1049) , والنسائي: الجنائز (2031) , وأبو داود: الجنائز (3218) , وأحمد (1/96).
6 سورة السجدة آية: 7- 9.(5/436)
ص -610- ... فإذا كان هذا فيمن صور صورة على مثال ما خلقه اللّه تعالى من الحيوان، فكيف بحال من سوى المخلوق برب العالمين، وشبهه بخلقه، وصرف له شيئا من العبادة التي ما خلق اللّه الخلق إلا ليعبدوه وحده بما لا يستحقه غيره من كل عمل يحبه اللّه من العبد ويرضاه؟!
فتسوية المخلوق بالخالق بصرف حقه لمن لا يستحقه من خلقه، وجعله شريكًا له فيما اختص به تعالى وتقدس، هو أعظم ذنب عصي اللّه تعالى به. ولهذا أرسل رسله، وأنزل كتبه، لبيان هذا الشرك والنهي عنه، وإخلاص العبادة بجميع أنواعها للّه تعالى. فنجى اللّه تعالى رسله ومن أطاعهم، وأهلك من جحد التوحيد، واستمر على الشرك والتنديد، فما أعظمه من ذنب!{ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}1 {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}2.
قال المصنف رحمه الله تعالى: ولمسلم (969) عن أبي الهياج، قال: قال لي عليّ: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ "ألاّ تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلاّ سويته".
قوله:"ولمسلم عن أبي الهياج الأسدي" - حيان بن حصين -.
قال: قال لي علي رضي اللّه عنه. هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه.
قوله:"ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم؟ "أن لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته".
فيه تصريح بأن النبي صلى اللّه عليه وسلم بعث عليًّا لذلك. أما الصور: فلمضاهاتها لخلق اللّه، وأما تسوية القبور، فلما في تعليتها من الفتنة بأربابها وتعظيمها، وهو من ذرائع الشرك ووسائله، فصرف الهمم إلى هذا وأمثاله من مصالح الدين ومقاصده وواجباته.
ولما وقع التساهل في هذه الأمور وقع المحذور، وعظمت(5/437)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية: 48.
2 سورة الحج آية: 31.(5/438)
ص -611- ... الفتنة بأرباب القبور، وصارت محطًا لرحال العابدين المعظمين لها، فصرفوا لها جل العبادة من الدعاء والاستعانة والاستغاثة، والتضرع لها، والذبح لها، والنذور، وغير ذلك من كل شرك محرّم محظور.
قال العلامة ابن القيم رحمه اللّه: "ومن جمع بين سنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في القبور وما أمر به، وما نهى عنه، وما كان عليه أصحابه، وبين ما عليه أكثر الناس اليوم، رأى أحدهما مضادًا للآخر، مناقضًا له بحيث لا يجتمعان أبدًا.
فنهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور، وهؤلاء يصلون عندها وإليها، ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها المساجد، ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت اللّه، ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها، ونهى عن أن تتخذ عيدًا، وهؤلاء يتخذونها أعيادًا، ومناسك، ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر.
وأمر بتسويتها، كما روى مسلم في"صحيحه"عن أبي الهياج الأسدي... - فذكر حديث الباب - وحديث ثمامة بن شفي، وهو عند مسلم أيضًا قال:"كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس، فتوفي صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسوي، ثم قال: "سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يأمر بتسويتها"1. وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين، يرفعونها عن الأرض كالبيت، ويعقدون عليها القباب. ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه، كما روى مسلم في"صحيحه"عن جابر رضي اللّه عنه قال:"نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن تجصيص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه ونهى عن الكتابة عليها"2.
كما روى أبو داود في"سننه"عن جابر: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم "نهى عن تجصيص القبور، وأن يكتب عليها"3. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وهؤلاء يتخذون عليها الألواح، ويكتبون عليها القرآن وغيره، ونهى أن يزاد عليها غير(5/439)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الجنائز (968) , والنسائي: الجنائز (2030) , وأبو داود: الجنائز (3219) , وأحمد (6/18 ,6/21).
2 مسلم: الجنائز (970) , والترمذي: الجنائز (1052) , والنسائي: الجنائز (2027 ,2028 ,2029) , وأبو داود: الجنائز (3225) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1562) , وأحمد (3/295 ,3/332 ,3/339 ,3/399).
3 مسلم: الجنائز (970) , والترمذي: الجنائز (1052) , والنسائي: الجنائز (2028 ,2029) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1562 ,1563) , وأحمد (3/295 ,3/332 ,3/339).(5/440)
ص -612- ... ترابها؛ كما روى أبو داود عن جابر أيضًا: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم "نهى أن يجصص القبر، أو يكتب عليه، أو يزاد عليه"1. وهؤلاء يزيدون عليه الآجر والجص والأحجار. قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون الآجر على قبورهم.
والمقصود أن هؤلاء المعظمين للقبور، المتخذينها أعيادًا، الموقدين عليها السرج، الذين يبنون عليها المساجد والقباب مناقضون لما أمر به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم محادون لما جاء به، وأعظم ذلك اتخاذها مساجد، وإيقاد السرج عليها وهو من الكبائر، وقد صرح الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم بتحريمه. قال أبو محمد المقدسي: "ولو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله، ولأن فيه تضييعًا للمال في غير فائدة، وإفراطًا في تعظيم القبور أشبه تعظيم الأصنام". قال: "ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر، ولأن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:"لعن اللّه اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا"2. متفق عليه. ولأن تجصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها، وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم والتمسح بها والصلاة عندها". انتهى.
وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجًا، ووضعوا لها مناسك، حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابًا سماه"مناسك حج المشاهد"، مضاهاة منه بالقبور للبيت الحرام، ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الإسلام، ودخول في دين عباد الأصنام، فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقصده من النهي عما تقدم ذكره في القبور، وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه.
ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجز عن حصره. فمنها:
تعظيم الموقع في الافتتان بها.
ومنها: اتخاذها أعيادًا.
ومنها: السفر(5/441)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الجنائز (970) , والترمذي: الجنائز (1052) , والنسائي: الجنائز (2027) , وأبو داود: الجنائز (3225) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1562 ,1563) , وأحمد (3/295 ,3/332 ,3/339).
2 البخاري: الصلاة (436) , ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (531) , والنسائي: المساجد (703) , وأحمد (1/218 ,6/34 ,6/80 ,6/121 ,6/146 ,6/252 ,6/255 ,6/274) , والدارمي: الصلاة (1403).(5/442)
ص -613- ... إليها.
ومنها: مشابهة عباد الأصنام بما يفعل عندها من العكوف عليها والمجاورة عندها، وتعليق الستور عليها، وسندانتها وعبادها يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام، ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد، والويل عندهم لقيمها ليلة يطفأ القنديل المعلق عليها.
ومنها: النذر لها ولسدنتها.
ومنها: اعتقاد المشركين فيها أن بها يكشف البلاء، وينصر على الأعداء، ويستنْزل غيث السماء، وتفرج الكروب، وتقضى الحوائج، وينصر المظلوم، ويجار الخائف إلى غير ذلك.
ومنها: الدخول في لعنة اللّه ورسوله باتخاذ المساجد عليها، وإيقاد السرج عليها.
ومنها: الشرك الأكبر الذي يفعل عندها.
ومنها: إيذاء أصحابها بما يفعله المشركون بقبورهم، فإنهم يؤذيهم ما يفعل عند قبورهم، ويكرهونه غاية الكراهية، كما أن المسيح عليه السلام يكره ما يفعله النصارى عند قبره، وكذلك غيره من الأنبياء والمشايخ يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم، ويوم القيامة يتبرؤون منهم، كما قال تغالى:{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً}1. وقال اللّه تعالى للمشركين:{ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ}2. وقال تعالى:{ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ...}3.وقال تعالى:{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً(5/443)
ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}4.
ومنها: إماتة السنن وإحياء البدع.
ومنها: تفضيلها على خير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الفرقان آية: 17-18.
2 سورة الفرقان آية: 19.
3 سورة المائدة آية: 116.
4 سورة سبأ آية: 40-41.(5/444)
ص -614- ... البقاع وأحبها إلى اللّه، فإن عباد القبور يقصدونها مع التعظيم والاحترام، والخشوع ورقة القلب، والعكوف بالهمة على الموتى ما لا يفعلونه في المساجد، ولا يحصل لهم فيها نظيره ولا قريبًا منه.
ومنها: أن الذي شرعه الرسول صلى اللّه عليه وسلم عند زيارة القبور إنما هو تذكر الآخرة، والإحسان إلى المزور بالدعاء له والترحم عليه، والاستغفار له، وسؤال العافية له، فيكون الزائر محسنًا إلى نفسه وإلى الميت، فقلب هؤلاء المشركون الأمر، وعكسوا الدين، وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت ودعاءه والدعاء به، وسؤاله حوائجهم، واستنْزال البركة منه، ونصره لهم على الأعداء، ونحو ذلك، فصاروا مسيئين إلى أنفسهم وإلى الميت.
وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد نهى الرجال عن زيارة القبور سدًّا للذريعة. فلما تمكن التوحيد في قلوبهم أذن لهم في زيارتها على الوجه الذي شرعه، ونهاهم أن يقولوا هجرًا، ومن أعظم الهجر: الشرك عندها قولاً وفعلاً. وفي"صحيح مسلم"عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:"زوروا القبور، فإنها تذكركم الموت"1. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"مر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه. فقال: السلام عليكم يا أهل القبور، يغفر اللّه لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر"2. رواه أحمد والترمذي وحسنه.
فهذه الزيارة التي شرعها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأمته، وعلمهم إياها. هل تجد فيها شيئًا مما يعتمده أهل الشرك والبدع؟ أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه؟ وما أحسن ما قال مالك بن أنس رحمه اللّه: "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها". ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم، ونقص إيمانهم، أعرضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك.(5/445)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: الجنائز (976) , والنسائي: الجنائز (2034) , وأبو داود: الجنائز (3234) , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1569 ,1572) , وأحمد (2/441).
2 الترمذي: الجنائز (1053).(5/446)
ص -615- ... ولقد جرد السلف الصالح التوحيد وحموا جانبه، حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي صلى اللّه عليه وسلم ثم أراد الدعاء استقبل القبلة، وجعل ظهره إلى جدار القبر، ثم دعا. ونص على ذلك الأئمة الأربعة أنه يستقبل القبلة وقت الدعاء، حتى لا يدعو عند القبر، فإن الدعاء عبادة، وفي الترمذي وغيره مرفوعاً:"الدعاء هو العبادة"1. فجرد السلف العبادة للّه، ولم يفعلوا عند القبور منها إلا ما أذن فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من الدعاء لأصحابها والاستغفار لهم والترحم عليهم.
وأخرج أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:"لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم"2. وإسناده جيد، ورواته ثقات مشاهير.
وقوله:"ولا تجعلوا بيوتكم قبورًا"3. أي: لا تعطلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنْزلة القبور، فأمر بتحري النافلة في البيوت، ونهى عن تحري النافلة عند القبور، وهذا ضد ما عليه المشركون من النصارى وأشباههم. ثم إن في تعظيم القبور، واتخاذها أعيادًا، من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا اللّه ما يغضب لأجله كل من في قلبه وقار للّه وغيرة على التوحيد، وتهجين وتقبيح للشرك، ولكن ما لجرح بميت إيلام.
فمن المفاسد: اتخاذها أعيادًا والصلاة إليها، والطواف بها، وتقبيلها واستلامها، وتعفير الخدود على ترابها، وعبادة أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصر والرزق والعافية وقضاء الديون، وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات، وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم.
فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيدًا، وقد نزلوا عن الأكوار(5/447)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: تفسير القرآن (2969 ,3247) والدعوات (3372) , وأبو داود: الصلاة (1479) , وابن ماجه: الدعاء (3828) , وأحمد (4/267).
2 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/367).
3 أبو داود: المناسك (2042) , وأحمد (2/284 ,2/337 ,2/367 ,2/378 ,2/388).(5/448)
ص -616- ... والدواب إذا رأوها من مكان بعيد، فوضعوا لها الجباه، وقبلوا الأرض، وكشفوا الرؤوس، وارتفعت أصواتهم بالضجيج، وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج، ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يبدئ ولا يعيد، ونادوا ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين، ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ما لم يحرزه من صلى إلى القبلتين، فتراهم حول القبر ركعًا سجدًا، يبتغون فضلاً من الميت ورضوانًا، وقد ملؤوا أكفهم خيبة وخسرانًا. فلغير اللّه - بل للشيطان - ما يراق هناك من العبرات، ويرتفع من الأصوات، ويطلب من الميت من الحاجات، ويسأل من تفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وإغناء ذوي الفاقات، ومعافاة ذوي العاهات والبليات، ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين، تشبيهًا له بالبيت الحرام الذي جعله اللّه مباركًا وهدى للعالمين، ثم أخذوا في التقبيل والاستلام. أرأيت الحجر الأسود وما يفعل به وفد البيت الحرام؟ ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود التي يعلم اللّه أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود. ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند اللّه من خلاق، وقد قربوا لذلك الوثن القرابين، وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير اللّه رب العالمين، فلو رأيتهم يهنئ بعضهم بعضًا ويقول: أجزل اللّه لنا ولكم أجرًا وافرًا وحظًّا، فإذا رجعوا سألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحجة المتخلف إلى البيت الحرام. فيقول: لا ولا بحجك كل عام!!
هذا، ولم نتجاوز فيما حكيناه عنهم، ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم، إذ هي فوق ما يخطر بالبال، أو يدور في الخيال، وهذا مبدأ عبادة الأصنام في قوم نوح كما تقدم.
وكل من شم أدنى رائحة من العلم والفقه يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى هذا المحظور، وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهى عنه وما(5/449)
ص -617- ... يؤول إليه، وأحكم في نهيه عنه وتوعده عليه، وأن الخير والهدى في اتباعه وطاعته، والشر والضلال في معصيته ومخالفته. انتهى كلامه رحمه الله.
[56 باب ما جاء في كثرة الحلف]
وقول اللّه تعالى:{ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ }1.
عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول:"الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب"2. أخرجاه.
وعن سلمان: أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال"ثلاثة لا يكلمهم اللّه ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل اللّه بضاعته، ولا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه"3. رواه الطبراني بسند صحيح.
وفي الصحيح عن عمران بن حصين رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:"خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. - قال عمران: فلا أدري: أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثًا؟ - ثم إن بعدكم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن"4.
وفيه عن ابن مسعود: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:"خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته"5.
وقال إبراهيم: كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار.
فيه مسائل:
الأولى: الوصية بحفظ الأيمان.
الثانية: الإخبار بأن الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للبركة.
الثالثة: الوعيد الشديد فيمن لا يبيع ولا يشتري إلا بيمينه.
الرابعة: التنبيه على أن الذنب يعظم مع قلة الداعي.
الخامسة: ذم الذين يحلفون ولا يستحلفون.
السادسة: ثناؤه صلى اللّه عليه وسلم على القرون الثلاثة أو الأربعة، وذكر ما يحدث.
السابعة: ذم الذين يشهدون ولا يستشهدون.
الثامنة: كون السلف يضربون الصغار على الشهادة والعهد.
قوله: "باب ما جاء في كثرة الحلف".
أي: من النهي عنه والوعيد. وقول اللّه تعالى: { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ(5/450)
}6.
قال ابن جرير: "لا تتركوها بغير تكفير". وذكر غيره من المفسرين عن ابن عباس يريد: لا تحلفوا. وقال آخرون: احفظوا أيمانكم عن الحنث فلا تحنثوا.
والمصنف أراد من الآية المعنى الذي ذكره ابن عباس; فإن القولين متلازمان، فيلزم من كثرة الحلف كثرة الحنث مع ما يدل عليه من الاستخفاف وعدم التعظيم للّه، وغير ذلك مما ينافي كمال التوحيد الواجب أو عدمه.
قوله:"عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول:"الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للبركة"7. أخرجاه. أي: البخاري ومسلم. وأخرجه أبو داود والنسائي.
والمعنى: أنه إذا حلف على سلعة أنه أعطي فيها كذا وكذا، أو أنه اشتراها بكذا وكذا، وقد يظنه المشتري صادقًا فيما حلف عليه، فيأخذها بزيادة على قيمتها، والبائع كذاب، وحلف طمعًا في الزيادة، فيكون قد عصى اللّه تعالى، فيعاقب بمحق البركة، فإذا ذهبت بركة كسبه دخل عليه من النقص أعظم من تلك الزيادة التي دخلت عليه بسبب حلفه، وربما ذهب ثمن تلك السلعة رأسًا، وما عند اللّه لا ينال إلا بطاعته، وإن تزخرفت الدنيا للعاصي، فعاقبتها اضمحلال وذهاب وعقاب.(5/451)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية: 89.
2 البخاري: البيوع (2087) , ومسلم: المساقاة (1606) , والنسائي: البيوع (4461) , وأبو داود: البيوع (3335) , وأحمد (2/235 ,2/242 ,2/413).
3 البخاري: المساقاة (2369) , ومسلم: الإيمان (108) , والترمذي: السير (1595) , والنسائي: البيوع (4462) , وأبو داود: البيوع (3474) , وابن ماجه: التجارات (2207) والجهاد (2870) , وأحمد (2/253 ,2/480).
4 البخاري: المناقب (3650) , ومسلم: فضائل الصحابة (2535) , والترمذي: الفتن (2221 ,2222) , والنسائي: الأيمان والنذور (3809) , وأبو داود: السنة (4657) , وأحمد (4/426 ,4/427 ,4/436 ,4/440).
5 البخاري: المناقب (3651) , ومسلم: فضائل الصحابة (2533) , والترمذي: المناقب (3859) , وابن ماجه: الأحكام (2362) , وأحمد (1/378 ,1/417 ,1/434 ,1/438 ,1/442 ,4/267 ,4/276 ,4/277).
6 سورة المائدة آية: 89.
7 البخاري: البيوع (2087) , ومسلم: المساقاة (1606) , والنسائي: البيوع (4461) , وأبو داود: البيوع (3335) , وأحمد (2/235 ,2/242 ,2/413).(5/452)
ص -618- ... قوله:"وعن سلمان رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال:"ثلاثة لا يكلمهم اللّه ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل اللّه بضاعته، لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه"1. رواه الطبراني بسند صحيح.
و"سلمان"لعله سلمان الفارسي، أبو عبد اللّه، أسلم مقدم النبي صلى اللّه عليه وسلم المدينة وشهد الخندق، روى عنه أبو عثمان النهدي، وشرحبيل بن السمط وغيرهما. قال النبي صلى اللّه عليه وسلم:"سلمان منا أهل البيت، إن اللّه يحب من أصحابي أربعة: عليًّا، وأبا ذر، وسلمان، والمقداد"2. أخرجه الترمذي وابن ماجة.
قال الحسن: كان سلمان أميرًا على ثلاثين ألفًا يخطب بهم في عباءة يفترش نصفها ويلبس نصفها. توفي في خلافة عثمان رضي اللّه عنه. قال أبو عبيدة سنة ست وثلاثين عن ثلاثمائة وخمسين سنة. ويحتمل أنه سلمان بن عامر بن أوس الضبي.
قوله:"ثلاثة لا يكلمهم اللّه"3. نفي كلام الرب تعالى وتقدس عن هؤلاء العصاة دليل على أنه يكلم من أطاعه، وأن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: المساقاة (2369) , ومسلم: الإيمان (108) , والترمذي: السير (1595) , والنسائي: البيوع (4462) , وأبو داود: البيوع (3474) , وابن ماجه: التجارات (2207) والجهاد (2870) , وأحمد (2/253 ,2/480).
2 الترمذي: المناقب (3718) , وابن ماجه: المقدمة (149) , وأحمد (5/351).
3 البخاري: المساقاة (2369) , ومسلم: الإيمان (108) , والترمذي: السير (1595) , والنسائي: البيوع (4462) , وأبو داود: البيوع (3474) , وابن ماجه: التجارات (2207) والجهاد (2870) , وأحمد (2/253 ,2/480).(5/453)
ص -619- ... الكلام صفة من صفات كماله، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة أظهر شيء وأبينه، وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة من المحققين قيام الأفعال باللّه سبحانه، وأن الفعل يقع بمشيئته تعالى وقدرته شيئًا فشيئًا ولم يزل متصفًا به، فهو حادث الآحاد قديم النوع، كما يقول ذلك أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي وأحمد وسائر الطوائف، كما قال تعالى:{ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}1. فأتى بالحروف الدّالة على الاستقلال، والأفعال الدالة على الحال والاستقبال أيضًا، وذلك في القرآن كثير.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللّه: فإذا قالوا لنا - يعني النفاة -: فهذا يلزمه أن تكون الحوادث قائمة به؟ ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة؟! ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل. ولفظ الحوادث مجمل، فقد يراد به الأعراض والنقائص، واللّه تعالى منَزه عن ذلك - ولكن يقوم به ما يشاء من كلامه وأفعاله ونحو ذلك، مما دل عليه الكتاب والسنة. والقول الصحيح: هو قول أهل العلم والحديث الذين يقولون: لم يزل اللّه متكلما إذا شاء، كما قال ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة السنة. ا هـ.
قلت: ومعنى قيام الحوادث به تعالى، قدرته عليها، وإيجاده لها بمشيئته وأمره. واللّه أعلم.
قوله:"ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم"2. لما عظم ذنبهم عظمت عقوبتهم، فعوقبوا بهذه الثلاث التي هي أعظم العقوبات.
قوله:"أشيمط زان"، صغره تحقيرًا له وذلك لأن داعي المعصية ضعف في حقه، فدل على أن الحامل له على الزنا محبة المعصية والفجور، وعدم خوفه من اللّه، وضعف الداعي إلى المعصية مع فعلها يوجب تغليظ العقوبة عليه، بخلاف الشاب; فإن قوة داعي الشهوة منه قد تغلبه مع خوفه من اللّه، وقد يرجع على نفسه بالندم، ولومها على المعصية، فينتهي ويراجع. وكذا العائل المستكبر ليس(5/454)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يس آية: 82.
2 البخاري: المساقاة (2358) , ومسلم: الإيمان (108) , والترمذي: السير (1595) , والنسائي: البيوع (4462) , وأبو داود: البيوع (3474) , وابن ماجه: التجارات (2207) والجهاد (2870) , وأحمد (2/253 ,2/480).(5/455)
ص -620- ... له ما يدعوه إلى الكبر، لأن الداعي إلى الكبر في الغالب كثرة المال والنعم والرياسة. و"العائل"الفقير لا داعي له إلى أن يستكبر، فاستكباره مع عدم الداعي إليه يدل على أن الكبر طبيعة له، كامن في قلبه، فعظمت عقوبته، لعدم الداعي إلى هذا الخلق الذميم الذي هو من أكبر المعاصي.
قوله:"ورجل جعل اللّه بضاعته" بنصب الاسم الشريف، أي: الحلف به، جعله بضاعته، لملازمته له وغلبته عليه. وهذه أعمال تدل على أن صاحبها إن كان موحدًا فتوحيده ضعيف، وأعماله ضعيفة بحسب ما قام بقلبه وظهر على لسانه وعمله من تلك المعاصي العظيمة على قلة الداعي إليها. نسأل اللّه السلامة والعافية، ونعوذ باللّه من كل عمل لا يحبه ربنا ولا يرضاه.
قوله:"وفي"الصحيح"، أي:"صحيح مسلم". وأخرجه أبو داود والترمذي. ورواه البخاري بلفظ:"خيركم".
قوله: وفي الصّحيح عن عمران بن حصين رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم "خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم - قال عمران: فلا أدري: أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثًا؟ - ثم إن بعدكم قومًا يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن"1.
ش: قوله:"وفي الصّحيح"، أي: صحيح مسلم.
قوله:"خير أمتي قرني"2 لفضيلة أهل ذلك القرن في العلم والإيمان، والأعمال الصالحة التي يتنافس فيها المتنافسون، ويتفاضل فيها العاملون، فغلب الخير فيها وكثر أهله، وقلَّ الشر فيها وأهله، واعتز فيها الإسلام والإيمان، وكثر فيها العلم والعلماء.
"ثم الذين يلونهم"، فضلوا على من بعدهم لظهور الإسلام(5/456)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: المناقب (3650) , ومسلم: فضائل الصحابة (2535) , والترمذي: الفتن (2221 ,2222) , والنسائي: الأيمان والنذور (3809) , وأبو داود: السنة (4657) , وأحمد (4/426 ,4/427 ,4/436 ,4/440).
2 البخاري: المناقب (3650) , ومسلم: فضائل الصحابة (2535) , والترمذي: الفتن (2221 ,2222) , والنسائي: الأيمان والنذور (3809) , وأبو داود: السنة (4657) , وأحمد (4/426 ,4/427 ,4/436 ,4/440).(5/457)
ص -621- ... فيهم، وكثرة الداعي إليه، والراغب فيه والقائم به، وما ظهر فيه من البدع أنكر واستعظم وأزيل، كبدعة الخوارج والقدرية والرافضة فهذه البدع وإن كانت قد ظهرت، فأهلها في غاية الذل والمقت والهوان والقتل فيمن عاند منهم ولم يتب.
قوله:"فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثًا؟". هذا شك من راوي الحديث عمران بن حصين رضي اللّه عنه. والمشهور في الروايات: أن القرون المفضلة ثلاثة، الثالث دون الأولين في الفضل، لكثرة ظهور البدع فيه، لكن العلماء متوافرون، والإسلام فيه ظاهر، والجهاد فيه قائم، ثم ذكر ما وقع بعد القرون الثلاثة من الجفاء في الدين وكثرة الأهواء. فقال:"ثم إن بعدكم قومًا يشهدون ولا يستشهدون" لاستخفافهم بأمر الشهادة، وعدم تحريهم للصدق، وذلك لقلة دينهم، وضعف إسلامهم.
قوله:"ويخونون ولا يؤتمنون"، يدل على أن الخيانة قد غلبت على كثير منهم أو أكثرهم.
قوله:"وينذرون ولا يوفون"، أي لا يؤدون ما وجب عليهم، فظهور هذه الأعمال الذميمة يدل على ضعف إسلامهم، وعدم إيمانهم.
قوله:"ويظهر فيهم السمن"، لرغبتهم في الدنيا، ونيل شهواتهم والتنعم بها، وغفلتهم عن الدار الآخرة والعمل لها.
وفي حديث أنس:"لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم". قال أنس: سمعته من نبيكم صلى اللّه عليه وسلم"1. فما زال الشر يزيد في الأمة، حتى ظهر الشرك والبدع في كثير منهم، حتى فيمن ينتسب إلى العلم، ويتصدر للتعليم والتصنيف.
قلت: بل قد دعوا إلى الشرك والضلال والبدع، وصنفوا في ذلك نظمًا ونثرًا، فنعوذ باللّه من موجبات غضبه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: الفتن (7068) , والترمذي: الفتن (2206) , وأحمد (3/132 ,3/177 ,3/179).(5/458)
ص -622- ... قوله: وفيه عن ابن مسعود رضي اللّه عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال:"خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته"1.
قال إبراهيم: كانوا يضربوننا على الشّهادة والعهد، ونحن صغار.
قلت: وهذه حال من صرف رغبته إلى الدنيا، ونسي المعاد، فخف أمر الشهادة واليمين عنده تحملاً وأداء، لقلة خوفه من اللّه وعدم مبالاته بذلك. وهذا هو الغالب على الأكثر، واللّه المستعان. فإذا كان هذا قد وقع في صدر الإسلام الأول فما بعده أكبر بأضعاف، فكن من الناس على حذر.
قوله:"قال إبراهيم" - هو النخعي -: كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار. وذلك لكثرة علم التابعين وقوة إيمانهم ومعرفتهم بربهم، وقيامهم بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر; لأنه من أفضل الجهاد، ولا يقوم الدين إلا به.
وفي هذا الرغبة في تمرين الصغار على طاعة ربهم، ونهيهم عما يضرهم، ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: المناقب (3651) , ومسلم: فضائل الصحابة (2533) , والترمذي: المناقب (3859) , وابن ماجه: الأحكام (2362) , وأحمد (1/378 ,1/417 ,1/434 ,1/438 ,1/442 ,4/267 ,4/276 ,4/277).(5/459)
قال الْمصنِّف ـ رحمه الله تعالى ـ:
[57- باب ما جاء في ذمة اللّه وذمة نبيه]
وقوله:{ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}1.
وعن بريدة قال:"كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية، أوصاه بتقوى اللّه ومن معه من المسلمين خيرًا، فقال: اغزوا باسم اللّه، في سبيل اللّه، قاتلوا من كفر باللّه.اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا. وإذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى ثلاث خصال - أو خلال - فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم. ثم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين. فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم اللّه تعالى، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن باللّه وقاتلهم. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة اللّه وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة اللّه وذمة نبيه، ولكن اجعل لهما ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة اللّه وذمة نبيه. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنْزلهم على حكم اللّه، فلا تنْزلهم، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري: أتصيب فيهم حكم اللّه أم لا؟"2. رواه مسلم.
فيه مسائل:
الأولى: الفرق بين ذمة اللّه وذمة نبيه وذمة المسلمين.
الثانية: الإرشاد إلى أقل الأمرين خطرًا.
الثالثة: قوله:"اغزوا باسم اللّه في سبيل اللّه".
الرابعة: قوله:"قاتلوا من كفر باللّه".
الخامسة: قوله:"استعن باللّه(5/460)
وقاتلهم".
السادسة: الفرق بين حكم اللّه وحكم العلماء.
السابعة: في كون الصحابي يحكم عند الحاجة، بحكم لا يدري: أيوافق حكم اللّه أم لا؟.
قوله:"باب ما جاء في ذمة اللّه وذمة رسوله".
وقول اللّه تعالى: { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}3.
قال العماد ابن كثير: "وهذا مما يأمر اللّه تعالى به، وهو الوفاء بالعهود والمواثيق، والمحافظة على الأيمان المؤكدة. ولهذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية: 91.
2 مسلم: الجهاد والسير (1731) , والترمذي: الديات (1408) والسير (1617) , وأبو داود: الجهاد (2613) , وابن ماجه: الجهاد (2858) , وأحمد (5/352 ,5/358) , والدارمي: السير (2439).
3 سورة النحل آية: 91.(5/461)
ص -623- ... قال:{ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}1. ولا تعارض بين هذا وقوله:{ وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ}2. وبين قوله{ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}3، أي: لا تتركوها بلا تكفير. وبين قوله صلى اللّه عليه وسلم في"الصحيحين":"إني واللّه إن شاء اللّه لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرًا منها إلا أتيت الذي هو خير منها وتحللتها - وفي رواية - وكفرت عن يميني"4. لا تعارض بين هذا كله وبين الآية المذكورة هنا وهي: { وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}5؛ لأن هذه الأيمان المراد بها: الداخلة في العهود والمواثيق، لا الأيمان الواردة على حث أو منع، ولهذا قال مجاهد في الآية: يعني: الحلف أي: حلف الجاهلية.
ويؤيده ما رواه الإمام احمد عن جبير بن مطعم قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:"لا حلف في الإسلام، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة"6. وكذا رواه مسلم، ومعناه: أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، فإن في التمسك بالإسلام حماية كفاية عما كانوا فيه.
وقوله تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}7، تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية: 91.
2 سورة البقرة آية: 224.
3 سورة المائدة آية: 89.
4 البخاري: الأيمان والنذور (6680) , ومسلم: الأيمان (1649) , وابن ماجه: الكفارات (2107) , وأحمد (4/401 ,4/404 ,4/418).
5 سورة النحل آية: 91.
6 مسلم: فضائل الصحابة (2530) , وأبو داود: الفرائض (2925) , وأحمد (4/83).
7 سورة النحل آية: 91.(5/462)
ص -624- ... قوله:"عن بريدة"، هو ابن الحصيب الأسلمي. وهذا الحديث من رواية ابنه سليمان عنه. قاله في"المفهم".
قوله:"قال: كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى اللّه تعالى"، فيه من الفقه: تأمير الأمراء، ووصيتهم. قال الحربي: السرية: الخيل تبلغ أربعمائة ونحوها. والجيش: ما كان أكثر من ذلك. وتقوى اللّه: التحرز بطاعته من عقوبته. قلت: وذلك بالعمل بما أمر اللّه به والانتهاء عما نهى عنه.
قوله:"ومن معه من المسلمين خيرًا"، أي: ووصاه بمن منهم أن يفعل معهم خيرًا; من الرفق بهم، والإحسان إليهم، وخفض الجناح لهم، وترك التعاظم عليهم.
وقوله:"اغزوا باسم اللّه"، أي: اشرعوا في فعل الغزو مستعينين باللّه مخلصين له.
قلت: فتكون الباء في"باسم اللّه" هنا للاستعانة، والتوكل على اللّه.
قوله:"قاتلوا من كفر باللّه"، هذا العموم يشمل جميع أهل(5/463)
ص -625- ... الكفر المحاربين وغيرهم، وقد خصص منهم من له عهد، والرهبان والنسوان، ومن لم يبلغ الحلم، وقد قال متصلاً به "ولا تقتلوا وليدًا"، وإنما نهى عن قتل الرهبان والنسوان، لأنه لا يكون منها قتال غالبًا، وإن كان منهم قتال أو تدبير قتلوا.
قلت: وكذلك الذراري والأولاد.
قوله:"ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا"، الغلول: الأخذ من الغنيمة من غير قسمتها. والغدر: نقض العهد. والتمثيل هنا: التشويه بالقتيل، كقطع أنفه وأذنه والعبث به. ولا خلاف في تحريم الغلول والغدر، وفي كراهية المثلة.
قوله:"وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال - أو خصال"، الرواية بأل للشك وهو من بعض الرواة، ومعنى الخلال والخصال واحد.
قوله:"فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم"، قيدناه عمن يوثق بعلمه وتقييده بنصب"أيتهن"على أن يعمل فيها"أجابوك"لا على إسقاط حرف الجر. و"ما"زائدة. ويكون تقدير الكلام: فإلى أيتهن أجابوك فاقبل منهم، كما تقول: جئتك إلى كذا وفي كذا، فيعدى إلى الثاني بحرف الجر.
قلت: فيكون في ناصب"أيتهن"وجهان: ذكرهما الشارح. الأول: منصوب على الاشتغال. والثاني: على نزع الخافض.
قوله:"ثم ادعهم إلى الإسلام"، كذا وقعت الرواية في جميع نسخ كتاب مسلم"ثم ادعهم"بزيادة"ثم"والصواب إسقاطها. كما روي في غير كتاب مسلم. كمصنف أبي داود، وكتاب الأموال لأبي عبيد; لأن ذلك هو ابتداء تفسير الثلاث الخصال.
وقوله:"ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين"، يعني المدينة. وكان في أول الأمر وجوب الهجرة إلى المدينة(5/464)
ص -626- ... على كل من دخل في الإسلام، وهذا يدل على أن الهجرة واجبة على كل من آمن من أهل مكة وغيرهم.
قوله:"فإن أبوا أن يتحولوا"، يعني: أن من أسلم ولم يهاجر ولم يجاهد لا يعطى من الخمس ولا من الفيء شيئًا. وقد أخذ الشافعي رحمه اللّه بالحديث في الأعراب، فلم ير لهم من الفيء شيئًا، وإنما لهم الصدقة المأخوذة من أغنيائهم فترد على فقرائهم، كما أن أهل الجهاد وأجناد المسلمين لا حق لهم في الصدقة عنده، ومصرف كل مال في أهله. وسوى مالك رحمه اللّه وأبو حنيفة رحمهما اللّه بين المالين، وجوزا صرفهما للضعيف.
قوله:"فإن هم أبوا فاسألهم الجزية"، فيه حجة لمالك وأصحابه، والأوزاعي في أخذ الجزية من كل كافر، عربيًا كان أو غيره، كتابيًا كان أو غيره. وذهب أبو حنيفة رحمه اللّه إلى أنها تؤخذ من الجميع، إلا من مشركي العرب ومجوسهم. وقال الشافعي: لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب، عربًا كانوا أو عجمًا، وهو قول الإمام أحمد في ظاهر مذهبه، وتؤخذ من المجوس.
قلت: لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم أخذها منهم، وقال:"سنوا بهم سنة أهل الكتاب".
وقد اختلفوا في القدر المفروض من الجزية، فقال مالك: أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهمًا على أهل الورِق، وهل ينقص منها الضعيف أو لا؟ قولان. وقال الشافعي: فيه دينار على الغني والفقير، وقال أبو حنيفة رحمه اللّه، والكوفيون: على الغني ثمانية وأربعون درهمًا، والوسط أربعة وعشرون درهمًا، والفقير اثنا عشر درهمًا وهو قول أحمد بن حنبل رحمه اللّه.
قال يحيى بن يوسف الصرصري الحنبلي رحمه اللّه:
وقاتل يهودًا والنصارى وعصبة ال ... مجوس فإن هم سلموا الجزية اصدد.
على الأدون اثني عشر درهمًا افرضن ... وأربعة منبعد عشر ينزيّد.
لأوسطهم حالاً، ومن كان موسرًا ... ثمانية مع أربعين لتنقد(5/465)
ص -627- ... وتسقط عن صبيانهم ونسائهم ... وشيخ لهم فانٍ وأعمى ومقعد
وذي الفقر والمجنون أو عبد مسلم ... ومن وجبت منهم عليه فيهتدي
وعند مالك وكافة العلماء على الرجال الأحرار البالغين العقلاء دون غيرهم، وإنما تؤخذ ممن كان تحت قهر المسلمين، لا ممن نأى بداره ويجب تحويلهم إلى بلاد المسلمين أو حربهم.
وقوله:"وإذا حاصرت أهل حصن"، الكلام إلى آخره فيه حجة لمن يقول من الفقهاء وأهل الأصول: إن المصيب في مسائل الاجتهاد واحد، وهو المعروف من مذهب مالك وغيره، ووجه الاستدلال به: أنه صلى اللّه عليه وسلم قد نص على أن اللّه تعالى قد حكم حكمًا معينًا في المجتهدات، فمن وافقه فهو المصيب، ومن لم يوافقه فهو المخطئ.
قوله:"وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة اللّه وذمة نبيه..."، الحديث. الذمة: العهد، وتخفر: تنقض. يقال: أخفرت الرجل: إذا نقضت عهده، وخفرته: أجرته، ومعناه: أنه خاف من نقض من لم يعرف حق الوفاء للعهد، كجملة الأعراب، فكأنه يقول: إن وقع نقض من متعد معتد، كان نقض عهد الخلق أهون من نقض عهد اللّه تعالى. واللّه أعلم.
قوله:"وقول نافع وقد سئل عن الدعوة قبل القتال"، ذكر فيه: أن مذهب مالك يجمع فيه بين الأحاديث في الدعوة قبل القتال. قال: وهو أن مالكًا قال: لا يقاتل الكفار قبل أن يدعوا، ولا تلتمس غرتهم إلا أن يكونوا قد بلغتهم الدعوة، فيجوز أن تلتمس غرتهم.
وهذا الذي صار إليه مالك هو الصحيح، لأن فائدة الدعوة أن يعرف العدو أن المسلمين لا يقاتلون للدنيا ولا للعصبية، وإنما يقاتلون للدين، فإذا علموا بذلك أمكن أن يكون ذلك سببًا مميلاً لهم إلى الانقياد إلى الحق، بخلاف ما إذا جهلوا مقصود المسلمين، فقد(5/466)
ص -628- ... يظنون أنهم يقاتلون للملك وللدنيا فيزيدون عتوًّا وبغضًا. واللّه أعلم.
[58- باب ما جاء في الإقسام على اللّه]
عن جندب بن عبد اللّه رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:"قال رجل: واللّه لا يغفر اللّه لفلان، فقال اللّه عزّ وجل: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان؟ إني قد غفرت له، وأحبطت عملك"1. رواه مسلم.
وفي حديث أبي هريرة: أن القائل رجل عابد. قال أبو هريرة: تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته.
فيه مسائل:
الأولى: التحذير من التألي على اللّه.
الثانية: كون النار أقرب إلى أحدنا من شراك نعله.
الثالثة: أن الجنة مثل ذلك.
الرابعة: فيه شاهد لقوله:"إن الرجل ليتكلم بالكلمة"إلخ.
الخامسة: أن الرجل قد يغفر له بسبب هو من أكره الأمور إليه.
ش: قوله:"باب ما جاء في الإقسام على اللّه".
ذكر المصنف فيه حديث جندب بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:"قال رجل: واللّه لا يغفر اللّه لفلان. قال اللّه عزّ وجل: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان، إني قد غفرت له وأحبطت عملك"2. رواه مسلم.
قوله:"يتألى"، أي: يحلف، والألية بالتشديد الحلف. وصح من حديث أبي هريرة.
قال البغوي في"شرح السنة"- وساق بالسند إلى"عكرمة بن عمار [نا ضمضم بن حوس]- قال: دخلت مسجد المدينة فناداني شيخ قال: يا يمامي، تعال، وما أعرفه، قال: لا تقولن لرجل: واللّه لا يغفر لك أبدًا ولا يدخلك الجنة. قلت: ومن أنت يرحمك اللّه؟ قال: أبو هريرة، قال: فقلت: إن هذه كلمة يقولها أحدنا لبعض أهله إذا غضب، أو لزوجته أو لخادمه، قال: فإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: "إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابين، أحدهما مجتهد في العبادة، والآخر كأنه يقول: مذنب،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: البر والصلة والآداب (2621).
2 مسلم: البر والصلة والآداب (2621).(5/467)
ص -629- ... فجعل يقول: أقصر عما أنت فيه. قال فيقول: خلني وربي، قال: فوجده يومًا على ذنب استعظمه. فقال: أقصر، فقال: خلني وربي، أبعثت علي رقيبًا، فقال: واللّه لا يغفر اللّه لك ولا يدخلك الجنة أبدًا. قال: فبعث اللّه إليهما ملكًا، فقبض أرواحهما، فاجتمعا عنده، فقال للمذنب: ادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي؟ قال: لا يا رب. قال اذهبوا به إلى النار". قال أبو هريرة: "والذي نفسي بيده، تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته". رواه أبو داود في"سننه"وهذا لفظه عن أبي هريرة رضي اللّه عنه يقول: "كان رجلان في بني إسرائيل متآخيين فكان أحدهما يذنب، والآخر يجتهد في العبادة. فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر، فوجده يومًا على ذنب فقال له: أقصر، فقال: خلني وربي، أبعثت علي رقيبًا؟ قال: واللّه لا يغفر اللّه لك، ولا يدخلك الجنة. فقبضت أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالمًا، أو كنت على ما في يدي قادرًا؟ فقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار"1.
قوله:"وفي حديث أبي هريرة أن القائل رجل عابد" يشير إلى قوله في هذا الحديث"أحدهما مجتهد في العبادة"، وفي هذه الأحاديث: بيان خطر اللسان، وذلك يفيد التحرز من الكلام، كما في حديث معاذ قلت:"يا رسول اللّه وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم - أو قال: على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم؟"2. واللّه أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الأدب (4901) , وأحمد (2/323 ,2/362).
2 الترمذي: الإيمان (2616) , وابن ماجه: الفتن (3973) , وأحمد (5/231 ,5/237).(5/468)
ص -630- ... قال الْمصنِّف ـ رحمه الله تعالى ـ:
[59- باب لا يستشفع باللّه على خلقه]
عن جبير بن مطعم رضي اللّه عنه قال:"جاء أعرابي إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه، نهكت الأنفس، وجاع العيال، وهلكت الأموال، فاستسق لنا ربك، فإنا نستشفع باللّه عليك، وبك على اللّه، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم: "سبحان اللّه! سبحان اللّه! فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك، أتدري ما اللّه؟ إن شأن اللّه أعظم من ذلك إنه لا يستشفع باللّه على أحد" وذكر الحديث. رواه أبو داود.
فيه مسائل:
الأولى: إنكاره على من قال"نستشفع باللّه عليك".
الثانية: تغيره تغيرًا عرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة.
الثالثة: أنه لم ينكر عليه قوله"نستشفع بك على اللّه".
الرابعة: التنبيه على تفسير سبحان اللّه.
الخامسة: أن المسلمين يسألونه صلى اللّه عليه وسلم الاستسقاء.
ش: قوله:"باب لا يستشفع باللّه على خلقه".
وذكر الحديث وسياق أبي داود في"سننه"أتم مما ذكره المصنف رحمه اللّه ولفظه: عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال:"أتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول اللّه، جهدت الأنفس، وضاعت العيال، ونهكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق اللّه لنا، فإنا نستشفع بك على اللّه، ونستشفع باللّه عليك، وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ويحك أتدري ما تقول؟ وسبح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك، إنه لا يستشفع باللّه على أحد من خلقه، شأن اللّه أعظم من ذلك، ويحك، أتدري ما اللّه؟ إن عرشه على سمواته لهكذا - وقال بأصابعه مثل القبة عليه - وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب"1. قال ابن بشار في حديثه:"إن اللّه فوق عرشه، وعرشه فوق سمواته"2.
قال الحافظ الذهبي [في العلو]: رواه أبو داود بإسناد حسن عنده في"الرد على الجهمية"من حديث محمد بن إسحاق بن(5/469)
يسار.
قوله:"ويحك إنه لا يستشفع باللّه على أحد من خلقه"، فإنه تعالى رب كل شيء ومليكه، والخير كله بيده، لا مانع لما أعطى،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: السنة (4726).
2 أبو داود: السنة (4726).(5/470)
ص -631- ... ولا معطي لما منع، ولا راد لما قضى،{ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً}، [فاطر، من الآية: 44]. {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، [يّس: 82]. والخلق وما في أيديهم ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء، وهو الذي يشفع الشافع إليه، ولهذا أنكر على الأعرابي.
قوله:"وسبح اللّه كثيرًا وعظمه"؛ لأن هذا القول لا يليق بالخالق سبحانه وبحمده، وإن شأن اللّه أعظم من ذلك.
وفي هذا الحديث: إثبات علو اللّه على خلقه، وأن عرشه فوق سمواته.
وفيه: تفسير الاستواء بالعلو كما فسره الصحابة والتابعون والأئمة، خلافًا للمعطلة والجهمية والمعتزلة ومن أخذ عنهم، كالأشاعرة ونحوهم ممن ألحد في أسماء اللّه وصفاته، وصرفها عن المعنى الذي وضعت له ودلت عليه، من إثبات صفات اللّه تعالى التي دلت على كماله جل وعلا، كما عليه السلف الصالح والأئمة ومن تبعهم ممن تمسك بالسنة، فإنهم أثبتوا ما أثبته اللّه لنفسه وأثبته له رسوله من صفات كماله، على ما يليق بجلاله وعظمته، إثباتًا بلا تمثيل، وتنْزيهًا بلا تعطيل.
قال العلامة ابن القيم رحمه اللّه تعالى في"مفتاح دار السعادة"- بعد كلام سبق فيما يعرف العبد بنفسه وبربه من عجائب مخلوقاته - قال بعد ذلك:
"والثاني: أن يتجاوز هذا إلى النظر بالبصيرة الباطنة، فتفتح له أبواب السماء، فيجول في أقطارها وملكوتها وبين ملائكتها، ثم يفتح له باب بعد باب حتى ينتهي به سير القلب إلى عرش الرحمن، فينظر سعته وعظمته وجلاله ومجده ورفعته ويرى السموات السبع والأرضين السبع بالنسبة إليه كحلقة ملقاة بأرض فلاة، ويرى الملائكة حافين من حول العرش لهم زجل بالتسبيح والتحميد، والتقديس والتكبير، والأمر ينَزل من فوقه بتدبير الممالك والجنود التي لا يعلمها إلا ربها ومليكها، فينْزل الأمر بإحياء قوم وإماتة(5/471)
آخرين، وإعزاز قوم(5/472)
ص -632- ... وإذلال آخرين، وإنشاء ملك وسلب ملك، وتحويل نعمة من محل إلى محل وقضاء الحاجات على اختلافها وتبيانها وكثرتها; من جبر كسير، وإغناء فقير، وشفاء مريض، وتفريج كرب، ومغفرة ذنب، وكشف ضر، ونصر مظلوم، وهداية حيران، وتعليم جاهل ورد آبق، وأمان خائف، وإجارة مستجير، ومدد لضعيف، وإغاثة لملهوف، وإعانة لعاجز، وانتقام من ظالم، وكف لعدوان، فهي مراسيم دائرة بين العدل والفضل والحكمة والرحمة، تنفذ في أقطار العوالم، لا يشغله سمع شيء منها من سمع غيره، ولا تغلطه كثرة المسائل والحوائج على اختلاف لغاتها وتباينها واتحاد وقتها، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، ولا تنقص ذرة من خزائنه،{ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، [آل عمران، من الآية: 6، و18]. فحينئذ يقوم القلب بين يدي الرحمن مطرقًا لهيبته، خاشعًا لعظمته، عاليًا لعزته، فيسجد بين يدي الملك الحق المبين سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم المزيد، فهذا سفر القلب وهو في وطنه وداره ومحل ملكه، وهذا من أعظم آيات الله، وعجائب صنعه، فيا له من سفرٍ ما أبركَه وأروحه! وأعظم ثمرته وربحه! وأجل منفعته وأحسن عاقبته! سفر هو حياة الأرواح، ومفتاح السعادة، وغنيمة العقول والألباب لا كالسفر الذي هو قطعة من العذاب" ا هـ كلامه رحمه اللّه.
وأما الاستشفاع بالرسول صلى اللّه عليه وسلم في حياته، فالمراد به استجلاب دعائه وليس خاصًا به صلى اللّه عليه وسلم بل كل حي صالح يرجى أن يستجاب له، فلا بأس أن يطلب منه أن يدعو للسائل بالمطالب الخاصة أو العامة، كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم لعمر لما أراد أن يعتمر من المدينة:"لا تنسنا يا أخيّ من صالح دعائك"1. وأما الميت، فإنما يشرع في حقه الدعاء له على جنازته وعلى قبره وفي غير ذلك. وهذا هو الذي يشرع في حق الميت.
وأما دعاؤه، فلم يشرع، بل قد دل الكتاب والسنة على النهي عنه والوعيد عليه، كما قال تعالى:{ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ(5/473)
دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي: الدعوات (3562) , وأبو داود: الصلاة (1498) , وابن ماجه: المناسك (2894).(5/474)
ص -633- ... قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}1. فبين اللّه تعالى أن دعاء من لا يسمع ولا يستجيب شرك يكفر به المدعو يوم القيامة، أي: ينكره ويعادي من فعله، كما في آية الأحقاف {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}2. فكل ميت أو غائب لا يسمع ولا يستجيب ولا ينفع ولا يضر. والصحابة رضي الله عنهم، لا سيما أهل السوابق منهم كالخلفاء الراشدين، لم ينقل عن أحد منهم ولا عن غيرهم أنهم أنزلوا حاجاتهم بالنبي صلى اللّه عليه وسلم بعد وفاته، حتى في أوقات الجدب.
كما وقع لعمر رضي اللّه عنه لما خرج ليستسقي بالناس خرج بالعباس عم النبي صلى اللّه عليه وسلم فأمره أن يستسقي لأنه حي حاضر يدعو ربه، فلو جاز أن يستسقى بأحد بعد وفاته لاستسقى عمر رضي اللّه عنه والسابقون الأولون بالنبي صلى اللّه عليه وسلم.
وبهذا يظهر الفرق بين الحي والميت، لأن المقصود من الحي دعاؤه إذا كان حاضرًا، فإنهم في الحقيقة إنما توجهوا إلى اللّه بطلب دعاء من يدعوه ويتضرع إليه، وهم كذلك يدعون ربهم، فمن تعدى المشروع إلى ما لا يشرع ضل وأضل. ولو كان دعاء الميت خيرًا لكان الصحابة إليه أسبق وعليه أحرص، وبهم أليق، وبحقه أعلم وأقوم. فمن تمسك بكتاب اللّه نجا، ومن تركه واعتمد على عقله، هلك. وباللّه التوفيق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة فاطر آية: 13-14.
2 سورة الأحقاف آية: 6.(5/475)
قال الْمصنِّف ـ رحمه الله تعالى ـ:
[60- باب ما جاء في حماية المصطفى صلى اللّه عليه وسلم حمى التوحيد، وسده طرق الشرك]
عن عبد اللّه بن الشخير رضي اللّه عنه قال:"انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا فقال: السيد اللّه تبارك وتعالى. قلنا: وأفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً، فقال: قولوا بقولكم، أو بعض(5/476)
ص -634- ... قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان"1. رواه أبو داود بسند جيد. وعن أنس رضي اللّه عنه أن أناسًا قالوا: يا رسول اللّه، يا خيرنا، وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا. فقال:"يا أيها الناس، قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد عبد اللّه ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منْزلتي التي أنزلني اللّه عزّ وجل"2. رواه النسائي بسند جيد.
فيه مسائل:
الأولى: تحذير الناس من الغلو.
الثانية: ما ينبغي أن يقول من قيل له: أنت سيدنا
الثالثة: قوله:"لا يستجرينكم الشيطان"مع أنهم لم يقولوا إلا الحق.
الرابعة: قوله"ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي".
قوله: باب ما جاء في حماية المصطفى صلى اللّه عليه وسلم حمى التوحيد وسده طرق الشرك.
حمايته صلى اللّه عليه وسلم حمى التوحيد عما يشوبه من الأقوال والأعمال التي يضمحل معها التوحيد أو ينقص، وهذا كثير في السنة الثابتة عنه صلى اللّه عليه وسلم كقوله:"لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد اللّه ورسوله"3.
وتقدم قوله:"إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث باللّه عز وجل"، ونحو ذلك. ونهى عن التمادح وشدد القول فيه، كقوله لمن مدح إنسانًا:"ويلك قطعت عنق صاحبك..." الحديث. أخرجه أبو داود عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه أن رجلاً أثنى على رجل عند النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال له:"قطعت عنق صاحبك ثلاثًا". وقال: "إذا لقيتم المداحين، فاحثوا في وجوههم التراب"4. أخرجه مسلم والترمذي وابن ماجة عن المقداد ابن الأسود.
وفي هذا الحديث نهى عن أن يقولوا: أنت سيدنا، وقال:"السيد اللّه تبارك وتعالى". ونهاهم أن يقولوا: وأفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً. وقال:"لا يستجرينكم الشيطان".
وكذلك قوله في حديث أنس أن ناسًا قالوا: يا رسول اللّه، يا خيرنا وابن خيرنا وسيّدنا وابن سيّدنا. فقال:"يا أيّها النّاس، قولوا: بقولكم، ولا يستهوينكم الشّيطان..." إلخ. كره صلى اللّه عليه وسلم أن يواجهوه(5/477)
بالمدح فيفضي بهم إلى الغلو، وأخبر صلى اللّه عليه وسلم أن مواجهة المادح للممدوح بمدحه - ولو بما هو فيه - من عمل الشيطان، لما تقضي محبة المدح إليه من تعاظم الممدوح في نفسه، وذلك ينافي كمال التوحيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الأدب (4806) , وأحمد (4/25).
2 أحمد (3/249).
3 البخاري: أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/23).
4 مسلم: الزهد والرقائق (3002) , والترمذي: الزهد (2393) , وأبو داود: الأدب (4804) , وابن ماجه: الأدب (3742) , وأحمد (6/5).(5/478)
ص -635- ... فإن العبادة لا تقوم إلا بقطب رحاها الذي لا تدور إلا عليه، وذلك غاية الذل في غاية المحبة، وكمال الذل يقتضي الخضوع والخشية والاستكانة للّه تعالى، وأنه لا يرى نفسه إلا في مقام الذم لها، والمعاتبة لها في حق ربه، وكذلك الحب لا تحصل غايته إلا إذا كان يحب ما يحبه اللّه، ويكره ما يكرهه اللّه من الأقوال والأعمال والإرادات، ومحبة المدح من العبد لنفسه تخالف ما يحبه اللّه منه، والمادح يغره من نفسه فيكون آثمًا، فمقام العبودية يقتضي كراهة المدح رأسًا، والنهي عنه صيانة لهذا المقام، فمتى أخلص العبد الذل للّه والمحبة له، خلصت أعماله وصحت، ومتى أدخل عليها ما يشوبها من هذه الشوائب، دخل على مقام العبودية بالنقص أو الفساد، وإذا أداه المدح إلى التعاظم في نفسه والإعجاب بها، وقع في أمر عظيم ينافي العبودية الخاصة، كما في الحديث:"الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني شيئًا منهما عذبته"1. وفي الحديث:"لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"2. وهذه الآفات قد تكون محبة المدح سببًا لها وسلمًا إليها، والعجب يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، وأما المادح فقد يفضي به المدح إلى أن ينْزل الممدوح منْزلة لا يستحقها، كما يوجد كثيرًا من أشعارهم من الغلو الذي نهى عنه الرسول صلى اللّه عليه وسلم وحذر أمته أن يقع منهم، فقد وقع الكثير منه حتى صرحوا فيه بالشرك في الربوبية والإلهية والملك، كما تقدمت الإشارة إلى شيء من ذلك.
والنبي صلى اللّه عليه وسلم لما أكمل اللّه له مقام العبودية صار يكره أن يمدح صيانة لهذا المقام، وأرشد الأمة إلى ترك ذلك نصحًا لهم، وحماية لمقام التوحيد عن أن يدخله ما يفسده أو يضعفه، من الشرك ووسائله {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ }3. ورأوا أن فعل ما نهاهم صلى اللّه عليه وسلم عن فعله قربة من أفضل القربات، وحسنة من أعظم الحسنات.(5/479)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: البر والصلة والآداب (2620) , وأبو داود: اللباس (4090) , وابن ماجه: الزهد (4174) , وأحمد (2/442).
2 مسلم: الإيمان (91) , والترمذي: البر والصلة (1998 ,1999) , وأبو داود: اللباس (4091) , وابن ماجه: المقدمة (59) والزهد (4173) , وأحمد (1/399 ,1/412 ,1/416 ,1/451).
3 سورة البقرة آية: 59.(5/480)
ص -636- ... وأما تسمية العبد بالسيد، فاختلف العلماء في ذلك.
قال العلامة ابن القيم في"بدائع الفوائد": "اختلف الناس في جواز إطلاق السيد على البشر، فمنعه قوم، ونقل عن مالك، واحتجوا بقول"النبي صلى اللّه عليه وسلم لما قيل له: يا سيدنا قال"السيد اللّه تبارك وتعالى"1. وجوزه قوم، واحتجوا بقول النبي صلى اللّه عليه وسلم للأنصار"قوموا إلى سيدكم"2. وهذا أصح من الحديث الأول. قال هؤلاء: السيد أحد ما يضاف إليه، فلا يقال للتميمي: سيد كندة، ولا يقال: الملك سيد البشر. قال: وعلى هذا فلا يجوز أن يطلق على اللّه هذا الاسم وفي هذا نظر، فإن السيد إذا أطلق عليه تعالى، فهو في منْزلة المالك، والمولى، والرب، لا بمعنى الذي يطلق على المخلوق. انتهى.
قلت: فقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في معنى قول اللّه تعالى:{ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً }3، أي: إلهًا وسيدًا، وقال في قول اللّه تعالى:{ اللَّهُ الصَّمَدُ}4، إنه السيد الذي كمل في جميع أنواع السّؤدد. وقال أبو وائل: هو السّيد الذي انتهى سؤدده. وأما استدلالهم بقول النبي صلى اللّه عليه وسلم للأنصار"قوموا إلى سيدكم"5، فالظاهر: أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يواجه سعدًا به، فيكون في هذا المقام تفصيل. واللّه أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود: الأدب (4806) , وأحمد (4/25).
2 البخاري: الجهاد والسير (3043) , ومسلم: الجهاد والسير (1768) , وأبو داود: الأدب (5215) , وأحمد (3/22 ,3/71).
3 سورة الأنعام آية: 164.
4 سورة الإخلاص آية: 2.
5 البخاري: الجهاد والسير (3043) , ومسلم: الجهاد والسير (1768) , وأبو داود: الأدب (5215) , وأحمد (3/22 ,3/71).(5/481)
قال الْمصنِّف ـ رحمه الله تعالى ـ:
[الخاتمة] [61- باب ما جاء في قول اللّه تعالى:{ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ...}1]
عن ابن مسعود رضي اللّه عنه قال:"جاء حبر من الأحبار إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا محمد، إنا نجد أن اللّه يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع. فيقول: أنا الملك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية: 67.(5/482)
ص -637- ... فضحك النبي صلى اللّه عليه وسلم حتى بدت نواجذه، تصديقًا لقول الحبر. ثم قرأ: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ...}الآية. متّفق عليه.
وفي رواية لمسلم:"والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزهن، فيقول: أنا الملك، أنا اللّه"1.
وفي رواية للبخاري:"يجعل السموات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع"2. أخرجاه.
ولمسلم عن ابن عمر مرفوعًا:"يطوي اللّه السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين السبع، ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟"3.
وروي عن ابن عباس قال: "ما السموات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم".
وقال ابن جرير: حدثني يونس أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: حدثني أبي قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:"ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس".
قال: وقال أبو ذر رضي اللّه عنه سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول:"ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض".
وعن ابن مسعود قال: "بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء. واللّه فوق العرش; لا يخفى عليه شيء من أعمالكم". أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن عاصم بن زر عن عبد اللّه.
ورواه بنحوه المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن عبد اللّه.
قاله الحافظ الذهبي رحمه اللّه تعالى قال: وله طرق.
وعن العباس بن عبد المطلب رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:"هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قلنا: اللّه ورسوله أعلم. قال: بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة(5/483)
خمسمائة سنة، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة. وبين السماء السابعة والعرش بحر، بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، واللّه تعالى فوق ذلك، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم". أخرجه أبو داود وغيره.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير قوله تعالى: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }4
الثانية: أن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه صلى اللّه عليه وسلم لم ينكروها ولم يتأولوها.
الثالثة: أن الحبر لما ذكر للنبي صلى اللّه عليه وسلم صدقه، ونزل القرآن بتقرير ذلك.
الرابعة: وقوع الضحك من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم.
الخامسة: التصريح بذكر اليدين، وأن السموات في اليد اليمنى والأرضين في الأخرى.
السادسة: التصريح بتسميتها الشمال.
السابعة: ذكر الجبارين والمتكبرين عند ذلك.
الثامنة: قوله: كخردلة في كف أحدكم.
التاسعة: عظم الكرسي بالنسبة إلى السماء.
العاشرة: عظم العرش بالنسبة إلى الكرسي.
الحادية عشرة: أن العرش غير الكرسي والماء.
الثانية عشرة: كم بين كل سماء إلى سماء.
الثالثة عشرة: كم بين السماء السابعة والكرسي.
الرابعة عشرة: كم بين الكرسي والماء.
الخامسة عشرة: أن العرش فوق الماء.
السادسة عشرة: أن اللّه فوق العرش.
السابعة عشرة: كم بين السماء والأرض. الثامنة عشرة: كثف كل سماء مائة سنة.
التاسعة عشرة: أن البحر الذي فوق السموات أسفله وأعلاه خمسمائة سنة واللّه أعلم.
قوله: باب ما جاء في قول اللّه تعالى:{ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}5.
أي: من الأحاديث والآثار في معنى هذه الآية الكريمة.
قال العماد بن كثير رحمه اللّه تعالى: "يقول تعالى: ما قدر المشركون اللّه حق قدره،(5/484)
حتى عبدوا معه غيره، وهو العظيم الذي لا أعظم منه، القادر على كل شيء، المالك لكل شيء، وكل شيء تحت قهره وقدرته". قال مجاهد: "نزلت في قريش"، وقال السدي: "ما عظموه حق تعظيمه"، وقال محمد بن كعب: "لو قدروه حق قدره ما كذبوه"، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: "هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة اللّه عليهم، فمن آمن أن اللّه على كل شيء قدير، فقد قدر اللّه حق قدره، ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر اللّه حق قدره".
وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية، الطريق فيها وفي أمثالها من مذهب السلف وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف. وذكر حديث ابن مسعود كما ذكره المصنف رحمه اللّه في هذا الباب، قال: ورواه البخاري في صحيحه في غير موضع ومسلم، والإمام أحمد والترمذي والنسائي كلهم من حديث سليمان بن مهران وهو الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة عن ابن مسعود بنحوه.
قال الإمام أحمد: حدثنا معاوية، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: تفسير القرآن (4811) والتوحيد (7414 ,7415 ,7451 ,7513) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2786) , والترمذي: تفسير القرآن (3238) , وأحمد (1/378 ,1/429 ,1/457).
2 البخاري: تفسير القرآن (4811) والتوحيد (7414 ,7415 ,7451 ,7513) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2786) , والترمذي: تفسير القرآن (3238) , وأحمد (1/378 ,1/429 ,1/457).
3 البخاري: التوحيد (7413) , ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (2788) , وابن ماجه: المقدمة (198) والزهد (4275) , وأحمد (2/87).
4 سورة الزمر آية: 67.
5 سورة الزمر آية: 67.(5/485)
ص -638- ... عن علقمة عن عبد اللّه قال:"جاء رجل من أهل الكتاب إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: يا أبا القاسم، أبلغك أن اللّه تعالى يجعل الخلائق على إصبع، السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع، فيقول: أنا الملك؟ فضحك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى بدت نواجذه ، قال: وأنزل اللّه عزّ وجل: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ...} " الآية. وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي من طرق عن الأعمش به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا الحسين بن حسن الأشقر، حدثنا أبو كدينة عن عطاء عن أبي الضحى عن ابن عباس قال:"مر يهودي برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو جالس فقال: كيف تقول يا أبا القاسم يوم يجعل اللّه السموات على ذه - وأشار بالسبابة - والأرض على ذه، والجبال على ذه، وسائر الخلائق على ذه؟ كل ذلك يشير بإصبعه، فأنزل اللّه:{ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ }". وكذا رواه الترمذي في التفسير بسنده عن أبي الضحى مسلم بن صبيح به، وقال: حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
ثم قال البخاري: حدثنا سعيد بن عفير حدثنا الليث حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة رضي اللّه عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول:"يقبض اللّه الأرض، ويطوي السماء بيمينه، فيقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟" تفرد به من هذا الوجه، ورواه مسلم من وجه آخر وقال البخاري في موضع آخر: حدثنا مقدم بن محمد حدثنا عمي القاسم بن يحيى عن عبيد اللّه عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:"إن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: إن اللّه تعالى يقبض يوم القيامة الأرضين على إصبع، وتكون السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك". تفرد به أيضًا من هذا الوجه، ورواه مسلم من وجه آخر.(5/486)
ص -639- ... وقد رواه الإمام أحمد من طريق آخر بلفظ أبسط من هذا السياق وأطول فقال: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، أنبأنا إسحاق بن عبد اللّه بن أبي طلحة، عن عبيد اللّه بن مقسم عن ابن عمر"أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر: { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}. ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول هكذا بيده يحركها يقبل بها ويدبر، يمجد الرب تعالى نفسه:"أنا الجبار المتكبر، أنا الملك، أنا العزيز، أنا الكريم، فرجف برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المنبر حتى قلنا: ليخرن1 به" اه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الطبعة السابقة: ليخزن وهو تصحيف.(5/487)
ص -640- ... قوله:"ولمسلم عن ابن عمر – الحديث"، كذا في رواية مسلم. قال الحميدي: وهي أتم، وهي عند مسلم من حديث سالم عن أبيه. وأخرجه البخاري من حديث عبيد اللّه عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:"إن اللّه يقبض يوم القيامة الأرضين، وتكون السماء بيمينه"1. وأخرجه مسلم من حديث عبيد اللّه بن مقسم.
قلت: وهذه الأحاديث وما في معناها تدل على عظمة اللّه، وعظيم قدرته وعظم مخلوقاته، وقد تعرف سبحانه وتعالى إلى عباده بصفاته، وعجائب مخلوقاته، وكلها تعرف تدل على كماله، وأنه هو المعبود وحده، لا شريك له في ربوبيته وإلهيته، وتدل على إثبات الصفات له على ما يليق بجلال اللّه وعظمته إثباتًا بلا تمثيل وتنْزيهًا بلا تعطيل، وهذا هو الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وعليه سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم بإحسان، واقتفى أثرهم على الإسلام والإيمان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: المزارعة (2324) , ومسلم: فضائل الصحابة (2388) , والترمذي: المناقب (3695) , وأحمد (2/245 ,2/382).(5/488)
ص -641- ... وتأمل ما في هذه الأحاديث الصحيحة من تعظيم النبي صلى اللّه عليه وسلم ربه بذكر صفات كماله على ما يليق بعظمته وجلاله وتصديقه اليهود فيما أخبروا به عن اللّه من الصفات التي تدل على عظمته، وتأمل ما فيها من إثبات علو اللّه تعالى على عرشه، ولم يقل النبي صلى اللّه عليه وسلم في شيء منها: إن ظاهرها غير مراد، أو أنها تدل على تشبيه صفات اللّه بصفات خلقه، فلو كان هذا حقًّا بلغه أمينه أمته، فإن اللّه أكمل به الدين، وأتم به النعمة فبلغ البلاغ المبين، صلوات اللّه وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين. وتلقى الصحابة رضي الله عنهم عن نبيهم صلى اللّه عليه وسلم ما وصف به ربه من صفات كماله ونعوت جلاله، فآمنوا به، وآمنوا بكتاب اللّه وما تضمنه من صفات ربهم جل وعلا، كما قال تعالى:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}1. وكذلك التابعون لهم بإحسان وتابعوهم، والأئمة من المحدثين والفقهاء كلهم وصف اللّه بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى اللّه عليه وسلم ولم يجحدوا شيئًا من الصفات، ولا قال أحد منهم: إن ظاهرها غير مراد، ولا إنه يلزم من إثباتها التشبيه، بل أنكروا على من قال ذلك غاية الإنكار، فصنفوا في رد هذه الشبهات المصنفات الكبار المعروفة الموجودة بأيدي أهل السنة والجماعة.
قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه اللّه تعالى: وهذا كتاب اللّه
من أوله إلى آخره وسنة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكلام الصحابة والتابعين، وكلام سائر الأئمة مملوءة كلها بما هو نص أو ظاهر أن اللّه تعالى فوق كل شيء، وأنه فوق العرش فوق السموات مستو على عرشه مثل قوله تعالى:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}2 وقوله تعالى:{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}3 وقوله تعالى:{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ(5/489)
إِلَيْهِ}4 وقوله تعالى:{ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}5 وقوله تعالى:{ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية: 7.
2 سورة فاطر آية: 10.
3 سورة آل عمران آية: 55.
4 سورة النساء آية: 158.
5 سورة المعارج آية: 4-3.(5/490)
ص -642- ... السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ}1 وقوله تعالى:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ}2 وقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}3 وقوله تعالى:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}4 وقوله تعالى:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}5. فذكر التوحيدين في هذه الآية. وقوله تعالى:{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}6 وقوله تعالى:{تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 7 وقوله تعالى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} 8 وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ(5/491)
يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} 9 وقوله تعالى :{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}10 فذكر عموم علمه وعموم قدرته وعموم إحاطته وعموم رؤيته، وقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُور ُأَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ}11 وقوله تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} 12 وقوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} 13 وقوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة السجدة آية: 5.
2 سورة النحل آية: 50.
3 سورة البقرة آية: 29.
4 سورة الأعراف آية: 54.
5 سورة يونس آية: 3.
6 سورة الرعد آية: 2.
7 سورة طه آية: 5-4.
8 سورة آية: 59-58.
9 سورة آية: 5-4.
10 سورة الحديد آية: 4.
11 سورة الملك آية: 17-16.
12 سورة فصلت آية: 42.
13 سورة الزمر آية: 1.(5/492)
ص -643- ... صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً}1. انتهى كلامه رحمه اللّه.
قلت: وقد ذكر الأئمة رحمهم اللّه تعالى فيما صنفوه في الرد على نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة ونحوهم أقوال الصحابة والتابعين. فمن ذلك ما رواه الحافظ الذهبي في كتاب"العلو". وغيره بالأسانيد الصحيحة عن أم سلمة زوج النبي صلى اللّه عليه وسلم أنها قالت في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}2. قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر. رواه ابن المنذر واللالكائي وغيرهما بأسانيد صحاح [مختصر العلوّ 111]. قال: وثبت عن سفيان بن عيينة رحمه اللّه تعالى أنه قال:"لما سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن: كيف الاستواء؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن اللّه الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق".
وقال ابن وهب:"كنا عند مالك فدخل رجل فقال: يا أبا عبد اللّه {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كيف استوى؟ فأطرق مالك رحمه اللّه وأخذته الرحضاء. وقال: الرحمن على العرش استوى، كما وصف نفسه، ولا يقال: كيف؟ و"كيف"عنه مرفوع، وأنت صاحب بدعة. أخرجوه. رواه البيهقي بإسناد صحيح عن ابن وهب، ورواه عن يحيى بن يحيى أيضًا. ولفظه قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة. قال الذهبي: فانظر إليهم كيف أثبتوا الاستواء للّه، وأخبروا أنه معلوم لا يحتاج لفظه إلى تفسير، ونفوا عنه الكيفية. قال البخاري في"صحيحه": قال مجاهد: استوى: علا على العرش. وقال إسحاق ابن راهويه: سمعت غير واحد من المفسرين يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أي: ارتفع. وقال محمد بن جرير الطبري في(5/493)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آية: 37-36.
2 سورة طه آية: 5.(5/494)
ص -644- ... قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أي: علا وارتفع.
وشواهده في أقوال الصحابة والتابعين وأتباعهم. فمن ذلك قول عبد اللّه ابن رواحة رضي اللّه عنه:
شهدت بأن وعد اللّه حق ... وأن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا
وتحمله ملائكة شداد ... ملائكة الإله مسومينا
وروى الدارمي والحاكم والبيهقي بأصح إسناد إلى علي بن الحسين بن شقيق قال:"سمعت عبد اللّه بن المبارك يقول: نعرف ربنا بأنه فوق سبع سماواته على العرش استوى، بائن من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية". قال الدارمي: حدثنا حسن بن الصباح البزار، حدثنا علي بن الحسين ابن شقيق"عن ابن المبارك: قيل له: كيف نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق السماء السابعة على العرش بائن من خلقه".
وقد تقدم قول الأوزاعي: كنا - والتابعون متوافرون - نقول: إن اللّه تعالى ذكره بائن من خلقه، ونؤمن بما وردت به السنة.
وقال أبو عمر الطلمنكي في كتاب"الأصول": أجمع المسلمون من أهل السنة على أن اللّه استوى على عرشه بذاته. وقال في هذا الكتاب أيضًا: أجمع أهل السنة على أن اللّه تعالى استوى على عرشه على الحقيقة لا على المجاز، ثم ساق بسنده عن مالك قوله: اللّه في السماء وعلمه في كل مكان، ثم قال في هذا الكتاب: أجمع المسلمون من أهل السنة أن معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ }1، ونحو ذلك من القرآن: أن ذلك علمه، وأن اللّه فوق السماوات بذاته مستو على عرشه كيف شاء، وهذا لفظه في كتابه.
وهذا كثير في كلام الصحابة والتابعين والأئمة، أثبتوا ما أثبته اللّه في كتابه على لسان رسوله على الحقيقة على ما يليق بجلال اللّه وعظمته، ونفوا عنه مشابهة المخلوقين، ولم يمثلوا، ولم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحديد آية: 4.(5/495)
ص -645- ... يكيفوا كما ذكرنا ذلك عنهم في هذا الباب.
وقال الحافظ الذهبي: "وأول وقت سمعت مقالة مَن أنكر أن اللّه فوق عرشه: هو الجعد بن درهم، وكذلك أنكر جميع الصفات، وقتله خالد بن عبد اللّه القسري وقصته مشهورة، فأخذ هذه المقالة عنه الجهم بن صفوان إمام الجهمية، فأظهرها واحتج لها بالشبهات، وكان ذلك في آخر عصر التابعين، فأنكر مقالته أئمة ذلك العصر مثل الأوزاعي، وأبي حنيفة ومالك، والليث بن سعد، والثوري، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، وابن المبارك، ومن بعدهم من أئمة الهدى، فقال الأوزاعي إمام أهل الشام على رأس الخمسين ومائة عند ظهور هذه المقالة ما أخبرنا عبد الواسع الأبهري بسنده إلى أبي بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبد اللّه الحافظ، أخبرني محمد بن علي الجوهري - ببغداد - حدثنا إبراهيم بن الهيثم، حدثنا محمد بن كثير المصيصي"سمعت الأوزاعي يقول: كنا - والتابعون متوافرون - نقول: إن اللّه فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته" أخرجه البيهقي في"الصفات"ورواته أئمة ثقات".
وقال الإمام الشافعي رحمه اللّه تعالى: "للّه أسماء وصفات لا يسع أحدًا ردها، ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه كفر، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل، ونثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه، كما نفى عنه نفسه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }1 اه من فتح الباري.
قوله:"وعن العباس بن عبد المطلب ساقه المصنف رحمه اللّه مختصرًا". والذي في"سنن أبي داود":
عن"العباس بن عبد المطلب قال: "كنت في البطحاء في عصابة فيهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فمرت بهم سحابة، فنظر إليها، فقال: ما تسمون هذه؟ قالوا: السحاب، قال: والمزن قالوا: والمزن. قال: والعنان. قالوا: والعنان - قال أبو داود: لم أتقن العنان جيدًا - قال: هل تدرون ما بعد بين السماء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الشورى آية: 11.(5/496)
ص -646- ... والأرض؟ قالوا: لا ندري، قال: إن بعد ما بينهما إما واحدة، أو اثنتان، أو ثلاث وسبعون سنة، ثم السماء التي فوقها كذلك، حتى عدد سبع سماوات، ثم فوق السابعة بحر بين أسفله، وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال، بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء ثم على ظهورهم العرش، وبين أسفله وأعلاه، كما بين سماء إلى سماء، ثم اللّه تبارك تعالى فوق ذلك". وأخرجه الترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي: حسن غريب1.
وقال الحافظ الذهبي: رواه أبو داود بإسناد حسن، وروى الترمذي نحوه من حديث أبي هريرة وفيه "بعد ما بين سماء إلى سماء خمسمائة عام". ولا منافاة بينهما، لأن تقدير ذلك بخمسمائة عام هو على سير القافلة مثلا، ونيف وسبعون سنة على سير البريد، لأنه يصح أن يقال: بيننا وبين مصر عشرون يوما باعتبار سير العادة، وثلاثة أيام باعتبار سير البريد، وروى شريك بعض هذا الحديث عن سماك فوقفه، هذا آخر كلامه.
قلت: فيه التصريح بأن اللّه فوق عرشه كما تقدم في الآيات المحكمات، والأحاديث الصحيحة وفي كلام السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم. وهذا الحديث له شواهد في"الصحيحين"وغيرهما، ولا عبرة بقول من ضعفه، لكثرة شواهده التي يستحيل دفعها، وصرفها عن ظواهرها.
وهذا الحديث كأمثاله يدل على عظمة اللّه وكماله، وعظم مخلوقاته، وأنه المتصف بصفات الكمال التي وصف بها نفسه في كتابه، ووصفه بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعلى كمال قدرته، وأنه هو المعبود وحده لا شريك له، دون كل ما سواه. وباللّه التوفيق.
والحمد للّه رب العالمين. وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو حديث ضعيف في سنده عبد الله بن عميرة. قال الذهبي: فيه جهالة.(5/497)
فتح المجيد شرح كتاب التوحيد
الشيخ / عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
دراسة وتحقيق:
محمد حامد الفقي
الناشر:
مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، مصر
السابعة، 1377هـ/1957م(6/1)
ص -3- ... فتح المجيد شرح كتاب التوحيد
تأليف: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
تحقيق: محمد حامد الفقي
بسم الله الرحمن الر حيم
مفدمة
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين كالمبتدعة والمشركين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وقيوم السماوات والأرضين. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وخيرته من خلقه أجمعين. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فإن كتاب التوحيد الذي ألفه الإمام شيخ الإسلام "محمد بن عبد الوهاب"1 أجزل الله له الأجر والثواب، وغفر له ولمن أجاب دعوته إلي يوم يقوم الحساب قد جاء بديعا في معناه: من بيان التوحيد ببراهينه، وجمع جملا من أدلته لإيضاحه وتبيينه. فصار علما للموحدين، وحجة على الملحدين. فانتفع به الخلق الكثير، والجم الغفير. فإن هذا الإمام -رحمه الله- في مبدأ منشئه قد شرح الله صدره للحق المبين، الذي بعث الله به المرسلين: من إخلاص العبادة بجميع أنواعها لله رب العالمين، وإنكار ما كان عليه الكثير من شرك المشركين، فأعلى الله همته، وقوى عزيمته، وتصدى لدعوة أهل نجد إلى التوحيد، الذي هو أساس الإسلام والإيمان، ونهاهم عن عبادة الأشجار والأحجار والقبور، والطواغيت والأوثان، وعن الإيمان بالسحرة والمنجمين والكهان، فأبطل الله بدعوته كل بدعة وضلالة يدعو إليها كل شيطان، وأقام الله به علم الجهاد، وأدحض به شبه المعارضين من أهل الشرك والعناد، ودان بالإسلام أكثر أهل تلك البلاد، الحاضر منهم والباد، وانتشرت دعوته ومؤلفاته في الآفاق، حتى أقر له بالفضل من كان من أهل الشقاق، إلا من استحوذ عليه الشيطان، وكره إليه الإيمان، فأصر على العناد والطغيان. وقد أصبح أهل جزيرة العرب بدعوته، كما قال قتادة -رحمه الله- عن حال أول هذه الأمة: "إن المسلمين لما قالوا: "لا إله إلا الله" أنكر ذلك(6/2)
المشركون وكبرت عليهم، وضاق بها إبليس وجنوده، فأبى الله إلا أن يمضيها ويظهرها، ويفلجها وينصرها على من ناوأها، إنها كلمة من خاصم بها فلج، ومن قاتل
بها نصر، إنما يعرفها أهل هذه الجزيرة التي يقطعها الراكب في ليال قلائل، ويسير من الدهر في فئام من الناس، لا يعرفونها ولا يقرون بها".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولد في العيينة سنة 1115 وتوفي بالدرعية سنة 1206 رحمه الله.(6/3)
ص -4- ... وقد شرح الله صدور كثير من العلماء لدعوته، وسروا واستبشروا بطلعته، وأثنوا عليه نثرا ونظما.
فمن ذلك ما قاله عالم صنعاء: محمد بن إسماعيل الأمير1 في هذا الشيخ -رحمه الله تعالى-:
وقد جاءت الأخبار عنه بأنه ... يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي
وينشر جهرا ما طوى كل جاهل ... ومبتدع منه فوافق ما عندي
ويعمر أركان الشريعة هادما ... مشاهد ضل الناس فيها عن الرشد
أعادوا بها معنى سواع ومثله ... يغوث وود بئس ذلك من ود
وقد هتفوا عند الشدائد باسمها ... كما يهتف المضطر بالصمد الفرد
وكم عقروا في سوحها من عقيرة ... أهلت لغير الله جهرا على عمد
وكم طائف حول القبور مقبل ... ومستلم الأركان منهن بالأيدي
وقال شيخنا عالم الأحساء أبو بكر حسين بن غنام -رحمه الله تعالى- فيه:2
لقد رفع المولى به رتبة الهدى ... بوقت به يعلى الضلال ويرفع
سقاه نمير الفهم مولاه فارتوى ... وعام بتيار المعارف يقطع
فأحيا به التوحيد بعد اندراسه ... وأوهى به من مطلع الشرك مهيع
سما ذروة المجد التي ما ارتقى لها ... سواه ولا حاذى فناها سميذع
وشمر في منهاج سنة أحمد ... يشيد ويحيي ما تعفى ويرفع
يناظر بالآيات والسنة التي ... أمرنا إليها في التنازع نرجع
فأضحت به السمحاء يبسم ثغرها ... وأمسى محياها يضيء ويلمع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولد بصنعاء سنة 1059 وتوفي في شعبان سنة 1182 وكان إماما جليلا, له المؤلفات الكثيرة النافعة, منها: سبل السلام شرح بلوغ المرام, ومنحة الغفار على ضوء النهار, والعدة على شرح العمدة لابن دقيق العيد, وشرح التنقيح في علوم الحديث.
2 قالها في رثاء الشيخ رحمه الله, وهي تسعة وثلاثون بيتا مذكورة بتمامها في كتاب "عنوان المجد في تاريخ نجد" في حوادث سنة 1206 (ج1 ص95) توفي ابن غنام سنة 1225 وله ترجمة في عنوان المجد (ج1 ص149).(6/4)
ص -5- ... وعاد به نهج الغواية طامسا ... وقد كان مسلوكا به الناس ترتع
وجرت به نجد ذيول افتخارها ... وحق لها بالألمعي ترفع
فآثاره فيها سوام سوافر ... وأنواره فيها تضيء وتلمع
وأما كتابه المذكور فموضوعه في بيان ما بعث به الله رسله: من توحيد العبادة، وبيانه بالأدلة من الكتاب والسنة، وذكر ما ينافيه من الشرك الأكبر، أو ينافي كماله الواجب من الشرك الأصغر ونحوه، وما يقرب من ذلك أو يوصل إليه.
وقد تصدى لشرحه حفيد المصنف، وهو الشيخ سليمان بن عبد الله -رحمه الله تعالى-1 فوضع عليه شرحا أجاد فيه وأفاد، وأبرز فيه من البيان ما يجب أن يطلب منه ويراد، وسماه "تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد".
وحيث أطلق "شيخ الإسلام" فالمراد به أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، و "الحافظ" فالمراد به أحمد بن حجر العسقلاني.
ولما قرأت شرحه رأيته أطنب في مواضع، وفي بعضها تكرار يستغنى بالبعض منه عن الكل ولم يكمله، فأخذت في تهذيبه وتقريبه وتكميله، وربما أدخلت فيه بعض النقول المستحسنة تتميما للفائدة، وسميته "فتح المجيد بشرح كتاب التوحيد".
وأسأل الله أن ينفع به كل طالب للعلم ومستفيد، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وموصلا من سعى فيه إلى جنات النعيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كان عالما فاضلا بارعا في الحديث والتفسير والفقه, آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر, صادق الاتصال بالله, قتل -رحمه الله- في آخر سنة 1233، وشى به بعض المنافقين إلى إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا بعد دخوله الدرعية واستيلائه عليها, فأحضره إبراهيم، وأظهر بين يديه آلات اللهو والمنكر إغاظة للشيخ, ثم أخرجه إلى المقبرة وأمر العساكر أن يرموه بالرصاص جميعا فمزقوا جسمه -رحمه الله ورضي عنه- . اهـ. (عنوان المجد ج1 ص210).(6/5)
ص -6- ... "بسم الله الرحمن الرحيم"
ابتدأ كتابه بالبسملة اقتداء بالكتاب العزيز، وعملا بحديث:
" كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الر حيم فهو أقطع "1 أخرجه ابن حبان من طريقين. قال ابن الصلاح: " والحديث حسن" 2.
ولأبي داود وابن ماجه: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله، أو بالحمد فهو أقطع "3.
ولأحمد: " كل أمر ذي بال لا يفتتح بذكر الله، فهو أبتر أو أقطع "4. وللدارقطني عن أبي هريرة مرفوعا: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله فهو أقطع "5.
والمصنف قد اقتصر في بعض نسخه على البسملة، لأنها من أبلغ الثناء والذكر للحديث المتقدم. وكان النبي صلي الله عليه وسلم يقتصر عليها في مراسلاته، كما في كتابه لهرقل عظيم الروم6. ووقع لي نسخة بخطه -رحمه الله تعالى- بدأ فيها بالبسملة، وثنى بالحمد والصلاة على النبي صلي الله عليه وسلم وآله.
وعلى هذا فالابتداء بالبسملة حقيقي، وبالحمدلة نسبي إضافي، أي بالنسبة إلى ما بعد الحمد يكون مبدوءا به.
والباء في "بسم الله" متعلقة بمحذوف، واختار كثير من المتأخرين كونه فعلا خاصا متأخرا.
أما كونه فعلا؛ فلأن الأصل في العمل للأفعال.
وأما كونه خاصا؛ فلأن كل مبتدئ بالبسملة في أمر يضمر ما جعل البسملة مبدأ له.
وأما كونه متأخرا، فلدلالته على الاختصاص، وأدخل في التعظيم، وأوفق للوجود; ولأن أهم ما يبدأ به ذكر الله تعالى.
وذكر العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى- لحذف العامل فوائد، منها: أنه موطن لا ينبغي أن يتقدم فيه غير ذكر الله. ومنها: أن الفعل إذا حذف صح الابتداء بالبسملة في كل عمل وقول وحركة، فكان الحذف أعم. انتهى ملخصا.
وباء "بسم الله" للمصاحبة. وقيل: للاستعانة. فيكون التقدير: بسم الله أؤلف حال(6/6)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو داود : الأدب (4840) , وابن ماجه : النكاح (1894).
2 ضعيف جدا: الحديث بهذا اللفظ ليس عند ابن حبان، وإنما الذي عنده بلفظ: "بحمد الله" رقم [(1), (2)- الإحسان] وسيأتي تخريجه عند أبي داود وابن ماجة. وإنما أخرجه بهذا اللفظ: الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي (1210) ومن طريقه السمعاني في أدب الإملاء ص (51), ورواه السبكي في طبقات الشافعية (1/6) من طريق الرهاوي الذي أخرجه هو أيضا في الأربعين له كما أشار إلى ذلك غير واحد من أهل العلم. وهو حديث ضعيف جدا ضعفه الحافظ كما نقله عنه صاحب الفتوحات الربانية (3/290). وضعفه السيوطي في الجامع بهذا اللفظ وحسنه بلفظ: "بحمد الله" . وقال الألباني في الإرواء رقم (1) "ضعيف جدا ولا تغتر بمن حسنه" . ا هـ.
3 ضعيف: أبو داود: كتاب الأدب (4840): باب الهدى في الكلام. وابن ماجة: كتاب النكاح (1894): باب خطبة النكاح وفي رواية أبي داود: "بالحمد فهو أجذم" وأشار إلى أنه مرسل, ومع ذلك فقد حسنه ابن الصلاح والنووي والعراقي، وأما الحافظ في الفتح (1/8) فأشار إلى أن في إسناده مقالا . وضعفه الألباني في الإرواء برقم (2).
4 ابن ماجه : النكاح (1894) , وأحمد (2/359).
5 ضعيف: أحمد (2/359). والدارقطني (1/229) وأشار إلى أنه مرسل والحديث هو نفسه الرواية التي مرت بتخريج رقم [2].
6 رواه البخاري في حديث أبي سفيان الطويل الذي رواه عن ابن عباس في كتاب بدء الوحي.(6/7)
ص -7- ... .......................................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كوني مستعينا بذكره، متبركا به. وأما ظهوره في: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}1 وفي: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا}2؛ فلأن المقام يقتضي ذلك كما لا يخفى.
والاسم مشتق من السمو وهو العلو. وقيل: من الوسم وهو العلامة؛ لأن كل ما سمي فقد نوه باسمه ووسم.
قوله: "الله" قال الكسائي والفراء: أصله الإله، حذفوا الهمزة، وأدغموا اللام في اللام، فصارتا لاما واحدة مشددة مفخمة. قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-: الصحيح: أنه مشتق، وأن أصله الإله كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذ. وهو الجامع لمعاني الأسماء الحسنى والصفات العلى. والذين قالوا بالاشتقاق إنما أرادوا أنه دال على صفة له تعالى. وهي الإلهية كسائر أسمائه الحسنى، كالعليم والقدير،
والسميع، والبصير; ونحو ذلك. فإن هذه الأسماء مشتقة من مصادرها بلا ريب، وهي قديمة، ونحن لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعنى، لا أنها متولدة منه تولد الفرع من أصله. وتسمية النحاة للمصدر والمشتق منه: أصلا وفرعا، ليس معناه أن أحدهما متولد من الآخر، وإنما هو باعتبار أن أحدهما يتضمن الآخر وزيادة.
قال أبو جعفر ابن جرير: "الله" أصله "الإله" أسقطت الهمزة التي هي فاء الاسم فالتقت اللام التي هي عين الاسم واللام الزائدة وهي ساكنة فأدغمت في الأخرى، فصارتا في اللفظ لاما واحدة مشددة. وأما تأويل "الله" فإنه على معنى ما روي لنا عن عبد الله بن عباس قال: "هو الذي يألهه كل شيء ويعبده كل خلق ". لما وساق بسنده عن الضحاك عن عبد الله بن عباس قال: " الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين ". فإن قال لنا قائل: وما دل على(6/8)
أن الألوهية هي العبادة وأن الإله هو المعبود، وأن له أصلا في فعل ويفعل، وذكر بيت رؤبة بن العجاج3:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة العلق آية : 1.
2 سورة هود آية : 41.
3 كذا في الأصل، والعبارة ناقصة. ونصها: فإن قال لنا قائل: فهل لذلك في فعل ويفعل أصل كان منه بناء هذا الاسم؟ قيل: أما سماعا من العرب فلا، ولكن استدلالا. فإن قال: وما دل على أن الألوهية هي العبادة وأن الإله هو المعبود, وأن له أصلا في فعل يفعل؟ قيل: لا تمانع العرب في الحكم لقول القائل يصف رجلا بعبادة الله ويطلب مما عند الله: "تأله فلان" بالصحة ولا خلاف. ومن ذلك قول رؤبة. إلخ.(6/9)
ص -11- ... لله در الغانيات المده ... سبحن واسترجعن من تألهي1"
يعني من تعبدي وطلبي الله بعملي. ولا شك أن التأله التفعل، من أله يأله، وأن معنى "أله" إذا نطق به: عبد الله. وقد جاء منه مصدر يدل على أن العرب قد نطقت منه بفعل يفعل بغير زيادة. وذلك ما حدثنا به سفيان بن وكيع وساق السند إلى ابن عباس: "أنه قرأ {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ}"3" قال: عبادتك. ويقول: إنه كان يعبد ولا يعبد ". وساق بسند آخر عن ابن عباس: "ويذرك وآلهتك. قال: إنما كان فرعون يعبد ولا يعبد". وذكر مثله عن مجاهد، ثم قال: فقد بين قول ابن عباس ومجاهد هذا: أن "أله" "عبد" وأن الإلهة مصدره، وساق حديثا عن أبي سعيد مرفوعا: 2" أن عيسى أسلمته أمه إلى الكتاب ليعلمه. فقال له المعلم: اكتب بسم الله. فقال عيسى: أتدري ما الله؟ الله إله الآلهة ".
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-: لهذا الاسم الشريف عشر خصائص لفظية، وساقها. ثم قال: وأما خصائصه المعنوية فقد قال أعلم الخلق صلي الله عليه وسلم:
3 " لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " وكيف نحصي خصائص اسم لمسماه كل كمال على الإطلاق، وكل مدح وحمد، وكل ثناء وكل مجد، وكل جلال وكل كمال، وكل عز وكل جمال، وكل خير وإحسان وجود وفضل وبر فله ومنه؟ فما ذكر هذا الاسم في قليل إلا كثره، ولا عند خوف إلا أزاله ولا عند كرب إلا كشفه، ولا عند هم وغم إلا فرجه، ولا عند ضيق إلا وسعه، ولا تعلق به ضعيف إلا أفاده القوة، ولا ذليل إلا أناله العز، ولا فقير إلا أصاره غنيا، ولا مستوحش إلا آنسه، ولا مغلوب إلا أيده ونصره، ولا مضطر إلا كشف ضره، ولا شريد إلا آواه. فهو الاسم الذي تكشف به الكربات، وتستنزل به البركات، وتجاب به الدعوات، وتقال به العثرات، وتستدفع به السيئات،(6/10)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال في اللسان: مدهه يمدهه مدها, مثل مدحه, والجمع: المده, أي المستحقات المدح لحسنهن وجمالهن. والتأله: التنسك والتعبد. واسترجعن: قلن إنا لله وإنا إليه راجعون.
2 موضوع: ابن جرير (1/42). وسيورده المؤلف أيضا مرفوعا بلفظ "إن عيسى ابن مريم قال: الرحمن: رحمن الآخرة والدنيا, والرحيم رحيم الآخرة" وهو عند ابن جرير أيضا والحديث موضوع. قال ابن عدي كما في الميزان (1/153): باطل وحكم ابن الجوزي بوضعه في كتابه الموضوعات (1/203 , 204). وأقره السيوطي في اللآلي (1/172). وابن عراق في تنزيه الشريعة (1/231). والشوكاني في الفوائد المجموعة (1374).
3 مسلم : الصلاة (486) , والترمذي : الدعوات (3493) , والنسائي : التطبيق (1100 ,1130) , وأبو داود : الصلاة (879) , وابن ماجه : الدعاء (3841) , وأحمد (6/58) , ومالك : النداء للصلاة (497).(6/11)
ص -12- ... وتستجلب به الحسنات. وهو الاسم الذي قامت به الأرض والسماوات، وبه أنزلت الكتب، وبه أرسلت الرسل، وبه شرعت الشرائع، وبه قامت الحدود، وبه شرع الجهاد، وبه انقسمت الخليقة إلى السعداء والأشقياء، وبه خقت الحاقة، ووقعت الواقعة، وبه وضعت الموازين القسط ونصب الصراط، وقام سوق الجنة والنار، وبه عبد رب العالمين وحمد، وبحقه بعثت الرسل، وعنه السؤال في القبر ويوم البعث والنشور، وبه الخصام وإليه المحاكمة، وفيه الموالاة والمعاداة، وبه سعد من عرفه وقام بحقه،
وبه شقي من جهله وترك حقه; فهو سر الخلق والأمر. وبه قاما وثبتا، وإليه انتهيا، فالخلق به وإليه ولأجله. فما وجد خلق ولا أمر ولا ثواب ولا عقاب إلا مبتدئا منه ومنتهيا إليه. وذلك موجبه ومقتضاه {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}1 إلى آخر كلامه -رحمه الله تعالى-.
قوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}2 قال ابن جرير: حدثني السري بن يحيى حدثنا عثمان بن زفر سمعت العرزمي يقول: "الرحمن بجميع الخلق، والرحيم بالمؤمنين".
وساق بسنده عن أبي سعيد - يعني الخدري - قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم3 " إن عيسى ابن مريم قال: الرحمن: رحمن الآخرة والدنيا. والرحيم: رحيم الآخرة "4.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: 5 " فاسمه "الله" دل على كونه مألوها معبودا. يألهه الخلائق محبة وتعظيما وخضوعا، ومفزعا إليه في الحوائج والنوائب. وذلك مستلزم لكمال ربوبيته ورحمته، المتضمنين لكمال الملك والحمد، وإلهيته وربوبيته ورحمانيته وملكه مستلزم لجميع صفات كماله؛ إذ يستحيل ثبوت ذلك لمن ليس بحي، ولا سميع، ولا بصير، ولا قادر، ولا متكلم، ولا فعال لما يريد، ولا حكيم في أقواله وأفعاله. فصفات الجلال والجمال أخص باسم "الله"، وصفات الفعل والقدرة والتفرد بالضر والنفع "العطاء والمنع ونفوذ المشيئة وكمال القوة وتدبير أمر الخليقة أخص باسم الرب"،(6/12)
وصفات الإحسان والجود والبر والحنان والمنة والرأفة واللطف أخص باسم "الرحمن".
وقال -رحمه الله- أيضا: " "الرحمن" دال على الصفة القائمة به سبحانه. "والرحيم" دال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية : 191.
2 سورة الفاتحة آية : 1.
3 قطعة من حديث لعائشة رضي الله عنها ص11 لا أحصي ثناء. رواه مسلم: كتاب الصلاة (486) (222): باب ما يقال في الركوع والسجود.
4 تقدم تخريجه برقم [4] ص 12 وهو موضوع حديث عيسى عليه الصلاة والسلام.
5 في مدارج السالكين (ج1 ص18).(6/13)
ص -13- ... على تعلقها بالمرحوم. وإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً}1 {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}2 ولم يجئ قط رحمان بهم".
وقال: "" إن أسماء الرب تعالى هي أسماء ونعوت.، فإنها دالة على صفات كماله، فلا تنافي فيها بين العلمية والوصفية، فالرحمن اسمه تعالى ووصفه، فمن حيث هو صفة
جرى تابعا لاسم الله ومن حيث هو اسم ورد في القرآن غير تابع; بل ورد الاسم العلم كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}3". انتهى ملخصا.
الحمد لله، وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم4.
قوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ} معناه الثناء بالكلام على الجميل الاختياري على وجه التعظيم. فمورده: اللسان والقلب. والشكر يكون باللسان والجنان والأركان. فهو أعم من الحمد متعلقا، وأخص منه سببا; لأنه يكون في مقابلة النعمة، والحمد أعم سببا وأخص متعلقا; لأنه يكون في مقابلة النعمة وغيرها. فبينهما عموم وخصوص وجهي، يجتمعان في مادة وينفرد كل واحد عن الآخر في مادة.
قوله: "وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم" أصح ما قيل في معنى صلاة الله على عبده: ما ذكره البخاري -رحمه الله تعالى- عن أبي العالية قال: " صلاة الله على عبده ثناؤه عليه عند الملائكة ". وقرره ابن القيم -رحمه الله- ونصره في كتابيه: "جلاء الأفهام"، و"بدائع الفوائد".
قلت: وقد يراد بها الدعاء، كما في المسند عن علي مرفوعا: " الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه: اللهم اغفر له الله ارحمه "5.
قوله: "وعلى آله" أي أتباعه على دينه، نص عليه الإمام أحمد هنا وعليه أكثر الأصحاب. وعلى هذا فيشمل الصحابة وغيرهم من المؤمنين 6.(6/14)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأحزاب آية : 43.
2 سورة التوبة آية : 117.
3 سورة طه آية : 5.
4 هذه الجملة في بعض النسخ دون بعض.
5 صحيح , ص 13 قول علي رضي الله عنه. أحمد (1/144). وقال الهيثمي في المجمع (2/36): "وفيه عطاء بن السائب وهو ثقة لكنه اختلط في آخر عمره" ا.هـ. والحديث صحيح ثابت من حديث أبي هريرة. أخرجه البخاري: كتاب الأذان (659): باب من جلس ينتظر الصلاة وفضل المساجد. ومسلم: كتاب المساجد (649) (273): باب فضل صلاة الجماعة وانتظار الصلاة.
6 انظر تفصيل ذلك في كتاب: "جلاء الأفهام في الصلاة على خير الأنام" للعلامة المحقق ابن القيم -رحمه الله-، فإنه استوفى المذاهب في ذلك, وبين الحق فيها, وأن المراد من الآل أتباعه الذين آمنوا به.(6/15)
ص -11- ... كتاب التوحيد
كتاب: مصدر كتب يكتب كتابا وكتابة وكتبا، ومدار المادة على الجمع. ومنه: تكتب بنو فلان، إذا اجتمعوا. والكتيبة لجماعة الخيل، والكتابة بالقلم لاجتماع الكلمات والحروف. وسمي الكتاب كتابا: لجمعه ما وضع له.
والتوحيد نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات. وتوحيد في الطلب والقصد، وهو توحيد الإلهية والعبادة.
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله-: " وأما التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب فهو نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في الطلب والقصد. فالأول: هو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه وتكلمه بكتبه وتكليمه لمن شاء من عباده، وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمته، وقد أفصح القرآن عن هذا النوع جد الإفصاح; كما في أول سورة الحديد، وسورة طه، وآخر الحشر، وأول تنزيل السجدة، وأول آل عمران، وسورة الإخلاص بكمالها، وغير ذلك.
النوع الثاني: ما تضمنته سورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}1، وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}2. وأول سورة تنزيل الكتاب وآخرها. وأول سورة المؤمن ووسطها وآخرها، وأول سورة الأعراف وآخرها، وجملة سورة الأنعام، وغالب سور القرآن. بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعي التوحيد، شاهدة به داعية إليه.
فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأقواله، فهو التوحيد العلمي الخبري. وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي. وإما أمر ونهي، وإلزام بطاعته وأمره ونهيه، فهو حقوق التوحيد ومكملاته. وإما خبر عن إكرام أهل(6/16)
التوحيد وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة، فهو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الكافرون آية : 1.
2 سورة آل عمران آية : 64.(6/17)
ص -12- ... جزاء توحيده. وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحل بهم في العقبى من العذاب، فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد. فالقرآن كله في التوحيد، وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم". انتهى. قال شيخ الإسلام: " التوحيد الذي جاءت به الرسل إنما يتضمن إثبات الإلهية لله وحده بأن يشهد أن لا إله إلا الله، لا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يوالي إلا له، ولا يعادي إلا فيه، ولا يعمل إلا لأجله. وذلك يتضمن إثبات ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات. قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}1، وقال تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}2، وقال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}3، وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}4. وأخبر عن كل نبي من الأنبياء أنهم دعوا الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وقال: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}5، وقال عن المشركين: " {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ}6، {وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ}7 وهذا في القرآن كثير.
وليس المراد بالتوحيد: مجرد توحيد الربوبية. وهو اعتقاد أن الله وحده خلق العالم،(6/18)
كما يظن ذلك من يظنه من أهل الكلام والتصوف. ويظن هؤلاء أنهم إذا أثبتوا ذلك بالدليل فقد أثبتوا غاية التوحيد. وأنهم إذا شهدوا هذا وفنوا فيه فقد فنوا في غاية التوحيد، فإن الرجل لو أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات، ونزهه عن كل ما ينزه عنه، وأقر بأنه وحده خالق كل شيء، لم يكن موحدا حتى يشهد أن لا إله إلا الله وحده، فيقر بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة، ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له، و"الإله" هو المألوه المعبود الذي يستحق العبادة. وليس هو الإله بمعنى القادر على الاختراع.
فإذا فسر المفسر "الإله" بمعنى القادر على الاختراع واعتقد أن هذا المعنى هو أخص وصف الإله. وجعل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 163.
2 سورة النحل آية : 51.
3 سورة المؤمنون آية : 117.
4 سورة الزخرف آية : 45.
5 سورة الممتحنة آية : 4.
6 سورة الصافات آية : 35.
7 سورة الصافات آية : 36.(6/19)
ص -13- ... إثبات هذا هو الغاية في التوحيد - كما يفعل ذلك من يفعله من متكلمة الصفاتية، وهو الذي يقولونه عن أبي الحسن وأتباعه - لم يعرفوا حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله صلي الله عليه وسلم ، فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء.
وكانوا مع هذا مشركين. قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}1. قالت طائفة من السلف: "تسألهم من خلق السماوات والأرض ؟ فيقولون:
الله. وهم مع هذا يعبدون غيره2 ". قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَقُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}3، فليس كل من أقر بأن الله تعالي رب كل شيء وخالقه يكون عابدا له دون ما سواه، داعيا له دون ما سواه، راجيا له خائفا منه دون ما سواه، يوالي فيه ويعادي فيه، ويطيع رسله ويأمر بما أمر به، وينهى عما نهى عنه. وعامة المشركين أقروا بأن الله خالق كل شيء، وأثبتوا الشفعاء الذين يشركونهم به، وجعلوا له أندادا. قال تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُون قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}4، وقال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}5 ، وقال تعالى:(6/20)
{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ}6، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}7. ولهذا كان أتباع هؤلاء8 من يسجد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يوسف آية : 106.
2 ذكره ابن كثير عن ابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة والشعبي وقتادة والضحاك وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
3 سورة المؤمنون آية : 84-85-86-87-88-89.
4 سورة الزمر آية : 43-44.
5 سورة يونس آية : 18.
6 سورة الأنعام آية : 94.
7 سورة البقرة آية : 165.
8 أي ممن يزعمون معرفة التوحيد على هذا المعنى, ككثير ممن ينتسبون إلى الإسلام, ويشتغل بالسحر الذي هو عبادة الكواكب والشياطين بأنواع العزائم والبخور، وذبح الحيوان الأسود أو الأحمر وغير ذلك مما سيأتي تفصيله.(6/21)
ص -14- ... للشمس والقمر والكواكب ويدعوها، ويصوم وينسك لها ويتقرأ إليها1. ثم يقول: إن هذا ليس بشرك، إنما الشرك إذا اعتقدت أنها المدبرة لي، فإذا جعلتها سببا وواسطة لم أكن مشركا، ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا شرك"". انتهى كلامه.
وقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}2
قوله: " وقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}" بالجر عطف على التوحيد؛ ويجوز الرفع على الابتداء.
قال شيخ الإسلام: " العبادة هي طاعة الله بامتثال ما أمر الله به على ألسنة الرسل".
وقال أيضا: " العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة".
قال ابن القيم: " ومدارها على خمس عشرة قاعدة، من كملها كمل مراتب العبودية".
وبيان ذلك: أن العبادة منقسمة على القلب واللسان والجوارح. والأحكام التي للعبودية خمسة: واجب ومستحب وحرام ومكروه ومباح. وهن لكل واحد من القلب واللسان والجوارح.
وقال القرطبي: " أصل العبادة التذلل والخضوع، وسميت وظائف الشرع على المكلفين عبادات؛ لأنهم يلتزمونها ويفعلونها خاضعين متذللين لله تعالى"".
ومعنى الآية: أن الله تعالى أخبر أنه ما خلق الجن والإنس إلا لعبادته، فهذا هو الحكمة في خلقهم.
قلت: وهي الحكمة الشرعية الدينية.
قال العماد ابن كثير: " وعبادته هي طاعته بفعل المأمور وترك المحظور. وذلك هو حقيقة دين الإسلام؛ لأن معنى الإسلام: الاستسلام لله تعالى، المتضمن غاية الانقياد والذل والخضوع" . انتهى.
وقال أيضا في تفسير هذه الآية: ومعنى الآية أن الله خلق الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له. فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير(6/22)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي يذبح لها الذبائح, ويصنع الأطعمة, كما يفعل الحاج لبيت الله من المناسك.
2 سورة الذاريات آية : 56.(6/23)
ص -15- ... محتاج إليهم، بل هم الفقراء في جميع أحوالهم وهو خالقهم ورازقهم. وقال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه في الآية: " إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي"?. وقال مجاهد: "إلا لآمرهم وأنهاهم" اختاره الزجاج وشيخ الإسلام. قال:
ويدل على هذا قوله: {أَيَحْسَبُ الأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً}1. قال الشافعي: "لا يؤمر ولا ينهى". وقال في القرآن في غير موضع: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} {اتَّقُوا رَبَّكُمُ}، فقد أمرهم بما خلقوا له وأرسل الرسل بذلك. وهذا المعنى هو الذي قصد بالآية قطعا، وهو الذي يفهمه جماهير المسلمين ويحتجون بالآية عليه.
قال: وهذه الآية تشبه قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ}2. ثم قد يطاع وقد يعصى. وكذلك ما خلقهم إلا لعبادته، ثم قد يعبدون وقد لا يعبدون، وهو سبحانه لم يقل: إنه فعل الأول: وهو خلقهم ليفعل بهم كلهم. الثاني: وهو عبادته، ولكن ذكر أنه فعل الأول ليفعلوا هم الثاني، فيكونوا هم الفاعلين له، فيحصل لهم بفعله سعادتهم ويحصل ما يحبه ويرضاه منه ولهم. انتهى. ويشهد لهذا المعنى: ما تواترت به الأحاديث.
فمنها: ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال:
" يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذابا: لو كانت لك الدنيا وما فيها ومثلها معها أكنت مفتديا بها؟ فيقول: نعم. فيقول: قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم، أن لا تشرك - أحسبه قال: ولا أدخلك النار - فأبيت إلا الشرك "3 فهذا المشرك قد خالف ما أراده الله تعالى منه: من توحيده وأن لا يشرك به شيئا، فخالف ما أراده الله منه فأشرك به غيره. وهذه هي الإرادة الشرعية الدينية كما تقدم.
فبين الإرادة الشرعية الدينية والإرادة الكونية القدرية عموم وخصوص مطلق، يجتمعان في حق المخلص المطيع، وتنفرد الإرادة الكونية القدرية في حق العاصي. فافهم ذلك تنج من جهالات أرباب(6/24)
الكلام وتابعيهم.
وقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 4.قال: وقوله: " {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة القيامة آية : 36.
2 سورة النساء آية : 64.
3 رواه الإمام أحمد والبخاري.
4 سورة النحل آية : 36.(6/25)
ص -16- ... الطاغوت: مشتق من الطغيان، وهو مجاوزة الحد. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "الطاغوت الشيطان"1. وقال جابر رضي الله عنه: "الطاغوت كهان كانت تنزل عليهم الشياطين" رواهما ابن أبي حاتم. وقال مالك: "الطاغوت كل ما عبد من دون الله".
قلت: وذلك المذكور بعض أفراده، وقد حده العلامة ابن القيم حدا جامعا فقال: الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده: من معبود أو متبوع أو مطاع. فطاغوت كل قوم: من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله. فهذه طواغيت العال،م إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها، رأيت أكثرهم أعرض عن عبادة الله تعالى إلى عبادة الطاغوت، وعن طاعة رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى طاعة الطاغوت ومتابعته.
وأما معنى الآية: فأخبر تعالى أنه بعث في كل طائفة من الناس رسولا بهذه لكلمة: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} أي أعبدوا الله وحده واتركوا عبادة ما سواه، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا} 2. وهذا معنى "لا إله إلا الله" فإنها هي العروة الوثقى.
قال العماد ابن كثير في هذه الآية: "" كلهم - أي الرسل - يدعو إلى عبادة الله وينهى عن عبادة ما سواه، فلم يزل سبحانه يرسل إلى الناس الرسل بذلك منذ حدث الشرك في بني آدم في قوم نوح الذين أرسل إليهم، وكان أول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض إلى أن ختمهم بمحمد صلي الله عليه وسلم، الذي طبقت دعوته الإنس والجن في المشارق والمغارب، وكلهم كما قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}3، وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ(6/26)
رَسُولاً أَنِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره ابن كثير عن حسان بن قائد العبيسي عن عمر قال: "إن الجبت السحر، والطاغوت الشيطان, وإن الشجاعة والجبن تكون غرائز في الرجال" إلخ. ثم قال الحافظ: ومعنى قوله في الطاغوت "أنه الشيطان" قوي جدا, فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية من عبادة الأوثان, والتحاكم إليها, والاستنصار بها. وكذلك رواه ابن جرير.
2 سورة البقرة آية : 256.
3 سورة الأنبياء آية : 25.(6/27)
ص -17- ... اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}1 فكيف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ}2 فمشيئة الله تعالى الشرعية عنهم منفية؛ لأنه نهاهم عن ذلك على ألسن رسله، وأما مشيئته الكونية - وهي تمكينهم من ذلك قدرا - فلا حجة لهم فيها؛ لأنه تعالى خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة، وهو لا يرضى لعباده الكفر، وله في ذلك الحجة البالغة والحكمة القاطعة، ثم إنه تعالى قد أخبر أنه أنكر عليهم بالعقوبة في الدنيا بعد إنذار الرسل، فلهذا قال: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} انتهى.
قلت: وهذه الآية تفسير الآية التي قبلها. وذلك قوله: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} فتدبر.
ودلت هذه الآية على أن الحكمة في إرسال الرسل، دعوتهم أممهم إلى عبادة الله وحده، والنهي عن عبادة ما سواه، وأن هذا هو دين الأنبياء والمرسلين وإن اختلفت شريعتهم. كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً}3، وأنه لا بد في الإيمان من عمل القلب والجوارح.
قال: قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}4 قال مجاهد: "قضى" يعني وصى. وكذا قرأ أبي بن كعب وابن مسعود وغيرهم. ولابن جرير عن ابن عباس: "وقضى ربك، يعني أمر".
وقوله تعالى: {أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} المعنى، أن تعبدوه وحده دون ما سواه، وهذا معنى "لا إله إلا الله".
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: والنفي المحض ليس توحيدا، وكذلك الإثبات بدون النفي، فلا يكون التوحيد إلا متضمنا للنفي والإثبات. وهذا هو حقيقة التوحيد.
وقوله: " {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}" أي وقضى أن تحسنوا بالوالدين إحسانا، كما قضى، بعبادته وحده لا شريك له. كما قال تعالى في(6/28)
الآية الأخرى{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً َاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}5 .
{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}6.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية : 36.
2 سورة النحل آية : 35.
3 سورة المائدة آية : 48.
4 سورة الإسراء آية : 23.
5 سورة الإسراء آية : 23-24.
6 سورة لقمان آية : 14.(6/29)
ص -18- ... وقوله: " {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا}" أي لا تسمعهما قولا سيئا، حتى ولا التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيء {وَلا تَنْهَرْهُمَا} أي لا يصدر منك إليهما فعل قبيح، كما قال عطاء ابن أبي رباح: " لا تنفض يديك عليهما".
ولما نهاه عن الفعل القبيح والقول القبيح أمره بالفعل الحسن والقول الحسن فقال: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} أي لينا طيبا بأدب وتوقير. وقوله: {اخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} أي تواضع لهما {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا} أي في كبرهما وعند وفاتهما {كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}.
وقد ورد في بر الوالدين أحاديث كثيرة، منها:
الحديث المروي من طرق عن أنس وغيره " أن رسول الله صلي الله عليه وسلم لما صعد المنبر قال: آمين، آمين، آمين. فقالوا: يا رسول الله على ما أمنت؟ قال: أتاني جبريل فقال: يا محمد، رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك قل: آمين، فقلت: آمين. ثم قال: رغم أنف امرئ دخل عليه شهر رمضان ثم خرج ولم يغفر له، قل: آمين، فقلت: آمين. ثم قال: رغم أنف امرئ أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قل: آمين، فقلت آمين " 1. وروى الإمام(6/30)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه عن أنس: ابن أبي شيبة والبزار في مسنديهما من طريق سلمة بن وردان عنه, وسلمة ضعيف. ورواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد، وابن حبان في ثقاته وصحيحه, والطبراني في الكبير, والبخاري في بر الوالدين, والبيهقي في شعب الإيمان, والضياء المقدسي في المختارة, كلهم عن كعب بن عجرة, ورجاله ثقات. وأخرجه ابن حبان في الصحيح والثقات والطبراني ورجاله ثقات عن مالك بن الحويرث, ورواه البخاري في الأدب المفرد والطبراني في تهذيبه والدارقطني في الأفراد. وأشار إليه الترمذي وأخرجه النسائي وابن السني في اليوم والليلة، والضياء المقدسي في المختارة, كلهم عن جابر بن عبد الله. وأخرجه البزار والطبراني عن عمار بن ياسر. وأخرجه البزار عن ابن مسعود. وأخرجه الطبراني عن ابن عباس وأبي ذر. وأخرجه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما عن أبي هريرة وهو عند البيهقي في الدعوات مختصرا. وعند الترمذي وأحمد وقال الترمذي: حسن غريب. وأخرجه الدارقطني في الأفراد، والبزار في مسنده، والطبراني في الكبير عن جابر بن سمرة, وأخرجه البزار والطبراني وابن أبي عاصم عن عبد الله بن الحرث بن جزء الزبيدي.(6/31)
ص -19- ... أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم: " رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف رجل أدرك والديه، أحدهما أو كلاهما، لم يدخل الجنة "1. قال العماد ابن كثير: صحيح من هذا الوجه عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر; قلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين. وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت "2 رواه البخاري ومسلم. وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم:
" رضى الرب في رضى الوالدين، وسخطه في سخط الوالدين "3 رواه الترمذي وصححه ابن حبان والحاكم. عن أسيد الساعدي رضي الله عنه قال: " بينا نحن جلوس عند النبي صلي الله عليه وسلم إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ فقال: نعم، الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما "5 رواه أبو داود وابن ماجه. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدا .
وقوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 6?قال العماد ابن كثير -رحمه الله-(6/32)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : البر والصلة والآداب (2551) , وأحمد (2/346).
2 البخاري : الأدب (5976) , ومسلم : الإيمان (87) , والترمذي : البر والصلة (1901) وتفسير القرآن (3019) , وأحمد (5/36 ,5/38).
3 البخاري: كتاب الأدب (5976): باب عقوق الوالدين من الكبائر. ومسلم: كتاب الإيمان (87) (143): باب بيان الكبائر وأكبرها. الترمذي كتاب البر والصلة (1899): باب الفضل في رضا الوالدين وابن حبان (2026 - موارد). والحاكم (4/151 , 152) وصححه على شرط مسلم وأقره الذهبي قال الألباني في الصحيحة (2/30): "وهو كما قالا". وقال الأرناؤوط في تخريج شرح السنة (12/13): "وسنده صحيح" والحق أن الحديث إسناده ضعيف. فإن في إسناده عطاء العامري وهو مجهول الحال ما روى عنه غير ابنه يعلى كما قال أبو الحسن القطان كما في التهذيب (7/220). وقال الذهبي في الميزان (3/78): "لا يعرف إلا بابنه". وفي التقريب (2/23): "مقبول". ولم يرو له مسلم بل روى له البخاري في الأدب وأبو داود والترمذي والنسائي.
4 سورة النساء آية : 36.
5 أبو داود : الأدب (5142) , وابن ماجه : الأدب (3664).
6 قال في قرة العيون: وهذه الآية تبين العبادة التي خلقوا لها أيضا. فإنه تعالى قرن الأمر بالعبادة التي فرضها بالنهي عن الشرك الذي حرمه، وهو الشرك في العبادة فدلت هذه الآية على أن اجتناب الشرك شرط في صحة العبادة فلا تصح بدونه أصلا كما قال تعالى: 88:6 (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون)، وقال تعالى: 39: 65 , 66 (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين )فتقديم المعمول يفيد الحصر أي بل الله فاعبده وحده لا غيره، كما في فاتحة الكتاب: (إياك نعبد وإياك نستعين), وقرر تعالى هذا التوحيد بقوله: 11:39 (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين), والدين هو العبادة بفعل ما(6/33)
أمر به وترك ما نهى عنه, كما قال العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالى-: والأمر والنهي الذي هو دينه وجزاؤه يوم المعاد الثاني وتقدم أن أصله وأساسه توحيد العبادة فلا تغفل عما تقدم.(6/34)
ص -20- ... في هذه الآية: "" يأمر الله تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له فإنه الخالق الرازق المتفضل على خلقه في جميع الحالات، وهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئا من مخلوقاته"". انتهى.
وهذه الآية هي التي تسمى آية الحقوق العشرة، وفي بعض النسخ المعتمدة من نسخ هذا الكتاب تقديم هذه الآية على آية الأنعام، ولهذا قدمتها لمناسبة كلام ابن مسعود الآتي لآية الأنعام، ليكون ذكره بعدها أنسب.
وقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً}1 الآيات2.(6/35)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية : 151.
2 في قرة العيون: وقد وقع الأكثر من متأخري هذه الأمة في هذا الشرك الذي هو أعظم المحرمات، كما وقع فيه أهل الجاهلية قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم, عبدوا القبور والمشاهد والأشجار والأحجار والطواغيت والجن, كما عبد أولئك اللات والعزى ومناة وهبل وغيرها من الأصنام والأوثان, واتخذوا هذا الشرك دينا، ونفروا إذا دعوا إلى التوحيد أشد نفرة، واشتد غضبهم لمعبوداتهم كما قال تعالى 39: 45 (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) وقال تعالى: 46:17 (وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا ) وقال: 35:37 , 36 (أنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون) علموا أن لا إله إلا الله تنفي الشرك الذي وقعوا فيه, وأنكروا التوحيد الذي دلت عليه. فصار أولئك المشركون أعلم بمعنى هذه الكلمة "لا إله إلا الله" من أكثر متأخري هذه الأمة، لا سيما أهل العلم منهم الذين لهم دراية في بعض الأحكام وعلم الكلام، فجهلوا توحيد العبادة فوقعوا في الشرك المنافي له وزينوه, وجهلوا توحيد الأسماء والصفات وأنكروه، فوقعوا في نفيه أيضا وصنفوا فيه الكتب؛ لاعتقادهم أن ذلك حق وهو باطل, وقد اشتدت غربة الإسلام حتى عاد المعروف منكرا والمنكر معروفا, فنشأ على هذا الصغير, وهرم عليه الكبير. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ" وقد قال صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة, وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي) وهذا الحديث قد صح من طرق كما ذكره العماد ابن كثير وغيره من(6/36)
الحفاظ، وهو في السنن وغيرها. ورواه محمد بن نصر في كتاب الاعتصام, وقد وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بعد القرون الثلاثة. فلهذا عم الجهل بالتوحيد الذي هو أصل دين الإسلام; فإن أصله أن لا يعبد إلا الله وأن لا يعبد إلا بما شرع, وقد ترك هذا وصارت عبادة الأكثرين مشوبة بالشرك والبدع, ولكن الله تعالى وله الحمد لم يخل الأرض من قائم له بحججه, وداع إليه على بصيرة, لكيلا تبطل حجج الله وبيناته التي أنزلها على أنبيائه ورسله، فله الحمد والشكر على ذلك.(6/37)
ص -21- ... قال العماد ابن كثير -رحمه الله-: " يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلي الله عليه وسلم: " قل " لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله، وحرموا ما رزقهم الله، " تعالوا " أي هلموا وأقبلوا " أتل " أقص عليكم {ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}1 حقا، لا تخرصا ولا ظنا، بل وحيا منه وأمرا من عنده {ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} وكان في الكلام محذوفا دل عليه السياق تقديره: وصاكم ألا تشركوا به شيئا، ولهذا قال في آخر الآية {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ}ا هـ.
قلت: فيكون المعنى: حرم عليكم ما وصاكم بتركه من الإشراك به، وفي المغني لابن هشام في قوله تعالى: " ألا تشركوا به شيئا" سبعة أقوال: أحسنها: هذا الذي ذكره ابن كثير، ويليه: بين لكم ذلك لئلا تشركوا، فحذفت الجملة من أحدهما، وهي " وصاكم " وحرف الجر وما قبله من الأخرى. ولهذا إذا سئلوا عما يقول لهم رسول الله صلي الله عليه وسلم قالوا: يقول: " اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم "2 كما قال أبو سفيان لهرقل3 وهذا هو الذي فهمه أبو سفيان وغيره من قول رسول الله صلي الله عليه وسلم لهم!: " قولوا لا إله إلا الله تفلحوا "4.
وقوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} قال القرطبي: الإحسان إلى الوالدين برهما وحفظهما وصيانتهما وامتثال أمرهما، وإزالة الرق عنهما، وترك السلطنة عليهما، و " إحسانا " نصب على المصدرية، وناصبه فعل من لفظه تقديره: وأحسنوا بالوالدين إحسانا.
وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}5 الإملاق: الفقر،(6/38)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية : 151.
2 البخاري : بدء الوحي (7).
3 رواه البخاري - في بدء الوحي, في حديث أبي سفيان الطويل.
4 صحيح:- أخرجه ابن خزيمة (1/82)، والبيهقي (1/76)، والدارقطني (3/44 , 45)، والحاكم (2/611 , 612) وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. وقال شمس الحق آبادي في التعليق المعنى (3/44): "رواته كلهم ثقات". وفي الباب: عن مدرك, رواه الطبراني ورجاله ثقات مجمع الزوائد (6/21) وعن شيخ من بني مالك بن كنانة. رواه أحمد (4/63), (5/371 , 376) وقال الهيثمي (6/22): "رجاله رجال الصحيح".
5 سورة الأنعام آية : 151.(6/39)
ص -22- ... أي لا تئدوا بناتكم خشية العيلة والفقر، فإني رازقكم وإياهم، وكان منهم من يفعل ذلك بالذكور خشية الفقر، ذكره القرطبي. وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه: " قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت: ثم أي ؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك "1 ثم تلا رسول الله صلي الله عليه وسلم {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}2.
وقوله: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}3 قال ابن عطية: " نهي عام عن جميع أنواع الفواحش، وهي المعاصي. و "ظهر" و "بطن" حالتان تستوفيان أقسام ما جعلتا له من الأشياء". انتهى .
وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} في الصحيحين.
عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا: " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة "4
وقوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}5 قال ابن عطية: " ذلكم " إشارة إلى هذه المحرمات والوصية الأمر المؤكد المقرر. وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} {لعل} للتعليل أي إن الله تعالى وصانا بهذه الوصايا لنعقلها عنه ونعمل بها، وفي تفسير الطبري الحنفي: ذكر أولا " تعقلون " ثم " تذكرون " ثم " تتقون "؛ لأنهم إذا عقلوا تذكروا فخافوا واتقوا.
وقوله: {وَلا(6/40)
تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}6 قال ابن عطية: هذا نهي عام عن القرب الذي يعم وجوه التصرف، وفيه سد الذريعة، ثم استثنى ما يحسن وهو السعي في نمائه. قال مجاهد: التي هي أحسن: التجارة فيه. وقوله: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} قال مالك وغيره: هو الرشد وزوال السفه مع البلوغ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الأدب (6001) , ومسلم : الإيمان (86) , والترمذي : تفسير القرآن (3182 ,3183) , والنسائي : تحريم الدم (4013 ,4014) , وأبو داود : الطلاق (2310) , وأحمد (1/380 ,1/431).
2 سورة الفرقان آية : 69-70.
3 سورة الأنعام آية : 151.
4 البخاري: كتاب الديات (6878): باب قول الله تعالى: (أن النفس بالنفس والعين بالعين)، ومسلم: كتاب القسامة (1676) (25): باب ما يباح به دم المسلم.
5 سورة الأنعام آية : 151.
6 سورة الأنعام آية : 152.(6/41)
ص -23- ... روي نحو هذا عن زيد بن أسلم والشعبي وربيعة وغيرهم.
وقوله: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} قال ابن كثير: يأمر تعالى بإقامة العدل في الأخذ والإعطاء {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا} أي من اجتهاد بأداء الحق وأخذه، فإن أخطأ بعد استفراغ الوسع وبذل جهده فلا حرج عليه.
وقوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} هذا أمر بالعدل في القول والفعل على القريب والبعيد. قال الحنفي: العدل في القول في حق الولي والعدو لا يتغير في الرضى والغضب، بل يكون على الحق وإن كان ذا قربى فلا يميل إلى الحبيب والقريب {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}1.
وقوله: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} قال ابن جرير: وبوصية الله تعالى التي وصاكم بها فأوفوا. وإيفاء ذلك بأن يطيعوه بما أمرهم به ونهاهم عنه. وأن يعملوا بكتابه وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم، وذلك هو الوفاء بعهد الله. وكذا قال غيره.
وقوله: {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} تتعظون وتنتهون عما كنتم فيه.
وقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}2 قال القرطبي: "" هذه آية عظيمة عطفها على ما تقدم. فإنه نهى وأمر وحذر عن اتباع غير سبيله على ما بينته الأحاديث الصحيحة وأقاويل السلف. و " أن " في موضع نصب. أي أتلو أن هذا صراطي، عن الفراء والكسائي. ويجوز أن يكون خفضا. أي وصاكم به وبأن هذا صراطي. قال: والصراط الطريق الذي هو دين الإسلام. " مستقيما " نصب على الحال ومعناه مستويا قيما لا اعوجاج فيه. فأمر باتباع طريقه الذي طرقه على لسان محمد صلي الله عليه وسلم وشرعه، ونهايته الجنة، وتشعبت منه طرق، فمن سلك الجادة نجا، ومن خرج إلى تلك الطرق أفضت به إلى النار. قال الله(6/42)
تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} أي تميل". انتهى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية : 8.
2 سورة الأنعام آية : 153.(6/43)
ص -24- ... وروى الإمام أحمد والنسائي والدارمي وابن أبي حاتم والحاكم - وصححه - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:
" خط رسول الله صلي الله عليه وسلم خطا بيده، ثم قال: هذا سبيل الله مستقيما، ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال: وهذه سبل ليس منها سبيل إلا وعليه شيطان يدعو إليه "1 ثم قرأ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} الآية.
وعن مجاهد: ولا تتبعوا السبل، قال: البدع والشهوات.
قال ابن القيم -رحمه الله-: ولنذكر في الصراط المستقيم قولا وجيزا، فإن الناس قد تنوعت عباراتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته، وحقيقته شيء واحد، وهو طريق الله الذي نصبه لعباده موصلا لهم إليه، ولا طريق إليه سواه، بل الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا طريقه الذي نصبه على ألسن رسله، وجعله موصلا لعبادة الله، وهو إفراده بالعبادة، وإفراد رسله بالطاعة، فلا يشرك به أحدا في عبادته ولا يشرك برسوله صلي الله عليه وسلم أحدا في طاعته. فيجرد التوحيد، ويجرد متابعة الرسول صلي الله عليه وسلم وهذا كله
قال ابن مسعود: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلي الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ قوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} إلى قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً}2 الآية.
مضمون "شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله" فأي شيء فسر به الصراط المستقيم فهو داخل في هذين الأصلين. ونكتة ذلك، أن تحبه بقلبك وترضيه بجهدك كله، فلا يكون في قلبه موضع إلا معمورا بحبه، ولا يكون لك إرادة إلا متعلقة بمرضاته. فالأول يحصل بتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، والثاني يحصل بتحقيق شهادة أن محمدا رسول الله. وهذا هو الهدى ودين الحق، وهو معرفة الحق والعمل به، وهو معرفة ما بعث الله به رسوله والقيام به، وقل ما شئت من العبارات التي هذا(6/44)
آخيتها3 وقطب رحاها. قال: وقال سهل بن عبد الله: " عليكم بالأثر والسنة، فإني أخاف أنه سيأتي عن قليل زمان إذا ذكر إنسان النبي صلي الله عليه وسلم والاقتداء به في جميع أحواله ذموه ونفروا عنه وتبرءوا منه وأذلوه وأهانوه " اهـ4.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (1/435) , والدارمي : المقدمة (202).
2 سورة الأنعام آية : 151- 153.
3 الآخية- بالمد والتشديد- حبيل, أو عويد يعرض في الحائط ويدفن طرفاه فيه ويصير طرفه كالعروة تشد فيها الدابة, وجمعها: الأواخي.
4 حسن: الترمذي: كتاب التفسير (3070): باب ومن سورة الأنعام. وقال الترمذي: حديث حسن غريب وهو كما قال: والطبراني في الكبير (10060) أيضا. وحسنه الأرناؤوط في تخريج جامع الأصول (2/137).(6/45)
ص -25- ... قوله: "قال ابن مسعود: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد صلي الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ " {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} - إلى قوله-: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً} الآية".
قوله: "ابن مسعود" هو عبد الله بن مسعود بن غافل - بمعجمة وفاء - ابن حبيب الهذلي أبو عبد الرحمن، صحابي جليل من السابقين الأولين، وأهل بدر وأحد والخندق وبيعة الرضوان ومن كبار علماء الصحابة، أمره عمر على الكوفة، ومات سنة اثنتين وثلاثين رضي الله عنه.
وهذا الأثر رواه الترمذي وحسنه، وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني بنحوه.
وقال بعضهم: معناه من أراد أن ينظر إلى الوصية التي كأنها كتبت وختم عليها فلم تغير ولم تبدل فليقرأ " قل تعالوا " إلى آخر الآيات، شبهها بالكتاب الذي كتب ثم ختم فلم يزد فيه ولم ينقص. فإن النبي صلي الله عليه وسلم لم يوص إلا بكتاب الله، كما قال فيما رواه مسلم: " وإني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله "1، وقد روى عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث؟ ثم تلا قوله: " {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}2 حتى فرغ من الثلاث الآيات". ثم قال:" من وفى بهن فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه وإن شاء عفا عنه "3. رواه ابن أبي حاتم والحاكم وصححه ومحمد بن نصر في الاعتصام4.
قلت: ولأن النبي صلي الله عليه وسلم لم يوص أمته إلا بما وصاهم الله تعالى به على لسانه. وفي كتابه الذي أنزله {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}5 وهذه الآيات وصية الله تعالى ووصية رسوله صلى الله عليه وسلم.(6/46)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : المناقب (3788) , وأحمد (3/14 ,3/17 ,3/26 ,3/59).
2 سورة الأنعام آية : 151.
3 مسلم: كتاب الحج (1218) (147): باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر الطويل، والنسائي : البيعة (4161) , وأحمد (5/314).
4 ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (2/191)، والحاكم (2/318) في تفسير سورة الأنعام. وصححه ووافقه الذهبي من طريق سفيان بن حسين عن الزهري عن أبي إدريس الخولاني عن عبادة به وسفيان بن حسين قال الحافظ في التقريب (1/310) "ثقة في غير الزهري باتفاقهم".
5 سورة النحل آية : 89.(6/47)
ص -26- ... قوله: " وعن معاذ بن جبل قال: "كنت رديف النبي صلي الله عليه وسلم على حمار، فقال لي: " يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا قلت: يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا " أخرجاه في الصحيحين".
هذا الحديث في الصحيحين من طرق. وفي بعض رواياته نحو مما ذكره المصنف.
و"معاذ بن جبل" رضي الله عنه هو ابن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي أبو عبد الرحمن، صحابي مشهور من أعيان الصحابة، شهد بدرا وما بعدها. وكان إليه المنتهى في العلم والأحكام والقرآن رضي الله عنه. وقال النبي صلي الله عليه وسلم: " معاذ يحشر يوم القيامة أمام العلماء برتوة "1. 2 أي بخطوة، قال في القاموس: "" والرتوة الخطوة وشرف من الأرض، وسويعة من الزمان، والدعوة، والفطرة، ورمية بسهم أو نحو ميل أو مدى البصر. والراتي العالم الرباني". انتهى.
وقال في النهاية: إنه يتقدم العلماء برتوة أي برمية سهم. وقيل: بميل. وقيل: مد البصر. وهذه الثلاثة أشبه بمعنى الحديث. مات معاذ سنة ثماني عشرة بالشام في طاعون عمواس. وقد استخلفه النبي صلي الله عليه وسلم على أهل مكة يوم الفتح يعلمهم دينهم.
قوله: "كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم" فيه جواز الإرداف على الدابة، وفضيلة معاذ رضي الله عنه.
قوله: "على حمار" في رواية: اسمه عفير، قلت: أهداه إليه المقوقس صاحب مصر.
وفيه: تواضعه صلي الله عليه وسلم لركوب الحمار والإرداف عليه، خلافا لما عليه أهل الكبر.
قوله: "أتدري ما حق الله على العباد" أخرج السؤال بصيغة الاستفهام؛ ليكون أوقع(6/48)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الحافظ ابن حجر في الإصابة: أخرجه محمد بن عثمان بن أبي شيبة في تاريخه من مرسل أبي عون الثقفي، وأورده ابن عساكر في تاريخ دمشق من طرق عن محمد بن الخطاب.
2 صحيح: روي من حديث عمر بن الخطاب مرفوعا. أخرجه ابن سعد (2/348,590)، وأبو نعيم في الحلية (1/228) وإسناده ضعيف كما في الصحيحة (3/82)، ومن مراسيل محمد بن كعب وأبي عون والحسن البصري. وهي عند ابن سعد (2/347) وهي مراسيل صحيحة. كما قال الألباني (3/83) الصحيحة ثم قال: "وبالجملة فالحديث بمجموع هذه الطرق صحيح بلا شك ولا يرتاب في ذلك من له معرفة بهذا العلم الشريف" اهـ.(6/49)
ص -27- ... في النفس وأبلغ في فهم المتعلم. و"حق الله على العباد" هو ما يستحقه عليهم. و " حق العباد على الله " معناه أنه متحقق لا محالة؛ لأنه قد وعدهم ذلك جزاء لهم على توحيده {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ}1.
قال شيخ الإسلام: كون المطيع يستحق الجزاء هو استحقاق إنعام وفضل، ليس هو استحقاق مقابلة، كما يستحق المخلوق على المخلوق، فمن الناس من يقول: لا معنى للاستحقاق، إلا أنه أخبر بذلك ووعده صدق، ولكن أكثر الناس يثبتون استحقاقا زائدا على هذا، كما دل عليه الكتاب والسنة. قال تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}2 لكن أهل السنة يقولون: هو الذي كتب على نفسه الرحمة وأوجب على نفسه الحق، لم يوجبه عليه مخلوق. والمعتزلة يدعون أنه واجب عليه بالقياس على المخلوق، وأن العباد هم الذين أطاعوه بدون أن يجعلهم مطيعين له، وأنهم يستحقون الجزاء بدون أن يكون هو الموجب، وغلطوا في ذلك، وهذا الباب غلطت فيه الجبرية والقدرية أتباع جهم، والقدرية النافية.
قوله: "قلت: الله ورسوله أعلم" فيه حسن الأدب من المتعلم، وأنه ينبغي لمن سئل عما لا يعلم أن يقول ذلك، بخلاف أكثر المتكلفين.
قوله: "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا" أي يوحدوه بالعبادة. ولقد أحسن العلامة ابن القيم رحمه الله حيث عرف العبادة بتعريف جامع فقال:
وعبادة الرحمن غاية حبه ... مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائر ... ما دار حتى قامت القطبان
"ومداره بالأمرأمر رسوله ... لا بالهوى والنفس والشيطان6"(6/50)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الروم آية : 6.
2 سورة الروم آية : 47.
3 البخاري : الجهاد والسير (2856) , ومسلم : الإيمان (30) , والترمذي : الإيمان (2643) , وأحمد (5/228 ,5/230). 4 يعني أن الخصومة إنما وقعت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين في تحقيق "لا إله إلا الله" المكونة من جملتين: إحداهما نفي والثانية إثبات. فالأولى تنفي كل الآلهة التي يدعيها الناس. والثانية تثبت الإلهية لله وحده. يعني ينبغي أن يكفر بكل معبود لتخلص العبادة لله.
5 سورة الكافرون آية : 3.
6 في قرة العيون:
حق الإله عبادة بالأمر لا ... بهوى النفوس فذاك للشيطان
من غير إشراك به شيئا هما ... سبب النجاة فحبذا السببان
لم ينج من غضب الله وناره ... إلا الذي قامت به الأصلان
والناس بعد فمشرك بإلهه ... أو ذو ابتداع أو له الوصفان
وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا. ليس على الله حق واجب بالعقل كما تزعم المعتزلة. لكن هو سبحانه جعل ذلك على نفسه تفضلا وإحسانا على الموحدين المخلصين الذين لم يلتفتوا في إرادتهم ومهماتهم ورغباتهم ورهباتهم إلى أحد سواه, ولم يتقربوا بما يقولونه ويعملونه من الطاعات إلا إليه وحده والله أعلم.(6/51)
ص -28- ... قوله: "ولا يشركوا به شيئا" أي يوحدوه بالعبادة، فلا بد من التجرد من الشرك في العبادة، من لم يتجرد من الشرك لم يكن آتيا بعبادة الله وحده، بل هو مشرك قد جعل لله ندا. وهذا معنى قول المصنف -رحمه الله-:
"وفيه أن العبادة هي التوحيد؛ لأن الخصومة فيه، وفي بعض الآثار الإلهية: " إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إلي صاعد، أتحبب إليهم بالنعم، ويتبغضون إلي بالمعاصي ".
قوله: " وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئا " قال الحافظ: " اقتصر على نفي الإشراك؛ لأنه يستدعي التوحيد بالاقتضاء، ويستدعي إثبات الرسالة
باللزوم؛ إذ من كذب رسول الله صلي الله عليه وسلم فقد كذب الله، ومن كذب الله فهو مشرك، وهو مثل قول القائل: ومن توضأ صحت صلاته، أي مع سائر الشروط". ا هـ.
قوله: "أفلا أبشر الناس" فيه استحباب بشارة المسلم بما يسره، وفيه ما كان عليه الصحابة من الاستبشار بمثل هذا. قاله المصنف -رحمه الله-.
قوله: "لا تبشرهم فيتكلوا" أي يعتمدوا على ذلك فيتركوا التنافس في الأعمال. وفي رواية: "فأخبر بها معاذ عند موته تأثما" أي تحرجا من الإثم. قال الوزير أبو المظفر: "لم يكن يكتمها إلا عن جاهل يحمله جهله على سوء الأدب بترك الخدمة في الطاعة، فأما الأكياس الذين إذا سمعوا بمثل هذا زادوا في الطاعة، ورأوا أن زيادة النعم تستدعي زيادة الطاعة، فلا وجه لكتمانها عنهم".(6/52)
ص -29- ... وفي الباب من الفوائد غير ما تقدم: الحث على إخلاص العبادة لله، وأنها لا تنقع مع الشرك، بل لا تسمى عبادة. والتنبيه على عظمة حق الوالدين، وتحريم عقوقهما. والتنبيه على عظمة الآيات المحكمات في سورة الأنعام. وجواز كتمان العلم للمصلحة.
قوله: "أخرجاه" أي البخاري ومسلم. و"البخاري" -رحمه الله- هو الإمام محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن بردزبه الجعفي مولاهم، الحافظ الكبير صاحب الصحيح والتاريخ والأدب المفرد وغير ذلك من مصنفاته. روى عن الإمام أحمد بن حنبل والحميدي وابن المديني وطبقتهم. وروى عنه مسلم والنسائي والترمذي والفربري راوي الصحيح. ولد سنة أربع وتسعين ومائة، ومات سنة ست وخمسين ومائتين.
و "مسلم" -رحمه الله- هو ابن حجاج بن مسلم أبو الحسين القشيري النيسابوري، صاحب الصحيح والعلل والوجدان وغير ذلك. روى عن أحمد بن حنبل ويحيي بن معين وأبي خيثمة وابن أبي شيبة وطبقتهم، وروى عن البخاري. وروى عنه الترمذي وإبراهيم بن محمد بن سفيان راوي الصحيح وغيرهما، ولد سنة أربع ومائتين ومات سنة إحدى وستين ومائتين بنيسابور رحمهما الله.(6/53)
ص -30- ... الخامسة: أن الرسالة عمت كل أمة.
السادسة: أن دين الأنبياء واحد.
السابعة: المسألة الكبيرة أن عبادة الله لا تحصل إلا بالكفر بالطاغوت، ففيه معنى قوله: " {مَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}1.
الثامنة: أن الطاغوت عام في كل ما عبد من دون الله.
التاسعة: عظم شأن ثلاث الآيات المحكمات في سورة الأنعام عند السلف وفيها عشر مسائل2. أولها: النهي عن الشرك.
العاشرة: الآياث المحكمات في سورة الإسراء وفيها ثمانية عشر مسألة بدأها الله بقوله: " {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً}3 وختمها بقوله: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً}4 ونبهنا الله سبحانه على عظم شأن هذه المسائل بقوله: {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ}.
الحادية عشرة: آية سورة النساء التي تسمى آية الحقوق العشرة، بدأها الله تعالى بقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}5.
الثانية عشرة: التنبيه على وصية رسول الله صلي الله عليه وسلم عند موته.
الثالثة عشرة: معرفة حق الله علينا.
الرابعة عشرة: معرفة حق العباد عليه إذا أدوا حقه.
الخامسة عشرة: أن هذه المسألة لا يعرفها6 أكثر الصحابة.
السادسة عشرة: جواز كتمان العلم للمصلحة.
السابعة عشرة: استحباب بشارة المسلم بما يسره.(6/54)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 256.
2 التي هي الوصايا العشر. وأولها وأهمها (ألا تشركوا بالله شيئا) .
3 سورة الإسراء آية : 22.
4 سورة الإسراء آية : 39.
5 سورة النساء آية : 36.
6 لا يعرفها أكثر الصحابة؛ لأن النبي أمر معاذا أن يكتمها عن الناس مخافة أن يتكلوا على سعة رحمة الله ويتركوا العمل، فلم يخبر بها إلا عند موته تأثما. فلذلك لم يعرفها أكثر الصحابة في حياة معاذ.
(7) يعني العلم الزائد على القدر المحتاج إليه في إقامة الدين, وإلا لم يجز بدليل وعيد الله الشديد على كتمان العلم في قوله: (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من(6/55)
ص -31- ... الثامنة عشرة: الخوف من الاتكال على سعة رحمة الله.
التاسعة عشرة: قول المسئول عما لا يعلم: "الله ورسوله أعلم".
العشرون: جواز تخصيص بعض الناس بالعلم1 دون بعض.
الحادية والعشرون: تواضعه صلي الله عليه وسلم لركوب الحمار، مع الإرداف عليه.
الثانية والعشرون: جواز الإرداف على الدابة.
الثالثة والعشرون: فضيلة معاذ بن جبل.
الرابعة والعشرون: عظم شأن هذه المسألة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا). وقوله: ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ) وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليبلغ الشاهد منكم الغائب) .
باب" فضل التوحيد1 وما يكفر من الذنوب"
وقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}2 .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب بيان فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب" "باب" خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا. "قلت" ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره هذا. و"ما" يجوز أن تكون موصولة والعائد محذوف، أي وبيان الذي يكفره من الذنوب، ويجوز أن تكون مصدرية، أي وتكفيره الذنوب، وهذا الثاني أظهر.
قوله: "وقول الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ(6/56)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في قرة العيون: والمراد بالتوحيد توحيد العبادة، وهو إفراد الله تعالى بأنواع العبادة الباطنة والظاهرة. كالدعاء والذبح والنذر ونحوه كما قال تعالى: 40: 14 (فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون). وقال تعالى: 40: 65 (فادعوه مخلصين له الدين ).
2 سورة الأنعام آية : 82.(6/57)
ص -32- ... وَهُمْ مُهْتَدُونَ}". قال ابن جرير: حدثني المثني - وساق بسنده - عن الربيع بن أنس قال: "الإيمان الإخلاص لله وحده".
وقال ابن كثير في الآية: أي هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده، ولم يشركوا به شيئا هم الآمنون يوم القيامة، المهتدون في الدنيا والآخرة. وقال زيد بن أسلم وابن إسحاق: هذا من الله على فصل القضاء بين إبراهيم وقومه.
وعن ابن مسعود: "لما نزلت هذه الآية قالوا: فأينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ليس بذلكم، ألم تسمعوا إلى قول لقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}1 ". وساقه البخاري بسنده2 فقال: حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثني إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه قال: "لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}3 قلنا: يا رسول الله، أينا لا يظلم نفسه؟ قال: ليس كما تقولون، لم يلبسوا إيمانهم بظلم، بشرك. أولم تسمعوا إلى قول لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ?4.
ولأحمد بنحوه عن عبد الله قال: "لما نزلت {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}5 شق ذلك على أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم ، فقالوا: يا رسول الله، فأينا لا يظلم نفسه؟ قال: إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}6 إنما هو الشرك". وعن عمر أنه فسره بالذنب، فيكون المعنى: الأمن من كل عذاب. وقال الحسن والكلبي: "أولئك لهم الأمن، في الآخرة، وهم مهتدون في الدنيا" 7.
قال شيخ الإسلام: والذي شق عليهم أنهم ظنوا أن الظلم المشروط عدمه هو ظلم العباد نفسه، وأنه لا أمن ولا اهتداء إلا لمن لم يظلم نفسه، فبين لهم النبي صلي الله عليه وسلم ما دلهم على أن الشرك ظلم في كتاب الله، فلا يحصل الأمن والاهتداء إلا(6/58)
لمن لم يلبس إيمانه بهذا الظلم، فإن من لم يلبس إيمانه بهذا الظلم كان من أهل الأمن والاهتداء، كما كان من أهل الاصطفاء في قوله: " {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة لقمان آية : 13.
2 في قصة إبراهيم عليه السلام من أحاديث الأنبياء.
3 سورة الأنعام آية : 82.
4 البخاري: كتاب الأنبياء (3636): باب قول الله تعالى: (واتخذ الله إبراهيم خليلا ).
5 سورة الأنعام آية : 82.
6 سورة لقمان آية : 13.
7 صحيح: رواه أحمد (1/378) وسنده صحيح على شرط الشيخين.(6/59)
ص -33- ... وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}1. وهذا لا ينفي أن يؤاخذ أحدهم بظلمه لنفسه بذنب إذا لم يتب كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}2 وقد سأل أبو بكر الصديق رضي الله عنه النبي صلي الله عليه وسلم فقال: " يا رسول الله، أينا لم يعمل سوءا؟ فقال: يا أبا بكر ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ أليس يصيبك اللأواء؟ فذلك ما تجزون به "3 فبين أن المؤمن الذي إذا مات دخل الجنة قد يجزى بسيئاته في الدنيا بالمصائب. فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة: الشرك، وظلم العباد، وظلمه لنفسه بما دون الشرك، كان له الأمن التام والاهتداء التام، ومن لم يسلم من ظلمه لنفسه كان له الأمن والاهتداء المطلق، بمعنى أنه لا بد أن يدخل الجنة كما وعد بذلك في الآية الأخرى. وقد هداه الله إلى الصراط المستقيم الذي تكون عاقبته فيه إلى الجنة، ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه لنفسه، وليس مراد النبي صلي الله عليه وسلم بقوله: " إنما هو الشرك " أن من لم يشرك الشرك الأكبر يكون له الأمن التام والاهتداء التام، فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تبين أن أهل الكبائر معرضون للخوف; لم يحصل لهم الأمن التام والاهتداء التام اللذين يكونون بهما مهتدين إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم; من غير عذاب يحصل لهم. بل معهم أصل الاهتداء إلى هذا الصراط، ومعهم أصل نعمة الله عليهم ولا بد لهم من دخول الجنة. وقوله: " إنما هو الشرك " إن أراد الأكبر، فمقصوده أن من لم يكن من أهله فهو آمن مما وعد به المشركون من عذاب الدنيا والآخرة، وإن كان مراده جنس الشرك، يقال: ظلم العبد نفسه، كبخله لحب المال ببعض الواجب هو شرك أصغر. وحبه ما يبغضه الله تعالى حتى يقدم هواه على محبة الله الشرك(6/60)
أصغر ونحو ذلك. فهذا فاته من الأمن والاهتداء بحسبه، ولهذا كان السلف يدخلون الذنوب في هذا الشرك بهذا الاعتبار انتهى ملخصا4.
وقال ابن القيم -رحمه الله-: قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}5. قال الصحابة: "وأينا يا رسول الله لم يلبس إيمانه بظلم؟ قال: ذلك الشرك. ألم تسمعوا قول العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}6 " لما أشكل عليهم المراد بالظلم فظنوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة فاطر آية : 32.
2 سورة الزلزلة آية : 7-8.
3 صحيح: أحمد (1/11)، وابن حبان (1734, 1735 - موارد)، والحاكم (4/73) وصححه ووافقه الذهبي. وصححه الأرناؤوط في تخريجه لمسند أبي بكر الصديق لأبي بكر المروزي (111) لشواهده وطرقه.
4 من كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه.
5 سورة الأنعام آية : 82.
6 سورة لقمان آية : 13.(6/61)
ص -34- ... أن ظلم النفس داخل فيه.
وأن من ظلم نفسه أي ظلم كان لم يكن آمنا ولا مهتديا. أجابهم -صلوات الله وسلامه عليه- بأن الظلم الرافع للأمن والهداية على الإطلاق هو الشرك. وهذا والله هو الجواب الذي يشفي العليل ويروي الغليل؛ فإن الظلم المطلق التام هو الشرك الذي هو وضع العبادة في غير موضعها. والأمن والهدى المطلق: هما الأمن في الدنيا والآخرة، والهدى إلى الصراط المستقيم. فالظلم المطلق التام رافع للأمن وللاهتداء المطلق التام، ولا يمنع أن يكون الظلم مانعا من مطلق الأمن ومطلق الهدى، فتأمله. فالمطلق للمطلق، والحصة للحصة. اهـ. ملخصا1.
قوله: "عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "من شهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وأنّ عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنّة حقّ والنّار حقّ، أدخله الله الجنّة على ما كان من العمل ". أخرجاه".
عبادة بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي أبو الوليد أحد النقباء، بدري مشهور، مات بالرملة سنة أربع وثلاثين، وله اثنتان وسبعون سنة. وقيل: عاش إلى خلافة معاوية رضي الله عنه.(6/62)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال في قرة العيون: قال تعالى: 35:32 (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير) فالظالم لنفسه هو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا، فهو تحت مشيئة الله: إن شاء غفر له, وإن شاء أخذه بذنبه, ونجاه بتوحيده من الخلود في النار. وأما المقتصد فهو الذي عمل بما أوجب الله عليه وترك ما حرم عليه فقط, وهذه حال الأبرار. وأما السابق فهو الذي حصل له كمال الإيمان باستفراغه وسعه في طاعة الله علما وعملا، فهذان لهم الأمن التام والاهتداء التام في الدنيا والآخرة. فالكل للكل, والحصة للحصة؛ لأن كمال الإيمان يمنع صاحبه من المعاصي وعقوباتها, فلم يلق ربه بذنب يعاقب به كما قال تعالى: 4: 147 (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم)، وهذا الذي ذكرته في معنى هذه الآية هو ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، وابن القيم -رحمه الله- في معناها, وهو الذي دل عليه القرآن, وهو قول أهل السنة والجماعة خلافا لأهل البدع من الخوارج والمعتزلة ونحوهم.(6/63)
ص -35- ... قوله: " من شهد أن لا إله إلا الله " أي من تكلم بها عارفا لمعناها، عاملا بمقتضاها، باطنا وظاهرا، فلا بد في الشهادتين من العلم واليقين والعمل بمدلولها; كما قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ}1، وقوله: {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}2. أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ولا يقين ولا عمل بما تقتضيه: من البراءة من الشرك، وإخلاص القول والعمل: قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح فغير نافع بالإجماع3.(6/64)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة محمد آية : 19.
2 سورة الزخرف آية : 86.
3 قال في قرة العيون: وقد تضمنت هذه الكلمة العظيمة نفيا وإثباتا, فنفت الإلهية عن كل ما سوى الله بقولك: (لا إله)، وأثبتت الإلهية لله بقولك: (إلا الله) قال تعالى: 3: 18 (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم), فكم ضل بسبب الجهل بمعناها من ضل وهم الأكثرون, فقلبوا حقيقة المعنى فأثبتوا الإلهية المنفية لمن نفيت عنه من المخلوقين أرباب القبور والمشاهد والطواغيت والأشجار والأحجار والجن وغير ذلك, واتخذوا ذلك دينا وشبهوا وزخرفوا, واتخذوا التوحيد بدعة وأنكروه على من دعاهم إليه; فلم يعرفوا منها ما عرف أهل الجاهلية من كفار قريش ونحوهم. (*) فإنهم عرفوا معناها وأنكروا ما دلت عليه من الإخلاص كما قال تعالى: 37: 36,35 (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون)، والمشركون من أواخر هذه الأمة أنكروا ما أنكره أولئك على من دعاهم إلى ترك عبادة ما كانوا يعبدونه من دون الله من الموتى والقبور والمشاهد والطواغيت ونحوها، فأولئك عرفوا هذا المعنى وأنكروه، وهؤلاء جهلوا هذا المعنى وأنكروه، فلهذا تجده يقول: لا إله إلا الله, وهو يدعو مع الله غيره. سبب ذلك أن عرب الجاهلية هم أهل لغة القرآن الفصحاء، فلا يجهلون شيئا من معنى التوحيد الذي قرره. وأما هؤلاء الذين فشا فيهم اليوم شرك العبادة فليسوا من أهل ملكة هذه اللغة، وإنما يدينون بالاصطلاحات التي تلقاها بعضهم من بعض من كلامية وعامية. وإذا كان مثل الفخر الرازي من أكبر أئمة متكلميهم وأصولييهم أخطأ في فهم معنى الإله في تفسير قوله تعالى: (قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة) , فما الظن بمن دونه من علمائهم، دع عامتهم ودهماءهم؟ هل يستغرب منهم الجهل بأن من دعا ميتا أو صالحا(6/65)
حيا فيما لا يدعى فيه إلا الله, أو طاف بقبره ونذر له يكون عابدا له ومتخذا له إلها ؟!!.(6/66)
ص -36- ... قال القرطبي في المفهم على صحيح مسلم: " باب لا يكفي مجرد التلفظ بالشهادتين، بل لا بد من استيقان القلب هذه الترجمة تنبيه على فساد مذهب غلاة المرجئة، القائلين بأن التلفظ بالشهادتين كاف في الإيمان. وأحاديث هذا الباب تدل على فساده، بل هو مذهب معلوم الفساد من الشريعة لمن وقف عليها؛ ولأنه يلزم منه تسويغ النفاق، والحكم للمنافق بالإيمان الصحيح. وهو باطل قطعا" ا هـ.
وفي هذا الحديث ما يدل على هذا. وهو قوله: "من شهد" فإن الشهادة لا تصح إلا إذا كانت عن علم ويقين وإخلاص وصدق.
قال النووي: "هذا حديث عظيم جليل الموقع; وهو أجمع - أو من أجمع - الأحاديث المشتملة على العقائد. فإنه صلي الله عليه وسلم جمع فيه ما يخرج من ملل الكفر على اختلاف عقائدهم وتباعدها. فاقتصر صلي الله عليه وسلم في هذه الأحرف على ما يباين جميعهم"ا هـ.
ومعنى "لا إله إلا الله" لا معبود بحق إلا الله. وهو في غير موضع من القرآن، ويأتيك في قول البقاعي صريحا. قوله: " وحده " تأكيد للإثبات {لا شَرِيكَ لَهُ}1 تأكيد للنفي. قاله الحافظ. كما قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}2 وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ}3، وقال: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}4، فأجابوه ردا عليه بقولهم: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا}5، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}6.
فتضمن ذلك نفي الإلهية عما سوى الله، وهي العبادة. وإثباتها لله وحده لا شريك له، والقرآن من أوله إلى آخره يبين هذا ويقرره(6/67)
ويرشد إليه.
فالعبادة بجميع أنواعها إنما تصدر عن تأله القلب بالحب والخضوع والتذلل رغبا ورهبا، وهذا كله لا يستحقه إلا الله تعالى، كما تقدم في أدلة هذا الباب وما قبله. فمن صرف من ذلك شيئا لغير الله فقد جعله لله ندا، فلا ينفعه مع ذلك قول ولا عمل.
"ذكر كلام العلماء في معنى "لا إله إلا الله ".
قد تقدم كلام ابن عباس، وقال الوزير أبو المظفر في الإفصاح: قوله: "شهادة أن لا إله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية : 163.
2 سورة البقرة آية : 163.
3 سورة الأنبياء آية : 25.
4 سورة الأعراف آية : 65.
5 سورة الأعراف آية : 70.
6 سورة الحج آية : 62.(6/68)
ص -37- ... إلا الله" يقتضي أن يكون الشاهد عالما بأنه لا إله إلا الله، كما قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ}1 قال: واسم "الله" بعد "إلا" من حيث إنه الواجب له الإلهية، فلا يستحقها غيره سبحانه. قال: وجملة الفائدة في ذلك: أن تعلم أن هذه الكلمة مشتملة على الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، فإنك لما نفيت الإلهية وأثبت الإيجاب لله سبحانه كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن بالله.
وقال ابن القيم في البدائع2 ردا لقول من قال: إن المستثنى مخرج من المستثنى منه. قال ابن القيم: بل هو مخرج من المستثنى منه وحكمه، فلا يكون داخلا في المستثنى; إذ لو كان كذلك لم يدخل الرجل في الإسلام بقوله: "لا إله إلا الله"؛ لأنه لم يثبت الإلهية لله تعالى، وهذه أعظم كلمة تضمنت بالوضع نفي الإلهية عما سوى الله، وإثباتها له بوصف الاختصاص، فدلالتها على إثبات إلهيته أعظم من دلالة قولنا: "الله إله" ولا يستريب أحد في هذا البتة. انتهى بمعناه.
وقال أبو عبد الله القرطبي في نفسيره: "لا إله إلا الله": أي لا معبود إلا هو.
وقال الزمخشري: الإله من أسماء الأجناس كالرجل والفرس، يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بحق.
وقال شيخ الإسلام: الإله هو المعبود المطاع؛ فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد، وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع، قال: فإن الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها، وتخضع له وتذل له، وتخافه وترجوه، وتنيب إليه في شدائدها، وتدعوه في مهماتها، وتتوكل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه وتطمئن بذكره، وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا لله وحده، ولهذا كانت "لا إله إلا الله" أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداءه وأهل غضبه ونقمته، فإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصححها العبد(6/69)
فالفساد لازم له في علومه وأعماله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة محمد آية : 19.
2 بدائع الفوائد للعلامة ابن القيم "ج3 ص56" وهو بحث قيم جدا في الاستثناء والمستثنى.(6/70)
ص -38- ... وقال ابن القيم: "الإله" هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالا وإنابة، وإكراما وتعظيما وذلا وخضوعا وخوفا ورجاء وتوكلا.
وقال ابن رجب: "الإله" هو الذي يطاع فلا يعصى، هيبة له وإجلالا، ومحبة وخوفا ورجاء، وتوكلا عليه، وسؤالا منه ودعاء له، ولا يصلح هذا كله إلا لله عز وجل، فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان
ذلك قدحا في إخلاصه في قول: "لا إله إلا الله" وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك.
وقال البقاعي: لا إله إلا الله، أي انتفاء عظيما أن يكون معبود بحق غير الملك الأعظم؛ فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة، وإنما يكون علما إذا كان نافعا، وإنما يكون نافعا إذا كان مع الإذعان والعمل بما تقتضيه، وإلا فهو جهل صرف.
وقال الطيبي: "الإله" فعال بمعنى مفعول، كالكتاب بمعنى المكتوب، من أله إلهة أي عبد عبادة. قال الشارح: وهذا كثير في كلام العلماء وإجماع منهم.
فدلت "لا إله إلا الله" على نفي الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى كائنا ما كان، وإثبات الإلهية لله وحده دون كل ما سواه، وهذا هو التوحيد الذي دعت إليه الرسل ودل عليه القرآن من أوله إلى آخره، كما قال تعالى عن الجن: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً}1، فلا إله إلا الله لا تنفع إلا من عرف مدلولها نفيا وإثباتا، واعتقد ذلك وقبله وعمل به. وأما من قالها من غير علم واعتقاد وعمل، فقد تقدم في كلام العلماء أن هذا جهل صرف، فهي حجة عليه بلا ريب.
فقوله في الحديث: "وحده لا شريك له" تأكيد وبيان لمضمون معناها. وقد أوضح الله ذلك وبينه في قصص الأنبياء والمرسلين في كتابه المبين، فما أجهل عباد القبور بحالهم! وما أعظم ما وقعوا فيه من الشرك المنافي لكلمة الإخلاص(6/71)
لا إله إلا الله! فإن مشركي العرب ونحوهم جحدوا لا إله إلا الله لفظا ومعنى، وهؤلاء المشركون أقروا بها لفظا وجحدوها معنى، فتجد أحدهم يقولها وهو يأله غير الله بأنواع العبادة، كالحب والتعظيم، والخوف والرجاء، والتوكل والدعاء، وغير ذلك من أنواع العبادة. بل زاد شركهم على شرك العرب بمراتب،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الجن آية : 1-2.(6/72)
ص -39- ... فإن أحدهم إذا وقع في شدة أخلص الدعاء لغير الله تعالى، ويعتقدون أنه أسرع فرجا لهم من الله، بخلاف حال المشركين الأولين; فإنهم كانوا يشركون في الرخاء، وأما في الشدائد فإنما يخلصون لله وحده، كما قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ}1 الآية. فبهذا يتبين أن مشركي أهل هذه الأزمان أجهل بالله وبتوحيده من مشركي العرب ومن قبلهم2.
"وقوله: "وأن محمدا عبده ورسوله" أي وشهد بذلك، وهو معطوف على ما قبله على نية تكرار العامل، ومعنى "العبد" هنا المملوك العابد، أي أنه مملوك لله تعالى. والعبودية الخاصة وصفه، كما قال تعالى: {ألَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}3 فأعلى مراتب العبد العبودية الخاصة والرسالة، فالنبي صلي الله عليه وسلم أكمل الخلق في هاتين الصفتين الشريفتين. وأما الربوبية والإلهية فهما حق الله تعالى، لا يشركه في شيء منهما ملك مقرب ولا نبي مرسل. وقوله: "عبده ورسوله" أتى بهاتين الصفتين وجمعهما دفعا للإفراط والتفريط، فإن كثيرا ممن يدعي أنه من أمته أفرط بالغلو قولا وفعلا، وفرط بترك متابعته، واعتمد على الآراء المخالفة لما جاء به، وتعسف في تأويل أخباره وأحكامه بصرفها عن مدلولها والصدوف عن الانقياد لها مع اطراحها؛ فإن شهادة أن محمدا رسول الله تقتضي الإيمان به وتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، الانتهاء عما عنه نهى وزجر; وأن يعظم أمره ونهيه،(6/73)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة العنكبوت آية : 65.
2 في قرة العيون: "قلت" وهؤلاء المتأخرون جهلوا معنى الإله، وقلبوا حقيقة المعنى إلى معنى توحيد الربوبية، وهو القدرة على الاختراع فأثبتوا ما نفته (لا إله إلا الله) من الشرك وأنكروا ما أثبتته من إخلاص العبادة لله جهلا منهم، وقد قال تعالى: 39:2 فاعبد الله مخلصا له الدين. قال محيي الدين النووي: اعلم أن باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد ضيع من أزمان متطاولة، ولم يبق في هذه الأزمان إلا رسوم قليلة جدا وهو باب عظيم , به قوام الأمر وملاكه, وإذا كثر الخبث عم العقاب الصالح والطالح. وقوله في هذه الأزمان يعني القرن الخامس والسادس, وإذا كان كذلك فما الظن بالقرن العاشر وما بعده وقد استحكمت فيها الغربة. ولشيخنا محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- في تفسير هذه الكلمة كلام بديع واضح لم يسبق إلى مثله فليراجع لمسيس الحاجة إليه.
3 سورة الزمر آية : 36.(6/74)
ص -40- ... ولا يقدم عليه قول أحد كائنا من كان1. والواقع اليوم وقبله - ممن يتنسب إلى العلم من القضاة والمفتين -.
خلاف ذلك، والله المستعان.
وروى الدارمي في مسنده عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه كان يقول: " إنا لنجد صفة رسول الله صلي الله عليه وسلم: إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميته المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويتجاوز، ولن أقبضه حتى يقيم الملة المتعوجة بأن يشهد أن لا إله إلا الله، يفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا2 ". قال عطاء بن يسار: وأخبرني أبو واقد الليثي أنه سمع كعبا يقول مثل ما قال ابن سلام3.
قوله: "وأن عيسى عبد الله ورسوله" أي خلافا لما يعتقده النصارى أنه الله أو ابن الله، أو ثالث ثلاثة، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ}4 فلا بد أن يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله5 على علم ويقين بأنه مملوك لله،(6/75)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في قرة العيون: وأن لا تعارض بقول أحد؛ لأن غيره -صلى الله عليه وسلم- يجوز عليه الخطأ، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد عصمه الله تعالى, وأمرنا بطاعته والتأسي به وتوعدنا على ترك طاعته بقوله تعالى: 33: 36 (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) الآية. وقال: 63:24 (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم). قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك ; لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك". وقد وقع التفريط في المتابعة وتركها وتقديم أقوال من يجوز عليهم الخطأ على قوله صلى الله عليه وسلم لا سيما من العلماء كما لا يخفى.
2 صحيح: الدارمي (1/5) في المقدمة: باب صفة النبي في الكتب قبل مبعثه. وأخرجه البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص في كتاب البيوع (2125): باب كراهية السخب في الأسواق ثم أشار إلى رواية ابن سلام هذه. وأخرجه الآجري في الشريعة ص (449) من طريق آخر عن ابن سلام وإسناده صحيح.
3 آخر روايه الدارمي "ج1 ص5" وفي الرواية عن كعب: "نجده مكتوبا في التوراة".
4 سورة المؤمنون آية : 91.
5 في قرة العيون: فيه بيان الحق الذي يجب اعتقاده كما في الآيات المحكمات، وما فيها من الرد على كفار النصارى وهم ثلاث طوائف: طائفة قالوا: إن عيسى هو الله، وطائفة قالوا: ابن الله، وطائفة قالوا: ثالث ثلاثة. يعنون عيسى وأمه. فبين الله تعالى في كتابه الحق وأبطل الباطل فقال: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا) والآيات بعدها. وقال(6/76)
تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) في مواضع من سورة المائدة، وأخبر تعالى عما قاله المسيح عليه السلام وهو في المهد.(6/77)
ص -41- ... خلقه من أنثى بلا ذكر، كما قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}1 فليس ربا ولا إلها. سبحان الله عما يشركون. قال تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاًِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ2}. وقال: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً}3، ويشهد المؤمن أيضا ببطلان قول أعدائه اليهود: إنه ولد بغي، لعنهم الله تعالى. فلا يصح إسلام أحد علم ما كانوا يقولونه حتى يبرأ من قول الطائفتين جميعا في عيسى عليه السلام، ويعتقد ما قاله الله تعالى فيه: أنه عبد الله ورسوله.
قوله: "وكلمته" إنما سمي عيسى -عليه السلام- كلمة لوجوده بقوله تعالى: " كن " كما قاله السلف من المفسرين. قال الإمام أحمد في الرد على الجهمية4: "بالكلمة التي ألقاها إلى(6/78)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية : 59.
2 في قرة العيون: فبين تعالى الصراط المستقيم الذي من سلكه نجا ومن خرج منه هلك. وقال تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين) فبين تعالى الصراط المستقيم بيانا شافيا ووافيا، وأقام حججه على توحيده فأحق الحق وأبطل الباطل ولو كره المشركون.
3 سورة النساء آية : 172.
4 صفحة 20 طبعة عيسى الحلبي وأولاده في باب: ثم إن الجهمي ادعى أمرا فقال: إنا وجدنا آية في كتاب الله تدل على أن القرآن مخلوق. فقلنا: أي آية؟ قال: قول الله: (إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم) وعيسى مخلوق.(6/79)
ص -42- ... مريم حين قال له: "كن" فكان عيسى بكن، وليس عيسى هو "كن"، ولكن بكن كان، فكن من الله تعالى قول، وليس "كن" مخلوقا، وكذب النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى" انتهى.
قوله: "ألقاها إلى مريم" قال ابن كثير: خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل إلى مريم فنفخ فيها من روحه بأمر ربه عز وجل، فكان عيسى بإذن الله عز وجل، فهو ناشئ عن الكلمة التي قال له: "كن فكان"، والروح التي أرسل بها: هو جبريل عليه السلام.
وقوله: "وروح منه"1. قال أبي بن كعب: "عيسى روح من الأرواح التي خلقها الله(6/80)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الظاهر أن معنى "وروح منه" أنه كغيره من بني آدم الذي يقول الله فيه: (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي) كما مثل له في الآية الأخرى بأنه مثل آدم. والله أعلم. وقال في قرة العيون: أي من الأرواح التي استخرجها من صلب آدم -عليه السلام- وأخذ عليها العهد على أنه تعالى ربهم وإلههم كما قال تعالى:(وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا)الآية. وروح عيسى من تلك الأرواح التي خلقها الله تعالى . وذكر ابن جرير عن وهب بن منبه قال: "نفخ جبريل في جيب درع مريم حتى وصلت النفخة إلى الرحم فاشتملت عليه". وعن السدي أن النفخة دخلت في صدرها فحملت. وقال ابن جريج: يقولون إنما نفخ في جيب درعها وكمها انتهى مختصرا. فجبريل نفخ والله خلق بقول: "كن" فكان. كما قال تعالى: (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ) فسبحان من لا يخلق غيره ولا يعبد سواه. وقد أورد بعض النصارى على بعض علماء المسلمين قول الله تعالى: (وروح منه) . فقال في الجواب: هذا ليس خاصا بعيسى عليه السلام بل المخلوقات كذلك كلها. كما قال تعالى: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه) أي خلقا وإيجادا، وعيسى كذلك خلقه وأوجده كسائر مخلوقاته. وفي هذا الحديث الرد على اليهود أعداء الله وأعداء أنبيائه ورسله؛ فإنهم كانوا هم والنصارى على طرفي نقيض فنسبوه إلى أنه ولد بغي, قاتلهم الله. فأكذبهم الله تعالى في كتابه وأبطل قولهم كما أبطل قول الغلاة من النصارى فيما تقدم من الآيات ونحوها. فالنصارى غلوا في عيسى ابن مريم -عليه السلام- أعظم الغلو والكفر والضلال, واليهود جفوا في حقه غاية الجفاء, وكلاهما قد ضل ضلالا بعيدا, نبه الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه وبين تعالى الحق والصدق، ورفع قدر المسيح -عليه السلام- وجعله من أولي العزم الخمسة المذكورين في سورة الأحزاب (7:33 والشورى(6/81)
13:42) وأمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يصبر كما صبروا فقال: (واصبر كما صبر أولو العزم من الرسل)، فهم أفضل الرسل على التحقيق، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أفضلهم -صلوات الله وسلامه- عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(6/82)
ص -43- ... تعالى واستنطقها بقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}1 بعثه الله إلى مريم فدخل فيها". رواه عبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند، وابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهم. قال الحافظ: ووصفه بأنه منه، فالمعنى أنه كائن منه، كما في قوله تعالى: {سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ}2 فالمعنى أنه كائن منه؛ كما أن معنى الآية الأخرى أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه، أي أنه مكون ذلك وموجده بقدرته وحكمته.
قال شيخ الإسلام: المضاف إلى الله تعالى إذا كان معنى لا يقوم بنفسه ولا
والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل.. "3 أخرجاه.
بغيره من المخلوقات وجب أن يكون صفة لله تعالى قائمة به، وامتنع أن تكون إضافته إضافة مخلوق مربوب. وإذا كان المضاف عينا قائمة بنفسها كعيسى وجبريل -عليهما السلام- وأرواح بني آدم امتنع أن تكون صفة لله تعالى; لأن ما قام بنفسه لا يكون صفة لغيره.
لكن الأعيان المضافة إلى الله تعالى على وجهين:
أحدهما: أن تضاف إليه لكونه خلقها وأبدعها; فهذا شامل لجميع المخلوقات، كقولهم: سماء الله، وأرض الله. فجميع المخلوقين عبيد الله، وجميع المال مال الله.
الوجه الثاني: أن يضاف إليه لما خصه به من معنى يحبه ويأمر به ويرضاه; كما خص البيت العتيق لعبادة فيه لا تكون في غيره. وكما يقال في مال الخمس والفيء: هو مال الله ورسوله. ومن هذا الوجه: فعباد الله هم الذين عبدوه وأطاعوا أمره. فهذه إضافة تتضمن ألوهيته وشرعه دينه، وتلك إضافة تتضمن ربوبيته وخلقه. ا هـ ملخصا.
قوله: " والجنة حق والنار حق " أي وشهد أن الجنة التي أخبر بها الله تعالى في كتابه أنه أعدها للمتقين حق، أي ثابتة لا شك فيها، وشهد أن النار التي أخبر بها تعالى في كتابه أنه أعدها للكافرين حق كذلك ثابتة، كما قال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ(6/83)
عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}4. وقال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}5.وقال تعالى{فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 172.
2 سورة الجاثية آية : 13.
3 البخاري : أحاديث الأنبياء (3435) , ومسلم : الإيمان (28) , والترمذي : الإيمان (2638) , وأحمد (5/313 ,5/318). 4 سورة الحديد آية : 21.
5 سورة البقرة آية : 24.(6/84)
ص -44- ... أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} وفي الآيتين ونظائرهما دليل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، خلافا للمبتدعة1. وفيهما الإيمان بالمعاد.
ولهما في حديث عتبان: " فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله "2.
وقوله: " أدخله الله الجنة على ما كان من العمل " هذه الجملة جواب الشرط. وفي رواية: "أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء". قال الحافظ: معنى قوله: "على ما كان من العمل" أي من صلاح أو فساد؛ لأن أهل التوحيد لا بد لهم من دخول الجنة. ويحتمل أن يكون معنى قوله: "على ما كان من العمل" أن يدخل أهل الجنة على حسب أعمال كل منهم في الدرجات.
قال القاضي عياض: ما ورد في حديث عبادة يكون مخصوصا لمن قال ما ذكره صلي الله عليه وسلم وقرن بالشهادتين حقيقة الإيمان والتوحيد الذي ورد في حديثه، فيكون له من الأجر ما يرجح على سيئاته، ويوجب له المغفرة والرحمة ودخول الجنة لأول وهلة.
قال: "ولهما في حديث عتبان:
" فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله "".
قوله: "ولهما" أي البخاري ومسلم في صحيحيهما بكماله. وهذا طرف من حديث طويل أخرجه الشيخان 3.(6/85)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في قرة العيون: ومن لم يؤمن بالجنة والنار فقد كفر بالقرآن والرسل؛ فإن الله تعالى بين الجنة وما أعد فيها من النعيم المقيم, وذكر أنها دار المتقين, وذكر النار وما فيها من العذاب وأنه أعدها لمن كفر به وأشرك.
2 البخاري : الصلاة (425) , ومسلم : الإيمان (33).
3 في قرة العيون: اختصره المصنف وذكر منه ما يناسب الترجمة وهو قوله: "من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله" وهذا هو حقيقة معناها الذي دلت عليه هذه الكلمة من الإخلاص ونفي الشرك, والصدق والإخلاص متلازمان لا يوجد أحدهما بدون الآخر, فإن لم يكن مخلصا فهو مشرك ومن لم يكن صادقا فهو منافق, والمخلص أن يقولها مخلصا الإلهية لمن لا يستحقها غيره وهو الله تعالى, وهذا التوحيد هو أساس الإسلام الذي قاله الخليل عليه السلام: (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك). وقالت بلقيس: (رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين). وقال الخليل عليه السلام: (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين). والحنيف: هو الذي ترك الشرك رأسا وتبرأ منه وفارق أهله وعاداهم، وأخلص أعماله الباطنة والظاهرة لله وحده, كما قال تعالى: (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى) فإسلام الوجه هو إخلاص العبادة المنافي للشرك والنفاق، وهو معنى الآية ونحوها إجماعا. فهذا هو الذي يعنيه قوله: (لا إله إلا الله)، ولهذا قال تعالى: (فقد استمسك بالعروة الوثقى)، وهذا بخلاف من يقولها وهو يدعو غير الله ويستغيث به من ميت أو غائب لا ينفع ولا يضر, كما ترى عليه أكثر الخلق, فهؤلاء وإن قالوها فقد تلبسوا بما يناقضها; فلا تنفع قائلها إلا بالعلم بمدلولها نفيا وإثباتا. والجاهل بمعناها وإن قالها لا تنفعه لجهله بما وضعت له الوضع العربي الذي أريد منها من نفي الشرك, وكذلك إذا عرف معناها بغير(6/86)
تيقن له, فإذا انتفى اليقين وقع الشك. ومما قيدت به في الحديث قوله -صلى الله عليه وسلم-: "غير شاك" فلا تنفع إلا من قالها بعلم ويقين لقوله: "صدقا من قلبه, خالصا من قلبه" وكذلك من قالها غير صادق في قوله. فإنها لا تنفعه لمخالفة القلب اللسان كحال المنافقين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم. وكذلك حال المشرك فلا تقبل من مشرك لمنافاة الشرك للإخلاص, ولما دلت عليه هذه الكلمة مطابقة فإنها دلت على نفي الشرك والبراءة منه، والإخلاص لله وحده لا شريك له مطابقة. ومن لم يكن كذلك لم ينفعه قوله: "لا إله إلا الله" كما هو حال كثير من عبدة الأوثان يقولون: "لا إله إلا الله" وينكرون ما دلت عليه من الإخلاص ويعادون أهله وينصرون الشرك وأهله. وقال الخليل -عليه السلام- لأبيه وقومه 43: 26 , 27 , 28: (إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه ) وهي "لا إله إلا الله" وقد عبر عنها الخليل بمعناها الذي وضعت له ودلت عليه, وهو البراءة من الشرك وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له كما تقدم تقريره, وكذلك من قالها ولم يقبل ما دلت عليه من الإخلاص، كان قوله لهذه الكلمة كذبا منه، بل قد عكس مدلولها فأثبت ما نفته من الشرك ونفى ما أثبتته من الإخلاص. فهذا الذي ذكرناه هو حال الأكثرين من هذه الأمة بعد القرون الثلاثة, وسبب ذلك الجهل بمعناها واتباع الهوى فيصدفه عن اتباع الحق وما بعث الله به رسله من توحيده الذي شرعه لعباده ورضيه لهم.(6/87)
ص -45- ... وعتبان بكسر المهملة بعدها مثناة فوقية ثم موحدة، ابن مالك بن عمرو بن العجلان الأنصاري، من بني سالم بن عوف، صحابي مشهور، مات في خلافة معاوية.(6/88)
ص -46- ... وأخرج البخاري في صحيحه بسنده عن قتادة قال: حدثنا أنس بن مالك أن النبي صلي الله عليه وسلم ومعاذ رديفه على الرحل قال: " يا معاذ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: يا معاذ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك. قال: يا معاذ، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك - ثلاثا - قال: ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله تعالى على النار. قال: يا رسول الله، أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال: إذا يتكلوا. فأخبر بها معاذ عند موته تأثما "1 وساق بسند آخر: حدثنا معتمر قال: سمعت أبي، قال: سمعت أنسا قال: ذكر لي أن النبي صلي الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل: " من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة. قال: ألا أبشر الناس؟ قال: لا، إني أخاف أن يتكلوا ".
قلت: فتبين بهذا السياق معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وأنها تتضمن ترك الشرك لمن قالها بصدق ويقين وإخلاص.
قال شيخ الإسلام وغيره: في هذا الحديث ونحوه أنها فيمن قالها ومات عليها، كما جاءت مقيدة بقوله: "خالصا من قلبه غير شاك فيها بصدق ويقين" فإن حقيقة التوحيد انجذاب الروح إلى الله تعالى جملة، فمن شهد أن لا إله إلا الله خالصا من قلبه دخل الجنة؛ لأن الإخلاص هو انجذاب القلب إلى الله تعالى بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحا، فإذا مات على تلك الحال نال ذلك، فإنه قد تواترت الأحاديث بأنه: " يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، وما يزن خردلة، وما يزن ذرة "2.
وتواترت بأن كثيرا ممن يقول لا إله إلا الله يدخل النار ثم يخرج منها، وتواترت بأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم، فهؤلاء كانوا يصلون ويسجدون لله، وتواترت بأنه يحرم على النار من قال لا إله إلا الله، ومن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال، وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص، وأكثر من(6/89)
يقولها إنما يقولها تقليدا أو عادة، ولم تخالط حلاوة الإيمان بشاشة قلبه. وغالب من يفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء، كما في الحديث: "سمعت الناس يقولون شيئا فقلته3 ". وغالب أعمال هؤلاء إنما هي تقليد واقتداء بأمثالهم، وهم من أقرب الناس من قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} 4.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : العلم (128) , ومسلم : الإيمان (32).
2 البخاري : التوحيد (7410) , ومسلم : الإيمان (193) , والترمذي : صفة جهنم (2593) , وابن ماجه : الزهد (4312) , وأحمد (3/116 ,3/173 ,3/276).
3 في حديث البراء بن عازب الذي رواه أصحاب السنن وغيرهم في سؤال القبر.
4 سورة الزخرف آية: 23.(6/90)
ص -47- ... وحينئذ فلا منافاة بين الأحاديث؛ فإنه إذا قالها بإخلاص ويقين تام لم يكن في هذه الحال مصرا على ذنب أصلا، فإن كمال إخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب إليه من كل شيء، فإذا لا يبقى في قلبه إرادة لما حرم الله، ولا كراهة لما أمر الله. وهذا هو الذي يحرم على النار وإن كانت له ذنوب قبل ذلك، فإن هذا الإيمان وهذا الإخلاص، وهذه التوبة وهذه المحبة وهذا اليقين، لا تترك له ذنبا إلا محي عنه كما يمحو الليل النهار، فإذا قالها على وجه الكمال المانع من الشرك الأكبر والأصغر، فهذا غير مصر على ذنب أصلا، فيغفر له ويحرم على النار. وإن قالها على وجه خلص به من الشرك الأكبر دون الأصغر، ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك، فهذه الحسنة لا يقاومها شيء من السيئات فيرجح بها ميزان الحسنات، كما في حديث البطاقة1.
فيحرم على النار. ولكن تنقص درجته في الجنة بقدر ذنوبه، وهذا بخلاف من رجحت سيئاته بحسناته ومات مصرا على ذلك؛ فإنه يستوجب النار. وإن قال لا إله إلا الله وخلص بها من الشرك الأكبر ولكنه لم يمت على ذلك، بل أتى بعدها بسيئات رجحت على حسنة توحيده، فإنه في حال قولها كان مخلصا لكنه أتى بذنوب أوهنت ذلك التوحيد والإخلاص فأضعفته، وقويت نار الذنوب حتى أحرقت ذلك، بخلاف المخلص المستيقن؛ فإن حسناته لا تكون إلا راجحة على سيئاته ولا يكون مصرا على سيئات، فإن مات على ذلك دخل الجنة.
وإنما يخاف على المخلص أن يأتي بسيئة راجحة، فيضعف إيمانه فلا يقولها بإخلاص ويقين مانع من جميع السيئات، ويخشى عليه من الشرك الأكبر والأصغر، فإن سلم من الأكبر بقي معه من الأصغر; فيضيف إلى ذلك سيئات تنضم إلى هذا الشرك فيرجح جانب السيئات، فإن السيئات تضعف الإيمان واليقين، فيضعف: قول لا إله إلا الله، فيمتنع الإخلاص بالقلب، فيصير المتكلم بها كالهاذي أو النائم، أو من يحسن صوته بالآية من القرآن من غير ذوق طعم وحلاوة، فهؤلاء لم يقولوها بكمال الصدق(6/91)
واليقين، بل يأتون بعدها بسيئات تنقض ذلك بل يقولونها من غير يقين وصدق ويحيون على ذلك، ويموتون على ذلك، ولهم سيئات كثيرة تمنعهم من دخول الجنة. فإذا كثرت الذنوب ثقل على اللسان قولها، وقسا القلب عن قولها، وكره العمل الصالح وثقل عليه سماع القرآن، واستبشر بذكر غير الله، واطمأن إلى الباطل، واستحلى الرفث،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيأتي في صفحة 50 .(6/92)
ص -48- ... ومخالطة أهل الغفلة، وكره مخالطة أهل الحق، فمثل هذا إذا قالها قال بلسانه ما ليس في قلبه، وبفيه ما لا يصدقه عمله.
قال الحسن: " ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال. فمن قال خيرا وعمل خيرا قبل منه، ومن قال خيرا وعمل شرا لم يقبل منه " وقال بكر بن عبد الله المزني: " ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة ولكن بشيء وقر في قلبه ".
فمن قال: لا إله إلا الله ولم يقم بموجبها بل اكتسب مع ذلك ذنوبا، وكان صادقا في قولها موقنا بها، لكن له ذنوب أضعفت صدقه ويقينه، وانضاف إلى ذلك الشرك الأصغر العملي، فرجحت هذه السيئات على هذه الحسنة، ومات مصرا على الذنوب، بخلاف من يقولها بيقين وصدق، فإنه إما أن لا يكون مصرا على سيئة أصلا، ويكون توحيده المتضمن لصدقه ويقينه رجح حسناته. والذين يدخلون النار ممن يقولها: إما أنهم لم يقولوها بالصدق واليقين التام المنافيين للسيئات أو لرجحانها، أو قالوها واكتسبوا بعد ذلك سيئات رجحت على حسناتهم، ثم ضعف لذلك صدقهم ويقينهم، ثم لم يقولوها بعد ذلك بصدق ويقين تام؛ لأن الذنوب قد أضعفت ذلك الصدق واليقين من قلوبهم، فقولها من مثل هؤلاء لا يقوى على محو السيئات فترجح سيئاتهم على حسناتهم. انتهى ملخصا.
وقد ذكر هذا كثير من العلماء، كابن القيم وابن رجب وغيرهم. قلت: وبما قرره شيخ الإسلام تجتمع الأحاديث.
قال: وفي الحديث دليل على أنه لا يكفي في الإيمان النطق من غير اعتقاد وبالعكس.
وفيه تحريم النار على أهل التوحيد الكامل، وفيه أن العمل لا ينفع إلا إذا كان خالصا لوجه الله تعالى على ما شرعه على لسان رسوله صلي الله عليه وسلم.
"تنبيه" قال القرطبي في تذكرته: قوله في الحديث "من إيمان" أي من أعمال الإيمان التي هي من أعمال الجوارح. فيكون فيه دلالة على أن الأعمال الصالحة من الإيمان، والدليل على أنه أراد بالإيمان ما قلناه، ولم يرد مجرد الإيمان الذي هو(6/93)
التوحيد ونفي الشركاء والإخلاص بقول لا إله إلا الله ما في الحديث نفسه من قوله: "أخرجوا - ثم بعد ذلك يقبض سبحانه قبضة فيخرج قوما لم يعملوا خيرا قط" - يريد بذلك التوحيد المجرد من الأعمال. ا هـ ملخصا من شرح سنن ابن ماجه.(6/94)
ص -49- ... قال المصنف -رحمه الله-: " وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال:
" قال موسى عليه السلام: يا رب، علمني شيئا أذكرك وأدعوك به. قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله. قال: كل عبادك يقولون هذا. قال: يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله " رواه ابن حبان والحاكم وصححه" 1.
أبو سعيد: اسمه سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الأنصاري الخزرجي، صحابي جليل وأبوه كذلك. استصغر أبو سعيد بأحد، وشهد ما بعدها. مات بالمدينة سنة ثلاث أو أربع أو خمس وستين. وقيل: سنة أربع وسبعين.
قوله: "أذكرك" أي أثني عليك به "وأدعوك" أي أسألك به.
قال: قل: يا موسى لا إله إلا الله. قال: يا رب كل عبادك يقولون هذا. قال: يا موسى لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة،
قوله: "قل يا موسى لا إله إلا الله"2 فيه أن الذاكر بها يقولها كلها، ولا يقتصر على لفظ الجلالة، ولا على "هو" كما يفعله غلاة جهال المتصوفة، فإن ذلك بدعة وضلال.
قوله: "كل عبادك يقولون هذا" ثبت بخط المصنف بالجمع، والذي في الأصول "يقول" بالإفراد مراعاة للفظة "كل"، وهو في المسند من حديث عبد الله بن عمرو بلفظ الجمع كما ذكره المصنف على معنى "كل"، ومعنى قوله: "كل عبادك يقولون هذا" أي إنما أريد شيئا تخصني به من بين عموم عبادك، وفي رواية: - بعد قوله: "كل عبادك يقولون هذا – قل: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا أنت يا رب، إنما أريد شيئا تخصني(6/95)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ضعيف: ابن حبان (2324) – موارد، والحاكم (1/528) وصححه ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في المجمع (10/82) بعد ما عزاه لأبي يعلى: "ورجاله وثقوا على ضعف فيهم". وضعفه الأرناؤوط في تخريج شرح السنة (5/55).
2 قال في قرة العيون: فلا نافية للجنس نفيا عاما إلا ما استثني، وخبرها محذوف تقديره لا إله إلا الله. قال تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير) , فإلهيته تعالى هي الحق وكل ما سواه من الآلهة فإلهيته باطلة كما في هذه الآية ونظائرها. فهذه كلمة عظيمة هي العروة الوثقى وكلمة التقوى وكلمة الإخلاص, وهي التي قامت بها السماوات والأرض, وشرعت لتكميلها السنة والفرض, ولأجلها جردت سيوف الجهاد, وبها ظهر الفرق بين المطيع والعاصي من العباد. فمن قالها وعمل بها صدقا وإخلاصا وقبولا, ومحبة وانقيادا أدخله الله الجنة على ما كان من العمل.(6/96)
ص -50- ... به".
ولما كان بالناس - بل بالعالم كله - من الضرورة إلى لا إله إلا الله ما لا نهاية له، كانت من أكثر الأذكار وجودا، وأيسرها حصولا، وأعظمها معنى. والعوام والجهال يعدلون عنها إلى الدعوات المبتدعة التي ليست في الكتاب ولا في السنة.
قوله: "وعامرهن غيري"1 هو بالنصب عطف على السماوات، أي لو أن السموات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال في قرة العيون: أي كل من في السماوات والأرض. وقوله: "غيري" استثنى ممن في السماوات نفسه؛ لأنه العلي الأعلى تعالى وتقدس كما قال تعالى: 255:2 (وهو العلي العظيم ), علو القهر(6/97)
ص -51- ... السبع ومن فيهن من العمار غير الله تعالى، والأرضين السبع ومن فيهن، وضعوا في كفة الميزان ولا إله إلا الله في الكفة الأخرى، مالت بهن لا إله إلا الله.
=وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلي الله عليه وسلم:" أن نوحا - عليه السلام - قال لابنه عند موته: آمرك بلا إله إلا الله، فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة، ولا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السماوات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة لقصمتهن لا إله إلا الله "1.
قوله: "في كفة" هو بكسر الكاف وتشديد الفاء، أي كفة الميزان.
قوله: "مالت بهن" أي رجحت. وذلك لما اشتملت عليه من نفي الشرك، وتوحيد الله الذي هو أفضل الأعمال. وأساس الملة والدين، فمن قالها بإخلاص ويقين، وعمل بمقتضاها ولوازمها وحقوقها، واستقام على ذلك، فهذه الحسنة لا يوازنها شيء; كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}2.
ودل الحديث على أن "لا إله الا الله" أفضل الذكر. كحديث عبد الله بن عمرو مرفوعا: وعلو القدر وعلو الذات. فالثلاثة كلها صفته ودلت على كماله كما قال تعالى: 5:20 (الرحمن على العرش استوى) 59:25 (ثم استوى على العرش الرحمن ) الآية. في سبعة مواضع من كتابه (53:7 و3:1 و13: 2 و32: 4 و4:47) كما قال تعالى: 10:35 (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) وقال تعالى: 50:16 (يخافون ربهم من فوقهم) وقال تعالى: 4:70 (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) 55:3 (إني متوفيك ورافعك إلي) وأمثال هذه الآيات. فمن سلب علو الله تعالى على خلقه فقد خالف صريح الكتاب والسنة، وألحد في أسمائه وصفاته ومعنى هذه الكلمة: نفي الإلهية عن كل شيء سوى ما استثنى بها وهو الله تعالى. لكن هذه الكلمة العظيمة لا يحصل رجحانها إلا في حق من أتى(6/98)
بقيودها التي قيدت بها في الكتاب والسنة, وقد ذكر الله سبحانه في سورة براءة وغيرها كثيرا ممن يقولها ولم ينفعهم قولها، كحال أهل الكتاب والمنافقين على كثرتهم وتنوعهم في نفاقهم، فلم تنفعهم مع ما قام بهم من ترك تلك القيود. (فمنهم) من يقولها جاهلا بما وضعت له، وبما دلت عليه من نفي الشرك والبراءة منه، والصدق والإخلاص وغيرها. كعدم القبول ممن دعي إليها علما وعملا, وترك الانقياد بالعمل بما تقتضيه كحال أكثر من يقولها قديما وحديثا, ولكن في أواخر هذه الأمة أكثر. (ومنهم) من يمنعه من محبتها والعمل بها ما قام بقلبه من كبر أو هوى أو غير ذلك من الأسباب وهي كثيرة، منها: قوله تعالى: 24:9 (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) . وأما أهل الإيمان الخالص فهم الذين أتوا بهذه الكلمة، واجتمعت لهم قيودها التي قيدت بها علما ويقينا، وصدقا وإخلاصا ومحبة وقبولا وانقيادا، وعادوا فيه ووالوا فيه وأحبوا فيه وأبغضوا فيه. وقد ذكرهم الله تعالى في مواضع من سورة براءة وغيرها وخصهم بالثناء عليهم والعفو عنهم، وأعد لهم جنته وأنجاهم من النار; كما قال تعالى: 100:9 (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم)، فهؤلاء ومن اتبعهم هم أهل "لا إله إلا الله", وغير هذه من الآيات في الثناء عليهم وما أعد لهم في الدار الآخرة. فمن تدبر القرآن وعرف تفاوت الخلق في محبة ربهم وتوحيده والعمل بطاعته والهرب من معصيته وإيثار ما يحبه تعالى رغبة وعملا، وترك ما يكرهه خشية ورجاء, واعتبر الناس بأحوالهم وأقوالهم وأعمالهم ونياتهم وما هم فيه من التفاوت البعيد; تبين له خطأ(6/99)
المغرورين؛ كما في الحديث الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح: أحمد (2/169,170,225). وصححه الحاكم (1/48,49) ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي (4/220): "ورجال أحمد ثقات" اهـ. وقال الألباني في الصحيحة (1/210): "وسنده صحيح" اهـ.
2 سورة الأحقاف آية : 13.(6/100)
ص -52- ... " خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير "1 رواه أحمد والترمذي، وعنه أيضا مرفوعا: " يصاح برجل من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلا، كل سجل منها مد البصر، ثم يقال: أتنكر من هذا شيئا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول لا يا رب. فيقال: أفلك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا، فيقال: بلى إن لك عندنا حسنة وأنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله. فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات، فيقال إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة " رواه الترمذي وحسنه. والنسائي وابن حبان والحاكم. وقال: صحيح على شرط مسلم، وقال الذهبي في تلخيصه: صحيح 2.
قال ابن القيم - رحمه الله -: "فالأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض. قال: وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة ويقابلها تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات، فلا يعذب. ومعلوم أن كل موحد له هذه البطاقة وكثير منهم يدخل النار بذنوبه".
قوله: "رواه ابن حبان والحاكم" ابن حبان اسمه محمد بن حبان - بكسر المهملة وتشديد الموحدة - ابن أحمد بن حبان بن معاذ، أبو حاتم التميمي البستي الحافظ صاحب التصانيف: كالصحيح، والتاريخ، والضعفاء، والثقات وغير ذلك. قال الحاكم: كان من أوعية العلم في الفقه واللغة والحديث والوعظ، ومن عقلاء الرجال. مات سنة أربع وخمسين وثلاثمائة بمدينة بست - بضم الموحدة وسكون المهملة -.
رواه ابن حبان والحاكم وصححه.
وللترمذي - وحسنه - عن أنس: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " قال الله تعالى: يا ابن آدم لو(6/101)
أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة "3.
وأما الحاكم فاسمه محمد بن عبد الله بن محمد النيسابوري أبو عبد الله الحافظ، ويعرف بابن البيع، ولد سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وصنف التصانيف، كالمستدرك وتاريخ نيسابور وغيرهما، ومات سنة خمس وأربعمائة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : الدعوات (3585).
2 صحيح: الترمذي: كتاب الإيمان (2639): باب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وقال حسن غريب. وابن ماجة: كتاب الزهد (4300): باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة، وابن حبان (2524 - موارد)، والحاكم (1/6), (2/188 , 189) وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي. قال الألباني في الصحيحة (1/213): "وهو كما قالا" اهـ. والحديث ليس في سنن النسائي كما عزاه المؤلف وراجع تحفة الأشراف (6/342).
3 صحيح: الترمذي: كتاب الدعوات (3540): باب فضل التوبة والاستغفار وما ذكر من رحمة الله لعباده. وقال الترمذي: حديث حسن غريب. والحديث صحيح لشواهده الكثيرة، وقد شرحه العلامة ابن رجب في جامع العلوم والحكم "الحديث الثاني والأربعين" وقد أفردناه بالشرح والتحقيق وأسميناه أسباب المغفرة فليراجع التخريج هناك.(6/102)
ص -53- ... قال المصنف - رحمه الله -: "وللترمذي; وحسنه، عن أنس: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " قال الله تعالى: يا ابن آدم; إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة1" ذكر المصنف - رحمه الله - الجملة الأخيرة من الحديث، وقد رواه الترمذي بتمامه فقال: عن أنس قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم; إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي; يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي يا ابن آدم إنك لو أتيتني " الحديث.
فيه مسائل:
الأولى: سعة فضل الله.
الثانية: كثرة ثواب التوحيد عند الله.
الثالثة: تكفيره مع ذلك للذنوب.
الرابعة: تفسير الآية التي في سورة الأنعام.
الخامسة: تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة.
الترمذي: اسمه محمد بن عيسى بن سورة - بفتح المهملة - ابن موسى بن الضحاك السلمي أبو عيسى، صاحب الجامع وأحد الحفاظ، كان ضرير البصر، روى عن قتيبة وهناد والبخاري وخلق. مات سنة تسع وسبعين ومائتين.
وأنس: هو ابن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي، خادم رسول الله صلي الله عليه وسلم خدمه عشر سنين، وقال له: " اللهم أكثر ماله وولده، وأدخله الجنة "2 مات سنة اثنتين وقيل: ثلاث وتسعين، وقد جاوز المائة.
والحديث قد رواه الإمام أحمد من حديث أبي ذر بمعناه، وهذا لفظه:" ومن عمل قراب الأرض خطيئة ثم لقيني لا يشرك بي جعلت له مثلها مغفرة3" ورواه مسلم، وأخرجه الطبراني من حديث ابن عباس عن النبي صلي الله عليه وسلم قوله: "لو أتيتني بقراب الأرض" بضم القاف: وقيل بكسرها والضم أشهر وهو(6/103)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في قرة العيون: في هذا الحديث ما يبين معنى "لا إله إلا الله" التي رجحت بجميع المخلوقات, وجميع السيئات; وأن ذلك هو ترك الشرك قليله وكثيره, وذلك يقتضي كمال التوحيد فلا يسلم من الشرك إلا من حقق توحيده، وأتى بما تقتضيه كلمة الإخلاص من العلم واليقين والصدق والإخلاص والمحبة والقبول والانقياد، وغير ذلك مما تقتضيه تلك الكلمة العظيمة كما قال تعالى: (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم). الشعراء 88 و 89 .
2 البخاري : الدعوات (6334) , ومسلم : المساجد ومواضع الصلاة (660) وفضائل الصحابة (2480 ,2481) , والترمذي : المناقب (3827) , وأحمد (3/108 ,3/188).
3 صحيح: الطبراني في الكبير (12346) والصغير (2/20 , 21) وقال الهيثمي (10/216): "رواه الطبراني في الثلاثة وفيه إبراهيم بن إسحاق الصيني وقيس بن الربيع وكلاهما مختلف في توثيقه وبقية رجاله رجال الصحيح) اهـ. والحديث صحيح لغيره وذلك لشواهده الكثيرة وراجع تخريج رقم [37].(6/104)
ص -54- ... ملؤها أو ما يقارب ملئها.
قوله: "ثم لقيتني لاتشرك بي شيئا" شرط ثقيل في الوعد بحصول المغفرة، وهو السلامة من الشرك: كثيره وقليله، صغيره وكبيره. ولا يسلم من ذلك إلا من سلم الله تعالى، وذلك هو القلب السليم كما قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}1.
السادسة: أنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان وما بعده تبين لك معنى قول: " لا إله إلا الله"، وتبين لك خطأ المغرورين 2.
قال ابن رجب: من جاء مع التوحيد بقراب الأرض خطايا لقيه الله بقرابها مغفرة - إلى أن قال - فإن كمل توحيد العبد وإخلاصه لله تعالى فيه، وقام بشروطه بقلبه ولسانه وبجوارحه، أو بقلبه ولسانه عند الموت، أوجب ذلك مغفرة ما قد سلف من الذنوب كلها، ومنعه من دخول النار بالكلية. فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه أخرجت منه كل ما سوى الله: محبة وتعظيما، وإجلالا ومهابة وخشية وتوكلا، وحينئذ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها، وإن كانت مثل زبد البحر. ا هـ ملخصا.
قال العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى - في معنى الحديث: "ويعفى لأهل التوحيد المحض الذي لم يشوبوه بالشرك ما لا يعفى لمن ليس كذلك. فلو لقي الموحد الذي لم يشرك بالله شيئا ألبته ربه بقراب الأرض خطايا أتاه بقرابها مغفرة; ولا يحصل هذا لمن نقص توحيده؛ فإن التوحيد الخالص الذي لا يشوبه شرك لا يبقى معه ذنب؛ لأنه يتضمن من محبة الله وإجلاله وتعظيمه، وخوفه ورجائه وحده ما يوجب غسل الذنوب ولو كانت قراب الأرض، فالنجاسة عارضة والدافع لها قوي". اهـ.
وفي هذا الحديث: كثرة ثواب التوحيد، وسعة كرم الله وجوده ورحمته، والرد على الخوارج الذين يكفرون المسلم بالذنوب، وعلى المعتزلة القائلين بالمنزلة بين المنزلتين، وهي الفسوق، ويقولون ليس بمؤمن ولا كافر، ويخلد في النار. والصواب
قول أهل السنة: أنه لا يسلب عنه اسم الإيمان، ولا يعطاه على الإطلاق، بل يقال: هو مؤمن(6/105)
عاص، أو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته. وعلى هذا يدل الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الشعراء آية : 88-89.
2 كثير من الناس يخطئون في فهم أحاديث: "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة" فيظنون بأن التلفظ بها يكفي وحده للنجاة من النار ودخول الجنة، وليس كذلك، فإن من يظن ذلك من المغرورين لم يفهم "لا إله إلا الله" لأنه لم يتدبرها. إذ أن حقيقة معناها: البراءة من كل معبود، والتعهد بتجريد كل أنواع العبادة لله سبحانه وحده، والقيام بها على الوجه الذي يحبه ويرضاه. فمن لم يقم بحقها من العبادة، أو قام ببعض أنواع العبادة، ثم عبد مع الله غيره من دعاة الأولياء والصالحين والنذر لهم ونحو ذلك؛ فإنه يكون هادما لها، فلا تنفعه دعواه ولا تغني عنه شيئا، ولو كان مجرد قولها كافيا لم يقع من المشركين ما وقع من محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم ومعاداته. قال الله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله)- وقال - (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون), فمن لم يوف بها ويعمل بمقتضاها لا ينفعه التلفظ. وكل من جعل شيئا من أنواع العبادة لغير الله فهو إما جاهل بمعناها، أو كاذب في ادعائه الإيمان، وأولئك هم المغرورون (الأخسرون أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا).(6/106)
ص -55- ... وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " لما أسري برسول الله صلي الله عليه وسلم انتهي به إلى سدرة المنتهى، فأعطي ثلاثا: أعطي الصلوات الخمس، وخواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئا: المقحمات "1 رواه مسلم.
قال ابن كثير في تفسيره: وأخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه والنسائي عن أنس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الإيمان (173) , والترمذي : تفسير القرآن (3276) , والنسائي : الصلاة (451) , وأحمد (1/387).(6/107)
ص -56- ... بن مالك قال: "قرأ رسول الله صلي الله عليه وسلم هذه الآية {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ}1 وقال: " قال ربكم: أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله، فمن اتقى أن يجعل معي إلها كان أهلا أن أغفر له2".
قال المصنف - رحمه الله -: "تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة فإنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان تبين لك معنى قوله: "لا إله إلا الله". وتبين لك خطأ المغرورين.
وفيه أن الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل "لا إله إلا الله"، والتنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أن كثيرا ممن يقولها يخف ميزانه. وفيه إثبات الصفات خلافا للمعطلة. وفيه أنك إذا عرفت حديث أنس وقوله في حديث عتبان: " إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله " تبين لك أن ترك الشرك ليس قولها باللسان فقط".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المدثر آية : 56.
2 أحمد (3/142 , 243). والترمذي: كتاب التفسير (3328): باب ومن سورة الحشر، والنسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف (1/139)، وابن ماجة: كتاب الزهد (4299): باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة. وضعفه الترمذي بقوله: "هذا حديث غريب, وسهيل ليس بالقوي في الحديث" اهـ. وسهيل هو ابن أبي حزم القطيعي ضعيف كما في التقريب (1/338).(6/108)
ص -57- ... السابعة: التنبيه للشرط في حديث عتبان 1.
الثامنة: كون الأنبياء يحتاجون للتنبيه على فضل لا إله إلا الله.
التاسعة: التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات، مع أن كثيرا ممن يقولها يخف ميزانه.
العاشرة: النص على أن الأرضين سبع كالسماوات.
الحادية عشرة: أن لهن عمارا.
الثانية عشرة: إثبات الصفات خلافا للأشعرية.
الثالثة عشرة: أنك إذا عرفت حديث أنس عرفت أن قوله في حديث عتبان: " فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله " أنه ترك الشرك، ليس قولها باللسان.
الرابعة عشرة: تأمل الجمع بين كون عيسى ومحمد عبدي الله ورسوليه.
الخامسة عشرة: معرفة اختصاص عيسى بكونه كلمة الله.
السادسة عشرة: معرفة كونه روحا منه.
السابعة عشرة: معرفة فضل الإيمان بالجنة والنار.
الثامنة عشرة: معرفة قوله: "على ما كان من العمل".
التاسعة عشرة: معرفة أن الميزان له كفتان.
العشرون: معرفة ذكر الوجه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو قوله: "يبتغي بها وجه الله" ومن قالها يبتغي بها وجه الله لابد أن يعمل ويخلص عمله لله.
باب" من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب" أي ولا عذاب.
"قلت": تحقيقه تخليصه وتصفيته من شوائب الشرك والبدع والمعاصي 1.(6/109)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في قرة العيون: وتحقيق التوحيد عزيز في الأمة لا يوجد إلا في أهل الإيمان الخلص الذين أخلصهم الله واصطفاهم من خلقه كما قال تعالى في يوسف - عليه السلام -: 24:12 (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) بفتح اللام, وفي قراءة (المخلصين) بكسرها, وهم في صدر هذه الأمة كثيرون وفي آخرها هم الغرباء، وقد قلوا، وهم الأعظمون قدرا عند الله. وقال تعالى عن خليله - عليه السلام -: 6: 78 , 79 (قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين) أي أخلصت ديني وأفردت عبادتي للذي فطر السماوات والأرض أي خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق (حنيفا) أي في حال كوني حنيفا أي مائلا عن الشرك إلى التوحيد. ولهذا قال: (وما أنا من المشركين) , ونظائر هذه الآية في القرآن كثير. كقوله: (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا )، وقال تعالى: (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى) .قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى في الآية: يقول تعالى مخبرا عمن أسلم وجهه لله أي أخلص له العمل وانقاد لأوامره واتبع شرعه, ولهذا قال: (وهو محسن) أي في عمله واتباع ما أمر به وترك ما عنه زجر. فدلت هذه الآية العظيمة على أن كمال الإخلاص إنما يوجد بترك الشرك والبراءة منه وممن فعله كما تقدم في الباب قبل هذا.(6/110)
ص -58- ... قال الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}1 وصف إبراهيم - عليه السلام - بهذه الصفات التي هي الغاية في تحقيق التوحيد:
الأولى: أنه كان أمة; أي قدوة وإماما معلما للخير. وما ذاك إلا لتكميله مقام الصبر واليقين اللذين تنال بهما الإمامة في الدين.
الثانية: قوله: "قانتا" قال شيخ الإسلام: "القنوت دوام الطاعة، والمصلي إذا أطال قيامه أو ركوعه أو سجوده فهو قانت. قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ}4 " اهـ ملخصا.
الثالثة: أنه كان حنيفا "قلت" قال العلامة ابن القيم: " "الحنيف" المقبل على الله، المعرض عن كل ما سواه". اهـ.
الرابعة: أنه ما كان من المشركين، أي لصحة إخلاصه وكمال صدقه، وبعده عن الشرك3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية : 120.(6/111)
2 سورة الزمر آية : 9.
3 قال العلامة ابن القيم - رحمه الله - في مفتاح دار السعادة في الوجه 147 من فضل العلم: "إن الله أثنى على إبراهيم خليله بقوله: (إن إبراهيم كان أمة) الآية. فهذه أربعة أنواع من الثناء، افتتحها بأنه "أمة" وهو القدوة الذي يؤتم به. قال ابن مسعود: "الأمة: المعلم للخير" وهي فعلة- بضم الفاء- من الائتمام كالقدوة, وهو الذي يقتدى به. والفرق بين "الأمة" و "الإمام" من وجهين: أحدهما: أن الإمام كل ما يؤتم به, سواء كان بقصده وشعوره أو لا, ومنه سمي الطريق إماما. كقوله تعالى: (وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين) أي بطريق واضح لا يخفى على السالك. ولا يسمى الطريق أمة. الثاني: أي "الأمة" فيه زيادة معنى. وهو الذي جمع صفات الكمال في العلم والعمل, وهو الذي بقي فيها فردا وحده, فهو الجامع لخصال تفرقت في غيره, فكأنه باين غيره باجتماعها فيه، وتفرقها أو عدمها في غيره. ولفظ "الأمة" يشعر بهذا المعنى , لما فيه من الميم المضعفة الدالة على الضم بمخرجها وتكريرها, وكذلك ضم أوله. فإن الضمة من الواو ومخرجها، فيضم عند النطق بها. وأتى بالتاء الدالة على الوحدة كالغرفة واللقمة. ومنه الحديث: "إن زيد بن عمرو بن نفيل يبعث يوم القيامة أمة وحده" فالضم والاجتماع لازم لمعنى الأمة. ومنه سميت الأمة التي هي آحاد الأمم , لأنهم الناس المجتمعون على دين واحد أو في عصر واحد. الثاني: قوله: "قانتا" قال ابن مسعود: "القانت": المطيع. والقنوت يفسر بأشياء كلها ترجع إلى دوام الطاعة. الثالث: قوله: "حنيفا" والحنيف: المقبل على الله. ويلزم من هذا المعنى ميله عما سواه, فالميل لازم معنى الحنيف، لا أنه موضوعه لغة. الرابع: قوله: "شاكرا لأنعمه" والشكر للنعم مبني على ثلاثة أركان: الإقرار بالنعمة، وإضافتها إلى المنعم بها، وصرفها في مرضاته والعمل فيها بما يجب. فلا يكون العبد شاكرا إلا بهذه الثلاثة.(6/112)
والمقصود: أنه سبحانه مدح خليله بأربع صفات كلها ترجع إلى العلم والعمل بموجبه وتعليمه ونشره، فعاد الكمال كله إلى العلم والعمل بموجبه ودعوة الخلق إليه". اهـ.
وقال في قرة العيون: قال العماد ابن كثير - رحمه الله تعالى -: يمدح الله تعالى عبده ورسوله وخليله إبراهيم إمام الحنفاء: بتبرئته من المشركين ومن اليهودية والنصرانية والمجوسية. و"الأمة" هو الإمام الذي يقتدى به. و"القانت" هو الخاشع المطيع, والحنيف: المنحرف قصدا عن الشرك إلى التوحيد, ولهذا قال: (ولم يك من المشركين). وقال مجاهد: كان إبراهيم أمة أي مؤمنا وحده, والناس كلهم إذ ذاك كفار. قلت: وكلا القولين حق . فقد كان الخليل - عليه السلام - كذلك. وقول مجاهد - والله أعلم - لما كان الخليل كذلك في ابتداء دعوته ونبوته ورسالته عليه السلام , فمدحه الله تعالى بتبرئته من المشركين; كما قال تعالى: 41:19 , 42 (واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا) الآيات (43-50) وقوله 83:37 , 84 (وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم) الآيات 85-113) فهذا - والله أعلم - كان في ابتداء دعوته عليه الصلاة والسلام ولم يكن إذ ذاك على وجه الأرض مسلم غيره. وبذلك جاء الحديث. وقوله: (ولم يك من المشركين) فقد فارق المشركين بالقلب واللسان والأركان, وأنكر ما كانوا عليه من الشرك بالله في عبادته وكسر الأصنام، وصبر على ما أصابه في ذات الله. وهذا هو تحقيق التوحيد وهو أساس الدين ورأسه. كما قال تعالى: 131:12 (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين) وأنت تجد أكثر من يقول "لا إله إلا الله" ويدعي الإسلام يفعل الشرك بالله في عبادته. بدعوة من لا يضر ولا ينفع من الأموات والغائبين والطواغيت والجن وغيرهم، ويحبهم ويواليهم, ويخافهم ويرجوهم, وينكر على من دعا إلى عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه, ويزعم أن ذلك(6/113)
بدعة وضلالة, ويعادي من عمل به وأحبه وأنكر الشرك وأبغضه, وبعضهم لا يعد التوحيد علما ولا يلتفت إليه لجهله به وعدم محبته فالله المستعان.(6/114)
ص -59- ... قلت: يوضح هذا قوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ}1 أي على دينه من إخوانه المرسلين، قاله ابن جرير - رحمه الله تعالى -: {إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}2، وذكر تعالى عن خليله - عليه السلام - أنه قال لأبيه آزر: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاً جَعَلْنَا نَبِيّاً}3 فهذا هو تحقيق التوحيد. وهو البراءة من الشرك وأهله، واعتزالهم والكفر بهم وعداوتهم وبغضهم. فالله المستعان.
قال المصنف - رحمه الله - في هذه الآية: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً}4 لئلا يستوحش سالك الطريق من قلة السالكين {قَانِتاً لِلَّهِ} لا للملوك ولا للتجار المترفين {حَنِيفًا} لا يميل يمينا ولا شمالا; كفعل العلماء المفتونين {لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}5 خلافا لمن
كثر سوادهم وزعم أنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الممتحنة آية : 4.
2 سورة الممتحنة آية : 4.
3 سورة مريم آية : 48-49.
4 سورة النحل آية : 120.
5 سورة النحل آية : 120.(6/115)
ص -60- ... من المسلمين". ا هـ.
وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً}1 على الإسلام. ولم يك في زمانه أحد على الإسلام غيره.
قلت: ولا منافاة بين هذا وبين ما تقدم: من أنه كان إماما يقتدى به في الخير.
قال: وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ}23.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل آية : 120.
2 سورة المؤمنون آية : 57-58-59.
3 في قرة العيون: قال العماد ابن كثير: أي مع إحسانهم وعملهم الصالح مشفقون من الله وخائفون وجلون من مكره بهم; كما قال الحسن البصري: "المؤمن من جمع إحسانا وشفقا, والمنافق من جمع إساءة وأمنا". (والذين هم بآيات ربهم يؤمنون) , أي يؤمنون بآيات الله الكونية والشرعية لقوله تعالى عن مريم: 12:66 (وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين), أي أيقنت أن ما كان فهو من قدر الله وقضائه, وما شرعه الله إن كان أمرا فهو ما يحبه الله ويرضاه, وإن كان نهيا فهو ما يكرهه ويأباه, وإن كان خبرا فهو حق.(6/116)
ص -61- ... وصف المؤمنين السابقين إلى الجنة فأثنى عليهم بالصفات التي أعظمها: أنهم بربهم لا يشركون. ولما كان المرء قد يعرض له ما يقدح في إسلامه: من شرك جلي أو خفي، نفى ذلك عنهم، وهذا هو تحقيق التوحيد الذي حسنت بهم أعمالهم وكملت ونفعتهم.
قلت: قوله: "حسنت وكملت" هذا باعتبار سلامتهم من الشرك الأصغر، وأما الشرك الأكبر فلا يقال في تركه ذلك، فتدبر. ولو قال الشارح: صحت لكان أقوم.
قال ابن كثير: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} أي لا يعبدون مع الله غيره، بل يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا الله أحد صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأنه لا نظير له1.
قال المصنف: عن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير، فقال: "أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا. ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لدغت. قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت. قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: " لا رقية إلا من عين أو حمة " قال قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال:
" عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد. إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه. فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم نهض فدخل منزله. فخاض الناس في أولئك. فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلي الله عليه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في قرة العيون: فترك الشرك يتضمن كمال التوحيد ومعرفته على الحقيقة ومحبته وقبوله والدعوة إليه, كما قال تعالى: (قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب), وتضمنت هذه الآية كمال التوحيد وتحقيقه وبالله التوفيق.(6/117)
ص -62- ... وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئا، وذكروا أشياء. فخرج عليهم رسول الله صلي الله عليه وسلم فأخبروه، فقال: هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون. فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت منهم. ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم فقال: سبقك بها عكاشة ".
هكذا أورده المصنف غير معزو، وقد رواه البخاري مختصرا ومطولا، ومسلم واللفظ له، والترمذي والنسائي.
عن حصين بن عبد الرحمن قال: "كنت عند سعيد بن جبير، فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لدغت، قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت. قال: فما حملك على ذلك؟
قوله: "عن حصين بن عبد الرحمن" هو السلمي،1 أبو الهذيل الكوفي. ثقة، مات سنة ست وثلاثين ومائة، وله ثلاث وتسعون سنة.
وسعيد بن جبير: هو الإمام الفقيه من جلة أصحاب ابن عباس، روايته عن عائشة وأبي موسى مرسلة. وهو كوفي مولى لبني أسد، قتل بين يدي الحجاج سنة خمس وتسعين ولم يكمل الخمسين.
قوله: "انقض" هو بالقاف والضاد المعجمة أي سقط. "والبارحة" هي أقرب ليلة مضت. قال أبو العباس ثعلب: يقال قبل الزوال: رأيت الليلة، وبعد الزوال: رأيت البارحة، وكذا قال غيره، وهي مشتقة من برح إذا زال.
قوله: "أما إني لم أكن في صلاة" قال في مغنى اللبيب: "أما" بالفتح والتخفيف على وجهين: أحدهما: أن تكون حرف استفتاح بمنزلة "ألا" فإذا وقعت "أن" بعدها كسرت. الثاني: أن تكون بمعنى حقا، أو أحق. وقال آخرون: هي كلمتان الهمزة للاستفهام و "ما" اسم بمعنى شيء، أي أذلك الشيء حق، فالمعنى أحق هذا؟ وهو الصواب. و "ما" نصب على الظرفية، وهذه تفتح "أن" بعدها". انتهى.
والأنسب هنا هو الوجه الأول، والقائل هو حصين، خاف أن يظن الحاضرون أنه رآه(6/118)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في قرة العيون: الحارثي, من تابعي التابعين. عن الشعبي.(6/119)
ص -63- ... وهو يصلي، فنفى عن نفسه إبهام العبادة، وهذا يدل على فضل السلف وحرصهم على الإخلاص وبعدهم عن الرياء والتزين بما ليس فيهم.
قوله: "ولكني لدغت" بضم أوله وكسر ثانيه. قال أهل اللغة: يقال لدغته العقرب وذوات السموم، إذا أصابته بسمها، وذلك بأن تأبره بشوكتها.
قوله: "قلت: ارتقيت" لفظ مسلم: "استرقيت" أي طلبت من يرقيني.
قوله: "فما حملك على ذلك" فيه طلب الحجة على صحة المذهب.
قلت: حديث حدثناه الشعبي، قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: " لا رقية إلا من عين أو حمة " قال: قد أحسن من انتهى إلى ما
قوله: "حديث حدثناه الشعبي" اسمه: عامر بن شراحيل الهمداني، ولد في خلافة عمر، وهو من ثقات التابعين وفقهائهم1 مات سنة ثلاث ومائة.
قوله: "عن بريدة" بضم أوله وفتح ثانيه تصغير بردة. ابن الحصيب - بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين - ابن الحارث الأسلمي، صحابي شهير. مات سنة ثلاث وستين. قاله ابن سعد.
قوله: " لا رقية إلا من عين أو حمة " . وقد رواه أحمد وابن ماجه عنه مرفوعا.ورواه أحمد وأبو داود والترمذي عن عمران بن حصين به مرفوعا. قال الهيثمي: "رجال أحمد ثقات" 2.
والعين: هي إصابة العائن غيره بعينه. والحمة - بضم المهملة وتخفيف الميم - سم العقرب وشبهها.
قال الخطابي: ومعنى الحديث: لا رقية أشفى وأولى من رقية العين والحمة، وقد رقى النبي صلي الله عليه وسلم ورقي.
قوله:"قد أحسن من انتهى إلى ما سمع" أي من أخذ بما بلغه من العلم وعمل به فقد أحسن بخلاف من يعمل بجهل، أولا يعمل بما يعلم؛ فإنه مسيء آثم.وفيه فضيلة علم السلف وحسن أدبهم 3.(6/120)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 روى عن عمر وعلي وابن مسعود ولم يسمع منهم. وعن أبي هريرة وعائشة وجرير وابن عباس وخلق. قال الشعبي: ما كتبت سوداء في بيضاء. يعني أنه كان معتنيا بالحفظ.
2 صحيح:أحمد (4/436). وأبو داود: كتاب الطب (3384): باب في تعليق التمائم: والترمذي: كتاب الطب (2057): باب ما جاء في الرخصة في الرقية عن عمران بن حصين وإسناده صحيح كما قال الأرناؤوط في تخريج شرح السنة (12/162). وصححه الألباني في صحيح الجامع (7373) وتخريج المشكاة (4557) ورواه مسلم (220) (374) عن بريدة موقوفا. وهو عند ابن ماجة عنه (3513) مرفوعا وفي إسناده أبو جعفر الرازي "سيئ".
3 في قرة العيون: فيه حسن الأدب مع العلم وأهله، وأن من فعل شيئا سئل عن مستنده في فعله هل كان مقتديا أم لا؟ ومن لم يكن معه حجة شرعية فلا عذر له بما فعله, ولهذا ذكر ابن عبد البر الإجماع على أن المقلد ليس من أهل العلم. فتفطن لهذا.(6/121)
ص -64- ... قوله: "ولكن حدثنا ابن عباس" هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلي الله عليه وسلم. دعا له فقال: " اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل "1 فكان كذلك. مات بالطائف سنة ثمان وستين.
قال المصنف - رحمه الله - "وفيه عمق علم السلف لقوله: "قد أحسن من انتهى إلى ما سمع" ولكن كذا وكذا. فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني".
قوله: "عرضت علي الأمم" وفي الترمذي والنسائي من رواية عبثر بن القاسم عن حصين بن عبد الرحمن "أن ذلك كان ليلة الإسراء" 2. قال الحافظ: فإن كان ذلك محفوظا كان فيه قوة لمن ذهب إلى تعدد الإسراء، وأنه وقع بالمدينة أيضا. "قلت" وفي هذا نظر 3.
النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد. إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه،
قوله: "فرأيت النبي ومعه الرهط" والذي في صحيح مسلم "الرهيط" بالتصغير لا غير; وهم الجماعة دون العشرة. قاله النووي.
قوله:"والنبي ومعه الرجل والرجلان; والنبي وليس معه أحد" فيه الردعلى من احتج بالكثرة 4.(6/122)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري في عدة مواضع من صحيحه.
2 صحيح: الترمذي: كتاب صفة القيامة (2446): باب (16) وقال الترمذي: حسن صحيح والنسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف (4/410).
3 في قرة العيون: فالله أعلم متى عرضت, وعرضها أن الله تبارك وتعالى أراه مثالها إذا جاءت الأنبياء ومن تبعهم. فمن نجا بالإيمان بالله وما بعث به أنبياءه ورسله من دينه الذي شرعه لهم، وهو عبادته وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه, والأخذ بما أمرهم به وترك ما نهاهم عنه كما قال تعالى عن قوم نوح: 71: 2 (قال يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون) فعبادته وتوحيده وطاعته بامتثال ما أمرهم به, وترك ما نهاهم عنه, وطاعة رسوله. هذا هو الدين, أن لا يعبد إلا الله, وأن لا يعبد الله إلا بما شرع، فعلا وتركا, وأن يقدم طاعة رسوله على ما يحبه ويهواه.
4 في قرة العيون: أي يبعث في قومه فلا يتبعه منهم أحد كما قال تعالى: 15: 10 (ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون) وفيه دليل على أن الناجي من الأمم هم القليل، والأكثرون غلبت عليهم الطبائع البشرية فعصوا الرسل فهلكوا; كما قال تعالى: 6: 16 (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ) وقال: 101:7 (وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين) وقال: 42:30 (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين) وأمثال هذه الآيات في القرآن كثير. والناجون- وإن كانوا أقل القليل- فهم السواد الأعظم؛ فإنهم الأعظمون قدرا عند الله وإن قلوا. فليحذر المسلم أن يغتر بالكثرة وقد اغتر بهم كثيرون حتى بعض من يدعي العلم، اعتقدوا في دينهم ما يعتقده الجهال الضلال ولم يلتفتوا إلى ما قاله الله ورسوله.(6/123)
ص -65- ... قوله: "إذ رفع لي سواد عظيم" المراد هنا الشخص الذي يرى من بعيد.
قوله: "فظننت أنهم أمتي"؛ لأن الأشخاص التي ترى في الأفق لا يدرك منها إلا الصورة. وفي صحيح مسلم: "ولكن انظر إلى الأفق" ولم يذكره المصنف; فلعله سقط في الأصل الذي نقل الحديث منه. والله أعلم.
قوله: "فقيل له: هذا موسى وقومه" أي موسى بن عمران كليم الرحمن، وقومه: اتباعه على دينه من بني إسرائيل1.
فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في قرة العيون: فيه فضيلة اتباع موسى من بني إسرائيل ممن آمن منهم بالرسل. والكتب التي أنزلها الله: التوراة, والإنجيل، والزبور، والفرقان وغيرها. وكانت بنو إسرائيل قبل التفرق كثيرين وفيهم الأنبياء, ثم بعد ذلك حدث ما حدث من اليهود, وهذا الحديث يدل على أن التابع لموسى - عليه السلام - كثيرون جدا, وقد قال تعالى: 45:16 (وفضلناهم على العالمين) , أي في زمانهم. وذلك أن في زمانهم وقبله ممن كفر بالله خلقا لا يحصون، كحزب جالوت وبختنصر وأمثالهم. ففضل الله بني إسرائيل بالإيمان فصاروا أفضل أهل زمانهم، وحدث فيهم ما ذكر الله في سورة البقرة وغيرها من معصيتهم لأنبيائهم واختلافهم في دينهم, وقد ذكره الله تعالى محتجا به على اليهود الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فتدبر ما ذكره الله تعالى من أحوالهم بعد الاختلاف.(6/124)
ص -66- ... قوله: "فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب"، أي لتحقيقهم التوحيد، وفي رواية ابن فضيل: "ويدخل الجنة من هؤلاء من أمتك سبعون ألفا". وفي حديث أبي هريرة في الصحيحين: "أنهم تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر". وروى الإمام أحمد والبيهقي في حديث أبي هريرة: "فاستزدت ربي فزادني مع كل ألف سبعين ألفا". قال الحافظ: وسنده جيد12.
قوله: "ثم نهض" أي قام. قوله: "فخاض الناس في أولئك" خاض بالخاء والضاد المعجمتين. وفي هذا إباحة المناظرة والمباحثة في نصوص الشرع على وجه
صحبوا رسول الله صلي الله عليه وسلم. وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام، فلم يشركوا بالله شيئا، وذكروا أشياء. فخرج عليهم رسول الله صلي الله عليه وسلم فأخبروه، فقال: هم الذين لا يسترقون،
الاستفادة وبيان الحق، وفيه عمق علم السلف لمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل. وفيه حرصهم على الخير. ذكره المصنف3.
قوله: "فقال: هم الذين لا يسترقون" هكذا ثبت في الصحيحين وهو كذلك في حديث ابن مسعود في مسند أحمد. وفي رواية لمسلم:
"ولا يرقون" قال شيخ الإسلام ابن تيمية:(6/125)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح: أحمد (2/359): وقال الحافظ في الفتح (11/410): "وسنده جيد" ا.هـ وصححه الألباني في الصحيحة (1486) لشواهده.
2 في قرة العيون: فيه فضيلة هذه الأمة وأنهم أكثر الأمم تابعا لنبيهم صلى الله عليه وسلم، وقد كثروا في عهد الصحابة - رضي الله عنهم -, وفي وقت الخلفاء الراشدين ومن بعدهم, فملأوا القرى والأمصار والقفار, وكثر فيهم العلم, واجتمعت لهم الفنون في العلوم النافعة, فما زالت هذه الأمة على السنة في القرون الثلاثة المفضلة، وقد قلوا في آخر الزمان. قال شيخنا - رحمه الله تعالى - في مسائله: ((وفيه فضيلة هذه الأمة بالكمية والكيفية, فالكمية الكثرة والعدد, والكيفية فضيلتهم في صفاتهم)).
3 في قرة العيون: وفيه أيضا فضل الصحابة رضي الله عنهم في مذاكرتهم العلم وحرصهم على فهم ما حدثهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم حرصا على العمل به, وفيه جواز الاجتهاد فيما لم يكن فيه دليل؛ لأنهم قالوا ما قالوا باجتهادهم, ولم ينكر صلى الله عليه وسلم ذلك عليهم, لكن المجتهد إذا لم يكن معه دليل لا يجوز له أن يجزم بصواب نفسه, بل يقول: لعل الحكم كذا وكذا كقول الصحابة - رضي الله عنهم - في هذا الحديث.(6/126)
ص -67- ... هذه الزيادة وهم من الراوي، لم يقل النبي صلي الله عليه وسلم "ولا يرقون"، وقد قال النبي صلي الله عليه وسلم - وقد سئل عن الرقي -:" من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه " 1 وقال: " لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا " 2 قال: وأيضا فقد رقى جبريل النبي صلي الله عليه وسلم ورقى النبي صلي الله عليه وسلم أصحابه3 قال: والفرق بين الراقي والمسترقي: أن المسترقي سائل مستعط ملتفت إلى غير الله بقلبه، والراقي محسن. قال: وإنما المراد وصف السبعين ألفا بتمام التوكل; فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ولا يكويهم. وكذا قال ابن القيم4.
قوله: "ولا يكتوون" أي لا يسألون غيرهم أن يكويهم كما لا يسألون غيرهم أن يرقيهم; استسلاما للقضاء وتلذذا بالبلاء.
قلت: والظاهر أن قوله: "لا يكتوون" أعم من أن يسألوا ذلك أو يفعل ذلك باختيارهم. أما الكي في نفسه فجائز كما في الصحيح عن جابر بن عبد الله: " أن النبي صلي الله عليه وسلم بعث إلى أبي بن كعب طبيبا فقطع له عرقا وكواه "5.
وفي صحيح البخاري عن أنس: 6 " أنه كوى من ذات الجنب7 والنبي صلي الله عليه(6/127)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه مسلم والإمام أحمد وابن ماجة عن جابر - رضي الله عنه -.
2 رواه مسلم وأبو داود عن عوف بن مالك.
3 رقى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم من السحر; كما في البخاري من حديث عائشة. وقد ثبت في البخاري وغيره رقى كثيرة من قول النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة وأنس وابن مسعود وغيرهم.
4 في قرة العيون: فتركوا الشرك رأسا, ولم ينزلوا حوائجهم بأحد فيسألونه الرقية فيما فوقها, وتركوا الكي وإن كان يراد للشفاء, والحامل لهم على ذلك قوة توكلهم على الله، وتفويضهم أمورهم إليه, وأن لا تتعلق قلوبهم بشيء سواه في ضمن ما دبره وقضاه. فلا يرغبون إلا إلى ربهم, ولا يرهبون إلا منه, ويعتقدون أن ما أصابهم بقدره واختياره لهم, فلا يفزعون إلا إليه وحده في كشف ضرهم. قال تعالى عن يعقوب عليه السلام: 12: 86 (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) .
5 مسلم : السلام (2207) , وأبو داود : الطب (3864) , وابن ماجه : الطب (3493) , وأحمد (3/315).
6 مسلم: كتاب السلام (2207) (73): باب لكل داء دواء واستحباب التداوي.
7 قال في النهاية: ((ذات الجنب: الدمل الكبيرة التي تظهر في باطن الجنب وينفجر إلى داخل. وقلما يسلم صاحبها)) اهـ. ولعلها: السل والله أعلم.(6/128)
ص -68- ... وسلم حي " وروى الترمذي وغيره عن أنس أن النبي صلي الله عليه وسلم " كوى أسعد بن زرارة من الشوكة "12.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس مرفوعا: " الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنا أنهى أمتي عن الكي "3. وفي لفظ: " وما أحب أن أكتوي4".
قال ابن القيم - رحمه الله -: قد تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع:
"أحدها" فعله.
"والثاني" عدم محبته.
"والثالث" الثناء على من تركه.
"والرابع" النهي عنه. ولا تعارض بينها بحمد الله؛ فإن فعله يدل على جوازه، وعدم محبته له لا يدل على المنع منه، وأما الثناء على تاركه فيدل على أن تركه أولى وأفضل، وأما النهي عنه فعلى سبيل الاختيار والكراهة.
قوله: "ولا يتطيرون" أي لا يتشاءمون بالطيور ونحوها. وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان الطيرة وما يتعلق بها في بابها.
قوله: " وعلى ربهم يتوكلون" ذكر الأصل الجامع الذي تفرعت عنه هذه الأفعال والخصال وهو التوكل على الله، وصدق الالتجاء إليه، والاعتماد بالقلب عليه، الذي هو نهاية تحقيق التوحيد الذي يثمر كل مقام شريف: من المحبة والرجاء والخوف، والرضا به ربا وإلها، والرضا بقضائه.
واعلم أن الحديث لا يدل على أنهم لا يباشرون الأسباب أصلا; فإن مباشرة الأسباب في الجملة أمر فطري ضروري، لا انفكاك لأحد عنه; بل نفس التوكل: مباشرة لأعظم الأسباب كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}5 أي كافيه. وإنما المراد أنهم يتركون الأمور المكروهة مع حاجتهم إليها; توكلا على الله
تعالى، كالاكتواء والاسترقاء، فتركهم له لكونه سببا مكروها، لا سيما والمريض يتشبث - فيما يظنه سببا لشفائه - بخيط العنكبوت.
وأما مباشرة الأسباب والتداوي على وجه لا كراهة فيه، فغير قادح في التوكل، فلا(6/129)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال في النهاية, الشوكة: حمرة تعلو الوجه والجسد.
2 صحيح: الترمذي: كتاب الطب (2050): باب ما جاء في الرخصة في ذلك. وقال الترمذي: حديث حسن غريب وابن حبان (1404- موارد). وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية (3/101): "إسناده ثقات" اهـ.
3 البخاري : الطب (5680) , وابن ماجه : الطب (3491) , وأحمد (1/245).
4 البخاري: كتاب الطب (5680), (5681): باب الشفاء في ثلاث.
5 سورة الطلاق آية : 3.(6/130)
ص -69- ... يكون تركه مشروعا، لما في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا: " ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله "1 وعن أسامة بن شريك قال:." كنت عند النبي صلي الله عليه وسلم وجاءت الأعراب، فقالوا: يا رسول الله أنتداوى؟ قال: نعم. يا عباد الله تداووا; فإن الله عز وجل لم يضع داء إلا وضع له شفاء، غير داء واحد. قالوا: وما هو; قال: الهرم " رواه أحمد 2.
وقال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "وقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات، وإبطال قول من أنكرها، والأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع ألم الجوع والعطش، والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله تعالى مقتضية لمسبباتها قدرا وشرعا، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل، كما يقدح في الأمر والحكمة. ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجز ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله تعالى في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه. ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلا للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلا ولا توكله عجزا".
وقد اختلف العلماء في التداوي هل هو مباح وتركه أفضل، أو مستحب، أو واجب؟.
فالمشهور عن أحمد: الأول؛ لهذا الحديث وما في معناه، والمشهور عند الشافعية الثاني، حتى ذكر النووي في شرح مسلم: أنه مذهبهم ومذهب جمهور السلف وعامة الخلف، واختاره الوزير أبو المظفر قال: ومذهب أبي حنيفة أنه مؤكد حتى يدانى به الوجوب. قال: ومذهب مالك أنه يستوي فعله وتركه؛ فإنه قال: لا بأس بالتداوي ولا بأس بتركه.
وقال شيخ الإسلام: "ليس بواجب عند جماهير الأئمة، وإنما أوجبه طائفة قليلة من أصحاب الشافعي وأحمد".
فقوله: "فقام عكاشة بن محصن" هو بضم العين وتشديد الكاف، ومحصن بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الصاد(6/131)
المهملتين، ابن حرثان - بضم المهملة وسكون الراء بعدها مثلثة -
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجه : الطب (3438) , وأحمد (1/377).
2 البخاري: كتاب الطب (5678); باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء وليس عنده جملة "علمه من علمه وجهله من جهله). وإنما هي عند أحمد (1/377 , 413 , 453) من طرق وصححها الألباني في الصحيحة (451). وأما مسلم: فقد رواه من حديث جابر بلفظ: "لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله). مسلم: كتاب السلام (2204) (69): باب لكل داء دواء.(6/132)
ص -70- ... الأسدي: من بني أسد بن خزيمة. كان من السابقين إلى الإسلام ومن أجمل الرجال. هاجر وشهد بدرا وقاتل فيها، واستشهد في قتال الردة مع خالد بن الوليد بيد طليحة الأسدي سنة اثنتي عشرة، ثم أسلم طليحة بعد ذلك وجاهد الفرس يوم القادسية مع سعد ابن أبي وقاص، واستشهد في وقعة الجسر المشهورة.
قوله: "فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم" وللبخاري في رواية: "فقال: اللهم اجعله منهم". وفيه: طلب الدعاء من الفاضل1.
قوله: "ثم قام رجل آخر" ذكره مبهما ولا حاجة بنا إلى البحث عن اسمه2.
قوله: "فقال: سبقك بها عكاشة" قال القرطبي: "لم يكن عند الثاني من الأحوال ما كان عند عكاشة، فلذلك لم يجبه؛ إذ لو أجابه لجاز أن يطلب ذلك كل من كان حاضرا فيتسلسل الأمر، فسد الباب بقوله ذلك". اهـ.
فيه مسائل:
الأولى: معرفة مراتب الناس في التوحيد.
الثانية: ما معنى تحقيقه.
الثالثة: ثناؤه سبحانه على إبراهيم بكونه لم يك من المشركين.(6/133)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في قرة العيون: فيه أن شفاعة الحي لمن سأله الدعاء إنما كانت بدعائه, وبعد الموت قد تعذر ذلك بأمور لا تخفى على من له بصيرة, فمن سأل ميتا أو غائبا فقد سأله ما لا يقدر عليه إلا الله, وكل من سأل أحدا ما لا يقدر عليه إلا الله فقد جعله ندا لله كما كان المشركون كذلك. وقال تعالى 2: 22 (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) , أنه ربكم وخالقكم ومن قبلكم, وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة فلا ترغبوا عنه إلى غيره, بل أخلصوا له العبادة بجميع أنواعها فيما تطلبونه من قليل أو كثير. وقوله: "أنت منهم" لما كان يعلمه صلى الله عليه وسلم من إيمانه وفضله وجهاده كما في الحديث: "لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم, فقد غفرت لكم".
2 في قرة العيون: والظاهر أنه أراد - صلوات الله وسلامه عليه - سد الذريعة؛ لئلا يتتابع الناس بسؤال ذلك فيسأله من ليس أهلا له. وذلك منه صلى الله عليه وسلم تعريض كما لا يخفى.(6/134)
ص -71- ... الرابعة: ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك.
الخامسة: كون ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد.
السادسة: كون الجامع لتلك الخصال هو التوكل.
السابعة: عمق علم الصحابة لمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل.
الثامنة: حرصهم على الخير.
التاسعة: فضيلة هذه الأمة بالكمية والكيفية.
العاشرة: فضيلة أصحاب موسى.
الحادية عشرة: عرض الأمم عليه – عليه الصلاة والسلام -.
الثانية عشرة: أن كل أمة تحشر وحدها مع نبيها.
الثالثة عشرة: قلة من استجاب للأنبياء.
الرابعة عشرة: أن من لم يجبه أحد يأتي وحده.
الخامسة عشرة: ثمرة هذا العلم، وهو عدم الاغترار بالكثرة، وعدم الزهد في القبلة.
السادسة عشرة: الرخصة في الرقية من العين والحمة.
السابعة عشرة: عمق علم السلف لقوله: " قد أحسن من انتهى إلى ما سمع. ولكن كذا وكذا". فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني.
الثامنة عشرة: بعد السلف عن مدح الإنسان بما ليس فيه.
التاسعة عشرة: قوله: "أنت منهم" علم من أعلام النبوة.
العشرون: فضيلة عكاشة.
الحادية والعشرون: استعمال المعاريض.
الثانية والعشرون: حسن خلقه صلي الله عليه وسلم.(6/135)
ص -72- ... باب الخوف من الشرك.
وقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}1
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال المصنف - رحمه الله تعالى -: "وفيه استعمال المعاريض وحسن خلقه صلي الله عليه وسلم".
قوله: باب "الخوف من الشرك" وقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
قال ابن كثير: "أخبر تعالى أنه {لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} أي من الذنوب لمن يشاء من عباده". انتهى.
فتبين بهذه الآية أن الشرك أعظم الذنوب؛ لأن الله تعالى أخبر أنه لا يغفره لمن لم يتب منه، وما دونه من الذنوب فهو داخل تحت المشيئة إن شاء غفره لمن لقيه به، وإن شاء عذبه به، وذلك يوجب للعبد شدة الخوف من الشرك الذي هذا شأنه عند الله؛ لأنه أقبح القبيح وأظلم الظلم، وتنقص لرب العالمين، وصرف خالص حقه لغيره، وعدل غيره به؛ كما قال تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}2، ولأنه مناقض للمقصود بالخلق والأمر، مناف له من كل وجه، وذلك غاية المعاندة لرب العالمين، والاستكبار عن طاعته والذل له، والانقياد لأوامره الذي لا صلاح للعالم إلا بذلك، فمتى خلا منه خرب وقامت القيامة، كما قال صلي الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله "3 رواه مسلم4 ولأن الشرك تشبيه للمخلوق بالخالق تعالى، ومشاركة في خصائص الإلهية: من ملك الضر والنفع، والعطاء والمنع، الذي يوجب تعلق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل، وأنواع العبادة كلها بالله وحده، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل من لا يملك لنفسه ضرا ولا موتا ولا حياة ولا(6/136)
نشورا، شبيها بمن له الحمد كله، وله الخلق كله، وله الملك كله، واليه يرجع الأمر كله، وبيده الخير كله، فأزمة الأمور كلها بيده سبحانه ومرجعها إليه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، الذي إذا فتح للناس رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم. فأقبح التشبيه تشبيه العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات. ومن خصائص الإلهية: الكمال المطلق من جميع الوجوه، الذي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية : 48.
2 سورة الأنعام آية : 1.
3 مسلم : الإيمان (148) , والترمذي : الفتن (2207) , وأحمد (3/107 ,3/162 ,3/201 ,3/259 ,3/268).
4 مسلم: كتاب الإيمان (148) (234): باب ذهاب الإيمان آخر الزمان.(6/137)
ص -73- ... لا نقص فيه بوجه من الوجوه. وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال، والخشية والدعاء، والرجاء والإنابة; والتوكل والتوبة والاستعانة، وغاية الحب مع غاية الذل. كل ذلك يجب عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لله وحده، ويمتنع عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لغيره. فمن فعل شيئا من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا مثيل له، ولا ند له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله. فلهذه الأمور وغيرها أخبر - سبحانه وتعالى - أنه لا يغفره، مع أنه كتب على نفسه الرحمة. هذا معنى كلام ابن القيم رحمه الله.
وفي الآية رد على الخوارج المكفرين بالذنوب. وعلى المعتزلة القائلين بأن أصحاب الكبائر يخلدون في النار، وليسوا عندهم بمؤمنين ولا كفار.
ولا يجوز أن يحمل قوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}1 على التائب؛ فإن التائب من الشرك مغفور له كما قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً}2 فهنا عمم وأطلق؛ لأن المراد به التائب، وهناك خص وعلق؛ لأن المراد به من لم يتب. هذا ملخص قول شيخ الإسلام3.
قوله: "وقال الخليل عليه السلام: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ}4"
الصنم(6/138)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية : 48.
2 سورة الزمر آية : 53.
3 في قرة العيون: قال النووي - رحمه الله تعالى -: ((أما دخول المشرك النار فهو على عمومه فيدخلها ويخلد فيها, ولا فرق بين الكتابي اليهودي والنصراني, وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة, ولا فرق عند أهل الحق بين الكافر عنادا وغيره, ولا بين من خالف ملة الإسلام وبين من انتسب إليها ثم حكم بكفره بجحده وغير ذلك. وأما دخول من مات غير مشرك الجنة فهو مقطوع به, لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مصرا عليها ومات على ذلك فهو تحت المشيئة، فإن عفي عنه دخل الجنة أولا وإلا عذب في النار، ثم أخرج منها وأدخل الجنة)). اهـ. قلت: هذا قول أهل السنة والجماعة، لا اختلاف بينهم في ذلك. وهذه الآية من أعظم ما يوجب الخوف من الشرك؛ لأن الله تعالى قطع المغفرة عن المشرك وأوجب له الخلود في النار وأطلق ولم يقيد, ثم قال: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فخصص وقيد فيما دون الشرك, فهذا الذنب الذي هذا شأنه لا يأمل أن يقع فيه فلا يرجى له معه نجاة, إن لم يتب معه قبل الوفاة.
4 سورة إبراهيم آية : 35.(6/139)
ص -74- ... ما كان منحوتا على صورة، والوثن ما كان موضوعا على غير ذلك. ذكره الطبري عن مجاهد.
قلت: وقد يسمى الصنم وثنا كما قال الخليل1 - عليه السلام - {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً}2 الآية ويقال: إن الوثن أعم، وهو قوي، فالأصنام أوثان كما أن القبور أوثان.
قوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ}3 أي اجعلني وبني في جانب عن عبادة الأصنام، وباعد بيننا وبينها. وقد استجاب الله تعالى دعاءه، وجعل بنيه أنبياء، وجنبهم عبادة الأصنام، وقد بين ما يوجب الخوف من ذلك بقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ}4 فإنه هو الواقع في كل زمان. فإذا عرف الإنسان أن كثيرا وقعوا في الشرك الأكبر وضلوا بعبادة الأصنام: أوجب ذلك خوفه من أن يقع فيما وقع فيه الكثير من الشرك الذي لا يغفره الله.
قال إبراهيم التيمي: " من يأمن البلاء بعد إبراهيم؟ " رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
فلا يأمن الوقوع في الشرك إلا من هو جاهل به وبما يخلصه منه: من العلم بالله، وبما بعث به رسوله من توحيده، والنهي عن الشرك به5.(6/140)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الخلة: أخص من المحبة, ولذلك اختص الله بها الخليلين: إبراهيم ومحمدا عليهما من الله أفضل الصلاة والسلام. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذا أحدا خليلا لاتخذت أبا بكر، ولكن الله اتخذني خليلا" رواه البخاري.
2 سورة العنكبوت آية : 17.
3 سورة إبراهيم آية : 35.
4 سورة إبراهيم آية : 36.
5 في قرة العيون: فإذا كان الخليل إمام الحنفاء الذي جعله الله أمة واحدة, وابتلاه بكلمات فأتمهن, وقال: (وإبراهيم الذي وفى) وأمر بذبح ولده فامتثل أمر ربه, وكسر الأصنام واشتد نكيره على أهل الشرك, ومع ذلك يخاف أن يقع في الشرك الذي هو عبادة الأصنام؛ لعلمه أنه لا يصرفه عنه إلا الله بهدايته وتوفيقه, لا بحوله هو وقوته. فهذا أمر لا يؤمن الوقوع فيه. وقد وقع فيه الأذكياء من هذه الأمة بعد القرون المفضلة فاتخذت الأصنام وعبدت, فالذي خافه الخليل - عليه السلام - على نفسه وبنيه وقع فيه أكثر الأمة بعد القرون المفضلة, فبنيت المساجد والمشاهد على القبور، وصرفت لها العبادات بأنواعها, واتخذ ذلك دينا, وهي أوثان وأصنام كأصنام قوم نوح واللات والعزى ومناة وأصنام العرب وغيرهم. فما أشبه ما وقع في آخر هذه الأمة بحال أهل الجاهلية من مشركي العرب وغيرهم, بل وقع ما هو أعظم من الشرك في الربوبية مما يطول عده (*) فذكر - عليه السلام - السبب الذي أوجب له الخوف عليه وعلى ذريته بقوله (رب إنهن أضللن كثيرا من الناس ), وقد ضلت الأمم بعباة الأصنام في زمن الخليل وقبله وبعده. فمن تدبر القرآن عرف أحوال الخلق وما وقعوا فيه من الشرك العظيم الذي بعث الله أنبياءه ورسله بالنهي عنه والوعيد على فعله, والثواب على تركه. وقد هلك من هلك بإعراضه عن القرآن, وجهله بما أمر الله به ونهى عنه. نسأل الله الثبات على الإسلام والاستقامة على ذلك إلى أن نلقى الله على التوحيد، إنه ولي ذلك والقادر عليه, ولا(6/141)
حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقال تعالى عن عيسى: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ), رد أمرهم إلى الله كما رده محمد - عليه السلام -, وقد بين الله تعالى فيما أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم حكمه في أهل الشرك بأنه لا يغفره لهم فلا معارضة، وقد بين حكمه فيهم في هذا الكتاب العزيز الذي 41: 42 ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) . (*) فإن أكثر الناس يعتقدون أن الأقطاب الأربعة وعلى رأسهم القطب الغوث يتصرفون في الكون بالإحياء والإماتة والرزق والضر والنفع وأن مجلس أوليائهم تعرض عليه شئون العالم. اقرأ كتاب الشعراني, و "الإبريز" للدباغ, وكتب التيجانية وغيرها من كتب أولئك الضالين المضلين، تجد الشرك الذي ما كان يخطر على بال أبي حهل وإخوانه؛ لأنهم لم يكونوا بوقاحة هؤلاء وفجورهم.(6/142)
ص -75- ... وفي الحديث: " أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه فقال: الرياء "1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال المصنف: "وفي الحديث: " أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، فسئل عنه فقال: الرياء" أورد المصنف هذا الحديث مختصرا غير معزو. وقد رواه الإمام أحمد والطبراني
والبيهقي، وهذا لفظ أحمد: حدثنا يونس حدثنا ليث عن يزيد - يعني ابن الهاد - عن عمرو عن محمود بن لبيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر. قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جازى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟ "2.
قال المنذري: ومحمود بن لبيد رأى النبي صلي الله عليه وسلم ولم يصح له منه سماع فيما أرى. وذكر ابن أبي حاتم أن البخاري قال: له صحبة، ورجحه ابن عبد البر والحافظ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (5/428)، والطبراني في الكبير (4301). وصححه الألباني في الصحيحة (951) وصحيح الجامع (1551).
2 مسند أحمد (5/428 ,5/429).(6/143)
ص -76- ... وقد رواه الطبراني بأسانيد جيدة عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديج. مات محمود سنة ست وتسعين، وقيل سنة سبع وتسعين. وله تسع وتسعون سنة.
قوله: "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر" هذا من شفقته صلي الله عليه وسلم بأمته ورحمته ورأفته بهم، فلا خير إلا دلهم عليه وأمرهم به، ولا شر إلا بينه لهم وأخبرهم به ونهاهم عنه; كما قال صلي الله عليه وسلم فيما صح عنه:" ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم - الحديث1". فإذا كان الشرك الأصغر مخوفا على أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم مع كمال علمهم وقوة إيمانهم، فكيف لا يخافه وما فوقه من هو دونهم في العلم والإيمان بمراتب؟ خصوصا إذا عرف أن أكثر علماء الأمصار اليوم لا يعرفون من التوحيد إلا ما أقر به المشركون، وما عرفوا معنى الإلهية التي نفتها كلمة الإخلاص عن كل ما سوى الله2.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار "3 رواه البخاري.
وأخرج أبو يعلى وابن المنذر عن حذيفة بن اليمان عن أبي بكر عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " الشرك أخفى من دبيب النمل. قال أبو بكر: يا رسول الله، وهل الشرك إلا ما عبد من دون الله أو ما دعي مع الله؟ قال: ثكلتك أمك، الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل " الحديث. وفيه: " أن تقول أعطاني الله وفلان، والند أن يقول الإنسان: لولا فلان(6/144)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من حديث رواه مسلم: كتاب الإمارة (1844) (46): باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء.
2 في قرة العيون: فإذا كان يخافه صلى الله عليه وسلم على أصحابه الذين وحدوا الله بالعبادة، ورغبوا إليه وإلى ما أمرهم به من طاعته، فهاجروا وجاهدوا من كفر به، وعرفوا ما دعاهم إليه نبيهم, وما أنزله الله في كتابه من الإخلاص والبراءة من الشرك، فكيف لا يخاف من لا نسبة له إليهم في علم ولا عمل مما هو أكبر من ذلك؟ وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن أمته بوقوع الشرك الأكبر فيهم بقوله في حديث ثوبان الآتي ذكره: "حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين, وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان" وقد جرى ما أخبر به صلى الله عليه وسلم، وعمت به البلوى في أكثر الأقطار حتى اتخذوه دينا مع ظهور الآيات المحكمات, والأحاديث الصحيحة في النهي عنه والتخويف منه كما قال تعالى: 72:5 (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار)، وقال: 30:22 , 31 (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به) , وهذا هو تحقيق التوحيد كما تقدم في الباب قبله. ثم قال تعالى محذرا عباده من الشرك: (ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق). ومن لم تخوفه هذه الآيات وتزجره عن الشرك في العبادة إذا تدبرها فلا حيلة فيه.
3 البخاري : تفسير القرآن (4497) , وأحمد (1/374 ,1/402 ,1/407 ,1/462 ,1/464).(6/145)
ص -77- ... قتلني فلان " ا هـ من الدر1.
قال المصنف: وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار "2 رواه البخاري 3.
قال ابن القيم - رحمه الله -: "الند الشبيه، يقال: فلان ند فلان، وند يده، أي مثله وشبيهه" اهـ. قال تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}4.
ولمسلم عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار "5.
قوله: " من مات وهو يدعو من دون الله ندا" أي يجعل لله ندا في العبادة، يدعوه ويسأله ويستغيث به دخل النار.
قال العلامة ابن القيم - رحمه الله -:
والشرك فاحذره فشرك ظاهر ... ذا القسم ليس بقابل الغفران
وهو اتخاذ الند للرحمن أيا ... كان من حجر ومن إنسان
يدعوه، أو يرجوه ثم يخافه ... ويحبه كمحبة الديان
واعلم أن اتخاذ الند على قسمين:
الأول: أن يجعله لله شريكا في أنواع العبادة أو بعضها كما تقدم، وهو شرك أكبر.
والثاني: ما كان من نوع الشرك الأصغر كقول الرجل: ما شاء الله وشئت ولولا الله وأنت. وكيسير الرياء، فقد ثبت أن النبي صلي الله عليه وسلم لما قال له رجل:" ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده "6رواه أحمد وابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد والنسائي وابن ماجه. وقد تقدم حكمه في باب فضل التوحيد.(6/146)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح: أبو يعلى ص (19, 20) مصورة المكتب الإسلامي. وابن المنذر كما في الدر المنثور (4/54). والحديث صححه الأرناؤوط في تخريج مسند أبي بكر (17) وذلك لشواهده الكثيرة.
2 البخاري : تفسير القرآن (4497) , وأحمد (1/462).
3 في قرة العيون: وهذا الحديث فيه التحذير من الشرك أيضا والتخويف منه. والند: المثل والشبيه, فمن دعا ميتا أو غائبا وأقبل عليه بوجهه وقلبه رغبة إليه ورهبة منه سواء سأله أو لم يسأله فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله, ولهذا حرم الله تعالى اتخاذ الشفعاء وأنكره على من فعل ذلك أشد الإنكار؛ لكونه ينافي الإخلاص الذي هو إقبال القلب والوجه للشفيع في كل ما يخافه العبد ويرجوه ويتقرب به ويدين به. ومن المعلوم أنه إذا التفت للشفيع يسأله فقد أعرض بوجهه وقلبه عن الله تعالى وذلك ينافي الإخلاص. ويأتي بيان ذلك في باب الشفاعة إن شاء الله تعالى.
4 سورة البقرة آية : 22.
5 مسلم : الإيمان (93) , وأحمد (3/325 ,3/344 ,3/374 ,3/391).
6 حسن: أحمد (1/214 , 224 , 283 , 347) والبخاري في الأدب المفرد (783) والنسائي في عمل اليوم والليلة (995). وابن ماجة: كتاب الكفارات (2117): باب النهي أن يقال ما شاء الله وشئت. من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وحسنه الأرناؤوط في تخريج مسند أبي بكر (ص55). وحسنه الألباني في الصحيحة (139).(6/147)
ص -78- ... وفيه: بيان أن دعوة غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك جلي، كطلب الشفاعة من الأموات؛ فإنها ملك لله تعالى وبيده، ليس بيد غيره منها شيء، وهو الذي يأذن للشفيع أن يشفع فيمن لاقى الله بالإخلاص والتوحيد من أهل الكبائر، كما يأتي تقريره في باب الشفاعة إن شاء الله تعالى.
فيه مسائل:
الأولى: الخوف من الشرك.
الثانية: أن الرياء من الشرك.
الثالثة: أنه من الشرك الأصغر.
الرابعة: أنه أخوف ما يخاف منه على الصالحين.
الخامسة: قرب الجنة والنار.
السادسة: الجمع بين قربهما في حديث واحد.
السابعة: أنه من لقيه لا يشرك به شيئا دخل الجنة. ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار، ولو كان من أعبد الناس.
الثامنة: المسألة العظيمة سؤال الخليل له ولبنيه وقاية عبادة الأصنام
قال المصنف - رحمه الله تعالى -: "ولمسلم عن جابر أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة. ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار ".
جابر: هو ابن عبد الله بن عمرو بن حرام - بمهملتين - الأنصاري ثم السلمي - بفتحتين - صحابي جليل هو وأبوه، ولأبيه مناقب مشهورة - رضي الله عنهما -1 مات بالمدينة بعد السبعين، وقد كف بصره، وله أربع وتسعون سنة.
قوله: "من لقي الله لا يشرك به شيئا" قال القرطبي: أي لم يتخذ معه شريكا في الإلهية، ولا في الخلق، ولا في العبادة، ومن المعلوم من الشرع المجمع عليه عند أهل السنة: أن من مات على ذلك فلا بد له من دخول الجنة، وإن جرت عليه قبل ذلك أنواع من العذاب والمحنة. وأن من مات على الشرك لا يدخل الجنة ولا يناله من الله رحمة، ويخلد في النار أبد الآباد، من غير انقطاع عذاب ولا تصرم آماد.
التاسعة: اعتباره بحال الأكثر لقوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ}2.
العاشرة: فيه تفسير " لا إله إلا الله" كما ذكره البخاري.
الحادية عشرة: فضيلة من سلم من الشرك.
وقال النووي: أما دخول(6/148)
المشرك النار فهو على عمومه، فيدخلها ويخلد فيها، ولا فرق فيه بين الكتابي اليهودي والنصراني، وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة، ولا فرق عند أهل الحق بين الكافر عنادا وغيره، ولا بين من خالف ملة الإسلام وبين من انتسب إليها ثم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كان عبد الله والد جابر من الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة، وجعله النبي صلى الله عليه وسلم نقيب بني سلمة. ثم حضر بدرا. وقتل يوم أحد, فأخذ يبكي عليه ولده جابر وأخته فاطمة بنت عمرو فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تبكيه أو لا تبكيه, لا زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه" .
2 سورة إبراهيم آية : 36.(6/149)
ص -79- ... حكم بكفره بجحده وغير ذلك1.
وأما دخول من مات غير مشرك الجنة فهو مقطوع له به. لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مات مصرا عليها دخل الجنة أولا. وإن كان صاحب كبيرة مات مصرا عليها فهو تحت المشيئة. فإن عفا الله عنه دخل الجنة أولا، وإلا عذب في النار ثم أخرج من النار وأدخل الجنة.
وقال غيره: اقتصر على نفي الشرك لاستدعائه التوحيد بالاقتضاء، واستدعائه إثبات الرسالة باللزوم؛ إذ من كذب رسل الله فقد كذب الله، ومن كذب الله فهو مشرك، وهو كقولك: من توضأ صحت صلاته. أي مع سائر الشروط، فالمراد: من مات حال كونه مؤمنا بجميع ما يجب الإيمان به إجمالا في الإجمالي وتفصيلا في التفصيلي2 انتهى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يعني أنهم مستوون في الخلود في النار, ولكنهم متفاوتون في دركاتها. ولا يظلم ربك أحدا مثقال ذرة.
2 يعني خالطت حلاوة هذا الإيمان بشاشة قلبه فأثمرت الأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة. وإلا فكم من مدع لهذا الإيمان الإجمالي والتفصيلي وهو عري عنه إجمالا وتفصيلا.(6/150)
ص -80- ... باب" الدعاء إلى شهادة لا إله إلا الله "
وقول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله"
لما ذكر المصنف - رحمه الله - التوحيد وفضله، وما يوجب الخوف من ضده. نبه بهذه الترجمة على أنه لا ينبغي لمن عرف ذلك أن يقتصر على نفسه، بل يجب عليه أن يدعو إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، كما هو سبيل المرسلين وأتباعهم. كما قال الحسن البصري لما تلا قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}2 فقال: "هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحا في إجابته، وقال: إنني من المسلمين. هذا خليفة الله" 3.
قال - رحمه الله -: وقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}4.
قال أبو جعفر ابن جرير: "يقول - تعالى ذكره - لنبيه محمد صلي الله عليه وسلم " قل " يا محمد " هذه " الدعوة التي أدعو إليها، والطريقة التي أنا عليها، من الدعاء إلى توحيد الله، وإخلاص(6/151)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يوسف آية : 108.
2 سورة فصلت آية : 33.
3 ذكره العماد ابن كثير في تفسير الآية (33) من سورة فصلت عن عبد الرزاق عن معمر عن الحسن البصري - رحمه الله -. ويعني الحسن بذلك: أن الصدق في حب الله وعبادته وطاعته يستلزم ولا بد الدعوة إلى ذلك والجهاد فيه. لأن من أحب الله أحب كل ما أحبه الله وكل من أحب الله، وكره كل ما كره ومن كره، وأحب أن يكون الناس كلهم معه في حب الله.
4 سورة يوسف آية : 108.(6/152)
ص -81- ... العبادة له دون الآلهة والأوثان، والانتهاء إلى طاعته وترك معصيته " سبيلي " طريقتي ودعوتي، "أَدْعُو إِلَى اللَّهِ" تعالى وحده لا شريك له " على بصيرة " بذلك ويقين علم مني به " أنا " ويدعو إليه على بصيرة أيضا من اتبعني وصدقني وآمن بي. {وَسُبْحَانَ اللَّهِ}1 " يقول له تعالى ذكره: وقل: تنزيها لله تعالى وتعظيما له من أن يكون له شريك في ملكه أو معبود سواه في سلطانه. {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}2 يقول: وأنا بريء من أهل الشرك به، لست منهم ولا هم مني". انتهى.
قال في شرح المنازل: يريد أن تصل باستدلالك إلى أعلى درجات العلم وهي البصيرة التي تكون نسبة المعلوم فيها إلى القلب كنسبة المرئي إلى البصر، وهذه هي الخصيصة التي اختص بها الصحابة عن سائر الأمة، وهي أعلى درجات العلماء. قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}3 أي أنا وأتباعي على بصيرة. وقيل: "من اتبعني" عطف على المرفوع في "أدعو" أي أنا أدعو إلى الله على بصيرة، ومن اتبعني كذلك يدعو إلى الله تعالى على بصيرة، وعلى القولين: فالآية تدل على أن اتباعه هم أهل البصائر الداعون إلى الله تعالى، ومن ليس منهم فليس من أتباعه على الحقيقة والموافقة، وإن كان من أتباعه على الانتساب والدعوى.
قال المصنف - رحمه الله -: "فيه مسائل: منها التنبيه على الإخلاص؛ لأن كثيرا ولو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه. ومنها: أن البصيرة من الفرائض. ومنها: أن من دلائل حسن التوحيد أنه تنزيه لله تعالى عن المسبة. ومنها: أن من قبح الشرك كونه مسبة لله تعالى. ومنها: إبعاد المسلم عن المشركين لا يصير منهم ولو لم يشرك" ا هـ.
وقال العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى - في معنى قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}4 الآية ذكر سبحانه مراتب الدعوة وجعلها ثلاثة أقسام بحسب(6/153)
حال المدعو: فإنه إما أن يكون طالبا للحق محبا له، مؤثرا له على غيره إذا عرفه، فهذا يدعى بالحكمة، ولا يحتاج إلى موعظة وجدال. وإما أن يكون مشتغلا بضد الحق. لكن لو عرفه آثره واتبعه، فهذا يحتاج إلى الموعظة بالترغيب والترهيب. وإما أن يكون معاندا معارضا، فهذا يجادل بالتي هي أحسن. فإن رجع وإلا انتقل معه إلى الجدال إن أمكن. انتهى.
قال: "وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: " أن رسول الله صلي الله عليه وسلم لما بعث
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يوسف آية : 108.
2 سورة يوسف آية : 108.
3 سورة يوسف آية : 108.
4 سورة النحل آية : 125.(6/154)
ص -82- ... معاذا إلى اليمن قال: إنك تأتي قوما من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله " - وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله - " فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب " أخرجاه1.
قال الحافظ: كان بعث معاذ إلى اليمن سنة عشر، قبل حج النبي صلي الله عليه وسلم، كما ذكره المصنف - يعني البخاري في أواخر المغازي - وقيل: كان ذلك في آخر سنة تسع عند منصرفه صلي الله عليه وسلم من تبوك.
رواه الواقدي بإسناده إلى كعب بن مالك. وأخرجه ابن سعد في الطبقات عنه، واتفقوا على أنه لم يزل على اليمن إلى أن قدم في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، ثم توجه إلى الشام فمات بها.
قال شيخ الإسلام: ومن فضائل معاذ رضي الله عنه أنه صلي الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن مبلغا عنه، ومفقها ومعلما وحاكما.
قوله: " إنك تأتي قوما من أهل الكتاب " قال القرطبي: "يعني به اليهود والنصارى، لأنهم كانوا في اليمن أكثر من مشركي العرب أو أغلب، وإنما نبهه على ذلك ليتهيأ لمناظرتهم.
وقال الحافظ: هو كالتوطئة للوصية لجمع همته عليها".
قوله: " فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله "2 "شهادة" رفع على أنه اسم "يكن" مؤخر. و "أول" خبرها مقدم. ويجوز العكس.(6/155)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: كتاب المغازي (4347): باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع. ومسلم: كتاب الإيمان (19) (29): باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام.
2 في قرة العيون: وكانوا يقولونها لكنهم جهلوا معناها الذي دلت عليه من إخلاص العبادة لله وحده وترك عبادة ما سواه, فكان قولهم "لا إله إلا الله " لا ينفعهم لجهلهم بمعنى هذه الكلمة، كحال أكثر المتأخرين من هذه الأمة, فإنهم كانوا يقولونها مع ما كانوا يفعلونه من الشرك بعبادة الأموات والغائبين والطواغيت والمشاهد، فيأتون بما ينافيها فيثبتون ما نفته من الشرك باعتقادهم وقولهم وفعلهم, وينفون ما أثبتته من الإخلاص كذلك, وظنوا أن معناها القدرة(6/156)
ص -83- ... قوله: "وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله" هذه الرواية ثابتة في كتاب التوحيد من صحيح البخاري. وأشار المصنف بذكر هذه الرواية إلى التنبيه على معنى "شهادة أن لا إله إلا الله"؛ فإن معناها توحيد الله بالعبادة ونفي عبادة ما سواه. وفي رواية: " "فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله" " وذلك هو الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا}1 والعروة الوثقى هي "لا إله إلا الله". وفي رواية للبخاري فقال: " ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ".
قلت: لا بد في شهادة أن لا إله إلا الله من سبعة شروط لا تنفع قائلها إلا باجتماعها: أحدها: العلم المنافي للجهل. الثاني: اليقين المنافي للشك. الثالث: القبول المنافي للرد. الرابع: الانقياد المنافي للترك. الخامس: الإخلاص المنافي
للشرك.السادس: الصدق المنافي للكذب. السابع: المحبة المنافية لضدها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 256.(6/157)
ص -84- ... وفيه دليل على أن التوحيد - الذي هو إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه - هو أول واجب. ولهذا كان أول ما دعت إليه الرسل - عليهم السلام - {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}1 وقال نوح: {أَلا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ}2 وفيه معنى "لا إله إلا الله" مطابقة3.
قال شيخ الإسلام: "وقد علم بالاضطرار من دين الرسول صلي الله عليه وسلم، واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام وأول ما يؤمر به الخلق: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فبذلك يصير الكافر مسلما، والعدو وليا، والمباح دمه وماله معصوم الدم والمال. ثم إن كان ذلك من قلبه فقد دخل في الإيمان وإن قاله بلسانه دون قلبه فهو في ظاهر الإسلام دون باطن الإيمان، قال: وأما إذا لم يتكلم بها مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين باطنا وظاهرا، عند سلف الأمة وأئمتها وجماهير العلماء" اهـ.(6/158)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المؤمنون آية : 32.
2 سورة هود آية : 2.
3 في قرة العيون: وأما قول المتكلمين ومن تبعهم: إن أول واجب معرفة الله بالنظر والاستدلال، فذلك أمر فطري فطر الله عليه عباده, ولهذا كان مفتتح دعوة الرسل أممهم إلى توحيد العبادة: (أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) أي لا تعبدوا إلا الله. قال تعالى: 21: 25 (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون)، وقال تعالى: 14: 10 (قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض) .
قال العماد ابن كثير - رحمه الله تعالى -: ((هذا يحتمل شيئين: "أحدهما" أفي وجوده شك؟ فإن الفطرة شاهدة بوجوده ومجبولة على الإقرار به, فإن الاعتراف به ضروري في الفطر السليمة. "والمعنى الثاني" أفي إلهيته وتفرده بوجوب العبادة له شك؟ وهو الخالق لجميع الموجودات فلا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له؛ فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع ولكن تعبد معه غيره من الوسائط التي يظنون أنها تقربهم من الله زلفى)) اهـ.
قلت: وهذا الاحتمال الثاني يتضمن الأول. روى أبو جعفر ابن جرير بسنده عن عكرمة ومجاهد وعامر أنهم قالوا: ليس أحد إلا وهو يعلم أن الله خلقه وخلق السماوات والأرض فهذا إيمانهم. وعن عكرمة أيضا تسألهم من خلق السماوات والأرض؟ فيقولون: الله فذلك إيمانهم وهم يعبدون غيره.
وتقدم أن "لا إله إلا الله " قد قيدت بالكتاب والسنة بقيود ثقال. منها: العلم واليقين والإخلاص والصدق والمحبة والقبول والانقياد, والكفر بما يعبد من دون الله. فإذا اجتمعت هذه القيود لمن قالها نفعته هذه الكلمة، وإن لم تجتمع هذه لم تنفعه، والناس متفاوتون في العلم بها والعمل، فمنهم من ينفعه قولها ومنهم من لاينفعه كما لا يخفى.(6/159)
ص -85- ... " فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال المصنف - رحمه الله تعالى -: "وفيه أن الإنسان قد يكون عالما1 وهو لا يعرف معنى "لا إله إلا الله" أو يعرفه ولا يعمل به".
قلت: فما أكثر هؤلاء - لا كثرهم الله تعالى -.
قوله: " فإن هم أطاعوك لذلك " أي شهدوا وانقادوا لذلك. " فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات " فيه: أن الصلاة أعظم واجب بعد الشهادتين. قال النووي ما معناه: أنه يدل على أن المطالبة بالفرائض في الدنيا لا تكون إلا بعد الإسلام. ولا يلزم من ذلك أن لا يكونوا مخاطبين بها، ويزاد في عذابهم بسببها في الآخرة. والصحيح أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة المأمور به والمنهي عنه. وهذا قول الأكثرين. اهـ.
قوله: " فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم". 2 فيه دليل على أن الزكاة أوجب الأركان بعد الصلوات، وأنها تؤخذ من الأغنياء وتصرف إلى الفقراء، وإنما خص النبي صلي الله عليه وسلم الفقراء؛ لأن حقهم في الزكاة آكد من(6/160)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يعني عالما بعلوم الدنيا; أو عالما حافظا لعلوم الدين ولكنها لا تمس قلبه ولا عقيدته؛ لأنه تعلمها للدنيا وليقال عالم. فهو محترف العلم، وقد يكون بارعا حاذفا في هذه الحرفة ولكنه لا ينتفع في نفسه بعلمه؛ لأن علمه في ناحية وعقيدته ودينه مع تقليد العوام والجمهور في ناحية أخرى، وهذا حال أكثر العلماء الرسميين اليوم أصلحهم الله.
2 في قرة العيون: فيه أن الزكاة لا تنفع إلا من وحد الله وصلى الصلوات بشروطها وأركانها وواجباتها. والزكاة قرينة الصلوات في كتاب الله تعالى، ويدل على هذه الجملة قوله تعالى: 5:98 (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة). فمن أتى بهذه الأمور أتى ببقية الأركان لقوة الداعي إلى ذلك؛ لأن ذلك يقتضي الإتيان بها لزوما. قال تعالى: 9: 5 (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم). قال أنس في الآية: "توبتهم: خلع الأوثان وعبادتهم ربهم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة". وعن ابن مسعود مرفوعا: "أمرت بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة, ومن لم يزك فلا صلاة له ".(6/161)
ص -86- ... حق بقية الأصناف الثمانية.
وفيه: أن الإمام هو الذي يتولى قبض الزكاة وصرفها: إما بنفسه أو نائبه، فمن امتنع عن أدائها إليه أخذت منه قهرا.
وفي الحديث دليل على أنه يكفي إخراج الزكاة في صنف واحد، كما هو مذهب مالك وأحمد.
وفيه: أنه لا يجوز دفعها إلى غني ولا إلى كافر غير المؤلف، وأن الزكاة واجبة في مال الصبي والمجنون، كما هو قول الجمهور ؛ عموم الحديث.
قلت: والفقير إذا أفرد في اللفظ تناول المسكين وبالعكس، كنظائره. كما قرره شيخ الإسلام.
قوله: " إياك وكرائم أموالهم " بنصب "كرائم" على التحذير، وجمع كريمة. قال صاحب المطالع: "هي الجامعة للكمال الممكن في حقها: من غزارة لبن، وجمال صورة، وكثرة لحم وصوف". ذكره النووي "قلت" وهي خيار المال وأنفسه وأكثره ثمنا.
وفيه: أنه يحرم على العامل في الزكاة أخذ كرائم المال، ويحرم على صاحب المال إخراج شرار المال. بل يخرج الوسط، فإن طابت نفسه بالكريمة جاز2.
قوله: " واتق دعوة المظلوم "3 أي اجعل بينك وبينها وقاية بالعدل وترك الظلم، وهذان الأمران يقيان من رزقهما من جميع الشرور دنيا وأخرى. وفيه تنبيه على التحذير من جميع أنواع الظلم.(6/162)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الزكاة (1395 ,1458 ,1496) والمغازي (4347) والتوحيد (7372) , ومسلم : الإيمان (19) , والترمذي : الزكاة (625) , والنسائي : الزكاة (2435) , وأبو داود : الزكاة (1584) , وابن ماجه : الزكاة (1783) , وأحمد (1/233) , والدارمي : الزكاة (1614).
2 في قرة العيون: تحذير له من أن يتجاوز ما شرعه الله ورسوله في الزكاة, وهو أخذها من أوساط المال؛ لأن ذلك سبب لإخراجها بطيب نفس ونية صحيحة. وكل ما زاد على المشروع فلا خير فيه. وهذا أصل ينبغي التفطن له.
3 في قرة العيون: يدل على أن العامل إذا زاد على المشروع صار ظالما لمن أخذ ذلك منه، ودعوة المظلوم مقبولة ليس بينها وبين الله حجاب يمنع قبولها. فعلى العامل أن يتحرى العدل فيما استعمل فيه، فلا يظلم بأخذ زيادة على الحق، ولا يحابي بترك شيء منه, فعليه أن يقصد العدل من الطرفين, والله أعلم.(6/163)
ص -87- ... قوله: "فإنه" أي الشأن " ليس بينها وبين الله حجاب " هذه الجملة مفسرة لضمير الشأن، أي فإنها لا تحجب عن الله فيقبلها.
وفي الحديث أيضا قبول خبر الواحد العدل، ووجوب العمل به. وبعث الإمام العمال لجباية الزكاة. وأنه يعظ عماله وولاته، ويأمرهم بتقوى الله تعالى ويعلمهم، وينهاهم عن الظلم ويعرفهم سوء عاقبته. والتنبيه على التعليم بالتدريج. قاله المصنف.
قلت: ويبدأ بالأهم فالأهم.
واعلم أنه لم يذكر في الحديث الصوم والحج، فأشكل ذلك على كثير من العلماء.
قال شيخ الإسلام: أجاب بعض الناس: أن بعض الرواة اختصر الحديث وليس كذلك. فإن هذا طعن في الرواة؛ لأن ذلك إنما يقع في الحديث الواحد; مثل حديث وفد عبد القيس 1 حيث ذكر بعضهم الصيام وبعضهم لم يذكره، فأما الحديثان المنفصلان فليس الأمر فيها كذلك، ولكن عن هذا جوابان:
أحدهما: أن ذلك بحسب نزول الفرائض، وأول ما فرض الله الشهادتين ثم الصلاة. فإنه أمر بالصلاة في أول أوقات الوحي، ولهذا لم يذكر وجوب الحج، كعامة الأحاديث، إنما جاء في الأحاديث المتأخرة.
الجواب الثاني: أنه كان يذكر في كل مقام ما يناسبه. فيذكر تارة الفرائض التي يقاتل عليها: كالصلاة والزكاة. ويذكر تارة الصلاة والصيام لمن لم يكن عليه زكاة، ويذكر تارة الصلاة والزكاة والصوم. فإما أن يكون قبل فرض الحج; وإما أن يكون المخاطب بذلكض(6/164)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 روى البخاري ومسلم عن ابن عباس: "أن عبد القيس وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ممن القوم؟ فقالوا: من ربيعة. قال: مرحبا بالوفد غير خزايا ولا ندامى. فقالوا: يا رسول الله إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر فصل نأخذ به ونأمر به من وراءنا وندخل به الجنة. فقال: آمركم بأربع: وأنهاكم عن أربع آمركم بالإيمان بالله وحده. أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا الخمس من المغنم" - الحديث وكان وفد عبد القيس في سنة تسع. (*).
(*) (وكان وفد عبد القيس في سنة تسع) في هذا نظر والأظهر أنهم وفدوا قبل فتح مكة لقولهم: (إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر)، ومعلوم أن أهل مكة هم رؤوس كفار مضر وقادتها، وقد أسلموا عام الفتح وذلك سنة ثمان, وقد استنبط الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في تاريخه البداية, هذا المعنى من هذا السياق - والله أعلم -.(6/165)
ص -88- ... لا حج عليه. وأما الصلاة والزكاة فلهما شأن ليس لسائر الفرائض ولهذا ذكر الله تعالى في كتابه القتال عليهما؛ لأنهما عبادتان ظاهرتان بخلاف الصوم، فإنه أمر باطن من جنس الوضوء والاغتسال من الجنابة، ونحو ذلك مما يؤتمن عليه العبد، فإن الإنسان يمكنه أن لا ينوي الصوم وأن يأكل سرا، كما يمكنه أن يكتم حدثه وجنابته، وهو يذاكر في الأعمال الظاهرة التي يقاتل الناس عليها ويصيرون مسلمين بفعلها. فلهذا علق ذلك بالصلاة والزكاة دون الصوم، وإن كان واجبا كما في آيتي براءة1 نزلت بعد فرض الصيام باتفاق الناس. وكذلك لما بعث معاذا إلى اليمن لم يذكر في حديثه الصوم؛ لأنه تبع وهو باطن، ولا ذكر الحج؛ لأن وجوبه خاص ليس بعام، ولا يجب في العمر إلا مرة. انتهى بمعناه 2.
قوله: "أخرجاه" أي البخاري ومسلم، وأخرجه أيضا أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
قال: "ولهما عن سهل بن سعد رضي الله عنه: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه. فبات الناس يدوكون ليلتهم، أيهم يعطاها. فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلي الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: أين علي ابن أبي طالب؟ فقيل: هو يشتكي عينيه. قال: فأرسلوا إليه فأتي به، فبصق في عينيه ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع،(6/166)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هما قوله تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم) الآية الخامسة. ومثلها الآية الحادية عشرة، وخاتمتها: (فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون).
2 ولعل الصواب ما أجاب به بعض العلماء من اختصار الراوي للحديث. وليس في ذلك طعن في الرواة؛ لأنهم كانوا يروون الحديث بحسب الظروف والمناسبات. فقد تكون المناسبة مقتضية لبعض الحديث فيقتصر على هذا البعض. وذلك كثير جدا; كما تراه في البخاري وغيره - والله أعلم -.(6/167)
ص -89- ... فأعطاه الراية، قال: انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم "1.
"يدوكون" أي يخوضون.
قوله: "عن سهل بن سعد" أي ابن مالك بن خالد الأنصاري الخزرجي الساعدي، أبي العباس صحابي شهير، وأبوه صحابي أيضا، مات سنة ثمان وثمانين وقد جاوز المائة.
قوله: "قال يوم خيبر" وفي الصحيحين عن سلمة بن الأكوع قال:
" كان علي رضي الله عنه قد تخلف عن النبي صلي الله عليه وسلم في خيبر، وكان أرمد، فقال: أنا أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فخرج علي رضي الله عنه فلحق بالنبي صلي الله عليه وسلم، فلما كان مساء الليلة التي فتحها الله عز وجل في صباحها، قال صلي الله عليه وسلم: لأعطين الراية - أو ليأخذن الراية - غدا رجل يحبه الله ورسوله، أو قال: يحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه. فإذا نحن بعلي وما نرجوه، فقالوا: هذا علي، فأعطاه رسول الله صلي الله عليه وسلم الراية ففتح الله عليه " 2.
قوله: "لأعطين الراية" قال الحافظ: في رواية بريدة: "إني دافع اللواء إلى رجل يحبه الله ورسوله" وقد صرح جماعة من أهل اللغة بترادفها، ولكن روى أحمد والترمذي من حديث ابن عباس: " كانت راية رسول الله صلي الله عليه وسلم سوداء، ولواؤه أبيض "3 ومثله عند الطبراني عن.
الناس يدوكون ليلتهم: أيهم يعطاها. فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلي الله عليه وسلم كلهم
بريدة. وعند ابن عدي عن أبي هريرة وزاد: "مكتوب فيه: لا إله إلا الله محمد رسول الله"4.
قوله: " يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله " فيه فضيلة عظيمة لعلي رضي الله عنه.
قال شيخ الإسلام: ليس هذا الوصف مختصا بعلي ولا بالأئمة؛ فإن الله ورسوله يحب كل مؤمن تقي يحب الله ورسوله، لكن هذا الحديث من أحسن ما يحتج به على النواصب الذين لا يتولونه، أو يكفرونه أو يفسقونه كالخوارج. لكن(6/168)
هذا الاحتجاج لا يتم على قول الرافضة الذين يجعلون النصوص الدالة على فضائل الصحابة كانت قبل ردتهم، فإن الخوارج تقول في علي مثل ذلك، ولكن هذا باطل؛ فإن الله تعالى ورسوله لا يطلق مثل هذا المدح على من يعلم الله أنه يموت كافرا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الجهاد والسير (2975) , ومسلم : فضائل الصحابة (2407) , وأحمد (4/51).
2 البخاري: كتاب فضائل الصحابة(3702): باب مناقب علي بن أبي طالب. ومسلم: كتاب فضائل الصحابة ( 3407 ) (35): باب من مناقب علي بن أبي طالب.
3 الترمذي : الجهاد (1681) , وابن ماجه : الجهاد (2818).
4 البخاري: كتاب فضائل الصحابة (3701): باب مناقب علي بن أبي طالب. ومسلم: كتاب فضائل الصحابة (2406)(34): باب من فضائل علي بن أبي طالب. وقال: حديث حسن غريب، والطبراني (1161) عن بريدة. وقال في المجمع (5/ 321): "وفيه حيان بن عبيد الله. قال الذهبي: بيض له ابن أبي حاتم فهو مجهول وبقية رجال أبي يعلى ثقات " اهـ. والحديث حسنه الأرناؤوط في تخريج شرح السنة (10/ 404) وزيادة "مكتوب فيه لا إله إلا الله " عند الطبراني في الأوسط كما قال الهيثمي في المجمع (5/ 321) عن ابن عباس وفيها حيان بن عبيد الله أيضا.(6/169)
ص -90- ... وفيه إثبات صفة المحبة خلاقا للجهمية ومن أخذ عنهم 1.
قوله: " يفتح الله على يديه " صريح في البشارة بحصول الفتح، فهو علم من أعلام النبوة.
قوله: " فبات الناس يدوكون ليلتهم " بنصب "ليلتهم" و "يدوكون" قال المصنف: يخوضون. أي فيمن يدفعها إليه. وفيه حرص الصحابة على الخير واهتمامهم به، وعلو مرتبتهم في العلم والإيمان.
قوله: "أيهم" هو برفع "أي" على البناء لإضافتها وحذف صدر صلتها.
قوله: " فلما أصبحوا غدوا على رسول الله صلي الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها ". وفي
يرجو أن يعطاها ". فقال: أين علي ابن أبي طالب؟ فقيل: هو يشتكي عينيه.
رواية أبي هريرة عند مسلم أن عمر قال: " ما أحببت الإمارة إلا يومئذ "2.
قال شيخ الإسلام:إن في ذلك شهادة النبي صلي الله عليه وسلم لعلي بإيمانه باطنا وظاهرا وإثباتا لموالاته لله تعالى ورسوله ووجوب موالاة المؤمنين له، وإذا شهد النبي صلي الله عليه وسلم لمعين بشهادة أو دعا له أحب كثير من الناس أن يكون له مثل تلك الشهادة ومثل ذلك الدعاء، وإن كان النبي يشهد بذلك لخلق كثير ويدعو لخلق كثير، وهذا كالشهادة بالجنة لثابت بن قيس3 وعبد الله بن سلام4 وإن كان شهد بالجنة لآخرين، والشهادة بمحبة الله ورسوله للذي ضرب في الخمر5.(6/170)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في قرة العيون: وفيه فضيلة لعلي رضي الله عنه بما خصه من إعطاء الراية, ودعوته أهل خيبر إلى الإسلام; وقتالهم إذا لم يقبلوا. وفيه مشروعية الدعوة إلى الإسلام.
2 مسلم: كتاب فضائل الصحابة (5 0 24) (33): باب من فضائل علي بن أبي طالب.
3 قال له النبي صلى الله عليه وسلم: " هو من أهل الجنة" في حديث طويل حين جلس في بيته حزينا عند نزول (لا ترفعوا صوتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) وكان ثابت رفيع الصوت, فقال: أنا الذي كنت أرفع صوتي- الحديث رواه الإمام أحمد (ج 3 ص 137)، ورواه مسلم. في كتاب الإيمان حديث 187.
4 عن سعد بن أبي وقاص قال: "ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض: أنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام" رواه البخاري في مناقب الأنصار، ورواه مسلم والترمذي وابن ماجة.
5 روى البخاري عن عمر قال: "كان رجل يسمى عبد الله ويلقب حمارا، وكان يضحك رسول الله وكان يشرب الخمر فيؤتى به فيقيم عليه الحد فلعنه بعض الصحابة، فقال - صلى الله عليه وسلم - : "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله " الحديث.(6/171)
ص -91- ... قوله: "فقال أين علي ابن أبي طالب" فيه سؤال الإمام عن رعيته; وتفقد أحوالهم.
قوله: " فقيل هو يشتكي عينيه " أي من الرمد، كما في صحيح مسلم عن سعد ابن أبي وقاص فقال:
" ادعوا لي عليا فأتي به أرمد "1. الحديث، وفي نسخة صحيحة بخط المصنف: " فقيل: هو يشتكي عينيه، فأرسل إليه " مبني للفاعل، وهو ضمير مستتر في الفعل راجع إلى النبي صلي الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون مبنيا لما لم يسم فاعله. ولمسلم من طريق إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: " فأرسلني إلى علي فجئت به أقوده أرمد ".
قوله: "فبصق" بفتح الصاد، أي تفل.
قوله: " ودعا له فبرأ" هو بفتح الراء والهمزة، أي عوفي في الحال، عافية كاملة كأن لم يكن به وجع من رمد ولا ضعف بصر.
وعند الطبراني من حديث علي: " فما رمدت ولا صدعت منذ دفع النبي صلي الله عليه وسلم إلي الراية ". وفيه دليل على الشهادتين2.
قوله: "فأعطاه الراية" قال المصنف: "فيه الإيمان بالقدر لحصولها لمن لم يسع; ومنعها عمن سعى".
وفيه: أن فعل الأسباب المباحة أو الواجبة أو المستحبة لا ينافي التوكل.
قوله: " وقال: انفذ على رسلك " بضم الفاء. أي امض، و "رسلك" بكسر الراء وسكون السين، أي على رفقك من غير عجلة. و "ساحتهم" فناء أرضهم وهو ما حولها.
وفيه: الأدب عند القتال وترك العجلة والطيش، والأصوات التي لا حاجة إليها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: كتاب فضائل الصحابة (2404) (32): باب من فضائل علي بن أبي طالب.
2 حسن. الحديث بهذا اللفظ قال عنه الهيثمي في المجمع (9/122). "رواه أحمد وأبو يعلى باختصار ورجالهما رجال الصحيح غير أم موسى وحديثها مستقيم " اهـ. أما رواية الطبراني عن علي فهي بنحو هذه الرواية وقال عنها الهيثمي (9/122) أن إسنادها حسن.(6/172)
ص -92- ... وفيه: أمر الإمام عماله بالرفق من غير ضعف ولا انتقاض عزيمة; كما يشير إليه قوله: " ثم ادعهم الى الإسلام "1 أي الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإن شئت قلت الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وما اقتضته الشهادتان من إخلاص العبادة لله وحده، وإخلاص الطاعة لرسوله صلي الله عليه وسلم. ومن هنا طابق الحديث الترجمة كما قال تعالى لنبيه ورسوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}2.
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: والإسلام هو الاستسلام لله، وهو الخضوع له والعبودية له. كذا قال أهل اللغة.
وقال - رحمه الله تعالى -: ودين الإسلام الذي ارتضاه الله وبعث به رسله: هو الاستسلام له وحده، فأصله في القلب. والخضوع له وحده بعبادته وحده دون ما سواه. فمن عبده وعبد معه إلها آخر لم يكن مسلما، ومن استكبر عن عبادته لم يكن مسلما، وفي الأصل: هو من باب العمل، عمل القلب والجوارح. وأما الإيمان فأصله تصديق القلب وإقراره ومعرفته، فهو من باب قول القلب المتضمن عمل القلب. انتهى.
فتبين أن أصل الإسلام هو التوحيد ونفي الشرك في العبادة وهو دعوة جميع المرسلين، وهو الاستسلام لله تعالى بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة فيما أمرهم به على ألسن رسله; كما قال تعالى عن نوح أول رسول أرسله {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ}3.
وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه،
وفيه: مشروعية الدعوة قبل القتال، لكن إن كانوا قد بلغتهم الدعوة جاز قتالهم ابتداء؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون4. وإن كانوا لم تبلغهم الدعوة(6/173)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في قرة العيون: هذا هو شاهد الترجمة, وهكذا ينبغي لأهل الإسلام أن يكون قصدهم بجهادهم هداية الخلق إلى الإسلام والدخول فيه, وينبغي لولاة الأمر أن يكون هذا هو معتمدهم ومرادهم ونيتهم.
2 سورة آل عمران آية : 64.
3 سورة نوح آية : 3.
4 الغار: الغافل. وقال البخاري: غزوة بني المصطلق من خزاعة. وهي المريسيع. قال ابن إسحاق: وذلك سنة ست. وقال موسى بن عقبة: سنة أربع. وقال النعمان بن راشد عن الزهري: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون, وأنعامهم تسقى على الماء, فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم. وأصاب يومئذ جويرية بنت الحارث ". وبنو المصطلق بطن شهير من خزاعة. وسبب غزوهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن الحارث بن ضرار سيدهم أبا جويرية يجمع الناس ويستعد لقتاله. ففاجأهم رسول الله وهم غافلون, وأسر منهم أكثرهم وأسلم الحارث بن ضرار.(6/174)
ص -93- ... وجبت دعوتهم.
قوله: " وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه "12 أي في الإسلام إذا أجابوك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : المناقب (3701) , ومسلم : فضائل الصحابة (2406) , وأبو داود : العلم (3661) , وأحمد (5/333).
2 في قرة العيون: فيه مما أمر به وشرعه من حقوق "لا إله إلا الله " وهذا يدل على أن الأعمال من الإيمان خلافا للأشاعرة والمرجئة في قولهم: إنه القول. وزعموا أن الإيمان هو مجرد التصديق, وتركوا ما يدل عليه الكتاب والسنة؛ لأن الدين ما أمر الله به فعلا وما نهى عنه تركا. وفيه الرد على المشركين المستدلين على الشرك بكرامات الأولياء لدلالتها على فضلهم. وأمير المؤمنين علي رضي الله عنه وقع له من الكرامات ما لم يقع لغيره. وقد خد الأخاديد وأضرمها بالنار وقذف فيها من غلا فيه أو اعتقد فيه بعض ما كان يعتقده هؤلاء المشركون مع أهل البيت وغيرهم. فصار من أشد الصحابة رضي الله عنه بعدا عن الشرك, وشدة على من أشرك حتى أحرقهم بالنار (*). وكذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ما أعطي من الكرامات صار من أبعد الصحابة عن الشرك وذرائعه. وهؤلاء أفضل أهل الكرامات فما زادهم ذلك إلا قوة في التوحيد; وشدة على أهل الشرك والتنديد, كما جرى لعمر - رضي الله عنه - في الاستسقاء بالعباس وتعمية قبر دانيال لما وجده الصحابة في بيت مال الهرمزان, كما أن المعجزات إنما زادت الرسل قوة في الدعوة إلى التوحيد وشدة على أهل الشرك والإنكار عليهم وجهادهم, ولكن قد يقع من الأحوال الشيطانية لمن استحوذ عليه الشيطان فأنساه ذكر ربه ما قد يلتبس على الجهال الذين تلبسوا بالشرك; ويظنون أن ذلك كرامات, وهي من مكر الشيطان; وإغوائه لمن لم يعرف الحق من الباطل, وقد قال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم :43: 43 (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم) فكذلك يجب على كل أحد أن يطلب الحق من القرآن(6/175)
بتدبره؛ فإنه الصراط المستقيم ولا يلتفت إلى ما زخرفته الشياطين كما اغتر به من اغتر في هذه الأمة من قبلهم. (*) هو عبد الله بن سبأ اليهودي وشيعته. والقصة في البخاري. وفيه: من أداء الفرائض على الوجه الشرعي والنهي عن تعدي الحدود التي حدها الله بين الحلال والحرام; وذلك من الإيمان. فالحلال ما أحله الله, والحرام ما حرمه الله; والدين ما شرعه الله, فإذا أخذ بالإسلام الذي هو التوحيد والإخلاص, وأحل ما أحله الله تعالى وحرم ما حرم الله تعالى وأمر بذلك وجاهد عليه, فقد قام بما وجب. وبالله التوفيق.(6/176)
ص -94- ... فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم "1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إليه فأخبرهم بما يجب من حقوقه التي لا بد لهم من فعلها: كالصلاة والزكاة، كما في حديث أبي هريرة: " فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " 2 ولما قال عمر لأبي بكر في قتاله مانعي الزكاة: " كيف تقاتل النساء وقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله. فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها. قال أبو بكر: فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها".
وفيه: بعث الإمام الدعاة إلى الله تعالى، كما كان النبي صلي الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون يفعلون، كما في المسند عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في خطبته: " ألا إني والله ما أرسل عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم. ولكن أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسننكم "3.
قوله: " فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " "أن" مصدرية واللام قبلها مفتوحة لأنها لام القسم، و(أن) والفعل بعدها في تأويل مصدر، رفع على الابتداء والخبر (خير) و (حمر) بضم المهملة وسكون الميم، جمع أحمر، و (النعم) بفتح النون والعين المهملة، أي خير لك من الإبل الحمر، وهي أنفس أموال العرب.
فيه مسائل:
الأولى: أن الدعوة إلى الله طريق من اتبع رسول الله صلي الله عليه وسلم.
الثانية: التنبيه على الإخلاص؛ لأن كثيرا لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه.(6/177)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : المناقب (3701) , ومسلم : فضائل الصحابة (2406) , وأبو داود : العلم (3661) , وأحمد (5/333).
2 (1 و 2) رواهما البخاري ومسلم وغيرهما.
3 إسناده ضعيف: أحمد (1/41). وقال الهيثمي في المجمع (5/ 211): "رواه أحمد في حديث طويل وأبو فراس لم أر من جرحه ولا وثقه, وبقية رجاله ثقات " اهـ. وأبو فراس النهدي قال في الميزان (4/ 561): لا يعرف وفي التقريب (2/462) مقبول.(6/178)
ص -95- ... الثالثة: أن البصيرة من الفرائض.
الرابعة: من دلائل حسن التوحيد: أنه تنزيه الله تعالى عن المسبة.
الخامسة: أن من قبح الشرك كونه مسبة لله.
السادسة: - وهي أهمها - إبعاد المسلم عن المشركين لا يصير منهم، ولو لم يشرك.
السابعة: كون التوحيد أول واجب.
الثامنة: أن يبدأ به قبل كل شيء، حتى الصلاة.
التاسعة: أن معنى " أن يوحدوا الله" لا معنى: شهادة أن لا إله إلا الله.
العاشرة: أن الإنسان قد يكون من أهل الكتاب وهو لا يعرفها، أو يعرفها ولا يعمل بها.
الحادية عشرة: التنبيه على التعليم بالتدريج.
الثانية عشرة: البداءة بالأهم فالأهم.
الثالثة عشرة: مصرف الزكاة.
الرابعة عشرة: كشف العالم الشبهة عن المتعلم.
الخامسة عشرة: النهي عن كرائم الأموال.
السادسة عشرة: اتقاء دعوة المظلوم.
السابعة عشرة: الإخبار بأنها لا تحجب.
مصدرية واللام قبلها مفتوحة لأنها لام القسم. وأن والفعل بعدها في تأويل مصدر، رفع على الابتداء والخبر "خير". و "حمر" بضم المهملة وسكون الميم، جمع أحمر. و "النعم" بفتح النون والعين المهملة، أي خير لك من الإبل الحمر. وهي أنفس أموال العرب.
الثامنة عشرة: من أدلة التوحيد ما جرى على سيد المرسلين وسادات الأولياء من المشقة والجوع والوباء.(6/179)
ص -96- ... التاسعة عشرة: قوله: " لأعطين الراية" ألخ علم من أعلام النبوة.
العشرون: تفله في عينيه علم من أعلامها أيضا.
الحادية والعشرون: فضيلة علي رضي الله عنه.
الثانية والعشرون: فضل الصحابة في دوكهم تلك الليلة وشغلهم عن بشارة الفتح.
الثالثة والعشرون: الإيمان بالقدر لحصولها لمن لم يسع لها ومنعها عمن سعى.
الرابعة والعشرون: الأدب في قوله: " على رسلك".
الخامسة والعشرون: الدعوة إلى الإسلام قبل القتال.
السادسة والعشرون: أنه مشروع لمن دعوا قبل ذلك وقوتلوا.
السابعة والعشرون: الدعوة بالحكمة لقوله: " أخبرهم بما يجب ".
الثامنة والعشرون: المعرفة بحق الله في الإسلام.
التاسعة والعشرون: ثواب من اهتدى على يديه رجل واحد.
الثلاثون: الحلف على الفتيا
قال النووي: "وتشبيه أمور الآخرة بأمور الدنيا إنما هو للتقريب إلى الأفهام; وإلا فذرة من الآخرة خير من الأرض بأسرها وأمثالها معها".
وفيه: فضيلة من اهتدى على يديه رجل واحد، وجواز الحلف على الخبر والفتيا ولو لم يستحلف.
باب" تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله".
قلت: هذا من عطف الدال على المدلول1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في قرة العيون: لأن التوحيد هو معنى هذه الكلمة العظيمة, وذلك يتبين بما ساقه من الآيات والحديث؛ لما فيها من زيادة البيان وكشف ما أشكل من ذلك, وإقامة الحجة على من غلط في معنى "لا إله إلا الله " من أهل الجهل والإلحاد.(6/180)
ص -97- ... فإن قيل: قد تقدم في أول الكتاب من الآيات ما يبين معنى "لا إله إلا الله" وما تضمنته من التوحيد كقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ}1 وسابقها ولاحقها. وكذلك ما ذكره في الأبواب بعدها، فما فائدة هذه الترجمة؟.
قيل: هذه الآيات المذكورات في هذا الباب فيها مزيد بيان بخصوصها لمعنى كلمة الإخلاص وما دلت عليه: من توحيد العبادة. وفيها: الحجة على من تعلق على الأنبياء والصالحين يدعوهم ويسألهم؛ لأن ذلك هو سبب نزول بعض هذه الآيات، كالآية الأولى {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ}2. أكثر المفسرين على أنها نزلت فيمن يعبد المسيح وأمه، والعزير والملائكة، وقد نهى الله عن ذلك أشد النهي، كما في هذه الآية من التهديد والوعيد على ذلك. وهذا يدل على أن دعاءهم من دون الله شرك بالله ينافي التوحيد، وينافي شهادة أن لا إله إلا الله؛ فإن التوحيد أن لا يدعى إلا الله وحده. وكلمة الإخلاص نفت هذا الشرك، لأن دعوة غير الله تأليه وعبادة له.
و "الدعاء مخ العبادة"3.
وفي هذه الآية: أن المدعو لا يملك لداعيه كشف ضرر ولا تحويله من مكان إلى مكان، ولا من صفة إلى صفة، ولو كاز المدعو نبيا أو ملكا. وهذا يقرر بطلان دعوة كل مدعو من دون الله كائنا من كان؛ لأن دعوته تجعل داعيه أحوج ما كان إليها؛ لأنه أشرك مع الله من لا ينفعه ولا يضره. وهذه الآية تقرر التوحيد ومعنى لا إله إلا الله.
وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}45 يبين أن هذا(6/181)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الإسراء آية : 23.
2 سورة الإسراء آية : 56.
3 ضعيف: لفظ حديث ضعيف أخرجه الترمذي: كتاب الدعوات (3371): باب ما جاء في فضل الدعاء وقال الترمذي: هذا حديث غريب. وضعفه الألباني في تخريج المشكاة (1 233) وضعيف الجامع (3003). (*) رواه الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم .
4 سورة الإسراء آية : 57.
5 في قرة العيون: أي أولئك الذين يدعوهم أهل الشرك ممن لا يملك كشف الضر ولا تحويله من الملائكة والأنبياء والصالحين كالمسيح وأمه والعزير، فهؤلاء دينهم التوحيد وهو بخلاف من دعاهم من دون الله ووصفهم بقوله: (يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب)، فيطلبون القرب من الله بالإخلاص له وطاعته فيما أمر, وترك ما نهاهم عنه. وأعظم القرب التوحيد الذي بعث الله به أنبياءه ورسله، وأوجب عليهم العمل به والدعوة إليه، وهذا الذي يقربهم إلى الله أي إلى عفوه ورضاه، ووصف ذلك بقوله: (ويرجون رحمته ويخافون عذابه)، فلا يرجون أحدا سواه ولا يخافون غيره, وذلك هو توحيده؛ لأن ذلك يمنعهم من الشرك, ويوجب لهم الطمع في رحمة الله والهرب من عقابه, والداعي لهم - والحالة هذه - قد عكس الأمر, وطلب منهم ما كانوا ينكرون من الشرك بالله في دعائهم لمن كانوا يدعونه من دون الله. ففيه معنى قوله: 35: 14 (ويوم القيامة يكفرون بشرككم) وقوله: 46: 6 (وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين). وفيه: الرد على من ادعى أن شرك المشركين إنما هو بعبادة الأصنام، وتبين بهذه الآية أن الله تعالى أنكر على من دعا معه غيره من الأنبياء والصالحين والملائكة ومن دونهم, وأن دعاء الأموات والغائبين لجلب نفع أو دفع ضر هو من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله, وأن ذلك ينافي ما دلت عليه كلمة الإخلاص . فتدبر هذه الآية العظيمة يتبين لك التوحيد, وما ينافيه من الشرك والتنديد، فإنها(6/182)
نزلت فيمن يعبد الملائكة والمسيح وأمه والعزير، فهم المعنيون بقوله: (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا ). ثم بين تعالى أن هؤلاء المشركين قد خالفوا من كانوا يدعونه في دينه فقال: (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب) وقدم المعمول لأنه يفيد الحصر, يعني يبتغون إلى ربهم الوسيلة لا إلى غيره. وأعظم الوسائل إلى الله تعالى التوحيد الذي بعث به الله أنبياءه ورسله، وخلق الخلق لأجله. ومن التوسل إليه: التوسل بأسمائه وصفاته, كما قال تعالى: 7: 180 (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) وكما ورد في الأذكار المأثورة من التوسل بها في الدعوات كقوله صلى الله عليه وسلم (اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام)، وقوله: (اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد) وغير ذلك من الأعمال الصالحة الخالصة التي لم يشبها شرك. فالتوسل إلى الله هو بما يحبه ويرضاه, لا بما يكرهه ويأباه من الشرك الذي نزه نفسه عنه بقوله: (سبحان الله عما يشركون) وقوله: (سبحان الله وما أنا من المشركين) وقوله في الإنكار على من اتخذ الشفعاء 10: 18 (قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون). وأمثال هذه الآيات في القرآن كثير يأمر عباده بإخلاص العبادة له، وينهاهم عن عبادة ما سواه, ويعظم عقوبته كما قد جرى على الأمم المكذبة للرسل فيما جاءوهم به من التوحيد والنهي عن الشرك. فأوقع الله تعالى بهم ما أوقع كقوم نوح وعاد وثمود ونحوهم؛ فإنهم عصوا الرسل فيما أمروهم به من التوحيد وتمسكوا بالشرك، وقالوا لنوح: 11: 27 (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي). وقالوا لهود: 11: 53 (ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين) الآيات. وقالوا(6/183)
لصالح: 11: 62 (قد كنت فينا مرجوا قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا). وقالوا لشعيب 11: 87 (أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا). فتدبر ما قص الله تعالى في كتابه مما دعت إليه الرسل وما أوقع بمن عصاهم؛ فإن الله تعالى أقام به الحجة على كل مشرك إلى يوم القيامة. وأما ما ورد في معنى الآية عن ابن مسعود قال: "كان ناس من الإنس يعبدون ناسا من الجن، فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم" . فإنه لا يخالف ما تقدم؛ لأن هذه الآية حجة على كل من دعا مع الله وليا من الأولين والآخرين, كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في هذه الآية: "وهذه الأقوال كلها حق؛ فإن الآية تعم من كان معبوده عابدا لله سواء كان من الملائكة والجن أو من البشر.(6/184)
ص -98- ... أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً}1.
سبيل الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم من المؤمنين. قال قتادة: " تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه "
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الإسراء آية : 57.(6/185)
ص -99- ... وقرأ ابن زيد {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} 1. قال العماد ابن كثير: "وهذا لا خلاف فيه بين المفسرين". وذكره عن عدة من أئمة التفسير.
قال العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى -: في هذه الآية ذكر المقامات الثلاث: الحب، وهو ابتغاء التقرب إليه. والتوسل إليه بالأعمال الصالحة. والرجاء والخوف. وهذا هو حقيقة التوحيد وحقيقة دين الإسلام كما في المسند عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قال للنبي صلي الله عليه وسلم: "والله يا رسول الله ما أتيتك إلا بعدما حلفت عدد أصابعي هذه أن لا آتيك، فبالذي بعثك بالحق ما بعثك به؟ قال: الإسلام. قال: وما الإسلام؟ قال: أن تسلم قلبك وأن توجه وجهك إلى الله، وأن تصلي الصلوات المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة " وأخرج محمد بن نصر المروزي من حديث خالد بن معدان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " إن للإسلام صوى ومنارا كمنار الطريق2 من ذلك أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "3 وهذا معنى قوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ}(6/186)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يعني أن جميع الصالحين الذين يدعوهم المشركون ويستغ يثون بهم إما توسلا إلى الله ليقضي حوائجهم, وإما استقلالا, بأن يطلبوا منهم قضاء الحاجة معتقدين بأن الله وهبهم التكوين والتصرف، أولئك الصالحون مشتغلون بأنفسهم يدعون الله لها ويتوسلون إليه بعبادته مخلصين له الدين خائفين عذابه راجين رحمته, وإذا لم يملكوا لأنفسهم نفعا ولا دفع ضر, فكيف يملكون لغيرهم ضرا أو نفعا؟ .
2 الصوى : الأعلام المنصوبة من الحجارة في المفازة المجهولة يستدل بها على الطريق, واحدتها صوة - كقوة- أراد أن للإسلام طرائق وأعلاما يهتدى بها.
3 حسن: أحمد (5/3) "من طريق أبي قزعة الباهلي عن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه وليس عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده كما وهم ابن القيم وإسناده حسن ". أفاده الدوسري في النهج السديد (328) ورواه الحاكم (1/ 21) بمعناه من حديث أبي هريرة. وصححه الألباني في الصحيحة لطرقه (333) وفي تخريج الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام رقم (3).(6/187)
ص -100- ... ( وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ}1 أي "لا إله إلا الله".
فتدبر كيف عبر الخليل - عليه السلام - عن هذه الكلمة العظيمة بمعناها الذي دلت عليه ووضعت له2 من البراءة من كل ما يعبد من دون الله من المعبودات الموجودة في الخارج: كالكواكب والهياكل والأصنام التي صورها قوم نوح على صور الصالحين: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وغيرها من الأوثان والأنداد التي كان يعبدها المشركون بأعيانها. ولم يستثن من جميع المعبودات إلا الذي فطره، وهو الله وحده لا شريك له، فهذا هو الذي دلت عليه كلمة الإخلاص مطابقة. كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}4. فكل عبادة يقصد بها غير الله: من دعاء وغيره فهي باطلة، وهي الشرك الذي لا يغفره الله، قال تعالى: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ}5.
وقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُم وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ(6/188)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزخرف آية : 26-27-28.
2 في قرة العيون: فعبر عن المنفي بها قوله: (إنني براء مما تعبدون) وعبر عما أثبتته بقوله: (إلا الذي فطرني) فقصر العبادة على الله وحده، ونفاها عن كل ما سواه ببراءته من ذلك. فما أحسن التفسير لهذه الكلمة وما أعظمه. قال العماد ابن كثير في قوله تعالى: (وجعلها كلمة باقية في عقبه): أي هذه الكلمة وهي عبادة الله وحده لا شريك له وخلع ما سواه من الأوثان، وهي لا إله إلا الله; جعلها في ذريته يقتدي به فيها من هداه الله من ذرية إبراهيم عليه (لعلهم يرجعون) أي إليها. قال عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم في قوله: (وجعلها كلمة باقية في عقبه). يعني "لا إله إلا الله" لا يزال في ذريته من يقولها.
3 سورة التوبة آية : 31.
4 سورة الحج آية : 62.
5 سورة غافر آية : 73-74.(6/189)
ص -101- ... ابْنَ مَرْيَمَ ْ1}2 وفي الحديث الصحيح:
أن النبي صلي الله عليه وسلم تلا هذه الآية على عدي بن حاتم الطائي فقال: " يا رسول الله، لسنا نعبدهم. قال: أليس يحلون لكم ما حرم الله فتحلونه، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ قال: بلى. قال النبي صلي الله عليه وسلم: فتلك عبادتهم "34.
فصارت طاعتهم في المعصية عبادة لغير الله وبها اتخذوهم أربابا، كما هو الواقع في هذه الأمة، وهذا من الشرك الأكبر المنافي للتوحيد الذي هو مدلول شهادة لا إله إلا الله.
فتبين بهذه الآية أن كلمة الإخلاص نفت هذا كله لمنافاته لمدلول هذه الكلمة، فأثبتوا ما نفته من الشرك وتركوا ما أثبتته من التوحيد.
وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}5 فكل من اتخذ ندا لله يدعوه من دون الله، ويرغب إليه ويرجوه لما يؤمله منه من قضاء حاجاته وتفريج كرباته - كحال عباد القبور والطواغيت والأصنام - فلا بد أن يعظموهم ويحبوهم(6/190)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأحبار: هم العلماء. والرهبان: هم العباد. قال السدي: استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. ولهذا قال تعالى في الآية: (وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) فصار ذلك عبادة لهم. وجعلوا أحبارهم ورهبانهم مشرعين في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله; فاتخذوهم بذلك أربابا؛ لأن التشريع من خصائص الربوبية كما أن العبادة من مستحقات الربوبية. وقال تعالى: 3: 80 (ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون).
2 في قرة العيون: أي اتخذوه ربا بعبادتهم له من دون الله. وقال تعالى: 5: 117,116 (إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتي كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد). فمن تدبر هذه الآيات تبين له معنى "لا إله إلا الله "، وتبين له التوحيد الذي جحده أكثر من يدعي العلم في هذه القرون وما قبلها من متأخري هذه الأمة, وقد عمت البلوى بالجهل بعد القرون الثلاثة لما وقع الغلو في قبور أهل البيت وغيرهم وبنيت عليها المساجد, وبنيت لهم المشاهد، فاتسع الأمر وعظمت الفتنة في الشرك المنافي للتوحيد لما حدث الغلو في الأموات وتعظيمهم بالعبادة. فبهذه الأمور التي وقع فيها الأكثر, وعاد المعروف منكرا والمنكر معروفا, والبدعة سنة والسنة بدعة، نشأ على هذا الصغير, وهرم عليه الكبير، وقد قال صلى الله عليه وسلم : "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ, فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس" وفي رواية: " يصلحون ما أفسد الناس ".
3 حسن: الترمذي:(6/191)
كتاب التفسير (3095): باب ومن سورة التوبة. والبيهقي (10/ 116) وعزو الحديث لأحمد وهم كما أفاده الدوسري. والحديث حسنه الألباني في غاية المرام ص (20).
4 رواه الإمام أحمد والترمذي وحسنه وابن جرير مطولا.
5 سورة البقرة آية : 165.(6/192)
ص -102- ... لذلك؛ فإنهم أحبوهم مع الله وإن كانوا يحبون الله تعالى1.
ويقولون "لا إله إلا الله" ويصلون ويصومون، فقد أشركوا بالله في المحبة بمحبة غيره وعبادة غيره. فاتخاذهم الأنداد يحبونهم كحب الله يبطل كل قول يقولونه وكل عمل يعملونه؛ لأن المشرك لا يقبل منه عمل ولا يصح منه. وهؤلاء وإن قالوا: "لا إله إلا الله" فقد تركوا كل قيد قيدت به هذه الكلمة العظيمة: من العلم بمدلولها؛ لأن المشرك جاهل بمعناها، ومن جهله بمعناها جعل لله شريكا في المحبة وغيرها، وهذا هو الجهل المنافي للعلم بما دلت عليه من الإخلاص، ولم يكن صادقا في قولها؛ لأنه لم ينف ما نفته من الشرك، ولم يثبت ما أثبتته من الإخلاص، وترك اليقين أيضا؛ لأنه لو عرف معناها وما دلت عليه لأنكره أو شك فيه، ولم يقبله وهو الحق، ولم يكفر بما يعبد من دون الله؛ كما في الحديث. بل آمن بما يعبد من دون الله باتخاذه الند ومحبته له وعبادته إياه من دون الله، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ}2؛ لأنهم أخلصوا له الحب فلم يحبوا إلا إياه، ويحبون من أحب ويخلصون أعمالهم جميعا لله، ويكفرون بما عبد من دون الله.
فبهذا يتبين لمن وفقه الله تعالى لمعرفة الحق وقبوله دلالة هذه الآيات العظيمة على معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وعلى التوحيد الذي هو معناها الذي دعا إليه جميع المرسلين. فتدبر.(6/193)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هم في الواقع ما أحبوا الله حقيقة؛ لأن حب الله لا يكون إلاعن معرفة بالله بأسمائه وصفاته. ومن أحب الله على الحقيقة لا يمكن أن يتخذ من دونه ندا. وليس معنى (كحب الله) أي كحبهم لله. ولكن معناها - والله أعلم -: يحبونهم حبا من جنس الحب الذي لا يكون إلا لله. وهو حب العبادة: غاية الحب في غاية الذل والتعظيم. فهذا هو الحب الذي ينشأ عنه الدعاء واللجأ والضراعة وطلب تفريج الكروب ونحوها، مما يجرده المؤمنون لله وحده وهم أشد حبا لله، والمشركون يجردونه لأوليائهم أو يشركونهم مع الله، ولا يرجون لله وقارا. وقال في قرة العيون: الأنداد: الأمثال والنظراء, كما قال العماد ابن كثير وغيره من المفسرين. فكل من صرف من العبادة شيئا لغير الله رغبة إليه أو رهبة منه, فقد اتخذه ندا لله؛ لأنه أشرك مع الله فيما لا يستحقه غيره. قال العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى -: ((فتوحيد المحبوب ألا يتعدد محبوبه أي مع الله بعبادته له, وتوحيد الحب أن لا يبقى في قلبه بقية حب حتى يبذلها له, فهذا الحب وإن سمي عشقا فهو غاية صلاح العبد ونعيمه وقرة عينه، وليس لقلبه صلاح ولا نعيم إلا بأن يكون الله وسوله أحب إليه مما سواهما, وأن لا تكون محبته لغير الله, فلا يحب إلا الله; كما في الحديث الصحيح: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما, وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار" ومحبة رسوله هي من محبته، ومحبة المرء إن كانت لله فهي من محبته, وإن كانت لغير الله فهي منقصة لمحبة الله مضعفة لها. ويصدق هذه المحبة بأن يكون كراهته لأبغض الأشياء إلى محبوبه - وهو الكفر- بمنزلة كراهته لإلقائه في النار أو أشد. ولا ريب أن هذا من أعظم المحبة؛ فإن الإنسان لا يقدم على محبة نفسه شيئا, فإذا قدم محبة الإيمان بالله على نفسه(6/194)
بحيث لو خير بين الكفر وإلقائه في النار لاختار أن يلقى في النار ولا يكفر, كان أحب إليه من نفسه. وهذه المحبة هي فوق ما يجده العشاق من محبة محبوبيهم, بل لا نظير لهذه المحبة; كما لا مثيل لمن تعلقت به, وهي محبة تقتضي تقديم المحبوب فيها على النفس والمال والولد, وتقتضي كمال الذل والخضوع والتعظيم والإجلال والطاعة والانقياد ظاهرا وباطنا, وهذا لا نظير له في محبة مخلوق ولو كان المخلوق من كان, ولهذا من أشرك بين الله وبين غيره في المحبة الخاصة كان شركا لا يغفره الله كما قال تعالى: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله). والصحيح أن معنى الآية: أن الذين آمنوا أشد حبا لله من أصحاب الأنداد لأندادهم; كما تقدم أن محبة المؤمنين لربهم لا يماثلها محبة مخلوق أصلا, كما لا يماثل محبوبهم غيره. وكل أذى في محبة غيره فهو نعيم في محبته, وكل مكروه في محبة غيره فهو قرة عين في محبته. انتهى.
2 سورة البقرة آية : 165.(6/195)
ص -103- ... قال: وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ}1 الآية. يتبين معنى هذه الآية بذكر ما قبلها، وهو قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً}2.
قال ابن كثير - رحمه الله -: يقول تعالى: " قل " يا محمد3 للمشركين الذين عبدوا غير الله {ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ} من الأصنام والأنداد، وارغبوا إليهم؛ فإنهم لا يملكون كشف الضر عنكم، أي بالكلية " ولا تحويلا " أي ولا أن يحولوه إلى غيركم.
والمعنى: أن الذي يقدر على ذلك هو الله وحده لا شريك له، الذي له الخلق والأمر. قال العوفي عن ابن عباس في الآية: " كان أهل الشرك يقولون: نعبد الملائكة والمسيح وعزيرا، وهم الذين يدعون. يعني الملائكة والمسيح وعزيرا ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الإسراء آية : 57.
2 سورة الإسراء آية : 56.
3 يستعمل المفسرون هذا الخطاب كثيرا; تفسيرا لخطاب الله. ولكن يلاحظ أن الله لم يخاطب رسوله ولا مرة واحدة بهذا الخطاب "يا محمد"، بل كل خطاب الله "يا أيها النبي يا أيها الرسول " فينبغي أن يكون ذلك كذلك; والله أعلم.(6/196)
ص -104- ... وروى البخاري في الآية عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ناس من الجن كانوا يعبدون فأسلموا. وفي رواية: " كان ناس من الإنس يعبدون ناسا من الجن فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم "1.
وقول ابن مسعود هذا يدل على أن الوسيلة هي الإسلام، وهو كذلك على كلا القولين.
وقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}2
وقال السدي عن أبي صالح عن ابن عباس في الآية قال: "عيسى وأمه وعزير". وقال مغيرة عن إبراهيم: كان ابن عباس يقول في هذه الآية: "هم عيسى وعزير والشمس والقمر". وقال مجاهد: "عيسى وعزير والملائكة".
وقوله: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}3 لا تتم العبادة إلا بالخوف والرجاء، فكل داع دعا دعاء عبادة أو استغاثة لا بد له من ذلك: فإما أن يكون خائفا وإما أن يكون راجيا، وإما أن يجتمع فيه الوصفان.
قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - في هذه الآية، لما ذكر أقوال المفسرين: "وهذه الأقوال كلها حق؛ فإن الآية تعم من كان معبوده عابدا لله، سواء كان من الملائكة أو من الجن أو من البشر. والسلف في تفسيرهم يذكرون جنس المراد بالآية على نوع التمثيل، كما يقول الترجمان لمن سأله: ما معنى الخبز؟ فيريه رغيفا. فيقول: هذا. فالإشارة إلى نوعه لا إلى عينه، وليس مرادهم بذلك تخصيص نوع من شمول الآية. فالآية خطاب لكل من دعا من دون الله مدعوا، وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة ويرجو رحمته ويخاف عذابه، فكل من دعا ميتا أو غائبا من الأنبياء والصالحين سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها فقد تناولته هذه الآية، كما تتناول من دعا الملائكة والجن; فقد نهى الله تعالى من دعائهم، وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله، ولا يرفعونه بالكلية ولا يحولونه(6/197)
من موضع إلى موضع، كتغيير صفته أو قدره، ولهذا قال: {وَلا تَحْوِيلا} فذكر نكرة تعم أنواع التحويل. فكل من دعا ميتا أو غائبا من الأنبياء والصالحين أو دعا الملائكة، فقد دعا من لا يغيثه ولا يملك كشف الضر عنه ولا تحويله" اهـ.
وفي هذه الآية رد على من يدعو صالحا ويقول: أنا لا أشرك بالله شيئا، الشرك عبادة الأصنام.
قال: وقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي}
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أما الرواية الأولى فهي في البخاري: كتاب التفسير (4715): باب (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة) . وأما الرواية الثانية: ففي البخاري: كتاب التفسير (4714): باب "قل ادعوا الذين زعمتم من دونه".
2 سورة الزخرف آية : 26-27-28.
3 سورة الإسراء آية : 57.(6/198)
ص -105- ... الآية. قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء، ووالد من بعث بعده من الأنبياء، الذي تنتسب إليه قريش في نسبها
ومذهبها: أنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان فقال: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}1 أي هذه الكلمة وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان، وهي "لا إله إلا الله"2 جعلها في ذريته يقتدي به فيها من هداه الله من ذرية إبراهيم - عليه السلام - {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي إليها.
قال عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم في قوله: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} يعني "لا إله إلا الله" لا يزال في ذريته من يقولها.
وروى ابن جرير عن قتادة {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي} قال: كانوا يقولون: الله ربنا. {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}3 فلم يبرأ من ربه. رواه عبد بن حميد. وروى ابن جرير وابن المنذر عن قتادة {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}4 قال: " الإخلاص والتوحيد لا يزال في ذريته من يعبد الله ويوحده ". قلت: فتبين أن معنى "لا إله إلا الله " توحيد الله بإخلاص العبادة له والبراءة من كل ما سواه. قال المصنف - رحمه الله - "وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة، هي شهادة أن لا إله إلا الله". وفي هذا المعنى يقول العلامة الحافظ ابن القيم - رحمه الله - في الكافية الشافية:
وإذا تولاه امرؤ دون الورى ... طرا تولاه العظيم الشان"(6/199)
قال: وقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}5 الآية. الأحبار: هم العلماء. والرهبان: هم العباد. وهذه الآية قد فسرها رسول الله صلي الله عليه وسلم لعدي بن حاتم، وذلك أنه لما جاء مسلما دخل على رسول الله صلي الله عليه وسلم فقرأ عليه هذه الآية. قال: فقلت:
" إنهم لم يعبدوهم. فقال: بلى. إنهم حرموا عليهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزخرف آية : 26-27.
2 فإن " لا إله إلا الله " مطابقة لقوله: (إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني)؛ لأن كلتيهما مركبة من جملتين: نفي, وهي "لاإله" و"إنني براء مما تعبدون" وإثبات: وهي "إلا الله " و"الذي فطرني " فينبغي أن يلاحظ المسلم عند نطقه بكلمة الشهادة ذلك ويحققه علما وعملا.
3 سورة الزخرف آية : 87.
4 سورة الزخرف آية : 28.
5 سورة التوبة آية : 31.(6/200)
ص -106- ... الحلال وحللوا لهم الحرام فاتبعوهم، فذلك عبادتهم إياهم " رواه أحمد والترمذي وحسنه، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني من طرق1.
قال السدي: استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. ولهذا قال تعالى: {أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}2، فإن " الحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، والدين ما شرعه الله ".
فظهر بهذا أن الآية دلت على أن من أطاع غير الله ورسوله. وأعرض عن الأخذ بالكتاب والسنة في تحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحله الله، وأطاعه في معصية الله، واتبعه فيما لم يأذن به الله، فقد اتخذه ربا ومعبودا وجعله لله شريكا، وذلك ينافي التوحيد الذي هو دين الله الذي دلت عليه كلمة الإخلاص "لا إله إلا الله"؛ فإن الإله هو المعبود، وقد سمى الله تعالى طاعتهم عبادة لهم، وسماهم أربابا، كما قال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً}3 أي شركاء لله تعالى في العبادة {يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}4 وهذا هو الشرك. فكل معبود رب، وكل مطاع ومتبع على غير ما شرعه الله ورسوله فقد اتخذه المطيع المتبع ربا ومعبودا; كما قال تعالى في آية الأنعام: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}5. وهذا هو وجه مطابقة الآية للترجمة، ويشبه هذه الآية في المعنى قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}6 والله أعلم.
قال شيخ الإسلام في معنى قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}: "وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله، يكونون على وجهين أحدهما: أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على هذا التبديل،(6/201)
فيعتقدون تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله؛ اتباعا لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل. فهذا كفر، وقد جعله الله ورسوله شركا، وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم. فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف للدين، واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله، مشركا مثل هؤلاء.
الثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحرام وتحليل الحلال ثابتا، لكنهم أطاعوهم في معصية الله; كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب، كما قد ثبت عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: " إنما الطاعة في المعروف "7.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه برقم (80).
2 سورة التوبة آية : 31.
3 سورة آل عمران آية : 80.
4 سورة آل عمران آية : 80.
5 سورة الأنعام آية : 121.
6 سورة الشورى آية : 21.
7 البخاري: كتاب المغازي (4340): باب سرية عبد الله بن حذافة السهمي. كتاب أخبار الآحاد (7257): باب ما جاء في إجازة الخبر الواحد، كتاب الأحكام (7145): باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية. ومسلم: كتاب الإمارة (1840) (40): باب وجوب طاعة الأمراء من غير معصية الله.(6/202)
ص -107- ... ثم ذلك المحرم للحلال والمحلل للحرام إن كان مجتهدا قصده اتباع الرسل لكن خفي عليه الحق في نفس الأمر، وقد اتقى الله ما استطاع، فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه. ولكن من علم أن هذا أخطأ فيما جاء به الرسول ثم اتبعه على خطئه وعدل عن قول الرسول، فهذا له نصيب من هذا الشرك الذي ذمه الله، لا سيما إن اتبع ذلك هواه ونصره باليد واللسان، مع علمه أنه مخالف للرسول، فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه. ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز له تقليد أحد في خلافه، وإنما تنازعوا في جواز التقليد للقادر على الاستدلال. وإن كان عاجزا عن إظهار الحق الذي يعلمه. فهذا يكون كمن عرف أن دين الإسلام حق وهو بين النصارى، فإذا فعل ما يقدر عليه من الحق لا يؤاخذ بما عجز عنه، وهؤلاء كالنجاشي وغيره. وقد أنزل الله في هؤلاء الآيات من كتابه كقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ}1. وقوله: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ}2 الآية. وقوله: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}3. وأما إن كان المتبع للمجتهد عاجزا عن معرفة الحق على التقصيل وقد فعل ما يقدر عليه مثله: من الاجتهاد في التقليد، فهذا لا يؤاخذ إن أخطأ كما في القبلة.
وأما من قلد شخصا دون نظيره بمجرد هواه، ونصره بيده ولسانه من غير علم أن معه الحق؟ فهذا من أهل الجاهلية، وإن كان متبوعه مصيبا لم يكن عمله صالحا، وإن كان متبوعه مخطئا كان آثما. كمن قال في القرآن برأيه، فإن أصاب فقد أخطأ، وإن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار. وهؤلاء من جنس مانع الزكاة الذي تقدم فيه الوعيد، ومن جنس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة؛ فإن(6/203)
ذلك لما أحب المال منعه من عبادة الله وطاعته وصار عبدا له، وكذلك هؤلاء فيكون فيهم شرك أصغر، ولهم من الوعيد بحسب ذلك. وفي الحديث: "إن يسير الرياء شرك" وهذا مبسوط عند النصوص التي فيها إطلاق الكفر والشرك على كثير من الذنوب"4. انتهى.
وقال أبو جعفر ابن جرير في معنى قول الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً}5 "أي وتجعلون لمن خلق ذلك أندادا وهم الأكفاء من الرجال تطيعونهم في معاصي الله". انتهى.
قلت: كما هوالواقع من كثير من عباد القبور.
قال: وقوله {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}6الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية : 199.
2 سورة المائدة آية : 83.
3 سورة الأعراف آية : 159.
4 صحيح. جزء من حديث طويل رواه ابن ماجة: كتاب الفتن (3989): باب من ترجى له السلامة من الفتن. وإسناده ضعيف كما في الصحيحة (4/185). وأخرجه الحاكم (1/4) من طريق آخر وقال: صحيح لا علة له ووافقه الذهبي. وهو كما قالا وراجع النهج السديد ص (329).
5 سورة فصلت آية : 9.
6 سورة البقرة آية : 165.(6/204)
ص -108- ... قال العماد ابن كثير - رحمه الله -: "يذكر الله حال المشركين به في الدنيا ومآلهم في الدار الآخرة، حيث جعلوا لله أندادا، أي أمثالا ونظراء يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه، وهو الله لا إله إلا هو، ولا ضد له ولا ند له، ولا شريك معه. وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قلت: " يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك "1.
وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ}2 ولحبهم لله تعالى وتمام معرفتهم به وتوقيرهم وتوحيدهم لا يشركون به شيئا، بل يعبدونه وحده ويتوكلون عليه، ويلجئون في جميع أمورهم إليه. ثم توعد تعالى المشركين به، الظالمين لأنفسهم بذلك. فقال تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً}3. قال بعضهم: تقدير الكلام: لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذ أن القوة لله جميعا، أي أن الحكم له وحده لا شريك له، فإن جميع الأشياء تحت قهره وغلبته وسلطانه {وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}4. كما قال تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}5. يقول: لو علموا ما يعانون هناك وما يحل بهم من الأمر الفظيع المنكر الهائل على شركهم وكفرهم لاتنهوا عما هم فيه من الضلال. ثم أخبر عن كفرهم بأعوانهم وتبرؤ المتبوعين من التابعين. فقال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا}6 تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم في الدار الدنيا، فتقول الملائكة7: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ}8. ويقولون:(6/205)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه برقم (15).
2 سورة البقرة آية : 165.
3 سورة البقرة آية : 165.
4 سورة البقرة آية : 165.
5 سورة الفجر آية : 25-26.
6 سورة البقرة آية : 166.
7 قال العماد ابن كثير في تفسير سورة القصص: ((وقوله تعالى: (وقال الذين حق عليهم القول) يعني الشياطين والمردة والدعاة إلى الكفر (ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون) فشهدوا عليهم أنهم أغووهم، ثم تبرأوا من عبادتهم)) اهـ. والدعاة إلى الكفر: هم من بني آدم ممن كانوا رؤساء وشيوخا لأولئك الغاوين كأصحاب الطرق الصوفية، فإنهم الذين زينوا لمريديهم ومتبوعيهم الشرك والكفر بالله ورسوله. فإن أساس طرقهم الشيطانية: أن يعبد المريد شيخه بأنواع التعظيم والخوف واعتقاد أنه جاسوس قلبه يدخل ويخرج والمريد لا يشعر. وأنه قبل أن يذكر الله يستحضر الشيخ في قلبه. ويعظمونهم بأنواع الطاعة العمياء أحياء وأمواتا- كما هو مدون في كتبهم- من شروط المريد وما يسمونه العهد الوثيق. وتجد أكثر هذا الكفر والضلال في كتب الشعراني. وأما آيات سورة الأحقاف فإنها صريحة في أن الذين يكفرون بشرك المشركين: هم من عباد الله الصالحين الذين اتخذهم الناس آلهة بعد موتهم, واتخذوا قبورهم أوثانا، وما كانوا يحبون ذلك ولا يرضون به; من أمثال الحسين وإخوته وأبيه وأبنائهم، والإمام الشافعي في مصر، وأبي حنيفة وعبد القادر في بغداد ونحوهم, فإنهم يتبرأون يوم القيامة من أولئك المشركين.
8 سورة القصص آية : 63.(6/206)
ص -109- ... {سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}1. والجن أيضا يتبرأون منهم ويتنصلون من عبادتهم لهم، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}2" انتهى كلامه.
روى ابن جرير عن مجاهد في قوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّه}3 مباهاة ومضاهاة للحق سبحانه بالأنداد {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ}4 من الكفار لأوثانهم.
قال المصنف - رحمه الله تعالى -: "ومن الأمور المبينة لتفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله: آية البقرة في الكفار الذين قال الله تعالى فيهم: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله. فدل على أنهم يحبون الله حبا عظيما، فلم يدخلوا في الإسلام، فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله؟ فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده؟" اهـ.
ففي الآية بيان أن من أشرك مع الله تعالى غيره في المحبة فقد جعله شريكا لله في العبادة واتخذه ندا من دون الله، وأن ذلك هو الشرك الذي لا يغفره الله، كما قال تعالى في أولئك: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}5. وقوله: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ}6 المراد بالظلم هنا الشرك. كقوله: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}7 كما تقدم. فمن أحب الله وحده، وأحب فيه وله فهو مخلص، ومن أحبه وأحب معه غيره فهو مشرك; كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ(6/207)
السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}8
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ما معناه: فمن رغب إلى غير الله في قضاء حاجة أو تفريج كربة، لزم أن يكون محبا له، ومحبته هي الأصل في ذلك. انتهى. فكلمة الإخلاص "لا إله إلا الله" تنفي كل شرك في أي نوع كان من أنواع العبادة، وتثبت العبادة بجميع أفرادها لله تعالى. وقد تقدم بيان أن "الإله هو المألوه الذي تألهه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة سبأ آية : 41.
2 سورة الأحقاف آية : 5-6.
3 سورة البقرة آية : 165.
4 سورة البقرة آية : 165.
5 سورة البقرة آية : 167.
6 سورة البقرة آية : 165.
7 سورة الأنعام آية : 82.
8 سورة البقرة آية : 21-22.(6/208)
ص -110- ... القلوب بالمحبة وغيرها من أنواع العبادة" فلا إله إلا الله، نفت ذلك كله عن غير الله، وأثبتته لله وحده. فهذا هو ما دلت عليه كلمة الإخلاص مطابقة، فلا بد من معرفة معناها واعتقاده وقبوله، والعمل به باطنا وظاهرا والله أعلم.
قال العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "فتوحيد المحبوب أن لا يتعدد محبوبه أي مع الله تعالى بعبادته له، وتوحيد الحب: أن لا يبقى في قلبه بقية حب حتى يبذلها له، فهذا الحب - وإن سمي عشقا - فهو غاية صلاح العبد ونعيمه وقرة عينه، وليس لقلبه صلاح ولا نعيم إلا بأن يكون الله ورسوله أحب إليه من كل ما سواهما، وأن تكون محبته لغير الله تابعة لمحبة الله تعالى، فلا يحب إلا الله، ولا يحب إلا لله، كما في الحديث الصحيح: " ثلاث من كن فيه "1 الحديث 2. ومحبة رسول الله صلي الله عليه وسلم هي من محبة الله، ومحبة المرء إن كنت لله فهي من محبته، وإن كانت لغير الله فهي منقصة لمحبة الله مضعفة لها، ويصدق هذه المحبة بأن تكون كراهيته لأبغض الأشياء إلى محبوبه - وهو الكفر - بمنزلة كراهيته لإلقائه في النار أو أشد، ولا ريب أن هذا من أعظم المحبة، فإن الإنسان لا يقدم على محبة نفسه وحياته شيئا، فإذا قدم محبة الإيمان بالله على نفسه بحيث لو خير بين الكفر وبين إلقائه في النار لاختار أن يلقى في النار ولا يكفر، كان أحب إليه من نفسه، وهذه المحبة هي فوق ما يجده العشاق المحبون من محبة محبوبيهم، بل لا نظير لهذه المحبة؛ كما لا مثل لمن تعلقت به، وهي محبة تقتضي تقديم المحبوب فيها على النفس والمال والولد. وتقتضي كمال الذل والخضوع والتعظيم والإجلال والطاعة والانقياد ظاهرا وباطنا. وهذا لا نظير له في محبة المخلوق، ولو كان المخلوق من كان. ولهذا من أشرك بين الله وبين غيره في هذه المحبة الخاصة كان مشركا شركا لا يغفره الله؛ كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً(6/209)
يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ}3. والصحيح: أن معنى الآية: أن الذين آمنوا أشد حبا لله من أهل الأنداد لأندادهم. كما تقدم أن محبة المؤمنين لربهم لا يماثلها محبة مخلوق أصلا، كما لا يماثل محبوبهم غيره. وكل أذى في محبة غيره فهو نعيم في محبته. وكل مكروه في محبة غيره فهو قرة عين في محبته. ومن ضرب لمحبته
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الإيمان (16) , ومسلم : الإيمان (43) , والترمذي : الإيمان (2624) , والنسائي : الإيمان وشرائعه (4987 ,4988 ,4989) , وابن ماجه : الفتن (4033) , وأحمد (3/103 ,3/113 ,3/172 ,3/174 ,3/176 ,3/206 ,3/230 ,3/248 ,3/251 ,3/272 ,3/275 ,3/278 ,3/288).
2 رواه البخاري عن أنس بلفظ: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار".
3 سورة البقرة آية : 165.(6/210)
ص -111- ... الأمثال التي في محبة المخلوق للمخلوق: كالوصل، والهجر والتجني بلا سبب من المحب، وأمثال ذلك مما يتعالى الله عنه علوا كبيرا، فهو مخطئ أقبح الخطأ وأفحشه، وهو حقيق بالإبعاد والمقت". انتهى.
وفي الصحيح عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: " من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه، وحسابه على الله "قوله في الصحيح: أي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه عن النبي صلي الله عليه وسلم فذكره.
وأبو مالك: اسمه سعد بن طارق، كوفي ثقة مات في حدود الأربعين ومائة. وأبوه طارق بن أشيم - بالمعجمة والمثناة التحتية وزن أحمر - ابن مسعود الأشجعي، صحابي له أحاديث. قال مسلم: "لم يرو عنه غير ابنه".
وفي مسند الإمام أحمد عن أبي مالك قال: وسمعته يقول للقوم: " من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل " ورواه الإمام أحمد من طريق يزيد بن هارون قال: أخبرنا أبو مالك الأشجعي عن أبيه. ورواه أحمد عن عبد الله بن إدريس قال: سمعت أبا مالك قال: قلت لأبي - الحديث. ورواية الحديث بهذا اللفظ تفسر "لا إله إلا الله".
قوله: " من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله " اعلم أن النبي صلي الله عليه وسلم علق عصمة المال والدم في هذا الحديث بأمرين: الأول: قول "لا إله إلا الله" عن علم ويقين، كما هو قيد في قولها في غير ما حديث كما تقدم. والثاني: الكفر بما يعبد من دون الله، فلم يكتف باللفظ المجرد عن المعنى. بل لا بد من قولها والعمل بها1.
قلت: وفيه معنى {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا}2.
قال المصنف - رحمه الله تعالى -: "وهذا من أعظم ما يبين معنى لا إله إلا الله؛ فإنه لم يجعل(6/211)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في قرة العيون: فيه دليل أنه لا يحرم ماله ودمه إلا إذا قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله, فإن قالها ولم يكفر بما يعبد من دون الله فدمه وماله حلال؛ لكونه لم ينكر الشرك ويكفر به, ولم ينفه كما نفته لا إله إلا الله. فتأمل هذا الموضوع فإنه عظيم النفع.
2 سورة البقرة آية : 256.(6/212)
ص -112- ... التلفظ بها عاصما للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه. فيا لها من مسألة ما أجلها ويا له من بيان ما أوضحه، وحجة ما أقطعها للمنازع!" انتهى.
قلت: وهذا هو الشرط المصحح لقوله: "لا إله إلا الله" فلا يصح قولها بدون هذا الخمس التي ذكرها المصنف - رحمه الله - أصلا. قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}1.
وقال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}2 أمر بقتالهم حتى يتوبوا من الشرك ويخلصوا أعمالهم لله تعالى، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن أبوا عن ذلك أو بعضه قوتلوا إجماعا.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعا: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله "3 وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة. فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله " وهذان الحديثان تفسير الآيتين: آية الأنفال، وآية براءة. وقد أجمع العلماء على أن من قال: "لا إله إلا الله" ولم يعتقد معناها ولم يعمل بمفتضاها، أنه يقاتل حتى يعمل بما دلت عليه من النفي والإثبات.
قال أبو سليمان الخطابي - رحمه الله - في قوله: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" معلوم أن المراد بهذا أهل عبادة(6/213)
الأوثان، دون أهل الكتاب؛ لأنهم يقولون: "لا إله إلا الله"، ثم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف".
وقال القاضي عياض: اختصاص عصمة المال والنفس بمن قال: "لا إله إلا الله" تعبير عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد بذلك مشركو العرب وأهل الأوثان، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد، فلا يكتفى في عصمته بقول: "لا إله إلا الله"؛ إذ كان بقولها في كفره. انتهى ملخصا.
وقال النووي: لا بد مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به الرسول صلي الله عليه وسلم،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنفال آية : 39.
2 سورة التوبة آية : 5.
3 البخاري : الجهاد والسير (2946) , ومسلم : الإيمان (21) , والترمذي : الإيمان (2606) , والنسائي : الجهاد (3090 ,3095) وتحريم الدم (3971 ,3972 ,3974 ,3976 ,3977 ,3978) , وأبو داود : الجهاد (2640) , وابن ماجه : المقدمة (71) والفتن (3927 ,3928) , وأحمد (1/11 ,2/377 ,2/423 ,2/502 ,2/528 ,3/300 ,3/332 ,3/339 ,3/394).(6/214)
ص -113- ... كما جاء في الرواية: " ويؤمنوا بي وبما جئت به ".
وقال شيخ الإسلام لما سئل عن قتال التتار فقال: "كل طائفة ممتنعة عن التزام شرائع الإسلام الظاهرة من هؤلاء القوم أو غيرهم؛ فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين وملتزمين بعض شرائعه؛ كما قاتل أبو بكر والصحابة - رضي الله عنهم - مانعي الزكاة، وعلى هذا اتفق الفقهاء بعدهم. قال: فأيما طائفة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء، أو الأموال، أو الخمر أو الميسر، أو نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، أو غير ذلك من التزام واجبات الدين ومحرماته التي لا عذر لأحد
ومنها: قول الخليل - عليه السلام – للكفار: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي}1 فاستثنى من المعبودين ربه، وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة: هي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله فقال: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}2.
ومنها: آية البقرة في الكفار الذين قال فيهم: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}3 ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله،4 فدل على أنهم يحبون الله حبا عظيما ولم يدخلهم في الإسلام. فكيف بمن أحب الند أكبر5 من حب الله؟ فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده؟ ولم يحب الله؟ في جحودها أو تركها، التي يكفر الواحد بجحودها. فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء. قال: وهؤلاء عند المحققين ليسوا بمنزلة البغاة، بل هم خارجون عن الإسلام". انتهى.
قوله: "وحسابه على الله" أي الله تبارك وتعالى هو الذي يتولى حساب الذي يشهد بلسانه بهذه الشهادة، فإن كان صادقا جازاه بجنات النعيم، وإن كان منافقا عذبه العذاب الأليم. وأما في الدنيا فالحكم على الظاهر، فمن أتى بالتوحيد ولم يأت بما ينافيه ظاهرا(6/215)
والتزم شرائع الإسلام وجب الكف عنه.
قلت: وأفاد الحديث أن الإنسان قد يقول: "لا إله إلا الله" ولا يكفر بما يعبدون
ومنها: قوله صلي الله عليه وسلم: " من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله "6 وهذا من أعظم ما يبين معنى: " لا إله إلا الله" فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للذم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله. فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه.
فيا لها من مسألة ما أعظمها وأجلها! ويا له من بيان ما أوضحه، وحجة ما أقطعها للمنازع!.
من دون الله فلم يأت بما يعصم دمه وماله كما دل على ذلك الآيات المحكمات والأحاديث.
قوله: "وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب"7 قلت: وذلك أن ما بعدها(6/216)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزخرف آية : 26-27.
2 سورة الزخرف آية : 28.
3 سورة البقرة آية : 167.
4 الظاهر أن المعنى: أنهم يحبون أندادهم من جنس حب الله الذي هو حب التعظيم والذل والخضوع؛ لأنه ليس كل حب يكون عبادة حتى يكون فيه تعظيم وخضوع. ولذلك قال: "كحب الله" ولم يقل: كحبهم لله. فهم في الوقت الذي يحبونهم أعظم الحب, يخافونهم أشد الخوف، معتقدين أنهم يخلفون عليهم خيرا مما ينذرونه لهم، ويذبحونه لهم من طيب مالهم ويرجون منهم المساعدة والمعونة على كشف الضر ودفع البأساء, ويحذرون انتقامهم بحرق زرعهم وإهلاك أولادهم وأنفسهم, ويروون عن سدنتهم روايات مكذوبة في تأييد دعاويهم تهويلا عليهم وتمكينا للضلال والشرك من أنفسهم، فهم لا يرجون لله وقارا كما يرجون لهم، ولا يخشون الله كما يخشونهم. فتجرد أنفسهم بسخاء في سبيل التقرب إلى أولئك الموتى من أوليائهم بما لا تجود بعشره في سبيل الله; برا للوالدين أو صلة للأرحام أو إطعاما لجار بائس, أو مسكين من أهل قريته. هذا شأن عباد القبور والموتى اليوم. دقق في أحوالهم وطبقها على آيات المشركين في القرآن تجدهم زادوا على مشركي الجاهلية الأولى. والله المستعان, ولا حول ولا قوة إلا بالله.
5 إن من تحقق محبة مشركي زماننا لآلهتهم التي يسمونها بالأولياء يعلم يقينا أنهم يحبونها أكثر من محبتهم لله؟ ويتصدقون لوجوهها بما لا يقدرون أن يتصدقوا بعشره لوجه الله.
6 مسلم : الإيمان (23) , وأحمد (3/472 ,6/394).
7 في قرة العيون: فقد ذكر فيها - رحمه الله تعالى - ما يبين التوحيد وما ينافيه, وما يقرب منه, وما يوصل إليه من الوسائل, وبيان ما كان عليه السلف من بعدهم عن الشرك في العبادة وشدة إنكارهم له وجهادهم على ذلك، وقد جمع هذا الكتاب على اختصاره من بيان التوحيد ما لا يعذر أحد عن معرفته وطلبه بإقبال وتدبر. وكذلك الرد على أهل الأهواء جميعهم, فمن حفظه(6/217)
واستحضره وجد ذلك واستغنى به عن غيره في الرد على كل مبتدع, فتدبره تجد ذلك بينا. وسيأتي التنبيه على ذلك إن شاء الله تعالى.(6/218)
ص -114- ... من الأبواب فيه ما يبين التوحيد ويوضح معنى "لا إله إلا الله". وفيه أيضا: بيان أشياء كثيرة من الشرك الأصغر والأكبر ما يوصل إلى ذلك من الغلو والبدع، مما تركه من مضمون "لا إله إلا الله"، فمن عرف ذلك وتحققه، تبين له معنى "لا إله إلا الله" وما دلت عليه من الإخلاص ونفي الشرك، وبضدها تتبين الأشياء، فبمعرفة الأصغر من الشرك يعرف ما هو أعظم منه من الشرك الأكبر المنافي للتوحيد، وأما الأصغر فإنما ينافي كماله، فمن اجتنبه فهو الموحد حقا، وبمعرفة وسائل الشرك والنهي عنها لتجتنب تعرف الغايات التي نهى عن الوسائل لأجلها، فإن اجتناب ذلك كله يستلزم التوحيد والإخلاص بل يقتضيه.
وفيه أيضا من أدلة التوحيد إثبات الصفات وتنزيه الرب تعالى عما لا يليق بجلاله، وكل ما يعرف بالله من صفات كماله وأدلة ربوبيته يدل على أنه هو المعبود وحده، وأن العبادة لا تصلح إلا له، وهذا هو التوحيد، ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله(6/219)
ص -116- ... باب:"من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه"
وقوله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما، لرفع البلاء أو دفعه" رفعه: إزالته بعد نزوله. دفعه: منعه قل نزوله.
قال: "وقول الله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ}".
قال ابن كثير: أي لا تستطيع شيئا من الأمر {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} أي الله كافي من توكل عليه {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} كما قال هود - عليه السلام - حين قال قومه: {إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}2. قال مقاتل في معنى الآية: فسألهم النبي صلي الله عليه وسلم فسكتوا. أي لأنهم لا يعتقدون ذلك فيها3.(6/220)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية : 38.
2 سورة هود آية : 54-55-56.
3 في قرة العيون: فإذا كان آلهتهم التي يدعون من دون الله لا قدرة لها على كشف ضر أراده الله بعبده، أو إمساك رحمة أنزلها على عبده، فيلزمهم بذلك أن يكون الله تعالى هو معبودهم وحده لزوما لا محيد لهم عنه. وذكر تعالى مثل هذا السؤال عن خليله إبراهيم لمن حاجه في الله فقال: 2: 258 (أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين). فأقام الله تعالى الحجة على المشركين بما يبطل شركهم بالله وتسويتهم غيره به في العبادة بضرب الأمثال وغير ذلك, وهذا في القرآن كثير كقوله تعالى: 22: 73 (يا أيها الناس ضرب مثلا فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب). وقال تعالى: (مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون). وقال: (والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون). ذكر العماد ابن كثير - رحمه الله تعالى - في هذه الآية ما رواه ابن أبي حاتم عن قيس بن الحجاج عن حنش الصنعاني عن ابن عباس مرفوعا: "احفظ الله يحفظك, احفظ الله تجده تجاهك, تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة, إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله, واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يضروك، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم ينفعوك, جفت الصحف ورفعت الأقلام واعمل لله بالشكر في اليقين، واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا(6/221)
كثيرا, وأن النصر مع الصبر, وأن الفرج مع الكرب, وأن مع العسر يسرا.(6/222)
ص -117- ... عن عمران بن حصين رضي الله عنه " أن النبي صلي الله عليه وسلم رأى رجلا في يده حلقة من صفر، فقال: ما هذا؟ قال من الواهنة. فقال: انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا؛ فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا "1 رواه أحمد بسند لا بأس به.
وإنما كانوا يدعونها على معنى أنها وسائط وشفعاء عند الله، لا على أنهم يكشفون الضر، ويجيبون دعاء المضطر، فهم يعلمون أن ذلك لله وحده. كما قال تعالى: {إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُون ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ}2.
قلت: فهذه الآية وأمثالها تبطل تعلق القلب بغير الله في جلب نفع أو دفع ضر، وأن ذلك شرك بالله. وفي الآية بيان أن الله تعالى وسم أهل الشرك بدعوة غير الله والرغبة إليه من دون الله. والتوحيد ضد ذلك. وهو أن لا يدعو إلا الله، ولا يرغب إلا إليه، ولا يتوكل إلا عليه، وكذا جميع أنواع العبادة لا يصلح منها شيء لغير الله. كما دل على ذلك الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها كما تقدم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجه : الطب (3531) , وأحمد (4/445).
2 سورة النحل آية : 53-54.(6/223)
ص -118- ... قال: "وعن عمران بن حصين "أن النبي صلي الله عليه وسلم رأى رجلا في يده حلقة من صفر فقال ما هذه؟ قال: من الواهنة. قال: انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا; فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا " رواه أحمد بسند لا بأس به".
قال الإمام أحمد: حدثنا خلف بن الوليد حدثنا المبارك عن الحسن قال: أخبرني عمران بن حصين "أن النبي صلي الله عليه وسلم أبصر على عضد رجل حلقة – قال: أراها من صفر - فقال: ويحك ما هذه؟ قال: من الواهنة. قال: أما إنها لا تزيدك إلا وهنا. انبذها عنك؛ فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا "1 رواه ابن حبان في صحيحه فقال: " فإنك إن مت وكلت إليها ". والحاكم، وقال: صحيح الإسناد. وأقره الذهبي.
وقال الحاكم: أكثر مشايخنا على أن الحسن سمع من عمران. وقوله في الإسناد: "أخبرني عمران" يدل على ذلك2.
قوله: "عن عمران بن حصين" أي ابن عبيد بن خلف الخزاعي، أبو نجيد - بنون وجيم – مصغر، صحابي ابن صحابي، أسلم عام خيبر، ومات سنة اثنتين وخمسين بالبصرة.
قوله: "رأى رجلا" في رواية الحاكم: " دخلت على رسول الله صلي الله عليه وسلم وفي عضدي حلقة صفر، فقال: ما هذه؟ " الحديث. فالمبهم في رواية أحمد هو عمران راوي الحديث. قوله: "ما هذه" يحتمل أن الاستفهام للاستفسار عن سبب لبسها، ويحتمل أن يكون للإنكار، وهو أشهر.
قوله: "من الواهنة" قال أبو السعادات:3 الواهنة عرق يأخذ في المنكب وفي اليد كلها، فيرقى منها. وقيل: هو مرض يأخذ في العضد، وهي تأخذ الرجال دون النساء4 وإنما نهى عنها؛ لأنه إنما اتخذها على أنها تعصمه من الألم، وفيه اعتبار المقاصد5.
قوله: " انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا " النزع هو الجذب بقوة، أخبر أنها لا
تنفعه بل تضره وتزيده ضعفا. وكذلك كل أمر نهى عنه فإنه لا ينفع غالبا وإن نفع بعضه فضره أكبر من نفعه.
قوله: " فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا " لأنه شرك. والفلاح هو الفوز والظفر والسعادة.(6/224)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن ماجه : الطب (3531) , وأحمد (4/445).
2 أحمد (4/ 445) واللفظ له، وابن حبان (1411- موارد)، والحاكم (4/ 216) وإسناده ضعيف. وابن ماجة (3531) بنحوه وراجع النهج السديد (100).
3 هو ابن الأثير, ولد سنة 544 وتوفي سنة 606 له عدة تآليف. منها النهاية في غريب الحديث.
4 ومن هذا الباب: ما يفعله الجاهليون اليوم من إلباس أولادهم خلاخيل الحديد وغيره، يعتقدون أن ذلك يحفظهم من الموت الذي أخذ إخوتهم الذين ماتوا قبلهم. ومنه لبس حلقة الفضة للبركة أو لمنع البواسير, ولبس خواتيم لها فصوص مخصوصة للحفظ من الجن وغيرها.
5 في قرة العيون: وإنما نهاه عنها لكونه أنها تمنع عنه هذا الداء أو ترفعه, فأمره صلى الله عليه وسلم بنزعها لذلك وأخبر أنها لا تزيده إلا وهنا; فإن المشرك يعامل بنقيض قصده؛ لأنه علق قلبه بما لا ينفعه ولا يدفع عنه, فإذا كان هذا بحلقة صفر فما الظن بما هو أطم وأعظم؟ كما وقع من عبادة القبور والمشاهد وغيرها كما لا يخفى على من له أدنى مسكة من عقل.(6/225)
ص -119- ... قال المصنف - رحمه الله تعالى -: "فيه شاهد لكلام الصحابة: أن الشرك الأصغر أكبر الكبائر، وأنه لم يعذر بالجهالة. وفيه الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك".
قوله: "رواه أحمد بسند لا بأس به" هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حسان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان الإمام العالم أبو عبد الله الذهلي ثم الشيباني المروزي، ثم البغدادي، إمام أهل عصره وأعلمهم بالفقه والحديث، وأشدهم ورعا ومتابعة للسنة، وهو الذي يقول فيه بعض أهل السنة: عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، أتته الدنيا فأباها، والشبه فنفاها. خرج به من مرو وهو حمل، فولد ببغداد سنة أربع وستين ومائة في شهر ربيع الأول. وطلب أحمد العلم سنة وفاة مالك، وهي سنة تسع وسبعين، فسمع من هشيم وجرير بن عبد الحميد وسفيان بن عيينة ومعتمر بن سليمان ويحيى بن سعيد القطان ومحمد بن إدريس الشافعي ويزيد بن هارون وعبد الرزاق وعبد الرحمن بن مهدي وخلق لا يحصون بمكة والبصرة والكوفة وبغداد واليمن وغيرها من البلاد. روى عنه ابناه صالح وعبد الله، والبخاري ومسلم وأبو داود وإبراهيم الحربي وأبو زرعة الرازي الدمشقي وعبد الله ابن أبي الدنيا وأبو بكر الأثرم وعثمان بن سعيد الدارمي وأبو القاسم البغوي، وهو آخر من حدث عنه، وروى عنه من شيوخه عبد الرحمن بن مهدي والأسود بن عامر، ومن أقرانه علي بن المديني ويحيى بن معين. قال البخاري: مرض أحمد لليلتين خلتا من ربيع الأول ومات يوم الجمعة لاثنتي عشرة خلت منه. وقال حنبل: مات يوم الجمعة في ربيع الأول سنة إحدى وأربعين ومائتين وله سبع وسبعون سنة. وقال ابنه عبد الله والفضل بن زياد: مات في ثاني عشر ربيع الآخر - رحمه الله(6/226)
تعالى -.(6/227)
ص -120- ... وله عن عقبة بن عامر مرفوعا: " من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له "1 وفي رواية: " من تعلق تميمة فقد أشرك "2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "وله عن عقبة بن عامر مرفوعا: " من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له " وفي رواية3:
" من تعلق تميمة فقد أشرك " 4. الحديث الأول رواه الإمام أحمد كما قال المصنف، ورواه أيضا أبو يعلى والحاكم، وقال: صحيح الإسناد وأقره الذهبي. قوله: "وفي رواية" أي من حديث آخر رواه أحمد فقال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث حدثنا عبد العزيز بن مسلم حدثنا يزيد ابن أبي منصور عن دجين الحجري عن عقبة بن عامر الجهني " أن رسول الله صلي الله عليه وسلم أقبل إليه رهط فبايع تسعة وأمسك عن واحد، فقالوا: يا رسول الله، بايعت تسعة وأمسكت عن هذا؟ فقال: إن عليه تميمة فأدخل يده فقطعها، فبايعه وقال: من تعلق تميمة فقد أشرك " ورواه الحاكم بنحوه. ورواته ثقات.
ولابن أبي حاتم عن حذيفة " أنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه،
قوله: "عن عقبة بن عامر" صحابي مشهور فقيه فاضل، ولي إمارة مصر لمعاوية ثلاث سنين، ومات قريبا من الستين. قوله: " من تعلق تميمة "5 أي علقها متعلقا بها قلبه في طلب خير أو دفع شر. قال المنذري: "خرزة كانوا يعلقونها يرون أنها تدفع عنهم الآفات، وهذا جهل وضلالة؛ إذ لا مانع ولا دافع غير الله تعالى".
وقال أبو السعادات: "التمائم جمع تميمة وهي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم يتقون بها العين في زعمهم، فأبطلها الإسلام".
قوله: " فلا أتم الله له " دعاء عليه.
قوله: " ومن تعلق ودعة " بفتح الواو وسكون المهملة. قال في مسند الفردوس: "شيء يخرج من البحر يشبه الصدف يتقون به العين".
قوله: " فلا ودع الله له " بتخفيف الدال. أي(6/228)
لا جعله في دعة وسكون. قال أبو السعادات: وهذا دعاء عليه. قوله: "وفي رواية: من تعلق تميمة فقد أشرك" قال أبو السعادات: إنما جعلها شركا؛ لأنهم أرادوا دفع المقادير المكتوبة عليهم، وطلبوا دفع الأذى من غير الله الذي هو دافعه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد (4/154)، والحاكم (4/ 216, ,417)، وابن حبان (1413- موارد). وإسناده ضعيف كما أشار إلى ذلك الألباني في الصحيحة (1/ 810).
2 أحمد (4/156)، والحاكم (4/219) وقال المنذري في الترغيب (4/307)، والهيثمي في المجمع (5/103): "ورواة أحمد ثقات" اهـ. وصححه الألباني في الصحيحة (492).
3 ضعيف. أحمد (4/ 154) والحاكم (4/ 216, ,417) وابن حبان (1413- موارد) وإسناده ضعيف كما أشار إلى ذلك الألباني في الصحيحة (1/ 810).
4 في قرة العيون: وهذا الحديث فيه التصريح بأن تعليق التمائم شرك لما يقصده من علقها لدفع ما يضره أو جلب ما ينفعه، وهذا أيضا ينافي كمال الإخلاص الذي هو معنى لا إله إلا الله؛ لأن المخلص لا يلتفت قلبه لطلب نفع أو دفع ضر من سوى الله كما تقدم في قوله: (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن). فكمال التوحيد لا يحصل إلا بترك ذلك وإن كان من الشرك الأصغر فهو عظيم, فإذا كان هذا قد خفي على بعض الصحابة - رضي الله عنهم - في عهد النبوة فكيف لا يخفى على من هو دونهم في العلم والإيمان بمراتب بعد ما حدث من البدع والشرك؟ كما في الأحاديث الصحيحة، وتقدمت الإشارة إلى ذلك. وهذا مما يبين معنى لا إله إلا الله أيضا فإنها نفت كل الشرك قليله وكثيره كما قال تعالى: 3: 18 .
5 أحمد (4/154).(6/229)
ص -121- ... قال المصنف - رحمه الله -: "ولابن أبي حاتم عن حذيفة أنه " رأى رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه، وتلا قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}1".
قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن الحسين بن إبراهيم بن أشكاب حدثنا يونس بن محمد حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم الأحول عن عروة قال: " دخل حذيفة على مريض، فرأى في عضده سيرا فقطعه أو انتزعه ثم قال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}".
وابن أبي حات:م هو الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم محمد بن إدريس
وتلا قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}2".
فيه مسائل:
الأولى: التغليظ في لبس الحلقة والخيط ونحوهما لمثل ذلك.
الثانية: أن الصحابي لو مات وهي عليه ما أفلح. فيه شاهد لكلام الصحابة: إن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر.
الثالثة: أنه لم يعذر بالجهالة.
الرابعة: أنها لا تنفع في العاجلة، بل تضر؛ لقوله " لا تزيدك إلا وهنا".
الرازي التميمي الحنظلي الحافظ، صاحب الجرح والتعديل والتفسير وغيرهما، مات سنة سبع وعشرين وثلاثمائة.
وحذيفة: هو ابن اليمان. واسم اليمان: حسيل بمهملتين مصغرا، ويقال: حسل - بكسر ثم سكون - العبسي بالموحدة، حليف الأنصار، صحابي جليل من السابقين، ويقال له: صاحب السر3 وأبوه أيضا صحابي، مات حذيفة في أول خلافة علي رضي الله عنه سنة ست وثلاثين.
قوله: "رأى رجلا في يده خيط من الحمى" أي عن الحمى. وكان الجهال يعلقون التمائم(6/230)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يوسف آية : 106.
2 سورة يوسف آية : 106.
3 لأن النبي صلى الله عليه وسلم استصحبه في عودته من غزوة تبوك حين أخذ في طريق العقبة التي كان المنافقون كمنوا عندها؛ لينفروا راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقع عنها فيموت. فأطلعه الله على ما بيتوا وأعلمه بأسمائهم. فأعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حذيفة بأسمائهم إذ ناداهم بأسمائهم حين حاذاهم. ثم استكتم حذيفة أسماءهم اتقاء الفتنة. ولم يكن عند حذيفة سر في الدين, كما يدعي الضالون من الصوفية. لأن الإسلام علانية لا سر فيه, وإنما الأسرار في النصرانية وكنائسها وقسسها ورهبانيتها.(6/231)
ص -122- ... والخيوط ونحوها لدفع الحمى1 وروى وكيع عن حذيفة: " أنه دخل على مريض يعوده فلمس عضده، فإذا فيه خيط، فقال: ما هذا؟ قال: شيء رقي لي فيه، فقطعه وقال: لو مت وهو عليك ما صليت عليك ". وفيه إنكار مثل هذا، وإن كان يعتقد أنه سبب، فالأسباب لا يجوز منها إلا ما أباحه الله تعالى ورسوله مع عدم الاعتماد عليها. وأما التمائم والخيوط والحروز والطلاسم ونحو ذلك مما يعلقه الجهال فهو شرك يجب إنكاره وإزالته بالقول والفعل، وإن لم يأذن فيه صاحبه.
قوله: "وتلا قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}2" استدل حذيفة رضي الله عنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولا يزال هذا معتقدا عند أهل الجاهلية الثانية، يتخذون خيوطا يعقدونها بأيدي من اسمه محمد, وبعض ذلك يعملونه يوم الجمعة, وبعض ذلك يعملونه على مقاس باب الكعبة ثم يعقدونه أربعين عقدة ممن أسماؤهم محمد, ويقرأون عند كل عقدة قل هو الله أحد، ويزعمون أن هذا الخيط نافع من العقم، فلا تلبسه عقيم في زعمهم إلا وتحمل. وهذا من أعظم الانحطاط إلى أحط دركات البكم والصمم والعمى, بل إلى البهيمية أن يعتقد في خيوط. ومثله اتخاذ سبع من أنواع الحبوب تعلق في كيس مع سرة الطفل وأشباه ذلك كثير فاش فيمن يتسمون بأسماء إسلامية، وهم من أجهل المشركين الشرك الأكبر. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
2 سورة يوسف آية : 106.(6/232)
ص -123- ... الخامسة: الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك.
السادسة: التصريح بأن من تعلق شيئا وكل إليه1.
السابعة: التصريح بأن من تعلق تميمة فقد أشرك.
الثامنة: أن تعليق الخيط من الحمى من ذلك.
التاسعة: تلاوة حذيفة الآية دليل على أن الصحابة يستدلون بالآيات التي في الشرك الأكبر على الأصغر، كما ذكر ابن عباس في آية البقرة.
العاشرة: أن تعليق الودع عن العين من ذلك.
الحادية عشرة: الدعاء على من تعلق تميمة أن الله لا يتم له، ومن تعلق ودعة فلا ودع2 الله له. أي ترك الله له.
بالآية على أن هذا شرك3 ففيه صحة الاستدلال على الشرك الأصغر بما
أنزله الله في الشرك الأكبر؛ لشمول الآية له ودخول في مسمى الشرك، وتقدم معنى هذه الآية عن ابن عباس وغيره في كلام شيخ الإسلام وغيره. والله أعلم. وفي هذه الآثار عن الصحابة: ما يبين كمال علمهم بالتوحيد وما ينافيه أو ينافي كماله.(6/233)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إنما وكله الله إليه؛ لأنه أعرض عن رحمة ربه واستغنى عن الله وتمسك بالسبب الأضعف بل نمسك بلا شيء, فوكله إلى ما تمسك به فلم ينفعه شيئا.
2 ودع: فسره المصنف بترك أي فلا ترك الله له ما يحب. وفسره غيره بأنه دعاء عليه ألا يجعله الله في دعة ولا سكون. 3 في قرة العيون: فإذا كان يقع مثل هذا في تلك القرون المفضلة، فكيف يؤمن أن يقع ما هو أعظم منه؟ لكن لغلبة الجهل به وقع منهم أعظم مما وقع من مشركي العرب وغيرهم في الجاهلية مما قد تقدم التنبيه عليه, حتى إن كثيرا من العلماء في هذه القرون اشتد نكيرهم على من أنكر الشرك الأكبر، فصاروا هم والصحابة - رضي الله عنهم - على طرفي نقيض, فالصحابة ينكرون القليل من الشرك; وهؤلاء ينكرون على من أنكر الشرك الأكبر، ويجعلون النهي عن هذا الشرك بدعة وضلالة، وكذلك كانت حال الأمم مع الأنبياء والرسل جميعهم فيما بعثوا به من توحيد الله تعالى وإخلاص العبادة له وحده, والنهي عن الشرك به, وقد بعث الله تعالى خاتم رسله محمدا صلى الله عليه وسلم بذلك كما بعث به من قبله, فعكس هؤلاء المتأخرون ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي العرب وغيرهم, فنصر هؤلاء ما نهى عنه من الشرك غاية النصرة، وأنكروا التوحيد الذي بعث به غاية الإنكار؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لما قال لقريش: (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا) عرفوا معناها الذي وضعت له وما أريد منها فقالوا: 38: 5 و 6 و7 (أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب) الآيات. وقال تعالى: (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون). وفي صحيح البخاري وغيره في سؤال هرقل لأبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (فماذا يأمركم قلت: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا, واتركوا ما يقول آباؤكم, ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة).(6/234)
ص -124- ... باب: ما جاء في الرقى والتمائم
في الصحيح عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه " أنه كان مع رسول الله صلي الله عليه وسلم في بعض أسفاره فأرسل رسولا أن لا يبقين في رقبة بعير قلاة من وتر أو قلاة إلا قطعت "1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب ما جاء في الرقى والتمائم".
أي من النهي وما ورد عن السلف في ذلك.
قوله: "في الصحيح عن أبي بشير الأنصاري أنه كان مع النبي صلي الله عليه وسلم في بعض أسفاره فأرسل رسولا: "أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت " هذا الحديث في الصحيحين.
قوله: "عن أبي بشير" بفتح أوله وكسر المعجمة، قيل: اسمه قيس بن عبيد قاله ابن سعد. وقال ابن عبد البر: لا يوقف له على اسم صحيح، وهو صحابي شهد الخندق ومات بعد الستين. ويقال: إنه جاوز المائة.
قوله: "في بعض أسفاره" قال الحافط: لم أقف على تعيينه.
قوله: "فأرسل رسولا" هو زيد بن حارثة. روى ذلك الحارث ابن أبي أسامة في مسنده قاله الحافظ.
قوله: "أن لا يبقين" بالمثناة التحتية والقاف المفتوحتين، و"قلادة" مرفوع على أنه فاعل. و "الوتر" بفتحتين، واحد أوتار القوس. وكان أهل الجاهلية إذا اخلولق الوتر أبدلوه بغيره وقلدوا به الدواب؛ اعتقادا منهم أنه يدفع عن الدابة العين3.
قوله: " أو قلادة إلا قطعت " معناه: أن الراوي شك هل قال شيخه: قلادة من وتر(6/235)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الجهاد والسير (3005) , ومسلم : اللباس والزينة (2115) , وأبو داود : الجهاد (2552) , وأحمد (5/216) , ومالك : الجامع (1745).
2 أبو داود : الطب (3883) , وابن ماجه : الطب (3530) , وأحمد (1/381).
3 وأصل معنى القلادة: ما يوضع في العنق من الحلي والزينة للنساء، والحبل يوضع في عنق الدابة لتقاد به. ومثل ذلك ما يعلقه بعض الناس اليوم على السيارات من صورة قرد ونحوه، وما يضعه بعضهم على أبواب البيوت والحوانيت من حدوة حمار أو حصان, وتعليق سنابل من الحنطة أو غير ذلك كله من عمل الجاهلية المنهي عنه أشد النهي، وقد يصل إلى الشرك الأكبر عند بعضهم حين يعتقد فيه أنه هو الذي يدفع حقيقة الضر والسوء.(6/236)
ص -125- ... أو قال: قلادة وأطلق ولم يقيده؟ ويؤيد الأول ما روي عن مالك: أنه سئل عن القلادة؟ فقال: "ما سمعت بكراهتها إلا في الوتر". ولأبي داود: "ولا قلادة" بغير شك.
قال البغوي في شرح السنة: "تأول مالك أمره - عليه الصلاة والسلام - بقطع القلائد على أنه من أجل العين. وذلك أنهم كانوا يشدون تلك الأوتار والتمائم ويعلقون عليها العوذ، يظنون أنها تعصمهم من الآفات، فنهاهم النبي صلي الله عليه وسلم عنها وأعلمهم أنها لا ترد من أمر الله شيئا".
قال أبو عبيد: "كانوا يقلدون الإبل الأوتار; لئلا تصيبها العين، فأمرهم النبي صلي الله عليه وسلم بإزالتها إعلاما لهم بأن الأوتار لا ترد شيئا". وكذا قال ابن الجوزي وغيره.
قال الحافظ:."ويؤيده حديث عقبة بن عامر، رفعه: " من تعلق تميمة فلا أتم الله له "1 رواه أبو داود. وهي ما علق من القلائد خشية العين ونحو ذلك". انتهى.
قال المصنف: "وعن ابن مسعود: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " إن الرقى والتمائم والتولة شرك " رواه أحمد وأبو داود".
وفيه قصة. ولفظ أبي داود: " عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: "إن عبد الله رأى في عنقي خيطا; فقال: ما هذا؟ قلت: خيط رقي لي فيه. قالت: فأخذه ثم قطعه ثم قال: أنتم آل عبد الله لأغنياء عن الشرك2 سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: إن الرقى والتمائم والتولة شرك فقلت: لقد كانت عيني تقذف، وكنت أختلف إلى فلان اليهودي، فإذا رقى سكنت. فقال عبد الله: إنما ذلك عمل الشيطان، كان ينخسها بيده، فإذا كف عنها. إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلي الله عليه(6/237)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه برقم (91). وهو ليس موجودا عند أبي داود كما عزاه المؤلف.
2 من أول الحديث إلى هنا ليس في سنن أبي داود في باب تعليق التمائم. وهو عند ابن ماجة بلفظ: "كانت عجوز تدخل علينا من الحمرة, وكان لنا سرير طويل القوائم، وكان عبد الله إذا دخل تنحنح وصوت, فدخل يوما, فلما سمعت صوته احتجبت منه، فجاء فجلس إلى جانبي فمسني فوجد مس خيط، فقال: ما هذا؟ فقلت رقي لي فيه من الحمى، فجذبه فقطعه فرمى به, ثم قال: لقد أصبح آل عبد الله أغنياء عن الشرك. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ... إلخ".(6/238)
ص -126- ... وسلم يقول: أذهب الباس، رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما " ورواه ابن ماجه وابن حبان والحاكم وقال: صحيح، وأقره الذهبي1.
قوله: "إن الرقى". قال المصنف: "هي التي تسمى العزائم، وخص منه الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخص فيه رسول الله صلي الله عليه وسلم من العين والحمة" يشير إلى أن الرقى الموصوفة بكونها شركا هي التي يستعان فيها بغير الله، وأما إذا لم يذكر فيها إلا بأسماء الله وصفاته وآياته; والمأثور عن النبي صلي الله عليه وسلم فهذا حسن جائز أو مستحب.
قوله: "فقد رخص فيه رسول الله صلي الله عليه وسلم من العين والحمة" كما تقدم ذلك في باب من حقق التوحيد. وكذا رخص في الرقى من غيرها; كما في صحيح مسلم عن عوف بن مالك: " كنا نرقى في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا "2 وفي الباب أحاديث كثيرة.
قال الخطابي: وكان عليه السلام قد رقى ورقي، وأمر بها وأجازها، فإذا كانت بالقرآن وبأسماء الله فهي مباحة أو مأمور بها، وإنما جاءت الكراهة والمنع فيما كان منها بغير لسان العرب، فإنه ربما كان كفرا أو قولا يدخله شرك. قلت: من ذلك ما كان على مذاهب الجاهلية التي يتعاطونها، وأنها تدفع عنهم الآفات، ويعتقدون أن ذلك من قبل الجن ومعونتهم. وبنحو هذا ذكر الخطابي.
وقال شيخ الإسلام: " كل اسم مجهول فليس لأحد أن يرقي به فضلا عن أن يدعو به، ولو عرف معناه؛ لأنه يكره الدعاء بغير العربية، وإنما يرخص لمن لا يحسن العربية، فأما جعل الألفاظ الأعجمية شعارا فليس من دين الإسلام3" .(6/239)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح: أحمد (1/381) وأبو داود: كتاب الطب (3883): باب في تعليق التمائم وابن ماجة كتاب الطب (3530): باب في تعليق التمائم، والحاكم (4/418,417) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وابن حبان (1412- موارد). وصححه الألباني في الصحيحة (331).
2 مسلم : السلام (2200) , وأبو داود : الطب (3886).
3 وذلك مثل قول أرباب الطرق الصوفية في أورادهم: "كركدن كرددن دهده, أصباءوات أهيا شراهيا جلجلوت" وأمثالها مما يقولون عنه أنه ذكر الله, فهذا كله ليس من دين الإسلام في شيء؛ لأن الإسلام عربي متين, وهذا وغيره يدل على أن أصل هذه الطرق الصوفية خدعة يهودية هندية فارسية يونانية. كادوا بها للمسلمين ففرقوهم شيعا وأحزابا، وملأوا قلوبهم من الشرك في الإلهية والشرك في الربويية. فوصلوا من ذلك إلى ما يريدون من تقويض الدولة الإسلامية.(6/240)
ص -127- ... وقال السيوطي: " قد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: أن تكون بكلام الله أو بأسمائه وصفاته، وباللسان العربي وما يعرف معناه، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله تعالى" .
قوله: "والتمائم". قال المصنف: "شيء يعلق على الأولاد من العين". وقال الخلخالي: التمائم جمع تميمة، وهي ما يعلق بأعناق الصبيان من خرزات وعظام لدفع العين، وهذا منهي عنه؛ لأنه لا دافع إلا الله، ولا يطلب دفع المؤذيات إلا بالله وبأسمائه وصفاته.
فرخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه ويجعله من المنهي عنه، منهم ابن مسعود رضي الله عنه. و"الرقى": هي التي تسمى العزائم، وخص منه الدليل ما خلا من الشرك، رخص فيه رسول الله صلي الله عليه وسلم من العين والحمة
قال المصنف: "لكن إذا كان المعلق من القرآن فرخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه ويجعله من المنهي عنه. منهم ابن مسعود".
اعلم أن العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم اختلفوا في جواز تعليق التمائم التي من القرآن وأسماء الله وصفاته، فقالت طائفة: يجوز ذلك، وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص1، وهو ظاهر ما روي عن عائشة. وبه قال أبو جعفر الباقر وأحمد في رواية. وحملوا الحديث على التمائم التي فيها شرك.
وقالت طائفة: لا يجوز ذلك. وبه قال ابن مسعود وابن عباس. وهو ظاهر قول حذيفة وعقبة بن عامر وابن عكيم، وبه قال جماعة من التابعين، منهم: أصحاب ابن مسعود وأحمد في رواية اختاره كثير من أصحابه، وجزم بها المتأخرون، واحتجوا بهذا الحديث وما في معناه2.(6/241)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الرواية بذلك ضعيفة، ولا تدل على هذا ; لأن فيها أن ابن عمرو وكان يحفظه أولاده الكبار. ويكتبه في ألواح ويعلقه في عنق الصغار فالظاهر أنه كان يعلقه في اللوح ليحفظه الصغير لا على أنه تميمة، والتميمة تكتب في ورقة لا في لوح. وبدليل تحفيظه الكبار. وكيفما كان فهو عمل فردي من عبد الله بن عمرو لا يترك به حديث رسول الله، وعمل كبار الصحابة الذين لم يعملوا مثل عبد الله بن عمرو رضي الله عنهم.
2 في قرة العيون: والمقصود بيان أن هذه الأمور الشركية وإن خفيت فقد نهى عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، لكمال علمهم بما دلت عليه لا إله إلا الله من نفي الشرك قليله وكثيره؛ لتعلق القلب بغير الله في دفع الضر أو جلب نفع، وقد عمت البلوى بما هو أعظم من ذلك بأضعاف مضاعفة, فمن عرف هذه الأمور الشركية المذكورة في هذين البابين عرف ما وقع مما هو أعظم من ذلك كما تقدم بيانه, وفيه ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من التحذير من الشرك والتغليظ في إنكاره، وإن كان من الشرك الأصغر فهو أكبر من الكبائر.(6/242)
ص -128- ... قلت: هذا هو الصحيح لوجوه ثلاثة تطهر للمتأمل: الأول: عموم النهي ولا مخصص للعموم. والثاني: سد الذريعة؛ فإنه يفضي إلى تعليق ما ليس كذلك. الثالث:
و"التولة": شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته.
أنه إذا علق فلا بد أن يمتهنه المعلق بحمله معه في حال قضاء الحاجة والاستنجاء ونحو ذلك1.
وتأمل هذه الأحاديث وما كان عليه السلف -رضي الله تعالى عنهم- يتبين لك بذلك غربة الإسلام، خصوصا إن عرفت عظيم ما وقع فيه الكثير بعد القرون المفضلة من تعظيم القبور واتخاذ المساجد عليها، والإقبال إليها بالقلب والوجه، وصرف جل الدعوات والرغبات والرهبات وأنواع العبادات التي هي حق الله تعالى إليها من دونه، كما قال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}2 ونظائرها في القرآن أكثر من أن تحصر.
قوله: "التولة". قال المصنف: "هي شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل إلى امرأته". وبهذا فسرها ابن مسعود راوي الحديث: كما في صحيح ابن حبان(6/243)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولأن فعل ذلك استهزاء أشد استهزاء بآيات الله، ومناقضة لما جاءت به. (*) ومحادة لله ولرسوله, فإن الله أنزل القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان وشفاء لما في الصدور ولا يزيد الظالمين إلا خسارا. وإنه لتذكرة للمتقين. وإنه لحسرة على الكافرين. وإنه لحق اليقين. ولم ينزل القرآن ليتخذ حجبا وتمائم، ولا ليتلاعب به المتأكلون به الذين يشترون به ثمنا قليلا، والذين يقرءونه على المقابر وأمثال ذلك مما ذهب بحرمة القرآن، وجرأ الرؤساء على ترك الحكم به. (*) قوله: (ولأن فعل ذلك استهزاء أشد استهزاء بآيات الله, ومناقضة لما جاءت به) إلخ. أقول: هذه فيها نظر, والصواب أن تعليق التمائم ليس من الاستهزاء بالدين بل من الشرك الأصغر, ومن التشبه بالجاهلية, وقد يكون شركا أكبر على حسب ما يقوم بقلب صاحب التعليق من اعتقاد النفع فيها، وأنها تنفع وتضر دون الله عز وجل, وما أشبه هذا الاعتقاد. أما إذا اعتقد أنها سبب للسلامة من العين أو الجن ونحو ذلك فهذا من الشرك الأصغر؛ لأن الله سبحانه لم يجعلها سببا, بل نهى عنها وحذر وبين أنها شرك على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وما ذاك إلا لما يقوم بقلب صاحبها من الالتفات إليها والتعلق بها، ولو كان تعليقها استهزاء بآيات الله سبحانه لكان ذلك كفرا وردة عن الإسلام، كما قال الله عز وجل: (قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) الآية. ولا نعلم أحدا من أهل العلم قال: إن تعليق التمائم استهزاء بآيات الله، ولأن الواقع من المعلقين يخالف ذلك؛ فإنهم إنما يعلقون التمائم من القرآن والسنة رجاء نفعها وبركتها, لا لقصد الاستهزاء بها, وهذا بين واضح لمن تأمل. والله المستعان.
2 سورة يونس آية : 106-107.(6/244)
ص -129- ... والحاكم: " قالوا: يا أبا عبد الرحمن، هذه الرقى والتمائم قد عرفناها. فما التولة؟ قال: شيء نصنعه للنساء يتحببن به إلى أزواجهن "1 قال الحافظ: " التولة - بكسر المثناة وفتح الواو واللام مخففا - شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها، وهو ضرب من السحر2 والله أعلم".
وكان من الشرك لما يراد به من دفع المضار وجلب المنافع من غير الله تعالى.
قال المصنف: " وعن عبد الله بن عكيم مرفوعا: " من تعلق شيئا وكل إليه " رواه أحمد والترمذي". ورواه أبو داود والحاكم. وعبد الله بن عكيم هو بضم المهملة مصغرا، ويكنى أبا معبد الجهني الكوفي. قال البخاري: أدرك زمن النبي صلي الله عليه وسلم ولا يعرف له سماع صحيح. وكذا قال أبو حاتم. قال الخطيب: سكن الكوفة وقدم المدائن في حياة حذيفة، وكان ثقة. وذكر ابن سعد عن غيره أنه مات في ولاية الحجاج.
قوله: " من تعلق شيئا وكل إليه " التعلق يكون بالقلب، ويكون بالفعل، ويكون بهما3. وكل إليه أي وكله الله إلى ذلك الشيء الذي تعلقه، فمن تعلق بالله وأنزل(6/245)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1تفسير ابن مسعود راوي الحديث عند ابن حبان (1412-موارد)، والحاكم (4/418) وصححه ووافقه الذهبي.
2 وإن زعم الذين يصنعونها للنساء أنهم مسلمون ومتدينون, وأن ما يكتبونه من القرآن وأسماء الله؛ فإنهم يفعلون ذلك تضليلا بالقرآن وإلحادا فيه؛ لأنهم يكتبونه على طريقة اليهود حروفا مقطعة وبمداد خاص، ويمزجونه بأدعية جاهلية وبخطوط يزعمونها على صورة خاتم سليمان الذي كان فيه سر ملكه، كما يزعم اليهود الذين يعتقدون كفر سليمان، وأنه كان يسخر الجن بالسحر لا بمعجزة من الله. وعلى هذه العقيدة اليهودية الدجالون الذين يكتبون التمائم والتولات, ويزعمون أن للحروف والأسماء خداما يقومون بما يطلب منهم من الأعمال السحرية، ويتخذون أنواعا من البخور والأدوات المخصوصة التي يوحي بها شياطينهم، وكل ذلك من الكفر العظيم.
3 في قرة العيون: التعلق يكون بالقلب وينشأ عنه القول والفعل، وهو التفات القلب عن الله إلى شيء يعتقد أنه ينفعه أو يدفع عنه كما تقدم بيانه في الأحاديث في هذا الباب والذي قبله، وهو ينافي قوله تعالى: (بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون). فإن كان من الشرك الأصغر فهو ينافي كمال التوحيد , وإن كان من الشرك الأكبر كعبادة أرباب القبور والمشاهد والطواغيت ونحو ذلك فهو كفر بالله, وخروج عن دين الإسلام، ولا يصح معه قول ولا عمل.(6/246)
ص -130- ... حوائجه به والتجأ إليه، وفوض أمره إليه، كفاه وقرب إليه كل بعيد ويسر له كل عسير، ومن تعلق بغيره أو سكن إلى رأيه وعقله ودوائه وتمائمه ونحو ذلك، وكله الله إلى ذلك وخذله، وهذا معروف بالنصوص والتجارب. قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}1.
قال الإمام أحمد: حدثنا هشام بن القاسم حدثنا أبو سعيد المؤدب حدثنا من سمع عطاء الخراساني قال: " لقيت وهب بن منبه -وهو يطوف بالبيت- فقلت: حدثني حديثا أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجز. قال: نعم، أوحى الله تبارك وتعالى إلى داود: يا داود، أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم بي عبد من عبادي دون خلقي، أعرف ذلك من نيته، فتكيده السماوات السبع ومن فيهن والأرضون السبع ومن فيهن إلا جعلت له من بينهن مخرجا. أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني، أعرف ذلك من نيته، إلا قطعت أسباب السماء من يده، وأسخت الأرض من تحت قدميه، ثم لا أبالي بأى أوديتها هلك ".
قال المصنف: وروى الإمام أحمد عن رويفع قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " يا رويفع; لعل الحياة ستطول بك، فأخبر الناس أن من عقد لحيته أو تقلد وترا أو استنجى برجيع دابة أو عظم، فإن محمدا بريء منه " الحديث. رواه الإمام أحمد عن يحيى بن إسحاق والحسن بن موسى الأشيب كلاهما عن ابن لهيعة. وفيه قصة اختصرها المصنف. وهذا لفظ حسن: حدثنا ابن لهيعة حدثنا عياش بن عباس عن شييم بن بيتان قال: حدثنا رويفع بن ثابت قال: " كان أحدنا في زمن رسول الله صلي الله عليه وسلم يأخذ جمل أخيه على أن يعطيه النصف مما غنم وله النصف، حتى إن أحدنا ليصير له النصل والريش وللآخر القدح. " ثم قال لي رسول الله صلي الله عليه وسلم - الحديث. ثم رواه أحمد عن يحيى بن غيلان حدثني الفضل حدثنا عياش بن عباس أن شييم بن بيتان أخبره أنه سمع شيبان القتباني - الحديث2 ابن لهيعة فيه مقال.(6/247)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الطلاق آية : 3.
2 الحديث رواه أبو داود في باب ما ينهى عنه أو يستنجى به: حدثنا يزيد بن خالد بن عبد(6/248)
ص -131- ... وفي الإسناد الثاني شيبان القتباني، قيل: فيه مجهول. وبقية رجالهما ثقات.
قوله: "فأخبر الناس" دليل على وجوب إخبار الناس، وليس هذا مختصا برويفع، بل كل من كان عنده علم ليس عند غيره مما يحتاج إليه الناس وجب إعلامهم به، فإن اشترك هو وغيره في علم ذلك فالتبليغ فرض كفاية. قاله أبو زرعة في شرح سنن أبي داود.
قوله: " لعل الحياة ستطول بك " فيه علم من أعلام النبوة؛ فإن رويفعا طالت حياته إلى سنة ست وخمسين فمات ببرقة من أعمال مصر أميرا عليها، وهو من الأنصار، وقيل مات سنة ثلاث وخمسين.
قوله: "أن من عقد لحيته" بكسر اللام لا غير، والجمع لحى بالكسر والضم قاله الجوهري.
قال الخطابي: أما نهيه عن عقد اللحية فيفسر على وجهين: أحدهما: ما كانوا يفعلونه في الحرب، كانوا يعقدون لحاهم، وذلك من زي بعض الأعاجم يفتلونها ويعقدونها. قال أبو السعادات: تكبرا وعجبا. ثانيهما: أن معناه معالجة الشعر ليتعقد ويتجعد، وذلك من فعل أهل التأنيث. وقال أبو زرعة ابن العراقي: والأولى حمله على عقد اللحية في الصلاة، كما دلت عليه رواية محمد بن الربيع.(6/249)
ص -132- ... وفيه: "أن من عقد لحيته في الصلاة"1.
قوله: "أو تقلد وترا" أي جعله قلادة في عنقه أو عنق دابته. وفي رواية محمد بن الربيع: "أو تقلد وترا- يريد تميمة". فإذا كان هذا فيمن تقلد وترا فكيف بمن تعلق بالأموات وسألهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات، الذي جاء النهي عنه وتغليظه في الآيات المحكمات؟
قوله: "أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمدا بريء منه" قال النووي: أي بريء من فعله. وهذا خلاف الظاهر. والنووي كثيرا ما يتأول الأحاديث بصرفها عن ظاهرها فيغفر الله تعالى له.
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا: " لا تستنجوا بالروث ولا العظام فإنه زاد إخوانكم من الجن "2 وعليه لا يجزي الاستنجاء بهما كما هو ظاهر مذهب أحمد؛ لما روى ابن خزيمة والدارقطني عن أبي هريرة
وعن سعيد بن جبير قال: " من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة " رواه وكيع.
وله عن إبراهيم قال: " كانوا يكرهون التمائم كلها، من القرآن وغير القرآن ".
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الرقى والتمائم.
الثانية: تفسير التولة.
الثالثة: أن هذه الثلاث كلها من الشرك من غير استثناء.
الرابعة: أن الرقية بالكلام الحق من العين والحمة ليس من ذلك.
الخامسة: أن التميمة إذا كانت من القرآن فقد اختلف العلماء هل هي من ذلك أم لا؟.
السادسة: أن تعليق الأوتار على الدواب عن العين من ذلك.
السابعة: الوعيد الشديد على من تعلق وترا.
الثامنة: فضل ثواب من قطع تميمة من إنسان.
التاسعة: أن كلام إبراهيم لا يخالف ما تقدم من الاختلاف؛ لأن مراده أصحاب عبد الله.
" أن النبي صلي الله عليه وسلم نهى أن يستنجى بعظم أو روث، وقال: إنهما لا يطهران "3.
قوله: " وعن سعيد بن جبير قال: " من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة " رواه وكيع" هذا عند أهل العلم له حكم الرفع؛ لأن مثل ذلك لا يقال بالرأي ويكون هذا مرسلا؛ لأن سعيدا تابعي4 وفيه فضل قطع التمائم لأنها شرك.
ووكيع: هو ابن الجراح بن(6/250)
وكيع الكوفي، ثقة إمام، صاحب تصانيف منها الجامع وغيره. روى عنه الإمام أحمد وطبقته. مات سنة سبع وتسعين ومائة.
قوله: "وله عن إبراهيم قال: " كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن "
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في قرة العيون: قلت ويشبه هذا ما يفعله كثير من فتل أطراف الشارب فيترك أطرافه لذلك وهي بعضه. وفي حديث زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(من لم يأخذ من شاربه فليس منا) رواه أحمد والنسائي والترمذي وقال: صحيح. وفي الصحيح: ( خالفوا المشركين احفوا الشوارب واعفوا اللحى) وذلك يدل على الوجوب, وذكر ابن حزم الإجماع على أنه فرض فيتعين النهي عن ذلك.
2 مسلم: كتاب الصلاة (1450) (150): باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن.
3 إسناده ضعيف: الدارقطني (1/56) وقال: إسناده صحيح، وفي إسناده الحسن بن الفرات منكر الحديث كما قال أبو حاتم وراجع النهج السديد (115).
4 في قرة العيون: فعلى هذا يجب النهي عن تعليق التمائم والترغيب في قطعها وأن ذلك مما يجب, وفيه مع ما تقدم أنه شرك, وبيان حال السلف -رضي الله عنهم- من تعظيم الشرك قليله وكثيره والنهي عنه, فلما اشتدت غربة الإسلام في أواخر هذه الأمة صار إنكار هذا وما هو أعظم منه أعظم المنكرات حتى عند من ينتسب إلى العلم كما لا يخفى.(6/251)
ص -133- ... وإبراهيم: هو الإمام إبراهيم بن يزيد النخعي الكوفي، يكنى أبا عمران ثقة من كبار الفقهاء. قال المزي: دخل على عائشة، ولم يثبت له سماع معها. مات سنة ست وتسعين، وله خمسون سنة أو نحوها.
قوله: "كانوا يكرهون التمائم" إلى آخره، مراده بذلك أصحاب عبد الله بن مسعود، كعلقمة، والأسود وأبي وائل والحارث بن سويد، وعبيدة السلماني ومسروق والربيع بن خثيم، وسويد بن غفلة وغيرهم، وهم من سادات التابعين. وهذه الصيغة يستعملها إبراهيم في حكاية أقوالهم كما بين ذلك الحافظ كالعراقي وغيره.
باب:" من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما"
وقول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى}1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما" كبقعة وقبر ونحو ذلك، أي فهو مشرك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النجم آية : 19-20.(6/252)
ص -134- ... قوله: "قول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} الآيات". وكانت اللات لثقيف، والعزى لقريش وبني كنانة، ومناة لبني هلال. وقال ابن هشام: كانت لهذيل وخزاعة.
فأما "اللات" فقرأ الجمهور بتخفيف التاء، وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وحميد وأبو صالح ورويس بتشديد التاء.
فعلى الأولى قال الأعمش: سموا اللات من الإله، والعزى من العزيز. قال ابن جرير: وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم الله تعالى، فقالوا: اللات مؤنثة منه، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا. قال: وكذا العزى من العزيز.
وقال ابن كثير: اللات كانت صخرة بيضاء منقوشة عليها بيت بالطائف له أستار وسدنة، وحوله فناء معظم عند أهل الطائف، وهم ثقيف ومن تبعها يفتخرون به على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش. قال ابن هشام: فبعث رسول الله صلي الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار.
وعلى الثانية قال ابن عباس: " كان رجلا يلت السويق للحاج، فلما مات عكفوا على قبره " ذكره البخاري. قال ابن عباس: " كان يبيع السويق والسمن عند صخرة
ويسلؤه عليها، فلما مات ذلك الرجل عبدت ثقيف تلك الصخرة إعظاما لصاحب السويق "1 وعن مجاهد نحوه وقال: " فلما مات عبدوه". رواه سعيد بن منصور. وكذا روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس: "أنهم عبدوه" وبنحو هذا قال جماعة من أهل العلم.
قلت: لا منافاة بين القولين؛ فإنهم عبدوا الصخرة والقبر تأليها وتعظيما.(6/253)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وفي النهاية: السلاء السمن. وفي فتح الباري (ج8 ص433): وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء عن ابن عباس -ولفظه في زيادة- " وكان يلت السويق على الحجر, فلا يشرب منه أحد إلا سمن, فعبدوه". واختلف في اسم هذا الرجل, فعن مجاهد: "كان رجلا في الجاهلية على صخرة بالطائف وعليها له غنم فكان يسلؤ من رسلها. ويأخذ من زبيب الطائف والأقط فيجعل منه حيسا ويطعم من يمر به من الناس. فلما مات عبدوه". وزعم بعض الناس أنه عامر بن الظرب. اهـ مختصرا.(6/254)
ص -135- ... ولمثل هذا بنيت المشاهد والقباب على القبور واتخذت أوثانا. وفيه بيان أن أهل الجاهلية كانوا يعبدون الصالحين والأصنام.
وأما "العزى" فقال ابن جرير: كانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة - بين مكة والطائف - كانت قريش يعظمونها. كما قال أبو سفيان يوم أحد: "لنا العزى ولا عزى لكم". فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم "1. وروى النسائي وابن مردويه عن أبي الطفيل قال:2. " لما فتح رسول الله صلي الله عليه وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة - وكانت بها العزى ، وكانت على ثلاث سمرات - فقطع السمرات، وهدم البيت الذي كان عليها، ثم أتى النبي صلي الله عليه وسلم فأخبره. فقال: ارجع فإنك لم تصنع شيئا، فرجع خالد، فلما أبصرته السدنة أمعنوا في الجبل وهم يقولون: يا عزى يا عزى، فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحفن التراب على رأسها فعمها بالسيف فقتلها. ثم رجع إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم فأخبره. فقال: تلك العزى " قلت: وكل هذا وما هو أعظم منه يقع في هذه الأزمنة عند ضرائح الأموات وفي المشاهد.
وأما "مناة" فكانت بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة، وكانت خزاعة والأوس والخزرج يعظمونها ويهلون منها للحج. وأصل اشتقاقها: من اسم الله المنان، وقيل: لكثرة ما يمنى - أي يراق - عندها من الدماء للتبرك بها. قال البخاري -رحمه الله- في حديث عروة عن عائشة "-رضي الله عنها-: "إنها صنم بين مكة والمدينة". قال ابن هشام: " فبعث رسول الله صلي الله عليه وسلم عليا فهدمها عام الفتح ". فمعنى الآية كما قال القرطبي: أن فيها حذفا تقديره: أفرأيتم هذه الآلهة، أنفعت أو ضرت، حتى تكون شركاء لله تعالى ؟.
وقوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى}3 قال ابن كثير: تجعلون له ولدا وتجعلون ولده أنثى وتختارون لكم الذكور؟ قوله: {تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى}4 أي جور وباطلة. فكيف تقاسمون ربكم هذه(6/255)
القسمة التي لو كانت بين مخلوقين كانت جورا وسفها فتنزهون أنفسكم عن الإناث وتجعلونهن لله تعالى. وقوله: {إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ}5 أي من تلقاء أنفسكم {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} أي من حجة {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ}6 أي ليس لهم مستند إلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الشروط (2734) , وأبو داود : الجهاد (2765).
2 البخاري: كتاب المغازي (4043): باب غزوة أحد من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.
3 سورة النجم آية : 21.
4 سورة النجم آية : 22.
5 سورة النجم آية : 23.
6 سورة النجم آية : 28.(6/256)
ص -136- ... حسن ظنهم بآبائهم الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم1 {وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} وإلا حظ أنفسهم في رياستهم وتعظيم آبائهم
عن أبي واقد الليثي قال: " خرجنا مع رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها، وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات
الأقدمين. قوله: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى}2 قال ابن كثير: " ولقد أرسل الله تعالى إليهم الرسل بالحق المنير والحجة القاطعة، ومع هذا ما اتبعوا ما جاءوهم به ولا انقادوا له" ا هـ.
ومطابقة الآيات للترجمة من جهة أن عباد هذه الأوثان إنما كانوا يعتقدون حصول البركة معها بتعظيمها ودعائها والاستعانة بها والاعتماد عليها في حصول ما يرجونه منها، ويؤملونه ببركاتها وشفاعتها وغير ذلك، فالتبرك بقبور الصالحين كاللات، وبالأشجار كالعزى ومناة3 من ضمن فعل أولئك المشركين مع تلك الأوثان، فمن فعل مثل ذلك واعتقد في قبر أو حجر أو شجر فقد ضاهى عباد هذه الأوثان فيما كانوا يفعلونه معها من هذا الشرك، على أن الواقع من هؤلاء المشركين مع معبوديهم أعظم مما وقع من أولئك. فالله المستعان.
قوله: " عن أبي واقد الليثي قال: " خرجنا مع رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال:(6/257)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الظن هنا: ظن المشركين بأوليائهم أنها تسمع الدعاء وتجيب؛ فإنهم ليس لهم علم بذلك لا من طريق حواسهم, ولا من خبر صادق، وإنما هو مما يشيعه السدنة ترويجا لتجارتهم الخاسرة. ويزيد الجاهلين تعلقا بأوليائهم من دون الله: ما تهوى أنفسهم من قضاء حاجاتهم بغير الأسباب الكونية، فهم يعظمون أولئك الموتى لهوى أنفسهم وقضاء وطرهم لا حبا في الإيمان والمؤمنين. ولذلك تراهم يتنقلون من ميت إلى آخر إذا لم يجدوا مسألتهم قضيت عند الأول. وهكذا ترى السدنة إذا انتقلوا من وظيفة عند هذا الولي الذي كان في نظرهم كبيرا أصبح الولي الذي انتقلوا عند قبره أعظم بركة وأكثر كرامات. والله يقول: إن هؤلاء جميعا لا يتبعون إلا هوى أنفسهم وهم كاذبون أعظم الكذب في دعواهم حب الأولياء والصالحين.
2 سورة النجم آية : 23.
3 ما كانوا يتبركون بالعزى ومناة على أنها أحجار مجردة, وإنما كانوا يعتقدون فيها البركة من العزى التي كانت امرأة يزعمون أنها ولية ودفنت عند هذه الشجيرات. وكذلك مناة. ولذلك سموا الأشجار العزى والحجر مناة; كما يسمي الناس اليوم النحاس الذي يقام على القبر حسينا وزينب وغيرهما من الصالحين, فهم يتبركون بها على هذه العقيدة الجاهلية.(6/258)
ص -137- ... لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: الله أكبر إنها السنن قلتم، والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} لتركبن سنن من كان قبلكم " رواه الترمذي وصححه1.
أبو واقد: اسمه الحارث بن عوف، وفي الباب عن أبي سعيد وأبي هريرة قاله الترمذي، وقد رواه أحمد وأبو يعلى وابن أبي شيبة والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني بنحوه.
قوله: "عن أبي واقد" قد تقدم ذكر اسمه في قول الترمذي، وهو صحابي مشهور مات سنة ثمان وستين وله خمس وثمانون سنة.
قوله: "خرجنا مع رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى حنين" وفي حديث عمرو بن عوف وهو عند ابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني قال: " غزونا مع رسول الله صلي الله عليه وسلم يوم الفتح، ونحن ألف ونيف حتى إذا كنا بين حنين والطائف " الحديث.
قوله: "ونحن حدثاء عهد بكفر" أي قريب عهدنا بالكفر، ففيه دليل على أن غيرهم ممن تقدم إسلامه من الصحابة لا يجهل هذا، وأن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يأمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة. ذكره المصنف رحمه الله.
قوله: "وللمشركين سدرة يعكفون عندها". العكوف هو الإقامة على الشيء في المكان، ومنه قول الخليل -عليه السلام-: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}2، وكان عكوف المشركين عند تلك السدرة تبركا بها وتعظيما لها3. وفي حديث عمرو: "كان يناط بها السلاح فسميت ذات أنواط وكانت تعبد من دون الله".
قوله: "وينوطون بها أسلحتهم" أي يعلقونها عليها للبركة.(6/259)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح: الترمذي: كتاب الفتن (2180): باب ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وأحمد (5/218)، وابن جرير (9/31 , 32)، والطبراني في الكبير (3290), (3294). وصححه الأرناؤوط في تخريج جامع الأصول (10/34).
2 سورة الأنبياء آية : 52.
3 كما يعكف اليوم عباد القبور عندها ويجاورون, معتقدين أن لهم بذلك الزلفى والقربى، ويعتقد الجاهلون لهم ذلك فيعاونونهم بالنذور لتلك القبور والصدقات قربة لأولئك الموتى. وكل ذلك من الشرك الأكبر.(6/260)
ص -138- ... أنواط. فقال رسول الله :صلي الله عليه وسلم الله أكبر، إنها السنن قلتم، والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}
قلت: ففي هذا بيان أن عبادتهم لها بالتعظيم والعكوف والتبرك، وبهذه الأمور الثلاثة عبدت الأشجار ونحوها.
قوله: " فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط " قال أبو السعادات: سألوه أن يجعل لهم مثلها فنهاهم عن ذلك. وأنواط: جمع نوط، وهو مصدر سمي بها المنوط. ظنوا أن هذا أمر محبوب عند الله وقصدوا التقرب به، وإلا فهم أجل قدرا من أن يقصدوا مخالفة النبي صلي الله عليه وسلم.
قوله: "فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: الله أكبر" وفي رواية: "سبحان الله". والمراد تعظيم الله تعالى وتنزيهه عن هذا الشرك بأي نوع كان، مما لا يجوز أن يطلب أو يقصد به غير الله، وكان النبي صلي الله عليه وسلم يستعمل التكبير والتسبيح في حال التعجب تعظيما لله وتنزيها له إذا سمع من أحد ما لا يليق بالله مما فيه هضم للربوبية أو الإلهية.
قوله: "إنها السنن" بضم السين أي الطرق.
قوله: " قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة " شبه مقالتهم هذه بقول بني إسرائيل، بجامع أن كلا طلب أن يجعل له ما يألهه ويعبده من دون الله، وإن اختلف اللفظان فالمعنى واحد، فتغيير الاسم لا يغير الحقيقة.
ففيه الخوف من الشرك، وأن الإنسان قد يستحسن شيئا يظن أنه يقربه إلى الله، وهو أبعد ما يبعده من رحمته ويقربه من سخطه، ولا يعرف هذا على الحقيقة إلا من عرف ما وقع في هذه الأزمان من كثير من العلماء والعباد مع أرباب القبور، من الغلو فيها وصرف جل العبادة لها، ويحسبون أنهم على شيء وهو الذنب الذي لا يغفره الله.
قال الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل الشافعي المعروف بابن أبي شامة في كتاب البدع والحوادث: " ومن هذا القسم أيضا(6/261)
ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد وإسراج مواضع مخصوصة في كل بلد، يحكي لهم حاك أنه رأى في(6/262)
ص -139- ... منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم لفرائض الله تعالى وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لها، وهي من عيون وشجر وحائط وحجر. وفي مدينة دمشق من ذلك مواضع متعددة كعوينة الحمى خارج باب توما، والعمود المخلق داخل باب الصغير، والشجرة الملعونة خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها، فما أشبهها بذات أنواط الواردة في الحديث1 انتهى.
وذكر ابن القيم - رحمه الله - نحو ما ذكره أبو شامة، ثم قال: فما أسرع أهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان من دون الله ولو كانت ما كانت، ويقولون: إن هذا الحجر وهذه الشجرة وهذه العين تقبل النذر; أي تقل العبادة من دون الله; فإن النذر عبادة وقربة يتقرب بها الناذر إلى المنذور له، وسيأتي ما يتعلق بهذا الباب عند قوله صلي الله عليه وسلم:" اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد "2.
وفي هذه الجملة من الفوائد: أن ما يفعله من يعتقد في الأشجار والقبور والأحجار من التبرك بها والعكوف عندها والذبح لها هو الشرك، ولا يغتر بالعوام والطغام، ولا يستبعد كون الشرك بالله تعالى يقع في هذه الأمة، فإذا كان بعض الصحابة ظنوا ذلك حسنا، وطلبوه من النبي صلي الله عليه وسلم حتى بين لهم أن ذلك كقول بني إسرائيل: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}3 فكيف لا يخفى على من دونهم في العلم والفضل بأضعاف مضاعفة مع غلبة الجهل وبعد العهد بآثار النبوة؟! بل خفي عليهم عظائم الشرك في الإلهية والربويية، فأكبروا فعله واتخذوه قربة.(6/263)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وفي مصر كذلك من هذه القبور المنامية ونحوها كقبر الحسين وزينب - رضي الله عنهما -، وكثير مما يسمى بالأربعين، بناء على عقيدة أخبث من عقيدة أهل الجاهلية الأولى, وهي عقيدة أن الولي يتشكل في أربعين جسما. وزعم الدباغ مبالغة في الوقاحة والضلال أنه يكون للولي ثلاثمائة وستون جسما، وكم في غير مصر من هذه المواضع الشركية من قبور وأشجار وأحجار، عجل الله بتطهير البلاد منها كما طهر الحجاز بيد جلالة الملك عبد العزيز آل سعود, مد الله في حياته, ووفق أبناءه للقيام بمثل عمله الصالح وأعلى بهم منار الإسلام.
2 البخاري : الفرائض (6764) , ومسلم : الفرائض (1614) , والترمذي : الفرائض (2107) , وأبو داود : الفرائض (2909) , وابن ماجه : الفرائض (2729 ,2730) , وأحمد (5/200 ,5/201 ,5/202 ,5/208 ,5/209) , والدارمي : الفرائض (2998 ,3000 ,3001).
3 سورة الأعراف آية : 138.(6/264)
ص -140- ... وفيها: أن الاعتبار في الأحكام بالمعاني لا بالأسماء، ولهذا جعل النبي صلي الله عليه وسلم طلبتهم كطلبة بني إسرائيل، ولم يلتفت إلى كونهم سموها ذات أنواط. فالمشرك مشرك وإن سمى شركه ما سماه، كمن يسمي دعاء الأموات والذبح والنذر لهم ونحو ذلك تعظيما ومحبة، فإن ذلك هو الشرك وإن سماه ما سماه. وقس على ذلك.
قوله: " لتركبن سنن من كان قبلكم " بضم1 الموحدة وضم السين أي طرقهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي اليهود والنصارى, وقد وقع كما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأمة فركبوا طريق من كان قبلهم ممن ذكرنا كما هو في الأحاديث الصحيحة، كحديث: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقدة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟" وهو في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه _. وفي رواية: "ومن الناس إلا أولئك؟".(6/265)
ص -141- ... ومناهجهم، وقد يجوز فتح السين على الأفراد أي طريقهم. وهذا خبر صحيح. والواقع من كثير من هذه الأمة يشهد له.
وفيه علم من أعلام النبوة من حيث إنه وقع كما أخبر به صلي الله عليه وسلم.
وفي الحديث: النهي عن التشبه بأهل الجاهلية وأهل الكتاب فيما كانوا يفعلونه، إلا ما دل على أنه من شريعة محمد صلي الله عليه وسلم.(6/266)
ص -142- ... فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النجم.
الثانية: معرفة صورة الأمر الذي طلبوا1.
الثالثة: كونهم لم يفعلوا.
الرابعة: كونهم قصدوا التقرب إلى الله بذلك؛ لظنهم أنه يحبه.
الخامسة: أنهم إذا جهلوا هذا فغيرهم أولى بالجهل.
السادسة: أن لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة ما ليس لغيرهم.
السابعة: أن النبي صلي الله عليه وسلم لم يعذرهم في الأمر بل رد عليهم بقوله: " الله أكبر، إنها السنن، لتتبعن سنن من كان قبلكم " فغلظ الأمر بهذه الثلاث.
الثامنة: الأمر الكبير، وهو المقصود: أنه أخبر أن طلبتهم كطلبة بني إسرائيل لما قالوا لموسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً}2.
التاسعة: أن نفي هذا من معنى " لا إله إلا الله" مع دقته وخفائه على أولئك.
العاشرة: أنه حلف على الفتيا، وهو لا يحلف إلا لمصلحة.
الحادية عشرة: أن الشرك فيه أكبر وأصغر؛ لأنهم لم يرتدوا بهذا3.
الثانية عشرة: قولهم: " ونحن حدثاء عهد بكفر" فيه أن غيرهم لا يجهل ذلك.
التابعون من ساداتهم في العلم والدين وأهل الأسوة. فلا يجوز أن يقاس على رسول الله صلي الله عليه وسلم أحد من الأمة، وللنبي صلي الله عليه وسلم في حال الحياة خصائص كثيرة لا يصلح أن يشاركه فيها غيره.
الثالثة عشرة: التكبير عند التعجب، خلافا لمن كرهه.
الرابعة عشرة: سد الذرائع.
الخامسة عشرة: النهي عن التشبه بأهل الجاهلية.
السادسة عشرة: الغضب عند التعليم.
السابعة عشرة: القاعدة الكلية لقوله: " إنها السنن".
الثامنة عشرة: أن هذا علم من أعلام النبوة؛ لكونه وقع كما أخبر.
التاسعة عشرة: أن ما ذم الله به اليهود والنصارى في القرآن أنه لنا.
العشرون: أنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر، فصار فيه التنبيه على مسائل القبر، أما " من ربك " ؟ فواضح. وأما " من نبيك؟" فمن إخباره بأنباء الغيب. وأما " ما دينك؟" فمن قولهم: " اجعل لنا" إلى آخره.
الحادية والعشرون: أن سنة أهل الكتاب مذمومة كسنة المشركين.
الثانية(6/267)
والعشرون: أن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يؤمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة، لقولهم: ونحن حدثاء عهد كفر.
ومنها: أن في المنع عن ذلك سدا لذريعة الشرك كما لا يخفى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يعني أنهم لم يطلبوا منه أن يجعل لهم إلها يعبدونه من دون الله؛ لأنهم كانوا أجل وأعقل من ذلك, وإنما طلبوا شجرة يأذن لهم النبي فيها فيتبركون بها ويعلقون عليها أسلحتهم دون أن يصلوا أو يتصدقوا لها، فبين لهم أن ما طلبوا من التبرك ولو لم يكن صلاة ولا صياما ولا صدقة هو الشرك بعينه. وفيه إبطال لشبهة مشركي هذا الزمان وزعمهم أن ما يفعلونه تبرك وتعظيم لا بأس به.
2 سورة الأعراف آية : 138.
3 ليس ما طلبوه من الشرك الأصغر، ولو كان منه لما جعله النبي نظير قول نبي إسرائيل (اجعل لنا إلها) وأقسم على ذلك, بل هو من الشرك الأكبر كما أن ما طلبه بنو إسرائيل من الأكبر. وإنما لم يكفروا بطلبهم؛ لأنهم حدثاء عهد بالإسلام; ولأنهم لم يفعلوا ما طلبوه ولم يقدموا عليه بل سألوا النبي فتأمل.(6/268)
باب:" ما جاء في الذبح لغير الله"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال المصنف - رحمه الله -: "وفيه التنبيه على مسائل القبر، أما من ربك؟ فواضح، وأما من نبيك؟ فمن إخباره بأنباء الغيب، وأما ما دينك؟ فمن قولهم اجعل لنا إلها إلخ. وفيه: أن الشرك لا بد أن يقع في هذه الأمة خلافا لمن ادعى خلاف ذلك، وفيه الغضب عند التعليم، وأن ما ذم الله به اليهود والنصارى فإنه قاله لنا لنحذره" قاله المصنف - رحمه الله
وأما ما ادعاه بعض المتأخرين من أنه يجوز التبرك بآثار الصالحين فممنوع من وجوه:
منها: أن السابقين الأولين من الصحابة ومن بعدهم لم يكونوا يفعلون ذلك مع غير النبي صلي الله عليه وسلم، لا في حياته ولا بعد موته، ولو كان خيرا لسبقونا إليه، وأفضل الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم -. وقد شهد لهم رسول الله صلي الله عليه وسلم فيمن شهد له بالجنة; وما فعله أحد من الصحابة والتابعين مع أحد من هؤلاء السادة، ولا فعله
وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}1.
قوله "باب ما جاء في الذبح لغير الله" من الوعيد وأنه شرك بالله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية : 162-163.(6/269)
ص -143- ... قوله: "وقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي 1 وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} الآية".
قال ابن كثير: "يأمره الله تعالى أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله وبذبحون له: بأنه أخلص لله صلاته وذبيحته؛ لأن المشركين يعبدون الأصنام ويذبحون لها، فأمره الله تعالى بمخالفتهم والانحراف عما هم فيه والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى. قال مجاهد: النسك الذبح في الحج والعمرة".
وقال الثوري عن السدي عن سعيد بن جبير: ونسكي ذبحي. وكذا قال الضحاك. وقال غيره: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} أي وما آتيه في حياتي، وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح {لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}3 خالصا لوجهه {لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ} الإخلاص {أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} أي من هذه الأمة لأن إسلام كل نبي متقدم.
قال ابن كثير: وهو كما قال: فإن جميع الأنبياء قبله كانت دعوتهم إلى الإسلام، وهو عبادة الله وحده لا شريك له. كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ}4 وذكر آيات في هذا المعنى.
ووجه مطابقة الآية للترجمة: أن الله تعالى تعبد عباده بأن يتقربوا إليه بالنسك، كما تعبدهم بالصلاة وغيرها من أنواع العبادات؛ فإن الله تعالى أمرهم أن يخلصوا جميع أنواع(6/270)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في قرة العيون: يشمل الفرائض والنوافل، والصلوات كلها عبادة، وقد اشتملت على نوعي الدعاء: دعاء المسألة ودعاء العبادة، فما كان فيها من السؤال والطلب فهو دعاء مسألة، وما كان فيها من الحمد والثناء والتسبيح والركوع والسجود وغير ذلك من الأركان والواجبات فهو دعاء عبادة، وهذا هو التحقيق في تسميتها صلاة؛ لأنها اشتملت على نوعي الدعاء الذي هو صلاة لغة وشرعا "*" قرره شيخ الإسلام وابن القيم - رحمهما الله تعالى -. (*) وهي مأخوذة من "الصلة"؛ لأنها الصلة والمنحة التي وصل الله بها حبيبه محمد - صلى الله عليه وسلم - ومنحه إياها في ليلة الوصل الأعظم: ليلة المعراج. وهي أقوى صلة بين العبد وبين ربه؛ لأنه فيها يناجي ربه كما في الأحاديث, ومن ثم كانت قرة عين رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وكانت مفزعه عند كل أمر يهمه. وكانت الفارق بين المسلم والكافر. فمن تركها فلا حظ له في الإيمان بالله وحبه، ولا صلة بينه وبين ربه مهما حاول.
3 سورة الأنعام آية : 162.
4 سورة الأنبياء آية : 25.(6/271)
ص -144- ... العبادة له دون كل ما سواه، فإذا تقربوا إلى غير الله بالذبح أو غيره من أنواع العبادة، فقد جعلوا لله شريكا في عبادته، ظاهر في قوله: {لا شَرِيكَ لَهُ}1 نفى أن يكون الله تعالى شريك في هذه العبادات، وهو بحمد الله واضح2.
قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}3 قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: "أمره الله أن يجمع بين هاتين العبادتين، وهما الصلاة والنسك، الدالتان على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن وقوة اليقين، وطمأنينة القلب إلى الله وإلى عدته، عكس حال أهل الكبر والنفرة، وأهل الغنى عن الله الذين لا حاجة لهم في صلاتهم إلى ربهم، والذين لا ينحرون له خوفا من الفقر، ولهذا جمع بينهما في قوله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} - الآية. والنسك: الذبيحة لله تعالى ابتغاء وجهه؛ فإنهما أجل ما يتقرب به إلى الله، فإنه أتى فيهما بالفاء الدالة على السبب; لأن فعل ذلك سبب للقيام بشكر ما أعطاه الله تعالى من الكوثر. وأجل العبادات البدنية: الصلاة; وأجل العبادات المالية: النحر. وما يجتمع للعبد في الصلاة لا يجتمع له في غيرها، كما عرفه أرباب القلوب الحية، وما يجتمع له في النحر إذا قارنه الإيمان والإخلاص، من قوة اليقين وحسن الظن أمر عجيب، وكان النبي صلي الله عليه وسلم كثير الصلاة، كثير النحر". اهـ.
قلت: وقد تضمنت الصلاة من أنواع العبادات كثيرا، فمن ذلك الدعاء والتكبير، والتسبيح والقراءة، والتسميع والثناء، والقيام والركوع، والسجود والاعتدال، وإقامة الوجه لله تعالى، والإقبال عليه بالقلب; وغير ذلك مما هو مشروع في الصلاة، وكل هذه الأمور من أنواع العبادة التي لا يجوز أن يصرف منها شيء لغير الله، وكذلك النسك يتضمن أمورا من العبادة كما تقدم في كلام شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -.
قوله: وعن علي ابن أبي طالب قال: " حدثني رسول الله صلي الله عليه وسلم بأربع(6/272)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية : 163.
2 في قرة العيون: والمقصود أن هذه الآية دلت على أن أقوال العبد وأعماله الباطنة والظاهرة لا يجوز أن يصرف منها شيء لغير الله كائنا من كان، فمن صرف منها شيئا لغير الله فقد وقع فيما نفاه تعالى من الشرك بقوله: (وما أنا من المشركين). والقرآن كله في تقرير هذا التوحيد في عبادته وبيانه ونفي الشرك والبراءة منه.
3 سورة الكوثر آية : 2.(6/273)
ص -145- ... كلمات: لعن الله من ذبح لغير الله; ولعن الله من لعن والديه ولعن الله من آوى محدثا; ولعن الله من غير منار الأرض " رواه مسلم من طرق وفيه قصة.
ورواه الإمام أحمد كذلك عن أبي طفيل قال: " قلنا لعلي: أخبرنا بشيء أسره إليك رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال: ما أسر إلي شيئا كتمه الناس; ولكن سمعته يقول: لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثا، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من غير تخوم الأرض، يعنى المنار "1.
وعلي ابن أبي طالب: هو الإمام أمير المؤمنين أبو الحسن الهاشمي ابن عم النبي صلي الله عليه وسلم وزوج ابنته فاطمة الزهراء; كان من أسبق السابقين الأولين، ومن أهل بدر وبيعة الرضوان، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، ورابع الخلفاء الراشدين، ومناقبه مشهورة رضي الله عنه، قتله ابن ملجم الخارجي في رمضان سنة أربعين.
قوله: "لعن الله" اللعن: البعد عن مظان الرحمة ومواطنها. قيل: واللعين والملعون من حقت عليه اللعنة، أو دعي عليه بها. قال أبو السعادات: أصل اللعن: الطرد والإبعاد من الله، ومن الخلق السب والدعاء.
قال شيخ الإسلام - رحمه الله - ما معناه: إن الله تعالى يلعن من استحق اللعنة بالقول كما يصلي سبحانه على من استحق الصلاة من عباده. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ}3 وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً}4 وقال: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً}5. والقرآن كلامه تعالى أوحاه إلى جبريل - عليه السلام - وبلغه رسوله محمدا صلي الله عليه وسلم. وجبريل سمعه منه كما سيأتي في الصلاة إن شاء الله تعالى، فالصلاة ثناء الله تعالى كما تقدم. فالله تعالى هو المصلي وهو المثيب، كما دل(6/274)
على ذلك الكتاب والسنة; وعليه سلف الأمة. قال الإمام أحمد - رحمه الله -: "لم يزل الله متكلما إذا شاء".
قوله: "من ذبح لغير الله" قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -: " {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}67 ظاهره: أنه ما ذبح لغير الله، مثل أن يقول: هذا ذبيحة لكذا.
وإذا كان هذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
3 سورة الأحزاب آية : 43-44.
4 سورة الأحزاب آية : 64.
5 سورة الأحزاب آية : 61.
6 سورة البقرة آية : 173.
7 وفي سورة المائدة الآية الثالثة. وسورة الأنعام الآية (145)، وسورة النحل الآية (115) (وما أهل لغير الله به) وأصل الإهلال: رفع الصوت والإعلام. فالمقصود بما أهل به لغير الله: ما أعلن عنه أنه منذور به لغير الله. سواء كان هذا الإهلال والإعلام قبل الذبح كأن يقال: هذه شاة السيدة فلانة والسيد فلان، فيعرف الناس ذلك, وأنها مهل بها لغير الله ولو سمى الذابح باسم الله، فإن هذه التسمية اللفظية لاغية، والعبرة بالإهلال الحقيقي بما انطوى عليه من قصد التقرب، به لغير الله. (وكذلك أيضا ما سمى من الطعام أو الشراب أو غيره نذرا وقربة لغير الله. فكل طعام ليوزع على العاكفين عند هذه القبور والطواغيت) (*) باسمها وعلى بركتها هو مما أهل به لغير الله.(6/275)
ص -146- ... هو المقصود فسواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم وقال فيه: باسم المسيح أو نحوه. كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله كان أذكى وأعظم مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه: بسم الله. فإذا حرم ما قيل فيه باسم المسيح أو الزهرة، فلأن يحرم ما قيل فيه لأجل المسيح أو الزهرة أو قصد به ذلك أولى؛ فإن العبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله، وعلى هذا فلو ذبح لغير الله متقربا إليه يحرم1 وإن قال فيه باسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة الذين يتقربون إلى الكواكب بالذبح والبخور ونحو ذلك2 وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال. لكن يجتمع في الذبيحة مانعان: الأول: أنه مما أهل به لغير الله. والثاني: أنها ذبيحة مرتد. ومن هذا الباب: ما يفعله الجاهلون بمكة من الذبح للجن،3 ولهذا روي عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه نهى عن ذبائح الجن". اهـ4.
قال الزمخشري: "كانوا إذا اشتروا دارا أو بنوها أو استخرجوا عينا ذبحوا ذبيحة خوفا أن تصيبهم الجن، فأضيفت إليهم الذبائح لذلك". وذكر إبراهيم المروزي: أن ما ذبح عند استقبال السلطان تقربا إليه، أفتى أهل بخارى(6/276)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بل يكون هذا الذبح شركا أكبر. (ومن يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار).
2 وهم الذين يكتبون الحجب والتمائم والتعاويذ ونحوها, فإنهم يتحرون بها يوم السبت في ساعة كذا أو غيره من الأيام والساعات، ويذبحون ويبخرون عند نزول الكوكب الفلاني في منزلة كذا ونحو كذا, وهم في البلاد الإسلامية كثير - لا كثرهم الله -، ويعتقد العامة فيهم الصلاح والتقوى, مع أنهم مشركون مرتدون مفسدون للعقول بدجلهم بهذه التمائم والحجب، ومتخذون آيات الله هزوا, ومتقربون بهذه المناسك لغير الله. فيا لله ما أشد غربة الإسلام! وإنا لله وإنا إليه راجعون.
3 وفي غير مكة باسم الزار وإخراج الجن المتلبس بالإنس. ويدقون لذلك الطبول. (*) قوله: (وكذلك أيضا ما يسمى من الطعام والشراب أو غيره نذرا أو قربة لغير الله, فكل طعام يصنع ليوزع على العاكفين عند هذه القبور والطواغيت) إلخ. أقول: هذا المقام فيه تفصيل: فإن كان المراد من ذلك من أن هذا الشرك لكونه عبادة لغير الله وتقربا إليه فهذا صحيح؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يعبد غير الله بشيء من العبادات لا نبيا ولا غيره, ولا ريب أن تقديم الطعام والشراب والنقود وغير ذلك للأموات من الأنبياء والأولياء أو غيرهم أو للأصنام ونحوها رغبة ورهبة, داخل في عبادة غير الله؛ لأن العبادة لله هي ما أمر الله به ورسوله, أما إن كان مراد الشيخ حامد أن النقود والطعام والشراب والحيوانات الحية التي قدمها ملاكها للأنبياء والأولياء وغيرهم يحرم أخذها والانتفاع بها، فذلك غير صحيح؛ لأنها أموال ينتفع بها قد رغب عنها أهلها، وليست في حكم الميتة فوجب أن تكون مباحة لمن أخذها, كسائر الأموال التي تركها أهلها لمن أرادها, كالذي يتركه الزراع وجذاذ النخل من السنابل والتمر للفقراء, ويدل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الأموال التي في خزائن(6/277)
اللات, وقضى منها دين عروة بن مسعود الثقفي, ولم ير تقديمها للات مانعا من أخذها عند القدرة عليها. ولكن يجب على من رأى من يفعل ذلك من الجهلة والمشركين أن ينكر عليه، ويبين له أن ذلك من الشرك حتى لا يظن أن سكوته عن الإنكار أو أخذه لها إن أخذ منها شيئا دليل على جوازها وإباحة التقرب بها إلى غير الله سبحانه, ولأن الشرك أعظم المنكرات فوجب إنكاره على من فعله، لكن إذا كان الطعام مصنوعا من لحوم ذبائح المشركين أو شحمها أو مرقها فإنه حرام؛ لأن ذبيحتهم في حكم الميتة فتحرم، وينجس بها ما خالطته من الطعام, بخلاف الخبز ونحوه ما لم يخالطه شيء من ذبائح المشركين فإنه حل لمن أخذه, وهكذا النقود ونحوها كما تقدم والله أعلم.
4 موضوع: رواه البيهقي في سننه (9/314) عن أبي هريرة مرفرعا وأورده ابن الجوزي في الموضوعات وحكم بوضعه الألباني في الضعيفة (240) وقال: "والعمدة في النهي عن هذه الذبائح الأحاديث الصحيحة في النهي عن الطيرة والله أعلم" ا.هـ.(6/278)
ص -147- ... بتحريمه; لأنه مما أهل به لغير الله.
قوله: " لعن الله من لعن والديه " يعني أباه وأمه وإن عليا. وفي الصحيح: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال:
" من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه "1.
قوله: " "لعن الله من آوى محدثا" " أي منعه من أن يؤخذ معه الحق الذي وجب عليه. و"آوى" بفتح الهمزة ممدودة أي ضمه إليه وحماه.
قال أبو السعادات: أويت إلى المنزل، وأويت غيري; وآويته. وأنكر بعضهم المقصور المتعدي.
وأما "محدثا" فقال أبو السعادات: يروى بكسر الدال وفتحها على الفاعل
والمفعول، فمعنى الكسر: من نصر جانيا وآواه وأجاره من خصمه، وحال بينه وبين أن يقتص منه. وبالفتح: هو الأمر المبتدع نفسه، ويكون معنى الإيواء فيه الرضى به والصبر عليه; فإنه إذا رضي بالبدعة وأقر فاعلها ولم ينكر عليه فقد آواه.
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "هذه الكبيرة تختلف مراتبها باختلاف مراتب الحدث في نفسه، فكلما كان الحدث في نفسه أكبر كانت الكبيرة أعظم".
قوله: "ولعن الله من غير منار الأرض" بفتح الميم علامات حدودها. قال أبو السعادات في النهاية - في مادة "تخم" - :ملعون من غير تخوم الأرض أي معالمها واحدودها، وحدها تخم قيل: أراد حدود الحرم خاصة. وقيل: هو عام في جميع الأرض، وأراد المعالم التي يهتدى بها في الطريق. وقيل: هو أن يدخل الرجل في ملك غيره فيقتطعه ظلما. قال: ويروى "تخوم" بفتح التاء على الإفراد وجمعه تخم بضم التاء والخاء".اهـ.
وتغييرها: أن يقدمها أو يؤخرها، فيكون هذا من ظلم الأرض الذي قال فيه النبي صلي الله عليه وسلم:
" من ظلم شبرا من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين "2 ففيه جواز لعن أهل الظلم من غير تعيين.(6/279)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: كتاب الإيمان (90) (146): باب بيان الكبائر وأكبرها من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
2 رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن عائشة, وعن سعيد بن زيد رضي الله عنهما.(6/280)
ص -148- ... وأما لعن الفاسق المعين ففيه قولان: أحدهما: أنه جائز. اختاره ابن الجوزي وغيره. والثاني: لا يجوز. اختاره أبو بكر عبد العزيز وشيخ الإسلام.
قوله: "وعن طارق بن شهاب أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب. قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال: مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجاوزه أحد حتى يقرب له شيئا. قالوا لأحدهما: قرب. قال: ليس عندي شي أقرب. قالوا: قرب ولو ذبابا، فقرب ذبابا. فخلوا سبيله، فدخل النار. وقالوا للآخر: قرب، قال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل فضربوا عنقه، فدخل الجنة " رواه أحمد"1.
قال ابن القيم - رحمه الله -: قال الإمام أحمد رحمه الله2 حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن سليمان بن ميسرة عن طارق بن شهاب يرفعه قال: " دخل رجل الجنة في ذباب " -الحديث.
وطارق بن شهاب: هو البجلي الأحمس، أبو عبد الله. رأى النبي صلي الله عليه وسلم وهو رجل. قال البغوي: نزل الكوفة. وقال أبو داود: رأى النبي صلي الله عليه وسلم ولم يسمع منه شيئا. قال الحافظ: إذا ثبت أنه لقي النبي صلي الله عليه وسلم فهو صحابي، وإذا ثبت أنه لم يسمع منه فروايته عنه مرسل صحابي وهو مقبول على الراجح; وكانت وفاته - على ما جزم به ابن حبان - سنة ثلاث وثمانين.
قوله: " دخل الجنة رجل في ذباب " أي من أجله.
قوله: "قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟" كأنهم تقالوا ذلك، وتعجبوا منه. فبين
لهم(6/281)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح موقوفا: رواه أحمد في الزهد (15 , 16), وأبو نعيم في الحلية (1/203) عن طارق بن شهاب عن سلمان الفارسي موقوفا بسند صحيح أفاده الدوسري في النهج السديد.
2 الحديث في كتاب الزهد ص15 س18، وفي الحلية ج1 ص203 موقوفا فيهما كليهما على سليمان في الزهد وعلى سلمان في الحلية. وهو خطأ في الحلية؛ لأن الحافظ ابن حجر قال في تعجيل المنفعة: ((سليمان بن ميسرة الأحمسي عن طارق بن شهاب، وعنه الأعمش وحبيب بن أبي ثابت, وثقه ابن معين. وقال ابن حبان في ثقات التابعين: روى عن طارق بن شهاب وله صحبة، وقال ابن خلفون في الثقات: وثقه العجلي ويحيى والنسائي)). اهـ.(6/282)
ص -149- ... صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا، فقالوا لأحدهما: قرب. قال: ليس عندي شيء أقرب. قالوا له: قرب ولو ذبابا. فقرب ذبابا، فخلوا سبيله، فدخل النار. وقالوا للآخر: قرب. فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل: فضربوا عنقه فدخل الجنة " رواه أحمد.
فيه مسائل: الأولى: تفسير {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي}1.
الثانية: تفسير {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}2.
لهم النبي صلي الله عليه وسلم ما صير هذا الأمر الحقير عندهم عظيما يستحق هذا عليه الجنة، ويستوجب الآخر عليه النار.
قوله: " فقال: مر رجلان على قوم لهم صنم " الصنم: ما كان منحوتا على صورة، ويطلق عليه الوثن كما مر 3.
قوله: "لا يجاوزه" أي لا يمر به ولا يتعداه أحد حتى يقرب إليه شيئا وإن قل.
قوله: " قالوا له: قرب ولو ذبابا فقرب ذبابا فخلوا سبيله; فدخل النار " في هذا بيان عظمة الشرك، ولو في شيء قليل، وأنه يوجب النار4. كما قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}5.
وفي هذا الحديث: التحذير من الوقوع في الشرك، وأن الإنسان قد يقع فيه وهو لا يدري أنه من الشرك الذي يوجب النار.
وفيه: أنه دخل النار بسبب لم يقصده ابتداء، وإنما فعله تخلصا من شر أهل الصنم.
الثالثة: البداءة بلعنة من ذبح لغير الله.
الرابعة: لعن من لعن والديه، ومنه أن تلعن والدي الرجل فيلعن والديك.
الخامسة: لعن من آوى محدثا، وهو الرجل يحدث شيئا يجب فيه حق لله، فيلتجئ إلى من يجيره من ذلك.
السادسة: لعن من غير منار الأرض، وهي المراسيم التي تفرق بين حقك وحق جارك، فتغيرها بتقديم أو تأخير.
السابعة: الفرق بين لعن المعين ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم.
الثامنة: هذه القصة العظيمة، وهي قصة الذباب.
التاسعة: كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده، بل فعله تخلصا من(6/283)
شرهم6.
العاشرة: معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين، كيف صبر ذلك على القتل ولم يوافقهم على طلبتهم، مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظاهر.
الحادية عشرة: أن الذي دخل النار مسلم؛ لأنه لو كان كافرا لم يقل " دخل النار في ذباب".
الثانية عشرة: فيه شاهد للحديث الصحيح " الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك "7.
وفيه: أن ذلك الرجل كان مسلما قبل ذلك، وإلا فلو لم يكن مسلما لم يقل دخل النار في ذباب.
وفيه: أن عمل القلب هو المقصود الأعظم حتى عند عبدة الأوثان، ذكره المصنف بمعناه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية : 162.
2 سورة الكوثر آية : 2.
3 قال في النهاية: كل ما عبد من دون الله بل كل ما يشغل عن الله يقال له: صنم.
4 في قرة العيون: لأنه قصد غير الله بقلبه أو انقاد بعمله فوجبت له النار, ففيه معنى حديث مسلم الذي تقدم في باب الخوف من الشرك عن جابر مرفوعا: "من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة, ومن لقيه يشرك به دخل النار". فإذا كان هذا فيمن قرب للصنم ذبابا فكيف بمن يستسمن الإبل والبقر والغنم ليتقرب بنحرها وذبحها لمن كان يعبده من دون الله, من ميت أو غائب, أو طاغوت أو مشهد أو شجر, أو حجر أو غير ذلك؟ وكان هؤلاء المشركون في أواخر هذه الأمة يعدون ذلك أفضل من الأضحية في وقتها الذي شرعت فيه, وربما اكتفى بعضهم بذلك عن أن يضحي لشدة رغبته وتعظيمه ورجائه لمن كان يعبده من دون الله; وقد عمت البلوى بهذا وما هو أعظم منه.
5 سورة المائدة آية : 72.
6 الظاهر أنه ليس متخلصا وإلا لم يدخل النار; (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان).
7 البخاري : الشهادات (2650) , ومسلم : الهبات (1623) , والنسائي : النحل (3681 ,3682 ,3683) , وأحمد (4/273).(6/284)
ص -150- ... الثالثة عشرة: معرفة أن عمل القلب هو المقصود الأعظم، حتى عند عبدة الأوثان.
قوله: " وقالوا للآخر: قرب. قال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل " ففيه بيان فضيلة التوحيد والإخلاص1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في قرة العيون: ففيه معرفة قدر الشرك في قلوب أهل الإيمان ونفرتهم عنه وصلابتهم في الإخلاص, كما في حديث أنس الذي في البخاري وغيره الآتي - إن شاء الله تعالى -: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان" , وفيه: "وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار". وفيه: تفاوت الناس في الإيمان؛ لأن هذا الرجل الذي قرب الذباب لم يكن له عمل يستحق به دخول النار قبل ما فعله مع هذا الصنم, كما هو ظاهر الحديث والله أعلم.(6/285)
ص -151- ... قال المصنف - رحمه الله -: "وفيه معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين كيف صبر على القتل ولم يوافقهم على طلبتهم مع كونهم لم يطلبوا منه إلا العمل الظاهر".
باب:" لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله"
وقول الله تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب: لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله تعالى"2.
"لا" نافية ويحتمل انها للنهي وهو أظهر. قوله: "وقول الله تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً}3 الآية" قال المفسرون: إن الله تعالى نهى رسوله عن الصلاة في مسجد الضرار، والأمة تبع له في ذلك، ثم إنه تعالى حثه على الصلاة في مسجد قباء الذي أسس من أول يوم بني على التقوى، وهي طاعة الله ورسوله صلي الله عليه وسلم وجمعا لكلمة المؤمنين، ومعقلا ومنزلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية : 108.
2 في قرة العيون: أشار - رحمه الله تعالى - إلى ما كان الناس يفعلونه في نجد وغيرها قبل دعوتهم إلى التوحيد من ذبحهم للجن لطلب الشفاء منهم لمرضاهم، ويتخذون للذبح لهم مكانا مخصوصا في دورهم. فنفى الله سبحانه الشرك بهذه الدعوة الإسلامية. فلله الحمد على زوال الشرك والبدع والفساد بطلعة الداعي إلى توحيد رب العالمين.
3 سورة التوبة آية : 108.(6/286)
ص -152- ... للإسلام وأهله، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " صلاة في مسجد قباء كعمرة " 1 وفي الصحيح.
" أن رسول الله صلي الله عليه وسلم كان يزور قباء راكبا وماشيا "2. وقد صرح أن المسجد المذكور في الآية هو مسجد قباء جماعة من السلف، منهم ابن عباس، وعروة; وعطية، والشعبي، والحسن وغيرهم.
قلت: ويؤيده قوله في الآية: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا}3 وقيل: هو مسجد رسول الله صلي الله عليه وسلم؛ لحديث أبي سعيد قال: " تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال رجل: هو مسجد قباء. وقال الآخر: هو مسجد رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: هو مسجدي هذا4 " رواه مسلم، وهو قول عمر وابنه وزيد بن ثابت وغيرهم.
قال ابن كثير: وهذا صحيح. ولا منافاة بين الآية والحديث؛ لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول الله صلي الله عليه وسلم بطريق أولى، وهذا بخلاف مسجد الضرار الذي أسس على معصية الله كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}5 فلهذه الأمور نهى الله نبيه عن القيام فيه للصلاة. وكان الذين بنوه جاءوا إلى النبي صلي الله عليه وسلم قبل خروجه إلى غزوة تبوك فسألوه أن يصلي فيه، وأنهم إنما بنوه للضعفاء وأهل العلة في الليلة الشاتية، فقال: " إنا على سفر; ولكن إذا رجعنا - إن شاء الله - فلما قفل - عليه السلام - راجعا إلى المدينة; ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعضه نزل الوحي بخبر المسجد، فبعث إليه فهدمه قبل قدومه إلى المدينة. "67.
وجه مناسبة الآية للترجمة: أن المواضع المعدة للذبح لغير الله(6/287)
يجب اجتناب الذبح فيها لله،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح: الترمذي: كتاب الصلاة (324): باب ما جاء في الصلاة في مسجد قباء. وحسنه وابن ماجة: كتاب إقامة الصلاة (1411): باب ما جاء في الصلاة في مسجد قباء والحاكم (1/487) من حديث أسيد بن ظهير الأنصاري وصححه الأرناؤوط في تخريج شرح السنة (2/344) لشواهده.
2 البخاري: كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (1193): باب من أتى مسجد قباء كل سبت. ومسلم: كتاب الحج (1399) (515): باب فضل مسجد قباء وفضل الصلاة فيه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
3 سورة التوبة آية : 108.
4 مسلم: كتاب الحج (1398) (514): باب بيان أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة.
5 سورة التوبة آية : 107.
6 ضعيف. رواه إسحاق كما في تفسير ابن كثير (2/388)، وابن جرير (11/17,18) عن جماعة من التابعين مرسلا وفيه عنعنة ابن إسحاق. أفاده الدوسري في النهج السديد (71).
7 كان أبو عامر الفاسق الخزرجي قد ذهب إلى هرقل بعد غزوة أحد, يستعديه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعده هرقل ومناه، فأرسل جماعة من قومه من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويغلبه ويرده عما هو فيه, وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه، ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم, فبنوا هذا المسجد، والذي هدمه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وحرقه مالك بن الدخشم أخو بني سالم بن عوف ومعن بن عدي أو أخوه عامر بن عدي.(6/288)
ص -153- ... كما أن هذا المسجد لما أعد لمعصية الله صار محل غضب لأجل ذلك، فلا تجوز الصلاة فيه لله. وهذا قياس صحيح يؤيده حديث ثابت بن الضحاك الآتي.
قوله: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا}1 روى الإمام أحمد وابن خزيمة وغيرهما عن عويم بن ساعدة الأنصاري:
" أن النبي صلي الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال: إن الله قد أحسن عليكم الثناء بالطهور في قصة مسجدكم، فما هذا الطهور الذي تطهرون به؟ فقالوا: والله يا رسول الله ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط، فغسلنا كما غسلوا " وفي رواية عن جابر وأنس: " هو ذاك فعليكموه " رواه ابن ماجه وابن أبي حاتم والدارقطني والحاكم2.
قوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}3 قال أبو العالية: إن الطهور بالماء لحسن ولكنهم المتطهرون من الذنوب. وفيه إثبات صفة المحبة، خلافا للأشاعرة ونحوهم.
عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: " نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة، فسأل النبي صلي الله عليه وسلم فقال: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ قالوا: لا. قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا. فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم أوف بنذرك؛ فإنه لا وفاء
قوله: "وعن ثابت بن الضحاك قال: " نذر رجل 4 أن ينحر إبلا ببوانة، فسأل النبي صلي الله عليه وسلم فقال: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا: لا. قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا. فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: أوف بنذرك؛ فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم "5 رواه أبو داود، وإسناده على شرطهما.
قوله: "عن ثابت بن الضحاك" أي ابن خليفة الأشهلي، صحابي مشهور، روى عنه أبو قلابة وغيره. مات سنة أربع وستين.
قوله: "ببوانة" بضم الباء وقيل بفتحها. قال البغوي: موضع في أسفل مكة دون يلملم. قال أبو السعادات: هضبة من وراء ينبع.
قوله: "(6/289)
فهل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟" فيه المنع من الوفاء بالنذر إذا كان في المكان وثن ولو بعد زواله. قاله المصنف - رحمه الله -.
قوله: "فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟".
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -:6 "العيد:
لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم " رواه أبو داود وإسناده على شرطهما.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية : 108.
2 حسن: أحمد (3/422) وابن خزيمة (83)، والطبراني في الكبير (17/140) وفي الصغير (2/23)، والحاكم (1/155) وصححه ووافقه الذهبي. والرواية الأخرى من حديث جابر وأنس عند ابن ماجة كتاب الطهارة (355): باب الاستنجاء بالماء. والدارقطني (1/62)، والحاكم (1/55), (2/334) وصححها ووافقه الذهبي. والحديث حسن لغيره لكثرة شواهده وطرقه وراجع النهج السديد ص (71:73).
3 سورة التوبة آية : 108.
4 روى أبو داود بعد هذا الحديث عن سارة بنت مقسم الثقفي أنها قالت: سمعت ميمونة بنت كردم قالت: "خرجت مع أبي في حجه فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسمعت الناس يقولون: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،فجعلت أبده بصري, فدنا إليه أبي وهو على ناقة, ومعه درة كدرة الكتاب، فسمعت الأعراب والناس يقولون الطبطبية الطبطبية. فدنا إليه أبي فأخذ بقدمه, قالت فأقر له ووقف فاستمع منه، فقال: يا رسول الله, إني نذرت إن ولد لي ولد ذكر أن أنحر على رأس بوانة في عقبة من الثنايا عدة من الغنم - قال: لا أعلم إلا أنها قالت خمسين - فقال رسول الله: هل بها من الأوثان شيء؟ قال: لا. قال: فأوف بما نذرت لله - الحديث".
5 صحيح: أبو داود: كتاب الأيمان والنذور (3313): باب ما يؤمر به من الوفاء بالنذر. وصححه الحافظ في التلخيص (4/180) وصححه الألباني في تخريج المشكاة (3437) وصحيح الجامع (2548).
6 في كتاب اقتضاء الصراط المستقيم.(6/290)
ص -154- ... اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائد، إما بعود السنة أو الأسبوع أو الشهر أو نحو ذلك1 والمراد به هنا الاجتماع المعتاد من اجتماع أهل الجاهلية. فالعيد يجمع أمورا منها يوم عائد، كيوم الفطر ويوم الجمعة، ومنها اجتماع فيه، ومنها أعمال تتبع ذلك من العبادات والعادات، وقد يختص العيد بمكان بعينه، وقد يكون مطلقا، وكل من هذه الأمور قد يسمى عيدا. فالزمان كقول النبي صلي الله عليه وسلم في يوم الجمعة: " إن هذا يوم قد جعله الله للمسلمين عيدا "2. والاجتماع والأعمال كقول ابن عباس: " شهدت العيد مع رسول الله صلي الله عليه وسلم "3 والمكان كقول النبي صلي الله عليه وسلم: " لا تتخذوا قبري عيدا "4. وقد يكون لفظ العيد اسما لمجموع اليوم والعمل فيه وهو الغالب، كقول النبي صلي الله عليه وسلم " دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا " 5 انتهى6.(6/291)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهي التي يسميها الناس اليوم الموالد والذكرانات التي ملأت البلاد باسم الأولياء، وهي نوع من العبادة لهم (*) وتعظيمهم. ولذلك لا يذكر الناس ويعرفون إلا من أقيمت له هذه الذكرانات ولو كان أجهل خلق الله وأفسقهم. فكلما كسدت سوق طاغوت من هؤلاء قام السدنة بهذا العيد لتحيا في نفوس العامة عبادته وتكثر الهدايا والقرابين باسمه. وقد امتلأت البلاد الإسلامية بهذه الذكرانات, وعمت بها المصيبة وعادت بها الجاهلية إلى بلاد الإسلام، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ولم ينج منها إلا نجد والحجاز فيما نعلم بفضل الله ثم بفضل آل سعود الذين قاموا بحماية دعوة الشيخ محمد عبدالوهاب.
2 ابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (1098) , ومالك : الطهارة (146).
3 البخاري : الجمعة (962) , ومسلم : صلاة العيدين (884 ,886) , والنسائي : صلاة العيدين (1569) , وأبو داود : الصلاة (1142) , وابن ماجه : إقامة الصلاة والسنة فيها (1273) , وأحمد (1/220 ,1/226 ,1/232 ,1/286 ,1/331 ,1/345 ,1/368) , والدارمي : الصلاة (1603 ,1610).
4 مسلم : صلاة المسافرين وقصرها (780) , والترمذي : فضائل القرآن (2877) , وأبو داود : المناسك (2042) , وأحمد (2/367).
5 البخاري: كتاب العيدين (952): باب سنة العيدين لأهل الإسلام. ومسلم كتاب صلاة العيدين (892)(16): باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيام العيد من حديث عائشة رضي الله عنها.
6 في قرة العيون: وقد أحدث هؤلاء المشركون أعيادا عند القبور التي تعبد من دون الله ويسمونها عيدا كمولد البدوي بمصر وغيره، بل هي أعظم لما يوجد فيها من الشرك والمعاصي العظيمة. قال المصنف - رحمه الله تعالى -: وفيه استفصال المفتي والمنع من الوفاء بالنذر بمكان عيد الجاهلية ولو بعد زواله. قلت: وفيه المنع من اتخاذ آثار المشركين محلا للعبادة؛ لكونها صارت محلا لما حرم الله من(6/292)
الشرك والمعاصي, والحديث وإن كان في النذر فيشمل كل ما كان عبادة لله فلا نفعل في هذه الأماكن الخبيثة التي اتخذت محلا لما يسخط الله تعالى, فبهذا صار الحديث شاهدا للترجمة والمصنف - رحمه الله تعالى - لم يرد التخصيص بالذبح وإنما ذكر الذبح كالمثال.وقد استشكل جعل محل اللات بالطائف مسجدا. والجواب والله أعلم: أنه لو ترك هذا المحل في هذه البلدة لكان يخشى أن تفتتن به قلوب الجهال فيرجع إلى جعله وثنا, كما كان يفعل فيه أولا فجعله مسجدا والحالة هذه ينسى فيها ما كان يفعل فيه ويذهب به أثر الشرك بالكلية، فاختص هذا المحل لهذه العلة وهي قوة المعارض والله أعلم. (*) قوله: (وهي نوع من العبادة لهم) إلخ. أقول: هذا فيه إجمال, والصواب التفصيل بأن يقال: من أقام المولد لقصد التقرب إلى صاحبه ورجاء نفعه وبركته, أو لكي يدفع عن مقيم المولد بعض الضرر ونحو ذلك, فهذا تعتبر إقامته المولد عبادة لصاحبه، فإن دعاه مع ذلك أو استغاث به أو نذر له أو ذبح له أو فعل معه شيئا من بقية أنواع العبادة، صار ذلك شركا إلى شرك, وهذا هو الذي يفعله الكثيرون ممن يقيم الموالد للنبي - صلى الله عليه وسلم -, أو للحسين - رضي الله عنه - أو للبدوي أو غيرهم. أما من أقام المولد لقصد التقرب إلى الله سبحانه ظنا منه أن ذلك من العبادات التي يحبها الله, فهذا لا يكون عابدا لصاحب المولد إذا لم يقع منه شيء من الشرك في احتفال المولد, ولكنه قد أتى بدعة لم يشرعها الله سبحانه ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -, ولا فعلها السلف الصالح رضي الله عنهم ولو كان قصده حسنا؛ لأن العبادات توقيفية لا يجوز الإتيان بشيء منها إلا بتشريع من الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم -, ولقد عظمت المصيبة بهذه الموالد وحصل بها من الشرك والفساد ما لا يحصيه إلا الله عز وجل, فإنا لله وإنا إليه راجعون, ونسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين ويمنحهم الفقه في الدين ويوفقهم لاتباع السنة وترك(6/293)
البدعة إنه سميع قريب.(6/294)
ص -155- ... قال المصنف: "وفيه استفصال المفتي والمنع من الوفاء بالنذر بمكان عيد الجاهلية ولو بعد زواله". قلت: وفيه سد الذريعة وترك مشابهة المشركين، والمنع مما هو وسيلة إلى ذلك. قوله: "فأوف بنذرك" هذا يدل على أن الذبح لله في المكان الذي يذبح فيه المشركون لغير الله. أي في محل أعيادهم، معصية؛ لأن قوله: "فأوف بنذرك" تعقيب
للوصف بالحكم بالفاء، وذلك يدل على أن الوصف سبب الحكم. فيكون سبب الأمر بالوفاء خلوه عن هذين الوصفين. فلما قالوا: "لا" قال: "أوف بنذرك" وهذا يقتضي أن كون البقعة مكانا لعيدهم، أو بها وثن من أوثانهم: مانع من الذبح بها ولو نذره. قاله شيخ الإسلام.
وقوله: " فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله " دليل على أن هذا نذر معصية لو قد وجد في المكان بعض الموانع. وما كان من نذر المعصية فلا يجوز الوفاء به بإجماع العلماء.
واختلفوا هل تجب فيه كفارة يمين؟ على قولين: هما روايتان عن أحمد. أحدهما: يجب(6/295)
ص -156- ... وهو المذهب. وروي عن ابن مسعود وابن عباس. وبه قال أبو حنيفة وأصحابه; لحديث عائشة - رضي الله عنها - مرفوعا: " لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين "1 رواه أحمد وأهل السنن2 واحتج به أحمد وإسحاق. والثاني: لا كفارة عليه. وروي ذلك عن مسروق والشعبي والشافعي؛ لحديث الباب. ولم يذكر فيه كفارة. وجوابه: أنه ذكر الكفارة في الحديث المتقدم. والمطلق يحمل على المقيد.
قوله: "ولا فيما لا يملك ابن آدم" قال في شرح المصابيح: يعني إذا أضاف النذر إلى معين لا يملكه بأن قال: إن شفى الله مريضي فلله علي أن أعتق عبد فلان ونحو ذلك. فأما إذا التزم في الذمة شيئا; بأن قال: إن شفى الله مريضي فلله علي أن أعتق رقبة، وهو في تلك الحال لا يملك ولا قيمتها، فإذا شفي مريضه ثبت ذلك في ذمته.
قوله: "رواه أبو داود وإسناده على شرطهما" أي البخاري ومسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح: أحمد (6/247)، وأبو داود (3290,3291) كتاب الأيمان والنذور: باب من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية. والترمذي (1524): كتاب النذور: باب ما جاء عن رسول الله أن لا نذر في معصية. والنسائي (7/26 , 27) كتاب الأيمان والنذور: باب كفارة النذر, وابن ماجة (2125) كتاب الكفارات: باب النذر في المعصية. وهو حديث صحيح صححه الألباني في الإرواء (2590).
2 قال الترمذي: هذا حديث لا يصح؛ لأن الزهري لم يسمع هذا الحديث من أبي سلمة، وقال غيره: لم يسمعه الزهري من أبي سلمة، وإنما سمعه من سليمان بن أرقم وسليمان متروك. وقال مثل هذا أبو داود بعد إخراجه إياه.(6/296)
ص -157- ... فيه مسائل:
الأولي: تفسير قوله {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً}1.
الثانية: أن المعصية قد تؤثر في الأرض. وكذلك الطاعة.
الثالثة: رد المسألة المشكلة إلى المسألة البينة ليزول الإشكال.
الرابعة: استفصال المفتي إذا احتاج إلى ذلك.
الخامسة: أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع.
السادسة: المنع منه إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية، ولو بعد زواله.
السابعة: المنع منه إذا كان فيه عيد من أعيادهم ولو بعد زواله.
الثامنة: أنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة؛ لأنه نذر معصية.
التاسعة: الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ولو لم يقصده.
العاشرة: لا نذر في معصية.
الحادية عشرة: لا نذر لابن آدم فيما لا يملك.
وأبو داود: اسمه سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد الأزيد السجستاني صاحب الإمام أحمد، ومصنف السنن والمراسيل وغيرهما، ثقة إمام حافظ من كبار العلماء مات سنة خمس وسبعين ومائتين. رحمه الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية : 108.(6/297)
باب:" من الشرك النذر لغير الله"
وقول الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً}1. وقوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ}2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب: من الشرك النذر لغير الله تعالى".
أي لكونه عبادة يجب الوفاء به إذا نذره لل،. فيكون النذر لغير الله تعالى شركا في العبادة.
وقوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً}3 فالآية دلت على وجوب الوفاء بالنذر ومدح من فعل ذلك طاعة لله ووقاء بما تقرب به إليه.
وقوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ}.
قال ابن كثير: "يخبر تعالى أنه عالم بجميع ما يعمله العاملون من الخيرات، من النفقات والمنذورات، وتضمن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين ابتغاء وجهه". اهـ.
إذا علمت ذلك، فهذه النذور الواقعة من عباد القبور، تقربا بها إليهم ليقضوا لهم حوائجهم وليشفعوا لهم، كل ذلك شرك في العبادة بلا ريب. كما قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}4.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الإنسان آية : 7.
2 سورة البقرة آية : 270.
3 سورة الإنسان آية : 7.
4 سورة الأنعام آية : 136.(6/298)
ص -158- ... قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: وأما ما نذر لغير الله كالنذر للأصنام والشمس
والقمر والقبور ونحو ذلك، فهو بمنزلة أن يحلف بغير الله من المخلوقات. والحالف بالمخلوقات لا وفاء عليه ولا كفارة، وكذلك العاذر للمخلوقات. فإن كلاهما شرك. والشرك ليس له حرمة، بل عليه أن يستغفر الله من هذا ويقول ما قال النبي صلي الله عليه وسلم:" من حلف وقال في حلفه: واللات والعزى فليقل لا إله إلا الله "12. وقال فيمن نذر سمعة أو نحوها دهنا لتنور به ويقول: إنها تقبل النذر كما يقوله بعض الضالين. وهذا النذر معصية باتفاق المسلمين لا يجوز الوفاء به، وكذلك إذا نذر مالا للسدنة أو المجاورين العاكفين بتلك البقعة. فإن فيهم شبها من السدنة التي كانت عند اللات والعزى ومناة، يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله. والمجاورون هناك فيهم شبه من الذين قال فيهم الخليل عليه السلام {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}3 ؟ والذين اجتاز بهم موسى - عليه السلام - وقومه، قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرائيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ}4. فالنذر لأولئك السدنة والمجاورين في هذه البقاع نذر معصية. وفيه شبه من النذر لسدنة الصلبان والمجاورين عندها، أو لسدنة الأبداد في الهند5 والمجاورين عندها 6.(6/299)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري كتاب الأيمان والنذور (6650): باب لا يحلف باللات والعزى ولا بالطواغيت, ومسلم: كتاب الإيمان (1647) (5): باب من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله من حديث عائشة رضي الله عنها.
2 رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه.
3 سورة الأنبياء آية : 52.
4 سورة الأعراف آية : 138.
5 في القاموس : البد - بضم الباء - الصنم ، معرب ، بد والجمع بددة –كقردة - وأبداد كخرج وأخراج . وهو اسم لصنم من أصنام الهنود.
6 في قرة العيون: وذلك لأن الناذر لله وحده علق رغبته به وحده لعلمه بأنه تعالى ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن, وأنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، فتوحيد القصد هو توحيد العبادة, ولهذا ترتب عليه وجوب الوفاء فيما نذره طاعة لله, والعبادة إذا صرفت لغير الله صار ذلك شركا بالله لالتفاته إلى غيره تعالى فيما يرغب فيه أو يرهب، فقد جعله شريكا لله في العبادة، فيكون قد أثبت ما نفته (لا إله إلا الله) من إلهية غير الله ولم يثبت ما أثبتته من الإخلاص, وكل هذه الأبواب التي ذكرها المصنف - رحمه الله تعالى - تدل على أن من أشرك مع الله غيره بالقصد والطلب فقد خالف ما نفته "لا إله إلا الله" فعكس مدلولها فأثبت ما نفته ونفى ما أثبتته من التوحيد، وهذا معنى قول شيخنا. وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب. فكل شرك وقع أو قد يقع فهو ينافي كلمة الإخلاص وما تضمنته من التوحيد.(6/300)
ص -159- ... وقال الرافعي في شرح المنهاج:
"وأما النذر للمشاهد التي على قبر ولي أو شيخ أو على اسم من حلها من الأولياء، أو تردد في تلك البقعة من الأولياء والصالحين، فإن قصد الناذر بذلك - وهو الغالب أو الواقع من قصود العامة - تعظيم البقعة والمشهد، أو الزاوية، أو تعظيم من دفن بها أو نسبت إليه، أو بنيت على اسمه فهذا النذر باطل غير منعقد؛ فإن معتقدهم أن لهذه الأماكن خصوصيات، ويرون أنها مما يدفع بها البلاء.
ويستجلب بها النعماء، ويستشفى بالنذر لها من الأدواء حتى إنهم ينذرون لبعض الأحجار لما قيل لهم: إنه استند إليها عبد صالح، وينذرون لبعض القبور السرج والشموع والزيت، ويقولون: إنها تقبل النذر كما يقوله البعض يعنون بذلك أنه يحصل به الغرض المأمول من شفاء مريض; أو قدوم غائب أو سلامة مال، وغير ذلك من أنواع نذر المجازاة، فهذا النذر على هذا الوجه باطل لا شك فيه، بل نذر الزيت والشمع ونحوهما للقبور باطل مطلقا. ومن ذلك نذر الشموع الكثيرة العظيمة وغيرها لقبر الخليل - عليه السلام -، ولقبر غيره من الأنبياء والأولياء؛ فإن الناذر لا يقصد بذلك الإيقاد على القبر إلا تبركا وتعظيما، ظانا أن ذلك قربة، فهذا مما لا ريب في بطلانه، والإيقاد المذكور محرم، سواء انتقع به هناك منتفع أم لا.
قال الشيخ قاسم الحنفي في شرح درر البحار:
النذر الذي ينذره أكثر العوام على ما هو مشاهد، كأن يكون للإنسان غائب أو مريض أو له حاجة، فيأتي إلى بعض الصلحاء ويجعل على رأسه سترة; ويقول: يا سيدي فلان إن رد الله غائبي أو عوفي مريضي، أو قضيت حاجتي فلك من الذهب كذا، أو من الفضة كذا، أو من الطعام كذا، أو من الماء كذا، أو من الشمع والزيت كذا. فهذا النذر باطل بالإجماع لوجوه، منها: أنه نذر لمخلوق، والنذر للمخلوق لا يجوز؛ لأنه عبادة والعبادة لا تكون لمخلوق، ومنها: أن المنذور له ميت، والميت لا يملك. ومنها أنه ظن أن الميت يتصرف في الأمور(6/301)
دون الله، واعتقاد ذلك كفر - إلى أن قال -: إذا علمت هذا فما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت وغيرها، وينقل إلى ضرائح الأولياء تقربا إليها فحرام بإجماع المسلمين.
وفي الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " من نذر أن يطيع الله فليطعه،
نقله عنه ابن نجيم في البحر الرائق، ونقله المرشدي في تذكرته وغيرهما عنه، وزاد: قد(6/302)
ص -160- ... ابتلي الناس بهذا لا سيما في مولد البدوي1.
وقال الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي في الرد على من أجاز الذبح والنذر للأولياء: فهذا الذبح والنذر إن كان على اسم فلان فهو لغير الله، فيكون باطلا. وفي التنزيل {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}2، {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَه ُ}3 والنذر لغير الله إشراك مع الله، كالذبح لغيره.
قوله: " وفي الصحيح عن عائشة – رضي الله عنها – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم – قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه".
قوله: "في الصحيح" أي صحيح البخاري.
قوله: "عن عائشة" هي أم المؤمنين، زوج النبي صلي الله عليه وسلم وابنة الصديق - رضي الله عنهما- تزوجها النبي صلي الله عليه وسلم وهي ابنة سبع سنين، ودخل بها وهي ابنة تسع4 وهي أفقه النساء مطلقا، وهي أفضل أزواج النبي صلي الله عليه وسلم إلا خديجة ففيها خلاف5 ماتت سنة سبع وخمسين على الصحيح - رضي الله عنها -.(6/303)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أحمد البدوي بطنطا لا يعرف له تاريخ صحيح, واضطربت الأقوال فيه، والمشهور أنه كان جاسوسا لدولة الملثمين. وكان داهية في المكر والخديعة. وقبره أكبر الأصنام في الديار المصرية; مثل هبل الأكبر أو اللات في الجاهلية. يؤتى عنده من أنواع الشرك الأكبر, وتقدم له النذور ويجعل له الفلاحون النصف والربع في أنعامهم وزروعهم, بل وأولادهم، فيأتي الرجل بنصف مهر ابنته ويضعه في الصندوق قائلا: هذا نصيبك يا بدوي، ويقام له كل عام ثلاثة موالد، يشد الرحال إليها الناس من أقصى القطر المصري، ويجتمع في المولد أكثر من ثلاثمائة ألف حاج إلى هذا الصنم الأكبر. عجل الله بهدمه وحرقه هو وغيره من كل صنم في مصر وغيرها.
2 سورة الأنعام آية : 121.
3 سورة الأنعام آية : 162-163.
4 عقد عليها قبل الهجرة بسنة، وبنى بها بعد الهجرة بسبعة أشهر تقريبا.
5 في قرة العيون: بل لا يقال: خديجة أفضل ولا عائشة أفضل. والتحقيق أن لخديجة من الفضائل في بدء الوحي ما ليس لعائشة من سبقها إلى الإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ،وتأييده في تلك الحال التي بدئ بالوحي فيها كما في صحيح البخاري وغيره, فما زالت كذلك حتى توفيت - رضي الله عنها - قبل الهجرة, ولعائشة من العلم والأحاديث والأحكام ما ليس لخديجة لعلمها بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن وبيان الحلال والحرام, وكان الصحابة - رضي الله عنهم - بعد وفاته صلى الله عليه وسلم يرجعون إليها فيما أشكل عليهم من أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وحديثه - صلوات الله وسلامه عليه - ورضي عن أصحابه وأزواجه.(6/304)
ص -161- ... ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه "1.
فيه مسائل:
الأولى: وجوب الوفاء بالنذر.
الثانية: إذا ثبت كونه عبادة لله فصرفه إلى غيره شرك.
الثالثة: أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به.
قوله: " من نذر أن يطيع الله فليطعه " أي فليفعل ما نذره من طاعة الله. وقد أجمع العلماء على أن من نذر طاعة لشرط يرجوه، كإن شفى الله مريضي فعلي أن أتصدق بكذا ونحو ذلك وجب عليه، إن حصل له ما علق نذره على حصوله. وحكي عن أبي حنيفة: أنه لا يلزم الوفاء إلا بما جنسه واجب بأصل الشرع كالصوم، وأما ما ليس كذلك كالاعتكاف فلا يجب عليه الوفاء به.
قوله: " ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " زاد الطحاوي: "وليكفر عن يمينه" وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز الوفاء بنذر المعصية.
قال الحافظ: اتفقوا على تحريم النذر في المعصية، وتنازعوا: هل ينعقد موجبا للكفارة أم لا؟ وتقدم. وقد يستدل بالحديث على صحة النذر في المباح; كما هو مذهب أحمد وغيره، يؤيده ما رواه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأحمد والترمذي عن بريدة: " أن امرأة قالت: يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف،
فقال: أوفي بنذرك "2. وأما نذر اللجاج والغضب فهو يمين عند أحمد، فيخير بين فعله وكفارة يمين؛ لحديث عمران بن حصين مرفوعا: " لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين "3 رواه سعيد بن منصور وأحمد والنسائي، فإن نذر مكروها كالطلاق استحب أن يكفر ولا يفعله.(6/305)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : الأيمان والنذور (6696 ,6700) , والترمذي : النذور والأيمان (1526) , والنسائي : الأيمان والنذور (3806 ,3807 ,3808) , وأبو داود : الأيمان والنذور (3289) , وابن ماجه : الكفارات (2125 ,2126) , وأحمد (6/36 ,6/41 ,6/208 ,6/224) , ومالك : النذور والأيمان (1031) , والدارمي : النذور والأيمان (2338).
2 صحيح: أبو داود (3312) كتاب الأيمان والنذور: باب ما يؤمر به من الوفاء بالنذر وإسناده حسن, وأحمد (5/353 , 356) والترمذي، (3690) كتاب المناقب :باب في مناقب عمر بن الخطاب وقال: حسن صحيح غريب. وقال الألباني في الإرواء (8/314): ((إسناده صحيح على شرط مسلم)).
3 ضعيف: أحمد (4/433,440,443)، والنسائي (7/28) كتاب الأيمان والنذور: باب كفارة النذر. وضعفه الألباني في الإرواء (2587).(6/306)
ص -162- ... باب:" من الشرك الاستعاذة بغير الله"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله باب "من الشرك الاستعاذة بغير الله".
"الاستعاذة" الالتجاء والاعتصام، ولهذا يسمى المستعاذ به: معاذا وملجأ. فالعائذ بالله قد هرب مما يؤذيه أو يهلكه إلى ربه ومالكه واعتصم واستجار به والتجأ إليه، وهذا تمثيل، وإلا فما يقوم بالقلب من الالتجاء إلى الله; والاعتصام به، والانطراح بين يدي الرب، والافتقار إليه والتذلل له أمر لا تحيط به العبارة. قاله ابن القيم - رحمه الله -.
وقال ابن كثير: "الاستعاذة هي الالتجاء إلى الله والالتصاق بجنابه من شر كل ذي شر. والعياذ يكون لدفع الشر. واللياذ لطلب الخير". انتهى.
قلت: وهي من العبادات التي أمر الله تعالى بها عباده; كما قال تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}1. وأمثال ذلك في القرآن كثير كقوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}2 و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}3. فما كان عبادة لله فصرفه لغير الله شرك في العبادة، فمن صرف شيئا من هذه العبادات لغير الله جعله شريكا لله في عبادته، ونازع الرب في إلهيته، كما أن من صلى لله وصلى لغيره يكون عابدا لغير الله ولا فرق، كما سيأتي تقريره قريبا إن شاء الله تعالى.
قوله: وقول الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} 4.(6/307)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة فصلت آية : 36.
2 سورة الفلق آية : 1.
3 سورة الناس آية : 1.
4 في قرة العيون: قال أبو جعفر بن جرير - رحمه الله تعالى - في تفسيره هذه الآية عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: كان رجال من الإنس يبيت أحدهم بالوادي في الجاهلية، فيقول: أعوذ بعزيز هذا الوادي فزادهم ذلك إثما. وقال بعضهم: فزاد الإنس والجن باستعاذتهم بالجن باستعاذتهم بعزيزهم جراءة عليهم وازدادوا هم بذلك إثما. وقال مجاهد: فازداد الكفار طغيانا، وقال ابن زيد: وزادهم الجن خوفا.(6/308)
ص -163- ... قال ابن كثير: أي كنا نرى أن لنا فضلا على الإنس؛ لأنهم كانوا يعوذون بنا، أي إذا نزلوا واديا أو مكانا موحشا من البراري وغيرها كما كانت عادة العرب في جاهليتها يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجان أن يصيبهم بشيء يسوءهم، كما كان أحدهم يدخل بلاد أعدائه في جوار رجل كبير وذمامه وخفارته، فلما رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم زادوهم رهقا، أي خوفا وإرهابا وذعرا، حتى يبقوا أشد منهم مخافة وأكثر تعوذا بهم - إلى أن قال - قال أبو العالية والربيع وزيد بن أسلم: "رهقا" أي خوفا. وقال العوفي عن ابن عباس: "فزادوهم رهقا" أي إثما، وكذا قال قتادة" اهـ.
وذاك أن الرجل من العرب كان إذا أمسى بواد قفر وخاف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، يريد كبير الجن. وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز الاستعاذة بغير الله.
وقال ملا علي قاري الحنفي: لا يجوز الاستعاذة بالجن، فقد ذم الله الكافرين على ذلك وذكر الآية وقال: قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}1 فاستمتاع الإنس بالجني في قضاء حوائجه وامتثال أوامره وإخباره بشيء من المغيبات، واستمتاع الجني بالإنسي تعظيمه إياه، واستعاذته به وخضوعه له. انتهى ملخصا.
قال المصنف: "وفيه أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية لا يدل على أنه ليس من الشرك".
قوله: "وعن خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك " رواه مسلم.
هي خولة بنت حكيم بن أمية السلمية، يقال: لها(6/309)
أم شريك، ويقال: إنها هي الواهبة2
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية : 128.
2 التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم.(6/310)
ص -164- ... وكانت قبل تحت عثمان بن مظعون.
قال ابن عبد البر: وكانت صالحة فاضلة.
قوله: " أعوذ بكلمات الله التامات " شرع الله لأهل الإسلام أن يستعيذوا به بدلا عما يفعله أهل الجاهلية من الاستعاذة بالجن، فشرع الله للمسلمين أن يستعيذوا بأسمائه وصفاته.
قال القرطبي: قيل: معناه الكاملات التي لا يلحقها نقص ولا عيب، كما يلحق كلام البشر. وقيل: معناه الشافية الكافية. وقيل: الكلمات هنا هي القرآن؛ فإن الله أخبر عنه بأنه: {هُدىً وَشِفَاءٌ}1 .وهذا الأمر على جهة الإرشاد إلى ما يدفع به الأذى.
ولما كان ذلك استعاذة بصفات الله تعالى كان من باب المندوب إليه المرغب فيه، وعلى هذا فحق المستعيذ بالله أو بأسمائه وصفاته أن يصدق الله في التجائه إليه، ويتوكل في ذلك عليه; ويحضر ذلك في قلبه; فمتى فعل ذلك وصل إلى منتهى طلبه ومغفرة ذنبه.
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "وقد نص الأئمة كأحمد وغيره على أنه لا يجوز الاستعاذة بمخلوق. وهذا مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق. قالوا: لأنه ثبت عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه استعاذ بكلمات الله وأمر بذلك، ولهذا نهى العلماء عن التعازيم والتعاويذ التي لا يعرف معناها خشية أن يكون فيها شرك".
وقال ابن القيم: "ومن ذبح للشيطان ودعاه، واستعاذ به وتقرب إليه بما يحب فقد عبده، وإن لم يسم ذلك عبادة ويسميه استخداما، وصدق، هو استخدام من الشيطان له، فيصير من خدم الشيطان وعابديه، وبذلك يخدمه الشيطان; لكن خدمة الشيطان له ليست خدمة عباد؛، فإن الشيطان لا يخضع له ولا يعبده كما يفعل هو به" اهـ.
قوله: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ}3 قال ابن القيم - رحمه الله -: أي من كل شر في أي مخلوق قام به الشر من حيوان أو غيره، إنسيا كان أو جنيا، أو هامة4 أو دابة، أو ريحا أو صاعقة، أو أي نوع كان من أنواع البلاء في الدنيا والآخرة.(6/311)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة فصلت آية : 44.
3 سورة الفلق آية : 2.
4 الهامة: ما كان أهل الجاهلية يتوهمونه طائرا أو شبهه تتصور فيه روح المقتول لا تزال تنادي على قبره بالأخذ بثأره. وهي خرافة من خرافاتهم أبطلها الإسلام, وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر".(6/312)
ص -165- ... و "ما" هاهنا موصولة، وليس المراد بها العموم الإطلاقي، بل المراد التقييدي الوصفي. والمعنى: من شر كل مخلوق فيه شر، لا من شر كل ما خلقه الله؛ فإن الجنة والملائكة والأنبياء ليس فيهم شر، والشر يقال على شيئين: على الألم، وعلى ما يفضي إليه.
قوله: " لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك " قال القرطبي: "هذا خبر صحيح وقول صادق علمنا صدقه دليلا وتجربة؛ فإني منذ سمعت هذا الخبر عملت عليه فلم يضرني شيء إلى أن تركته، فلدغتني عقرب بالمهدبة ليلا، فتفكرت في نفسي فإذا بي قد نسيت أن أتعوذ بتلك الكلمات".
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية الجن.
الثانية: كونه من الشرك.
الثالثة: الاستدلال على ذلك الحديث؛ لأن العلماء يستدلون به على أن كلمات الله غير مخلوقة. قالوا: لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك.
الرابعة: فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره.
الخامسة: أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية من كف شر أو جلب نفع لا يدل على أنه ليس من الشرك.
باب:" من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره".
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: الاستغاثة هي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة كالاستنصار طلب النصر، والاستعانة طلب العون.
وقال غيره: الفرق بين الاستغاثة والدعاء أن الاستغاثة لا تكون إلا من المكروب، والدعاء أعم من الاستغاثة؛ لأنه يكون من المكروب وغيره. فعطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص. فبينهما عموم وخصوص مطلق، يجتمعان في مادة وينفرد(6/313)
ص -166- ... الدعاء عنها في مادة; فكل استغاثة دعاء، وليس كل دعاء استغاثة.
وقوله: "أو يدعو غيره" اعلم أن الدعاء نوعان: دعاء عبادة; ودعاء مسألة، ويراد به في القرآن هذا تارة، وهذا تارة، ويراد به مجموعهما. فدعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر، ولهذا أنكر الله على من يدعو أحدا من دونه ممن لا يملك ضرا ولا نفعا; كقوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}1. وقوله: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}2. وقال: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ}3.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العباده، قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}4. وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ}5. وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً}6. وقال تعالى: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ(6/314)
وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ}7. وأمثال هذا في القرآن في دعاء المسألة أكثر من أن يحصر، وهو يتضمن دعاء العبادة؛ لأن السائل أخلص سؤاله لله، وذلك من أفضل العبادات، وكذلك الذاكر لله والتالي لكتابه ونحوه، طالب من الله في المعنى، فيكون داعيا عابدا.
فتبين بهذا من قول شيخ الإسلام أن دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة، كما أن دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، وقد قال تعالى عن خليله: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً}8 فصار الدعاء من أنواع العبادة، فإن قوله {عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً}9 كقول زكريا:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية : 76.
2 سورة الأنعام آية : 71.
3 سورة يونس آية : 106.
4 سورة الأعراف آية : 55.
5 سورة الأنعام آية : 40-41.
6 سورة الجن آية : 18.
7 سورة الرعد آية : 14.
8 سورة مريم آية : 48-49.
9 سورة مريم آية : 48.(6/315)
ص -167- ... {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً}1. وقد أمر الله تعالى به في مواضع من كتابه كقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}2. وهذا هو دعاء المسألة المتضمن للعبادة; فإن الداعي يرغب إلى المدعو ويخضع له ويتذلل.
وضابط هذا: أن كل أمر شرعه الله لعباده وأمرهم به ففعله لله عبادة، فإذا صرف من تلك العبادة شيئا لغير الله فهو مشرك مصادم لما بعث الله به رسوله من قوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي}3.
وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
قال شيخ الإسلام - رحمه الله - في الرسالة السنية: "فإذا كان على عهد النبي صلي الله عليه وسلم ممن انتسب إلى الإسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضا من الإسلام لأسباب منها: الغلو في بعض المشايخ; بل الغلو في علي ابن أبي طالب، بل الغلو في المسيح، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يقول: يا سيدي فلان انصرني أو أغثني; أو ارزقني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال. فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قُتل؛ فإن الله - سبحانه وتعالى - إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب؛ ليُعبد وحده لا شريك له، ولا يُدعَى معه إله آخر. والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل المسيح والملائكة والأصنام، لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تُنزل المطر أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو يعبدون صورهم، يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}4 {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ(6/316)
شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}5 فبعث الله سبحانه رسله تنهى عن أن يُدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة". اهـ.
وقال أيضا: "من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم كفر إجماعا".
نقله عن صاحب الفروع وصاحب الإنصاف وصاحب الإقناع وغيرهم. وذكره شيخ الإسلام ونقلته عنه في الرد على ابن جِرْجيس في مسألة الوسائط.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة مريم آية : 4.
2 سورة الأعراف آية : 55-56.
3 سورة الزمر آية : 14.
4 سورة الزمر آية : 3.
5 سورة يونس آية : 18.(6/317)
ص -168- ... وقال ابن القيم - رحمه الله -: ومن أنواعه - يعني الشرك - طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم والتوجه إليهم. وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فضلا عمن استغاث به أو سأله أن يشفع له إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، وسيأتي تتمة كلامه في باب الشفاعة إن شاء الله تعالى.
وقال الحافظ محمد بن عبد الهادي - رحمه الله - في رده على السبكي في قوله: "إن المبالغة في تعظيمه - أي الرسول - واجبة".
إن أريد به المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظيما، حتى الحج إلى قبره والسجود له، والطواف به، واعتقاد أنه يعلم الغيب، وأنه يعطي ويمنع، ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع، وأنه يقضي حوائج السائلين ويفرج كربات المكروبين، وأنه يشفع قيمن يشاء، ويدخل الجنة من يشاء فدعوى المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك، وانسلاخ من جملة الدين.
وفي الفتاوي البزازية من كتب الحنفية: قال علماؤنا: من قال أرواح المشايخ حاضرة تعلم: يكفر.
وقال الشيخ صنع الله الحنفي رحمه الله - في كتابه في الرد على من ادعى أن للأولياء تصرفات في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة: هذا وإنه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يَدّعون أن للأولياء تصرفات بحياتهم وبعد مماتهم، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات وبهممهم تكشف المهمات، فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات، مستدلين أن ذلك منهم كرامات وقالوا: منهم أبدال ونقباء، وأوتاد ونجباء، وسبعون وسبعة، وأربعون وأربعة، والقطب هو الغوث للناس، وعليه المدار بلا التباس، وجوزوا لهم الذبائح والنذور، وأثبتوا لهم فيهما الأجور، قال: وهذا كلام فيه تفريط وإفراط، بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي؛ لما فيه من روائح الشرك المحقق، ومصادمة الكتاب العزيز المصدق، ومخالفة لعقائد الأئمة وما اجتمعت عليه الأمة. وفي التنزيل: {وَمَنْ(6/318)
يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}1.
ثم قال: فأما قولهم: إن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات، فيرده قوله تعالى: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}2 {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ}3
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية : 115.
2 سورة النمل آية : 60.
3 سورة الأعراف آية : 54.(6/319)
ص -169- ... {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}1 ونحوها من الآيات الدالة على أنه المنفرد بالخلق والتدبير والتصرف والتقدير، ولا شيء لغيره في شيء ما بوجه من الوجوه، فالكل تحت ملكه وقهره تصرفا وملكا، وإماتة وخلقا. وتمدح الرب - تبارك وتعالى - بانفراده بملكه في آيات من كتابه كقوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ}2 {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}3 وذكر آيات في هذا المعنى.
ثم قوله: فقوله في الآيات كلها "من دونه" أي من غيره. فإنه هام يدخل فيه من اعتقدته، من ولي وشيطان تستمده، فإن من لم يقدر على نصر نفسه كيف يمد غيره؟ إلى أن قال: إن هذا لقول وخيم، وشرك عظيم، إلى أن قال: وأما القول بالتصرف بعد الممات فهو أشنع وأبدع من القول بالتصرف في الحياة. قال جل ذكره:
{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}4، {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً}5، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}6 {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}7 وفي الحديث: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث "8 الحديث9.
فجميع ذلك وما هو نحوه دال على انقطاع الحس والحركة من الميت، وأن أرواحهم ممسكة وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة ونقصان، فدل ذلك على أنه ليس للميت تصرف في ذاته فضلا عن غيره. فإذا عجز عن حركة نفسه، فكيف يتصرف في غيره؟ فالله سبحانه يخبر أن الأرواح عنده، وهؤلاء الملحدون يقولون: إن الأرواح مطلقة متصرفة {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ}10.
قال: وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات(6/320)
لهم من الكرامات، فهو من المغالطة؛ لأن الكرامة شيء من عند الله يكرم به أولياءه، لا قصد لهم فيه ولا تحدي، ولا قدرة ولا علم، كما في قصة مريم بنت عمران، وأسيد بن حضير، وأبي مسلم الخولاني.
قال: وأما قولهم فيستغاث بهم في الشدائد، فهذا أقبح مما قبله وأبدع لمصادمته قوله جل ذكره: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}11 {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران آية : 189.
2 سورة فاطر آية : 3.
3 سورة فاطر آية : 13-14.
4 سورة الزمر آية : 30.
5 سورة الزمر آية : 42.
6 سورة آل عمران آية : 185.
7 سورة المدثر آية : 38.
8 مسلم: كتاب الوصية (1631) (14): باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
9 رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة.
10 سورة البقرة آية : 140.
11 سورة النمل آية : 62.(6/321)
ص -170- ... هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ}1 وذكر آيات في هذا المعنى، ثم قال: فإنه - جل ذكره - قرر أنه الكاشف للضر لا غيره، وأنه المنفرد بإجابة المضطرين، وأنه المستغاث لذلك كله، وأنه القادر على دفع الضر، القادر على إيصال الخير. فهو المنفرد بذلك، فإذا تعين هو - جل ذكره - خرج غيره من ملك ونبي وولي.
قال: والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسية في قتال، أو إدراك عدو أو سبع أو نحوه، كقولهم: يا لزيد، يا للمسلمين، بحسب الأفعال الظاهرة، وأما الاستغاثة بالقوة والتأثير أو في الأمور المعنوية من الشدائد، كالمرض وخوف الغرق والضيق والفقر وطلب الرزق ونحوه فمن خصائص الله لا يطلب فيه غيره.
قال: وأما كونهم معتقدين التأثير منهم في قضاء حاجاتهم كما تفعله جاهلية العرب والصوفية الجهال، وينادونهم ويستنجدون بهم، فهذا من المنكرات. فمن اعتقد أن لغير الله من نبي أو ولي أو روح أو غير ذلك في كشف كربة وغيره على وجه الإمداد منه: أشرك مع الله، إذ لا قادر على الدفع غيره ولا خير إلا خيره.
قال: وأما ما قالوا إن منهم أبدالا ونقباء وأوتادا ونجباء وسبعين وسبعة وأربعين وأربعة والقطب هو الغوث للناس. فهذا من موضوعات إفكهم. كما ذكره القاضي المحدث في سراج المريدين، وابن الجوزي وابن تيمية. انتهى باختصار.
والمقصود أن أهل العلم ما زالوا ينكرون هذه الأمور الشركية التي عمت بها البلوى واعتقدها أهل الأهواء، فلو تتبعنا كلام العلماء المنكرين لهذه الأمور الشركية لطال الكتاب. والبصير النبيل يدرك الحق من أول دليل، ومن قال قولا بلا برهان فقوله ظاهر البطلان، مخالف ما عليه أهل الحق والإيمان المتمسكون بمحكم القرآن، المستجيبون لداعي الحق والإيمان. والله المستعان وعليه التكلان.(6/322)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية : 63-64.(6/323)
ص -171- ... قال: وقوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ َ}1.
قال ابن عطية: معناه قيل لي: "ولا تدع" فهو عطف على "أقم" وهذا الأمر والمخاطبة للنبي صلي الله عليه وسلم. إذا كانت هكذا فأحرى أن يحذر من ذلك غيره. والخطاب خرج مخرج الخصوص وهو عام للأمة.
قال أبو جعفر ابن جرير في هذه الآية: يقول - تعالى ذكره -: ولا تدع يا محمد من دون معبودك وخالقك شيئا لا ينفعك في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يضرك في دين ولا دنيا، يعني بذلك الآلهة والأصنام، يقول: لا تعبدها راجيا نفعها أو خائفا ضرها فإنها لا تنفع ولا تضر. فإن فعلت ذلك فدعوتها من دون الله {فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ}3 يقول من المشركين بالله الظالم لنفسه4.
قلت: وهذه الآية لها نظائر كقوله: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ}5. وقوله: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ}6. ففي هذه الآيات بيان أن كل مدعو يكون إلها، والإلهية حق لله لا يصلح منها شيء لغيره. ولهذا قال: {لا إِلَهَ إِلا هُوَ}7 كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}8 وهذا هو التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه; كما قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}9. والدين: كل ما يدان الله به من العبادات الظاهرة والباطنة. وفسره ابن جرير في تفسيره بالدعاء، وهو فرد من أفراد العبادة، على عادة السلف في التفسير، يفسرون الآية ببعض أفراد(6/324)
معناها، فمن صرف منها شيئا لقبر أو صنم أو وثن أو غير ذلك، فقد اتخذه معبودا وجعله شريكا لله في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يونس آية : 106.
3 سورة يونس آية : 106.
4 فالظلم في هذه الآية هو الشرك كما قال تعالى على لسان لقمان وهو يعظ ابنه: (31: 13) {يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم} بل هو أظلم الظلم كما في الحديث عن ابن مسعود: "أظلم الظلم أن تجعل لله ندا وهو خلقك"؛ لأنه اغتصاب حق الربوبية من العبادة والدعاء والنذر ونحوه, وصرفه للعبد الذي لا يستحقه.
5 سورة الشعراء آية : 213.
6 سورة القصص آية : 88.
7 سورة القصص آية : 88.
8 سورة الحج آية : 62.
9 سورة البينة آية : 5.(6/325)
ص -172- ... الإلهية التي لا يستحقها إلا هو، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}1. فتبين بهذه الآية ونحوها أن دعوة غير الله كفر وشرك وضلال.
وقوله: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ}23 فإنه المنفرد بالملك والقهر، والعطاء والمنع، والضر والنفع، دون كل ما سواه. فيلزم من ذلك أن يكون هو المدعو وحده، المعبود وحده; فإن العبادة لا تصلح إلا لمالك الضر والنفع. ولا يملك ذلك ولا شيئا منه غيره تعالى، فهو المستحق للعبادة وحده، دون من لا يضر ولا ينفع. وقوله تعالى: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}5. وَقَالَ {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}6. فهذا ما أخبر به الله تعالى في كتابه من تفرده بالإلهية والربوبية، ونصب الأدلة على ذلك. فاعتقد عبّاد القبور والمشاهد نقيض ما أخبر به الله تعالى، واتخذوهم(6/326)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المؤمنون آية : 117.
2 سورة يونس آية : 107.
3 في قرة العيون: هذا في حق المستغيث أخبر الله تعالى أنه هو الذي يتفضل على من سأله، ولا يقدر أحد أن يمنعه شيئا من فضل الله عليه. فهو المعطي والمانع, لا مانع لما أعطى, ولا معطي لما منع. وفي هذا المعنى ما في حديث ابن عباس. وفيه: "واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك". فمن تدبر هذه الآية وما في معناها علم أن ما وقع فيه الأكثر من دعوة غير الله هو الظلم العظيم, والشرك الذي لا يغفر, وأنهم قد أثبتوا ما نفته "لا إله إلا الله" من الشرك في الإلهية; ونفوا ما أثبتته من الإخلاص كما قال تعالى: (39: 2) (فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص ).
والدين هو طاعة الله فيما أمر به وشرعه, ونهى عنه وحرمه. وأعظم ما أمر به التوحيد والإخلاص، وأن لا يقصد العبد بشيء من عمله سوى الله تعالى الذي خلقه لعبادته, وأرسل بذلك رسله, وأنزل به كتبه (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) وأعظم ما نهى عنه: الشرك به في ربوبيته وإلهيته.
5 سورة الزمر آية : 38.
6 سورة فاطر آية : 2.(6/327)
ص -173- ... شركاء لله في استجلاب المنافع ودفع المكاره، بسؤالهم والالتجاء إليهم بالرغبة والرهبة والتضرع، وغير ذلك من العبادات التي لا يستحقها إلا الله تعالى، واتخذوهم شركاء لله في ربوبيته وإلهيته. وهذا فوق شرك كفار العرب القائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}1، {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}2 فإن أولئك يدعونهم ليشفعوا لهم ويقربوهم إلى الله، وكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك، لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك.
وأما هؤلاء المشركون فاعتقدوا في أهل القبور والمشاهد ما هو أعصم من ذلك، فجعلوا لهم نصيبا من التصرف والتدبير، وجعلوهم معاذا لهم وملاذا في الرغبات والرهبات {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ}3.
وقوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}4 أي لمن تاب إليه.
قال: "وقوله تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}5".
وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ}6.
يأمر تعالى عباده بابتغاء الرزق منه وحده دون ما سواه ممن لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا، فتقديم الظرف يفيد الاختصاص. وقوله: {وَاعْبُدُوهُ} من عطف العام على الخاص؛ فإن ابتغاء الرزق عنده من العبادة التي أمر الله بها.
قال العماد ابن كثير - رحمه الله تعالى -: {فَابْتَغُوا} أي فاطلبوا {عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} أي لا عند غيره. لأنه المالك له، وغيره لا يملك شيئا من ذلك: {وَاعْبُدُوهُ} أي أخلصوا له العبادة وحده لا شريك له {وَاشْكُرُوا لَهُ} أي على ما أنعم عليكم {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي يوم القيامة فيجازي كل عامل بعمله.
قال: "وقوله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ(6/328)
الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}7".
نفى سبحانه أن يكون أحد أضل ممن يدعو غيره. وأخبر أنه لا يستجيب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية : 3.
2 سورة يونس آية : 18.
3 سورة الطور آية : 43.
4 سورة يونس آية : 107.
5 سورة العنكبوت آية : 17.
6 سورة الأحقاف آية : 5.
7 سورة الأحقاف آية : 5-6.(6/329)
ص -174- ... له ما طلب منه إلى يوم القيامة. والآية تعم كل ما يدعى من دون الله، كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً}1. وفي هذه الآية أخبر أنه لا يستجيب وأنه غافل عن داعيه {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}2 فتناولت الآية كل داع وكل مدعو من دون الله3.
{وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}4.
قال أبو جعفر ابن جرير في قوله: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً}5 يقول - تعالى ذكره -: وإذا جُمع الناس ليوم القيامة في موقف الحساب كانت هذه الآلهة التي يدعونها في الدنيا لهم أعداء؛ لأنهم يتبرءون منهم {وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}6 يقول - تعالى ذكره -: وكانت آلهتهم التي يعبدونها في الدنيا بعبادتهم جاحدين؛ لأنهم يقولون يوم القيامة: ما أمرناهم ولا شعرنا بعبادتهم إيانا. تبرأنا إليك منهم يا ربنا، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُوا سُبْحَانَكَ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً}7.(6/330)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الإسراء آية : 56.
2 سورة الأحقاف آية : 6.
3 في قرة العيون: وأخبر أن المدعو لا يستجيب لما طلب منه من ميت أو غائب, أو ممن لا يقدر على الاستجابة مطلقا من طاغوت ووثن, فليس لمن دعا غير الله إلا الخيبة والخسران. ثم قال تعالى: (وهم عن دعائهم غافلون) كما قال في آية يونس (10: 28 , 29) (ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين ) ثم قال: (46: 6) (وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين). فلا يحصل للمشرك يوم القيامة إلا نقيض قصده, فيتبرأ منه ومن عبادته وينكر ذلك عليه أشد الإنكار، وقد صار المدعو للداعي عدوا; ثم أخبر تعالى أن ذلك الدعاء عبادة بقوله: {وكانوا بعبادتهم كافرين} فدلت أيضا على أن دعاء غير الله عبادة له وأن الداعي له في غايه الضلال. وقد وقع من هذا الشرك في هذه الأمة ما عم وطم, حتى أظهر الله من يبينه بعد أن كان مجهولا عند الخاصة والعامة إلا من شاء الله تعال،; وهو في الكتاب والسنة في غاية البيان، لكن القلوب انصرفت إلى ما زين لها الشيطان, كما جرى للأمم مع الأنبياء والمرسلين لما دعوهم إلى توحيد الله جرى لهم من شدة العداوة ما ذكره الله تعالى, كما قال تعالى: (51: 52 , 53) {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول الله إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون}. ويشبه هذه الآية في المعنى (35: 13 , 14){ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير} أخبر تعالى أن ذلك الدعاء شرك بالله وأنه لا يغفره لمن لقيه به، فتدبر هذه الآيات وما في معناها كقوله: (72: 18) {وأن المساجد لله فلا(6/331)
تدعوا مع الله أحدا} (72: 20) (قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا) وهو في القرآن أكثر من أن يستقصى.
4 سورة الأحقاف آية : 6.
5 سورة الأحقاف آية : 6.
6 سورة الأحقاف آية : 6.
7 سورة الفرقان آية : 17-18.(6/332)
ص -175- ... قال ابن جرير: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}1 من الملائكة والإنس والجن2 وساق بسنده عن مجاهد قال: عيسى وعزير والملائكة.
ثم قال: يقال تعالى ذكره3 قالت الملائكة الذين كان هؤلاء المشركون يعبدونهم من دون الله وعيسى: تنزيها لك يا ربنا وتبرئة مما أضاف إليك هؤلاء المشركون {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}4 نواليهم {أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ}5 انتهى.
قلت: وأكثر ما يستعمل الدعاء في الكتاب والسنة واللغة ولسان الصحابة ومَن بعدهم من العلماء: في السؤال والطلب، كما قال العلماء من أهل اللغة وغيرهم: الصلاة لغة الدعاء، وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}6 الآيتين وقال: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً}7، وَقَالَ: {وَإِذَا مَسَّ الأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً}8، وَقَالَ: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ}9 وَقَالَ: {لا يَسْأَمُ الْأِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ}10 الآية. وقال: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}11 الآية.
وفي حديث أنس مرفوعا: " الدعاء مخ العبادة "12 وفي الحديث الصحيح: " ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة "13 .وفي آخر: " من لم يسأل الله يغضب عليه "14 وحديث: "ليس شيء أكرم على الله من الدعاء "15 رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصححه. وقوله: "الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ونور السماوات والأرض"16 رواه الحاكم وصححه. وقوله:" سلوا الله كل شيء حتى الشِّسع إذا انقطع "17 الحديث. وقال ابن عباس رضي الله عنه: " أفضل العبادة الدعاء "18 وقرأ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}19 الآية.20 رواه ابن المنذر والحاكم(6/333)
وصححه. وحديث: " اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان "21 الحديث.
وحديث: 22" اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " وأمثال هذا في الكتاب والسنة أكثر من أن يحصر، في الدعاء الذي هو السؤال والطلب، فمن جحد كون السؤال والطلب عبادة فقد صادم النصوص وخالف اللغة واستعمال الأمة سلفا وخلفا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الفرقان آية : 17.
2 سياق ابن جرير هكذا; يقول تعالى ذكره: ويوم نحشر هؤلاء المكذبين بالساعة العابدين الأوثان وما يعبدون من دون الله من الملائكة والإنس والجن.
3 أي عند تفسير قوله تعالى: (قالوا سبحانك -إلى قوله- وكانوا قوما بورا) .
4 سورة الفرقان آية : 18.
5 سورة سبأ آية : 41.
6 سورة فاطر آية : 13.
7 سورة الأنعام آية : 63.
8 سورة يونس آية : 12.
9 سورة فصلت آية : 51.
10 سورة فصلت آية : 49.
11 سورة الأنفال آية : 9.
12 تقدم تخريجه برقم [77].
13 حسن: الترمذي: (3479): كتاب الدعوات: باب (66)، والحاكم (1/ 493) من حديث أبي هريرة وحسنه الألباني لشواهده. وراجع الصحيحة (596) وصحيح الجامع (243).
14 حسن: أحمد (2/ 442 , 443)، والترمذي (3373) كتاب الدعوات: باب [22]، وابن ماجة [3827] كتاب الدعاء: باب فضل الدعاء، والحاكم [1/ 491] والبخاري في الأدب المفرد [658] من حديث أبي هريرة وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره (4/ 85): إسناده لا بأس به وحسنه الأرناءوط في تخريج جامع الأصول (4/ 166) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2414).
15 حسن: أحمد (2/ 362) والترمذي (3370) في الدعوات: باب ما جاء في فضل الدعاء وحسنه وابن ماجة [3829] في الدعاء: باب فضل الدعاء وابن حبان (2397)، والحاكم (1/ 490) وصححه ووافقه الذهبي وحسنه الألباني في صحيح الجامع (3268) وحسنه الأرناؤوط في تخريج شرح السنة (د/ 188).
16(6/334)
موضوع: الحاكم (1/ 492)، وأبو يعلى كما في المجمع (10/ 147) وقال الهيتمي: "وفيه محمد بن الحسن بن أبي يزيد وهو متروك" ا هـ وأشار إلى أنه حديث موضوع الألباني في الضعيفة (179).
17 موضوع: الحاكم (1/ 492)، وأبو يعلى كما في المجمع (10/ 147)، وقال الهيتمي: "وفيه محمد بن الحسن بن أبي يزيد وهو متروك" ا هـ وأشار إلى أنه حديث موضوع الألباني في الضعيفة (179).
18 موطأ مالك : كتاب النداء للصلاة (498) وكتاب الحج (963).
19 سورة غافر آية : 60.
20 حسن: أخرجه الحاكم (1/ 49) من طريقين عن ابن عباس وحسنه الألباني في الصحيحة (1579).
21 صحيح: جزء من حديث طويل رواه أبو داود (1495) كتاب الدعاء، والنسائي (3/ 52): كتاب السهو: باب الدعاء بعد الذكر وقد دعا به النبي صلى الله عليه وسلم عقب التشهد، وابن ماجة في الدعاء (3858): باب اسم الله الأعظم من حديث أنس وصححه ابن حبان (2382- موارد)، والحاكم (1/ 503 , 504) ووافقه الذهبي وقال الأرناؤوط في تخريج شرح السنة (1/ 36 , 37 ) وإسناده صحيح. ا هـ .
22 صحيح: جزء من حديث طويل لبريدة رضي الله عنه رواه أبو داود: كتاب الصلاة (1493): باب الدعاء، والنسائي في السهو (3/ 52): باب الدعاء بعد الذكر والترمذي: كتاب الدعوات (3475) باب جامع الدعوات عن النبي صلى الله عليه وسلم وابن ماجة بنحوه: في الدعاء (3857): باب اسم الله الأعظم، وأحمد (5/ 360) وصححه ابن حبان (2383- موارد)، والحاكم (1/ 504) وأقره الذهبي وقال الأرناؤوط في تخريج شرح السنة (1/ 38) "وإسناده صحيح".(6/335)
ص -176- ... وأما ما تقدم من كلام شيخ الإسلام، وتبعه العلامة ابن القيم رحمهما الله تعالى من أن الدعاء نوعان: دعاء مسألة ودعاء عبادة. وما ذكر بينهما من التلازم وتضمن أحدهما للآخر. فذلك باعتبار كون الذاكر والتالي والمصلي والمتقرب بالنسك وغيره طالبا في المعنى. فيدخل في مسمى الدعاء بهذا الاعتبار، وقد شرع الله تعالى في الصلاة الشرعية من دعاء المسألة ما لا تصح الصلاة إلا به; كما في الفاتحة وبين السجدتين وفي التشهد، وذلك عبادة كالركوع والسجود. فتدبر هذا المقام يتبين لك جهل الجاهلين بالتوحيد.
ومما يبين هذا المقام ويزيده إيضاحا قول العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى - في قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ}1: وهذا الدعاء المشهور أنه دعاء المسألة. قالوا: كان النبي صلي الله عليه وسلم يدعو ربه ويقول مرة: "يا الله"، ومرة: "يا رحمن"، فظن المشركون أنه يدعو إلهين فأنزل الله هذه الآية. ذكر هذا عن ابن عباس - رضي الله عنهما -. وقيل: إن الدعاء هنا بمعنى التسمية، والمعنى: أيّ اسم سميتموه به من أسماء الله تعالى، إما "الله" وإما "الرحمن" فله الأسماء الحسنى. وهذا من لوازم المعنى في الآية. وليس هو عين المراد. بل المراد بالدعاء معناه المعهود المطّرد في القرآن. وهو دعاء السؤال ودعاء الثناء.
ثم قال: إذا عرف هذا فقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً}2 يتناول نوعي الدعاء لكنه ظاهر في دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، ولهذا أمر بإخفائه. قال الحسن: "بين دعاء السر ودون العلانية سبعون ضعفا. ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ولم يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم". وقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}3 يتناول نوعي الدعاء، وبكل منهما فسرت الآية. قيل: أعطيه(6/336)
إذا سألني، وقيل: أثيبه إذا عبدني; وليس هذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، بل هذا استعماله في حقيقته الواحدة المتضمنة للأمرين جميعا. وهذا يأتي في مسألة الصلاة وأنها نقلت عن مسماها في اللغة وصارت حقيقة شرعية، واستعملت في هذه العبادة مجازا للعلاقة بينهما وبين المسمى اللغوي، وهي باقية على الوضع اللغوي، وضم إليها أركان وشرائط. فعلى ما قررناه لا حاجة إلى شيء من ذلك؛ فإن المصلي من أول صلاته إلى آخرها لا ينفك عن دعاء: إما دعاء عبادة وثناء، أو دعاء طلب ومسألة، وهو في الحالين داع. اهـ مخلصا من البدائع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الإسراء آية : 110.
2 سورة الأعراف آية : 55.
3 سورة البقرة آية : 186.(6/337)
ص -177- ... قال: "وقوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}1" بين تعالى أن المشركين من العرب ونحوهم، قد علموا أنه لا يجيب المضطر ويكشف السوء إلا الله وحده2، فذكر ذلك سبحانه محتجا عليهم في اتخاذهم الشفعاء من دونه، ولهذا قال: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}3 يعني يفعل ذلك. فإذا كانت آلهتهم لا تجيبهم في حال الاضطرار فلا يصلح أن يجعلوها شركاء لله الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء وحده. وهذا أصح ما فسرت به الآية كسابقتها من قوله: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}4. ولاحقتها إلى قوله: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُون أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}5 .
فتأمل هذه الآيات يتبين لك أن الله تعالى احتج على المشركين بما أقروا به
وروى الطبراني بإسناده " أنه كان في زمن النبي صلي الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، قال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلي الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي: إنه لا يُستغاث بي، وإنما يستغاث بالله " 6.
على ما جحدوه(6/338)
من قَصْر العبادة جميعها عليه، كما في فاتحة الكتاب {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}7 .
قال أبو جعفر ابن جرير: قوله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}8 إلى قوله: {قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} يقول - تعالى ذكره -: "أم ما تشركون بالله خير، أم الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء النازل به عنه؟ وقوله: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ}9 يقول: يستخلف بعد أمواتكم في الأرض منكم خلفاء أحياء يخلفونهم، وقوله: {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}10 أإله سواه يفعل هذه الأشياء بكم وينعم عليكم هذه النعم ؟ وقوله: {قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}11
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النمل آية : 62.
2 في قرة العيون: وهذا مما أقر به مشركو العرب وغيرهم في جاهليتهم كما قال تعالى: (30: 65) (فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون) أخبر تعالى أنهم يخلصون الدعاء له إذا وقعوا في شدة.
3 سورة النمل آية : 60.
4 سورة النمل آية : 60-61.
5 سورة النمل آية : 63-64.
7 سورة الفاتحة آية : 5.
8 سورة النمل آية : 62.
9 سورة النمل آية : 62.
10 سورة النمل آية : 62.
(5) سورة النمل آية : 62.
(6) ضعيف: رواه الطبراني كما في المجمع (10/159). وفي إسناده ضعف، فيه ابن لهيعة ضعيف مختلط، وراجع النهج السديد (161).(6/339)
ص -178- ... يقول تذكرا قليلا من عظمة الله وأياديه عندكم تذكرون، وتعتبرون حجج الله عليكم يسيرا. فلذلك أشركوا بالله غيره في عبادته". اهـ.
قوله: "وروى الطبراني أنه كان في زمن النبي منافق يؤذي المؤمنين. فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلي الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلي الله عليه وسلم : "إنه لا يستغاث بي; وإنما يستغاث بالله".
الطبراني: هو الإمام الحافظ سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني، صاحب المعاجم الثلاثة وغيرها. روى عن النسائي وإسحاق بن إبراهيم الديري وخلق كثير. مات سنة ستين وثلاثمائة. روى هذا الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
قوله: "أنه كان في زمن النبي صلي الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين" لم أقف على اسم هذا المنافق.
قلت: هو عبد الله بن أبيّ كما صرح به ابن أبي حاتم في روايته.
قوله: "فقال بعضهم" أي الصحابة رضي الله عنهم هو أبو بكر رضي الله عنه.
فيه مسائل:
الأولى: أن عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص .
الثانية: تفسير قوله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ}1 .
الثالثة: أن هذا هو الشرك الأكبر .
الرابعة: أن أصلح الناس لو يفعله إرضاء لغيره صار من الظالمين .
الخامسة: تفسير الآية التي بعدها .
السادسة: كون ذلك لا ينفع في الدنيا مع كونه كفرا .
السابعة: تفسير الآية الثالثة.2
الثامنة: إن طلب الرزق لا ينبغي إلا من الله، كما أن الجنة لا تطلب إلا منه .
التاسعة: تفسير الآية الرابعة .
العاشرة: أنه لا أضل ممن دعا غير الله .
الحادية عشرة: أنه غافل عن دعاء الداعي لا يدري عنه.3
الثانية عشرة: أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو الداعي وعداوته له.
قوله: "قوموا بنا نستغيث برسول الله صلي الله عليه وسلم من هذا المنافق"؛ لأنه صلي الله عليه وسلم يقدر على كف أذاه. 4(6/340)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يونس آية : 106.
2 يعني (فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون).
3 يعني أن المدعو غافل عن دعاء الداعي بما هو مشغول به في قبره من نعيم، إن كان من المؤمنين الصالحين, كالحسين وأبيه – رضي الله عنهما -, أو من عذاب أليم, كالتجاني المشرك الخبيث، وابن عربي الحاتمي أكبر الدعاة إلى وحدة الوجود، وابن الفارض وأشباههما ممن اتخذه الناس وليا معبودا لعظم ما بني عليه من القبة، أو بالظنون واتباع الأهواء، وهم كثير جدا, بل أكثر أولئك الطواغيت منهم، ومن أرباب الطرق الدجالين.
(4) في قرة العيون : فلعله أراد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يترك المنافقين أن يفعل بهم ما يستحقونه مخافة أن يفتتن بعض المؤمنين من قبيلة المنافق ، وفي السنة ما يدل على ذلك، كما فعل مع ابن أبي وغيره. وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقدر أن يغيثهم من ذلك المنافق فيكون نهيه صلى الله عليه وسلم عن الاستغاثة به حماية لجناب التوحيد، وسدا لذرائع الشرك ، كنظائره مما للمستغاث به قدرة عليه مما كان يستعمل لغة وشرعا مخافة أن يقع من أمته استغاثة بمن لا يضر ولا ينفع ولا يسمع ولا يستجيب من الأموات والغائبين ، والطواغيت والشياطين والأصنام وغير ذلك . وقد وقع من هذا الشرك العظيم ما عمت به البلوى مما تقدم ذكره حتى أنهم أشركوه مع الله في ربوبيته وتدبير أمر خلقه كما أشركوهم معه في ألوهيته وعبوديته؛ والوسائل لها حكم الغايات في النهي عنها والله أعلم.(6/341)
ص -179- ... الثالثة عشرة: تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو .
الرابعة عشرة: كفر المدعو بتلك العبادة .
الخامسة عشرة: هي سبب كونه أضل الناس .
السادسة عشرة: تفسير الآية الخامسة.1
السابعة عشرة: الأمر العجيب، وهو إقرار عبدة الأوثان أنه لا يجيب المضطر إلا الله، ولأجل هذا يدعونه في الشدائد مخلصين له الدين .
الثامنة عشرة: حماية المصطفى صلي الله عليه وسلم حِمى التوحيد والتأدب مع الله.
قوله: "إنه لا يستغاث بي; وإنما يستغاث بالله" فيه النص على أنه لا يستغاث بالنبي صلي الله عليه وسلم ولا بمن دونه. كره صلي الله عليه وسلم أن يستعمل هذا اللفظ في حقه، وإن كان مما يقدر عليه في حياته؛ حماية لجناب التوحيد، وسدا لذرائع الشرك، وأدبا وتواضعا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في سورة (10: 49) (قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله) .(6/342)
ص -180- ... لربه، وتحذيرا للأمة من وسائل الشرك في الأقوال والأفعال. فإذا كان فيما يقدر عليه صلي الله عليه وسلم في حياته، فكيف يجوز أن يستغاث به بعد وفاته ويطلب منه أمور لا يقدر عليها إلا الله عز وجل؟ كما جرى على ألسنة كثير من الشعراء كالبوصيري1 والبرعي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مثل قوله في البردة: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العمم. ويزعمون أن البوصيري أعظم من مدح النبي صلى الله عليه وسلم ويذكرونه أكثر مما يذكرون حسان بن ثابت وغيره من الصحابة - رضي الله عنهم -; لأنهم في زعمهم لم يبلغوا من الغلو والإطراء ما بلغ البوصيري. وهذا هو الغلو الذي جر إلى الشرك والكفر برسول الله صلى الله عليه وسلم كما كفرت النصارى بعيسى بن مريم - عليه السلام - من طريق هذا الغلو. وقد حذرنا الله منه في كتابه الكريم بقوله: (4: 171) (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق). وحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم: " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فأنا عبد الله ورسوله" صلى الله عليه وسلم . وإنما تعظيمه صلى الله عليه وسلم وحبه باتباع سنته وإقامة ملته ودفع كل ما يلصقه الجاهلون بها من الخرافات. فقد ترك أكثر الناس هذا وشغلوا بهذا الغلو والإطراء الذي أوقعهم في هذا الشرك العظيم. ونحمد الله أن عافانا بفضله وجعلنا مؤمنين برسول الله صلى الله عليه وسلم معظمين له ومحبين بما يحبه الله ورسوله لنا على مثل ما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان. وقد عظمت المصيبة بهذا الشرك حتى اتخذ أعداء الرسول -الزاعمون جهلا وكذبا حبه- هذه البردة وردا كالقرآن وأعظم من القرآن; وكتبوها مجودة بماء الذهب كما كتبوا القرآن, وربما اشتدت عنايتهم بها أكثر من القرآن. فلا حول ولا قوة إلا بالله.(6/343)
ص -181- ... باب: قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} 1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وغيرهم، من الاستغاثة بمن لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، ويعرضون عن الاستغاثة بالرب العظيم القادر على كل شيء الذي له الخلق والأمر وحده، وله الملك وحده، لا إله غيره ولا رب سواه. قال تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ}2 في مواضع من القرآن3 {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً}4. فأعرض هؤلاء عن القرآن واعتقدوا نقيض ما دلت عليه هذه الآيات المحكمات، وتبعهم على ذلك الضلال الخلق الكثير والجم الغفير، فاعتقدوا الشرك بالله دينا، والهدى ضلالا، فإنه لله وإنا إليه راجعون. فما أعظمها من مصيبة عمت بها البلوى فعاندوا أهل التوحيد وبدعوا أهل التجريد; فالله المستعان.
قوله: "باب قول الله تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ}5".
قوله: {أَيُشْرِكُونَ} أي في العبادة. قال المفسرون: في هذه الآية توبيخ وتعنيف(6/344)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 191.
2 سورة الأعراف آية : 188.
3 يعني (أمن يجيب المضطر إذا دعاه) فبالجمع بين الآيتين يظهر أنه لا يقدر أحد من المدعوين أن يجيب الداعي إلا الله. 4 سورة الجن آية : 21.
5 في قرة العيون: وهذا مما احتج به تعالى على المشركين لما وقع منهم من اتخاذ الشفعاء والشركاء في العبادة؛ لأنهم مخلوقون فلا يصلح أن يكونوا شركاء لمن هم خلقه وعبيده. وأخبر أنهم مع ذلك لا يستطيعون لهم نصرا, أي لمن سألهم النصرة (ولا أنفسهم ينصرون) فإذا كان المدعو لا يقدر على أن ينصر نفسه فلأن لا ينصر غيره من باب الأولى.فبطل تعلق المشرك بغير الله بهذين الدليلين العظيمين, وهو كونهم عبيدا لمن خلقهم لعبادته، والعبد لا يكون معبودا. الدليل الثاني: أنه لا قدرة لهم على نفع أنفسهم فكيف يرجى منهم أن ينفعوا غيرهم. فتدبر هذه الآية وأمثالها في القرآن العظيم.(6/345)
ص -182- ... للمشركين في عبادتهم مع الله تعالى ما لا يخلق شيئا وهو مخلوق، والمخلوق لا يكون شريكا للخالق في العبادة التي خلقهم لها، وبيّن أنهم لا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون، فكيف يشركون به من لا يستطيع نصر عابديه ولا نصر نفسه؟ وهذا برهان ظاهر على بطلان ما كانوا يعبدونه من دون الله، وهذا وصف كل مخلوق، حتى الملائكة والأنبياء والصالحين. وأشرف الخلق محمد صلي الله عليه وسلم قد كان يستنصر ربه على المشركين ويقول:
"اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أحول وبك أصول، وبك أقاتل "1.
وهذا كقوله: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً}2. وقوله: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}3. وقوله: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ}4 .
فكفى بهذه الآيات برهانا على بطلان دعوة غير الله كائنا من كان. فإن كان نبيا أو صالحا فقد شرفه الله تعالى بإخلاص العبادة له، والرضاء به ربا ومعبودا، فكيف يجوز أن يجعل العابد معبودا مع توجيه الخطاب إليه بالنهي عن هذا الشرك كما قال تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}5. وَقَالَ: {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ}6. فقد أمر عباده من الأنبياء والصالحين وغيرهم بإخلاص العبادة له(6/346)
وحده، ونهاهم أن يعبدوا معه غيره، وهذا هو دينه الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه، ورضيه لعباده، وهو دين الإسلام، كما روى البخاري عن أبي هريرة في سؤال جبريل - عليه السلام - قال:
" يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم ومضان "7 الحديث.
وقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح: أخرجه أبو داود (2623) في الجهاد: باب ما يدعى عند اللقاء، والترمذي (3584) في الدعوات: باب في الدعاء إذا غزا من حديث أنس. وصحح إسناده الألباني في تخريج الكلم الطيب (125) وقال: ولبعضه شاهد من حديث صهيب أخرجه أحمد (6/ 16) بسند صحيح, ا هـ .
2 سورة الفرقان آية : 3.
3 سورة الأعراف آية : 188.
4 سورة الجن آية : 21-22-23.
5 سورة القصص آية : 88.
6 سورة يوسف آية : 40.
7 البخاري: كتاب الإيمان (50): باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم . ورواه أيضا مسلم (9), (10) كتاب الإيمان: باب الإسلام والإيمان والإحسان.(6/347)
ص -183- ... وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}1
إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}2 يخبر تعالى عن حال المدعوين من دونه من الملائكة والأنبياء والأصنام وغيرها بما يدل على عجزهم وضعفهم وأنهم قد انتفت عنهم الأسباب التي تكون في المدعو وهي الملك، وسماع الدعاء، والقدرة على استجابته، فمتى لم توجد هذه الشروط تامة بطلت دعوته فكيف إذا عُدمت بالكلية؟ فنفى عنهم الملك بقوله: {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}3 قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة، وعطاء والحسن وقتادة "القطمير: اللفافة التي تكون على نواة التمر". كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ}4. وَقَالَ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}5 ونفى عنهم سماع الدعاء بقوله: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا}؛ لأنهم ما بين ميت وغائب عنهم، مشتغل بما خلق له، مسخر بما أمر به كالملائكة، ثم قال: {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ}؛ لأن ذلك ليس لهم; فإن الله تعالى لم يأذن لأحد من عباده في دعاء أحد منهم، لا استقلالا ولا واسطة، كما تقدم بعض أدلة ذلك. وقوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} فتبين بهذا أن دعوة غير الله
شرك.6 وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ(6/348)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة فاطر آية : 13-14.
2 في قرة العيون: يخبر الخبير أن الملك له وحده، والملوك وجميع الخلق تحت تصرفه وتدبيره, ولهذا قال: (والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير) فإن من كانت هذه صفته فلا يجوز أن يرغب في طلب نفع أو دفع ضر إلى أحد سواه تعالى وتقدس، بل يجب إخلاص الدعاء له الذي هو من أعظم أنواع العبادة، وأخبر تعالى أن ما يدعوه أهل الشرك لا يملك شيئا وأنهم لا يسمعون دعاء من دعاهم. ولو فرض أنهم يسمعون فلا يستجيبون لداعيهم وأنهم يوم القيامة يكفرون بشركهم, أي ينكرونه ويتبرءون ممن فعله معهم; ذلك الدعاء شرك به, وأنه لا يغفره لمن لقيه به, فأهل الشرك ما صدقوا الخبير ولا أطاعوه فيما حكم به وشرع, بل قالوا: إن الميت يسمع; ومع سماعه ينفع; فتركوا الإسلام والإيمان رأسا كما ترى عليه الأكثرين من جهلة هذه الأمة.
3 سورة فاطر آية : 13.
4 سورة النحل آية : 73.
5 سورة سبأ آية : 22-23.
6 وتبين أنهم كانوا يدعون عبادا صالحين يتبرءون من الشرك الذي هو دعاء غير الله، ويتبرءون من أولئك المشركين الزاعمين حب أولئك الصالحين وأنهم محسوبون عليهم.(6/349)
ص -184- ... عَلَيْهِمْ ضِدّاً}1 وقوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ}2. قال ابن كثير: يتبرأون منكم، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}3 .
قال وقوله: {لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ}4 أي ولا يخبرك بعواقب الأمور ومآلها وما تصير إليه مثل خبير بها. قال قتادة: يعني نفسه تبارك وتعالى. فإنه أخبر بالواقع لا محالة.
قلت: والمشركون لم يسلموا للعليم الخبير ما أخبر به عن معبوداتهم فقالوا: تملك وتسمع وتستجيب وتشفع لمن دعاها 5، ولم يلتفتوا إلى ما أخبر به الخبير من أن كل معبود يعادي عابده يوم القيامة ويتبرأ منه، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}6 أخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: قال مجاهد: {إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} 7. قال يقول ذلك كل شيء كان يعبد من دون الله.
فالكيِّس يستقبل هذه الآيات التي هي الحجة والنور والبرهان بالإيمان والقبول والعمل، فيجرد أعماله لله وحده دون كل ما سواه ممن لا يملك لنفسه نفعا ولا دفعا، فضلا عن غيره.
قوله: "وفي الصحيح عن أنس رضي الله عنه قال: شُجَّ النبي صلي الله عليه وسلم يوم أحد وكسرت رباعيته. فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ فنزلت(6/350)
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}8".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة مريم آية : 81-82.
2 سورة فاطر آية : 14.
3 سورة الأحقاف آية : 5-6.
4 سورة فاطر آية : 14.
5 يعني قالوا ذلك بلسان حالهم؛ لأنهم أصروا على دعائهم والاستغاثة بهم بعد أن وبخهم الله بأن الذي يستغاث به ويدعى لا بد أن يكون سميعا بصيرا بيده الخير. والذي يدل على أنهم لم يكونوا يقولون ذلك بصريح القول: ما حكى الله من جواب قوم إبراهيم وأبيه لما سألهم (هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون ) فإنهم أعرضوا عن الجواب الصريح عن السؤال. وقالوا: (بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ) فجوابهم هذا حيدة عن الجواب المطابق للسؤال.
6 سورة يونس آية : 28-29-30.
7 سورة يونس آية : 29.
8 سورة آل عمران آية : 128.(6/351)
ص -185- ... قوله: "في الصحيح" أي الصحيحين. علقه البخاري. قال: وقال حميد وثابت عن أنس. ووصله أحمد والترمذي والنسائي عن حميد عن أنس. ووصله مسلم عن ثابت عن أنس. وقال ابن إسحاق في المغازي: حدثنا حميد الطويل عن أنس قال: " كسرت رباعية النبي صلي الله عليه وسلم يوم أحد وشج وجهه، فجعل الدم يسيل على وجهه، وجعل يمسح الدم وهو يقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم؟ فأنزل الله الآية "1 .
قوله: "شُجَّ النبي صلي الله عليه وسلم" قال أبو السعادات: الشج في الرأس خاصة في الأصل، وهو أن يضربه بشيء فيجرحه فيه ويشقه، ثم استعمل في غيره من الأعضاء، وذكر ابن هشام من حديث أبي سعيد الخدري أن عتبة ابن أبي وقاص هو الذي كسر رباعية النبي صلي الله عليه وسلم السفلى وجرح شفته العليا2. وأن عبد الله بن شهاب الزهري هو الذي شجه في وجهه، وأن عبد الله بن قمئة جرحه في وجنته، فدخلت حلقتان من حلق
يوم أحد وكُسرت رباعيته، فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ فنزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}.
المِغْفَر في وجنته3وأن مالك بن سنان مصّ الدم من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وازدرده. فقال له " لن تمسك النار "
قال القرطبي: "والرباعية بفتح الراء وتخفيف الياء - وهي كل سن بعد ثنية - قال النووي رحمه الله: وللإنسان أربع رباعيات".
قال الحافظ: "والمراد أنها كسرت، فذهب منها فلقة ولم تقلع من أصلها".
قال النووي: وفي هذا وقوع الأسقام والابتلاء بالأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - لينالوا بذلك جزيل الأجر والثواب. ولتعرف الأمم ما أصابهم ويأتسوا بهم".
قال القاضي: "وليعلم أنهم من البشر تصيبهم محن الدنيا، ويطرأ على أجسامهم ما يطرأ(6/352)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري معلقا (7/ 281) في المغازي: غزوة أحد باب قول الله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء) . حديث حميد فوصله أحمد والترمذي والنسائي من طرق عن حميد كما في الفتح (7/ 365). أما حديث ثابت فوصله مسلم (1791) في الجهاد والسير, باب غزوة أحد من رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه.
2 روى ابن إسحاق من حديث سعد بن أبي وقاص قال: "فما حرصت على قتل رجل قط حرصي على قتل أخي عتبة لما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد".
3 في الطبراني من حديث أبي أمامة قال: "رمى عبد الله بن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فشج وجهه وكسرت رباعيته فقال: خذها وأنا ابن قمئة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يمسح الدم عن وجهه: مالك أقمأك الله. فسلط الله عليه تيس جبل, فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة".(6/353)
ص -186- ... على أجسام البشر ليتيقن أنهم مخلوقون مربوبون. ولا يفتتن بما ظهر على أيديهم من المعجزات ويلبس الشيطان من أمرهم ما لبسه على النصارى وغيرهم" انتهى.
قلت: يعني من الغلو والعبادة.
قوله: "يوم أُحد" هو شرقي المدينة. قال صلي الله عليه وسلم : " أُحد جبل يحبنا ونحبه "12 وهو جبل معروف كانت عنده الواقعة المشهورة. فأضيفت إليه.
وفيه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه سمع رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول - إذا رفع رأسه من الركوع قي الركعة الأخيرة من الفجر -: " اللهم العن فلانا وفلانا بعد ما يقول: سمع لله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}3 " الآية. 4
قوله: "كيف يفلح قوم شجوا نبيهم" زاد مسلم: " كسروا رباعيته وأدموا وجهه "5.
قوله: "فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}6"7 قال ابن عطية: كأن النبي صلي الله عليه وسلم لحقه في تلك الحال يأس من فلاح كفار قريش; فقيل له بسبب ذلك: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} أي عواقب الأمور بيد الله، فامض أنت لشأنك، ودُم على الدعاء لربك.
وقال ابن إسحاق: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}8 في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم. قوله: "وفيه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه سمع رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول - إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر:- " اللهم العن فلانا وفلانا " بعدما يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد. فأنزل الله {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}9 وفي رواية. " يدعو على صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام " فنزلت {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}".(6/354)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه البخاري كتاب الزكاة (1481): باب خرص الثمر. ومسلم: كتاب الحج (1392) (503): باب أحد جبل يحبنا ونحبه من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه وللبخاري: كتاب الاعتصام (7333): باب ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحض على اتفاق أهل العلم، ومسلم: كتاب الحج (1365) (462): باب فضل المدينة: وكتاب الحج (1393) (504): باب أحد جبل يحبنا ونحبه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
2 رواه البخاري في الصحيح عن أنس.
3 سورة آل عمران آية : 128.
4البخاري: كتاب المغازي (4069): باب قوله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. ومسلم : النذر (1641) , وأبو داود : الأيمان والنذور (3316) , وأحمد (4/430) , والدارمي : السير (2505).
5
6 سورة آل عمران آية : 128.
7 في قرة العيون: وقد قال تعالى: (قل إن الأمر كله لله) وقال تعالى: (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين). والآيات في هذا المعنى كثيرة, والمقصود أن الذي له الأمر كله والملك كله لا يستحق غيره شيئا من العبادة, ولهذا المعنى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين). فالذي ليس له من الأمر شيء وهو خيرة الله من خلقه ما زال يدعو الناس أن يخلصوا العبادة للذي له الأمر كله وهو الله تعالى, فهذا دينه صلى الله عليه وسلم الذي بعث به، وأمر أن يبلغه أمته ويدعوهم إليه كما تقدم في باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله, فإياك أن تتبع سبيلا غير سبيل المؤمنين الذي شرعه الله ورسوله لهم وخصهم به.
8 سورة آل عمران آية : 128.
9 سورة آل عمران آية : 128.(6/355)
ص -187- ... قوله: "وفيه" أي في صحيح البخاري. ورواه النسائي.
قوله: "عن ابن عمر" هو عبد الله بن عمر بن الخطاب، صحابي جليل، شهد له رسول الله صلي الله عليه وسلم بالصلاح، مات سنة ثلاث وسبعين في آخرها أو في أول التي تليها.
قوله: "أنه سمع رسول الله" هذا القنوت على هؤلاء بعدما شج وكسرت رباعيته يوم أُحد.
قوله: "اللهم العن فلانا وفلانا" قال أبو السعادات: أصل اللعن الطرد والإبعاد من الله. ومن الخلق السب والدعاء. وتقدم كلام شيخ الإسلام - رحمه الله -.
قوله: "فلانا وفلانا" يعني صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، كما بينه في الرواية الآتية.
وفيه: جواز الدعاء على المشركين بأعيانهم في الصلاة، وأن ذلك لا يضر في الصلاة.
قوله: "بعدما يقول: سمع الله لمن حمده" قال أبو السعادات: أي أجاب حمده وتقبله. وقال السهيلي: مفعول "سمع" محذوف؛ لأن السمع متعلق بالأقوال والأصوات دون غيرها فاللام تؤذن بمعنى زائد وهو الاستجابة للسمع، فاجتمع في الكلمة الإيجاز والدلالة على الزائد، وهو الاستجابة لمن حمده.
وقال ابن القيم رحمه الله ما معناه: "سمع الله لمن حمده" باللام المتضمنة معنى استجاب له. ولا حذف وإنما هو مضمن.
قوله: "وربنا لك الحمد" في بعض روايات البخاري بإسقاط الواو. قال ابن دقيق العيد: كأن إثباتها دال على معنى زائد; لأنه يكون التقدير: ربنا استجب ولك الحمد. فيشتمل على معنى الدعاء ومعنى الخبر.
قال شيخ الإسلام: والحمد ضد الذم، والحمد يكون على محاسن المحمود مع المحبة له. كما أن الذم يكون على مساويه مع البغض له.(6/356)
ص -188- ... وكذا قال ابن القيم: وفرق بينه وبين المدح بأن الإخبار عن محاسن الغير إما أن يكون إخبارا مجردا عن حب وإرادة، أو يكون مقرونا بحبه وإرادته. فإن كان الأول فهو المدح، وإن كان الثاني فهو الحمد. فالحمد إخبار عن محاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه. ولهذا كان خبرا يتضمن الإنشاء بخلاف المدح، فإنه خبر مجرد. فالقائل إذا قال: "الحمد لله" أو قال: "ربنا ولك الحمد" تضمن كلامه الخبر عن كل ما يحمد عليه تعالى باسم جامع محيط متضمن لكل فرد من أفراد الجملة المحققة والمقدرة، وذلك يستلزم إثبات كل كمال يحمد عليه الرب تعالى، ولهذا لا تصلح هذه اللفظة على هذا الوجه ولا تنبغي إلا لمن هذا شأنه، وهو الحميد المجيد.
وفيه: التصريح بأن الإمام يجمع بين التسميع والتحميد، وهو قول الشافعي وأحمد وخالف في ذلك مالك وأبو حنيفة، وقالا: يقتصر على "سمع الله لمن حمده".
قوله: "وفي رواية: يدعو على صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام".
وذلك لأنهم رءوس المشركين يوم أحد، هم وأبو سفيان ابن حرب، فما استجيب له صلي الله عليه وسلم فيهم بل أنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ}2 فتاب عليهم فأسلموا وحسن إسلامهم. وفي كله معنى شهادة أن لا إله إلا الله الذي له الأمر كله، يهدي من يشاء بفضله ورحمته، ويضل من يشاء بعدله وحكمته.
وفي هذا من الحجج والبراهين ما يبين بطلان ما يعتقده عبّاد القبور في الأولياء والصالحين. بل في الطواغيت من أنهم ينفعون من دعاهم، ويمنعون من لاذ بحماهم. فسبحان من حال بينهم وبين فهم الكتاب. وذلك عدله سبحانه، وهو الذي يحول بين المرء وقلبه، وبه الحول والقوة.
قوله: وفيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم حين أنزل الله عليه {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}3 قال: " قام رسول الله صلي الله عليه وسلم حين أنزل عليه(6/357)
{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} فقال:
يا معشر قريش - أو كلمة نحوها - اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : المغازي (4070) , والترمذي : تفسير القرآن (3005) , وأحمد (2/118).
2 سورة آل عمران آية : 128.
3 سورة الشعراء آية : 214.(6/358)
ص -189- ... من الله شيئا. يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا. يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا. يا فاطمة بنت محمد، سليني من مالي ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا "1 .
قوله: "وفيه" أي وفي صحيح البخاري.
قوله: "عن أبي هريرة" اختلف في اسمه. وصحح النووي أن اسمه عبد الرحمن بن صخر، كما رواه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة قال: "كان اسمي في الجاهلية عبد الرحمن". وروى الدولابي بإسناده عن أبي هريرة "أن النبي صلي الله عليه وسلم سماه عبد الله". وهو دَوْسِي من فضلاء الصحابة وحفاظهم، حفظ عن النبي صلي الله عليه وسلم أكثر مما حفظه غيره2 مات سنة سبع أو ثمان أو تسع وخمسين، وهو ابن ثمان وسبعين سنة.
قوله: "قام رسول الله صلي الله عليه وسلم" في الصحيح من رواية ابن عباس: " صعد رسول الله صلي الله عليه وسلم على الصفا " .
قوله: "حين أنزل عليه {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}3" عشيرة الرجل: هم بنو أبيه الأدنون أو قبيلته؛ لأنهم أحق الناس ببرِّك وإحسانك الديني والدنيوي; كما قال
قريش - أو كلمة نحوها - اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئا.
تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}4. وقد أمره الله تعالى أيضا بالنذارة العامة، كما قال تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ}5. {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ}6 .(6/359)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري (4771) في تفسير سورة الشعراء باب قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين) . وفي الوصايا: (2753) باب هل يدخل النساء والأولاد في الأقارب.
2 روى البخاري في أول البيوع عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: "إنكم تقولون: إن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولون: ما بال المهاجرين والأنصار لا يحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث أبي هريرة؟ وأن إخوتي من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، فأشهد إذا غابوا, وأحفظ إذا نسوا, وكان يشغل إخواني من الأنصار عمل أموالهم، وكنت امرءا مسكينا من مساكين الصفة أعي حين ينسون. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث يحدثه: أنه لن يبسط أحد ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه ثم يجمع إليه ثوبه إلا وعى ما أقول. فبسطت نمرة علي حتى إذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته جمعتها إلى صدري، فما نسيت من مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك من شيء".
3 سورة الشعراء آية : 214.
4 سورة التحريم آية : 6.
5 سورة يس آية : 6.
6 سورة إبراهيم آية : 44.(6/360)
ص -190- ... قوله: "يا معشر قريش" المعشر الجماعة.
قوله: "أو كلمة نحوها" هو بنصب "كلمة" عطف على ما قبله.
قوله: "اشتروا أنفسكم" أي بتوحيد الله وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له وطاعته فيما أمر به، والانتهاء عما نهى عنه. فإن ذلك هو الذي ينجي من عذاب الله لا الاعتماد على الأنساب والأحساب؛ فإن ذلك غير نافع عند رب الأرباب.
قوله: "لا أغني عنكم من الله شيئا"1 فيه حجة على من تعلق على الأنبياء والصالحين، ورغب إليهم ليشفعوا له وينفعوه، أو يدفعوا عنه؛ فإن ذلك هو الشرك الذي حرمه الله تعالى، وأقام نبيه صلي الله عليه وسلم بالإنذار عنه، كما أخبر تعالى عن المشركين في قوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}2 {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}3. فأبطل الله ذلك ونزه نفسه عن هذا الشرك، وسيأتي تقرير هذا المقام إن شاء الله تعالى. وفي صحيح البخاري: " يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا ".
قوله: "يا عباس بن عبد المطلب" بنصب "بن" ويجوز في "عباس" الرفع والنصب. وكذا في قوله: " يا صفية عمة رسول الله، ويا فاطمة بنت محمد " .(6/361)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في قرة العيون: هذا هو معنى ما تقدم من أنه تعالى هو المتصرف فى خلقه بما شاء مما اقتضته حكمته في خلقه وعلمه بهم, والعبد لا يعلم إلا ما علمه الله, ولا ينجو أحد من عذابه وعقابه إلا بإخلاص العبادة له وحده والبراءة من عبادة ما سواه. كما قال تعالى: (5: 72) (إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ). والنبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أنذر الأقربين نذارة خاصة، وأخبر أنه لا يغني عنهم من الله شيئا, وبلغهم وأعذر إليهم. فأنذر قريشا ببطونها وقبائل العرب في مواسمها، وأنذر عمه وعمته وابنته وهم أقرب الناس إليه, وأخبر أنه لا يغني عنهم من الله شيئا إذا لم يؤمنوا به ويقبلوا ما جاء به من التوحيد وترك الشرك به، وسائر شرائع الإسلام وعباداته.
2 سورة الزمر آية : 3.
3 سورة يونس آية : 18.(6/362)
ص -191- ... قوله: "سليني من مالي ما شئت".1 بيّن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه لا ينجي من عذاب الله إلا الإيمان والعمل والصالح.
وفيه: أنه لا يجوز أن يسأل العبد إلا ما يقدر عليه من أمور الدنيا. وأما الرحمة والمغفرة والجنة والنجاة من النار ونحو ذلك من كل ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى، فلا يجوز أن يطلب إلا منه تعالى; فإن ما عند الله لا ينال إلا بتجريد التوحيد، والإخلاص له بما شرعه ورضيه لعباده أن يتقربوا إليه به، فإذا كان لا ينفع بنته ولا عمه ولا عمته ولا قرابته إلا ذلك، فغيرهم أولى وأحرى. وفي قصة عمه أبي طالب معتبر.
فانظر إلى الواقع الآن من كثير من الناس من الالتجاء إلى الأموات والتوجه إليهم بالرغبات والرهبات، وهم عاجزون لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا فضلا عن غيرهم يتبين لك أنهم ليسوا على شيء {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ}2 أظهر لهم الشيطان الشرك في قالب محبة الصالحين، وكل صالح يبرأ إلى الله من هذا الشرك في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. ولاريب أن محبة الصالحين إنما تحصل
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيتين 3.
الثانية: قصة أُحد.
الثالثة: قنوت سيد المرسلين وخلفه سادات الأولياء يؤمّنون في الصلاة .
الرابعة: أن المدعو عليهم كفار .
الخامسة: أنهم فعلوا أشياء ما فعلها غالب الكفار، منها شجّهم نبيهم وحرصهم على قتله. ومنها: التمثيل بالقتلى مع أنهم بنو عمهم .
السادسة: أنزل الله عليه في ذلك {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ}4 .
السابعة: قوله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ}5 فتاب عليهم فآمنوا .
الثامنة: القنوت في النوازل .
التاسعة: تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم .
العاشرة: لعن المعيّن في القنوت .
الحادية عشرة: قصته صلي الله عليه وسلم لما أُنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ(6/363)
الْأَقْرَبِينَ}6 .
الثانية عشرة: جده صلي الله عليه وسلم بحيث فعل ما نُسب بسببه إلى الجنون، وكذلك لو يفعله مسلم الآن .
الثالثة عشرة: قوله للأبعد والأقرب: لا أغني عنك من الله شيئا حتى قال: يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا. فإذا صرح وهو سيد المرسلين بأنه لا يغني شيئا عن سيدة نساء العالمين، وآمن الإنسان أنه صلي الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، ثم نظر فيما وقع في قلوب خواص الناس اليوم، تبين له التوحيد وغربة الدين.(6/364)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في قرة العيون: لأن هذا هو الذي يقدر عليه صلى الله عليه وسلم، وما كان أمره إلى الله سبحانه فلا قدرة لأحد عليه كما في هذا الحديث, ولما مات أبو طالب وكان يحوط رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحميه ولم ينكر ملة عبد المطلب من الشرك بالله، وقال صلى الله عليه وسلم: "لأستغفرن لك ما لم أنه عنك "، فأنزل الله تعالى: (9: 113) (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) فأخبر أن أبا طالب من أصحاب النار لما مات على غير شهادة أن لا إله إلا الله, فلم ينفعه حمايته النبي صلى الله عليه وسلم من أن يكون من المشركين، ولا الاعتراف بأن النبي صلى الله عليه وسلم على الحق بدون البراءة من الشرك؛ لأنه لم يبرأ من ملة أبيه، فكل تعلق على غير الله من طلب شفاعة أو غيرها شرك بالله يكون عليه وبالا في الدنيا والآخرة, والشفاعة لا تكون إلا لأهل الإخلاص خاصة, كما قال تعالى: (6: 51) (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع). والآيات في هذا المعنى كثيرة وكذلك الأحاديث والله أعلم. وسيأتي في باب الشفاعة إن شاء الله تعالى.
2 سورة الأعراف آية : 30.
3 يعني قوله تعالى: (لا يستطيعون لهم نصرا) وقوله: (ما يملكون من قطمير)؛ لأنه إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم لا يغني عن قرابته شيئا. فغيره أولى ان يعجز عن ضر أو نفع لنفسه أو لغيره.
4 سورة آل عمران آية : 128.
5 سورة آل عمران آية : 128.
6 سورة الشعراء آية : 214.(6/365)
ص -192- ... بموافقتهم في الدين، ومتابعتهم في طاعة رب العالمين، لا باتخاذهم أندادا من دون الله يحبونهم كحب الله إشراكا بالله، وعبادة لغير الله، وعداوة لله ورسوله والصالحين من عباده، كما قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}1 .
قال العلامة ابن القيم - رحمه الله - في هذه الآية بعد كلام سبق: "ثم نفى أن يكون قال لهم غير ما أُمر به وهو محض التوحيد، فقال: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ}. ثم أخبر أن شهادته عليهم مدة مقامه فيهم، وأنه بعد الوفاة لا اطلاع له عليهم، وأن الله عز وجل المنفرد بعد الوفاة بالاطلاع عليهم فقال: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية : 116-117.(6/366)
ص -193- ... فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} وصف الله سبحانه بأن شهادته فوق كل شهادة وأعم" اهـ.
قلت: ففي هذا بيان أن المشركين خالفوا ما أمر الله به رسله من توحيده الذي هو دينهم الذي اتفقوا عليه، ودعوا الناس إليه، وفارقوهم فيه إلا من آمن، فكيف يقال لمن دان بدينهم، وأطاعهم فيما أمروا به من إخلاص العبادة لله وحده: إنه قد تنقّصهم بهذا التوحيد الذي أطاع به ربه، واتبع فيه رسله - عليهم السلام -، ونزه به ربه عن الشرك الذي هو هضم للربوبية، وتنقّص للإلهية وسوء ظن برب العالمين؟
والمشركون هم أعداء الرسل وخصماؤهم في الدنيا والآخرة، وقد شرعوا لأتباعهم أن يتبرءوا من كل مشرك ويكفروا به، ويبغضوه ويعادوه في ربهم ومعبودهم {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}1 .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية : 149.(6/367)
ص -194- ... باب: قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِير ُ}1
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: باب "قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}2"3 .
قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ}4 أي زال الفزع عنها. قاله ابن عباس وابن عمر وأبو عبد الرحمن السلمي والشعبي والحسن وغيرهم.
وقال ابن جرير: قال بعضهم: الذين فزع عن قلوبهم: الملائكة. قالوا: وإنما فزّع(6/368)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة سبأ آية : 23.
2 سورة سبأ آية : 23.
3 في قرة العيون: وهذه الآيات تقطع عروق الشرك بأمور أربعة: (الأول) أنهم لا يملكون مثقال ذرة مع الله، والذي لا يملك مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض لا ينفع ولا يضر, فالله تعالى هو الذي يملكهم ويدبرهم ويتصرف فيهم وحده. (الثاني) قوله: (وما لهم فيهما من شرك) أي في السموات والأرض, أي وما لهم فيهما من شرك مثقال ذرة من السموات والأرض. (الثالث) قوله: (وما لهم منهم من ظهير) والظهير: المعين، فليس لله معين من خلقه, بل هو الذي يعينهم على ما ينفعهم لكمال غناه عنهم, وضرورتهم إلى ربهم فيما قل وكثر من أمور دنياهم وأخراهم. (الرابع) قوله: (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه. وأخبر تعالى أن من اتخذ شفيعا من دونه حرم شفاعة الشفعاء, قال تعالى: (10: 18) ( ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون)؛ لأن اتخاذ الشفعاء شرك لقوله تعالى في حقهم: ( سبحانه وتعالى عما يشركون). والمشرك منفية الشفاعة في حقه كما قال تعالى: (74: 48) (فما تنفعهم شفاعة الشافعين ) وقال: (6: 94) (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهرركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون)، وذلك أن متخذ الشفيع لا بد أن يرغب إليه ويدعوه ويرجوه ويخافه ويحبه لما يؤمله منه وهذه من أنواع العبادة التي لا يصرف منها شيء لغير الله، وذلك هو الشرك الذي ينافي الإخلاص.
4 سورة سبأ آية : 23.(6/369)
ص -195- ... عن قلوبهم من غشية تصيبهم عند سماعهم كلام الله بالوحي 1.
وقال ابن عطية: في الكلام حذف يدل عليه الظاهر. كأنه قال: ولا هم شفعاء كما تزعمون أنتم، بل هم عبدة مسلمون لله أبدا; يعني منقادون، حتى إذا فزع عن قلوبهم. والمراد الملائكة على ما اختاره ابن جرير وغيره.
قال ابن كثير: وهو الحق الذي لا مرية فيه; لصحة الأحاديث فيه والآثار.
وقال أبو حيان: تظاهرت الأحاديث عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أن قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ}2 إنما هي الملائكة إذا سمعت الوحي إلى جبريل يأمره الله به سمعت كَجرِّ سلسلة الحديد على الصفوان، فتفزع عند ذلك تعظيما وهيبة. قال: وبهذا المعنى - من ذكر الملائكة في صدر الآية - تتسق هذه الآية على الأولى، ومن لم يشعر أن الملائكة مشار إليهم من أول قوله: " الذين زعمتم " لم تتصل له هذه الآية بما قبلها 3.
قوله: " قالوا ماذا قال ربكم " ولم يقولوا ماذا خلق ربنا؟ ولو كان كلام الله مخلوقا لقالوا: ماذا خلق؟. انتهى من شرح سنن ابن ماجه.
ومثله الحديث: " ماذا قال ربنا يا جبريل؟ ". وأمثال هذا في الكتاب والسنة كثير.
قوله: {قَالُوا الْحَقَّ} أي قال الله الحق. وذلك لأنهم إذا سمعوا كلام الله صعقوا ثم إذا أفاقوا أخذوا يسألون، فيقولون: ماذا قال ربكم؟ فيقولون: قال الحق.
قوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}4 علو القدر وعلو القهر وعلو الذات، فله العلو الكامل من جميع الوجوه، كما قال عبد الله بن المبارك لما قيل له: بما نعرف ربنا ؟ قال: "بأنه على عرشه(6/370)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره عن ابن مسعود من عدة طرق, وساق بسنده حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري الآتي بعد صفحة. وقد قال البخاري في تفسير سورة الحجر عن علي بن عبد الله. قلت لسفيان: إن إنسانا روى عنك عن عمرو عن عكرمة عن أبي هريرة أنه قرأ "فرغ" بضم الفاء والراء المثقلة المهملة وبالغين المعجمة فقال سفيان: هكذا قرأ عمرو، ويعني ابن دينار. فلا أدري سمعه هكذا أم لا؟ قال الحافظ: وهذه القراءة رويت عن الحسن وقتادة ومجاهد، والقراءة المشهورة بالزين والعين المهملة. وقرأهما ابن عامر مبنيا للفاعل. ومعناه بالزاي والعين المهملة: أدهش الفزع عنهم. ومعنى التي بالراء والغين المعجمة ذهب عن قلوبهم ما حل فيها.
2 سورة سبأ آية : 23.
3 قال أبو حيان: ولهذا اضطرب المفسرون في تفسيرها.
4 سورة سبأ آية : 23.(6/371)
ص -196- ... بائن من خلقه" تمسكا منه بالقرآن لقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}1 {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}2 في سبعة مواضع من القرآن.
قوله: {الْكَبِيرُ} أي الذي لا أكبر منه ولا أعظم منه تبارك وتعالى.
قوله: "في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك، حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع، - ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض. " وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه - فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا:؟ كذا وكذا. فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء".3
ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم
قوله: "في الصحيح" أي صحيح البخاري 4.
قوله: "إذا قضى الله الأمر في السماء" أي إذا تكلم الله بالأمر الذي يوحيه إلى جبريل بما أراده، كما صرح به في الحديث الآتي، وكما روى سعيد بن منصور وأبو داود وابن جرير عن ابن مسعود: " إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كجر السلسلة على الصفوان "5.
وروى ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: " لما أوحى الجبار إلى محمد صلي الله عليه وسلم دعا الرسول من الملائكة ليبعثه بالوحي، فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي. فلما كشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله. فقالوا: الحق. وعلموا أن الله لا يقول إلا حقا "6.
قوله: "ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله" أي لقول الله تعالى. قال الحافظ:(6/372)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة طه آية : 5.
2 سورة الفرقان آية : 59.
3 البخاري (4800) في تفسير سورة سبأ باب (حتى إذا فزع عن قلوبهم) (4701) في التفسير: سورة الحجر: باب (إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين) .
4 رواه في تفسير قوله: (إلا من استرق السمع) من سورة الحجر, وفي تفسير سورة سبأ وغيره هذين الموضعين. حدثنا علي بن عبد الله حدثنا سفيان بن عيينة حدثنا عمرو بن دينار عن عكرمة عن أبي هريرة. ورواه مسلم وأبو داود نحو هذا.
5 أخرجه البخاري معلقا بنحوه في كتاب الترحيد (13/ 452 , 453). ووصله أبو داود (4738) في السنة: باب في القرآن. وابن خزيمة في التوحيد (ص 145). والبيهقي في الأسماء والصفات (ص 201). وغيرهم بإسناد صحيح وقد اختلف فيه على وقفه ورفعه كما في الفتح (13/ 456).
6 البخاري (2210): كتاب بدء الخلق: باب ذكر الملائكة.(6/373)
ص -197- ... خضعانا بفتحتين من الخضوع. وفي رواية بضم أوله وسكون ثانيه. وهو مصدر بمعنى خاضعين.
قوله: "كأنه سلسلة على صفوان" أي كأن الصوت المسموع سلسلة على صفوان وهو الحجر الأملس.
ذلك، حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع- ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض وصفه سفيان بكفه، فحرفها وبدد بين أصابعه- فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته.
قوله: "ينفذهم ذلك" هو بفتح التحتية وسكون النون وضم الفاء والذال المعجمة "ذلك" أي القول، والضمير في "ينفذهم" للملائكة، أي ينفذ ذلك القول الملائكة أي يخلص ذلك القول ويمضي فيهم حتى يفزعوا منه. وعند ابن مردويه من حديث ابن عباس: " فلا ينزل على أهل سماء إلا صعقوا ". وعند أبي داود وغيره مرفوعا " إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء الدنيا صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل " الحديث.
قوله: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ}1 تقدم معناه.
قوله: {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ}2 أي قالوا: قال الله الحق، علموا أن الله لا يقول إلا الحق.
قوله: "فيسمعها مسترق السمع" أي يسمع الكلمة التي قضاها الله، وهم الشياطين يركب بعضهم بعضا.
وفي صحيح البخاري عن عائشة مرفوعا: " إن الملائكة تنزل في العنان - وهو السحاب - فتذكر الأمر قُضِيَ في السماء، فتسترق الشياطين السمع; فتوحيه إلى الكهان "3 .
قوله: "ومسترق السمع هكذا وصفه سفيان بكفه" أي وصف ركوب بعضهم فوق بعض.
وسفيان: هو ابن عيينة أبو محمد الهلالي الكوفي ثم المكي، ثقة حافظ، فقيه إمام حجة، مات سنة ثمان وتسعين ومائة، وله إحدى وتسعون سنة.
ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يُدركه، فيكذب معها مائة كذبة. فقال:
قوله: "فحرّفها" بحاء(6/374)
مهملة وراء مشددة وفاء. قوله: "وبدّد" أي فرق بين أصابعه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة سبأ آية : 23.
2 سورة سبأ آية : 23.
3 صحيح: أبو داود (4738): كتاب السنة: باب في القرآن من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. وراجع رقم [145].(6/375)
ص -198- ... قوله: "فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته" أي يسمع الفوقاني الكلمة فيلقيها إلى آخر تحته، ثم يلقيها إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن. قوله: "فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها" الشهاب: هو النجم الذي يرمى به; أي ربما أدرك الشهاب المسترق، وهذا يدل على أن الرمي بالشهب قبل المبعث. لما روى أحمد وغيره - والسياق له في المسند من طريق معمر -: أنبأنا الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس قال:
" كان رسول الله صلي الله عليه وسلم جالسا في نفر من أصحابه - قال عبد الرزاق: من الأنصار- قال: فرُمي بنجم عظيم فاستنار، قال: ما كنتم تقولون إذا كان مثل هذا في الجاهلية؟ قال: كنا نقول: لعله يولد عظيم أو يموت - قلت للزهري: أكان يرمى بها في الجاهلية؟ قال: نعم، ولكن غلظت حين بعث النبي صلي الله عليه وسلم - قال: فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن - ربنا تبارك - اسمه إذا قضى أمرا سبح حملة العرش، ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، حتى يبلغ التسبيح هذه السماء الدنيا. ثم يستخبر أهل السماء الذين يلون حملة العرش، فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش: ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم، ويخبر أهل كل سماء حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء، وتخطف الجن السمع فيرمون; فما جاءوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون "12 قال عبد الله: قال أبي: قال عبد الرزاق: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا، كذا وكذا؟ فيصدّق بتلك الكلمة التي سُمعت من السماء 3"4.
وعن النوّاس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي، ويخطف الجن ويرمون ". وفي رواية له: " لكنهم يزيدون فيه ويقرفون وينقصون "5.
قوله: "فيكذب معها مائة كذبة" أي الكاهن أو الساحر.
و"كذبة" بفتح الكاف وسكون الذال المعجمة.
قوله: "فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا(6/376)
وكذا؟" هكذا في نسخة بخط
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح: أحمد في المسند (1/ 218). ورواه مسلم أيضا في السلام (2229) (124): باب تحريم الكهنة وإتيان الكهان. والترمذي (3222) في تفسير سورة سبأ وقال: هذا حديث حسن صحيح.
2 قال الحافظ ابن كثير: وقد أخرجه مسلم في صحيحه من حديث صالح بن كيسان والأوزاعي ويونس ومعقل بن عبد الله, أربعتهم عن الزهري عن علي بن الحسين عن ابن عباس عن رجل من الأنصار.
3 يعني أن قول الكاهن والساحر والعراف قد يصادف بعض الواقع؛ فيغتر الجاهلون المخرفون بذلك، ويحتجون بهذه المصادفة على تصديق كذبه الذي لا يعد، وهو مبني على افتراء الكذب على الله ودعوى معرفة الغيب الذي لا يعلمه إلا الله. وسيأتي بيانه في باب الكهان.
4 البخاري : تفسير القرآن (4701) , والترمذي : تفسير القرآن (3223) , وابن ماجه : المقدمة (194).
5 مسلم : السلام (2229) , والترمذي : تفسير القرآن (3224) , وأحمد (1/218).(6/377)
ص -199- ... المصنف، وكالذي في صحيح البخاري سواء.
قال المصنف "وفيه قبول النفوس للباطل; كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة كذبة؟".
وفيه: أن الشيء إذا كان فيه شيء من الحق فلا يدل على أنه حق كله، فكثيرا ما يلبس أهل الضلال الحق بالباطل ليكون أقبل لباطلهم، قال تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}1.
وفي هذه الأحاديث وما بعدها وما في معناها: إثبات علو الله تعالى على خلقه على ما يليق بجلاله وعظمته، وأنه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء بكلام يسمعه الملائكة، وهذا قول أهل السنة قاطبة سلفا وخلفا. خلافا للأشاعرة والجهمية; ونفاة المعتزلة. فإياك أن تلتفت إلى ما زخرفه أهل التعطيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قوله: "وعن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :" إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة- أو قال رعدة- شديدة رجفة- أو قال: رعدة- شديدة خوفا من الله عز وجل . فإذا سمع ذلك أهل السماوات صُعقوا وخرُّوا لله سجدا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: قال: الحق وهو العلي الكبير. فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل "23".(6/378)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 42.
2 ضعيف: ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (3/ 537)، ورواه أيضا ابن خزيمة في التوحيد (ص 144), وابن أبي عاصم في السنة (515).وضعفه الألباني في تخريجه للسنة (1/ 227).
3 في قرة العيون: قوله "أن يوحي بالأمر" فيه بيان معنى ما تقدم في الحديث قبله من قوله: "إذا قضى الله الأمر". قوله: "تكلم بالوحي" فيه التصريح بأنه يتكلم بالوحي فيوحيه إلى جبريل - عليه السلام - ، ففيه الرد على الأشاعرة في قولهم أن القرآن عبارة عن كلام الله. قوله: "أخذت السموات منه رجفة أو قال رعدة شديدة خوفا من الله - عز وجل -, في هذه معرفة عظمة الله، ويوجب للعبد شدة الخوف منه تعالى، وفيه إثبات العلو. قوله: (فإذا سمع ذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجدا) هيبة وتعظيما لربهم وخشية لما سمعوا من كلامه تعالى وتقدس. قوله: "فيكون أول من يرفع رأسه جبريل"؛ لأنه ملك الوحي عليه السلام. قوله: "فيكلمه الله من وحيه بما أراد" فيه التصريح بأنه تعالى يوحي إلى جبريل بما أراده من أمره كما تقدم في أول الحديث. قوله: "ثم يمر جبريل على الملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها". وهذا ايضا من أدلة علو الرب تعالى وتقدس. قوله: "ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول: (قال الحق وهو العلي الكبير). فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل; فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل" وهذا دليل بأنه تعالى قال ويقول, وأهل البدع من الجهمية ومن تلقى عنهم كالأشاعرة جحدوا ما أثبته الله تعالى في كتابه وأثبته رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته من علوه وكلامه وغير ذلك من صفات كماله التي أثبتها له رسوله، والمؤمنون من الصحابة والتابعين وتابعيهم من أهل السنة والجماعة على ما يليق بجلال الله وعظمته.(6/379)
ص -200- ... هذا الحديث رواه ابن أبي حاتم بسنده كما ذكره العماد ابن كثير في تفسيره.
النواس بن سمعان: بكسر السين، بن خالد الكلابي، ويقال: الأنصاري صحابي. ويقال: إن أباه صحابي أيضا.
قوله: "إذا أراد الله أن يوحي بالأمر" إلى آخره. فيه النص على أن الله تعالى يتكلم بالوحي، وهذا من حجة أهل السنة على النفاة: لم يزل الله متكلما إذا شاء.
قوله: "أخذت السماوات منه رجفة" السماوات مفعول مقدم، والفاعل "رجفة" أي أصاب السماوات من كلامه تعالى رجفة، أي ارتجفت. وهو صريح في أنها تسمع كلامه تعالى، كما روى ابن أبي حاتم عن عكرمة. قال: " إذا قضى الله أمرا تكلم - تبارك وتعالى - رجفت السماوات والأرض والجبال، وخرت الملائكة كلهم سجدا خوفا من الله عز وجل . فإذا سمع ذلك أهل السماوات صُعقوا وخروا سجدا،
قوله: "أو قال: رعدة شديدة" شك من الراوي. هل قال النبي صلي الله عليه وسلم رجفة، أو قال رعدة. والراء مفتوحة فيهما.
قوله: "خوفا من الله عز وجل" وهذا ظاهر في أن السماوات تخاف الله، بما يجعل(6/380)
ص -201- ... تعالى فيها من الإحساس ومعرفة من خلقها. وقد أخبر تعالى أن هذه المخلوقات العظيمة تسبحه كما قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً}1. وقال تعالى: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً}2. وقال تعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}3 وقد قرر العلامة ابن القيم - رحمه الله - أن هذه المخلوقات تسبح لله وتخشاه حقيقة، مستدلا بهذه الآيات وما في معناها.
وفي البخاري عن ابن مسعود قال: " كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل "4 وفي حديث أبي ذر: " أن النبي صلي الله عليه وسلم أخذ في يده حصيات، فسُمع لهن تسبيح "5 - الحديث وفي الصحيح: قصة حنين الجذع الذي كان يخطب عليه النبي صلي الله عليه وسلم قبل اتخاذ المنبر6.ومثل هذا كثير.
قوله: "صُعقوا وخروا لله سجدا" الصعوق هو الغشي، ومعه السجود.
فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: قال: الحق وهو العلي الكبير. فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل،
قوله: "فيكون أول من يرفع رأسه جبريل" بنصب "أول" خبر يكون مقدم على اسمها، ويجوز العكس. ومعنى جبريل: عبد الله; كما روى ابن جبير وغيره عن علي بن الحسين قال: كان اسم جبريل: عبد الله، واسم ميكائيل عُبيد الله; وإسرافيل عبد الرحمن. وكل شيء رجع إلى "ايل" فهو مُعبّد لله عز وجل . وفيه فضيلة جبريل - عليه السلام -. كما قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ}7.
قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: إن هذا القرآن(6/381)
لتبليغ رسول كريم. وقال أبو صالح في الآية8: "جبريل يدخل في سبعين حجابا من نور بغير إذن".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الإسراء آية : 44.
2 سورة مريم آية : 90.
3 سورة البقرة آية : 74.
4 جزء من حديث طويل رواه البخاري (3579): كتاب المناقب: باب علامات النبوة في الإسلام.
5 ضعيف: قال الهيثمي في المجمع (8/ 299): رواه البزار بإسنادين ورجال أحدهما ثقات وفي بعضهم ضعف.. وأشار إلى طريق آخر له عند الطبراني في الأوسط، وضعفه الحافظ في الفتح (6/ 592).
6 البخاري (3583), (3584) كتاب المناقب: باب علامات النبوة في الإسلام. من حديث ابن عمر وجابر رضي الله عنهما.
7 سورة التكوير آية : 19-21.
8 أي في قوله: (ذي قوة عند ذي العرش مكين) كما ساق ذلك الحافظ ابن كثير، وقد نقلها الشارح رحمه الله مختصرة.(6/382)
ص -202- ... ولأحمد بإسناد صحيح عن ابن مسعود قال: " رأى رسول الله صلي الله عليه وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح; كل جناح منها قد سد الأفق، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم "1. فإذا كان هذا عظم هذه المخلوقات فخالقها أعظم وأجلّ وأكبر. فكيف يسوّى به غيره في العبادة: دعاء وخوفا ورجاء وتوكلا وغير ذلك من العبادات التي لا يستحقها غيره؟ فانظر إلى حال الملائكة وشدة خوفهم من الله تعالى، وقد قال تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}2 .
فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل .
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآية.
الثانية: ما فيها من الحجة على إبطال الشرك، خصوصا ما تعلق على الصالحين، وهي الآية التي قيل: إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب.
الثالثة: تفسير قوله: {قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}3 .
الرابعة: سبب سؤالهم عن ذلك.
الخامسة: أن جبرائيل يجيبهم بعد ذلك بقوله: "قال كذا وكذا" .
السادسة: ذكر أن أول من يرفع رأسه جبرائيل.
السابعة: أنه يقول لأهل السماوات كلهم، لأنهم يسألونه.
الثامنة: أن الغشي يعم أهل السماوات كلهم.
التاسعة: ارتجاف السماوات بكلام الله.
العاشرة: أن جبرائيل هو الذي ينتهي بالوحي إلى حيث أمره الله.
الحادية عشرة: ذكر استراق الشياطين.
قوله: "ثم ينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل من السماء والأرض"(6/383)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح: أحمد (1/ 395 , 398 , 407 , 412 , 460). وصححه الألباني في صحيح الجامع (3458) وأول الحديث حتى قوله "ستمائة جناح". عند البخاري (3232) في بدء الخلق: باب إذا قال أحدكم آمين.. ومسلم (174) (280) كتاب الإيمان: باب في ذكر سدرة المنتهى.
2 سورة الأنبياء آية : 26-29.
3 سورة سبأ آية : 23.(6/384)
ص -203- ... وهذا تمام الحديث.
والآيات المذكورة في هذا الباب والأحاديث تقرر التوحيد الذي هو مدلول شهادة أن لا إله إلا الله؛ فإن الملك العظيم الذي تُصعق الأملاك من كلامه خوفا منه ومهابة، وترجف منه المخلوقات، الكامل في ذاته وصفاته، وعلمه وقدرته وملكه وعزه، وغناه عن جميع خلقه. وافتقارهم جميعا إليه، ونفوذ تصرفه وقدره فيهم لعلمه وحكمته، لا يجوز شرعا ولا عقلا أن يجعل له شريك من خلقه في عبادته التي هي حقه عليهم، فكيف يجعل المربوب ربا، والعبد معبودا؟ أين ذهبت عقول المشركين؟ سبحان الله عما يشركون.
وقال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً}1 من أولهم إلى آخرهم تزجرهم عن ذلك الشرك وتنهاهم عن عبادة ما سوى الله. انتهى من شرح سنن ابن ماجه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة مريم آية : 93.(6/385)
ص -204- ... الثانية عشرة: صفة ركوب بعضهم بعضا.
الثالثة عشرة: إرسال الشهاب.
الرابعة عشره: أنه تارة يدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وتارة يلقيها في أُذن وليه من الإنس قبل أن يدركه.
الخامسة عشرة: كون الكاهن يصدُق بعض الأحيان.
السادسة عشرة: كونه يكذب معها مائة كذبة.
السابعة عشرة: أنه لم يصدق كذبه إلا بتلك الكلمة التي سُمعت من السماء.
الثامنة عشرة: قبول النفوس للباطل، كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة؟
التاسعة عشرة: كونهم يتلقى بعضهم من بعض تلك الكلمة، ويحفظونها ويستدلون بها.
العشرون: إثبات الصفات خلافا للأشعرية المعطلة.
الحادية والعشرون: أن تلك الرجفة والغشي خوفا من الله عز وجل .
الثانية والعشرون: أنهم يخرون لله سجدا.
باب الشفاعة1
وقول الله عز وجل: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}2. وقوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً}3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب الشفاعة" أي بيان ما أثبته القرآن منها وما نفاه، وحقيقة ما دل القرآن على إثباته.(6/386)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في قرة العيون: الشفاعة نوعان. شفاعة منفية في القرآن; وهي الشفاعة للكافر والمشرك. قال تعالى: (2: 254) (من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة). وقال: (74: 48) (فما تنفعهم شفاعة الشافعين). وقال: (2: 48) (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون) ونحو هذه الآيات كقوله: (10: 18 ) (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض ). يخبر تعالى أن من اتخذ هؤلاء شفعاء عند الله أنه لا يعلم أنهم يشفعون له بذلك، وما لا يعلمه لا وجود له، فنفى وقوع الشفاعة وأخبر أنها شرك بقوله: (سبحانه وتعالى عما يشركون). وقال تعالى: (39: 3) (والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار) فأبطل شفاعة من اتخذ شفيعا بزعم أنه يقربه إلى الله، وهو يبعده عنه وعن رحمته ومغفرته؛ لأنه جعل الله شريكا يرغب إليه ويرجوه ويتوكل عليه ويحبه كما يحب الله تعالى أو أعظم. "النوع الثاني" الشفاعة التي أثبتها القرآن وهي خالصة لأهل الإخلاص; وقيدها تعالى بأمرين: الأول: إذنه للشافع أن يشفع كما قال تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه). وإذنه تعالى لا يصدر إلا إذا رحم عبده الموحد المذنب; فإذا رحمه الله تعالى أذن للشافع أن يشفع له. الأمر الثاني: رضاه عمن أذن لشافع أن يشفع فيه. كما قال تعالى: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) فالإذن بالشفاعة له بعد الرضاء; كما في هذه الآية, وهو سبحانه لا يرضى إلا التوحيد.
2 سورة الأنعام آية : 51.
3 سورة الزمر آية : 44.(6/387)
ص -205- ... قوله: "وقول الله عز وجل {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا}" المخافة والتحذير منها.
قوله: "به" قال ابن عباس: "بالقرآن" {الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} "وهم المؤمنون" وعن الفضيل بن عياض: "ليس كل خلقه عاتب، إنما عاتب الذين يعقلون; فقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} وهم المؤمنون أصحاب العقول الواعية".
قوله: {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} قال الزجاج: موضع "ليس" نصب على الحال، كأنه قال: متخلين من كل ولي وشفيع. والعامل فيه "يخافون".
قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي فيعملون في هذه الدار عملا ينجيهم الله به من عذاب يوم القيامة 1.
وقوله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً}23. وقبلها {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ}4. وهذه كقوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}5. فبين تعالى في هذه الآيات وأمثالها أن وقوع الشفاعة على هذا الوجه منتف وممتنع، وأن اتخاذهم شفعاء شرك; يتنزه الرب تعالى عنه. وقد قال تعالى: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}6. فبين تعالى أن دعواهم أنهم يشفعون لهم بتأليههم، أن ذلك منهم إفك وافتراء.(6/388)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في قرة العيون: وتركوا التعلق على الشفعاء وغيرهم؛ لأنه ينافي الإخلاص الذي لا يقبل الله من أحد عملا بدونه.
2 سورة الزمر آية : 44.
3 في قرة العيون: دلت الآية على أن الشفاعة له سبحانه؛ لأنها لا تقع إلا لأهل التوحيد بإذنه سبحانه وتعالى، كما قال تعالى في الآية السابقة, وقال تعالى: (10: 3) (يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم). فلا شفاعة إلا لمن هي له سبحانه, ولا تقع إلا ممن أذن له فيها. فتدبر هذه الآيات العظيمة في اتخاذ الشفعاء.
4 سورة الزمر آية : 43.
5 سورة يونس آية : 18.
6 سورة الأحقاف آية : 28.(6/389)
ص -206- ... وقوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً}1 أي هو مالكها، فليس لمن تُطلب منه شيء منها، وإنما تطلب ممن يملكها دون كل من سواه؛ لأن ذلك عبادة وتأليه لا يصلح إلا لله.
قال البيضاوي: لعله رد لما عسى أن يجيبوا به، وهو أن الشفعاء أشخاص مقربون.
وقوله تعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}2 تقرير لبطلان اتخاذ الشفعاء من دونه، لأنه مالك الملك، فاندرج في ذلك ملك الشفاعة، فإذا كان هو مالكها بطل أن تطلب ممن لا يملكها4 {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى}5 .
قال ابن جرير: نزلت لما قال الكفار: ما نعبد أوثاننا6 هذه إلا ليقربونا إلى الله زلفى. قال الله تعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}7.
قال: "وقوله {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}" قد تبين مما تقدم من الآيات أن الشفاعة التي نفاها القرآن هي التي تطلب من غير الله. وفي هذه الآية بيان أن الشفاعة إنما تقع في الدار الآخرة بإذنه، كما قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} 8، فبين أنها لا تقع لأحد إلا بشرطين: إذن الرب تعالى للشافع أن يشفع; ورضاه عن المأذون بالشفاعة فيه، وهو تعالى لا يرضى من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة إلا ما أريد به وجهه، ولقي العبد به ربه مخلصا غير شاك في ذلك، كما دل على ذلك الحديث الصحيح.9 وسيأتي ذلك مقررا أيضا في كلام شيخ الإسلام رحمه الله.(6/390)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية : 44.
2 سورة البقرة آية : 107.
4 في قرة العيون: فليس لأحد في ملكه مثقال ذرة دونه سبحانه وبحمده, والإسلام هو أن تسلم قلبك وجوارحك لله بالإخلاص كما في المسند عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (فبالذي بعثك بالحق له ما بعثك به؟ قال: الإسلام. قال: وما الإسلام؟ قال: أن تسلم قلبك، وأن توجه وجهك إلى الله; وأن تصلي الصلاة المكتوبة, وأن تؤدي الزكاة المفروضة) والآيات في بيان الإخلاص كثيرة, وهو أن لا يلتفت القلب ولا الوجه في جميع الأعمال كلها إلا لله وحده. كما قال تعالى:{فادعوا الله مخلصين له الدين} فأمر تعالى بإخلاص الدعاء له وحده، وأخبر أنه الدين الذي تصح معه الأعمال وتقبل. قال شيخ الإسلام: ((الإخلاص محبة الله وإرادة وجهه)).
5 سورة الأنبياء آية : 28.
6 الأولى "ما نعبد أولياءنا" ولم أجد هذه الجملة كلها في تفسير ابن جرير.
7 سورة الزمر آية : 44.
8 سورة طه آية : 109.
9 وفي ذلك أحاديث كثيرة منها: حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا شيء له"، فأعادها ثلاث مرات يقول له رسول الله: "لا شيء له". ثم قال: "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا وابتغي به وجهه" رواه النسائي في الجهاد (6/ 25): باب من غزا يلتمس الأجر والذكر. وإسناده حسن كما قال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء (4/ 328)، وحسنه الألباني في الصحيحة (52). وراجع أول كتاب الترغيب والترهيب للمنذري فهناك أحاديث كثيرة جدا بهذا المعنى.(6/391)
ص -207- ... وقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}1.
وقوله: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}2.
وقوله: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}". قال ابن كثير - رحمه الله -: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى}. كقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}3. {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}4. فإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين 5، فكيف ترجون أيها الجاهلون شفاعة هذه الأنداد عند الله; وهو لم يشرع عبادتها ولا أذن فيها، بل قد نهى عنها على ألسنة جميع رسله; وأنزل بالنهي عن ذلك جميع كتبه؟
قال:"وقوله تعالى" {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} .
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في الكلام على هذه الآيات: "وقد قطع الله الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعها. فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له من النفع، والنفع لا يكون إلا ممن فيه خصلة من هذه الأربع: إما مالك لما يريده عابده منه، فإن لم يكن مالكا كان(6/392)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النجم آية : 26.
2 سورة سبأ آية : 22-23.
3 سورة البقرة آية : 255.
4 سورة سبأ آية : 23.
5 في قرة العيون: فإذا كان هذا في حق الملائكة الذين وصفهم الله تعالى بقوله: (21: 26 – 29) (بل عباد مكرمون) الآيات. فظهر من هذه الآيات المحكمات ما يبين حقيقة الشفاعة المثبتة في القرآن التي هي ملك الله لا يملكها غيره. وقيد حصولها بقيدين كما في هذه الآية وغيرها كما تقدم قريبا: إذنه للشافع أن يشفع كما قال تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه). والثاني: رضاه عمن أراد رحمته ممن أذنب من الموحدين. فاختصت الشفاعة بأهل الإخلاص خاصة، وأن اتخاذ الشفعاء بلا إذن من دين المشركين قد أنكره الله عليهم فيما تقدم من الآيات.(6/393)
ص -208- ... شريكا للمالك، فإن لم يكن شريكا له كان معينا له وظهيرا، فإن لم يكن معينا ولا ظهيرا كان شفيعا عنده. فنفى الله سبحانه المراتب الأربع نفيا مرتبا; متنقلا من الأعلى إلى الأدنى; فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك، وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك، وهي الشفاعة بإذنه. فكفى بهذه الآية نورا وبرهانا وتجريدا للتوحيد، وقطعا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها. والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها، ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمنه له، ويظنونها في نوع وقوم قد خَلوا من قبل ولم يُعقبوا وارثا، فهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن. ولعمر الله; إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم أو شر منهم أو دونهم، وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك.
ثم قال: ومن أنواعه- أي الشرك- طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم، وهذا أصل شرك العالم. فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، فضلا عمن استغاث به وسأله أن يشفع له إلى الله. وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده؛ فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلا بإذنه، والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سببا لإذنه، وإنما السبب كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن، وهو بمنزلة من استعان في حاجته بما يمنع حصولها، وهذه حالة كل مشرك، فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه، ومعاداة أهل التوحيد، ونسبة أهله إلى التنقص بالأموات، وهم قد تنقصوا الخالق بالشرك، وأولياءه الموحدين بذمهم وعيبهم ومعاداتهم، وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص; إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا، وأنهم أمروهم به، وأنهم يوالونهم عليه، وهؤلاء هم أعداء الرسل في كل زمان ومكان، وما أكثر المستجيبين لهم! وما نجى من شرك هذا الشرك الأكبر إلا من جَرّد توحيده لله، وعادى المشركين في الله، وتقرب بمقتهم إلى الله، واتخذ الله وحده وليه وإلهه ومعبوده، فجرد حبه لله(6/394)
وخوفه لله، ورجاءه لله، وذله لله، وتوكله على الله، واستعانته بالله، والتجاءه إلى الله، واستغاثته بالله، وقصده لله، متبعا لأمره متطلبا لمرضاته، إذا سأل سأل الله، وإذا استعان استعان بالله، وإذا عمل عمل لله. فهو لله وبالله ومع الله. انتهى كلامه رحمه الله تعالى".
وهذا الذي ذكره هذا الإمام في معنى الآية هو حقيقة دين الإسلام، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً}1 .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية : 125.(6/395)
ص -209- ... قال أبو العباس: "نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره مِلْك أو قسط منه، أو يكون عونا لله، ولم يبق إلا الشفاعة. فبيّن أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، كما قال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى}1، فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن، وأخبر النبي صلي الله عليه وسلم أنه "يأتي فيسجد لربه ويحمده لا يبدأ بالشفاعة أولا. ثم يقال له " ارفع رأسك وقُلْ يُسَمعْ وسَلْ تُعْطَ، واشفع تشفع "2.
قوله: "قال أبو العباس" هذه كنية شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني إمام المسلمين رحمه الله.
"نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه; أو يكون عونا لله. فلم يبق إلا الشفاعة. فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب; كما قال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى}3. فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن، وأخبر النبي صلي الله عليه وسلم: " أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده، لا يبدأ بالشفاعة أولا. ثم يقال له: ارفع رأسك وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع " وقال له أبو هريرة: " من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه "4 فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله، وحقيقتها: أن الله - سبحانه وتعالى - هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود. فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بين النبي صلي الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص " انتهى".
وقال أبو هريرة: " من أسعد الناس بشفاعتك؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه "5 فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك(6/396)
بالله.
وحقيقته: أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود.
فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع. وقد بين النبي صلي الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص". اهـ كلامه.
قوله: "وقال أبو هريرة" إلى آخره. هذا الحديث رواه البخاري والنسائي عن أبي هريرة، ورواه أحمد وصححه ابن حبان وفيه: " وشفاعتي لمن قال لا إله إلا الله مخلصا، يصدق قلبه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنبياء آية : 28.
2جزء من حديث الشفاعة الطويل. رواه البخاري: كتاب الأنبياء (3340): باب قول الله عز وجل: (ولقدأرسلنا نوحا إلى قومه) وفي التفسير (4712): باب قوله تعالى: (ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا) ومسلم: كتاب الإيمان (194) (327) باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وراجع نظم المتناثر ص 149 . وكتاب الشفاعة للشيخ مقبل بن هادي الوادعي.
3 سورة الأنبياء آية : 28.
4 البخاري : العلم (99) , وأحمد (2/373).
5 البخاري : العلم (99) , وأحمد (2/373).(6/397)
ص -210- ... لسانه; ولسانه قلبه "1 وشاهده في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :
" لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة. فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا "2 .
وقد ساق المصنف - رحمه الله - كلام شيخ الإسلام هنا، فقام مقام الشرح والتفسير لما في هذا الباب من الآيات، وهو كاف واف بتحقيق مع الإيجاز. والله أعلم.
وقد عرّف الإخلاص بتعريف حسن فقال: "الإخلاص محبة الله وحده وإرادة وجهه". اهـ.
وقال ابن القيم - رحمه الله - في معنى حديث أبي هريرة: "تأمل هذا الحديث كيف جعل أعظم الأسباب التي تُنال بها شفاعته تجريد التوحيد، عكس ما عند المشركين أن الشفاعة تنال باتخاذهم شفعاء وعبادتهم وموالاتهم، فقلب النبي صلي الله عليه وسلم ما في زعمهم الكاذب، وأخبر أن سبب الشفاعة تجريد التوحيد، فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع. ومن جهل المشرك اعتقاده أن من اتخذه وليا أو شفيعا أنه يشفع له وينفعه عند الله،
كما يكون خواص الولاة والملوك تنفع من والاهم، ولم يعلموا أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه في الشفاعة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: كتاب العلم (99): باب الحرص على الحديث, والنسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف (9/ 483) وأحمد (2/ 307 , 518). وابن حبان (2594).
2 مسلم: كتاب الإيمان (199) (338): باب اختباء النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الشفاعة لأمته.(6/398)
ص -211- ... ولا يأذن في الشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله، كما قال في الفصل الأول: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ}1. وفي الفصل الثاني: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى}2 وبقي فصل ثالث، وهو أنه لا يرضى من القول والعمل إلا توحيده واتباع رسوله صلي الله عليه وسلم . فهذه ثلاثة فصول تقطع شجرة الشرك من قلب مَن عقلها ووعاها". اهـ.
وذكر أيضا - رحمه الله تعالى - أن الشفاعة ستة أنواع:
"الأول" الشفاعة الكبرى التي يتأخر عنها أولو العزم - عليهم الصلاة والسلام - حتى تنتهي إليه صلي الله عليه وسلم فيقول: " أنا لها"، وذلك حين يرغب الخلائق إلى الأنبياء ليشفعوا لهم إلى ربهم حتى يريحهم من مقامهم في الموقف. وهذه شفاعة يختص بها لا يشركه فيها أحد 3.
"الثاني" شفاعته لأهل الجنة في دخولها. وقد ذكرها أبو هريرة في حديثه الطويل المتفق عليه .
"الثالث" شفاعته لقوم من العصاة من أمته قد استوجبوا النار بذنوبهم; فيشفع لهم أن لا يدخلوها .
"الرابع" شفاعته في العصاة من أهل التوحيد الذين يدخلون النار بذنوبهم. والأحاديث بها متواترة عن النبي صلي الله عليه وسلم . وقد أجمع عليها الصحابة وأهل السنة قاطبة، وبدّعوا من أنكرها، وصاحوا به من كل جانب ونادوا عليه بالضلال .
"الخامس" شفاعته لقوم من أهل الجنة في زيادة ثوابهم ورفعة درجاتهم، وهذه مما لم ينازع فيها أحد. وكلها مختصة بأهل الإخلاص الذين لم يتخذوا من دون الله وليا ولا شفيعا، كما قال تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ}4.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيات .
الثانية: صفة الشفاعة المنفية .
الثالثة: صفة الشفاعة المثبتة .
الرابعة: ذكر الشفاعة الكبرى وهي المقام المحمود .
الخامسة: صفة ما يفعله صلي الله عليه وسلم أنه لا يبدأ بالشفاعة، بل يسجد فإذا أُذن له شَفَع(6/399)
.
السادسة: من أسعد الناس بها .
السابعة: أنها لا تكون لمن أشرك بالله .
الثامنة: بيان حقيقتها .
"السادس" شفاعته في بعض أهله الكفار من أهل النار حتى يخفف عذابه، وهذه خاصة بأبي طالب وحده
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 255.
2 سورة الأنبياء آية : 28.
3 جزء من حديث أنس الطويل في الشفاعة العظمى. رواه البخاري: كتاب التوحيد (7510): باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم. ومسلم (193) (326) كتاب الإيمان: باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها.
4 سورة الأنعام آية : 51.(6/400)
ص -212- ... باب: قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}1.
وفي الصحيح عن ابن المسيب عن أبيه قال: " لما حضرت أبا طالب الوفاة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: باب "قول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}".
سبب نزول هذه الآية موت أبي طالب على ملة عبد المطلب، كما سيأتي بيان ذلك في حديث الباب. وإنك لتهدي
قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: يقول تعالى لرسوله: إنك يا محمد لا تهدي من أحببت، أي ليس إليك ذلك، إنما عليك البلاغ والله يهدي من يشاء. وله الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، كما قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}2. وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}3.
قلت: والمنفي هنا هداية التوفيق والقبول فإن أمر ذلك إلى الله، وهو القادر عليه. وأما الهداية المذكورة في قول الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}4 فإنها هداية الدلالة والبيان، فهو المبيِّن عن الله، والدالُّ على دينه وشرعه.
وقوله: "في الصحيح عن ابن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلي الله عليه وسلم وعنده عبد الله ابن أبي أمية وأبو جهل، فقال له: يا عم قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله. فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه النبي صلي الله عليه وسلم فأعادا. فكان آخرَ ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله. فقال النبي صلي الله عليه وسلم: لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك. فأنزل الله عز وجل {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ(6/401)
يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}5. وأنزل الله في أبي طالب {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة القصص آية : 56.
2 سورة البقرة آية : 272.
3 سورة يوسف آية : 103.
4 سورة الشورى آية : 52.
5 سورة التوبة آية : 113.(6/402)
ص -213- ... جاءه رسول الله صلي الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أمية وأبو جهل. فقال له: يا عم قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله. فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "في الصحيح" أي في الصحيحين.1 وابن المسيب: هو سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشي المخزومي، أحد العلماء والفقهاء الكبار السبعة من التابعين. اتفق أهل الحديث على أن مراسيله أصح المراسيل. وقال ابن المديني: لا أعلم في التابعين أوسع علما منه. مات بعد التسعين وقد ناهز الثمانين.
وأبوه المسيب صحابي، بقي إلى خلافة عثمان رضي الله عنه وكذلك جده حَزْن، صحابي استشهد باليمامة.
قوله: "لما حضر أبا طالب الوفاة" أي علاماتها ومقدماتها.
قوله: "جاء رسول الله صلي الله عليه وسلم" يحتمل أن يكون المسيب حضر مع الاثنين. فإنهما من بني مخزوم، وهو أيضا مخزومي، وكان الثلاثة إذ ذاك كفارا، فقتل أبو جهل على كفره وأسلم الآخران.
قوله: "يا عم" منادى مضاف يجوز فيه إثبات الياء وحذفها; حذفت الياء هنا، وبقيت الكسرة دليلا عليها.
قوله: "قل لا إله إلا الله" أمره أن يقولها لعلم أبي طالب بما دلت عليه من نفي الشرك بالله وإخلاص العبادة له وحده، فإن من قالها عن علم ويقين فقد برئ من الشرك والمشركين ودخل في الإسلام؛ لأنهم يعلمون ما دلت عليه، وفي ذلك الوقت لم يكن بمكة إلا مسلم أو كافر. فلا يقولها إلا من ترك الشرك وبرئ منه. ولما هاجر النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة كان فيها المسلمون الموحدون، والمنافقون الذين يقولونها بألسنتهم وهم يعرفون معناها، لكن لا يعتقدونها، لما في قلوبهم من العداوة والشك والريب، فهم مع المسلمين بظاهر الأعمال دون الباطن; وفيها اليهود؛ وقد أقرهم(6/403)
رسول الله صلي الله عليه وسلم لما هاجر، ووادعهم بأن لا يخونوه ولا يظاهروا عليه عدوا كما هو مذكور في كتب الحديث والسير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: كتاب التفسير (4772): باب إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء. ومسلم: كتاب الإيمان (24) (39): باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت ما لم يشرع في النزع.(6/404)
ص -214- ... قوله: "كلمة" قال القرطبي: بالنصب على أنه بدل من "لا إله إلا الله"، ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف.
قوله: "أحاج لك بها عند الله" هو بتشديد الجيم من المحاجة، والمراد بها بيان الحجة بها لو قالها في تلك الحال. وفيه دليل على أن الأعمال بالخواتيم؛ لأنه لو قالها في تلك الحال معتقدا ما دلت عليه مطابقة من النفي والإثبات لنفعته.
قوله: "فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟" ذكراه الحجة الملعونة التي يحتج بها المشركون على المرسلين، كقول فرعون لموسى: {فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى}1. وكقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}2.
قوله: "فأعاد عليه النبي صلي الله عليه وسلم فأعادا"3 فيه معرفتهما لمعنى "لا إله إلا الله"؛ لأنهما عرفا أن أبا طالب لو قالها لبرئ من ملة عبد المطلب. فإن ملة عبد المطلب هي الشرك بالله في إلهيته. وأما الربوبية فقد أقروا بها كما تقدم. وقد قال عبد المطلب لأبرهة: "أنا رب الإبل، والبيت له رب يمنعه منك". وهذه المقالة منهما عند قول النبي صلي الله عليه وسلم لعمه قل "لا إله إلا الله" استكبارا عن العمل بمدلولها. كما قال الله تعالى عنهما وعن أمثالهما من أولئك المشركين: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ}4 فرد عليهم بقوله: {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ}5. فبين تعالى أن استكبارهم عن قول "لا إله إلا الله" لدلالتها على نفي عبادتهم الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله؛ فإن دلالة هذه الكلمة على نفي ذلك دلالة تضمن، ودلالتها عليه وعلى الإخلاص دلالة مطابقة.
ومن حكمة الرب تعالى في عدم هداية أبي طالب(6/405)
إلى الإسلام ليبين لعباده أن
وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. فقال النبي صلي الله عليه وسلم " لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك". فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}6. وأنزل الله ذلك إليه، وهو القادر عليه دون من سواه، فلو كان عند النبي صلي الله عليه وسلم - الذي هو أفضل خلقه - من هداية القلوب وتفريج الكروب; ومغفرة الذنوب، والنجاة من العذاب،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة طه آية : 51.
2 سورة الزخرف آية : 23.
3 في قرة العيون: فيه مضرة أصحاب السوء والحذر من قربهم والاستماع لهم. ففيه معنى قول الناظم: إذا ما صحبت القوم فاصحب خيارهم ولا تصحب الأردى فتردى مع الردى.
4 سورة الصافات آية : 35-36.
5 سورة الصافات آية : 37.
6 سورة التوبة آية : 113.(6/406)
ص -215- ... ونحو ذلك شيء; لكان أحق الناس بذلك وأولاهم به عمه الذي كان يحوطه ويحميه وينصره ويؤويه، فسبحان من بهرت حكمته العقول! وأرشد العباد إلى ما يدلهم على معرفته وتوحيده، وإخلاص العمل له وتجريده.
قوله: "فكان آخر ما قال" الأحسن فيه الرفع على أنه اسم "كان" وجملة "هو" وما بعدها الخبر.
قوله: "هو على ملة عبد المطلب" الظاهر أن أبا طالب قال: "أنا" فغيره الراوي استقباحا للفظ المذكور، وهو من التصرفات الحسنة; قاله الحافظ.
قوله: "وأبى أن يقول لا إله إلا الله" قال الحافظ: "هذا تأكيد من الراوي في نفي وقوع ذلك من أبي طالب".
قال المصنف - رحمه الله - "وفيه الرد على من زعم إسلام عبد المطلب وأسلافه، ومضرة أصحاب السوء على الإنسان، ومضرة تعظيم الأسلاف".
أي إذا زاد على المشروع بحيث تجعل أقوالهم حجة يرجع إليها عند التنازع. قوله: "فقال النبي صلي الله عليه وسلم لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك" قال النووي: وفيه جواز الحلف من غير استحلاف. وكان الحلف هنا لتأكيد العزم على الاستغفار تطييبا لنفس أبي طالب.
وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة بقليل.
قال ابن فارس: مات أبو طالب ولرسول الله صلي الله عليه وسلم تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوما.
وتوفيت خديجة أم المؤمنين - رضي الله عنها - بعد موت أبي طالب بثمانية أيام.
قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى}نزلت في أبي طالب(6/407)
ص -216- ... وأنزل الله في أبي طالب {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ 1}2 "3.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}4 . الثانية: تفسير قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}5 الآية، أي ما ينبغي لهم ذلك. وهو خبر بمعنى النهي، والظاهر أن هذه الآية نزلت في أبي طالب. فإن الآيتين بالفاء المفيدة للترتيب في قوله: "فأنزل الله" بعد قوله: " لأستغفرن لك ما لم أنه عنك " يفيد ذلك.
وقد ذكر العلماء لنزول هذه الآية أسبابا أخر، فلا منافاة؛ لأن أسباب النزول قد تتعدد.(6/408)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الهداية تطلق على خلق الهدى في القلب وتحويله من الضلال والكفر والفسوق إلى الهدى والإيمان والطاعة، وتسديده على صراط الله المستقيم وتثبيته عليه، وهذه مختصة بالله تعالى؛ لأنه هو الذي يقلب القلوب ويصرفها، ويهدي من يشاء ويضل من يشاء. ومن يهد الله فما له من مضل، ومن يضلل فما له من هاد. وهي المنفية في الآية عن النبي – صلى الله عليه وسلم –وعن غيره من باب أولى. فمن ادعاها من مشايخ الطرق الصوفية ونحوهم، وزعم أنه يدخل قلوب مريديه وتلاميذه ويعلم ما فيها ويصرفها على ما يريد، فهو كاذب ضال مضل. ومن صدق ذلك فهو ضال مكذب لله ولرسوله.
وتطلق على العلم والدلالة والإرشاد بالقرائن ونحوه على طريق النجاة والسعادة، وهذه يقدر عليها المخلوق وهي المثبتة للنبي – صلى الله عليه وسلم – في قوله تعالى: (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم).
وقد أوجب الله على أهل العلم أن يقوموا بها فيرشدوا الناس ويهدوهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى صراط الله المستقيم. وأكثر الناس لا يميز الفرق بين الهدايتين. فبعضهم يعتدي على الحدود وبعضهم يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، محتجا بالآية (إنك لا تهدي من أحببت ..) إلخ. وهذا وذاك جهل وضلال.
2 سورة القصص آية : 56.
3 البخاري : الجنائز (1360) , ومسلم : الإيمان (24) , والنسائي : الجنائز (2035) , وأحمد (5/433).
4 سورة القصص آية : 56.
5 سورة التوبة آية : 113.(6/409)
ص -217- ... قال الحافظ: "أما نزول الآية الثانية فواضح في قصة أبي طالب. وأما نزول الآية التي قبلها ففيه نظر، ويظهر أن المراد أن الآية المتعلقة بالاستغفار نزلت بعد أبي طالب بمدة، وهي عامة في حقه وحق غيره، ويوضح ذلك ما يأتي في التفسير،1
الثالثة: هي المسألة الكبيرة، تفسير قوله: " قل: لا إله إلا الله" بخلاف ما عليه من يدعي العلم 2.
الرابعة: أن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي صلي الله عليه وسلم إذ قال للرجل: " قل: لا إله إلا الله" فقبح الله مَن أبو جهل أعلم منه بأصل الإسلام .
الخامسة: جده صلي الله عليه وسلم ومبالغته في إسلام عمه .
السادسة: الرد على من زعم إسلام عبد المطلب وأسلافه .
السابعة: كونه صلي الله عليه وسلم استغفر له فلم يغفر له، بل نهي عن ذلك.
الثامنة: مضرة أصحاب السوء على الإنسان .
التاسعة: مضرة تعظيم الأسلاف والأكابر .
العاشرة: استدلال الجاهلية بذلك .
فأنزل الله بعد ذلك {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ}3 الآية. ونزل في أبي طالب: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ}4 كله ظاهر في أنه مات على غير الإسلام. ويضعف ما ذكره السهيلي أنه روي في بعض كتب المسعودي أنه أسلم؛ لأن مثل ذلك لا يعارض ما في الصحيح". انتهى.
وفيه تحريم الاستغفار للمشركين وموالاتهم ومحبتهم; لأنه إذا حرم الاستغفار لهم فموالاتهم ومحبتهم أولى.(6/410)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ساق البخاري قصة موت أبي طالب في كتاب الجنائز في الباب الحادي والثمانين. ولم يتكلم عليه الحافظ في الفتح, بل حوله إلى التفسير. وساقه في تفسير سورة براءة فحول الحافظ تفصيل القول فيه إلى سورة القصص.
2 كثير من أدعياء العلم يجهلون "لا إله إلا الله" فيحكمون على كل من تلفظ بها بالإسلام ولو كان مجاهرا بالكفر الصراح, كعبادة القبور والموتى والأوثان, واستحلال المحرمات المعلوم تحريمها من الدين ضرورة، والحكم بغير ما أنزل الله واتخاذ أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله, ولو كانت لهؤلاء الجهلة قلوب يفقهون بها لعلموا أن معنى "لا إله إلا الله" البراءة من عبادة غير الله; وإعطاء العهد والميثاق بالقيام بأداء حق الله في العبادة, يدل على ذلك قول الله: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى). وقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم للخوارج بكثرة الصلاة والصيام وقراءة القرآن المشحون بلا إله إلا الله. ومع ذلك فقد حكم عليهم بالكفر وبأنهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، وقال: "لو أدركتهم لقتلتهم قتل عاد" كما في الصحيحين. ولو كان مجرد التلفظ بلا إله إلا الله كافيا، ما وقعت الحرب والعداء بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين المشركين الذين كانوا يفهمون (لا إله إلا الله) أكثر مما يفهمها أدعياء العلم في هذا الزمن. ولكن طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون.
3 سورة التوبة آية : 113.
4 سورة القصص آية : 56.(6/411)
ص -218- ... الحادية عشرة: الشاهد لكون الأعمال بالخواتيم؛ لأنه لو قالها لنفعته .
الثانية عشرة: التأمل في كبر هذه الشبهة في قلوب الضالين؛ لأن في القصة أنهم لم يجادلوه إلا بها. مع مبالغته صلي الله عليه وسلم وتكريره؛ فلأجل عظمتها ووضوحها عندهم اقتصروا عليها.
باب: "ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين"
وقول الله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ}1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين".
قوله: "تركهم" بالجر عطفا على المضاف إليه. وأراد المصنف - رحمه الله تعالى - بيان ما يئول إليه الغلو في الصالحين من الشرك بالله في الإلهية الذي هو أعظم ذنب عُصي الله به، وهو ينافي التوحيد الذي دلت عليه كلمة الإخلاص: شهادة أن لا إله إلا الله.
قوله: "وقول الله عز وجل": {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}2 الغلو: هو الإفراط في التعظيم بالقول والاعتقاد، أي لا ترفعوا المخلوق عن منزلته التي أنزله الله فتنزلوه المنزلة التي لا تنبغي إلا لله. والخطاب - وإن كان لأهل الكتاب - فإنه عام يتناول جميع الأمة، تحذيرا لهم أن يفعلوا بنبيهم صلي الله عليه وسلم فعل النصارى في عيسى، واليهود في العزير3 كما قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ(6/412)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية : 171.
2 سورة النساء آية : 171.
3 في قرة العيون: وقد وقع ذلك الشرك في العبادة في هذه الأمة نظما ونثرا كما في كلام البوصيري والبرعي وغيرهما، وفيما فعلوه من الغلو والشرك محادة لله ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم; فأين ما وقع فيه هؤلاء الجهلة من قول من قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (أنت سيدنا وابن سيدنا وخيرنا وابن خيرنا)، فكره ذلك صلى الله عليه وسلم أشد الكراهة؟ كما سيأتي في الكلام على هذا الحديث - إن شاء الله تعالى -, وقول القائل: "ما شاء الله وشئت"، فقال: أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده".(6/413)
ص -219- ... مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}1 ولهذا قال النبي صلي الله عليه وسلم: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم "2 ويأتي.
فكل من دعا نبيا أو وليا من دون الله فقد اتخذه إلها، وضاهأ النصارى في شركهم، وضاهأ اليهود في تفريطهم. فإن النصارى غلوا في عيسى - عليه السلام -، واليهود عادوه وسبوه وتنقصوه. فالنصارى أفرطوا، واليهود فرطوا. وقال تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ}3. ففي هذه الآية وأمثالها الرد على اليهود والنصارى.
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: ومن تشبه من هذه الأمة باليهود والنصارى، وغلا في الدين بإفراط فيه أو تفريط فقد شابههم. قال: وعلي رضي الله عنه حرق الغالية من الرافضة، فأمر بأخاديد خُدّت لهم عند باب كِندة4 فقذفهم فيها. واتفق الصحابة على قتلهم. لكن ابن عباس مذهبه أن يُقتلوا بالسيف من غير تحريق. وهو قول أكثر العلماء.
قوله: "في الصحيح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قول الله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً}5
فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم، ففعلوا; ولم تُعبد، حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلم عُبدت". قوله: "وفي الصحيح" أي صحيح البخاري.(6/414)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحديد آية : 16.
2 البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء (3445): باب قول الله تعالى: (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها.) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
3 سورة المائدة آية : 75.
4 باب من أبواب الكوفة. الغلاة المحرقون: هم عبد الله بن سبأ اليهودي وأتباعه. قالوا: إن عليا إلههم, فنهاهم فلم ينتهوا فحرقهم. وإنما أراد ابن سبأ بذلك إحداث فتنة, وخلق شيع; وفتح ثغرة في صفوف المسلمين. وقد حدث ما أراد هذا اليهودي الملعون. ووجد في الناس كثير ممن أطاعه وأله عليا وأبناءه وكفر بالله ورسوله وعادى عليا والمؤمنين. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
5 سورة نوح آية : 23.(6/415)
ص -220- ... وهذا الأثر اختصره المصنف. ولفظ ما في البخاري: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "صارت الأوثان التي في قوم نوح في العرب بعد. أما "ودّ" فكانت لكلب بدومة الجندل. وأما "سواع" فكانت لهذيل. وأما "يغوث" فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ. وأما "يعوق" فكانت لهمدان. وأما "نسر" فكات لحمير لآل ذي الكلاع: أسماء رجال صالحين في قوم نوح - إلى آخره". وروى عكرمة والضحاك وابن إسحاق نحو هذا.
قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا مهران عن سفيان عن موسى عن محمد بن قيس "أن يغوث ويعوق ونسرا كانوا قوما صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباع يقتدون بهم. فلما ماتوا قال أصحابهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة; فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يُسقون المطر. فعبدوهم".
قوله: "أن انصبوا" هو بكسر الصاد المهملة.
قوله: "أنصابا" جمع نُصب، والمراد به هنا الأصنام المصورة على صور أولئك الصالحين التي نصبوها في مجالسهم، وسموها بأسمائهم. وفي سياق حديث ابن عباس ما يدل على أن الأصنام تسمى أوثانا. فاسم الوثن يتناول كل معبود من دون الله، سواء كان ذلك المعبود قبرا أو مشهدا أو صورة أو غير ذلك 1.(6/416)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في قرة العيون: فصارت هذه الأصنام بهذا التصوير على صور الصالحين سلما إلى عبادتها. وكل ما عبد من دون الله, من قبر أو مشهد, أو صنم, أو طاغوت، فالأصل في عبادته هو الغلو. كما لا يخفى على ذوي البصائر. كما جرى لأهل مصر وغيرهم؛ فإن أعظم آلهتهم أحمد البدوي، وهو لا يعرف له أصل ولا فضل ولا علم ولا عبادة. ومع هذا فصار أعظم آلهتهم مع أنه لا يعرف إلا أنه دخل المسجد يوم الجمعة فبال فيه ثم خرج ولم يصل. ذكره السخاوي عن أبي حيان. فزين لهم الشيطان عبادته فاعتقدوا أنه يتصرف في الكون، ويطفئ الحريق وينجي الغريق, وصرفوا له الإلهية والربوبية وعلم الغيب, وكانوا يعتقدون أنه يسمعهم ويستجيب لهم من الديار البعيدة. وفيهم من يسجد على عتبة حضرته. وكان أهل العراق ومن حولهم كأهل عمان يعتقدون في عبد القادر الجيلاني; كما يعتقد أهل مصر في البدوي. وعبد القادر من متأخري الحنابلة وله كتاب الغنية, وغيره ممن قبله وبعده من الحنابلة أفضل منه في العلم والزهد, لكن فيه زهد وعبادة, وفتنوا به أعظم فتنة. كما جرى من الرافضة مع أهل البيت. وسبب ذلك الغلو دعوى أن له كرامات، وقد جرت الكرامات لمن هو خير منه وأفضل كبعض الصحابة والتابعين, وهكذا حال أهل الشرك مع من فتنوا به. وأعظم من هذا عبادة أهل الشام لابن عربي، وهو إمام أهل الوحدة الذين هم أكفر أهل الأرض وأكثر من يعتقد فيه هؤلاء لا فضل له ولا دين كأناس بمصر وغيره, وجرى في نجد قبل هذه الدعوة مثل هذا. وفي الحجاز واليمن وغيرها من عبادة الطواغيت والأشجار والأحجار والقبور ما عمت به البلوى, كعبادتهم للجن وطلبهم للشفاعة منهم. والأصل في ذلك الغلو تزيين الشيطان. وذكر أهل السير أن التلبية من عهد إبراهيم - عليه السلام -: "لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك"، حتى كان عمرو بن لحي الخزاعي فبينما هو يلبي تمثل له الشيطان في صورة شيخ يلبي معه فقال:(6/417)
"لبيك لا شريك لك"، فقال الشيخ: "إلا شريكا هو لك". فأنكر ذلك عمرو وقال ما هذا؟ فقال الشيخ: "تملكه وما ملك". فإنه لا بأس بهذا. فقالها عمرو. فدانت بها العرب.(6/418)
ص -221- ... وسموها بأسمائهم. ففعلوا لم تُعْبد. حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلم عُبدت "1
قوله: "حتى إذا هلك أولئك" أي الذين صوروا تلك الأصنام.
قوله: "ونُسي العلم". ورواية البخاري: "وينسخ" وللكشميهني: "ونسخ العلم" أي درست آثاره بذهاب العلماء، وعم الجهل حتى صاروا لا يميزون بين التوحيد والشرك، فوقعوا في الشرك ظنا منهم أنه ينفعهم عند الله.
قوله: "عبدت" لما قال لهم إبليس: إن من كان قبلكم كانوا يعبدونهم وبهم يُسقون المطر، هو الذي زين لهم عبادة الأصنام وأمرهم بها، فصار هو معبودهم في الحقيقة. كما قال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌوَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ}2. وهذا يفيد الحذر
وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف " لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم".
من الغلو ووسائل الشرك، وإن كان القصد بها حسنا. فإن الشيطان أدخل أولئك في الشرك من باب الغلو في الصالحين والإفراط في محبتهم، كما قد وقع مثل ذلك في هذه الأمة: أظهر لهم الغلو والبدع في قالب تعظيم الصالحين ومحبتهم؛ ليوقعهم فيما هو أعظم من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : تفسير القرآن (4920).
2 سورة يس آية : 60-61-62.(6/419)
ص -222- ... ذلك من عبادتهم لهم من دون1 الله. وفي رواية: "أنهم قالوا: ما عظّم أوّلنا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله" أي يرجون شفاعة أولئك الصالحين الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم وسموها بأسمائهم. ومن هنا يعلم أن اتخاذ الشفعاء ورجاء شفائهم بطلبها منهم: شرك بالله، كما تقدم بيانه في الآيات المحكمات.
قوله: "وقال ابن القيم - رحمه الله -: قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم".
قوله: "وقال ابن القيم رحمه الله" هو الإمام العلامة محمد ابن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي المعروف بابن قيم الجوزية. قال الحافظ السخاوي: العلامة الحجة المتقدم في سعة العلم ومعرفة الخلاف وقوة الجنان، المجمع عليه بين
الموافق والمخالف; صاحب التصانيف السائرة والمحاسن الجمة. مات سنة إحدى وخمسين وسبعمائة.
قوله: "وقال غير واحد من السلف" هو بمعنى ما ذكره البخاري وابن جرير إلا أنه(6/420)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وما جر إلى هذا الغلو الذي أدى إلى عبادتهم من دون الله إلا تعظيم قبورهم، وبناء القباب عليها, وسترها بالأستار, وإيقاد السرج, وقيام السدنة وشياطين الإنس عندها لدعوة الناس إلى عبادتها بأنواع النذور فيعود عليهم من تلك الأموال. وإلا فكم من عباد صالحين من الصحابة وأفاضل العلماء الذين كان لهم قدم صدق في الإسلام مدفونون في مقابر مصر والشام وغيرهما; هم أفضل آلاف المرات من أمثال البدوي والدسوقي; بل نعالهم أشرف وأكرم من هذا البدوي وأضرابه لا يعرفهم أولئك المشركون؛ لأنهم لم ينصب على قبورهم تلك الأنصاب ولم تتخذ عليها تلك الأوثان. ولذلك كان الذي يزعم أنه يزور للموعظة وتذكر الدار الآخرة, تلك القبور التي نصبت عليها هذه الأنصاب والمقاصير من أجهل الناس وأبعدهم عن هدى الإسلام الذي لا يعرف تلك القباب، وإنما يعرف القبور التي لا يبنى عليها ولا يكتب عليها ولا تستر بالأستار الحرير وغيرها؛ فإنه من أمحل المحال الاتعاظ بهذه الأوثان والأنصاب, ومن أعظم الجهل أن تسمى هذه قبورا تسن زيارتها كما تسن زيارة القبور التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بها. فنسألك اللهم أن تعجل بهدم هذه الأوثان وتطهير الأرض منها كلها تحقيقا لما أمر به نبيك صلى الله عليه وسلم، وبعث علي بن أبي طالب به إلى اليمن صيانة للتوحيد من قذر الشرك الذي أعظم أسبابه هذه القبور.(6/421)
ص -223- ... ذكر عكوفهم على قبورهم قبل تصويرهم تماثيلهم. وذلك من وسائل الشرك بل هو الشرك؛ لأن العكوف لله في المساجد عبادة. فإذا عكفوا على القبور صار عكوفهم تعظيما ومحبة: عبادة لها.
قوله: "ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم" أي طال عليهم الزمان. وسبب تلك العبادة والموصل إليها هو ما جرى من الأولين من التعظيم بالعكوف على قبورهم، ونصب صورهم في مجالسهم، فصارت بذلك أوثانا تعبد من دون الله، كما ترجم به المصنف - رحمه الله تعالى -. فإنهم تركوا بذلك دين الإسلام الذي كان أولئك عليه قبل حدوث وسائل هذا الشرك، وكفروا بعبادة تلك الصور واتخذوهم شفعاء. وهذا أول شرك حدث في الأرض.
قال القرطبي: "وإنما صوّر أوائلهم الصور ليتأسوا بهم ويتذكروا أفعالهم الصالحة، فيجتهدوا كاجتهادهم، ويعبدوا الله عند قبورهم. ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم، فوسوس لهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها" اهـ.
قال ابن القيم - رحمه الله -: "وما زال الشيطان يوحي إلى عُبّاد القبور ويُلقي إليهم أن البناء والعكوف عليها من محبة أهل القبور من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب، ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء بها، والإقسام على الله بها، فإن شأن الله أعظم من أن يقسم عليه أو يسأل بأحد من خلقه.
فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعائه وعبادته; وسؤاله الشفاعة من دون الله، واتخاذ قبره وثنا تعلق عليه القناديل والستور، ويطاف به ويستلم ويقبّل، ويحج إليه ويذبح عنده، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته، اتخاذه عيدا ومنسكا، ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم. وكل هذا مما قد
علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله صلي الله عليه وسلم من تجديد التوحيد، وأن لا يعبد إلا الله.
فإذا تقرر ذلك عندهم، نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل هذه الرتب العالية وحطهم عن منزلتهم،(6/422)
وزعم أنه لا حرمة لهم ولا قدر، فغضب المشركون واشمأزت قلوبهم، كما قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}1. وسرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادوا أهل التوحيد ورموهم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر آية : 45.(6/423)
ص -224- ... بالعظائم ونفّروا الناس عنهم، ووالوا أهل الشرك وعظموهم، وزعموا أنهم أولياء الله وأنصار(6/424)
ص -225- ... دينه ورسوله، ويأبى الله ذلك {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ}1" اهـ كلام ابن القيم رحمه الله.
وفي القصة فوائد ذكرها المصنف رحمه الله 2.
ومنها: رد الشبه التي يسميها أهل الكلام عقليات، ويدفعون بها ما جاء به الكتاب والسنة، من توحيد الصفات، وإثباتها على ما يليق بجلال الله وعظمته وكبريائه.
ومنها: مضرة التقليد.
ومنها: ضرورة الأمة إلى ما جاء به الرسول صلي الله عليه وسلم علما وعملا بما يدل عليه الكتاب والسنة فإن ضرورة العبد إلى ذلك فوق كل ضرورة.
قوله: "وعن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم. إنما أنا عبد; فقولوا: عبد الله ورسوله "4 أخرجاه.
قوله: "عن عمر" هو ابن الخطاب بن نفيل- بنون وفاء مصغرا- العدوي أمير المؤمنين وأفضل الصحابة بعد الصديق - رضي الله عنهم -. ولي الخلافة عشر سنين ونصفا، فامتلأت الدنيا عدلا، وفتحت في أيامه ممالك كسرى وقيصر. واستشهد في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين رضي الله عنه .
قوله: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم"5 الإطراء مجاوزة الحد في المدح والكذب عليه. قاله أبو السعادات. وقال غيره: أي لا تمدحوني بالباطل، ولا تجاوزوا الحد في مدحي.(6/425)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنفال آية : 34.
2 كان الشارح - رحمه الله - قد ذكرها بنقص السادسة والحادية عشرة والسابعة عشرة والثامنة عشرة فاكتفينا بنص المصنف - - رحمه الله - لعدم التكرار.
3 حيث إن النبي أخبر -وهو الصادق- أن بعض هذه الأمة يتبع سنن أهل الكتاب في اتباع الهوى والقول على الله بلا علم، وابتداع دين لم يشرعه الله. فقد وقع ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن كثيرا ممن ينتسب إلى الإسلام يطري النبي غاية الإطراء، فيعتقد فيه أنه يعلم الغيب وأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. وقد نفى الله عنه ذلك في القرآن فقال: (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء). (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب) (قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم). فكفروا به واعتقدوا ما أوحته إليهم الشياطين. وكثير منهم يعتقدون أنه يتصرف في الدنيا بعد موته ويزور من شاء في المشارق والمغارب. وقد بلغت الوقاحة بالدجال أحمد التيجاني أن زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم يحضر مجلس مكائه وتصديته ومجالس كل من اتبعه في طريقه الضال, فصار هؤلاء الزائفون إذا جلسوا للغط واللغو الذي يسمونه صلاة الفاتح, ويزعمون بوقاحتهم وفجورهم أن المرة الواحدة منها أفضل من القرآن ستة آلاف مرة. وينشرون ثوبا أبيض في وسط حلقتهم ليجلس عليه النبي والخلفاء, وإنما زعم الدجال التيجاني هذا تمويها على أشباه الأنعام العامة ليتبعوه على دجله وباطله، ويريهم أنه أتى بما لم يسبق إليه. وصدق فإنه لم يسبق إلى هذه الوقاحة في الكفر فنعوذ بالله من عمى القلوب, وشرع ما لم يأذن به الله. بل تكاد السموات يتفطرن منه. وبعضهم يعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم يزوره ويشرع له من الدين ما يخالف شرعه الذي أتمه الله وأكمله وارتضاه دينا قبل موته صلى(6/426)
الله عليه وسلم، ادعى ذلك الشعراني في كتاب العهود المحمدية. وزعم أن شيخه الخواص كان لا يفارق النبي صلى الله عليه وسلم طرفة عين، وهذا كله كذب وبهتان. فكم وقع بين الصحابة مع الخلافات ما كان أولى أن يجيئهم فيها النبي صلى الله عليه وسلم ليرجعهم فيها إلى الصواب الذي يطفئ الفتنة، لو أمكن ظهوره. ولكنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. وبعضهم يعتقد أن السموات والأرض وما بينهما مملوءة بالنبي، ولو كشف عنا الحجاب لرأيناه عيانا; فإذا سمع أهل الغرور هذه الخرافة أفنوا أعمارهم في الخلوات يهمهمون ويزمزمون, وأنفقوا أموالهم كلها على الدجالين المشعوذين الذين أغووهم، كل ذلك طمعا في المحال أن يروا النبي عيانا مالئا السماء والأرض وما بينهما; وقد انجر بنا الكلام إلى ذكر شيء من باطلهم تحذيرا لمن لم يقع في حبائلهم وإنذارا لمن وقع، وهذا نزر يسير مما نعرفه عنهم، وهو مسطور في كتبهم وأساطيرهم المطبوعة المنشورة, وليعلم الناظر في هذا أني كنت على عقيدتهم الخبيثة سنين فأنقذني الله منها على يد بعض المصلحين، فاستيقظت من نوع البدعة الذميمة فلاحت لي أنوار شمس السنة, فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
4 تقدم تخريجه برقم [160] ولم يروه مسلم. وهذا الحديث مما انفرد به البخاري عن مسلم وراجع تخريجه والكلام عليه في شرح عشرون حديثا للبخاري ص (169 , 170).
5 في قرة العيون: كما قال تعالى: (4: 171) (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه). قوله: "إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله" أمرهم صلى الله عليه وسلم أن لا يتجاوزوا هذا القول. وقد أمر الله عباده بالصلاة والسلام عليه؛ لأن أشرف مقامات الأنبياء; العبودية الخاصة والرسالة.(6/427)
ص -226- ... قوله: "إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله" أي لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى عليه السلام فادّعوا فيه الإلهية. وإنما أنا عبد الله ورسوله، فصفوني بذلك كما وصفني ربي، فقولوا: عبد الله ورسوله، فأبى المشركون إلا مخالفة أمره وارتكاب نهيه، وعظموه بما نهاهم عنه وحذرهم منه، وناقضوه أعظم مناقضة، وضاهوا النصارى في غلوهم وشركهم، ووقعوا في المحذور، وجرى منهم من الغلو والشرك شعرا ونثرا ما يطول عده; وصنفوا فيه مصنفات.
وقد ذكر شيخ الإسلام - رحمه الله - عن بعض أهل زمانه1 أنه جوّز الاستغاثة بالرسول صلي الله عليه وسلم في كل ما يستغاث فيه بالله، وصنف في ذلك مصنفا رده شيخ الإسلام، وردّه موجود بحمد الله. ويقول: إنه يعلم مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله. وذكر لهم أشياء من هذا النمط. نعوذ بالله من عمى البصيرة.
قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو "2. ولمسلم
وقد اشتهر في نظم البوصيري قوله:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به" ... سواك عند حدوث الحادث العمم"
وما بعده من الأبيات التي مضمونها إخلاص الدعاء واللياذ والرجاء والاعتماد في أضيق الحالات، وأعظم الاضطرار لغير الله، فناقضوا الرسول صلي الله عليه وسلم بارتكاب ما نهى عنه أعظم مناقضة، وشاقوا الله ورسوله أعظم مشاقة، وذلك أن الشيطان أظهر لهم هذا الشرك العظيم في قالب محبة النبي صلي الله عليه وسلم وتعظيمه، وأظهر لهم التوحيد والإخلاص الذي بعثه الله به في قالب تنقيصه، وهؤلاء المشركون هم المتنقصون الناقصون، أفرطوا في تعظيمه بها نهاهم عنه أشد النهي، وفرطوا في متابعته، فلم يعبئوا بأقواله وأفعاله، ولا رضوا بحكمه ولا سلموا له، وإنما يحصل تعظيم الرسول صلي الله عليه وسلم بتعظيم أمره ونهيه، والاهتداء(6/428)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو علي بن يعقوب بن جبريل البكري المتوفي يوم الاثنين سابع ربيع الآخر سنة 724 هـ والرد عليه اسمه تلخيص كتاب الاستغاثة طبع بالمطبعة السلفية سنة 1346 على نفقة جلالة إمام الموحدين ناصر السنة وقامع البدعة, الملك الصالح الموفق عبد العزيز آل سعود, أيده الله بنصره وأطال حياته المباركة في خدمة الإسلام، ووفق ولي عهده المعظم صاحب السمو الملكي الأمير الأجل سعود إلى مثل ما يقوم به والده العظيم من نشر راية الإسلام وإعلاء كلمته, بطبع الكتب النافعة, وإقامة حدود الله.
2 النسائي : مناسك الحج (3057).(6/429)
ص -227- ... بهديه، واتباع سنته، والدعوة إلى دينه الذي دعا إليه ونُصرته، وموالاة من عمل به، ومعاداة من خالفه. فعكس أولئك المشركون ما أراد الله ورسوله علما وعملا، وارتبكوا ما نهى عنه ورسوله. فالله المستعان.
قوله: "وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو " .
هذا الحديث ذكره المصنف بدون ذكر راويه. وقد رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه من حديث ابن عباس.
وهذا لفظ رواية أحمد1 عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم غداة جَمْع: " هلم القُطْ لي. فلقطتُ له حصيات هن حصى الخذف. فلما وضعهن في يده قال: نعم بأمثال هؤلاء فارموا. وإياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين "2
قال شيخ الإسلام: هذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال، وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار، وهو داخل فيه، مثل الرمي بالحجارة الكبار، بناء على أنه أبلغ من الصغار. ثم علله بما يقتضي مجانبة هدي من كان قبلنا إبعادا عن الوقوع فيما هلكوا به؛ فإن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه من الهلاك.
قوله: "ولمسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " هلك المتنطعون " قالها ثلاثا" .
قال الخطابي: " المتنطع المتعمق في الشيء، المتكلف البحث عنه على مذاهب أهل
فيه مسائل:
الأولى: أن من فهم هذا الباب وبابين بعده تبين له غربة الإسلام، ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب .
الثانية: معرفة أول شرك حدث في الأرض أنه بشبهة الصالحين .
الثالثة: أول شيء غُيِّر به دين الأنبياء، وما سبب ذلك مع معرفة أن الله أرسلهم .
الرابعة: قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تردها .
الخامسة: أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل، فالأول: محبة الصالحين. والثاني: فعل أُناس من أهل العلم شيئا أرادوا به خيرا، فظن من بعدهم أنهم أرادوا به غيره .
السادسة: تفسير الآية(6/430)
التي في سورة نوح .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ورواه أيضا الإمام أحمد وأبو داود, وإنما اقتصر المصنف على ما هو أرجح وأقوى.
2 صحيح أحمد (1/ 215 , 347). ابن ماجة (3029) كتاب المناسك: باب قدر حصى الرمي ولم يروه الترمذي. وإنما هو عند النسائي أيضا (5/ 268) في المناسك: باب التقاط الحصى وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الاقتضاء (ص 106): إسناده صحيح على شرط مسلم. ووافقه الألباني في الصحيحة (1283).(6/431)
ص -228- ... الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم، الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم".
ومن التنطع: الامتناع من المباح مطلقا، كالذي يمتنع من أكل اللحم والخبز،
السابعة: جبلة الآدمي1 في كون الحق ينقص في قلبه والباطل يزيد .
الثامنة: فيه شاهد لما نقل عن السلف أن البدع سبب الكفر .
التاسعة: معرفة الشيطان بما تئول إليه البدعة، ولو حسن قصد الفاعل .
العاشرة: معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو ومعرفة ما تئول إليه .
الحادية عشرة: مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح .
الثانية عشرة: معرفة النهي عن التماثيل والحكمة في إزالتها .
الثالثة عشرة: معرفة شأن هذه القصة وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها .
الرابعة عشرة: وهي أعجب، وأعجب قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث ومعرفتهم بمعنى الكلام، وكون الله حال بينهم وبين قلوبهم، حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح أفضل العبادات، فاعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه فهو الكفر المبيح للدم والمال .
الخامسة عشرة: التصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة .
ومن لبس الكتان والقطن، ولا يلبس إلا الصوف، ويمتنع من نكاح النساء، ويظن أن هذا من الزهد المستحب. قال الشيخ تقي الدين: " فهذا جاهل ضال". انتهى.
وقال ابن القيم -رحمه الله-: قال الغزالي: " والمتنطعون في البحث والاستقصاء".
وقال أبو السعادات: " هم المتعمقون الغالون في الكلام، المتكلمون بأقصى حلوقهم. مأخوذ من النطع، وهو الغار الأعلى من الفم، ثم استعمل في كل متعمق قولا وفعلا".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الجبلة بكسرتين فلام مشددة وكخشبة أيضا الخلقة والطبيعة; والمعنى أن الإنسان مجبول على نقصان الحق في قلبه وزيادة الباطل إلا من رحم الله، وأنزل في قلوبهم السكينة؛ فإن إيمانهم لا يزال يزيد ولا ينقص.(6/432)
ص -229- ... وقال النووي: " فيه كراهة التقعر في الكلام بالتشدق وتكلف الفصاحة، واستعمال وحشي اللغة ودقائق الإعراب في مخاطبة العوام ونحوهم".
قوله: "قالها ثلاثا" أي قال هذه الكلمة ثلاث مرات، مبالغة في التعليم والإبلاغ، فقد بلغ البلاغ المبين. صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
السادسة عشرة: ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك .
السابعة عشرة: البيان العظيم في قوله: " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم "1 فصلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين .
الثامنة عشرة: نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين .
التاسعة عشرة: التصريح بأنها لم تعبد حتى نُسي العلم، ففيها بيان معرفة قدر وجوده ومضرة فقده .
العشرون: أن سبب فقد العلم موت العلماء .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : أحاديث الأنبياء (3445) , وأحمد (1/23 ,1/24 ,1/47) , ومالك : الحدود (1558).
باب: " ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده؟"
في الصحيح " عن عائشة أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلي الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: باب "ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح، فكيف إذا عبده؟".
أي الرجل الصالح؛ فإن عبادته هي الشرك الأكبر. وعبادة الله عنده وسيلة إلى(6/433)
ص -230- ... عبادته، ووسائل الشرك محرمة; لأنها تؤدي إلى الشرك الأكبر وهو أعظم الذنوب.
قوله: "في الصحيح: "عن عائشة -رضي الله عنها- أن أم سلمة ذكرت لرسول الله صلي الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة 1 وما فيها من الصور. فقال: " أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح -أو العبد الصالح-، بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله "2. فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور وفتنة التماثيل".
قوله: "في الصحيح" أي الصحيحين.
قوله: "أن أم سلمة" هي هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشية المخزومية، تزوجها رسول الله صلي الله عليه وسلم بعد أبي سلمة سنة أربع. وقيل: الحبشة وما فيها من الصور، فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح -أو العبد الصالح-، بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله "3 .
ثلاث; وكانت قد هاجرت مع أبي سلمة إلى الحبشة4 ماتت سنة اثنتين وستين.
قوله: "ذكرت لرسول الله" وفي الصحيحين: " أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا ذلك لرسول الله صلي الله عليه وسلم". و"الكنسية" بفتح الكاف وكسر النون: معبد النصارى.
قوله: "أولئك" بكسر الكاف، خطاب للمرأة.
قوله: "إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح" هذا- والله أعلم- شك من بعض رواة الحديث: هل قال النبي صلي الله عليه وسلم هذا أو هذا؟ ففيه التحري في الرواية. وجواز الرواية بالمعنى.(6/434)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأن دين الحبشة: النصرانية. وقد أسلم النجاشي وجماعة من أهلها لما هاجر إليها جعفر بن أبي طالب ومن معه من المسلمين: الهجرة الأولى.
2 البخاري: كتاب الصلاة (427): باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد؟ ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة (528 (16) باب النهي عن بناء المساجد على القبور.
3 إنما كانوا شرار الخلق؛ لأنهم ضلوا وأضلوا وسنوا لمن بعدهم الغلو في القبور وأهلها المفضي بالغالين إلى عبادتها، وكل من فعل فعلهم من هذه الأمة التي سبق عليها القول بأن بعضها يتبع سنن المشركين من أهل الكتاب فهو مثلهم, وفي مثل هؤلاء ورد الحديث الذي في الصحيح: "ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة". وقال تعالى: (ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم) الآية.
4 ثم عادت مع زوجها أبي سلمة إلى مكة, وهاجر أبو سلمة إلى المدينة, وحبسها بنو المغيرة بمكة سنة; ثم لحقت بزوجها في المدينة; وتوفي أبو سلمة رضي الله عنه سنة أربع من الهجرة.(6/435)
ص -231- ... قوله: "وصوروا فيه تلك الصور" الإشارة إلى ما ذكرت أم سلمة وأم حبيبة من التصاوير التي في الكنيسة.
قوله: "أولئك شرار الخلق عند الله" وهذا يقتضي تحريم بناء المساجد على القبور، وقد لعن صلي الله عليه وسلم من فعل ذلك كما سيأتي.
قال البيضاوي: لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيما لشأنهم، ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها، واتخذوها أوثانا لعنهم النبي صلي الله عليه وسلم .
قال القرطبي: وإنما صور أوائلهم الصور ليتأسوا بها ويتذكروا أعمالهم
فهؤلاء جمعوا بين فتنتين: فتنة القبور، وفتنة التماثيل.
الصالحة، فيجتهدوا كاجتهادهم; ويعبدوا الله عند قبورهم، ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم ووسوس لهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها. فحذر النبي صلي الله عليه وسلم عن مثل ذلك، سدا للذريعة المؤدية إلى ذلك 1.
قوله: "فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين: فتنة القبور وفتنة التماثيل" هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، ذكره المصنف -رحمه الله- تنبيها على ما وقع من شدة الفتنة بالقبور والتماثيل؛ فإن الفتنة بالقبور كالفتنة بالأصنام أو أشد.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: " وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع صلي الله عليه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في قرة العيون: ولم يذكر غير بناء المساجد والتصوير؛ لكونه ذريعة إلى عبادة من بنوا عليه المسجد وصوروا صورته، فبذلك صاروا شرار الخلق. فانظر إلى ما وقع في هذه الأمة من ذرائع الشرك والوقوع فيه مما هو أعظم من هذا, كالبناء على القبور وتعظيمها وعبادتها ومع ذلك يعتقدونه دينا وهو الشرك الذي حرمه الله, وأرسل الرسل وأنزل الكتب بالنهي عنه.(6/436)
ص -232- ... عن اتخاذ المساجد على القبور؛ لأنها هي التي أوقعت كثيرا من الأمم إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك. فإن النفوس قد أشركت بتماثيل الصالحين، وتماثيل يزعمون أنها طلاسم الكواكب ونحو ذلك؛ فإن الشرك بقبر الرجل الذي يُعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر. ولهذا تجد أهل الشرك يتضرعون عندها، ويخشعون ويخضعون، ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله ولا وقت السحر، ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد؛ فلأجل هذه المفسدة حسم النبي صلي الله عليه وسلم مادتها، حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقا، وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته، كما يقصد بصلاته بركة المساجد، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها؛ لأنها أوقات يقصد فيها المشركون الصلاة للشمس، فنهى أمته عن الصلاة حينئذ وإن لم يقصد ما قصده المشركون; سدا للذريعة. وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركا بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادّة لله ولرسوله، والمخالفة لدينه، وابتداع دين لم يأذن به الله؛ فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين الرسول صلي الله عليه وسلم أن الصلاة عند القبور منهي عنها، وأنه صلي الله عليه وسلم لعن من اتخذها مساجد، فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك: الصلاة عندها واتخاذها مساجد، وبناء المساجد عليها. وقد تواترت النصوص عن النبي صلي الله عليه وسلم بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه. وقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة. وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك. وطائفة أطلقت الكراهة والذي ينبغي أن تحمل على كراهة التحريم; إحسانا للظن بالعلماء، وأن لا يظن بهم أن يجوزوا فعل ما تواتر عن رسول الله صلي الله عليه وسلم لعن فاعله والنهي عنه" اهـ كلامه رحمه الله تعالى.(6/437)
قوله: "ولهما عنها- أي عن عائشة رضي الله عنها- قالت: " لما نُزل برسول الله صلي الله عليه وسلم طَفِق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها فقال - وهو كذلك -: لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا. ولولا ذلك أبرز(6/438)
ص -233- ... قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا "1 أخرجاه".
قوله: "ولهما" أي البخاري ومسلم. وهو يغني عن قوله في آخره "أخرجاه" .
قوله: "لما نزل" هو بضم النون وكسر الزاي. أي نزل به ملك الموت والملائكة الكرام عليهم السلام.
قوله: "طفق" بكسر الفاء وفتحها، والكسر أفصح. وبه جاء القرآن، ومعناه جعل.
قوله: "خميصة" بفتح المعجمة والصاد المهملة. كساء له أعلام.
قوله: "فإذا اغتم بها كشفها" أي عن وجهه.
قوله: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد2 يبين أن من فعل مثل ذلك حل عليه من اللعنة ما حل على اليهود والنصارى.
قوله: "يحذر ما صنعوا" الظاهر أن هذا من كلام عائشة -رضي الله عنها-؛ لأنها فهمت من قول النبي صلي الله عليه وسلم ذلك تحذير أمته من هذا الصنيع الذي كانت تفعله اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم؛ فإنه من الغلو في الأنبياء، ومن أعظم الوسائل إلى الشرك. ومن غربة الإسلام أن هذا الذي لعن رسول الله صلي الله عليه وسلم فاعليه- تحذيرا لأمته(6/439)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نزل: بضم النون وكسر الزاي أي نزل به علامات الوفاة، وخاف على أمته أن يتخذوا قبره مسجدا، ويغلوا فيه فيشركون بالله كما فعل الذين لعنهم فحذرهم من ذلك, جزاه الله خير الجزاء.
2 هذا هو الشاهد للترجمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعنهم على تحري الصلاة عندها، وإن كان المصلي إنما يصلي لله. فمن كان يصلي عند القبور ويتخذها مساجد فهو ملعون؛ لأنه ذريعة إلى عبادتها، فكيف إذا عبد المقبور فيها بأنواع العبادة، وسأله ما لا قدرة له عليه. وهذا هو الغاية التي يكون اتخاذ القبور مساجد ذريعة إليها. وليست اللعنة خاصة باليهود والنصارى لأشخاصهم أو أزمانهم أو أسمائهم, وإنما هي لأعمالهم, وكذلك من فعل فعلهم، فمن فعل ما هو أعظم من فعلهم أولى باللعن, وإنما أراد صلى الله عليه وسلم تحذير أمته أن يتعرضوا لما تعرض له اليهود والنصارى من اللعنة؛ ولذلك قالت عائشة "يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك لأبرز قبره".(6/440)
ص -234- ... أن يفعلوه معه صلي الله عليه وسلم ومع الصالحين من أمته- قد فعله الخلق الكثير من متأخري هذه الأمة، واعتقدوه قربة من القربات، وهو من أعظم السيئات والمنكرات، وما شعروا أن ذلك محادة لله ورسوله.
قال القرطبي في معنى الحديث: " وكل ذلك لقطع الذريعة المؤدية إلى عبادة من فيها كما كان السبب في عبادة الأصنام". انتهى.
إذ لا فرق بين عبادة القبر ومن فيه وعبادة الصنم، وتأمل قول الله تعالى عن نبيه يوسف بن يعقوب حيت قال: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}1 نكرة في سياق النفي تعم كل شرك. قوله: "ولولا ذلك" أي ما كان يحذر من اتخاذ قبر النبي صلي الله عليه وسلم مسجدا لأبرز قبره، وجعل مع قبور الصحابة الذين كانت قبورهم في البقيع.
قوله: "غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا" روي بفتح الخاء وضمها، فعلى الفتح يكون هو الذي خشي ذلك صلي الله عليه وسلم وأمرهم أن يدفنوه في المكان الذي قبض فيه. وعلى
ولمسلم: عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلي الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس
رواية الضم يحتمل أن يكون الصحابة هم الذين خافوا أن يقع ذلك من بعض الأمة، قلم يبرزوا قبره، خشية أن يقع ذلك من بعض الأمة غلوا وتعظيما بما أبدى وأعاد من النهي والتحذير منه ولعن فاعله.
قال القرطبي: " ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي صلي الله عليه وسلم فأعلوا حيطان تربته وسدوا المداخل إليها، وجعلوها محدقة بقبره صلي الله عليه وسلم ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذا كان مستقبل المصلين، فتصور الصلاة إليه بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال حتى لا يمكنوا أحدا من استقبال قبره" . 2 انتهى(6/441)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يوسف آية : 38.
2 وكان هذا الوضع قد جعل القبر لاصقا بالجدار الذي فيه باب جبريل، ولكن قد أزيل هذا الوضع وأخلي حول القبر من جهاته الأربع, وأصبح كثير من المصلين يستقبلونه ممن يكون في الموضع الخاص بالأغوات, وفي المكان الخاص بالنساء, وأصبح عرضة لأن يطاف به. وقد رأيت كثيرا من العامة يطوفون به، ويحاولون التمسح به لولا منع الجند الذين خصصتهم الحكومة السعودية لذلك المنع، ومهما حرص الجند على أداء وظيفتهم، فلن يمكنهم ولا أي قوة أن تمنع هذا منعا باتا, اللهم إلا العلم الذي ينير قلوب الجمهور الإسلامي ويعرفهم حقيقة محبة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها إنما تكون بإتباع دينه كما كان أصحابه -رضي الله عنهم- يفعلون, وهم أشد الناس حبا لله ولرسوله. وأن يعود الناس إلى الأمر الأول الذي كان عليه السلف الصالح في كل شئونهم, فعند ذلك لا حاجة لجند ولا قوة. والله يهدي الناس إلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم.(6/442)
ص -235- ... قوله: "ولمسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي صلي الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: " إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإن الله قد اتخذني خليلا; كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا. ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك ".
وهو يقول: " إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا،
قوله: "عن جندب بن عبد الله" أي ابن سفيان البجلي، وينسب إلى جده، صحابي مشهور، مات بعد الستين.
قوله: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل" أي أمتنع عما لا يجوز لي أن أفعله. والخلة فوق المحبة. والخليل هو المحبوب غاية الحب، مشتق من الخلة - بفتح الخاء - وهي تخلل المودة في القلب، كما قال الشاعر:
قد تخللت مسلك الروح مني ... وبذا سمي الخليل خليلا
هذا هو الصحيح في معناها. كما ذكره شيخ الإسلام وابن القيم وابن كثير وغيرهم رحمهم الله تعالى.
قال القرطبي: " وإنما كان ذلك؛ لأن قلبه صلي الله عليه وسلم قد امتلأ من محبة الله وتعظيمه ومعرفته فلا يسع خلة غيره".
قوله: "فإن الله قد اتخذني خليلا" فيه بيان أن الخلة فوق المحبة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد ذكر الشارح بعد هذا بعض ما ذكر المصنف من المسائل المستنبطة من حديث الباب حذفناها لعدم التكرار.(6/443)
ص -236- ... قال ابن القيم رحمه الله: " وأما ما يظنه بعض الغالطين من أن المحبة أكمل من الخلة، وأن إبراهيم خليل الله، ومحمد حبيب الله فمن جهلهم، فإن المحبة عامة، والخلة خاصة وهي نهاية المحبة. وقد أخبر النبي صلي الله عليه وسلم أن الله قد اتخذه خليلا ونفى أن يكون له خليل غير ربه، مع إخباره بحبه لعائشة ولأبيها، ولعمر بن الخطاب، ومعاذ بن جبل وغيرهم -رضي الله عنهم-. وأيضا فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ويحب الصابرين، وخلته خاصة بالخليلين".
قوله: "ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا" فيه بيان أن الصديق أفضل الصحابة. وفيه الرد على الرافضة وعلى الجهمية وهما شر أهل البدع، وأخرجهم بعض السلف من الثنتين والسبعين فرقة. وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد. قاله المصنف -رحمه الله-، وهو كما قال بلا ريب 1.
وفيه إشارة إلى خلافة أبي بكر؛ لأن من كانت محبته لشخص أشد كان أولى به من غيره. وقد استخلفه على الصلاة بالناس، وغضب صلي الله عليه وسلم لما قيل يصلي بهم عمر2، وذلك في مرضه الذي توفي فيه صلي الله عليه وسلم .
واسم أبي بكر: عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة الصديق الأكبر، خليفة رسول الله صلي الله عليه وسلم وأفضل الصحابة بإجماع من يعتد(6/444)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فإن أول من فعل ذلك العبيديون الذين زعموا كذبا أنهم فاطميون. شيدوا للحسين رضي الله عنه وبرأه الله منهم ومن شيعتهم ومحبيهم- قبرا بالقاهرة، ورفعوا عليه قبة عظيمة وبنوا له المسجد المشهور الذي بالقاهرة, يقام فيه من الأعمال الشركية ما يغضب الله ورسوله وآل بيته وكل من في قلبه حب الله ورسوله والإيمان الصحيح. وقد صنف كثير من العلماء السالفين في بيان كذب أولئك العبيديين وبيان نحلتهم الكافرة الفاجرة، وأنهم كانوا يظهرون الرفض ويبطنون الكفر. وممن كتب في ذلك الإمام أبو بكر الباقلاني في كتاب نفيس سماه كشف الأسرار وهتك الأستار; والإمام ابن الجوزي وغيرهم. انظر في ذلك البداية والنهاية للعماد ابن كثير في حوادث سنة 402 (ج 11 ص 249).
2 الذي قال ذلك وعرضه: عائشة -رضي الله عنها- كما في صحيح البخاري: قالت: "إن أبا بكر رجل أسيف, لا يملك نفسه إذا صلى. فمر عمر يصلي بالناس. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنكن صواحب يوسف, مروا أبا بكر فليصل بالناس" .(6/445)
ص -237- ... بقوله من أهل العلم. مات في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة، وله ثلاث وستون سنة رضي الله عنه .
قوله: "ألا" حرف استفتاح "ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد - الحديث" قال الخلخالي: وإنكار النبي صلي الله عليه وسلم صنيعهم هذا مخرج على وجهين: أحدهما: أنهم يسجدون لقبور الأنبياء تعظيما.
الثاني: أنهم يجوزون الصلاة في مدافن الأنبياء والتوجه إليها حالة الصلاة، نظرا منهم بذلك إلى عبادة الله والمبالغة في تعظيم الأنبياء. والأول: هو الشرك الجلي. والثاني: الخفي. فلذلك استحقوا اللعن.
قوله: "فقد نهى عنه في آخر حياته" أي كما في حديث جندب. وهذا من كلام شيخ الإسلام. وكذا ما بعده.
ثم إنه لعن وهو في السياق مَن فعله. والصلاة عندها من ذلك وإن لم يُبن مسجد.
قوله: "ثم إنه لعن، وهو في السياق1 مَن فعله" كما في حديث عائشة.
قلت: فكيف يسوغ بعد هذا التغليظ من سيد المرسلين أن تعظم القبور ويبنى عليها، ويصلى عندها وإليها؟ هذا أعظم مشاقة ومحادّة لله تعالى ولرسوله لو كانوا يعقلون.
قوله: "الصلاة عندها من ذلك، وإن لم يبن مسجد" أي من اتخاذها مساجد الملعون فاعله.
وهذا يقتضي تحريم الصلاة عند القبور وإليها.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعا: " الأرض كلها مسجد إلا المقبرة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي في سياق الموت، أصله "سواق" قلبت الواو ياء لكسر السين, كأن روحه تساق لتخرج من البدن, وسياق وسواق مصدران من ساق يسوق.(6/446)
ص -238- ... والحمام "1 رواه أحمد وأهل السنن وصححه ابن حبان والحاكم.
قال ابن القيم -رحمه الله-: وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه وفهم عن رسول الله صلي الله عليه وسلم مقاصده، جزم جزما لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة واللعن والنهي بصيغته - صيغة "لا تفعلوا"، وصيغة "إني أنهاكم عن ذلك"- ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة لمن عصاه، وارتكب ما عنه نهاه، واتبع هواه، ولم يخش ربه ومولاه، وقل نصيبه أو عُدم من "لا إله إلا الله" فإن هذا وأمثاله من النبي صلي الله عليه وسلم صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه، وتجريد له وغضب لربه،
وهو معنى قولها: "خشي أن يتخذ مسجدا"؛ فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا. وكل موضع قُصد الصلاة فيه فقد اتُّخذ مسجدا، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجدا كما قال صلي الله عليه وسلم: " جُعلت لي الأرض مسجدا وطهورا "2 .
أن يعدل به سواه، فأبى المشركون إلا معصية لأمره وارتكابا لنهيه، وغرهم الشيطان بأن هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين. وكلما كنتم لها أشد تعظيما وأشد فيهم غلوا كنتم بقربهم أسعد، ومن أعدائهم أبعد، ولعمر الله، من هذا الباب دخل الشيطان على عبّاد يعوق ويغوث ونسر; ودخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة; فجمع المشركون بين الغلو فيهم والطعن في طريقتهم، فهدى الله أهل التوحيد لسلوك طريقتهم وإنزالهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها من العبودية وسلب خصائص الإلهية عنهم.
قال الشارح -رحمه الله تعالى-: وممن علل بخوف الفتنة بالشرك: الإمام الشافعي، وأبو بكر الأثرم، وأبو محمد المقدسي، وشيخ الإسلام وغيرهم -رحمهم الله-. وهو الحق الذي لا ريب فيه.
قوله: "فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا" أي لما علموا من تشديده في ذلك وتغليظه النهي عنه، ولعن من فعله.
قوله: "وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدا" أي وإن لم يبن مسجد، بل(6/447)
كل موضع يصلى فيه يسمى مسجدا، يعني وإن لم يقصد بذلك، كما إذا عرض لمن أراد أن يصلي فأوقع الصلاة في ذلك الموضع الذي حانت الصلاة عنده من غير أن يقصد ذلك الموضع بخصوصه، فصار بفعل الصلاة فيه مسجدا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح: أحمد (3/ 83). أبو داود: كتاب الصلاة (492): باب في المواضع التي لا تجوز فيها الصلاة، والترمذي: كتاب أبواب الصلاة (317): باب ما جاء أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام. وابن ماجة: كتاب المساجد (745): باب المواضع التي يكره فيها الصلاة. وابن حبان (338- موارد). والحاكم (1/ 251): وصححه الشيخ شاكر في تعليقه على الترمذي. والألباني في أحكام الجنائز (137). (*) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (ج 19/ 26): "علة النهي أن ذلك ذريعة إلى الشرك مع أن المقابر تكون أيضا مأوى للشياطين" ا هـ .
2 البخاري : التيمم (335) , ومسلم : المساجد ومواضع الصلاة (521) , والنسائي : الغسل والتيمم (432) والمساجد (736) , وأحمد (3/304) , والدارمي : الصلاة (1389).(6/448)
ص -239- ... قوله: "كما قال صلي الله عليه وسلم: " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا "12" أي فسمى الأرض مسجدا، تجوز الصلاة في كل بقعة منها إلا ما استثنى من المواضع التي لا تجوز الصلاة فيها، كالمقبرة ونحوها.
ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا. " إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد "3 ورواه أبو حاتم في صحيحه.
قال البغوي في شرح السنة: " أراد أن أهل الكتاب لم تبح لهم الصلاة إلا في بيعهم وكنائسهم; فأباح الله لهذه الأمة الصلاة حيث كانوا، تخفيفا عليهم وتيسيرا، ثم خص من جميع المواضع: الحمام والمقبرة والمكان النجس". انتهى.
قوله: "ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود مرفوعا: " إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد ". ورواه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه" 4.
قوله: "إن من شرار الناس" بكسر الشين جمع شرير.(6/449)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: كتاب الصلاة (438): باب قول النيي صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " ومسلم: كتاب المساجد (523) (5) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
2 رواه البخاري ومسلم عن جابر رضي الله عنه, وفيه زيادة: "فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل حيث أدركته".
3 صحيح. أحمد (1/ 435). ابن حبان (340) في الصلاة: باب ما جاء في الصلاة في الحمام والمقبرة. وقال ابن تيمية في الاقتضاء (158): وإسناده جيد وصححه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند (3844 , 4143) وصححه الألباني في تحذير الساجد (ص 19).
4 في قرة العيون: (قلت) وقد وقع هذا في الأمة كثيرا كما وقع في أهل الجاهلية قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم كما لا يخفى على ذوي البصائر. وقد زاد هؤلاء المتأخرون من هذه الأمة على ما وقع من أهل الجاهلية من هذا الشرك بأمور: (منها) أنهم يخلصون عند الاضطرار لغير الله وينسون الله. (ومنها) أنهم يعتقدون أن آلهتهم من الأموات يتصرفون في الكون دون الله. وجمعوا بين نوعي الشرك في الإلهية والربوبية, وقد سمعنا ذلك منهم مشافهة, ومن ذلك قول ابن كمال من أهل عمان وأمثاله: إن عبد القادر الجيلاني يسمع من دعاه ومع سماعه ينفع, فزعم أنه يعلم الغيب وهو ميت، فلقد ذهب عقل هذا وضل فكفر بما أنزله الله في كتابه كقوله: (35: 14) (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير). فما صدقوا الخبير فيما أخبر به عن آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله, ولا آمنوا بما أنزله الله في كتابه بل بالغوا وعاندوا في رده وكذبوا وألحدوا، وكابروا المعقول والمنقول فالله المستعان.(6/450)
ص -240- ... قوله: "من تدركهم الساعة وهم أحياء" أي مقدماتها، كخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها. وبعد ذلك ينفخ في الصور نفخة الفزع.
فيه مسائل:
الأولى: ما ذكر الرسول فيمن بنى مسجدا يعبد الله فيه عند قبر رجل صالح، ولو صحت نية الفاعل .
الثانية: النهي عن التماثيل وغِلظ الأمر في ذلك .
قوله: "والذين يتخذون القبور مساجد" معطوف على خبر إن في محل نصب على نية تكرار العامل، أي وإن من شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد أي بالصلاة عندها وإليها، وبناء المساجد عليها، وتقدم في الأحاديث الصحيحة أن هذا من عمل اليهود والنصارى، وأن النبي صلي الله عليه وسلم لعنهم على ذلك، تحذيرا للأمة أن يفعلوا مع نبيهم وصالحيهم مثل اليهود والنصارى. فما رفع أكثرهم بذلك رأسا، بل اعتقدوا أن هذا الأمر قربة لله تعالى، وهو مما يبعدهم عن الله ويطردهم عن رحمته ومغفرته. والعجب أن أكثر من يدعي العلم ممن هو من هذه الأمة لا ينكرون ذلك، بل ربما استحسنوه ورغّبوا في فعله، فلقد اشتدت غربة الإسلام وعاد المعروف منكرا والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، نشأ على هذا الصغير وهرم عليه الكبير.
قال شيخ الإسلام: " أما بناء المساجد على القبور فقد صرح عامة الطوائف بالنهي عنه، متابعة للأحاديث الصحيحة. وصرح أصحابنا وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريمه. قال: ولا ريب في القطع بتحريمه، ثم ذكر الأحاديث في ذلك "إلى أن قال" وهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين، أو الملوك وغيرهم تتعين إزالتها بهدم أو غيره. هذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء المعروفين".
وقال ابن القيم -رحمه الله-: " يجب هدم القباب التي بنيت على القبور؛ لأنها أُسست على معصية الرسول صلي الله عليه وسلم، وقد أفتى جماعة من الشافعية بهدم ما في القرافة من الأبنية، منهم ابن الجميزي والظهير الترميني وغيرهما".
وقال القاضي ابن كج: " ولا يجوز أن تجصص القبور، ولا(6/451)
أن يبنى عليها قباب، ولا غير قباب، والوصية بها باطلة(6/452)
ص -241- ... الثالثة: العبرة في مبالغته صلي الله عليه وسلم في ذلك. كيف بيّن لهم هذا أولا، ثم قبل موته بخمس، قال ما قال، ثم لما كان في السياق لم يكتف بما تقدم.
الرابعة: نهيه عن فعله عند قبره قبل أن يوجد القبر.
الخامسة: أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم.
السادسة: لعنه إياهم على ذلك.
السابعة: أن مراده تحذيره إيانا عن قبره.
الثامنة: العلة في عدم إبراز قبره.
وقال الأذرعي: " وأما بطلان الوصية ببناء القباب وغيرها من الأبنية وإنفاق الأموال الكثيرة، فلا ريب في تحريمه".
وقال القرطبي في حديث جابر رضي الله عنه: " نهى أن يجصص القبر أو يبنى عليه " 1: " وبظاهر هذا الحديث قال مالك، وكره البناء والجص على القبور. وقد أجازه غيره، وهذا الحديث حجة عليه".
وقال ابن رشد: " كره مالك البناء على القبر وجعل البلاطة المكتوبة، وهو من بدع أهل الطول، أحدثوه إرادة الفخر والمباهاة والسمعة، وهو مما لا اختلاف عليه".
وقال الزيلعي في شرح الكنز: " ويكره أن يبنى على القبر. وذكر قاضي خان: أنه لا يجصص القبر ولا يبنى عليه؛ لما روي عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه نهى عن التجصيص والبناء فوق القبر. والمراد بالكراهة - عند الحنفية رحمهم الله - كراهة التحريم. وقد ذكر ذلك ابن نجيم في شرح الكنز".
وقال الشافعي -رحمه الله-: " أكره أن يعظم مخلوق، حتى يجعل قبره مسجدا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس". وكلام الشافعي -رحمه الله- يبين أن مراده بالكراهة كراهة التحريم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم: كتاب الجنائز (970) (94): باب النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه.(6/453)
ص -242- ... التاسعة: في معنى اتخاذها مسجدا.
العاشرة: أنه قرن بين من اتخذها وبين من تقوم عليه الساعة، فذكر الذريعة إلى الشرك قبل وقوعه مع خاتمته.
الحادية عشرة: ذكره في خطبته قبل موته بخمس: الرد على الطائفتين اللتين هما أشر أهل البدع، بل أخرجهم بعض أهل العلم من الثنتين والسبعين فرقة، وهم الرافضة والجهمية. وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور وهم أول من بنى عليها المساجد. الثانية عشرة: ما بُلي به صلي الله عليه وسلم من شدة الفزع.
الثالثة عشرة: ما أكرم به من الخلة.
الرابعة عشرة: التصريح بأنها أعلى من المحبة.
الخامسة عشرة: التصريح بأن الصديق أفضل الصحابة.
السادسة عشرة: الإشارة إلى خلافته.
قال الشارح -رحمه الله تعالى-: " وجزم النووي رحمه الله في شرح المهذب بتحريم البناء مطلقا، وذكر في شرح مسلم نحوه أيضا".
وقال أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة إمام الحنابلة صاحب المصنفات الكبار كالمغني، والكافي وغيرهما -رحمه الله تعالى-: " ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " لعن الله اليهود والنصارى "1 الحديث، وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام: تعظيم الأموات واتخاذ صورهم، والتمسح بها والصلاة عندها". انتهى 2.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: " وأما المقبرة فلا فرق فيها بين الجديدة والعتيقة، انقلبت تربتها أو لم تنقلب. ولا فرق بين أن يكون بينه وبين الأرض حائل أو لا; لعموم الاسم وعموم العلة؛ ولأن النبي صلي الله عليه وسلم لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ومعلوم أن قبور الأنبياء لا تنجس".
وبالجملة فمن علل النهي عن الصلاة في المقبرة بنجاسة التربة خاصة فهو بعيد عن مقصود النبي صلي الله عليه وسلم، ثم لا يخلو أن يكون القبر قد بني عليه مسجد، فلا يصلي في هذا المسجد سواء صلى خلف القبر أو أمامه بغير خلاف في المذهب؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " إن(6/454)
من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك "3. وخص قبور الأنبياء لأن عكوف الناس على قبورهم أعظم; واتخاذها مساجد أشد، وكذلك إن لم يكن عليه بني مسجد، فهذا قد ارتكب حقيقة المفسدة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه برقم [166].
2 وقد صرح ابن حجر الهيتمي المكي في كتابه الكبائر: (( أن بناء القباب على القبور من الكبائر المحرمة بالنص الصريح. وأن الواجب على ملوك المسلمين وأمرائهم وولاتهم أن يهدموا هذه القباب ويبدأوا بقبة الإمام الشافعي )) .
3 تقدم تخريجه برقم [167].(6/455)
ص -243- ... التي كان النهي عن الصلاة عند القبور من أجلها، فإن كل مكان صلي فيه يسمى مسجدا، كما قال صلي الله عليه وسلم : " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا "1. وإن كان موضع قبر أو قبرين. وقال بعض أصحابنا: لا يمنع الصلاة فيها؛ لأنه لا يتناولها اسم المقبرة، وليس في كلام أحمد ولا بعض أصحابه هذا الفرق، بل عموم كلامهم يقتضي منع الصلاة عند كل قبر. وقد تقدم عن علي رضي الله عنه أنه قال: " لا أصلي في حمام ولا عند قبر " .
فعلى هذا ينبغي أن يكون النهي متناولا لحريم القبر وفنائه، ولا تجوز الصلاة في مسجد بني في مقبرة، سواء كان له حيطان تحجز بينه وبين القبور أو كان مكشوفا.
قال في رواية الأثرم: " إذا كان المسجد بين القبور لا يصلى فيه الفريضة، وإن كان بينها وبين المسجد حاجز فرخص أن يصلى فيه على الجنائز، ولا يصلى فيه على غير الجنائز. وذكر حديث أبي مرثد عن النبي صلي الله عليه وسلم: " لا تصلوا على القبور "2. وقال: إسناده جيد". انتهى.
ولو تتبعنا كلام العلماء في ذلك لاحتمل عدة أوراق. فتبين بهذا أن العلماء -رحمهم الله- بينوا أن علة النهي ما يؤدي إليه ذلك من الغلو فيها وعبادتها من دون الله كما هو الواقع والله المستعان.
وقد حدث بعد الأئمة الذين يعتد بقولهم أناس كثر في أبواب العلم بالله اضطرابهم، وغلظ عن معرفة ما بعث الله به رسوله من الهدى والعلم حجابهم، فقيدوا نصوص الكتاب والسنة بقيود أوهنت الانقياد، وغيّروا بها ما قصده الرسول صلي الله عليه وسلم بالنهي وأراد. فقال بعضهم: النهي عن البناء على القبور يختص المقبرة المسبلة، والنهي عن الصلاة فيها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه برقم [169].
2 مسلم: كتاب الجنائز (972) (98): باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه.(6/456)
ص -244- ... لتنجسها بصديد الموتى، وهذا كله باطل من وجوه: منها: أنه من القول على الله بلا علم. وهو حرام بنص الكتاب.
ومنها: أن ما قالوه لا يقتضي لعن فاعله والتغليظ عليه، وما المانع له أن يقول: من صلى في بقعة نجسة فعليه لعنة الله. ويلزم على ما قاله هؤلاء أن النبي صلي الله عليه وسلم لم يبين العلة، وأحال الأمة في بيانها على من يجيء بعده صلي الله عليه وسلم وبعد القرون المفضلة والأئمة، وهذا باطل قطعا وعقلا وشرعا؛ لما يلزم عليه من أن الرسول صلي الله عليه وسلم عجز عن البيان أو قصر في البلاغ، وهذا من أبطل الباطل؛ فإن النبي صلي الله عليه وسلم بلغ البلاغ المبين، وقدرته في البيان فوق قدرة كل أحد، فإذا بطل اللازم بطل الملزوم.
ويقال أيضا: هذا اللعن والتغليظ الشديد إنما هو فيمن اتخذ قبور الأنبياء مساجد، وجاء في بعض النصوص ما يعم الأنبياء وغيرهم، فلو كانت هذه هي العلة لكانت منتفية في قبور الأنبياء، لكون أجسادهم طرية لا يكون لها صديد يمنع من الصلاة عند قبورهم، فإذا كان النهي عن اتخاذ المساجد عند القبور يتناول قبور الأنبياء بالنص، علم أن العلة ما ذكره هؤلاء العلماء الذين قد نقلت أقوالهم، والحمد لله على ظهور الحجة وبيان المحجة. والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
باب: "ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله"
روى مالك في الموطأ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله".(6/457)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : المساجد ومواضع الصلاة (530) , والنسائي : الجنائز (2047) , وأحمد (2/246).(6/458)
ص -245- ... "روى مالك في الموطأ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد; اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "1".
هذا الحديث رواه مالك مرسلا عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: الحديث ". ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عجلان عن زيد بن أسلم به، ولم يذكر عطاء. ورواه البزار عن زيد عن عطاء عن أبي سعيد الخدري مرفوعا.
وله شاهد عند الإمام أحمد بسنده عن سهيل ابن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رفعه: " اللهم لا تجعل قبري وثنا، لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "2 قوله: "روى مالك في الموطأ" هو الإمام مالك بن أنس بن مالك ابن أبي عامر ابن عمرو الأصبحي، أبو عبد الله المدني، إمام دار الهجرة وأحد الأئمة الأربعة، وأحد المتقنين للحديث، حتى قال البخاري: " أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر". مات سنة تسع وسبعين ومائة. وكان مولده سنة ثلاث وتسعين. وقيل: أربع وتسعين.
وقال الواقدي: بلغ تسعين سنة.
قوله: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد" قد استجاب الله دعاءه كما قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-:
فأجاب رب العالمين دعاءه ... وأحاطه بثلاثة الجدران
حتى غدت أرجاؤه بدعائه ... في عزة وحماية وصيان
ودل الحديث على أن قبر النبي صلي الله عليه وسلم لو عبد لكان وثنا، لكن حماه الله تعالى بما حال بينه وبين الناس فلا يوصل إليه. ودل الحديث على أن الوثن هو ما يباشره العابد من القبور والتوابيت التي عليها. وقد عظمت الفتنة بالقبور لتعظيمها وعبادتها، كما قال(6/459)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في قرة العيون: وذلك أنه صلى الله عليه وسلم خاف أن يقع في أمته في حقه، كما وقع من اليهود والنصارى في حق أنبيائهم من عبادتهم من دون الله، وسبب ذلك الغلو فيها كما قال تعالى: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل). وكذلك رغب صلى الله عليه وسلم إلى ربه أن لا يجعل قبره وثنا يعبد, وقد عبدت القبور بأنواع العبادة كما لا يخفى, وتقدم في حديث عائشة -رضي الله عنها- "ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا". وقد استجاب الله دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم وصان قبره، وأحاطه بثلاثة جدران.
2 صحيح. مالك في الموطأ (رقم 85) في قصر الصلاة في السفر: باب جامع الصلاة. عن عطاء بن يسار مرسلا. وابن أبي شيبة (3/ 345) عن زيد بن أسلم مرسلا. ووصله أحمد في المسند (2/ 246) من حديث أبي هريرة ووصله البزار (440- كشف الأستار) من حديث أبي سعيد الخدري. وصححه الألباني في تحذير الساجد (ص 18 , 19).(6/460)
ص -246- ... عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير، وينشأ فيها الصغير، تجري على الناس يتخذونها سنة، إذا غُيّرت قيل: غيرت السنة "1 انتهى.
ولخوف الفتنة نهى عمر عن تتبع آثار النبي صلي الله عليه وسلم .
قال ابن وضاح: سمعت عيسى بن يونس يقول: " أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلي الله عليه وسلم "2 3 فقطعها؛ لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها; فخاف عليهم الفتنة".
وقال المعرور بن سويد: "صليت مع عمر بن الخطاب بطريق مكة صلاة الصبح. ثم رأى الناس يذهبون مذاهب، فقال: أين يذهب هؤلاء؟ فقيل: يا أمير المؤمنين، مسجد صلى فيه النبي صلي الله عليه وسلم فهم يصلون فيه، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا، كانوا يتتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعا، فمن أدركته الصلاة في هذه المساجد فليصل، ومن لا فليمض ولا يتعمدها".
وفي مغازي ابن إسحاق من زيادات يونس بن بكير عن أبي خلدة خالد بن دينار. حدثنا أبو العالية قال: "لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرا عليه رجل ميت، عند رأسه مصحف، فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر; فدعا له كعبا فنسخه بالعربية، فأنا أول رجل قراه من العرب، قرأته مثل ما أقرأ القرآن. فقلت لأبي العالية: ما كان فيه؟ قال: سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد. قلت: فماذا صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا له بالنهار ثلاثة عشر قبرا متفرقة. فلما كان الليل دفناه وسوينا القبور كلها لنُعميّه على الناس لا ينبشونه. قلت: وما يرجون منه؟ قال: كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون. فقلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له: دانيال. فقلت: منذ كم وجدتموه مات؟ قال: منذ ثلاثمائة سنة. قلت: ما كان تغيّر منه شيء؟ قال: لا، إلا شعيرات(6/461)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح. أخرجه الدارمي (1/ 60). والحاكم (4/ 514)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/ 188). وصححه الألباني في صلاة التراويح ص (50). وقال: وهذا الأثر وإن كان موقوفا فهو في حكم الرفع؛ لأن ما فيه من التحدث عن أمور غيبية لا تقال إلا بالوحي، فهو من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم فقد تحققت كل جملة فيه.. والحديث في مصادره مطول وقد اختصر هنا المصنف.
2 قال الحافظ في الفتح (7/ 448): "وجدت عند ابن سعد بإسناد صحيح عن نافع أن عمر بلغه أن قوما يأتون الشجرة فيصلون عندها فتوعدهم ثم أمر بقطعها فقطعت" ا هـ .
3 كان ذلك في صلح الحديبية. وهي الشجرة التي ذكرها الله تعالى في سورة الفتح: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة); وذلك حين أشاع الناس أن عثمان بن عفان قتلته قريش حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم سفيرا بينه وبين قريش, فقال: لا نبرح حتى نناجز القوم, ودعا رسول الله الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان على الموت, وكان المبايعون ألفا وأربعمائة, ثم أتى رسول الله أن الذي كان من أمر عثمان باطل. والقصة رواها البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب السير والمغازي.(6/462)
ص -247- ... من قفاه، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض 1.
{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} قال ابن القيم -رحمه الله-: " ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار -رضي الله عنهم- من تعمية قبره لئلا يفتتن به، ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به; ولو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسيف ولعبدوه من دون الله".
قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: وهو إنكار منهم لذلك; فمن قصد بقعة يرجو الخير بقصدها ولم يستحب الشارع قصدها- فهو من المنكرات، وبعضه أشد من بعض، سواء قصدها ليصلي عندها أو ليدعو عندها، أو ليقرأ عندها أو ليذكر الله عندها، أو لينسك عندها بحيث يخص تلك البقعة بنوع من العبادة التي لم يشرع تخصيصها به لا نوعا ولا عينا، إلا أن ذلك قد يجوز بحكم الاتفاق لا لقصد الدعاء فيها، كمن يزورها ويسلم عليها، ويسأل الله العافية له وللموتى، كما جاءت به السنة. وأما تحري الدعاء عندها بحيث يستشعر أن الدعاء هناك أجوب منه في غيره، فهذا هو المنهي عنه. انتهى ملخصا.
قوله: "اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" فيه تحريم البناء على(6/463)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكرها الطبري (ج 4 ص 220) في حوادث سنة 17 قال: قيل لأبي سبرة هذا جسد دانيال في هذه المدينة. قال: وما لنا بذلك؟ فأقره بأيديهم، ثم ذكر خبر دانيال وسبي بختنصر له من بيت المقدس وموته بالسوس; فكان هنالك يستسقى بجسده, فلما فتحها المسلمون أتوا به فأقروه في أيديهم; حتى إذا ولى أبو سبرة عنهم إلى جندي سابور أقام أبو موسى بالسوس، وكتب إلى عمر فيه. إلخ القصة. وقد ذكرها أبو عبيد في الأموال ص 343 رقم 876 عن قتادة قال: "لما فتحت السوس وعليهم أبو موسى الأشعري وجدوا دانيال في إبرن, وإذا إلى جانبه مال موضوع وكتاب فيه: من شاء أتى فاستقرض منه إلى أجل, فإن أتى به إلى ذلك الأجل وإلا برص. فكتب إليه عمر: كفنه وحنطه وصل عليه ثم ادفنه كما دفنت الأنبياء صلوات الله عليهم. وانظر ماله فاجعله في بيت مال المسلمين. قال: فكفنه في قباطي بيض وصلى عليه ودفنه". وقال البلاذري: ص 371 "ورأى أبو موسى في قبلتهم بيتا وعليه ستر فسأل عنه فقيل: إن فيه جثة دانيال النبي, فإنهم كانوا أقحطوا, فسألوا أهل بابل دفعه إليهم ليستسقوا به ففعلوا. وكان بختنصر سبى دانيال وأتى به إلى بابل فقبض بها. فكتب أبو موسى بذلك إلى عمر, فكتب إليه عمر أن كفنه وادفنه. فسكر أبو موسى نهرا حتى إذا انقطع دفنه ثم أجرى الماء عليه".(6/464)
ص -248- ... القبور، وتحريم الصلاة عندها، وأن ذلك من الكبائر. وفي القِرَى للطبري1 من أصحاب مالك عن مالك أنه كره أن يقول: زرت قبر النبي صلي الله عليه وسلم، وعلل ذلك بقوله صلي الله عليه وسلم: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد "2 الحديث. كره إضافة هذا اللفظ إلى القبر؛ لئلا يقع التشبه بفعل أولئك، سدا للذريعة.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: " ومالك قد أدرك التابعين، وهم أعلم الناس بهذه المسألة، فدل ذلك على أنه لم يكن معروفا عندهم ألفاظ زيارة قبر النبي صلي الله عليه وسلم - إلى أن قال- وقد ذكروا في أسباب كراهته لأن يقول: "زرت قبر النبي صلي الله عليه وسلم"؛ لأن هذا اللفظ قد صار كثير من الناس يريد به الزيارة البدعية، وهو قصد الميت لسؤاله ودعائه، والرغبة إليه في قضاء الحوائج، ونحو ذلك مما يفعله كثير من الناس، فهم يعنون بلفظ الزيارة مثل هذا. وهذا ليس بمشروع باتفاق الأئمة. وكره مالك أن يتكلم بلفظ مجمل يدل على معنى فاسد، بخلاف الصلاة والسلام عليه؛ فإن ذلك مما أمر الله به. أما لفظ الزيارة في عموم القبور فلا يفهم منها مثل هذا المعنى. ألا ترى إلى قوله:" فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة "5 مع زيارته لقبر أمه؛ فإن هذا يتناول قبور الكفار، فلا يفهم من ذلك زيارة الميت لدعائه وسؤاله والاستغاثة به، ونحو ذلك مما يفعله أهل الشرك والبدع، بخلاف ما إذا كان المزور معظما في الدين كالأنبياء والصالحين؛ فإنه كثيرا ما يعني بزيارة قبورهم هذه الزيارة البدعية الشركية، فلهذا كره مالك ذلك في مثل هذا، وإن لم يكره ذلك في موضع آخر ليس فيه هذه المفسدة". اهـ.
وفيه: أن النبي صلي الله عليه وسلم لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه. ذكره المصنف رحمه الله تعالى.
"ولابن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد: "أفرأيتم اللات والعزى" قال كان يلت لهم السويق، فمات فعكفوا على قبره، وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس قال: "كان يلت(6/465)
السويق للحاج".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كتاب "القرى لقاصد أم القرى" تأليف المحب الطبري.
2 تقدم تخريجه برقم [176].
3 سورة النجم آية : 19.
4 السويق: دقيق الحنطة أو الشعير. ولته: بله بالماء أو السمن, والحاج بمعنى الحجاج.
5 الحديث أخرجه مسلم في الجنائز (976) (108) باب استئذان النبي ربه في زيارة قبر أمه من حديث أبي هريرة وفيه: "فزوروا القبور فإنها تذكر الموت". أما قوله صلى الله عليه وسلم: "فزوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة" فأخرجه الترمذي (1054) من حديث بريدة وابن ماجة (1571) من حديث ابن مسعود. وصححه الألباني في أحكام الجنائز ص (178 , 179).(6/466)
ص -249- ... قوله: "ولابن جرير" هو الإمام الحافظ محمد بن جرير بن يزيد الطبري، صاحب التفسير والتاريخ والأحكام وغيرها. قال ابن خزيمة: لا أعلم على الأرض أعلم من محمد بن جرير، وكان من المجتهدين لا يقلد أحدا. وله أصحاب يتفقهون على مذهبه ويأخذون بأقواله. ولد سنة أربع وعشرين ومائتين، ومات ليومين بقيا من شوال سنة عشرة وثلاثمائة.
قوله: "عن سفيان" الظاهر: أنه سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أبو عبد الله الكوفي، ثقة حافظ فقيه إمام عابد كان مجتهدا; وله أتباع يتفقهون على مذهبه. مات سنة إحدى وستين ومائة، وله أربع وستون سنة.
قوله: "عن منصور" هو ابن المعتمر بن عبد الله السلمي ثقة ثبت فقيه. مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
قوله: "عن مجاهد" هو ابن جبر - بالجيم والموحدة - أبو الحجاج المخزومي مولاهم المكي، ثقة إمام في التفسير، أخذ عن ابن عباس وغيره -رضي الله عنهم-، مات سنة أربع ومائة. قاله يحيى القطان. وقال ابن حبان: مات سنة اثنتين أو ثلاث ومائة وهو ساجد، ولد سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر رضي الله عنه .
قوله: "كان يلت السويق لهم فمات فعكفوا على قبره" في رواية: "فيطعم من يمر من الناس. فلما مات عبدوه، وقالوا: هو اللات" رواه سعيد بن منصور.
ومناسبته للترجمة: أنهم غلوا فيه لصلاحه حتى عبدوه وصار قبره وثنا من أوثان المشركين.
قوله: "وكذا قال أبو الجوزاء" هو أوس بن عبد الله الربعي، بفتح الراء والباء، مات سنة ثلاث وثمانين.
قال البخاري: حدثنا مسلم وهو ابن إبراهيم حدثنا أبو الأشهب1 حدثنا أبو الجوزاء عن ابن عباس قال: " كان اللات رجلا يلت سويق الحجاج "2.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو الأشهب هو جعفر بن حيان التيمي السعدي العطاردي الحذاء الأعمى. مات سنة 165 .
2 البخاري: كتاب التفسير (4859): باب "أفرأيتم اللات والعزى".(6/467)
ص -250- ... قال ابن خزيمة: وكذا العزى، وكانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة بين مكة والطائف، كانت قريش يعظمونها، كما قال أبو سفيان يوم أحد: "لنا العزى ولا عزى لكم".
قوله: " وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " لعن رسول الله صلي الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج "1. رواه أهل السنن".
قلت: وفي الباب حديث أبي هريرة وحديث حسان بن ثابت. فأما حديث أبي هريرة فرواه أحمد والترمذي وصححه.2 وحديث حسان أخرجه ابن ماجه من رواية عبد الرحمن بن حسان بن ثابت عن أبيه قال: " لعن رسول الله صلي الله عليه وسلم زوارات القبور "3.
وحديث ابن عباس هذا في إسناده أبو صالح مولى أم هانئ، وقد ضعفه بعضهم ووثقه بعضهم.4 قال علي بن المديني عن يحيى القطان: "لم أر أحدا من أصحابنا ترك أبا صالح مولى أم هانئ. وما سمعت أحدا من الناس يقول فيه شيئا، ولم يتركه شعبة ولا زائدة ولا عبد الله بن عثمان". قال ابن معين: " ليس به بأس، ولهذا أخرجه ابن السكن في صحيحه". انتهى من الذهب الإبريز عن الحافظ المزي.(6/468)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ضعيف بهذا اللفظ. أبو داود: كتاب الجنائز (3236): باب في زيارة القبور. الترمذي في الصلاة (320): باب كراهية أن يتخذ القبر مسجدا. والنسائي في الجنائز (4/ 94 , 95): باب التغليظ في إتخاذ السرج على القبور. وابن ماجة في الجنائز (1575): باب ما جاء في النهي عن زيارة القبور. بدون قوله: "المتخذين عليها المساجد والسرج". وضعفه الإمام مسلم وغيره بهذه الزيادة. وضعفه الألباني في الضعيفة (225) وتحذير الساجد (43 , 44) بهذا السياق، والحديث صحيح بدون هذه الزيادة كما سيأتي في تخريج رقم [183].
2 أخرجه الترمذي من طريق عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن زوارات القبور". وقال: هذا حسن صحيح. وأخرجه ابن حبان في صحيحه. قال الترمذي: وفي الباب عن عائشة وحسان بن ثابت. وحديث حسان بن ثابت رواه الإمام أحمد في مسنده أيضا، وروى ابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن عمرو حديث فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في عزائها أهل ميت في ميتهم, فقال لها: "لعلك بلغت معهم الكدى؟ قالت: معاذ الله وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر. قال: لو بلغت الكدى معهم ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك".
3 صحيح. أما حديث أبي هريرة. فعند أحمد (2/ 337 , 356). والترمذي (1056) كتاب الجنائز: باب ما جاء في كراهية زيارة القبور للنساء. وابن ماجة (1576) كتاب الجنائز: باب ما جاء في النهي عن زيارة النساء القبور. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وأما حديث حسان بن ثابت. فعند أحمد (3/ 442 , 443). وابن ماجة (1574) كتاب الجناثز: باب ما جاء في النهي عن زيارة النساء القبور. والحاكم (374/ 1). وقد مر من حديث ابن عباس. والحديث صحيح لغيره دون الزيادة المتقدمة في حديث ابن عباس كما قرره الألباني في تحذير الساجد (43) وصحيح الجامع (4985) والضعيفة (225).
4 وأبو صالح اسمه باذام, أو(6/469)
باذان. وقد صرح في هذا الحديث بالتحديث عن ابن عباس فانتفت تهمة التدليس; ثم قد حسن الترمذي هذا الحديث، وإن كان الحافظ المنذري قد تعقبه عليه. وقال الحافظ ابن القيم في تهذيب سنن أبي داود في باب كراهية اتخاذ القبور مساجد. وفي صحيح أبي حاتم عن أبي صالح عن ابن عباس قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج". قال أبو حاتم: أبو صالح هذا اسمه مهران ثقة. وليس بصاحب الكلبي، ذاك اسمه باذام. وقال الإشبيلي: هو باذام صاحب الكلبي، وهو عندهم ضعيف جدا، وكان شيخنا أبو الحجاج المزي يرجح هذا أيضا. اهـ.(6/470)
ص -251- ... قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: وقد جاء عن النبي صلي الله عليه وسلم من طريقين: فعن أبي هريرة رضي الله عنه: " أن رسول الله صلي الله عليه وسلم لعن زوارات القبور "1 وذكر حديث ابن عباس. ثم قال: ورجال هذا ليس رجال هذا، فلم يأخذه أحدهما عن الآخر. وليس في الإسنادين من يتهم بالكذب. ومثل هذا حجة بلا ريب. وهذا من أجود الحسن الذي شرطه الترمذي؛ فإنه جعل الحسن ما تعددت طرقه ولم يكن فيه متهم، ولم يكن شاذا، أي مخالفا لما ثبت بنقل الثقات، وهذا الحديث تعددت طرقه وليس فيها متهم ولا خالفه أحد من الثقات، هذا لو كان عن صاحب واحد، فكيف إذا كان رواه عن صاحب وذاك عن آخر؟ فهذا كله يبين أن الحديث في الأصل معروف.
والذين رخصوا في الزيارة اعتمدوا على ما روي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن وقالت: " لو شهدتك ما زرتك "2. وهذا يدل على أن الزيارة ليست مستحبة للنساء كما تستحب للرجال؛ إذ لو كان كذلك لاستحبت زيارته سواء شهدته أم لا.
قلت: فعلى هذا لا حجة فيه لمن قال بالرخصة.
وهدا السياق لحديث عائشة رواه الترمذي من رواية عبد الله ابن أبي مُليكة
عنها، وهو يخالف سياق الأثرم له عن عبد الله ابن أبي مليكة أيضا: " أن عائشة -رضي الله عنها- أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها: يا أم المؤمنين أليس نهى رسول الله صلي الله عليه وسلم عن زيارة القبور؟ قالت: نعم نهى عن زيارة القبور، ثم أمر بزيارتها"3 .
فأجاب شيخ الإسلام -رحمه الله- عن هذا وقال: ولا حجة في حديث عائشة؛ فإن المحتج عليها احتج بالنهي العام، فدفعت ذلك بأن النهي منسوخ، ولم يذكر لها المحتج النهي الخاص بالنساء الذي فيه لعنهن على الزيارة. يبين ذلك قولها: " قد أمر بزيارتها " فهذا يبين أنه أمر بها أمرا يقتضي الاستحباب، والاستحباب إنما هو ثابت للرجال خاصة. ولو كانت تعتقد أن النساء مأمورات بزيارة القبور لكانت تفعل ذلك كما يفعله(6/471)
الرجال، ولم تقل لأخيها لما زرتك واللعن صريح في التحريم، والخطاب بالإذن في قوله: فزوروها لم يتناول النساء فلا يدخلن في الحكم الناسخ، والعام إذا عرف أنه بعد الخاص لم يكن ناسخا له عند جمهور العلماء، وهو مذهب الشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه، وهو المعروف عند أصحابه، فكيف إذا لم يعلم أن هذا العام بعد الخاص؟ إذ قد يكون قوله: " لعن الله زوارات القبور " بعد إذنه للرجال في الزيارة. يدل على أنه قرنه بالمتخذين عليها المساجد والسرج.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترمذي : الجنائز (1056) , وابن ماجه : ما جاء في الجنائز (1576).
2 الترمذي : الجنائز (1055).
3 صحيح: الحديث بهذا السياق عند الحاكم (1/ 376)، وعنه البيهقي (4/ 78) وسكت عنه الحاكم، وقال الذهبي: صحيح. وقال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء (4/ 418) "رواه ابن أبي الدنيا في القبور, والحاكم بإسناد جيد". وراجع أحكام الجنائز ص (181). أما سياق الترمذي: كتاب الجنائز (1055): باب ما جاء في الرخصة في زيارة القبور فهو باللفظ الذي تقدم وفيه: "لو شهدتك ما زرتك".(6/472)
ص -252- ... ومعلوم أن اتخاذ المساجد والسرج المنهي عنها محكم، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة وكذلك الآخر.
والصحيح: أن النساء لم يدخلن في الإذن في زيارة القبور لعدة أوجه:
أحدها: أن قوله صلي الله عليه وسلم فزوروها صيغة تذكير، وإنما يتناول النساء أيضا على سبيل التغليب. لكن هذا فيه قولان، قيل: إنه يحتاج إلى دليل منفصل، وحينئذ فيحتاج تناول ذلك للنساء إلى دليل منفصل. وقيل: إنه يحتمل على ذلك عند الإطلاق. وعلى هذا فيكون دخول النساء بطريق العموم الضعيف، والعام لا يعارض
الأدلة الخاصة ولا ينسخها عند جمهور العلماء، ولو كان النساء داخلات في هذا الخطاب لاستحب لهن الزيارة للقبور. وما علمنا أحدا من الأئمة استحب لهن زيارة القبور، ولا كان النساء على عهد النبي صلي الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين يخرجن إلى زيارة القبور.
ومنها: أن النبي صلي الله عليه وسلم علل الإذن للرجال بأن ذلك: " يذكر الموت، ويرقق القلب، وتدمع العين "1 هكذا في مسند أحمد. ومعلوم أن المرأة إذا فتح لها هذا الباب أخرجها إلى الجزع والندب والنياحة؛ لما فيها من الضعف وقلة الصبر. وإذا كانت زيارة النساء مطنة وسببا للأمور المحرمة؛ فإنه لا يمكن أن يحد المقدار الذي لا يفضي إلى ذلك; ولا التمييز بين نوع ونوع، ومن أصول الشريعة: أن الحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة علق الحكم بمظنتها. فيحرم هذا الباب سدا للذريعة، كما حرم النظر إلى الزينة الباطنة، وكما حرم الخلوة بالأجنبية وغير ذلك. وليس في ذلك من المصلحة ما يعارض هذه المفسدة؛ فإنه ليس في ذلك إلا دعاؤها للميت، وذلك ممكن في بيتها.
ومن العلماء من يقول: التشييع كذلك، ويحتج بقوله صلي الله عليه وسلم: " ارجعن مأزورات غير مأجورات، فإنكن تفتن الحي وتؤذين الميت"2 وقوله لفاطمة: " أما إنك لو بلغت معهم الكدى لم تدخلي الجنة "3 ويؤيده ما ثبت في الصحيحين من أنه نهى النساء عن اتباع الجنائز "4 ومعلوم أن قوله(6/473)
صلي الله عليه وسلم: " من صلى على جنازة فله قيراط ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان "5 هو أدل على العموم من صيغة التذكير؛ فإن لفظ "من" يتناول الرجال والنساء باتفاق الناس، وقد علم بالأحاديث الصحيحة أن هذا العموم لم يتناول النساء لنهي النبي صلي الله عليه وسلم لهن عن اتباع الجنائز، فإذا لم يدخلن في هذا العموم فكذلك في ذلك بطريق الأولى. انتهى ملخصا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حسن. أحمد (3/ 237, 250). وهو عند الحاكم أيضا (1/ 375 , 376). وحسنه الألباني في أحكام الجنائز (ص 180).
2 ضعيف. ابن ماجة (1578) كتاب الجنائز: باب ما جاء في اتباع النساء الجنائز. والبيهقي (4/ 77) من حديث علي رضي الله عنه. وضعفه النووي في المجموع (5/ 224) والبوصيري في الزوائد وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (873).
3 ضعيف. أحمد (2/ 168 , 169). وأبو داود (3123) كتاب الجنائز: باب التعزية. والنسائي: في كتاب الجنائز 4/ , 27 , 28): باب النعي, وضعفه النووي في المجموع (5/ 224) والمنذري في مختصر السنن (4/ 289) والكدى: هي المقابر كما في اللسان.
4 البخاري: كتاب الجنائز (1278) باب اتباع النساء الجنائز. ومسلم: كتاب الجنائز (938) (34) باب نهي النساء عن اتباع الجنائز من حديث أم عطية رضي الله عنها.
5 الحديث بهذا اللفظ. أخرجه مسلم: كتاب الجنائز (945) (53): باب فضل الصلاة على الجنازة واتباعها. من حديث أبي هريرة. وهو عند البخاري بنحوه كتاب الجنائز (1325): يا من انتظر حتى تدفن. وعند مسلم (946) (57) من حديث ثوبان أيضا.(6/474)
ص -253- ... قلت: ويكون الإذن في زيارة القبور مخصوصا للرجال، خص بقوله: " لعن الله زوّرات القبور... الحديث " فيكون من العام المخصوص.
وعما استدل به القائلون بالنسخ أجوبة أيضا.
منها: أن ما ذكروه عن عائشة وفاطمة -رضي الله عنهما- معارض بما ورد عنهما في هذا الباب فلا يثبت به نسخ.
ومنها: أن قول الصحابي وفعله ليس حجة على الحديث بلا نزاع. وأما تعليمه عائشة كيف تقول إذا زارت القبور ونحو ذلك، فلا يدل على نسخ ما دلت عليه الأحاديث الثلاثة من لعن زائرات القبور، لاحتمال أن يكون ذلك قبل هذا النهي الأكيد والوعيد الشديد والله أعلم.
قال محمد بن إسماعيل الصنعاني -رحمه الله- في كتابه تطهير الاعتقاد: " فإن هذه القباب والمشاهد التي صارت أعظم ذريعة إلى الشرك والإلحاد، وأكبر وسيلة إلى هدم الإسلام وخراب بنيانه: غالب - بل كل - من يعمرها هم الملوك والسلاطين والرؤساء والولاة، إما على قريب لهم أو على من يحسنون الظن فيه من فاضل أو عالم أو صوفي أو فقير أو شيخ كبير، ويزوره الناس الذين يعرفونه زيارة الأموات من دون توسل به ولا هتف باسمه، بل يدعون له ويستغفرون حتى ينقرض من يعرفه أو أكثرهم، فيأتي من بعدهم فيجد قبرا قد شيد عليه البناء، وسرجت عليه الشموع، وفرش بالفراش الفاخر، وأرخيت عليه الستور، وألقيت عليه الأوراد والزهور، فيعتقد أن ذلك لنفع أو دفع ضر، وتأتيه السدنة يكذبون على الميت بأنه فعل وفعل، وأنزل بفلان الضر وبفلان النفع، حتى يغرسوا في جبلته كل باطل، والأمر ما ثبت في الأحاديث النبوية من لعن1 من أسرج على القبور وكتب عليها وبنى عليها. وأحاديث ذلك واسعة معروفة؛ فإن ذلك في نفسه منهي عنه، ثم هو ذريعة إلى مفسدة عظيمة". انتهى.
ومنه تعلم مطابقة الحديث للترجمة والله أعلم.
قوله: "والمتخذين عليها المساجد" تقدم شرحه في الباب قبله.
قوله: "السُّرُج" قال أبو محمد المقدسي: " لو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من(6/475)
فعله؛
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في تطهير الاعتقاد: ولهذا الأمر ثبت في الأحاديث النبوية اللعن على من أسرج القبور إلخ.(6/476)
ص -254- ... لأن فيه تضييعا للمال في غير فائدة; وإفراطا في تعظيم القبور أشبه بتعظيم الأصنام".
وقال ابن القيم -رحمه الله-: " اتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها من الكبائر" 1.
قوله: "رواه أهل السنن" يعني أبا داود والترمذي وابن ماجه فقط ولم يروه النسائي 2.
الثانية: تفسير العبادة .
الثالثة: أنه صلي الله عليه وسلم لم يستعذ إلا مما يُخاف وقوعه .
الرابعة: قَرْنه بهذا اتخاذ قبور الأنبياء مساجد 3.
الخامسة: ذكر شدة الغضب من الله .
السادسة: وهي من أهمها، صفة معرفة عبادة اللات التي هي أكبر الأوثان .
السابعة: معرفة أنه قبر رجل صالح.
الثامنة: أنه اسم صاحب القبر، وذكر معنى التسمية .
التاسعة: لعنة زوارات القبور.
العاشرة: لعنة من أسرجها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد عده ابن حجر الهيتمي في الكبائر أيضا.
2 بل رواه النسائي كما تقدم في تخريج رقم [182].
3 يعني أنه لما قرن بذلك الدعاء اتخاذ القبور مساجد علم أن اتخادها مساجد ذريعة إلى إتخاذها أوثانا.
باب: ما جاء في حماية المصطفى صلي الله عليه وسلم جناب التوحيد "وسده كل طريق يوصل إلى الشرك
وقول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: باب "ما جاء في حماية المصطفى صلي الله عليه وسلم جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك".
الجناب: هو الجانب. والمراد حمايته عما يقرب منه أو يخالطه من الشرك وأسبابه.(6/477)
ص -255- ... قوله: "وقول الله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}1".
قال ابن كثير -رحمه الله-: يقول الله تعالى ممتنا على المؤمنين بما أرسل إليهم رسولا من أنفسهم أي من جنسهم وعلى لغتهم، كما قال إبراهيم -عليه السلام-: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ}2. وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ}3. وقال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}4 أي منكم، كما قال جعفر ابن أبي طالب للنجاشي; والمغيرة بن شعبة لرسول كسرى: " إن الله بعث فينا رسولا منا نعرف نسبه وصفته، ومدخله ومخرجه، وصدقه وأمانته " وذكر الحديث.
قال سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه في قوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}5 قال: " لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية "6.
وقوله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ}7 أي يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها8، ولهذا جاء في الحديث المروي من طرق عنه صلي الله عليه وسلم أنه قال: " بعثت بالحنيفية السمحة "9. وفي الصحيح: " إن هذا الدين يسر "10. وشريعته كلها سمحة سهلة كاملة، يسيرة على من يسرها الله عليه.(6/478)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة آية : 128-129.
2 سورة البقرة آية : 129.
3 سورة آل عمران آية : 164.
4 سورة التوبة آية : 128.
5 سورة التوبة آية : 128.
6 ثم ذكر ابن كثير الحديث: "خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح". وقد وصل هذا من وجه آخر. كما قال الحافظ أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن الرامهرمزي في كتابه: الفاصل بين الراوي والواعي: وقد استدل بعض الجاهلين بهذا على إيمان آباء النبي صلى الله عليه وسلم وهذا من عظيم جهلهم، فليس فيه أي دليل؛ لأن في البخاري من حديث عائشة أنهم كانوا في الجاهلية لهم نكاح هو نكاح الناس اليوم.
7 سورة التوبة آية : 128.
8 في قرة العيون: ووجه الدلالة بالآية أنه صلى الله عليه وسلم يعز عليه كل ما يؤثم الأمة ويشق عليهم، وأعظم ما يؤثم الأمة ويشق عليهم الشرك بالله قليله وكثيره، ووسائله وما يقرب منه من كبائر الذنوب، وقد بالغ صلى الله عليه وسلم في النهي عن الشرك وأسبابه أعظم مبالغة كما لا يخفى, وقد كانت هذه حالة أصحابه -رضي الله عنهم- في قطعهم الخيوط التي يرقى للمريض فيها، ونحو ذلك من تعليق التمائم.
9 حسن. جاء من طرق كثيرة كما قال المصنف: من حديث حبيب بن أبي ثابت مرسلا, ومن حديث أبي أمامة وجابر وعائشة موصولا. والحديث ضعفه الألباني في غاية المرام (8) من حديث جابر ومرسل حبيب فقط. وحسن بهما الحديث في بحث جيد تظهر عليه أمارات التأدب مع العلماء. ص (333: 335).
10 جزء من حديث أخرجه البخاري: كتاب الإيمان (39): باب الدين يسر. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(6/479)
ص -256- ... قوله: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أي على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم. وعن أبي ذر رضي الله عنه1 قال:
{حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}2.
" تركنا رسول الله صلي الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في الهواء إلا وهو يذكر لنا منه علما "3 أخرجه الطبراني. قال4: وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بينته لكم "5.
وقوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}6، كما قال تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}7. وهكذا أمره تعالى في هذه الآية الكريمة، وهي قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي عما جئتم به من الشريعة العظيمة المطهرة الكاملة {فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}8.
قلت: فاقتضت هذه الأوصاف التي وصف بها رسول الله صلي الله عليه وسلم في حق أمته أن أنذرهم وحذرهم الشرك الذي هو أعظم الذنوب، وبيّن لهم ذرائعه الموصلة إليه، وأبلغ في نهيهم عنها، ومن ذلك تعظيم القبور والغلو فيها، والصلاة عندها وإليها، ونحو ذلك مما يوصل إلى عبادتها كما تقدم، وكما سيأتي في أحاديث الباب.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا عليَّ؛ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم "9 رواه أبو داود بإسناد حسن. ورواته ثقات.(6/480)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ساق ابن كثير سند الطبراني إلى أبي ذر.
2 سورة التوبة آية : 128-129.
3 صحيح. الطبراني في الكبير [16471]، وأخرجه أحمد أيضا (5/153,162). وصححه الأرناؤوط في تخريج ابن حبان برقم (65).
4 أي قال أبو ذر: وهو من رواية الطبراني أيضا. وقد ذكر الحافظ ابن كثير بعد هذا الحديث من طريق الإمام أحمد عن ابن عباس حديث الملكين اللذين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وقعد أحدهما عند رجليه والآخر عند رأسه. ثم ضربا له ولأمته المثل. وروى عدة أحاديث في هذا المعنى في رحمة النبي صلى الله عليه وسلم.
5 جاء الحديث بنحوه عن ابن مسعود مطولا وفيه: "ليس من عمل يقرب إلى الجنة إلا قد أمرتكم به, ولا عمل يقرب إلى النار إلا قد نهيتكم عنه.." الحديث. أخرجه الحاكم (2/4)، وذكره المنذري في الترغيب (3/7) ونسبه للحاكم فقط. وراجع كلام الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على الحديث على كتاب الرسالة للشافعي ص (94,95).
6 سورة التوبة آية : 128.
7 سورة الشعراء آية : 215-216-217.
8 سورة التوبة آية : 129.
9 أبو داود : المناسك (2042) , وأحمد (2/367).(6/481)
ص -257- ... قوله: "وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم "1 رواه أبو داود بإسناد حسن. ورواته ثقات"2.
قوله: " لا تجعلوا بيوتكم قبورا " قال شيخ الإسلام: أي لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحري العبادة في البيوت ونهى عن تحريها عند القبور، عكس ما يفعله المشركون من النصارى ومن تشبه بهم من هذه الأمة.
وفي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعا: " اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا "3.
وفي صحيح مسلم عن ابن عمر مرفوعا: " لا تجعلوا بيوتكم مقابر؛ فإن الشيطان يفر من البيت الذي يسمع سورة البقرة تقرأ فيه "4.
قوله: " ولا تجعلوا قبري عيدا " قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: " العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد، عائدا إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر ونحو ذلك".
وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: العيد ما يعتاد مجيئه وقصده من زمان ومكان، مأخوذ من المعاودة والاعتياد. فإذا كان اسما للمكان فهو المكان الذي يقصد فيه الاجتماع وانتيابه للعبادة وغيرها، كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر جعلها الله عيدا للحنفاء ومثابة، كما جعل أيام العيد فيها عيدا. وكان للمشركين أعياد زمانية ومكانية. فلما جاء الله بالإسلام أبطلها وعوض الحنفاء منها عيد الفطر وعيد النحر وأيام منى، كما عوضهم من أعياد المشركين المكانية بالكعبة ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر".
قوله: " وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم ".
قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: " يشير بذلك إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبُعدكم، فلا حاجة لكم إلى اتخاذه عيدا".
قوله: " لا تجعلوا بيوتكم قبورا " تقدم كلام شيخ الإسلام في معنى الحديث قبله اهـ.(6/482)
قوله: "وعن علي بن الحسين رضي الله عنه " أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلي الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو، فنهاه وقال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلي الله عليه وسلم؟ قال: لا تتخذوا قبري عيدا،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح. تقدم تخريجه برقم [117].
2 في قرة العيون: قال الحافظ محمد بن عبد الهادي: هو حديث حسن، جيد الإسناد, وله شواهد يرتقي بها إلى درجة الصحة. نهاهم صلى الله عليه وسلم أن يهجروا بيوتهم عن الصلاة فيها, كما تهجر القبور عن الصلاة إليها, مخافة الفتنة بها, وما يفضي إلى عبادتها من دون الله؛ لأن النهي عن ذلك قد تقرر عندهم, فنهاهم أن يجعلوا بيوتهم كذلك.
3 البخاري: كتاب الصلاة (432): باب كراهية الصلاة في المقابر. ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها (777) (208): باب استحباب صلاة النافلة في بيتها وجوازها في المسجد.
4 مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها (780) (212): باب استحباب صلاة النافلة في بيته وجوزها في المسجد. (*) وهو عن أبي هريرة وليس ابن عمر كما ذكر المصنف.(6/483)
ص -258- ... ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم ". رواه في المختارة".
هذا الحديث والذي قبله جيدان حسنا الإسنادين.
أما الأول فرواه أبو داود وغيره من حديث عبد الله بن نافع الصائغ قال: أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة فذكره، ورواته ثقات مشاهير، لكن عبد الله بن نافع قال فيه أبو حاتم: ليس بالحافظ، تعرف وتنكر. وقال ابن معين: هو ثقة. وقال أبو زرعة: لا بأس به. قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: " ومثل هذا إذا كان
لحديثه شواهد علم أنه محفوظ، وهذا له شواهد متعددة". وقال الحافظ محمد بن عبد الهادي:" " هو حديث حسن جيد الإسناد، وله شواهد يرتقي بها إلى درجة الصحة". وأما الحديث الثاني فرواه أبو يعلى والقاضي إسماعيل والحافظ الضياء محمد بن عبد الواحد المقدسي في المختارة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: " فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة، وأهل البيت الذين لهم من رسول الله صلي الله عليه وسلم قرب النسب وقرب الدار; لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم، فكانوا له أضبط". اهـ.
وقال سعيد بن منصور في سننه: حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل ابن أبي سهل قال: " رآني الحسن بن الحسن بن علي ابن أبي طالب -رضي الله عنهم- عند القبر، فناداني، وهو في بيت فاطمة -رضي الله عنها- يتعشى، فقال: هلم إلى العشاء. فقلت: لا أريده. فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلي الله عليه وسلم . فقال: إذا دخلت المسجد فسلم. ثم قال: إن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم، لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ما أنتم وبني بالأندلس إلا سواء "1.(6/484)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال في قرة العيون: وهذا أيضا له قرب النسب وقرب الدار، فنهى عن المجيء إلى القبر للدعاء عنده. فالمجيء إلى القبر للسلام عليه وتحري إجابة الدعاء ليس مما شرعه الله ورسوله لهذه الأمة. ولو كان مشروعا لما تركه الخلفاء والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان من سادات أهل البيت وأئمة التابعين, ولما أنكروا على من فعله, وقولهم هو الحجة, وهو الذي دلت عليه الأحاديث, كحديث عاثشة وحديث الباب وغيرهما, لعلم السلف بما أراده النبي صلى الله عليه وسلم بنهيه عن الغلو، وخوفه مما وقع ممن غلا في الدين, واتبع غير سبيل المؤمنين; كما قال تعالى: (4: 115) (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا). ولما حدث الشرك بأرباب القبور في هذه الأمة وتعظيمها وعبادتها صارت تشد الرحال إليها لقصد دعائها والاستغاثة بها, وبذل نفيس المال تقربا إليها وتعظيم سدنتها. فيا لها من مصيبة ما أعظمها! نسأل الله السلامة من هذا الشرك وما يقرب منه أو يوصل إليه.(6/485)
ص -259- ... وقال سعيد أيضا: حدثنا حبان بن علي حدثنا محمد عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني "1.
قال شيخ الإسلام: فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث، لا سيما وقد احتج به من أرسله. وذلك يقتضي ثبوته عنده هذا لو لم يُرْوَ من وجوه مسندة غير هذين، فكيف وقد تقدم مسندا؟
قوله: "علي بن الحسين" أي ابن علي ابن أبي طالب، المعروف بزين العابدين رضي الله عنه أفضل التابعين من أهل بيته وأعلمهم. قال الزهري: ما رأيت قرشيا أفضل منه. مات سنة ثلاث وتسعين على الصحيح. وأبوه الحسين سِبْط رسول الله صلي الله عليه وسلم وريحانته، حفظ عن النبي صلي الله عليه وسلم، واستشهد يوم عاشوراء سنة إحدى وستين، وله ست وخمسون سنة رضي الله عنه.
قوله: "أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة" بضم الفاء وسكون الراء، وهي الكوة في الجدار والخوخة ونحوهما.
قوله: "فيدخل فيها فيدعو فنهاه" هذا يدل على النهي عن قصد القبور والمشاهد لأجل الدعاء والصلاة عندها.
قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: ما علمت أحدا رخص فيه؛ لأن ذلك نوع من اتخاذه عيدا، ويدل أيضا على أن قصد القبر للسلام إذا دخل المسجد ليصلي منهي عنه؛ لأن ذلك لم يشرع، وكره مالك لأهل المدينة كلما دخل الإنسان المسجد أن يأتي قبر النبي صلي الله عليه وسلم؛ لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك، قال: " ولن يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ". وكان الصحابة والتابعون -رضي الله عنهم- يأتون إلى مسجد النبي صلي الله(6/486)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري : المظالم والغصب (2463) , ومسلم : المساقاة (1609) , والترمذي : الأحكام (1353) , وأبو داود : الأقضية (3634) , وابن ماجه : الأحكام (2335) , وأحمد (2/240 ,2/274 ,2/327 ,2/396 ,2/447 ,2/463) , ومالك : الأقضية (1462).(6/487)
ص -260- ... عليه وسلم فيصلون، فإذا قضوا الصلاة قعدوا أو خرجوا، ولم يكونوا يأتون القبر للسلام؛ لعلمهم أن الصلاة والسلام عليه في الصلاة أكمل وأفضل، وأما دخولهم عند قبره للصلاة والسلام عليه هناك، أو للصلاة والدعاء فلم يشرعه لهم; بل نهاهم عنه في قوله: " لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني ". فبين أن الصلاة تصل إليه من بعد وكذلك السلام، ولعن من اتخذ قبور الأنبياء مساجد. وكانت الحجرة في زمانهم يُدخَل إليها من الباب، إذ كانت عائشة -رضي الله عنها- فيها، وبعد ذلك إلى أن بني الحائط الآخر، وهم مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره لا يدخلون عليه، لا للسلام ولا للصلاة، ولا للدعاء لأنفسهم ولا لغيرهم، ولا لسؤال عن حديث أو علم، ولا كان الشيطان يطمع فيهم حتى يسمعهم كلاما أو سلاما فيظنون أنه هو كلمهم وأفتاهم، وبين لهم الأحاديث، أو أنه قد رد عليهم السلام بصوت يسمع من خارج، كما طمع الشيطان في غيرهم فأضلهم عند قبره1 وقبر غيره، حتى ظنوا أن صاحب القبر يأمرهم وينهاهم ويفتيهم ويحدثهم في الظاهر، وأنه يخرج من القبر ويرونه خارجا من القبر، ويظنون أن نفس أبدان الموتى خرجت تكلمهم، وأن روح الميت تجسدت لهم فرأوها كما رآهم النبي صلي الله عليه وسلم ليلة المعراج.
والمقصود: أن الصحابة -رضي الله عنهم- لم يكونوا يعتادون الصلاة والسلام عليه عند قبره كما يفعله من بعدهم من الخلوف، وإنما كان بعضهم يأتي من خارج فيسلم عليه إذا قدم من سفر، كما كان ابن عمر يفعله. قال عبيد الله بن عمر عن نافع: " كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلي الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله. السلام عليك يا أبا بكر. السلام عليك يا أبتاه ثم ينصرف "2 قال عبيد الله ما نعلم أحدا من أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر وهذا يدل على أنه لا يقف عند القبر للدعاء إذا سلم كما يفعله كثير.
قال شيخ الإسلام -رحمه(6/488)
الله-: " لأن ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة، فكان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومن ذلك الحكاية المفترأة المنسوبة إلى الشيخ أحمد الرفاعي، وأنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم مد يده ليقبلها ففعل, وخرجت اليد فقبلها. فانظر بالله كيف استطاعت شياطين الجن والإنس أن تلعب بعقول أولئك المخبولين, المحرومين من كل علم وعقل ودين! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
2 صحيح. أخرجه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم رقم (20) وصححه الألباني لطرقه وشواهده في تخريج الكتاب المذكور ص (34).(6/489)
ص -261- ... بدعة محضة". وفي المبسوط: قال مالك: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلي الله عليه وسلم، ولكن
يسلم ويمضي. ونص أحمد أنه يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره لئلا يستدبره.
وبالجملة فقد اتفق الأئمة على أنه إذا دعا لا يستقبل القبر. وتنازعوا: هل يستقبله عند السلام عليه أم لا؟ وفي الحديث دليل على منع شد الرحال إلى قبره صلي الله عليه وسلم وإلى غيره من القبور والمشاهد؛ لأن ذلك من اتخاذها أعيادا. بل من أعظم أسباب الإشراك بأصحابها. وهذه هي المسألة التي أفتى بها شيخ الإسلام -رحمه الله- أعني من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين- ونقل فيها اختلاف العلماء، فمن مبيح لذلك كالغزالي وأبي محمد المقدسي. ومن مانع لذلك كابن بطة وابن عقيل، وأبي محمد الجويني، والقاضي عياض. وهو قول الجمهور، نص عليه مالك ولم يخالفه أحد من الأئمة، وهو الصواب؛ لما في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى "1. فدخل في النهي شدها لزيارة القبور والمشاهد، فإما أن يكون نهيا، وإما أن يكون نفيا. وجاء في رواية بصيغة النهي، فتعين أن يكون للنهي، ولهذا فهم منه الصحابة -رضي الله عنهم- المنع - كما في الموطأ والمسند والسنن – .
عن بصرة ابن أبي بصرة الغفاري أنه قال لأبي هريرة - وقد أقبل من الطور -: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه لما خرجت سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى "2. وروى الإمام أحمد وعمر بن شبّة في أخبار المدينة بإسناد جيد عن قزعة قال:
" أتيت ابن عمر فقلت: إني أريد الطور. فقال: إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى. فدع عنك الطور ولا تأته "3. فابن عمر وبصرة ابن أبي بصرة جعلا الطور مما نهي عن شد(6/490)
الرحال إليه؛ لأن اللفظ الذي ذكراه فيه النهي عن شدها إلى غير الثلاثة مما يقصد به القربة، فعلم أن المستثنى منه عام في المساجد وغيرها، وأن النهي ليس خاصا بالمساجد، ولهذا نهيا عن شدها إلى الطور مستدلين بهذا الحديث. والطور إنما يسافر من يسافر إليه لفضيلة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البخاري: كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة (1197): باب مسجد بيت المقدس. ومسلم: كتاب الحج (827) (415): باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره.
2 صحيح: مالك (1/108) في الجمعة: باب ما جاء في الساعة التي في يوم الجمعة. وأحمد (6/7,397). والنسائي (3/113,115) في الجمعة باب الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة. وصححه الألباني في أحكام الجنائز ص(226). وصحيح الجامع (7248).
3 رواه أحمد (3/64,93) عن أبي سعيد الخدري وفيه شهر بن حوشب وهو مضطرب الحديث، والحديث ثابت عدا فقرة: "إلى مسجد يبتغي فيه الصلاة" فهي ضعيفة لتفرد شهر بها. أفاده الدوسري في النهج السديد (237).(6/491)
ص -262- ... البقعة. فإن الله سماه "الوادي المقدس، والبقعة المباركة". وكلّم كليمه موسى -عليه السلام- هناك، وهذا هو الذي عليه الأئمة الأربعة وجمهور العلماء، ومن أراد بسط القول في ذلك والجواب عما يعارضه، فعليه بما كتبه شيخ الإسلام مجيبا لابن الأخنائي1 فيما اعترض به على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، وأخذ به العلماء وقياس الأولى; لأن المفسدة في ذلك ظاهرة.
وأما النهي عن زيارة غير المساجد الثلاثة فغاية ما فيها: أنها لا مصلحة في ذلك توجب شد الرحال، ولا مزية تدعو إليه. وقد بسط القول في ذلك الحافظ محمد بن عبد الهادي في كتاب الصارم المنكي في رده على السبكي، وذكر فيه علل الأحاديث الواردة في زيارة قبر النبي صلي الله عليه وسلم وذكر هو وشيخ الإسلام -رحمهما الله تعالى- أنه لا يصح منها حديث عن النبي صلي الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه، مع أنها لا تدل على محل النزاع؛ إذ ليس فيها إلا مطلق الزيارة، وذلك لا ينكره أحد بدون شد الرحال، فيحمل على الزيارة الشرعية التي ليس فيها شرك ولا بدعة.
قوله: "رواه في المختارة" المختارة: كتاب جمع فيه مؤلفه الأحاديث الجياد الزائدة على الصحيحين.
ومؤلفه: هو أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي الحافظ ضياء الدين الحنبلي أحد الأعلام. قال الذهبي: أفنى عمره في هذا الشأن مع الدين المتين،
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية براءة.
الثانية: إبعاده أمته عن هذه الحمى غاية البعد.
الثالثة: ذكر حرصه علينا ورأفته ورحمته.
الرابعة: نهيه عن زيارة قبره على وجه مخصوص، مع أن زيارته من أفضل الأعمال.
الخامسة: نهيه عن الإكثار من الزيارة.
السادسة: حثه على النافلة في البيت.
السابعة: أنه متقرر عندهم أنه لا يصلى في المقبرة.
الثامنة: تعليله ذلك بأن صلاة الرجل وسلامه عليه يبلغه وإن بعد، فلا حاجة إلى ما يتوهمه من أراد القرب.
التاسعة: كونه صلي الله عليه وسلم في البرزخ تُعرَض أعمال(6/492)
أمته في الصلاة والسلام عليه2.
والورع والفضيلة التامة والإتقان. فالله يرحمه ويرضى عنه.
وقال شيخ الإسلام: " تصحيحه في مختاراته خير من تصحيح الحاكم بلا ريب". مات سنة ثلاث وأربعين وستمائة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قاضي المالكية في عصره, والرد عليه مطبوع بهامش الرد على البكري، على نفقة جلالة الملك الصالح المصلح: الملك عبد العزيز آل سعود. أدام الله تأييده ونصره.
2 يريد المصنف -رحمه الله- أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرض عليه من أعمالنا إلا الصلاة والسلام عليه فقط, لا كما يظنه المبتدعون أن كل الأعمال تعرض عليه، فإن وجد خيرا حمد الله، وإن وجد غير ذلك استغفر, مستدلين على ذلك بحديث: أوهى من بيت العنكبوت، ومعرضين عن صحاح النصوص من الكتاب والسنة التي رواها البخاري ومسلم.(6/493)
ص -263- ... باب: " ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان"
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً}1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: باب "ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان".
"وقول الله تعالى: {{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}".
"الوثن" يطلق على ما قصد بنوع من أنواع العبادة من دون الله من القبور والمشاهد وغيرها؛ لقول الخليل -عليه السلام-: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً}2 . ومع قوله: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ}3. وقوله: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ}4. فبذلك يعلم أن الوثن يطلق على الأصنام وغيرها مما عبد من دون الله كما تقدم في الحديث.
قوله: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} روى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: جاء حُيَيّ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية : 51.
2 سورة العنكبوت آية : 17.
3 سورة الشعراء آية : 71.
4 سورة الصافات آية : 95.(6/494)
ص -264- ... بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة فقالوا لهم: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم، فأخبرونا عنا وعن محمد. فقالوا: ما أنتم وما محمد؟ فقالوا: نحن نصل الأرحام، وننحر الكوماء، ونسقي الماء على اللبن، ونفك العناة، ونسقي الحجيج. ومحمد صنبور، قطع أرحامنا، واتبعه سراق الحجيج من غفار. فنحن خير أم هو؟ فقالوا: أنتم خير وأهدى سبيلا. فأنزل الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً}1.
وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ( مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ}2.
وفي مسند أحمد عن ابن عباس نحوه.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان ". وكذلك قال ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وغيرهم. وعن ابن عباس وعكرمة وأبي مالك: " الجبت: الشيطان- زاد ابن عباس-: بالحبشية ". وعن ابن عباس أيضا: "الجبت: الشرك". وعنه: "الجبت: الأصنام". وعنه: "الجبت: حيي بن أخطب".
وعن الشعبي: "الجبت: الكاهن". وعن مجاهد: "الجبت: كعب بن الأشرف" قال الجوهري: "الجبت: كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر" ونحو ذلك3.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: " وفيه معرفة الإيمان بالجبت والطاغوت في هذا الموضع هل هو اعتقاد قلب، أو هو موافقة أصحابها، مع بغضها ومعرفة بطلانها؟".(6/495)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الحافظ ابن كثير: وقد روي هذا من غير وجه عن ابن عباس وجماعة من السلف. وقال الإمام أحمد عن عكرمة عن ابن عباس قال: "لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش: ألا ترى هذا الصنبور المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة وأهل السقاية. قال: أنتم خير. قال: فنزلت فيهم: إن شانئك هو الأبتر). ونزل (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب) الآية. و"الكوماء" الناقة العظيمة السنام لسمنها. و"العناة" جمع "عان" وهو الأسير. و"الصنبور" الأبتر الذي لا عقب له. وأصله سعفة تنبت في جذع النخلة لا في الأرض, وقيل: هي النخلة المنفردة التي دق أسفلها. أرادوا أنه إذا بلغ انقطع ذكره كما يذهب الصنبور لأنه لا عقب له.
2 سورة المائدة آية : 60.
3 زاد ابن كثير عن الجوهري: وفي الحديث: "الطيرة والعيافة والطرق من الجبت". قال ابن كثير: رواه الإمام أحمد عن قبيصة بن مخارق.(6/496)
ص -265- ... قوله: "وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ}".
يقول تعالى لنبيه محمد صلي الله عليه وسلم: قل يا محمد: هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا؟ وهم أنتم أيها المتصفون بهذه الصفات المفسرة بقوله: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} أي أبعده من رحمته {وَغَضِبَ عَلَيْهِ} أي غضبا لا يرضى بعده أبدا {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ}1. وقد قال الثوري عن علقمة بن مرثد عن المغيرة بن عبد الله اليشكري عن المعرور بن سويد أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: " سئل رسول الله صلي الله عليه وسلم عن القردة والخنازير، أهي مما مسخ الله؟ فقال: إن الله لم يهلك قوما - أو قال: لم يمسخ قوما - فجعل لهم نسلا ولا عقبا، وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك ". رواه مسلم2.
قال البغوي في تفسيره: {قُلْ} يا محمد " هل أنبئكم " أخبركم {بِشَرٍّ مِنْ {ذلكم} الذي ذكرتم، يعني قولهم: لم نر أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم، ولا دينا شرا من دينكم، فذكر الجواب بلفظ الابتداء وإن لم يكن الابتداء شرا; لقوله تعالى: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ{ذَلِكُمُ{النَّارُ}3.
وقوله: {مَثُوبَةً} ثوابا وجزاء، نصب على التفسير {عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} أي هو من لعنه الله {وَغَضِبَ عَلَيْهِ} يعني اليهود {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} فالقردة أصحاب السبت، والخنازير كفار مائدة عيسى. وعن علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس: " أن المسخين كلاهما من أصحاب السبت، فشبابهم مسخوا قردة وشيوخهم مسخوا خنازير ".
{وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} أي وجعل منهم من عبد الطاغوت، أي أطاع الشيطان فيما
سول له، وقرأ ابن مسعود4 "عبدوا الطاغوت"، وقرأ حمزة و(6/497)
"عُبُد" بضم الباء، و "الطاغوت "
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة آية : 60.
2 رواه مسلم في كتاب القدر في باب بيان أن الآجال والأرزاق لا تزيد ولا تنقص من وجهين: أولهما: عن أبي بكر بن أبي شيبة; وأبي كريب عن مسعر. وهذا هو الذي فيه: "ولا عقبا". والثاني: عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي وحجاج بن الشاعر واللفظ لحجاج: وليس فيه "ولا عقبا".
3 سورة الحج آية : 72.
4 في البغوي: وتصدقها قراءة ابن مسعود.(6/498)
ص -266- ... بجر التاء1 أراد العبد. وهما لغتان: عبد بسكون الباء، وعبد بضمها، مثل سبْع وسبُع2 وقرأ الحسن "وعبد الطاغوت " على الواحد3.
وفي تفسير الطبرسي: " قرأ حمزة وحده "وعبُد الطاغوتِ" بضم الباء وجر التاء، والباقون "وعبَد الطاغوتَ" بنصب الباء وفتح التاء. وقرأ ابن عباس وابن مسعود وإبراهيم النخعي والأعمش وأبان بن تغلب "وعُبُدَ الطاغوتِ" بضم العين والباء وفتح الدال وخفض التاء، قال: وحجة حمزة في قراءته "وعبُد الطاغوت" أنه يحمله على ما عمل فيه "جعل" كأنه: وجعل منهم عبد الطاغوت. ومعنى "جعل" "خلق". كقوله: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ}4. وليس "عبد" لفظ جمع؛ لأنه ليس من أبنية الجموع شيء على هذا البناء، ولكنه واحد يراد به الكثرة، ألا ترى أن في الأسماء المفردة المضافة إلى المعارف ما لفظه لفظ الإفراد ومعناه الجمع، كما في قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا}5. ولأن بناء فعل يراد به المبالغة والكثرة نحو يَقُظَ ودَنُس; وكأن تقديره: أنه ذهب في عبادة الطاغوت كل مذهب.
وأما من فتح فقال {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ}6 فإنه عطفه على بناء المضي الذي في الصلة: وهو قوله: {لَعَنَهُ اللَّهُ}، وأفرد الضمير في "عبد" وإن كان المعنى فيه الكثرة؛ لأن الكلام محمول على لفظه دون معناه، وفاعله ضمير "من" كما أن فاعل الأمثلة المعطوف عليها ضمير "من" فأفرد لحمل ذلك جميعا على اللفظ. وأما قوله: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} فهو جمع عبد7.
وقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً}8.
وقال أحمد بن يحيى: عُبُد جمع عابد; كبازل وبُزل، وشارف وشُرف، وكذلك عبد جمع عابد. ومثله عباد وعُبّاد". اهـ.
وقال شيخ الإسلام في قوله: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ}9 الصواب أنه معطوف على ما قبله من الأفعال، أي من لعنه وغضب عليه، ومن جعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت.(6/499)
قال: والأفعال المتقدمة الفاعل فيها اسم الله، مظهرا أو مضمرا. وهنا الفاعل اسم من عبد الطاغوت. وهو الضمير في "عبد" ولم يعد سبحانه "من" لأنه جعل هذه الأفعال صفة لصنف واحد وهم اليهود.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فيكون على الإضافة, على أن المعنى: وجعل منهم خدم الطاغوت, أي خدامه وعبيده.
2 في تفسير البغوي وقيل: هو جمع العباد وقرأ الحسن إلخ.
3 آخر النقل عن البغوي.
4 سورة الأنعام آية : 1.
5 سورة إبراهيم آية : 34.
6 سورة المائدة آية : 60.
7 قال ابن كثير: على أنه جمع الجمع. عبد عبيد عبد; مثل ثمار ثمر.
8 سورة الكهف آية : 21.
9 سورة المائدة آية : 60.(6/500)
ص -267- ... قوله: {أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً} مما تظنون بنا {وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}. وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر له مشارك كقوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً}1. قاله العماد ابن كثير في تفسيره، وهو ظاهر.
قوله: "وقول الله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً}". والمراد أنهم فعلوا مع الفتية بعد موتهم ما يذم فاعله؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد "2 أراد تحذير أمته أن يفعلوا كفعلهم.
قوله: "عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " لتتبعن سَنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ "3 أخرجاه". وهذا سياق مسلم.
قوله: "سنن" بفتح المهملة أي طريق من كان قبلكم. قال المهلب: الفتح أولى.
قوله: "حذو القذة بالقذة" بنصب "حذو" على المصدر. والقذة بضم القاف واحدة القذذ وهو ريش السهم. أي لتتبعن طريقهم في كل ما فعلوه، وتشبهوهم قي ذلك كما تشبه قذة السهم القذة الأخرى. وبهذا تظهر مناسبة الآيات للترجمة. وقد وقع كما أخبر، وهو عَلَم من أعلام النبوة.
قوله: " " حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ". وفي حديث آخر: " حتى لو كان فيهم من يأتي أمه علانية لكان في أمتي من يفعل ذلك "4. أراد صلي الله عليه وسلم أن أمته لا تدع شيئا مما كان يفعله اليهود والنصارى إلا فعلته كله لا تترك منه شيئا. ولهذا قال سفيان بن عيينة: " من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عُبادنا ففيه شبه من النصارى ". اهـ.
قلت: فما أكثر الفريقين، لكن من رحمة الله تعالى ونعمته أن جعل هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة كما في حديث ثوبان الآتي قريبا.(7/1)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الفرقان آية : 24.
2 تقدم تخريجه برقم [166].
3 205- ضعيف. هو جزء من حديث أخرجه الترمذي: كتاب الإيمان (2641) باب ما جاء في افتراق هذه الأمة. وقال الترمذي: حديث غريب. والحاكم (1/128,129). وضعفه المناوي في فيض القدير (5/347).
4 الترمذي : الإيمان (2641).(7/2)
ص -268- ... قوله: " قالوا يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟" هو برفع "اليهود" خبر مبتدأ محذوف; أي أهُم اليهود والنصارى الذين نتبع سننهم؟ ويجوز النصب بفعل محذوف تقديره: تعني. قوله: "قال: فمن؟" استفهام إنكاري. أي فمن هم غير أولئك؟
قوله: "ولمسلم عن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد، إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وأني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكها بسنة بعامة، وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا ". ورواه البرقاني في صحيحه وزاد: " وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، وأنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتي يأتي أمر الله تبارك وتعالى "1.
هذا الحديث رواه أبو داود في سننه وابن ماجه بالزيادة التي ذكرها المصنف.
قوله; "عن ثوبان" هو مولى النبي صلي الله عليه وسلم، صحبه ولازمه، ونزل بعده الشام، ومات بحمص سنة أربع وخمسين.
قوله: " " زوى لي الأرض " قال التوربشتي: " زويت الشيء جمعته وقبضته، يريد تقريب البعيد منها حتى اطلع عليه اطلاعه على القريب. وحاصله أنه طوى له الأرض وجعلها مجموعة كهيئة كف في مرآة ينظره". قال الطيبي: " أي جمعها، حتى بصرت ما تملكه أمتي من أقصى المشارق والمغارب منها".
قوله: " " وإن أمتي سيبلغ(7/3)
ملكها ما زوي لي منها " قال القرطبي: " هذا الخبر وجد مخبره
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الإمارة (1920) , والترمذي : الفتن (2229) , وأبو داود : الفتن والملاحم (4252) , وابن ماجه : المقدمة (10) والفتن (3952) , وأحمد (5/278 ,5/279 ,5/284) , والدارمي : المقدمة (209).(7/4)
ص -270- ... قوله: " فيستبيح بيضتهم" قال الجوهري: بيضة كل شيء حوزته. وبيضة القوم ساحتهم، وعلى هذا فيكون معنى الحديث: أن الله تعالى لا يسلط العدو على كافة المسلمين حتى يستبيح جميع ما حازوه من البلاد والأرض، ولو اجتمع عليهم من بأقطار الأرض وهي جوانبها. وقيل: بيضتهم معظمهم وجماعتهم، وإن قلوا.
قوله: " " حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا ". والظاهر أن "حتى" عاطفة، أو تكون لانتهاء الغاية، أي إن أمر الأمة ينتهي إلى أن يكون بعضهم يهلك بعضا. وقد سلط بعضهم على بعض كما هو الواقع، وذلك لكثرة اختلافهم وتفرقهم.
قوله: " " وإن ربي قال: يا محمد، إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد " قال بعضهم: أي إذا حكمت حكما مبرما نافذا فإنه لا يرد بشيء، ولا يقدر أحد على رده، كما قال النبي صلي الله عليه وسلم: " ولا راد لما قضيت "1.
قوله: "رواه البرقاني في صحيحه" هو الحافظ الكبير أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب الخوارزمي الشافعي، ولد سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، ومات سنة خمس وعشرين وأربعمائة. قال الخطيب: " كان ثبتا ورعا، لم نر في شيوخنا أثبت منه، عارفا بالفقه كثير التصانيف، صنف مسندا ضمنه ما اشتمل عليه الصحيحان. وجمع حديث الثوري وحديث شعبة وطائفة".
وهذا الحديث رواه أبو داود بتمامه بسنده إلى أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " إن الله - أو قال: إن ربي - زوى لي الأرض فأريت مشارق الأرض ومغاربها، وأن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها، وأُعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة2 ولا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال لي:(7/5)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جزء من حديث أخرجه الطبراني بسند صحيح كما قال الحافظ في فتح الباري (11/513) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. وأصل الحديث في صحيح البخاري بدون هذا الجزء. البخاري: كتاب القدر (6615): باب لا مانع لما أعطى الله.
2 الذي في سنن أبي داود (ج4 ص15) مع شرح عون المعبود - وهي طبعة هندية مصححة بدقة- "بسنة بعامة". وقال في عون المعبود: وفي رواية مسلم: "بسنة بعامة" في باب الفتن.(7/6)
ص -271- ... يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، ولا أهلكهم بسنة عامة، ولا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها - أو قال: بأقطارها - حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، وحتى يكون بعضهم يسبي بعضا، وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق- قال ابن عيسى: ظاهرين ثم اتفقا- لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله تعالى "1.
وروى أبو داود أيضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: " تدور رَحَى الإسلام لخمس وثلاثين; أو ست وثلاثين، أو سبع وثلاثين، فإن يهلكوا فسبيل من هلك، وإن يقم لهم دينهم يقم سبعين عاما، قال: قلت: أمِمّا بقي أو مما مضى؟ قال: مما مضى "32.
وروى في سننه أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " يتقارب الزمان وينقص العلم; وتظهر الفتن، ويلقى الشح; ويكثر الهرج، قيل: يا رسول الله أيّهْ هو؟ قال: القتل القتل "4.
قوله: " وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين " أي الأمراء والعلماء والعباد فيحكمون فيهم بغير علم فيضلونهم،5 كما قال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا}6. وكان بعض هؤلاء يقول لأصحابه: من كان له حاجة فيأت إلى قبري فإني أقضيها له، ولا خير في رجل يحجبه عن أصحابه ذراع من تراب، ونحو هذا. وهذا(7/7)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال في عون المعبود: إسناده صحيح.
2 صحيح. أبو داود: كتاب الفتن والملاحم (4254): باب ذكر الفتن ودلائلها. وأحمد أيضا (1/390,393). وصححه الألباني في الصحيحة (974) وصحيح الجامع (2931).
3 قال الحافظ أبو الحجاج يوسف المزي في كتاب الأطراف: وأخرجه البخاري في الصحيح في الأدب وفي الفتن; ومسلم في القدر, وأبو داود في الفتن.
4 صحيح أبو داود: كتاب الفتن والملاحم (4255): باب ذكر الفتن ودلائلها وهذا تقصير. (*) فالحديث أخرجه البخاري: كتاب الفتن (7061): باب ظهور الفتن. ومسلم: كتاب العلم (11) (57): باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان.
5 في قرة العيون: كما قال تعالى: (6: 119) (وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين) وقال: (71:37) (ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين). وأمثال هذه الآيات كثير, وعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر: "هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا, قال: يهدمه زلة العالم, وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين". رواه الدارمي.
6 سورة الأحزاب آية : 67.(7/8)
ص -272- ... هو الضلال البعيد، يدعو أصحابه إلى أن يعبدوه من دون الله، ويسألوه ما لا يقدر عليه من قضاء حاجاتهم وتفريج كرباتها. وقد قال تعالى: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُيَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ}1.
وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً}2. وقال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}3. وأمثال هذا في القرآن كثير، يبين الله تعالى به الهدى من الضلال.
ومن هذا الضرب: مَنْ يدّعي أنه يصل مع الله إلى حال تسقط فيها عنه التكاليف; ويدعي أن الأولياء يُدعون ويستغاث بهم في حياتهم ومماتهم، وأنهم ينفعون ويضرون ويدبرون الأمور على سبيل الكرامة، وأنه يطلع على اللوح المحفوظ، يعلم أسرار الناس وما في ضمائرهم; ويجوز بناء المساجد على قبور الأنبياء والصالحين وإيقادها بالسرج ونحو ذلك من الغلو والإفراط والعبادة لغير الله، فما أكثر هذا الهذيان والكفر والمحادة لله ولكتابه ولرسوله!
وقوله صلي الله عليه وسلم: " وانما أخاف على أمتي الأئمة المضلين " أتى بإنما التي قد تأتي للحصر بيانا لشدة خوفه على أمته من أئمة الضلال; وما وقع في خَلَد النبي صلي الله عليه وسلم من ذلك إلا لما أطلعه الله عليه من غيبه أنه سيقع نظير ما في الحديث قبله من قوله: " لتتبعن سنن من كان قبلكم "4 الحديث.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون "5. رواه أبو داود الطيالسي. وعن ثوبان رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال:(7/9)
" إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين "6 رواه الدارمي.
وقد بين الله تعالى في كتابه صراطه المستقيم الذي هو سبيل المؤمنين. فكل من أحدث حدثا ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلي الله عليه وسلم فهو ملعون وحدثه مردود، كما قال صلي الله عليه وسلم: " من أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا "7. وقال: " من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد "8. وقال:" كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة "9. وهذه(7/10)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحج آية : 12-13.
2 سورة الفرقان آية : 3.
3 سورة العنكبوت آية : 17.
4 البخاري : أحاديث الأنبياء (3456) , ومسلم : العلم (2669) , وأحمد (3/84 ,3/89 ,3/94).
5 صحيح. الطيالسي (975). وأحمد (6/441) والطبراني. وفيه راويان لم يسميا كما قال الهيثمي في المجمع (5/239). والحديث صحيح لشواهده. وراجع مجمع الزوائد (5/239,240). وصححه الألباني في الصحيحة (1582) وصحيح الجامع (1547). (*) وعزو الحديث لأبي داود كما فعل المؤلف وهم.
6 صحيح: الدارمي (1/70), (2/311). وإسناده صحيح على شرط مسلم كما قال الألباني في الصحيحة (4/110). والحديث أخرجه أيضا: أحمد (5/278,284). وأبو داود: كتاب الفتن (4252): باب ذكر الفتن ودلائلها. وابن ماجة: كتاب الفتن (3952): باب ما يكون من الفتن وراجع تخريج رقم [206].
7 البخاري: كتاب فضائل المدينة (1870): باب حرم المدينة. كتاب الفرائض (6755): باب إثم من تبرأ من مواليه. ومسلم: كتاب الحج (1370) (467): باب فضل المدينة. من حديث علي رضي الله عنه. والبخاري: كتاب الاعتصام (7306): باب إثم من آوى محدثا. ومسلم: كتاب الحج (1366) (463): باب فضل المدينة من حديث أنس رضي الله عنه.
8 البخاري: كتاب الصلح (2697): باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود, ومسلم: كتاب الأقضية (1718). (17): باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور من حديث عائشة رضي الله عنها.
9 صحيح. وهو جزء من حديث العرباض بن سارية أخرجه أبو داود: كتاب السنة (4607): باب لزوم السنة. وأحمد في المسند (4/127) وغيرهما وهو حديث صحيح. راجع السنة لابن أبي عاصم (27). وفي الباب عن ابن مسعود عند ابن ماجة (46). وعن جابر عند النسائي (3/188).(7/11)
ص -273- ... أحاديث صحيحة. ومدار أصول الدين وأحكامه على هذه الأحاديث ونحوها. وقد بين الله تعالى هذا الأصل في مواضع من كتابه العزيز، كما قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}1. وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}2. ونظائرها في القرآن كثير.
وعن زياد بن حُدَير قال: قال لي عمر رضي الله عنه: " وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان.
" هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا، قال: يهدمه زَلَة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين "3 رواه الدارمي.
وقال يزيد بن عمير: " كان معاذ بن جبل رضي الله عنه لا يجلس مجلسا للذكر إلا ويقول: الله حكم قسط: هلك المرتابون وفيه: فاحذروا زيغة الحكيم؛ فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق. قلت لمعاذ: وما يدريني -رحمك الله- أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة؟ والمنافق قد يقول كلمة الحق؟ فقال: اجتنب من كلام الحكيم المشتبهات التي يقول: ما هذه؟ ولا يثنيك ذلك عنه؛ فإنه لعله أن يراجع الحق، وتلق الحق إذا سمعته; فإن على الحق نورا "4. رواه أبو داود وغيره.
قوله: " وإذا وقع السيف لم يرفع إلى يوم القيامة ". وكذلك وقع فإن السيف لما وقع بقتل عثمان رضي الله عنه لم يرفع; وكذلك يكون إلى يوم القيامة، ولكن قد يكثر تارة ويقل أخرى، ويكون في جهة ويرتفع عن أخرى5.
قوله: " ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين " "الحي" واحد الأحياء وهي القبائل. وفي رواية أبي داود: " حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين "6.
والمعنى: أنهم يكونون معهم ويرتدون. برغبتهم عن أهل الإسلام(7/12)
ويلحقون بأهل الشرك.
وقوله: " حتى تعبد فئام من أمتي الأوثان " "الفئام" بكسر الفاء مهموز: الجماعات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 3.
2 سورة الجاثية آية : 18.
3 صحيح. الدارمي (1/71) في المقدمة: باب في كراهية أخذ الرأي. وقال الألباني في تخريج المشكاة (1/89): "وسنده صحيح" ا هـ.
4 صحيح. أبو داود: كتاب السنة (4611): باب لزوم السنة. وإسناده صحيح.
5 قال في قرة العيون: وفيه ما هو حق, كقتال أهل التوحيد لأهل الشرك بالله, وجهادهم على تركهم الشرك, وقد من الله بذلك على من أقامهم في آخر هذا الزمان بالدعوة إلى توحيده, لكن أهل الشرك بدأوهم بالقتال, وأظهرهم الله عليهم كما لا يخفى على من تدبر آيات هذا الدين في هذه الأزمنة. ا هـ.
6 ابن ماجه : النكاح (1936).(7/13)
ص -274- ... الكبيرة، قاله أبو السعادات. وفي رواية أبي داود: " وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان ".
وهذا هو شاهد الترجمة، ففيه الرد على من قال بخلافه من عباد القبور الجاحدبن لما يقع منهم من الشرك بالله بعبادتهم الأوثان. وذلك لجهلهم بحقيقة التوحيد وما يناقضه من الشرك والتنديد;1 فالتوحيد هو أعظم مطلوب، والشرك هو أعظم الذنوب.
وفي معنى هذا الحديث: ما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: " لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخَلَصة قال: وذو الخلصة طاغية دوس التي كانوا يعبدون في الجاهلية "2 وروى ابن حبان عن معمر قال: إن عليه الآن بيتا مبنيا مغلقا.
قال العلامة ابن القيم -رحمه الله- في قصة هدم اللات، لما أسلمت ثقيف: " فيه أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوما واحدا، وكذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور والتي اتخذت أوثانا تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتبرك والنذر لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالتها، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة، أو أعظم شركا عندها وبها. فاتبع هؤلاء سنن من كان قبلهم; وسلكوا سبيلهم حذو القذة بالقذة، وغلب الشرك على أكثر النفوس، لظهور الجهل(7/14)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في قرة العيون: وقد استحكمت الفتنة بعبادة الأوثان حتى إنه لا يعرف أحد في هذه القرون المتأخرة أنكر ما وقع من ذلك حتى أقام الله شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- الذي أنكره ونهى عنه، ودعا الناس إلى تركه وإلى أن يعبدوا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وأسمائه وصفاته، فرماه الملوك وأتباعهم عن قوس العداوة، فأظهره الله بالحجة, وأعز أنصاره على من ناوأهم. وبلغت دعوته مشارق الأرض ومغاربها; ولكن من الناس منهم من عرف ومنهم من أنكر. وانتفع بدعوته الكثير من أهل نجد والحجاز وعمان وغيرها. فلله الحمد على هذه النعمة العظيمة جعلنا الله لها شاكرين. قال أبو طاهر -غفر الله لهما-: وإنما أظهره الله بتوفيق آل سعود للانضواء تحت راية التوحيد الذي دعا إليه الشيخ ابن عبد الوهاب. فكان لحديدهم مع بينات الشيخ هذا الأثر في ظهور كلمة التوحي،د وقيام دولة مرهوبة الجانب لأهل التوحيد تصديقا لقول الله تعالى: (57: 25) (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب) والله نسأل أن يديم توفيقهم ويوفق ملوك المسلمين لمثل ما وفقهم له.
2 البخاري: كتاب الفتن (7116): باب تغير الزمان حتى تعبد الأوثان. ومسلم: كتاب الفتن (2906) (51): باب لا تقوم الساعة حتى تعبد دوس ذا الخلصة.(7/15)
ص -275- ... وخفاء العلم، وصار المعروف منكرا والمنكر معروفا، والسنة بدعة والبدعة سنة، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقلّ العلماء; وغلب السفهاء، وتفاقم الأمر، واشتد البأس; وظهر الفساد، في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ولكن لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين; ولأهل الشرك والبدع مجاهدين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين". اهـ ملخصا.
قلت: فإذا كان هذا في القرن السابع وقبله، فما بعده أعظم فسادا كما هو الواقع.
قوله: "وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي " قال القرطبي: وقد جاء عددهم معينا في حديث حذيفة قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " يكون في أمتي كذابون دجالون سبع وعشرون; منهم أربع نسوة "1 أخرجه أبو نعيم، وقال: هذا حديث غريب". انتهى.
وحديث ثوبان أصح من هذا.
قال القاضي عياض: عدّ من تنبأ من زمن رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى الآن ممن اشتهر بذلك وعرف واتبعه جماعة على ضلالة، فوجد هذا العدد فيهم، ومن طالع كتب الأخبار والتواريخ عرف صحة هذا2.
وقال الحافظ: وقد ظهر مصداق ذلك في زمن رسول الله صلي الله عليه وسلم، فخرج مسيلمة الكذاب باليمامة، والأسود العنسي باليمن، وفي خلافة أبي بكر: طليحة بن خويلد في بني أسد بن خزيمة، وسجاح في بني تميم، وقتل الأسود قبل أن يموت النبي صلي الله عليه وسلم، وقتل مسيلمة في خلافة أبي بكر رضي الله عنه، قتله وحشي قاتل حمزة يوم أحد، وشاركه في قتل مسيلمة يوم اليمامة رجل من الأنصار، وتاب طليحة ومات على الإسلام في زمن عمر رضي الله عنه . ونقل أن سجاح تابت أيضا. ثم خرج المختار ابن أبي عبيد الثقفي وغلب على الكوفة في أول خلافة ابن الزبير، وأظهر محبة أهل البيت(7/16)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حسن. أبو نعيم في الحلية (4/179) وقال: غريب تفرد به معاذ بن هشام عن أبيه موجودا في كتابه ا هـ وإسناده حسن.
2 للسيد صديق حسن خان كتاب "الإذاعة لما كان ويكون بين يدي الساعة". عد فيه أولئك الدجالين إلى زمنه، وعد منهم الدجال الإفرنجي الخبيث غلام أحمد القادياني الهندي قبحه الله وأخزاه, ومن اتبعه على كفره, فإنه ما قام بفتنته وادعى المهدوية ثم النبوة إلا بإيعاز ومساعدة دولة نصرانية, سياستها التفريق لجماعات المسلمين.(7/17)
ص -276- ... ودعا الناس إلى طلب قتلة الحسين، فتتبعهم فقتل كثيرا ممن باشر ذلك، وأعان عليه. فأحبه الناس، ثم ادعى النبوة وزعم أن جبريل -عليه السلام- يأتيه. ومنهم الحارث الكذاب، خرج في خلافة عبد الملك بن مروان فقتل. وخرج في خلافة بني العباس جماعة.
وليس المراد بالحديث من ادعى النبوة مطلقا؛ فإنهم لا يحصون كثرة لكون غالبهم تنشأ دعوته عن جنون أو سوداء. وإنما المراد من قامت له شوكة وبدا له شبهة كمن وصفنا. وقد أهلك الله تعالى من وقع له منهم ذلك وبقي منهم من يلحقه بأصحابه وآخرهم الدجال الأكبر.
قوله: " " وأنا خاتم النبيين ". قال الحسن: الخاتم: الذي ختم به يعني أنه آخر النبيين؛ كما قال تعالى {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}1. وإنما ينزل عيسى ابن مريم في آخر الزمان حاكما بشريعة ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله، تبارك وتعالى "2.
محمد صلي الله عليه وسلم مصليا إلى قبلته. فهو كأحد أمته، بل هو أفضل هذه الأمة. قال النبي صلي الله عليه وسلم: " والذي نفسي بيده لينزلن فيكم ابن مريم حكما مقسطا، فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية "3.
قوله: " ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم " قال يزيد بن هارون وأحمد بن حنبل: "إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم؟ ".
قال ابن المبارك وعلي بن المديني، وأحمد بن سنان والبخاري وغيرهم: "إنهم أهل الحديث". وعن ابن المديني رواية: "هم العرب". واستدل برواية من روى هم أهل الغرب، وفسر الغرب بالدلو العظيمة؛ لأن العرب هم الذين يستقون بها.
قال النووي: يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين ما بين شجاع وبصير بالحرب، وفقيه ومحدث ومفسر، وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وزاهد وعابد، ولا يلزم أن يكونوا(7/18)
مجتمعين في بلد واحد، بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد، وافتراقهم في أقطار الأرض، ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد، وأن يكونوا في بعض دون بعض منه. ويجوز إخلاء الأرض من بعضهم أولا فأولاً إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد، فإذا انقرضوا جاء أمر الله. اهـ ملخصا مع زيادة فيه. قاله الحافظ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأحزاب آية : 40.
2 البخاري : العلم (71) , ومسلم : الإمارة (1037), و(1920)، وأحمد (4/93)، و (5/279)، والترمذي: الفتن (2229).
3 البخاري: كتاب البيوع (2222): باب قتل الخنزير. ومسلم: كتاب الإيمان (155) (242): باب نزول عيسى بن مريم حاكما بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(7/19)
ص -277- ... قال القرطبي: " وفيه دليل على أن الإجماع حجة؛ لأن الأمة إذا اجتمعت فقد دخل فيهم الطائفة المنصورة" 1.
فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النساء.
الثانية: تفسير آية المائدة.
الثالثة: تفسير آية الكهف.
الرابعة: - وهي أهمها- ما معنى الإيمان بالجبت والطاغوت، هل هو اعتقاد قلب، أو هو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟
الخامسة: قولهم: إن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدى سبيلا من المؤمنين.
السادسة: - وهي المقصود بالترجمة- أن هذا لا بد أن يوجد في هذه الأمة، كما تقرر في حديث أبي سعد.
السابعة: التصريح بوقوعها، أعني عبادة الأوثان في هذه الأمة في جموع كثيرة.
قال المصنف -رحمه الله-: " وفيه الآية العظيمة: أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، وفيه البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية". قلت: واحتج به الإمام أحمد على أن الاجتهاد لا ينقطع ما دامت هذه الطائفة موجودة.
قوله: " حتى يأتي أمر الله" الظاهر أن المراد به ما روي من قبض من بقي من المؤمنين بالريح الطيبة; ووقوع الآيات العظام، ثم لا يبقى إلا شرار الناس، كما روى الحاكم أن عبد الله بن عمر قال: " لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق، هم شر أهل الجاهلية "2. فقال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المراد من الإجماع: إجماع كل من يعتد به من هذه الأمة في جميع أقطار الأرض، ومعرفة ذلك غير متيسرة إلا فيما هو معلوم بالضرورة كالصلوات والصيام ونحوه, ولذلك يروى عن الشافعي وأحمد: أن من ادعى الإجماع بعد الصحابة فقد أخطأ.
2 صحيح. الحاكم (4/456,457). وصححه ووافقه الذهبي. (*)وهذا تقصير فالحديث عند مسلم: كتاب الإمارة (1924) (176): باب قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم".(7/20)
ص -278- ... عقبة بن عامر لعبد الله: اعلم ما تقول، وأما أنا فسمعت النبي صلي الله عليه وسلم يقول: " لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك "1. قال عبد الله: " ويبعث الله ريحا ريحها المسك، ومسها مس الحرير، فلا تترك أحدا في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته; ثم يبقى شرار الناس فعليهم تقوم الساعة ".
وفي صحيح مسلم: " لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله "2.
وعلى هذا فالمراد بقوله في حديث عقبة وما أشبهه: "حتى تأتيهم الساعة" ساعتهم. وهي وقت موتهم بهبوب الريح. ذكره الحافظ.
وقد اختلف في محل هذه الطائفة، فقال ابن بطال: إنها تكون في بيت المقدس، كما رواه الطبراني من حديث أبي أمامة: " قيل: يا رسول الله، أين هم؟ قال: ببيت المقدس "3. وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه:
"هم بالشام". وفي كلام الطبري ما يدل على أنه لا يجب أن تكون في الشام أو في بيت المقدس دائما، بل قد تكون في موضع آخر في بعض الأزمنة.الثامنة: العجب العجاب: خروج من يدعي النبوة، مثل المختار مع تكلمه بالشهادتين وتصريحه بأنه من هذه الأمة. وأن الرسول حق وأن القرآن حق. وفيه أن محمدا خاتم النبيين، ومع هذا يصدق في هذا كله مع التضاد الواضح. وقد خرج المختار في آخر عصر الصحابة وتبعه فئام كثيرة.
التاسعة: البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية، كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة.
العاشرة: الآية العظمى أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم.
الحادية عشرة: أن ذلك الشرط إلى قيام الساعة.
الثانية عشرة: ما فيهن من الآيات العظيمة. منها: إخباره بأن الله زوى له المشارق والمغارب، وأخبر بمعنى ذلك فوقع كما أخبر، بخلاف الجنوب والشمال.
وإخباره بأنه أُعطي الكنزين.
وإخباره بإجابة دعوته لأمته في الاثنتين.
وإخباره بأنه منع الثالثة.
وإخباره بوقوع السيف وأنه لا يرفع إذا وقع.(7/21)
وإخباره بظهور المتنبئين في هذه الأمة.
وإخباره ببقاء الطائفة المنصورة.
قلت: ويشهد له الواقع وحال أهل الشام وأهل بيت المقدس، فإنهم من أزمنة طويلة لا يعرف فيهم من قام بهذا الأمر بعد شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه وأصحابه في القرن السابع وأول الثامن؛ فإنهم كانوا في زمانهم على الحق يدعون إليه، ويناظرون عليه، ويجاهدون فيه. وقد يجيء من أمثالهم بعد بالشام من يقوم مقامهم بالدعوة إلى الحق والتمسك بالسنة. والله على كل شيء قدير4.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : الإمارة (1924).
2 تقدم تخريجه برقم [57].
3 إسناده ضعيف. الطبراني في الكبير (7643). وإسناده ضعيف فيه عمرو بن عبد الله الشيباني الحضرمي. قال الذهبي في ديوان الضعفاء (3188): تابعي مجهول أفاده الدوسري (262) النهج السديد.
4 البخاري: كتاب المناقب (3641): باب [28].(7/22)
ص -279- ... ومما يؤيد هذا أن أهل الحق والسنة في زمن الأئمة الأربعة وتوافر العلماء في ذلك الزمان وقبله وبعده لم يكونوا في محل واحد، بل هم في غالب الأمصار في الشام منهم الأئمة، وفي الحجاز وفي مصر، وفي العراق واليمن، وكلهم على الحق يناضلون، ويجاهدون أهل البدع، ولهم المصنفات التي صارت أعلاما لأهل السنة; وحجة على كل مبتدع.
فعلى هذا، فهذه الطائفة قد تجتمع وقد تتفرق، وقد تكون في الشام، وقد تكون في غيره، فإن حديث أبي أمامة وقول معاذ لا يفيد حصرها بالشام، وإنما يفيد أنها تكون في الشام في بعض الأزمان لا في كلها.
وكل جملة من هذا الحديث علم من أعلام النبوة؛ فإن كل ما أخبر به النبي صلي الله عليه وسلم في هذا الحديث وقع كما أخبر صلي الله عليه وسلم .
وقوله: "تبارك وتعالى" قال ابن القيم -رحمه الله-: البركة نوعان: أحدهما: بركة
هي فَعَلة والفعل منها بارك، ويتعدى بنفسه تارة وبأداة "على" تارة، وبأداة "في" تارة، والمفعول منها مبارك، وهو ما جعل منها كذلك، فكان مباركا بجعله تعالى.
والنوع الثاني: بركة تضاف إليه إضافة الرحمة والعزة، والفعل منها تبارك، ولهذا لا يقال لغيره ذلك، ولا يصلح إلا له عز وجل فهو سبحانه المتبارك، وعبده ورسوله المبارك، كما قال المسيح -عليه السلام- : {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ}1 فمن يبارك الله فيه وعليه فهو المبارك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة مريم آية : 31.(7/23)
ص -280- ... وأما صفة تبارك فمختصة به، كما أطلقه على نفسه في قوله: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}1 . {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}2. أفلا تراها كيف اطردت في القرآن جارية عليه مختصة به، لا تطلق على غيره، وجاءت على بناء السعة والمبالغة، كتعالى وتعاظم ونحوه، فجاء بناء "تبارك" على بناء "تعالى" الذي هو دال على كمال العلو ونهايته، فكذلك تبارك دال على كمال بركته ووعظمته ووسعتها. وهذا معنى قول من قال من السلف: "تبارك" تعاظم. وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: " جاء بكل بركة" .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف آية : 54.
2 سورة الملك آية : 1.
باب " ما جاء في السحر"
وقول الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: "باب ما جاء في السحر" أي والكهانة.
السحر في اللغة: عبارة عما خفي ولطُف سببه، ولهذا جاء الحديث: 2 " إن من البيان لسحرا "3. وسمي السحر سحرا؛ لأنه يقع خفيا آخر الليل. قال أبو محمد المقدسي في الكافي: "" السحر عزائم ورُقى وعقد يؤثر في القلوب والأبدان، فيمرض ويقتل، ويفرق بين المرء وزوجه". قال الله تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}4. وقال سبحانه: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ}5. يعني السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن وينفثن في عقدهن. ولولا أن للسحر حقيقة لم يأمر الله بالاستعاذة منه.
وعن عائشة -رضي الله عنها-: أن النبي صلي الله عليه وسلم سُحر حتى إنه ليخيل إليه(7/24)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 102.
2 جزء من حديث. أخرجه البخاري: كتاب النكاح (5146): باب الخطبة. من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-. وأخرجه مسلم: كتاب الجمعة (869) (47): باب تخفيف الصلاة والخطبة.
3 رواه مالك وأحمد والبخاري وأبو داود والترمذي عن ابن عمر.
4 سورة البقرة آية : 102.
5 سورة الفلق آية : 4.(7/25)
ص -281- ... أنه يفعل الشيء وما يفعله، وأنه قال لها ذات يوم: " أتاني ملكان، فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، فقال: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب. قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم في مشط ومِشاطة وفي جَف طلعة ذكر في بئر ذروان "2 رواه البخاري.
قال: "وقول الله تعالى: {عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}3". قال ابن عباس: "من نصيب". قال قتادة: وقد علم أهل الكتاب فيما عهد إليهم: أن الساحر لا خلاق له في الآخرة. وقال الحسن: ليس له دين.
فدلت الآية على تحريم السحر، وكذلك هو محرم في جميع أديان الرسل -عليهم السلام-، كما قال تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى}4. وقد نص أصحاب أحمد أنه يكفر بتعلمه وتعليمه. وروى عبد الرزاق 5عن صفوان بن سليم قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " من تعلم شيئا من السحر قليلا كان أو كثيرا كان آخر عهده من الله "6. وهذا مرسل.
واختلفوا: هل يكفر الساحر أو لا؟ فذهب طائفة من السلف إلى أنه يكفر. وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد -رحمهم الله-. قال أصحابه: إلا أن يكون سحره بأدوية وتدخين وسقي شيء يضر فلا يكفر.
وقال الشافعي: " إذا تعلم السحر قلنا له: صف لنا سحرك، فإن وصف ما يوجب الكفر; مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة، وأنها تفعل ما يلتمس منها فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته كفر". اهـ. وقد سماه الله كفرا بقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ}7. وقوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا}8. قال ابن عباس في قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ}: وذلك أنهما علما الخير والشر والكفر والإيمان، فعرفا أن السحر من الكفر. قال: "وقوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}9" تقدم الكلام عليهما في الباب قبله. وفيه أن السحر من الجبت. قاله المصنف -رحمه الله-.(7/26)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء آية : 51.
2 البخاري : بدء الخلق (3268) , ومسلم : السلام (2189) , وابن ماجه : الطب (3545) , وأحمد (6/57).
3 سورة البقرة آية : 102.
4 سورة طه آية : 69.
5 228- موضوع. عبد الرزاق (10/184). وفيه إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي. قال ابن معين: كذاب رافضي. وقال النسائي والدارقطني وأحمد بن حنبل: متروك. راجع الميزان (1/57:61).
6 وأخرجه مسلم أيضا: كتاب السلام (2189) (43): باب السحر.
7 سورة البقرة آية : 102.
8 سورة البقرة آية : 102.
9 سورة النساء آية : 51.(7/27)
ص -282- ... قوله: "قال عمر رضي الله عنه: " الجبت: السحر. والطاغوت: الشيطان " هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم وغيره.
قوله: "وقال جابر: " الطواغيت: كهان كان ينزل عليهم الشيطان، في كل حي واحد ". هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم بنحوه مطولا عن وهب بن منبه قال: سألت جابر بن عبد الله عن الطواغيت التي كانوا يتحاكمون إليها، فقال: إن في جهينة واحدا، وفي أسلم واحدا، وفي هلال واحدا، وفي كل حي واحدا، وهم كهان كانت تنزل عليهم الشياطين "1.
قوله: "قال جابر" هو ابن عبد الله بن حرام الأنصاري2.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " اجتنبوا السبع الموبقات.
قوله: "الطواغيت كهان" أراد أن الكهان من الطواغيت: فهو من أفراد المعنى.
قوله: "كان ينزل عليهم الشيطان" أراد الجنس لا الشيطان الذي هو إبليس خاصة، بل تنزل عليهم الشياطين ويخاطبونهم ويخبرونهم بما يسترقون من السمع، فيصدقون مرة ويكذبون مائة.
قوله: "في كل حي واحد" الحي واحد الأحياء، وهم القبائل; أي في كل قبيلة كاهن يتحاكمون إليه ويسألونه عن الغيب، وكذلك كان الأمر قبل مبعث النبي صلي الله عليه وسلم فأبطل الله ذلك بالإسلام وحرست السماء بكثرة الشهب.(7/28)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الذي يستخلص من كلام السلف -رضي الله عنهم-: أن الطاغوت كل ما صرف العبد وصده عن عبادة الله وإخلاص الدين والطاعة لله ولرسوله، سواء في ذلك الشيطان من الجن والشيطان من الإنس, والأشجار والأحجار وغيرها. ويدخل في ذلك بلا شك: الحكم بالقوانين الأجنبية عن الإسلام وشرائعه وغيرها من كل ما وضعه الإنسان ليحكم به في الدماء والفروج والأموال, وليبطل بها شرائع الله, من إقامة الحدود وتحريم الربا والزنا والخمر ونحو ذلك، مما أخذت هذه القوانين تحللها وتحميها بنفوذها ومنفذيها. والقوانين نفسها طواغيت, وواضعوها ومروجوها طواغيت. وأمثالها من كل كتاب وضعه العقل البشري ليصرف عن الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم إما قصدا أو من غير قصد من واضعه، فهو طاغوت.
2 توفي جابر سنة74، وقيل: سنة77, وكان عمره أربعا وتسعين سنة.(7/29)
ص -283- ... قوله: "وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق; وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ".
كذا أورده المصنف غير معزو. وقد رواه البخاري ومسلم.
قوله: "اجتنبوا" أي أبعدوا، وهو أبلغ من قوله: دعوا واتركوا؛ لأن النهي عن القربان أبلغ، كقوله: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}1.
قوله: "الموبقات" بموحدة وقاف. أي المهلكات. وسميت هذه موبقات؛ لأنها تهلك فاعلها في الدنيا بما يترتب عليها من العقوبات، وفي الآخرة من العذاب.
وفي حديث ابن عمر عند البخاري في الأدب المفرد والطبري في التفسير، وعبد الرزاق مرفوعا وموقوفا قال:
الكبائر تسع- وذكر السبعة المذكورة- وزاد: والإلحاد في الحرم، وعقوق الوالدين" 2. ولابن أبي حاتم عن علي قال: " الكبائر- فذكر السبع- إلا مال اليتيم، وزاد: العقوق، والتعرب بعد الهجرة، وفراق الجماعة، ونكث الصفقة ".
قال الحافظ: ويحتاج عندي هذا الجواب عن الحكمة في الاقتصار على سبع.
ويجاب: بأن مفهوم العدد ليس بحجة وهو ضعيف، أو بأنه أعلم أولا بالمذكورات، ثم أعلم بما زاد. فيجب الأخذ بالزائد، أو أن الاقتصار وقع بحسب المقام بالنسبة إلى السائل.
وقد أخرج الطبراني وإسماعيل القاضي عن ابن عباس أنه قيل له: " الكبائر سبع ". قال: "هن أكثر من سبع وسبع". وفي رواية: "هي إلى سبعين أقرب". وفي رواية: "إلى السبعمائة"3.
قوله: "قال الشرك بالله" هو أن يجعل لله ندا يدعوه ويرجوه، ويخافه كما يخاف الله، بدأ به؛ لأنه أعظم ذنب عصى الله به، كما في الصحيحين عن ابن مسعود: " سألت النبي صلي الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك "4. الحديث.(7/30)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام آية : 151.
2 حسن. البخاري في الأدب المفرد (8). وابن جرير في تفسيره (5/26). عن ابن عمر موقوفا بسند صحيح. وأخرجه البيهقي. عن ابن عمر مرفوعا (409). وحسنه الألباني في الإرواء (3/156) لشواهده.
3 قد ألف الحافظ عبد الرحمن بن رجب -رحمه الله- كتابا في عد الكبائر. طبع. ولشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: كتاب مسائل الجاهلية, هو كذلك في عد الكبائر.
4 البخاري : تفسير القرآن (4477) , ومسلم : الإيمان (86) , والترمذي : تفسير القرآن (3182 ,3183) , والنسائي : تحريم الدم (4013 ,4014 ,4015) , وأبو داود : الطلاق (2310) , وأحمد (1/380 ,1/431 ,1/434 ,1/462 ,1/464).(7/31)
ص -284- ... وأخرج الترمذي بسنده عن صفوان بن عسال قال: " قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي، فقال له صاحبه: لا تقل نبي، إنه لو سمعك لكان له أربع أعين، فأتيا رسول الله صلي الله عليه وسلم فسألاه عن تسع آيات بينات، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تولوا للفرار يوم الزحف، وعليكم خاصة اليهود أن لا تعدوا في السبت. فقبلا يديه ورجليه. وقالا: نشهد أنك نبي " 1 الحديث. وقال: حسن صحيح.
قوله: "السحر" تقدم معناه. وهذا وجه مناسبة الحديث للترجمة.
وقوله: " " وقتل النفس التي حرم الله " أي حرم قتلها. وهي نفس المسلم المعصوم.
قوله: "إلا بالحق" أي بأن تفعل ما يوجب قتلها، كالشرك، والنفس بالنفس، والزاني بعد الإحصان، وكذا قتل المعاهد، كما في الحديث: " من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة "2.
واختلف العلماء فيمن قتل مؤمنا متعمدا، وهل له توبة أم لا ؟ فذهب ابن عباس وأبو هريرة وغيرهما إلى أنه لا توبة له، استدلالا بقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا}3وقال ابن عباس: " نزلت هذه الآية وهي آخر ما نزل، وما نسخها شيء". وفي رواية: "لقد نزلت في آخر ما نزل، وما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صلي الله عليه وسلم وما نزل وحي" 4
وروي في ذلك آثار تدل لما ذهب إليه هؤلاء، كما عند الإمام أحمد والنسائي وابن المنذر عن معاوية: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: " كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا ?"5.
وذهب جمهور الأمة سلفا وخلفا إلى أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله، فإن تاب وأناب وعمل صالحا بدل الله سيئاته حسنات، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ لا(7/32)
يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامايُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناًإِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً}6. الآيات.
قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً}7 قال أبو هريرة وغيره: " هذا جزاؤه إن جازاه".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ضعيف. الترمذي: كتاب الاستئذان (2733): باب ما جاء في قبلة اليد والرجل وقال: حسن صحيح. كتاب التفسير (3144) باب: ومن تفسير سورة بني إسرائيل. وقال: حسن صحيح. وأشار إلى ضعفه ابن كثير في التفسير (3/67).
2 البخاري : الجزية (3166) , والنسائي : القسامة (4750) , وابن ماجه : الديات (2686) , وأحمد (2/186).
3 سورة النساء آية : 93.
4 البخاري: كتاب التفسير (4590): باب ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم، ومسلم: كتاب التفسير (3023) (16).
5 صحيح. أحمد (4/99). والنسائي (7/81): كتاب تحريم الدم. وصححه الألباني لشواهده في الصحيحة (511).
6 سورة الفرقان آية : 68-69-70.
7 سورة النساء آية : 93.(7/33)
ص -285- ... وقد روي عن ابن عباس ما يوافق قول الجمهور، فروى عبد بن حميد والنحاس عن سعيد بن عبادة أن ابن عباس رضي الله عنه كان يقول: "لمن قتل مؤمنا توبة". وكذلك ابن عمر -رضي الله عنهما-. وروى مرفوعا: "أن جزاءه جهنم إن جازاه".
قوله: "وأكل الربا" أي تناوله بأي وجه كان، كما قال تعالى: {الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس}1 الآيات. قال ابن دقيق العيد: "" وهو مجرب لسوء الخاتمة، نعوذ بالله من ذلك".
قوله: "وأكل مال اليتيم" يعني التعدي فيه. وعبر بالأكل؛ لأنه أعم وجوه الانتفاع، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}2.
قوله: " والتولي يوم الزحف " أي الإدبار عن الكفار وقت التحام القتال، وإنما يكون كبيرة إذا فر إلى غير فئة أو غير متحرف لقتال. كما قيد به في الآية3.
وعن جندب مرفوعا: " حد الساحر ضربه بالسيف "4. رواه الترمذي، وقال: الصحيح أنه موقوف.
قوله: "وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" وهو بفتح الصاد: المحفوظات من الزنا، وبكسرها: الحافظات فروجهن منه، والمراد بالحرائر العفيفات، والمراد رميهن بزنا أو لواط. والغافلات، أي عن الفواحش وما رمين به. فهو كناية عن البريئات; لأن الغافل بريء عما بُهت به. والمؤمنات، أي بالله تعالى احترازا من قذف الكافرات.
قوله: "وعن جندب مرفوعا: " حد الساحر ضربه بالسيف ". رواه الترمذي وقال: الصحيح أنه موقوف".
قوله: "عن جندب" ظاهر صنيع الطبراني في الكبير أنه جندب بن عبد الله البجلي. لا جندب الخير الأزدي قاتل الساحر؛ فإنه رواه في ترجمة جندب البجلي من طريق خالد العبد عن الحسن عن جندب عن النبي صلي الله عليه وسلم . وخالد العبد ضعيف. قال(7/34)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة آية : 275.
2 سورة النساء آية : 10.
3 في سورة الأنفال (8: 15و16) (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ).
4 ضعيف. الترمذي: كتاب الحدود (1460): باب ما جاء في حد الساحر. والحديث ضعفه الحافظ في الفتح (10/236). وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (2698).(7/35)
ص -286- ... الحافظ: والصواب أنه غيره. وقد رواه ابن قانع والحسن بن سفيان من وجهين عن الحسن عن جندب الخير: "أنه جاء إلى ساحر فضربه بالسيف حتى مات; وقال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول ... فذكره". وجندب الخير: هو جندب بن كعب، وقيل: جندب بن زهير، وقيل: هما واحد، كما قال ابن حبان: أبو عبد الله الأزدي الغامدي صحابي. روى ابن السكن من حديث بريدة أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: " يضرب ضربة واحدة فيكون أمة واحدة ".
قوله: " " حد الساحر ضربه بالسيف ". وروي بالهاء وبالتاء، وكلاهما صحيح.
وبهذا الحديث أخذ مالك وأحمد وأبو حنيفة فقالوا: يقتل الساحر. وروي ذلك عن عمر، وعثمان، وابن عمر، وحفصة، وجندب بن عبد الله، وجندب بن كعب،
وفي صحيح البخاري عن بَجالة بن عَبْدة قال: " كتب عمر بن الخطاب: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة. قال: فقتلنا ثلاث سواحر ". وصح عن حفصة -رضي الله عنها- " أنها أمرت بقتل جارية سحرتها، فقتلت ". وكذلك صح عن جندب.
وقيس بن سعد، وعمر بن عبد العزيز. ولم ير الشافعي القتل عليه بمجرد السحر إلا إن عمل في سحره ما يبلغ الكفر. وبه قال ابن المنذر، وهو رواية عن أحمد. والأول أولى للحديث ولأثر عمر، وعمل به الناس في خلافته من غير نكير.
قال "وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة قال: " كتب عمر بن الخطاب: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة. قال: فقتلنا ثلاث سواحر " 1.
هذا الأثر رواه البخاري كما قال المصنف -رحمه الله-، لكن لم يذكر قتل السواحر.
قوله: "عن بجالة" بفتح الموحدة بعدها جيم، ابن عبدة بفتحتين، التميمي العنبري بصري ثقة.
قوله: "كتب إلينا عمر بن الخطاب: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة". وظاهره أنه يقتل من غير استتابة. وهو كذلك على المشهور عن أحمد، وبه قال مالك؛ لأن علم السحر لا يزول بالتوبة. وعن أحمد يستتاب; فإن تاب قبلت توبته. وبه قال الشافعي؛ لأن ذنبه لا يزيد عن الشرك، والمشرك يستتاب وتقبل توبته،(7/36)
ولذلك صح إيمان سحرة فرعون وتوبتهم.
قوله: "وصح عن " حفصة أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقتلت ". هذا الأثر رواه مالك في الموطأ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 237- البخاري: كتاب فرض الخمس (3156): باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب. ولفظه كالآتي: عن بجالة بن عبدة قال: "كنت كاتبا لجزء بن معاوية بن عم الأحنف، فأتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة: فرقوا بين كل ذي محرم من المجوس, ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس".(7/37)
ص -287- ... فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية البقرة.
الثانية: تفسير آية النساء.
الثالثة: تفسير الجبت والطاغوت. والفرق بينهما.
الرابعة: أن الطاغوت قد يكون من الجن وقد يكون من الإنس.
الخامسة: معرفة السبع الموبقات المخصوصات بالنهي.
السادسة: أن الساحر يكفر.
وحفصة: هي أم المؤمنين بنت عمر بن الخطاب تزوجها النبي صلي الله عليه وسلم بعد خنيس بن حذافة، وماتت سنة خمس وأربعين.
قوله: "وكذلك صح عن جندب" أشار المصنف بهذا إلى قتله الساحر كما رواه البخاري في تاريخه عن أبي عثمان النهدي قال: "كان عند الوليد رجل يلعب، فذبح إنسانا وأبان رأسه فعجبنا، فأعاد رأسه، فجاء جندب الأزدي فقتله". ورواه البيهقي في الدلائل مطولا. وفيه: "فأمر به الوليد فسجن". فذكر القصة بتمامها ولها طرق كثيرة.
قوله: "قال أحمد: عن ثلاثة من أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم". أحمد: هو الإمام ابن محمد بن حنبل1.
قوله: "عن ثلاثة" أي صح قتل الساحر عن ثلاثة، أو جاء قتل الساحر عن ثلاثة من أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم يعني عمر، وحفصة، وجندبا. والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الإمام الجليل, ناصر السنة وقامع البدعة, الصابر المحتسب في الله ولله على ما لقي في نصر دين الله, العلم الحافظ الحجة. ولد سنة 164، ومات سنة241. قال الشافعي -رحمه الله-: ( خرجت من بغداد وما خلفت فيها أفقه ولا أورع ولا أزهد من أحمد بن حنبل ). رحمة الله عليه.(7/38)
ص -288- ... السابعة: أنه يُقتل ولا يستتاب.
الثامنة: وجود هذا في المسلمين على عهد عمر، فكيف بعده؟
باب: " بيان شيء من أنواع السحر"
قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا عوف عن حيان بن العلاء حدثنا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: باب "بيان شيء من أنواع السحر".
قلت: ذكر الشارح -رحمه الله تعالى- هاهنا شيئا من الخوارق وكرامات الأولياء، وذكر ما اغتر به كثير من الناس من الأحوال الشيطانية التي غرت كثيرا من العوام والجهال، وظنوا أنها تدل على ولاية من جرت على يديه ممن هو من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن، ثم قال: "" ولشيخ الإسلام كتاب "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" فراجعه". انتهى.
قال -رحمه الله تعالى-: "قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف عن حيان بن العلاء، حدثنا قَطَن بن قبيصة عن أبيه أنه سمع النبي صلي الله عليه وسلم قال: " إنّ العيافة، والطرق، والطيرة من الجبت " قال عوف: العيافة: زجر الطير، والطرق: الخط يخط في الأرض، والجبت: قال الحسن: "رنة الشيطان". إسناده جيد. ولأبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه: المسند منه".
قوله: "قال أحمد" هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل.
ومحمد بن جعفر هو المشهور بغندر الهذلي البصري، ثقة مشهور، مات سنة ست ومائتين.
وعوف هو ابن أبي جميلة - بفتح الجيم - العبدي البصري، المعروف بعوف الأعرابي، ثقة مات سنة ست أو سبع وأربعين، وله ست وثمانون سنة.
قطن بن قبيصة عن أبيه أنه سمع النبي صلي الله عليه وسلم قال: " إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت "1.
قال عوف: "العيافة: زجر الطير. والطرق: الخط يخط بالأرض "2.
والجبت: قال الحسن: " رنة الشيطان". إسناد جيد.
وحيان بن العلاء هو بالتحتية، ويقال: حيان بن مخارق، أبو العلاء البصري، مقبول.
وقطن، بفتحتين أبو(7/39)
سهل البصري صدوق.
قوله: "عن أبيه" هو قبيصة - بفتح أوله - ابن مخارق - بضم الميم - أبو عبد الله الهلالي. صحابي، نزل البصرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ضعيف. أحمد (3/477), (5/60)، وأبو داود: كتاب الطب (3907): باب في الخط وزجر الطير, والنسائي في الكبرى كما في تحفة الأشراف (8/275)، وابن حبان (1426-موارد). وضعفه الألباني في تخريج رياض الصالحين (1668).
2 هو ما يسمونه خط الرمل وعلمه, وهو ذائع بين أهل العصر, ولبعضهم فيه تأليف، وقد يتعيش به كثير من المتكهنين يغرون به البله والجهلة; زاعمين أنهم يطلعون على المغيبات وهم كاذبون; فإن هذا العلم بل الجهل لا يقصد به إلا خداع الناس، وأكل أموالهم بالباطل, وقد بحثت في قواعده فوجدته -كما ذكرت لك- رجما بالغيب، وهو من الجبت كما في الحديث. فيجب على المؤمنين بالله الكفر به. ومثله ما يسمونه علم قراءة الكف، وقراءة الفنجان، ومناجاة حب البن ونحوه. كل ذلك دجل وسحر واستمتاع كل من شياطين الجن والإنس ببعضهم. نسأل الله العافية للمسلمين من هذه الأمراض الفتاكة.(7/40)
ص -289- ... قوله:" إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت ". قال عوف: العيافة: زجر الطير، والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها، هو من عادات العرب، وكثير في أشعارهم. يقال: عاف يعيف عيفا، إذا زجر وحدس وظن.
قوله: "والطرق: الخط يخط بالأرض" كذا فسره عوف، وهو كذلك.
وقال أبو السعادات: هو الضرب بالحصى الذي يفعله النساء. وأما الطيرة فيأتي الكلام عليها في بابها إن شاء الله تعالى.
قوله: "من الجبت" أي السحر. قال القاضي: والجبت في الأصل الفشل الذي لا خير فيه، ثم استعير لما يعبد من دون الله، وللساحر والسحر.
قوله: "قال الحسن: رنة الشيطان" قلت: ذكر إبراهيم بن محمد بن مفلح أن في تفسير بقي بن مخلد أن إبليس رن أربع رنات: رنة حين لُعن، ورنة حين أُهبط;
ولأبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه المسند منه.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد "1. رواه أبو داود، وإسناده صحيح.
ورنة حين ولد رسول الله صلي الله عليه وسلم، ورنة حين نزلت فاتحة الكتاب. قال سعيد بن جبير: "لما لعن الله تعالى إبليس تغيرت صورته عن صورة الملائكة، ورن رنة، فكل رنة منها في الدنيا إلى يوم القيامة ". رواه ابن أبي حاتم. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "لما فتح رسول الله صلي الله عليه وسلم مكة رن إبليس رنة اجتمعت إليه جنوده". رواه الحافظ الضياء في المختارة. الرنين: الصوت. وقد رن يرن رنينا، وبهذا يظهر معنى قول الحسن -رحمه الله تعالى-.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1حسن. أبو داود: كتاب الطب (3905): باب في النجوم، وأحمد (1/277,311)، وابن ماجة كتاب الأدب (3726): باب تعلم النجوم. وصححه الألباني في صحيح الجامع (5950)، وفي الصحيحة (793).(7/41)
ص -290- ... قوله: "ولأبي داود وابن حبان في صحيحه: المسند منه" ولم يذكر التفسير الذي فسره به عوف. وقد رواه أبو داود بالتفسير المذكور بدون كلام الحسن.
قوله: "وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: " من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد ". رواه أبو داود بإسناد صحيح". وكذا صححه النووي والذهبي ورواه أحمد وابن ماجه.
قوله: "من اقتبس" قال أبو السعادات: " قبست العلم واقتبسته إذا علمته" اهـ1.
قوله: "شعبة" أي طائفة من علم النجوم. والشعبة الطائقة. ومنه الحديث: ?" الحياء شعبة من الإيمان "2. أي جزء منه.
وللنسائي من حديث أبي هريرة: " من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك. ومن تعلق شيئا وكل إليه "3.
قوله: "فقد اقتبس شعبة من السحر" المحرم تعلمه. قال شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-: " فقد صرح رسول الله صلي الله عليه وسلم بأن علم النجوم من السحر". وقال تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى}4.
قوله: "زاد ما زاد" أي كلما زاد من تعلم علم النجوم زاد في الإثم الحاصل بزيادة الاقتباس5 من شعبه، فإن ما يعتقده في النجوم من التأثير باطل، كما أن تأثير(7/42)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أصله مأخوذ من القبس, وهو القليل من النار ليستدفئ به. قال موسى لأهله: (امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى).
2 البخاري : الإيمان (9) , ومسلم : الإيمان (35) , والنسائي : الإيمان وشرائعه (5006) , وأبو داود : السنة (4676) , وابن ماجه : المقدمة (57) , وأحمد (2/414 ,2/442).
3 ضعيف. النسائي: كتاب تحريم الدم (7/112) (4079): باب الحكم في السحرة. وضعفه الذهبي في الميزان (2/378). وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (5714).
4 سورة طه آية : 69.
5 الوعيد لمن يتعلم منه ما يؤدي إلى الكفر كادعاء علم الغيب، كما في كتيب ينسب إلى أبي معشر، وهو شائع بين السحرة الذين يتسمون بأسماء إسلامية يغرون به النساء وضعفة العقول. وقد تمدن الشياطين وإخوانهم من سحرة هذا الزمان في البلاد المتمدنة، فاخترعوا أسماء للسحر جديدة وصورا كذلك, مثل اسم التنويم المغناطيسي، ومناجاة الأرواح، واستحضارها بأنواع من الحيل والتعازيم المتمدنة أيضا.(7/43)
ص -291- ... السحر باطل1.
قوله: "وللنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: " من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر. ومن سحر فقد أشرك. ومن تعلق شيئا وكل إليه " هذا حديث ذكره المصنف من حديث أبي هريرة وعزاه للنسائي. وقد رواه النسائي مرفوعا وحسنه ابن مفلح.
قوله: "وللنسائي" هو الإمام الحافظ أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر بن دينار أبو عبد الرحمن صاحب السنن وغيرها. وروى عن محمد بن المثنى وابن بشار وقتيبة وخلق، وكان إليه المنتهى في العلم بعلل الحديث، مات سنة ثلاث وثلاثمائة، وله ثمان وثمانون سنة رحمه الله تعالى.
قوله: "من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر" اعلم أن السحرة إذا أرادوا عمل السحر عقدوا الخيوط ونفثوا على كل عقدة، حتى ينعقد ما يريدون من السحر، قال الله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ}2 يعني السواحر اللاتي يفعلن ذلك، والنفث هو النفخ مع الريق، وهو دون التفل. والنفث فعل الساحر، فإذا تكيفت نفسه بالخبث والشر الذي يريده المسحور، ويستعين عليه بالأرواح الخبيثة نفخ في تلك العقدة نفخا معه ريق، فيخرج من نفسه الخبيثة نفس ممازج للشر والأذى مقارن للريق الممازج لذلك، وقد يتساعد هو والروح الشيطانية على أذى المسحور فيصيبه بإذن الله الكوني القدري لا الشرعي، قاله ابن القيم -رحمه الله تعالى-.
قوله: " " ومن سحر فقد أشرك " نص في أن الساحر مشرك؛ إذ لا يتأتى السحر بدون الشرك كما حكاه الحافظ عن بعضهم.(7/44)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 علم النجوم علمان: علم يعرف به سيرها ومدارها ومنازلها وأبعادها وأحجامها. وهذا علم الفلك لا بأس بتعلمه والعمل به. وعلم يعرف بالعلم الروحاني, يزعمون أنه معرفة روحانية النجوم والكواكب وتأثيرها في الأرض ومن عليها بالأمراض والحروب والضيق والسعة والموت والحياة، والسعادة والشقاوة بين الزوجين إذا عقد قرانهما عند اقتران كذا من النجوم والكواكب بكذا. ولهم في ذلك ما يسمونه بالطالع, ويعملون جدولا بالحوادث التي ستحدث في العام كله من حوادث عامة وخاصة. وهذا هو الدجل والكذب. وهو نوع من السحر واستخدام الشياطين والقول على الله بلا علم.
2 سورة الفلق آية : 4.(7/45)
ص -292- ... قوله: " ومن تعلق شيئا وكل إليه " أي من تعلق قلبه شيئا; بحيث يعتمد عليه ويرجوه، وكله الله إلى ذلك الشيء.1 فمن تعلق على ربه وإلهه وسيده ومولاه رب كل شيء ومليكه، كفاه ووقاه وحفظه وتولاه، فنعم المولى ونعم النصير. قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}2. ومن تعلق على السحرة والشياطين وغيرهم من المخلوقين، وكله الله إلى من تعلقه فهلك، ومن تأمل ذلك في أحوال الخلق ونظر بعين البصيرة رأى ذلك عيانا، وهذا من جوامع الكلم. والله أعلم.
قال: "وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " ألا هل أنبئكم ما العَضْه؟ هي النميمة: القالة بين الناس ". رواه مسلم".
هي النميمة: القالة بين الناس "3 رواه مسلم. ولهما عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " إن من البيان لسحرا "4.
قوله: "ألا هل أنبئكم" أخبركم و "العضه" بفتح المهملة وسكون المعجمة; قال أبو السعادات: هكذا يروى في كتب الحديث. والذي في كتب الغريب "ألا أنبئكم ما العِضَه" بكسر العين وفتح الضاد. قال الزمخشري: أصلها "العضهة" فعلة من العضه وهو البهت. فحذفت لامه، كما حذفت من السنة والسفه، وتجمع على "عضين"، ثم فسره بقوله: "هي النميمة: القالة بين الناس"، فأطلق عليها "العضه"؛ لأنها لا تنفك من الكذب والبهتان غالبا. ذكره القرطبي.
وذكر ابن عبد البر عن يحيى ابن أبي كثير قال: "يفسد النمام والكذاب في ساعة ما لا يفسد الساحر في سنة". وقال أبو الخطاب في عيون المسائل: ومن السحر السعي بالنميمة والإفساد بين الناس. قال في الفروع: ووجهه أنه يقصد الأذى بكلامه وعمله على وجه المكر والحيلة، أشبه السحر، وهذا يعرف بالعرف والعادة أنه يؤثر وينتج ما يعمله السحر أو أكثر، فيعطى حكمه تسوية بين المتماثلين أو المتقاربين. لكن يقال: الساحر إنما يكفر لوصف السحر وهو أمر خاص ودليله خاص، وهذا ليس بساحر. وإنما يؤثر(7/46)
عمله ما يؤثره فيعطى حكمه إلا فيما اختص به من الكفر وعدم قبول التوبة. انتهى ملخصا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومن قصر تعلق قلبه على الله وحده كفاه كما قال تعالى: (65:3) (ومن يتوكل على الله فهو حسبه). وقال: (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين). وهذا التعلق هو روح الإيمان وخلاصة التوحيد, فمن تعلق قلبه بغير الله يرجوه في دفع ضر أو جلب نفع فقد أشرك بالله أعظم الشرك.
2 سورة الزمر آية : 36.
3 مسلم : البر والصلة والآداب (2606) , وأحمد (1/437).
4 البخاري : النكاح (5146) , والترمذي : البر والصلة (2028) , وأبو داود : الأدب (5007) , وأحمد (2/16 ,2/59 ,2/62 ,2/94) , ومالك : الجامع (1850).(7/47)
ص -293- ... وبه يظهر مطابقة الحديث للترجمة. وهو يدل على تحريم النميمة، وهو مجمع عليه. قال ابن حزم -رحمه الله-:" اتفقوا على تحريم الغيبة والنميمة في غير النصيحة الواجبة". وفيه دليل على أنها من الكبائر.
قوله: "القالة بين الناس". قال أبو السعادات: أي كثرة القول وإيقاع الخصومة بين الناس. ومنه الحديث: " فشت القالة بين الناس "1.
قال: "ولهما عن ابن عمر أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: " إن من البيان لسحرا ". البيان: البلاغة والفصاحة. قال صعصعة
فيه مسائل:
الأولى: أن العيافة والطرق والطيرة من الجبت.
الثانية: تفسير العيافة والطرق.
الثالثة: أن علم النجوم نوع من السحر.
الرابعة: العقد مع النفث من ذلك.
الخامسة: أن النميمة من ذلك.
السادسة: أن من ذلك بعض الفصاحة.
بن صوحان: "صدق نبي الله؛ فإن الرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق، فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق". وقال ابن عبد البر: " تأولته طائفة على الذم؛ لأن السحر مذموم، وذهب أكثر أهل العلم وجماعة أهل الأدب إلى أنه على المدح؛ لأن الله تعالى مدح البيان. قال: وقد قال عمر بن عبد العزيز لرجل سأله عن حاجة فأحسن المسألة فأعجبه قوله. قال: "هذا والله السحر الحلال"". انتهى.
والأول أصح، والمراد به البيان الذي فيه تمويه على السامع وتلبيس، كما قال بعضهم:
في زخرف القول تزيين لباطله ... والحق قد يعتريه سوء تعبير
مأخوذ من قول الشاعر:
تقول هذا مُجاج النحل تمدحه ... وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير
مدحا وذما وما جاوزت وصفهما ... والحق قد يعتريه سوء تعبير(7/48)
قوله: " إن من البيان لسحرا ". هذا من التشبيه البليغ؛ لكون ذلك يعمل عمل السحر، فيجعل الحق في قالب الباطل، والباطل في قالب الحق، فيستميل به قلوب الجهال، حتى يقبلوا الباطل وينكروا الحق، ونسأل الله الثبات والاستقامة على الهدى.
وأما البيان الذي يوضح الحق ويقرره، ويبطل الباطل ويبينه، فهذا هو الممدوح، وهكذا حال الرسل وأتباعهم، ولهذا علت مراتبهم في الفضائل وعظمت حسناتهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم : البر والصلة والآداب (2606) , وأحمد (1/437).(7/49)